اصول الفقه المجلد 2

اشارة

سرشناسه : مظفر، محمدرضا، 1904-1964م.

عنوان و نام پدیدآور : اصول الفقه / محمدرضا المظفر.

مشخصات نشر : قم: موسسه اسماعیلیان، 1373.

مشخصات ظاهری : 4 ج. ( در دو مجلد ).

شابک : دوره: 964-6397-06-9 ؛ دوره، چاپ هفدهم: 978-964-6397-06-4 ؛ ج.1 و 2: 964-6397-07-7 ؛ 2000 ریال (ج.1و 2، چاپ پنجم) ؛ 35000 ریال (ج.1و2، چاپ شانزدهم) ؛ 40000 ریال: ج.1و2، چاپ هفدهم: 978-964-6397-07-1 ؛ 55000 ریال (ج.1و2 ٬چاپ نوزدهم) ؛ ج. 3و4: 964-6397-08-5 ؛ 35000 ریال (ج.3و4، چا شانزدهم) ؛ 40000 ریال: ج.3و4، چاپ هفدهم: 978-964-6397-08-8 ؛ 55000 ریال: ج.3و4 ٬ چاپ نوزدهم 978-964-6397-06-4 :

یادداشت : عربی.

یادداشت : این کتاب در سال 1370 توسط همین ناشر به صورت دو جلد در یک مجلد منتشر گردیده است.

یادداشت : چاپ هفتم: 1374

یادداشت : ج.1و2 (چاپ پنجم: ؟13).

یادداشت : ج.1و2 (چاپ یازدهم: 1424ق. = 1382).

یادداشت : ج.1 تا 4 (چاپ شانزدهم: 1427ق. = 1385).

یادداشت : ج.1 تا 4 (چاپ نوزدهم: 1431ق.=1388).

یادداشت : ج.1 تا 4 ( چاپ هفدهم: 1428 ق. = 1386 ).

یادداشت : کتابنامه.

موضوع : اصول فقه شیعه

رده بندی کنگره : BP159/8/م 6الف 6 1373

رده بندی دیویی : 297/312

شماره کتابشناسی ملی : م 73-3984

ص :1

الجزء الأول

اشارة

ص :2

ص :3

ص :4

اشارة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِیمِ نحمده علی آلائه و نصلی علی خاتم النبیین محمد و آله الطاهرین المعصومین

المدخل

تعریف علم الأصول

(علم أصول الفقه هو علم یبحث فیه عن قواعد تقع نتیجتها فی طرق استنباط الحکم الشرعی) .مثاله أن الصلاة واجبة فی الشریعة الإسلامیة المقدسة و قد دل علی وجوبها من القرآن الکریم قوله تعالی وَ أَنْ أَقِیمُوا الصَّلاٰةَ إِنَّ الصَّلاٰةَ کٰانَتْ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ کِتٰاباً مَوْقُوتاً و لکن دلالة الآیة الأولی متوقفة علی ظهور صیغة الأمر نحو أَقِیمُوا هنا فی الوجوب و متوقفة أیضا علی أن ظهور القرآن حجة یصح الاستدلال به .و هاتان المسألتان یتکفل ببیانهما علم الأصول .فإذا علم الفقیه من هذا العلم أن صیغة الأمر ظاهرة فی الوجوب و أن ظهور القرآن حجة استطاع أن یستنبط من هذه الآیة الکریمة المذکورة أن الصلاة واجبة و هکذا فی کل حکم شرعی مستفاد من أی دلیل شرعی أو عقلی لا بد أن یتوقف استنباطه من الدلیل علی مسألة أو أکثر من مسائل هذا العلم

ص :5

الحکم واقعی و ظاهری و الدلیل اجتهادی و فقاهتی

ثم لا یخفی أن الحکم الشرعی الذی جاء ذکره فی التعریف السابق علی نحوین .1 أن یکون ثابتا للشیء بما هو فی نفسه فعل من الأفعال کالمثال المتقدم أعنی وجوب الصلاة فالوجوب ثابت للصلاة بما هی صلاة فی نفسها و فعل من الأفعال مع قطع النظر عن أی شیء آخر و یسمی مثل هذا الحکم الحکم الواقعی و الدلیل الدال علیه الدلیل الاجتهادی .2 أن یکون ثابتا للشیء بما أنه مجهول حکمه الواقعی کما إذا اختلف الفقهاء فی حرمة النظر إلی الأجنبیة أو وجوب الإقامة للصلاة فعند عدم قیام الدلیل علی أحد الأقوال لدی الفقیه یشک فی الحکم الواقعی الأولی المختلف فیه و لأجل ألا یبقی فی مقام العمل متحیرا لا بد له من وجود حکم آخر و لو کان عقلیا کوجوب الاحتیاط أو البراءة أو عدم الاعتناء بالشک و یسمی مثل هذا الحکم الثانوی الحکم الظاهری و الدلیل الدال علیه الدلیل الفقاهتی أو الأصل العملی .و مباحث الأصول منها ما یتکفل للبحث عما تقع نتیجته فی طریق استنباط الحکم الواقعی و منها ما یقع فی طریق الحکم الظاهری و یجمع الکل وقوعها فی طریق استنباط الحکم الشرعی علی ما ذکرناه فی التعریف

موضوع علم الأصول

إن هذا العلم غیر متکفل للبحث عن موضوع خاص بل یبحث عن موضوعات شتی تشترک کلها فی غرضنا المهم منه و هو استنباط الحکم

ص :6

الشرعی فلا وجه لجعل موضوع هذا العلم خصوص الأدلة الأربعة فقط و هی الکتاب و السنة و الإجماع و العقل أو بإضافة الاستصحاب أو بإضافة القیاس و الاستحسان کما صنع المتقدمون .و لا حاجة إلی الالتزام بأن العلم لا بد له من موضوع یبحث عن عوارضه الذاتیة فی ذلک العلم کما تسالمت علیه کلمة المنطقیین فإن هذا لا ملزم له و لا دلیل علیه

فائدته

أن کل متشرع یعلم أنه ما من فعل من أفعال الإنسان الاختیاریة إلا و له حکم فی الشریعة الإسلامیة المقدسة من وجوب أو حرمة أو نحوهما من الأحکام الخمسة و یعلم أیضا أن تلک الأحکام لیست کلها معلومة لکل أحد بالعلم الضروری بل یحتاج أکثرها لإثباتها إلی إعمال النظر و إقامة الدلیل أی إنها من العلوم النظریة .و علم الأصول هو العلم الوحید المدون للاستعانة به علی الاستدلال علی إثبات الأحکام الشرعیة ففائدته إذن الاستعانة علی الاستدلال للأحکام من أدلتها.

تقسیم أبحاثه

تنقسم مباحث هذا العلم إلی أربعة أقسام (1).

ص :7


1- وهذا التقسیم حدیث تنبه له شیخنا العظیم الشیخ محمد حسین الإصفهانی (قدس سره) المتوفی سنة 1361 أفاده فی دورة بحثه الأخیرة. وهو التقسیم الصحیح الذی یجمع مسائل علم الأصول ویدخل کل مسألة فی بابها. فمثلا: مبحث المشتق کان یعد من المقدمات وینبغی أن یعد من مباحث الألفاظ، ومقدمة الواجب ومسألة الإجزاء ونحوهما کانت تعد من مباحث الألفاظ، وهی من بحث الملازمات العقلیة... وهکذا.

1 مباحث الألفاظ و هی تبحث عن مدالیل الألفاظ و ظواهرها من جهة عامة نظیر البحث عن ظهور صیغة افعل فی الوجوب و ظهور النهی فی الحرمة و نحو ذلک .2 المباحث العقلیة و هی ما تبحث عن لوازم الأحکام فی أنفسها و لو لم تکن تلک الأحکام مدلولة للفظ کالبحث عن الملازمة بین حکم العقل و حکم الشرع و کالبحث عن استلزام وجوب الشیء لوجوب مقدمته المعروف هذا البحث باسم مقدمة الواجب و کالبحث عن استلزام وجوب الشیء لحرمة ضده المعروف باسم مسألة الضد و کالبحث عن جواز اجتماع الأمر و النهی و غیر ذلک .3 مباحث الحجة و هی ما یبحث فیها عن الحجیة و الدلیلیة کالبحث عن حجیة خبر الواحد و حجیة الظواهر و حجیة ظواهر الکتاب و حجیة السنة و الإجماع و العقل و ما إلی ذلک .4 مباحث الأصول العملیة و هی تبحث عن مرجع المجتهد عند فقدان الدلیل الاجتهادی کالبحث عن أصل البراءة و الاحتیاط و الاستصحاب و نحوها .فمقاصد الکتاب إذن أربعة و له خاتمة تبحث عن تعارض الأدلة و تسمی مباحث التعادل و التراجیح فالکتاب یقع فی خمسة أجزاء (1)إن شاء الله تعالی .و قبل الشروع لا بد من مقدمة یبحث فیها عن جملة من المباحث اللغویة التی لم یستوف البحث عنها فی العلوم الأدبیة أو لم یبحث عنها

ص :8


1- (1) وقد وضعه المؤلف - طاب مثواه - بعدئذ فی أربعة أجزاء، حیث ألحق مباحث التعادل والتراجیح فی الجزء الثالث ضمن مباحث الحجة، وقد أوضح أسباب ذلک فی مقدمة الجزء الثالث.

المقدمة تبحث عن أمور لها علاقة بوضع الألفاظ و استعمالها و دلالتها و فیها أربعة عشر مبحثا

1 حقیقة الوضع

لا شک أن دلالة الألفاظ علی معانیها فی أیة لغة کانت لیست ذاتیة کذاتیة دلالة الدخان مثلا علی وجود النار و إن توهم ذلک بعضهم لأن لازم هذا الزعم أن یشترک جمیع البشر فی هذه الدلالة مع أن الفارسی مثلا لا یفهم الألفاظ العربیة و لا غیرها من دون تعلم و کذلک العکس فی جمیع اللغات و هذا واضح .و علیه فلیست دلالة الألفاظ علی معانیها إلا بالجعل و التخصیص من واضع تلک الألفاظ لمعانیها و لذا تدخل الدلالة اللفظیة هذه فی الدلالة الوضعیة

2 من الواضع

و لکن من ذلک الواضع الأول فی کل لغة من اللغات قیل إن الواضع لا بد أن یکون شخصا واحدا یتبعه جماعة من البشر فی التفاهم بتلک اللغة و قیل و هو الأقرب إلی الصواب إن الطبیعة البشریة حسب القوة المودعة من الله تعالی فیها تقتضی إفادة مقاصد الإنسان بالألفاظ فیخترع من عند نفسه لفظا مخصوصا عند إرادة معنی مخصوص کما هو المشاهد من الصبیان عند أول أمرهم فیتفاهم مع الآخرین الذین

ص :9

یتصلون به و الآخرون کذلک یخترعون من أنفسهم ألفاظا لمقاصدهم و تتألف علی مرور الزمن من مجموع ذلک طائفة صغیرة من الألفاظ حتی تکون لغة خاصة لها قواعدها یتفاهم بها قوم من البشر و هذه اللغة قد تنشعب بین أقوام متباعدة و تتطور عند کل قوم بما یحدث فیها من التغییر و الزیادة حتی قد تنبثق منها لغات أخری فیصبح لکل جماعة لغتهم الخاصة .و علیه تکون حقیقة الوضع هو جعل اللفظ بإزاء المعنی و تخصیصه به و مما یدل علی اختیار القول الثانی فی الواضع أنه لو کان الواضع شخصا واحدا لنقل ذلک فی تاریخ اللغات و لعرف عند کل لغة واضعها

3 الوضع تعیینی و تعینی

ثم إن دلالة الألفاظ علی معانیها الأصل فیها أن تکون ناشئة من الجعل و التخصیص و یسمی الوضع حینئذ تعیینیا و قد تنشأ الدلالة من اختصاص اللفظ بالمعنی الحاصل هذا الاختصاص من الکثرة فی الاستعمال علی درجة من الکثرة أنه تالفة الأذهان علی وجه إذا سمع اللفظ ینتقل السامع منه إلی المعنی و یسمی الوضع حینئذ تعینیا

4 أقسام الوضع

لا بد فی الوضع من تصور اللفظ و المعنی لأن الوضع حکم علی المعنی و علی اللفظ و لا یصح الحکم علی الشیء إلا بعد تصوره و معرفته بوجه من الوجوه و لو علی نحو الإجمال لأن تصور الشیء قد یکون بنفسه و قد یکون بوجهه أی بتصور عنوان عام ینطبق علیه و یشار به إلیه

ص :10

إذ یکون ذلک العنوان العام مرآة و کاشفا عنه کما إذا حکمت علی شبح من بعید أنه أبیض مثلا و أنت لا تعرفه بنفسه أنه أی شیء هو و أکثر ما تعرف عنه مثلا أنه شیء من الأشیاء أو حیوان من الحیوانات فقد صح حکمک علیه بأنه أبیض مع أنک لم تعرفه و لم تتصوره بنفسه و إنما تصورته بعنوان أنه شیء أو حیوان لا أکثر و أشرت به إلیه و هذا ما یسمی فی عرفهم تصور الشیء بوجهه و هو کاف لصحة الحکم علی الشیء و هذا بخلاف المجهول محضا فإنه لا یمکن الحکم علیه أبدا .و علی هذا فإنه یکفینا فی صحة الوضع للمعنی أن نتصوره بوجهه کما لو کنا تصورناه بنفسه .و لما عرفنا أن المعنی لا بد من تصوره و أن تصوره علی نحوین فإنه بهذا الاعتبار و باعتبار ثان هو أن المعنی قد یکون خاصا أی جزئیا و قد یکون عاما أی کلیا نقول إن الوضع ینقسم إلی أربعة أقسام عقلیة 1 أن یکون المعنی المتصور جزئیا و الموضوع له نفس ذلک الجزئی أی إن الموضوع له معنی متصور بنفسه لا بوجهه و یسمی هذا القسم الوضع خاص و الموضوع له خاص .2 أن یکون المتصور کلیا و الموضوع له نفس ذلک الکلی أی إن الموضوع له کلی متصور بنفسه لا بوجهه و یسمی هذا القسم الوضع عام و الموضوع له عام .3 أن یکون المتصور کلیا و الموضوع له أفراد ذلک الکلی لا نفسه أی إن الموضوع له جزئی غیر متصور بنفسه بل بوجهه و یسمی هذا القسم الوضع عام و الموضوع له خاص .4 أن یکون المتصور جزئیا و الموضوع له کلیا لذلک الجزئی و یسمی هذا القسم الوضع خاص و الموضوع له عام .

ص :11

إذا عرفت هذه الأقسام المتصورة العقلیة فنقول لا نزاع فی إمکان الأقسام الثلاثة الأولی کما لا نزاع فی وقوع القسمین الأولین و مثال الأول الأعلام الشخصیة کمحمد و علی و جعفر و مثال الثانی أسماء الأجناس کماء و سماء و نجم و إنسان و حیوان .و إنما النزاع وقع فی أمرین الأول فی إمکان القسم الرابع و الثانی فی وقوع الثالث بعد التسلیم بإمکانه و الصحیح عندنا استحالة الرابع و وقوع الثالث و مثاله الحروف و أسماء الإشارة و الضمائر و الاستفهام و نحوها علی ما سیأتی

5 استحالة القسم الرابع

أما استحالة الرابع و هو الوضع الخاص و الموضوع له العام فنقول فی بیانه إن النزاع فی إمکان ذلک ناشئ من النزاع فی إمکان أن یکون الخاص وجها و عنوانا للعام و ذلک لما تقدم أن المعنی الموضوع له لا بد من تصوره بنفسه أو بوجهه لاستحالة الحکم علی المجهول و المفروض فی هذا القسم أن المعنی الموضوع له لم یکن متصورا و إنما تصور الخاص فقط و إلا لو کان متصورا بنفسه و لو بسبب تصور الخاص کان من القسم الثانی و هو الوضع العام و الموضوع له العام و لا کلام فی إمکانه بل فی وقوعه کما تقدم .فلا بد حینئذ للقول بإمکان القسم الرابع من أن نفرض أن الخاص یصح أن یکون وجها من وجوه العام و جهة من جهاته حتی یکون تصوره کافیا عن تصور العام بنفسه و مغنیا عنه لأجل أن یکون تصورا للعام بوجه .و لکن الصحیح الواضح لکل مفکر أن الخاص لیس من وجوه العام بل الأمر بالعکس من ذلک فإن العام هو وجه من وجوه الخاص و جهة من جهاته و لذا قلنا بإمکان القسم الثالث و هو الوضع العام و الموضوع له

ص :12

الخاص لأنا إذا تصورنا العام فقد تصورنا فی ضمنه جمیع أفراده بوجه فیمکن الوضع لنفس ذلک العام من جهة تصوره بنفسه فیکون من القسم الثانی و یمکن الوضع لأفراده من جهة تصورها بوجهها فیکون من الثالث بخلاف الأمر فی تصور الخاص فلا یمکن الوضع معه إلا لنفس ذلک الخاص و لا یمکن الوضع للعام لأنا لم نتصوره أصلا لا بنفسه بحسب الفرض و لا بوجهه إذ لیس الخاص وجها له و یستحیل الحکم علی المجهول المطلق

6 وقوع الوضع العام و الموضوع له الخاص و تحقیق المعنی الحرفی

اشارة

أما وقوع القسم الثالث فقد قلنا إن مثاله وضع الحروف و ما یلحق بها من أسماء الإشارة و الضمائر و الموصولات و الاستفهام و نحوها .و قبل إثبات ذلک لا بد من تحقیق معنی الحرف و ما یمتاز به عن الاسم فنقول الأقوال فی وضع الحروف و ما یلحق بها من الأسماء ثلاثة 1 أن الموضوع له فی الحروف هو بعینه الموضوع له فی الأسماء المسانخة لها فی المعنی فمعنی من الابتدائیة هو عین معنی کلمة الابتداء بلا فرق و کذا معنی علی معنی کلمة الاستعلاء و معنی فی معنی کلمة الظرفیة و هکذا .و إنما الفرق فی جهة أخری و هی أن الحرف وضع لأجل أن یستعمل فی معناه إذا لوحظ ذلک المعنی حالة و آلة لغیره أی إذا لوحظ المعنی غیر مستقل فی نفسه و الاسم وضع لأجل أن یستعمل فی معناه إذا لوحظ مستقلا فی نفسه .مثلا مفهوم الابتداء معنی واحد وضع له لفظان أحدهما لفظ الابتداء و الثانی کلمة من لکن الأول وضع له لأجل أن یستعمل فیه

ص :13

عند ما یلاحظه المستعمل مستقلا فی نفسه کما إذا قیل ابتداء السیر کان سریعا و الثانی وضع له لأجل أن یستعمل فیه عند ما یلاحظه المستعمل غیر مستقل فی نفسه کما إذا قیل سرت من النجف .فتحصل أن الفرق بین معنی الحرف و معنی الاسم أن الأول یلاحظه المستعمل حین الاستعمال آلة لغیره و غیره مستقل فی نفسه و الثانی یلاحظه حین الاستعمال مستقلا مع أن المعنی فی کلیهما واحد و الفرق بین وضعیهما إنما هو فی الغایة فقط .و لازم هذا القول أن الوضع و الموضوع له فی الحروف عامان و هذا القول منسوب إلی الشیخ الرضی نجم الأئمة و اختاره المحقق صاحب الکفایة 2 أن الحروف لم توضع لمعان أصلا بل حالها حال علامات الإعراب فی إفادة کیفیة خاصة فی لفظ آخر فکما أن علامة الرفع فی قولهم حدثنا زرارة تدل علی أن زرارة فاعل الحدیث کذلک من فی المثال المتقدم تدل علی أن النجف مبتدأ منها و السیر مبتدأ به .3 أن الحروف موضوعة لمعان مباینة فی حقیقتها و سنخها للمعانی الاسمیة فإن المعانی الاسمیة فی حد ذاتها معان مستقلة فی أنفسها و معانی الحروف لا استقلال لها بل هی متقومة بغیرها .و الصحیح هذا القول الثالث و یحتاج إلی توضیح و بیان إن المعانی الموجودة فی الخارج علی نحوین الأول ما یکون موجودا فی نفسه کزید الذی هو من جنس الجوهر و قیامه مثلا الذی هو من جنس العرض فإن کلا منهما موجود فی نفسه و الفرق أن الجوهر موجود فی نفسه لنفسه و العرض موجود فی نفسه لغیره .الثانی ما یکون موجودا لا فی نفسه کنسبة القیام إلی زید

ص :14

و الدلیل علی کون هذا المعنی لا فی نفسه أنه لو کان للنسب و الروابط وجودات استقلالیة للزم وجود الرابط بینها و بین موضوعاتها فننقل الکلام إلی ذلک الرابط و المفروض أنه موجود مستقل فلا بد له من رابط أیضا و هکذا ننقل الکلام إلی هذا الرابط فیلزم التسلسل و التسلسل باطل .فیعلم من ذلک أن وجود الروابط و النسب فی حد ذاته متعلق بالغیر و لا حقیقة له إلا التعلق بالطرفین .ثم إن الإنسان فی مقام إفادة مقاصده کما یحتاج إلی التعبیر عن المعانی المستقلة کذلک یحتاج إلی التعبیر عن المعانی غیر المستقلة فی ذاتها فحکمة الوضع تقتضی أن توضع بإزاء کل من القسمین ألفاظ خاصة و الموضوع بإزاء المعانی المستقلة هی الأسماء و الموضوع بإزاء المعانی غیر المستقلة هی الحروف و ما یلحق بها و هذه المعانی غیر المستقلة لما کانت علی أقسام شتی فقد وضع بإزاء کل قسم لفظ یدل علیه أو هیئة لفظیة تدل علیه .مثلا إذا قیل نزحت البئر فی دارنا بالدلو ففیه عدة نسب مختلفة و معان غیر مستقلة إحداها نسبة النزح إلی فاعله و الدال علیها هیئة الفعل للمعلوم و ثانیتها نسبته إلی ما وقع علیه أی مفعوله و هو البئر و الدال علیها هیئة النصب فی الکلمة و ثالثتها نسبته إلی المکان و الدال علیها کلمة فی و رابعتها نسبته إلی الآلة و الدال علیها لفظ الباء فی کلمة بالدلو .و من هنا یعلم أن الدال علی المعانی غیر المستقلة ربما یکون لفظا مستقلا کلفظة من و إلی و فی و ربما یکون هیئة فی اللفظ کهیئات المشتقات و الأفعال و هیئات الإعراب .

ص :15

النتیجة

فقد تحقق مما بیناه أن الحروف لها معان تدل علیها کالأسماء و الفرق أن المعانی الاسمیة مستقلة فی أنفسها و قابلة لتصورها فی ذاتها و إن کانت فی الوجود الخارجی محتاجة إلی غیرها کالأعراض و أما المعانی الحرفیة فهی معان غیر مستقلة و غیر قابلة للتصور إلا فی ضمن مفهوم آخر و من هنا یشبه کل أمر غیر مستقل بالمعنی الحرفی .

بطلان القولین الأولین

و علی هذا یظهر بطلان القول الثانی القائل إن الحروف لا معانی لها و کذلک القول الأول القائل إن المعنی الحرفی و الاسمی متحدان بالذات مختلفان باللحاظ و یرد هذا القول أیضا أنه لو صح اتحاد المعنیین لجاز استعمال کل من الحرف و الاسم فی موضع الآخر مع أنه لا یصح بالبداهة حتی علی نحو المجاز فلا یصح بدل قولنا زید فی الدار مثلا أن یقال زید الظرفیة الدار .و قد أجیب عن هذا الإیراد بأنه إنما لا یصح أحدهما فی موضع الآخر لأن الواضع اشترط ألا یستعمل لفظ الظرفیة إلا عند لحاظ معناه مستقلا و لا یستعمل لفظ فی إلا عند لحاظ معناه غیر مستقل و آلة لغیره و لکنه جواب غیر صحیح لأنه لا دلیل علی وجوب اتباع ما یشترطه الواضع إذا لم یکن اشتراطه یوجب اعتبار خصوصیة فی اللفظ و المعنی و علی تقدیر أن یکون الواضع ممن تجب طاعته فمخالفته توجب العصیان لا غلط الکلام

ص :16

زیادة إیضاح

إذ قد عرفت أن الموجودات (1)منها ما یکون مستقلا فی الوجود و منها ما یکون رابطا بین موجودین فاعلم أن کل کلام مرکب من کلمتین أو أکثر إذا ألقیت کلماته بغیر ارتباط بینها فإن کل واحد منها کلمة مستقلة فی نفسها لا ارتباط لها بالأخری و إنما الذی یربط بین المفردات و یؤلفها کلاما واحدا هو الحرف أو إحدی الهیئات الخاصة فأنت إذا قلت مثلا أنا کتب قلم لا یکون بین هذه الکلمات ربط و إنما هی مفردات صرفة منثورة أما إذا قلت کتبت بالقلم کان کلاما واحدا مرتبطا بعضه مع بعض مفهما للمعنی المقصود منه و ما حصل هذا الارتباط و الوحدة الکلامیة إلا بفضل الهیئة المخصوصة لکتبت و حرف الباء و أل .و علیه یصح أن یقال إن الحروف هی روابط المفردات المستقلة و المؤلفة للکلام الواحد و الموحدة للمفردات المختلفة شأنها شأن النسبة بین المعانی المختلفة و الرابطة بین المفاهیم غیر المربوطة فکما أن النسبة رابطة بین المعانی و مؤلفة بینها فکذلک الحرف الدال علیها رابط بین الألفاظ و مؤلف بینها .و إلی هذا(أشار سید الأولیاء أمیر المؤمنین علیه السلام بقوله المعروف فی تقسیم الکلمات:الاسم ما أنبأ عن المسمی و الفعل ما أنبأ عن حرکة

ص :17


1- ینبغی أن یقال للتوضیح: إن الموجودات علی أربعة أنحاء: موجود فی نفسه لنفسه بنفسه وهو واجب الوجود، وموجود فی نفسه لنفسه بغیره وهو الجوهر کالجسم والنفس، وموجود فی نفسه لغیره بغیره وهو العرض، وموجود فی غیره وهو أضعفها، وهو المعنی الحرفی المعبر عنه ب " الرابط ". فالأقسام الثلاثة الأولی الموجودات المستقلة، والرابع عداها الذی هو المعنی الحرفی الذی لا وجود له إلا وجود طرفیه.

المسمی و الحرف ما أوجد معنی فی غیره) فأشار إلی أن المعانی الاسمیة معان استقلالیة و معانی الحروف غیر مستقلة فی نفسها و إنما هی تحدث الربط بین المفردات و لم نجد فی تعاریف القوم للحرف تعریفا جامعا صحیحا مثل هذا التعریف

الوضع فی الحروف عام و الموضوع له خاص

إذا اتضح جمیع ما تقدم یظهر أن کل نسبة حقیقتها متقومة بطرفیها علی وجه لو قطع النظر عن الطرفین لبطلت و انعدمت فکل نسبة فی وجودها الرابط مباینة لأیة نسبة أخری و لا تصدق علیها و هی فی حد ذاتها مفهوم جزئی حقیقی .و علیه لا یمکن فرض النسبة مفهوما کلیا ینطبق علی کثیرین و هی متقومة بالطرفین و إلا لبطلت و انسلخت عن حقیقة کونها نسبة .ثم إن النسب غیر محصورة فلا یمکن تصور جمیعها للواضع فلا بد فی مقام الوضع لها من تصور معنی اسمی یکون عنوانا للنسب غیر المحصورة حاکیا عنها و لیس العنوان فی نفسه نسبة کمفهوم لفظ النسبة الابتدائیة المشار به إلی أفراد النسب الابتدائیة الکلامیة ثم یضع لنفس الأفراد غیر المحصورة التی لا یمکن التعبیر عنها إلا بعنوانها و بعبارة أخری إن الموضوع له هو النسبة الابتدائیة بالحمل الشائع و أما النسبة الابتدائیة بالحمل الأولی فلیست بنسبة حقیقة بل تکون طرفا للنسبة کما لو قلت الابتداء کان من هذا المکان .و من هذا یعلم حال أسماء الإشارة و الضمائر و الموصولات و نحوها فالوضع فی الجمیع عام و الموضوع له خاص

ص :18

7 الاستعمال حقیقی و مجازی

استعمال اللفظ فی معناه الموضوع له حقیقة و استعماله فی غیره المناسب له مجاز و فی غیر المناسب غلط و هذا أمر محل وفاق و لکنه وقع الخلاف فی الاستعمال المجازی فی أن صحته هل هی متوقفة علی ترخیص الواضع و ملاحظة العلاقات المذکورة فی علم البیان أو أن صحته طبعیة تابعة لاستحسان الذوق السلیم فکلما کان المعنی غیر الموضوع له مناسبا للمعنی الموضوع له و استحسنه الطبع صح استعمال اللفظ فیه و إلا فلا .و الأرجح القول الثانی لأنا نجد صحة استعمال الأسد فی الرجل الشجاع مجازا و إن منع منه الواضع و عدم صحة استعماله مجازا فی کریه رائحة الفم کما یمثلون و إن رخص الواضع و مؤید ذلک اتفاق اللغات المختلفة غالبا فی المعانی المجازیة فتری فی کل لغة یعبر عن الرجل الشجاع باللفظ الموضوع للأسد و هکذا فی کثیر من المجازات الشائعة عند البشر

8 الدلالة تابعة للإرادة

قسموا الدلالة إلی قسمین التصوریة و التصدیقیة 1 التصوریة و هی أن ینتقل ذهن الإنسان إلی معنی اللفظ بمجرد صدوره من لافظ و لو علم أن اللافظ لم یقصده کانتقال الذهن إلی المعنی الحقیقی عند استعمال اللفظ فی معنی مجازی مع أن المعنی الحقیقی لیس مقصودا للمتکلم و کانتقال الذهن إلی المعنی من اللفظ الصادر من الساهی أو النائم أو الغالط .2 التصدیقیة و هی دلالة اللفظ علی أن المعنی مراد للمتکلم

ص :19

فی اللفظ و قاصد لاستعماله فیه و هذه الدلالة متوقفة علی عدة أشیاء أولا علی إحراز کون المتکلم فی مقام البیان و الإفادة و ثانیا علی إحراز أنه جاد غیر هازل و ثالثا علی إحراز أنه قاصد لمعنی کلامه شاعر به و رابعا علی عدم نصب قرینة علی إرادة خلاف الموضوع له و إلا کانت الدلالة التصدیقیة علی طبق القرینة المنصوبة .و المعروف أن الدلالة الأولی التصوریة معلولة للوضع أی أن الدلالة الوضعیة هی الدلالة التصوریة و هذا هو مراد من یقول إن الدلالة غیر تابعة للإرادة بل تابعة لعلم السامع بالوضع .و الحق أن الدلالة تابعة للإرادة و أول من تنبه لذلک فیما نعلم الشیخ نصیر الدین الطوسی أعلی الله مقامه لأن الدلالة فی الحقیقة منحصرة فی الدلالة التصدیقیة و الدلالة التصوریة التی یسمونها دلالة لیست بدلالة و إن سمیت کذلک فإنه من باب التشبیه و التجوز لأن التصوریة فی الحقیقة هی من باب تداعی المعانی الذی یحصل بأدنی مناسبة فتقسیم الدلالة إلی تصدیقیة و تصوریة تقسیم الشیء إلی نفسه و إلی غیره .و السر فی ذلک أن الدلالة حقیقة کما فسرناها فی کتاب المنطق الجزء الأول بحث الدلالة هی أن یکشف الدال عن وجود المدلول فیحصل من العلم به العلم بالمدلول سواء کان الدال لفظا أو غیر لفظ .مثلا إن طرقة الباب یقال إنها دالة علی وجود شخص علی الباب طالب لأهل الدار باعتبار أن المطرقة موضوعة لهذه الغایة و تحلیل هذا المعنی أن سماع الطرقة یکشف عن وجود طالب قاصد للطلب فیحصل من العلم بالطرقة العلم بالطارق و قصده و لذلک یتحرک السامع إلی إجابته .لا أنه ینتقل ذهن السامع من تصور الطرقة إلی تصور شخص ما فإن هذا الانتقال قد یحصل بمجرد تصور معنی الباب أو الطرقة من دون أن

ص :20

یسمع طرقة و لا یسمی ذلک دلالة و لذا إن الطرقة لو کانت علی نحو مخصوص یحصل من حرکة الهواء مثلا لا تکون دالة علی ما وضعت له المطرقة و إن خطر فی ذهن السامع معنی ذلک .و هکذا نقول فی دلالة الألفاظ علی معانیها بدون فرق فإن اللفظ إذا صدر من المتکلم علی نحو یحرز معه أنه جاد فیه غیر هازل و أنه عن شعور و قصد و أن غرضه البیان و الإفهام و معنی إحراز ذلک أن السامع علم بذلک فإن کلامه یکون حینئذ دالا علی وجود المعنی أی وجوده فی نفس المتکلم بوجود قصدی فیکون علم السامع بصدور الکلام منه یستلزم علمه بأن المتکلم قاصد لمعناه لأجل أن یفهمه السامع و بهذا یکون الکلام دالا کما تکون الطرقة دالة و ینعقد بهذا للکلام ظهور فی معناه الموضوع له أو المعنی الذی أقیمت علی إرادته قرینة .و لذا نحن عرفنا الدلالة اللفظیة فی المنطق 1 26 بأنها هی کون اللفظ بحالة ینشأ من العلم بصدوره من المتکلم العلم بالمعنی المقصود به و من هنا سمی المعنی معنی أی المقصود من عناه إذا قصده .و لأجل أن یتضح هذا الأمر جیدا اعتبر باللافتات التی توضع فی هذا العصر للدلالة علی أن الطریق مغلوق مثلا أو أن الاتجاه فی الطریق إلی الیمین أو الیسار و نحو ذلک فإن اللافتة إذا کانت موضوعة فی موضعها اللائق علی وجه منظم بنحو یظهر منه أن وضعها لهدایة المستطرقین کان مقصودا لواضعها فإن وجودها هکذا یدل حینئذ علی ما یقصد منها من غلق الطریق أو الاتجاه أما لو شاهدتها مطروحة فی الطریق مهملة أو عند الکاتب یرسمها فإن المعنی المکتوب یخطر فی ذهن القارئ و لکن لا تکون دالة عنده علی أن الطریق مغلوقة أو أن الاتجاه کذا بل أکثر ما یفهم من ذلک أنها ستوضع لتدل علی هذا بعد ذلک لا أن لها الدلالة فعلا

ص :21

9 الوضع شخصی و نوعی

قد عرفت فی المبحث الرابع أنه لا بد فی الوضع من تصور اللفظ و المعنی و عرفت هناک أن المعنی تارة یتصوره الواضع بنفسه و أخری بوجهه و عنوانه فاعرف هنا أن اللفظ أیضا کذلک ربما یتصوره الواضع بنفسه و یضعه للمعنی کما هو الغالب فی الألفاظ فیسمی الوضع حینئذ شخصیا و ربما یتصوره بوجهه و عنوانه فیسمی الوضع نوعیا .و مثال الوضع النوعی الهیئات فإن الهیئة غیر قابلة للتصور بنفسها بل إنما یصح تصورها فی مادة من مواد اللفظ کهیئة کلمة ضرب مثلا و هی هیئة الفعل الماضی فإن تصورها لا بد أن یکون فی ضمن الضاد و الراء و الباء أو فی ضمن الفاء و العین و اللام فی فعل و لما کانت المواد غیر محصورة و لا یمکن تصور جمیعها فلا بد من الإشارة إلی أفرادها بعنوان عام فیضع کل هیئة تکون علی زنة فعل مثلا أو زنة فاعل أو غیرهما و یتوصل إلی تصور ذلک العام بوجود الهیئة فی إحدی المواد کمادة فعل التی جرت الاصطلاحات علیها عند علماء العربیة

10 وضع المرکبات

ثم الهیئة الموضوعة لمعنی تارة تکون فی المفردات کهیئات المشتقات التی تقدمت الإشارة إلیها و أخری فی المرکبات کالهیئة الترکیبیة بین المبتدإ و الخبر لإفادة حمل شیء علی شیء و کهیئة تقدم ما حقه التأخیر لإفادة الاختصاص و من هنا تعرف أنه لا حاجة إلی وضع الجمل و المرکبات فی إفادة معانیها زائدا علی وضع المفردات بالوضع الشخصی و الهیئات بالوضع النوعی کما قیل بل هو لغو محض و لعل من ذهب إلی وضعها أراد به وضع

ص :22

الهیئات الترکیبیة لا الجملة بأسرها بموادها و هیئاتها زیادة علی وضع أجزائها فیعود النزاع حینئذ لفظیا

11 علامات الحقیقة و المجاز

اشارة

قد یعلم الإنسان إما من طریق نص أهل اللغة أو لکونه نفسه من أهل اللغة أن لفظ کذا موضوع لمعنی کذا و لا کلام لأحد فی ذلک فإنه من الواضح أن استعمال اللفظ فی ذلک المعنی حقیقة و فی غیره مجاز .و قد یشک فی وضع لفظ مخصوص لمعنی مخصوص فلا یعلم أن استعماله فیه هل کان علی سبیل الحقیقة فلا یحتاج إلی نصب قرینة علیه أو علی سبیل المجاز فیحتاج إلی نصب القرینة و قد ذکر الأصولیون لتعیین الحقیقة من المجاز أی لتعیین أنه موضوع لذلک المعنی أو غیر موضوع طرقا و علامات کثیرة نذکر هنا أهمها

الأولی التبادر

دلالة کل لفظ علی أی معنی لا بد لها من سبب و السبب لا یخلو فرضه عن أحد أمور ثلاثة المناسبة الذاتیة و قد عرفت بطلانها أو العقلیة الوضعیة أو القرینة الحالیة أو المقالیة فإذا علم أن الدلالة مستندة إلی نفس اللفظ من غیر اعتماد علی قرینة فإنه یثبت أنها من جهة العلقة الوضعیة .و هذا هو المراد بقولهم التبادر علامة الحقیقة و المقصود من کلمة التبادر هو انسباق المعنی من نفس اللفظ مجردا عن کل قرینة .و قد یعترض علی ذلک بأن التبادر لا بد له من سبب و لیس هو إلا العلم بالوضع لأن من الواضح أن الانسباق لا یحصل من اللفظ إلی معناه

ص :23

فی أیة لغة لغیر العالم بتلک اللغة فیتوقف التبادر علی العلم بالوضع فلو أردنا إثبات الحقیقة و تحصیل العلم بالوضع بسبب التبادر لزم الدور المحال فلا یعقل علی هذا أن یکون التبادر علامة للحقیقة یستفاد منه العلم بالوضع و المفروض أنه مستفاد من العلم بالوضع .و الجواب أن کل فرد من أیة أمة یعیش معها لا بد أن یستعمل الألفاظ المتداولة عندها تبعا لها و لا بد أن یرتکز فی ذهنه معنی اللفظ ارتکازا یستوجب انسباق ذهنه إلی المعنی عند سماع اللفظ و قد یکون ذلک الارتکاز من دون التفات تفصیلی إلیه و إلی خصوصیات المعنی فإذا أراد الإنسان معرفة المعنی و تلک الخصوصیات و توجهت نفسه إلیه فإنه یفتش عما هو مرتکز فی نفسه من المعنی فینظر إلیه مستقلا عن القرینة فیری أن المتبادر من اللفظ الخاص ما هو من معناه الارتکازی فیعرف أنه حقیقة فیه .فالعلم بالوضع لمعنی خاص بخصوصیاته التفصیلیة أی الالتفات التفصیلی إلی الوضع و التوجه إلیه یتوقف علی التبادر و التبادر إنما هو موقوف علی العلم الارتکازی بوضع اللفظ لمعناه غیر الملتفت إلیه .و الحاصل أن هناک علمین أحدهما یتوقف علی التبادر و هو العلم التفصیلی و الآخر یتوقف التبادر علیه و هو العلم الإجمالی الارتکازی .هذا الجواب بالقیاس إلی العالم بالوضع و أما بالقیاس إلی غیر العالم به فلا یعقل حصول التبادر عنده لفرض جهله باللغة نعم یکون التبادر أمارة علی الحقیقة عنده إذا شاهد التبادر عند أهل اللغة یعنی أن الأمارة عنده تبادر غیره من أهل اللغة مثلا إذا شاهد الأعجمی من أصحاب اللغة العربیة انسباق أذهانهم من لفظ الماء المجرد عن القرینة إلی الجسم السائل البارد بالطبع فلا بد أن یحصل له العلم بأن هذا اللفظ موضوع لهذا المعنی

ص :24

عندهم و علیه فلا دور هنا لأن علمه یتوقف علی التبادر و التبادر یتوقف علی علم غیره.

العلامة الثانیة عدم صحة السلب و صحته و صحة الحمل و عدمه
اشارة

ذکروا أن عدم صحة سلب اللفظ عن المعنی الذی یشک فی وضعه له علامة أنه حقیقة فیه و أن صحة السلب علامة علی أنه مجاز فیه .و ذکروا أیضا أن صحة حمل اللفظ علی ما یشک فی وضعه له علامة الحقیقة و عدم صحة الحمل علامة علی المجاز .و هذا ما یحتاج إلی تفصیل و بیان فلتحقیق الحمل و عدمه و السلب و عدمه نسلک الطرق الآتیة 1 نجعل المعنی الذی یشک فی وضع اللفظ له موضوعا و نعبر عنه بأی لفظ کان یدل علیه .ثم نجعل اللفظ المشکوک فی وضعه لذلک المعنی محمولا بما له من المعنی الارتکازی .ثم نجرب أن نحمل بالحمل الأولی اللفظ بما له من المعنی المرتکز فی الذهن علی ذلک اللفظ الدال علی المعنی المشکوک وضع اللفظ له و الحمل الأولی ملاکه الاتحاد فی المفهوم و التغایر بالاعتبار (1). و حینئذ إذا أجرینا هذه التجربة فإن وجدنا عند أنفسنا صحة الحمل و عدم صحة السلب علمنا تفصیلا بأن اللفظ موضوع لذلک المعنی و إن وجدنا عدم صحة الحمل و صحة السلب علمنا أنه لیس موضوعا لذلک المعنی بل یکون استعماله فیه مجازا .

ص :25


1- و قد شرحنا الحمل و أقسامه فی الجزء الأول من المنطق ص 76 . من الطبعة الثانیة .

2 إذا لم یصح عندنا الحمل الأولی نجرب أن نحمله هذه المرة بالحمل الشائع الصناعی الذی ملاکه الاتحاد وجودا و التغایر مفهوما .و حینئذ فإن صح الحمل علمنا أن المعنیین متحدان وجودا سواء کانت النسبة التساوی أو العموم من وجه (1)أو مطلقا و لا یتعین واحد منها بمجرد صحة الحمل و إن لم یصح الحمل و صح السلب علمنا أنهما متباینان 3 نجعل موضوع القضیة أحد مصادیق المعنی المشکوک وضع اللفظ له لا نفس المعنی المذکور ثم نجرب الحمل و ینحصر الحمل فی هذه التجربة بالحمل الشائع فإن صح الحمل علم منه حال المصداق من جهة کونه أحد المصادیق الحقیقیة لمعنی اللفظ الموضوع له سواء کان ذلک المعنی نفس المعنی المذکور أو غیره المتحد معه وجودا کما یستعلم منه حال الموضوع له فی الجملة من جهة شموله لذلک المصداق بل قد یستعلم منه تعیین الموضوع له مثلما إذا کان الشک فی وضعه لمعنی عام أو خاص کلفظ الصعید المردد بین أن یکون موضوعا لمطلق وجه الأرض أو لخصوص التراب الخالص فإذا وجدنا صحة الحمل و عدم صحة السلب بالقیاس إلی غیر التراب الخالص من مصادیق الأرض یعلم بالقهر تعیین وضعه لعموم الأرض .و إن لم یصح الحمل و صح السلب علم أنه لیس من أفراد الموضوع له و مصادیقه الحقیقیة و إذا کان قد استعمل فیه اللفظ فالاستعمال یکون مجازا إما فیه رأسا أو فی معنی یشمله و یعمه

ص :26


1- إنما یفرض العموم من وجه إذا کانت القضیة مهملة .
تنبیه

إن الدور الذی ذکر فی التبادر یتوجه إشکاله هنا أیضا و الجواب عنه نفس الجواب هناک لأن صحة الحمل و صحة السلب إنما هما باعتبار ما للفظ من المعنی المرتکز إجمالا فلا تتوقف العلامة إلا علی العلم الارتکازی و ما یتوقف علی العلامة هو العلم التفصیلی .هذا کله بالنسبة إلی العارف باللغة و أما الجاهل بها فیرجع إلی أهلها فی صحة الحمل و السلب و عدمهما کالتبادر

العلامة الثالثة الاطراد

و ذکروا من جملة علامات الحقیقة و المجاز الاطراد و عدمه فالاطراد علامة الحقیقة و عدمه علامة المجاز .و معنی الاطراد أن اللفظ لا تختص صحة استعماله بالمعنی المشکوک بمقام دون مقام و لا بصورة دون صورة کما لا یختص بمصداق دون مصداق .و الصحیح أن الاطراد لیس علامة للحقیقة لأن صحة استعمال اللفظ فی معنی بما له من الخصوصیات مرة واحدة تستلزم صحته دائما سواء کان حقیقة أم مجازا فالاطراد لا یختص بالحقیقة حتی یکون علامة لها

ص :27

12 الأصول اللفظیة

تمهید

اعلم أن الشک فی اللفظ علی نحوین 1 الشک فی وضعه لمعنی من المعانی .2 الشک فی المراد منه بعد فرض العلم بالوضع کأن یشک فی أن المتکلم أراد بقوله رأیت أسدا معناه الحقیقی أو معناه المجازی مع العلم بوضع لفظ الأسد للحیوان المفترس و بأنه غیر موضوع للرجل الشجاع .أما النحو الأول فقد کان البحث السابق معقودا لأجله لغرض بیان العلامات المثبتة للحقیقة أو المجاز أی المثبتة للوضع أو عدمه و هنا نقول إن الرجوع إلی تلک العلامات و أشباهها کنص أهل اللغة أمر لا بد منه فی إثبات أوضاع اللغة أیة لغة کانت و لا یکفی فی إثباتها أن نجد فی کلام أهل تلک اللغة استعمال اللفظ فی المعنی الذی شک فی وضعه له لأن الاستعمال کما یصح فی المعنی الحقیقی یصح فی المعنی المجازی و ما یدرینا لعل المستعمل اعتمد علی قرینة حالیة أو مقالیة فی تفهیم المعنی المقصود له فاستعمله فیه علی سبیل المجاز و لذا اشتهر فی لسان المحققین حتی جعلوه کقاعدة قولهم إن الاستعمال أعم من الحقیقة و المجاز .و من هنا نعلم بطلان طریقة العلماء السابقین لإثبات وضع اللفظ بمجرد وجدان استعماله فی لسان العرب کما وقع ذلک لعلم الهدی السید المرتضی قدس سره فإنه کان یجری أصالة الحقیقة فی الاستعمال بینما أن أصالة الحقیقة إنما تجری عند الشک فی المراد لا فی الوضع کما سیأتی .و أما النحو الثانی فالمرجع فیه لإثبات مراد المتکلم الأصول اللفظیة و هذا البحث معقود لأجلها فینبغی الکلام فیها من جهتین أولا فی ذکرها و ذکر مواردها .ثانیا فی حجیتها و مدرک حجیتها .

ص :28

أما من الجهة الأولی فنقول أهم الأصول اللفظیة ما یأتی .

1 أصالة الحقیقة

و موردها ما إذا شک فی إرادة المعنی الحقیقی أو المجازی من اللفظ بأن لم یعلم وجود القرینة علی إرادة المجاز مع احتمال وجودها فیقال حینئذ الأصل الحقیقة أی الأصل أن نحمل الکلام علی معناه الحقیقی فیکون حجة فیه للمتکلم علی السامع و حجة فیه للسامع علی المتکلم فلا یصح من السامع الاعتذار فی مخالفة الحقیقة بأن یقول للمتکلم لعلک أردت المعنی المجازی و لا یصح الاعتذار من المتکلم بأن یقول للسامع إنی أردت المعنی المجازی .

2 أصالة العموم

و موردها ما إذا ورد لفظ عام و شک فی إرادة العموم منه أو الخصوص أی شک فی تخصیصه فیقال حینئذ الأصل العموم فیکون حجة فی العموم علی المتکلم أو السامع .

3 أصالة الإطلاق

و موردها ما إذا ورد لفظ مطلق له حالات و قیود یمکن إرادة بعضها منه و شک فی إرادة هذا البعض لاحتمال وجود القید فیقال الأصل الإطلاق فیکون حجة علی السامع و المتکلم کقوله تعالی أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَیْعَ فلو شک مثلا فی البیع أنه هل یشترط فی صحته أن ینشأ بألفاظ عربیة فإننا نتمسک بأصالة إطلاق البیع فی الآیة لنفی اعتبار هذا الشرط و التقیید به فنحکم حینئذ بجواز البیع بالألفاظ غیر العربیة .

ص :29

4 أصالة عدم التقدیر

و موردها ما إذا احتمل التقدیر فی الکلام و لیس هناک دلالة علی التقدیر فالأصل عدمه و یلحق بأصالة عدم التقدیر أصالة عدم النقل و أصالة عدم الاشتراط و موردهما ما إذا احتمل معنی ثان موضوع له اللفظ فإن کان هذا الاحتمال مع فرض هجر المعنی الأول و هو المسمی بالمنقول فالأصل عدم النقل و إن کان مع عدم هذا الفرض و هو المسمی بالمشترک فإن الأصل عدم الاشتراک فیحمل اللفظ فی کل منهما علی إرادة المعنی الأول ما لم یثبت النقل و الاشتراک أما إذا ثبت النقل فإنه یحمل علی المعنی الثانی و إذا ثبت الاشتراک فإن اللفظ یبقی مجملا لا یتعین فی أحد المعنیین إلا بقرینة علی القاعدة المعروفة فی کل مشترک .

5 أصالة الظهور

و موردها ما إذا کان اللفظ ظاهرا فی معنی خاص لا علی وجه النص فیه الذی لا یحتمل معه الخلاف بل کان یحتمل إرادة خلاف الظاهر فإن الأصل حینئذ أن یحمل الکلام علی الظاهر فیه .و فی الحقیقة إن جمیع الأصول المتقدمة راجعة إلی هذا الأصل لأن اللفظ مع احتمال المجاز مثلا ظاهر فی الحقیقة و مع احتمال التخصیص ظاهر فی العموم و مع احتمال التقیید ظاهر فی الإطلاق و مع احتمال التقدیر ظاهر فی عدمه فمؤدی أصالة الحقیقة نفس مؤدی أصالة الظهور فی مورد احتمال التخصیص و هکذا فی باقی الأصول المذکورة .فلو عبرنا بدلا عن کل من هذه الأصول بأصالة الظهور کان التعبیر صحیحا مؤدیا للغرض بل کلها یرجع اعتبارها إلی اعتبار أصالة الظهور فلیس عندنا فی الحقیقة إلا أصل واحد هو أصالة الظهور و لذا لو کان الکلام ظاهرا فی المجاز و احتمل إرادة الحقیقة انعکس الأمر و کان الأصل

ص :30

من اللفظ المجاز بمعنی أن الأصل الظهور و مقتضاه الحمل علی المعنی المجازی و لا تجری أصالة الحقیقة حینئذ و هکذا لو کان الکلام ظاهرا فی التخصیص أو التقیید .

حجیة الأصول اللفظیة

و هی الجهة الثانیة من البحث عن الأصول اللفظیة و البحث عنها یأتی فی بابه و هو باب مباحث الحجة و لکن ینبغی الآن أن نتعجل فی البحث عنها لکثرة الحاجة إلیها مکتفین بالإشارة فنقول إن المدرک و الدلیل فی جمیع الأصول اللفظیة واحد و هو تبانی العقلاء فی الخطابات الجاریة بینهم علی الأخذ بظهور الکلام و عدم الاعتناء باحتمال إرادة خلاف الظاهر کما لا یعتنون باحتمال الغفلة أو الخطإ أو الهزل أو إرادة الإهمال و الإجمال فإذا احتمل الکلام المجاز أو التخصیص أو التقیید أو التقدیر لا یوقفهم ذلک عن الأخذ بظاهره کما یلغون أیضا احتمال الاشتراک و النقل و نحوهما .و لا بد أن الشارع قد أمضی هذا البناء و جری فی خطاباته علی طریقتهم هذه و إلا لزجرنا و نهانا عن هذا البناء فی خصوص خطاباته أو لبین لنا طریقته لو کان له غیر طریقتهم طریقة خاصة یجب اتباعها و لا یجوز التعدی عنها إلی غیرها فیعلم من ذلک علی سبیل الجزم أن الظاهر حجة عنده کما هو عند العقلاء بلا فرق

13 الترادف و الاشتراک

اشارة

لا ینبغی الإشکال فی إمکان الترادف و الاشتراک بل فی وقوعهما فی اللغة العربیة فلا یصغی إلی مقالة من أنکرهما و هذه بین أیدینا اللغة العربیة و وقوعهما فیها واضح لا یحتاج إلی بیان .و لکن ینبغی أن نتکلم فی نشأتهما فإنه یجوز أن یکونا من وضع

ص :31

واضع واحد بأن یضع شخص واحد لفظین لمعنی واحد أو لفظا لمعنیین و یجوز أن یکونا من وضع واضعین متعددین فتضع قبیلة مثلا لفظا لمعنی و قبیلة أخری لفظا آخر لذلک المعنی أو تضع قبیلة لفظا لمعنی و قبیلة أخری ذلک اللفظ لمعنی آخر و عند الجمع بین هذه اللغات باعتبار أن کل لغة منها لغة عربیة صحیحة یجب اتباعها یحصل الترادف و الاشتراک .و الظاهر أن الاحتمال الثانی أقرب إلی واقع اللغة العربیة کما صرح به بعض المؤرخین للغة و علی الأقل فهو الأغلب فی نشأة الترادف و الاشتراک و لذا نسمع علماء العربیة یقولون لغة الحجاز کذا و لغة حمیر کذا و لغة تمیم کذا و هکذا فهذا دلیل علی تعدد الوضع بتعدد القبائل و الأقوام و الأقطار فی الجملة و لا تهمنا الإطالة فی ذلک .

استعمال اللفظ فی أکثر من معنی

و لا شک فی جواز استعمال اللفظ المشترک فی أحد معانیه بمعونة القرینة المعینة و علی تقدیر عدم القرینة یکون اللفظ مجملا لا دلالة له علی أحد معانیه .کما لا شبهه فی جواز استعماله فی مجموع معانیه بما هو مجموع المعانی غایة الأمر یکون هذا الاستعمال مجازا یحتاج إلی القرینة لأنه استعمال للفظ فی غیر ما وضع له .و إنما فی البحث و الخلاف فی جواز إرادة أکثر من معنی واحد من المشترک فی استعمال واحد علی أن یکون کل من المعانی مرادا من اللفظ علی حدة و کان اللفظ قد جعل للدلالة علیه وحده و للعلماء فی ذلک أقوال و تفصیلات کثیرة لا یهمنا الآن التعرض لها و إنما الحق عندنا عدم جواز مثل هذا الاستعمال .الدلیل أن استعمال أی لفظ فی معنی إنما هو بمعنی إیجاد ذلک

ص :32

المعنی باللفظ لکن لا بوجوده الحقیقی بل بوجوده الجعلی التنزیلی لأن وجود اللفظ وجود للمعنی تنزیلا فهو وجود واحد ینسب إلی اللفظ حقیقة أولا و بالذات و إلی المعنی تنزیلا ثانیا و بالعرض (1) فإذا أوجد المتکلم اللفظ لأجل استعماله فی المعنی فکأنما أوجد المعنی و ألقاه بنفسه إلی المخاطب فلذلک یکون اللفظ ملحوظا للمتکلم بل للسامع آلة و طریقا للمعنی و فانیا فیه و تبعا للحاظه و الملحوظ بالأصالة و الاستقلال هو المعنی نفسه .و هذا نظیر الصورة فی المرآة فإن الصورة موجودة بوجود المرآة و الوجود الحقیقی للمرآة و هذا الوجود نفسه ینسب إلی الصورة ثانیا و بالعرض فإذا نظر الناظر إلی الصورة فی المرآة فإنما ینظر إلیها بطریق المرآة بنظرة واحدة هی للصورة بالاستقلال و الأصالة و للمرآة بالآلیة و التبع فتکون المرآة کاللفظ ملحوظة تبعا للحاظ الصورة و فانیة فیها فناء العنوان فی المعنون (2).و علی هذا لا یمکن استعمال لفظ واحد إلا فی معنی واحد فإن استعماله فی معنیین مستقلا بأن یکون کل منهما مرادا من اللفظ کما إذا لم یکن إلا نفسه یستلزم لحاظ کل منهما بالأصالة فلا بد من لحاظ اللفظ فی آن واحد مرتین بالتبع و معنی ذلک اجتماع لحاظین فی آن واحد علی ملحوظ واحد أعنی به اللفظ الفانی فی کل من المعنیین و هو محال بالضرورة فإن الشیء الواحد لا یقبل إلا وجودا واحدا فی النفس فی آن واحد .

ص :33


1- 1) راجع عن توضیح الوجود اللفظی للمعنی الجزء الأول من المنطق ص 22 من الطبعة الثانیة للمؤلف.
2- 2) راجع عن توضیح فناء العنوان فی المعنون الجزء الأول من المنطق ص 55 من الطبعة الثانیة.

أ لا تری أنه لا یمکن أن یقع لک أن تنظر فی مرآة واحدة إلی صورة تسع المرآة کلها و تنظر فی نفس الوقت إلی صورة أخری تسعها أیضا إن هذا لمحال .و کذلک النظر فی اللفظ إلی معنیین علی أن یکون کل منهما قد استعمل فیه اللفظ مستقلا و لم یحک إلا عنه .نعم یجوز لحاظ اللفظ فانیا فی معنی فی استعمال ثم لحاظه فانیا فی معنی آخر فی استعمال ثان مثل ما تنظر فی المرآة إلی صورة تسعها ثم تنظر فی وقت آخر إلی صورة أخری تسعها .و کذا یجوز لحاظ اللفظ فی مجموع معنیین فی استعمال واحد و لو مجازا مثلما تنظر فی المرآة فی آن واحد إلی صورتین لشیئین مجتمعین و فی الحقیقة إنما استعملت اللفظ فی معنی واحد هو مجموع المعنیین و نظرت فی المرآة إلی صورة واحدة لمجموع الشیئین

.تنبیهان

الأول أنه لا فرق فی عدم جواز الاستعمال فی المعنیین بین أن یکونا حقیقیین أو مجازیین أو مختلفین فإن المانع و هو تعلق لحاظین بملحوظ واحد فی آن واحد موجود فی الجمیع فلا یختص بالمشترک کما اشتهر .الثانی ذکر بعضهم أن الاستعمال فی أکثر من معنی إن لم یجز فی المفرد یجوز فی التثنیة و الجمع بأن یراد من کلمة عینین مثلا فرد من العین الباصرة و فرد من العین النابعة فلفظ عین و هو مشترک قد استعمل حال التثنیة فی معنیین فی الباصرة و النابعة و هذا شأنه فی الإمکان و الصحة شأن ما لو أرید معنی واحد من کلمة عینین بأن یراد بها فردان من العین الباصرة مثلا فإذا صح هذا فلیصح ذاک بلا فرق .

ص :34

و استدل علی ذلک بما ملخصه أن التثنیة و الجمع فی قوة تکرار الواحد بالعطف فإذا قیل عینان فکأنما قیل عین و عین و إذ یجوز فی قولک عین و عین أن تستعمل أحدهما فی الباصرة و الثانیة فی النابعة فکذلک ینبغی أن یجوز فیما هو بقوتهما أعنی عینین و کذا الحال فی الجمع .و الصحیح عندنا عدم الجواز فی التثنیة و الجمع کالمفرد و الدلیل أن التثنیة و الجمع و إن کانا موضوعین لإفادة التعدد إلا أن ذلک من جهة وضع الهیئة فی قبال وضع المادة و هی أی المادة نفس لفظ المفرد الذی طرأت علیه التثنیة و الجمع فإذا قیل عینان مثلا فإن أرید من المادة خصوص الباصرة فالتعدد یکون فیها أی فردان منها و إن أرید منها خصوص النابعة مثلا فالتعدد یکون بالقیاس إلیها فلو أرید الباصرة و النابعة فلا بد أن یراد التعدد من کل منهما أی فرد من الباصرة و فرد من النابعة لکنه مستلزم لاستعمال المادة فی أکثر من معنی و قد عرفت استحالته .و أما أن التثنیة و الجمع فی قوة تکرار الواحد فمعناه أنها تدل علی تکرار أفراد المعنی المراد من المادة لا تکرار نفس المعنی المراد منها فلو أرید من استعمال التثنیة أو الجمع فردان أو فرد من طبیعتین أو طبائع متعددة لا یمکن ذلک أبدا إلا أن یراد من المادة المسمی بهذا اللفظ علی نحو المجاز فتستعمل المادة فی معنی واحد و هو معنی مسمی هذا اللفظ و إن کان مجازا نظیر الأعلام الشخصیة غیر القابلة لعروض التعداد علی مفاهیمها الجزئیة إلا بتأویل المسمی فإذا قیل محمدان فمعناه فردان من المسمی بلفظ محمد فاستعملت المادة و هی لفظ محمد فی مفهوم المسمی مجازا

ص :35

14 الحقیقة الشرعیة

اشارة

لا شک فی أنا نحن المسلمین نفهم من بعض الألفاظ المخصوصة کالصلاة و الصوم و نحوهما معانی خاصة شرعیة و نجزم بأن هذه المعانی حادثة لم یکن یعرفها أهل اللغة العربیة قبل الإسلام و إنما نقلت تلک الألفاظ من معانیها اللغویة إلی هذه المعانی الشرعیة .هذا لا شک فیه و لکن الشک وقع عند الباحثین فی أن هذا النقل وقع فی عصر الشارع المقدس علی نحو الوضع التعیینی أو التعینی فتثبت الحقیقة الشرعیة أو أنه وقع فی عصر بعده علی لسان أتباعه المتشرعة فلا تثبت الحقیقة الشرعیة بل الحقیقة المتشرعیة .و الفائدة من هذا النزاع تظهر فی الألفاظ الواردة فی کلام الشارع مجردة عن القرینة سواء کانت فی القرآن الکریم أم السنة فعلی القول الأول یجب حملها علی المعانی الشرعیة و علی الثانی تحمل علی المعانی اللغویة أو یتوقف فیها فلا تحمل علی المعانی الشرعیة و لا علی اللغویة بناء علی رأی من یذهب إلی التوقف فیما إذا دار الأمر بین المعنی الحقیقی و بین المجاز المشهور إذ من المعلوم أنه إذا لم تثبت الحقیقة الشرعیة فهذه المعانی المستحدثة تکون علی الأقل مجازا مشهورا فی زمانه صلی اللّٰه علیه و آله .و التحقیق فی المسألة أن یقال إن نقل تلک الألفاظ إلی المعانی المستحدثة إما بالوضع التعیینی أو التعینی أما الأول فهو مقطوع العدم لأنه لو کان لنقل إلینا بالتواتر أو بالآحاد علی الأقل لعدم الداعی إلی الإخفاء بل الدواعی متظافرة علی نقله مع أنه لم ینقل ذلک أبدا .و أما الثانی فهو مما ریب فیه بالنسبة إلی زمان إمامنا أمیر المؤمنین

ص :36

علیه السلام لأن اللفظ إذا استعمل فی معنی خاص فی لسان جماعة کثیرة زمانا معتدا به لا سیما إذا کان المعنی جدیدا یصبح حقیقة فیه بکثرة الاستعمال فکیف إذا کان ذلک عند المسلمین قاطبة فی سنین متمادیة .فلا بد إذن من حمل تلک الألفاظ علی المعانی المستحدثة فیما إذا تجردت عن القرائن فی روایات الأئمة علیهم السلام .نعم کونها حقیقة فیها فی خصوص زمان النبی صلی اللّٰه علیه و آله غیر معلوم و إن کان غیر بعید بل من المظنون ذلک و لکن الظن فی هذا الباب لا یغنی عن الحق شیئا غیر أنه لا أثر لهذا الجهل نظر إلی أن السنة النبویة غیر مبتلی بها إلا ما نقل لنا من طریق آل البیت علیهم السلام علی لسانهم و قد عرفت الحال فی کلماتهم أنه لا بد من حملها علی المعانی المستحدثة و أما القرآن المجید فأغلب ما ورد فیه من هذه الألفاظ أو کله محفوف بالقرائن المعینة لإرادة المعنی الشرعی فلا فائدة مهمة فی هذا النزاع بالنسبة إلیه .علی أن الألفاظ الشرعیة لیست علی نسق واحد فإن بعضها کثیر التداول کالصلاة و الصوم و الزکاة و الحج لا سیما الصلاة التی یؤدونها کل یوم خمس مرات فمن البعید جدا ألا تصبح حقائق فی معانیها المستحدثة بأقرب وقت فی زمانه صلی الله علیه و آله .

الصحیح و الأعم
اشارة

من ملحقات المسألة السابقة مسألة الصحیح و الأعم فقد وقع النزاع فی أن ألفاظ العبادات أو المعاملات أ هی أسام موضوعة للمعانی الصحیحة أو للأعم منها و من الفاسدة و قبل بیان المختار لا بد من تقدیم مقدمات

ص :37

الأولی أن هذا النزاع لا یتوقف علی ثبوت الحقیقة الشرعیة لأنه قد عرفت أن هذه الألفاظ مستعملة فی لسان المتشرعیة بنحو الحقیقة و لو علی نحو الوضع التعینی عندهم و لا ریب أن استعمالهم کان یتبع الاستعمال فی لسان الشارع سواء کان استعماله علی نحو الحقیقة أو المجاز .فإذا عرفنا مثلا أن هذه الألفاظ فی عرف المتشرعة کانت حقیقة فی خصوص الصحیح یستکشف منه أن المستعمل فیه فی لسان الشارع هو الصحیح أیضا مهما کان استعماله عنده أ حقیقة کان أم مجازا کما أنه لو علم أنها کانت حقیقة فی الأعم فی عرفهم کان ذلک أمارة علی کون المستعمل فیه فی لسانه هو الأعم أیضا و إن کان استعماله علی نحو المجاز .الثانیة أن المراد من الصحیحة من العبادة أو المعاملة هی التی تمت أجزاؤها و کملت شروطها و الصحیح إذن معناه تام الأجزاء و الشرائط فالنزاع یرجع هنا إلی أن الموضوع له خصوص تام الأجزاء و الشرائط من العبادة أو المعاملة أو الأعم منه و من الناقص .الثالثة أن ثمرة النزاع هی صحة رجوع القائل بالوضع للأعم المسمی بالأعمی إلی أصالة الإطلاق دون القائل بالوضع للصحیح المسمی بالصحیحی فإنه لا یصح له الرجوع إلی أصالة إطلاق اللفظ توضیح ذلک أن المولی إذا أمرنا بإیجاد شیء و شککنا فی حصول امتثاله بالإتیان بمصداق خارجی فله صورتان یختلف الحکم فیهما 1 أن یعلم صدق عنوان المأمور به علی ذلک المصداق و لکن یحتمل دخل قید زائد فی غرض المولی غیر متوفر فی ذلک المصداق کما إذا أمرنا المولی بعتق رقبة فإنه یعلم بصدق عنوان المأمور به علی الرقبة الکافرة و لکن یشک فی دخل وصف الإیمان فی غرض المولی فیحتمل أن یکون قیدا

ص :38

للمأمور به .فالقاعدة فی مثل هذا الرجوع إلی أصالة الإطلاق فی نفی اعتبار القید المحتمل اعتباره فلا یجب تحصیله بل یجوز الاکتفاء فی الامتثال بالمصداق المشکوک فیمتثل فی المثال لو أعتق رقبة کافرة .2 أن یشک فی صدق نفس عنوان المأمور به علی ذلک المصداق الخارجی کما إذا أمر المولی بالتیمم بالصعید و لا ندری أن ما عدا التراب هی یسمی صعیدا أو لا فیکون شکنا فی صدق الصعید علی غیر التراب و فی مثله لا یصح الرجوع إلی أصالة الإطلاق لإدخال المصداق المشکوک فی عنوان المأمور به لیکتفی به فی مقام الامتثال بل لا بد من الرجوع إلی الأصول العملیة مثل قاعدة الاحتیاط أو البراءة .و من هذا البیان تظهر ثمرة النزاع فی المقام الذی نحن فیه فإنه فی فرض الأمر بالصلاة و الشک فی أن السورة مثلا جزء للصلاة أم لا إن قلنا إن الصلاة اسم للأعم کانت المسألة من باب الصورة الأولی لأنه بناء علی هذا القول یعلم بصدق عنوان الصلاة علی المصداق الفاقد للسورة و إنما الشک فی اعتبار قید زائد علی المسمی فیتمسک حینئذ بإطلاق کلام المولی فی نفی اعتبار القید الزائد و هو کون السورة جزءا من الصلاة و یجوز الاکتفاء فی الامتثال بفاقدها .و إن قلنا إن الصلاة اسم للصحیح کانت المسألة من باب الصورة الثانیة لأنه عند الشک فی اعتبار السورة یشک فی صدق عنوان المأمور به أعنی الصلاة علی المصداق الفاقد للسورة إذ عنوان المأمور به هو الصحیح و الصحیح هو عنوان المأمور به فما لیس بصحیح لیس بصلاة فالفاقد للجزء المشکوک کما یشک فی صحته یشک فی صدق عنوان المأمور به علیه فلا یصح الرجوع إلی أصالة الإطلاق لنفی اعتبار جزئیة السورة حتی یکتفی

ص :39

بفاقدها فی مقام الامتثال بل لا بد من الرجوع إلی أصالة الاحتیاط أو أصالة البراءة علی خلاف بین العلماء فی مثله سیأتی فی بابه إن شاء الله تعالی

.المختار فی المسألة
اشارة

إذا عرفت ما ذکرنا من المقدمات فالمختار عندنا هو الوضع للأعم و الدلیل التبادر و عدم صحة السلب عن الفاسد و هما أمارتا الحقیقة کما تقدم.

وهم و دفع

.الوهم قد یعترض علی المختار فیقال إنه لا یمکن الوضع بإزاء الأعم لأن الوضع له یستدعی أن نتصور معنی کلیا جامعا بین أفراده و مصادیقه هو الموضوع له کما فی أسماء الأجناس و کذلک الوضع للصحیح یستدعی تصور کلی جامع بین مراتبه و أفراده .و لا شک أن مراتب الصلاة مثلا الفاسدة و الصحیحة کثیرة متفاوتة و لیس بینها قدر جامع یصح وضع اللفظ بإزائه .توضیح ذلک أن أی جزء من أجزاء الصلاة حتی الأرکان إذا فرض عدمه یصح صدق اسم الصلاة علی الباقی بناء علی القول بالأعم کما یصح صدقه مع وجوده و فقدان غیره من الأجزاء و علیه یکون کل جزء مقوما للصلاة عند وجوده غیر مقوم عند عدمه فیلزم التبدل فی حقیقة الماهیة بل یلزم التردید فیها عند وجود تمام الأجزاء لأن أی جزء منها لو فرض عدمه یبقی صدق الاسم علی حاله .و کل منهما أی التبدل و التردید فی الحقیقة الواحدة غیر معقول

ص :40

إذ إن کل ماهیة تفرض لا بد أن تکون متعینة فی حد ذاتها و إن کانت مبهمة من جهة تشخصاتها الفردیة و التبدل أو التردید فی ذات الماهیة معناه إبهامها فی حد ذاتها و هو مستحیل .الدفع أن هذا التبادل فی الأجزاء و تکثر مراتب الفاسدة لا یمنع من فرض قدر مشترک جامع بین الأفراد و لا یلزم التبدل و التردید فی ذات الحقیقة الجامعة بین الأفراد و هذا نظیر لفظ الکلمة الموضوع لما ترکب من حرفین فصاعدا و یکون الجامع بین الأفراد هو ما ترکب من حرفین فصاعدا مع أن الحروف کثیرة فربما تترکب الکلمة من الألف و الباء کأب و یصدق علیها أنها کلمة و ربما تترکب من حرفین آخرین مثل ید و یصدق علیها أنها کلمة و هکذا فکل حرف یجوز أن یکون داخلا و خارجا فی مختلف الکلمات مع صدق اسم الکلمة .و کیفیة تصحیح الوضع فی ذلک أن الواضع یتصور أولا جمیع الحروف الهجائیة ثم یضع لفظ الکلمة بإزاء طبیعة المرکب من اثنین فصاعدا إلی حد سبعة حروف مثلا و الغرض من التقیید بقولنا فصاعدا بیان أن الکلمة تصدق علی الأکثر من حرفین کصدقها علی المرکب من حرفین و لا یلزم التردید فی الماهیة فإن الماهیة الموضوع لها هی طبیعة اللفظ الکلی المترکب من حرفین فصاعدا و التبدل و التردید إنما یکون فی أجزاء أفرادها و قد یسمی ذلک بالکلی فی المعین أو الکلی المحصور فی أجزاء معینة و فی المثال أجزاؤه المعینة هی الحروف الهجائیة کلها .و علی هذا ینبغی أن یقاس لفظ الصلاة مثلا فإنه یمکن تصور جمیع أجزاء الصلاة فی مراتبها کلها و هی أی هذه الأجزاء معینة معروفة کالحروف الهجائیة فیضع اللفظ بإزاء طبیعة العمل المرکب من خمسة أجزاء منها مثلا فصاعدا فعند وجود تمام الأجزاء یصدق علی المرکب أنه

ص :41

صلاة و عند وجود بعضها و لو خمسة علی أقل تقدیر علی الفرض یصدق اسم الصلاة أیضا .بل الحق أن الذی لا یمکن تصور الجامع فیه هو خصوص المراتب الصحیحة و هذا المختصر لا یسع تفصیل ذلک

تنبیهان
1 لا یجری النزاع فی المعاملات بمعنی المسببات

إن ألفاظ المعاملات کالبیع و النکاح و الإیقاعات کالطلاق و العتق یمکن تصویر وضعها علی أحد نحوین 1 أن تکون موضوعة للأسباب التی تسبب مثل الملکیة و الزوجیة و الفراق و الحریة و نحوها و نعنی بالسبب إنشاء العقد و الإیقاع کالإیجاب و القبول معا فی العقود و الإیجاب فقط فی الإیقاعات و إذا کانت کذلک فالنزاع المتقدم یصح أن نفرضه فی ألفاظ المعاملات من کونها أسامی لخصوص الصحیحة أعنی تامة الأجزاء و الشرائط المؤثرة فی المسبب أو للأعم من الصحیحة و الفاسدة و نعنی بالفاسدة ما لا یؤثر فی المسبب إما لفقدان جزء أو شرط .2 أن تکون موضوعة للمسببات و نعنی بالمسبب نفس الملکیة و الزوجیة و الفراق و الحریة و نحوها و علی هذا فالنزاع المتقدم لا یصح فرضه فی المعاملات لأنها لا تتصف بالصحة و الفساد لکونها بسیطة غیر مرکبة من أجزاء و شرائط بل إنما تتصف بالوجود تارة و بالعدم أخری فهذا عقد البیع مثلا إما أن یکون واجدا لجمیع ما هو معتبر فی صحة العقد أو لا فإن کان الأول اتصف بالصحة و إن کان الثانی اتصف بالفساد و لکن الملکیة المسببة للعقد یدور أمرها بین الوجود و العدم لأنها توجد عند

ص :42

صحة العقد و عند فساده لا توجد أصلا لا أنها توجد فاسدة فإذا أرید من البیع نفس المسبب و هو الملکیة المنتقلة إلی المشتری فلا تتصف بالصحة و الفساد حتی یمکن تصویر النزاع فیها .

