مستند تحریر الوسیله

اشارة

سرشناسه : خمینی، مصطفی، 1309-1356.

عنوان قراردادی : تحریر الوسیله .شرح

عنوان و نام پديدآور : مستند تحریر الوسیله/ تالیف مصطفی الخمینی.

مشخصات نشر : تهران: موسسه تنظیم و نشر آثار الامام الخمینی، 1418ق.= 1376.

مشخصات ظاهری : ج.

شابک : 14500 ریال (ج.1) ؛ 12000 ریال (ج.2)

يادداشت : عربی.

يادداشت : ج. 2 (چاپ اول: 1418 ق. = آبان 1376).

یادداشت : کتابنامه.

موضوع : خمینی، روح الله، رهبر انقلاب و بنیانگذار جمهوری اسلامی ایران، 1279 - 1368 . تحریر الوسیله -- نقد و تفسیر

موضوع : فقه جعفری -- رساله عملیه

شناسه افزوده : خمینی، روح الله، رهبر انقلاب و بنیانگذار جمهوری اسلامی ایران، 1279 - 1368 . تحریر الوسیله.شرح

شناسه افزوده : موسسه تنظیم و نشر آثار امام خمینی (س)

رده بندی کنگره : BP183/9/خ8ت302332 1376

رده بندی دیویی : 297/3422

شماره کتابشناسی ملی : م 79-24796

ص: 1

المجلد 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

[كتاب الطهارة]

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

و الصلاة و السلام على سيّدنا محمَّد و آله الطيّبين الطاهرين، و اللّعنة الدائمة الأبديّة على أعدائهم إلى يوم الدين.

ص: 4

ص: 5

[فصل في المياه]

اشارة

فصل في المياه

[تقسيم المياه إلى المطلق و المضاف]
اشارة

الماء إمّا مطلق، أو مضاف، (1) حول تقسيم المياه إلى المطلق و المضاف قوله مدّ ظلّه: «أو مضاف».

هذا التقسيم مضافاً إلى عدم وفائه بما هو المقصود الأصليّ لا يمكن أن يكون على وجه صحيح؛ ضرورة أنّ التقسيم عُدَّ من الأمارات الدالة على اشتراك المقسم بين الأقسام على نعت الحقيقة(1)، و يكون أحياناً من علائم الحقيقة و المجاز في المحاورات العرفيّة، و ليس لفظة «الماء» قابلة للصدق على المضاف، حسب الوضع الأوّلي، إلّا إذا استعملت في المعنى المجازيّ، و هو المائع الكذائيّ، ثمّ تقسّم إلى المطلق و هو ما يصحّ إطلاق لفظة «الماء» عليه من غير إضافة و إلى المضاف،


1- مفاتيح الأُصول: 77/ السطر 9، تقريرات المجدّد الشيرازي 1: 131.

ص: 6

كالمعتصر من الأجسام، كماء الرقّي (1)، و الرمّان، كماء الرمّان و غيره، مراعياً في الاستعمال المذكور، أن يكون الجامع غير صادق على أمثال النفط و غيره، هذا.

و غير خفيّ: أنّ الماء المضاف، إن أُريد منه الإضافة في مقام اللّفظ، فربّما لا يكون شي ء واحد مضافاً بحسب لغةٍ أعجميّة، و يكون مضافاً بحسب العربيّة.

و إن أُريد منه ما هو بحسب المسمّى و الطبيعة الخارجيّة مخلوط، فهو ليس من الإضافة، بل هو من الخلط و المزج، و الأمر على كلّ تقدير سهل.

و كان ينبغي تقسيم المائع بحسب الأحكام الشرعيّة إلى:

ما يطلق عليه «الماء» فيكون طاهراً و مطهّراً، و لا ينفعل على شرائط.

و ما لا يكون مطهّراً، كسائر المائعات، و منها اللّبن، و ماء الورد، و الرقّي، و غير ذلك، و يتنجّس.

و ما يكون نجساً، كالأبوال ممّا لا يؤكل لحمه، و هكذا.

فإنّه تقسيم عامّ بلحاظ الأحكام المختلفة الثابتة في الشرع لأفراده.

قوله مدّ ظلّه: «كماء الرقّي».

قد أُشير آنفاً إلى أنّ اللّغات مختلفة في التعبير عن حقيقة ماء الرقّي، و لا يكون النظر هنا إلّا إلى أنّ الأدلّة المشتملة على كلمة

ص: 7

و الممتزج بغيره (1) ممّا يخرجه عن صدق اسم «الماء» كماء السكّر و الملح.

«الماء» الناطقة بأنّه «يطهّر و لا يطهّر»(1) أو كذا و كذا، لا تشمل أمثال هذه المائعات، التي يطلق في اللّسان العربيّ عليها «الماء» مضافاً إلى شي ء آخر.

و عندئذٍ يتوجّه إليهم: أنّه ربّما تضاف لفظة «الماء» إلى «البئر» و «البحر» و «النهر» فهذا أيضاً من أغلاط التقسيم المذكور، بعد معلوميّة المقصود الأصليّ.

ثمّ إنّ الماء بما أنّه متقيّد بالإطلاق، ليس موضوعاً للحكم، حتّى يشكل جريان الاستصحاب، و سيمرّ عليك تحقيقه في محلّه، إن شاء اللَّه تعالى(2).

و غير خفيّ: أنّ المياه المضافة بحسب الخلقة، مركّبة من الماء الحقيقيّ، و المادّة المنتشرة فيه، فإذا انحلّت بحسب الآلات الحديثة إلى الأجزاء الأصليّة، تترتّب على جزئه المائيّ أحكام الماء المطلق، و لعلّ وجه صحّة إطلاق «الماء المضاف» عليه؛ هو ذلك، لا لأجل الميعان المشترك بينه و بين سائر المائعات.

قوله مدّ ظلّه: «و الممتزج بغيره».

الماء الممتزج بغيره، له مراتب، فربّما يمتزج بالغير، و لا يضرّ ذلك


1- وسائل الشيعة 1: 133 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 3 و 6 و 7.
2- يأتي في الصفحة 25.

ص: 8

[و المطلق أقسام]

و المطلق أقسام (1): الجاري، و النابع بغير جريان، و البئر، بصدقه عليه، و في المرتبة الثانية يصدق عليه «الماء» و «السّكّر» ففي هذه الصورة، يشكل منع جريان أحكامه.

و إذا غلبت المادّة الدخيلة، لا يبقى لصدق اسم «الماء» عليه و لو كان بالإضافة في الاسم مجال، إلّا إذا كان الوجه المصحّح، ميعانه الأعمّ المشترك فيه سائر المائعات، فلا تخلط.

أقسام الماء المطلق قوله مدّ ظلّه: «و المطلق أقسام».

إن كان النظر إلى ذكر عناوين المياه، فكان ينبغي ذكر ماء الحمّام، بل و المستعمل، و المشكوك.

و إن كان النظر إلى ما يخصّ بحكم، فلا ينبغي ذكر النابع بغير جريان.

هذا مع أنّ الجريان، أعمّ من الجاري فوق سطح الأرض، و الذي يفور من الأرض إلى الفوق، كما لا يخفى.

فما عن الوحيد البهبهانيّ: من أنّ النابع بغير جريان، بحكم البئر عند الفقهاء(1)، في غير محلّه؛ فإنّ ماء العين غيرُه بالضرورة، فإنّ قوام ماء


1- حكاه في مستمسك العروة الوثقى 1: 110، و لكن في ثبوت النسبة تردّد، لاحظ حاشية الوحيد البهبهاني على مدارك الأحكام: 14/ السطر 41 من التعليقة و أيضاً مفتاح الكرامة 1: 61 و 77.

ص: 9

و المطر (1)، و الواقف (2)، و يقال له: «الراكد».

العين بالغليان، لا الجريان على سطح الأرض، و الأمر سهل.

قوله مدّ ظلّه: «و المطر».

لم يذكر في كلام جماعة ماء المطر هنا(1).

و توهّم: أنّه في محلّه؛ لأنّ المقسم ماء الأرض(2)، غير صحيح؛ لأنّه أيضاً من الأرض أوّلًا.

و ثانياً: لا وجه لأخذ الخصوصيّة في المقسم.

قوله مدّ ظلّه: «و الواقف».

لا معنى لعدّ الواقف من المياه، و إن صنعه جماعة(3)؛ فإنّ المحقون ليس موضوعاً للحكم بما هو هو؛ ضرورة أنّه على القول: بانفعال القليل، يكون هناك ماءان: قليل، و كثير، و على القول: بعدم الانفعال، فهو و بعض المياه الأخر مشترك في الحكم.

و الذي هو الأوفق بالتقسيم: أنّ الماء إمّا أن يكون ذا مادّة طبيعيّة


1- شرائع الإسلام 1: 4، مصباح الفقيه، الطهارة: 6/ السطر 33.
2- مستمسك العروة الوثقى 1: 109، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 12.
3- قواعد الأحكام 1: 4/ السطر 24، منتهى المطلب 1: 4/ السطر 26.

ص: 10

أو جعليّة أو ليس كذلك.

و على الثاني: إمّا يكون كثيراً، أو قليلًا.

و على الثاني: إمّا يكون مستعملًا، أو غير مستعمل، أو يكون مشكوكاً.

و هذا التقسيم باعتبار الآثار و الأحكام، و إلّا فالماء واحد بالضرورة.

ص: 11

[مسألة 1: الماء المضاف]

مسألة 1: الماء المضاف طاهر (1) في نفسه، حكم الماء المضاف قوله مدّ ظلّه: «طاهر».

أي ليس من النجاسات.

و توهّم: أنّ مستندها إن كانت قاعدة الطهارة، فجريانها في الشبهات الحكميّة محلّ منع أو إشكال، في غير محلّه؛ لأنّ المياه المضافة لو كانت من النجاسات لبانت، و على هذا لا وجه لتعرّضهم لذلك، كما لا يتعرّضون لطهارة سائر الأشياء.

و لو تنجّس التفّاح و الرمان، ثمّ أُخذ ماؤهما بالآلات الحديثة، فهل يكون نجساً؟

فيه إشكال، ينحلّ بمراجعة أهله، و ربّما تختلف الفواكه، كما تختلف كيفيّة أخذ مائها.

بقي شي ء: و هو أنّ اعتبار طهارة هذا الماء و سائر الأشياء، صحيح على أحد المباني في باب الطهارة و النجاسة؛ فإنّه لو قلنا: بأنّ الطهارة من المجعولات الشرعيّة، فلا دليل على مجعوليّتها لكلّ شي ء، و التمسّك بقاعدة الطهارة في غير محلّه، كما تحرّر في الأُصول(1)، و كون الطهارة العرفيّة ممضاةً شرعاً، ليس معناه إلّا عدم النجاسة، كما لا يخفى.