2 لا ثمرة للنزاع فی المعاملات إلا فی الجملة

قد عرفت أنه علی القول بوضع ألفاظ العبادات للصحیحة لا یصح التمسک بالإطلاق عند الشک فی اعتبار شیء فیها جزءا کان أو شرطا لعدم إحراز صدق الاسم علی الفاقد له و إحراز صدق الاسم علی الفاقد شرط فی صحة التمسک بالإطلاق .إلا أن هذا الکلام لا یجری فی ألفاظ المعاملات لأن معانیها غیر مستحدثة و الشارع بالنسبة إلیها کواحد من أهل العرف فإذا استعمل أحد ألفاظها فیحمل لفظه علی معناه الظاهر فیه عندهم إلا إذا نصب قرینة علی خلافه .فإذا شککنا فی اعتبار شیء عند الشارع فی صحة البیع مثلا و لم ینصب قرینة علی ذلک فی کلامه فإنه یصح التمسک بإطلاقه لدفع هذا الاحتمال حتی لو قلنا بأن ألفاظ المعاملات موضوعة للصحیح لأن المراد من الصحیح هو الصحیح عند العرف العام لا عند الشارع فإذا اعتبر الشارع قیدا زائدا علی ما یعتبره العرف کان ذلک قیدا زائدا علی أصل معنی اللفظ فلا یکون دخیلا فی صدق عنوان المعاملة الموضوعة حسب الفرض للصحیح علی المصداق المجرد عن القید و حالها فی ذلک حال ألفاظ العبادات لو کانت موضوعة للأعم .نعم إذا احتمل أن هذا القید دخیل فی صحة المعاملة عند أهل العرف أنفسهم أیضا فلا یصح التمسک بالإطلاق لدفع هذا الاحتمال بناء علی القول بالصحیح کما هو شأن ألفاظ العبادات لأن الشک یرجع إلی

ص :43

الشک فی صدق عنوان المعاملة و أما علی القول بالأعم فیصح التمسک بالإطلاق لدفع الاحتمال .فتظهر ثمرة النزاع علی هذا فی ألفاظ المعاملات أیضا و لکنها ثمرة نادرة

ص :44

المقصد الأول مباحث الألفاظ

تمهید

المقصود من مباحث الألفاظ تشخیص ظهور الألفاظ من ناحیة عامة إما بالوضع أو بإطلاق الکلام لتکون نتیجتها قواعد کلیة تنقح صغریات أصالة الظهور التی سنبحث عن حجیتها فی المقصد الثالث و قد سبقت الإشارة إلیها .و تلک المباحث تقع فی هیئات الکلام التی یقع فیها الشک و النزاع سواء کانت هیئات المفردات کهیئة المشتق و الأمر و النهی أو هیئات الجمل کالمفاهیم و نحوها .أما البحث عن مواد الألفاظ الخاصة و بیان وضعها و ظهورها مع أنها تنقح أیضا صغریات أصالة الظهور فإنه لا یمکن ضبط قاعدة کلیة عامة فیها فلذا لا یبحث عنها فی علم الأصول و معاجم اللغة و نحوها هی المتکفلة بتشخیص مفرداتها .و علی أی حال فنحن نعقد مباحث الألفاظ فی سبعة أبواب 1 المشتق .2 الأوامر .3 النواهی .4 المفاهیم .5 العام و الخاص .6 المطلق و المقید .7 المجمل و المبین

ص :45

ص :46

الباب الأول المشتق

اشارة

ص :47

ص :48

اختلف الأصولیون من القدیم فی المشتق فی أنه حقیقة فی خصوص ما تلبس بالمبدإ فی الحال و مجاز فیما انقضی عنه التلبس أو أنه حقیقة فی کلیهما بمعنی أنه موضوع للأعم منهما .بعد اتفاقهم علی أنه مجاز فیما یتلبس بالمبدإ فی المستقل .ذهب المعتزلة و جماعة من المتأخرین من أصحابنا إلی الأول .و ذهب الأشاعرة و جماعة من المتقدمین من أصحابنا إلی الثانی .و الحق هو القول الأول و للعلماء أقوال أخر فیها تفصیلا بین هذین القولین لا یهمنا التعرض لها بعد اتضاح الحق فیما یأتی .و أهم شیء یعنینا فی هذه المسألة قبل بیان الحق فیها و هو أصعب ما فیها أن نفهم محل النزاع و موضع النفی و الإثبات و لأجل أن یتضح فی الجملة موضع الخلاف نذکر مثالا له فنقول إنه ورد کراهة الوضوء و الغسل بالماء المسخن بالشمس فمن قال بالأول لا بد ألا یقول بکراهتهما بالماء الذی برد و انقضی عنه التلبس لأنه عنده لا یصدق علیه حینئذ أنه مسخن بالشمس بل کان مسخنا و من قال بالثانی لا بد أن یقول بکراهتهما بالماء حال انقضاء التلبس أیضا لأنه عنده یصدق علیه أنه مسخن حقیقة بلا مجاز .و لتوضیح ذلک نذکر الآن أربعة أمور مذللة لتلک الصعوبة ثم نذکر القول المختار و دلیله

ص :49

1 ما المراد من المشتق المبحوث عنه

اعلم أن المشتق باصطلاح النحاة ما یقابل الجامد و مرادهم واضح و لکن لیس هو موضع النزاع هنا بل بین المشتق بمصطلح النحویین و بین المشتق المبحوث عنه عموم و خصوص من وجه .لأن موضع النزاع هنا یشمل کل ما یحمل علی الذات باعتبار قیام صفة فیها خارجة عنها تزول عنها و إن کان باصطلاح النحاة معدودا من الجوامد کلفظ الزوج و الأخ و الرق و نحو ذلک و من جهة أخری لا یشمل الفعل بأقسامه و لا المصدر و إن کانت تسمی مشتقات عند النحویین .و السر فی ذلک أن موضع النزاع هنا یعتبر فیه شیئان 1 أن یکون جاریا علی الذات بمعنی أنه یکون حاکیا عنها و عنوانا لها نحو اسم الفاعل و اسم المفعول و أسماء المکان و الآلة و غیرهما و ما شابه هذه الأمور من الجوامد و من أجل هذا الشرط لا یشمل هذا النزاع الأفعال و لا المصادر لأنها کلها لا تحکی عن الذات و لا تکون عنوانا لها و إن کانت تسند إلیها .2 ألا تزول الذات بزوال تلبسها بالصفة و نعنی بالصفة المبدأ الذی منه یکون انتزاع المشتق و اشتقاقه و یصح صدقه علی الذات بمعنی أن تکون الذات باقیة محفوظة لو زال تلبسها بالصفة فهی تتلبس بها تارة و لا تتلبس بها أخری و الذات تلک الذات فی کلا الحالین .و إنما نشترط ذلک فلأجل أن تتعقل انقضاء التلبس بالمبدإ مع بقاء الذات حتی یصح أن نتنازع فی صدق المشتق حقیقة علیها مع انقضاء حال التلبس بعد الاتفاق علی صدقه حقیقة علیها حال التلبس و إلا لو کانت الذات تزول بزوال التلبس لا یبقی معنی لفرض صدق المشتق علی الذات مع انقضاء

ص :50

حال التلبس لا حقیقة و لا مجازا .و علی هذا لو کان المشتق من الأوصاف التی تزول الذات بزوال التلبس بمبادئها فلا یدخل فی محل النزاع و إن صدق علیها اسم المشتق مثلما لو کان من الأنواع أو الأجناس أو الفصول بالقیاس إلی الذات کالناطق و الصاهل و الحساس و المتحرک بالإرادة .و اعتبر ذلک فی مثال کراهة الجلوس للتغوط تحت الشجرة المثمرة فإن هذا المثال یدخل فی محل النزاع لو زالت الثمرة عن الشجرة فیقال هل یبقی اسم المثمرة صادقا حقیقة علیها حینئذ فیکره الجلوس أو لا أما لو اجتثت الشجرة فصارت خشبة فإنها لا تدخل فی محل النزاع لأن الذات و هی الشجرة قد زالت بزوال الوصف الداخل فی حقیقتها فلا یتعقل معه بقاء وصف الشجرة المثمرة لها لا حقیقة و لا مجازا و أما الخشب فهو ذات أخری لم یکن فیما مضی قد صدق علیه بما أنه خشب وصف الشجرة المثمرة حقیقة إذ لم یکن متلبسا بما هو خشب بالشجرة ثم زال عنه التلبس .و بناء علی اعتبار هذین الشرطین یتضح ما ذکرناه فی صدر البحث من أن موضع النزاع فی المشتق یشمل کل ما کان جاریا علی الذات باعتبار قیام صفة خارجة عن الذات و إن کان معدودا من الجوامد اصطلاحا و یتضح أیضا عدم شمول النزاع للأفعال و المصادر .کما یتضح أن النزاع یشمل کل وصف جار علی الذات و لا یفرق فیه بین أن یکون مبدؤه من الأعراض الخارجیة المتأصلة کالبیاض و السواد و القیام و القعود أو من الأمور الانتزاعیة کالفوقیة و التحتیة و التقدم و التأخر

ص :51

أو من الأمور الاعتباریة المحضة کالزوجیة و الملکیة و الوقف و الحریة

2 جریان النزاع فی اسم الزمان

بناء علی ما تقدم قد یظن عدم جریان النزاع فی اسم الزمان لأنه قد تقدم أنه یعتبر فی جریانه بقاء الذات مع زوال الوصف مع أن زوال الوصف فی اسم الزمان ملازم لزوال الذات لأن الزمان متصرم الوجود فکل جزء منه یعدم بوجود الجزء اللاحق فلا تبقی ذات مستمرة فإذا کان یوم الجمعة مقتل زید مثلا فیوم السبت الذی بعده ذات أخری من الزمان لم یکن لها وصف القتل فیها و یوم الجمعة تصرم و زال کما زال نفس الوصف .و الجواب أن هذا صحیح لو کان لاسم الزمان لفظ مستقل مخصوص و لکن الحق أن هیئة اسم الزمان موضوعة لما هو یعم اسم الزمان و المکان و یشملهما معا فمعنی المضرب مثلا الذات المتصفة بکونها ظرفا للضرب و الظرف أعم من أن یکون زمانا أو مکانا و یتعین أحدهما بالقرینة و الهیئة إذا کانت موضوعة للجامع بین الظرفین فهذا الجامع یکفی فی صحة الوضع له و تعمیمه لما تلبس بالمبدإ و ما انقضی عنه أن یکون أحد فردیه یمکن أن یتصور فیه انقضاء المبدإ و بقاء الذات .و الخلاصة أن النزاع حینئذ یکون فی وضع أصل الهیئة التی تصلح للزمان و المکان لا لخصوص اسم الزمان و یکفی فی صحة الوضع للأعم إمکان الفرد المنقضی عنه المبدأ فی أحد أقسامه و إن امتنع الفرد الآخر

3 اختلاف المشتقات من جهة المبادئ

و قد یتوهم بعضهم أن النزاع هنا لا یجری فی بعض المشتقات الجاریة

ص :52

علی الذات مثل النجار و الخیاط و الطبیب و القاضی و نحو ذلک مما کان للحرف و المهن بل فی هذه من المتفق علیه أنه موضوع للأعم و منشأ الوهم أنا نجد صدق هذه المشتقات حقیقة علی من انقضی عنه التلبس بالمبدإ من غیر شک و ذلک نحو صدقها علی من کان نائما مثلا مع أن النائم غیر متلبس بالنجارة فعلا أو الخیاطة أو الطبابة أو القضاء و لکنه کان متلبسا بها فی زمان مضی و کذلک الحال فی أسماء الآلة کالمنشار و المقود و المکنسة فإنها تصدق علی ذواتها حقیقة مع عدم التلبس فعلا بمبادئها .و الجواب عن ذلک أن هذا التوهم منشؤه الغفلة عن معنی المبدإ المصحح لصدق المشتق فإنه یختلف باختلاف المشتقات لأنه تارة یکون من الفعلیات و أخری من الملکات و ثالثة من الحرف و الصناعات مثلا اتصاف زید بأنه قائم إنما یتحقق إذا تلبس بالقیام فعلا لأن القیام یؤخذ علی نحو الفعلیة مبدأ لوصف قائم و یفرض الانقضاء بزوال فعلیة القیام عنه و أما اتصافه بأنه عالم بالنحو أو أنه قاضی البلد فلیس بمعنی أنه یعلم ذلک فعلا أو أنه مشغول بالقضاء بین الناس فعلا بل بمعنی أن له ملکة العلم أو منصب القضاء فما دامت الملکة أو الوظیفة موجودتین فهو متلبس بالمبدإ حالا و إن کان نائما أو غافلا نعم یصح أن نتعقل الانقضاء إذا زالت الملکة أو سلبت عنه الوظیفة و حینئذ یجری النزاع فی أن وصف القاضی مثلا هل یصدق حقیقة علی من زال عنه منصب القضاء .و کذلک الحال فی مثل النجار و الخیاط و المنشار فلا یتصور فیها الانقضاء إلا بزوال حرفة النجارة و مهنة الخیاطة و شأنیة النشر فی المنشار .و الخلاصة أن الزوال و الانقضاء فی کل شیء بحسبه و النزاع فی المشتق إنما هو فی وضع الهیئات مع قطع النظر عن خصوصیات المبادئ المدلول علیها بالمواد التی تختلف اختلافا کثیرا

ص :53

4 استعمال المشتق بلحاظ حال التلبس حقیقة
اشارة

اعلم أن المشتقات التی هی محل النزاع بأجمعها هی من الأسماء .و الأسماء مطلقا لا دلالة لها علی الزمان حتی اسم الفاعل و اسم المفعول فإنه کما یصدق العالم حقیقة علی من هو عالم فعلا کذلک یصدق حقیقة علی من کان عالما فیما مضی أو یکون عالما فیما یأتی بلا تجوز إذا کان إطلاقه علیه بلحاظ حال التلبس بالمبدإ کما إذا قلنا کان عالما أو سیکون عالما فإن ذلک حقیقة بلا ریب نظیر الجوامد لو تقول فیها مثلا الرماد کان خشبا أو الخشب سیکون رمادا فإذن إذا کان الأمر کذلک فما موقع النزاع فی إطلاق المشتق علی ما مضی علیه التلبس أنه حقیقة أو مجاز .نقول إن الإشکال و النزاع هنا إنما هو فیما إذا انقضی التلبس بالمبدإ و أرید إطلاق المشتق فعلا علی الذات التی انقضی عنها التلبس أی أن الإطلاق علیها بلحاظ حال النسبة و الإسناد الذی هو حال النطق غالبا کأن تقول مثلا زید عالم فعلا أی أنه الآن موصوف بأنه عالم لأنه کان فیما مضی عالما کمثال إثبات الکراهة للوضوء بالماء المسخن بالشمس سابقا بتعمیم لفظ المسخن فی الدلیل لما کان مسخنا .فتحصل مما ذکرناه ثلاثة أمور 1 أن إطلاق المشتق بلحاظ حال التلبس حقیقة مطلقا سواء کان بالنظر إلی ما مضی أو الحال أو المستقبل و ذلک بالاتفاق .2 أن إطلاقه علی الذات فعلا بلحاظ حال النسبة و الإسناد قبل زمان التلبس لأنه سیتلبس به فیما بعد مجاز بلا إشکال و ذلک بعلاقة الأول أو المشارفة و هذا متفق علیه أیضا .3 أن إطلاقه علی الذات فعلا أی بلحاظ حال النسبة و الإسناد

ص :54

لأنه کان متصفا به سابقا هو محل الخلاف و النزاع فقال قوم بأنه حقیقة و قال آخرون بأنه مجاز .

المختار

إذا عرفت ما تقدم من الأمور فنقول الحق أن المشتق حقیقة فی خصوص المتلبس بالمبدإ و مجاز فی غیره .و دلیلنا التبادر و صحة السلب عمن زال عنه الوصف فلا یقال لمن هو قاعد بالفعل إنه قائم و لا لمن هو جاهل بالفعل إنه عالم و ذلک لمجرد أنه کان قائما أو عالما فیما سبق نعم یصح ذلک علی نحو المجاز أو یقال إنه کان قائما أو عالما فیکون حقیقة حینئذ إذ یکون الإطلاق بلحاظ حال التلبس .و عدم تفرقة بعضهم بین الإطلاق بلحاظ حال التلبس و بین الإطلاق بلحاظ حال النسبة و الإسناد هو الذی أوهم القول بوضع المشتق للأعم إذ وجد أن الاستعمال یکون علی نحو الحقیقة فعلا مع أن التلبس قد مضی و لکنه غفل عن أن الإطلاق کان بلحاظ حال التلبس فلم یستعمله فی الحقیقة إلا فی خصوص المتلبس بالمبدإ لا فیما مضی عنه التلبس حتی یکون شاهدا له .ثم إنک قد عرفت فیما سبق أن زوال الوصف یختلف باختلاف المواد من جهة کون المبدإ أخذ علی نحو الفعلیة أو علی نحو الملکة أو الحرفة فمثل صدق الطبیب حقیقة علی من لا یتشاغل بالطبابة فعلا لنوم أو راحة أو أکل لا یکشف عن کون المشتق حقیقة فی الأعم کما قیل و ذلک لأن المبدأ فیه أخذ علی نحو الحرفة أو الملکة و هذا لم یزل تلبسه به حین النوم أو الراحة نعم إذا زالت الملکة أو الحرفة عنه کان إطلاق الطبیب علیه مجازا إذا لم یکن بلحاظ حال التلبس کما لو قیل هذا

ص :55

طبیبنا بالأمس بأن یکون قید بالأمس لبیان حال التلبس فإن هذا الاستعمال لا شک فی کونه علی نحو الحقیقة و قد سبق بیان ذلک

ص :56

الباب الثانی الأوامر

اشارة

و فیه بحثان فی مادة الأمر و صیغة الأمر و خاتمة فی تقسیمات الواجب

ص :57

ص :58

المبحث الأول مادة الأمر
اشارة

و هی کلمة الأمر المؤلفة من الحروف أ م ر و فیها ثلاث مسائل

1 معنی کلمة الأمر

قیل إن کلمة الأمر لفظ مشترک بین الطلب و غیره مما تستعمل فیه هذه الکلمة کالحادثة و الشأن و الفعل کما تقول جئت لأمر کذا أو شغلنی أمر أو أتی فلان بأمر عجیب .و لا یبعد أن تکون المعانی التی تستعمل فیها کلمة الأمر ما خلا الطلب ترجع إلی معنی واحد جامع بینها و هو مفهوم الشیء .فیکون لفظ الأمر مشترکا بین معنیین فقط الطلب و الشیء .و المراد من الطلب إظهار الإرادة و الرغبة بالقول أو الکتابة أو الإشارة أو نحو هذه الأمور مما یصح إظهار الإرادة و الرغبة و إبرازهما به (1)فمجرد الإرادة و الرغبة من دون إظهارها بمظهر لا تسمی طلبا و الظاهر أنه لیس کل طلب یسمی أمرا بل بشرط مخصوص سیأتی ذکره فی المسألة الثانیة فتفسیر الأمر بالطلب من باب تعریف الشیء بالأعم .و المراد من الشیء من لفظ الأمر أیضا لیس کل شیء علی الإطلاق فیکون تفسیره به من باب تعریف الشیء بالأعم أیضا فإن الشیء لا یقال

ص :59


1- والظاهر أن تفسیر بعض الاصولیین للفظ الامر بأنه (الطلب بالقول) لیس القصد منه أن لهم اصطلاحا مخصوصا فیه، بل باعتبار أنه أحد مصادیق المعنی. فان الامر کما یصدق علی الطلب بالقول یصدق علی الطلب بالکتابة أو الاشارة أو نحوهما.

له أمر إلا إذا کان من الأفعال و الصفات و لذا لا یقال رأیت أمرا إذا رأیت إنسانا أو شجرا أو حائطا و لکن لیس المراد من الفعل و الصفة المعنی الحدثی أی المعنی المصدری بل المراد منه نفس الفعل أو الصفة بما هو موجود فی نفسه یعنی لم یلاحظ فیه جهة الصدور من الفاعل و الإیجاد و هو المعبر عنه عند بعضهم بالمعنی الاسم المصدری أی ما یدل علیه اسم المصدر و لذا لا یشتق منه فلا یقال أمر یأمر آمر مأمور بالمعنی المأخوذ من الشیء و لو کان معنی حدثیا لاشتق منه .بخلاف الأمر بمعنی الطلب فإن المقصود منه المعنی الحدثی و جهة الصدور و الإیجاد و لذا یشتق منه فیقال أمر یأمر آمر مأمور و الدلیل علی أن لفظ الأمر مشترک بین معنیین الطلب و الشیء لا أنه موضوع للجامع بینهما .1 أن الأمر کما تقدم بمعنی الطلب یصح الاشتقاق منه و لا یصح الاشتقاق منه بمعنی الشیء و الاختلاف بالاشتقاق و عدمه دلیل علی تعدد الوضع .2 أن الأمر بمعنی الطلب یجمع علی أوامر و بمعنی الشیء علی أمور و اختلاف الجمع فی المعنیین دلیل علی تعدد الوضع

2 اعتبار العلو فی معنی الأمر

قد سبق أن الأمر یکون بمعنی الطلب و لکن لا مطلقا بل بمعنی طلب مخصوص و الظاهر أن الطلب المخصوص هو الطلب من العالی إلی الدانی فیعتبر فیه العلو فی الأمر .و علیه لا یسمی الطلب من الدانی إلی العالی أمرا بل یسمی استدعاء .

ص :60

و کذا لا یسمی الطلب من المساوی إلی مساویه فی العلو أو الحطة أمرا بل یسمی التماسا و إن استعلی الدانی أو المساوی و أظهر علوه و ترفعه و لیس هو بعال حقیقة .أما العالی فطلبه یکون أمرا و إن لم یکن متظاهرا بالعلو .کل هذا بحکم التبادر و صحة سلب الأمر عن طلب غیر العالی و لا یصح إطلاق الأمر علی الطلب من غیر العالی إلا بنحو العنایة و المجاز و إن استعلی

3 دلالة لفظ الأمر علی الوجوب

اختلفوا فی دلالة لفظ الأمر بمعنی الطلب علی الوجوب فقیل إنه موضوع لخصوص الطلب الوجوبی و قیل للأعم منه و من الطلب الندبی و قیل مشترک بینهما اشتراکا لفظیا و قیل غیر ذلک .و الحق عندنا أنه دال علی الوجوب و ظاهر فیه فیما إذا کان مجردا و عاریا عن قرینة علی الاستحباب و إحراز هذا الظهور بهذا المقدار کاف فی صحة استنباط الوجوب من الدلیل الذی یتضمن کلمة الأمر و لا یحتاج إلی إثبات منشإ هذا الظهور هل هو الوضع أو شیء آخر .و لکن من ناحیة علمیة صرفة یحسن أن نفهم منشأ هذا الظهور فقد قیل إن معنی الوجوب مأخوذ قیدا فی الموضوع له لفظ الأمر و قیل مأخوذ قیدا فی المستعمل فیه إن لم یکن مأخوذا فی الموضوع له .و الحق أنه لیس قیدا فی الموضوع له و لا فی المستعمل فیه بل منشأ هذا الظهور من جهة حکم العقل بوجوب طاعة الأمر فإن العقل یستقل بلزوم الانبعاث عن بعث المولی و الانزجار عن زجره قضاء لحق المولویة و العبودیة فبمجرد بعث المولی یجد العقل أنه لا بد للعبد من الطاعة و الانبعاث ما لم یرخص فی ترکه و یأذن فی مخالفته .

ص :61

فلیس المدلول للفظ الأمر إلا الطلب من العالی و لکن العقل هو الذی یلزم العبد بالانبعاث و یوجب علیه الطاعة لأمر المولی ما لم یصرح المولی بالترخیص و یأذن بالترک .و علیه فلا یکون استعماله فی موارد الندب مغایرا لاستعماله فی موارد الوجوب من جهة المعنی المستعمل فیه اللفظ فلیس هو موضوعا للوجوب بل و لا موضوعا للأعم من الوجوب و الندب لأن الوجوب و الندب لیسا من التقسیمات اللاحقة للمعنی المستعمل فیه اللفظ بل من التقسیمات اللاحقة للأمر بعد استعماله فی معناه الموضوع له

ص :62

المبحث الثانی صیغة الأمر
1 معنی صیغة الأمر

صیغة الأمر أی هیئته کصیغة افعل و نحوها (1)تستعمل فی موارد کثیرة منها البعث کقوله تعالی فَأَقِیمُوا الصَّلاٰةَ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و منها التهدید کقوله تعالی اِعْمَلُوا مٰا شِئْتُمْ .و منها التعجیز کقوله تعالی فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ .و غیر ذلک من التسخیر و الإنذار و الترجی و التمنی و نحوها و لکن الظاهر أن الهیئة فی جمیع هذه المعانی استعملت فی معنی واحد لکن لیس هو واحدا من هذه المعانی لأن الهیئة مثل افعل شأنها شأن الهیئات الأخری وضعت لإفادة نسبة خاصة کالحروف و لم توضع لإفادة معان مستقلة فلا یصح أن یراد منها مفاهیم هذه المعانی المذکورة التی هی معان اسمیة .و علیه فالحق أنها موضوعة للنسبة الخاصة القائمة بین المتکلم و المخاطب و المادة و المقصود من المادة الحدث الذی وقع علیه مفاد الهیئة مثل الضرب و القیام و القعود فی اضرب و قم و اقعد و نحو ذلک و حینئذ

ص :63


1- المقصود بنحو صیغة أفعل: أیة صیغة وکلمة تؤدی مؤداها فی الدلالة علی الطلب والبعث، کالفعل المضارع المقرون بلام الامر أو المجرد منه إذا قصد به إنشاء الطلب نحو قولنا: (تصلی. تغتسل. أطلب منک کذا) أو جملة اسمیة نحو (هذا مطلوب منک) أو اسم فعل نحو: صه ومه ومهلا، وغیر ذلک.

ینتزع منها عنوان طالب و مطلوب منه و مطلوب .فقولنا اضرب یدل علی النسبة الطلبیة بین الضرب و المتکلم و المخاطب و معنی ذلک جعل الضرب علی عهدة المخاطب و بعثه نحوه و تحریکه إلیه و جعل الداعی فی نفسه للفعل .و علی هذا فمدلول هیئة الأمر و مفادها هو النسبة الطلبیة و إن شئت فسمها النسبة البعثیة لغرض إبراز جعل المأمور به أی المطلوب فی عهدة المخاطب و جعل الداعی فی نفسه و تحریکه و بعثه نحوه ما شئت فعبر غیر أن هذا الجعل أو الإنشاء یختلف فیه الداعی له من قبل المتکلم فتارة یکون الداعی له هو البعث الحقیقی و جعل الداعی فی نفس المخاطب لفعل المأمور به فیکون هذا الإنشاء حینئذ مصداقا للبعث و التحریک و جعل الداعی أو إن شئت فقل یکون مصداقا للطلب فإن المقصود واحد و أخری یکون الداعی له هو التهدید فیکون مصداقا للتهدید و یکون تهدیدا بالحمل الشائع و ثالثة یکون الداعی له هو التعجیز فیکون مصداقا للتعجیز و تعجیزا بالحمل الشائع و هکذا فی باقی المعانی المذکورة و غیرها .و إلی هنا یتجلی ما نرید أن نوضحه فإنا نرید أن نقول بنص العبارة إن البعث أو التهدید أو التعجیز أو نحوها لیست هی معانی لهیئة الأمر قد استعملت فی مفاهیمها کما ظنه القوم لا معانی حقیقیة و لا مجازیة .بل الحق أن المنشأ بها لیس إلا النسبة الطلبیة الخاصة و هذا الإنشاء یکون مصداقا لأحد هذه الأمور باختلاف الدواعی فیکون تارة بعثا بالحمل الشائع و أخری تهدیدا بالحمل الشائع و هکذا لا أن هذه المفاهیم مدلولة للهیئة و منشأة بها حتی مفهوم البعث و الطلب .و الاختلاط فی الوهم بین المفهوم و المصداق هو الذی جعل أولئک یظنون

ص :64

أن هذه الأمور مفاهیم لهیئة الأمر و قد استعملت فیها استعمال اللفظ فی معناه حتی اختلفوا فی أنه أیها المعنی الحقیقی الموضوع له الهیئة و أیها المعنی المجازی

2 ظهور الصیغة فی الوجوب
اشارة

اختلف الأصولیون فی ظهور صیغة الأمر فی الوجوب و فی کیفیته علی أقوال و الخلاف یشمل صیغة افعل و ما شابهها و ما بمعناها من صیغ الأمر .و الأقوال فی المسألة کثیرة و أهمها قولان أحدهما أنها ظاهرة فی الوجوب إما لکونها موضوعة فیه أو من جهة انصراف الطلب إلی أکمل الأفراد ثانیهما أنها حقیقة فی القدر المشترک بین الوجوب و الندب و هو أی القدر المشترک مطلق الطلب الشامل لهما من دون أن تکون ظاهرة فی أحدهما .و الحق أنها ظاهرة فی الوجوب و لکن لا من جهة کونها موضوعة للوجوب و لا من جهة کونها موضوعة لمطلق الطلب و أن الوجوب أظهر أفراده و شأنها فی ظهورها فی الوجوب شأن مادة الأمر علی ما تقدم هناک من أن الوجوب یستفاد من حکم العقل بلزوم إطاعة أمر المولی و وجوب الانبعاث عن بعثه قضاء لحق المولویة و العبودیة ما لم یرخص نفس المولی بالترک و یأذن به و بدون الترخیص فالأمر لو خلی و طبعه شأنه أن یکون من مصادیق حکم العقل بوجوب الطاعة .فیکون الظهور هذا لیس من نحو الظهورات اللفظیة و لا الدلالة هذه علی الوجوب من نوع الدلالات الکلامیة إذ صیغة الأمر کمادة الأمر لا تستعمل فی مفهوم الوجوب لا استعمالا حقیقیا و لا مجازیا لأن الوجوب

ص :65

کالندب أمر خارج عن حقیقة مدلولها و لا من کیفیاته و أحواله و تمتاز الصیغة عن مادة کلمة الأمر أن الصیغة لا تدل إلا علی النسبة الطلبیة کما تقدم فهی بطریق أولی لا تصلح للدلالة علی الوجوب الذی هو مفهوم اسمی و کذا الندب .و علی هذا فالمستعمل فیه الصیغة علی کلا الحالین الوجوب و الندب واحد لا اختلاف فیه و استفادة الوجوب علی تقدیر تجردها عن القرینة علی إذن الآمر بالترک إنما هو بحکم العقل کما قلنا إذ هو من لوازم صدور الأمر من المولی .و یشهد لما ذکرناه من کون المستعمل فیه واحدا فی مورد الوجوب و الندب ما جاء فی کثیر من الأحادیث من الجمع بین الواجبات و المندوبات بصیغة واحدة و أمر واحد أو أسلوب واحد مع تعدد الأمر و لو کان الوجوب و الندب من قبیل المعنیین للصیغة لکان ذلک فی الأغلب من باب استعمال اللفظ فی أکثر من معنی و هو مستحیل أو تأویله بإرادة مطلق الطلب البعید إرادته من مساق الأحادیث فإنه تجوز علی تقدیره لا شاهد له و لا یساعد علیه أسلوب الأحادیث الواردة .

تنبیهان

الأول ظهور الجملة الخبریة الدالة علی الطلب فی الوجوب .اعلم أن الجملة الخبریة فی مقام إنشاء الطلب شأنها شأن صیغة افعل فی ظهورها فی الوجوب کما أشرنا إلیه سابقا بقولنا صیغة افعل و ما شابهها .و الجملة الخبریة مثل قول یغتسل یتوضأ یصلی بعد السؤال عن شیء یقتضی مثل هذا الجواب و نحو ذلک .

ص :66

و السر فی ذلک أن المناط فی الجمیع واحد فإنه إذا ثبت البعث من المولی بأی مظهر کان و بأی لفظ کان فلا بد أن یتبعه حکم العقل بلزوم الانبعاث ما لم یأذن المولی بترکه .بل ربما یقال إن دلالة الجملة الخبریة علی الوجوب آکد لأنها فی الحقیقة إخبار عن تحقق الفعل بادعاء أن وقوع الامتثال من المکلف مفروغ عنه .الثانی ظهور الأمر بعد الحظر أو توهمه .قد یقع إنشاء الأمر بعد تقدم الحظر أی المنع أو عند توهم الحظر کما لو منع الطبیب المریض عن شرب الماء ثم قال له اشرب الماء أو قال ذلک عند ما یتوهم المریض أنه ممنوع منه و محظور علیه شربه .و قد اختلف الأصولیون فی مثل هذا الأمر أنه هل هو ظاهر فی الوجوب أو ظاهر فی الإباحة أو الترخیص فقط أی رفع المنع فقط من دون التعرض لثبوت حکم آخر من إباحة أو غیرها أو یرجع إلی ما کان علیه سابقا قبل المنع علی أقوال کثیرة .و أصح الأقوال هو الثالث و هو دلالتها علی الترخیص فقط .و الوجه فی ذلک أنک قد عرفت أن دلالة الأمر علی الوجوب إنما تنشأ من حکم العقل بلزوم الانبعاث ما لم یثبت الإذن بالترک و منه تستطیع أن تتفطن أنه لا دلالة للأمر فی المقام علی الوجوب لأنه لیس فیه دلالة علی البعث و إنما هو ترخیص فی الفعل لا أکثر .و أوضح من هذا أن نقول إن مثل هذا الأمر هو إنشاء بداعی الترخیص فی الفعل و الإذن به فهو لا یکون إلا ترخیصا و إذنا بالحمل الشائع و لا یکون بعثا إلا إذا کان الإنشاء بداعی البعث و وقوعه بعد الحظر أو توهمه قرینة علی عدم کونه بداعی البعث فلا یکون دالا علی الوجوب و عدم دلالته علی الإباحة بطریق أولی فیرجع فیه إلی دلیل آخر من أصل أو أمارة .

ص :67

مثاله قوله تعالی وَ إِذٰا حَلَلْتُمْ فَاصْطٰادُوا فإنه أمر بعد الحظر عن الصید حال الإحرام فلا یدل علی وجوب الصید .نعم لو اقترن الکلام بقرینة خاصة علی أن الأمر صدر بداعی البعث أو لغرض بیان إباحة الفعل فإنه حینئذ یدل علی الوجوب أو الإباحة و لکن هذا أمر آخر لا کلام فیه فإن الکلام فی فرض صدور الأمر بعد الحظر أو توهمه مجردا عن کل قرینة أخری غیر هذه القرینة

ص :68

3 التعبدی و التوصلی
تمهید

کل متفقه یعرف أن فی الشریعة المقدسة واجبات لا تصح و لا تسقط أوامرها إلا بإتیانها قربیة إلی وجه الله تعالی .و کونها قربیة إنما هو بإتیانها بقصد امتثال أوامرها أو بغیره من وجوه قصد القربة إلی الله تعالی علی ما ستأتی الإشارة إلیها و تسمی هذه الواجبات العبادیات أو التعبدیات کالصلاة و الصوم و نحوها .و هناک واجبات أخری تسمی التوصلیات و هی التی تسقط أوامرها بمجرد وجودها و إن لم یقصد بها القربة کإنقاذ الغریق و أداء الدین و دفن المیت و تطهیر الثوب و البدن للصلاة و نحو ذلک .و للتعبدی و التوصلی تعریف آخر کان مشهورا عند القدماء و هو أن التوصلی ما کان الداعی للأمر به معلوما و فی قباله التعبدی و هو ما لم یعلم الغرض منه و إنما سمی تعبدیا لأن الغرض الداعی للمأمور لیس إلا التعبد بأمر المولی فقط و لکن التعریف غیر صحیح إلا إذا أرید به اصطلاح ثان للتعبدی و التوصلی فیراد بالتعبد التسلیم لله تعالی فیما أمر به و إن کان المأمور به توصلیا بالمعنی الأول کما یقولون مثلا نعمل هذا تعبدا و یقولون نعمل هذا من باب التعبد أی نعمل هذا من باب التسلیم لأمر الله و إن لم نعلم المصلحة فیه .و علی ما تقدم من بیان معنی التوصلی و التعبدی المصطلح الأول فإن علم حال واجب بأنه تعبدی أو توصلی فلا إشکال و إن شک فی ذلک فهل الأصل کونه تعبدیا أو توصلیا فیه خلاف بین الأصولیین و ینبغی

ص :69

لتوضیح ذلک و بیان المختار تقدیم أمور .

أ منشأ الخلاف و تحریره

إن منشأ الخلاف هنا هو الخلاف فی إمکان أخذ قصد القربة فی متعلق الأمر کالصلاة مثلا قیدا له علی نحو الجزء أو الشرط علی وجه یکون المأمور به المتعلق للأمر هو الصلاة المأتی بها بقصد القربة بهذا القید کقید الطهارة فیها إذ یکون المأمور به الصلاة عن طهارة لا الصلاة المجردة عن هذا القید من حیث هی هی .فمن قال بإمکان أخذ هذا القید و هو قصد القربة کان مقتضی الأصل عنده التوصلیة إلا إذا دل دلیل خاص علی التعبدیة کسائر القیود الأخری لما عرفت أن إطلاق کلام المولی حجة یجب الأخذ به ما لم یثبت التقیید فعند الشک فی اعتبار قید یمکن أخذه فی المأمور به فالمرجع أصالة الإطلاق لنفی اعتبار ذلک القید .و من قال باستحالة أخذ قید قصد القربة فلیس له التمسک بالإطلاق لأن الإطلاق لیس إلا عبارة عن عدم التقیید فیما من شأنه التقیید لأن التقابل بینهما من باب تقابل العدم و الملکة الملکة هی التقیید و عدمها الإطلاق و إذا استحالت الملکة استحال عدمها بما هو عدم ملکة لا بما هو عدم مطلق و هذا واضح لأنه إذا کان التقیید فی لسان الدلیل لا یستکشف منه إرادة الإطلاق فإن عدم التقیید یجوز أن یکون لاستحالة التقیید و یجوز أن یکون لعدم إرادة التقیید و لا طریق لإثبات الثانی بمجرد عدم ذکر القید وحده .و بعد هذا نقول إذا شککنا فی اعتبار شیء فی مراد المولی و ما تعلق

ص :70

به غرضه واقعا و لم یمکن له بیانه فلا محالة یرجع ذلک إلی الشک فی سقوط الأمر إذا خلا المأتی به من ذلک القید المشکوک و عند الشک فی سقوط الأمر أی فی امتثاله یحکم العقل بلزوم الإتیان به مع القید المشکوک کی ما یحصل له العلم بفراغ ذمته من التکلیف لأنه إذا اشتغلت الذمة بواجب یقینا فلا بد من إحراز الفراغ منه فی حکم العقل و هذا معنی ما اشتهر فی لسان الأصولیین من قولهم الاشتغال الیقینی یستدعی الفراغ الیقینی .و هذا ما یسمی عندهم بأصل الاشتغال أو أصالة الاحتیاط .

ب محل الخلاف من وجوب قصد القربة

إن محل الخلاف فی المقام هو إمکان أخذ قصد امتثال الأمر فی المأمور به .و أما غیر قصد الامتثال من وجوه قصد القربة کقصد محبوبیة الفعل المأمور به الذاتیة باعتبار أن کل مأمور به لا بد أن یکون محبوبا للأمر و مرغوبا فیه عنده و کقصد التقرب إلی الله تعالی محضا بالفعل لا من جهة قصد امتثال أمره بل رجاء لرضاه و نحو ذلک من وجوه قصد القربة فإن کل هذه الوجوه لا مانع قطعا من أخذها قیدا للمأمور به و لا یلزم المحال الذی ذکروه فی أخذ قصد الامتثال علی ما سیأتی .و لکن الشأن فی أن هذه الوجوه هل هی مأخوذة فی المأمور به فعلا علی نحو لا تکون العبادة عبادة إلا بها .الحق أنه لم یؤخذ شیء منها فی المأمور به و الدلیل علی ذلک ما نجده من الاتفاق علی صحة العبادة کالصلاة مثلا إذا أتی بها بداعی أمرها مع عدم قصد الوجوه الأخری و لو کان غیر قصد الامتثال من وجوه القربة

ص :71

مأخوذا فی المأمور به لما صحت العبادة و لما سقط أمرها بمجرد الإتیان بداعی أمرها بدون قصد ذلک الوجه .فالخلاف إذن منحصر فی إمکان أخذ قصد الامتثال و استحالته .

ج الإطلاق و التقیید فی التقسیمات الأولیة للواجب

إن کل واجب فی نفسه له تقسیمات باعتبار الخصوصیات التی یمکن أن تلحقه فی الخارج مثلا الصلاة تنقسم فی ذاتها مع قطع النظر عن تعلق الأمر بها إلی 1 ذات سورة و فاقدتها .2 ذات تسلیم و فاقدته .3 صلاة عن طهارة و فاقدتها .4 صلاة مستقبل بها القبلة و غیر مستقبل بها .5 صلاة مع الساتر و بدونه .و هکذا یمکن تقسیمها إلی ما شاء الله من الأقسام بملاحظة أجزائها و شروطها و ملاحظة کل ما یمکن فرض اعتباره فیها و عدمه .و تسمی مثل هذه التقسیمات التقسیمات الأولیة لأنها تقسیمات تلحقها فی ذاتها مع قطع النظر عن فرض تعلق شیء بها و تقابلها التقسیمات الثانویة التی تلحقها بعد فرض تعلق شیء بها کالأمر مثلا و سیأتی ذکرها .فإذا نظرنا إلی هذه التقسیمات الأولیة للواجب فالحکم بالوجوب بالقیاس إلی کل خصوصیة منها لا یخلو فی الواقع من أحد احتمالات ثلاثة 1 أن یکون مقیدا بوجودها و یسمی بشرط شیء مثل شرط الطهارة و الساتر و الاستقبال و السورة و الرکوع و السجود و غیرها من أجزاء و شرائط بالنسبة إلی الصلاة .

ص :72

2 أن یکون مقیدا بعدمها و یسمی بشرط لا مثل شرط الصلاة بعدم الکلام و القهقهة و الحدیث إلی غیر ذلک من قواطع الصلاة .3 أن یکون مطلقا بالنسبة إلیهما أی غیر مقید بوجودها و لا بعدمها و یسمی لا بشرط مثل عدم اشتراط الصلاة بالقنوت فإن وجوبها غیر مقید بوجوده و لا بعدمه .هذا فی مرحلة الواقع و الثبوت و أما فی مرحلة الإثبات و الدلالة فإن الدلیل الذی یدل علی وجوب شیء إن دل علی اعتبار قید فیه أو علی اعتبار عدمه فذاک و إن لم یکن الدلیل متضمنا لبیان التقیید بما هو محتمل التقیید لا وجودا و لا عدما فإن المرجع فی ذلک هو أصالة الإطلاق إذا توفرت المقدمات المصححة للتمسک بأصالة الإطلاق علی ما سیأتی فی بابه و هو باب المطلق و المقید و بأصالة الإطلاق یستکشف أن إرادة المتکلم الأمر متعلقة بالمطلق واقعا أی أن الواجب لم یؤخذ بالنسبة إلی القید إلا علی نحو اللابشرط

د عدم إمکان الإطلاق و التقیید فی التقسیمات الثانویة للواجب

و الخلاصة أنه لا مانع من التمسک بالإطلاق لرفع احتمال التقیید فی التقسیمات الأولیة .ثم إن کل واجب بعد ثبوت الوجوب و تعلیق الأمر به واقعا ینقسم إلی ما یؤتی به فی الخارج بداعی أمره و ما یؤتی به لا بداعی أمره ثم ینقسم أیضا إلی معلوم الواجب و مجهوله .و هذه التقسیمات تسمی التقسیمات الثانویة لأنها من لواحق الحکم و بعد فرض ثبوت الوجوب واقعا إذ قبل تحقق الحکم لا معنی لفرض إتیان الصلاة مثلا بداعی أمرها لأن المفروض فی هذه الحالة لا أمر

ص :73

بها حتی یمکن فرض قصده و کذا الحال بالنسبة إلی العلم و الجهل بالحکم و فی مثل هذه التقسیمات یستحیل التقیید أی تقیید المأمور به لأن قصد امتثال الأمر مثلا فرع وجود الأمر فکیف یعقل أن یکون الأمر مقیدا به و لازمه أن یکون الأمر فرع قصد الأمر و قد کان قصد الأمر فرع وجود الأمر فیلزم أن یکون المتقدم متأخرا و المتأخر متقدما و هذا خلف أو دور .و إذا استحال التقیید استحال الإطلاق أیضا لما قلنا سابقا أن الإطلاق من قبیل عدم الملکة بالقیاس إلی التقیید فلا یفرض إلا فی مورد قابل للتقیید و مع عدم إمکان التقیید لا یستکشف من عدم التقیید إرادة الإطلاق .

النتیجة

و إذا عرفنا هذه المقدمات یحسن بنا أن نرجع إلی صلب الموضوع فنقول قد اختلف الأصولیون فی أن الأصل فی الواجب إذا شک فی کونه تعبدیا أو توصلیا هل إنه تعبدی أو توصلی .ذهب جماعة إلی أن الأصل فی الواجبات أن تکون عبادیة إلا أن یقوم دلیل خاص علی عدم دخل قصد القربة فی المأمور به لأنه لا بد من الإتیان به تحصیلا للفراغ الیقینی مع عدم الدلیل علی الاکتفاء بدونه و لا یمکن التمسک بالإطلاق لنفیه حسب الفرض و قد تقدم ذلک فی الأمر الأول فتکون أصالة الاحتیاط هی المرجع هنا و هی تقتضی العبادیة .و ذهب جماعة إلی أن الأصل فی الواجبات أن تکون توصلیة لا لأجل التمسک بأصالة الإطلاق فی نفس الأمر و لا لأجل أصالة البراءة من اعتبار

ص :74

قید القربة بل نتمسک لذلک بإطلاق المقام .توضیح ذلک أنه لا ریب فی أن المأمور به إطلاقا و تقییدا یتبع الغرض سعة و ضیقا فإن کان القید دخیلا فی الغرض فلا بد من بیانه و أخذه فی المأمور به قیدا و إلا فلا .غیر أن ذلک فیما یمکن أخذه من القیود فی المأمور به کما فی التقسیمات الأولیة .أما ما لا یمکن أخذه فی المأمور به قیدا کالذی نحن فیه و هو قید قصد الامتثال فلا یصح من الآمر أن یتغافل عنه حیث لا یمکن أخذه قیدا فی الکلام الواحد المتضمن للأمر بل لا مناص له من اتباع طریقة أخری ممکنة لاستیفاء غرضه و لو بإنشاء أمرین أحدهما یتعلق بذات الفعل مجردا عن القید و الثانی یتعلق بالقید .مثلا لو فرض أن غرض المولی قائم بالصلاة المأتی بها بداعی أمرها فإنه إذا لم یمکن تقیید المأمور به بذلک فی نفس الأمر المتعلق بها لما عرفت من امتناع التقیید فی التقسیمات الثانویة فلا بد له أی الآمر لتحصیل غرضه أن یسلک طریقة أخری کأن یأمر أولا بالصلاة ثم یأمر ثانیا بإتیانها بداعی أمرها الأول مبینا ذلک بصریح العبارة .و هذان الأمران یکونان فی حکم أمر واحد ثبوتا و سقوطا لأنهما ناشئان من غرض واحد و الثانی یکون بیانا للأول فمع عدم امتثال الأمر الثانی لا یسقط الأمر الأول بامتثاله فقط و ذلک بأن یأتی بالصلاة مجردة عن قصد أمرها فیکون الأمر الثانی بانضمامه إلی الأول مشترکا مع التقیید فی النتیجة و إن لم یسم تقییدا اصطلاحا .إذا عرفت ذلک یقول المولی إذا أمر بشیء و کان فی مقام البیان

ص :75

و اکتفی بهذا الأمر و لم یلحقه بما یکون بیانا له فلم یأمر ثانیا بقصد الامتثال فإنه یستکشف منه عدم دخل قصد الامتثال فی الغرض و إلا لبینه بأمر ثان و هذا ما سمیناه بإطلاق المقام .و علیه فالأصل فی الواجبات کونها توصلیة حتی یثبت بالدلیل أنها تعبدیة

4 الواجب العینی و إطلاق الصیغة

(الواجب العینی ما یتعلق بکل مکلف و لا یسقط بفعل الغیر) کالصلاة الیومیة و الصوم و یقابله(الواجب الکفائی و هو المطلوب فیه وجود الفعل من أی مکلف کان فیسقط بفعل بعض المکلفین عن الباقی) کالصلاة عن المیت و تغسیله و دفنه و سیأتی فی تقسیمات الواجب ذکرهما .و فیما یتعلق فی مسألة تشخیص الظهور نقول إن دل الدلیل علی أن الواجب عینی أو کفائی فذاک و إن لم یدل فإن إطلاق صیغة افعل تقتضی أن یکون عینیا سواء أتی بذلک العمل شخص آخر أم لم یأت به فإن العقل یحکم بلزوم امتثال الأمر ما لم یعلم سقوطه بفعل الغیر .فالمحتاج إلی مزید البیان علی أصل الصیغة هو الواجب الکفائی فإذا لم ینصب المولی قرینة علی إرادته کما هو المفروض یعلم أن مراده الوجوب العینی

5 الواجب التعیینی و إطلاق الصیغة

(الواجب التعیینی هو الواجب بلا واجب آخر یکون عدلا له و بدیلا عنه فی عرضه)کالصلاة الیومیة و یقابله الواجب التخییری کخصال

ص :76

کفارة الإفطار العمدی فی صوم شهر رمضان المخیرة بین إطعام ستین مسکینا و صوم شهرین متتابعین و عتق رقبة و سیأتی فی الخاتمة توضیح الواجب التعیینی و التخییری .فإذا علم واجب أنه من أی القسمین فذاک و إلا فمقتضی إطلاق صیغة الأمر وجوب ذلک الفعل سواء أتی بفعل آخر أم لم یأت به فالقاعدة تقتضی عدم سقوطه بفعل شیء آخر لأن التخییر محتاج إلی مزید بیان مفقود

6 الواجب النفسی و إطلاق الصیغة

(الواجب النفسی هو الواجب لنفسه لا لأجل واجب آخر)کالصلاة الیومیة و یقابله الواجب الغیری کالوضوء فإنه إنما یجب مقدمة للصلاة الواجبة لا لنفسه إذ لو لم تجب الصلاة لما وجب الوضوء .فإذا شک فی واجب أنه نفسی أو غیری فمقتضی إطلاق تعلق الأمر به سواء وجب شیء آخر أم لا أنه واجب نفسی فالإطلاق یقتضی النفسیة ما لم تثبت الغیریة

7 الفور و التراخی

اختلف الأصولیون فی دلالة صیغة الأمر علی الفور و التراخی علی أقوال 1 أنها موضوعة للفور .2 أنها موضوعة للتراخی .3 أنها موضوعة لهما علی نحو الاشتراک اللفظی .4 أنها غیر موضوعة لا للفور و لا للتراخی و لا للأعم منهما بل

ص :77

لا دلالة لها علی أحدهما بوجه من الوجوه و إنما یستفاد أحدهما من القرائن الخارجیة التی تختلف باختلاف المقامات .و الحق هو الأخیر و الدلیل علیه ما عرفت من أن صیغة افعل إنما تدل علی النسبة الطلبیة کما أن المادة لم توضع إلا لنفس الحدث غیر الملحوظة معه شیء من خصوصیاته الوجودیة و علیه فلا دلالة لها لا بهیئتها و لا بمادتها علی الفور أو التراخی بل لا بد من دال آخر علی شیء منهما فإن تجردت عن الدال الآخر فإن ذلک یقتضی جواز الإتیان بالمأمور به علی الفور أو التراخی .هذا بالنظر إلی نفس الصیغة أما بالنظر إلی الدلیل الخارجی المنفصل فقد قیل بوجود الدلیل علی الفور فی جمیع الواجبات علی نحو العموم إلا ما دل علیه دلیل خاص ینص علی جواز التراخی فیه بالخصوص و قد ذکروا لذلک آیتین الأولی قوله تعالی فی سورة آل عمران 127 وَ سٰارِعُوا إِلیٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّکُمْ و تقریب الاستدلال بها أن المسارعة إلی المغفرة لا تکون إلا بالمسارعة إلی سببها و هو الإتیان بالمأمور به لأن المغفرة فعل الله تعالی فلا معنی لمسارعة العبد إلیها و علیه فیکون الإسراع إلی فعل المأمور به واجبا لما مر من ظهور صیغة افعل فی الوجوب .الثانیة قوله تعالی فی سورة البقرة 143 و المائدة 53 فَاسْتَبِقُوا الْخَیْرٰاتِ فإن الاستباق بالخیرات عبارة أخری عن الإتیان بها فورا .و الجواب عن الاستدلال بکلتا الآیتین أن الخیرات و سبب المغفرة کما تصدق علی الواجبات تصدق علی المستحبات أیضا فتکون المسارعة و المسابقة شاملتین لما هما فی المستحبات أیضا و من البدیهی عدم وجوب المسارعة فیها کیف و هی یجوز ترکها رأسا و إذا کانتا شاملتین للمستحبات

ص :78

بعمومهما کان ذلک قرینة علی أن طلب المسارعة لیس علی نحو الإلزام فلا تبقی لهما دلالة علی الفوریة فی عموم الواجبات .بل لو سلمنا باختصاصهما فی الواجبات لوجب صرف ظهور صیغة افعل فیها فی الوجوب و حملها علی الاستحباب نظرا إلی أنا نعلم عدم وجوب الفوریة فی أکثر الواجبات فیلزم تخصیص الأکثر بإخراج أکثر الواجبات عن عمومها و لا شک أن الإتیان بالکلام عاما مع تخصیص الأکثر و إخراجه من العموم بعد ذلک قبیح فی المحاورات العرفیة و یعد الکلام عند العرف مستهجنا فهل تری یصح لعارف بأسالیب الکلام أن یقول مثلا بعت أموالی ثم یستثنی واحدا فواحدا حتی لا یبقی تحت العام إلا القلیل لا شک فی أن هذا الکلام یعد مستهجنا لا یصدر عن حکیم عارف .إذن لا یبقی مناص من حمل الآیتین علی الاستحباب

8 المرة و التکرار[1]

و اختلفوا أیضا فی دلالة صیغة افعل علی المرة و التکرار علی أقوال کاختلافهم فی الفور و التراخی و المختار هنا کالمختار هناک و الدلیل نفس الدلیل من عدم دلالة الصیغة لا بهیئتها و لا بمادتها علی المرة و لا التکرار

ص :79

لما عرفت من أنها لا تدل علی أکثر من طلب نفس الطبیعة من حیث هی فلا بد من دال آخر علی کل منهما .أما الإطلاق فإنه یقتضی الاکتفاء بالمرة و تفصیل ذلک أن مطلوب المولی لا یخلو من أحد وجوه ثلاثة و یختلف الحکم فیها من ناحیة جواز الاکتفاء و جواز التکرار 1 أن یکون المطلوب صرف وجود الشیء بلا قید و لا شرط بمعنی أنه یرید ألا یبقی مطلوبه معدوما بل یخرج من ظلمة العدم إلی نور الوجود لا أکثر و لو بفرد واحد و لا محالة حینئذ ینطبق المطلوب قهرا علی أول وجوداته فلو أتی المکلف بما أمر به أکثر من مرة فالامتثال یکون بالوجود الأول و یکون الثانی لغوا محضا کالصلاة الیومیة .2 أن یکون المطلوب الوجود الواحد بقید الوحدة أی بشرط ألا یزید علی أول وجوداته فلو أتی المکلف حینئذ بالمأمور به مرتین لا یحصل الامتثال أصلا کتکبیرة الإحرام للصلاة فإن الإتیان بالثانیة عقیب الأولی مبطل للأولی و هی تقع باطلة .3 أن یکون المطلوب الوجود المتکرر إما بشرط تکرره فیکون المطلوب هو المجموع بما هو مجموع فلا یحصل الامتثال بالمرة أصلا کرکعات الصلاة الواحدة و إما لا بشرط تکرره بمعنی أنه یکون المطلوب کل واحد من الوجودات کصوم أیام شهر رمضان فلکل مرة امتثالها الخاص .و لا شک أن الوجهین الأخیرین یحتاجان إلی بیان زائد علی مفاد الصیغة .فلو أطلق المولی و لم یقید بأحد الوجهین و هو فی مقام البیان کان إطلاقه دلیلا علی إرادة الوجه الأول و علیه یحصل الامتثال کما قلنا بالوجود الأول و لکن لا یضر الوجود الثانی کما أنه لا أثر له فی الامتثال و غرض المولی .

ص :80

و مما ذکرنا یتضح أن مقتضی الإطلاق جواز الإتیان بأفراد کثیرة معا دفعة واحدة و یحصل الامتثال بالجمیع فلو قال المولی تصدق علی مسکین فمقتضی الإطلاق جواز الاکتفاء بالتصدق مرة واحدة علی مسکین واحد و حصول الامتثال بالتصدق علی عدة مساکین دفعة واحدة و یکون امتثالا واحدا بالجمیع لصدق صرف الوجود علی الجمیع إذ الامتثال کما یحصل بالفرد الواحد یحصل بالأفراد المجتمعة بالوجود

9 هل یدل نسخ الوجوب علی الجواز

إذا وجب شیء فی زمان بدلالة الأمر ثم نسخ ذلک الوجوب قطعا فقد اختلفوا فی بقاء الجواز الذی کان مدلولا للأمر لأن الأمر کان یدل علی جواز الفعل مع المنع من ترکه فمنهم من قال ببقاء الجواز و منهم من قال بعدمه .و یرجع النزاع فی الحقیقة إلی النزاع فی مقدار دلالة نسخ الوجوب فإنه فیه احتمالین 1 أنه یدل علی رفع خصوص المنع من الترک فقط و حینئذ تبقی دلالة الأمر علی الجواز علی حالها لا یمسها النسخ و هو القول الأول و منشأ هذا أن الوجوب ینحل إلی الجواز و المنع من الترک و لا شأن فی النسخ إلا رفع المنع من الترک فقط و لا تعرض له لجنسه و هو الجواز أی الإذن فی الفعل .2 أنه یدل علی رفع الوجوب من أصله فلا یبقی لدلیل الوجوب شیء یدل علیه و منشأ هذا هو أن الوجوب معنی بسیط لا ینحل إلی جزءین فلا یتصور فی النسخ أنه رفع للمنع من الترک فقط .

ص :81

و المختار هو القول الثانی لأن الحق أن الوجوب أمر بسیط و هو الإلزام بالفعل و لازمه المنع من الترک کما أن الحرمة هی المنع من الفعل و لازمها الإلزام بالترک و لیس الإلزام بالترک الذی هو معناه وجوب الترک جزءا من معنی حرمة الفعل و کذلک المنع من الترک الذی معناه حرمة الترک لیس جزءا من معنی وجوب الفعل بل أحدهما لازم للآخر ینشأ منه تبعا له .فثبوت الجواز بعد النسخ للوجوب یحتاج إلی دلیل خاص یدل علیه و لا یکفی دلیل الوجوب فلا دلالة لدلیل الناسخ و لا لدلیل المنسوخ علی الجواز و یمکن أن یکون الفعل بعد نسخ وجوبه محکوما بکل واحد من الأحکام الأربعة الباقیة .و هذا البحث لا یستحق أکثر من هذا الکلام لقلة البلوی به و ما ذکرناه فیه الکفایة

10 الأمر بشیء من مرتین

إذا تعلق الأمر بفعل مرتین فهو یمکن أن یقع علی صورتین 1 أن یکون الأمر الثانی بعد امتثال الأمر الأول و حینئذ لا شبهة فی لزوم امتثاله ثانیا .2 أن یکون الأمر الثانی قبل امتثال الأمر الأول و حینئذ یقع الشک فی وجوب امتثاله مرتین أو کفایة المرة الواحدة فی الامتثال فإن کان الأمر الثانی تأسیسا لوجوب آخر تعین الامتثال مرة بعد أخری و إن کان تأکیدا للأمر الأول فلیس لهما إلا امتثال واحد و لتوضیح الحال و بیان الحق فی المسألة نقول إن هذا الفرض له أربع حالات

ص :82

الأولی أن یکون الأمران معا غیر معلقین علی شرط کأن یقول مثلا صل ثم یقول ثانیا صل فإن الظاهر حینئذ أن یحمل الأمر الثانی علی التأکید لأن الطبیعة الواحدة یستحیل تعلق الأمرین بها من دون امتیاز فی البین فلو کان الثانی تأسیسا غیر مؤکد للأول لکان علی الآمر تقیید متعلقه و لو بنحو مرة أخری فمن عدم التقیید و ظهور وحدة المتعلق فیهما یکون اللفظ فی الثانی ظاهرا فی التأکید و إن کان التأکید فی نفسه خلاف الأصل و خلاف ظاهر الکلام لو خلی و نفسه .الثانیة أن یکون الأمران معا معلقین علی شرط واحد کأن یقول المولی مثلا إن کنت محدثا فتوضأ ثم یکرر نفس القول ثانیا ففی هذه الحالة أیضا یحمل علی التأکید لعین ما قلناه فی الحالة الأولی بلا تفاوت .الثالثة أن یکون أحد الأمرین معلقا و الآخر غیر معلق کأن یقول مثلا اغتسل ثم یقول إن کنت جنبا فاغتسل ففی هذه الحالة أیضا یکون المطلوب واحدا و یحمل علی التأکید لوحدة المأمور به ظاهرا المانعة من تعلق الأمرین به غیر أن الأمر المطلق أعنی غیر المعلق یحمل إطلاقه علی المقید أعنی المعلق فیکون الثانی مقیدا لإطلاق الأول و کاشفا عن المراد منه .الرابعة أن یکون أحد الأمرین معلقا علی شیء و الآخر معلقا علی شیء آخر کان یقول مثلا إن کنت جنبا فاغتسل و یقول إن مسست میتا فاغتسل ففی هذه الحالة یحمل ظاهرا علی التأسیس لأن الظاهر أن المطلوب فی کل منهما غیر المطلوب فی الآخر و یبعد جدا حمله علی أن المطلوب واحد أما التأکید فلا معنی هنا و أما القول بالتداخل بمعنی الاکتفاء بامتثال واحد عن المطلوبین فهو ممکن و لکنه لیس من باب التأکید بل لا یفرض إلا بعد فرض التأسیس و أن هناک أمرین یمتثلان

ص :83

معا بفعل واحد .و لکن التداخل علی کل حال خلاف الأصل و لا یصار إلیه إلا بدلیل خاص کما ثبت فی غسل الجنابة أنه یجزی عن کل غسل آخر و سیأتی البحث عن التداخل مفصلا فی مفهوم الشرط

11 دلالة الأمر بالأمر علی الوجوب

إذا أمر المولی أحد عبیده أن یأمر عبده الآخر بفعل فهل هو أمر بذلک الفعل حتی یجب علی الثانی فعله علی قولین و هکذا یمکن فرضه علی نحوین 1 أن یکون المأمور الأول علی نحو المبلغ لأمر المولی إلی المأمور الثانی مثل أن یأمر رئیس الدولة وزیره أن یأمر الرعیة عنه بفعل و هذا النحو لا شک خارج عن محل الخلاف لأنه لا یشک أحد فی ظهوره فی وجوب الفعل علی المأمور الثانی و کل أوامر الأنبیاء بالنسبة إلی المکلفین من هذا القبیل .2 ألا یکون المأمور الأول علی نحو المبلغ بل هو مأمور أن یستقل فی توجیه الأمر إلی الثانی من قبل نفسه و علی نحو(قول الإمام علیه السلام:مرهم بالصلاة و هم أبناء سبع)یعنی الأطفال .و هذا النحو هو محل الخلاف و البحث و یلحق به ما لم یعلم الحال فیه أنه علی أی نحو من النحوین المذکورین .و المختار أن مجرد الأمر بالأمر ظاهر عرفا فی وجوبه علی الثانی .و توضیح ذلک أن الأمر بالأمر لا علی نحو التبلیغ یقع علی صورتین الأولی أن یکون غرض المولی یتعلق فی فعل المأمور الثانی

ص :84

و یکون أمره بالأمر طریقا للتوصل إلی حصول غرضه و إذا عرف غرضه أنه علی هذه الصورة یکون أمره بالأمر لا شک أمرا بالفعل نفسه .الثانیة أن یکون غرضه فی مجرد أمر المأمور الأول من دون أن یتعلق له غرض بفعل المأمور الثانی کما لو أمر المولی ابنه مثلا أن یأمر العبد بشیء و لا یکون غرضه إلا أن یعود ابنه علی إصدار الأوامر أو نحو ذلک فیکون غرضه فقط فی إصدار الأول أمره فلا یکون الفعل مطلوبا له أصلا فی الواقع .و واضح لو علم الثانی المأمور بهذا الغرض لا یکون أمر المولی بالأمر أمرا له و لا یعد عاصیا لمولاه لو ترکه لأن الأمر المتعلق لأمر المولی یکون مأخوذا علی نحو الموضوعیة و هو متعلق الغرض لا علی نحو الطریقیة لتحصیل الفعل من العبد المأمور الثانی .فإن قامت قرینة علی إحدی الصورتین المذکورتین فذاک و إن لم تقم قرینة فإن ظاهر الأوامر عرفا مع التجرد عن القرائن هو أنه علی نحو الطریقیة .فإذن الأمر بالأمر مطلقا یدل علی الوجوب إلا إذا ثبت أنه علی نحو الموضوعیة و لیس مثله یقع فی الأوامر الشرعیة

ص :85

ص :86

الخاتمة فی تقسیمات الواجب
اشارة

للواجب عدة تقسیمات لا بأس بالتعرض لها إلحاقا بمباحث الأوامر و إتماما للفائدة

1 المطلق و المشروط

إن الواجب إذا قیس وجوبه إلی شیء آخر خارج عن الواجب فهو لا یخرج عن أحد نحوین 1 أن یکون متوقفا وجوبه علی ذلک الشیء و هو أی الشیء مأخوذ فی وجوب الواجب علی نحو الشرطیة کوجوب الحج بالقیاس إلی الاستطاعة و هذا هو المسمی بالواجب المشروط لاشتراط وجوبه بحصول ذلک الشیء الخارج و لذا لا یجب الحج إلا عند حصول الاستطاعة .2 أن یکون وجوب الواجب غیر متوقف علی حصول ذلک الشیء الآخر کالحج بالقیاس إلی قطع المسافة و إن توقف وجوده علیه و هذا هو المسمی بالواجب المطلق لأن وجوبه مطلق غیر مشروط بحصول ذلک الشیء الخارج و منه الصلاة بالقیاس إلی الوضوء و الغسل و الساتر و نحوها .و من مثال الحج یظهر أنه و هو واجب واحد یکون واجبا مشروطا بالقیاس إلی شیء و واجبا مطلقا بالقیاس إلی شیء آخر فالمشروط و المطلق أمران إضافیان .

ص :87

ثم اعلم أن کل واجب هو واجب مشروط بالقیاس إلی الشرائط العامة و هی البلوغ و القدرة و العقل فالصبی و العاجز و المجنون لا یکلفون بشیء فی الواقع .و أما العلم فقد قیل إنه من الشروط العامة و الحق أنه لیس شرطا فی الوجوب و لا فی غیره من الأحکام بل التکالیف الواقعیة مشترکة بین العالم و الجاهل علی حد سواء نعم العلم شرط فی استحقاق العقاب علی مخالفة التکلیف علی تفصیل یأتی فی مباحث الحجة و غیرها إن شاء الله تعالی و لیس هذا موضعه

2 المعلق و المنجز

لا شک أن الواجب المشروط بعد حصول شرطه یکون وجوبه فعلیا شأن الواجب المطلق فیتوجه التکلیف فعلا إلی المکلف و لکن فعلیة التکلیف تتصور علی وجهین 1 أن تکون فعلیة الوجوب مقارنة زمانا لفعلیة الواجب بمعنی أن یکون زمان الواجب نفس زمان الوجوب و یسمی هذا القسم الواجب المنجز کالصلاة بعد دخول وقتها فإن وجوبها فعلی و الواجب و هو الصلاة فعلی أیضا .2 أن تکون فعلیة الوجوب سابقة زمانا علی فعلیة الواجب فیتأخر زمان الواجب عن زمان الوجوب و یسمی هذا القسم الواجب المعلق لتعلیق الفعل لا وجوبه علی زمان غیر حاصل بعد کالحج مثلا فإنه عند حصول الاستطاعة یکون وجوبه فعلیا کما قیل و لکن الواجب معلق علی حصول الموسم فإنه عند حصول الاستطاعة وجب الحج و لذا

ص :88

یجب علیه أن یهیئ المقدمات و الزاد و الراحلة حتی یحصل وقته و موسمه لیفعله فی وقته المحدد له .و قد وقع البحث و الکلام هنا فی مقامین الأول فی إمکان الواجب المعلق و المعروف عن صاحب الفصول القول بإمکانه و وقوعه و الأکثر علی استحالته و هو المختار و سنتعرض له إن شاء الله تعالی فی مقدمة الواجب مع بیان السر فی الذهاب إلی إمکانه و وقوعه و سنبین أن الواجب فعلا فی مثال الحج هو السیر و التهیئة للمقدمات و أما نفس أعمال الحج فوجوبها مشروط بحضور الموسم و القدرة علیها فی زمانه .و الثانی فی أن ظاهر الجملة الشرطیة فی مثل قولهم إذا دخل الوقت فصل هل إن الشرط شرط للوجوب فلا تجب الصلاة فی المثال إلا بعد دخول الوقت أو إنه شرط للواجب فیکون الواجب نفسه معلقا علی دخول الوقت فی المثال و أما الوجوب فهو فعلی مطلق .و بعبارة أخری هل إن القید شرط لمدلول هیئة الأمر فی الجزاء أو إنه شرط لمدلول مادة الأمر فی الجزاء .و هذا البحث یجری حتی لو کان الشرط غیر الزمان کما إذا قال المولی إذا تطهرت فصل .فعلی القول بظهور الجملة فی رجوع القید إلی الهیئة أی أنه شرط للوجوب یکون الواجب واجبا مشروطا فلا یجب تحصیل شیء من المقدمات قبل حصول الشرط و علی القول بظهورها فی رجوع القید إلی المادة أی أنه شرط للواجب یکون الواجب واجبا مطلقا فیکون الواجب فعلیا قبل حصول الشرط فیجب علیه تحصیل مقدمات المأمور به إذا علم بحصول الشرط فیما بعد .

ص :89

و هذا النزاع هو النزاع المعروف بین المتأخرین فی رجوع القید فی الجملة الشرطیة إلی الهیئة أو المادة و سیجیء تحقیق الحال فی موضعه إن شاء الله تعالی

3 الأصلی و التبعی

(الواجب الأصلی ما قصدت إفادة وجوبه مستقلا بالکلام) کوجوبی الصلاة و الوضوء المستفادین من قوله تعالی وَ أَقِیمُوا الصَّلاٰةَ و قوله تعالی فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ .(و الواجب التبعی ما لم تقصد إفادة وجوبه بل کان من توابع ما قصدت إفادته) و هذا کوجوب المشی إلی السوق المفهوم من أمر المولی بوجوب شراء اللحم من السوق فإن المشی إلیها حینئذ یکون واجبا لکنه لم یکن مقصودا بالإفادة من الکلام کما فی کل دلالة التزامیة فیما لم یکن اللزوم فیها من قبیل البین بالمعنی الأخص

4 التخییری و التعیینی

(الواجب التعیینی ما تعلق به الطلب بخصوصه و لیس له عدل فی مقام الامتثال) کالصلاة و الصوم فی شهر رمضان فإن الصلاة واجبة لمصلحة فی نفسها لا یقوم مقامها واجب آخر فی عرضها و قد عرفناه فیما سبق ص 69 بقولنا (هو الواجب بلا واجب آخر یکون عدلا له و بدیلا عنه فی عرضه) و إنما قیدنا البدیل فی عرضه لأن بعض الواجبات التعیینیة قد یکون لها بدیل فی طولها و لا یخرجها عن کونها واجبات تعیینیة کالوضوء مثلا الذی له بدیل فی طوله و هو التیمم لأنه إنما یجب إذا

ص :90

تعذر الوضوء و کالغسل بالنسبة إلی التیمم أیضا کذلک و کخصال الکفارة المرتبة نحو کفارة قتل الخطإ و هی العتق أولا فإن تعذر فصیام شهرین فإن تعذر فإطعام ستین مسکینا .(و الواجب التخییری ما کان له عدل و بدیل فی عرضه و لم یتعلق به الطلب بخصوصه) بل کان المطلوب هو أو غیره یتخیر بینهما المکلف و هو کالصوم الواجب فی کفارة إفطار شهر رمضان عمدا فإنه واجب و لکن یجوز ترکه و تبدیله بعتق رقبة أو إطعام ستین مسکینا .و الأصل فی هذا التقسیم أن غرض المولی ربما یتعلق بشیء معین فإنه لا مناص حینئذ من أن یکون هو المطلوب و المبعوث إلیه وحده فیکون واجبا تعیینیا و ربما یتعلق غرضه بأحد شیئین أو أشیاء لا علی التعیین بمعنی أن کلا منها محصل لغرضه فیکون البعث نحوها جمیعا علی نحو التخییر بینها .و کلا القسمین واقعان فی إراداتنا نحن أیضا فلا وجه للإشکال فی إمکان الواجب التخییری و لا موجب لإطالة الکلام .ثم إن أطراف الواجب التخییری إن کان بینها جامع یمکن التعبیر عنه بلفظ واحد فإنه یمکن أن یکون البعث فی مقام الطلب نحو هذا الجامع .فإذا وقع الطلب کذلک فإن التخییر حینئذ بین الأطراف یسمی عقلیا و هو لیس من الواجب التخییری المبحوث عنه فإن هذا یعد من الواجب التعیینی فإن کل واجب تعیینی کلی یکون المکلف مخیرا عقلا بین أفراده و التخییر یسمی حینئذ عقلیا مثاله قول الأستاذ لتلمیذه اشتر قلما الجامع بین أنواع الأقلام من قلم الحبر و قلم الرصاص و غیرهما فإن التخییر بین هذه الأنواع یکون عقلیا کما أن التخییر بین أفراد کل نوع یکون عقلیا أیضا .و إن لم یکن هناک جامع مثل ذلک کما فی مثال خصال الکفارة فإن

ص :91

البعث إما أن یکون نحو عنوان انتزاعی کعنوان أحد هذه الأمور أو نحو کل واحد منها مستقلا و لکن مع العطف بأو و نحوها مما یدل علی التخییر .فیقال فی النحو الأول مثلا أوجد أحد هذه الأمور و یقال فی النحو الثانی مثلا صم أو أطعم أو أعتق و یسمی حینئذ التخییر بین الأطراف شرعیا و هو المقصود من التخییر المقابل للتعیین هنا .ثم هذا التخییر الشرعی تارة یکون بین المتباینین کالمثال المتقدم و أخری بین الأقل و الأکثر کالتخییر بین تسبیحة واحدة و ثلاث تسبیحات فی ثلاثیة الصلاة الیومیة و رباعیتها علی قول و کما لو أمر المولی برسم خط مستقیم مثلا مخیرا فیه بین القصیر و الطویل .و هذا الأخیر أعنی التخییر بین الأقل و الأکثر إنما یتصور فیما إذا کان الغرض مترتبا علی الأقل بحده و یترتب علی الأکثر بحده أیضا أما لو کان الغرض مترتبا علی الأقل مطلقا و إن وقع فی ضمن الأکبر فالواجب حینئذ هو الأقل فقط و لا تکون الزیادة واجبة فلا یکون من باب الواجب التخییری بل الزیادة لا بد أن تحمل علی الاستحباب

5 العینی و الکفائی

تقدم ص 76(أن الواجب العینی ما یتعلق بکل مکلف و لا یسقط بفعل الغیر) و یقابله(الواجب الکفائی و هو المطلوب فیه وجوب الفعل من أی مکلف کان) فهو یجب علی جمیع المکلفین و لکن یکتفی بفعل بعضهم فیسقط عن الآخرین و لا یستحق العقاب بترکه .نعم إذا ترکوه جمیعا من دون أن یقوم به واحد فالجمیع منهم یستحقون العقاب کما یستحق الثواب کل من اشترک فی فعله .و أمثلة الواجب الکفائی کثیرة فی الشریعة منها تجهیز المیت و الصلاة

ص :92

علیه و منها إنقاذ الغریق و نحوه من التهلکة و منها إزالة النجاسة عن المسجد و منها الحرف و المهن و الصناعات التی بها نظام معایش الناس و منها طلب الاجتهاد و منها الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر .و الأصل فی هذا التقسیم أن المولی یتعلق غرضه بالشیء المطلوب له من الغیر علی نحوین 1 أن یصدر من کل واحد من الناس حینما تکون المصلحة المطلوبة تحصل من کل واحد مستقلا فلا بد أن یوجه الخطاب إلی کل واحد منهم علی أن یصدر من کل واحد عینا کالصوم أو الصلاة و أکثر التکالیف الشرعیة و هذا هو الواجب العینی .2 أن یصدر من أحد المکلفین لا بعینه حینما تکون المصلحة فی صدور الفعل و لو مرة واحدة من أی شخص کان فلا بد أن یوجه الخطاب إلی جمیع المکلفین لعدم خصوصیة مکلف دون مکلف و یکتفی بفعل بعضهم الذی یحصل به الغرض فیجب علی الجمیع بفرض الکفایة الذی هو الواجب الکفائی .و قد وقع الأقدمون من الأصولیین فی حیرة من أمر الوجوب الکفائی و تطبیقه علی القاعدة فی الوجوب الذی قوامه بل لازمه المنع من الترک إذ رأوا أن وجوبه علی الجمیع لا یتلاءم مع جواز ترکه بفعل بعضهم و لا وجوب بدون المنع من الترک لذا ظن بعضهم أنه لیس المکلف المخاطب فیه الجمیع بل البعض غیر المعین أی أحد المکلفین و ظن بعضهم أنه معین عند الله غیر معین عندنا و یتعین من یسبق إلی الفعل منهم فهو المکلف حقیقة إلی غیر ذلک من الظنون .و نحن لما صورناه بذلک التصویر المتقدم لا یبقی مجال لهذه الظنون فلا نشغل أنفسنا بذکرها و ردها و تدفع الحیرة بأدنی التفات لأنه إذا

ص :93

کان غرض المولی یحصل بفعل البعض فلا بد أن یسقط وجوبه عن الباقی إذ لا یبقی ما یدعو إلیه فهو إذن واجب علی الجمیع من أول الأمر و لذا یمنعون جمیعا من ترکه و یسقط بفعل بعضهم لحصول الغرض منه

6 الموسع و المضیق
اشارة

ینقسم الواجب باعتبار الوقت إلی قسمین موقت و غیر موقت ثم الموقت إلی موسع و مضیق ثم غیر الموقت إلی فوری و غیر فوری و لنبدأ بغیر الموقت مقدمة فنقول (غیر الموقت ما لم یعتبر فیه شرعا وقت مخصوص) و إن کان کل فعل لا تخلو عقلا من زمن یکون ظرفا له کقضاء الفائتة و إزالة النجاسة عن المسجد و الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر و نحو ذلک .و هو کما قلنا علی قسمین (فوری و هو ما لا یجوز تأخیره عن أول أزمنة إمکانه) کإزالة النجاسة عن المسجد و رد السلام و الأمر بالمعروف و(غیر فوری و هو ما یجوز تأخیره عن أول أزمنة إمکانه) کالصلاة علی المیت و قضاء الصلاة الفائتة و الزکاة و الخمس .(و الموقت ما اعتبر فیه شرعا وقت مخصوص) کالصلاة و الحج و الصوم و نحوها و هو لا یخلو عقلا من وجوه ثلاثة إما أن یکون فعله زائدا علی وقته المعین له أو مساویا له أو ناقصا عنه و الأول ممتنع لأنه من التکلیف بما لا یطاق .و الثانی لا ینبغی الإشکال فی إمکانه و وقوعه و هو المسمی المضیق کالصوم إذ فعله ینطبق علی وقته بلا زیادة و لا نقصان من طلوع الفجر إلی الغروب .

ص :94

و الثالث هو المسمی الموسع لأن فیه توسعة علی المکلف فی أول الوقت و فی أثنائه و آخره کالصلاة الیومیة و صلاة الآیات فإنه لا یجوز ترکه فی جمیع الوقت و یکتفی بفعله مرة واحدة فی ضمن الوقت المحدد له .و لا إشکال عند العلماء فی ورود ما ظاهره التوسعة فی الشریعة و إنما اختلفوا فی جوازه عقلا علی قولین إمکانه و امتناعه و من قال بامتناعه أول ما ورد علی الوجه الذی یدفع الإشکال عنده علی ما سیأتی .و الحق عندنا جواز الموسع عقلا و وقوعه شرعا .و منشأ الإشکال عند القائل بامتناع الموسع أن حقیقة الوجوب متقومة بالمنع من الترک کما تقدم فینافیه الحکم بجواز ترکه فی أول الوقت أو وسطه .و الجواب عنه واضح فإن الواجب الموسع فعل واحد و هو طبیعة الفعل المقید بطبیعة الوقت المحدود بحدین علی ألا یخرج الفعل عن الوقت فتکون الطبیعة بملاحظة ذاتها واجبة لا یجوز ترکها غیر أن الوقت لما کان یسع لإیقاعها فیه عدة مرات کان لها أفراد طولیة تدریجیة مقدرة الوجود فی أول الوقت و ثانیه و ثالثه إلی آخره فیقع التخییر العقلی بین الأفراد الطولیة کالتخییر العقلی بین الأفراد العرضیة للطبیعة المأمور بها فیجوز الإتیان بفرد و ترک الآخر من دون أن یکون جواز الترک له مساس فی نفس المأمور به و هو طبیعة الفعل فی الوقت المحدود فلا منافاة بین وجوب الطبیعة بملاحظة ذاتها و بین جواز ترک أفرادها عدا فرد واحد .و القائلون بالامتناع التجئوا إلی تأویل ما ظاهره التوسعة فی الشریعة فقال بعضهم بوجوبه فی أول الوقت و الإتیان به فی الزمان الباقی یکون من باب القضاء و التدارک لما فات من الفعل فی أول الوقت و قال آخر بوجوبه فی آخر الوقت و الإتیان به قبله من باب النفل یسقط به الغرض

ص :95

نظیر إیقاع غسل الجمعة فی یوم الخمیس و لیلة الجمعة و قیل غیر ذلک .و کلها أقوال متروکة عند علمائنا واضحة البطلان فلا حاجة إلی الإطالة فی ردها

هل یتبع القضاء الأداء

مما یتفرع عادة علی البحث عن الموقت مسألة تبعیة القضاء للأداء و هی من مباحث الألفاظ و تدخل فی باب الأوامر .و لکن أخر ذکرها إلی الخاتمة مع أن من حقها أن تذکر مثلها لأنها کما قلنا من فروع بحث الموقت عادة فنقول إن الموقت قد یفوت فی وقته إما لترکه عن عذر أو عن عمد و اختیار و إما لفساده لعذر أو لغیر عذر فإذا فات علی أی نحو من هذه الأنحاء فقد ثبت فی الشریعة وجوب تدارک بعض الواجبات کالصلاة و الصوم بمعنی أن یأتی بها خارج الوقت و یسمی هذا التدارک قضاء و هذا لا کلام فیه .إلا أن الأصولیین اختلفوا فی أن وجوب القضاء هل هو علی مقتضی القاعدة بمعنی أن الأمر بنفس الموقت یدل علی وجوب قضائه إذا فات فی وقته فیکون وجوب القضاء بنفس دلیل الأداء أو أن القاعدة لا تقتضی ذلک بل وجوب القضاء یحتاج إلی دلیل خاص غیر نفس دلیل الأداء و فی المسألة أقوال ثلاثة قول بالتبعیة مطلقا .و قول بعدمها مطلقا .و قول بالتفصیل بین ما إذا کان الدلیل علی التوقیت متصلا فلا تبعیة و بین ما إذا کان منفصلا فالقضاء تابع للأداء .

ص :96

و الظاهر أن منشأ النزاع فی المسألة یرجع إلی أن المستفاد من التوقیت هو وحدة المطلوب أو تعدده أی أن فی الموقت مطلوبا واحدا هو الفعل المقید بالوقت بما هو مقید أو مطلوبین و هما ذات الفعل و کونه واقعا فی وقت معین .فعلی الأول إذا فات الامتثال فی الوقت لم یبق طلب بنفس الذات فلا بد من فرض أمر جدید للقضاء بالإتیان بالفعل خارج الوقت و علی الثانی إذا فات الامتثال فی الوقت فإنما فات امتثال أحد الطلبین و هو طلب کونه فی الوقت المعین و أما الطلب بذات الفعل فباق علی حاله .و لذا ذهب بعضهم إلی التفصیل المذکور باعتبار أن المستفاد من دلیل التوقیت فی المتصل وحدة المطلوب فیحتاج القضاء إلی أمر جدید و المستفاد فی المنفصل تعدد المطلوب فلا یحتاج القضاء إلی أمر جدید و یکون تابعا للأداء .و المختار هو القول الثانی و هو عدم التبعیة مطلقا .لأن الظاهر من التقیید أن القید رکن فی المطلوب فإذا قال مثلا صم یوم الجمعة فلا یفهم منه إلا مطلوب واحد لغرض واحد و هو خصوص صوم هذا الیوم لا أن الصوم بذاته مطلوب و کونه فی یوم الجمعة مطلوب آخر .و أما فی مورد دلیل التوقیت المنفصل کما إذا قال صم ثم قال مثلا اجعل صومک یوم الجمعة فأیضا کذلک نظرا إلی أن هذا من باب المطلق و المقید فیجب فیه حمل المطلق علی المقید و معنی حمل المطلق علی المقید هو تقیید أصل المطلوب الأول بالقید فیکشف ذلک التقیید عن أن المراد بالمطلق واقعا من أول الأمر خصوص المقید فیصبح الدلیلان بمقتضی الجمع بینهما دلیلا واحدا لا أن المقید مطلوب آخر غیر المطلق و إلا کان معنی ذلک بقاء المطلق علی إطلاقه فلم یکن حملا و لم یکن جمعا بین

ص :97

الدلیلین بل یکون أخذا بالدلیلین .نعم یمکن أن یفرض و إن کان هذا فرضا بعید الوقوع فی الشریعة أن یکون دلیل التوقیت المنفصل مقیدا بالتمکن کأن یقول فی المثال اجعل صومک یوم الجمعة إن تمکنت أو کان دلیل التوقیت لیس فیه إطلاق یعم صورتی التمکن و عدمه و صورة التمکن هی القدر المتیقن منه فإنه فی هذا الفرض یمکن التمسک بإطلاق دلیل الواجب لإثبات وجوب الفعل خارج الوقت لأن دلیل التوقیت غیر صالح لتقیید إطلاق دلیل الواجب إلا فی صورة التمکن و مع الاضطرار إلی ترک الفعل فی الوقت یبقی دلیل الواجب علی إطلاقه .و هذا الفرض هو الذی یظهر من الکفایة لشیخ أساتذتنا الآخوند قدس سره و لکنه فرض بعید جدا علی أنه مع هذا الفرض لا یصدق الفوت و لا القضاء بل یکون وجوبه خارج الوقت من نوع الأداء

ص :98

الباب الثالث النواهی

اشارة

ص :99

ص :100

و فیه خمس مسائل

1 مادة النهی

(و المقصود بها کلمة النهی کمادة الأمر و هی عبارة عن طلب العالی من الدانی ترک الفعل) أو فقل علی الأصح(إنها عبارة عن زجر العالی للدانی عن الفعل و ردعه عنه) و لازم ذلک طلب الترک فیکون التفسیر الأول تفسیرا باللازم علی ما سیأتی توضیحه .و هی کلمة النهی ککلمة الأمر فی الدلالة علی الإلزام عقلا لا وضعا و إنما الفرق بینهما أن المقصود فی الأمر الإلزام بالفعل و المقصود فی النهی الإلزام بالترک .و علیه تکون مادة النهی ظاهرة فی الحرمة کما أن مادة الأمر ظاهرة فی الوجوب

2 صیغة النهی

المراد من صیغة النهی کل صیغة تدل علی طلب الترک .أو فقل علی الأصح کل صیغة تدل علی الزجر عن الفعل و ردعه عنه کصیغة لا تفعل أو إیاک أن تفعل و نحو ذلک .و المقصود بالفعل الحدث الذی یدل علیه المصدر و إن لم یکن أمرا وجودیا فیدخل فیها علی هذا نحو قولهم لا تترک الصلاة فإنها من صیغ النهی لا من صیغ الأمر کما أن قولهم اترک شرب الخمر تعد من صیغ الأمر لا من صیغ النهی و إن أدت مؤدی لا تشرب الخمر .و السر فی ذلک واضح فإن المدلول المطابقی لقولهم لا تترک هو الزجر و النهی عن ترک الفعل و إن کان لازمه الأمر بالفعل فیدل علیه بالدلالة الالتزامیة

ص :101

و المدلول المطابقی لقولهم اترک هو الأمر بترک الفعل و إن کان لازمه النهی عن الفعل فیدل علیه بالدلالة الالتزامیة

3 ظهور صیغة النهی فی التحریم

الحق أن صیغة النهی ظاهرة فی التحریم و لکن لا لأنها موضوعة لمفهوم الحرمة و حقیقة فیه کما هو المعروف بل حالها فی ذلک حال ظهور صیغة افعل فی الوجوب فإنه قد قلنا هناک إن هذا الظهور إنما هو بحکم العقل لا أن الصیغة موضوعة و مستعملة فی مفهوم الوجوب .و کذلک صیغة لا تفعل فإنها أکثر ما تدل علی النسبة الزجریة بین الناهی و المنهی عنه و المنهی فإذا صدرت ممن تجب طاعته و یجب الانزجار بزجره و الانتهاء عما نهی عنه و لم ینصب قرینة علی جواز الفعل کان مقتضی وجوب طاعة هذا المولی و حرمة عصیانه عقلا قضاء لحق العبودیة و المولویة عدم جواز ترک الفعل الذی نهی عنه إلا مع الترخیص من قبله .فیکون علی هذا نفس صدور النهی من المولی بطبعه مصداقا لحکم العقل بوجوب الطاعة و حرمة المعصیة فیکون النهی مصداقا للتحریم حسب ظهوره الإطلاقی لا أن التحریم الذی هو مفهوم اسمی وضعت له الصیغة و استعملت فیه .و الکلام هنا کالکلام فی صیغة افعل بلا فرق من جهة الأقوال و الاختلافات

4 ما المطلوب فی النهی

کل ما تقدم لیس فیه خلاف جدید غیر الخلاف الموجود فی صیغة افعل و إنما اختص النهی فی خلاف واحد و هو أن المطلوب فی النهی هل هو مجرد الترک أو کف النفس عن الفعل و الفرق بینهما أن المطلوب علی القول الأول

ص :102

أمر عدمی محض و المطلوب علی القول الثانی أمر وجودی لأن الکف فعل من أفعال النفس .و الحق هو القول الأول .و منشأ القول الثانی توهم هذا القائل أن الترک الذی معناه إبقاء عدم الفعل المنهی عنه علی حاله لیس بمقدور للمکلف لأنه أزلی خارج عن القدرة فلا یمکن تعلق الطلب به و المعقول من النهی أن یتعلق فیه الطلب بردع النفس و کفها عن الفعل و هو فعل نفسانی یقع تحت الاختیار .و الجواب عن هذا التوهم أن عدم المقدوریة فی الأزل علی العدم لا ینافی المقدوریة بقاء و استمرارا إذ القدرة علی الوجود تلازم القدرة علی العدم بل القدرة علی العدم علی طبع القدرة علی الوجود و إلا لو کان العدم غیر مقدور بقاء لما کان الوجود مقدورا فإن المختار القادر هو الذی إن شاء فعل و إن لم یشأ لم یفعل .و التحقیق أن هذا البحث ساقط من أصله فإنه کما أشرنا إلیه فیما سبق لیس معنی النهی هو الطلب حتی یقال إن المطلوب هو الترک أو الکف و إنما طلب الترک من لوازم النهی و معنی النهی المطابقی هو الزجر و الردع نعم الردع عن الفعل یلزمه عقلا طلب الترک کما أن البعث نحو الفعل فی الأمر یلزمه عقلا الردع عن الترک .فالأمر و النهی کلاهما یتعلقان بنفس الفعل رأسا فلا موقع للحیرة و الشک فی أن الطلب فی النهی یتعلق بالترک أو الکف

5 دلالة صیغة النهی علی الدوام و التکرار
اشارة

اختلفوا فی دلالة صیغة النهی علی التکرار أو المرة کالاختلاف فی صیغة افعل .

ص :103

و الحق هنا ما قلناه هناک بلا فرق فلا دلالة لصیغة لا تفعل لا بهیئتها و لا بمادتها علی الدوام و التکرار و لا علی المرة و إنما المنهی عنه صرف الطبیعة کما أن المبعوث نحوه فی صیغة افعل صرف الطبیعة .غیر أن بینهما فرقا من ناحیة عقلیة فی مقام الامتثال فإن امتثال النهی بالانزجار عن فعل الطبیعة و لا یکون ذلک إلا بترک جمیع أفرادها فإنه لو فعلها مرة واحدة ما کان ممتثلا و أما امتثال الأمر فیتحقق بإیجاد أول وجود من أفراد الطبیعة و لا تتوقف طبیعة الامتثال علی أکثر من فعل المأمور به مرة واحدة .و لیس هذا الفرق من أجل وضع الصیغتین و دلالتهما بل ذلک مقتضی طبع النهی و الأمر عقلا .

تنبیه

لم نذکر هنا ما اعتاد المؤلفون ذکره من بحثی اجتماع الأمر و النهی و دلالة النهی علی الفساد لأنهما داخلان فی المباحث العقلیة کما سیأتی و لیس هما من مباحث الألفاظ و کذلک بحث مقدمة الواجب و مسألة الضد و مسألة الإجزاء لیست من مباحث الألفاظ أیضا و سنذکر الجمیع فی المقصد الثانی المباحث العقلیة إن شاء الله تعالی

ص :104

الباب الرابع المفاهیم

اشارة

ص :105

ص :106

تمهید فی معنی کلمة المفهوم و فی النزاع فی حجیته و فی أقسامه فهذه ثلاثة مباحث

1 معنی کلمة المفهوم

تطلق کلمة المفهوم علی ثلاثة معان 1 المعنی المدلول للفظ الذی یفهم منه فیساوق کلمة المدلول سواء کان مدلولا لمفرد أو جملة و سواء کان مدلولا حقیقیا أو مجازیا .2 ما یقابل المصداق فیراد منه کل معنی یفهم و إن لم یکن مدلولا للفظ فیعم المعنی الأول و غیره .3 ما یقابل المنطوق و هو أخص من الأولین و هذا هو المقصود بالبحث هنا و هو اصطلاح أصولی یختص بالمدلولات الالتزامیة للجمل الترکیبیة سواء کانت إنشائیة أو إخباریة فلا یقال لمدلول المفرد مفهوم و إن کان من المدلولات الالتزامیة .أما المنطوق فمقصودهم منه ما یدل علیه نفس اللفظ فی حد ذاته علی وجه یکون اللفظ المنطوق حاملا لذلک المعنی و قالبا له فیسمی المعنی منطوقا تسمیة للمدلول باسم الدال و لذلک یختص المنطوق بالمدلول المطابقی فقط و إن کان المعنی مجازا قد استعمل فیه اللفظ بقرینة .و علیه فالمفهوم الذی یقابله ما لم یکن اللفظ حاملا له دالا علیه بالمطابقة و لکن یدل علیه باعتباره لازما لمفاد الجملة بنحو اللزوم البین بالمعنی الأخص (1).

ص :107


1- 1) راجع کتاب المنطق للمؤلف،الجزء الأول ص 79 عن معنی البین و أقسامه.

و لأجل هذا یختص المفهوم بالمدلول الالتزامی .مثاله قولهم إذا بلغ الماء کرا لا ینجسه شیء فالمنطوق فیه هو مضمون الجملة و هو عدم تنجس الماء البالغ کرا بشیء من النجاسات و المفهوم علی تقدیر أن یکون لمثل هذه الجملة مفهوم أنه إذا لم یبلغ کرا یتنجس .و علی هذا یمکن تعریفهما بما یلی (المنطوق هو حکم دل علیه اللفظ فی محل النطق)(و المفهوم هو حکم دل علیه اللفظ لا فی محل النطق) .و المراد من الحکم الحکم بالمعنی الأعم لا خصوص أحد الأحکام الخمسة و عرفوهما أیضا بأنهما حکم مذکور و حکم غیر مذکور و أنهما حکم لمذکور و حکم لغیر مذکور و کلها لا تخلو عن مناقشات طویلة الذیل و الذی یهون الخطب أنها تعریفات لفظیة لا یقصد منها الدقة فی التعریف و المقصود منها واضح کما شرحناه

2 النزاع فی حجیة المفهوم

لا شک أن الکلام إذا کان له مفهوم یدل علیه فهو ظاهر فیه فیکون حجة من المتکلم علی السامع و من السامع علی المتکلم کسائر الظواهر الأخری .إذن ما معنی النزاع فی حجیة المفهوم حینما یقولون مثلا هل مفهوم الشرط حجة أو لا .و علی تقدیره فلا یدخل هذا النزاع فی مباحث الألفاظ التی کان الغرض منها تشخیص الظهور فی الکلام و تنقیح صغریات حجیة الظهور بل ینبغی أن یدخل فی مباحث الحجة کالبحث عن حجیة الظهور و حجیة الکتاب و نحو

ص :108

ذلک .و الجواب أن النزاع هنا فی الحقیقة إنما هو فی وجود الدلالة علی المفهوم أی فی أصل ظهور الجملة فیه و عدم ظهورها و بعبارة أوضح النزاع هنا فی حصول المفهوم للجملة لا فی حجیته بعد فرض حصوله .فمعنی النزاع فی مفهوم الشرط مثلا أن الجملة الشرطیة مع قطع النظر عن القرائن الخاصة هل تدل علی انتفاء الحکم عند انتفاء الشرط و هل هی ظاهرة فی ذلک .لا أنه بعد دلالتها علی هذا المفهوم و ظهورها فیه یتنازع فی حجیته فإن هذا لا معنی له و إن أوهم ذلک ظاهر بعض تعبیراتهم کما یقولون مثلا مفهوم الشرط حجة أم لا و لکن غرضهم ما ذکرنا .کما أنه لا نزاع فی دلالة بعض الجمل علی مفهوم لها إذا کانت لها قرینة خاصة علی ذلک المفهوم فإن هذا لیس موضع کلامهم بل موضوع الکلام و محل النزاع فی دلالة نوع تلک الجملة کنوع الجملة الشرطیة علی المفهوم مع تجردها عن القرائن الخاصة

3 أقسام المفهوم

ینقسم المفهوم إلی مفهوم الموافقة و مفهوم المخالفة (1 مفهوم الموافقة ما کان الحکم فی المفهوم موافقا فی السنخ للحکم الموجود فی المنطوق) فإن کان الحکم فی المنطوق الوجوب مثلا کان فی المفهوم الوجوب أیضا و هکذا .کدلالة الأولویة فی مثل قوله تعالی فَلاٰ تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ علی النهی عن الضرب و الشتم للأبوین و نحو ذلک مما هو أشد إهانة و إیلاما من التأفیف المحرم بحکم الآیة .

ص :109

و قد یسمی هذا المفهوم فحوی الخطاب و لا نزاع فی حجیة مفهوم الموافقة بمعنی دلالة الأولویة علی تعدی الحکم إلی ما هو أولی فی علة الحکم و له تفصیل کلام یأتی فی موضعه .(2 مفهوم المخالفة ما کان الحکم فیه مخالفا فی السنخ للحکم الموجود فی المنطوق) و له موارد کثیرة وقع الکلام فیها نذکرها بالتفصیل و هی ستة 1 مفهوم الشرط .2 مفهوم الوصف .3 مفهوم الغایة .4 مفهوم الحصر .5 مفهوم العدد .6 مفهوم اللقب

ص :110

الأول مفهوم الشرط
تحریر محل النزاع

لا شک فی أن الجملة الشرطیة یدل منطوقها بالوضع علی تعلیق التالی فیها علی المقدم الواقع موقع الفرض و التقدیر و هی علی نحوین 1 أن تکون مسوقة لبیان موضوع الحکم أی أن المقدم هو نفس موضوع الحکم حیث یکون الحکم فی التالی منوطا بالشرط فی المقدم علی وجه لا یعقل فرض الحکم بدونه نحو قولهم إن رزقت ولدا فاختنه فإنه فی المثال لا یعقل فرض ختان الولد إلا بعد فرض وجوده و منه قوله تعالی وَ لاٰ تُکْرِهُوا فَتَیٰاتِکُمْ عَلَی الْبِغٰاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً فإنه لا یعقل فرض الإکراه علی البغاء إلا بعد فرض إرادة التحصن من قبل الفتیات .و قد اتفق الأصولیون علی أنه لا مفهوم لهذا النحو من الجملة الشرطیة لأن انتفاء الشرط معناه انتفاء موضوع الحکم فلا معنی للحکم بانتفاء التالی علی تقدیر انتفاء المقدم إلا علی نحو السالبة بانتفاء الموضوع و لا حکم حینئذ بالانتفاء بل هو انتفاء الحکم فلا مفهوم للشرطیة فی المثالین فلا یقال إن لم ترزق ولدا فلا تختنه و لا یقال إن لم یردن تحصنا فأکرهوهن علی البغاء .2 ألا تکون مسوقة لبیان الموضوع حیث یکون الحکم فی التالی منوطا بالشرط علی وجه یمکن فرض الحکم بدونه نحو قولهم إن أحسن صدیقک فأحسن إلیه فإن فرض الإحسان إلی الصدیق لا یتوقف عقلا علی فرض صدور الإحسان منه فإنه یمکن الإحسان إلیه أحسن أو لم یحسن .و هذا النحو الثانی من الشرطیة هو محل النزاع فی مسألتنا و مرجعه

ص :111

إلی النزاع فی دلالة الشرطیة علی انتفاء الحکم عند انتفاء الشرط بمعنی أنه هل یستکشف من طبع التعلیق علی الشرط انتفاء نوع الحکم المعلق کالوجوب مثلا علی تقدیر انتفاء الشرط .و إنما قلنا نوع الحکم لأن شخص کل حکم فی القضیة الشرطیة أو غیرها ینتفی بانتفاء موضوعه أو أحد قیود الموضوع سواء کان للقضیة مفهوم أو لم یکن و فی مفهوم الشرطیة قولان أقواهما أنها تدل علی الانتفاء عند الانتفاء

.المناط فی مفهوم الشرط

إن دلالة الجملة الشرطیة علی المفهوم تتوقف علی دلالتها بالوضع أو بالإطلاق علی أمور ثلاثة مترتبة 1 دلالتها علی الارتباط و الملازمة بین المقدم و التالی .2 دلالتها زیادة علی الارتباط و الملازمة علی أن التالی معلق علی المقدم و مترتب علیه و تابع له فیکون المقدم سببا للتالی و المقصود من السبب هنا هو کل ما یترتب علیه الشیء و إن کان شرطا و نحوه فیکون أعم من السبب المصطلح فی فن المعقول .3 دلالتها زیادة علی ما تقدم علی انحصار السببیة فی المقدم بمعنی أنه لا سبب بدیل له یترتب علیه التالی .و توقف المفهوم للجملة الشرطیة علی هذه الأمور الثلاثة واضح لأنه لو کانت الجملة اتفاقیة أو کان التالی غیر مترتب علی المقدم أو کان مترتبا و لکن لا علی نحو الانحصار فیه فإنه فی جمیع ذلک لا یلزم من انتفاء المقدم انتفاء التالی .

ص :112

و إنما الذی ینبغی إثباته هنا هو أن الجملة ظاهرة فی هذه الأمور الثلاثة وضعا أو إطلاقا لتکون حجة فی المفهوم .و الحق ظهور الجملة الشرطیة فی هذه الأمور وضعا فی بعضها و إطلاقا فی البعض الآخر .1 أما دلالتها علی الارتباط و وجود العلقة اللزومیة بین الطرفین فالظاهر أنه بالوضع بحکم التبادر و لکن لا بوضع خصوص أدوات الشرط حتی ینکر وضعها لذلک بل بوضع الهیئة الترکیبیة للجملة الشرطیة بمجموعها و علیه فاستعمالها فی الاتفاقیة یکون بالعنایة و ادعاء التلازم و الارتباط بین المقدم و التالی إذا اتفقت لهما المقارنة فی الوجود .2 و أما دلالتها علی أن التالی مترتب علی المقدم بأی نحو من أنحاء الترتب فهو بالوضع أیضا و لکن لا بمعنی أنها موضوعة بوضعین وضع للتلازم و وضع آخر للترتب بل بمعنی أنها موضوعة بوضع واحد للارتباط الخاص و هو ترتب التالی علی المقدم .و الدلیل علی ذلک هو تبادر ترتب التالی علی المقدم عنها فإنها تدل علی أن المقدم وضع فیها موضع الفرض و التقدیر و علی تقدیر حصوله فالتالی حاصل عنده تبعا أی یتلوه فی الحصول أو فقل إن المتبادر منها لابدیة الجزاء عند فرض حصول الشرط و هذا لا یمکن أن ینکره إلا مکابر أو غافل فإن هذا هو معنی التعلیق الذی هو مفاد الجملة الشرطیة التی لا مفاد لها غیره و من هنا سموا الجزء الأول منها شرطا و مقدما و سموا الجزء الثانی جزاء و تالیا .فإذا کانت جملة إنشائیة أی أن التالی متضمن لإنشاء حکم تکلیفی أو وضعی فإنها تدل علی تعلیق الحکم علی الشرط فتدل علی انتفاء الحکم عند انتفاء الشرط المعلق علیه الحکم .

ص :113

و إذا کانت جملة خبریة أی أن التالی متضمن لحکایة خبر فإنها تدل علی تعلیق حکایته علی المقدم سواء کان المحکی عنه خارجا و فی الواقع مترتبا علی المقدم فتتطابق الحکایة مع المحکی عنه کقولنا إن کانت الشمس طالعة فالنهار موجود أو مترتب علیه بأن کان العکس کقولنا إن کان النهار موجودا فالشمس طالعة أو کان لا ترتب بینهما کالمتضائفین فی مثل قولنا إن کان خالد ابنا لزید فزید أبوه .3 و أما دلالتها علی أن الشرط منحصر فبالإطلاق لأنه لو کان هناک شرط آخر للجزاء بدیل لذلک الشرط و کذا لو کان معه شیء آخر یکونان معا شرطا للحکم لاحتاج ذلک إلی بیان زائد إما بالعطف بأو فی الصورة الأولی أو العطف بالواو فی الصورة الثانیة لأن الترتب علی الشرط ظاهر فی أنه بعنوانه الخاص مستقلا هو الشرط المعلق علیه الجزاء فإذا أطلق تعلیق الجزاء علی الشرط فإنه یستکشف منه أن الشرط مستقل لا قید آخر معه و أنه منحصر لا بدیل و لا عدل له و إلا لوجب علی الحکیم بیانه و هو حسب الفرض فی مقام البیان .و هذا نظیر ظهور صیغة افعل بإطلاقها فی الوجوب التعینی و التعیینی .و إلی هنا تم لنا ما أردنا أن نذهب إلیه من ظهور الجملة الشرطیة فی الأمور التی بها تکون ظاهرة فی المفهوم .و علی کل حال إن ظهور الجملة الشرطیة فی المفهوم مما لا ینبغی أن یتطرق إلیه الشک إلا مع قرینة صارفة أو تکون واردة لبیان الموضوع .و یشهد لذلک استدلال إمامنا الصادق علیه السلام بالمفهوم (فی روایة أبی بصیر قال:سألت أبا عبد الله عن الشاة تذبح فلا تتحرک و یهراق منها دم کثیر عبیط فقال لا تأکل إن علیا کان یقول إذا رکضت الرجل أو طرفت العین فکل) فإن استدلال الإمام بقول علی علیه السلام لا یکون

ص :114

إلا إذا کان له مفهوم و هو إذا لم ترکض الرجل أو لم تطرف العین فلا تأکل

إذا تعدد الشرط و اتحد الجزاء
اشارة

و من لواحق مبحث مفهوم الشرط مسألة ما إذا وردت جملتان شرطیتان أو أکثر و قد تعدد الشرط فیهما و کان الجزاء واحدا و هذا یقع علی نحوین .1 أن یکون الجزاء غیر قابل للتکرار نحو التقصیر فی السفر فیما ورد(:إذا خفی الأذان فقصر و إذا خفیت الجدران فقصر) .2 أن یکون الجزاء قابلا للتکرار کما فی نحو إذا أجنبت فاغتسل إذا مسست میتا فاغتسل .أما النحو الأول فیقع فیه التعارض بین الدلیلین بناء علی مفهوم الشرط و لکن التعارض إنما هو بین مفهوم کل منهما مع منطوق الآخر کما هو واضح فلا بد من التصرف فیهما بأحد وجهین الوجه الأول أن نقید کلا من الشرطین من ناحیة ظهورهما فی الاستقلال بالسببیة ذلک الظهور الناشئ من الإطلاق کما سبق الذی یقابله التقیید بالعطف بالواو فیکون الشرط فی الحقیقة هو المرکب من الشرطین و کل منهما یکون جزء السبب و الجملتان تکونان حینئذ کجملة واحدة مقدمها المرکب من الشرطین بأن یکون مؤداهما هکذا إذا خفی الأذان و الجدران معا فقصر .و ربما یکون لهاتین الجملتین معا حینئذ مفهوم واحد و هو انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرطین معا أو أحدهما کما لو کانا جملة واحدة .

ص :115

الوجه الثانی أن نقیدهما من ناحیة ظهورهما فی الانحصار ذلک الظهور الناشئ من الإطلاق المقابل للتقیید بأو و حینئذ یکون الشرط أحدهما علی البدلیة أو الجامع بینهما علی أن یکون کل منهما مصداقا له و ذلک حینما یمکن فرض الجامع بینهما و لو کان عرفیا .و إذ یدور الأمر بین الوجهین فی التصرف فأیهما أولی هل الأولی تقیید ظهور الشرطیتین فی الاستقلال أو تقیید ظهورهما فی الانحصار قولان فی المسألة .و الأوجه علی الظاهر هو التصرف الثانی لأن منشأ التعارض بینهما هو ظهورهما فی الانحصار الذی یلزم منه الظهور فی المفهوم فیتعارض منطوق کل منهما مع مفهوم الآخر کما تقدم فلا بد من رفع الید عن ظهور کل منهما فی الانحصار بالإضافة إلی المقدار الذی دل علیه منطوق الشرطیة الأخری لأن ظهور المنطوق أقوی أما ظهور کل من الشرطیتین فی الاستقلال فلا معارض له حتی ترفع الید عنه .و إذا ترجح القول الثانی و هو التصرف فی ظهور الشرطین فی الانحصار یکون کل من الشرطین مستقلا فی التأثیر فإذا انفرد أحدهما کان له التأثیر فی ثبوت الحکم و إن حصلا معا فإن کان حصولهما بالتعاقب کان التأثیر للسابق و إن تقارنا کان الأثر لهما معا و یکونان کالسبب الواحد لامتناع تکرار الجزاء حسب الفرض .و أما النحو الثانی و هو ما إذا کان الجزاء قابلا للتکرار فهو علی صورتین 1 أن یثبت بالدلیل أن کلا من الشرطین جزء السبب و لا کلام حینئذ فی أن الجزاء واحد یحصل عند حصول الشرطین معا .

ص :116

2 أن یثبت من دلیل مستقل أو من ظاهر دلیل الشرط أن کلا من الشرطین سبب مستقل سواء کان للقضیة الشرطیة مفهوم أم لم یکن فقد وقع الخلاف فیما إذا اتفق وقوع الشرطین معا فی وقت واحد أو متعاقبین أن القاعدة أی شیء تقتضی هل تقتضی تداخل الأسباب فیکون لها جزاء واحد کما فی مثال تداخل موجبات الوضوء من خروج البول أو الغائط و النوم و نحوهما أم تقتضی عدم التداخل فیتکرر الجزاء بتکرار الشروط کما فی مثال تعدد وجوب الصلاة بتعدد أسبابه من دخول وقت الیومیة و حصول الآیات .أقول لا شبهة فی أنه إذا ورد دلیل خاص علی التداخل أو عدمه وجب الأخذ بذلک الدلیل .و أما مع عدم ورود الدلیل الخاص فهو محل الخلاف و الحق أن القاعدة فیه عدم التداخل .بیان ذلک أن لکل شرطیة ظهورین 1 ظهور الشرط فیها فی الاستقلال بالسببیة و هذا الظهور یقتضی أن یتعدد الجزاء فی الشرطیتین موضوعتی البحث فلا تتداخل الأسباب .2 ظهور الجزاء فیها فی أن متعلق الحکم فیه صرف الوجود و لما کان صرف الشیء لا یمکن أن یکون محکوما بحکمین فیقتضی ذلک أن یکون لجمیع الأسباب جزاء واحد و حکم واحد عند فرض اجتماعها فتتداخل الأسباب .و علی هذا فیقع التنافی بین هذین الظهورین فإذا قدمنا الظهور الأول لا بد أن نقول بعدم التداخل و إذا قدمنا الظهور الثانی لا بد أن نقول بالتداخل فأیهما أولی بالتقدیم و الأرجح أن الأولی بالتقدیم ظهور الشرط

ص :117

علی ظهور الجزاء لأن الجزاء لما کان معلقا علی الشرط فهو تابع له ثبوتا و إثباتا فإن کان واحدا کان الجزاء واحدا و إن کان متعددا کان متعددا و إذا کان المقدم متعددا حسب فرض ظهور الشرطیتین کان الجزاء تبعا له و علیه لا یستقیم للجزاء ظهور فی وحدة المطلوب فیخرج المقام عن باب التعارض بین الظهورین بل یکون الظهور فی التعداد رافعا للظهور فی الوحدة لأن الظهور فی الوحدة لا یکون إلا بعد فرض سقوط الظهور فی التعداد أو بعد فرض عدمه أما مع وجوده فلا ینعقد الظهور فی الوحدة .فالقاعدة فی المقام إذن هی عدم التداخل و هو مذهب أساطین العلماء الأعلام قدس الله أسرارهم .

تنبیهان

@

1 تداخل المسببات

إن البحث فی المسألة السابقة إنما هو عما إذا تعددت الأسباب فیتساءل فیها عما إذا کان تعددها یقتضی المغایرة فی الجزاء و تعدد المسببات بالفتح أو لا یقتضی فتتداخل الأسباب و ینبغی أن تسمی بمسألة تداخل الأسباب .و بعد الفراغ عن عدم تداخل الأسباب هناک ینبغی أن یبحث أن تعدد المسببات إذا کانت تشترک فی الاسم و الحقیقة کالأغسال هل یصح أن یکتفی عنها بوجود واحد لها أو لا یکتفی .و هذه مسألة أخری غیر ما تقدم تسمی بمسألة تداخل المسببات و هی من ملحقات الأولی .و القاعدة فیها أیضا عدم التداخل .و السر فی ذلک أن سقوط الواجبات المتعددة واحد و إن أتی به بنیة

ص :118

امتثال الجمیع یحتاج إلی دلیل خاص کما ورد فی الأغسال بالاکتفاء بغسل الجنابة عن باقی الأغسال و ورد أیضا جواز الاکتفاء بغسل واحد عن أغسال متعددة و مع عدم ورود الدلیل الخاص فإن کل وجوب یقتضی امتثالا خاصا به لا یغنی عنه امتثال الآخر و إن اشترکت الواجبات فی الاسم و الحقیقة .نعم قد یستثنی من ذلک ما إذا کان بین الواجبین نسبة العموم و الخصوص من وجه و کان دلیل کل منهما مطلقا بالإضافة إلی مورد الاجتماع کما إذا قال مثلا تصدق علی مسکین و قال ثانیا تصدق علی ابن سبیل فجمع العنوانین شخص واحد بأن کان فقیرا و ابن سبیل فإن التصدق علیه یکون مسقطا للتکلیفین .

2 الأصل العملی فی المسألتین

أن مقتضی الأصل العملی عند الشک فی تداخل الأسباب هو التداخل لأن تأثیر السببین فی تکلیف واحد متیقن و إنما الشک فی تکلیف ثان زائد و الأصل فی مثله البراءة .و بعکسه فی مسألة تداخل المسببات فإن الأصل یقتضی فیه عدم التداخل کما مرت الإشارة إلیه لأنه بعد ثبوت التکالیف المتعددة بتعدد الأسباب یشک فی سقوط التکالیف الثابتة لو فعل فعلا واحدا و مقتضی القاعدة فی مثله الاشتغال بمعنی أن الاشتغال الیقینی یستدعی الفراغ الیقینی فلا یکتفی بفعل واحد فی مقام الامتثال

ص :119

الثانی مفهوم الوصف
موضوع البحث

المقصود بالوصف هنا ما یعم النعت و غیره فیشمل الحال و التمییز و نحوهما مما یصلح أن یکون قیدا لموضوع التکلیف کما أنه یختص بما إذا کان معتمدا علی موصوف فلا یشمل ما إذا کان الوصف نفسه موضوعا للحکم نحو وَ السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُمٰا فإن مثل هذا یدخل فی باب مفهوم اللقب و السر فی ذلک أن الدلالة علی انتفاء الوصف لا بد فیها من فرض موضوع ثابت للحکم یقید بالوصف مرة و یتجرد عنه أخری حتی یمکن فرض نفی الحکم عنه .و یعتبر أیضا فی المبحوث عنه هنا أن یکون أخص من الموصوف مطلقا أو من وجه لأنه لو کان مساویا أو أعم مطلقا لا یوجب تضییقا و تقییدا فی الموصوف حتی یصح فرض انتفاء الحکم عن الموصوف عند انتفاء الوصف .و أما دخول الأخص من وجه فی محل البحث فإنما هو بالقیاس إلی مورد افتراق الموصوف عن الوصف ففی مثال فی الغنم السائمة زکاة یکون مفهومه لو کان له مفهوم عدم وجوب الزکاة فی الغنم غیر السائمة و هی المعلوفة و أما بالقیاس إلی مورد افتراق الوصف عن الموصوف فلا دلالة له علی المفهوم قطعا فلا یدل المثال علی عدم الزکاة فی غیر الغنم السائمة أو غیر السائمة کالإبل مثلا لأن الموضوع و هو الموصوف الذی هو الغنم فی المثال یجب أن یکون محفوظا فی المفهوم

ص :120

و لا یکون متعرضا لموضوع آخر لا نفیا و لا إثباتا .(فما عن بعض الشافعیة من القول بدلالة القضیة المذکورة علی عدم الزکاة فی الإبل المعلوفة لا وجه له قطعا) .

الأقوال فی المسألة و الحق فیها

لا شک فی دلالة التقیید بالوصف علی المفهوم عند وجود القرینة الخاصة و لا شک فی عدم الدلالة عند وجود القرینة علی ذلک مثلما إذا ورد الوصف مورد الغالب الذی یفهم منه عدم إناطة الحکم به وجودا و عدما نحو قوله تعالی وَ رَبٰائِبُکُمُ اللاّٰتِی فِی حُجُورِکُمْ فإنه لا مفهوم لمثل هذه القضیة مطلقا إذ یفهم منه أن وصف الربائب بأنها فی حجورکم لأنها غالبا تکون کذلک و الغرض منه الإشعار بعلة الحکم إذ إن اللاتی تربی فی الحجور تکون کالبنات .و إنما الخلاف عند تجرد القضیة عن القرائن الخاصة فإنهم اختلفوا فی أن مجرد التقیید بالوصف هل یدل علی المفهوم أی انتفاء حکم الموصوف عند انتفاء الوصف أو لا یدل نظیر الاختلاف المتقدم فی التقیید بالشرط و فی المسألة قولان و المشهور القول الثانی و هو عدم المفهوم .و السر فی الخلاف یرجع إلی أن التقیید المستفاد من الوصف هل هو تقیید لنفس الحکم أی أن الحکم منوط به أو أنه تقیید لنفس موضوع الحکم أو متعلق الموضوع باختلاف الموارد فیکون الموضوع أو متعلق الموضوع هو المجموع المؤلف من الموصوف و الوصف .فإن کان الأول فإن التقیید بالوصف یکون ظاهرا فی انتفاء الحکم عند انتفائه بمقتضی الإطلاق لأن الإطلاق یقتضی بعد فرض إناطة الحکم بالوصف انحصاره فیه کما قلنا فی التقیید بالشرط .و إن کان الثانی فإن التقیید لا یکون ظاهرا فی انتفاء الحکم عند

ص :121

انتفاء الوصف لأنه حینئذ یکون من قبیل مفهوم اللقب إذ إنه یکون التعبیر بالوصف و الموصوف لتحدید موضوع الحکم فقط لا أن الموضوع ذات الموصوف و الوصف قید للحکم علیه مثلما إذا قال القائل اصنع شکلا رباعیا قائم الزاویة متساوی الأضلاع فإن المفهوم منه أن المطلوب صنعه هو المربع فعبر عنه بهذه القیود الدالة علیه حیث یکون الموضوع هو مجموع المعنی المدلول علیه بالعبارة المؤلفة من الموصوف و الوصف و هی فی المثال شکل رباعی قائم الزوایا متساوی الأضلاع و هی بمنزلة کلمة مربع فکما أن جملة اصنع مربعا لا تدل علی الانتفاء عند الانتفاء کذلک ما هو بمنزلتها لا تدل علیه لأنه فی الحقیقة یکون من قبیل الوصف غیر المعتمد علی الموصوف .إذا عرفت ذلک فنقول إن الظاهر فی الوصف لو خلی و طبعه من دون قرینة أنه من قبیل الثانی أی أنه قید للموضوع لا للحکم فیکون الحکم من جهته مطلقا غیر مقید فلا مفهوم للوصف .و من هذا التقریر یظهر بطلان ما استدلوا به لمفهوم الوصف بالأدلة الآتیة 1 أنه لو لم یدل الوصف علی الانتفاء عند الانتفاء لم تبق فائدة فیه و الجواب أن الفائدة غیر منحصرة برجوعه إلی الحکم و کفی فائدة فیه تحدید موضوع الحکم و تقییده به .2 إن الأصل فی القیود أن تکون احترازیة .و الجواب أن هذا مسلم و لکن معنی الاحتراز هو تضییق دائرة الموضوع و إخراج ما عدا القید عن شمول شخص الحکم له و نحن نقول به و لیس هذا من المفهوم فی شیء لأن إثبات الحکم لموضوع لا ینفی ثبوت سنخ الحکم لما عداه کما فی مفهوم اللقب و الحاصل أن کون القید احترازیا لا یلزم إرجاعه قیدا للحکم .3 إن الوصف مشعر بالعلیة فیلزم إناطة الحکم به .

ص :122

و الجواب أن هذا الإشعار و إن کان مسلما إلا أنه ما لم یصل إلی حد الظهور لا ینفع فی الدلالة علی المفهوم .4 الاستدلال بالجمل التی ثبتت دلالتها علی المفهوم مثل(قوله صلی اللّٰه علیه و آله:مطل الغنی ظلم) .و الجواب أن ذلک علی تقدیره لا ینفع لأنا لا نمنع من دلالة التقیید بالوصف علی المفهوم أحیانا لوجود قرینة و إنما موضوع البحث فی اقتضاء طبع الوصف لو خلی و نفسه للمفهوم و فی خصوص المثال نجد القرینة علی إناطة الحکم بالغنی موجودة من جهة مناسبة الحکم و الموضوع فیفهم أن السبب فی الحکم بالظلم کون المدین غنیا فیکون مطله ظلما بخلاف المدین الفقیر لعجزه عن أداء الدین فلا یکون مطله ظلما

ص :123

الثالث مفهوم الغایة

إذا ورد التقیید بالغایة نحو و أتموا الصیام إلی اللیل و نحو کل شیء حلال حتی تعرف أنه حرام بعینه فقد وقع خلاف الأصولیین فیه من جهتین الجهة الأولی فی دخول الغایة فی المنطوق أی فی حکم المغیا فقد اختلفوا فی أن الغایة و هی الواقعة بعد أداة الغایة نحو إلی و حتی هل هی داخلة فی المغیا حکما أو خارجة عنه و إنما ینتهی إلیها المغیا موضوعا و حکما علی أقوال منها التفصیل بین کونها من جنس المغیا فتدخل فیه نحو صمت النهار إلی اللیل و بین کونها من غیر جنسه فلا تدخل کمثال کل شیء حلال و منها التفصیل بین کون الغایة واقعة بعد إلی فلا تدخل فیه و بین کونها واقعة بعد حتی فتدخل نحو کل السمکة حتی رأسها .و الظاهر أنه لا ظهور لنفس التقیید بالغایة فی دخولها فی المغیا و لا فی عدمه بل یتبع ذلک الموارد و القرائن الخاصة الحافة بالکلام .نعم لا ینبغی الخلاف فی عدم دخول الغایة فیما إذا کانت غایة للحکم کمثال کل شیء حلال فإنه لا معنی لدخول معرفة الحرام فی حکم الحلال .ثم إن المقصود من کلمة حتی التی یقع الکلام عنها هی حتی الجارة دون العاطفة و إن کانت تدخل علی الغایة أیضا لأن العاطفة یجب دخول ما بعدها فی حکم ما قبلها لأن هذا هو معنی العطف فإذا قلت مات الناس حتی الأنبیاء فإن معناه أن الأنبیاء ماتوا أیضا بل حتی العاطفة تفید أن الغایة هو الفرد الفائق علی سائر أفراد المغیا فی القوة أو

ص :124

الضعف فکیف یتصور ألا یکون المعطوف بها داخلا فی الحکم بل قد یکون هو الأسبق فی الحکم نحو مات کل أب حتی آدم .الجهة الثانیة فی مفهوم الغایة و هی موضوع البحث هنا فإنه قد اختلفوا فی أن التقیید بالغایة مع قطع النظر عن القرائن الخاصة هل یدل علی انتفاء سنخ الحکم عما وراء الغایة و من الغایة نفسها أیضا إذا لم تکن داخلة فی المغیا أو لا .فنقول إن المدرک فی دلالة الغایة علی المفهوم کالمدرک فی الشرط و الوصف فإذا کانت قیدا للحکم کانت ظاهرة فی انتفاء الحکم فیما وراءها و أما إذا کانت قیدا للموضوع أو المحمول فقط فلا دلالة لها علی المفهوم و علیه فما علم فی التقیید بالغایة أنه راجع إلی الحکم فلا إشکال فی ظهوره فی المفهوم مثل (قوله علیه السلام:کل شیء طاهر حتی تعلم أنه نجس)و کذلک مثال کل شیء حلال .و إن لم یعلم ذلک من القرائن فلا یبعد القول بظهور الغایة فی رجوعها إلی الحکم و أنها غایة للنسبة الواقعة قبلها و کونها غایة لنفس الموضوع أو نفس المحمول هو الذی یحتاج إلی البیان و القرینة .فالقول بمفهوم الغایة هو المرجح عندنا

ص :125

الرابع مفهوم الحصر
معنی الحصر الحصر له معنیان

1 القصر بالاصطلاح المعروف عند علماء البلاغة سواء کان من نوع قصر الصفة علی الموصوف نحو(:لا سیف إلا ذو الفقار و لا فتی إلا علی) أم من نوع قصر الموصوف علی الصفة نحو وَ مٰا مُحَمَّدٌ إِلاّٰ رَسُولٌ . إِنَّمٰا أَنْتَ مُنْذِرٌ .2 ما یعم القصر و الاستثناء الذی لا یسمی قصرا بالاصطلاح نحو فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاّٰ قَلِیلاً و المقصود به هنا هو هذا المعنی الثانی .

اختلاف مفهوم الحصر باختلاف أدواته

إن مفهوم الحصر یختلف حاله باختلاف أدوات الحصر کما ستری فلذلک کان علینا أن نبحث عنها واحدة واحدة فنقول 1 إلا و هی تأتی لثلاثة وجوه 1 صفة بمعنی غیر .2 استثنائیة .3 أداة حصر بعد النفی .أما إلا الوصفیة فهی تقع وصفا لما قبلها کسائر الأوصاف الأخری فهی تدخل من هذه الجهة فی مفهوم الوصف فإن قلنا هناک إن للوصف

ص :126

مفهوما فهی کذلک و إلا فلا و قد رجحنا فیما سبق أن الوصف لا مفهوم له فإذا قال المقر مثلا فی ذمتی لزید عشرة دراهم إلا درهم بجعل إلا درهم وصفا فإنه یثبت فی ذمته تمام العشرة الموصوفة بأنها لیست بدرهم و لا یصح أن تکون استثنائیة لعدم نصب درهم و لا مفهوم لها حینئذ فلا تدل علی عدم ثبوت شیء آخر فی ذمته لزید .و أما إلا الاستثنائیة فلا ینبغی الشک فی دلالتها علی المفهوم و هو انتفاء حکم المستثنی منه عن المستثنی لأن إلا موضوعة للإخراج و هو الاستثناء و لازم هذا الإخراج باللزوم البین بالمعنی الأخص أن یکون المستثنی محکوما بنقیض حکم المستثنی منه و لما کان هذا اللزوم بینا ظن بعضهم أن هذا المفهوم من باب المنطوق .و أما أداة الحصر بعد النفی نحو(:لا صلاة إلا بطهور) فهی فی الحقیقة من نوع الاستثنائیة .فرع لو شککنا فی مورد أن کلمة إلا استثنائیة أو وصفیة مثل ما لو قال المقر لیس فی ذمتی لزید عشرة دراهم إلا درهم إذ یجوز فی المثال أن تکون إلا وصفیة و یجوز أن تکون استثنائیة فإن الأصل فی کلمة إلا أن تکون للاستثناء فیثبت فی ذمته فی المثال درهم واحد أما لو کانت وصفیة فإنه لا یثبت فی ذمته شیء لأنه یکون قد نفی العشرة الدراهم کلها الموصوفة تلک الدراهم بأنها لیست بدرهم .2 إنما و هی أداة حصر مثل کلمة إلا فإذا استعملت فی حصر الحکم فی موضوع معین دلت بالملازمة البینة علی انتفائه عن غیر ذلک الموضوع و هذا واضح .3 بل و هی للإضراب و تستعمل فی وجوه ثلاثة الأول للدلالة علی أن المضروب عنه وقع عن غفلة أو علی نحو

ص :127

الغلط و لا دلالة لها حینئذ علی الحصر و هو واضح .الثانی للدلالة علی تأکید المضروب عنه و تقریره نحو زید عالم بل شاعر و لا دلالة لها أیضا حینئذ علی الحصر .الثالث للدلالة علی الردع و إبطال ما ثبت أولا نحو أَمْ یَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جٰاءَهُمْ بِالْحَقِّ فتدل علی الحصر فیکون لها مفهوم و هذه الآیة الکریمة تدل علی انتفاء مجیئه بغیر الحق .4 و هناک هیئات غیر الأدوات تدل علی الحصر مثل تقدم المفعول نحو إِیّٰاکَ نَعْبُدُ وَ إِیّٰاکَ نَسْتَعِینُ و مثل تعریف المسند إلیه بلام الجنس مع تقدیمه نحو العالم محمد و إن القول ما قالت حذام و نحو ذلک مما هو مفصل فی علم البلاغة .فإن هذه الهیئات ظاهرة فی الحصر فإذا استفید منها الحصر فلا ینبغی الشک فی ظهورها فی المفهوم لأنه لازم للحصر لزوما بینا و تفصیل الکلام فیها لا یسعه هذا المختصر .و علی کل حال فإن کل ما یدل علی الحصر فهو دال علی المفهوم بالملازمة البینة

ص :128

الخامس مفهوم العدد

لا شک فی أن تحدید الموضوع بعدد خاص لا یدل علی انتفاء الحکم فیما عداه فإذا قیل صم ثلاثة أیام من کل شهر فإنه لا یدل علی عدم استحباب صوم غیر الثلاثة الأیام فلا یعارض الدلیل علی استحباب صوم أیام أخر .نعم لو کان الحکم للوجوب مثلا و کان التحدید بالعدد من جهة الزیادة لبیان الحد الأعلی فلا شبهة فی دلالته علی عدم وجوب الزیادة کدلیل صوم ثلاثین یوما من شهر رمضان و لکن هذه الدلالة من جهة خصوصیة المورد لا من جهة أصل التحدید بالعدد حتی یکون لنفس العدد مفهوم فالحق أن التحدید بالعدد لا مفهوم له

ص :129

السادس مفهوم اللقب

المقصود باللقب کل اسم سواء کان مشتقا أم جامدا وقع موضوعا للحکم کالفقیر فی قولهم أطعم الفقیر و کالسارق و السارقة فی قوله تعالی اَلسّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ .و معنی مفهوم اللقب نفی الحکم عما لا یتناوله عموم الاسم و بعد أن استشکلنا فی دلالة الوصف علی المفهوم فعدم دلالة اللقب أولی فإن نفس موضوع الحکم بعنوانه لا یشعر بتعلیق الحکم علیه فضلا عن أن یکون له ظهور فی الانحصار .نعم غایة ما یفهم من اللقب عدم تناول شخص الحکم لغیر ما یشمله عموم الاسم و هذا لا کلام فیه أما عدم ثبوت نوع الحکم لموضوع آخر فلا دلالة له علیه أصلا .و قد قیل إن مفهوم اللقب أضعف المفهومات

ص :130

خاتمة فی دلالة الاقتضاء و التنبیه و الإشارة
تمهید

یجری کثیرا علی لسان الفقهاء و الأصولیین ذکر دلالة الاقتضاء و التنبیه و الإشارة و لم تشرح هذه الدلالات فی أکثر الکتب الأصولیة المتعارفة و لذلک رأینا أن نبحث عنها بشیء من التفصیل لفائدة المبتدءین و البحث عنها یقع من جهتین الأولی فی مواقع هذه الدلالات الثلاث و أنها من أی أقسام الدلالة و الثانیة فی حجیتها

الجهة الأولی مواقع الدلالات الثلاث
اشارة

قد تقدم أن المفهوم هو مدلول الجملة الترکیبیة اللازمة للمنطوق لزوما بینا بالمعنی الأخص و یقابله المنطوق الذی هو مدلول ذات اللفظ بالدلالة المطابقیة .و لکن یبقی هناک من المدلولات ما لا یدخل فی المفهوم و لا فی المنطوق اصطلاحا کما إذا دل الکلام بالدلالة الالتزامیة (1)علی لفظ مفرد أو معنی مفرد لیس مذکورا فی المنطوق صریحا أو إذا دل الکلام علی مفاد جملة لازمة للمنطوق إلا أن اللزوم لیس علی نحو اللزوم البین بالمعنی الأخص .فإن هذه کلها لا تسمی مفهوما و لا منطوقا إذن ما ذا تسمی هذه الدلالة فی

ص :131


1- المقصود من الدلالة الالتزامیة ما یعم الدلالة التضمنیة باصطلاح المناطقة باعتبار رجوع الدلالة التضمنیة إلی الالتزامیة لانها لا تتم الا حیث یکون معنی الجزء لازما للکل فتکون الدلالة من ناحیة الملازمة بینهما.

هذه المقامات .نقول الأنسب أن نسمی مثل هذه الدلالة علی وجه العموم الدلالة السیاقیة کما ربما یجری هذا التعبیر فی لسان جملة من الأساطین لتکون فی مقابل الدلالة المفهومیة و المنطوقیة .و المقصود بها علی هذا أن سیاق الکلام یدل علی المعنی المفرد أو المرکب أو اللفظ المقدر و قسموها إلی الدلالات الثلاث المذکورة الاقتضاء و التنبیه و الإشارة فلنبحث عنها واحدة واحدة

1 دلالة الاقتضاء

و هی أن تکون الدلالة مقصودة للمتکلم بحسب العرف و یتوقف صدق الکلام أو صحته عقلا أو شرعا أو لغة أو عادة علیها .مثالها(قوله صلی اللّٰه علیه و آله:لا ضرر و لا ضرار فی الإسلام) فإن صدق الکلام یتوقف علی تقدیر الأحکام و الآثار الشرعیة لتکون هی المنفیة حقیقة لوجود الضرر و الضرار قطعا عند المسلمین فیکون النفی للضرر باعتبار نفی آثاره الشرعیة و أحکامه و مثله رفع عن أمتی ما لا یعلمون و ما اضطروا إلیه .مثال آخر(قوله علیه السلام:لا صلاة لمن جاره المسجد إلا فی المسجد) فإن صدق الکلام و صحته تتوقف علی تقدیر کلمة کاملة محذوفة لیکون النفی کمال الصلاة لا أصل الصلاة .مثال ثالث قوله تعالی وَ سْئَلِ الْقَرْیَةَ فإن صحته عقلا تتوقف علی تقدیر لفظ أهل فیکون من باب حذف المضاف أو علی تقدیر معنی أهل فیکون من باب المجاز فی الإسناد .مثال رابع قولهم أعتق عبدک عنی علی ألف فإن صحة هذا

ص :132

الکلام شرعا تتوقف علی طلب تملیکه أولا له بألف لأنه لا عتق إلا فی ملک فیکون التقدیر ملکنی العبد بألف ثم أعتقه عنی .مثال خامس قول الشاعر نحن بما عندنا و أنت بما عندک راض و الرأی مختلف فإن صحته لغة تتوقف علی تقدیر راضون خبرا للمبتدإ نحن لأن راض مفرد لا یصح أن یکون خبرا لنحن .و جمیع الدلالات الالتزامیة علی المعانی المفردة و جمیع المجازات فی الکلمة أو فی الإسناد ترجع إلی دلالة الاقتضاء .فإن قال قائل إن دلالة اللفظ علی معناه المجازی من الدلالة المطابقیة فکیف جعلتم المجاز من نوع دلالة الاقتضاء نقول له هذا صحیح و مقصودنا من کون الدلالة علی المعنی المجازی من نوع دلالة الاقتضاء هو دلالة نفس القرینة المحفوف بها الکلام علی إرادة المعنی المجازی من اللفظ لا دلالة نفس اللفظ علیه بتوسط القرینة .و الخلاصة أن المناط فی دلالة الاقتضاء شیئان الأول أن تکون الدلالة مقصودة و الثانی أن یکون الکلام لا یصدق أو لا یصح بدونها و لا یفرق فیها بین أن یکون لفظا مضمرا أو معنی مرادا حقیقیا أو مجازیا

2 دلالة التنبیه

و تسمی دلالة الإیماء أیضا و هی کالأولی فی اشتراط القصد عرفا و لکن من غیر أن یتوقف صدق الکلام أو صحته علیها و إنما سیاق الکلام ما یقطع معه بإرادة ذلک اللازم أو یستبعد عدم إرادته و بهذا تفترق عن دلالة الاقتضاء لأنها کما تقدم یتوقف صدق الکلام أو صحته علیها و لدلالة التنبیه موارد کثیرة نذکر أهمها

ص :133

1 ما إذا أراد المتکلم بیان أمر فنبه علیه بذکر ما یلازمه عقلا أو عرفا کما إذا قال القائل دقت الساعة العاشرة مثلا حیث تکون الساعة العاشرة موعدا له مع المخاطب لینبهه علی حلول الموعد المتفق علیه .أو قال طلعت الشمس مخاطبا من قد استیقظ من نومه حینئذ لبیان فوات وقت أداء صلاة الغداة أو قال إنی عطشان للدلالة علی طلب الماء .و من هذا الباب ذکر الخبر لبیان لازم الفائدة مثل ما لو أخبر المخاطب بقوله إنک صائم لبیان أنه عالم بصومه و من هذا الباب أیضا الکنایات إذا کان المراد الحقیقی مقصودا بالإفادة من اللفظ ثم کنی به عن شیء آخر .2 ما إذا اقترن الکلام بشیء یفید کونه علة للحکم أو شرطا أو مانعا أو جزءا أو عدم هذه الأمور فیکون ذکر الحکم تنبیها علی کون ذلک الشیء علة أو شرطا أو مانعا أو جزءا أو عدم کونه کذلک .مثاله قول المفتی أعد الصلاة لمن سأله عن الشک فی أعداد الثنائیة فإنه یستفاد منه أن الشک المذکور علة لبطلان الصلاة و للحکم بوجوب الإعادة .مثال آخر قوله علیه السلام کفر لمن قال له واقعت أهلی فی نهار شهر رمضان فإنه یفید أن الوقاع فی الصوم الواجب موجب للکفارة و مثال ثالث قوله بطل البیع لمن قال له بعت السمک فی النهر فیفهم منه اشتراط القدرة علی التسلیم فی البیع .و مثال رابع قوله لا تعید لمن سأل عن الصلاة فی الحمام فیفهم منه عدم مانعیة الکون فی الحمام للصلاة و هکذا 3 ما إذا اقترن الکلام بشیء یفید تعیین بعض متعلقات الفعل کما إذا قال القائل وصلت إلی النهر و شربت فیفهم من هذه المقارنة أن المشروب هو الماء و أنه من النهر و مثل ما إذا قال قمت و خطبت أی و خطبت قائما و هکذا .

ص :134

3 دلالة الإشارة

و یشترط فیها علی عکس الدلالتین السابقتین ألا تکون الدلالة مقصودة بالقصد الاستعمالی بحسب العرف و لکن مدلولها لازم لمدلول الکلام لزوما غیر بین أو لزوما بینا بالمعنی الأعم سواء استنبط المدلول من کلام واحد أم من کلامین .مثال ذلک دلالة الآیتین علی أقل الحمل و هما آیة وَ حَمْلُهُ وَ فِصٰالُهُ ثَلاٰثُونَ شَهْراً و آیة وَ الْوٰالِدٰاتُ یُرْضِعْنَ أَوْلاٰدَهُنَّ حَوْلَیْنِ کٰامِلَیْنِ فإنه بطرح الحولین من ثلاثین شهرا یکون الباقی ستة أشهر فیعرف أنه أقل الحمل .و من هذا الباب دلالة وجوب الشیء علی وجوب مقدمته لأنه لازم لوجوب ذی المقدمة باللزوم البین بالمعنی الأعم و لذلک جعلوا وجوب المقدمة وجوبا تبعیا لا أصلیا لأنه لیس مدلولا للکلام بالقصد و إنما یفهم بالتبع أی بدلالة الإشارة

الجهة الثانیة حجیة هذه الدلالات

أما دلالة الاقتضاء و التنبیه فلا شک فی حجیتهما إذا کانت هناک دلالة و ظهور لأنه من باب حجیة الظواهر و لا کلام فی ذلک .و أما دلالة الإشارة فحجیتها من باب حجیة الظواهر محل نظر و شک لأن تسمیتها بالدلالة من باب المسامحة إذ المفروض أنها غیر مقصودة و الدلالة تابعة للإرادة و حقها أن تسمی إشارة و إشعارا فقط بغیر لفظ الدلالة فلیست هی من الظواهر فی شیء حتی تکون حجة من هذه الجهة .نعم هی حجة من باب الملازمة العقلیة حیث تکون ملازمة فیستکشف منها لازمها سواء کان حکما أم غیر حکم کالأخذ بلوازم إقرار المقر و إن لم یکن قاصدا لها أو کان منکرا للملازمة و سیأتی فی محله فی باب الملازمات العقلیة إن شاء الله تعالی

ص :135

ص :136

الباب الخامس العام و الخاص

اشارة

ص :137

ص :138

تمهید

العام و الخاص هما من المفاهیم الواضحة البدیهیة التی لا تحتاج إلی التعریف إلا لشرح اللفظ و تقریب المعنی إلی الذهن فلذلک لا محل لتعریفهما بالتعاریف الحقیقیة .و القصد من العام اللفظ الشامل بمفهومه لجمیع ما یصلح انطباق عنوانه علیه فی ثبوت الحکم له و قد یقال للحکم إنه عام أیضا باعتبار شموله لجمیع أفراد الموضوع أو المتعلق أو المکلف .و القصد من الخاص الحکم الذی لا یشمل إلا بعض أفراد موضوعه أو المتعلق أو المکلف أو أنه اللفظ الدال علی ذلک .و التخصیص هو إخراج بعض الأفراد عن شمول الحکم العام بعد أن کان اللفظ فی نفسه شاملا له لو لا التخصیص .و التخصص هو أن یکون اللفظ من أول الأمر بلا تخصیص غیر شامل لذلک الفرد غیر المشمول للحکم .

أقسام العام

ینقسم العام إلی ثلاثة أقسام باعتبار تعلق الحکم به 1(العموم الاستغراقی و هو أن یکون الحکم شاملا لکل فرد فرد) فیکون کل فرد وحده موضوعا للحکم و لکل حکم متعلق بفرد من الموضوع عصیان خاص نحو أکرم کل عالم .2(العموم المجموعی و هو أن یکون الحکم ثابتا للمجموع بما هو مجموع فیکون المجموع موضوعا واحدا) کوجوب الإیمان بالأئمة فلا یتحقق الامتثال إلا بالإیمان بالجمیع .3(العموم البدلی و هو أن یکون الحکم لواحد من الأفراد

ص :139

علی البدل) فیکون فرد واحد فقط علی البدل موضوعا للحکم فإذا امتثل فی واحد سقط التکلیف نحو أعتق أیة رقبة شئت .فإن قال قائل إن عد هذا القسم الثالث من أقسام العموم فیه مسامحة ظاهرة لأن البدلیة تنافی العموم إذ المفروض أن متعلق الحکم أو موضوعه لیس إلا فردا واحدا فقط .نقول فی جوابه فالعموم فی هذا القسم معناه عموم البدلیة أی صلاح کل فرد لأن یکون متعلقا أو موضوعا للحکم نعم إذا کان استفادة العموم من هذا القسم بمقتضی الإطلاق فهو یدخل فی المطلق لا فی العام .و علی کل حال إن عموم متعلق الحکم لأحواله و أفراده إذا کان متعلقا للأمر الوجوبی أو الاستحبابی فهو علی الأکثر من نوع العموم البدلی إذا عرفت هذا التمهید فینبغی أن نشرع فی تفصیل مباحث العام و الخاص فی فصول

1 ألفاظ العموم

لا شک أن للعموم ألفاظا تخصه دالة علیه إما بالوضع أو بالإطلاق بمقتضی مقدمات الحکمة و هی إما أن تکون ألفاظا مفردة مثل کل و ما فی معناها مثل جمیع و تمام و أی و دائما و إما أن تکون هیئات لفظیة کوقوع النکرة فی سیاق النفی أو النهی و کون اللفظ جنسا محلی باللام جمعا کان أو مفردا فلنتکلم عنها بالتفصیل 1 لفظة کل و ما فی معناها فإنه من المعلوم دلالتها بالوضع علی عموم مدخولها سواء کان عموما استغراقیا أو مجموعیا و إن العموم معناه الشمول لجمیع أفرادها مهما کان لها من الخصوصیات اللاحقة لمدخولها .2 وقوع النکرة فی سیاق النفی أو النهی فإنه لا شک فی دلالتها

ص :140

علی عموم السلب لجمیع أفراد النکرة عقلا لا وضعا لأن عدم الطبیعة إنما یکون بعدم جمیع أفرادها و هذا واضح لا یحتاج إلی مزید بیان .3 الجمع المحلی باللام و المفرد المحلی بها لا شک فی استفادة العموم منهما عند عدم العهد و لکن الظاهر أنه لیس ذلک بالوضع فی المفرد المحلی باللام و إنما یستفاد بالإطلاق بمقتضی مقدمات الحکمة و لا فرق بینهما من جهة العموم فی استغراق جمیع الأفراد فردا فردا .و قد توهم بعضهم أن معنی استغراق الجمع المحلی و کل جمع مثل أکرم جمیع العلماء هو استغراق بلحاظ مراتب الجمع لا بلحاظ الأفراد فردا فردا فیشمل کل جماعة جماعة و یکون بمنزلة قول القائل أکرم جماعة جماعة فیکون موضوع الحکم کل جماعة علی حدة لا کل مفرد فإکرام شخص واحد لا یکون امتثالا للأمر و ذلک نظیر عموم التثنیة فإن الاستغراق فیها بملاحظة مصادیق التثنیة فیشمل کل اثنین اثنین فإذا قال أکرم کل عالمین فموضوع الحکم کل اثنین من العلماء لا کل فرد .و منشأ هذا التوهم أن معنی الجمع الجماعة کما أن معنی التثنیة الاثنین فإذا دخلت أداة العموم علیه دلت علی العموم بلحاظ کل جماعة جماعة کما إذا دخلت علی المفرد دلت علی العموم بلحاظ کل فرد فرد و علی التثنیة دلت علیه بلحاظ کل اثنین اثنین لأن أداة العموم تفید عموم مدخولها .و لکن هذا توهم فاسد للفرق بین التثنیة و الجمع لأن التثنیة تدل علی الاثنین المحدودة من جانب القلة و الکثرة بخلاف الجمع فإنه یدل علی ما هو محدود من جانب القلة فقط لأن أقل الجمع ثلاثة و أما من جانب الکثرة فغیر محدود أبدا فکل ما تفرض لذلک اللفظ المجموع من أفراد مهما کثرت فهی مرتبة من الجمع واحد و جماعة واحدة حتی لو أرید جمیع الأفراد بأسرها فإنها کلها مرتبة واحدة من الجمع لا مجموعة مراتب له .

ص :141

فیکون معنی استغراق الجمع عدم الوقوف علی حد خاص من حدود الجمع و مرتبة دانیة منه بل المقصود أعلی مراتبه فیذهب استغراقه إلی آخر الآحاد لا إلی آخر المراتب إذ لیس هناک بلحاظ جمیع الأفراد إلا مرتبة واحدة لا مراتب متعددة و لیس إلا حد واحد هو الحد الأعلی لا حدود متکثرة فهو من هذه الجهة کاستغراق المفرد معناه عدم الوقوف علی حد خاص فیذهب إلی آخر الآحاد .نعم الفرق بینهما إنما هو فی عدم الاستغراق فإن عدم استغراق المفرد یوجب الاقتصار علی واحد و عدم استغراق الجمع یوجب الاقتصار علی أقل الجمع و هو ثلاثة

2 المخصص المتصل و المنفصل

إن تخصیص العام علی نحوین 1 أن یقترن به مخصصه فی نفس الکلام الواحد الملقی من المتکلم کقولنا أشهد أن لا إله إلا الله و یسمی المخصص المتصل فیکون قرینة علی إرادة ما عدا الخاص من العموم و تلحق به بل هی منه القرینة الحالیة المکتنف بها الکلام الدالة علی إرادة الخصوص علی وجه یصح تعویل المتکلم علیها فی بیان مراده .2 ألا یقترن به مخصصه فی نفس الکلام بل یرد فی کلام آخر مستقل قبله أو بعده و یسمی المخصص المنفصل فیکون أیضا قرینة علی إرادة ما عدا الخاص من العموم کالأول .فإذن لا فرق بین القسمین من ناحیة القرینة علی مراد المتکلم و إنما الفرق بینهما من ناحیة أخری و هی ناحیة انعقاد الظهور فی العموم ففی المتصل لا ینعقد للکلام ظهور إلا فی الخصوص و فی المنفصل ینعقد ظهور العام فی

ص :142

عمومه غیر أن الخاص ظهوره أقوی فیقدم علیه من باب تقدیم الأظهر علی الظاهر أو النص علی الظاهر .و السر فی ذلک أن الکلام مطلقا العام و غیره لا یستقر له الظهور و لا ینعقد إلا بعد الانتهاء منه و الانقطاع عرفا علی وجه لا یبقی بحسب العرف مجال لإلحاقه بضمیمة تصلح لأن تکون قرینة تصرفه عن ظهوره الابتدائی الأولی و إلا فالکلام ما دام متصلا عرفا فإن ظهوره مراعی فإن انقطع من دون ورود قرینة علی خلافه استقر ظهوره الأول و انعقد الکلام علیه و إن لحقته القرینة الصارفة تبدل ظهوره الأول إلی ظهور آخر حسب دلالة القرینة و انعقد حینئذ علی الظهور الثانی و لذا لو کانت القرینة مجملة أو إن وجد فی الکلام ما یحتمل أن یکون قرینة أوجب ذلک عدم انعقاد الظهور الأول و لا یظهر آخر فیعود الکلام برمته مجملا .هذا من ناحیة کلیة فی کل کلام و مقامنا من هذا الباب لأن المخصص کما قلنا من قبیل القرینة الصارفة فالعام له ظهور ابتدائی أو بدوی فی العموم فیکون مراعی بانقطاع الکلام و انتهائه فإن لم یلحقه ما یخصصه استقر ظهوره الابتدائی و انعقد علی العموم و إن لحقته قرینة التخصیص قبل الانقطاع تبدل ظهوره الأول و انعقد له ظهور آخر حسب دلالة المخصص المتصل .إذن فالعام المخصص بالمتصل لا یستقر و لا ینعقد له ظهور فی العموم بخلاف المخصص بالمنفصل لأن الکلام بحسب الفرض قد انقطع بدون ورود ما یصلح للقرینة علی التخصیص فیستقر ظهوره الابتدائی فی العموم غیر أنه إذا ورد المخصص المنفصل یزاحم ظهور العام فیقدم علیه من باب أنه قرینة علیه کاشفة عن المراد الجدی

ص :143

3 هل استعمال العام فی المخصص مجاز

قلنا إن المخصص بقسمیه قرینة علی إرادة ما عدا الخاص من لفظ العموم فیکون المراد من العام بعض ما یشمله ظاهره فوقع الکلام فی أن هذا الاستعمال هل هو علی نحو المجاز أو الحقیقة و اختلف العلماء فیه علی أقوال کثیرة منها أنه مجاز مطلقا و منها أنه حقیقة مطلقا و منها التفصیل بین المخصص بالمتصل و بین المخصص بالمنفصل فإن کان التخصیص بالأول فهو حقیقة دون ما کان بالثانی و قیل بالعکس .و الحق عندنا هو القول الثانی أی أنه حقیقة مطلقا .الدلیل أن منشأ توهم القول بالمجاز أن أداة العموم لما کانت موضوعة للدلالة علی سعة مدخولها و عمومه لجمیع أفراده فلو أرید منه بعضه فقد استعملت فی غیر ما وضعت له فیکون الاستعمال مجازا و هذا التوهم یدفع بأدنی تأمل لأنه فی التخصیص بالمتصل کقولک مثلا أکرم کل عالم إلا الفاسقین لم تستعمل أداة العموم إلا فی معناها و هی الشمول لجمیع أفراد مدخولها غایة الأمر أن مدخولها تارة یدل علیه لفظ واحد مثل أکرم کل عادل و أخری یدل علیه أکثر من لفظ واحد فی صورة التخصیص فیکون التخصیص معناه أن مدخول کل لیس ما یصدق علیه لفظ عالم مثلا بل هو خصوص العالم العادل فی المثال و أما کل فهی باقیة علی ما لها من الدلالة علی العموم و الشمول لأنها تدل حینئذ علی الشمول لکل عادل من العلماء و لذا لا یصح أن یوضع مکانها کلمة بعض فلا یستقیم المعنی لو قلت أکرم بعض العلماء إلا الفاسقین و إلا لما صح الاستثناء کما لا یستقیم لو قلت أکرم بعض العلماء العدول فإنه لا یدل

ص :144

علی تحدید الموضوع کما لو کانت کل و الاستثناء موجودین .و الحاصل أن لفظة کل و سائر أدوات العموم فی مورد التخصیص لم تستعمل إلا فی معناها و هو الشمول .و لا معنی للقول بأن المجاز فی نفس مدخولها لأن مدخولها مثل کلمة عالم موضوع لنفس الطبیعة من حیث هی لا الطبیعة بجمیع أفرادها أو بعضها و إرادة الجمیع أو البعض إنما یکون من دلالة لفظ أخری ککل أو بعض فإذا قید مدخولها و أرید منه المقید بالعدالة فی المثال المتقدم لم یکن مستعملا إلا فی معناه و هو من له العلم و تکون إرادة ما عدا الفاسق من العلماء من دلالة مجموع القید و المقید من باب تعدد الدال و المدلول .و سیجیء إن شاء الله تعالی أن تقیید المطلق لا یوجب مجازا .هذا الکلام کله عن المخصص بالمتصل و کذلک الکلام عن المخصص بالمنفصل لأنا قلنا إن التخصیص بالمنفصل معناه جعل الخاص قرینة منفصلة علی تقیید مدخول کل بما عدا الخاص فلا تصرف فی أداة العموم و لا فی مدخولها و یکون أیضا من باب تعدد الدال و المدلول و لو فرض أن المخصص المنفصل لیس مقیدا لمدخول أداة العموم بل هو تخصیص للعموم نفسه فإن هذا لا یلزم منه أن یکون المستعمل فیه فی العام هو البعض حتی یکون مجازا بل إنما یکشف الخاص عن المراد الجدی من العام

4 حجیة العام المخصص فی الباقی

إذا شککنا فی شمول العام المخصص لبعض أفراد الباقی من العام بعد التخصیص فهل العام حجة فی هذا البعض فیتمسک بظاهر العموم لإدخاله فی حکم العام علی أقوال مثلا إذا قال المولی کل ماء

ص :145

طاهر ثم استثنی من العموم بدلیل متصل أو منفصل الماء المتغیر بالنجاسة و نحن احتملنا استثناء الماء القلیل الملاقی للنجاسة بدون تغییر فإذا قلنا بأن العام المخصص حجة فی الباقی نطرد هذا الاحتمال بظاهر عموم العام فی جمیع الباقی فنحکم بطهارة الماء الملاقی غیر المتغیر و إذا لم نقل بحجیته فی الباقی یبقی هذا الاحتمال معلقا لا دلیل علیه من العام فنلتمس له دلیلا آخر یقول بطهارته أو نجاسته .و الأقوال فی المسألة کثیرة منها التفصیل بین المخصص بالمتصل فیکون حجة فی الباقی و بین المخصص بالمنفصل فلا یکون حجة و قیل بالعکس و الحق فی المسألة هو الحجیة مطلقا لأن أساس النزاع ناشئ من النزاع فی المسألة السابقة و هی أن العام المخصص مجاز فی الباقی أم لا .و من قال بالمجاز یستشکل فی ظهور العام و حجیته فی جمیع الباقی من جهة أن المفروض أن استعمال العام فی تمام الباقی مجاز و استعماله فی بعض الباقی مجاز آخر أیضا فیقع النزاع فی أن المجاز الأول أقرب إلی الحقیقة فیکون العام ظاهرا فیه أو أن المجازین متساویان فلا ظهور فی أحدهما فإذا کان المجاز الأول هو الظاهر کان العام حجة فی تمام الباقی و إلا فلا یکون حجة .أما نحن الذین نقول بأن العام المخصص حقیقة کما تقدم ففی راحة من هذا النزاع لأنا قلنا إن أداة العموم باقیة علی ما لها من معنی الشمول لجمیع أفراد مدخولها فإذا خرج من مدخولها بعض الأفراد بالتخصیص بالمتصل أو المنفصل فلا تزال دلالتها علی العموم باقیة علی حالها و إنما مدخولها تتضیق دائرته بالتخصیص .فحکم العام المخصص حکم العام غیر المخصص فی ظهوره فی الشمول لکل ما یمکن أن یدخل فیه .