1- لاحظ تحريرات في الأُصول 8: 378 379.

ص: 12

و غير مطهّر؛ لا من الحدث، (1) قوله مدّ ظلّه: «لا من الحدث».

على المشهور(1)، و هو مقتضى الأصل؛ فإنّ المطهّرية تحتاج إلى الدليل.

و ربّما يستدلّ بآيات(2)، أوضحها قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً(3).

و فيه: قوّة احتمال كون الماء أحد مصاديق المطهّر؛ لعدم كون الآية إلّا لبيان ظرف انتقال الحكم المائيّ إلى الترابيّ، فنفي مطهّرية غير الماء في عَرْض الماء بالآية مشكل.

نعم، نفي مطهّرية غيره، في طول الماء و التراب، أو نفي مطهّريته في عَرْض التراب، غير بعيد.

و بالجملة: حكاية اتفاق المسلمين على عدم مطهّريته للحدث الأكبر ممكنة، و إن نسب إلى ظاهر ابن أبي عقيل تجويزُ الاستعمال عند الضرورة(4)، و لكن احتمال انصرافه إلى الوضوء قوىٌّ.


1- مستند الشيعة 1: 130، جواهر الكلام 1: 311، الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 294، مستمسك العروة الوثقى 1: 111.
2- مختلف الشيعة 1: 222، مدارك الأحكام 1: 110، مستمسك العروة الوثقى 1: 111.
3- المائدة( 5): 6.
4- جواهر الكلام 1: 311 312، و لاحظ أيضاً مختلف الشيعة 1: 222.

ص: 13

و أمّا مطهّريته بالنسبة إلى الأصغر، فهو المحكيّ(1) عن الصدوق(2)، و إليه مال الكاشانيّ(3) من أصحابنا و عن أصحاب الحديث(4)، و هم بمنزلة الأخباريّين منّا، إلّا أنّهم كلّاً خصّوا الحكم بماء الورد.

و عن أبي حنيفة: تجويز التوضّي بماء النبيذ و نبيذ التمر عند عدم الماء(5).

و بالجملة: جماعة من المخالفين قالوا: بالترتيب، فجوّزوا التوضّي عند الضرورة بالنبيذ(6).

و عن الأوزاعيّ: الجمع بينه و بين التراب(7).

و قد عرفت: أنّ الآية تنفي الطوليّة و عرضيّة المضاف مع التيمّم، و الأصل ينفي الكلّ، إلّا أنّ عندنا رواية عن أبي الحسن (عليه السّلام) قال: قلت له:


1- مدارك الأحكام 1: 110، مستند الشيعة 1: 130.
2- الهداية ضمن الجوامع الفقهيّة: 48/ السطر 12، الأمالي: 514، الفقيه 1: 6 بناء على نسخة الأصل كما ذكره المجلسي في روضة المتّقين 1: 41.
3- الوافي 6: 325، مفاتيح الشرائع 1: 47.
4- الخلاف 1: 55.
5- الخلاف 1: 56، المجموع 1: 93/ السطر 3 و 15.
6- نفس المصدر.
7- هذا القول منسوب إلى محمّد بن الحسن الشيباني، و قول الأوزاعي هو جواز التوضّي بكلّ نبيذ، لاحظ الخلاف 1: 56، المجموع 1: 93.

ص: 14

الرجل يغتسل بماء الورد، و يتوضّأ به للصلاة، قال: «لا بأس بذلك»(1).

و هي مضافاً إلى ضعف سندها لما فيه من سهل بن زياد(2)، و عليّ بن محمّد المشترك، و محمّد بن عيسى عن يونس(3) جهة الصدور فيها غير واضحة؛ لمعارضتها لكثير من الأخبار الظاهرة في حصر المطهّر بالماء و التراب(4)، كما ستمرّ عليك في البحوث الآتية.

مع أنّ ظاهرها جواز الاغتسال، و هو خلاف اتّفاق المسلمين، و تصريحِ الشيخ: بأنّ الرواية ممّا أجمعت العصابة على ترك العمل بها(5).

و بالجملة: مضافاً إلى كلّ هذه الأُمور، أنّها لا تدلّ على جواز استعمال المضاف؛ لقوّة احتمال تعارف ماء الورد في تلك الأعصار غيرَ مضاف، و غيرَ خارج عن اسم «الماء» لقلّة الورد في تلك الأمصار، فالتمسّك بترك


1- الكافي 3: 73/ 12، وسائل الشيعة 1: 204، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 3، الحديث 1.
2- سهل بن زياد، أبو سعيد الآدمي الرازي كان ضعيفاً في الحديث، غير معتمد فيه، و كان أحمد بن محمّد بن عيسى يشهد عليه بالغلوّ و الكذب و أخرجه من قم إلى الري. رجال النجاشي 185/ 490.
3- ذكر أبو جعفر بن بابويه عن ابن الوليد أنّه قال: ما تفرّد به محمّد بن عيسى من كتب يونس و حديثه لا يعتمد عليه. رجال النجاشي: 333/ 896.
4- راجع وسائل الشيعة 1: 201، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 1 و 2.
5- تهذيب الأحكام 1: 219.

ص: 15

و لا من الخبث، (1) الاستفصال، ليس في محلّه كما لا يخفى.

قوله مدّ ظلّه: «و لا من الخبث».

على المشهور(1)، خلافاً لما نسب(2) إلى المرتضى(3) و شيخه(4)، و هو قضيّة الأصل الوجوديّ و العدميّ، و لو كان يكفي المضاف لكان الأمر واضحاً بين المتشرّعة؛ لكثرة الابتلاء، فلا تحتاج المسألة إلى الاستدلال بالأخبار، و يكفي قصور الأدلّة لإثبات مطهّرية المضاف.

و ما في بعض الأخبار: من مطهّرية ماء البصاق(5)، و لو كان نقيّ الإسناد و الدلالة، إلّا أنّه مضافاً إلى اختصاص الحكم بالدّم فيه كما في خبري غياث، ففي أحدهما: «لا يُغسل بالبزاق شي ءٌ غير الدّم»(6)، و في الآخر:


1- جواهر الكلام 1: 315، الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 295، مستمسك العروة الوثقى 1: 112.
2- المعتبر 1: 82، مدارك الأحكام 1: 112، مستند الشيعة 1: 131، الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 296.
3- الناصريات ضمن الجوامع الفقهيّة: 219، المسألة 22.
4- لاحظ المعتبر 1: 82، حيث حكى هذا القول عن المفيد( رحمه اللَّه( في المسائل الخلافيّة.
5- وسائل الشيعة 1: 205، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 4.
6- تهذيب الأحكام 1: 423/ 1339، وسائل الشيعة 1: 205، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 4، الحديث 1.

ص: 16

«لا بأس أن يغسل الدّم بالبصاق»(1) ربّما يكشف عن عدم نجاسة الدم شرعاً، إلّا بمرتبة ضعيفة تزول به، فيكون من الأخبار المعارضة لأخبار نجاسته(2)، و لعلّه كان في عصر صدور الخبرين، قول من أبناء المخالفين بطهارته(3)، فتكون الأخبار الموافقة تقيّةً.

و أمّا تضعيف التمسّك بإطلاق «الغسل» و «التطهير» الصادقين في مورد المضاف و سائر المائعات كالنفط و الكحول الصناعيّ بناءً على طهارته، بالإجمال أو التقييد بالأخبار الآمرة بالغسل بالماء(4)، فهو قابل للمناقشة: بأنّ الصدق قويّ جدّاً، و أخذ «الماء» لغلبة وجوده جائز عرفاً.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ التمسّك بالإطلاقات أيضاً ممنوع؛ لكثرة القيد وجوداً، و لالتزام الناس بإزالة النجاسة بالماء خارجاً عادةً و تعارفاً،


1- تهذيب الأحكام 1: 425/ 1350، وسائل الشيعة 1: 205، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 4، الحديث 2.
2- وسائل الشيعة 3: 429 440، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 20 22 و 24 و 25.
3- لاحظ المجموع 2: 557.
4- تمسّك بهذا الإطلاق السيّد المرتضى( رحمه اللَّه( في الناصريات: 219، المسألة 22، و ضعّفه في جواهر الكلام 1: 315 316، و مستمسك العروة الوثقى 1: 112.

ص: 17

و لا ينبغي الخلط بين مسألة عدم تنجّس الأشياء بالأعيان النجسة، و بين مسألة التوسعة فيما يتطهّر به، و لو كان من قبيل المائعات، بل و الحكّ و نحوه، و فيما نحن فيه لا تثبت التوسعة.

و لأحد التفصيل بين النجاسات؛ لاختلاف الأخبار فيها، ففي مثل البول لا يجزي فيه إلّا الماء، كما في بعض النصوص(1)، و في مثل الدّم يجزي حتّى البزاق دون غيره، و أمّا في غيرهما فيجزي مطلق كلّ شي ء يصدق معه «الغسل و التطهير».

كما يجوز التفصيل بين حالتي الاضطرار و الاختيار، و هو المنسوب إلى الحسن بن أبي عقيل(2).

أو التفصيل بين الأشياء؛ فما منها يستعمل في الأكل و الشرب، يختلف مع ما يستعمل في غسل الثوب و الفراش.

و بالجملة: تحصّل أنّ قضيّة أدلّة مطهّرية المياه المضافة، مطهّرية جميع المائعات.

بل الأخبار المستدلّ بها لمطهريّة الماء المضاف، أجنبيّة عنها


1- تهذيب الأحكام 1: 50/ 147، وسائل الشيعة 1: 316، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 9، الحديث 6.
2- لاحظ مختلف الشيعة 1: 222.

ص: 18

و لو لاقى نجساً (1) ينجس جميعه (2) حسب ما اصطلحوا عليه؛ لأنّ البزاق و النبيذ ليسا منه، و هكذا العرق الوارد في خبر ابن حكيم(1).

قوله مدّ ظلّه: «نجساً».

بناءً على منجّسية النجاسات، أو متنجّساً بناءً على المسألة المعروفة الّتي يأتي تفصيلها في محلّها.

قوله مدّ ظلّه: «جميعه».

على المشهور المعروف المدّعى عليه الإجماعات المحكيّة(2) عن جماعة، كالفاضلين(3)، و الشهيدين(4)، و غيرهم(5).

و المقصود بالبحث هنا أعمّ من المضاف الاصطلاحيّ، و إلّا فالاستدلال بأخبار تنجّس الزيت و نحوه(6)، في غير محلّه، كما مرّ.


1- الكافي 3: 55/ 4، وسائل الشيعة 3: 401، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 6، الحديث 1.
2- مستمسك العروة الوثقى 1: 114.
3- المعتبر 1: 84، تذكرة الفقهاء 1: 33، المسألة 9.
4- ذكرى الشيعة: 7/ السطر الأخير، الروضة البهيّة 1: 18/ السطر 16.
5- السرائر 1: 59.
6- منتهى المطلب 1: 127، مجمع الفائدة و البرهان 1: 249.