ص :146

و علی أی حال بعد القول بأن العام المخصص حقیقة فی الباقی علی ما بیناه لا یبقی شک فی حجیته فی الباقی و إنما یقع الشک علی تقدیر القول بالمجازیة فقد نقول إنه حجة فی الباقی علی هذا التقدیر و قد لا نقول لا أنه کل من یقول بالمجازیة یقول بعدم الحجیة کما توهم ذلک بعضهم

5 هل یسری إجمال المخصص إلی العام
اشارة

کان البحث السابق و هو حجیة العام فی الباقی فی فرض أن الخاص مبین لا إجمال فیه و إنما الشک فی تخصیص غیره مما علم خروجه عن الخاص .و علینا الآن أن نبحث عن حجیة العام فی فرض إجمال الخاص و الإجمال علی نحوین 1 الشبهة المفهومیة و هی فی فرض الشک فی نفس مفهوم الخاص بأن کان مجملا نحو(قوله علیه السلام:کل ماء طاهر إلا ما تغیر طعمه أو لونه أو ریحه) الذی یشک فیه أن المراد من التغیر خصوص التغیر الحسی أو ما یشمل التغیر التقدیری و نحو قولنا أحسن الظن إلا بخالد الذی یشک فیه أن المراد من خالد هو خالد بن بکر أو خالد بن سعد مثلا .2 الشبهة المصداقیة و هی فی فرض الشک فی دخول فرد من أفراد العام فی الخاص مع وضوح مفهوم الخاص بأن کان مبینا لا إجمال فیه کما إذا شک فی مثال الماء السابق أن ماء معینا أ تغیر بالنجاسة فدخل فی حکم الخاص أم لم یتغیر فهو لا یزال باقیا علی طهارته .و الکلام فی الشبهتین یختلف اختلافا بینا فلنفرد لکل منهما بحثا مستقلا

ص :147

أ الشبهة المفهومیة

الدوران فی الشبهة المفهومیة تارة یکون بین الأقل و الأکثر کالمثال الأول فإن الأمر دائر فیه بین تخصیص خصوص التغیر الحسی أو یعم التقدیری فالأقل هو التغیر الحسی و هو المتیقن و الأکثر هو الأعم منه و من التقدیری .و أخری یکون بین المتباینین کالمثال الثانی فإن الأمر دائر فیه بین تخصیص خالد بن بکر و بین خالد بن سعد و لا قدر متیقن فی البین .ثم علی کل من التقدیرین إما أن یکون المخصص متصلا أو منفصلا و الحکم فی المقام یختلف باختلاف هذه الأقسام الأربعة فی الجملة فلنذکرها بالتفصیل 1 2 فیما إذا کان المخصص متصلا سواء کان الدوران فیه بین الأقل و الأکثر أو بین المتباینین فإن الحق فیه أن إجمال المخصص یسری إلی العام أی أنه لا یمکن التمسک بأصالة العموم لإدخال المشکوک فی حکم العام .و هو واضح علی ما ذکرناه سابقا من أن المخصص المتصل من نوع قرینة الکلام المتصلة فلا ینعقد للعام ظهور إلا فیما عدا الخاص فإذا کان الخاص مجملا سری إجماله إلی العام لأن ما عدا الخاص غیر معلوم فلا ینعقد للعام ظهور فیما لم یعلم خروجه عن عنوان الخاص .3 فی الدوران بین الأقل و الأکثر إذا کان المخصص منفصلا فإن الحق فیه أن إجمال الخاص لا یسری إلی العام أی أنه یصح التمسک بأصالة العموم لإدخال ما عدا الأقل فی حکم العام و الحجة فیه واضحة

ص :148

بناء علی ما تقدم فی الفصل الثانی من أن العام المخصص بالمنفصل ینعقد له ظهور فی العموم و إذا کان یقدم علیه الخاص فمن باب تقدیم أقوی الحجتین فإذا کان الخاص مجملا فی الزائد علی القدر المتیقن منه فلا یکون حجة فی الزائد لأنه حسب الفرض مجمل لا ظهور له فیه و إنما تنحصر حجیته فی القدر المتیقن و هو الأقل .فکیف یزاحم العام المنعقد ظهوره فی الشمول لجمیع أفراده التی منها القدر المتیقن من الخاص و منها القدر الزائد علیه المشکوک دخوله فی الخاص فإذا خرج القدر المتیقن بحجة أقوی من العام یبقی القدر الزائد لا مزاحم لحجیة العام و ظهوره فیه .4 فی الدوران بین المتباینین إذا کان المخصص منفصلا فإن الحق فیه أن إجمال الخاص یسری إلی العام کالمخصص المتصل لأن المفروض حصول العلم الإجمالی بالتخصیص واقعا و إن تردد بین شیئین فیسقط العموم عن الحجیة فی کل واحد منهما و الفرق بینه و بین المخصص المتصل المجمل أنه فی المتصل یرتفع ظهور الکلام فی العموم رأسا و فی المنفصل المردد بین المتباینین ترتفع حجیة الظهور و إن کان الظهور البدوی باقیا فلا یمکن التمسک بأصالة العموم فی أحد المرددین .بل لو فرض أنها تجری بالقیاس إلی أحدهما فهی تجری أیضا بالقیاس إلی الآخر و لا یمکن جریانهما معا لخروج أحدهما عن العموم قطعا فیتعارضان و یتساقطان و إن کان الحق أن نفس وجود العلم الإجمالی یمنع من جریان أصالة العموم فی کل منهما رأسا لا أنها تجری فیهما فیحصل التعارض ثم التساقط

ص :149

ب الشبهة المصداقیة
اشارة

قلنا إن الشبهة المصداقیة تکون فی فرض الشک فی دخول فرد من أفراد ما ینطبق علیه العام فی المخصص مع کون المخصص مبینا لا إجمال فیه و إنما الإجمال فی المصداق فلا یدری أن هذا الفرد متصف بعنوان الخاص فخرج عن حکم العام أم لم یتصف فهو مشمول لحکم العام کالمثال المتقدم و هو الماء المشکوک تغیره بالنجاسة و کمثال الشک فی الید علی مال أنها ید عادیة أو ید أمانة فیشک فی شمول العام لها و هو(قوله صلی اللّٰه علیه و آله:علی الید ما أخذت حتی تؤدی)لأنها ید عادیة أو خروجها منه لأنها ید أمانة لما دل علی عدم ضمان ید الأمانة المخصص لذلک العموم .ربما ینسب إلی المشهور من العلماء الأقدمین القول بجواز التمسک بالعام فی الشبهة المصداقیة و لذا أفتوا فی مثال الید المشکوکة بالضمان و قد یستدل لهذا القول بأن انطباق عنوان العام علی المصداق المردد معلوم فیکون العام حجة فیه ما لم یعارض بحجة أقوی و أما انطباق عنوان الخاص علیه فغیر معلوم فلا یکون الخاص حجة فیه فلا یزاحم حجیة العام و هو نظیر ما قلناه فی المخصص المنفصل فی الشبهة المفهومیة عند الدوران بین الأقل و الأکثر .و الحق عدم جواز التمسک بالعام فی الشبهة المصداقیة فی المتصل و المنفصل معا .و دلیلنا علی ذلک أن المخصص لما کان حجة أقوی من العام فإنه موجب لقصر حکم العام علی باقی أفراده و رافع لحجیة العام فی بعض مدلوله و الفرد المشکوک مردد بین دخوله فیما کان العام حجة فیه و بین خروجه عنه

ص :150

مع عدم دلالة العام علی دخوله فیما هو حجة فیه فلا یکون العام حجة فیه بلا مزاحم کما قیل فی دلیلهم و لئن کان انطباق عنوان العام علیه معلوما فلیس هو معلوم الانطباق علیه بما هو حجة .و الحاصل أن هناک عندنا حجتین معلومتین حسب الفرض إحداهما العام هو حجة فیما عدا الخاص و ثانیتهما المخصص و هو حجة فی مدلوله و المشتبه مردد بین دخوله فی تلک الحجة أو هذه الحجة .و بهذا یظهر الفرق بین الشبهة المصداقیة و بین الشبهة المفهومیة فی المنفصل عند الدوران بین الأقل و الأکثر فإن الخاص فی الشبهة المفهومیة لیس حجة إلا فی الأقل و الزائد المشکوک لیس مشکوک الدخول فیما کان الخاص معلوم الحجیة فیه بل الخاص مشکوک أنه جعل حجة فیه أم لا و مشکوک الحجیة فی شیء لیس بحجة قطعا فی ذلک الشیء (1)و أما العام فهو حجة إلا فیما کان الخاص حجة فیه و علیه لا یکون الأکثر مرددا بین دخوله فی تلک الحجة أو هذه الحجة کالمصداق المردد بل هو معلوم أن الخاص لیس حجة فیه لمکان الشک فلا یزاحم حجیة العام فیه .و أما فتوی المشهور بالضمان فی الید المشکوکة أنها ید عادیة أو ید أمانة

ص :151


1- سیأتی فی (مباحث الحجة): ان قوام حجیة الشئ بالعلم، لانه انما یکون الشئ صالحا لان یحتج به المولی علی العبد إذا کان واصلا إلیه بالعلم، فالعلم مأخوذ فی موضوع الحجة فعند الشک فی حجیة شئ یرتفع موضوعها، فیعلم بعدم حجیته. ومعنی الشک فی حجیته احتمال أنه نصبه الشارع حجة واقعا علی تقدیر وصوله. وحیث لم یصل نقطع بعدم حجیته فعلا فیزول ذلک الاحتمال البدوی عند الالتفات إلی ذلک لا انه حین الشک فی الحجیة یقطع بعدم الحجیة والا للزم اجتماع الشک والقطع بشئ واحد فی آن واحد وهو محال.

فلا یعلم أنها لأجل القول بجواز التمسک بالعام فی الشبهة المصداقیة و لعل لها وجها آخر لیس المقام محل ذکره .

تنبیه

فی جواز التمسک بالعام فی الشبهة المصداقیة إذا کان المخصص لبیا المقصود من المخصص اللبی ما یقابل اللفظی کالإجماع و دلیل العقل اللذین هما دلیلان و لیسا من نوع الألفاظ فقد نسب إلی الشیخ المحقق الأنصاری قدس سره جواز التمسک بالعام فی الشبهة المصداقیة مطلقا إذا کان المخصص لبیا و تبعه جماعة من المتأخرین عنه .(و ذهب المحقق شیخ أساتذتنا صاحب الکفایة قدس سره إلی التفصیل بین ما إذا کان المخصص اللبی مما یصح أن یتکل علیه المتکلم فی بیان مراده بأن کان عقلیا ضروریا فإنه یکون کالمتصل فلا ینعقد للعام ظهور فی العموم فلا مجال للتمسک بالعام فی الشبهة المصداقیة و بین ما إذا لم یکن کذلک کما إذا لم یکن التخصیص ضروریا علی وجه یصح أن یتکل علیه المتکلم فإنه لا مانع من التمسک بالعام فی الشبهة المصداقیة لبقاء العام علی ظهوره و هو حجة بلا مزاحم .و استشهد علی ذلک بما ذکره من الطریقة المعروفة و السیرة المستمرة المألوفة بین العقلاء کما إذا أمر المولی منهم عبده بإکرام جیرانه و حصل القطع للعبد بأن المولی لا یرید إکرام من کان عدوا له من الجیران فإن العبد لیس له ألا یکرم من یشک فی عداوته و للمولی أن یؤاخذه علی عدم إکرامه و لا یصح منه الاعتذار بمجرد احتمال العداوة لأن بناء العقلاء و سیرتهم هی ملاک حجیة أصالة الظهور فیکون ظهور العام فی هذا المقام حجة

ص :152

بمقتضی بناء العقلاء .و زاد علی ذلک بأنه یستکشف من عموم العام للفرد المشکوک أنه لیس فردا للخاص الذی علم خروجه من حکم العام و مثل له بعموم قوله لعن الله بنی فلان قاطبة المعلوم منه خروج من کان مؤمنا منهم فإن شک فی إیمان شخص یحکم بجواز لعنه للعموم و کل من جاز لعنه لیس مؤمنا فینتج من الشکل الأول هذا الشخص لیس مؤمنا) .هذا خلاصة رأی صاحب الکفایة قدس سره و لکن شیخنا المحقق الکبیر النائینی أعلی الله مقامه لم یرتض هذا التفصیل و لا إطلاق رأی الشیخ قدس سره بل ذهب إلی تفصیل آخر .(و خلاصته أن المخصص اللبی سواء کان عقلیا ضروریا یصح أن یتکل علیه المتکلم فی مقام التخاطب أو لم یکن کذلک بأن کان عقلیا نظریا أو إجماعا فإنه کالمخصص اللفظی کاشف عن تقیید المراد الواقعی فی العام من عدم کون موضوع الحکم الواقعی باقیا علی إطلاقه الذی یظهر فیه العام فلا مجال للتمسک بالعام فی الفرد المشکوک بلا فرق بین اللبی و اللفظی لأن المانع من التمسک بالعام مشترک بینهما و هو انکشاف تقیید موضوع الحکم واقعا و لا یفرق فی هذه الجهة بین أن یکون الکاشف لفظیا أو لبیا .و استثنی من ذلک ما إذا کان المخصص اللبی لم یستکشف منه تقیید موضوع الحکم واقعا بأن کان العقل إنما أدرک ما هو ملاک حکم الشارع واقعا أو قام الإجماع علی کونه ملاکا لحکم الشارع کما إذا أدرک العقل أو قام الإجماع علی أن ملاک لعن بنی فلان هو کفرهم فإن ذلک لا یوجب تقیید موضوع الحکم لأن الملاک لا یصلح لتقیید بل من العموم یستکشف وجود الملاک فی جمیعهم فإذا شک فی وجود الملاک فی فرد یکون عموم الحکم کاشفا عن وجوده فیه نعم لو علم بعدم وجود الملاک فی فرد یکون

ص :153

الفرد نفسه خارجا کما لو أخرجه المولی بالنص علیه لا أنه یکون کالمقید لموضوع العام .و أما سکوت المولی عن بیانه فهو إما لمصلحة أو لغفلة إذا کان من الموالی العادیین .نعم لو تردد الأمر بین أن یکون المخصص کاشفا عن الملاک أو مقیدا لعنوان العام فإن التفصیل الذی ذکره صاحب الکفایة یکون وجیها .و الحاصل أن المخصص إن أحرزنا أنه کاشف عن تقیید موضوع العام فلا یجوز التمسک بالعموم فی الشبهة المصداقیة أبدا و إن أحرزنا أنه کاشف عن ملاک الحکم فقط من دون تقیید فلا مانع من التمسک بالعموم بل یکون کاشفا عن وجود الملاک فی المشکوک و إن تردد أمره و لم یحرز کونه قیدا أو ملاکا فإن کان حکم العقل ضروریا یمکن الاتکال علیه فی التفهیم فیلحق بالقسم الأول و إن کان نظریا أو إجماعا لا یصح الاتکال علیه فیلحق بالقسم الثانی فیتمسک بالعموم لجواز أن یکون الفرد المشکوک قد أحرز المولی وجود الملاک فیه مع احتمال أن ما أدرکه العقل أو قام علیه الإجماع من قبیل الملاکات) .هذا کله حکایة أقوال علمائنا فی المسألة و إنما أطلت فی نقلها لأن هذه المسألة حادثة أثارها شیخنا الأنصاری قدس سره مؤسس الأصول الحدیث و اختلف فیها أساطین مشایخنا و نکتفی بهذا المقدار دون بیان ما نعتمد علیه من الأقوال لئلا نخرج عن الغرض الذی وضعت له الرسالة .و بالاختصار أن ما ذهب إلیه الشیخ هو الأولی بالاعتماد و لکن مع تحریر لقوله علی غیر ما هو المعروف عنه (1)

ص :154


1- وتوضیح ذلک: ان کل عام ظاهر فی العموم لا بد أن یتضمن ظهورین. 1 - ظهوره فی عدم منافاة أیة صفة من الصفات أو أی عنوان من العناوین لحکمه. 2 - ظهوره فی عدم وجود المنافی أیضا. أی أنه ظاهر فی عدم المنافاة وعدم المنافی معه. فان معنی ظهور عموم (أکرم جیرانی) - مثلا -: أنه لیس هناک صفة أو عنوان ینافی الحکم بوجوب اکرام الجیران، نحو صفة العداوة أو الفسق أو نحو ذلک، کما أن معناه أیضا أنه لیس یوجد فی الجیران من فیه صفة أو عنوان ینافی الحکم بوجوب اکرامه. وهذا واضح لا غبار فیه. فإذا جاء بعد انعقاد هذا الظهور فی العموم مخصص منفصل لفظی، کما لو قال فی المثال المتقدم: (لا تکرم الاعداء من جیرانی)، فان هذا المخصص لا شک فی أنه لا یکون ظاهرا فی أمرین: 1 - ان صفة العداوة منافیة لوجوب الاکرام: 2 - ان فی الجیران من هو علی صفة العداوة فعلا أو یتوقع منه أن یکون عدوا، والا لو لم یوجد العدو ولا یتوقع فیهم لکان هذا التخصیص لغوا وعبثا لا یصدر من الحکیم. وعلی ذلک فیکون المخصص اللفظی مزاحما للعام فی الظهورین معا، فیسقط عن الحجیة فیهما معا. فإذا شککنا فی فرد من الجیران أنه عدو أم لا، فلا مجال فیه للتمسک بالعام فی الحاقه بحکمه، لسقوط العام عن حجیته فی شموله له، إذ یکون هذا الفرد مرددا بین دخوله فیما اصبح العام حجة فیه وبین دخوله فیما کان الخاص حجة فیه. أما لو کان هناک مخصص لبی، کما لو حکم العقل - مثلا - بأن العداوة تنافی وجوب الاکرام، فان هذا الحکم من العقل لا یتوقف علی أن یکون هناک أعداء بالفعل أو متوقعون، بل العقل یحکم بهذا الحکم سواء کان هناک أعداء أم لم یکونوا أبدا، إذ لا مجال للقول بأنه لو لم یکن هناک أعداء لکان حکم العقل لغوا وعبثا، کما هو واضح بأدنی تأمل والتفات. وعلیه، فالحکم العقلی هذا لا یزاحم الظهور الثانی العام، أعنی ظهوره فی عدم المنافی، فظهوره الثانی هذا یبقی بلا مزاحم. فإذا شککنا فی فرد من الجیران أنه عدو أم لا فلا مانع من التمسک بالعام فی ادخاله فی حکمه، لانه لا یکون هذا الفرد مرددا بین دخوله فی هذه الحجة أو هذه الحجة، إذ المخصص اللبی حسب الفرض لا یقتضی وجود المنافی ولیس حجة فیه، أما العام فهو حجة فیه بلا مزاحم.
6 لا یجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص

لا شک فی أن بعض عمومات القرآن الکریم و السنة الشریفة ورد لها

ص :155

مخصصات منفصلة شرحت المقصود من تلک العمومات و هذا معلوم من طریقة صاحب الشریعة و الأئمة الأطهار علیهم الصلاة و السلام حتی قیل ما من عام إلا و قد خص و لذا ورد عن أئمتنا ذم من استبدوا برأیهم فی الأحکام لأن فی الکتاب المجید و السنة عاما و خاصا و مطلقا و مقیدا و هذه الأمور لا تعرف إلا من طریق آل البیت علیهم السلام

ص :156

و هذا ما أوجب التوقف فی التسرع بالأخذ بعموم العام قبل الفحص و الیأس من وجود المخصص لجواز أن یکون هذا العام من العمومات التی لها مخصص موجود فی السنة أو فی الکتاب لم یطلع علیه من وصل إلیه العام و قد نقل عدم الخلاف بل الإجماع علی عدم جواز الأخذ بالعام قبل الفحص و الیأس .و هو الحق و السر فی ذلک واضح لما قدمناه لأنه إذا کانت طریقة الشارع فی بیان مقاصده تعتمد علی القرائن المنفصلة لا یبقی اطمئنان بظهور العام فی عمومه فإنه یکون ظهورا بدویا و للشارع الحجة علی المکلف إذا قصر فی الفحص عن المخصص .أما إذا بذل وسعه و فحص عن المخصص فی مظانه حتی حصل له الاطمئنان بعدم وجوده فله الأخذ بظهور العام و لیس للشارع حجة علیه فیما لو کان هناک مخصص واقعا لم یتمکن المکلف من الوصول إلیه عادة بالفحص بل للمکلف أن یحتج فیقول إنی فحصت عن المخصص فلم أظفر به و لو کان مخصص هناک کان ینبغی بیانه علی وجه لو فحصنا عنه عادة لوجدناه فی مظانه و إلا فلا حجة فیه علینا .و هذا الکلام جار فی کل ظهور فإنه لا یجوز الأخذ به إلا بعد الفحص عن القرائن المنفصلة فإذا فحص المکلف و لم یظفر بها فله أن یأخذ بالظهور و یکون حجة علیه .و من هنا نستنتج قاعدة عامة تأتی فی محلها و نستوفی البحث عنها إن شاء الله تعالی و المقام من صغریاتها و هی أن أصالة الظهور لا تکون حجة إلا بعد الفحص و الیأس عن القرینة أما بیان مقدار الفحص الواجب هو الذی یوجب الیأس علی نحو القطع

ص :157

بعدم القرینة أو علی نحو الظن الغالب و الاطمئنان بعدمها فذلک موکول إلی محله و المختار کفایة الاطمئنان و الذی یهون الخطب فی هذه العصور المتأخرة أن علماءنا قدس الله تعالی أرواحهم قد بذلوا جهودهم علی تعاقب العصور فی جمع الأخبار و تبویبها و البحث عنها و تنقیحها فی کتب الأخبار و الفقه حتی أن الفقیه أصبح الآن یسهل علیه الفحص عن القرائن بالرجوع إلی مظانها المهیأة فإذا لم یجدها بعد الفحص یحصل له القطع غالبا بعدمها

7 تعقیب العام بضمیر یرجع إلی بعض أفراده

قد یرد عام ثم ترد بعده جملة فیها ضمیر یرجع إلی بعض أفراد العام بقرینة خاصة مثل قوله تعالی وَ الْمُطَلَّقٰاتُ یَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاٰثَةَ قُرُوءٍ إلی قوله وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِی ذٰلِکَ فإن المطلقات عامة للرجعیات و غیرها و لکن الضمیر فی بعولتهن یراد به خصوص الرجعیات فمثل هذا الکلام یدور فیه الأمر بین مخالفتین للظاهر إما 1 مخالفة ظهور العام فی العموم بأن یجعل مخصوصا بالبعض الذی یرجع إلیه الضمیر و إما 2 مخالفة ظهور الضمیر فی رجوعه إلی ما تقدم علیه من المعنی الذی دل علیه اللفظ بأن یکون مستعملا علی سبیل الاستخدام فیراد منه البعض و العام یبقی علی دلالته علی العموم فأی المخالفتین أولی وقع الخلاف علی أقوال ثلاثة الأول أن أصالة العموم هی المقدمة فیلتزم بالمخالفة الثانیة .الثانی أن أصالة عدم الاستخدام هی المقدمة فیلتزم بالمخالفة الأولی .الثالث عدم جریان الأصلین معا و الرجوع إلی الأصول العملیة .أما عدم جریان أصالة العموم فلوجود ما یصلح أن یکون قرینة فی الکلام

ص :158

و هو عود الضمیر علی البعض فلا ینعقد ظهور العام فی العموم .و أما أن أصالة عدم الاستخدام لا تجری فلأن الأصول اللفظیة یشترط فی جریانها کما سبق أول الکتاب أن یکون الشک فی مراد المتکلم فلو کان المراد معلوما کما فی المقام و کان الشک فی کیفیة الاستعمال فلا تجری قطعا .و الحق أن أصالة العموم جاریة و لا مانع منها لأنا ننکر أن یکون عود الضمیر إلی بعض أفراد العام موجبا لصرف ظهور العموم إذ لا یلزم من تعین البعض من جهة مرجعیة الضمیر بقرینة أن یتعین إرادة البعض من جهة حکم العام الثابت له بنفسه لأن الحکم فی الجملة المشتملة علی الضمیر غیر الحکم فی الجملة المشتملة علی العام و لا علاقة بینهما فلا یکون عود الضمیر علی بعض العام من القرائن التی تصرف ظهوره عن عمومه و اعتبر ذلک فی المثال فلو قال المولی العلماء یجب إکرامهم ثم قال و هم یجوز تقلیدهم و أرید من ذلک العدول بقرینة فإنه واضح فی هذا المثال أن تقیید الحکم الثانی بالعدول لا یوجب تقیید الحکم الأول بذلک بل لیس فیه إشعار به و لا یفرق فی ذلک بین أن یکون التقیید بمتصل کما فی مثالنا أو بمنفصل کما فی الآیة

8 تعقیب الاستثناء لجمل متعددة

قد ترد عمومات متعددة فی کلام واحد ثم یتعقبها استثناء فی آخرها فیشک حینئذ فی رجوع الاستثناء لخصوص الجملة الأخیرة أو لجمیع الجمل مثاله قوله تعالی وَ الَّذِینَ یَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ یَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِینَ جَلْدَةً وَ لاٰ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهٰادَةً أَبَداً وَ أُولٰئِکَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِینَ تٰابُوا فإنه یحتمل أن یکون هذا الاستثناء من الحکم الأخیر فقط و هو فسق هؤلاء و یحتمل أن یکون استثناء منه و من الحکم بعدم قبول

ص :159

شهادتهم و الحکم بجلدهم الثمانین و اختلف العلماء فی ذلک علی أربعة أقوال 1 ظهور الکلام فی رجوع الاستثناء إلی خصوص الجملة الأخیرة و إن کان رجوعه إلی غیر الأخیرة ممکنا و لکنه یحتاج إلی قرینة علیه .2 ظهوره فی رجوعه إلی جمیع الجمل و تخصیصها بالأخیرة فقط هو الذی یحتاج إلی الدلیل .3 عدم ظهوره فی واحد منهما و إن کان رجوعه إلی الأخیرة متیقنا علی کل حال أما ما عدا الأخیرة فتبقی مجملة لوجود ما یصلح للقرینة فلا ینعقد لها ظهور فی العموم فلا تجری أصالة العموم فیها .4 التفصیل بین ما إذا کان الموضوع واحدا للجمل المتعاقبة لم یتکرر ذکره و قد ذکر فی صدر الکلام مثل قولک أحسن إلی الناس و احترمهم و اقض حوائجهم إلا الفاسقین و بین ما إذا کان الموضوع متکررا ذکره لکل جملة کالآیة الکریمة المتقدمة و إن کان الموضوع فی المعنی واحدا فی الجمیع .فإن کان من قبیل الأول فهو ظاهر فی رجوعه إلی الجمیع لأن الاستثناء إنما هو من الموضوع باعتبار الحکم و الموضوع لم یذکر إلا فی صدر الکلام فقط فلا بد من رجوع الاستثناء إلیه فیرجع إلی الجمیع و إن کان من قبیل الثانی فهو ظاهر فی الرجوع إلی الأخیرة لأن الموضوع قد ذکر فیها مستقلا فقد أخذ الاستثناء محله و یحتاج تخصیص الجمل السابقة إلی دلیل آخر مفقود بالفرض فیتمسک بأصالة عمومها و أما ما قیل إن المقام من باب اکتناف الکلام بما یصلح لأن یکون قرینة فلا ینعقد للجمل الأولی ظهور فی العموم فلا وجه له لأنه لما کان المتکلم حسب الفرض قد کرر الموضوع بالذکر و اکتفی باستثناء واحد و هو یأخذ محله بالرجوع إلی الأخیرة فلو أراد إرجاعه إلی الجمیع لوجب أن ینصب قرینة علی ذلک و إلا

ص :160

کان مخلا ببیانه .و هذا القول الرابع هو أرجح الأقوال و به یکون الجمع بین کلمات العلماء فمن ذهب إلی القول برجوعه إلی خصوص الأخیرة فلعله کان ناظرا إلی مثل الآیة المبارکة التی تکرر فیها الموضوع و من ذهب إلی القول برجوعه إلی الجمیع فلعله کان ناظرا إلی الجمل التی لم یذکر فیها الموضوع إلا فی صدر الکلام فیکون النزاع علی هذا لفظیا و یقع التصالح بین المتنازعین

9 تخصیص العام بالمفهوم

المفهوم ینقسم کما تقدم إلی الموافق و المخالف فإذا ورد عام و مفهوم أخص مطلقا فلا کلام فی تخصیص العام بالمفهوم إذا کان مفهوما موافقا مثاله قوله تعالی أَوْفُوا بِالْعُقُودِ فإنه عام یشمل کل عقد یقع باللغة العربیة و غیرها فإذا ورد دلیل علی اعتبار أن یکون العقد بصیغة الماضی فقد قیل إنه یدل بالأولویة علی اعتبار العربیة فی العقد لأنه لما دل علی عدم صحة العقد بالمضارع من العربیة فلئن لم یصح من لغة أخری فمن طریق أولی و لا شک أن مثل هذا المفهوم إن ثبت فإنه یخصص العام المتقدم لأنه کالنص أو أظهر من عموم العام فیقدم علیه .و أما التخصیص بالمفهوم المخالف فمثاله قوله تعالی إِنَّ الظَّنَّ لاٰ یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئاً الدال بعمومه علی عدم اعتبار کل ظن حتی الظن الحاصل من خبر العادل و قد وردت آیة أخری هی إِنْ جٰاءَکُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا الدالة بمفهوم الشرط علی جواز الأخذ بخبر غیر الفاسق بغیر تبین .

ص :161

فهل یجوز تخصیص ذلک العام بهذا المفهوم المخالف قد اختلفوا علی أقوال فقد قیل بتقدیم العام و لا یجوز تخصیصه بهذا المفهوم و قیل بتقدیم المفهوم و قیل بعدم تقدیم أحدهما علی الآخر فیبقی الکلام مجملا و فصل بعضهم تفصیلات کثیرة یطول الکلام علیها .و السر فی هذا الخلاف أنه لما کان ظهور المفهوم المخالف لیس من القوة بحیث یبلغ درجة ظهور المنطوق أو المفهوم الموافق وقع الکلام فی أنه أقوی من ظهور العام فیقدم علیه أو أن العام أقوی فهو المقدم أو أنهما متساویان فی درجة الظهور فلا یقدم أحدهما علی الآخر أو أن ذلک یختلف باختلاف المقامات .و الحق أن المفهوم لما کان أخص من العام حسب الفرض فهو قرینة عرفا علی المراد من العام و القرینة تقدم علی ذی القرینة و تکون مفسرة لما یراد من ذی القرینة و لا یعتبر أن یکون ظهورها أقوی من ظهور ذی القرینة نعم لو فرض أن العام کان نصا فی العموم فإنه یکون هو قرینة علی المراد من الجملة ذات المفهوم فلا یکون لها مفهوم حینئذ و هذا أمر آخر

10 تخصیص الکتاب العزیز بخبر الواحد

یبدو من الصعب علی المبتدئ أن یؤمن لأول وهلة بجواز تخصیص العام الوارد فی القرآن الکریم بخبر الواحد نظرا إلی أن الکتاب المقدس إنما هو وحی منزل من الله لا ریب فیه و الخبر ظنی یحتمل فیه الخطأ و الکذب فکیف یقدم علی الکتاب و لکن سیرة العلماء من القدیم علی العمل بخبر الواحد إذا کان مخصصا للعام القرآنی بل لا تجد علی الأغلب خبرا معمولا به من بین الأخبار التی بأیدینا فی المجامیع إلا و هو مخالف لعام أو مطلق فی القرآن و لو مثل عمومات الحل و نحوها بل علی الظاهر

ص :162

إن مسألة تقدیم الخبر الخاص علی الآیة القرآنیة العامة من المسائل المجمع علیها من غیر خلاف بین علمائنا فما السر فی ذلک مع ما قلناه .نقول لا ریب فی أن القرآن الکریم و إن کان قطعی السند فیه متشابه و محکم نص علی ذلک القرآن نفسه و المحکم نص و ظاهر و الظاهر منه عام و مطلق کما لا ریب أیضا فی أنه ورد کلام النبی و الأئمة علیهم الصلاة و السلام ما یخصص کثیرا من عمومات القرآن و ما یقید کثیرا من مطلقاته و ما یقوم قرینة علی صرف جملة من ظواهره و هذا قطعی لا یشک فیه أحد .فإن کان الخبر قطعی الصدور فلا کلام فی ذلک و إن کان غیر قطعی الصدور و قد قام الدلیل القطعی علی أنه حجة شرعا لأنه خبر عادل مثلا و کان مضمون الخبر أخص من عموم الآیة القرآنیة فیدور الأمر بین أن نطرح الخبر بمعنی أن نکذب راویه و بین أن نتصرف بظاهر القرآن لأنه لا یمکن التصرف بمضمون الخبر لأنه نص أو أظهر و لا بسند القرآن لأنه قطعی .و مرجع ذلک إلی الدوران فی الحقیقة بین مخالفة الظن بصدق الخبر و بین مخالفة الظن بعموم الآیة أو فقل یدور الأمر بین طرح دلیل حجیة الخبر و بین طرح أصالة العموم فأی الدلیلین أولی بالطرح و أیهما أولی بالتقدیم .فنقول لا شک أن الخبر صالح لأن یکون قرینة علی التصرف فی ظاهر الکتاب لأنه بدلالته ناظر و مفسر لظاهر الکتاب بحسب الفرض و علی العکس من ظاهر الکتاب فإنه غیر صالح لرفع الید عن دلیل حجیة الخبر لأنه لا علاقة له فیه من هذه الجهة حسب الفرض حتی یکون ناظرا إلیه و مفسرا له فالخبر لسانه لسان المبین للکتاب فیقدم علیه و لیس

ص :163

الکتاب بظاهره بصدد بیان دلیل حجیة الخبر حتی یقدم علیه .و إن شئت فقل إن الخبر بحسب الفرض قرینة علی الکتاب و الأصل الجاری فی القرینة و هو هنا أصالة عدم کذب الراوی مقدم علی الأصل الجاری فی ذی القرینة و هو هنا أصالة العموم

11 الدوران بین التخصیص و النسخ
اشارة

اعلم أن العام و الخاص المنفصل یختلف حالهما من جهة العلم بتاریخهما معا أو بتاریخ أحدهما أو الجهل بهما معا فقد یقال فی بعض الأحوال بتعیین أن یکون الخاص ناسخا للعام أو منسوخا له أو مخصصا إیاه و قد یقع الشک فی بعض الصور و لتفصیل الحال نقول إن الخاص و العام من ناحیة تاریخ صدورهما لا یخلوان من خمس حالات فإما أن یکونا معلومی التاریخ أو مجهولی التاریخ أو أحدهما مجهولا و الآخر معلوما هذه ثلاث صور ثم المعلوم تاریخهما إما أن یعلم تقارنهما عرفا أو یعلم تقدم العام أو یعلم تأخر العام فتکون الصور خمسا

الصورة الأولی

إذا کانا معلومی التاریخ مع العلم بتقارنهما عرفا فإنه لا مجال لتوهم النسخ فیهما .

الصورة الثانیة

إذا کانا معلومی التاریخ مع تقدم العام فهذه علی صورتین 1 أن یکون ورود الخاص قبل العمل بالعام و الظاهر أنه لا إشکال

ص :164

حینئذ فی حمله علی التخصیص بغیر کلام إما لأن النسخ لا یکون قبل وقت العمل بالمنسوخ کما قیل و إما لأن الأولی فیه التخصیص کما سیأتی فی الصورة الآتیة .2 أن یکون وروده بعد وقت العمل بالعام و هذه الصورة هی أشکل الصور و هی التی وقع فیها الکلام فی أن الخاص یجب أن یکون ناسخا أو یجوز أن یکون مخصصا و لو فی بعض الحالات و مع الجواز یتکلم حینئذ فی أن الحمل علی التخصیص هو الأولی أو الحمل علی النسخ .فالذی یذهب إلی وجوب أن یکون الخاص ناسخا فهو ناظر إلی أن العام لما ورد و حل وقت العمل به بحسب الفرض فتأخیر الخاص عن وقت العمل لو کان مخصصا و مبینا لعموم العام یکون من باب تأخیر البیان عن وقت الحاجة و هو قبیح من حکیم لأن فیه إضاعة للأحکام و لمصالح العباد بلا مبرر فوجب أن یکون ناسخا للعام و العام باق علی عمومه یجب العمل به إلی حین ورود الخاص فیجب العمل ثانیا علی طبق الخاص .و أما من ذهب إلی جواز کونه مخصصا فلعله ناظر إلی أن العام یجوز أن یکون واردا لبیان حکم ظاهری صوری لمصلحة اقتضت کتمان الحکم الواقعی و لو مصلحة التقیة أو مصلحة التدرج فی بیان الأحکام کما هو المعلوم من طریقة النبی صلی اللّٰه علیه و آله فی بیان أحکام الشریعة مع أن الحکم الواقعی التابع للمصالح الواقعیة الثابتة للأشیاء بعناوینها الأولیة إنما هو علی طبق الخاص فإذا جاء الخاص یکون کاشفا عن الحکم الواقعی فیکون مبینا للعام و مخصصا له و أما الحکم العام الذی ثبت أولا ظاهرا و صورة إن کان قد ارتفع و انتهی أمده فإنه إنما ارتفع لارتفاع موضوعه و لیس هو من باب النسخ .و إذا جاز أن یکون العام واردا علی هذا النحو من بیان الحکم ظاهرا

ص :165

و صورة فإن ثبت ذلک کان الخاص مخصصا أی کان کاشفا عن الواقع قطعا و إن ثبت أنه فی صدد بیان الحکم الواقعی التابع للمصالح الواقعیة الثابتة للأشیاء بعناوینها الأولیة فلا شک فی أنه یتعین کون الخاص ناسخا له .و أما لو دار الأمر بینهما إذ لم یقم دلیل علی تعیین أحدهما فأیهما أرجح فی الحمل فنقول الأقرب إلی الصواب هو الحمل علی التخصیص .و الوجه فیه أن أصالة العموم بما هی لا تثبت أکثر من أن ما یظهر من العام هو المراد الجدی للمتکلم و لا شک أن الحکم الصوری الذی نسمیه بالحکم الظاهری کالواقع مراد جدی للمتکلم لأنه مقصود بالتفهیم فالعام لیس ظاهرا إلا فی أن المراد الجدی هو العموم سواء کان العموم حکما واقعیا أو صوریا أما أن الحکم واقعی فلا یقتضیه الظهور أبدا حتی یثبت بأصالة العموم لا سیما أن المعلوم من طریقة صاحب الشریعة هو بیان العمومات مجردة عن قرائن التخصیص و یکشف المراد الواقعی منها بدلیل منفصل حتی اشتهر القول بأنه ما من عام إلا و قد خص کما سبق .و علیه فلا دلیل من أصالة العموم علی أن الحکم واقعی حتی نلتجئ إلی الحمل علی النسخ بل إرادة الحکم الواقعی من العام علی ذلک الوجه یحتاج إلی مئونة بیان زائدة أکثر من ظهور العموم و لأجل هذا قلنا إن الحمل علی التخصیص أقرب إلی الصواب من الحمل علی النسخ و إن کان کل منهما ممکنا .

الصورة الثالثة

إذا کانا معلومی التاریخ مع تقدم الخاص فهذه أیضا علی صورتین 1 أن یرد العام قبل وقت العمل بالخاص فلا ینبغی الإشکال فی

ص :166

کون الخاص مخصصا .2 أن یرد بعد وقت العمل بالخاص فلا مجال لتوهم وجوب الحمل علی النسخ من جهة قبح تأخیر البیان عن وقت الحاجة لأنه من باب تقدیم البیان قبل وقت الحاجة و لا قبح فیه أصلا و مع ذلک قیل بلزوم الحمل علی النسخ و لعل نظر هذا القائل إلی أن أصالة العموم جاریة و لا مانع منها إلا احتمال أن یکون الخاص المتقدم مخصصا و قرینة علی العام و لکن أیضا یحتمل أن یکون منسوخا بالعام فلا یحرز أنه من باب القرینة .و لا شک أن الخاص المنفصل إنما یقدم علی العام لأنه أقوی الحجتین و قرینة علیه و مع هذا الاحتمال لا یکون الخاص المنفصل أقوی فی الظهور من العام .قلت الأصوب أن یحمل علی التخصیص کالصورة السابقة لما تقدم من أن العام لا یدل علی أکثر من أن المراد جدی و لا یدل فی نفسه علی أن الحکم واقعی تابع للمصالح الواقعیة الثابتة للأشیاء بعناوینها الأولیة .و إنما یکون العام ناسخا للخاص إذا کانت دلالته علی هذا النحو و إلا فالعمومات الواردة فی الشریعة علی الأغلب لیست کذلک و أما احتمال النسخ فلا یقلل من ظهور الخاص فی نفسه قطعا کما لا یرفع حجیته فیما هو ظاهر فیه فلا یخرجه عن کونه صالحا لتخصیص العام فیقدم علیه لأنه أقوی فی نفسه ظهورا .بل یمکن أن یقال إن العام اللاحق للخاص لا ینعقد له ظهور فی العموم إلا بدویا بالنسبة إلی من لا یعلم بسبق الخاص لجواز أن یعتمد المتکلم فی بیان مراده علی سبقه فیکون المخصص السابق کالمخصص المتصل أو کالقرینة الحالیة فلا یکون العام ظاهرا فی العموم حتی یتوهم أنه ظاهر فی

ص :167

ثبوت الحکم الواقعی .

الصورتان الرابعة و الخامسة

إذا کانا مجهولی التاریخ أو أحدهما فقط کان مجهولا فإنه یعلم الحال فیهما مما تقدم فیحمل علی التخصیص بلا کلام و لا وجه لتوهم النسخ لا سیما بعد أن رجحنا التخصیص فی جمیع الصور و هذا واضح لا یحتاج إلی مزید بیان

ص :168

الباب السادس المطلق و المقید

اشارة

ص :169

ص :170

و فیه ست مسائل

المسألة الأولی معنی المطلق و المقید

عرفوا(المطلق بأنه ما دل علی معنی شائع فی جنسه) و یقابله المقید و هذا التعریف قدیم بحثوا عنه کثیرا و أحصوا علیه عدة مؤاخذات یطول شرحها و لا فائدة فی ذکرها ما دام أن الغرض من مثل هذا التعریف هو تقریب المعنی الذی وضع له اللفظ لأنه من التعاریف اللفظیة .و الظاهر أنه لیس للأصولیین اصطلاح خاص فی لفظی المطلق و المقید بل هما مستعملان بما لهما من المعنی فی اللغة فإن المطلق مأخوذ من الإطلاق و هو الإرسال و الشیوع و یقابله التقیید تقابل الملکة و عدمها و الملکة التقیید و الإطلاق عدمها و قد تقدم ص 70 .غایة الأمر أن إرسال کل شیء بحسبه و ما یلیق به فإذا نسب الإطلاق و التقیید إلی اللفظ کما هو المقصود فی المقام فإنما یراد ذلک بحسب ما له من دلالة علی المعنی فیکونان وصفین للفظ باعتبار المعنی .و من موارد استعمال لفظ المطلق نستطیع أن نأخذ صورة تقریبیة لمعناه فمثلا عند ما نعرف أن العلم الشخصی و المعرف بلام العهد لا یسمیان مطلقین باعتبار معناهما لأنه لا شیوع و لا إرسال فی شخص معین لا ینبغی أن نظن أنه لا یجوز أن یسمی العلم الشخصی مطلقا فإنه إذا قال الآمر أکرم محمدا و عرفنا أن لمحمد أحوالا مختلفة و لم یقید الحکم بحال من الأحوال نستطیع أن نعرف أن لفظ محمد هنا أو هذا الکلام بمجموعه یصح أن نصفه بالإطلاق بلحاظ الأحوال و إن لم یکن له شیوع باعتبار

ص :171

معناه الموضوع له إذن للأعلام الشخصیة و المعرف بلام العهد إطلاق فلا یختص المطلق بما له معنی شائع فی جنسه کاسم الجنس و نحوه .و کذلک عند ما نعرف أن العام لا یسمی مطلقا فلا ینبغی أن نظن أنه لا یجوز أن یسمی مطلقا أبدا لأنا نعرف أن ذلک إنما هو بالنسبة إلی أفراده أما بالنسبة إلی أحوال أفراده غیر المفردة فإنه لا مضایقة فی أن نسمیه مطلقا .إذن لا مانع من شمول تعریف المطلق المتقدم و هو ما دل علی معنی شائع فی جنسه للعام باعتبار أحواله لا باعتبار أفراده .و علی هذا فمعنی المطلق هو شیوع اللفظ و سعته باعتبار ما له من المعنی و أحواله و لکن لا علی أن یکون ذلک الشیوع مستعملا فیه اللفظ کالشیوع المستفاد من وقوع النکرة فی سیاق النفی و إلا کان الکلام عاما لا مطلقا

المسألة الثانیة الإطلاق و التقیید متلازمان

أشرنا إلی أن التقابل بین الإطلاق و التقیید من باب تقابل الملکة و عدمها لأن الإطلاق هو عدم التقیید فیما من شأنه أن یقید فیتبع الإطلاق التقیید فی الإمکان أی أنه إذا أمکن التقیید فی الکلام و فی لسان الدلیل أمکن الإطلاق و لو امتنع استحال الإطلاق بمعنی أنه لا یمکن فرض استکشاف الإطلاق و إرادته من کلام المتکلم فی مورد لا یصح التقیید بل یکون مثل هذا الکلام لا مطلقا و لا مقیدا و إن کان فی الواقع أن المتکلم لا بد أن یرید أحدهما و قد تقدم مثاله فی بحث التوصلی و التعبدی ص 75 إذ قلنا إن امتناع تقیید الأمر بقصد الامتثال یستلزم امتناع إطلاقه بالنسبة إلی هذا القید و ذکرنا هناک کیف یمکن استکشاف إرادة الإطلاق بإطلاق المقام

ص :172

لا بإطلاق الکلام الواحد

المسألة الثالثة الإطلاق فی الجمل

الإطلاق لا یختص بالمفردات کما یظهر من کلمات الأصولیین إذ مثلوا للمطلق باسم الجنس و علم الجنس و النکرة بل یکون فی الجمل أیضا کإطلاق صیغة افعل الذی یقتضی استفادة الوجوب العینی و التعیینی و النفسی فإن الإطلاق فیها إنما هو من نوع إطلاق الجملة و مثله إطلاق الجملة الشرطیة فی استفادة الانحصار فی الشرط .و لکن محل البحث فی المسائل الآتیة خصوص الألفاظ المفردة و لعل عدم شمول البحث عندهم للجمل باعتبار أن لیس هناک ضابط کلی لمطلقاتها و إن کان الأصح أن بحث مقدمات الحکمة یشملها و قد بحث عن إطلاق بعض الجمل فی مناسباتها کإطلاق صیغة افعل و الجملة الشرطیة و نحوها

المسألة الرابعة هل الإطلاق بالوضع
اشارة

لا شک فی أن الإطلاق فی الأعلام بالنسبة إلی الأحوال کما تقدمت الإشارة إلیه لیس بالوضع بل إنما یستفاد من مقدمات الحکمة .و کذلک إطلاق الجمل و ما شابهها أیضا لیس بالوضع بل بمقدمات الحکمة و هذا لا خلاف فیه .و إنما الذی وقع فیه البحث هو أن الإطلاق فی أسماء الأجناس و ما شابهها هل هو بالوضع أو بمقدمات الحکمة أی أن أسماء الأجناس هل هی موضوعة لمعانیها بما هی شائعة و مرسلة علی وجه یکون الإرسال أی الإطلاق مأخوذا فی المعنی الموضوع له اللفظ کما نسب إلی المشهور من القدماء

ص :173

قبل سلطان العلماء أو أنها موضوعة لنفس المعانی بما هی و الإطلاق یستفاد من دال آخر و هو نفس تجرد اللفظ من القید إذا کانت مقدمات الحکمة متوفرة فیه و هذا القول الثانی أول من صرح به فیما نعلم سلطان العلماء فی حاشیته علی معالم الأصول و تبعه جمیع من تأخر عنه إلی یومنا هذا .و علی القول الأول یکون استعمال اللفظ فی المقید مجازا و علی القول الثانی یکون حقیقة .و الحق ما ذهب إلیه سلطان العلماء بل قیل إن نسبة القول الأول إلی المشهور مشکوک فیها و لتوضیح هذا القول و تحقیقه ینبغی بیان أمور ثلاثة تنفع فی هذا الباب (1) و فی غیر هذا الباب و بها تکشف للطالب ما وقع للعلماء الأعلام من اختلاف فی التعبیر بل فی الرأی و النظر و هذه الأمور التی ینبغی بیانها هی کما یلی

1 اعتبارات الماهیة

المشهور أن للماهیة ثلاثة اعتبارات إذا قیست إلی ما هو خارج عن ذاتها کما إذا قیست الرقبة إلی الإیمان عند الحکم علیها بحکم ما کوجوب العتق و هی 1 أن تعتبر الماهیة مشروطة بذلک الأمر الخارج و تسمی حینئذ الماهیة بشرط شیء کما إذا کان یجب عتق الرقبة المؤمنة أی بشرط کونها مؤمنة .

ص :174


1- وقد اضطررنا إلی الخروج عن الطریقة التی رسمناها لانفسنا فی هذا الکتاب فی الاختصار. ونعتقد أن الطالب المبتدئ الذی ینتهی إلی هنا یکون علی استعداد کاف لفهم هذه الابحاث. واضطررنا لهذا البحث باعتبار ماله من حاجة ماسة فی فهم الطالب لکثیر من الابحاث التی قد ترد علیه فیما یأتی.

2 أن تعتبر مشروطة بعدمه و تسمی الماهیة بشرط لا (1)کما إذا کان القصر واجبا فی الصلاة علی المسافر غیر العاصی فی سفره أی بشرط عدم کونه عاصیا لله فی سفره فأخذ عدم العصیان قیدا فی موضوع الحکم .3 ألا تعتبر مشروطة بوجوده و لا بعدمه و تسمی الماهیة لا بشرط کوجوب الصلاة علی الإنسان باعتبار کونه حرا مثلا فإن الحریة غیر معتبرة لا بوجودها و لا بعدمها فی وجوب الصلاة لأن الإنسان بالنظر إلی الحریة فی وجوب الصلاة علیه غیر مشروط بالحریة و لا بعدمها فهو لا بشرط بالقیاس إلیها .و یسمی هذا الاعتبار الثالث اللابشرط القسمی فی قبال اللابشرط المقسمی الآتی ذکره و إنما سمی قسمیا لأنه قسم فی مقابل القسمین الأولیین أی البشرط شیء و البشرط لا و هذا ظاهر لا بحث فیه .ثم إن لهم اصطلاحین آخرین معروفین 1 قولهم الماهیة المهملة .2 قولهم الماهیة لا بشرط مقسمی .أ فهذان اصطلاحان و تعبیران لمدلول واحد أو هما اصطلاحان مختلفان فی المعنی .و الذی یلجئنا إلی هذا الاستفسار ما وقع من الارتباک فی التعبیر عند کثیر من مشایخنا الأعلام فقد یظهر من بعضهم أنهما اصطلاحان لمعنی واحد کما هو ظاهر کفایة الأصول تبعا لبعض الفلاسفة الأجلاء .

ص :175


1- وقد تقال (الماهیة بشرط لا شئ) ویقصدون بذلک الماهیة المجردة علی وجه یکون کل ما یقارنها یعتبر زائدا علیها.

و لکن التحقیق لا یساعد علی ذلک بل هما اصطلاحان مختلفان و هذا جوابنا علی الاستفسار .و توضیح ذلک أنه من المتسالم علیه الذی لا اختلاف فیه و لا اشتباه أمران الأول أن المقصود من الماهیة المهملة الماهیة من حیث هی أی نفس الماهیة بما هی مع قطع النظر عن جمیع ما عداها فیقتصر النظر علی ذاتها و ذاتیاتها .الثانی أن المقصود من الماهیة لا بشرط مقسمی الماهیة المأخوذة لا بشرط التی تکون مقسما للاعتبارات الثلاثة المتقدمة و هی أی الاعتبارات الثلاثة الماهیة بشرط شیء و بشرط لا و لا بشرط قسمی و من هنا سمی مقسما و إذا ظهر ذلک فلا یصح أن یدعی أن الماهیة بما هی تکون بنفسها مقسما للاعتبارات الثلاثة و ذلک لأن الماهیة لا تخلو من حالتین و هذا أن ینظر إلیها بما هی هی غیر مقیسة إلی ما هو خارج عن ذاتها و أن ینظر إلیها مقیسة إلی ما هو خارج عن ذاتها و لا ثالث لهما .و فی الحالة الأولی تسمی الماهیة المهملة کما هو مسلم و فی الثانیة لا یخلو حالها من أحد الاعتبارات الثلاثة و علی هذا فالملاحظة الأولی مباینة لجمیع الاعتبارات الثلاثة و تکون قسیمة لها فکیف یصح أن تکون مقسما لها و لا یصح أن یکون الشیء مقسما لاعتبارات نقیضه لأن الماهیة من حیث هی کما اتضح معناها ملاحظتها غیر مقیسة إلی الغیر و الاعتبارات الثلاثة ملاحظتها مقیسة إلی الغیر .علی أن اعتبار الماهیة غیر مقیسة اعتبار ذهنی له وجود مستقل فی الذهن فکیف یکون مقسما لوجودات ذهنیة أخری مستقلة و المقسم یجب أن یکون

ص :176

موجودا بوجود أحد أقسامه و لا یعقل أن یکون له وجود فی مقابل وجودات الأقسام و إلا کان قسیما لها لا مقسما .و علیه فنحن نسلم أن الماهیة المهملة معناها اعتبارها لا بشرط و لکن لیس هو المصطلح علیه باللابشرط المقسمی فإن لهم فی لا بشرط علی هذا ثلاثة اصطلاحات 1 لا بشرط أی شیء خارج عن الماهیة و ذاتیاتها و هی الماهیة بما هی هی التی یقصر فیها النظر علی ذاتها و ذاتیاتها و هی الماهیة المهملة .2 لا بشرط مقسمی و هو الماهیة التی تکون مقسما للاعتبارات الثلاثة أی الماهیة المقیسة إلی ما هو خارج عن ذاتها و المقصود بلا بشرط هنا لا بشرط شیء من الاعتبارات الثلاثة أی لا بشرط اعتبار البشرط شیء و اعتبار البشرط لا و اعتبار اللابشرط لا أن المراد بلا بشرط هنا لا بشرط مطلقا من کل قید و حیثیة و لیس هذا اعتبارا ذهنیا فی قبال هذه الاعتبارات بل لیس له وجود فی عالم الذهن إلا بوجود واحد من هذه الاعتبارات و لا تعین له مستقل غیر تعیناتها و إلا لما کان مقسما .3 لا بشرط قسمی و هو الاعتبار الثالث من اعتبارات الماهیة المقیسة إلی ما هو خارج عن ذاتها .فاتضح أن الماهیة المهملة شیء و اللابشرط المقسمی شیء آخر کما اتضح أیضا أن الثانی لا معنی لأن یجعل من اعتبارات الماهیة علی وجه یثبت حکم للماهیة باعتباره أو یوضح له لفظ بحسبه

2 اعتبار الماهیة عند الحکم علیها

و اعلم أن الماهیة إذا حکم علیها فإما أن یحکم علیها بذاتیاتها و إما أن یحکم علیها بأمر خارج عنها و لا ثالث لهما .

ص :177

و علی الأول فهو علی صورتین 1 أن یکون الحکم بالحمل الأولی و ذلک فی الحدود التامة خاصة 2 أن یکون بالحمل الشائع و ذلک عند الحکم علیها ببعض ذاتیاتها کالجنس وحده أو الفصل وحده و علی کلا الصورتین فإن النظر إلی الماهیة مقصور علی ذاتیاتها غیر متجاوز فیه إلی ما هو خارج عنها و هذا لا کلام فیه .و علی الثانی فإنه لا بد من ملاحظتها مقیسة إلی ما هو خارج عنها فتخرج بذلک عن مقام ذاتها وحدها من حیث هی أی عن تقررها الذاتی الذی لا ینظر فیه إلا إلی ذاتها و ذاتیاتها و هذا واضح لأن قطع النظر عن کل ما عداها لا یجتمع مع الحکم علیها بأمر خارج عن ذاتها لأنهما متناقضان .و علیه لو حکم علیها بأمر خارج عنها و قد لوحظت مقیسة إلی هذا الغیر فلا بد أن تکون معتبرة بأحد الاعتبارات الثلاثة المتقدمة إذ یستحیل أن یخلو الواقع من أحدها کما تقدم و لا معنی لاعتبارها باللابشرط المقسمی لما تقدم أنه لیس هو تعینا مستقلا فی قبال تلک التعینات بل هو مقسم لها .ثم إن هذا الغیر أی الأمر الخارج عن ذاتها الذی لوحظت الماهیة مقیسة إلیه لا یخلو إما أن یکون نفس المحمول أو شیئا آخر فإن کان هو المحمول فیتعین أن تؤخذ الماهیة بالقیاس إلیه لا بشرط قسمی لعدم صحة الاعتبارین الآخرین أما أخذها بشرط شیء أی بشرط المحمول فلا یصح ذلک دائما لأنه یلزم أن تکون القضیة ضروریة دائما لاستحالة انفکاک المحمول عن الموضوع بشرط المحمول علی أن أخذ المحمول فی الموضوع یلزم منه حمل الشیء علی نفسه و تقدمه علی نفسه و هو مستحیل إلا إذا کان هناک تغایر بحسب

ص :178

الاعتبار کحمل الحیوان الناطق علی الإنسان فإنهما متغایران باعتبار الإجمال و التفصیل .و أما أخذها بشرط لا أی بشرط عدم المحمول فلا یصح لأنه یلزم التناقض فإن الإنسان بشرط عدم الکتابة یستحیل حمل الکتابة علیه .و إن کان هذا الغیر الخارج هو غیر المحمول فیجوز أن تکون الماهیة حینئذ مأخوذة بالقیاس إلیه بشرط شیء کجواز تقلید المجتهد بشرط العدالة أو بشرط لا کوجوب صلاة الظهر یوم الجمعة بشرط عدم وجود الإمام أو لا بشرط کجواز السلام علی المؤمن مطلقا بالقیاس إلی العدالة مثلا أی لا بشرط وجودها و لا بشرط عدمها کما یجوز أن تکون مهملة غیر مقیسة إلی شیء غیر محمولها .و لکن قد یستشکل فی کل ذلک بأن هذه الاعتبارات الثلاثة اعتبارات ذهنیة لا موطن لها إلا الذهن فلو تقیدت الماهیة بأحدها عند ما تؤخذ موضوعا للحکم للزم أن تکون جمیع القضایا ذهنیة عدا حمل الذاتیات التی قد اعتبرت فیها الماهیة من حیث هی و لبطلت القضایا الخارجیة و الحقیقیة مع أنها عمدة القضایا بل لاستحال فی التکالیف الامتثال لأن ما هو موطنه الذهن یمتنع إیجاده فی الخارج .و هذا الإشکال وجیه لو کان الحکم علی الموضوع بما هو معتبر بأحد الاعتبارات الثلاثة علی وجه یکون الاعتبار قیدا فی الموضوع أو نفسه هو الموضوع و لکن لیس الأمر کذلک فإن الموضوع فی کل تلک القضایا هو ذات الماهیة المعتبرة و لکن لا بقید الاعتبار بمعنی أن الموضوع فی بشرط شیء الماهیة المقترنة بذلک الشیء لا المقترنة بلحاظه و اعتباره و فی بشرط لا الماهیة المقترنة بعدمه لا بلحاظ عدمه و فی لا بشرط الماهیة غیر الملاحظ

ص :179

معها الشیء و لا عدمه لا الملاحظة بعدم لحاظ الشیء و عدمه و إلا لکانت الماهیة معتبرة فی الجمیع بشرط شیء فقط أی بشرط اللحاظ و الاعتبار .نعم هذه الاعتبارات هی المصححة لموضوعیة الموضوع علی الوجه اللازم الذی یقتضیه واقع الحکم لا أنها مأخوذة قیدا فیه حتی تکون جمیع القضایا ذهنیة و لو کان الأمر کذلک لکان الحکم بالذاتیات أیضا قضیة ذهنیة لأن اعتبار الماهیة من حیث هی أیضا اعتبار ذهنی .و مما یقرب ما قلناه من کون الاعتبار مصححا لموضوعیة الموضوع لا مأخوذا فیه مع أنه لا بد منه عند الحکم بشیء أن کل موضوع و محمول لا بد من تصوره فی مقام الحمل و إلا لاستحال الحمل و لکن هذه اللابدیة لا تجعل التصور قیدا للموضوع أو المحمول و إنما التصور هو المصحح للحمل و بدونه لا یمکن الحمل .و کذلک عند استعمال اللفظ فی معناه لا بد من تصور اللفظ و المعنی و لکن التصور لیس قیدا للفظ و لا للمعنی فلیس اللفظ دالا بما هو متصور فی الذهن و إن کانت دلالته فی ظرف التصور و لا المعنی مدلولا بما هو متصور و إن کانت مدلولیته فی ظرف تصوره و یستحیل أن یکون التصور قیدا للفظ أو المعنی و مع ذلک لا یصح الاستعمال بدونه فالتصور مقوم للاستعمال لا للمستعمل فیه و لا للفظ و کذلک هو مقوم للحمل و مصحح له لا للمحمول و لا للمحمول علیه .و علی هذا یتضح ما نحن بصدد بیانه و هو أنه إذا أردنا أن نضع اللفظ للمعنی لا یعقل أن نقصر اللحاظ علی ذات المعنی بما هو هو مع قطع النظر عن کل ما عداه لأن الوضع من المحمولات الواردة علیه فلا بد أن یلاحظ المعنی حینئذ مقیسا إلی ما هو خارج عن ذاته فقد یؤخذ بشرط

ص :180

شیء و قد یؤخذ بشرط لا و قد یؤخذ لا بشرط و لا یلزم أن یکون الموضوع له هو المعنی بما له من الاعتبار الذهنی بل الموضوع له نفس المعتبر و ذاته لا بما هو معتبر و الاعتبار مصحح للوضع .

3 الأقوال فی المسألة

قلنا فیما سبق أن المعروف عن قدماء الأصحاب أنهم یقولون بأن أسماء الأجناس موضوعة للمعانی المطلقة علی وجه یکون الإطلاق قیدا للموضوع له فلذلک ذهبوا إلی أن استعماله فی المقید مجاز و قد صور هذا القول علی نحوین الأول أن الموضوع له المعنی بشرط الإطلاق علی وجه یکون اعتباره من باب اعتباره بشرط شیء .الثانی أن الموضوع له المعنی المطلق أی المعتبر لا بشرط .و قد أورد علی هذا القول بتصویریه کما تقدم بأنه یلزم علی کلا التصویرین أن یکون الموضوع له موجودا ذهنیا فتکون جمیع القضایا ذهنیة فلو جعل اللفظ بما له من معناه موضوعا فی القضیة الخارجیة أو الحقیقیة وجب تجریده عن هذا القید الذهنی فیکون مجازا دائما فی القضایا المتعارفة و هذا یکذبه الواقع .و لکن نحن قلنا إن هذا الإیراد إنما یتوجه إذا جعل الاعتبار قیدا فی الموضوع له أما لو جعل الاعتبار مصححا للوضع فلا یلزم هذا الإیراد کما سبق .هذا قول القدماء و أما المتأخرون ابتداء من سلطان العلماء رحمه الله فإنهم جمیعا اتفقوا علی أن الموضوع له ذات المعنی لا المعنی المطلق حتی

ص :181

لا یکون استعمال اللفظ فی المقید مجازا و هذا القول بهذا المقدار من البیان واضح و لکن العلماء من أساتذتنا اختلفوا فی تأدیة هذا المعنی بالعبارات الفنیة مما أوجب الارتباک علی الباحث و إغلاق طریق البحث فی المسألة .لذلک التجأنا إلی تقدیم المقدمتین السابقتین لتوضیح هذه الاصطلاحات و التعبیرات الفنیة التی وقعت فی عباراتهم و اختلفوا فیها علی أقوال 1 منهم من قال إن الموضوع له هو الماهیة المهملة المبهمة أی الماهیة من حیث هی .2 و منهم من قال إن الموضوع له الماهیة المعتبرة باللابشرط المقسمی .3 و منهم من جعل التعبیر الأول نفس التعبیر الثانی .4 و منهم من قال إن الموضوع له ذات المعنی لا الماهیة المهملة و لا الماهیة المعتبرة باللابشرط المقسمی و لکنه ملاحظ حین الوضع باعتبار اللابشرط القسمی علی أن یکون هذا الاعتبار مصححا للموضوع لا قیدا للموضوع له و علیه یکون هذا القول نفس قول القدماء علی التصویر الثانی إلا أنه لا یلزم منه أن یکون استعمال اللفظ فی المقید مجازا .و لکن المنسوب إلی القدماء أنهم یقولون بأنه مجاز فی المقید فینحصر قولهم فی التصویر الأول علی تقدیر صحة النسبة إلیهم .و یتضح حال هذه التعبیرات أو الأقوال من المقدمتین السابقتین فإنه یعرف منهما أولا أن الماهیة بما هی هی غیر الماهیة باعتبار اللابشرط المقسمی لأن النظر فیها علی الأول مقصور علی ذاتها و ذاتیاتها بخلافه علی الثانی إذ تلاحظ مقیسة إلی الغیر و بهذا یظهر بطلان القول الثالث .ثانیا أن الوضع حکم من الأحکام و هو محمول علی الماهیة خارج

ص :182

عن ذاتها و ذاتیاتها فلا یعقل أن یلاحظ الموضوع له بنحو الماهیة بما هی هی لأنه لا تجتمع ملاحظتها مقیسة إلی الغیر و ملاحظتها مقصورة علی ذاتها و ذاتیاتها و بهذا یظهر بطلان القول الأول .ثالثا أن اللابشرط المقسمی لیس اعتبارا مستقلا فی قبال الاعتبارات الثلاثة لأن المفروض أنه مقسم لها و لا تحقق للمقسم إلا بتحقق أحد أنواعه کما تقدم فکیف یتصور أن یحکم باعتبار اللابشرط المقسمی بل لا معنی لهذا علی ما تقدم توضیحه و بهذا یظهر بطلان القول الثانی .فتعین القول الرابع و هو أن الموضوع له ذات المعنی و لکنه حین الوضع یلاحظ المعنی بنحو اللابشرط القسمی و هو یطابق القول المنسوب إلی القدماء علی التصویر الثانی کما أشرنا إلیه فلا اختلاف و یقع التصالح بین القدماء و المتأخرین إذا لم یثبت عن القدماء أنهم یقولون إنه مجاز فی المقید و هو مشکوک فیه .بیان هذا القول الرابع أن ذات المعنی لما أراد الواضع أن یحکم علیه بوضع لفظ له فمعناه أنه قد لاحظه مقیسا إلی الغیر فهو فی هذا الحال لا یخرج عن کونه معتبرا بأحد الاعتبارات الثلاثة للماهیة و إذ یراد تسریة الوضع لذات المعنی بجمیع أطواره و حالاته و قیوده لا بد أن یعتبر علی نحو اللابشرط القسمی و لا منافاة بین کون الموضوع له ذات المعنی و بین کون ذات المعنی ملحوظا فی مرحلة الوضع بنحو اللابشرط القسمی لأن هذا اللحاظ و الاعتبار الذهنی کما تقدم صرف طریق إلی الحکم علی ذات المعنی و هو المصحح للموضوع له و حین الاستعمال فی ذات المعنی لا یجب أن یکون المعنی ملحوظا بنحو اللابشرط القسمی بل یجوز أن یعتبر بأی اعتبار کان ما دام الموضوع له ذات المعنی فیجوز فی مرحلة الاستعمال أن یقصر النظر علی نفسه و یلاحظه بما هو هو و یجوز أن یلاحظه مقیسا إلی الغیر

ص :183

فیعتبر بأحد الاعتبارات الثلاثة و ملاحظة ذات المعنی بنحو اللابشرط القسمی حین الوضع تصحیحا له لا توجب أن تکون قیدا للموضوع له .و علیه فلا یکون الموضوع له موجودا ذهنیا إذا کان له اعتبار اللابشرط القسمی حین الوضع لأنه لیس الموضوع له هو المعتبر بما هو معتبر بل ذات المعتبر کما أن استعماله فی المقید لا یکون مجازا لما تقدم أنه یجوز أن یلاحظ ذات المعنی حین الاستعمال مقیسا إلی الغیر فیعتبر بأحد الاعتبارات الثلاثة التی منها اعتباره بشرط شیء و هو المقید

المسألة الخامسة مقدمات الحکمة
اشارة

لما ثبت أن الألفاظ موضوعة لذات المعانی لا للمعانی بما هی مطلقة فلا بد فی إثبات أن المقصود من اللفظ هو المطلق لتسریة الحکم إلی تمام الأفراد و المصادیق من قرینة خاصة أو قرینة عامة تجعل الکلام فی نفسه ظاهرا فی إرادة الإطلاق .و هذه القرینة العامة إنما تحصل إذا توفرت جملة مقدمات تسمی مقدمات الحکمة و المعروف أنها ثلاث الأولی إمکان الإطلاق و التقیید بأن یکون متعلق الحکم أو موضوعه قبل فرض تعلق الحکم به قابلا للانقسام فلو لم یکن قابلا للقسمة إلا بعد فرض تعلق الحکم به کما فی باب قصد القربة فإنه یستحیل فیه التقیید فیستحیل فیه الإطلاق کما تقدم فی بحث التعبدی و التوصلی و هذا واضح .الثانیة عدم نصب قرینة علی التقیید لا متصلة و لا منفصلة لأنه مع القرینة المتصلة لا ینعقد ظهور للکلام إلا فی المقید و مع المنفصلة

ص :184

ینعقد للکلام ظهور فی الإطلاق و لکنه یسقط عن الحجیة لقیام القرینة المقدمة علیه و الحاکمة فیکون ظهوره ظهورا بدویا کما قلنا فی تخصیص العموم بالخاص المنفصل و لا تکون للمطلق الدلالة التصدیقیة الکاشفة عن مراد المتکلم بل الدلالة التصدیقیة إنما هی علی إرادة التقیید واقعا .الثالثة أن یکون المتکلم فی مقام البیان فإنه لو لم یکن فی هذا المقام بأن کان فی مقام التشریع فقط أو کان فی مقام الإهمال إما رأسا أو لأنه فی صدد بیان حکم آخر فیکون فی مقام الإهمال من جهة مورد الإطلاق و سیأتی مثاله فإنه فی کل ذلک لا ینعقد للکلام ظهور فی الإطلاق أما فی مقام التشریع بأن کان فی مقام بیان الحکم لا للعمل به فعلا بل لمجرد تشریعه فیجوز ألا یبین تمام مراده مع أن الحکم فی الواقع مقید بقید لم یذکره فی بیانه انتظارا لمجیء وقت العمل فلا یحرز أن المتکلم فی صدد بیان جمیع مراده و کذلک إذا کان المتکلم فی مقام الإهمال رأسا فإنه لا ینعقد معه ظهور فی الإطلاق کما لا ینعقد للکلام ظهور فی أی مرام و مثله ما إذا کان فی صدد حکم آخر مثل قوله تعالی فَکُلُوا مِمّٰا أَمْسَکْنَ الوارد فی مقام بیان حل صید الکلاب المعلمة من جهة کونه میتة و لیس هو فی مقام بیان مواضع الإمساک أنها تتنجس فیجب تطهیرها أم لا فلم یکن هو فی مقام بیان هذه الجهة فلا ینعقد للکلام ظهور فی الإطلاق من هذه الجهة .و لو شک فی أن المتکلم فی مقام البیان أو الإهمال فإن الأصل العقلائی یقتضی بأن یکون فی مقام البیان فإن العقلاء کما یحملون المتکلم علی أنه ملتفت غیر غافل و جاد غیر هازل عند الشک فی ذلک کذلک یحملونه علی أنه فی مقام البیان و التفهیم لا فی مقام الإهمال و الإیهام .

ص :185

و إذا تمت هذه المقدمات الثلاث فإن الکلام المجرد عن القید یکون ظاهرا فی الإطلاق و کاشفا عن أن المتکلم لا یرید المقید و إلا لو کان قد أراده واقعا لکان علیه البیان و المفروض أنه حکیم ملتفت جاد غیر هازل و هو فی مقام البیان و لا مانع من التقیید حسب الفرض و إذا لم یبین و لم یقید کلامه فیعلم أنه أراد الإطلاق و إلا لکان مخلا بغرضه .فاتضح من ذلک أن کل کلام صالح للتقیید و لم یقیده المتکلم مع کونه حکیما ملتفتا جادا و فی مقام البیان و التفهیم فإنه یکون ظاهرا فی الإطلاق و یکون حجة علی المتکلم و السامع .