ص: 19

و على كلّ: نحتاج إلى إلغاء الخصوصيّة، بالنسبة إلى سريان الحكم إلى كلّ مائع من كلّ نجس، بعد كون الأصل طهارة المضاف، بعد الملاقاة عند الشكّ فيها.

و التمسّك لنجاسته: بأنّ الملاقاة توجب كون الملاقي بالكسر مصداقاً للرجز و النجس، عند العرف و العقلاء، فيلزم من الاجتناب عنهما، الاجتناب عن جميع ملاقياتهما، في غير محلّه، كما هو واضح.

و القول: بأنّه إذا كان القليل من الماء تنجّس، فالمضاف ينجس قليله و كثيره؛ ضرورة أنّ الكريّة و كثرة الماء تمنع عن السراية، و لا شقّ آخر كما تحرّر(1)، فهو لا يبعد، إلّا أنّه استدلال لا يناسب التعبّديات الشرعيّة.

و بالجملة: الدليل الوحيد الأخبار المتفرّقة(2) المشار إليها، الظاهرة في أنّ الأمر بالإراقة و غيرها؛ لأجل النجاسة، دون الجهات الأُخر، كالخباثة أو الحرمة أو غيرهما، ممّا يرجع إلى الطبابة.

و توهّم معارضتها بمرويّ الكلينيّ، عن سعيد الأعرج قال: سألت


1- لاحظ الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 300.
2- وسائل الشيعة 1: 206، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 5، وسائل الشيعة 3: 470، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 38، الحديث 8.

ص: 20

و لو كان ألف كرّ (1). نعم، إذا كان جارياً من العالي إلى السافل و لو بنحو الانحدار مع الدفع بقوّة، و لاقى أسفله النجاسة، أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) عن الفأرة و الكلب يقع في السمن و الزيت يخرج منه حيّاً. قال: «لا بأس بأكله»(1) في غير محلّه؛ لضعفه سنداً، و عدم وجود «الكلب» في بعض النسخ(2)، و لإمكان التفكيك بين النجاسة و حرمة الأكل، فلا تخلط و تأمّل.

قوله مدّ ظلّه: «و لو كان ألف كرّ».

نظراً إلى إطلاق معاقد الإجماعات، و هي غير نافعة في أصل المسألة.

و إلى السراية المعلوم وجودها في المقام، و هو ممنوع مطلقاً، و ليس من مذهبنا السراية. و لزومُ وجود الرطوبة في محلّ اللّقاء، لا يستدعي القول بالسراية، المتوقّفة على وجود الساري و الانتقال، غير القابل للتصديق في ملاقاة الكافر و المتنجّس و غيره.

و إلى إطلاق الأخبار السابقة(3)، القابلة للمنع جدّاً، و لا سيّما في الكثير كالاوقِيانوس من المائع بالقياس إلى رأس الإبرة النجسة.


1- الكافي 6: 261/ 4.
2- تهذيب الأحكام 9: 86/ 362.
3- تقدّم في الصفحة 19، الرقم 2.

ص: 21

و إلى بعض الأخبار، كمعتبر أبي بصير، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: «ليس بفضل السِّنَّوْر بأس أن يتوضّأ منه و يشرب، و لا يشرب سؤر الكلب إلّا أن يكون حوضاً كبيراً يستقى منه»(1).

فإنّ المستثنى منه أعمّ من الماء، فيشمل المضاف، و المستثنى مخصوص بالماء؛ لكلمة «الاستقاء» و فيه ما لا يخفى.

فالأصل هو المتّبع إلّا ما خرج منه بدليل، و المسألة بوجه تصير من الشبهة الموضوعيّة.

و أمّا حديث النفط و عيونه(2)، فهو في غير محلّه؛ لأنّ دعوى العلم بالملاقاة مع النفط في البحيرة منه، غير تامّة حسب العادة، و فيما يتمّ القول بالعلم باللّقاء يكون قليلًا.

و لا يخفى: أنّ في صورة الكثرة، المنع عن النجاسة يرجع إلى إنكار تنجّسه حتّى في محلّ الملاقاة، لا في الطرف البعيد عن محلّ اللّقاء فقط، و إلّا فتلزم الشبهة السببيّة.


1- تهذيب الأحكام 1: 226/ 650، وسائل الشيعة 1: 226، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 1، الحديث 7.
2- مستمسك العروة الوثقى 1: 114.

ص: 22

تختصّ (1) بموضع الملاقاة و ما دونه، و لا تسري إلى الفوق.

قوله مدّ ظلّه: «تختصّ».

نظراً إلى قصور الأدلّة المذكورة، و إلى أنّ النجاسة تمنع عن السريان إلى الفوق.

و سيمرّ عليك: أنّ حديث السراية، لا أصل له، و إلّا يلزم تنجّس الماء القليل في الانبوب الطويل تدريجاً، أو إنكار نجاسته رأساً.

مثلًا: إذا كان بين «النجف» و «الحائر» على مشرِّفيهما السلام أُنبوب على سطح الأرض المستوي، و كان ماؤه أقلّ من الكرّ، و لاقى النجس طرفَه الذي في «النجف» فلا يكون الماء في الطرف الآخر في الآن نجساً؛ لعدم مساعدة الارتكاز على نجاسته، أو يصير الماء في الطرف الحائريّ نجساً بعد يوم مثلًا؛ لأنّ السراية تحتاج إلى الزمان، و التقديران ممنوعان، فالسراية ممنوعة.

فحديث عدم تنجّس العالي بملاقاة السافل للنجس، إذا كان الجريان بقوّة، أو عدم نجاسة السافل كما في الفوّارة بملاقاة العالي، و عدم نجاسة ما في الإبريق بإراقة مائة على يد الكافر، أجنبيّ عن بحث السراية التي شوهدت في كلمات جملة منهم(1).

كما أنّ ذهاب الكلّ إلى طهارة العالي و السافل في الصورتين،


1- لاحظ روض الجنان: 136/ السطر 27.

ص: 23

و في مثل الإبريق خلافاً لصاحب «المناهل»(1) يحتاج إلى دعوى أنّ في هذه المواقف، يكون الماء متعدّداً عرفاً، أو يشكّ في الوحدة العرفيّة اللّازمة في الحكم بالنجاسة، و نتيجة ذلك طهارة جانب «الحائر» في الانبوب المذكور، فلاحظ و اغتنم.


1- لاحظ الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 301.

ص: 24

[مسألة 2: الماء المطلق لا يخرج بالتصعيد عن الإطلاق]

مسألة 2: الماء المطلق لا يخرج (1) بالتصعيد عن الإطلاق. نعم، لو مزج معه غيره و صعّد ربّما يصير مضافاً، كماء الورد و نحوه، كما أنّ المضاف المصعّد، قد يكون مضافاً. و المناط هو حال الاجتماع بعد التصعيد، فربّما يكون المصعّد الأجزاء المائيّة، و بعد الاجتماع يكون ماءً مطلقاً، و ربّما يكون مضافاً.

حكم الماء المصعَّد قوله مدّ ظلّه: «لا يخرج».

قد تحرّر منّا ممنوعيّة تدخّل الفقيه في تشخيص المصاديق و الصغريات، بعد كون الأمر موكولًا إلى العرف(1)؛ ضرورة أنّه ربّما يتوهّم العرف أن تشخيصه مورد للاتكاء شرعاً، فيتّبعه على خلاف ما تشخّصه أنفسهم.

فأمثال هذه المسائل و البحث حولها من اللّغو المنهيّ عنه؛ لعدم حجّية نظر الفقيه فيها، و يستتبع أحياناً إيقاعهم في خلاف ما هو المتّبع عند الفقهاء، كما هو واضح.


1- تعليقة على العروة الوثقى: 40 42.

ص: 25

[مسألة 3: إذا شكّ في مائع أنّه مطلق أو مضاف]

مسألة 3: إذا شكّ في مائع أنّه مطلق أو مضاف، فإن علم حالته السابقة يبنى عليها (1)، إلّا في بعض الفروع، كالشبهة المفهوميّة (2)، و الشكّ في بقاء الموضوع.

حكم الماء المشكوك إطلاقه قوله مدّ ظلّه: «يبنى عليها».

على المعروف بين الأصحاب؛ نظراً إلى الاستصحاب المفروغ عن اعتباره في الشبهة الموضوعيّة الناشئة عن الجهات الخارجيّة(1).

و يتوجّه إليه: أنّه بعد كون الإطلاق و الإضافة، منتزعين عن الأوصاف النوعيّة، و أنّ الماء المطلق هو الماء، و غيرَه ليس بماء، لا معنى لجريان الاستصحاب؛ للشكّ في الموضوع، و في اتحاد القضيّتين؛ ضرورة أنّه لا يجوز أن يقال: «هذا» مشيراً إلى ما في الخارج «كان ماءً» لاحتمال كون المشار إليه مبايناً له و مضافاً؛ أي غير ماء في صورته النوعيّة، فلا تخلط.

و هكذا الأمر في استصحاب أحكامه.

قوله مدّ ظلّه: «المفهوميّة».

عدم جريانه في الشبهة الموضوعيّة الناشئة عن الشبهة المفهوميّة، مفروغ عنه، و سيمرّ عليك وجهه، بما لا تبقى فيه شبهة، إن شاء


1- مستمسك العروة الوثقى 1: 116، دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 45 46.

ص: 26

و إن لم يعلم حالته السابقة فلا يرفع (1) (حدثاً و لا خبثاً). و إذا لاقى النجاسة فإن كان قليلًا ينجس قطعاً. و إن كان كثيراً فالظاهر أنّه يحكم بطهارته (2).

اللَّه تعالى، و أمّا في المقام فالأمر واضح بالأولويّة.

و أمّا قوله مدّ ظلّه: «و الشكِّ في بقاء الموضوع» فلا مورد له إلّا في الموضوعيّة، كما عرفت.

و لو قيل: إذا كان الماء مطلقاً، ثمّ أخذنا في خلطه بالتراب تدريجاً، يقع الشكّ في بقاء إطلاقه في إحدى مراتب الخلط، فيستصحب، و يقع الشكّ في بقاء الموضوع في المرتبة الأُخرى، كما لا يبقى شكّ في المرتبة الأخيرة.

قلنا: قد عرفت أنّه لا معنى للشكّ في إطلاقه، إلّا برجوعه إلى الشكّ في أنّه ماء، فلا محلّ للاستصحاب، فلا تذهل.

قوله مدّ ظلّه: «فلا يرفع».

لا وجه لإسناد عدم الرفع إليه، نعم لا يترتّب عليه شي ء في مرحلة الإثبات، فيستصحب الحدث و الخبث.

قوله مدّ ظلّه: «يحكم بطهارته».

و قيل: بنجاسته(1)؛ نظراً إلى استصحاب العدم الأزليّ، و حيث هو غير جارٍ في مثل المقام، فأصل الطهارة سالم عن الحاكم.


1- دروس في فقه الشيعة، القسم الثاني من المجلّد الأوّل: 46 47.

ص: 27

و ربّما يتوهّم الحكم بالنجاسة؛ لأجل قاعدة المقتضي و المانع المعتبرة هنا(1)، و لكنّه بمعزل عن التحقيق.

و أمّا دعوى: عدم كفاية استصحاب عدم كونه ماءً؛ لمعارضته باستصحاب عدم كونه مضافاً، فهي قابلة للدفع بعدم الأثر للثاني، بخلاف الأوّل فتأمّل.


1- الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 292.

ص: 28

[مسألة 4: الماء المطلق بجميع أقسامه، يتنجّس فيما إذا تغيّر]

مسألة 4: الماء المطلق بجميع أقسامه، يتنجّس فيما إذا تغيّر (1) بسبب ملاقاة النجاسة أحدُ أوصافه: اللّون، و الطعم، و الرائحة.

في تنجّس الماء المطلق بالتغيّر قوله مدّ ظلّه: «تغيّر».

و هو قول من يُحفظ عنه العلم، كما في «المنتهى»(1).

و في «الجواهر»: إجماعاً محصّلًا، و منقولًا كاد يكون متواتراً(2). و تدلّ عليه قبل هذه الإجماعات: الأخبار الناهية عن التوضّي و الشرب(3).

و هي في محلّ المنع؛ للأعمّية، و لما في صحيحة الحلبيّ، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام): «في الماء الآجن يتوضّأ منه، إلّا أن تجد ماءً غيره فتنزّه منه»(4).

و في رواية أبي بصير، عنه (عليه السّلام): أنّه سئل عن الماء النقيع تبول فيه الدوابّ.

فقال: «إن تغيّر الماء فلا تتوضّأ منه، و إن لم تغيّره أبوالها فتوضّأ منه»(5).


1- منتهى المطلب 1: 20.
2- جواهر الكلام 1: 75.
3- وسائل الشيعة 1: 137 141، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3.
4- الكافي 3: 4/ 6، وسائل الشيعة 1: 138، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 2.
5- تهذيب الأحكام 1: 40/ 111، وسائل الشيعة 1: 138، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 3.

ص: 29

فاستفادة النجاسة من نفي الأحكام في غير محلّها.

بقي النبويّ المشهور المتّفق على روايته كما في «السرائر»(1) و المتواتر(2) عن الصادق (عليه السّلام)، عن آبائه (عليهم السّلام (فيكون منجبراً-: «خلق اللَّه الماء طهوراً لا ينجّسه شي ء، إلّا ما غيّر لونه، أو طعمه، أو ريحه»(3).

و قد طعن عليه في «الحدائق»(4) و نحن قد استقصينا البحث حوله في كتابنا الكبير(5).

و النتيجة: أنّه ربّما يكون بصدد أمر آخر؛ و هو أنّ الماء غير المتغيّر لا يتنجّس بشي ء؛ لما فيه من صفة الاعتصام، و أمّا إذا تغيّر في أحد أوصافه، فتسلب عنه هذه الصفة، و يصلح للتنجّس بملاقاة النجس، كما يساعده الاعتبار.

و هذا هو الظاهر منه؛ لقوله في الاستثناء: «إلّا ما غيّر لونه، أو طعمه، أو ريحه،» الظاهر في أنّه استثناء من ابتداء الكلام، فيقرأ مجهولًا؛ أي «خلق اللَّه الماء طهوراً، إلّا ما غُيِّر لونُه و ريحُه و طعمُه، فإنّه ليس طهوراً،


1- السرائر 1: 64.
2- مدعي التواتر ابن أبي عقيل، راجع جواهر الكلام 1: 76.
3- المعتبر 1: 40، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.
4- الحدائق الناضرة 1: 180.
5- تحريرات في الفقه، قسم الطهارة، المبحث الثالث، الجهة الأُولى.

ص: 30

و لا يتنجّس (1) فيما إذا تغيّر بالمجاورة، كما إذا كان قريباً من جيفة، فصار جائفاً.

نعم، إذا وقعت الجيفة خارج الماء، و وقع جزء منها فيه، و تغيّر بسبب المجموع من الداخل و الخارج، يتنجّس.

و ينجّسه النجس».

فبالجملة: الخبر أجنبيّ عمّا فهموه منه.

و دعوى انجباره فهماً بفهمهم، غير مسموعة؛ لاستنادهم قويّاً إلى القرائن الموجودة الأُخر الواصلة، فالمسألة عندي مشكلة جدّاً، و مخالفةُ الأصحاب و الإجماع أكثر إشكالًا، فالاحتياط لا يترك جدّاً.

و يؤيّد ما احتملناه، ذيل خبر زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: و قال أبو جعفر (عليه السّلام): «إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجّسه شي ء؛ تفسّخ فيه أو لم يتفسّخ، إلّا أن يجي ء له ريح تغلب على ريح الماء»(1)، فاغتنم.

قوله مدّ ظلّه: «و لا يتنجّس».

بلا خلاف(2)، و معناه أنّه إذا تغيّر ماء في أوصافه الثلاثة بالنجس المجاور، و أثّر فيه أشدّ التأثير لا ينجس، و لكنّه إذا تغيّر في إحداها و لو لم يكن من سنخ النجس يتنجّس و لو كان ضعيفاً في التغيّر، فهل ترى من


1- تهذيب الأحكام 1: 412/ 1298، وسائل الشيعة 1: 139 140، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 8.
2- جواهر الكلام 1: 82.

ص: 31

نفسك صحّة نسبته إلى الشرع؟! أم تجد أنّ المطلقات محكّمة، و الموارد الخاصّة غالبيّة، بل لو لم يكن هناك إطلاق، لا تستفاد الخصوصيّة.

نعم، بناءً على ما أبدعناه تعتبر الملاقاة؛ لأنّ الماء بالتغيّر يسلب عنه نعت الاعتصام، فتؤثّر فيه النجاسة بالملاقاة.

و بالجملة: اشتراط اللّقاء ممنوع جدّاً.

ص: 32

[مسألة 5: المعتبر تأثّر الماء بأوصاف النجاسة، لا المتنجّس]

مسألة 5: المعتبر تأثّر الماء بأوصاف النجاسة (1)، لا المتنجّس، فإذا احمرّ الماء بالبقم المتنجّس (2)، لا ينجس إذا كان كرّاً، أو جارياً، و نحوهما.

قوله مدّ ظلّه: «بأوصاف النجاسة».

لا يعتبر أزيد من التغيّر بالنجاسة و إن لم يكن من أوصافها، كما يأتي في المسألة الآتية.

نعم، يعتبر عندهم التغيّر بالنجاسة في الأوصاف الثلاثة، فالعبارتان متناقضتان.

قوله مدّ ظلّه: «لا المتنجّس».

على المعروف المشهور الذي كاد أن يكون إجماعيّاً.

و إدخال المسألة في حديث الاستقذار الطبعي(1)، ينافي تصريحهم بعدم تنجّسه في صورة تأثّره في الثقل و الوزن، فإنّه يوجب الاستقذار جدّاً.

و بالجملة: يكفي قصور الأدلّة لعدم تنجّسه، و الاستصحابُ.


1- مستمسك العروة الوثقى 1: 120.

ص: 33

[مسألة 6: المناط تغيّر أحد الأوصاف الثلاثة]

مسألة 6: المناط تغيّر أحد الأوصاف (1) الثلاثة.

قوله مدّ ظلّه: «أحد الأوصاف».

بلا خلاف، فلا تعتبر الثلاثة مجموعةً، و هو مقتضى كثير من الأخبار(1).

نعم، في الروايات صحيح حَريز بن عبد اللَّه، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) أنّه قال: «كلّما غلب الماء على ريح الجيفة، فتوضّأ من الماء و اشرب، فإذا تغيّر الماء و تغيّر الطعم، فلا توضّأ منه، و لا تشرب»(2).

و مثله خبر أبي خالد القمّاط(3).

و توهّم: أنّه إن أمكن عرفاً الجمع بينهما فهو، و إلّا فالخبران معرض عنهما، مع ما في سند الخبر الثاني.

مندفع: بعدم موهنيّة هذا الإعراض الواضح الاستناد، و سند الثاني يصحّ عندهم بحمّاد بن عيسى؛ فإنّه من أصحاب الإجماع.

نعم، الترجيح مع الطائفة الأُولى، و مجي ءُ «أو» بمعنى الواو و لو كان في الكتاب الإلهيّ لا يكفي، كما لا يخفى.


1- وسائل الشيعة 1: 137، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3.
2- تهذيب الأحكام 1: 216/ 625، وسائل الشيعة 1: 137، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 1.
3- تهذيب الأحكام 1: 40/ 112، وسائل الشيعة 1: 138، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 4.

ص: 34

بقي شي ء: و هو أنّ المشهور كفاية التغيّر باللّون(1)، و ربّما يناقش فيه بخلوّ الأخبار منه، و هو في محلّ المنع؛ لاشتمال النبويّ(2) و حديثي العلاء بن الفضيل(3) و شهاب بن عبد ربّه(4) عليه.

و المناقشةُ في النبوي بما مرّ(5)، و في الثاني بوجود محمّد بن سِنان فيه، و في الثالث من جهات كثيرة، قابلةٌ للدفع، بعد صراحة كلمات الأقدمين(6) فيه، مع مساعدة الاعتبار له.

و الإشكال العقليّ: بسبق الطعم و الريح على اللّون(7)، فلا وجه لعدّه كما في «الحدائق»(8)، أو المناقشة: بأنّ اللّون غير موجود إلّا في النهار،


1- مدارك الأحكام 1: 57، حبل المتين 106/ السطر 13، ذخيرة المعاد: 116/ السطر 37.
2- المعتبر 1: 40، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.
3- تهذيب الأحكام 1: 415/ 1311، وسائل الشيعة 1: 139، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 7.
4- بصائر الدرجات: 258، الجزء الخامس، الباب 10، الحديث 13، وسائل الشيعة 1: 161، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 11.
5- تقدّم في الصفحة: 29.
6- المقنعة: 64، المبسوط 1: 6، تذكرة الفقهاء 1: 15، المسألة 2.
7- حبل المتين: 106/ السطر 15.
8- الحدائق الناضرة 1: 181.

ص: 35

بسبب النجاسة (1) و إن كان من غير سنخ النجس، فلو اصفرّ الماء مثلًا بوقوع الدم فيه تنجّس.