تنبیهان
القدر المتیقن فی مقام التخاطب

الأول(أن الشیخ المحقق صاحب الکفایة قدس سره أضاف إلی مقدمات الحکمة مقدمة أخری غیر ما تقدم و هی ألا یکون هناک قدر متیقن فی مقام التخاطب و المحاورة و إن کان لا یضر وجود القدر المتیقن خارجا فی التمسک بالإطلاق و مرجع ذلک إلی أن وجود القدر المتیقن فی مقام المحاورة یکون بمنزلة القرینة اللفظیة علی التقیید فلا ینعقد للفظ ظهور فی الإطلاق مع فرض وجوده) و لتوضیح البحث نقول إن کون المتکلم فی مقام البیان یتصور علی نحوین 1 أن یکون المتکلم فی صدد بیان تمام موضوع حکمه بأن یکون غرض المتکلم یتوقف علی أن یبین للمخاطب و یفهمه ما هو تمام الموضوع

ص :186

و أن ما ذکره هو تمام موضوعه لا غیره .2 أن یکون المتکلم فی صدد بیان تمام موضوع الحکم واقعا و لو لم یفهم المخاطب أنه تمام الموضوع فلیس له غرض إلا بیان ذات موضوع الحکم بتمامه حتی یحصل من المکلف الامتثال و إن لم یفهم المکلف تفصیل الموضوع بحدوده .فإن کان المتکلم فی مقام البیان علی النحو الأول فلا شک فی أن وجود القدر المتیقن فی مقام المحاورة لا یضر فی ظهور المطلق فی إطلاقه فیجوز التمسک بالإطلاق لأنه لو کان القدر المتیقن المفروض هو تمام الموضوع لوجب بیانه و ترک البیان اتکالا علی وجود القدر المتیقن إخلال بالغرض لأنه لا یکون مجرد ذلک بیانا لکونه تمام الموضوع .و إن کان المتکلم فی مقام البیان علی النحو الثانی فإنه یجوز أن یکتفی بوجود القدر المتیقن فی مقام التخاطب لبیان تمام موضوعه واقعا ما دام أنه لیس له غرض إلا أن یفهم المخاطب ذات الموضوع بتمامه لا بوصف التمام أی أن یفهم ما هو تمام الموضوع بالحمل الشائع و بذلک یحصل التبلیغ للمکلف و یمتثل فی الموضوع الواقعی لأنه هو المفهوم عنده فی مقام المحاورة و لا یجب فی مقام الامتثال أن یفهم أن الذی فعله هو تمام الموضوع أو الموضوع أعم منه و من غیره .مثلا لو قال المولی اشتر اللحم و کان القدر المتیقن فی مقام المحاورة هو لحم الغنم و کان هو تمام موضوعه واقعا فإن وجود هذا القدر المتیقن کاف لانبعاث المکلف و شرائه للحم الغنم فیحصل موضوع حکم المولی فلو أن المولی لیس له غرض أکثر من تحقیق موضوع حکمه فیجوز له الاعتماد علی القدر المتیقن لتحقیق غرضه و لبیانه

ص :187

و لا یحتاج إلی أن یبین أنه تمام الموضوع أما لو کان غرضه أکثر من ذلک بأن کان غرضه أن یفهم المکلف تحدید الموضوع بتمامه فلا یجوز له الاعتماد علی القدر المتیقن و إلا لکان مخلا بغرضه فإذا لم یبین و أطلق الکلام استکشف أن تمام موضوعه هو المطلق الشامل للقدر المتیقن و غیره .إذا عرف هذا التقریر فینبغی أن نبحث عما ینبغی للأمر أن یکون بصدد بیانه هل إنه علی النحو الأول أو الثانی .و الذی یظهر من الشیخ صاحب الکفایة أنه لا ینبغی من الأمر أکثر من النحو الثانی نظرا إلی أنه إذا کان بصدد بیان موضوع حکمه حقیقة کفاه ذلک لتحصیل مطلوبه و هو الامتثال و لا یجب علیه مع ذلک بیان أنه تمام الموضوع .نعم إذا کان هناک قدر متیقن فی مقام المحاورة و کان تمام الموضوع هو المطلق فقد یظن المکلف أن القدر المتیقن هو تمام الموضوع و أن المولی أطلق کلامه اعتمادا علی وجوده فإن المولی دفعا لهذا الوهم یجب علیه أن یبین أن المطلق هو تمام موضوعه و إلا کان مخلا بغرضه .و من هذا ینتج أنه إذا کان هناک قدر متیقن فی مقام المحاورة و أطلق المولی و لم یبین أنه تمام الموضوع فإنه یعرف منه أن موضوعه هو القدر المتیقن .هذا خلاصة ما ذهب إلیه فی الکفایة مع تحقیقه و توضیحه و لکن شیخنا النائینی رحمه الله علی ما یظهر من التقریرات لم یرتضیه و الأقرب إلی الصحة ما فی الکفایة و لا نطیل بذکر هذه المناقشة و الجواب عنها

ص :188

الانصراف

التنبیه الثانی اشتهر أن انصراف الذهن من اللفظ إلی بعض مصادیق معناه أو بعض أصنافه یمنع من التمسک بالإطلاق و إن تمت مقدمات الحکمة مثل انصراف المسح فی آیتی التیمم و الوضوء إلی المسح بالید و بباطنها خاصة .و الحق أن یقال إن انصراف الذهن إن کان ناشئا من ظهور اللفظ فی المقید بمعنی أن نفس اللفظ ینصرف منه المقید لکثرة استعماله فیه و شیوع إرادته منه فلا شک فی أنه حینئذ لا مجال للتمسک بالإطلاق لأن هذا الظهور یجعل اللفظ بمنزلة المقید بالتقیید اللفظی و معه لا ینعقد للکلام ظهور فی الإطلاق حتی یتمسک بأصالة الإطلاق التی هی مرجعها فی الحقیقة إلی أصالة الظهور .و أما إذا کان الانصراف غیر ناشئ من اللفظ بل کان من سبب خارجی کغلبة وجود الفرد المنصرف إلیه أو تعارف الممارسة الخارجیة له فیکون مألوفا قریبا إلی الذهن من دون أن یکون للفظ تأثیر فی هذا الانصراف کانصراف الذهن من لفظ الماء فی العراق مثلا إلی ماء دجلة أو الفرات فالحق أنه لا أثر لهذا الانصراف فی ظهور اللفظ فی إطلاقه فلا یمنع من التمسک بأصالة الإطلاق لأن هذا الانصراف قد یجتمع مع القطع بعدم إرادة المقید بخصوصه من اللفظ و لذا یسمی هذا الانصراف باسم الانصراف البدوی لزواله عند التأمل و مراجعة الذهن .و هذا کله واضح لا ریب فیه و إنما الشأن فی تشخیص الانصراف أنه من أی النحوین فقد یصعب التمییز أحیانا بینهما للاختلاط علی الإنسان

ص :189

فی منشإ هذا الانصراف و ما أسهل دعوی الانصراف علی لسان غیر المتثبت و قد لا یسهل إقامة الدلیل علی أنه من أی نوع .فعلی الفقیه أن یتثبت فی مواضع دعوی الانصراف و هو یحتاج إلی ذوق عال و سلیقة مستقیمة و قلما تخلو آیة کریمة أو حدیث شریف فی مسألة فقهیة عن انصرافات تدعی و هنا تظهر قیمة التضلع باللغة و فقهها و آدابها و هو باب یکثر الابتلاء به و له الأثر الکبیر فی استنباط الأحکام من أدلتها .أ لا تری أن المسح فی الآیتین ینصرف إلی المسح بالید و کون هذا الانصراف مستندا إلی اللفظ لا شک فیه و ینصرف أیضا إلی المسح بخصوص باطن الید و لکن قد یشک فی کون هذا الانصراف مستندا إلی اللفظ فإنه غیر بعید أنه ناشئ من تعارف المسح بباطن الید لسهولته و لأنه مقتضی طبع الإنسان فی مسحه و لیس له علاقة باللفظ و لذا أن جملة من الفقهاء أفتوا بجواز المسح بظهر الید عند تعذر المسح بباطنها تمسکا بإطلاق الآیة و لا معنی للتمسک بالإطلاق لو کان للفظ ظهور فی المقید و أما عدم تجویزهم للمسح بظاهر الید عند الاختیار فلعله للاحتیاط إذ إن المسح بالباطن هو القدر المتیقن و المفروض حصول الشک فی کون هذا الانصراف بدویا فلا یطمأن کل الاطمئنان بالتمسک بالإطلاق عند الاختیار و طریق النجاة هو الاحتیاط بالمسح بالباطن

المسألة السادسة المطلق و المقید المتنافیان

معنی التنافی بین المطلق و المقید أن التکلیف فی المطلق لا یجتمع و التکلیف فی المقید مع فرض المحافظة علی ظهورهما معا أی أنهما یتکاذبان فی ظهورهما مثل قول الطبیب مثلا اشرب لبنا ثم یقول اشرب لبنا

ص :190

حلوا و ظاهر الثانی تعیین شرب الحلو منه و ظاهر الأول جواز شرب غیر الحلو حسب إطلاقه .و إنما یتحقق التنافی بین المطلق و المقید إذا کان التکلیف فیهما واحدا کالمثال المتقدم فلا یتنافیان لو کان التکلیف فی أحدهما معلقا علی شیء و فی الآخر معلقا علی شیء آخر کما إذا قال الطبیب فی المثال إذا أکلت فاشرب لبنا و عند الاستیقاظ من النوم اشرب لبنا حلوا و کذلک لا یتنافیان لو کان التکلیف فی المطلق التزامیا و فی المقید علی نحو الاستحباب ففی المثال لو وجب أصل شرب اللبن فإنه لا ینافیه رجحان الحلو منه باعتبار أحد أفراد الواجب و کذا لا یتنافیان لو فهم من التکلیف فی المقید أنه تکلیف فی وجود ثان غیر المطلوب من التکلیف الأول کما إذا فهم فی المقید فی المثال طلب شرب اللبن الحلو ثانیا بعد شرب لبن ما .إذا فهمت ما سقناه لک من معنی التنافی فنقول لو ورد فی لسان الشارع مطلق و مقید متنافیان سواء تقدم أو تأخر و سواء کان مجیء المتأخر بعد وقت العمل بالمتقدم أو قبله فإنه لا بد من الجمع بینهما إما بالتصرف فی ظهور المطلق فیحمل علی المقید أو بالتصرف فی المقید علی وجه لا ینافی الإطلاق فیبقی ظهور المطلق علی حاله .و ینبغی البحث هنا فی أنه أی التصرفین أولی بالأخذ فنقول هذا یختلف باختلاف الصور فیهما فإن المطلق و المقید إما أن یکونا مختلفین فی الإثبات أو النفی و إما أن یکونا متفقین .الأول أن یکونا مختلفین فلا شک حینئذ فی حمل المطلق علی المقید لأن المقید یکون قرینة علی المطلق فإذا قال اشرب اللبن ثم قال لا تشرب اللبن الحامض فإنه یفهم منه أن المطلوب هو شرب اللبن الحلو و هذا لا یفرق فیه بین أن یکون إطلاق المطلق بدلیا نحو قوله

ص :191

أعتق رقبة و بین أن یکون شمولیا مثل قوله فی الغنم زکاة المقید بقوله لیس فی الغنم المعلوفة زکاة .الثانی أن یکونا متفقین و له مقامان المقام الأول أن یکون الإطلاق بدلیا و المقام الثانی أن یکون شمولیا .فإن کان الإطلاق بدلیا فإن الأمر فیه یدور بین التصرف فی ظاهر المطلق بحمله علی المقید و بین التصرف فی ظاهر المقید و المعروف أن التصرف الأول هو الأولی لأنه لو کانا مثبتین مثل قوله أعتق رقبة مؤمنة فإن المقید ظاهر فی أن الأمر فیه للوجوب التعیینی فالتصرف فیه إما بحمله علی الاستحباب أی أن الأمر بعتق الرقبة المؤمنة بخصوصها باعتبار أنها أفضل الأفراد أو بحمله علی الوجوب التخییری أی أن الأمر بعتق الرقبة المؤمنة باعتبار أنها أحد أفراد الواجب لا لخصوصیة فیها حتی خصوصیة الأفضلیة .و هذان التصرفان و إن کانا ممکنین لکن ظهور المقید فی الوجوب التعیینی مقدم علی ظهور المطلق فی إطلاقه لأن المقید صالح لأن یکون قرینة للمطلق و لعل المتکلم اعتمد علیه فی بیان مرامه و لو فی وقت آخر لا سیما مع احتمال أن المطلق الوارد کان محفوفا بقرینة متصلة غابت عنا فیکون المقید کاشفا عنها .و إن کان الإطلاق شمولیا مثل قوله فی الغنم زکاة و قوله فی الغنم السائمة زکاة فلا تتحقق المنافاة بینهما حتی یجب التصرف فی أحدهما لأن وجوب الزکاة فی الغنم السائمة بمقتضی الجملة الثانیة لا ینافی وجوب الزکاة فی غیر السائمة إلا علی القول بدلالة التوصیف علی المفهوم و قد عرفت أنه لا مفهوم للوصف و علیه فلا منافاة بین الجملتین لنرفع بها عن إطلاق المطلق

ص :192

الباب السابع المجمل و المبین

اشارة

ص :193

ص :194

و فیه مسائل

1 معنی المجمل و المبین

(عرفوا المجمل اصطلاحا بأنه ما لم تتضح دلالته)و یقابله المبین و قد ناقشوا هذا التعریف بوجوه لا طائل فی ذکرها و المقصود من المجمل علی کل حال ما جهل فیه مراد المتکلم و مقصوده إذا کان لفظا و ما جهل فیه مراد الفاعل و مقصوده إذا کان فعلا و مرجع ذلک إلی أن المجمل هو اللفظ أو الفعل الذی لا ظاهر له و علیه یکون المبین ما کان له ظاهر یدل علی مقصود قائله أو فاعله علی وجه الظن أو الیقین فالمبین یشمل الظاهر و النص معا .و من هذا البیان نعرف أن المجمل یشمل اللفظ و الفعل و اصطلاحا و إن قیل إن المجمل اصطلاحا مختص بالألفاظ و من باب التسامح یطلق علی الفعل و معنی کون الفعل مجملا أن یجهل وجه وقوعه کما لو توضأ الإمام علیه السلام مثلا بحضور واحد یتقی منه أو یحتمل أنه یتقیه فیحتمل أن وضوءه وقع علی وجه التقیة فلا یستکشف مشروعیة الوضوء علی الکیفیة التی وقع علیها و یحتمل أنه وقع علی وجه الامتثال للأمر الواقعی فیستکشف منه مشروعیته و مثل ما إذا فعل الإمام شیئا فی الصلاة کجلسة الاستراحة مثلا فلا یدری أن فعله کان علی وجه الوجوب أو الاستحباب فمن هذه الناحیة یکون مجملا و إن کان من ناحیة دلالته علی جواز الفعل فی مقابل الحرمة یکون مبینا .و أما اللفظ فإجماله یکون لأسباب کثیرة قد یتعذر إحصاؤها (1) فإذا

ص :195


1- 1) راجع بحث المغالطات اللفظیة من الجزء الثالث من کتاب المنطق للمؤلف ص 143 تجد ما یعینک علی إحصاء أسباب إجمال اللفظ.

کان مفردا فقد یکون إجماله لکونه لفظا مشترکا و لا قرینة علی أحد معانیه کلفظ عین و کلمة تضرب المشترکة بین المخاطب و الغائبة و المختار المشترک بین اسم الفاعل و اسم المفعول .و قد یکون إجماله لکونه مجازا أو لعدم معرفة عود الضمیر فیه الذی هو من نوع مغالطة المماراة مثل قول القائل لما سئل عن فضل أصحاب النبی صلی اللّٰه علیه و آله فقال من بنته فی بیته و کقول عقیل أمرنی معاویة أن أسب علیا ألا فالعنوه .و قد یکون الإجمال لاختلال الترکیب کقوله و ما مثله فی الناس إلا مملکا أبو أمه حی أبوه یقاربه و قد یکون الإجمال لوجود ما یصلح للقرینة کقوله تعالی مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّٰهِ وَ الَّذِینَ مَعَهُ أَشِدّٰاءُ عَلَی الْکُفّٰارِ الآیة فإن هذا الوصف فی الآیة یدل علی عدالة جمیع من کان مع النبی من أصحابه إلا أن ذیل الآیة وَعَدَ اللّٰهُ الَّذِینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِیماً صالح لأن یکون قرینة علی أن المراد بجملة و الذین معه بعضهم لا جمیعهم فتصبح الآیة مجملة من هذه الجهة .و قد یکون الإجمال لکون المتکلم فی مقام الإهمال و الإجمال إلی غیر ذلک من موارد الإجمال مما لا فائدة کبیرة فی إحصائه و تعداده هنا .ثم اللفظ قد یکون مجملا عند شخص مبینا عند شخص آخر ثم المبین قد یکون فی نفسه مبینا و قد یکون مبینا بکلام آخر یوضح المقصود منه

ص :196

2 المواضع التی وقع الشک فی إجمالها
اشارة

لکل من المجمل و المبین أمثلة من الآیات و الروایات و الکلام العربی لا حصر لها و لا تخفی علی العارف بالکلام إلا أن بعض المواضع قد وقع الشک فی کونها مجملة أو مبینة و المتعارف عند الأصولیین أن یذکروا بعض الأمثلة من ذلک لشحذ الذهن و التمرین و نحن نذکر بعضها اتباعا لهم و لا تخلو من فائدة للطلاب المبتدءین .فمنها قوله تعالی وَ السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُمٰا .فقد ذهب جماعة إلی أن هذه الآیة من المجمل المتشابه إما من جهة لفظ القطع باعتبار أنه یطلق علی الإبانة و یطلق علی الجرح کما یقال لمن جرح یده بالسکین قطعها کما یقال لمن أبانها کذلک و إما من جهة لفظ الید باعتبار أن الید تطلق علی العضو المعروف کله و علی الکف إلی أصول الأصابع و علی العضو إلی الزند و إلی المرفق فیقال مثلا تناولت بیدی و إنما تناول بالکف بل بالأنامل فقط .و الحق أنها من ناحیة لفظ القطع لیست مجملة لأن المتبادر من لفظ القطع هو الإبانة و الفصل و إذا أطلق علی الجرح فباعتبار أنه أبان قسما من الید فتکون المسامحة فی لفظ الید عند وجود القرینة لا أن القطع استعمل فی مفهوم الجرح فیکون المراد فی المثال من الید بعضها کما تقول تناولت بیدی و فی الحقیقة إنما تناولت ببعضها .و أما من ناحیة الید فإن الظاهر أن اللفظ لو خلی و نفسه یستفاد منه إرادة تمام العضو المخصوص و لکنه غیر مراد یقینا فی الآیة فیتردد بین المراتب العدیدة من الأصابع إلی المرافق لأنه بعد فرض عدم إرادة تمام

ص :197

العضو لم تکن ظاهرة فی واحدة من هذه المراتب فتکون الآیة مجملة فی نفسها من هذه الناحیة و إن کانت مبینة بالأحادیث عن آل البیت علیهم السلام الکاشفة عن إرادة القطع من أصول الأصابع .و منها(قوله صلی اللّٰه علیه و آله:لا صلاة إلا بفاتحة الکتاب) و أمثاله من المرکبات التی تشتمل علی کلمة لا التی لنفی الجنس نحو(:لا صلاة إلا بطهور) و(:لا بیع إلا فی ملک) و(:لا صلاة لمن جاره المسجد إلا فی المسجد) و(:لا غیبة لفاسق)و(:لا جماعة فی نافلة)و نحو ذلک .فإن النافی فی مثل هذه المرکبات موجه ظاهرا لنفس الماهیة و الحقیقة .و قالوا إن إرادة نفی الماهیة متعذر فیها فلا بد أن یقدر بطریق المجاز وصف للماهیة هو المنفی حقیقة نحو الصحة و الکمال و الفضیلة و الفائدة و نحو ذلک و لما کان المجاز مرددا بین عدة معان کان الکلام مجملا و لا قرینة فی نفس اللفظ تعین واحدا منها فإن نفی الصحة لیس بأولی من نفی الکمال أو الفضیلة و لا نفی الکمال بأولی من نفی الفائدة و هکذا .و أجاب بعضهم بأن هذا إنما یتم إذا کانت ألفاظ العبادات و المعاملات موضوعة للأعم فلا یمکن فیها نفی الحقیقة و أما إذا قلنا بالوضع للصحیح فلا یتعذر نفی الحقیقة بل هو المتعین علی الأکثر فلا إجمال .و أما فی غیر الألفاظ الشرعیة مثل قولهم لا علم إلا بعمل فمع عدم القرینة یکون اللفظ مجملا إذ یتعذر نفی الحقیقة .أقول و الصحیح فی توجیه البحث أن یقال إن لا فی هذه المرکبات لنفی الجنس فهی تحتاج إلی اسم و خبر علی حسب ما تقتضیه القواعد

ص :198

النحویة و لکن الخبر محذوف حتی فی مثل لا غیبة لفاسق فإن لفاسق ظرف مستقر متعلق بالخبر المحذوف .و هذا الخبر المحذوف لا بد له من قرینة سواء کان کلمة موجود أو صحیح أو مفید أو کامل أو نافع أو نحوها و لیس هو مجازا فی واحد من هذه الأمور التی یصح تقدیرها .و القصد أنه سواء کان المراد نفی الحقیقة أو نفی الصحة و نحوها فإنه لا بد من تقدیر خبر محذوف بقرینة و إنما یکون مجملا إذا تجرد عن القرینة و لکن الظاهر أن القرینة حاصلة علی الأکثر و هی القرینة العامة فی مثله فإن الظاهر من نفی الجنس أن المحذوف فیه هو لفظ موجود و ما بمعناه من نحو لفظ ثابت و متحقق .فإذا تعذر تقدیر هذا اللفظ العام لأی سبب کان فإن هناک قرینة موجودة غالبا و هی مناسبة الحکم و الموضوع فإنها تقتضی غالبا تقدیر لفظ خاص مناسب مثل لا علم إلا بعمل فإن المفهوم منه أنه لا علم نافع و المفهوم من نحو لا غیبة لفاسق لا غیبة محرمة و المفهوم من نحو لا رضاع بعد فطام لا رضاع سائغ و من نحو لا جماعة فی نافلة لا جماعة مشروعة و من نحو لا إقرار لمن أقر بنفسه علی الزنا لا إقرار نافذ أو معتبر و من نحو لا صلاة إلا بطهور بناء علی الوضع للأعم لا صلاة صحیحة و من نحو لا صلاة لحاقن لا صلاة کاملة بناء علی قیام الدلیل علی أن الحاقن لا تفسد صلاته و هکذا .و هذه القرینة و هی قرینة مناسبة الحکم للموضوع لا تقع تحت ضابطة معینة و لکنها موجودة علی الأکثر و یحتاج إدراکها إلی ذوق سلیم .

ص :199

تنبیه و تحقیق

لیس من البعید أن یقال إن المحذوف فی جمیع مواقع لا التی هی لنفی الجنس هو کلمة موجود أو ما هو بمعناها غایة الأمر أنه فی بعض الموارد تقوم القرینة علی عدم إرادة نفی الوجود و التحقق حقیقة فلا بد حینئذ من حملها علی نفی التحقق ادعاء و تنزیلا بأن ننزل الموجود منزلة المعدوم باعتبار عدم حصول الأثر المرغوب فیه أو المتوقع منه یعنی یدعی أن الموجود الخارجی لیس من أفراد الجنس الذی تعلق به النفی تنزیلا و ذلک لعدم حصول الأثر المطلوب منه فمثل لا علم إلا بعمل معناه أن العلم بلا عمل کلا علم إذ لم تحصل الفائدة المترقبة منه و مثل لا إقرار لمن أقر بنفسه علی الزنا معناه أن إقراره کلا إقرار باعتبار عدم نفوذه علیه و مثل لا سهو لمن کثر علیه السهو معناه أن سهوه کلا سهو باعتبار عدم ترتب آثار السهو علیه من سجود أو صلاة أو بطلان الصلاة .هذا إذا کان النفی من جهة تکوین الشیء و أما إذا کان النفی راجعا إلی عالم التشریع فإن کان النفی متعلقا بالفعل دل نفیه علی عدم ثبوت حکمه فی الشریعة مثل(:لا رهبانیة فی الإسلام) فإن معنی عدم ثبوتها عدم تشریع الرهبانیة و أنه غیر مرخص بها و مثل لا غیبة لفاسق فإن معنی عدم ثبوتها عدم حرمة غیبة الفاسق و کذلک نحو و لا غش فی الإسلام و لا عمل فی الصلاة و لا رفث و لا فسوق و لا جدال فی الحج و لا جماعة فی نافلة فإن کل ذلک معناه عدم مشروعیة هذه الأفعال .و إن کان النفی متعلقة بعنوان یصح انطباقه علی الحکم فیدل النفی علی عدم تشریع حکم ینطبق علیه هذا العنوان کما فی قوله(:لا حرج فی الدین)و(:لا ضرر و لا ضرار فی الإسلام) .

ص :200

و علی کل حال فإن مثل هذه الجمل و المرکبات لیست مجملة فی حد أنفسها و قد یتفق لها أن تکون مجملة إذا تجردت عن القرینة التی تعین أنها لنفی تحقق الماهیة حقیقة أو لنفیها ادعاء و تنزیلا .و منها مثل قوله تعالی حُرِّمَتْ عَلَیْکُمْ أُمَّهٰاتُکُمْ و قوله تعالی أُحِلَّتْ لَکُمْ بَهِیمَةُ الْأَنْعٰامِ مما أسند الحکم فیه کالتحریم و التحلیل إلی العین .فقد قال بعضهم بإجمالها نظرا إلی أن إسناد التحریم و التحلیل لا یصح إلا إلی الأفعال الاختیاریة أما الأعیان فلا معنی لتعلق الحکم بها بل یستحیل و لذا تسمی الأعیان موضوعات للأحکام کما أن الأفعال تسمی متعلقات .و علیه فلا بد أن یقدر فی مثل هذه المرکبات فعل تصح إضافته إلی العین المذکورة فی الجملة و یصح أن یکون متعلقا للحکم ففی مثل الآیة الأولی یقدر کلمة نکاح مثلا و فی الثانیة أکل و فی مثل وَ أَنْعٰامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهٰا یقدر رکوبها و فی مثل اَلنَّفْسَ الَّتِی حَرَّمَ اللّٰهُ یقدر قتلها و هکذا .و لکن الترکیب فی نفسه لیس فیه قرینة علی تعیین نوع المحذوف فیکون فی حد نفسه مجملا فلا یدری فیه هل إن المقدر کل فعل تصح إضافته إلی العین المذکورة فی الجملة و یصح تعلق الحکم به أو إن المقدر فعل مخصوص کما قدرناه فی الأمثلة المتقدمة .و الصحیح فی هذا الباب أن یقال إن نفس الترکیب مع قطع النظر عن ملاحظة الموضوع و الحکم و عن أیة قرینة خارجیة هو فی نفسه یقتضی الإجمال لو لا أن الإطلاق یقتضی تقدیر کل فعل صالح للتقدیر إلا إذا قامت قرینة خاصة علی تعیین نوع الفعل المقدر و غالبا لا یخلو مثل هذا الترکیب

ص :201

من وجود القرینة الخاصة و لو قرینة مناسبة الحکم و الموضوع و یشهد لذلک أنا لا نتردد فی تقدیر الفعل المخصوص فی الأمثلة المذکورة فی صدر البحث و مثیلاتها و ما ذلک إلا لما قلناه من وجود القرینة الخاصة و لو مناسبة الحکم و الموضوع .و یشبه أن یکون هذا الباب نظیر باب لا المحذوف خبرها ألهمنا الله تعالی الصواب و دفع عنا الشبهات و هدانا الصراط المستقیم

ص :202

ص :203

ص :204

الجزء الثانی

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

المقصد الثانی الملازمات العقلیة

تمهید

اشارة

من الأدلة علی الحکم الشرعی عند الأصولیین الإمامیة العقل إذ یذکرون أن الأدلة علی الأحکام الشرعیة الفرعیة أربعة الکتاب و السنة و الإجماع و العقل .و سیأتی فی مباحث الحجة وجه حجیة العقل أما هنا فإنما یبحث عن تشخیص صغریات ما یحکم به العقل المفروض أنه حجة أی یبحث هنا عن مصادیق أحکام العقل الذی هو دلیل علی الحکم الشرعی و هذا نظیر البحث فی المقصد الأول مباحث الألفاظ عن مصادیق أصالة الظهور التی هی حجة و حجیتها إنما یبحث عنها فی مباحث الحجة .و توضیح ذلک أن هنا مسألتین 1 أنه إذا حکم العقل علی شیء أنه حسن شرعا أو یلزم فعله شرعا أو یحکم علی شیء أنه قبیح شرعا أو یلزم ترکه شرعا بأی طریق من الطرق التی سیأتی بیانها هل یثبت بهذا الحکم العقلی حکم الشرع أی أنه من حکم العقل هذا هل یستکشف منه أن الشارع واقعا قد حکم بذلک و مرجع ذلک إلی أن حکم العقل هذا هل هو حجة أو لا و هذا البحث

ص :205

کما قلنا إنما یذکر فی مباحث الحجة و لیس هنا موقعه و سیأتی بیان إمکان حصول القطع بالحکم الشرعی من غیر الکتاب و السنة و إذا حصل کیف یکون حجة .2 أنه هل للعقل أن یدرک بطریق من الطرق أن هذا الشیء مثلا حسن شرعا أو قبیح أو یلزم فعله أو ترکه عند الشارع یعنی أن العقل بعد إدراکه لحسن الأفعال أو لزومها و لقبح الأشیاء أو لزوم ترکها فی أنفسها بأی طریق من الطرق هل یدرک مع ذلک أنها کذلک عند الشارع و هذا المقصد الثانی الذی سمیناه بحث الملازمات العقلیة عقدناه لأجل بیان ذلک فی مسائل علی النحو الذی سیأتی إن شاء الله تعالی و یکون فیه تشخیص صغریات حجیة العقل المبحوث عنها فی المقصد الثالث مباحث الحجة ثم لا بد قبل تشخیص هذه الصغریات فی مسائل من ذکر أمرین یتعلقان بالأحکام العقلیة مقدمة للبحث نستعین بها علی المقصود و هما

1 أقسام الدلیل العقلی[1]

إن الدلیل العقلی أو فقل ما یحکم به العقل الذی یثبت به الحکم الشرعی ینقسم إلی قسمین ما یستقل به العقل و ما لا یستقل به .

ص :206

و بتعبیر آخر نقول إن الأحکام العقلیة علی قسمین مستقلات و غیر مستقلات و هذه التعبیرات کثیرا ما تجری علی ألسنة الأصولیین و یقصدون بها المعنی الذی سنوضحه و إن کان قد یقولون إن هذا ما یستقل به العقل و لا یقصدون هذا المعنی بل یقصدون به معنی آخر و هو ما یحکم به العقل بالبداهة و إن کان لیس من المستقلات العقلیة بالمعنی الآتی .و علی کل حال فإن هذا التقسیم یحتاج إلی شیء من التوضیح فنقول إن العلم بالحکم الشرعی کسائر العلوم لا بد له من علة لاستحالة وجود الممکن بلا علة و علة العلم التصدیقی لا بد أن تکون من أحد أنواع الحجة الثلاثة القیاس أو الاستقراء أو التمثیل و لیس الاستقراء مما یثبت به الحکم الشرعی و هو واضح و التمثیل لیس بحجة عندنا لأنه هو القیاس المصطلح علیه عند الأصولیین الذی هو لیس من مذهبنا .فیتعین أن تکون العلة للعلم بالحکم الشرعی هی خصوص القیاس باصطلاح المناطقة و إذا کان کذلک فإن کل قیاس لا بد أن یتألف من مقدمتین سواء کان استثنائیا أو اقترانیا .و هاتان المقدمتان قد تکونان معا غیر عقلیتین فالدلیل الذی یتألف منهما یسمی دلیلا شرعیا فی قبال الدلیل العقلی و لا کلام لنا فی هذا القسم هنا .و قد تکون کل منهما أو إحداهما عقلیة أی مما یحکم العقل به من غیر اعتماد علی حکم شرعی فإن الدلیل الذی یتألف منهما یسمی عقلیا و هو علی قسمین

ص :207

1 أن تکون المقدمتان معا عقلیتین کحکم العقل بحسن شیء أو قبحه ثم حکمه بأنه کل ما حکم به العقل حکم به الشرع علی طبقه و هو القسم الأول من الدلیل العقلی و هو قسم المستقلات العقلیة .2 أن تکون إحدی المقدمتین غیر عقلیة و الأخری عقلیة کحکم العقل بوجوب المقدمة عند وجوب ذیها فهذه مقدمة عقلیة صرفة و ینضم إلیها حکم الشرع بوجوب ذی المقدمة و إنما یسمی الدلیل الذی یتألف منهما عقلیا فلأجل تغلیب جانب المقدمة العقلیة و هذا هو القسم الثانی من الدلیل العقلی و هو قسم غیر المستقلات العقلیة و إنما سمی بذلک لأنه من الواضح أن العقل لم یستقل وحده فی الوصول إلی النتیجة بل استعان بحکم الشرع فی إحدی مقدمتی القیاس

2 لما ذا سمیت هذه المباحث بالملازمات العقلیة
اشارة

المراد بالملازمة العقلیة هنا هو حکم العقل بالملازمة بین حکم الشرع و بین أمر آخر سواء کان حکما عقلیا أو شرعیا أو غیرهما مثل الإتیان بالمأمور به بالأمر الاضطراری الذی یلزمه عقلا سقوط الأمر الاختیاری لو زال الاضطراری فی الوقت أو خارجه علی ما سیأتی ذلک فی مبحث الإجزاء .و قد یخفی علی الطالب لأول وهلة الوجه فی تسمیة مباحث الأحکام العقلیة بالملازمات العقلیة لا سیما فیما یتعلق بالمستقلات العقلیة و لذلک وجب علینا أن نوضح ذلک فنقول 1 أما فی المستقلات العقلیة فیظهر بعد بیان المقدمتین اللتین یتألف منهما الدلیل العقلی و هما مثلا

ص :208

الأولی العدل یحسن فعله عقلا و هذه قضیة عقلیة صرفة هی صغری القیاس و هی من المشهورات التی تطابقت علیها آراء العقلاء التی تسمی الآراء المحمودة و هذه قضیة تدخل فی مباحث علم الکلام عادة و إذا بحث عنها هنا فمن باب المقدمة للبحث عن الکبری الآتیة .الثانیة کل ما یحسن فعله عقلا یحسن فعله شرعا و هذه قضیة عقلیة أیضا یستدل علیها بما سیأتی فی محله و هی کبری للقیاس و مضمونها الملازمة بین حکم العقل و حکم الشرع و هذه الملازمة مأخوذة من دلیل عقلی فهی ملازمة عقلیة و ما یبحث عنه فی علم الأصول فهو هذه الملازمة و من أجل هذه الملازمة تدخل المستقلات العقلیة فی الملازمات العقلیة .و لا ینبغی أن یتوهم الطالب أن هذه الکبری معناها حجیة العقل بل نتیجة هاتین المقدمتین هکذا العدل یحسن فعله شرعا و هذا الاستنتاج بدلیل عقلی و قد ینکر المنکر أنه یلزم شرعا ترتیب الأثر علی هذا الاستنتاج و الاستکشاف و سنذکر إن شاء الله تعالی فی حینه الوجه فی هذا الإنکار الذی مرجعه إلی إنکار حجیة العقل .و الحاصل نحن نبحث فی المستقلات العقلیة عن مسألتین إحداهما الصغری و هی بیان المدرکات العقلیة فی الأفعال الاختیاریة أنه أیها ینبغی فعله و أیها لا ینبغی فعله ثانیهما الکبری و هی بیان أن ما یدرکه العقل هل لا بد أن یدرکه الشرع أی یحکم علی طبق ما یحکم به العقل و هذه هی المسألة الأصولیة التی هی من الملازمات العقلیة .و من هاتین المسألتین نهیئ موضوع مبحث حجیة العقل .2 و أما فی غیر المستقلات العقلیة فأیضا یظهر الحال فیها بعد بیان المقدمتین اللتین یتألف منهما الدلیل العقلی و هما مثلا

ص :209

الأولی هذا الفعل واجب أو هذا المأتی به مأمور به فی حال الاضطرار فمثل هذه القضایا تثبت فی علم الفقه فهی شرعیة .الثانیة کل فعل واجب شرعا یلزمه عقلا وجوب مقدمته شرعا أو یلزمه عقلا حرمة ضده شرعا أو کل مأتی به و هو مأمور به حال الاضطرار یلزمه عقلا الإجزاء عن المأمور به حال الاختیار و هکذا .فإن أمثال هذه القضایا أحکام عقلیة مضمونها الملازمة العقلیة بین ما یثبت شرعا فی القضیة الأولی و بین حکم شرعی آخر و هذه الأحکام العقلیة هی التی یبحث عنها فی علم الأصول و من أجل هذا تدخل فی باب الملازمات العقلیة .

الخلاصة

و من جمیع ما ذکرنا یتضح أن المبحوث عنه فی الملازمات العقلیة هو إثبات الکبریات العقلیة التی تقع فی طریق إثبات الحکم الشرعی سواء کانت الصغری عقلیة کما فی المستقلات العقلیة أو شرعیة کما فی غیر المستقلات العقلیة .أما الصغری فدائما یبحث عنها فی علم آخر غیر علم الأصول کما أن الکبری یبحث عنها فی علم الأصول و هی عبارة عن ملازمة حکم الشرع لشیء آخر بالملازمة العقلیة سواء کان ذلک الشیء الآخر حکما شرعیا أم حکما عقلیا أم غیرهما و النتیجة من الصغری و الکبری هاتین تقع صغری لقیاس آخر کبراه حجیة العقل و یبحث عن هذه الکبری فی مباحث الحجة .و علی هذا فینحصر بحثنا هنا فی بابین باب المستقلات العقلیة و باب غیر المستقلات العقلیة فنقول

ص :210

الباب الأول المستقلات العقلیة

اشارة

ص :211

ص :212

تمهید

@

اشارة

الظاهر انحصار المستقلات العقلیة التی یستکشف منها الحکم الشرعی فی مسألة واحدة و هی مسألة التحسین و التقبیح العقلیین و علیه یجب علینا أن نبحث عن هذه المسألة من جمیع أطرافها بالتفصیل لا سیما أنه لم یبحث عنها فی کتب الأصول الدارجة فنقول وقع البحث هنا فی أربعة أمور متلاحقة 1 أنه هل تثبت للأفعال مع قطع النظر عن حکم الشارع و تعلق خطابه بها أحکام عقلیة من حسن و قبح أو إن شئت فقل هل للأفعال حسن و قبح بحسب ذواتها و لها قیم ذاتیة فی نظر العقل قبل فرض حکم الشارع علیها أو لیس لها ذلک و إنما الحسن ما حسنه الشارع و القبیح ما قبحه و الفعل مطلقا فی حد نفسه من دون حکم الشارع لیس حسنا و لا قبیحا .و هذا هو الخلاف الأصیل بین الأشاعرة و العدلیة و هو مسألة التحسین و التقبیح العقلیین المعروفة فی علم الکلام و علیها تترتب مسألة الاعتقاد بعدالة الله و غیرها و إنما سمیت العدلیة عدلیة لقولهم بأنه تعالی عادل بناء علی مذهبهم فی ثبوت الحسن و القبح العقلیین .و نحن نبحث عن هذه المسألة هنا باعتبارها من المبادئ لمسألتنا الأصولیة کما أشرنا إلی ذلک فیما سبق .2 أنه بعد فرض القول بأن للأفعال فی حد أنفسها حسنا و قبحا هل یتمکن العقل من إدراک وجوه الحسن و القبح مستقلا عن تعلیم الشارع و بیانه أو لا و علی تقدیر تمکنه هل للمکلف أن یأخذ به بدون بیان الشارع

ص :213

و تعلیمه أو لیس له ذلک إما مطلقا أو فی بعض الموارد .و هذه المسألة هی إحدی نقط الخلاف المعروفة بین الأصولیین و جماعة من الأخباریین و فیها تفصیل من بعضهم علی ما یأتی و هی أیضا لیست من مباحث علم الأصول و لکنها من المبادئ لمسألتنا الأصولیة الآتیة لأنه بدون القول بأن العقل یدرک وجوه الحسن و القبح لا تتحقق عندنا صغری القیاس التی تکلمنا عنها سابقا .و لا ینبغی أن یخفی علیکم أن تحریر هذه المسألة سببه المغالطة التی وقعت لبعضهم و إلا فبعد تحریر المسألة الأولی علی وجهها الصحیح کما سیأتی لا یبقی مجال لهذا النزاع فانتظر توضیح ذلک فی محله القریب .3 أنه بعد فرض أن للأفعال حسنا و قبحا و أن العقل یدرک الحسن و القبح یصح أن ننتقل إلی التساؤل عما إذا کان العقل یحکم أیضا بالملازمة بین حکمه و حکم الشرع بمعنی أن العقل إذا حکم بحسن شیء أو قبحه هل یلزم عنده عقلا أن یحکم الشارع علی طبق حکمه .و هذه هی المسألة الأصولیة المعبر عنها بمسألة الملازمة التی وقع فیها النزاع فأنکر الملازمة جملة من الأخباریین و بعض الأصولیین کصاحب الفصول .4 أنه بعد ثبوت الملازمة و حصول القطع بأن الشارع لا بد أن یحکم علی طبق ما حکم به العقل فهل هذا القطع حجة شرعا .و مرجع هذا النزاع ثلاث نواح الأولی فی إمکان أن ینفی الشارع حجیة هذا القطع و ینهی عن الأخذ به .الثانیة بعد فرض إمکان نفی الشارع حجیة القطع هل نهی عن الأخذ بحکم العقل و إن استلزم القطع(کقول الإمام علیه السلام:إن دین

ص :214

الله لا یصاب بالعقول) علی تقدیر تفسیره بذلک .و النزاع فی هاتین الناحیتین وقع مع الأخباریین جلهم أو کلهم .الثالثة بعد فرض عدم إمکان نفی الشارع حجیة القطع هل معنی حکم الشارع علی طبق حکم العقل هو أمره و نهیه أو أن حکمه معناه إدراکه و علمه بأن هذا الفعل ینبغی فعله أو ترکه و هو شیء آخر غیر أمره و نهیه فإثبات أمره و نهیه یحتاج إلی دلیل آخر و لا یکفی القطع بأن الشارع حکم بما حکم به العقل .و علی کل حال فإن الکلام فی هذه النواحی سیأتی فی مباحث الحجة المقصد الثالث و هو النزاع فی حجیة العقل و علیه فنحن نتعرض هنا للمباحث الثلاثة الأولی و نترک المبحث الرابع بنواحیه إلی المقصد الثالث

ص :215

المبحث الأول التحسین و التقبیح العقلیان
اشارة

اختلف الناس فی حسن الأفعال و قبحها هل إنهما عقلیان أو شرعیان بمعنی أن الحاکم بهما العقل أو الشرع .فقالت الأشاعرة لا حکم للعقل فی حسن الأفعال و قبحها و لیس الحسن و القبح عائدا إلی أمر حقیقی حاصل فعلا قبل ورود بیان الشارع بل إن ما حسنه الشارع فهو حسن و ما قبحه الشارع فهو قبیح فلو عکس الشارع القضیة فحسن ما قبحه و قبح ما حسنه لم یکن ممتنعا و انقلب الأمر فصار القبیح حسنا و الحسن قبیحا و مثلوا لذلک بالنسخ من الحرمة إلی الوجوب و من الوجوب إلی الحرمة (1).و قالت العدلیة إن للأفعال قیما ذاتیة عند العقل مع قطع النظر عن حکم الشارع فمنها ما هو حسن فی نفسه و منها ما هو قبیح فی نفسه و منها ما لیس له هذان الوصفان و الشارع لا یأمر إلا بما هو حسن و لا ینهی إلا عما هو قبیح فالصدق فی نفسه حسن و لحسنه أمر الله تعالی به لا أنه أمر الله تعالی به فصار حسنا و الکذب فی نفسه قبیح و لذلک نهی الله تعالی عنه لا أنه نهی عنه فصار قبیحا .هذه خلاصة الرأیین و اعتقد عدم اتضاح رأی الطرفین بهذا البیان و لا تزال نقط غامضة فی البحث إذا لم نبینها بوضوح لا نستطیع أن نحکم لأحد الطرفین و هو أمر ضروری مقدمة للمسألة الأصولیة و لتوقف وجوب المعرفة علیه .

ص :216


1- هذا التصویر لمذهب الاشاعرة منقول عن شرح القوشجی للتجرید.

فلا بد من بسط البحث بأوسع مما أخذنا علی أنفسنا من الاختصار فی هذا الکتاب لأهمیة هذا الموضوع من جهة و لعدم إعطائه حقه من التنقیح فی أکثر الکتب الکلامیة و الأصولیة من جهة أخری .و أکلفکم قبل الدخول فی هذا البحث بالرجوع إلی ما حررته فی الجزء الثالث من المنطق ص 17-23 عن القضایا المشهورات لتستعینوا به علی ما هنا .و الآن أعقد البحث هنا فی أمور

1 معنی الحسن و القبح و تصویر النزاع فیهما

إن الحسن و القبح لا یستعملان بمعنی واحد بل لهما ثلاث معان فأی هذه المعانی هو موضوع النزاع فنقول أولا قد یطلق الحسن و القبح و یراد بهما الکمال و النقص و یقعان وصفا بهذا المعنی للأفعال الاختیاریة و لمتعلقات الأفعال فیقال مثلا العلم حسن و التعلم حسن و بضد ذلک یقال الجهل قبیح و إهمال التعلم قبیح و یراد بذلک أن العلم و التعلم کمال للنفس و تطور فی وجودها و أن الجهل و إهمال التعلم نقصان فیها و تأخر فی وجودها .و کثیر من الأخلاق الإنسانیة حسنها و قبحها باعتبار هذا المعنی فالشجاعة و الکرم و الحلم و العدالة و الإنصاف و نحو ذلک إنما حسنها باعتبار أنها کمال للنفس و قوة فی وجودها و کذلک أضدادها قبیحة لأنها نقصان فی وجود النفس و قوتها و لا ینافی ذلک أنه یقال للأولی حسنة و للثانیة قبیحة باعتبار معنی آخر من المعنیین الآتیین .و لیس للأشاعرة ظاهرا نزاع فی الحسن و القبح بهذا المعنی بل جملة منهم یعترفون بأنهما عقلیان لأن هذه من القضایا الیقینیات التی وراءها واقع خارجی تطابقه علی ما سیأتی .

ص :217

ثانیا أنهما قد یطلقان و یراد بهما الملاءمة للنفس و المنافرة لها و یقعان وصفا بهذا المعنی أیضا للأفعال و متعلقاتها من أعیان و غیرها .فیقال فی المتعلقات هذا المنظر حسن جمیل هذا الصوت حسن مطرب هذا المذوق حلو حسن و هکذا .و یقال فی الأفعال نوم القیلولة حسن الأکل عند الجوع حسن و الشرب بعد العطش حسن و هکذا .و کل هذه الأحکام لأن النفس تلتذ بهذه الأشیاء و تذوقها لملاءمتها لها و بضد ذلک یقال فی المتعلقات و الأفعال هذا المنظر قبیح ولولة النائحة قبیحة النوم علی الشبع قبیح و هکذا و کل ذلک لأن النفس تتألم أو تشمئز من ذلک .فیرجع معنی الحسن و القبح فی الحقیقة إلی معنی اللذة و الألم أو فقل إلی معنی الملاءمة للنفس و عدمها ما شئت فعبر فإن المقصود واحد .ثم إن هذا المعنی من الحسن و القبح یتسع إلی أکثر من ذلک فإن الشیء قد لا یکون فی نفسه ما یوجب لذة أو ألما و لکنه بالنظر إلی ما یعقبه من أثر تلتذ به النفس أو تتألم منه یسمی أیضا حسنا أو قبیحا بل قد یکون الشیء فی نفسه قبیحا تشمئز منه النفس کشرب الدواء المر و لکنه باعتبار ما یعقبه من الصحة و الراحة التی هی أعظم بنظر العقل من ذلک الألم الوقتی یدخل فیما یستحسن کما قد یکون الشیء بعکس ذلک حسنا تلتذ به النفس کالأکل اللذیذ المضر بالصحة و لکن ما یعقبه من مرض أعظم من اللذة الوقتیة یدخل فیما یستقبح .و الإنسان بتجاربه الطویلة و بقوة تمییزه العقلی یستطیع أن یصنف الأشیاء و الأفعال إلی ثلاثة أصناف ما یستحسن و ما یستقبح و ما لیس له هاتان المزیتان و یعتبر هذا التقسیم بحسب ما له من الملاءمة و المنافرة و لو بالنظر إلی الغایة القریبة أو البعیدة التی هی قد تسمو عند العقل علی

ص :218

ما له من لذة وقتیة أو ألم وقتی کمن یتحمل المشاق الکثیرة و یقاسی الحرمان فی سبیل طلب العلم أو الجاه أو الصحة أو المال و کمن یستنکر بعض اللذات الجسدیة استکراها لشؤم عواقبها .و کل ذلک یدخل فی الحسن و القبح بمعنی الملائم و غیر الملائم (قال القوشجی فی شرحه للتجرید عن هذا المعنی و قد یعبر عنهما أی الحسن و القبح بالمصلحة و المفسدة فیقال الحسن ما فیه مصلحة و القبیح ما فیه مفسدة و ما خلا منهما لا یکون شیئا منهما) .و هذا راجع إلی ما ذکرنا و لیس المقصود أن للحسن و القبح معنی آخر بمعنی ما له المصلحة أو المفسدة غیر معنی الملاءمة و المنافرة فإن استحسان المصلحة إنما یکون للملاءمة و استقباح المفسدة للمنافرة .و هذا المعنی من الحسن و القبح أیضا لیس للأشاعرة فیه نزاع بل هما عندهم بهذا المعنی عقلیان أی مما قد یدرکه العقل من غیر توقف علی حکم الشرع و من توهم أن النزاع بین القوم فی هذا المعنی فقد ارتکب شططا و لم یفهم کلامهم .ثالثا أنهما یطلقان و یراد بهما المدح و الذم و یقعان وصفا بهذا المعنی للأفعال الاختیاریة فقط و معنی ذلک أن الحسن ما استحق فاعله علیه المدح و الثواب عند العقلاء کافة و القبیح ما استحق علیه فاعله الذم و العقاب عندهم کافة .و بعبارة أخری إن الحسن ما ینبغی فعله عند العقلاء أی إن العقل عند الکل یدرک أنه ینبغی فعله و القبیح ما ینبغی ترکه عندهم أی إن العقل عند الکل یدرک أنه لا ینبغی فعله أو ینبغی ترکه .و هذا الإدراک للعقل هو معنی حکمه بالحسن و القبح و سیأتی توضیح هذه النقطة فإنها مهمة جدا فی الباب .و هذا المعنی الثالث هو موضوع النزاع فالأشاعرة أنکروا أن یکون

ص :219

للعقل إدراک و ذلک من دون الشروع و خالفتهم العدلیة فأعطوا للعقل هذا الحق من الإدراک .تنبیه و مما یجب أن یعلم هنا أن الفعل الواحد قد یکون حسنا أو قبیحا بجمیع المعانی الثلاثة کالتعلم و الحلم و الإحسان فإنها کمال للنفس و ملائمة لها باعتبار ما لها من نفع و مصلحة و مما ینبغی أن یفعلها الإنسان عند العقلاء .و قد یکون الفعل حسنا بأحد المعانی قبیحا أو لیس بحسن بالمعنی الآخر کالغناء مثلا فإنه حسن بمعنی الملاءمة للنفس و لذا یقولون عنه أنه غذاء للروح (1)و لیس حسنا بالمعنی الأول أو الثالث فإنه لا یدخل عند العقلاء بما هم عقلاء فیما ینبغی أن یفعل و لیس کمالا للنفس و إن کان هو کمالا للصوت بما هو صوت فیدخل فی المعنی الأول للحسن من هذه الجهة و مثله التدخین أو ما تعتاده النفس من المسکرات و المخدرات فإن هذه حسنة بمعنی الملاءمة فقط و لیست کمالا للنفس و لا مما ینبغی فعلها عند العقلاء بما هم عقلاء

2 واقعیة الحسن و القبح فی معانیه و رأی الأشاعرة

إن الحسن بالمعنی الأول أی الکمال و کذا مقابله أی القبح أمر واقعی خارجی لا یختلف باختلاف الأنظار و الأذواق و لا یتوقف علی وجود من یدرکه و یعقله بخلاف الحسن بالمعنیین الأخیرین .و هذا ما یحتاج إلی التوضیح و التفصیل فنقول 1 أما الحسن بمعنی الملاءمة و کذا ما یقابله فلیس له فی نفسه بإزاء فی الخارج یحاذیه و یحکی عنه و إن کان منشؤه قد یکون أمرا

ص :220


1- کان هذا التعبیر یرید أن یحاول قائلوه به دعوی أن الغناء کمال للنفس فی سماعه وهو مغالطة وایهام منهم.

خارجیا کاللون و الرائحة و الطعم و تناسق الأجزاء و نحو ذلک .بل حسن الشیء یتوقف علی وجود الذوق العام أو الخاص فإن الإنسان هو الذی یتذوق المنظور أو المسموع أو المذوق بسبب ما عنده من ذوق یجعل هذا الشیء ملائما لنفسه فیکون حسنا عنده أو غیر ملائم فیکون قبیحا عنده فإذا اختلفت الأذواق فی الشیء کان حسنا عند قوم قبیحا عند آخرین و إذا اتفقوا فی ذوق عام کان ذلک الشیء حسنا عندهم جمیعا أو قبیحا کذلک .و الحاصل أن الحسن بمعنی الملائم لیس صفة واقعیة للأشیاء کالکمال و لیس واقعیة هذه الصفة إلا إدراک الإنسان و ذوقه فلو لم یوجد إنسان یتذوق و لا من یشبهه فی ذوقه لم تکن للأشیاء فی حد أنفسها حسن بمعنی الملاءمة .و هذا مثل ما یعتقده الرأی الحدیث فی الألوان إذ یقال إنها لا واقع لها بل هی تحصل من انعکاسات أطیاف الضوء علی الأجسام ففی الظلام حیث لا ضوء لیست هناک ألوان موجودة بالفعل بل الموجود حقیقة أجسام فیها صفات حقیقیة هی منشأ لانعکاس الأطیاف عند وقوع الضوء علیها و لیس کل واحد من الألوان إلا طیفا أو أطیافا فأکثر ترکبت .و هکذا نقول فی حسن الأشیاء و جمالها بمعنی الملاءمة و الشیء الواقعی فیها ما هو منشأ الملاءمة فی الأشیاء کالطعم و الرائحة و نحوهما الذی هو کالصفة فی الجسم إذ تکون منشأ لانعکاس أطیاف الضوء .کما أن نفس اللذة و الألم أیضا أمران واقعیان و لکن لیسا هما الحسن و القبح اللذان لیسا هما من صفات الأشیاء و اللذة و الألم من صفات النفس المدرکة للحسن و القبح .2 و أما الحسن بمعنی ما ینبغی أن یفعل عند العقل فکذلک لیس له واقعیة إلا إدراک العقلاء أو فقل تطابق آراء العقلاء و الکلام فیه

ص :221

کالکلام فی الحسن بمعنی الملاءمة و سیأتی تفصیل معنی تطابق العقلاء علی المدح و الذم أو إدراک العقل للحسن و القبح .و علی هذا فإن کان غرض الأشاعرة من إنکار الحسن و القبح إنکار واقعیتهما بهذا المعنی من الواقعیة فهو صحیح و لکن هذا بعید عن أقوالهم لأنه لما کانوا یقولون بحسن الأفعال و قبحها بعد حکم الشارع فإنه یعلم منه أنه لیس غرضهم ذلک لأن حکم الشارع لا یجعل لهما واقعیة و خارجیة کیف و قد رتبوا علی ذلک بأن وجوب المعرفة و الطاعة لیس بعقلی بل شرعی و إن کان غرضهم إنکار إدراک العقل کما هو الظاهر من أقوالهم فسیأتی تحقیق الحق فیه و أنهم لیسوا علی صواب فی ذلک

3 العقل العملی و النظری

إن المراد من العقل إذ یقولون إن العقل یحکم بحسن الشیء أو قبحه بالمعنی الثالث من الحسن و القبح هو العقل العملی فی مقابل العقل النظری .و لیس الاختلاف بین العقلین إلا بالاختلاف بین المدرکات فإن کان المدرک بالفتح مما ینبغی أن یفعل أولا یفعل مثل حسن العدل و قبح الظلم فیسمی إدراکه عقلا عملیا و إن کان المدرک مما ینبغی أن یعلم مثل قولهم الکل أعظم من الجزء الذی لا علاقة له بالعمل فیسمی إدراکه عقلا نظریا .و معنی حکم العقل علی هذا لیس إلا إدراک أن الشیء مما ینبغی أن یفعل أو یترک و لیس للعقل إنشاء بعث و زجر و لا أمر و نهی إلا بمعنی أن هذا الإدراک یدعو العقل إلی العمل أی یکون سببا لحدوث الإرادة فی نفسه للعمل و فعل ما ینبغی .إذن المراد من الأحکام العقلیة هی مدرکات العقل العملی و آراؤه .

ص :222

و من هنا تعرف أن المراد من العقل المدرک للحسن و القبح بالمعنی الأول أن المراد به هو العقل النظری لأن الکمال و النقص مما ینبغی أن یعلم لا مما ینبغی أن یعمل نعم إذا أدرک العقل کمال الفعل أو نقصه فإنه یدرک معه أنه ینبغی فعله أو ترکه فیستعین العقل العملی بالعقل النظری أو فقل یحصل العقل العملی فعلا بعد حصول العقل النظری .و کذا المراد من العقل المدرک للحسن و القبح بالمعنی الثانی هو العقل النظری لأن الملاءمة و عدمها أو المصلحة و المفسدة مما ینبغی أن یعلم و یستتبع ذلک إدراک أنه ینبغی الفعل أو الترک علی طبق ما علم .و من العجیب(ما جاء فی جامع السعادات ج 1 ص 59 المطبوع بالنجف سنة 1368 إذ یقول ردا علی الشیخ الرئیس خریت هذه الصناعة إن مطلق الإدراک و الإرشاد إنما هو من العقل النظری فهو بمنزلة المشیر الناصح و العقل العملی بمنزلة المنفذ لإشاراته) .و هذا منه خروج عن الاصطلاح و ما ندری ما یقصد من العقل العملی إذا کان الإرشاد و النصح للعقل النظری و لیس هناک عقلان فی الحقیقة کما قدمنا بل هو عقل واحد و لکن الاختلاف فی مدرکاته و متعلقاته و للتمییز بین الموارد یسمی تارة عملیا و أخری نظریا و کأنه یرید من العقل العملی نفس التصمیم و الإرادة للعمل و تسمیة الإرادة عقلا وضع جدید فی اللغة

4 أسباب حکم العقل العملی بالحسن و القبح

إن الإنسان إذ یدرک أن الشیء ینبغی فعله فیمدح فاعله أو لا ینبغی فعله فیذم فاعله لا یحصل له هذا الإدراک جزافا و اعتباطا و هذا شأن کل ممکن حادث بل لا بد له من سبب و سببه بالاستقراء أحد أمور خمسة نذکرها هنا لنذکر ما یدخل منها فی محل النزاع فی مسألة التحسین و التقبیح العقلیین فنقول

ص :223

الأول أن یدرک أن هذا الشیء کمال للنفس أو نقص لها فإن إدراک العقل لکماله أو نقصه یدفعه للحکم بحسن فعله أو قبحه کما تقدم قریبا تحصیلا لذلک الکمال أو دفعا لذلک النقص .الثانی أن یدرک ملائمة الشیء للنفس أو عدمها إما بنفسه أو لما فیه من نفع عام أو خاص فیدرک حسن فعله أو قبحه تحصیلا للمصلحة أو دفعا للمفسدة .و کل من هذین الإدراکین أعنی إدراک الکمال أو النقص و إدراک الملاءمة أو عدمها یکون علی نحوین 1 أن یکون الإدراک لواقعة جزئیة خاصة فیکون حکم الإنسان بالحسن و القبح بدافع المصلحة الشخصیة و هذا الإدراک لا یکون بقوة العقل لأن العقل شأنه إدراک الأمور الکلیة لا الأمور الجزئیة بل إنما یکون إدراک الأمور الجزئیة بقوة الحس أو الوهم أو الخیال و إن کان مثل هذا الإدراک قد یستتبع مدحا أو ذما لفاعله و لکن هذا المدح أو الذم لا ینبغی أن یسمی عقلیا بل قد یسمی بالتعبیر الحدیث عاطفیا لأن سببه تحکیم العاطفة الشخصیة و لا بأس بهذا التعبیر .2 أن یکون الإدراک لأمر کلی فیحکم الإنسان بحسن الفعل لکونه کمالا للنفس کالعلم و الشجاعة أو لکونه فیه مصلحة نوعیة کمصلحة العدل لحفظ النظام و بقاء النوع الإنسانی فهذا الإدراک إنما یکون بقوة العقل بما هو عقل فیستتبع مدحا من جمیع العقلاء .و کذا فی إدراک قبح الشیء باعتبار کونه نقصا للنفس کالجهل أو لکونه فیه مفسدة نوعیة کالظلم فیدرک العقل بما هو عقل ذلک و یستتبع ذما من جمیع العقلاء فهذا المدح و الذم إذا تطابقت علیه جمیع آراء العقلاء باعتبار تلک المصلحة أو المفسدة النوعیتین أو باعتبار ذلک الکمال أو النقص النوعیین فإنه یعتبر من الأحکام العقلیة التی هی موضع النزاع .

ص :224

و هو معنی الحسن و القبح العقلیین الذی هو محل النفی و الإثبات .و تسمی هذه الأحکام العقلیة العامة الآراء المحمودة و التأدیبات الصلاحیة و هی من قسم القضایا المشهورات التی هی قسم برأسه فی مقابل القضایا الضروریات فهذه القضایا غیر معدودة من قسم الضروریات کما توهمه بعض الناس و منهم الأشاعرة کما سیأتی فی دلیلهم و قد أوضحت ذلک فی الجزء الثالث من المنطق فی مبادی القیاسات فراجع .و من هنا یتضح لکم جیدا أن العدلیة إذ یقولون بالحسن و القبح العقلیین یریدون أن الحسن و القبح من الآراء المحمودة و القضایا المشهورة المعدودة من التأدیبات الصلاحیة و هی التی تطابقت علیها آراء العقلاء بما هم عقلاء .و القضایا المشهورة لیس لها واقع وراء تطابق الآراء أی أن واقعها ذلک فمعنی حسن العدل أو العلم عندهم أن فاعله ممدوح لدی العقلاء و معنی قبح الظلم و الجهل أن فاعله مذموم لدیهم (1).و یکفینا شاهدا علی ما نقول من دخول أمثال هذه القضایا فی المشهورات الصرفة التی لا واقع لها إلا الشهرة و أنها لیست من قسم الضروریات (ما قاله الشیخ الرئیس فی منطق الإشارات و منها الآراء المسماة بالمحمودة و ربما خصصناها باسم الشهرة إذ لا عمدة لها إلا الشهرة و هی آراء لو خلی الإنسان و عقله المجرد و وهمه و حسه و لم یؤدب بقبول قضایاها و الاعتراف بها لم یقض بها الإنسان طاعة لعقله أو وهمه أو حسه مثل حکمنا بأن سلب مال الإنسان قبیح و أن الکذب قبیح لا ینبغی أن یقدم علیه) .و هکذا وافقه شارحها العظیم الخواجة نصیر الدین الطوسی الثالث و من أسباب الحکم بالحسن و القبح الخلق الإنسانی الموجود

ص :225


1- ولا ینافی هذا ان العلم حسن من جهة أخری وهی جهة کونه کمالا للنفس والجهل قبیح لکونه نقصانا.

فی کل إنسان علی اختلافهم فی أنواعه نحو خلق الکرم و الشجاعة فإن وجود هذا الخلق یکون سببا لإدراک أن أفعال الکرم مثلا مما ینبغی فعلها فیمدح فاعلها و أفعال البخل مما ینبغی ترکها فیذم فاعلها .و هذا الحکم من العقل قد لا یکون من جهة المصلحة العامة أو المفسدة العامة و لا من جهة الکمال للنفس أو النقص بل بدافع الخلق الموجود .و إذا کان هذا الخلق عاما بین جمیع العقلاء یکون هذا الحسن و القبح مشهورا بینهم تتطابق علیه آراؤهم و لکن إنما یدخل فی محل النزاع إذا کان الخلق من جهة أخری فیه کمال للنفس أو مصلحة عامة نوعیة فیدعو ذلک إلی المدح و الذم و یجب الرجوع فی هذا القسم إلی ما ذکرته من الخلقیات فی المنطق ج 3 ص 20 لتعرف توجیه قضاء الخلق الإنسانی بهذه المشهورات .الرابع و من أسباب الحکم بالحسن و القبح الانفعال النفسانی نحو الرقة و الرحمة و الشفقة و الحیاء و الأنفة و الحمیة و الغیرة إلی غیر ذلک من انفعالات النفس التی لا یخلو منها إنسان غالبا .فنری الجمهور یحکم بقبح تعذیب الحیوان اتباعا لما فی الغریزة من الرقة و العطف و الجمهور یمدح من یعین الضعفاء و المرضی و یعنی برعایة الأیتام و المجانین بل الحیوانات لأنه مقتضی الرحمة و الشفقة و یحکم بقبح کشف العورة و الکلام البذیء لأنه مقتضی الحیاء و یمدح المدافع عن الأهل و العشیرة و الوطن و الأمة لأنه مقتضی الغیرة و الحمیة إلی غیر ذلک من أمثال هذه الأحکام العامة بین الناس .و لکن هذا الحسن و القبح لا یعدان حسنا و قبحا عقلیین بل ینبغی أن یسمیا عاطفیین أو انفعالیین و تسمی القضایا هذه عند المنطقیین بالانفعالیات .و لأجل هذا لا یدخل هذا الحسن و القبح فی محل النزاع مع الأشاعرة و لا

ص :226

نقول نحن بلزوم متابعة الشرع للجمهور فی هذه الأحکام لأنه لیس للشارع هذه الانفعالات بل یستحیل وجودها فیه لأنها من صفات الممکن و إنما نحن نقول بملازمة حکم الشارع لحکم العقل بالحسن و القبح فی الآراء المحمودة و التأدیبات الصلاحیة علی ما سیأتی فباعتبار أن الشارع من العقلاء بل رئیسهم بل خالق العقل فلا بد أن یحکم بحکمهم بما هم عقلاء و لکن لا یجب أن یحکم بحکمهم بما هم عاطفیون و لا نقول إن الشارع یتابع الناس فی أحکامهم متابعة مطلقة .الخامس و من الأسباب العادة عند الناس کاعتیادهم احترام القادم مثلا بالقیام له و احترام الضیف بالطعام فیحکمون لأجل ذلک بحسن القیام للقادم و إطعام الضیف .و العادات العامة کثیرة و متنوعة فقد تکون العادة تختص بأهل بلد أو قطر أو أمة و قد تعم جمیع الناس فی جمیع العصور أو فی عصر فتختلف لأجل ذلک القضایا التی یحکم بها بحسب العادة فتکون مشهورة عند القوم الذین لهم تلک العادة دون غیرهم .و کما یمدح الناس المحافظین علی العادات العامة یذمون المستهینین بها سواء کانت العادة حسنة من ناحیة عقلیة أو عاطفیة أو شرعیة أو سیئة قبیحة من إحدی هذه النواحی فتراهم یذمون من یرسل لحیته إذا اعتادوا حلقها و یذمون الحلیق إذا اعتادوا إرسالها و تراهم یذمون من یلبس غیر المألوف عندهم لمجرد أنهم لم یعتادوا لبسه بل ربما یسخرون به أو یعدونه مارقا .و هذا الحسن و القبح أیضا لیسا عقلیین بل ینبغی أن یسمیا عادیین

ص :227

لأن منشأهما العادة و تسمی القضایا فیهما فی عرف المناطقة العادیات و لذا لا یدخل أیضا هذا الحسن و القبح فی محل النزاع و لا نقول نحن أیضا بلزوم متابعة الشارع للناس فی أحکامهم هذه لأنهم لم یحکموا فیها بما هم عقلاء بل بما هم معتادون أی بدافع العادة .نعم بعض العادات قد تکون موضوعا لحکم الشارع مثل حکمه بحرمة لباس الشهرة أی اللباس غیر المعتاد لبسه عند الناس و لکن هذا الحکم لا لأجل المتابعة لحکم الناس بل لأن مخالفة الناس فی زیهم علی وجه یثیر فیهم السخریة و الاشمئزاز فیه مفسدة موجبة لحرمة هذا اللباس شرعا و هذا شیء آخر غیر ما نحن فیه .فتحصل من جمیع ما ذکرنا و قد أطلنا الکلام لغرض کشف الموضوع کشفا تاما أنه لیس کل حسن و قبح بالمعنی الثالث موضوعا للنزاع مع الأشاعرة بل خصوص ما کان سببه إدراک کمال الشیء أو نقصه علی نحو کلی و ما کان سببه إدراک ملائمته أو عدمها علی نحو کلی أیضا من جهة مصلحة نوعیة أو مفسدة نوعیة فإن الأحکام العقلیة الناشئة من هذه الأسباب هی أحکام للعقلاء بما هم عقلاء و هی التی ندعی فیها أن الشارع لا بد أن یتابعهم فی حکمهم و بهذا تعرف ما وقع من الخلط فی کلام جملة من الباحثین عن هذا الموضوع

5 معنی الحسن و القبح الذاتیین

إن الحسن و القبح بالمعنی الثالث ینقسمان إلی ثلاثة أقسام 1 ما هو علة للحسن و القبح و یسمی الحسن و القبح فیه

ص :228

بالذاتیین مثل العدل و الظلم و العلم و الجهل فإن العدل بما هو عدل لا یکون إلا حسنا أبدا أی إنه متی ما صدق عنوان العدل فإنه لا بد أن یمدح علیه فاعله عند العقلاء و یعد عندهم محسنا و کذلک الظلم بما هو ظلم لا یکون إلا قبیحا أی إنه متی ما صدق عنوان الظلم فإن فاعله مذموم عندهم و یعد مسیئا .2 ما هو مقتض لهما و یسمی الحسن و القبح فیه بالعرضیین مثل تعظیم الصدیق و تحقیره فإن تعظیم الصدیق لو خلی و نفسه فهو حسن ممدوح علیه و تحقیره کذلک قبیح لو خلی و نفسه و لکن تعظیم الصدیق بعنوان أنه تعظیم الصدیق یجوز أن یکون قبیحا مذموما کما إذا کان سببا لظلم ثالث بخلاف العدل فإنه یستحیل أن یکون قبیحا مع بقاء صدق عنوان العدل کذلک تحقیر الصدیق بعنوان أنه تحقیر له یجوز أن یکون حسنا ممدوحا علیه کما إذا کان سببا لنجاته و لکن یستحیل أن یکون الظلم حسنا مع بقاء صدق عنوان الظلم .3 ما لا علیة له و لا اقتضاء فیه فی نفسه للحسن و القبح أصلا و إنما قد یتصف بالحسن تارة إذا انطبق علیه عنوان حسن کالعدل و قد یتصف بالقبح أخری إذا انطبق علیه عنوان قبیح کالظلم و قد لا ینطبق علیه عنوان أحدهما فلا یکون حسنا و لا قبیحا کالضرب مثلا فإنه حسن للتأدیب و قبیح للتشفی و لا حسن و لا قبیح کضرب غیر ذی الروح .و معنی کون الحسن أو القبح ذاتیا أن العنوان المحکوم علیه بأحدهما بما هو فی نفسه و فی حد ذاته یکون محکوما به لا من جهة اندراجه تحت عنوان آخر فلا یحتاج إلی واسطة فی اتصافه بأحدهما .و معنی کونه مقتضیا لأحدهما أن العنوان لیس فی حد ذاته متصفا به

ص :229

بل بتوسط عنوان آخر و لکنه لو خلی و طبعه کان داخلا تحت العنوان الحسن أو القبیح أ لا تری أن تعظیم الصدیق لو خلی و نفسه یدخل تحت عنوان العدل الذی هو حسن فی ذاته أی بهذا الاعتبار تکون له مصلحة نوعیة عامة أما لو کان سببا لهلاک نفس محترمة کان قبیحا لأنه یدخل حینئذ بما هو تعظیم الصدیق تحت عنوان الظلم و لا یخرج عن عنوان کونه تعظیما للصدیق .و کذلک یقال فی تحقیر الصدیق فإنه لو خلی و نفسه یدخل تحت عنوان الظلم الذی هو قبیح بحسب ذاته أی بهذا الاعتبار تکون له مفسدة نوعیة عامة فلو کان سببا لنجاة نفس محترمة کان حسنا لأنه یدخل حینئذ تحت عنوان العدل و لا یخرج عن عنوانه کونه تحقیرا للصدیق .و أما العناوین من القسم الثالث فلیست فی حد ذاتها لو خلیت و أنفسها داخلة تحت عنوان حسن أو قبیح فلذلک لا تکون لها علیة و لا اقتضاء .و علی هذا یتضح معنی العلیة و الاقتضاء هنا فإن المراد من العلیة أن العنوان بنفسه هو تمام موضوع حکم العقلاء بالحسن أو القبح و المراد من الاقتضاء أن العنوان لو خلی و طبعه یکون داخلا فیما هو موضوع لحکم العقلاء بالحسن أو القبح و لیس المراد من العلیة و الاقتضاء ما هو معروف من معناهما أنه بمعنی التأثیر و الإیجاد فإنه من البدیهی أنه لا علیة و لا اقتضاء لعناوین الأفعال فی أحکام العقلاء إلا من باب علیة الموضوع لمحموله

6 أدلة الطرفین

بتقدیم الأمور السابقة نستطیع أن نواجه أدلة الطرفین بعین بصیرة لنعطی الحکم العادل لأحدهما و نأخذ النتیجة المطلوبة و نحن نبحث عن ذلک فی

ص :230

عدة مواد فنقول 1 إنا ذکرنا أن قضیة الحسن و القبح من القضایا المشهورات و أشرنا إلی ما کنتم درستموه فی الجزء الثالث من المنطق من أن المشهورات قسم یقابل الضروریات الست کلها و منه نعرف المغالطة فی دلیل الأشاعرة و هو أهم أدلتهم إذ یقولون لو کانت قضیة الحسن و القبح مما یحکم به العقل لما کان فرق بین حکمه فی هذه القضیة و بین حکمه بأن الکل أعظم من الجزء و لکن الفرق موجود قطعا إذ الحکم الثانی لا یختلف فیه اثنان مع وقوع الاختلاف فی الأول و هذا الدلیل من نوع القیاس الاستثنائی قد استثنی فیه نقیض التالی لینتج نقیض المقدم .و الجواب عنه أن المقدمة الأولی و هی الجملة الشرطیة ممنوعة و منعها یعلم مما تقدم آنفا لأن قضیة الحسن و القبح کما قلنا من المشهورات و قضیة أن الکل أعظم من الجزء من الأولیات الیقینیات فلا ملازمة بینهما و لیس هما من باب واحد حتی یلزم من کون القضیة الأولی مما یحکم به العقل ألا یکون فرق بینهما و بین القضیة الثانیة و ینبغی أن نذکر جمیع الفروق بین المشهورات هذه و بین الأولیات لیکون أکثر وضوحا بطلان قیاس إحداهما علی الأخری و الفارق من وجوه ثلاثة الأول أن الحاکم فی قضایا التأدیبات العقل العملی و الحاکم فی الأولیات العقل النظری .الثانی أن القضیة التأدیبیة لا واقع لها إلا تطابق آراء العقلاء و الأولیات لها واقع خارجی .الثالث أن القضیة التأدیبیة لا یجب أن یحکم بها کل عاقل لو خلی

ص :231

و نفسه و لم یتأدب بقبولها و الاعتراف بها کما قال الشیخ الرئیس علی ما نقلناه من عبارته فیما سبق فی الأمر الثانی و لیس کذلک القضیة الأولیة التی یکفی تصور طرفیها فی الحکم فإنه لا بد ألا یشذ عاقل فی الحکم بها لأول وهلة .2 و من أدلتهم علی إنکار الحسن و القبح العقلیین إن قالوا إنه لو کان ذلک عقلیا لما اختلف حسن الأشیاء و قبحها باختلاف الوجوه و الاعتبارات کالصدق إذ یکون مرة ممدوحا علیه و أخری مذموما علیه إذا کان فیه ضرر کبیر و کذلک الکذب بالعکس یکون مذموما علیه و ممدوحا علیه إذا کان فیه نفع کبیر کالضرب و القیام و القعود و نحوها مما یختلف حسنه و قبحه .و الجواب عن هذا الدلیل و أشباهه یظهر مما ذکرناه من أن حسن الأشیاء و قبحها علی أنحاء الثلاثة فما کان ذاتیا لا یقع فیه اختلاف فإن العدل بما هو عدل لا یکون قبیحا أبدا و کذلک الظلم بما هو ظلم لا یکون حسنا أبدا أی إنه ما دام عنوان العدل صادقا فهو ممدوح و ما دام عنوان الظلم صادقا فهو مذموم و أما ما کان عرضیا فإنه یختلف بالوجوه و الاعتبارات فمثلا الصدق إن دخل تحت عنوان العدل کان ممدوحا و إن دخل تحت عنوان الظلم کان قبیحا و کذلک الکذب و ما ذکر من الأمثلة .و الخلاصة أن العدلیة لا یقولون بأن جمیع الأشیاء لا بد أن تتصف بالحسن أبدا أو بالقبح أبدا حتی یلزم ما ذکر من الإشکال .3 و قد استدل العدلیة علی مذهبهم بما خلاصته أنه من المعلوم ضرورة حسن الإحسان و قبح الظلم عند کل عاقل من غیر اعتبار شرع فإن ذلک یدرکه حتی منکر الشرائع .و أجیب عنه بأن الحسن و القبح فی ذلک بمعنی الملاءمة و المنافرة أو

ص :232

بمعنی صفة الکمال و النقص و هو مسلم لا نزاع فیه و أما بالمعنی المتنازع فیه فإنا لا نسلم جزم العقلاء به .و نحن نقول إن من یدعی ضرورة حکم العقلاء بحسن الإحسان و قبح الظلم یدعی ضرورة مدحهم لفاعل الإحسان و ذمهم لفاعل الظلم و لا شک فی أن هذا المدح و الذم من العقلاء ضروریان لتواتره عن جمیع الناس و منکره مکابر و الذی یدفع العقلاء لهذا کما قدمنا شعورهم بأن العدل کمال للعادل و ملائمته لمصلحة النوع الإنسانی و بقائه و شعورهم بنقص الظلم و منافرته لمصلحة النوع الإنسانی و بقائه .4 و استدل العدلیة أیضا بأن الحسن و القبح لو کانا لا یثبتان إلا من طریق الشرع فهما لا یثبتان أصلا حتی من طریق الشرع .و قد صور بعضهم هذه الملازمة علی النحو الآتی إن الشارع إذا أمر بشیء فلا یکون حسنا إلا إذا مدح مع ذلک الفاعل علیه و إذا نهی عن شیء فلا یکون قبیحا إلا إذا ذم الفاعل علیه و من أین تعرف أنه یجب أن یمدح الشارع فاعل المأمور به و یذم فاعل المنهی عنه إلا إذا کان ذلک واجبا عقلا فتوقف حسن المأمور به و قبح المنهی عنه علی حکم العقل و هو المطلوب .ثم لو ثبت أن الشارع مدح فاعل المأمور به و ذم فاعل المنهی عنه و المفروض أن مدح الشارع ثوابه و ذمه عقابه فمن أین نعرف أنه صادق فی مدحه و ذمه إلا إذا ثبت أن الکذب قبیح عقلا یستحیل علیه فیتوقف ثبوت الحسن و القبح شرعا علی ثبوتهما عقلا فلو لم یکن لهما ثبوت عقلا فلا ثبوت لهما شرعا .و قد أجاب بعض الأشاعرة عن هذا التصویر بأنه یکفی فی کون الشیء

ص :233

حسنا أن یتعلق به الأمر و فی کونه قبیحا أن یتعلق به النهی و الأمر و النهی حسب الفرض ثابتان وجدانا و لا حاجة إلی فرض ثبوت مدح و ذم من الشارع .و هذا الکلام فی الحقیقة یرجع إلی أصل النزاع فی معنی الحسن و القبح فیکون الدلیل و جوابه صرف دعوی و مصادرة علی المطلوب لأن المستدل یرجع قوله إلی أنه یجب المدح و الذم عقلا لأنهما واجبان فی اتصاف الشیء بالحسن و القبح و المجیب یرجع قوله إلی أنهما لا یجبان عقلا لأنهما غیر واجبین فی الحسن و القبح .و الأحسن تصویر الدلیل علی وجه آخر فنقول إنه من المسلم عند الطرفین وجوب طاعة الأوامر و النواهی الشرعیة و کذلک وجوب المعرفة و هذا الوجوب عند الأشاعرة وجوب شرعی حسب دعواهم فنقول لهم من أین یثبت هذا الوجوب لا بد أن یثبت بأمر من الشارع فننقل الکلام إلی هذا الأمر فنقول لهم من أین تجب طاعة هذا الأمر فإن کان هذا الوجوب عقلیا فهو المطلوب و إن کان شرعیا أیضا فلا بد له من أمر و لا بد له من طاعة فننقل الکلام إلیه و هکذا نمضی إلی غیر النهایة و لا نقف حتی ننتهی إلی طاعة وجوبها عقلی لا تتوقف علی أمر الشارع و هو المطلوب .بل ثبوت الشرائع من أصلها یتوقف علی التحسین و التقبیح العقلیین و لو کان ثبوتها من طریق شرعی لاستحال ثبوتها لأنا ننقل الکلام إلی هذا الطریق الشرعی فیتسلسل إلی غیر النهایة .و النتیجة أن ثبوت الحسن و القبح شرعا یتوقف علی ثبوتهما عقلا

ص :234

المبحث الثانی إدراک العقل للحسن و القبح

بعد ما تقدم من ثبوت الحسن و القبح العقلیین فی الأفعال فقد نسب بعضهم إلی جماعة الأخباریین علی ما یظهر من کلمات بعضهم إنکار أن یکون للعقل حق إدراک ذلک الحسن و القبح فلا یثبت شیء من الحسن و القبح الواقعیین بإدراک العقل .و الشیء الثابت قطعا عنهم علی الإجمال القول بعدم جواز الاعتماد علی شیء من الإدراکات العقلیة فی إثبات الأحکام الشرعیة و قد فسر هذا القول بأحد وجوه ثلاثة (1)حسب اختلاف عبارات الباحثین منهم 1 إنکار إدراک العقل للحسن و القبح الواقعیین و هذه هی مسألتنا التی عقدنا لها هذا المبحث الثانی .2 بعد الاعتراف بثبوت إدراک العقل إنکار الملازمة بینه و بین حکم الشرع و هذه هی المسألة الآتیة فی المبحث الثالث .3 بعد الاعتراف بثبوت إدراک العقل و ثبوت الملازمة إنکار وجوب إطاعة الحکم الشرعی الثابت من طریق العقل و مرجع ذلک إلی إنکار حجیة

ص :235


1- سیأتی أن هناک وجها رابعا لحمل کلامهم علیه بما أولنا به رأی صاحب الفصول الآتی، وهو انکار ادراک العقل لملاکات الاحکام الشرعیة. وهو وجه وجیه سیأتی بیانه وتأییده وبه تحل عقدة النزاع ویقع التصالح بین الطرفین.