دون اللّيالي، أو في حال وجود الأنوار، دون صورة فقدها؛ لأنّ الألوان من الأنوار، و لعلّ إهمال الأخبار بالنسبة إليه كثيراً؛ للإشارة إلى هذه النكتة، قابل للدفع بحسب الفهم العرفيّ و المسامحة العقلائيّة، فتأمّل.

قوله مدّ ظلّه: «بسبب النجاسة».

للإطلاق المعتضد بالاعتبار؛ بناءً على القول: بنجاسة الماء المتغيّر.

و توهّم الانصراف لأجل قلّة الوجود و الاتفاق، أو لأجل انس الذهن بالمسانخة بين العلّة و المعلول، لا يرجع إلى محصّل.

ص: 36

[مسألة 7: لو وقع في الماء المعتصم، متنجّس حامل لوصف النجس]

مسألة 7: لو وقع في الماء المعتصم، متنجّس حامل لوصف النجس بوقوعه فيه، فغيّره بوصف النجس، لم يتنجّس على الأقوى (1)، كما إذا وقعت ميتة في ماء، فغيّرت ريحه، ثمّ أُخرجت منه، و صبّ ذلك الماء في كرّ، فغيّر ريحه. نعم، لو حمل المتنجّس أجزاء النجس، فتغيّر المعتصم بها، تنجّس.

قوله مدّ ظلّه: «لم يتنجّس على الأقوى».

خلافاً لجماعة، و منشأ الاختلاف اختلاف فهمهم من النبويّ أوّلًا، و اختلاف نظرهم في مناسبات الحكم و الموضوع ثانياً؛ ضرورة أنّ المراد من كلمة «شي ء» إن كان نجس العين، فالتنجّس لا يورث نجاسة الماء بالتغيّر.

و إن كان المراد أعمّ كما هو قضيّة النكرة في سياق النفي هنا و في أخبار الكرّ(1) فلازمه نجاسة الكرّ المعتصم.

و الذي يسهّل الخطب: أنّ مقتضى النبويّ، نجاسة الماء المتغيّر بعنوانه، و مقتضى الأخبار أنّ الماء المتغيّر بالنجس، من النجاسات الذاتيّة، كنجاسة بدن الميّت، و العصير على القول به، و ليس هو من «المتنجّس» الاصطلاحيّ.

فلو كان المراد أخصّ، تصير النتيجة أيضاً: نجاسة الماء المذكور، فلو وقع في الماء المعتصم مقدارٌ من الماء المتغيّر، فهو كوقوع البول فيه.


1- وسائل الشيعة 1: 158 164، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9.

ص: 37

نعم، بناءً على ما احتملناه في النبويّ، يسقط البحث كما مرّ، هذا فيما إذا كان المتنجّس ماءً متغيّراً.

و أما إذا وقع في الماء المعتصم، جامدٌ متنجّس فغيّر الماء، فالنزاع المذكور يأتي فيه.

و ما هو الحقّ: أنّ الخصوصيّة ملغاة من موارد الأخبار الخاصّة، فلو كان حجر كبير فيه رائحة الميتة و غيرها، فوقع في الماء، فغيّره إلى ريح الميتة، ينجس على الأظهر.

و من الغريب التفصيل بين حمل الأجزاء و غيره؛ فإنّ العرف غير مساعد، و العقل لا يفرّق بين الفروض؛ في كون التغيّر مستنداً إلى الأجزاء، فهنا اتفق مقتضى العقل و العرف، و إن خالفهما جماعة آخرون.

و لا يعتبر أن يكون الحامل متنجّساً، كما يظهر من قوله مدّ ظلّه-: «لو حمل المتنجّس أجزاء النجس ..» إلى آخره؛ فإنّ الميزان حمل الأجزاء، سواء كان الحامل متنجّساً، أو غير متنجّس.

ص: 38

[مسألة 8: الماء الجاري]

مسألة 8: الماء الجاري- و هو النابع (1) حكم الماء الجاري قوله مدّ ظلّه: «و هو النابع».

على المشهور المدّعى عليه الإجماعات.

و في «المدارك»(1) و «الدلائل»(2): إجماع الأصحاب على أنّ الجاري لا عن نبع، من أقسام الراكد.

و عن ابن أبي عقيل: نفي اعتبار النبع(3).

و في ظاهر المنسوب إلى المصنّف مدّ ظلّه-: كفاية تبدّل الأبخرة إلى الماء في صدق «الجاري»(4) و لا حاجة إلى وجود المخازن الأرضيّة في صدقه.

فلو كان النبع معتبراً لكفى كونه من المخازن الأرضيّة، و ليكفِ كونه مستنداً إلى تسبيب البشر، كما هو جائز في هذه الأزمنة.

فبالجملة: لا دليل من اللّغة و العرف، على دخالة النبع في صدقه،


1- مدارك الأحكام 1: 28.
2- لاحظ مفتاح الكرامة 1: 61.
3- جامع المقاصد 1: 110، مستمسك العروة الوثقى 1: 131.
4- الطهارة) تقريرات الإمام الخميني( قدّس سرّه)( اللنكراني: 4/ السطر 11 و 12) مخطوط).

ص: 39

السائل (1) و توهّم كشف ذلك بالإجماع(1)، في غير محلّه.

نعم، دعوى انصرافه إلى ذلك في محيط الأخبار و لا سيّما في تلك الأمصار و الأعصار غير بعيدة، إلّا أنّها غير مستقرّة؛ لكفاية المخازن و المتصيّر تحت الأرض في صدقه، إذا اتفق سريانه منها إلى الخارج.

فبالجملة: لا بدّ من وجود مادّة تكون مبدءً لوجوده، و لو كانت هي الثلوج و البَرَد، و إلّا يلزم عدم كون الفرات و دجلة و الكارون من المياه الجارية، و تفصيله في كتابنا الكبير(2).

قوله مدّ ظلّه: «السائل».

على المعروف بينهم(3)، خلافاً لما يظهر من «المسالك»(4).

و الذي هو الحقّ: أنّ السيلان معتبر، لا بمعنى الجريان على وجه الأرض، فلو كانت فوّارة نابعة من الأرض إلى السماء، و لكنّها لا تجري عليها، بل ترجع إلى نفس المخزن فهي من الجاري، كما أنّه لا يعتبر السريان و السيلان دائماً في صدقه، بل تكفي الشأنيّة.


1- مدارك الأحكام 1: 28.
2- تحريرات في الفقه، كتاب الطهارة، المقصد الأوّل، المبحث الرابع، حول الماء الجاري.
3- لاحظ مستمسك العروة الوثقى 1: 131.
4- مسالك الأفهام 1: 12.

ص: 40

لا ينجس بملاقاة النجس، كثيراً كان أو قليلًا (1).

ثمّ إنّ الدوام غير بعيد اعتباره في الجملة، فلو حدث النابع السائل ساعة و انقطع، فلا يكون من ذاك الجاري.

قوله مدّ ظلّه: «أو قليلًا».

بلا خلاف يعتدّ به، و عليه حكاية الإجماعات المنقولة، و الشهرات المحقّقة(1).

و قد خالفهم السيّد في «الجمل»(2) و العلّامة في أكثر كتبه(3) إلّا فيما يظهر من «الإرشاد»(4) و ثاني الشهيدين في كتبه الثلاثة(5).

و توهّم تماميّة الإجماع التعبّدي في المسألة(6)، غير تامّ، لأنّ المستند أخبارها، مع إهماله في كلام جمع من القدماء(7)، و لو صرّح به


1- المعتبر 1: 41، منتهى المطلب 1: 27، جواهر الكلام 1: 85.
2- رسائل الشريف المرتضى 3: 22.
3- تذكرة الفقهاء 1: 17، قواعد الأحكام 1: 4/ السطر 18، منتهى المطلب 1: 27، نهاية الأحكام 1: 228.
4- إرشاد الأذهان 1: 235.
5- روض الجنان: 134/ السطر 25، الروضة البهيّة 1: 13/ السطر 8، مسالك الأفهام 1: 12.
6- مدارك الأحكام 1: 30، جواهر الكلام 1: 85.
7- المقنعة: 64، المراسم: 37، النهاية ضمن الجوامع الفقهيّة: 263/ السطر 16.

ص: 41

ابن البرّاج(1) و بعض أقرانه(2).

و التمسّك بإطلاق النبويّ، في غير محلّه؛ لأنّ المفروض فيه ليس هو الماء القليل و لو قطرةً، فإذا كان المفروض فيه الكثرة فهو مجمل من تلك الجهة، بل الظاهر من المستثنى هو الكثير من الماء.

و مثله مضمرة سَماعة قال: سألته عن الرجل يمرّ بالميتة في الماء.

قال: «يتوضّأ من الناحية التي ليس فيها الميتة»(3).

و أمّا التمسّك(4) بما في الباب الخامس من «الوسائل»(5) فهو في غير محلّه؛ لأنّها أخبار ناظرة إلى نفي البأس عن البول فيه تكليفاً، و فيه معتبر ابن مِهران قال: سألته عن الماء الجاري يبال فيه.

قال: «لا بأس به»(6).


1- المهذّب 1: 20.
2- الوسيلة: 72، الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 489/ السطر 28.
3- تهذيب الأحكام 1: 408/ 1285، وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 5، الحديث 5.
4- مدارك الأحكام 1: 32.
5- وسائل الشيعة 1: 143 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 5.
6- تهذيب الأحكام 1: 34/ 89، وسائل الشيعة 1: 143، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 5، الحديث 4.

ص: 42

فإنّه ظاهر في السؤال عن الماء الكذائيّ.

إلّا أنّ الإطلاق هنا و في سائر الأخبار المستدلّ بها، غير واضح؛ لانصرافها إلى المياه الجارية البالغة كرّاً، و قليلٌ وجود القليل منها جدّاً.

و من هنا يظهر عدم تماميّة الاستدلال بما ورد في ماء الحمّام(1)؛ بتوهّم أنّ الكرّية لو كانت شرطاً في الجاري، لما كان وجه للتنزيل(2)؛ و أنّ ماء الحمّام «بمنزلة الماء الجاري» كما في معتبر ابن مسلم(3)، أو «أنّ ماء الحمّام كماء النهر؛ يطهّر بعضه بعضاً» كما في رواية ابن أبي يعفور(4).

و أنت خبير بجواز أن يقال: «ماء الحمّام بمنزلة الكرّ».

نعم، لا تبعد استفادة كفاية الجريان من قوله (عليه السّلام) في رواية بكر بن حبيب: «إذا كانت له مادّة»(5) و قولِه (عليه السّلام): في موثّقة حنان بن سَدير قال: «أ ليس هو جارٍ؟».