العقل و سیأتی البحث عن ذلک فی الجزء الثالث من هذا الکتاب مباحث الحجة .و علیه فإن أرادوا التفسیر الأول بعد الاعتراف بثبوت الحسن و القبح العقلیین فهو کلام لا معنی له لأنه قد تقدم أنه لا واقعیة للحسن و القبح بالمعنی المتنازع فیه مع الأشاعرة و هو المعنی الثالث إلا إدراک العقلاء لذلک و تطابق آرائهم علی مدح فاعل الحسن و ذم فاعل القبیح علی ما أوضحناه فیما سبق .و إذا اعترفوا بثبوت الحسن و القبح بهذا المعنی فهو اعتراف بإدراک العقل و لا معنی للتفکیک بین ثبوت الحسن و القبح و بین إدراک العقل لهما إلا إذا جاز تفکیک الشیء عن نفسه نعم إذا فسروا الحسن و القبح بالمعنیین الأولین جاز هذا التفکیک و لکنهما لیسا موضع النزاع عندهم .و هذا الأمر واضح لا یحتاج إلی أکثر من هذا البیان بعد ما قدمناه فی المبحث الأول

المبحث الثالث ثبوت الملازمة العقلیة بین حکم العقل و حکم الشرع
اشارة

و معنی الملازمة العقلیة هنا علی ما تقدم أنه إذا حکم العقل بحسن شیء أو قبحه هل یلزم عقلا أن یحکم الشرع علی طبقه و هذه هی المسألة الأصولیة التی تخص علمنا و کل ما تقدم من الکلام کان کالمقدمة لها و قد قلنا سابقا إن الأخباریین فسر کلامهم فی أحد الوجوه الثلاثة المتقدمة الذی یظهر من کلام بعضهم بإنکار هذه الملازمة و أما الأصولیون فقد أنکرها منهم صاحب الفصول و لم نعرف له موافقا

ص :236

و سیأتی توجیه کلامهم و کلام الأخباریین .و الحق أن الملازمة ثابتة عقلا فإن العقل إذا حکم بحسن شیء أو قبحه أی إنه إذا تطابقت آراء العقلاء جمیعا بما هم عقلاء علی حسن شیء لما فیه من حفظ النظام و بقاء النوع أو علی قبحه لما فیه من الإخلال بذلک فإن الحکم هذا یکون بادی رأی الجمیع فلا بد أن یحکم الشارع بحکمهم لأنه منهم بل رئیسهم فهو بما هو عاقل بل خالق العقل کسائر العقلاء لا بد أن یحکم بما یحکمون و لو فرضنا أنه لم یشارکهم فی حکمهم لما کان ذلک الحکم بادی رأی الجمیع و هذا خلاف الفرض .و بعد ثبوت ذلک ینبغی أن نبحث هنا عن مسألة أخری و هی أنه لو ورد من الشارع أمر فی مورد حکم العقل کقوله تعالی أَطِیعُوا اللّٰهَ وَ الرَّسُولَ فهذا الأمر من الشارع هل هو أمر مولوی أی أنه أمر منه بما هو مولی أو أنه أمر إرشادی أی أنه أمر لأجل الإرشاد إلی ما حکم به العقل أی أنه أمر منه بما هو عاقل و بعبارة أخری أن النزاع هنا فی أن مثل هذا الأمر من الشارع هل هو أمر تأسیسی و هذا معنی أنه مولوی أو أنه أمر تأکیدی و هو معنی أنه إرشادی .لقد وقع الخلاف فی ذلک و الحق أنه للإرشاد حیث یفرض أن حکم العقل هذا کاف لدعوة المکلف إلی الفعل الحسن و اندفاع إرادته للقیام به فلا حاجة إلی جعل الداعی من قبل المولی ثانیا بل یکون عبثا و لغوا بل هو مستحیل لأنه یکون من باب تحصیل الحاصل .و علیه فکل ما یرد فی لسان الشرع من الأوامر فی موارد المستقلات العقلیة لا بد أن یکون تأکیدا لحکم العقل لا تأسیسا .نعم لو قلنا بأن ما تطابقت علیه آراء العقلاء هو استحقاق المدح و الذم فقط علی وجه لا یلزم منه استحقاق الثواب و العقاب من قبل المولی أو أنه

ص :237

یلزم منه ذلک بل هو عینه (1)و لکن لا یدرک ذلک کل أحد فیمکن ألا یکون نفس إدراک استحقاق المدح و الذم کافیا لدعوة کل أحد إلی الفعل إلا للأفذاذ من الناس فلا یستغنی أکثر الناس عن الأمر من المولی المترتب علی موافقته الثواب و علی مخالفته العقاب فی مقام الدعوة إلی الفعل و انقیاده فإذا ورد أمر من المولی فی مورد حکم العقل المستقل فلا مانع من حمله علی الأمر المولوی إلا إذا استلزم منه محال التسلسل کالأمر بالطاعة و الأمر بالمعرفة بل مثل هذه الموارد لا معنی لأن یکون الأمر فیها مولویا لأنه لا یترتب علی موافقته و مخالفته غیر ما یترتب علی متعلق المأمور به نظیر الأمر بالاحتیاط فی أطراف العلم الإجمالی .

توضیح و تعقیب

و الحق أن الالتزام بالتحسین و التقبیح العقلیین هو نفس الالتزام بتحسین الشارع و تقبیحه وفقا لحکم العقلاء لأنه من جملتهم لا أنهما شیئان أحدهما یلزم الآخر و إن توهم ذلک بعضهم .و لذا تری أکثر الأصولیین و الکلامیین لم یجعلوهما مسألتین بعنوانین بل لم یعنونوا إلا مسألة واحدة هی مسألة التحسین و التقبیح العقلیین .و علیه فلا وجه للبحث عن ثبوت الملازمة بعد فرض القول بالتحسین و التقبیح و أما نحن فإنما جعلنا الملازمة مسألة مستقلة فللخلاف الذی وقع

ص :238


1- الحق کما - صرح بذلک کثیر من العلماء المحققین - أن معنی استحقاق المدح لیس إلا استحقاق الثواب ومعنی استحقاق الذم لیس الا استحقاق العقاب، بمعنی أن المراد من المدح ما یعم الثواب لان المراد بالمدح المجازاة بالخیر، والمراد من الذم ما یعم العقاب لان المراد به المکافأة بالشر. ولذا قالوا: ان مدح الشارع ثوابه وذمه عقابه، وأرادوا به هذا المعنی.

فیها بتوهم التفکیک .و من العجیب ما عن صاحب الفصول رحمه الله من إنکاره للملازمة مع قوله بالتحسین و التقبیح العقلیین و کأنه ظن أن کل ما أدرکه العقل من المصالح و المفاسد و لو بطریق نظری أو من غیر سبب عام من الأسباب المتقدم ذکرها یدخل فی مسألة التحسین و التقبیح و أن القائل بالملازمة یقول بالملازمة أیضا فی مثل ذلک .و لکن نحن قلنا إن قضایا التحسین و التقبیح هی القضایا التی تطابقت علیها آراء العقلاء کافة بما هم عقلاء و هی بادی رأی الجمیع و فی مثلها نقول بالملازمة لا مطلقا فلیس کل ما أدرکه العقل من أی سبب کان و لو لم تتطابق علیه الآراء أو تطابقت و لکن لا بما هم عقلاء یدخل فی هذه المسألة .و قد ذکرنا نحن سابقا أن ما یدرکه العقل من الحسن و القبح بسبب العادة أو الانفعال و نحوهما و ما یدرکه لا من سبب عام للجمیع لا یدخل فی موضوع مسألتنا .و نزید هذا بیانا و توضیحا هنا فنقول إن مصالح الأحکام الشرعیة المولویة التی هی نفسها ملاکات أحکام الشارع لا تندرج تحت ضابط نحن ندرکه بعقولنا إذ لا یجب فیها أن تکون هی بعینها المصالح العمومیة المبنی علیها حفظ النظام العام و إبقاء النوع التی هی أعنی هذه المصالح العمومیة مناطات الأحکام العقلیة فی مسألة التحسین و التقبیح العقلیین .و علی هذا فلا سبیل للعقل بما هو عقل إلی إدراک جمیع ملاکات الأحکام الشرعیة فإذا أدرک العقل المصلحة فی شیء أو المفسدة فی آخر و لم یکن إدراکه مستندا إلی إدراک المصلحة أو المفسدة العامتین اللتین یتساوی فی إدراکهما جمیع العقلاء فإنه أعنی العقل لا سبیل له إلی الحکم

ص :239

بأن هذا المدرک یجب أن یحکم به الشارع علی طبق حکم العقل إذ یحتمل أن هناک ما هو مناط لحکم الشارع غیر ما أدرکه العقل أو أن هناک مانعا یمنع من حکم الشارع علی طبق ما أدرکه العقل و إن کان ما أدرکه مقتضیا لحکم الشارع .و لأجل هذا نقول إنه لیس کل ما حکم به الشرع یجب أن یحکم به العقل و إلی هذا یرمی(قول إمامنا الصادق علیه السلام:إن دین الله لا یصاب بالعقل) و لأجل هذا أیضا نحن لا نعتبر القیاس و الاستحسان من الأدلة الشرعیة علی الأحکام .و علی هذا التقدیر فإن کان ما أنکره صاحب الفصول و الأخباریون من الملازمة هی الملازمة فی مثل تلک المدرکات العقلیة التی هی لیست من المستقلات العقلیة التی تطابقت علیها آراء العقلاء بما هم عقلاء فإن إنکارهم فی محله و هم علی حق فیه لا نزاع لنا معهم فیه و لکن هذا أمر أجنبی عن الملازمة المبحوث عنها فی المستقلات العقلیة .و إن کان ما أنکروه هی مطلق الملازمة حتی فی المستقلات العقلیة کما قد یظهر من بعض تعبیراتهم فهم لیسوا علی حق فیما أنکروا و لا مستند لهم .و علی هذا فیمکن التصالح بین الطرفین بتوجیه کلام الأخباریین و صاحب الفصول بما یتفق و ما أوضحناه و لعله لا یأباه بعض کلامهم

ص :240

الباب الثانی غیر المستقلات العقلیة

اشارة

ص :241

ص :242

تمهید

@

اشارة

سبق أن قلنا إن المراد من غیر المستقلات العقلیة هو ما لم یستقل العقل به وحده فی الوصول إلی النتیجة بل یستعین بحکم شرعی (1)فی إحدی مقدمتی القیاس و هی الصغری و المقدمة الأخری و هی الکبری الحکم العقلی الذی هو عبارة عن حکم العقل بالملازمة عقلا بین الحکم فی المقدمة الأولی و بین حکم شرعی آخر .مثاله حکم العقل بالملازمة بین وجوب ذی المقدمة شرعا و بین وجوب المقدمة شرعا .و هذه الملازمة العقلیة لها عدة موارد وقع فیها البحث و صارت موضعا للنزاع و نحن ذاکرون هنا أهم هذه المواضع فی مسائل

ص :243


1- قلنا (یستعین بحکم شرعی) ولم نقل (ان المقدمة شرعیة) لتعمیم بحث غیر المستقلات العقلیة لمسألة الاجزاء، فان صغری مسألة الاجزاء هکذا: (هذا الفعل اتیان بالمأمور به شرعا) والحکم بأن الفعل اتیان بالمأمور به یستعان فیه بالحکم الشرعی وهو الامر المفروض ثبوته.
المسألة الأولی الإجزاء[1]
تصدیر

لا شک فی أن المکلف إذا فعل بما أمر به مولاه علی الوجه المطلوب أی أتی بالمطلوب علی طبق ما أمر به جامعا لجمیع ما هو معتبر فیه من الأجزاء أو الشرائط شرعیة أو عقلیة فإن هذا الفعل منه یعتبر امتثالا لنفس ذلک الأمر سواء کان الأمر اختیاریا واقعیا أو اضطراریا أو ظاهریا .و لیس فی هذا خلاف أو یمکن أن یقع فیه الخلاف و کذا لا شک و لا خلاف فی أن هذا الامتثال علی تلک الصفة یجزئ و یکتفی به عن امتثال آخر لأن المکلف حسب الفرض قد جاء بما علیه من التکلیف علی الوجه المطلوب و کفی .و حینئذ یسقط الأمر الموجه إلیه لأنه قد حصل بالفعل ما دعا إلیه و انتهی أمده و یستحیل أن یبقی بعد حصول غرضه و ما کان قد دعا إلیه لانتهاء أمد دعوته بحصول غایته الداعیة إلیه إلا إذا جوزنا المحال و هو حصول المعلول بلا علة (1).

ص :244


1- وإذا صح أن یقال شئ فی هذا الباب فلیس فی أجزاء المأتی به والاکتفاء بأمتثال الامر، فان هذا قطعی کما قلنا فی المتن - وانما الذی یصح أن یقال ویبحث عنه ففی جواز الامتثال مرة أخری بدلا عن الامتثال الاول علی وجه یلغی الامتثال الاول ویکتفی بالثانی. وهو خارج عن مسألة الاجزاء، ویعبر عنه فی لسان الاصولیین بقولهم: (تبدیل الامتثال بالامتثال). وقد یتصور الطالب ان هذا لا مانع منه عقلا، بأن یتصور أن هناک حالة منتظرة بعد الامتثال الاول، بمعنی أن نتصور أن الغرض من الامر لم یحصل بمجرد الامتثال الاول فلا یسقط عنده الامر، بل یبقی مجال لامتثاله ثانیا، لا سیما إذا کان الامتثال الثانی أفضل. ویساعد علی هذا التصویر انه قد ورد فی الشریعة ما یؤید ذلک بظاهره مثل ما ورد فی باب اعادة من صلی فرادی عند حضور الجماعة: (ان الله تعالی یختار أحبهما إلیه). والحق عدم جواز تبدیل الامتثال بامتثال آخر، لان الاتیان بالمأمور به بحدوده وقیوده علة تامة لحصول الغرض، فلا تبقی حالة منتظرة بعد الامتثال الاول فیسقط الامر لانتهاء أمده کما قلنا فی المتن. أما ما ورد فی جواز ذلک فیحمل علی استحباب الاعادة بامر آخر ندبی، وینبغی أن یحمل قوله علیه السلام (یختار أحبهما إلیه) علی أن المراد یختار ذلک فی مقام عطاء الثواب والاجر، لا فی مقام امتثال الامر الوجوبی بالصلاة وان الامتثال یقع بالثانی.

و إنما وقع الخلاف أو یمکن أن یقع فی مسألة الإجزاء فیما إذا کان هناک أمران أمر أولی واقعی لم یمتثله المکلف إما لتعذره علیه أو لجهله به و أمر ثانوی إما اضطراری فی صورة تعذر الأول و إما ظاهری فی صورة الجهل بالأول فإنه إذا امتثل المکلف هذا الأمر الثانوی الاضطراری أو الظاهری ثم زال العذر و الاضطرار أو زال الجهل و انکشف الواقع صح الخلاف فی کفایة ما أتی به امتثالا للأمر الثانی عن امتثال الأمر الأول و إجزائه عنه إعادة فی الوقت و قضاء فی خارجه .و لأجل هذا عقدت هذه المسألة مسألة الإجزاء .و حقیقتها هو البحث عن ثبوت الملازمة عقلا بین الإتیان بالمأمور

ص :245

به بالأمر الاضطراری أو الظاهری و بین الإجزاء و الاکتفاء به عن امتثال الأمر الأولی الاختیاری الواقعی .و قد عبر بعض علماء الأصول المتأخرین عن هذه المسألة بقوله هل الإتیان بالمأمور به علی وجهه یقتضی الإجزاء أو لا یقتضی .و المراد من الاقتضاء فی کلامه الاقتضاء بمعنی العلیة و التأثیر أی أنه هل یلزم عقلا من الإتیان بالمأمور به سقوط التکلیف شرعا أداء و قضاء .و من هنا تدخل هذه المسألة فی باب الملازمات العقلیة علی ما حررنا البحث فی صدر هذا المقصد عن المراد بالملازمة العقلیة و لا وجه لجعلها من باب مباحث الألفاظ لأن ذلک لیس من شئون الدلالة اللفظیة .و علینا أن نعقد البحث فی مقامین الأول فی إجزاء المأمور به بالأمر الاضطراری الثانی فی إجزاء المأمور به بالأمر الظاهری

المقام الأول الأمر الاضطراری

وردت فی الشریعة المطهرة أوامر لا تحصی تختص بحال الضرورات و تعذر امتثال الأوامر الأولی أو بحال الحرج فی امتثالها مثل التیمم و وضوء الجبیرة و غسلها و صلاة العاجز عن القیام أو القعود و صلاة الغریق .و لا شک فی أن الاضطرار ترتفع به فعلیة التکلیف لأن الله تعالی لا یکلف نفسا إلا وسعها و قد ورد فی(الحدیث النبوی المشهور الصحیح:رفع عن أمتی ما اضطروا إلیه) .غیر أن الشارع المقدس حرصا علی بعض العبادات لا سیما الصلاة التی لا تترک بحال أمر عباده بالاستعاضة عما اضطروا إلی ترکه بالإتیان

ص :246

ببدل عنه فأمر مثلا بالتیمم بدلا عن الوضوء أو الغسل و قد جاء(فی الحدیث:یکفیک عشر سنین) و أمر بالمسح علی الجبیرة بدلا عن غسل بشرة العضو فی الوضوء و الغسل و أمر بالصلاة من جلوس بدلا عن الصلاة من قیام و هکذا فیما لا یحصی من الأوامر الواردة فی حال اضطرار المکلف و عجزه عن امتثال الأمر الأولی الاختیاری أو فی حال الحرج فی امتثاله .و لا شک فی أن هذه الأوامر الاضطراریة هی أوامر واقعیة حقیقیة ذات مصالح ملزمة کالأوامر الأولیة و قد تسمی الأوامر الثانویة تنبیها علی أنها واردة لحالات طارئة ثانویة علی المکلف و إذا امتثلها المکلف أدی ما علیه فی هذا الحال و سقط عنه التکلیف بها .و لکن یقع البحث و التساؤل فیما لو ارتفعت تلک الحالة الاضطراریة الثانویة و رجع المکلف إلی حالته الأولی من التمکن من أداء ما کان علیه واجبا فی حالة الاختیار فهل یجزئه ما کان قد أتی به فی حال الاضطرار أو لا یجزئه بل لا بد له من إعادة الفعل فی الوقت أداء إذا کان ارتفاع الاضطرار قبل انتهاء وقت الفعل و کنا قلنا بجواز البدار (1)أو إعادته خارج الوقت قضاء إذا کان ارتفاع الاضطرار بعد الوقت .إن هذا أمر یصح فیه الشک و التساؤل و إن کان المعروف بین الفقهاء فی فتاویهم القول بالإجزاء مطلقا أداء و قضاء .غیر أن إطباقهم علی القول بالإجزاء لیس مستندا إلی دعوی أن البدیهیة العقلیة تقضی به لأنه هنا یمکن تصور عدم الإجزاء بلا محذور عقلی أعنی یمکننا أن نتصور عدم الملازمة بین الإتیان بالمأمور به بالأمر الاضطراری

ص :247


1- لانه إذا لم یجز البدار، فان ابتدر فعمله باطل فکیف یجزئ، وان لم یبتدر فلا یبقی مجال لزوال العذر فی الوقت حتی یتصور الاداء.

و بین الإجزاء به عن الأمر الواقعی الاختیاری .توضیح ذلک أنه لا إشکال فی أن المأتی به فی حال الاضطرار أنقص من المأمور به حال الاختیار و القول بالإجزاء فیه معناه کفایة الناقص عن الکامل مع فرض حصول التمکن من أداء الکامل فی الوقت أو خارجه .و لا شک فی أن العقل لا یری بأسا بالأمر بالفعل ثانیا بعد زوال الضرورة تحصیلا للکامل الذی قد فات منه بل قد یلزم العقل بذلک إذا کان فی الکامل مصلحة ملزمة لا یفی بها الناقص و لا یسد مسد الکامل فی تحصیلها .و المقصود الذی نرید أن نقوله بصریح العبارة أن الإتیان بالناقص لیس بالنظرة الأولی مما یقتضی عقلا الإجزاء عن الکامل .فلا بد أن یکون ذهاب الفقهاء إلی الإجزاء لسر هناک إما لوجود ملازمة بین الإتیان بالناقص و بین الإجزاء عن الکامل و إما لغیر ذلک من الأسباب فیجب أن نتبین ذلک فنقول هناک وجوه أربعة تصلح أن تکون کلها أو بعضها مستندا للقول بالإجزاء نذکرها کلها 1 أنه من المعلوم أن الأحکام الواردة فی حال الاضطرار واردة للتخفیف علی المکلفین و التوسعة علیهم فی تحصیل مصالح التکالیف الأصلیة الأولیة یُرِیدُ اللّٰهُ بِکُمُ الْیُسْرَ وَ لاٰ یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ .و لیس من شأن التخفیف و التوسعة أن یکلفهم ثانیا بالقضاء أو الأداء و إن کان الناقص لا یسد مسد الکامل فی تحصیل کل مصلحته الملزمة .2 أن أکثر الأدلة الواردة فی التکالیف الاضطراریة مطلقة مثل قوله تعالی فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَیَمَّمُوا صَعِیداً طَیِّباً أی أن ظاهرها بمقتضی الإطلاق الاکتفاء بالتکلیف الثانی لحال الضرورة و أن التکلیف منحصر فیه و لیس وراءه تکلیف آخر فلو أن الأداء أو القضاء واجبان أیضا لوجب البیان و التنصیص علی ذلک و إذ لم یبین ذلک علم أن الناقص یجزئ عن أداء الکامل

ص :248

أداء و قضاء لا سیما مع ورود مثل(قوله علیه السلام:إن التراب یکفیک عشر سنین) .3 أن القضاء بالخصوص إنما یجب فیما إذا صدق الفوت و یمکن أن یقال إنه لا یصدق الفوت فی المقام لأن القضاء إنما یفرض فیما إذا کانت الضرورة مستمرة فی جمیع وقت الأداء و علی هذا التقدیر لا أمر بالکامل فی الوقت و إذا لم یکن أمر فقد یقال إنه لا یصدق بالنسبة إلیه فوت الفریضة إذ لا فریضة .و أما الأداء فإنما یفرض فیما یجوز البدار به و قد ابتدر المکلف حسب الفرض إلی فعل الناقص فی الأزمنة الأولی من الوقت ثم زالت الضرورة قبل انتهاء الوقت و نفس الرخصة فی البدار لو ثبتت تشیر إلی مسامحة الشارع فی تحصیل الکامل عند التمکن و إلا لفرض علیه الانتظار تحصیلا للکامل .4 إذا کنا قد شککنا فی وجوب الأداء و القضاء و المفروض أن وجوبهما لم ننفه بإطلاق و نحوه فإن هذا شک فی أصل التکلیف و فی مثله تجری أصالة البراءة القاضیة بعدم وجوبهما .فهذه الوجوه الأربعة کلها أو بعضها أو نحوها هی سر حکم الفقهاء بالإجزاء قضاء و أداء و القول بالإجزاء علی هذا أمر لا مفر منه و یتأکد ذلک فی الصلاة التی هی العمدة فی الباب

ص :249

المقام الثانی الأمر الظاهری
تمهید
اشارة

للحکم الظاهری اصطلاحان أحدهما ما تقدم فی أول الجزء الأول ص 6 و هو المقابل للحکم الواقعی و إن کان الواقعی مستفادا من الأدلة الاجتهادیة الظنیة فیختص الظاهری بما ثبت بالأصول العملیة و ثانیهما کل حکم ثبت ظاهرا عند الجهل بالحکم الواقعی الثابت فی علم الله تعالی فیشمل الحکم الثابت بالأمارات و الأصول معا فیکون الحکم الظاهری بالمعنی الثانی أعم من الأول .و هذا المعنی الثانی العام هو المقصود هنا بالبحث فالأمر الظاهری ما تضمنه الأصل أو الأمارة .ثم إنه لا شک فی أن الأمر الواقعی فی موردی الأصل و الأمارة غیر منجز علی المکلف بمعنی أنه لا عقاب علی مخالفته بسبب العمل بالأمارة و الأصل لو اتفق مخالفتهما له لأنه من الواضح أن کل تکلیف غیر واصل إلی المکلف بعد الفحص و الیأس غیر منجز علیه ضرورة أن التکلیف إنما یتنجز بوصوله بأی نحو من أنحاء الوصول و لو بالعلم الإجمالی .هذا کله لا کلام فیه و سیأتی فی مباحث الحجة تفصیل الحدیث عنه و إنما الذی یحسن أن نبحث عنه هنا فی هذا الباب هو أن الأمر الواقعی المجهول لو انکشف فیه بعد ذلک خطأ الأمارة أو الأصل و قد عمل المکلف حسب الفرض علی خلافه اتباعا للأمارة الخاطئة أو الأصل المخالف للواقع فهل یجب علی المکلف امتثال الأمر الواقعی فی الوقت أداء و فی خارج الوقت قضاء أو إنه لا یجب شیء علیه بل یجزی ما أتی به علی طبق

ص :250

الأمارة أو الأصل و یکتفی به .ثم إن العمل علی خلاف الواقع کما سبق تارة یکون بالأمارة و أخری بالأصل ثم الانکشاف علی نحوین انکشاف علی نحو الیقین و انکشاف بمقتضی حجة معتبرة فهذه أربع صور .و لاختلاف البحث فی هذه الصور مع اتفاق صورتین منها فی الحکم و هما صورتا الانکشاف بحجة معتبرة مع العمل علی طبق الأمارة و مع العمل بمقتضی الأصل نعقد البحث فی ثلاث مسائل

1 الإجزاء فی الأمارة مع انکشاف الخطإ یقینا

إن قیام الأمارة تارة یکون فی الأحکام کقیام الأمارة علی وجوب صلاة الظهر یوم الجمعة حال الغیبة بدلا عن صلاة الجمعة و أخری فی الموضوعات کقیام البینة علی طهارة ثوب صلی به أو ماء توضأ منه ثم بانت نجاسته .و المعروف عند الإمامیة عدم الإجزاء مطلقا فی الأحکام و الموضوعات أما فی الأحکام فلأجل اتفاقهم علی مذهب التخطئة أی أن المجتهد یخطئ و یصیب لأن لله تعالی أحکاما ثابتة فی الواقع یشترک فیها العالم و الجاهل أی إن الجاهل مکلف بها کالعالم غایة الأمر أنها غیر منجزة بالفعل بالنسبة إلی الجاهل القاصر (1)حین جهله و إنما یکون معذورا فی المخالفة

ص :251


1- الجاهل القاصر من لم یتمکن من الفحص أو فحص فلم یعثر. ویقابله المقصر، وهو بعکسه. والاحکام منجزة بالنسبة إلی المقصر لحصول العلم الاجمالی بها عنده، والعلم منجز للاحکام وإن کان اجمالیا فلا یکون معذورا. بل الاحتمال وحده بالنسبة إلیه یکون منجزا وسیأتی البحث عن ذلک فی (مباحث الحجة).

لو اتفقت له باتباع الأمارة إذ لا تکون الأمارة عندهم إلا طریقا محضا لتحصیل الواقع .و مع انکشاف الخطإ لا یبقی مجال للعذر بل یتنجز الواقع حینئذ فی حقه من دون أن یکون قد جاء بشیء یسد مسده و یغنی عنه .و لا یصح القول بالإجزاء إلا إذا قلنا إنه بقیام الأمارة علی وجوب شیء تحدث فیه مصلحة ملزمة علی أن تکون هذه المصلحة وافیة بمصلحة الواقع یتدارک بها مصلحة الواجب الواقعی فتکون الأمارة مأخوذة علی نحو الموضوعیة للحکم ضرورة أنه مع هذا الفرض یکون ما أتی به علی طبق الأمارة مجزیا عن الواقع لأنه قد أتی بما یسد مسده و یغنی عنه فی تحصیل مصلحة الواقع .و لکن هذا معناه التصویب المنسوب إلی المعتزلة أی أن أحکام الله تعالی تابعة لآراء المجتهدین و إن کانت له أحکام واقعیة ثابتة فی نفسها فإنه یکون علیه کل رأی أدی إلیه نظر المجتهد قد أنشأ الله تعالی علی طبقه حکما من الأحکام و التصویب بهذا المعنی قد اجتمعت الإمامیة علی بطلانه و سیأتی البحث عنه فی مباحث الحجة .و أما القول بالمصلحة السلوکیة أی أن نفس متابعة الأمارة فیه مصلحة ملزمة یتدارک بها ما فات من مصلحة الواقع و إن لم تحدث مصلحة فی نفس الفعل الذی أدت الأمارة إلی وجوبه فهذا قول لبعض الإمامیة لتصحیح جعل الطرق و الأمارات فی فرض التمکن من تحصیل العلم علی ما سیأتی بیانه فی محله إن شاء الله تعالی .و لکنه علی تقدیر صحة هذا القول لا یقتضی الإجزاء أیضا لأنه علی فرضه تبقی مصلحة الواقع علی ما هی علیه عند انکشاف خطإ الأمارة فی الوقت أو فی خارجه .

ص :252

توضیح ذلک أن المصلحة السلوکیة المدعاة هی مصلحة تدارک الواقع باعتبار أن الشارع لما جعل الأمارة فی حال تمکن المکلف من تحصیل العلم بالواقع فإنه قد فوت علیه الواقع فلا بد من فرض تدارکه بمصلحة تکون فی نفس اتباع الأمارة و اللازم من المصلحة التی یتدارک بها الواقع أن تقدر بقدر ما فات من الواقع من مصلحة لا أکثر و عند انکشاف الخطإ فی الوقت لم یفت من مصلحة الواقع إلا مصلحة فضیلة أول الوقت و عند انکشاف الخطإ فی خارج الوقت لم تفت إلا مصلحة الوقت أما مصلحة أصل الفعل فلم تفت من المکلف لإمکان تحصیلها بعد الانکشاف فما هو الملزم للقول بحصول مصلحة یتدارک بها أصل مصلحة الفعل حتی یلزم الإجزاء .و أما فی الموضوعات فالظاهر أن المعروف عندهم أن الأمارة فیها قد أخذت علی نحو الطریقیة کقاعدة الید و الصحة و سوق المسلمین و نحوها فإن أصابت الواقع فذاک و إن أخطأت فالواقع علی حاله و لا تحدث بسببها مصلحة یتدارک بها مصلحة الواقع غایة الأمر أن المکلف معها معذور عند الخطإ و شأنها فی ذلک شأن الأمارة فی الأحکام .و السر فی حملها علی الطریقیة هو أن الدلیل الذی دل علی حجیة الأمارة فی الأحکام هو نفسه دل علی حجیتها فی الموضوعات بلسان واحد فی الجمیع لا أن القول بالموضوعیة هنا یقتضی محذور التصویب المجمع علی بطلانه عند الإمامیة کالأمارة فی الأحکام و علیه فالأمارة فی الموضوعات أیضا لا تقتضی الإجزاء بلا فرق بینها و بین الأمارة فی الأحکام

ص :253

2 الإجزاء فی الأصول مع انکشاف الخطإ یقینا

لا شک فی أن العمل بالأصل إنما یصح إذا فقد المکلف الدلیل الاجتهادی علی الحکم فیرجع إلیه باعتباره وظیفة للجاهل لا بد منها للخروج من الحیرة .فالأصل فی حقیقته وظیفة للجاهل الشاک ینتهی إلیه فی مقام العمل إذ لا سبیل له غیر ذلک لرفع الحیرة و علاج حالة الشک .ثم إن الأصل علی قسمین 1 أصل عقلی و المراد منه ما یحکم به العقل و لا یتضمن جعل حکم ظاهری من الشارع کالاحتیاط و قاعدة التخییر و البراءة العقلیة التی مرجعها إلی حکم العقل بنفی العقاب بلا بیان فهی لا مضمون لها إلا رفع العقاب لا جعل حکم بالإباحة من الشارع .2 أصل شرعی و هو المجعول من الشارع فی مقام الشک و الحیرة فیتضمن جعل حکم ظاهری کالاستصحاب و البراءة الشرعیة التی مرجعها إلی حکم الشارع بالإباحة و مثلها أصالة الطهارة و الحلیة .إذا عرفت ذلک فنقول أولا إن بحث الإجزاء لا یتصور فی قاعدة الاحتیاط مطلقا سواء کانت عقلیة أو شرعیة لأن المفروض فی الاحتیاط هو العمل بما یحقق امتثال التکلیف الواقعی فلا یتصور فیه تفویت المصلحة .و ثانیا کذلک لا یتصور بحث الإجزاء فی الأصول العقلیة الأخری کالبراءة و قاعدة التخییر لأنها حسب الفرض لا تتضمن حکما ظاهریا حتی یتصور فیها الإجزاء و الاکتفاء بالمأتی به عن الواقع بل إن مضمونها هو سقوط العقاب و المعذوریة المجردة .و علیه فینحصر البحث فی خصوص الأصول الشرعیة عدا الاحتیاط

ص :254

کالاستصحاب و أصالة البراءة و الحلیة و أصالة الطهارة .و هی لأول وهلة لا مجال لتوهم الإجزاء فیها لا فی الأحکام و لا فی الموضوعات فإنها أولی من الأمارات فی عدم الإجزاء باعتبار أنها کما ذکرنا فی صدر البحث وظیفة عملیة یرجع إلیها الجاهل الشاک لرفع الحیرة فی مقام العمل و العلاج الوقتی أما الواقع فهو علی واقعیته فیتنجز حین العلم به و انکشافه و لا مصلحة فی العمل بالأصل غیر رفع الحیرة عند الشک فلا یتصور فیه مصلحة وافیة یتدارک بها مصلحة الواقع حتی یقتضی الإجزاء و الاکتفاء به عن الواقع .و لذا أفتی علماؤنا المتقدمون بعدم الإجزاء فی الأصول العملیة .و مع هذا فقد قال قوم من المتأخرین بالإجزاء منهم شیخنا صاحب الکفایة و تبعه تلمیذه أستاذنا الشیخ محمد حسین الأصفهانی و لکن ذلک فی خصوص الأصول الجاریة لتنقیح موضوع التکلیف و تحقیق متعلقه کقاعدة الطهارة و أصالة الحلیة و استصحابهما دون الأصول الجاریة فی نفس الأحکام .و منشأ هذا الرأی عنده اعتقاده بأن دلیل الأصل فی موضوعات الأحکام موسع لدائرة الشرط أو الجزء المعتبر فی موضوع التکلیف و متعلقه بأن یکون مثل(قوله علیه السلام:کل شیء نظیف حتی تعلم أنه قذر) یدل علی أن کل شیء قبل العلم بنجاسته محکوم بالطهارة و بالحکم بالطهارة حکم بترتیب آثارها و إنشاء لأحکامها التکلیفیة و الوضعیة التی منها الشرطیة فتصح الصلاة بمشکوک الطهارة کما تصح بالطاهر الواقعی .و یلزم من ذلک أن یکون الشرط فی الصلاة حقیقة أعم من الطهارة الواقعیة و الطهارة الظاهریة .و إذا کان الأمر کذلک فإذا انکشف الخلاف لا یکون ذلک موجبا

ص :255

لانکشاف فقدان العمل لشرطه بل یکون بالنسبة إلیه من قبیل ارتفاعه من حین ارتفاع الجهل فلا یتصور حینئذ معنی لعدم الإجزاء بالنسبة إلی ما أتی به حین الشک و المفروض أن ما أتی به یکون واجدا لشرطه المعتبر فیه تحقیقا باعتبار أن الشرط هو الأعم من الطهارة الواقعیة و الظاهریة حین الجهل فلا یکون فیه انکشاف للخلاف و لا فقدان للشرط .و قد ناقشه شیخنا المیرزا النائینی بعده مناقشات یطول ذکرها و لا یسعها هذا المختصر و الموضوع من المباحث الدقیقة التی هی فوق مستوی کتابنا

3 الإجزاء فی الأمارات و الأصول مع انکشاف الخطإ بحجة معتبرة

و هذه أهم مسألة فی الإجزاء من جهة عموم البلوی بها للمکلفین فإن المجتهدین کثیرا ما یحصل لهم تبدل فی الرأی بما یوجب فساد أعمالهم السابقة ظاهرا و بتبعهم المقلدون لهم و المقلدون أیضا قد ینتقلون من تقلید شخص إلی تقلید شخص آخر یخالف الأول فی الرأی بما یوجب فساد الأعمال السابقة .فنقول فی هذه الأحوال إنه بعد قیام الحجة المعتبرة اللاحقة بالنسبة إلی المجتهد أو المقلد لا إشکال فی وجوب الأخذ بها فی الوقائع اللاحقة غیر المرتبطة بالوقائع السابقة .و لا إشکال أیضا فی معنی الوقائع السابقة التی لا یترتب علیها أثر أصلا فی الزمن اللاحق .و إنما الإشکال فی الوقائع اللاحقة المرتبطة بالوقائع السابقة مثل ما لو انکشف الخطأ اجتهادا أو تقلیدا فی وقت العبادة و قد عمل بمقتضی الحجة السابقة أو انکشف الخطأ فی خارج الوقت و کان عمله مما یقضی کالصلاة و مثل ما لو تزوج زوجة بعقد غیر عربی اجتهادا أو تقلیدا ثم

ص :256

قامت الحجة عنده علی اعتبار اللفظ العربی و الزوجة لا تزال موجودة .فإن المعروف فی الموضوعات الخارجیة عدم الإجزاء .أما فی الأحکام فقد قیل بقیام الإجماع علی الإجزاء لا سیما فی الأمور العبادیة کالمثال الأول المتقدم .و لکن العمدة فی الباب أن نبحث عن القاعدة ما ذا تقتضی هنا هل تقتضی الإجزاء أو لا تقتضیه و الظاهر أنها لا تقتضی الإجزاء .و خلاصة ما ینبغی أن یقال أن من یدعی الإجزاء لا بد أن یدعی أن المکلف لا یلزمه فی الزمان اللاحق إلا العمل علی طبق الحجة الأخیرة التی قامت عنده و أما عمله السابق فقد کان علی طبق حجة ماضیة علیه فی حینها و لکن یقال له إن التبدل الذی حصل له إما أن یدعی أنه تبدل فی الحکم الواقعی أو تبدل فی الحجة علیه و لا ثالث لهما .أما دعوی التبدل فی الحکم الواقعی فلا إشکال فی بطلانها لأنها تستلزم القول بالتصویب و هو ظاهر .و أما دعوی التبدل فی الحجة فإن أراد أن الحجة الأولی هی حجة بالنسبة إلی الأعمال السابقة و بالنظر إلی وقتها فقط فهذا لا ینفع فی الإجزاء بالنسبة إلی الأعمال اللاحقة و آثار الأعمال السابقة و إن أراد أن الحجة الأولی هی حجة مطلقا حتی بالنسبة إلی الأعمال اللاحقة و آثار الأعمال السابقة فالدعوی باطلة قطعا .لأنه فی تبدل الاجتهاد ینکشف بحجة معتبرة أن المدرک السابق لم یکن حجة مطلقا حتی بالنسبة إلی أعماله اللاحقة أو أنه تخیله حجة و هو لیس بحجة لا أن المدرک الأول حجة مطلقا و هذا الثانی حجة أخری و کذلک الکلام فی تبدل التقلید فإن مقتضی التقلید الثانی هو انکشاف بطلان الأعمال الواقعة علی طبق التقلید الأول فلا بد من ترتیب

ص :257

الأثر علی طبق الحجة الفعلیة فإن الحجة السابقة أی التقلید الأول کلا حجة بالنسبة إلی الآثار اللاحقة و إن کانت حجة علیه فی وقته و المفروض عدم التبدل فی الحکم الواقعی فهو باق علی حاله فیجب العمل علی طبق الحجة الفعلیة و ما تقتضیه .فلا إجزاء إلا إذا ثبت الإجماع علیه .و تفصیل الکلام فی هذا الموضوع یحتاج إلی سعة من القول فوق مستوی هذا المختصر .

تنبیه فی تبدل القطع

لو قطع المکلف بأمر خطإ فعمل علی طبق قطعه ثم بان له یقینا خطؤه فإنه لا ینبغی الشک فی عدم الإجزاء و السر واضح لأنه عند القطع الأول لم یفعل ما یستوفی مصلحة الواقع بأی وجه من وجوه الاستیفاء فکیف یسقط التکلیف الواقعی لأنه فی الحقیقة لا أمر موجه إلیه و إنما کان یتخیل الأمر .و علیه فیجب امتثال الواقع فی الوقت أداء و فی خارجه قضاء .نعم لو أن العمل الذی قطع بوجوبه کان من باب الاتفاق محققا لمصلحة الواقع فإنه لا بد أن یکون مجزیا و لکن هذا أمر آخر اتفاقی لیس من جهة کونه مقطوع الوجوب

ص :258

المسألة الثانیة مقدمة الواجب
تحریر النزاع

کل عاقل یجد من نفسه أنه إذا وجب علیه شیء و کان حصوله یتوقف علی مقدمات فإنه لا بد له من تحصیل تلک المقدمات لیتوصل إلی فعل ذلک الشیء بها .و هذا الأمر بهذا المقدار لیس موضعا للشک و النزاع و إنما الذی وقع موضعا للشک و جری فیه النزاع عند الأصولیین هو أن هذه اللابدیة العقلیة للمقدمة التی لا یتم الواجب إلا بها هل یستکشف منها اللابدیة شرعا أیضا یعنی أن الواجب هل یلزم عقلا من وجوبه الشرعی وجوب مقدمته شرعا أو فقل علی نحو العموم کل فعل واجب عند مولی من الموالی هل یلزم منه عقلا وجوب مقدمته أیضا عند ذلک المولی .و بعبارة رابعة أکثر وضوحا أن العقل لا شک یحکم بوجوب مقدمة الواجب أی یدرک لزومها و لکن هل یحکم أیضا بأنها واجبة أیضا عند من أمر بما یتوقف علیها .و علی هذا البیان فالملازمة بین حکم العقل و حکم الشرع هی موضع البحث فی هذه المسألة .

مقدمة الواجب من أی قسم من المباحث الأصولیة

و إذا اتضح ما تقدم فی تحریر النزاع نستطیع أن نفهم أنه فی أی قسم من أقسام المباحث الأصولیة ینبغی أن تدخل هذه المسألة و توضیح ذلک

ص :259

أن هذه الملازمة علی تقدیر القول بها تکون علی أنحاء ثلاثة إما ملازمة غیر بینة أو بینة بالمعنی الأعم أو بینة بالمعنی الأخص (1).فإن کانت هذه الملازمة فی نظر القائل بها غیر بینة أو بینة بالمعنی الأعم فإثبات اللازم و هو وجوب المقدمة شرعا لا یرجع إلی دلالة اللفظ أبدا بل إثباته إنما یتوقف علی حجیة هذا الحکم العقلی بالملازمة و إذا تحققت هناک دلالة فهی من نوع دلالة الإشارة (2)و علی هذا فیجب أن تدخل المسألة فی بحث الملازمات العقلیة غیر المستقلة و لا یصح إدراجها فی مباحث الألفاظ .و إن کانت هذه الملازمة فی نظر القائل بها ملازمة بینة بالمعنی الأخص فإثبات اللازم یکون لا محالة بالدلالة اللفظیة و هی الدلالة الالتزامیة خاصة و الدلالة الالتزامیة من الظواهر التی هی حجة .و لعله لأجل هذا أدخلوا هذه المسألة فی مباحث الألفاظ و جعلوها من مباحث الأوامر بالخصوص و هم علی حق فی ذلک إذا کان القائل بالملازمة لا یقول بها إلا لکونها ملازمة بینة بالمعنی الأخص و لکن الأمر لیس کذلک .إذن یمکننا أن نقول إن هذه المسألة ذات جهتین باختلاف الأقوال فیها یمکن أن تدخل فی مباحث الألفاظ علی بعض الأقوال و یمکن أن تدخل فی الملازمات العقلیة علی البعض الآخر .

ص :260


1- راجع عن معنی الملازمة و أقسامها الثلاثة الجزء الأول من المنطق للمؤلف ص 79 الطبعة الثانیة.
2- راجع دلالة الاشارة الجزء الاول ص 135، فانه ذکرنا هناک أن دلالة الاشارة لیست من الظواهر فلا تدخل فی حجیة الظهور، وانما حجیتها - علی تقدیره - من باب الملازمة العقلیة.

و لکن لأجل الجمع بین الجهتین ناسب إدخالها فی الملازمات العقلیة کما صنعنا لأن البحث فیها علی کل حال فی ثبوت الملازمة غایة الأمر أنه علی أحد الأقوال تدخل صغری لحجیة الظهور کما تدخل صغری لحجیة العقل و علی القول الآخر تتمحض فی الدخول صغری لحجیة العقل .و الجامع بینهما هو جعلها صغری لحجیة العقل .

ثمرة النزاع

إن ثمرة النزاع المتصورة أولا و بالذات لهذه المسألة هی استنتاج وجوب المقدمة شرعا بالإضافة إلی وجوبها العقلی الثابت و هذا المقدار کاف فی ثمرة المسألة الأصولیة لأن المقصود من علم الأصول هو الاستعانة بمسائله علی استنباط الأحکام من أدلتها .و لکن هذه ثمرة غیر عملیة باعتبار أن المقدمة بعد فرض وجوبها العقلی و لابدیة الإتیان بها لا فائدة فی القول بوجوبها شرعا أو بعدم وجوبها إذ لا مجال للمکلف أن یترکها بحال ما دام هو بصدد امتثال ذی المقدمة .و علیه فالبحث عن هذه المسألة لا یکون بحثا عملیا مفیدا بل یبدو لأول وهلة أنه لغو من القول لا طائل تحته مع أن هذه المسألة من أشهر مسائل هذا العلم و أدقها و أکثرها بحثا .و من أجل هذا أخذ بعض الأصولیین المتأخرین یفتشون عن فوائد عملیة لهذا البحث غیر ثمرة أصل الوجوب و فی الحقیقة أن کل ما ذکروه من ثمرات لا تسمن و لا تغنی من جوع .راجع عنها المطولات إن شئت .فیا تری هل کان البحث عنها کله لغوا و هل من الأصح أن نترک

ص :261

البحث عنها نقول لا .إن للمسألة فوائد علمیة کثیرة إن لم تکن لها فوائد عملیة و لا یستهان بتلک الفوائد کما ستری ثم هی ترتبط بکثیر من المسائل ذات الشأن العملی فی الفقه کالبحث عن الشرط المتأخر و المقدمات المفوتة و عبادیة بعض المقدمات کالطهارات الثلاث مما لا یسع الأصولی أن یتجاهلها و یغفلها و هذا کله لیس بالشیء القلیل و إن لم تکن هی من المسائل الأصولیة .و لذا تجد أن أهم مباحث مسألتنا هی هذه الأمور المنوه عنها و أمثالها أما نفس البحث عن أصل الملازمة فیکاد یکون بحثا علی الهامش بل آخر ما یشغل بال الأصولیین .هذا و نحن اتباعا لطریقتهم نضع التمهیدات قبل البحث عن أصل المسألة فی أمور تسعة

1 الواجب النفسی و الغیری

تقدم فی الجزء الأول 77 معنی الواجب النفسی و الغیری و یجب توضیحهما الآن فإنه هنا موضع الحاجة لبحثهما لأن الوجوب الغیری هو نفس وجوب المقدمة علی تقدیر القول بوجوبها .و علیه فنقول فی تعریفهما (الواجب النفسی ما وجب لنفسه لا لواجب آخر)(الواجب الغیری ما وجب لواجب آخر) .و هذان التعریفان أسد التعریفات لهما و أحسنها و لکن یحتاجان إلی بعض من التوضیح فإن قولنا ما وجب لنفسه قد یتوهم منه المتوهم لأول نظره أن

ص :262

العبارة تعطی أن معناها أن یکون وجوب الشیء علة لنفسه فی الواجب النفسی و ذلک بمقتضی المقابلة لتعریف الواجب الغیری إذ یستفاد منه أن وجوب الغیر علة لوجوبه کما علیه المشهور و لا شک فی أن هذا محال فی الواجب النفسی إذ کیف یکون الشیء علة لنفسه .و یندفع هذا التوهم بأدنی تأمل فإن ذلک التعبیر عن الواجب النفسی صحیح لا غبار علیه و هو نظیر تعبیرهم عن الله تعالی بأنه واجب الوجود لذاته فإن غرضهم منه أن وجوده لیس مستفادا من الغیر و لا لأجل الغیر کالممکن لا أن معناه أنه معلول لذاته و کذلک هنا نقول فی الواجب النفسی فإن معنی ما وجب لنفسه أن وجوبه غیر مستفاد من الغیر و لا لأجل الغیر فی قبال الواجب الغیری الذی وجوبه لأجل الغیر لا أن وجوبه مستفاد من نفسه .و بهذا یتضح معنی تعریف الواجب الغیری ما وجب لواجب آخر فإن معناه أن وجوبه لأجل الغیر و تابع للغیر لکونه مقدمة لذلک الغیر الواجب و سیأتی فی البحث الآتی توضیح معنی التبعیة هذه لیتجلی لنا المقصود من الوجوب الغیری فی الباب

2 معنی التبعیة فی الوجوب الغیری

قد شاع فی تعبیراتهم کثیرا قولهم إن الواجب الغیری تابع فی وجوبه لوجوب غیره و لکن هذا التعبیر مجمل جدا لأن التبعیة فی الوجوب یمکن أن تتصور لها معانی أربعة فلا بد من بیانها و بیان المعنی المقصود منها هنا فنقول 1 أن یکون معنی الوجوب التبعی هو الوجوب بالعرض و معنی

ص :263

ذلک أنه لیس فی الواقع إلا وجوب واحد حقیقی و هو الوجوب النفسی ینسب إلی ذی المقدمة أولا و بالذات و إلی المقدمة ثانیا و بالعرض و ذلک نظیر الوجوب بالنسبة إلی اللفظ و المعنی حینما یقال المعنی موجود باللفظ فإن المقصود بذلک أن هناک وجودا واحدا حقیقیا ینسب إلی اللفظ أولا و بالذات و إلی المعنی ثانیا و بالعرض .و لکن هذا الوجه من التبعیة لا ینبغی أن یکون هو المقصود من التبعیة هنا لأن المقصود من الوجوب الغیری وجوب حقیقی آخر یثبت للمقدمة غیر وجوب ذیها النفسی بأن یکون لکل من المقدمة و ذیها وجوب قائم به حقیقة و معنی التبعیة فی هذا الوجه أن الوجوب الحقیقی واحد و یکون الوجوب الثانی وجوبا مجازیا علی أن هذا الوجوب بالعرض لیس وجوبا یزید علی اللابدیة العقلیة للمقدمة حتی یمکن فرض النزاع فیه نزاعا عملیا .2 أن یکون معنی التبعیة صرف التأخر فی الوجود فیکون ترتب الوجوب الغیری علی الوجوب النفسی نظیر ترتب أحد الوجودین المستقلین علی الآخر بأن یفرض البعث الموجه للمقدمة بعثا مستقلا و لکنه بعد البعث نحو ذیها مرتب علیه فی الوجود فیکون من قبیل الأمر بالحج المرتب وجودا علی حصول الاستطاعة و من قبیل الأمر بالصلاة بعد حصول البلوغ أو دخول الوقت .و لکن هذا الوجه من التبعیة أیضا لا ینبغی أن یکون هو المقصود هنا فإنه لو کان ذلک هو المقصود لکان هذا الوجوب للمقدمة فی الحقیقة وجوبا نفسیا آخر فی مقابل وجوب ذی المقدمة و إنما یکون وجوب ذی المقدمة له السبق فی الوجود فقط و هذا ینافی حقیقة المقدمیة فإنها لا تکون إلا موصلة إلی ذی المقدمة فی وجودها و فی وجوبها معا .3 أن یکون معنی التبعیة ترشح الوجوب الغیری من الوجوب

ص :264

النفسی لذی المقدمة علی وجه یکون معلولا له و منبعثا منه انبعاث الأثر من مؤثره التکوینی کانبعاث الحرارة من النار .و کأن هذا الوجه من التبعیة هو المقصود للقوم و لذا قالوا بأن وجوب المقدمة تابع لوجوب ذیها إطلاقا و اشتراطا لمکان هذه المعلولیة لأن المعلول لا یتحقق إلا حیث تتحقق علته و إذا تحققت العلة لا بد من تحققه بصورة لا یتخلف عنها و أیضا عللوا امتناع وجوب المقدمة قبل وجوب ذیها بامتناع وجود المعلول قبل وجود علته .و لکن هذا الوجه لا ینبغی أن یکون هو المقصود من تبعیة الوجوب الغیری و إن اشتهر علی الألسنة لأن الوجوب النفسی لو کان علة للوجوب الغیری فلا یصح فرضه إلا علة فاعلیة تکوینیة دون غیرها من العلل فإنه لا معنی لفرضه علة صوریة أو مادیة أو غائیة و لکن فرضه علة فاعلیة أیضا باطل جزما لوضوح أن العلة الفاعلیة الحقیقیة للوجوب هو الأمر لأن الأمر فعل الآمر .و الظاهر أن السبب فی اشتهار معلولیة الوجوب الغیری هو أن شوق الأمر للمقدمة هو الذی یکون منبعثا من الشوق إلی ذی المقدمة لأن الإنسان إذا اشتاق إلی فعل شیء اشتاق بالتبع إلی فعل کل ما یتوقف علیه و لکن الشوق إلی فعل الشیء من الغیر لیس هو الوجوب و إنما الشوق إلی فعل الغیر یدفع الآمر إلی الأمر به إذا لم یحصل ما یمنع من الأمر به فإذا صدر منه الأمر و هو أهل له انتزع منه الوجوب .و الحاصل لیس الوجوب الغیری معلولا للوجوب النفسی فی ذی المقدمة و لا ینتهی إلیه فی سلسلة العلل و إنما ینتهی الوجوب الغیری فی سلسلة علله إلی الشوق إلی ذی المقدمة إذا لم یکن هناک مانع لدی الآمر من الأمر بالمقدمة لأن الشوق علی کل حال لیس علة تامة إلی فعل ما یشتاق

ص :265

إلیه فتذکر هذا فإنه سینفعک فی وجوب المقدمة المفوتة و فی أصل وجوب المقدمة فإنه بهذا البیان سیتضح کیف یمکن فرض وجوب المقدمة المفوتة قبل وجوب ذیها و بهذا البیان سیتضح أیضا کیف إن المقدمة مطلقا لیست واجبة بالوجوب المولوی .4 أن یکون معنی التبعیة هو ترشح الوجوب الغیری من الوجوب النفسی و لکن لا بمعنی أنه معلول له بل بمعنی أن الباعث للوجوب الغیری علی تقدیر القول به هو الواجب النفسی باعتبار أن الأمر بالمقدمة و البعث نحوها إنما هو لغایة التوصل إلی ذیها الواجب و تحصیله فیکون وجوبها وصلة و طریقا إلی تحصیل ذیها و لو لا أن ذیها کان مرادا للمولی لما أوجب المقدمة و یشیر إلی هذا المعنی من التبعیة تعریفهم للواجب الغیری بأنه ما وجب لواجب آخر أی لغایة واجب آخر و لغرض تحصیله و التوصل إلیه فیکون الغرض من وجوب المقدمة علی تقدیر القول به هو تحصیل ذیها الواجب .و هذا المعنی هو الذی ینبغی أن یکون معنی التبعیة المقصودة فی الوجوب الغیری و یلزمها أن یکون الوجوب الغیری تابعا لوجوبها إطلاقا و اشتراطا .و علیه فالوجوب الغیری وجوب حقیقی و لکنه وجوب تبعی توصلی آلی و شأن وجوب المقدمة شأن نفس المقدمة فکما أن المقدمة بما هی مقدمة لا یقصد فاعلها إلا التوصل إلی ذیها کذلک وجوبها إنما هو للتوصل إلی تحصیل ذیها کالآلة الموصلة التی لا تقصد بالأصالة و الاستقلال .و سر هذا واضح فإن المولی بناء علی القول بوجوب المقدمة إذا أمر بذی المقدمة فإنه لا بد له لغرض تحصیله من المکلف أن یدفعه و یبعثه نحو مقدماته فیأمره بها توصلا إلی غرضه .

ص :266

فیکون البعث نحو المقدمة علی هذا بعثا حقیقیا لا أنه یتبع البعث إلی ذیها علی وجه ینسب إلیها بالعرض کما فی الوجه الأول و لا أنه یبعثه ببعث مستقل لنفس المقدمة و لغرض فیها بعد البعث نحو ذیها کما فی الوجه الثانی و لا أن البعث نحو المقدمة من آثار البعث نحو ذیها علی وجه یکون معلولا له کما فی الوجه الثالث .و سیأتی تتمة للبحث فی المقدمات المفوتة

3 خصائص الوجوب الغیری

بعد ما اتضح معنی التبعیة فی الوجوب الغیری تتضح لنا خصائصه التی بها یمتاز عن الوجوب النفسی و هی أمور 1 إن الواجب الغیری کما لا بعث استقلالی له کما تقدم لا إطاعة استقلالیة له و إنما إطاعته کوجوبه لغرض التوصل إلی ذی المقدمة بخلاف الواجب النفسی فإنه واجب لنفسه و یطاع لنفسه .2 إنه بعد أن قلنا إنه لا إطاعة استقلالیة للوجوب الغیری و إنما إطاعته کوجوبه لصرف التوصل إلی ذی المقدمة فلا بد ألا یکون له ثواب علی إطاعته (1)غیر الثواب الذی یحصل علی إطاعة وجوب ذی المقدمة کما لا عقاب علی عصیانه غیر العقاب علی عصیان وجوب ذی المقدمة و لذا نجد أن

ص :267


1- یری السید الجلیل المحقق الخوئی ان المقدمة أمر قابل لان یأتی به الفاعل مضافا به إلی المولی، فیترتب علی فعلها الثواب إذا أتی بها کذلک. ولا ملازمة عنده بین ترتب الثواب علی عمل وعدم استحقاق العقاب علی ترکه، ولا یفرق فی ذلک بین القول بوجوب المقدمة وعدمه. وهو رأی وجیه باعتبار ان فعل المقدمة یعد مشروعا فی امتثال ذیها.

من ترک الواجب بترک مقدماته لا یستحق أکثر من عقاب واحد علی نفس الواجب النفسی لا أنه یستحق عقابات متعددة بعدد مقدماته المتروکة .و أما ما ورد فی الشریعة من الثواب علی بعض المقدمات مثل ما ورد من الثواب علی المشی علی القدم إلی الحج أو زیارة الحسین علیه السلام و أنه فی کل خطوة کذا من الثواب فینبغی علی هذا أن یحمل علی توزیع ثواب نفس العمل علی مقدماته باعتبار أن أفضل الأعمال أحمزها و کلما کثرت مقدمات العمل و زادت صعوبتها کثرت حمازة العمل و مشقته فینسب الثواب إلی المقدمة مجازا ثانیا و بالعرض باعتبار أنها السبب فی زیادة مقدار الحمازة و المشقة فی نفس العمل فتکون السبب فی زیادة الثواب لا أن الثواب علی نفس المقدمة .و من أجل أنه لا ثواب علی المقدمة استشکلوا فی استحقاق الثواب علی فعل بعض المقدمات کالطهارات الثلاث الظاهر منه أن الثواب علی نفس المقدمة بما هی و سیأتی حله إن شاء الله تعالی .3 إن الوجوب الغیری لا یکون إلا توصلیا أی لا یکون فی حقیقته عبادیا و لا یقتضی فی نفسه عبادیة المقدمة إذ لا یتحقق فیه قصد الامتثال علی نحو الاستقلال کما قلنا فی الخاصة الأولی أنه لا إطاعة استقلالیة له بل إنما یؤتی بالمقدمة بقصد التوصل إلی ذیها و إطاعة أمر ذیها فالمقصود بالامتثال به نفس أمر ذیها .و من هنا استشکلوا فی عبادیة بعض المقدمات کالطهارات الثلاث و سیأتی حله إن شاء الله تعالی .4 إن الوجوب الغیری تابع لوجوب ذی المقدمة إطلاقا و اشتراطا و فعلیة و قوة قضاء لحق التبعیة کما تقدم و معنی ذلک أنه کل ما هو شرط فی وجوب ذی المقدمة فهو شرط فی وجوب المقدمة و ما لیس بشرط لا یکون شرطا لوجوبها کما أنه کلما تحقق وجوب ذی المقدمة تحقق معه

ص :268

وجوب المقدمة و علی هذا قیل یستحیل تحقق وجوب فعلی للمقدمة قبل تحقق وجوب ذیها لاستحالة حصول التابع قبل حصول متبوعه أو لاستحالة حصول المعلول قبل حصول علته بناء علی أن وجوب المقدمة معلول لوجوب ذیها .و من هنا استشکلوا فی وجوب المقدمة قبل زمان ذیها فی المقدمات المفوتة کوجوب الغسل مثلا قبل الفجر لإدراک الصوم علی طهارة حین طلوع الفجر فعدم تحصیل الغسل قبل الفجر یکون مفوتا للواجب فی وقته و لهذا سمیت مقدمة مفوتة باعتبار أن ترکها قبل الوقت یکون مفوتا للواجب فی وقته فقالوا بوجوبها قبل الوقت مع أن الصوم لا یجب قبل وقته فکیف تفرض فعلیة وجوب مقدمته و سیأتی إن شاء الله تعالی حل هذا الإشکال فی بحث المقدمات المفوتة

4 مقدمة الوجوب

قسموا المقدمة إلی قسمین مشهورین 1 مقدمة الوجوب و تسمی المقدمة الوجوبیة و هی ما یتوقف علیها نفس الوجوب بأن تکون شرطا للوجوب علی قول مشهور و قیل إنها تؤخذ فی الواجب علی وجه تکون مفروضة التحقق و الوجود علی قول آخر و مع ذلک تسمی مقدمة الوجوب و مثالها الاستطاعة بالنسبة إلی الحج و کالبلوغ و العقل و القدرة بالنسبة إلی جمیع الواجبات و یسمی الواجب بالنسبة إلیها الواجب المشروط .2 مقدمة الواجب و تسمی المقدمة الوجودیة و هی ما یتوقف علیها وجود الواجب بعد فرض عدم تقیید الوجوب بها بل یکون الوجود

ص :269

بالنسبة إلیها مطلقا و لا تؤخذ بالنسبة إلیه مفروضة الوجود بل لا بد من تحصیلها مقدمة لتحصیله کالوضوء بالنسبة إلی الصلاة و السفر بالنسبة إلی الحج و نحو ذلک و یسمی الواجب بالنسبة إلیها الواجب المطلق .راجع عن الواجب المشروط و المطلق الجزء الأول ص 87 .و المقصود من ذکر هذا التقسیم بیان أن محل النزاع فی مقدمة الواجب هو خصوص القسم الثانی أعنی المقدمة الوجودیة دون المقدمة الوجوبیة .و السر واضح لأنه إذا کانت المقدمة الوجودیة مأخوذة علی أنها مفروضة الحصول فلا معنی لوجوب تحصیلها فإنه خلف فلا یجب تحصیل الاستطاعة لأجل الحج بل إن اتفق حصول الاستطاعة وجب الحج عندها و ذلک نظیر الفوت فی(قوله علیه السلام:اقض ما فات کما فات) فإنه لا یجب تحصیله لأجل امتثال الأمر بالقضاء بل إن اتفق الفوت وجب القضاء

5 المقدمة الداخلیة

تنقسم المقدمة الوجودیة إلی قسمین داخلیة و خارجیة .1 المقدمة الداخلیة هی جزء الواجب المرکب کالصلاة .و إنما اعتبروا الجزء مقدمة فباعتبار أن المرکب متوقف فی وجوده علی أجزائه فکل جزء فی نفسه هو مقدمة لوجود المرکب کتقدم الواحد علی الاثنین .و إنما سمیت داخلیة فلأجل أن الجزء داخل فی قوام المرکب و لیس للمرکب وجود مستقل غیر نفس وجود الأجزاء .2 المقدمة الخارجیة و هی کل ما یتوقف علیه الواجب و له وجود مستقل خارج عن وجود الواجب .و الغرض من ذکر هذا التقسیم هو بیان أن النزاع فی مقدمة الواجب

ص :270

هل یشمل المقدمة الداخلیة أو أن ذلک یختص بالخارجیة .و لقد أنکر جماعة شمول النزاع للداخلیة و سندهم فی هذا الإنکار أحد أمرین الأول إنکار المقدمیة للجزء رأسا باعتبار أن المرکب نفس الأجزاء بالأسر فکیف یفرض توقف الشیء علی نفسه .الثانی بعد تسلیم أن الجزء مقدمة و لکن یستحیل اتصافه بالوجوب الغیری ما دام أنه واجب بالوجوب النفسی لأن المفروض أنه جزء الواجب بالوجوب النفسی و لیس المرکب إلا أجزاءه بالأسر فینبسط الواجب علی الأجزاء و حینئذ لو وجب الجزء بالوجوب الغیری أیضا لاتصف الجزء بالوجوبین .و قد اختلفوا فی بیان وجه استحالة اجتماع الوجوبین و لا یهمنا بیان الوجه فیه بعد الاتفاق علی الاستحالة .و لما کان هذا البحث لا تتوقع منه فائدة عملیة حتی مع فرض الفائدة العملیة فی مسألة وجوب المقدمة مع أنه بحث دقیق یطول الکلام حوله فنحن نطوی عنه صفحا محیلین الطالب إلی المطولات إن شاء

6 الشرط الشرعی

إن المقدمة الخارجیة تنقسم إلی قسمین عقلیة و شرعیة .1 المقدمة العقلیة هی کل أمر یتوقف علیه وجود الواجب توقفا واقعیا یدرکه العقل بنفسه من دون استعانة بالشرع کتوقف الحج علی قطع المسافة .2 المقدمة الشرعیة هی کل أمر یتوقف علیه الواجب توقفا

ص :271

لا یدرکه العقل بنفسه بل یثبت ذلک من طریق الشرع کتوقف الصلاة علی الطهارة و استقبال القبلة و نحوهما و یسمی هذا الأمر أیضا الشرط الشرعی باعتبار أخذه شرطا و قیدا فی المأمور به عند الشارع مثل(قوله علیه السلام:لا صلاة إلا بطهور) المستفاد منه شرطیة الطهارة للصلاة .و الغرض من ذکر هذا التقسیم بیان أن النزاع فی مقدمة الواجب هل یشمل الشرط الشرعی .و لقد ذهب بعض أعاظم مشایخنا علی ما یظهر من بعض تقریرات درسه إلی أن الشرط الشرعی کالجزء لا یکون واجبا بالوجوب الغیری و سماه مقدمة داخلیة بالمعنی الأعم باعتبار أن التقیید لما کان داخلا فی المأمور به و جزءا له (1)فهو واجب بالوجوب النفسی و لما کان انتزاع التقیید إنما یکون من القید أی منشأ انتزاعه هو القید و الأمر بالعنوان المنتزع أمر بمنشإ انتزاعه إذ لا وجود للعنوان المنتزع إلا بوجود منشإ انتزاعه فیکون الأمر النفسی المتعلق بالتقیید متعلقا بالقید و إذا کان القید واجبا نفسیا فکیف یکون مرة أخری واجبا بالوجوب الغیری .و لکن هذا کلام لا یستقیم عند شیخنا المحقق الأصفهانی رحمه الله و قد ناقشه فی مجلس بحثه بمناقشات مفیدة و هو علی حق فی مناقشاته أما أولا فلأن هذا القید المفروض دخوله فی المأمور به لا یخلو

ص :272


1- ان الفرق بین الجزء والشرط هو أنه فی الجزء یکون التقیید والقید معا داخلین فی المأمور به، وأما فی الشرط فالتقیید فقط یکون داخلا والقید یکون خارجا، یعنی أن التقیید یکون جزءا تحلیلیا للمأمور به إذ یکون المأمور به - فی المثال - هو الصلاة بما هی مقیدة بالطهارة، أی ان المأمور به هو المرکب من ذات الصلاة والتقیید بوصف الطهارة. فذات الصلاة جزء تحلیلی والتقیید جزء تحلیلی آخر.

إما أن یکون دخیلا فی أصل الغرض من المأمور به و إما أن یکون دخیلا فی فعلیة الغرض منه و لا ثالث لهما .فإن کان من قبیل الأول فیجب أن یکون مأمورا به بالأمر النفسی و لکن بمعنی أن متعلق الأمر لا بد أن یکون الخاص بما هو خاص و هو المرکب من المقید و القید فیکون القید و التقیید معا داخلین و السر فی ذلک واضح لأن الغرض یدعو بالأصالة إلی إرادة ما هو واف بالغرض و ما یفی بالغرض حسب الفرض هو الخاص بما هو خاص أی المرکب من المقید و القید لا أن الخصوصیة تکون خصوصیة فی المأمور به المفروغ عن کونه مأمورا به لأن المفروض أن ذات المأمور به ذی الخصوصیة لیس وحده دخیلا فی الغرض و علی هذا فیکون هذا القید جزءا من المأمور به کسائر أجزائه الأخری و لا فرق بین جزء و جزء فی کونه من جملة المقدمات الداخلیة فتسمیة مثل هذا الجزء بالمقدمة الداخلیة بالمعنی الأعم بلا وجه بل هو مقدمة داخلیة بقول مطلق کما لا وجه لتسمیته بالشرط .و إن کان من قبیل الثانی فهذا هو شأن الشرط سواء کان شرطا شرعیا أو عقلیا و مثل هذا لا یعقل أن یدخل فی حیز الأمر النفسی لأن الغرض کما قلنا لا یدعو بالأصالة إلا إلی إرادة ذات ما یفی بالغرض و یقوم به فی الخارج و أما ما له دخل فی تأثیر السبب أی فی فعلیة الغرض فلا یدعو إلیه الغرض فی عرض ذات السبب بل الذی یدعو إلی إیجاد شرط التأثیر لا بد أن یکون غرضا تبعیا یتبع الغرض الأصلی و ینتهی إلیه .و لا فرق بین الشرط الشرعی و غیره فی ذلک و إنما الفرق أن الشرط الشرعی لما کان لا یعلم دخله فی فعلیة الغرض إلا من قبل المولی کالطهارة و الاستقبال و نحوهما بالنسبة إلی الصلاة فلا بد أن ینبه المولی علی اعتباره و لو بأن یأمر به إما بالأمر المتعلق بالمأمور به أی یأخذه قیدا فیه کأن یقول

ص :273

مثلا صل عن طهارة أو بأمر مستقل کأن یقول مثلا تطهر للصلاة و علی جمیع الأحوال لا تکون الإرادة المتعلقة به فی عرض إرادة ذات السبب حتی یکون مأمورا به بالأمر النفسی بل الإرادة فیه تبعیة و کذا الأمر به .فإن قلتم علی هذا یلزم سقوط الأمر المتعلق بذات السبب الواجب إذا جاء به المکلف من دون الشرط قلت من لوازم الاشتراط عدم سقوط الأمر بالسبب بفعله من دون شرطه و إلا کان الاشتراط لغوا و عبثا .و أما ثانیا فلو سلمنا دخول التقیید فی الواجب علی وجه یکون جزءا منه فإن هذا لا یوجب أن یکون نفس القید و الشرط الذی هو حسب الفرض منشأ لانتزاع التقیید مقدمة داخلیة بل هو مقدمة خارجیة فإن وجود الطهارة مثلا یوجب حصول تقیید الصلاة بها فتکون مقدمة خارجیة للتقیید الذی هو جزء حسب الفرض و هذا یشبه المقدمات الخارجیة لنفس أجزاء المأمور به الخارجیة فکما أن مقدمة الجزء لیست بجزء فکذلک مقدمة التقیید لیست جزءا .و الحاصل أنه لما فرضتم فی الشرط أن التقیید داخل و هو جزء تحلیلی فقد فرضتم معه أن القید خارج فکیف تفرضونه مرة أخری أنه داخل فی المأمور به المتعلق بالمقید

7 الشرط المتأخر

لا شک فی أن من الشروط الشرعیة ما هو متقدم فی وجوده زمانا علی المشروط کالوضوء و الغسل بالنسبة إلی الصلاة و نحوها بناء علی أن الشرط نفس الأفعال لا أثرها الباقی إلی حین الصلاة .و منها ما هو مقارن للمشروط فی وجوده زمانا کالاستقبال و طهارة اللباس للصلاة .

ص :274

و إنما وقع الشک فی الشرط المتأخر أی أنه هل یمکن أن یکون الشرط الشرعی متأخرا فی وجوده زمانا عن المشروط أو لا یمکن .و من قال بعدم إمکانه قاس الشرط الشرعی علی الشرط العقلی فإن المقدمة العقلیة یستحیل فیها أن تکون متأخرة عن ذی المقدمة لأنه لا یوجد الشیء إلا بعد فرض وجود علته التامة المشتملة علی کل ما له دخل فی وجوده لاستحالة وجود المعلول بدون علته التامة و إذا وجد الشیء فقد انتهی فأیة حاجة له تبقی إلی ما سیوجد بعد .و منشأ هذا الشک و البحث ورود بعض الشروط الشرعیة التی ظاهرها تأخرها فی الوجود عن المشروط و ذلک مثل الغسل اللیلی للمستحاضة الکبری الذی هو شرط عند بعضهم لصوم النهار السابق علی اللیل و من هذا الباب إجازة بیع الفضولی بناء علی أنها کاشفة عن صحة البیع لا ناقلة .و لأجل ما ذکرنا من استحالة الشرط المتأخر فی العقلیات اختلف العلماء فی الشرط الشرعی اختلافا کثیرا جدا فبعضهم ذهب إلی إمکان الشرط المتأخر فی الشرعیات و بعضهم ذهب إلی استحالته قیاسا علی الشرط العقلی کما ذکرنا آنفا و الذاهبون إلی الاستحالة أولوا ما ورد فی الشریعة بتأویلات کثیرة یطول شرحها .و أحسن ما قیل فی توجیه إمکان الشرط المتأخر فی الشرعیات ما عن بعض مشایخنا الأعاظم قدس سره فی بعض تقریرات درسه و خلاصته (إن الکلام تارة یکون فی شرط المأمور به و أخری فی شرط الحکم سواء کان تکلیفیا أم وضعیا) .أما فی شرط المأمور به فإن مجرد کونه شرطا شرعیا للمأمور به لا مانع منه لأنه لیس معناه إلا أخذه قیدا فی المأمور به علی أن تکون الحصة

ص :275

الخاصة من المأمور به هی المطلوبة و کما یجوز ذلک فی الأمر السابق و المقارن فإنه یجوز فی اللاحق بلا فرق نعم إذا رجع الشرط الشرعی إلی شرط واقعی کرجوع شرط الغسل اللیلی للمستحاضة إلی أنه رافع للحدث فی النهار فإنه یکون حینئذ واضح الاستحالة کالشرط الواقعی بلا فرق .و سر ذلک أن المطلوب لما کان هو الحصة الخاصة من طبیعی المأمور به فوجود القید المتأخر لا شأن له إلا الکشف عن وجود تلک الحصة فی ظرف کونها مطلوبة و لا محذور فی ذلک إنما المحذور فی تأثیر المتأخر فی المتقدم و أما فی شرط الحکم سواء کان الحکم تکلیفیا أم وضعیا فإن الشرط فیه معناه أخذ مفروض الوجود و الحصول فی مقام جعل الحکم و إنشائه و کونه مفروض الوجود لا یفرق فیه بین أن یکون متقدما أو مقارنا أو متأخرا کأن یجعل الحکم فی الشرط المتأخر علی الموضوع المقید بقید أخذ مفروض الوجود بعد وجود الموضوع .و یتقرب ذلک إلی الذهن بقیاسه علی الواجب المرکب التدریجی الحصول فإن التکلیف فی فعلیته فی الجزء الأول و ما بعده یبقی مراعی إلی أن یحصل الجزء الأخیر من المرکب و قد بقیت إلی حین حصول کمال الأجزاء شرائط التکلیف من الحیاة و القدرة و نحوهما .و هکذا یفرض الحال فیما نحن فیه فإن الحکم فی الشرط المتأخر یبقی فی فعلیته مراعی إلی أن یحصل الشرط الذی أخذ مفروض الحصول فکما أن الجزء الأول من المرکب التدریجی الواجب فی فرض حصول جمیع الأجزاء یکون واجبا و فعلی الوجوب من أول الأمر لا أن فعلیته تکون بعد حصول جمیع الأجزاء و کذا باقی الأجزاء لا تکون فعلیتها بعد حصول الجزء الأخیر بل حین حصولها و لکن فی فرض حصول الجمیع فکذلک ما نحن فیه یکون الواجب المشروط بالشرط المتأخر فعلی الوجوب من أول الأمر فی فرض

ص :276

حصول الشرط فی ظرفه لا أن فعلیته تکون متأخرة حین الشرط .هذا خلاصة رأی شیخنا المعظم و لا یخلو عن مناقشة و البحث عن الموضوع بأوسع مما ذکرنا لا یسعه هذا المختصر

8 المقدمات المفوتة

ورد فی الشریعة المطهرة وجوب بعض المقدمات قبل زمان ذیها فی الموقتات کوجوب قطع المسافة للحج قبل حلول أیامه و وجوب الغسل من الجنابة للصوم قبل الفجر و وجوب الوضوء أو الغسل علی قول قبل وقت الصلاة عند العلم بعدم التمکن منه بعد دخول وقتها و هکذا .و تسمی هذه المقدمات باصطلاحهم المقدمات المفوتة باعتبار أن ترکها موجب لتفویت الواجب فی وقته کما تقدم .و نحن نقول لو لم یحکم الشارع المقدس بوجوب مثل هذه المقدمات فإن العقل یحکم بلزوم الإتیان بها لأن ترکها موجب لتفویت الواجب فی ظرفه و یحکم أیضا بأن التارک لها یستحق العقاب علی الواجب فی ظرفه بسبب ترکها .و لأول وهلة یبدو أن هذین الحکمین العقلیین الواضحین لا ینطبقان علی القواعد العقلیة البدیهیة فی الباب من جهتین .أما أولا فلأن وجوب المقدمة تابع لوجوب ذیها علی أی نحو فرض من أنحاء التبعیة لا سیما إذا کان من نحو تبعیة المعلول لعلته علی ما هو المشهور فکیف یفرض الواجب التابع فی زمان سابق علی زمان فرض الوجوب المتبوع .و أما ثانیا فلأنه کیف یستحق العقاب علی ترک الواجب بترک مقدمته قبل حضور وقته مع أنه حسب الفرض لا وجوب له فعلا و أما فی ظرفه

ص :277

فینبغی أن یسقط وجوبه لعدم القدرة علیه بترک مقدمته و القدرة شرط عقلی فی الوجوب .و لأجل التوفیق بین هاتیک البدیهیات العقلیة التی یبدو کأنها متعارضة و إن کان یستحیل التعارض فی الأحکام العقلیة و بدیهیات العقل حاول جماعة من أعلام الأصولیین المتأخرین تصحیح ذلک بفرض انفکاک زمان الوجوب عن زمان الواجب و تقدمه علیه إما فی خصوص الموقتات أو فی مطلق الواجبات علی اختلاف المسالک و بذلک یحصل لهم التوفیق بین تلکم الأحکام العقلیة لأنه حینما یفرض تقدم وجوب ذی المقدمة علی زمانه فلا مانع من فرض وجوب المقدمة قبل وقت الواجب و کان استحقاق العقاب علی ترک الواجب علی القاعدة لأن وجوبه کان فعلیا حین ترک المقدمة .أما کیف یفرض تقدم زمان الوجوب علی زمان الواجب و بأی مناط فهذا ما اختلفت فیه الأنظار و المحاولات .(فأول المحاولین لحل هذه الشبهة فیما یبدو صاحب الفصول الذی قال بجواز تقدم زمان الوجوب علی طریقة الواجب المتعلق الذی اخترعه کما أشرنا إلیه فی الجزء الأول ص 88 و ذلک فی خصوص الموقتات بفرض أن الوقت فی الموقتات وقت للواجب فقط لا للوجوب أی أن الوقت لیس شرطا و قیدا للوجوب بل هو قید للواجب فالوجوب علی هذا الفرض متقدم علی الوقت و لکن الواجب معلق علی حضور وقته و الفرق بین هذا النوع و بین الواجب المشروط هو أن التوقف فی المشروط للوجوب و فی المعلق للفعل و علیه لا مانع من فرض وجوب المقدمة قبل زمان ذیها .و لکن نقول علی تقدیر إمکان فرض تقدم زمان الوجوب علی زمان الواجب فإن فرض رجوع القید إلی الواجب لا إلی الوجوب یحتاج إلی دلیل

ص :278

و نفس ثبوت وجوب المقدمة المفوتة قبل زمان وجوب ذیها لا یکون وحده دلیلا علی ثبوت الواجب المعلق لأن الطریق فی تصحیح وجوب المقدمة المفوتة لا ینحصر فیه کما سیأتی بیان الطریق الصحیح) .و المحاولة الثانیة ما نسب إلی الشیخ الأنصاری من رجوع القید فی جمیع شرائط الوجوب إلی المادة و إن اشتهر القول برجوعها إلی الهیئة سواء کان الشرط هو الوقت أو غیره کالاستطاعة للحج و القدرة و البلوغ و العقل و نحوها من الشرائط العامة لجمیع التکالیف و معنی ذلک أن الوجوب الذی هو مدلول الهیئة فی جمیع الواجبات مطلق دائما غیر مقید بشرط أبدا و کل ما یتوهم من رجوع القید إلی الوجوب فهو راجع فی الحقیقة إلی الواجب الذی هو مدلول المادة غایة الأمر أن بعض القیود مأخوذة فی الواجب علی وجه یکون مفروض الحصول و الوقوع کالاستطاعة بالنسبة إلی الحج و مثل هذا لا یجب تحصیله و یکون حکمه حکم ما لو کان شرطا للوجوب و بعضها لا یکون مأخوذا علی وجه یکون مفروض الحصول بل یجب تحصیله توصلا إلی الواجب لأن الواجب یکون هو المقید بما هو مقید بذلک القید .و علی هذا التصویر فالوجوب یکون دائما فعلیا قبل مجیء وقته و شأنه فی ذلک شأن الوجوب علی القول بالواجب المعلق لا فرق بینهما فی الموقتات بالنسبة إلی الوقت فإذا کان الواجب استقبالیا فلا مانع من وجوب المقدمة المفوتة قبل زمان ذیها .و المحاولة الثالثة ما نسب إلی بعضهم من أن الوقت شرط للوجوب لا للواجب کما فی المحاولتین الأولیین و لکنه مأخوذ فیه علی نحو الشرط المتأخر و علیه فالوجوب یکون سابقا علی زمان الواجب نظیر القول بالمعلق فیصح فرض وجوب المقدمة المفوتة قبل زمان ذیها لفعلیة الوجوب قبل زمانه فتجب مقدمته .