1- وسائل الشيعة 1: 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7.
2- جواهر الكلام 1: 86.
3- لم نجد هذا التعبير في روايات محمّد بن مسلم، نعم قد ورد في تهذيب الأحكام 1: 378/ 1170 عن داود بن سرحان.
4- الكافي 3: 14/ 1، وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 7.
5- الكافي 3: 14/ 2، وسائل الشيعة 1: 149، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 4.

ص: 43

قلت: بلى.

قال: «لا بأس»(1).

لأنّ المتفاهم منه، أنّ المناط كون الماء ذا مادّة، و لا يعتبر شي ء حتّى الجريانُ؛ لأنّه باعتبار كونه ذا مادّة، كما هو المستفاد من معتبر ابن بَزيع(2).

اللّهمّ إلّا أن يقال: بما مرّ من الإشكال في الإطلاق(3)؛ لعدم الحاجة إلى ذكر القيد، كما لا يخفى.

نعم، يبقى حديث لغويّة التعليل بالمادّة، لو كان الشرط كرّية الماء(4)، و هذا متين جدّاً.

و كون النسبة بين أدلّة اعتبار الكرّية و هذه الأخبار، عموماً من وجه، لا يضرّ؛ لما سيمرّ عليك من عدم ثبوت المفهوم لأخبار الكرّ، و إلّا فالترجيح بأقوائيّة ظهور التعليل(5)، في غير محلّه؛ لما تحرّر من أنّ


1- الكافي 3: 14/ 3، وسائل الشيعة 1: 213، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 8.
2- تهذيب الأحكام 1: 234/ 676، وسائل الشيعة 1: 172، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 7.
3- تقدّم في الصفحة 41.
4- جواهر الكلام 1: 86.
5- مستمسك العروة الوثقى 1: 134.

ص: 44

و يلحق به النابع الواقف (1)، كبعض العيون، و كذلك البئر على الأقوى (2)، الأظهريّة، ممّا لا أساس لها في باب الترجيحات.

كما أنّ ما اشتهر: من ترجيح أخبار الجاري؛ للزوم اللّغوية لو قدّمت روايات الكرّ، و لا عكس(1)، غير وجيه عندنا؛ ضرورة أنّ الجمع بين الأخبار ليس واجباً، حتّى يلزم الجمع بالوجه المزبور، فإذا كانت متعارضةً فرضاً، فالترجيح مع الأخبار الناطقة بعدم اعتبار الشرطيّة، كما هو واضح.

و من هنا يظهر وجه تقييد الإطلاقات المستدلّ بها لنجاسة كلّ ماء إلّا الكثير.

و ربّما يعارض بينها و بين الإطلاق النافي لنجاسة كلّ ماء إلّا بالتغيّر، فيرجع إلى الطائفة الثالثة، الموجبة لانقلاب نسبة التباين بين الأُوليين، إلى الإطلاق و التقييد، و تصير النتيجة: كفاية كون الماء ذا مادّة.

قوله مدّ ظلّه: «النابع الواقف».

قد عرفت: أنّه من الجاري موضوعاً، و تبيّن أنّ المناط كونه ذا مادّة.

قوله مدّ ظلّه: «البئر على الأقوى».

وفاقاً لما حكى أبو يعلى الجعفريّ عن ابن الغضائريّ، و للعمّاني،


1- جواهر الكلام 1: 86.

ص: 45

و لمحمّد بن الجهم(1)، بل هو مذهب الشيخ كما في «المختلف»(2) و ربّما يستظهر من «الهداية»(3) و «التهذيب»(4).

فما عن درس عميد الدين كما في «غاية المراد»(5): من أنّ القول بالطهارة، إبداع شيخ العلّامة ابن الجهم، و تبعه العلّامة في نوع كتبه(6)، في غير محلّه.

و ما يظهر من منفردات السيّد (رحمه اللَّه (في «الانتصار»(7) في غير محلّه أيضاً، فقد حكي عن «أمالي الصدوق»(8): «أنّه من دين الإماميّة، و عليه فتوى الفقهاء؛ من زمن النبيّ (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم)، إلى يومنا هذا»(9).

و في «المنتهى» نقل القول بالنجاسة عن جماعة من الصحابة


1- لاحظ مفتاح الكرامة 1: 79/ السطر 14.
2- مختلف الشيعة 1: 187.
3- الهداية ضمن الجوامع الفقهيّة: 48/ السطر 18.
4- تهذيب الأحكام 1: 232.
5- غاية المراد 1: 71.
6- منتهى المطلب 1: 56 و 68، تذكرة الفقهاء 1: 27، مختلف الشيعة 1: 187.
7- الانتصار: 11.
8- الأمالي: 514.
9- مفتاح الكرامة 1: 78/ السطر 15.

ص: 46

و التابعين(1).

و يظهر من «الخلاف» ذهاب أبي حنيفة إلى نجاسته بلغ ما بلغ(2).

و عن موضع من «المعتبر» نسبة النجاسة إلى الجمهور(3).

فتحصّل: أنّ الإجماعات المدّعاة على الطهارة، و الشهرات المحكيّة، ليست تعبّدية، و لا تامّة؛ لاختلاف الأخبار، و اضطراب الآراء، فالمعتمد عليه هو النصوص.

و تحصّل: أنّ العامّة تقول بالنجاسة، فأخبار النجاسة قابلة للحمل على التقيّة.

و من الواضح: أنّ مقتضى الإطلاقات و الأُصول، هي طهارة ماء البئر بعد كونه ماء ذا مادّة، فالقول بالنجاسة يحتاج إلى التأييد بالأخبار، و هي- مع تشتّتها متناً و سنداً، و قابليّة بعضها دلالة، و تماميّته سنداً لا تقاوم تلك المآثير الناهضة على طهارته بالخصوص، و على تقدير المعارضة تكون أخبار الطهارة مخالفة للعامّة.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّها خلاف الشهرة، و هي و إن لم تكن بالغة إلى


1- منتهى المطلب 1: 57.
2- الخلاف 1: 192.
3- المعتبر 1: 55.

ص: 47

فلا ينجس المياه المزبورة إلّا بالتغيّر. (1) حدّ إحداث الوهن فيها كما هو واضح، و لكنّها قابلة لترجيحها على معارضها، فيقع التعارض بين المرجّحات، و يكون المرجع تلك الإطلاقات.

و توهّم: أنّ الترجيح مع الشهرة عند المعارضة، في غير محلّه، مع أنّ أساس المرجّحات بلا أصل، كما تحرّر في الأُصول.

و أمّا توهّم: أنّ المسألة من صغريات انقلاب النسبة، و تصير النتيجة: نجاسة ماء البئر، فهو غير تامّ؛ لأنّه ليس من الجمع العرفيّ، فراجع.

قوله مدّ ظلّه: «إلّا بالتغيّر».

على ما عرفت، و هنا إشكال آخر زائداً على إشكال نجاسة مطلق المياه بالتغيّر، و هو: أنّ الأخبار الناطقة فرضاً بنجاسة الماء المتغيّر، موضوعها «الماء المطلق» فتعارضها الأخبار الناطقة بعدم تنجّس الماء الجاري، و أنّه «يطهّر بعضه بعضاً»(1) و هو مقتضى الإطلاق الناطق بعدم البأس بالماء الجاري الذي يبال فيه(2).

فالنسبة بين الطائفتين عموم من وجه، و تصير النتيجة: عدم


1- الكافي 3: 14/ 1، وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 7.
2- وسائل الشيعة 1: 143، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 5، الحديث 1 4 و 6.

ص: 48

نجاسة الجاري بالتغيّر، بخلاف بعض المياه الأُخر الوارد في خصوصه تنجّسه بالتغيّر(1).

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ الأدلّة الناطقة بنجاسة المتغيّر من المياه، ناظرة إلى المياه الخاصّة، كالنبويّ(2) و نحوه(3).

أو يقال: إطلاق عدم تنجّس الجاري و الواقف، ممنوع.

و بالجملة: في خصوص البئر نقول بنجاسته بالتغيّر؛ لمعتبر ابن بَزيع(4)، إلّا على الإشكال العامّ الذي مرّ تحريره(5).


1- وسائل الشيعة 1: 170، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14.
2- وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.
3- وسائل الشيعة 1: 137، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3.
4- الكافي 3: 5/ 2، وسائل الشيعة 1: 170، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 1.
5- تقدّم في الصفحة 28 29.

ص: 49

[مسألة 9: الراكد المتّصل بالجاري حكمه حكم الجاري]

مسألة 9: الراكد المتّصل بالجاري حكمه حكم الجاري (1)، فالغدير المتّصل بالنهر بساقية و نحوها، كالنهر.

و كذا أطراف النهر، و إن كان ماؤها واقفاً.

قوله مدّ ظلّه: «حكم الجاري».

يظهر منه و من جمع آخر: أنّه ليس من الجاري موضوعاً(1)، فعليه يُشكل؛ لأنّه ليس من الكرّ، و لا من ذي مادّة، و لا البئر.

و توهّم: أنّه ذو مادّة(2)، فاسد؛ لأنّ المراد منها ما لا ينطبق على مثله، أو يكون مورد انصراف دليلها؛ ضرورة أنّه متّحد مع المادّة سطحاً و تشخّصاً، فإذا كان قليلًا ينفعل.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّه جارٍ عرفاً؛ لاتحاده مع ما في النهر، و لا يعتبر في جريان الماء الجاري، كونُ جميع أجزائه جارياً، فالأقرب أنّه جارٍ موضوعاً.

نعم، إذا كان اتصاله بالنهر رقيقاً، فالحكم بعدم تنجّسه مشكل؛ للزوم تعدّد ما في الساقية مع ما في النهر، فتدبّر.


1- العروة الوثقى 1: 30، فصل الماء الجاري، المسألة 6.
2- مستمسك العروة الوثقى 1: 139.

ص: 50

[مسألة 10: يطهر الجاري و ما في حكمه]

مسألة 10: يطهر الجاري (1) و ما في حكمه- إذا تنجّس بالتغيّر إذا زال تغيّره و لو من قِبَل نفسه، و امتزج بالمعتصم.

قوله مدّ ظلّه: «يطهر الجاري».

بالاتفاق في صورة الامتزاج؛ لأنّ هذا هو القدر المتيقّن، و إنّما الخلاف في الراكد و في الجاري إذا لم يمتزجا.

و هذا هو مقتضى ما ورد في خصوصه: «إنّ ماء الحمّام كماء النهر؛ يطهّر بعضه بعضاً»(1) فإنّ مورده ما إذا تغيّر ثمّ زال التغيّر، فإنّه يُطهِّر بعضه بعضاً؛ لغلبته عليه، و لامتزاجه به عادةً و غالباً.

و سيظهر ما عندنا في المسألة الآتية(2) من البحوث المختلفة في طهارة الماء المتنجّس بالتغيّر، و في بحث طهارة القليل المتنجّس إن شاء اللَّه تعالى(3).

و الّذي نشير إليه هنا: هو أنّ الظّاهر من أخبار تنجّس الماء المتغيّر، هو أنّ الماء ينجس به، فإن قلنا: بأنّ النجس هو العنوان ك «الكافر» فنفس الزوال كافٍ، و لا حاجة إلى الاتصال، كما نسب(4) إلى جمع من المخالفين،


1- الكافي 3: 14/ 1، وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 7.
2- يأتي في الصفحة 60.
3- يأتي في الصفحة 65.
4- منتهى المطلب 1: 64، جواهر الكلام 1: 166.

ص: 51

كالشافعيّ، و أحمد، و المؤالفين كابن سعيد(1)، و الشهيد(2)، بل و العلّامة في بعض كتبه ك «النهاية»(3).

و إن قلنا: بأنّ الماء ينجس بالتغيّر، و لا تزول بزواله، فيصير في الاعتبار من الأعيان النجسة، و لا طريق للعقلاء في تنظيف هذا الماء بالامتزاج، و لا بالاتصال، بل هو كالجامد، إلّا أنّه لا يقبل التطهير إلّا بالاستهلاك.

و هو ليس من التطهير المطلوب؛ لأنّ الكرّ من البول يطهر بالاستهلاك أيضاً، فعلى هذا لا بدّ من قيام دليل شرعيّ صريح في هذا المعنى الّذي هو على خلاف مرتكز القوم و العقلاء.

و يؤيّد ذلك النبويّ(4) و العلويّ(5): أنّ «الماء يطهِّر و لا يطهَّر» لأنّه بالاستهلاك ليس ماءً.


1- الجامع للشرائع: 18.
2- الروضة البهيّة 1: 13/ السطر 6.
3- نهاية الإحكام 1: 258.
4- الكافي 3: 1/ 1، وسائل الشيعة 1: 134، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 6.
5- المحاسن: 570/ 4، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 7.

ص: 52

و أمّا صحيح ابن بَزيع(1)، فمع ما فيه من الشبهات، لا يدلّ على كفاية الاتصال؛ لأنّ النزح يلازم الامتزاج، و لا على كفاية الامتزاج؛ لأنّ ذهاب الريح و عود الطيب، ربّما لا يكون إلّا بالاستهلاك العرفيّ، فإطلاقه ممنوع جدّاً، و النتيجة حينئذٍ هو الأخذ بالقدر المتيقّن؛ و هو الاستهلاك.

و لعمري، إنّ المتغيّر يطهر بزوال تغيّره، و الصحيح المزبور ظاهر عندنا في كون التعليل الأخير، راجعاً إلى الصدر؛ عند من يعرف العربيّة، و يأنس بأُسلوب كلام الأديب الأريب، فيكون معتبر ابن بزيع دليلًا على كفاية ذهاب الريح و عود الطيب، و لا يثبت الإجماع التعبّدي كما أُشير إليه(2)، فتدبّر.


1- تهذيب الأحكام 1: 234/ 676، وسائل الشيعة 1: 172، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 7.
2- تقّدم في الصفحة 40.

ص: 53

[مسألة 11: الراكد بلا مادّة ينجس بملاقاة النجاسة]

مسألة 11: الراكد بلا مادّة ينجس (1) بملاقاة النجاسة؛ إذا كان دون الكرّ، في الماء الراكد قوله مدّ ظلّه: «ينجس».

كان المعروف بحسب التأريخ، انفعال القليل من قديم الأيّام، فعن ابن عبّاس، و ابن عمر، و أبي هريرة، و سعيد بن جبير، و مجاهد، و أحمد، و إسحاق، و أبي عُبيدة، و أبي ثور، اعتبار القلّتين(1)، فما في «مفتاح الكرامة»: «أنّ الحكم بالطهارة مشهور بينهم»(2) غير واضح.

و قد تبعهم أبو حنيفة، إلّا أنّه قال: «الماء القليل الّذي يتحرّك أحد جانبيه بملاقاة الجانب الآخر ينجس»(3).

و قد خالفهم مالك، و البصريّ، و النَّخَعي، و داود(4)، و هم الأقدم على المذاهب الأربعة.

فالمسألة كانت معنونة، و المشهور بين الأوّلين هي النجاسة، فما عن الكاشانيّ: «من أنّ الطهارة كانت مفروغاً عنها، و المسألة حديثة


1- لاحظ الخلاف 1: 191.
2- مفتاح الكرامة 1: 74/ السطر 3.
3- لاحظ المجموع 1: 113.
4- المجموع 1: 113.

ص: 54

متأخّرة»(1) في غير محلّه.

فعليه لا يجوز صدور الأخبار تقيّة لو كانت تدلّ على الطهارة، و لا سيّما مع اضطراب رأي الشافعيّ في المسألة(2)، و قيل: «المعروف منه هي النجاسة»(3).

ثمّ، إنّ المُجمع عليه بين أصحابنا و القول المشهور من السلف: هي النجاسة أيضاً، و عليه الإجماعات البالغة إلى الثلاثين أو الأكثر(4).

نعم، نسب الخلاف إلى العمّاني(5)، و القاضي أبي حنيفة الشيعيّ(6)، بل و الكلينيّ(7)، و الصدوق(8)، و لكنّه غير تامّ، و ظاهر الأخير أنّه من المفصّلين(9)، و قيل: «أنّ الكلينيّ ذهب إلى تنجّس القليل مطلقاً».

إلّا أنّ الشأن عدم تماميّة الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم، أو


1- الوافي 6: 20.
2- المغني 1: 24 و 25.
3- مقابس الأنوار: 67/ السطر 14.
4- لاحظ مفتاح الكرامة 1: 72، مهذّب الأحكام 1: 168.
5- مختلف الشيعة 1: 176، تذكرة الفقهاء 1: 22.
6- دعائم الإسلام 1: 111 و 112.
7- لاحظ مقابس الأنوار: 66/ السطر 22.
8- لاحظ مقابس الأنوار: 66/ السطر 26.
9- الهداية ضمن الجوامع الفقهيّة: 48/ السطر 12.

ص: 55

النسبة غير الواصلة إلينا، فإنّه بعيد بعد وجود الأخبار الناطقة بالنجاسة، حتّى حكي عن «المعالم» و المجلسيّ و البهبهانيّ تواترها(1).

و عن «الرياض»: «جمع منها بعض الأصحاب مائتي حديث»(2).

و عن بعضهم: «أنّها تبلغ ثلاثمائة أو أكثر»(3).

و عليه تكون الأخبار الأُخر الناطقة بالطهارة فرضاً و إن كانت معارضة معها، إلّا أنّ في المسألة يتقوّى إعراض المشهور عنها؛ لاحتمال كونها صادرة أحياناً تقيّةً.

و لو كان التعارض مستقرّاً، فالأخذ بالمشهور و هي الطائفة الاولى متعيّن؛ فإنّه يتعاضد الشهرة الفتوائيّة بالشهرة الروائيّة، و يكفي للنجاسة مضافاً إلى مساعدة الاعتبار و النظافة الإسلاميّة اغتراس الأذهان الإسلاميّة و المتشرّعة.

و قد مضى: أنّ القول بانقلاب النسبة بين المقيّدين المتعارضين مع العامّ الفوقانيّ؛ بالجمع العقلائيّ بين العامّ الأوّل و هي طهارة المياه، و عدم تنجّسها و أخبار النجاسة بالتقييد، ثمّ الجمع بينه و بين الطائفة


1- لاحظ مستمسك العروة الوثقى 1: 141.
2- رياض المسائل 1: 144.
3- مستمسك العروة الوثقى 1: 142.

ص: 56

الثانية، ليس من الجمع العقلائيّ، و إلّا فهو هنا يورث نجاسة القليل أيضاً.

ثمّ إنّ كثيراً من الأخبار المتمسّك بها للطهارة، غير مرتبطة بالمسألة؛ لأنّ الكلام حول انفعال الماء القليل، و أمّا حدّ القلّة فهو بحث آخر، فالرواية الناطقة بعدم تنجّس ماء الراوية و أشباهها(1)، ليست من تلك الطائفة؛ لجواز القول: بأنّ حدّ القليل ينطبق على الراوية و أشباهها، كما يأتي تحقيقه(2)، كما أنّ المخالفين في حدود الكرّ، كلّهم من القائلين: بنجاسة القليل، و ذاهبون إلى تقسيم الماء إلى الحدّين: القلّة، و ما يزيد عليها.

و غير خفيّ: أنّه بعد التدبّر في أخبار المسألة، لا يمكن أن يجعل الوثوق بدلالة طائفة معتبرة على الطهارة إنصافاً، و لا يجوز الاستناد في مثل هذه المسألة إلى رواية و لو كانت صحيحة و دالّة كما لا يخفى، و إذا زادت عليها زاد وهناً، فاغتنم.


1- تهذيب الأحكام 1: 412/ 1298، وسائل الشيعة 1: 139، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 8.
2- يأتي في الصفحة 66 69.

ص: 57

سواء كان وارداً عليها أو موروداً (1). و يطهر بالامتزاج بماءٍ معتصم، كالجاري و الكرّ و ماء المطر.

قوله مدّ ظلّه: «موروداً».

قال السيّد في «الناصريّات» بالتفصيل المذكور، قائلًا بعد العنوان:

«لا أعرف فيها نصّاً لأصحابنا، و لا قولًا صريحاً، و الشافعيّ يفرّق بين ورود الماء على النجاسة، و ورودها عليه، فيعتبر القلّتين في ورود النجاسة على الماء، و لا يعتبر في ورود الماء على النجاسة، و خالفه سائر الفقهاء في هذه المسألة، و يقوى في نفسي عاجلًا إلى أن يقع التأمّل بذلك، صحّةُ ما ذهب إليه الشافعيّ و أبو حنيفة»(1) انتهى.

و حكي(2) موافقة الحلّي له، و قال في ذيل المسألة: «إنّه الموافق لأصل المذهب و فتاوى الأصحاب»(3) انتهى.

و أنت خبير: بأنّه لا يخفى على السيّد (رحمه اللَّه)، ما هو من فتاوى الأصحاب كما في كلامه، و الأمر سهل.

و في المسألة بحسب التصوّر احتمالات، إلّا أنّ الأظهر عندي أنّ مقصود الباحثين السالفين، ليس ما يرتبط بمسألة الغُسالة، أو كيفيّة


1- لاحظ الناصريّات، ضمن الجوامع الفقهيّة: 215.
2- مستمسك العروة الوثقى 1: 149.
3- السرائر 1: 181.

ص: 58

و الأقوى عدم الاكتفاء بالاتصال (1) بلا امتزاج.