ص :279

و کل هذه المحاولات مذکورة فی کتب الأصول المطولة و فیها مناقشات و أبحاث طویلة لا یسعها هذا المختصر و مع الغض عن المناقشة فی إمکانها فی أنفسها لا دلیل علیها إلا ثبوت وجوب المقدمة قبل زمان ذیها إذ کل صاحب محاولة منها یعتقد أن التخلص من إشکال وجوب المقدمة قبل زمان ذیها ینحصر فی المحاولة التی یتصورها فالدلیل الذی یدل علی وجوب المقدمة المفوتة قبل وقت الواجب لا محالة یدل عنده علی محاولته .و الذی أعتقده أنه لا موجب لکل هذه المحاولات لتصحیح وجوب المقدمة قبل زمان ذیها فإن الصحیح کما أفاده شیخنا الأصفهانی رحمه الله أن وجوب المقدمة لیس معلولا لوجوب ذیها و لا مترشحا منه فلیس هناک إشکال فی وجوب المقدمة المفوتة قبل زمان ذیها حتی نلتجئ إلی إحدی هذه المحاولات لفک الإشکال و کل هذه الشبهة إنما جاءت من هذا الفرض و هو فرض معلولیة وجوب المقدمة لوجوب ذیها و هو فرض لا واقع له أبدا و إن کان هذا القول یبدو غریبا علی الأذهان المشبعة بفرض أن وجوب ذی المقدمة علة لوجوب المقدمة بل نقول أکثر من ذلک إنه یجب فی المقدمة المفوتة أن یتقدم وجوبها علی وجوب ذیها إذا کنا نقول بأن مقدمة الواجب واجبة و إن کان الحق و سیأتی عدم وجوبها مطلقا و البیان عدم معلولیة وجوب المقدمة لوجوب ذیها نذکر أن الأمر فی الحقیقة هو فعل الأمر سواء کان الأمر نفسیا أم غیریا فالأمر هو العلة الفاعلیة له دون سواه و لکن کل أمر إنما یصدر عن إرادة الآمر لأنه فعله الاختیاری و الإرادة بالطبع مسبوقة بالشوق إلی فعل المأمور به أی أن الآمر لا بد أن یشتاق أولا إلی فعل الغیر علی أن یصدر من الغیر فإذا اشتاقه لا بد أن یدعو الغیر و یدفعه و یحثه علی الفعل فیشتاق إلی الأمر به و إذا لم یحصل مانع من الأمر فلا محالة یشتد الشوق إلی الأمر حتی یبلغ

ص :280

الإرادة الحتمیة فیجعل الداعی فی نفس الغیر للفعل المطلوب و ذلک بتوجیه الأمر نحوه .هذا حال کل مأمور به و من جملته مقدمة الواجب فإنه إذا ذهبنا إلی وجوبها من قبل المولی لا بد أن نفرض حصول الشوق أولا فی نفس الأمر إلی صدورها من المکلف غایة الأمر أن هذا الشوق تابع للشوق إلی فعل ذی المقدمة و منبثق منه لأن المختار إذا اشتاق إلی تحصیل شیء و أحبه اشتاق و أحب بالتبع کل ما یتوقف علیه ذلک الشیء علی نحو الملازمة بین الشوقین و إذا لم یکن هناک مانع من الأمر بالمقدمات حصلت لدی الأمر ثانیا الإرادة الحتمیة التی تتعلق بالأمر بها فیصدر حینئذ الأمر .إذا عرفت ذلک فإنک تعرف أنه إذا فرض أن المقدمة متقدمة بالوجود الزمانی علی ذیها علی وجه لا یحصل ذوها فی ظرفه و زمانه إلا إذا حصلت هی قبل حلول زمانه کما فی أمثلة المقدمات المفوتة فإنه لا شک فی أن الآمر یشتاقها أن تحصل فی ذلک الزمان المتقدم و هذا الشوق بالنسبة إلی المقدمة یتحول إلی الإرادة الحتمیة بالأمر إذ لا مانع من البعث نحوها حینئذ و المفروض أن وقتها قد حان فعلا فلا بد أن یأمر بها فعلا أما ذو المقدمة فحسب الفرض لا یمکن البعث نحوه و الأمر به قبل وقته لعدم حصول ظرفه فلا أمر قبل الوقت و إن کان الشوق إلی الأمر به حاصل حینئذ و لکن لا یبلغ مبلغ الفعلیة لوجود المانع .و الحاصل أن الشوق إلی ذی المقدمة و الشوق إلی المقدمة حاصلان قبل وقت ذی المقدمة و الشوق الثانی منبعث و منبثق من الشوق الأول و لکن الشوق إلی المقدمة یؤثر أثره و یصیر إرادة حتمیة لعدم وجود ما یمنع من الأمر دون الشوق إلی ذی المقدمة لوجود المانع من الأمر .و علی هذا فتجب المقدمة المفوتة قبل وجوب ذیها و لا محذور فیه

ص :281

بل هو أمر لا بد منه و لا یصح أن یقع غیر ذلک .و لا تستغرب ذلک فإن هذا أمر مطرد حتی بالنسبة إلی أفعال الإنسان نفسه فإنه إذا اشتاق إلی فعل شیء اشتاق إلی مقدماته تبعا و لما کانت المقدمات متقدمة بالوجود زمانا علی ذیها فإن الشوق إلی المقدمات یشتد حتی یبلغ درجة الإرادة الحتمیة المحرکة للعضلات فیفعلها مع أن ذی المقدمة لم یحن وقته بعد و لم تحصل له الإرادة الحتمیة المحرکة للعضلات و إنما یمکن أن تحصل له الإرادة الحتمیة إذا حان وقته بعد طی المقدمات .فإرادة الفاعل التکوینیة للمقدمة متقدمة زمانا علی إرادة ذیها و علی قیاسها الإرادة التشریعیة فلا بد أن تحصل للمقدمة المتقدمة زمانا قبل أن تحصل لذیها المتأخر زمانا فیتقدم الوجوب الفعلی للمقدمة علی الوجوب الفعلی لذیها زمانا علی العکس مما اشتهر و لا محذور فیه بل هو المتعین و هذا حال کل متقدم بالنسبة إلی المتأخر فإن الشوق یصیر شیئا فشیئا قصدا و إرادة کما فی الأفعال التدریجیة الوجود .و قد تقدم معنی تبعیة وجوب المقدمة لوجوب ذیها فلا نعید و قلنا إنه لیس معناه معلولیته لوجوب ذی المقدمة و تبعیته له وجودا کما اشتهر علی لسان الأصولیین .فإن قلت إن وجوب المقدمة کما سبق تابع لوجوب ذی المقدمة إطلاقا و اشتراطا و لا شک فی أن الوقت علی الرأی المعروف شرط لوجوب ذی المقدمة فیجب أن یکون أیضا وجوب المقدمة مشروطا به قضاء لحق التبعیة .قلت إن الوقت علی التحقیق لیس شرطا للوجوب بمعنی أنه دخیل فی مصلحة الأمر کالاستطاعة بالنسبة إلی وجوب الحج و إن کان دخیلا فی مصلحة المأمور به و لکنه لا یتحقق البعث قبله فلا بد أن

ص :282

یؤخذ مفروض الوجوب بمعنی عدم الدعوة إلیه لأنه غیر اختیاری للمکلف .أما عدم تحقق وجوب الموقت قبل الوقت فلامتناع البعث قبل الوقت .و السر واضح لأن البعث حتی البعث الجعلی منه یلازم الانبعاث إمکانا و وجودا فإذا أمکن الانبعاث أمکن البعث و إلا فلا و إذ یستحیل الانبعاث قبل الوقت استحال البعث نحوه حتی الجعلی و من أجل هذا نقول بامتناع الواجب المعلق لأنه یلازم انفکاک الانبعاث عن البعث .و هذا بخلاف المقدمة قبل وقت الواجب فإنه یمکن الانبعاث نحوها فلا مانع من فعلیة البعث بالنظر إلیها لو ثبت فعدم فعلیة الوجوب قبل زمان الواجب إنما هو لوجود المانع لا لفقدان الشرط و هذا المانع موجود فی ذی المقدمة قبل وقته مفقود فی المقدمة .و یتفرع علی هذا فرع فقهی و هو أنه حینئذ لا مانع فی المقدمة المفوتة العبادیة کالطهارات الثلاث من قصد الوجوب فی النیة قبل وقت الواجب لو قلنا بأن مقدمة الواجب واجبة .و الحاصل أن العقل یحکم بلزوم الإتیان بالمقدمة المفوتة قبل وقت ذیها و لا مانع عقلی من ذلک .هذا کله من جهة إشکال انفکاک وجوب المقدمة عن وجوب ذیها و أما من جهة إشکال استحقاق العقاب علی ترک الواجب بترک مقدمته مع عدم فعلیة وجوبه فیعلم دفعه مما سبق فإن التکلیف بذی المقدمة الموقت یکون تام الاقتضاء و إن لم یصر فعلیا لوجود المانع و هو عدم حضور وقته .و لا ینبغی الشک فی أن دفع التکلیف مع تمامیة اقتضائه تفویت لغرض المولی المعلوم الملزم و هذا یعد ظلما فی حقه و خروجا عن زی الرقیة و تمردا علیه فیستحق علیه العقاب و اللوم من هذه الجهة و إن لم یکن فیه مخالفة

ص :283

للتکلیف الفعلی المنجز .و هذا لا یشبه دفع مقتضی التکلیف کعدم تحصیل الاستطاعة للحج فإن مثله لا یعد ظلما و خروجا عن زی الرقیة و تمردا علی المولی لأنه لیس فیه تفویت لغرض المولی المعلوم التام الاقتضاء و المدار فی استحقاق العقاب هو تحقق عنوان الظلم للمولی القبیح عقلا

9 المقدمة العبادیة

ثبت بالدلیل أن بعض المقدمات الشرعیة لا تقع مقدمة إلا إذا وقعت علی وجه عبادی و ثبت أیضا ترتب الثواب علیها بخصوصها و مثالها منحصر فی الطهارات الثلاث الوضوء و الغسل و التیمم .و قد سبق فی الأمر الثانی الإشکال فیها من جهتین من جهة أن الواجب الغیری لا یکون إلا توصلیا فکیف یجوز أن تقع المقدمة بما هی مقدمة عبادة و من جهة ثانیة أن الواجب الغیری بما هو واجب غیری لا استحقاق للثواب علیه .و فی الحقیقة إن هذا الإشکال لیس إلا إشکالا علی أصولنا التی أصلناها للواجب الغیری فنقع فی حیرة فی التوفیق بین ما فهمناه عن الواجب الغیری و بین عبادیة هذه المقدمات الثابتة عبادیتها و إلا فکون هذه المقدمات عبادیة یستحق الثواب علیها أمر مفروغ عنه لا یمکن رفع الید عنه .فإذن لا بد لنا من تصحیح ما أصلناه فی الواجب الغیری بتوجیه عبادیة المقدمة علی وجه یلائم توصلیة الأمر الغیری و قد ذهبت الآراء أشتاتا فی توجیه ذلک .و نحن نقول علی الاختصار إنه من التیقن الذی لا ینبغی أن یتطرق إلیه الشک من أحد أن الصلاة مثلا ثبت من طریق الشرع توقف صحتها

ص :284

علی إحدی الطهارات الثلاث و لکن لا تتوقف علی مجرد أفعالها کیف ما اتفق وقوعها بل إنما تتوقف علی فعل الطهارة إذا وقع علی الوجه العبادی أی إذا وقع متقربا به إلی الله تعالی فالوضوء العبادی مثلا هو الشرط و هو المقدمة التی تتوقف صحة الصلاة علیها .و علیه لا بد أن یفرض الوضوء عبادة قبل فرض تعلق الأمر الغیری به لأن الأمر الغیری حسب ما فرضناه إنما یتعلق بالوضوء العبادی بما هو عبادة لا بأصل الوضوء بما هو فلم تنشأ عبادیته من الأمر الغیری حتی یقال إن عبادیته لا تلائم توصلیة الأمر الغیری بل عبادیته لا بد أن تکون مفروضة التحقق قبل فرض تعلق الأمر الغیری به و من هنا یصح استحقاق الثواب علیه لأنه عبادة فی نفسه .و لکن ینشأ من هذا البیان إشکال آخر و هو أنه إذا کانت عبادیة الطهارات غیر ناشئة من الأمر الغیری فما هو الأمر المصحح لعبادیتها و المعروف أنه لا یصح فرض العبادة عبادة إلا بتعلق أمر بها لیمکن قصد امتثاله لأن قصد امتثال الأمر هو المقوم لعبادیة العبادة عندهم و لیس لها فی الواقع إلا الأمر الغیری فرجع الأمر بالأخیر إلی الغیری لتصحیح عبادیتها .علی أنه یستحیل أن یکون الأمر الغیری هو المصحح لعبادیتها لتوقف عبادیتها حینئذ علی سبق الأمر الغیری و المفروض أن الأمر الغیری متأخر عن فرض عبادیتها لأنه إنما تعلق بها بما هی عبادة فیلزم تقدم المتأخر و تأخر المتقدم و هو خلف محال أو دور علی ما قیل .و قد أجیب عن هذه الشبهة بوجوه کثیرة .و أحسنها فیما أری بناء علی ثبوت الأمر الغیری أی وجوب مقدمة الواجب و بناء علی أن عبادیة العبادة لا تکون إلا بقصد الأمر المتعلق بها

ص :285

هو أن المصحح لعبادیة الطهارات هو الأمر النفسی الاستحبابی لها فی حد ذاتها السابق علی الأمر الغیری بها و هذا الاستحباب باق حتی بعد فرض الأمر الغیری و لکن لا بحد الاستحباب الذی هو جواز الترک إذ المفروض أنه قد وجب فعلها فلا یجوز ترکها و لیس الاستحباب إلا مرتبة ضعیفة بالنسبة إلی الوجوب فلو طرأ علیه الوجوب لا ینعدم بل یشتد وجوده فیکون الوجوب استمرارا له کاشتداد السواد و البیاض من مرتبة ضعیفة إلی مرتبة أقوی و هو وجود واحد مستمر و إذا کان الأمر کذلک فالأمر الغیری حینئذ یدعو إلی ما هو عبادة فی نفسه فلیست عبادیتها متأتیة من الأمر الغیری حتی یلزم الإشکال .و لکن هذا الجواب علی حسنه غیر کاف بهذا المقدار من البیان لدفع الشبهة و سر ذلک أنه لو کان المصحح لعبادیتها هو الأمر الاستحبابی النفسی بالخصوص لکان یلزم ألا تصح هذه المقدمات إلا إذا جاء بها المکلف بقصد امتثال الأمر الاستحبابی فقط مع أنه لا یفتی بذلک أحد و لا شک فی أنها تقع صحیحة لو أتی بها بقصد امتثال أمرها الغیری بل بعضهم اعتبر قصده فی صحتها بعد دخول وقت الواجب المشروط بها .فنقول إکمالا للجواب إنه لیس مقصود المجیب من کون استحبابها النفسی مصححا لعبادیتها أن المأمور به بالأمر الغیری هو الطهارة المأتی بها بداعی امتثال الأمر الاستحبابی کیف و هذا المجیب قد فرض عدم بقاء الاستحباب بحده بعد ورود الأمر الغیری فکیف یفرض أن المأمور به هو المأتی به بداعی امتثال الأمر الاستحبابی .بل مقصود المجیب أن الأمر الغیری لما کان متعلقه هو الطهارة بما هی عبادة و لا یمکن أن تکون عبادیتها ناشئة من نفس الأمر الغیری بما هو

ص :286

أمر غیری فلا بد من فرض عبادیتها لا من جهة الأمر الغیری و بفرض سابق علیه و لیس هو إلا الأمر الاستحبابی النفسی المتعلق بها و هذا یصحح عبادیتها قبل فرض تعلق الأمر الغیری بها و إن کان حین توجه الأمر الغیری لا یبقی ذلک الاستحباب بحده و هو جواز الترک و لکن لا تذهب بذلک عبادیتها لأن المناط فی عبادیتها لیس جواز الترک کما هو واضح بل المناط مطلوبیتها الذاتیة و رجحانها النفسی و هی باقیة بعد تعلق الأمر الغیری .و إذا صح تعلق الأمر الغیری بها بما هی عبادة و اندکاک الاستحباب فیه بمعنی أن الأمر الغیری یکون استمرارا لتلک المطلوبیة فإنه حینئذ لا یبقی إلا الأمر الغیری صالحا للدعوة إلیها و یکون هذا الأمر الغیری نفسه أمرا عبادیا غایة الأمر أن عبادیته لم تجئ من أجل نفس کونه أمرا غیریا بل من أجل کونه امتدادا لتلک المطلوبیة النفسیة و ذلک الرجحان الذاتی الذی حصل من ناحیة الأمر الاستحبابی النفسی السابق .و علیه فینقلب الأمر الغیری عبادیا و لکنها عبادیة بالعرض لا بالذات حتی یقال إن الأمر الغیری توصلی لا یصلح للعبادیة .و من هنا لا یصح الإتیان بالطهارة بقصد الاستحباب بعد دخول الوقت للواجب المشروط بها لأن الاستحباب بحده قد اندک فی الأمر الغیری فلم یعد موجودا حتی یصح قصده .نعم یبقی أن یقال إن الأمر الغیری إنما یدعو إلی الطهارة الواقعة علی وجه العبادة لأنه حسب الفرض متعلقه هو الطهارة بصفة العبادة لا ذات الطهارة و الأمر لا یدعو إلا إلی ما تعلق به فکیف صح أن یؤتی بذات العبادة بداعی امتثال أمرها الغیری و لا أمر غیری بذات العبادة .و لکن ندفع هذا الإشکال بأن نقول إذا کان الوضوء مثلا

ص :287

مستحبا نفسیا فهو قابل لأن یتقرب به من المولی و فعلیة التقرب تتحقق بقصد الأمر الغیری المندک فیه الأمر الاستحبابی و بعبارة أخری قد فرضنا الطهارات عبادات نفسیة فی مرتبة سابقة علی الأمر الغیری المتعلق بها و الأمر الغیری إنما یدعو إلی ذلک فإذا جاء المکلف بها بداعی الأمر الغیری المندک فیه الاستحباب و المفروض لیس هناک أمر موجود غیره صح التقرب به و وقعت عبادة لا محالة فیتحقق ما هو شرط الواجب و مقدمته .هذا کله بناء علی ثبوت الأمر الغیری بالمقدمة و بناء علی أن مناط عبادیة العبادة هو قصد الأمر المتعلق بها .و کلا المبنیین نحن لا نقول بهما .أما الأول فسیأتی فی البحث الآتی الدلیل علی عدم وجوب مقدمة الواجب فلا أمر غیری أصلا .و أما الثانی فلأن الحق أنه یکفی فی عبادیة الفعل ارتباطه بالمولی و الإتیان به متقربا إلیه تعالی غایة الأمر أن العبادات قد ثبت أنها توقیفیة فما لم یثبت رضا المولی بالفعل و حسن الانقیاد و قصد وجه الله بالفعل لا یصح الإتیان بالفعل عبادة بل یکون تشریعا محرما و لا یتوقف ذلک علی تعلق أمر المولی بنفس الفعل علی أن یکون أمرا فعلیا من المولی و لذا قیل یکفی فی عبادیة العبادة حسنها الذاتی و محبوبیتها الذاتیة للمولی حتی لو کان هناک مانع من توجه الأمر الفعلی بها .و إذا ثبت ذلک فنقول فی تصحیح عبادیة الطهارات إن فعل المقدمة بنفسه یعد شروعا فی امتثال ذی المقدمة الذی هو حسب الفرض فی المقام عبادة فی نفسه مأمور بها .فیکون الإتیان بالمقدمة بنفسه یعد امتثالا للأمر النفسی بذی المقدمة

ص :288

العبادی و یکفی فی عبادیة الفعل کما قلنا ارتباطه بالمولی و الإتیان به متقربا إلیه تعالی مع عدم ما یمنع من التعبد به و لا شک فی أن قصد الشروع بامتثال الأمر النفسی بفعل مقدماته قاصدا بها التوصل إلی الواجب النفسی العبادی یعد طاعة و انقیادا للمولی .و بهذا تصحح عبادیة المقدمة و إن لم نقل بوجوبها الغیری و لا حاجة إلی فرض طاعة الأمر الغیری .و من هنا یصح أن تقع کل مقدمة عبادة و یستحق علیها الثواب بهذا الاعتبار و إن لم تکن فی نفسها معتبرا فیها أن تقع علی وجه العبادة کتطهیر الثوب مثلا مقدمة للصلاة أو کالمشی حافیا مقدمة للحج أو الزیارة غایة الأمر أن الفرق بین المقدمات العبادیة و غیرها أن غیر العبادیة لا یلزم فیها أن تقع علی وجه قربی بخلاف المقدمات المشروط فیها أن تقع عبادة کالطهارات الثلاث .و یؤید ذلک ما ورد من الثواب علی بعض المقدمات و لا حاجة إلی التأویل الذی ذکرناه سابقا فی الأمر الثالث من أن الثواب علی ذی المقدمة یوزع علی المقدمات باعتبار دخالتها فی زیادة حمازة الواجب فإن ذلک التأویل مبنی علی فرض ثبوت الأمر الغیری و أن عبادیة المقدمة و استحقاق الثواب علیها لا ینشئان إلا من جهة الأمر الغیری اتباعا للمشهور المعروف بین القوم .فإن قلت إن الأمر لا یدعو إلا إلی ما تعلق به فلا یعقل أن یکون الأمر بذی المقدمة داعیا بنفسه إلی المقدمة إلا إذا قلنا بترشح أمر آخر منه بالمقدمة فیکون هو الداعی و لیس هذا الأمر الآخر المترشح إلا الأمر الغیری فرجع الإشکال جذعا .قلت نعم الأمر لا یدعو إلا إلی ما تعلق به و لکنا لا ندعی أن الأمر بذی المقدمة هو الذی یدعو إلی المقدمة بل نقول إن العقل هو الداعی إلی

ص :289

فعل المقدمة توصلا إلی فعل الواجب و سیأتی أن هذا الحکم العقلی لا یستکشف منه ثبوت أمر غیری من المولی و لا یلزم أن یکون هناک أمر بنفس المقدمة لتصحیح عبادیتها و یکون داعیا إلیها .و الحاصل أن الداعی إلی فعل المقدمة هو حکم العقل و المصحح لعبادیتها شیء آخر هو قصد التقرب بها و یکفی فی التقرب بها إلی الله أن یأتی بها بقصد التوصل إلی ما هو عبادة لا أن الداعی إلی فعل المقدمة هو نفس المصحح لعبادیتها و لا أن المصحح لعبادیة العبادة منحصر فی قصد الأمر المتعلق بها و قد سبق توضیح ذلک .و علیه فإن کانت المقدمة ذات الفعل کالتطهیر من الخبث فالعقل لا یحکم إلا بإتیانها علی أی وجه وقعت و لکن لو أتی بها المکلف متقربا بها إلی الله توصلا إلی العبادة صح و وقعت علی صفة العبادیة و استحق علیها الثواب و إن کانت المقدمة عملا عبادیا کالطهارة من الحدث فالعقل یلزم بالإتیان بها کذلک و المفروض أن المکلف متمکن من ذلک سواء کان هناک أمر غیری أم لم یکن و سواء کانت المقدمة فی نفسها مستحبة أم لم تکن فلا إشکال من جمیع الوجوه فی عبادیة الطهارات

ص :290

النتیجة مسألة مقدمة الواجب و الأقوال فیها

بعد تقدیم تلک التمهیدات التسعة نرجع إلی أصل المسألة و هو البحث عن وجوب مقدمة الواجب الذی قلنا إنه آخر ما یشغل بال الأصولیین .و قد عرفت فی مدخل المسألة موضع البحث فیها ببیان تحریر النزاع و هو کما قلنا الملازمة بین حکم العقل و حکم الشرع إذ قلنا إن العقل یحکم بوجوب مقدمة الواجب أی إنه یدرک لزومها و لکن وقع البحث فی أنه هل یحکم أیضا بأن المقدمة واجبة أیضا عند من أمر بما یتوقف علیها لقد تکثرت الأقوال جدا فی هذه المسألة علی مرور الزمن نذکر أهمها و نذکر ما هو الحق منها و هی 1 القول بوجوبها مطلقا .2 القول بعدم وجوبها مطلقا و هو الحق و سیأتی دلیله .3 التفصیل بین السبب فلا یجب و بین غیره کالشرط و عدم المانع و المعد فیجب .4 التفصیل بین السبب و غیره أیضا و لکن بالعکس أی یجب السبب دون غیره .5 التفصیل بین الشرط الشرعی فلا یجب بالوجوب الغیری باعتبار أنه واجب بالوجوب النفسی نظیر جزء الواجب و بین غیره فیجب بالوجوب الغیری و هو القول المعروف عن شیخنا المحقق النائینی .6 التفصیل بین الشرط الشرعی و غیره أیضا و لکن بالعکس أی

ص :291

یجب الشرط الشرعی بالوجوب المقدمی دون غیره .7 التفصیل بین المقدمة الموصلة أی التی یترتب علیها الواجب النفسی فتجب و بین المقدمة غیر الموصلة فلا تجب و هو المذهب المعروف لصاحب الفصول .8 التفصیل بین ما قصد به التوصل من المقدمات فیقع علی صفة الوجوب و بین ما لم یقصد به ذلک فلا یقع واجبا و هو القول المنسوب إلی الشیخ الأنصاری .9 التفصیل المنسوب إلی صاحب المعالم الذی أشار إلیه فی مسألة الضد و هو اشتراط وجوب المقدمة بإرادة ذیها فلا تکون المقدمة واجبة علی تقدیر عدم إرادته .10 التفصیل بین المقدمة الداخلیة أی الجزء فلا تجب و بین المقدمة الخارجیة فتجب .و هناک تفصیلات أخری عند المتقدمین لا حاجة إلی ذکرها .و قد قلنا إن الحق فی المسألة کما علیه جماعة (1)من المحققین المتأخرین القول الثانی و هو عدم وجوبها مطلقا .و الدلیل علیه واضح بعد ما قلناه ص 32 من أنه فی موارد حکم العقل بلزوم الشیء علی وجه یکون حکما داعیا للمکلف إلی فعل الشیء لا یبقی مجال للأمر المولوی فإن هذه المسألة من ذلک الباب من جهة العلة .

ص :292


1- أول من تنبه إلی ذلک وأقام علیه البرهان بالاسلوب الذی ذکرناه - فیما أعلم - استاذنا المحقق الاصفهانی قدس الله نفسه الزکیة، وقد عضد هذا القول السید الجلیل المحقق الخوئی دام ظله. وکذلک ذهب إلی هذا القول وأوضحه سیدنا المحقق الحکیم دام ظله فی حاشیته علی الکفایة.

و ذلک لأنه إذا کان الأمر بذی المقدمة داعیا للمکلف إلی الإتیان بالمأمور به فإن دعوته هذه لا محالة بحکم العقل تحمله و تدعوه إلی الإتیان بکل ما یتوقف علیه المأمور به تحصیلا له .و مع فرض وجود هذا الداعی فی نفس المکلف لا تبقی حاجة إلی داع آخر من قبل المولی مع علم المولی حسب الفرض بوجود هذا الداعی لأن الأمر المولوی سواء کان نفسیا أم غیریا إنما یجعله المولی لغرض تحریک المکلف نحو فعل المأمور به إذ یجعل الداعی فی نفسه حیث لا داع .بل یستحیل فی هذا الفرض جعل الداعی الثانی من المولی لأنه یکون من باب تحصیل الحاصل .و بعبارة أخری إن الأمر بذی المقدمة لو لم یکن کافیا فی دعوة المکلف إلی الإتیان بالمقدمة فأی أمر بالمقدمة لا ینفع و لا یکفی للدعوة إلیها بما هی مقدمة و مع کفایة الأمر بذی المقدمة لتحریکه إلی المقدمة و للدعوة إلیها فأیة حاجة تبقی إلی الأمر بها من قبل المولی بل یکون عبثا و لغوا بل یمتنع لأنه تحصیل للحاصل .و علیه فالأوامر الواردة فی بعض المقدمات یجب حملها علی الإرشاد و بیان شرطیة متعلقها للواجب و توقفه علیها کسائر الأوامر الإرشادیة فی موارد حکم العقل و علی هذا یحمل(قوله علیه السلام:إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور و الصلاة) .و من هذا البیان نستحصل علی النتیجة الآتیة أنه لا وجوب غیری أصلا و ینحصر الوجوب المولوی بالواجب النفسی فقط فلا موقع إذن لتقسیم الواجب إلی النفسی و الغیری .فلیحذف ذلک من سجل الأبحاث الأصولیة

ص :293

المسألة الثالثة مسألة الضد
تحریر محل النزاع

اختلفوا فی أن الأمر بالشیء هل یقتضی النهی عن ضده أو لا یقتضی علی أقوال .و لأجل توضیح محل النزاع و تحریره نشرح مرادهم من الألفاظ التی وردت علی لسانهم فی تحریر النزاع هذا و هی علی ثلاثة 1 الضد فإن مرادهم من هذه الکلمة مطلق المعاند و المنافی فیشمل نقیض الشیء أی إن الضد عندهم أعم من الأمر الوجودی و العدمی و هذا اصطلاح خاص للأصولیین فی خصوص هذا الباب و إلا فالضد مصطلح فلسفی یراد به فی باب التقابل خصوص الأمر الوجودی الذی له مع وجودی آخر تمام المعاندة و المنافرة و له معه غایة التباعد .و لذا قسم الأصولیون الضد إلی ضد عام و هو الترک أی النقیض و ضد خاص و هو مطلق المعاند الوجودی .و علی هذا فالحق أن تنحل هذه المسألة إلی مسألتین موضوع إحداهما الضد العام و موضوع الأخری الضد الخاص لا سیما مع اختلاف الأقوال فی الموضوعین .2 الاقتضاء و یراد به لابدیة ثبوت النهی عن الضد عند الأمر بالشیء إما لکون الأمر یدل علیه بإحدی الدلالات الثلاث المطابقة و التضمن

ص :294

و الالتزام و إما لکونه یلزمه عقلا النهی عن الضد من دون أن یکون لزومه بینا بالمعنی الأخص حتی یدل علیه بالالتزام .فالمراد من الاقتضاء عندهم أعم من کل ذلک .3 النهی و یراد به النهی المولوی من الشارع و إن کان تبعیا کوجوب المقدمة الغیری التبعی و النهی معناه المطابقی کما سبق فی مبحث النواهی ج 1 ص 103 هو الزجر و الردع عما تعلق به و فسره المتقدمون بطلب الترک و هو تفسیر بلازم معناه و لکنهم فرضوه کأن ذلک هو معناه المطابقی و لذا اعترض بعضهم علی ذلک فقال إن طلب الترک محال فلا بد أن یکون المطلوب الکف و هکذا تنازعوا فی أن المطلوب بالنهی الترک أو الکف و لا معنی لنزاعهم هذا إلا إذا کانوا قد فرضوا أن معنی النهی هو الطلب فوقعوا فی حیرة فی أن المطلوب به أی شیء هو الترک أو الکف .و لو کان المراد من النهی هو طلب الترک کما ظنوا لما کان معنی لنزاعهم فی الضد العام فإن النهی عنه معناه علی حسب ظنهم طلب ترک ترک المأمور به و لما کان نفی النفی إثباتا فیرجع معنی النهی عن الضد العام إلی معنی طلب فعل المأمور به فیکون قولهم الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضده العام تبدیلا للفظ بلفظ آخر بمعناه و یکون عبارة أخری عن القول بأن الأمر بالشیء یقتضی نفسه و ما أشد سخف مثل هذا البحث .و لعله لأجل هذا التوهم أی توهم أن النهی معناه طلب الترک ذهب بعضهم إلی عینیة الأمر بالشیء للنهی عن الضد العام .و بعد بیان هذه الأمور الثلاثة فی تحریر محل النزاع یتضح موضع

ص :295

النزاع و کیفیته أن النزاع معناه یکون أنه إذا تعلق أمر بشیء هل إنه لا بد أن یتعلق نهی المولی بضده العام أو الخاص فالنزاع یکون فی ثبوت النهی المولوی عن الضد بعد فرض ثبوت الأمر بالشیء و بعد فرض ثبوت النهی فهناک نزاع آخر فی کیفیة إثبات ذلک .و علی کل حال فإن مسألتنا کما قلنا تنحل إلی مسألتین إحداهما فی الضد العام و الثانیة فی الضد الخاص فینبغی البحث عنهما فی بابین

1 الضد العام

لم یکن اختلافهم فی الضد العام من جهة أصل الاقتضاء و عدمه فإن الظاهر أنهم متفقون علی الاقتضاء و إنما اختلافهم فی کیفیته فقیل إنه علی نحو العینیة أی إن الأمر بالشیء عین النهی عن ضده العام فیدل علیه حینئذ بالدلالة المطابقیة .و قیل إنه علی نحو الجزئیة فیدل علیه بالدلالة التضمنیة باعتبار أن ینحل إلی طلب الشیء مع المنع من الترک فیکون المنع من الترک جزءا تحلیلیا فی معنی الوجوب .و قیل إنه علی نحو اللزوم البین بالمعنی الأخص فیدل علیه بالدلالة الالتزامیة .و قیل إنه علی نحو اللزوم البین بالمعنی الأعم أو غیر البین فیکون اقتضاؤه له عقلیا صرفا .و الحق أنه لا یقتضیه بأی نحو من أنحاء الاقتضاء أی أنه لیس هناک نهی مولوی عن الترک یقتضیه نفس الأمر بالفعل علی وجه یکون هناک نهی

ص :296

مولوی وراء نفس الأمر بالفعل .و الدلیل علیه أن الوجوب سواء کان مدلولا لصیغة الأمر أو لازما عقلیا لها کما هو الحق لیس معنی مرکبا بل هو معنی بسیط وجدانی هو لزوم الفعل و لازم کون الشیء واجبا المنع من ترکه .و لکن هذا المنع اللازم للوجوب لیس منعا مولویا و نهیا شرعیا بل هو منع عقلی تبعی من غیر أن یکون هناک من الشارع منع و نهی وراء نفس الوجوب و سر ذلک واضح فإن نفس الأمر بالشیء علی وجه الوجوب کاف فی الزجر عن ترکه فلا حاجة إلی جعل للنهی عن الترک من الشارع زیادة علی الأمر بذلک الشیء .فإن کان مراد القائلین بالاقتضاء فی المقام أن نفس الأمر بالفعل یکون زاجرا عن ترکه فهو مسلم بل لا بد منه لأن هذا هو مقتضی الوجوب و لکن لیس هذا هو موضع النزاع فی المسألة بل موضع النزاع هو النهی المولوی زائدا علی الأمر بالفعل و إن کان مرادهم أن هناک نهیا مولویا عن الترک یقتضیه الأمر بالفعل کما هو موضع النزاع فهو غیر مسلم و لا دلیل علیه بل هو ممتنع .و بعبارة أوضح و أوسع إن الأمر و النهی متعاکسان بمعنی أنه إذا تعلق الأمر بشیء فعلی طبع ذلک یکون نقیضه بالتبع ممنوعا منه و إلا لخرج الواجب عن کونه واجبا إذا تعلق النهی بشیء فعلی طبع ذلک یکون نقیضه بالتبع مدعوا إلیه و إلا لخرج المحرم عن کونه محرما و لکن لیس معنی هذه التبعیة فی الأمر أن یتحقق فعلا نهی مولوی عن ترک المأمور به بالإضافة إلی الأمر المولوی بالفعل کما أنه لیس معنی هذه التبعیة فی النهی أن یتحقق فعلا أمر مولوی بترک المنهی عنه بالإضافة إلی النهی المولوی عن الفعل .

ص :297

و السر ما قلناه أن نفس الأمر بالشیء کاف فی الزجر عن ترکه کما أن نفس النهی عن الفعل کاف للدعوة إلی ترکه بلا حاجة إلی جعل جدید من المولی فی المقامین بل لا یعقل الجعل الجدید کما قلنا فی مقدمة الواجب حذو القذة بالقذة فراجع .و لأجل هذه التبعیة الواضحة اختلط الأمر علی کثیر من المحررین لهذه المسألة فحسبوا أن هناک نهیا مولویا عن ترک المأمور به وراء الأمر بالشیء اقتضاه الأمر علی نحو العینیة أو التضمن أو الالتزام أو اللزوم العقلی .کما حسبوا هناک فی مبحث النهی أن معنی النهی هو الطلب إما للترک أو الکف و قد تقدمت الإشارة إلی ذلک فی تحریر النزاع .و هذان التوهمان فی النهی و الأمر من واد واحد و علیه فلیس هناک طلب للترک وراء الردع عن الفعل فی النهی و لا نهی عن الترک وراء طلب الفعل فی الأمر .نعم یجوز للأمر بدلا من الأمر بالشیء أن یعبر عنه بالنهی عن الترک کأن یقول مثلا بدلا عن قوله صل لا تترک الصلاة و یجوز له بدلا من النهی عن الشیء أن یعبر عنه بالأمر بالترک کأن یقول مثلا بدلا عن قوله لا تشرب الخمر اترک شرب الخمر فیؤدی التعبیر الثانی فی المقامین مؤدی التعبیر الأول المبدل منه أی إن التعبیر الثانی یحقق الغرض من التعبیر الأول .فإذا کان مقصود القائل بأن الأمر بالشیء عین النهی عن ضده العام هذا المعنی أی أن أحدهما یصح أن یوضع موضع الآخر و یحل محله فی أداء غرض الآمر فلا بأس به و هو صحیح و لکن هذا غیر العینیة المقصودة فی المسألة علی الظاهر

ص :298

2 الضد الخاص
اشارة

إن القول باقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن ضده الخاص یبتنی و یتفرع علی القول باقتضائه للنهی عن ضده العام .و لما ثبت حسب ما تقدم أنه لا نهی مولوی عن الضد العام فبالطریق الأولی نقول إنه لا نهی مولوی عن الضد الخاص لما قلنا من ابتنائه و تفرعه علیه .و علی هذا فالحق أن الأمر بالشیء لا یقتضی النهی عن ضده مطلقا سواء کان عاما أو خاصا .أما کیف یبتنی القول بالنهی عن الضد الخاص علی القول بالنهی عن الضد العام و یتفرع علیه فهذا ما یحتاج إلی شیء من البیان فنقول إن القائلین بالنهی عن الضد الخاص لهم مسلکان لا ثالث لهما و کلاهما یبتنیان و یتفرعان علی ذلک

الأول مسلک التلازم

و خلاصته أن حرمة أحد المتلازمین تستدعی و تستلزم حرمة ملازمه الآخر و المفروض أن فعل الضد الخاص یلازم ترک المأمور به أی الضد العام کالأکل مثلا الملازم فعله لترک الصلاة المأمور بها و عندهم أن الضد العام محرم منهی عنه و هو ترک الصلاة فی المثال فیلزم علی هذا أن یحرم الضد الخاص و هو الأکل فی المثال فابتنی النهی عن الضد الخاص بمقتضی هذا المسلک علی ثبوت النهی عن الضد العام .أما نحن فلما ذهبنا إلی أنه لا نهی مولوی عن الضد العام فلا موجب

ص :299

لدینا من جهة الملازمة المدعاة للقول بکون الضد الخاص منهیا عنه بنهی مولوی لأن ملزومه لیس منهیا عنه حسب التحقیق الذی مر .علی أنا نقول ثانیا بعد التنازل عن ذلک و التسلیم بأن الضد العام منهی عنه إن هذا المسلک لیس صحیحا فی نفسه یعنی أن کبراه غیر مسلمة و هی أن حرمة أحد المتلازمین تستلزم ملازمه الآخر فإنه لا یجب اتفاق المتلازمین فی الحکم لا فی الوجوب و لا الحرمة و لا غیرهما من الأحکام ما دام أن مناط الحکم غیر موجود فی الملازم الآخر نعم القدر المسلم فی المتلازمین أنه لا یمکن أن یختلفا فی الوجوب و الحرمة علی وجه یکون أحدهما واجبا و الآخر محرما لاستحالة امتثالهما حینئذ من المکلف فیستحیل التکلیف من المولی بهما فإما أن یحرم أحدهما أو یجب الآخر و یرجع ذلک إلی باب التزاحم الذی سیأتی التعرض له .و بهذا تبطل شبهة الکعبی المعروفة التی أخذت قسطا وافرا من أبحاث الأصولیین إذا کان مبناها هذه الملازمة المدعاة فإنه نسب إلیه القول بنفی المباح بدعوی أن کل ما یظن من الأفعال أنه مباح فهو واجب فی الحقیقة لأن فعل کل مباح ملازم قهرا لواجب و هو ترک محرم واحد من المحرمات علی الأقل

الثانی مسلک المقدمیة

و خلاصته دعوی أن ترک الضد الخاص مقدمة لفعل المأمور به ففی المثال المتقدم یکون ترک الأکل مقدمة لفعل الصلاة و مقدمة الواجب واجبة فیجب ترک الضد الخاص .و إذا وجب ترک الأکل حرم ترکه أی ترک ترک الأکل لأن الأمر بالشیء یقتضی النهی عن الضد العام و إذا حرم ترک ترک الأکل فإن معناه حرمة فعله لأن نفی النفی إثبات فیکون الضد الخاص منهیا عنه

ص :300

هذا خلاصة مسلک المقدمیة و قد رأیت کیف ابتنی النهی عن الضد الخاص علی ثبوت النهی عن الضد العام .و نحن إذ قلنا بأنه لا نهی مولوی عن الضد العام فلا یحرم ترک ترک الضد الخاص حرمة مولویة أی لا یحرم فعل الضد الخاص فثبت المطلوب علی أن مسلک المقدمیة غیر صحیح من وجهین آخرین أحدهما أنه بعد التنزل عما تقدم و تسلیم حرمة الضد العام فإن هذا المسلک کما هو واضح یبتنی علی وجوب مقدمة الواجب و قد سبق أن أثبتنا أنها لیست واجبة بوجوب مولوی و علیه لا یکون ترک الضد الخاص واجبا بالوجوب الغیری المولوی حتی یحرم فعله .ثانیهما أنا لا نسلم أن ترک الضد الخاص مقدمة لفعل المأمور به و هذه المقدمیة أعنی مقدمیة الضد الخاص لا تزال مثارا للبحث عند المتأخرین حتی أصبحت من المسائل الدقیقة المطولة و نحن فی غنی عن البحث عنها بعد ما تقدم .و لکن لحسم مادة الشبهة لا بأس بذکر خلاصة ما یرفع المغالطة فی دعوی مقدمیة ترک الضد فنقول إن المدعی لمقدمیة ترک الضد لضده تبتنی دعواه علی أن عدم الضد من باب عدم المانع بالنسبة إلی الضد الآخر للتمانع بین الضدین أی لا یمکن اجتماعهما معا و لا شک فی أن عدم المانع من المقدمات لأنه من متممات العلة فإن العلة التامة کما هو معروف تتألف من المقتضی و عدم المانع .فیتألف دلیله من مقدمتین 1 الصغری أن عدم الضد من باب عدم المانع لضده لأن الضدین متمانعان .

ص :301

2 الکبری أن عدم المانع من المقدمات .فینتج من الشکل الأول أن عدم الضد من المقدمات لضده و هذه الشبهة إنما نشأت من أخذ کلمة المانع مطلقة فتخیلوا أن لها معنی واحدا فی الصغری و الکبری فانتظم عندهم القیاس الذی ظنوه منتجا بینما أن الحق أن التمانع له معنیان و معناه فی الصغری غیر معناه فی الکبری فلم یتکرر الحد الأوسط فلم یتألف قیاس صحیح .بیان ذلک أن التمانع تارة یراد منه التمانع فی الوجود و هو امتناع الاجتماع و عدم الملاءمة بین الشیئین و هو المقصود من التمانع بین الضدین إذ هما لا یجتمعان فی الوجود و لا یتلاءمان و أخری یراد منه التمانع فی التأثیر و إن لم یکن بینهما تمانع و تناف فی الوجود و هو الذی یکون بین المقتضیین لأثرین متمانعین فی الوجود إذ یکون المحل غیر قابل إلا لتأثیر أحد المقتضیین فإن المقتضیین حینئذ یتمانعان فی تأثیرهما فلا یؤثر أحدهما إلا بشرط عدم المقتضی الآخر و هذا هو المقصود من المانع فی الکبری فإن المانع الذی یکون عدمه شرطا لتأثیر المقتضی هو المقتضی الآخر الذی یقتضی ضد أثر الأول و عدم المانع إما لعدم وجوده أصلا أو لعدم بلوغه مرتبة الغلبة علی الآخر فی التأثیر .و علیه فنحن نسلم أن عدم الضد من باب عدم المانع و لکنه عدم المانع فی الوجود و ما هو من المقدمات عدم المانع فی التأثیر فلم یتکرر الحد الأوسط فلا نستنتج من القیاس أن عدم الضد من المقدمات .و أعتقد أن هذا البیان لرفع المغالطة فیه الکفایة للمتنبه و إصلاح هذا البیان بذکر بعض الشبهات فیه و دفعها یحتاج إلی سعة من القول لا تتحملها الرسالة و لسنا بحاجة إلی نفی المقدمة لإثبات المختار بعد ما قدمناه

ص :302

ثمرة المسألة

إن ما ذکروه من الثمرات لهذه المسألة مختص بالضد الخاص فقط و أهمها و العمدة فیها هی صحة الضد إذا کان عبادة علی القول بعدم الاقتضاء و فساده علی القول بالاقتضاء .بیان ذلک أنه قد یکون هناک واجب أی واجب کان عبادة أو غیر عبادة و ضده عبادة و کان الواجب أرجح فی نظر الشارع من ضده العبادی فإنه لمکان التزاحم بین الأمرین للتضاد بین متعلقیهما و الأول أرجح فی نظر الشارع لا محالة یکون الأمر الفعلی المنجز هو الأول دون الثانی .و حینئذ فإن قلنا بأن الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضده الخاص فإن الضد العبادی یکون منهیا عنه فی الفرض و النهی فی العبادة یقتضی الفساد فإذا أتی به وقع فاسدا و إن قلنا بأن الأمر بالشیء لا یقتضی النهی عن ضده الخاص فإن الضد العبادی لا یکون منهیا عنه فلا مقتضی لفساده .و أرجحیة الواجب علی ضده الخاص العبادی یتصور فی أربعة موارد 1 أن یکون الضد العبادی مندوبا و لا شک فی أن الواجب مقدم علی المندوب کاجتماع الفریضة مع النافلة فإنه بناء علی اقتضاء الأمر بالشیء النهی عن ضده لا یصح الاشتغال بالنافلة مع حلول وقت الفریضة و لا بد أن تقع النافلة فاسدة نعم لا بد أن تستثنی من ذلک نوافل الوقت لورود الأمر بها فی خصوص وقت الفریضة کنافلتی الظهر و العصر .و علی هذا فمن کان علیه قضاء الفوائت لا تصح منه النوافل مطلقا بناء علی النهی عن الضد بخلاف ما إذا لم نقل بالنهی عن الضد فإن عدم جواز فعل النافلة حینئذ یحتاج إلی دلیل خاص .2 أن یکون الضد العبادی واجبا و لکنه أقل أهمیة عند الشارع من

ص :303

الأول کما فی مورد اجتماع إنقاذ نفس محترمة من الهلکة مع الصلاة الواجبة .3 أن یکون الضد العبادی واجبا أیضا و لکنه موسع الوقت و الأول مضیق و لا شک فی أن المضیق مقدم علی الموسع و إن کان الموسع أکثر أهمیة منه مثاله اجتماع قضاء الدین الفوری مع الصلاة فی سعة وقتها و إزالة النجاسة عن المسجد مع الصلاة فی سعة الوقت .4 أن یکون الضد العبادی واجبا أیضا و لکنه مخیر و الأول واجب معین و لا شک فی أن المعین مقدم علی المخیر و إن کان المخیر أکثر أهمیة منه لأن المخیر له بدل دون المعین مثاله اجتماع سفر منذور فی یوم معین مع خصال الکفارة فلو ترک المکلف السفر و اختار الصوم من خصال الکفارة فإن کان الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضده کان الصوم منهیا عنه فاسدا .هذه خلاصة بیان ثمرة المسألة مع بیان موارد ظهورها و لکن هذا المقدار من البیان لا یکفی فی تحقیقها فإن تربتها و ظهورها یتوقف علی أمرین الأول القول بأن النهی فی العبادة یقتضی فسادها حتی النهی الغیری التبعی لأنه إذا قلنا بأن النهی مطلقا لا یقتضی فساد العبادة أو خصوص النهی التبعی لا یقتضی الفساد فلا تظهر الثمرة أبدا و هو واضح لأن الضد العبادی حینئذ یکون صحیحا سواء قلنا بالنهی عن الضد أم لم نقل .و الحق أن النهی فی العبادة یقتضی فسادها حتی النهی الغیری علی الظاهر و سیأتی تحقیق ذلک فی موضعه إن شاء الله تعالی .و استعجالا فی بیان هذا الأمر نشیر إلیه إجمالا فنقول إن أقصی ما یقال فی عدم اقتضاء النهی التبعی للفساد هو أن النهی التبعی لا یکشف عن وجود مفسدة فی المنهی عنه و إذا کان الأمر کذلک فالمنهی عنه باق علی ما هو علیه من مصلحة بلا مزاحم لمصلحته فیمکن التقرب فیه إذا کان عبادة بقصد تلک المصلحة المفروضة فیه .

ص :304

و هذا لیس بشیء و إن صدر من بعض أعاظم مشایخنا لأن المدار فی القرب و البعد فی العبادة لیس علی وجود المصلحة و المفسدة فقط فإنه من الواضح أن المقصود من القرب و البعد من المولی القرب و البعد المعنویان تشبیها بالقرب و البعد المکانیین و ما لم یکن الشیء مرغوبا فیه للمولی فعلا لا یصلح للتقرب به إلیه و مجرد وجود مصلحة فیه لا یوجب مرغوبیته له مع فرض نهیه و تبعیده .و بعبارة أخری لا وجه للتقرب إلی المولی بما أبعدنا عنه و المفروض أن النهی التبعی نهی مولوی و کونه تبعیا لا یخرجه عن کونه زجرا و تنفیرا و تبعیدا عن الفعل و إن کان التبعید لمفسدة فی غیره أو لفوات مصلحة الغیر نعم لو قلنا بأن النهی عن الضد لیس نهیا مولویا بل هو نهی یقتضیه العقل الذی لا یستکشف منه حکم الشرع کما اخترناه فی المسألة فإن هذا النهی العقلی لا یقتضی تبعیدا عن المولی إلا إذا کشف عن مفسدة مبغوضة للمولی و هذا شیء آخر لا یقتضیه حکم العقل فی نفسه .الثانی أن صحة العبادة و التقرب لا یتوقف علی وجود الأمر الفعلی بها بل یکفی فی التقرب بها إحراز محبوبیتها الذاتیة للمولی و إن لم یکن هناک أمر فعلی بها لمانع .أما إذا قلنا بأن عبادیة العبادة لا تتحقق إلا إذا کانت مأمورا بها بأمر فعلی فلا تظهر هذه الثمرة أبدا لأنه قد تقدم أن الضد العبادی سواء کان مندوبا أو واجبا أقل أهمیة أو موسعا أو مخیرا لا یکون مأمورا به فعلا لمکان المزاحمة بین الأمرین و مع عدم الأمر به لا یقع عبادة صحیحة و إن قلنا بعدم النهی عن الضد .و الحق هو الأول أی أن عبادیة العبادة لا تتوقف علی تعلق الأمر بها فعلا بل إذا أحرز أنها محبوبة فی نفسها للمولی مرغوبة لدیه فإنه یصح التقرب بها إلیه و إن لم یأمر بها فعلا لمانع لأنه کما أشرنا إلی ذلک فی

ص :305

مقدمة الواجب ص 285 یکفی فی عبادیة الفعل ارتباطه بالمولی و الإتیان به متقربا به إلیه مع عدم ما یمنع من التعبد به من کون فعله تشریعا أو کونه منهیا عنه و لا تتوقف عبادیته علی قصد امتثال الأمر کما مال إلیه صاحب الجواهر قدس سره .هذا(و قد یقال فی المقام نقلا عن المحقق الثانی تغمده الله برحمته إن هذه الثمرة تظهر حتی مع القول بتوقف العبادة علی تعلق الأمر بها و لکن ذلک فی خصوص التزاحم بین الواجبین الموسع و المضیق و نحوهما دون التزاحم بین الأهم و المهم المضیقین .و السر فی ذلک أن الأمر فی الموسع إنما یتعلق بصرف وجود الطبیعة علی أن یأتی به المکلف فی أی وقت شاء من الوقت الوسیع المحدد له أما الأفراد بما لها من الخصوصیات الوقتیة فلیست مأمورا بها بخصوصها و الأمر بالمضیق إذا لم یقتض النهی عن ضده فالفرد المزاحم له من أفراد ضده الواجب الموسع لا یکون مأمورا به لا محالة من أجل المزاحمة و لکنه لا یخرج بذلک عن کونه فردا من الطبیعة المأمور بها .و هذا کاف فی حصول امتثال الأمر بالطبیعة لأن انطباقها علی هذا الفرد المزاحم قهری فیتحقق به الامتثال قهرا و یکون مجزیا عقلا عن امتثال الطبیعة فی فرد آخر لأنه لا فرق من جهة انطباق الطبیعة المأمور بها بین فرد و فرد .و بعبارة أوضح أنه لو کان الوجوب فی الواجب الموسع ینحل إلی وجوبات متعددة بتعدد أفراده الطولیة الممکنة فی مدة الوقت المحدد علی وجه یکون التخییر بینها شرعیا فلا محالة لا أمر بالفرد المزاحم للواجب المضیق و لا أمر آخر یصححه فلا تظهر الثمرة و لکن الأمر لیس کذلک فإنه لیس فی الواجب الموسع إلا وجوب واحد یتعلق بصرف وجود الطبیعة غیر أن الطبیعة لما کانت لها أفراد طولیة متعددة یمکن انطباقها علی کل واحد منها فلا محالة یکون المکلف مخیرا عقلا بین الأفراد أی یکون مخیرا بین

ص :306

أن یأتی بالفعل فی أول الوقت أو ثانیه أو ثالثه و هکذا إلی آخر الوقت و ما یختاره من الفعل فی أی وقت یکون هو الذی ینطبق علیه المأمور به و إن امتنع أن یتعلق الأمر به بخصوصه لمانع بشرط أن یکون المانع من غیر جهة نفس شمول الأمر المتعلق بالطبیعة له بل من جهة شیء خارج عنه و هو المزاحمة مع المضیق فی المقام) .هذا خلاصة توجیه ما نسب إلی المحقق الثانی فی المقام و لکن شیخنا المحقق النائینی لم یرتضه لأنه یری أن المانع من تعلق الأمر بالفرد المزاحم یرجع إلی نفس شمول الأمر المتعلق بالطبیعة له یعنی أنه یری أن الطبیعة المأمور بها بما هی مأمور بها لا تنطبق علی الفرد المزاحم و لا تشمله و انطباق الطبیعة بما هی مأمور بها علی الفرد المزاحم لا ینفع و لا یکفی فی امتثال الأمر بالطبیعة و السر فی ذلک واضح فإنا إذ نسلم أن التخییر بین أفراد الطبیعة تخییر عقلی نقول إن التخییر إنما هو بین أفراد الطبیعة المأمور بها بما هی مأمور بها فالفرد المزاحم خارج عن نطاق هذه الأفراد التی بینها التخییر .أما أن الفرد المزاحم خارج عن نطاق أفراد الطبیعة المأمور بها بما هی مأمور بها فلأن الأمر إنما یتعلق بالطبیعة المقدورة للمکلف بما هی مقدورة لأن القدرة شرط فی المأمور به مأخوذة فی الخطاب لا أنها شرط عقلی محض و الخطاب فی نفسه عام شامل فی إطلاقه للأفراد المقدورة و غیر المقدورة .بیان ذلک أن الأمر إنما هو لجعل الداعی فی نفس المکلف و هذا المعنی بنفسه یقتضی کون متعلقه مقدورا لاستحالة جعل الداعی إلی ما هو ممتنع .فیعلم من هذا أن القدرة مأخوذة فی متعلق الأمر و یفهم ذلک من نفس الخطاب بمعنی أن الخطاب لما کان یقتضی القدرة علی متعلقه فتکون سعة دائرة المتعلق علی قدر سعة دائرة القدرة علیه لا تزید و لا تنقص أی تدور سعته و ضیقه مدار سعة القدرة و ضیقها .و علی هذا فلا یکون الأمر شاملا لما هو ممتنع من الأفراد إذ یکون

ص :307

المطلوب به الطبیعة بما هی مقدورة و الفرد غیر المقدور خارج عن أفرادها بما هی مأمور بها .نعم لو کان اعتبار القدرة بملاک قبح تکلیف العاجز فهی شرط عقلی لا یوجب تقیید متعلق الخطاب لأنه لیس من اقتضاء نفس الخطاب فیکون متعلق الأمر هی الطبیعة بما هی لا بما هی مقدورة و إن کان بمقتضی حکم العقل لا بد أن یقید الوجوب بها فالفرد المزاحم علی هذا هو أحد أفراد الطبیعة بما هی التی تعلق بها کذلک .و تشیید ما أفاده أستاذنا و مناقشته یحتاج إلی بحث أوسع لسنا بصدده الآن راجع عنه تقریرات تلامذته

الترتب

و إذ امتد البحث إلی هنا فهناک مشکلة فقهیة تنشأ من الخلاف المتقدم لا بد من التعرض لها بما یلیق بهذه الرسالة .و هی أن کثیرا من الناس نجدهم یحرصون بسبب تهاونهم علی فعل بعض العبادات المندوبة فی ظرف وجوب شیء هو ضد للمندوب فیترکون الواجب و یفعلون المندوب کمن یذهب للزیارة أو یقیم مأتم الحسین علیه السلام و علیه دین واجب الأداء کما نجدهم یفعلون بعض الواجبات العبادیة فی حین أن هناک علیهم واجبا أهم فیترکونه أو واجبا مضیق الوقت مع أن الأول موسع فیقدمون الموسع علی المضیق أو واجبا معینا مع أن الأول مخیر فیقدمون المخیر علی المعین و هکذا .و یجمع الکل تقدیم فعل المهم العبادی علی الأهم فإن المضیق أهم من الموسع و المعین أهم من المخیر کما أن الواجب أهم من المندوب و من الآن

ص :308

سنعبر بالأهم و المهم و نقصد ما هو أعم من ذلک کله .فإذا قلنا بأن صحة العبادة لا تتوقف علی وجود أمر فعلی متعلق به و قلنا بأنه لا نهی عن الضد أو النهی عنه لا یقتضی الفساد فلا إشکال و لا مشکلة لأن فعل المهم العبادی یقع صحیحا حتی مع فعلیة الأمر بالأهم غایة الأمر یکون المکلف عاصیا بترک الأهم من دون أن یؤثر ذلک علی صحة ما فعله من العبادة .و إنما المشکلة فیما إذا قلنا بالنهی عن الضد و أن النهی یقتضی الفساد أو قلنا بتوقف صحة العبادة علی الأمر بها کما هو المعروف عن الشیخ صاحب الجواهر قدس سره فإن أعمالهم هذه کلها باطلة و لا یستحقون علیها ثوابا لأنه إما منهی عنها و النهی یقتضی الفساد و إما لا أمر بها و صحتها تتوقف علی الأمر .فهل هناک طریقة لتصحیح فعل المهم العبادی مع وجود الأمر بالأهم .ذهب جماعة إلی تصحیح العبادة فی المهم بنحو الترتب بین الأمرین الأمر بالأهم و الأمر بالمهم مع فرض القول بعدم النهی عن الضد و أن صحة العبادة تتوقف علی وجود الأمر (1).و الظاهر أن أول من أسس هذه الفکرة و تنبه لها المحقق الثانی و شید أرکانها السید المیرزا الشیرازی کما أحکمها و نقحها شیخنا المحقق النائینی طیب الله مثواهم .و هذه الفکرة و تحقیقها من أروع ما انتهی إلیه البحث الأصولی تصویرا و عمقا .

ص :309


1- أما نحن الذین نقول بأن صحة العبادة لا تتوقف علی وجود الامر فعلا وان الامر بالشئ لا یقتضی النهی عن ضده - ففی غنی عن القول بالترتب لتصحیح العبادة فی مقام المزاحمة بین الضدین الاهم والمهم کما تقدم.

و خلاصة فکرة الترتب أنه لا مانع عقلا من أن یکون الأمر بالمهم فعلیا عند عصیان الأمر بالأهم فإذا عصی المکلف و ترک الأهم فلا محذور فی أن یفرض الأمر بالمهم حینئذ إذ لا یلزم منه طلب الجمع بین الضدین کما سیأتی توضیحه .و إذا لم یکن مانع عقلی من هذا الترتب فإن الدلیل یساعد علی وقوعه و الدلیل هو نفس الدلیلین المتضمنین للأمر بالمهم و الأمر بالأهم و هما کافیان لإثبات وقوع الترتب .و علیه ففکرة الترتب و تصحیحها یتوقف علی شیئین رئیسین فی الباب أحدهما إمکان الترتب فی نفسه و ثانیهما الدلیل علی وقوعه .أما الأول و هو إمکانه فی نفسه فبیانه أن أقصی ما یقال فی إبطال الترتب و استحالته هو دعوی لزوم المحال منه و هو فعلیة الأمر بالضدین فی آن واحد لأن القائل بالترتب یقول بإطلاق الأمر بالأهم و شموله لصورتی فعل الأهم و ترکه ففی حال فعلیة الأمر بالمهم و هو حال ترک الأهم یکون الأمر بالأهم فعلیا علی قوله و الأمر بالضدین فی آن واحد محال .و لکن هذه الدعوی عند القائل بالترتب باطلة لأن قوله الأمر بالضدین فی آن واحد محال فیه مغالطة ظاهرة فإن قید فی آن واحد یوهم أنه راجع إلی الضدین فیکون محالا إذ یستحیل الجمع بین الضدین بینما هو فی الحقیقة راجع إلی الأمر و لا استحالة فی أن یأمر المولی فی آن واحد بالضدین إذا لم یکن المطلوب الجمع بینهما فی آن واحد لأن المحال هو الجمع بین الضدین لا الأمر بهما فی آن واحد و إن لم یستلزم الجمع بینهما .أما أن قید فی آن واحد راجع إلی الأمر لا إلی الضدین فواضح لأن المفروض أن الأمر بالمهم مشروط بترک الأهم فالخطاب الترتبی لیس فقط لا یقتضی الجمع بین الضدین بل یقتضی عکس ذلک لأنه فی حال اشتغال

ص :310

المکلف بامتثال الأمر بالأهم و إطاعته لا أمر فی هذا الحال إلا بالأهم و نسبة المهم إلیه حینئذ کنسبة المباحات إلیه و أما فی حال ترک الأهم و الاشتغال بالمهم فإن الأمر بالأهم نسلم أنه یکون فعلیا و کذلک الأمر بالمهم و لکن خطاب المهم حسب الفرض مشروط بترک الأهم و خلو الزمان منه ففی هذا الحال المفروض یکون الأمر بالمهم داعیا للمکلف إلی فعل المهم فی حال ترک الأهم فکیف یکون داعیا إلی الجمع بین الأهم و المهم فی آن واحد .و بعبارة أوضح إن إیجاب الجمع لا یمکن أن یتصور إلا إذا کان هناک مطلوبان فی عرض واحد علی وجه لو فرض إمکان الجمع بینهما لکان کل منهما مطلوبا و فی الترتب لو فرض محالا إمکان الجمع بین الضدین فإنه لا یکون المطلوب إلا الأهم و لا یقع المهم فی هذا الحال علی صفة المطلوبیة أبدا لأن طلبه حسب الفرض مشروط بترک الأهم فمع فعله لا یکون مطلوبا و أما الثانی و هو الدلیل علی وقوع الترتب و أن الدلیل هو نفس دلیلی الأمرین فبیانه أن المفروض أن لکل من الأهم و المهم حسب دلیل کل منهما حکما مستقلا مع قطع النظر عن وقوع المزاحمة بینهما کما أن المفروض أن دلیل کل منهما مطلق بالقیاس إلی صورتی فعل الآخر و عدمه .فإذا وقع التزاحم بینهما اتفاقا فبحسب إطلاقهما یقتضیان إیجاب الجمع بینهما و لکن ذلک محال فلا بد أن ترفع الید عن إطلاق أحدهما و لکن المفروض أن الأهم أولی و أرجح و لا یعقل تقدیم المرجوح علی الراجح و المهم علی الأهم فیتعین رفع الید عن إطلاق دلیل الأمر بالمهم فقط و لا یقتضی ذلک رفع الید عن أصل دلیل المهم لأنه إنما نرفع الید عنه من جهة تقدیم إطلاق الأهم لمکان المزاحمة بینهما و أرجحیة الأهم و الضرورات إنما تقدر بقدرها .و إذا رفعنا الید عن إطلاق دلیل المهم مع بقاء أصل الدلیل فإن معنی ذلک اشتراط خطاب المهم بترک الأهم و هذا هو معنی الترتب المقصود .

ص :311

و الحاصل أن معنی الترتب المقصود هو اشتراط الأمر بالمهم بترک الأهم و هذا الاشتراط حاصل فعلا بمقتضی الدلیلین مع ضم حکم العقل بعدم إمکان الجمع بین امتثالهما معا و بتقدیم الراجح علی المرجوح الذی لا یرفع إلا إطلاق دلیل المهم فیبقی أصل دلیل الأمر بالأهم علی حاله فی صورة ترک الأهم فیکون الأمر الذی یتضمنه الدلیل مشروطا بترک الأهم .و بعبارة أوضح إن دلیل المهم فی أصله مطلق یشمل صورتین صورة فعل الأهم و صورة ترکه و لما رفعنا الید عن شموله لصورة فعل الأهم لمکان المزاحمة و تقدیم الراجح فیبقی شموله لصورة ترک الأهم بلا مزاحم و هذا معنی اشتراطه بترک الأهم .فیکون هذا الاشتراط مدلولا لدلیلی الأمرین معا بضمیمة حکم العقل و لکن هذه الدلالة من نوع دلالة الإشارة راجع عن مضی دلالة الإشارة الجزء الأول ص 135 .هذه خلاصة فکرة الترتب علی علاتها و هناک فیها جوانب تحتاج إلی مناقشة و إیضاح ترکناها إلی المطولات و قد وضع لها شیخنا المحقق النائینی خمس مقدمات لسد ثغورها راجع عنها تقریرات تلامذته

ص :312

المسألة الرابعة اجتماع الأمر و النهی
تحریر محل النزاع

و اختلف الأصولیون من القدیم فی أنه هل یجوز اجتماع الأمر و النهی فی واحد أو لا یجوز .ذهب إلی الجواز أغلب الأشاعرة و جملة من أصحابنا أولهم الفضل بن شاذان علی ما هو المعروف عنه و علیه جماعة من محققی المتأخرین و ذهب إلی الامتناع أکثر المعتزلة و أکثر أصحابنا .و کأن المسألة فیما یبدو من عنوانها من الأبحاث التافهة إذ لا یمکن أن نتصور النزاع فی إمکان اجتماع الأمر و النهی فی واحد حتی لو قلنا بعدم امتناع التکلیف بالمحال کما تقوله الأشاعرة لأن التکلیف هنا نفسه محال و هو الأمر و النهی بشیء واحد و امتناع ذلک من أوضح الواضحات و هو محل وفاق بین الجمیع .إذن فکیف صح هذا النزاع من القوم و ما معناه .و الجواب أن التعبیر باجتماع الأمر و النهی من خداع العناوین فلا بد من توضیح مقصودهم من البحث بتوضیح الکلمات الواردة فی هذا العنوان و هی کلمة الاجتماع الواحد الجواز ثم ینبغی أن نبحث أیضا عن قید آخر لتصحیح النزاع و هو قید المندوحة الذی أضافه بعض المؤلفین و هو علی حق و علیه نقول

ص :313

1 الاجتماع و المقصود منه هو الالتقاء الاتفاقی بین المأمور به و المنهی عنه فی شیء واحد و لا یفرض ذلک إلا حیث یفرض تعلق الأمر بعنوان و تعلق النهی بعنوان آخر لا ربط له بالعنوان الأول و لکن قد یتفق نادرا أن یلتقی العنوانان فی شیء واحد و یجتمعا فیه و حینئذ یجتمع أی یلتقی الأمر و النهی .و لکن هذا الاجتماع و الالتقاء بین العنوانین علی نحوین 1 أن یکون اجتماعا موردیا یعنی أنه لا یکون هنا فعل واحد مطابقا لکل من العنوانین بل یکون هنا فعلان تقارنا و تجاورا فی وقت واحد أحدهما یکون مطابقا لعنوان الواجب و ثانیهما مطابقا لعنوان المحرم مثل النظر إلی الأجنبیة فی أثناء الصلاة فلا النظر هو مطابق عنوان الصلاة و لا الصلاة مطابق عنوان النظر إلی الأجنبیة و لا هما ینطبقان علی فعل واحد .فإن مثل هذا الاجتماع الموردی لم یقل أحد بامتناعه و لیس هو داخلا فی مسألة الاجتماع هذه فلو جمع المکلف بینهما بأن نظر إلی الأجنبیة فی أثناء الصلاة فقد عصی و أطاع فی آن واحد و لا تفسد صلاته .2 أن یکون اجتماعا حقیقیا و إن کان ذلک فی النظر العرفی و فی بادئ الرأی یعنی أنه فعل واحد یکون مطابقا لکل من العنوانین کالمثال المعروف الصلاة فی المکان المغصوب .فإن مثل هذا المثال هو محل النزاع فی مسألتنا المفروض فیه أنه لا ربط لعنوان الصلاة المأمور به بعنوان الغصب المنهی عنه و لکن قد یتفق للمکلف صدفة أن یجمع بینهما بأن یصلی فی مکان مغصوب فیلتقی العنوان المأمور به و هو الصلاة مع العنوان المنهی عنه و هو الغصب و ذلک فی الصلاة المأتی بها فی مکان مغصوب فیکون هذا الفعل الواحد مطابقا لعنوان الصلاة و لعنوان الغصب معا و حینئذ إذا اتفق ذلک للمکلف فإنه

ص :314

یکون هذا الفعل الواحد داخلا فیما هو مأمور به من جهة فیقتضی أن یکون المکلف مطیعا للأمر ممتثلا و داخلا فیما هو منهی عنه من جهة أخری فیقتضی أن یکون المکلف عاصیا به مخالفا .2 الواحد و المقصود منه الفعل الواحد باعتبار أن له وجودا واحدا یکون ملتقی و مجمعا للعنوانین فی مقابل المتعدد بحسب الوجود کالنظر إلی الأجنبیة و الصلاة فإن وجود أحدهما غیر وجود الآخر فإن الاجتماع فی مثل هذا یسمی الاجتماع الموردی کما تقدم .و الفعل الواحد بما له من الوجود الواحد إذا کان ملتقی للعنوانین فإن التقاء العناوین فیه لا یخلو من حالتین إحداهما أن یکون الالتقاء بسبب ماهیته الشخصیة و ثانیهما أن یکون الالتقاء بسبب ماهیته الکلیة کأن یکون الکلی نفسه مجمعا للعنوانین کالکون الکلی الذی ینطبق علیه أنه صلاة و غصب .و علیه فالمقصود من الواحد فی المقام الواحد فی الوجود فلا معنی لتخصیص النزاع بالواحد الشخصی .و بما ذکرنا یظهر خروج الواحد بالجنس عن محل الکلام و المراد به ما إذا کان المأمور به و المنهی عنه متغایرین وجودا و لکنهما یدخلان تحت ماهیة واحدة کالسجود لله و السجود للصنم فإنهما واحد بالجنس باعتبار أن کلا منهما داخل تحت عنوان السجود و لا شک فی خروج ذلک عن محل النزاع .3 الجواز و المقصود منه الجواز العقلی أی الإمکان المقابل للامتناع و هو واضح و یصح أن یراد منه الجواز العقلی المقابل للقبح العقلی و هو قد یرجع إلی الأول باعتبار أن القبیح ممتنع علی الله تعالی .و الجواز له معان أخر کالجواز المقابل للوجوب و الحرمة الشرعیین

ص :315

و الجواز بمعنی الاحتمال و کلها غیر مرادة قطعا .إذا عرفت تفسیر هذه الکلمات الثلاث الواردة فی عنوان المسألة یتضح لک جیدا تحریر النزاع فیها فإن حاصل النزاع فی المسألة یکون أنه فی مورد التقاء عنوانی المأمور به و المنهی عنه فی واحد وجودا هل یجوز اجتماع الأمر و النهی .و معنی ذلک أنه هل یصح أن یبقی الأمر متعلقا بذلک العنوان المنطبق علی ذلک الواحد و یبقی النهی کذلک متعلقا بالعنوان المنطبق علی ذلک الواحد فیکون المکلف مطیعا و عاصیا معا فی الفعل الواحد .أو أنه یمتنع ذلک و لا یجوز فیکون ذلک المجتمع للعنوانین إما مأمورا به فقط أو منهیا عنه فقط أی أنه إما أن یبقی الأمر علی فعلیته فقط فیکون المکلف مطیعا لا غیر أو یبقی النهی علی فعلیته فقط فیکون المکلف عاصیا لا غیر .و القائل بالجواز لا بد أن یستند فی قوله إلی أحد رأیین 1 أن یری أن العنوان بنفسه هو متعلق التکلیف و لا یسری الحکم إلی المعنون فانطباق عنوانین علی فعل واحد لا یلزم منه أن یکون ذلک الواحد متعلقا للحکمین فلا یمتنع الاجتماع أی اجتماع عنوان المأمور به مع عنوان المنهی عنه فی واحد لأنه لا یلزم منه اجتماع نفس الأمر و النهی فی واحد .2 أن یری أن المعنون علی تقدیر تسلیم أنه هو متعلق الحکم حقیقة لا العنوان یکون متعددا واقعا إذا تعدد العنوان لأن تعدد العنوان یوجب تعدد المعنون بالنظر الدقیق الفلسفی ففی الحقیقة و إن کان فعل واحد فی ظاهر الحال صار مطابقا للعنوانین هناک معنونان کل واحد منهما مطابق لأحد العنوانین فیرجع اجتماع الوجوب و الحرمة بالدقة العقلیة إلی الاجتماع

ص :316

الموردی الذی قلنا إنه لا بأس فیه من الاجتماع .و علی هذا فلیس هناک واحد بحسب الوجود یکون مجمعا بین العنوانین فی الحقیقة بل ما هو مأمور به فی وجوده غیر ما هو منهی عنه فی وجوده و لا تلزم سرایة الأمر إلی ما تعلق به النهی و لا سرایة النهی إلی ما تعلق به الأمر فیکون المکلف فی جمعه بین العنوانین مطیعا و عاصیا فی آن واحد کالناظر إلی الأجنبیة فی أثناء الصلاة .و بهذا یتضح معنی القول بجواز اجتماع الأمر و النهی و فی الحقیقة لیس هو قولا باجتماع الأمر و النهی فی واحد بل إما أنه یرجع إلی القول باجتماع عنوان المأمور به و المنهی عنه فی واحد دون أن یکون هناک اجتماع بین الأمر و النهی و إما أن یرجع إلی القول بالاجتماع الموردی فقط فلا یکون اجتماع بین الأمر و النهی و لا بین المأمور به و المنهی عنه .و أما القائل بالامتناع فلا بد أن یذهب إلی أن الحکم یسری من العنوان إلی المعنون و أن تعدد العنوان لا یوجب تعدد المعنون فإنه لا یمکن حینئذ بقاء الأمر و النهی معا و توجههما متعلقین بذلک المعنون الواحد بحسب الوجود لأنه یلزم اجتماع نفس الأمر و النهی فی واحد و هو مستحیل فإما أن یبقی الأمر و لا نهی أو یبقی النهی و لا أمر .و لقد أحسن صاحب المعالم فی تحریر النزاع إذ عبر بکلمة التوجه بدلا عن کلمة الاجتماع فقال الحق امتناع توجه الأمر و النهی إلی شیء واحد

المسألة من الملازمات العقلیة غیر المستقلة

و من التقریر المتقدم لبیان محل النزاع یظهر کیف إن المسألة هذه ینبغی أن تدخل فی الملازمات العقلیة غیر المستقلة فإن معنی القول بالامتناع هو

ص :317

تنقیح صغری الکبری العقلیة القائلة بامتناع اجتماع الأمر و النهی فی شیء واحد حقیقی .توضیح ذلک أنه إذا قلنا بأن الحکم یسری من العنوان إلی المعنون و أن تعدد العنوان لا یوجب تعدد المعنون فإنه یتنقح عندنا موضوع اجتماع الأمر و النهی فی واحد الثابتین شرعا فیقال علی نهج القیاس الاستثنائی هکذا إذا التقی عنوان المأمور به و المنهی عنه فی واحد بسوء الاختیار فإن بقی الأمر و النهی فعلیین معا فقد اجتمع الأمر و النهی فی واحد و هذه هی الصغری و مستند هذه الملازمة فی الصغری هو سرایة الحکم من العنوان إلی المعنون و أن تعدد العنوان لا یوجب تعدد المعنون و إنما تفرض هذه الملازمة حیث یفرض ثبوت الأمر و النهی شرعا بعنوانیهما .ثم نقول و لکنه یستحیل اجتماع الأمر و النهی فی واحد و هذه هی الکبری و هذه الکبری عقلیة تثبت فی غیر هذه المسألة .و هذا القیاس استثنائی قد استثنی فیه نقیض التالی فیثبت به نقیض المقدم و هو عدم بقاء الأمر و النهی فعلیین معا .و أما بناء علی الجواز فیخرج هذا المورد مورد الالتقاء عن أن یکون صغری لتلک الکبری العقلیة .و لا یجب فی کون المسألة أصولیة من المستقلات العقلیة و غیرها أن تقع صغری للکبری العقلیة علی تقدیر جمیع الأقوال بل یکفی أن تقع صغری علی أحد الأقوال فقط .فإن هذا شأن جمیع المسائل الأصولیة المتقدمة اللفظیة و العقلیة أ لا تری أن المباحث اللفظیة کلها لتنقیح صغری أصالة الظهور مع أن المسألة لا تقع صغری لأصالة الظهور علی جمیع الأقوال فیها کمسألة دلالة صیغة افعل

ص :318

علی الوجوب فإنه علی القول بالاشتراک اللفظی أو المعنوی لا یبقی لها ظهور فی الوجوب أو غیره .و لا وجه لتوهم کون هذه المسألة فقهیة أو کلامیة أو أصولیة لفظیة و هو واضح بعد ما قدمناه من شرح تحریر النزاع و بعد ما ذکرناه سابقا فی أول هذا الجزء من مناط کون المسألة الأصولیة من باب غیر المستقلات العقلیة .

مناقشة الکفایة فی تحریر النزاع

و بعد ما حررناه من بیان النزاع فی المسألة یتضح ابتناء القول بالجواز فیها علی أحد رأیین إما القول بأن متعلق الأحکام هی نفس العنوانات دون معنوناتها و إما القول بأن تعدد العنوان یستدعی تعدد المعنون .فتکون مسألة تعدد المعنون بتعدد العنوان و عدم تعدده حیثیة تعلیلیة فی مسألتنا و من المبادئ التصدیقیة لها علی أحد احتمالین لا أنها هی نفس محل النزاع فی الباب فإن البحث هنا لیس إلا عن نفس الجواز و عدمه کما عبر بذلک کل من بحث هذه المسألة من القدیم .و من هنا تتجلی المناقشة فیما أفاده فی کفایة الأصول فی رجوع محل البحث هنا إلی البحث عن استدعاء تعدد العنوان لتعدد المعنون و عدمه .فإنه فرق عظیم بین ما هو محل النزاع و بین ما یبتنی علیه النزاع فی أحد احتمالین فلا وجه للخلط بینهما و إرجاع أحدهما إلی الآخر و إن کان فی هذه المسألة لا بد للأصولی من البحث عن أن تعدد العنوان هل یوجب تعدد المعنون باعتبار أن هذا البحث لیس مما یذکر فی موضع آخر .

ص :319

قید المندوحة

ذکرنا فیما سبق أن بعضهم قید النزاع هنا بأن تکون هناک مندوحة فی مقام الامتثال و معنی المندوحة أن یکون المکلف متمکنا من امتثال الأمر فی مورد آخر غیر مورد الاجتماع .و نظر إلی ذلک کل من قید موضع النزاع بما إذا کان الجمع بین العنوانین بسوء اختیار المکلف .و إنما قید بها موضع النزاع للاتفاق بین الطرفین علی عدم جواز الاجتماع فی صورة عدم وجود المندوحة و ذلک فیما إذا انحصر امتثال الأمر فی مورد الاجتماع لا بسوء اختیار المکلف .و السر واضح فإنه عند الانحصار تستحیل فعلیة التکلیفین لاستحالة امتثالهما معا لأنه إن فعل ما هو مأمور به فقد عصی النهی و إن ترکه فقد عصی الأمر فیقع التزاحم حینئذ بین الأمر و النهی .و ظاهر أن اعتبار قید المندوحة لازم لما ذکرناه إذ لیس النزاع جهتیا کما ذهب إلیه صاحب الکفایة أی من جهة کفایة تعدد العنوان فی تعدد المعنون و عدمه و إن لم یجز الاجتماع من جهة أخری حتی لا نحتاج إلی هذا القید .بل النزاع کما تقدم هو فی جواز الاجتماع و عدمه من أیة جهة فرضت و لیس جهتیا و علیه فما دام النزاع غیر واقع فی الجواز فی صورة عدم المندوحة فهذه الصورة لا تدخل فی محل النزاع فی مسألتنا .فوجب إذن تقیید عنوان المسألة بقید المندوحة کما صنع بعضهم .

ص :320

الفرق بین بابی التعارض و التزاحم و مسألة الاجتماع

من المسائل العویصة مشکلة التفرقة بین باب التعارض و باب التزاحم ثم بینهما و بین مسألة الاجتماع و لا بد من بیان الفرق بینها لتنکشف جیدا حقیقة النزاع فی مسألتنا مسألة الاجتماع .وجه الإشکال فی التفرقة أنه لا شبهة فی أن من موارد التعارض بین الدلیلین ما إذا کان بین دلیلی الأمر و النهی عموم و خصوص من وجه و ذلک من أجل العموم من وجه بین متعلقی الأمر و النهی أی العموم من وجه الذی یقع بین عنوان المأمور به و عنوان المنهی عنه بینما أن التزاحم بین الوجوب و الحرمة من موارده أیضا العموم من وجه بین الأمر و النهی من هذه الجهة و کذلک مسألة الاجتماع موردها منحصر فیما إذا کان بین عنوانی المأمور به و المنهی عنه عموم من وجه .فیتضح أنه مورد واحد و هو مورد العموم من وجه بین متعلقی الأمر و النهی یصح أن یکون موردا للتعارض و باب التزاحم و مسألة الاجتماع فما المائز و الفارق .فنقول إن العموم من وجه إنما یفرض بین متعلقی الأمر و النهی فیما إذا کان العنوانان یلتقیان فی فعل واحد سواء کان العنوان بالنسبة إلی الفعل من قبیل العنوان و معنونه أو من قبیل الکلی و فرده (1)و هذا بدیهی .

ص :321


1- انما یفرض العموم من وجه بین العنوانین إذا لم یکن الاجتماع بینهما اجتماعا موردیا بل کان اجتماعا حقیقیا: ونعنی بالاجتماع الحقیقی أن یکون فعل واحد ینطبق علیه العنوانان علی وجه یصح فی کل منهما أن یکون حاکیا عنه ومرآة له وان کان منشأ کل من العنوانین مباینا فی وجوده بالدقة العقلیة لمنشأ العنوان الآخر. ولکن انطباق العناوین علی فرد واحد لا یجب فیه أن یکون من قبیل انطباق الکلی علی فرده، أی لا یجب أن یکون المعنون فردا للعنوان ومن حقیقته، لان المعنون کما یجوز أن یکون من حقیقة العنوان یجوز أن یکون من حقیقة أخری وإنما الذهن یجعل من العنوان حاکیا ومرآة عن ذلک المعنون کمفهوم الوجود الذی هو عنوان لحقیقة الوجود مع أنه لیس من حقیقته، ومثله مفهوم الجزئی الذی هو عنوان للجزئی الحقیقی ولیس هو بجزئی بل کلی، وکذا مفهوم الحرب والنسبة وهکذا.

و لکن العنوان المأخوذ فی متعلق الخطاب من جهة عمومه علی نحوین 1 أن یکون ملحوظا فی الخطاب فانیا فی مصادیقه علی وجه یسع جمیع الأفراد بما لها من الکثرات و الممیزات فیکون شاملا فی سعته لموضع الالتقاء مع العنوان المحکوم بالحکم الآخر فیعد فی حکم المتعرض لحکم خصوص موضع الالتقاء و لو من جهة کون موضع الالتقاء متوقع الحدوث علی وجه یکون من شأنه أن ینبه علیه المتکلم فی خطابه فیکون أخذ العنوان علی وجه یسع جمیع الأفراد بما لها من الکثرات و الممیزات لهذا الغرض من التنبیه و نحوه و لا نضایقک أن تسمی مثل هذا العموم العموم الاستغراقی کما صنع بعضهم .و المقصود أن العنوان إذا أخذ فی الخطاب علی وجه یسع جمیع الأفراد

ص :322

بما لها من الکثرات و الممیزات یکون فی حکم المتعرض لحکم کل فرد من أفراده فیکون نافیا بالدلالة الالتزامیة لکل حکم مناف لحکمه .2 أن یکون العنوان ملحوظا فی الخطاب فانیا فی مطلق الوجود المضاف إلی طبیعة العنوان من دون ملاحظة کونه علی وجه یسع جمیع الأفراد أی لم تلاحظ فیه الکثرات و الممیزات فی مقام الأمر بوجود الطبیعة و لا فی مقام النهی عن وجود الطبیعة الأخری فیکون المطلوب فی الأمر و المنهی عنه فی النهی صرف وجود الطبیعة و لتسم مثل هذا العموم العموم البدلی کما صنع بعضهم .فإن کان العنوان مأخوذا فی الخطاب علی النحو الأول فإن موضع الالتقاء یکون العام حجة فیه کسائر الأفراد الأخری بمعنی أن یکون متعرضا بالدلالة الالتزامیة لنفی أی حکم آخر مناف لحکم العام بالنسبة إلی الأفراد و خصوصیات المصادیق .و فی هذه الصورة لا بد أن یقع التعارض بین دلیلی الأمر و النهی فی مقام الجعل و التشریع لأنهما یتکاذبان بالنسبة إلی موضع الالتقاء من جهة الدلالة الالتزامیة فی کل منهما علی نفی الحکم الآخر بالنسبة إلی موضع الالتقاء .و التحقیق أن التعارض بین العامین من وجه إنما یقع بسبب دلالة کل منهما بالدلالة الالتزامیة علی انتفاء حکم الآخر و من أجلها یتکاذبان و إلا فالدلالتان المطابقیتان بأنفسهما فی العامین من وجه لا یتکاذبان فلا یتعارضان ما لم یلزم من ثبوت مدلول إحداهما نفی مدلول الأخری فلیس التنافی بین المدلولین المطابقین إلا تنافیا بالعرض لا بالذات .و من هنا یعلم أن هذا الفرض و هو فرض کون العنوان مأخوذا فی الخطاب علی النحو الأول ینحصر فی کونه موردا للتعارض بین الدلیلین و لا تصل النوبة إلی فرض التزاحم بین الحکمین فیه و لا إلی النزاع فی

ص :323

جواز اجتماع الأمر و النهی و عدمه لأن مقتضی القاعدة فی باب التعارض هو تساقط الدلیلین عن حجیتهما بالنسبة إلی مورد الالتقاء فلا یجوز فیه الوجوب و لا الحرمة و لا یفرض التزاحم أو مسألة النزاع فی جواز الاجتماع إلا حیث یفرض شمول الدلیلین لمورد الالتقاء و بقاء حجیتهما بالنسبة إلیه أی إنه لم یکن تعارض بین الدلیلین فی مقام الجعل و التشریع .و إن کان العنوان مأخوذا علی النحو الثانی فهو مورد التزاحم أو مسألة الاجتماع و لا یقع بین الدلیلین تعارض حینئذ و ذلک مثل قوله صل و قوله لا تغصب باعتبار أنه لم یلاحظ فی کل من خطاب الأمر و النهی الکثرات و الممیزات علی وجه یسع العنوان جمیع الأفراد و إن کان نفس العنوان فی حد ذاته و إطلاقه شاملا لجمیع الأفراد فإنه فی مثله یکون الأمر متعلقا بصرف وجود الطبیعة للصلاة و امتثاله یکون بفعل أی فرد من الأفراد فلم یکن ظاهرا فی وجوب الصلاة حتی فی مورد الغصب علی وجه یکون دالا بالدلالة الالتزامیة علی انتفاء حکم آخر فی هذا المورد لیکون نافیا لحرمة الغصب فی المورد و کذلک النهی یکون متعلقا بصرف طبیعة الغصب فلم یکن ظاهرا فی حرمة الغصب حتی فی مورد الصلاة علی وجه یکون دالا بالدلالة الالتزامیة علی انتفاء حکم آخر فی هذا المورد لیکون نافیا لوجوب الصلاة .و فی مثل هذین الدلیلین إذا کانا علی هذا النحو یکون کل منهما أجنبیا فی عموم عنوان متعلق الحکم فیه عن عنوان متعلق الحکم الآخر أی إنه غیر متعرض بدلالته الالتزامیة لنفی الحکم الآخر فلا یتکاذبان فی مقام الجعل و التشریع .فلا یقع التعارض بینهما إذ لا دلالة التزامیة لکل منهما علی نفی الحکم الآخر فی مورد الالتقاء و لا تعارض بین الدلالتین المطابقیتین بما هما لأن المفروض أن المدلول المطابقی من کل منهما هو الحکم المتعلق بعنوان أجنبی فی نفسه

ص :324

عن العنوان المتعلق للحکم الآخر .و حینئذ إذا صادف أن ابتلی المکلف بجمعهما علی نحو الاتفاق فحاله لا یخلو عن أحد أمرین إما أن تکون له مندوحة من الجمع بینهما و لکنه هو الذی جمع بینهما بسوء اختیاره و تصرفه و إما أن لا تکون له مندوحة من الجمع بینهما .فإن کان الأول فإن المکلف حینئذ یکون قادرا علی امتثال کل من التکلیفین فیصلی و یترک الغصب و قد یصلی و یغصب فی فعل آخر .فإذا جمع بینهما بسوء اختیاره بأن صلی فی مکان مغصوب فهنا یقع النزاع فی جواز الاجتماع بین الأمر و النهی فإن قلنا بالجواز کان مطیعا و عاصیا فی آن واحد و إن قلنا بعدم الجواز فإنه إما أن یکون مطیعا لا غیر إذا رجحنا جانب الأمر أو عاصیا لا غیر إذا رجحنا جانب النهی لأنه حینئذ یقع التزاحم بین التکلیفین فیرجع فیه إلی أقوی الملاکین .و إن کان الثانی فإنه لا محالة یقع التزاحم بین التکلیفین الفعلیین لأنه حسب الفرض لا معارضة بین الدلیلین فی مقام الجعل و الإنشاء بل المنافاة وقعت من عدم قدرة المکلف علی التفریق بین الامتثالین فیدور الأمر حینئذ بین امتثال الأمر و بین امتثال النهی إذ لا یمکنه من امتثالهما معا من جهة عدم المندوحة .هذا هو الحق الذی ینبغی أن یعول علیه فی سر التفریق بین بابی التعارض و التزاحم و بینهما و بین مسألة الاجتماع فی مورد العموم من وجه بین متعلقی الخطابین خطاب الوجوب و الحرمة و لعله یمکن استفادته من مطاوی کلماتهم و إن کانت عباراتهم تضیق عن التصریح بذلک بل اختلفت کلمات أعلام أساتذتنا رضوان الله علیهم فی وجه التفریق .

ص :325

(فقد ذهب صاحب الکفایة إلی أنه لا یکون المورد من باب الاجتماع إلا إذا أحرز فی کل واحد من متعلقی الإیجاب و التحریم مناط حکمه مطلقا حتی فی مورد التصادق و الاجتماع و أما إذا لم یحرز مناط کل من الحکمین فی مورد التصادق مع العلم بمناط أحد الحکمین بلا تعیین فالمورد یکون من باب التعارض للعلم الإجمالی حینئذ بکذب أحد الدلیلین الموجب للتنافی بینهما عرضا) .هذا خلاصة رأیه رحمه الله فجعل إحراز مناط الحکمین فی مورد الاجتماع و عدمه هو المناط فی التفرقة بین مسألة الاجتماع و باب التعارض بینما أن المناط عندنا فی التفرقة بینهما هو دلالة الدلیلین بالدلالة الالتزامیة علی نفی الحکم الآخر و عدمها فمع هذه الدلالة یحصل التکاذب بین الدلیلین فیتعارضان و بدونها لا تعارض فیدخل المورد فی مسألة الاجتماع .و یمکن دعوی التلازم بین المسلکین فی الجملة لأنه مع تکاذب الدلیلین من ناحیة دلالتهما الالتزامیة لا یحرز وجود مناط الحکمین فی مورد الاجتماع کما أنه مع عدم تکاذبهما یمکن إحراز وجود المناط لکل من الحکمین فی مورد الاجتماع بل لا بد من إحراز مناط الحکمین بمقتضی إطلاق الدلیلین فی مدلولهما المطابقی .و أما(شیخنا النائینی فقد ذهب إلی أن مناط دخول المورد فی باب التعارض أن تکون الحیثیتان فی العامین من وجه حیثیتین تعلیلیتین لأنه حینئذ یتعلق الحکم فی کل منهما بنفس ما یتعلق به فیتکاذبان و أما إذا کانتا تقییدیتین فلا یقع التعارض بینهما و یدخلان حینئذ فی مسألة الاجتماع مع المندوحة و فی باب التزاحم مع عدم المندوحة) .و نحن نقول فی الحیثیتین التقییدیتین إذا کان بین الدلالتین تکاذب من أجل دلالتهما الالتزامیة علی نفی الحکم الآخر علی نحو ما فصلناه فإن

ص :326

التعارض بینهما لا محالة واقع و لا تصل النوبة فی هذا المورد للدخول فی مسألة الاجتماع .و لنا مناقشة معه فی صورة الحیثیة التعلیلیة یطول شرحها و لا یهم التعرض لها الآن و فیما ذکرناه الکفایة و فوق الکفایة للطالب المبتدئ

ص :327

الحق فی المسألة

بعد ما قدمنا من توضیح تحریر النزاع و بیان موضع النزاع نقول إن الحق فی المسألة هو الجواز .و قد ذهب إلی ذلک جمع من المحققین المتأخرین .و سندنا یبتنی علی توضیح و اختیار ثلاثة أمور مترتبة أولا أن متعلق التکلیف سواء کان أمرا أو نهیا لیس هو المعنون أی الفرد الخارجی للعنوان بما له من الوجود الخارجی فإنه یستحیل ذلک بل متعلق التکلیف دائما و أبدا هو العنوان علی ما سیأتی توضیحه .و اعتبر ذلک بالشوق فإن الشوق یستحیل أن یتعلق بالمعنون لأنه إما أن یتعلق به حال عدمه أو حال وجوده و کل منهما لا یکون أما الأول فیلزم تقوم الموجود بالمعدوم و تحقق المعدوم بما هو معدوم لأن المشتاق إلیه له نوع من التحقق بالشوق إلیه و هو محال واضح و أما الثانی فلأنه یکون الاشتیاق إلیه تحصیلا للحاصل و هو محال .فإذن لا یتعلق الشوق بالمعنون لا حال وجوده و لا حال عدمه .مضافا إلی أن الشوق من الأمور النفسیة و لا یعقل أن یتشخص ما فی النفس بدون متعلق ما کجمیع الأمور النفسیة کالعلم و الخیال و الوهم و الإرادة و نحوها و لا یعقل أن یتشخص بما هو خارج عن أفق النفس من الأمور العینیة فلا بد أن یتشخص بالشیء المشتاق إلیه بما له من الوجود العنوانی الفرضی و هو المشتاق إلیه أولا و بالذات و هو الموجود بوجود الشوق لا بوجود آخر وراء الشوق و لکن لما کان یؤخذ العنوان

ص :328

بما هو حاک و مرآة عما فی الخارج أی عن المعنون فإن المعنون یکون مشتاقا إلیه شأنیا و بالعرض نظیر العلم فإنه لا یعقل أن یتشخص بالأمر الخارجی و المعلوم بالذات دائما و أبدا هو العنوان الموجود بوجود العلم و لکن بما هو حاک و مرآة عن المعنون و أما المعنون لذلک العنوان فهو معلوم بالعرض باعتبار فناء العنوان فیه .و فی الحقیقة إنما یتعلق الشوق بشیء إذا کان له جهة وجدان و جهة فقدان فلا یتعلق بالمعدوم من جمیع الجهات و لا بالموجود من جمیع الجهات و جهة الوجدان فی المشتاق إلیه هو العنوان الموجود بوجود الشوق فی أفق النفس باعتبار ما له من وجود عنوانی فرضی و جهة الفقدان فی المشتاق إلیه هو عدمه الحقیقی فی الخارج و معنی الشوق إلیه هو الرغبة فی إخراجه من حد الفرض و التقدیر إلی حد الفعلیة و التحقیق .و إذا کان الشوق علی هذا النحو فکذلک حال الطلب و البعث بلا فرق فیکون حقیقة طلب الشیء هو تعلقه بالعنوان لإخراجه من حد الفرض و التقدیر إلی حد الفعلیة و التحقیق .ثانیا أنا لما قلنا بأن متعلق التکلیف هو العنوان لا المعنون لا نعنی أن العنوان بما له من الوجود الذهنی یکون متعلقا للطلب فإن ذلک باطل بالضرورة لأن مثار الآثار و متعلق الغرض و الذی تترتب علیه المصلحة و المفسدة هو المعنون لا العنوان .بل نعنی أن المتعلق هو العنوان حال وجوده الذهنی لا أنه بما له من الوجود الذهنی أو بما هو مفهوم و معنی تعلقه بالعنوان حال وجوده الذهنی أنه یتعلق به نفسه باعتبار أنه مرآة عن المعنون و فان فیه فتکون التخلیة فیه عن الوجود الذهنی عین التخلیة به .ثالثا أنا إذ نقول إن المتعلق للتکلیف هو العنوان بما هو مرآة

ص :329

عن المعنون و فان فیه لا نعنی أن المتعلق الحقیقی للتکلیف هو المعنون و أن التکلیف یسری من العنوان إلی المعنون باعتبار فنائه فیه کما قیل فإن ذلک باطل بالضرورة أیضا لما تقدم أن المعنون یستحیل أن یکون متعلقا للتکلیف بأی حال من الأحوال و هو محال حتی لو کان بتوسط العنوان فإن توسط العنوان لا یخرجه عن استحالة تعلق التکلیف به .بل نعنی و نقول إن الصحیح أن متعلق التکلیف هو العنوان بما هو مرآة و فان فی المعنون علی أن یکون فناؤه فی المعنون هو المصحح لتعلق التکلیف به فقط إذ إن الغرض إنما یقوم بالمعنون المفنی فیه لا أن الفناء یجعل التکلیف ساریا إلی المعنون و متعلقا به و فرق کبیر بین ما هو مصحح لتعلق التکلیف بشیء و بین ما هو بنفسه متعلق التکلیف و عدم التفرقة بینهما هو الذی أوهم القائلین بأن التکلیف یسری إلی المعنون باعتبار فناء العنوان فیه و لا یزال هذا الخلط بین ما هو بالذات و ما هو بالعرض مثار کثیر من الاشتباهات التی تقع فی علمی الأصول و الفلسفة و الفناء و الآلیة فی الملاحظة هو الذی یوقع الاشتباه و الخلط فیعطی ما للعنوان للمعنون و بالعکس .و إذا عسر علیک تفهم ما نرمی إلیه فاعتبر ذلک فی مثال الحرف حینما نحکم علیه بأنه لا یخبر عنه فإن عنوان الحرف و مفهومه اسم یخبر عنه کیف و قد أخبر عنه بأنه لا یخبر عنه و لکن إنما صح الإخبار عنه بذلک فباعتبار فنائه فی المعنون لأنه هو الذی له هذه الخاصیة و یقوم به الغرض من الحکم و مع ذلک لا یجعل ذلک کون المعنون و هو الحرف الحقیقی موضوعا للحکم حقیقة أولا و بالذات فإن الحرف الحقیقی یستحیل أن یکون موضوعا للحکم و طرفا للنسبة بأی حال من الأحوال و لو بتوسط شیء کیف و حقیقته النسبة و الربط و خاصته أنه لا یخبر عنه و علیه فالمخبر عنه أولا و بالذات هو عنوان الحرف لکن لا بما هو مفهوم موجود فی الذهن فإنه بهذا الاعتبار

ص :330

یخبر عنه بل بما هو فان فی المعنون و حاک عنه فالمصحح للإخبار عنه بأن لا یخبر عنه هو فناؤه فی معنونه فیکون الحرف الحقیقی المعنون مخبرا عنه ثانیا و بالعرض و إن کان الغرض من الحکم إنما یقوم بالمفنی فیه و هو الحرف الحقیقی .و علی هذا یتضح جلیا کیف أن دعوی سرایة الحکم أولا و بالذات من العنوان إلی المعنون منشؤها الغفلة بین ما هو المصحح للحکم علی موضوع باعتبار قیام الغرض بذلک المصحح فیجعل الموضوع عنوانا حاکیا عنه و بین ما هو الموضوع للحکم القائم به الغرض فالمصحح للحکم شیء و المحکوم علیه و المجعول موضوعا شیء آخر و من العجیب أن تصدر مثل هذه الغفلة من بعض أهل الفن فی المعقول .نعم إذا کان القائل بالسرایة یقصد أن العنوان یؤخذ فانیا فی المعنون و حاکیا عنه و أن الغرض إنما یقوم بالمعنون فذلک حق و نحن نقول به و لکن ذلک لا ینفعه فی الغرض الذی یهدف إلیه لأنا نقول بذلک من دون أن نجعل متعلق التکلیف نفس المعنون و إنما یکون متعلقا له ثانیا و بالعرض کالمعلوم بالعرض کما أشرنا إلیه فیما سبق فإن العلم إنما یتعلق بالمعلوم بالذات و یتقوم به و لیس هو إلا العنوان الموجود بوجود علمی و لکن باعتبار فنائه فی معنونه یقال للمعنون إنه معلوم و لکنه فی الحقیقة هو معلوم بالعرض لا بالذات و هذا الفناء هو الذی یخیل للناظر أن المتعلق الحقیقی للعلم هو المعنون و لقد أحسنوا فی تعریف العلم بأنه حصول صورة الشیء لدی العقل لا حصول نفس الشیء فالمعلوم بالذات هو الصورة و المعلوم بالعرض نفس الشیء الذی حصلت صورته لدی العقل .و إذا ثبت ما تقدم و اتضح ما رمینا إلیه من أن متعلق التکلیف أولا و بالذات

ص :331

هو العنوان و أن المعنون متعلق له بالعرض یتضح لک الحق جلیا فی مسألتنا مسألة اجتماع الأمر و النهی و هو أن الحق جواز الاجتماع .و معنی جواز الاجتماع أنه لا مانع من أن یتعلق الإیجاب بعنوان و یتعلق التحریم بعنوان آخر و إذا جمع المکلف بینهما صدفة بسوء اختیاره فإن ذلک لا یجعل الفعل الواحد المعنون لکل من العنوانین متعلقا للإیجاب و التحریم إلا بالعرض و لیس ذلک بمحال فإن المحال إنما هو أن یکون الشیء الواحد بذاته متعلقا للإیجاب و التحریم .و علیه فیصح أن یقع الفعل الواحد امتثالا للأمر من جهة باعتبار انطباق العنوان المأمور به علیه و عصیانا للنهی من جهة أخری باعتبار انطباق عنوان المنهی عنه و لا محذور فی ذلک ما دام أن ذلک الفعل الواحد لیس بنفسه و بذاته یکون متعلقا للأمر و للنهی لیکون ذلک محالا بل العنوانان الفانیان هما المتعلقان للأمر و النهی غایة الأمر أن تطبیق العنوان المأمور به علی هذا الفعل یکون هو الداعی إلی إتیان الفعل و لا فرق بین فرد و فرد فی انطباق العنوان علیه فالفرد الذی ینطبق علیه العنوان المنهی عنه کالفرد الخالی من ذلک فی کون کل منهما ینطبق علیه العنوان المأمور به بلا جهة خلل فی الانطباق .و لا فرق فی ذلک بین أن یکون تعدد العنوان موجبا لتعدد المعنون أو لم یکن ما دام أن المعنون لیس هو متعلق التکلیف بالذات .نعم لو کان العنوان مأخوذا فی المأمور به و المنهی عنه علی وجه یسع جمیع الأفراد حتی موضع الاجتماع و هو الفرد الذی ینطبق علیه العنوانان و لو کان ذلک من جهة إطلاق الدلیل فإنه حینئذ تکون لکل من الدلیلین الدلالة الالتزامیة علی نفی حکم الآخر فی موضع الالتقاء فیتکاذبان و علیه یقع التعارض بینهما و یخرج المورد عن مسألة الاجتماع کما سبق بیان

ص :332

ذلک مفصلا .کما أنه لو کانت القدرة علی الفعل مأخوذة فی متعلق الأمر علی وجه یکون الواجب هو العنوان المقدور بما هو مقدور فإن عنوان المأمور به حینئذ لا یسع و لا یعم الفرد غیر المقدور فلا ینطبق عنوان المأمور به بما هو مأمور به علی موضع الاجتماع و لا یکون هذا الفرد غیر المقدور شرعا من أفراد الطبیعة بما هی مأمور بها .بخلاف ما إذا کانت القدرة مصححة فقط لتعلق التکلیف بالعنوان فإن عنوان المأمور به یکون مقدورا علیه و لو بالقدرة علی فرد واحد من أفراده .و لهذا قلنا إنه لو انحصر تطبیق المأمور به فی خصوص موضع الاجتماع کما فی مورد عدم المندوحة یقع التزاحم بین الحکمین فی موضع الاجتماع لأنه لا یصح تطبیق المأمور به علی هذا الفرد و هو موضع الاجتماع إلا إذا لم یکن النهی فعلیا کما لا یصح تطبیق عنوان المنهی عنه علیه إلا إذا لم یکن الأمر فعلیا فلا بد من رفع الید عن فعلیة أحد الحکمین و تقدیم الأهم منهما .و لقد ذهب بعض أعلام أساتذتنا إلی أن القدرة مأخوذة فی متعلق التکلیف باعتبار أن الخطاب بالتکلیف نفسه یقتضی ذلک لأن الأمر إنما هو لتحریک المکلف نحو الفعل علی أن یصدر منه بالاختیار و هذا نفسه یقتضی کون متعلقه مقدورا لامتناع جعل الداعی نحو الممتنع و إن کان الامتناع من ناحیة شرعیة .و لکننا لم نتحقق صحة هذه الدعوی لأن صحة التکلیف بطبیعة الفعل لا تتوقف علی أکثر من القدرة علی صرف وجود الطبیعة و لو بالقدرة علی فرد من أفرادها فالعقل هو الذی یحکم بلزوم القدرة فی متعلق التکلیف و ذلک لا یقتضی القدرة علی کل فرد من أفراد الطبیعة إلا إذا قلنا بأن التکلیف یتعلق بالأفراد أولا و بالذات و قد تقدم توضیح فساد هذا الوهم

ص :333

تعدد العنوان لا یوجب تعدد المعنون

بعد ما تقدم من البیان من أن التکلیف إنما یتعلق بالعنوان بما هو مرآة عن أفراده لا بنفس الأفراد فإن القول بالجواز لا یتوقف علی القول بأن تعدد العنوان یوجب تعدد المعنون کما أشرنا إلیه فیما سبق لأنه سواء کان المعنون متعددا بتعدد العنوان أو غیر متعدد فإن ذلک لا یرتبط بمسألتنا نفیا و إثباتا ما دام أن المعنون لیس متعلقا للتکلیف أبدا و علی کل حال فالحق هو الجواز تعدد المعنون أو لم یتعدد .و لو سلمنا جدلا بأن التکلیف یتعلق بالمعنون باعتبار سرایة التکلیف من العنوان إلی المعنون کما هو المعروف فإن الحق أنه لا یجب تعدد المعنون بتعدد العنوان فقد یتعدد و قد لا یتعدد فلیس هناک قاعدة عامة تقضی بأن نحکم بأن تعدد العنوان یوجب تعدد المعنون کما تکلف بتنقیحها بعض أعاظم مشایخنا و کأن نظره الشریف یرمی إلی أن العامین من وجه یمتنع صدقهما علی شیء واحد من جهة واحدة و إلا لما کانا عامین من وجه فلا بد أن یفرض هناک جهتان موجودتان فی المجمع إحداهما هو الواجب و ثانیتهما هو المحرم فیکون الترکیب بین الحیثیتین ترکیبا انضمامیا لا اتحادیا إلا إذا کانت الحیثیتان المفروضتان تعلیلیتین لا تقییدیتین فإن الواجب و المحرم علی هذا الفرض یکونان شیئا واحدا و هو ذات المحیث بهاتین الحیثیتین و حینئذ یقع التعارض بین دلیلی العامین و یخرج المورد عن مسألتنا .و فی هذا التقریر ما لا یخفی علی الفطن أما أولا فإن العنوان بالنسبة إلی معنونه تارة یکون منتزعا منه باعتبار ضم حیثیة زائدة علی الذات مباینة لها ماهیة و وجودا کالأبیض بالقیاس إلی الجسم فإن صدق الأبیض علیه باعتبار عروض

ص :334

صفة البیاض علیه الخارجة عن مقام ذاته و أخری یکون منتزعا منه باعتبار نفس ذاته بلا ضم حیثیة زائدة علی الذات کالأبیض بالقیاس إلی نفس البیاض فإن نفس البیاض ذاته بذاته منشأ لانتزاع الأبیض منه بلا حاجة إلی ضم بیاض آخر إلیه لأنه بنفس ذاته أبیض لا ببیاض آخر و مثل ذلک صفات الکمال لذات واجب الوجود فإنها منتزعة من مقام نفس الذات لا بضم حیثیة أخری زائدة علی الذات .و علیه فلا یجب فی کل عنوان منتزع أن یکون انتزاعه من الذات باعتبار ضم حیثیة زائدة علی الذات .و أما ثانیا فإن العنوان لا یجب فیه أن یکون کاشفا عن حقیقة متأصلة علی وجه یکون انطباق العنوان أو مبدؤه علیه من باب انطباق الکلی علی فرده بل من العناوین ما هو مجعول و معتبر لدی العقل لصرف الحکایة و الکشف عن المعنون من دون أن یکون بإزائه فی الخارج حقیقة متأصلة مثل عنوان العدم و الممتنع بل مثل عنوان الحرف و النسبة فإنه لا یجب فی مثله فرض حیثیة متأصلة ینتزع منها العنوان و مثل هذا العنوان المعتبر قد یکون عاما یصح انطباقه علی حقائق متعددة من دون أن یکون بإزائه حیثیة واقعیة غیر تلک الحقائق المتأصلة و لعل عنوان الغصب من هذا الباب فی انطباقه علی الصلاة التی تتألف من حقائق متباینة و علی غیرها من سائر التصرفات فکل تصرف فی مال الغیر بدون رضاه غصب مهما کانت حقیقة ذلک التصرف و من أیة مقولة کانت .

ثمرة المسألة

من الواضح ظهور ثمرة النزاع فیما إذا کان المأمور به عبادة فإنه بناء علی القول بالامتناع و ترجیح جانب النهی کما هو المعروف تقع

ص :335

العبادة فاسدة مع العلم بالحرمة و العمد بالجمع بین المأمور به و المنهی عنه کما هو المفروض فی المسألة لأنه لا أمر مع ترجیح جانب النهی و لیس هناک فی ذات المأتی به ما یصلح للتقرب به مع فرض النهی الفعلی لامتناع التقرب بالمبعد و إن کان ذات المأتی به مشتملا علی المصلحة الذاتیة و قلنا بکفایة قصد المصلحة الذاتیة فی صحة العبادة .نعم إذا وقع الجمع بین المأمور به و المنهی عنه عن جهل بالحرمة قصورا لا تقصیرا أو عن نسیان و کان قد أتی بالفعل علی وجه القربة فالمشهور أن العبادة تقع صحیحة و لعل الوجه فیه هو القول بکفایة رجحانها الذاتی و اشتمالها علی المصلحة الذاتیة فی التقرب بها مع قصد ذلک و إن لم یکن الأمر فعلیا و قیل إنه لا یبقی مصحح فی هذه الصورة للعبادة فتقع فاسدة نظرا إلی أن دلیلی الوجوب و الحرمة علی القول بالامتناع یصبحان متعارضین و إن لم یکونا فی حد أنفسهما متعارضین فإذا قدم جانب النهی فکما لا یبقی أمر کذلک لا یحرز وجود المقتضی له و هو المصلحة الذاتیة فی المجمع إذ تخصیص دلیل الأمر بما عدا المجمع یجوز أن یکون لوجود المانع فی المجمع عن شمول الأمر له و یجوز أن یکون لانتفاء المقتضی للأمر فلا یحرز وجود المقتضی .هذا بناء علی الامتناع و تقدیم جانب النهی و أما بناء علی الامتناع و تقدیم جانب الأمر فلا شبهة فی وقوع العبادة صحیحة إذ لا نهی حتی یمنع من صحتها لا سیما إذا قلنا بتعارض الدلیلین بناء علی الامتناع فإنه لا یحرز معه المفسدة الذاتیة فی المجمع .و کذلک الحق هو صحة العبادة إذا قلنا بالجواز فإنه کما جاز توجیه الأمر و النهی إلی عنوانین مختلفین مع التقائهما فی المجمع فقلنا بجواز الاجتماع فی مقام التشریع فکذلک نقول لا مانع من الاجتماع فی مقام الامتثال

ص :336

أیضا کما أشرنا إلیه فی تحریر محل النزاع حتی لو کان المعنون للعنوانین واحدا وجودا و لم یوجب تعدد العنوان تعدده لما عرفت سابقا من أن المعنون لا یقع بنفسه متعلقا للتکلیف لا قبل وجوده و لا بعد وجوده و إنما یکون الداعی إلی إتیان الفعل هو تطبیق العنوان المأمور به علیه الذی لیس بمنهی عنه لا أن الداعی إلی إتیانه تعلق الأمر به ذاته فیکون المکلف فی فعل واحد بالجمع بین عنوانی الأمر و النهی مطیعا للآمر من جهة انطباق العنوان المأمور به و عاصیا من جهة انطباق العنوان المنهی عنه نظیر الاجتماع الموردی کما تقدم توضیحه فی تحریر محل النزاع .و قیل إن الثمرة فی مسألتنا هو إجراء أحکام المتعارضین علی دلیلی الأمر و النهی بناء علی الامتناع و إجراء أحکام التزاحم بینهما بناء علی الجواز و لکن إجراء أحکام التزاحم بینهما بناء علی الجواز إنما یلزم إذا کان القائل بالجواز إنما یقول بالجواز فی مقام الجعل و الإنشاء دون مقام الامتثال بل یمتنع الاجتماع فی مقام الامتثال و حینئذ لا محالة یقع التزاحم بین الأمر و النهی أما إذا قلنا بالجواز فی مقام الامتثال أیضا کما أوضحناه فلا موجب للتزاحم بین الحکمین مع وجود المندوحة بل یکون مطیعا عاصیا فی فعل واحد کالاجتماع الموردی بلا فرق إذ لا دوران حینئذ بین امتثال الأمر و امتثال النهی

ص :337

اجتماع الأمر و النهی مع عدم المندوحة

تقدم الکلام کله فی اجتماع الأمر و النهی فیما إذا کانت هناک مندوحة من الجمع بین المأمور به و المنهی عنه و قد جمع المکلف بینهما فی فعل واحد بسوء اختیاره و یلحق به ما کان الجمع بینهما عن غفلة أو جهل و قد ذهبنا إلی جواز الاجتماع فی مقامی الجعل و الامتثال .و بقی الکلام فی اجتماعهما مع عدم المندوحة و ذلک بأن یکون المکلف مضطرا إلی هذا الجمع بینهما و الاضطرار علی نحوین الأول أن یکون بدون سبق اختیار للمکلف فی الجمع کمن اضطر لإنقاذ غریق إلی التصرف فی أرض مغصوبة فیکون تصرفه فی الأرض واجبا من جهة إنقاذ الغریق و حراما من جهة التصرف فی المغصوب .فإنه فی هذا الفرض لا بد أن یقع التزاحم بین الواجب و الحرام فی مقام الامتثال إذ لا مندوحة للمکلف حسب الفرض فلا بد فی مقام إطاعة الأمر بإنقاذ الغریق من الجمع لانحصار امتثال الواجب فی هذا الفرد المحرم فیدور الأمر بین أن یعصی الأمر أو یعصی النهی .و فی مثله یرجع إلی أقوی الملاکین فإن کان ملاک الأمر أقوی کما فی المثال المذکور قدم جانب الأمر و یسقط النهی عن الفعلیة و إن کان ملاک النهی أقوی قدم جانب النهی کمن انحصر عنده إنقاذ حیوان محترم من الهلکة بهلاک إنسان .تنبیه مما یلحق بهذا الباب و یتفرع علیه ما لو اضطر إلی ارتکاب فعل محرم لا بسوء اختیاره ثم اضطر إلی الإتیان بالعبادة علی وجه یکون

ص :338

ذلک الفعل المحرم مصداقا لتلک العبادة بمعنی أنه اضطر إلی الإتیان بالعبادة مجتمعة مع فعل الحرام الذی قد اضطر إلیه و مثاله المحبوس فی مکان مغصوب فیضیق علیه وقت الصلاة و لا یسعه الإتیان بها خارج المکان المغصوب .فهل فی هذا الفرض یجب علیه الإتیان بالعبادة و تقع صحیحة أو لا نقول لا ینبغی الشک فی أن عبادته علی هذا التقدیر تقع صحیحة لأنه مع الاضطرار إلی فعل الحرام لا تبقی فعلیة للنهی لاشتراط القدرة فی التکلیف فالأمر لا مزاحم لفعلیته فیجب علیه أداء الصلاة و لا بد أن تقع حینئذ صحیحة .نعم یستثنی من ذلک ما لو کان دلیل الأمر و دلیل النهی متعارضین بأنفسهما من أول الأمر و قد رجحنا جانب النهی بأحد مرجحات باب التعارض فإنه فی هذه الصورة لا وجه لوقوع العبادة صحیحة لأن العبادة لا تقع صحیحة إلا إذا قصد بها امتثال الأمر الفعلی بها إن کان أو قصد بها الرجحان الذاتی قربة إلی الله تعالی و المفروض أنه هنا لا أمر فعلی لعدم شمول دلیله بما هو حجة لمورد الاجتماع لأن المفروض تقدیم جانب النهی و قیل إن النهی إذا زالت فعلیته من جهة الاضطرار لم یبق مانع من التمسک بعموم الأمر .و هذه غفلة ظاهرة فإن دلیل الأمر بما هو حجة لا یکون شاملا لمورد الاجتماع لمکان التعارض بین الدلیلین و تقدیم دلیل النهی فإذا اضطر المکلف إلی فعل المنهی عنه لا یلزم منه أن یعود دلیل الأمر حجة فی مورد الاجتماع مرة ثانیة و إنما یتصور أن یعود الأمر فعلیا إذا کان تقدیم النهی من باب التزاحم فإذا زال التزاحم عاد الأمر فعلیا .و أما الرجحان الذاتی فإنه بعد فرض التعارض بین الدلیلین و تقدیم جانب النهی لا یکون الرجحان محرزا فی مورد الاجتماع لأن عدم شمول

ص :339

دلیل الأمر بما هو حجة لمورد الاجتماع یحتمل فیه وجهان وجود المانع مع بقاء الملاک و انتفاء المقتضی و هو الملاک فلا یحرز وجود الملاک حتی یصح قصده متقربا به إلی الله تعالی .الثانی أن یکون الاضطرار بسوء الاختیار کمن دخل منزلا مغصوبا متعمدا فبادر إلی الخروج تخلصا من استمرار الغصب فإن هذا التصرف بالمنزل فی الخروج لا شک فی أنه تصرف غصبی أیضا و هو مضطر إلی ارتکابه للتخلص من استمرار فعل الحرام و کان اضطراره إلیه بمحض اختیاره إذ دخل المنزل غاصبا باختیاره .و تعرف هذه المسألة فی لسان المتأخرین بمسألة التوسط فی المغصوب و الکلام یقع فیها من ناحیتین 1 فی حرمة هذا التصرف الخروجی أو وجوبه .2 فی صحة الصلاة المأتی بها حال الخروج .

حرمة الخروج من المغصوب أو وجوبه

أما الناحیة الأولی فقد تعددت الأقوال فیها فقیل بحرمة التصرف الخروجی فقط و قیل بوجوبه فقط و لکن یعاقب فاعله و قیل بوجوبه فقط و لا یعاقب فاعله و قیل بحرمته و وجوبه معا و قیل لا هذا و لا ذاک و مع ذلک یعاقب علیه .فینبغی أن نبحث عن وجه القول بالحرمة و عن وجه القول بالوجوب لیتضح الحق فی المسألة و هو القول الأول .بالدخول فهو قبل أن یدخل منهی عن کل تصرف فی المغصوب حتی هذا التصرف الخروجی لأنه کان متمکنا من ترکه بترک الدخول

ص :340

و من یقول بعدم حرمته فإنه یقول به لأنه یجد أن هذا المقدار من التصرف مضطر إلیه سواء خرج الغاصب أو بقی فیمتنع علیه ترکه و مع فرض امتناع ترکه کیف یبقی علی صفة الحرمة .و لکنا نقول له إن هذا الامتناع هو الذی أوقع نفسه فیه بسوء اختیاره و کان متمکنا من ترکه بترک الدخول و الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار فهو مخاطب من أول الأمر بترک التصرف حتی یخرج فالخروج فی نفسه بما هو تصرف داخل من أول الأمر فی أفراد العنوان المنهی عنه أی أن العنوان المنهی عنه و هو التصرف بمال الغیر بدون رضاه یسع فی عمومه کل تصرف متمکن من ترکه حتی الخروج و امتناع ترک هذا التصرف بسوء اختیاره لا یخرجه عن عموم العنوان و نحن لا نقول کما سبق أن المعنون بنفسه هو متعلق الخطاب حتی یقال لنا إنه یمتنع تعلق الخطاب بالممتنع ترکه و إن کان الامتناع بسوء الاختیار .و أما وجه الوجوب فقد قیل إن الخروج واجب نفسی باعتبار أن الخروج معنون بعنوان التخلص عن الحرام و التخلص عن الحرام فی نفسه عنوان حسن عقلا و واجب شرعا و قد نسب هذا الوجه إلی الشیخ الأعظم الأنصاری أعلی الله تعالی مقامه علی ما یظهر من تقریرات درسه .و قیل إن الخروج واجب غیری کما یظهر من بعض التعبیرات فی تقریرات الشیخ أیضا باعتبار أنه مقدمة للتخلص من الحرام و هو الغصب الزائد الذی کان یتحقق لو لم یخرج .و الحق أنه لیس بواجب نفسی و لا غیری .أما أنه لیس بواجب نفسی فلأنه أولا أن التخلص عن الشیء بأی معنی فرض عنوان مقابل لعنوان

ص :341

الابتلاء به بدیل له لا یجتمعان و هما من قبیل الملکة و عدمها و هذا واضح .و حینئذ نقول له ما مرادک من التخلص الذی حکمت علیه بأنه عنوان حسن .إن کان المراد به التخلص من أصل الغصب فهو بالخروج أی الحرکات الخروجیة مبتل بالغصب لا أنه متخلص منه لأنه تصرف بالمغصوب .و إن کان المراد به التخلص من الغصب الزائد الذی یقع لو لم یخرج فهو لا ینطبق علی الحرکات الخروجیة و ذلک لأن التخلص لما کان مقابلا للابتلاء بدیلا له کما قدمنا فالزمان الذی یصلح أن یکون زمانا للابتلاء لا بد أن یکون هو الذی یصدق علیه عنوان التخلص مع أن زمان الحرکات الخروجیة سابق علی زمان الغصب الزائد علیها لو لم یخرج فهو فی حال الحرکات الخروجیة لا مبتل بالغصب الزائد و لا متخلص منه بل الغاصب مبتل بالغصب من حین دخوله إلی حین خروجه و بعد خروجه یصدق علیه أنه متخلص من الغصب و ثانیا أن التخلص لو کان عنوانا یصدق علی الخروج فلا ینبغی أن یراد من الخروج نفس الحرکات الخروجیة بل علی تقدیره ینبغی أن یراد منه ما تکون الحرکات الخروجیة مقدمة له أو بمنزلة المقدمة فلا ینطبق إذن عنوان التخلص علی التصرف بالمغصوب المحرم کما یرید أن یحققه هذا القائل .و السر واضح فإن الخروج یقابل الدخول و لما کان الدخول عنوانا للکون داخل الدار المسبوق بالعدم فلا بد أن یکون الخروج بمقتضی المقابلة عنوانا للکون خارج الدار المسبوق بالعدم أما نفس التصرف بالمغصوب بالحرکات الخروجیة التی منها یکون الخروج فهو مقدمة أو شبه المقدمة للخروج لا نفسه .

ص :342

و ثالثا لو سلمنا أن التخلص عنوان ینطبق علی الحرکات الخروجیة فلا نسلم بوجوبه النفسی لأن التخلص عن الحرام لیس هو إلا عبارة أخری عن ترک الحرام و ترک الحرام لیس واجبا نفسیا علی وجه یکون ذا مصلحة نفسیة فی مقابل المفسدة النفسیة فی الفعل نعم هو مطلوب بتبع النهی عن الفعل و قد تقدم ذلک فی مبحث النواهی فی الجزء الأول و فی مسألة الضد فی الجزء الثانی فکما أن الأمر بالشیء لا یقتضی النهی عن ضده العام أی نقیضه و هو الترک کذلک أن النهی عن الشیء لا یقتضی الأمر بضده العام أی نقیضه و هو الترک و لذا قلنا فی مبحث النواهی إن تفسیر النهی بطلب الترک کما وقع للقوم لیس فی محله و إنما هو تفسیر للشیء بلازم المعنی العقلی فإن مقتضی الزجر عن الفعل طلب ترکه عقلا لا علی أن یکون الترک ذا مصلحة نفسیة فی مقابل مفسدة الفعل و کذلک فی الأمر فإن مقتضی الدعوة إلی الفعل الزجر عن ترکه عقلا لا علی أن یکون الترک ذا مفسدة نفسیة فی مقابل مصلحة الفعل بل لیس فی النهی إلا مفسدة الفعل و لیس فی الأمر إلا مصلحة الفعل .و أما أن الخروج لیس بواجب غیری فلأنه أولا قد تقدم أن مقدمة الواجب لیست بواجبة علی تقدیر القول بأن التخلص واجب نفسی .و ثانیا أن الخروج الذی هو عبارة عن الحرکات الخروجیة فی مقصود هذا القائل لیس مقدمة لنفس التخلص عن الحرام بل علی التحقیق إنما هو مقدمة للکون فی خارج الدار و الکون فی خارج الدار ملازم لعنوان التخلص عن الحرام لا نفسه و لا یلزم من فرض وجوب التخلص فرض وجوب لازمه فإن المتلازمین لا یجب أن یشترکا فی الحکم کما تقدم فی مسألة الضد .

ص :343

و إذا لم یجب الکون خارج الدار کیف تجب مقدمته .و ثالثا لو سلمنا أن التخلص واجب نفسی و أنه نفس الکون خارج الدار فتکون الحرکات الخروجیة مقدمة له و أن مقدمة الواجب واجبة لو سلمنا کل ذلک فإن مقدمة الواجب إنما تکون واجبة حیث لا مانع من ذلک کما لو کانت محرمة فی نفسها کرکوب المرکب الحرام فی طریق الحج فإنه لا یقع علی صفة الوجوب و إن توصل به إلی الواجب و هنا الحرکات الخروجیة تقع علی صفة الحرمة کما قدمنا باعتبار أنها من أفراد الحرام و هو التصرف بالمغصوب فلا تقع علی صفة الوجوب من باب المقدمة .فإن قلت إن المقدمة المحرمة إنما لا تقع علی صفة الوجوب حیث لا تکون منحصرة و أما مع انحصار التوصل بها إلی الواجب فإنه یقع التزاحم بین حرمتها و وجوب ذیها لأن الأمر یدور حینئذ بین امتثال الوجوب و بین امتثال الحرمة فلو کان الوجوب أهم قدم علی حرمة المقدمة فتسقط حرمتها و هنا الأمر کذلک فإن المقدمة منحصرة و الواجب و هو ترک الغصب الزائد أهم .قلت هذا صحیح لو کان الدوران لم یقع بسوء اختیار المکلف فإنه حینئذ یکون الدوران فی مقام التشریع و أما لو کان الدوران واقعا بسوء اختیار المکلف کما هو مفروض فی المقام فإن المولی فی مقام التشریع قد استوفی غرضه من أول الأمر بالنهی عن الغصب مطلقا و لا دوران فیه حتی یقال یقبح من المولی تفویت غرضه الأهم .و إنما الدوران وقع فی مقام استیفاء الغرض استیفاء خارجیا بسبب سوء اختیار المکلف بعد فرض أن المولی من أول الأمر قبل أن یدخل المکلف فی المحل المغصوب قد استوفی کل غرضه فی مقام التشریع إذ نهی عن کل تصرف بالمغصوب فلیس هناک تزاحم فی مقام التشریع فالمکلف یجب

ص :344

علیه أن یترک الغصب الزائد بالخروج عن المغصوب و نفس الحرکات الخروجیة تکون أیضا محرمة یستحق علیها العقاب لأنها من أفراد ما هو منهی عنه و قد وقع فی هذا المحذور و الدوران بسوء اختیاره .

صحة الصلاة حال الخروج

و أما الناحیة الثانیة و هی صحة الصلاة حال الخروج فإنها تبتنی علی اختیار أحد الأقوال فی الناحیة الأولی .فإن قلنا بأن الخروج یقع علی صفة الوجوب فقط فإنه لا مانع من الإتیان بالصلاة حالته سواء ضاق وقتها أم لم یضق و لکن بشرط ألا یستلزم أداء الصلاة تصرفا زائدا علی الحرکات الخروجیة فإن هذا التصرف الزائد حینئذ یقع محرما منهیا عنه .فإذا استلزم أداء الصلاة تصرفا زائدا فإن کان الوقت ضیقا فلا بد أن یؤدی الصلاة حال الخروج و لا بد أن یقتصر منها علی أقل الواجب فیصلی إیماء بدل الرکوع و السجود .و إن کان الوقت متسعا لأدائها بعد الخروج وجب أن ینتظر بها إلی ما بعد الخروج .و إن قلنا بوقوع الخروج علی صفة الحرمة فإنه مع سعة الوقت لا بد أن یؤدیها بعد الخروج سواء استلزمت تصرفا زائدا أم لم تستلزم و مع ضیق الوقت یقع التزاحم بین الحرام الغصبی و الصلاة الواجبة و الصلاة لا تترک بحال فیجب أداؤها مع ترک ما یستلزم منها تصرفا زائدا فیصلی إیماء للرکوع و السجود و یقرأ ماشیا فیترک الاطمئنان الواجب و هکذا .و إن قلنا بعدم وقوع الخروج علی صفة الحرمة و لا صفة الوجوب فلا مانع من أداء الصلاة حال الخروج إذا لم تستلزم تصرفا زائدا حتی مع سعة الوقت علی النحو الذی تقدم

ص :345

المسألة الخامسة دلالة النهی علی الفساد
تحریر محل النزاع

هذه المسألة من أمهات المسائل الأصولیة التی بحثت من القدیم و لأجل تحریر محل النزاع فیها و توضیحه علینا أن نشرح الألفاظ الواردة فی عنوانها و هی کلمة الدلالة النهی الفساد .و لا بد من ذکر المراد من الشیء المنهی عنه أیضا لأنه مدلول علیه بکلمة النهی إذ النهی لا بد له من متعلق .إذن ینبغی البحث عن أربعة أمور 1 الدلالة فإن ظاهر اللفظة یعطی أن المراد منها الدلالة اللفظیة و لعله لأجل هذا الظهور البدوی أدرج بعضهم هذه المسألة فی مباحث الألفاظ و لکن المعروف أن مرادهم منها ما یؤدی إلیه لفظ الاقتضاء حسب ما یفهم من بحثهم المسألة و جملة من الأقوال فیها لا سیما المتأخرون من الأصولیین .و علیه فیکون المراد من الدلالة خصوص الدلالة العقلیة و حینئذ یکون المقصود من النزاع البحث عن اقتضاء طبیعة النهی عن الشیء فساد المنهی عنه عقلا و من هنا یعلم أنه لا یشترط فی النهی أن یکون مستفادا من دلیل لفظی و فی الحقیقة یکون النزاع هنا عن ثبوت الملازمة العقلیة بین النهی عن الشیء و فساده أو عن الممانعة و المنافرة عقلا بین النهی عن الشیء و صحته لا فرق بین التعبیرین .و لأجل هذا أدرجنا نحن هذه المسألة فی قسم الملازمات العقلیة .

ص :346

نعم قد یدعی بعضهم أن هذه الملازمة علی تقدیر ثبوتها من نوع الملازمات البینة بالمعنی الأخص و حینئذ یکون اللفظ الدال بالمطابقة علی النهی دالا بالدلالة الالتزامیة علی فساد المنهی عنه فیصح أن یراد من الدلالة ما هو أعم من الدلالة اللفظیة و العقلیة .و نحن نقول هذا صحیح علی هذا القول و لا بأس بتعمیم الدلالة إلی اللفظیة و العقلیة فی العنوان حینئذ و لکن النزاع مع هذا القائل أیضا یقع فی الملازمة العقلیة قبل فرض الدلالة اللفظیة الالتزامیة فالبحث معه أیضا یرجع إلی البحث عن الاقتضاء العقلی فالأولی أن یراد من الدلالة فی العنوان الاقتضاء العقلی فإنه یجمع جمیع الأقوال و الاحتمالات لا سیما أن البحث یشمل کل نهی و إن لم یکن مستفادا من دلیل لفظی .و العبارة تکون أکثر استقامة لو عبر عن عنوان المسألة بما عبر به صاحب الکفایة قده بقوله اقتضاء النهی الفساد فأبدل کلمة الدلالة بکلمة الاقتضاء و لکن نحن عبرنا بما جرت علیه عادة القدماء فی عنوان المسألة متابعة لهم .2 النهی إن کلمة النهی ظاهرة کما تقدم فی الجزء الأول ص 101 فی خصوص الحرمة و قلنا هناک إن الظهور لیس من جهة الوضع بل بمقتضی حکم العقل أما نفس الکلمة من جهة الوضع فهی تشتمل النهی التحریمی و النهی التنزیهی أی الکراهة و لعل کلمة النهی فی مثل عنوان المسألة لیس فیها ما یقتضی عقلا ظهورها فی الحرمة فلا بأس من تعمیم النهی فی العنوان لکل من القسمین بعد أن کان النزاع قد وقع فی کل منهما .و کذلک کلمة النهی بإطلاقها ظاهرة فی خصوص الحرمة النفسیة دون الغیریة و لکن النزاع أیضا وقع فی کل منهما فإذن ینبغی تعمیم کلمة

ص :347

النهی فی العنوان للتحریمی و التنزیهی و للنفسی و الغیری کما صنع صاحب الکفایة قده و شیخنا النائینی قده جزم باختصاص النهی فی عنوان المسألة بخصوص التحریمی النفسی لأنه یجزم بأن التنزیهی لا یقتضی الفساد و کذا الغیری .و الذی ینبغی أن یقال له أن الاختیار شیء و عموم النزاع فی المسألة شیء آخر فإن اختیارکم بأن النهی التنزیهی و الغیری لا یقتضیان الفساد لیس معناه اتفاق الکل علی ذلک حتی یکون النزاع فی المسألة مختصا بما عداهما و المفروض أن هناک من یقول بأن النهی التنزیهی و الغیری یقتضیان الفساد .فتعمیم کلمة النهی فی العنوان هو الأولی .3 الفساد إن الفساد کلمة ظاهرة المعنی و المراد منها ما یقابل الصحة تقابل العدم و الملکة علی الأصح لا تقابل النقیضین و لا تقابل الضدین .و علیه فما له قابلیة أن یکون صحیحا یصح أن یتصف بالفساد و ما لیس له ذلک لا یصح وصفه بالفساد .و صحة کل شیء بحسبه فمعنی صحة العبادة مطابقتها لما هو المأمور به من جهة تمام أجزائها و جمیع ما هو معتبر فیها (1)و معنی فسادها عدم مطابقتها له من جهة نقصان فیها و لازم عدم مطابقتها لما هو مأمور به عدم سقوط الأمر و عدم سقوط الأداء و القضاء .و معنی صحة المعاملة مطابقتها لما هو المعتبر فیها من أجزاء و شرائط و نحوها و معنی فسادها عدم مطابقتها لما هو معتبر فیها و لازم عدم مطابقتها

ص :348


1- هذا بناء علی اعتبار الامر فی عبادیة العبادة، أما إذا قلنا بکفایة الرجحان الذاتی فی عبادیتها إذا قصدها متقربا بها إلی الله تعالی - کما هو الصحیح - فیکون معنی صحة العبادة ما هو أعم من مطابقتها لما هو مأمور به ومن مطابقتها لما هو راجح ذاتا وان لم یکن هناک أمر.

عدم ترتب أثرها المرغوب فیه علیها من نحو النقل و الانتقال فی عقد البیع و الإجارة و من نحو العلقة الزوجیة فی عقد النکاح و هکذا .4 متعلق النهی لا شک فی أن متعلق النهی هنا یجب أن یکون مما یصح أن یتصف بالصحة و الفساد لیصح النزاع فیه و إلا فلا معنی لأن یقال مثلا إن النهی عن شرب الخمر یقتضی الفساد أو لا یقتضی .و علیه فلیس کل ما هو متعلق للنهی یقع موضعا للنزاع فی هذه المسألة بل خصوص ما یقبل وصفی الصحة و الفساد و هذا واضح .ثم إن متعلق النهی یعم العبادة و المعاملة اللتین یصح وصفهما بالفساد فلا اختصاص للمسألة بالعبادة کما ربما ینسب إلی بعضهم .و إذا اتضح المقصود من الکلمات التی وردت فی العنوان یتضح المقصود من النزاع و محله هنا فإنه یرجع إلی النزاع فی الملازمة العقلیة بین النهی عن الشیء و فساده فمن یقول بالاقتضاء فإنما یقول بأن النهی یستلزم عقلا فساد متعلقه و قد یقول مع ذلک بأن اللفظ الدال علی النهی دال علی فساد المنهی عنه بالدلالة الالتزامیة و من یقول بعدمه إنما یقول بأن النهی عن الشیء لا یستلزم عقلا فساده .أو فقل إن النزاع هنا یرجع إلی النزاع فی وجود الممانعة و المنافرة عقلا بین کون الشیء صحیحا و بین کونه منهیا عنه أی أنه هل هناک مانعة جمع بین صحة الشیء و النهی عنه أو لا .و لأجل هذا تدخل هذه المسألة فی بحث الملازمات العقلیة کما صنعناه .و لما کان البحث یختلف کثیرا فی کل واحدة من العبادة و المعاملة عقدوا البحث فی موضعین العبادة و المعاملة فینبغی البحث عن کل منهما مستقلا فی مبحثین

ص :349

المبحث الأول النهی عن العبادة

المقصود من العبادة التی هی محل النزاع فی المقام العبادة بالمعنی الأخص أی خصوص ما یشترط فی صحتها قصد القربة أو فقل هی خصوص الوظیفة التی شرعها الله تعالی لأجل التقرب بها إلیه .و لا یشمل النزاع العبادة بالمعنی الأعم مثل غسل الثوب من النجاسة لأنه و إن صح أن یقع عبادة متقربا به إلی الله تعالی لا یتوقف حصول أثره المرغوب فیه و هو زوال النجاسة علی وقوعه قریبا فلو فرض وقوعه منهیا عنه کالغسل بالماء المغصوب فإنه یقع به الامتثال و یسقط الأمر به فلا یتصور وقوعه فاسدا من أجل تعلق النهی به .نعم إذا وقع محرما منهیا عنه فإنه لا یقع عبادة متقربا به إلی الله تعالی فإذا قصد من الفساد هذا المعنی فلا بأس فی أن یقال إن النهی عن العبادة بالمعنی الأعم یقتضی الفساد فإن من یدعی الممانعة بین الصحة و النهی یمکن أن یدعی الممانعة بین وقوع غسل الثوب صحیحا أی عبادة متقربا به إلی الله تعالی و بین النهی عنه .و لیس معنی العبادة هنا أنها ما کانت متعلقة للأمر فعلا لأنه مع فرض تعلق النهی بها فعلا لا یعقل فرض تعلق الأمر بها أیضا و لیس ذلک کباب اجتماع الأمر و النهی الذی فرض فیه تعلق النهی بعنوان غیر العنوان الذی تعلق به الأمر فإنه إن جاز هناک اجتماع الأمر و النهی فلا یجوز هنا لعدم تعدد العنوان و إنما العنوان الذی تعلق به الأمر هو نفسه صار متعلقا للنهی .و علی هذا فلا بد أن یراد بالعبادة المنهی عنها ما کانت طبیعتها متعلقة للأمر و إن لم تکن شاملة بما هی مأمور بها لما هو متعلق النهی أو ما

ص :350

کانت من شأنها أن یتقرب بها لو تعلق بها أمر و بعبارة أخری جامعة أن یقال إن المقصود بالعبادة هنا هی الوظیفة التی لو شرعها الشارع لشرعها لأجل التعبد بها و إن لم یتعلق بها أمر فعلی لخصوصیة المورد .ثم إن النهی عن العبادة یتصور علی أنحاء أحدها أن یتعلق النهی بأصل العبادة کالنهی عن صوم العیدین و صوم الوصال و صلاة الحائض و النفساء و ثانیها أن یتعلق بجزئها کالنهی عن قراءة سورة من سور العزائم فی الصلاة و ثالثها أن یتعلق بشرطها أو بشرط جزئها کالنهی عن الصلاة باللباس المغصوب أو المتنجس و رابعها أن یتعلق بوصف ملازم لها أو لجزئها کالنهی عن الجهر بالقراءة فی موضع الإخفات و النهی عن الإخفات فی موضع الجهر .و الحق أن النهی عن العبادة یقتضی الفساد سواء کان نهیا عن أصلها أو جزئها أو شرطها أو وصفها للتمانع الظاهر بین العبادة التی یراد بها التقرب إلی الله تعالی و مرضاته و بین النهی عنها المبعد عصیانه عن الله و المثیر لسخطه فیستحیل التقرب بالمبعد و الرضا بما یسخطه و یستحیل أیضا التقرب بما یشتمل علی المبعد المبغوض المسخط له أو بما هو متقید بالمبعد أو بما هو موصوف بالمبعد .و من الواضح أن المقصود من القرب و البعد من المولی القرب و البعد المعنویان و هما یشبهان القرب و البعد المکانیین فکما یستحیل التقرب المکانی بما هو مبعد مکانا کذلک یستحیل التقرب المعنوی بما هو مبعد معنی .و نحن إذ نقول ذلک فی النهی عن الجزء و الشرط و الوصف نقول به لا لأجل أن النهی عن هذه الأمور یسری إلی أصل العبادة و أن ذلک واسطة فی الثبوت أو واسطة فی العروض کما قیل و لا لأجل أن جزء العبادة و شرطها عبادة فإذا فسد الجزء و الشرط استلزم فسادهما فساد المرکب و المشروط .

ص :351

بل نحن لا نستند فی قولنا فی الجزء و الشرط و الوصف إلی ذلک لأنه لا حاجة إلی مثل هذه التعلیلات و لا تصل النوبة إلیها بعد ما قلناه من أنه یستحیل التقرب بما یشتمل علی المبعد أو بما هو مقید أو موصوف بالمبعد کما یستحیل التقرب بنفس المبعد بلا فرق .علی أن فی هذه التعلیلات من المناقشة ما لا یسعه هذا المختصر و لا حاجة إلی مناقشتها بعد ما ذکرناه .هذا کله فی النهی النفسی أما النهی الغیری المقدمی فحکمه حکم النفسی بلا فرق کما أشرنا إلی ذلک فی ما تقدم ص 304 .فإنه أشرنا هناک إلی الوجه الذی ذکره بعض أعاظم مشایخنا قدس سره للفرق بینهما بأن النهی الغیری لا یکشف عن وجود مفسدة و حزازة فی المنهی عنه فیبقی المنهی عنه علی ما کان علیه من المصلحة الذاتیة بلا مزاحم لها من مفسدة للنهی فیمکن التقرب به بقصد تلک المصلحة الذاتیة المفروضة بخلاف النهی النفسی الکاشف عن المفسدة و الحزازة فی المنهی عنه المانعة من التقرب به .و قد ناقشناه هناک بأن التقرب و الابتعاد لیسا یدوران مدار المصلحة و المفسدة الذاتیتین حتی یتم هذا الکلام بل کما ذکرناه هناک أن الفعل المبعد عن المولی فی حال کونه مبعدا لا یعقل أن یکون متقربا به إلیه کالتقرب و الابتعاد المکانیین و النهی و إن کان غیریا یوجب البعد و مبغوضیة المنهی عنه و إن لم یشتمل علی مفسدة نفسیة .و یبقی الکلام فی النهی التنزیهی أی الکراهة فالحق أیضا أنه یقتضی الفساد کالنهی التحریمی لنفس التعلیل السابق من استحالة التقرب بما هو مبعد بلا فرق غایة الأمر أن مرتبة البعد فی التحریمی أشد و أکثر منها فی التنزیهی کاختلاف مرتبة القرب فی موافقة الأمر الوجوبی و الاستحبابی .

ص :352

و هذا الفرق لا یوجب تفاوتا فی استحالة التقرب بالمبعد و لأجل هذا حمل الأصحاب الکراهة فی العبادة علی أقلیة الثواب مع ثبوت صحتها شرعا لو أتی بها المکلف لا الکراهة الحکمیة الشرعیة و معنی حمل الکراهة علی أقلیة الثواب أن النهی الوارد فیها یکون مسوقا لبیان هذا المعنی و بداعی الإرشاد إلی أقلیة الثواب و لیس مسوقا لبیان الحکم التکلیفی المقابل للأحکام الأربعة الباقیة بداعی الزجر عن الفعل و الردع عنه .و علیه فلو أحرز بدلیل خاص أن النهی بداعی الزجر التنزیهی أو لم یحرز من دلیل خاص صحة العبادة المکروهة فلا محالة لا نقول بصحة العبادة المنهی عنها بالنهی التنزیهی .هذا فیما إذا کان النهی التنزیهی عن نفس عنوان العبادة أو جزئها أو شرطها أو وصفها أما لو کان النهی عن عنوان آخر غیر عنوان المأمور به کما لو کان بین المنهی عنه و المأمور به عموم و خصوص من وجه فإن هذا المورد یدخل فی باب الاجتماع و قد قلنا هناک بجواز الاجتماع فی الأمر و النهی التحریمی فضلا عن الأمر و النهی التنزیهی و لیس هو من باب النهی عن العبادة إلا إذا ذهبنا إلی امتناع الاجتماع فیدخل فی مسألتنا .تنبیه إن النهی الذی هو موضع النزاع و الذی قلنا باقتضائه الفساد فی العبادة هو النهی بالمعنی الظاهر من مادته و صیغته أعنی ما یتضمن حکما تحریمیا أو تنزیهیا بأن یکون إنشاؤه بداعی الردع و الزجر .أما النهی بداع آخر کداعی بیان أقلیة الثواب أو داعی الإرشاد إلی مانعیة الشیء مثل النهی عن لبس جلد المیتة فی الصلاة أو نحو ذلک من الدواعی فإنه لیس موضع النزاع فی مسألتنا و لا یقتضی الفساد بما هو نهی إلا أن یتضمن اعتبار شیء فی المأمور به فمع فقد ذلک الشیء لا ینطبق المأتی به علی المأمور به فیقع فاسدا کالنهی بداعی الإرشاد إلی مانعیة شیء

ص :353

فیستفاد منه أن عدم ذلک الشیء یکون شرطا فی المأمور به و لکن هذا شیء آخر لا یرتبط بمسألتنا فإن هذا یجزی حتی فی الواجبات التوصلیة فإن فقد أحد شروطها یوجب فسادها

المبحث الثانی النهی عن المعاملة

إن النهی فی المعاملة علی نحوین کالنهی عن العبادة فإنه تارة یکون النهی بداعی بیان مانعیة الشیء المنهی عنه أو بداع آخر مشابه له و أخری یکون بداعی الردع و الزجر من أجل مبغوضیة ما تعلق به النهی و وجود الحزازة فیه .فإن کان الأول فهو خارج عن مسألتنا کما تقدم فی التنبیه السابق إذ لا شک فی أنه لو کان النهی بداعی الإرشاد إلی مانعیة الشیء فی المعاملة فإنه یکون دالا علی فسادها عند الإخلال لدلالة النهی علی اعتبار عدم المانع فیها فتخلفه تخلف للشرط المعتبر فی صحتها و هذا لا ینبغی أن یختلف فیه اثنان .و إن کان الثانی فإن النهی إما أن یکون عن ذات السبب أی عن العقد الإنشائی أو فقل عن التسبیب به لإیجاد المعاملة کالنهی عن البیع وقت النداء لصلاة الجمعة فی قوله تعالی إِذٰا نُودِیَ لِلصَّلاٰةِ مِنْ یَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلیٰ ذِکْرِ اللّٰهِ وَ ذَرُوا الْبَیْعَ و إما أن یکون عن ذات المسبب أی عن نفس وجود المعاملة کالنهی عن بیع الآبق و بیع المصحف .فإن کان النهی علی النحو الأول أی عن ذات السبب فالمعروف أنه لا یدل علی فساد المعاملة إذا لم تثبت المنافاة لا عقلا و لا عرفا بین مبغوضیة العقد و التسبیب به و بین إمضاء الشارع له بعد أن کان العقد مستوفیا لجمیع

ص :354

الشروط المعتبرة فیه بل ثبت خلافها کحرمة الظهار التی لم تناف ترتب الأثر علیه من الفراق .و إن کان النهی علی النحو الثانی أی عن المسبب فقد ذهب جماعة من العلماء إلی أن النهی فی هذا القسم یقتضی الفساد .و أقصی ما یمکن تعلیل ذلک بما ذکره بعض أعاظم مشایخنا من أن صحة کل معاملة مشروطة بأن یکون العاقد مسلطا علی المعاملة فی حکم الشارع غیر محجور علیه من قبله من التصرف فی العین التی تجری علیها المعاملة و نفس النهی عن المسبب یکون معجزا مولویا للمکلف عن الفعل و رافعا لسلطنته علیه فیختل به ذلک الشرط المعتبر فی صحة المعاملة فلا محالة یترتب علی ذلک فسادها .هذا غایة ما یمکن أن یقال فی بیان اقتضاء النهی عن المسبب لفساد المعاملة و لکن التحقیق أن یقال إن استناد الفساد إلی النهی إنما یصح أن یفرض و یتنازع فیه فیما إذا کان العقد بشرائطه موجودا حتی بشرائط المتعاقدین و شرائط العوضین و أنه لیس فی البین إلا المبغوضیة الصرفة المستفادة من النهی و حینئذ یقع البحث فی أن هذه المبغوضیة هل تنافی صحة المعاملة أو لا تنافیها .أما إذا کان النهی دالا علی اعتبار شیء فی المتعاقدین و العوضین أو العقد مثل النهی عن أن یبیع السفیه و المجنون و الصغیر الدال علی اعتبار العقل و البلوغ فی البائع و کالنهی عن بیع الخمر و المیتة و الآبق و نحوها الدال علی اعتبار إباحة المبیع و التمکن من التصرف منه و کالنهی عن العقد بغیر العربیة مثلا الدال علی اعتبارها فی العقد فإن هذا النهی فی کل ذلک لا شک فی کونه دالا علی فساد المعاملة لأن هذا النهی فی الحقیقة یرجع إلی القسم الأول الذی ذکرناه و هو ما کان النهی بداعی الإرشاد إلی

ص :355

اعتبار شیء فی المعاملة و قد تقدم أن هذا لیس موضع الکلام من منافاة نفس النهی بداعی الردع و الزجر لصحة المعاملة .فالعمدة هو الکلام فی هذه المنافاة و لیس من دلیل علیها حتی تثبت الملازمة بین النهی و فساد المعاملة و کون النهی عن المسبب یکون معجزا مولویا للمکلف عن الفعل و رافعا لسلطنته علیه فإن معنی ذلک أن النهی فی المعاملة شأنه أن یدل علی اختلال شرط فی المعاملة بارتکاب المنهی عنه و هذا لا کلام لنا فیه .و فی هذا القدر من البحث فی هذه المسألة الکفایة وفقنا الله تعالی لمراضیه

ص :356

ص :357

ص :358

ص :359

ص :360

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.