تطهير المتنجّسات، بل المقصود هو أنّه لو مرّ القليل على عين النجس- لا النجس على القليل فهل ينجس؛ نظراً إلى أنّ أخبار المسألة كلّها حول النجاسة الواقعة في الماء، أو ما يشبه ذلك؟

و أمّا في صورة العكس، فقصور الأدلّة الخاصّة، يكفي لكون الأصل أو المطلقات مرجعاً عند الشكّ، و ليس المنظور ورود الماء على النجس، فبقي النجس في الماء، فإنّه قول قبيح صدوره من العاقل.

و بالجملة: مسألة طهارة الغُسالة أمر مربوط بتطهير المتنجّس، و مسألتنا هذه غسالة النجس؛ أي الماء المارّ عليه، من غير كون النظر إلى اختلاف السطوح، و العالي و الداني، فإنّه أيضاً بحث آخر.

و الّذي يظهر: أنّه إذا كانت الغسالة نجسة، فهو أولى به، و أمّا إذا كانت طاهرة، فالقول: بنجاسة الماء المارّ على النجس المنفكّ عنه، يكون تنجّسه مستفاداً من أدلّة تنجّس الجامد بالرطوبة(1)، فإنّه أولى بذلك، كما لا يخفى.

قوله مدّ ظلّه: «بالاتصال».

خلافاً لطائفة من الإجماعات المحكيّة و الشهرات المحقّقة(2)


1- وسائل الشيعة 3: 441، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 26.
2- مقابس الأنوار: 82/ السطر 12 و 33، الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 138.

ص: 59

إلى عصر «المعتبر» و قيل: «هو أوّل من اعتبر فيه الامتزاج»(1) كما نحن أوّل من اعتبر الاستهلاك.

و يجوز منع الإجماع الشهرة؛ حيث يظهر من متون «المبسوط»(2) و «السرائر»(3) و «الوسيلة»(4) اعتبار الزائد على الاتصال؛ لقولهم بتكاثر الماء الوارد و تدافعه، فعليه يكون المرجع القواعد الموجودة، و هي تقتضي نجاسته إلى أن يحرز مزيلها.

و ما يستدلّ به(5) لكفاية الاتصال من إطلاق معتبر ابن بَزيع(6) غير تامّ؛ ضرورة أنّ المتفاهم من التعليل أنّه علّة لقوله (عليه السّلام): «ماء البئر واسع لا يفسده شي ء» و سائرُ الجمل من تبعات هذه المسألة.

أو يكون قوله (عليه السّلام): «لأنّ له مادّة» علّة لما يحصل من النزح؛ و هي طهارة الماء، فلا بدّ من النظر إلى دخالة النزح، و هي ممنوعة قطعاً بما هو هو.


1- لاحظ الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 138.
2- المبسوط 1: 7.
3- السرائر 1: 63.
4- الوسيلة: 73.
5- الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 145، مستمسك العروة الوثقى 1: 125.
6- تهذيب الأحكام 1: 234/ 676، وسائل الشيعة 1: 172، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 7.

ص: 60

نعم، لمكان الملازمة الخارجيّة بين النزح و الامتزاج أو الاستهلاك، لا يبقى محلّ للإطلاق.

و أما كفاية الامتزاج، فهي ممنوعة عندنا؛ لأنّ الظاهر من مورد الخبر، كون البئر باقٍ فيه الماء بعد النزح، لقوله (عليه السّلام): «حتّى يذهب الريح و يطيب طعمه» فعليه تكون من الآبار الّتي يكثر فيها الماء، و يحصل به الاستهلاك العرفيّ؛ بحيث لا يبقى من الماء الأوّل إلّا شي ء قليل فانٍ في جنب الماء الوارد الباقي، فإطلاقه لكفاية الامتزاج أيضاً ممنوع.

و يؤيّد ما سلكناه: أنّ الماء المتنجّس كالجامد في تطهيره، فكما لا يكفي تطهير جانب من الجامد عن الجانب الآخر، كذلك الماء.

نعم، الماء المتغيّر يطهر على الأشبه بزوال الوصف كما مرّ(1)، فليتدبّر جيّداً.


1- تقدّم في الصفحة 52.

ص: 61

[مسألة 12: إذا كان الماء قليلًا، و شكّ في أنّ له مادّة أم لا]

مسألة 12: إذا كان الماء قليلًا، و شكّ في أنّ له مادّة أم لا، فإن كان ذا مادّة و شكّ في انقطاعها، يبني على الحالة (1) السابقة الأُولى، قوله مدّ ظلّه: «يبني على الحالة ..».

نظراً إلى استصحاب الكون الرابط؛ و هو أنّه كان ذا مادّة، و الآن كذلك.

و فيه نظر؛ لأنّ ما هو موضوع الاعتصام و عدم التنجّس بالملاقاة، هو الماء، و العلّة الشرعيّة لا ترجع إلى قيد الموضوع في الأحكام الإلهيّة، فاستصحاب كونه ذا مادّة، لا أثر له إلّا على القول بحجيّة الأصل المثبت.

و بالجملة: الخمر لا يقيّد بالإسكار في الموضوع المعروض للتحريم، فما في كلمات الكلّ هنا خالٍ عن التحصيل، و ليس في الأدلّة ما يفي بأنّ الموضوع هو الماء ذو المادّة.

و هناك صور حول الماء على أنواعها، مثل كون الجريان و المادّة معاً، موضوعاً للحكم، و هكذا ..

و أمّا إذا كانت حالته السابقة عدمَ المادّة، فاستصحاب سلب العلّة لنفي الحكم، ممنوع جريانه، و هو ليس من قبيل استصحاب عدم الموضوع لعدم الحكم، و لا يكون الموضوع أيضاً مقيّداً، كما أُشير إليه.

و أمّا استصحاب المطهّرية و العاصميّة التنجيزيّ، أو بعض الاستصحابات التعليقيّة، فهي و إن كانت سليمة من الإشكال المذكور، إلّا أنّه لا دليل على جعل العصمة و المطهّرية، إلّا إذا قلنا: بأنّ «الطهور» معناه ذلك، فتصل النوبة إلى إثباته في الصورة الأُولى، و نفيه في الصورة الثانية، فاغتنم.

ص: 62

و إلّا فلا (1). لكن مع ملاقاته للنجاسة يحكم بطهارته على الأقوى (2).

قوله مدّ ظلّه: «و إلّا فلا».

أي و إن لم يكن له الحالة السابقة، أو كانت و هي غير معلومة، أو كانت حالته السابقة عدم المادّة، فإنّه في الجميع غير محكوم بشي ء، إلّا أنّه بحسب الحكم طاهر عند الملاقاة.

قوله مدّ ظلّه: «على الأقوى».

خلافاً لجماعة حيث قالوا: بنجاسته(1)؛ و ذلك إمّا لأجل التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، أو لأجل استصحاب العدم الأزليّ الجاري في أمثال المسألة، أو لأجل أنّ المقتضي موجود، و المانعَ مشكوك الوجود، فيحكم بها لحكم العقلاء.

و الوجوه محرّرة في كتابنا الكبير(2)، و قد تحرّر منّا جواز التمسّك بالعامّ فيها، إلّا أنّ كون ما نحن فيه من باب العامّ و الخاصّ، أو التنويع لأقسام المياه إلى الأنواع و الأقسام، أو لعدم ثبوت المعنى المطلوب لطبيعة الماء و هو الاعتصام و لو كان من باب التخصيص دون التنويع، فلا يتمّ المطلوب؛ و هي نجاسة الماء المذكور على جميع التقادير.

و لو كان معنى «الطهور» الثابت بالعمومات لطبيعة الماء هو


1- العروة الوثقى 1: 33، فصل الماء الجاري، المسألة 2.
2- كتاب الطهارة، المقصد الأوّل، المبحث الرابع، المسألة الاولى من الخاتمة.

ص: 63

الاعتصام، تثبت الطهارة فيما نحن فيه بالأدلّة الاجتهاديّة، كما لا يخفى.

بقي شي ء: و هو أنّ مجرّد ثبوت الطهارة، لا يكفي للمطهّرية، فلا بدّ من التماس دليل آخر محرّر في كتابنا الكبير(1)، و هذا من غير فرق بين أن يريد التطهير بإيراد المتنجّس في الماء، أو بإيراد الماء على المتنجّس، فلا تخلط.


1- كتاب الطهارة، المقصد الأوّل، المبحث الرابع، المسألة الاولى من الخاتمة.

ص: 64

[مسألة 13: الرّاكد إذا بلغ كُرّاً]

مسألة 13: الرّاكد إذا بلغ كُرّاً، لا ينجس (1) بالملاقاة إلّا بالتغيّر (2). و إذا تغيّر بعضه، فإن كان الباقي بمقدار كرّ، يبقى غير المتغيّر على طهارته، و يطهر المتغيّر إذا زال تغيّره بالامتزاج (3) بالكرّ الباقي.

حكم ماء الكرّ قوله مدّ ظلّه: «لا ينجس».

بلا خلاف؛ إمّا لأنّه كرّ، أو لعدم اعتبار الكرّية.

قوله مدّ ظلّه: «بالتغيّر».

قد مرّ(1) وجه الإشكال في نجاسة المياه بالتغيّر، و أمّا قوله: «و إذا تغيّر بعضه ..» فالوجه معلوم؛ لما أُشير إليه آنفاً.

قوله مدّ ظلّه: «بالامتزاج».

مرّ(2) وجهه و وجه كفاية زوال التغيّر في طهارته، من غير حاجة إلى الامتزاج و الاتصال.

نعم، في القليل المتنجّس نحتاج إلى الاستهلاك العرفيّ حسب الأظهر، و هو الأحوط.


1- تقدّم في الصفحة 28 29.
2- تقدّم في الصفحة 50 51، 60.

ص: 65

و إذا كان الباقي دون الكرّ، ينجس الجميع (1).

قوله مدّ ظلّه: «ينجس الجميع».

لما سيأتي من انفعال الماء القليل، هذا بناءً على المشهور؛ من نجاسة المتغيّر بما هو متغيّر و لو كان كثيراً، و أمّا على ما مرّ من المناقشة في تنجّس المتغيّر(1) فلا، و قد مرّ الاحتياط.


1- تقدّم في الصفحة 28 29.

ص: 66

[مسألة 14: للكرّ تقديران]

مسألة 14: للكرّ تقديران:

أحدهما: بحسب الوزن .. (إلى أن يقول:) و ثانيهما: بحسب المساحة؛ و هو ما بلغ ثلاثة و أربعين شبراً إلّا ثُمن شبر على الأحوط، بل لا يخلو من قوّة (1).

قوله مدّ ظلّه: «لا يخلو من قوّة».

اعلم: أنّ هذه المسألة من المسائل الخلافيّة من بدو طلوع الإسلام إلى عصرنا، و الّذي لا ينبغي الشكّ فيه و لا يرتاب أحد حوله بعد التأمّل في نواحيه انفعالُ الماء القليل في الجملة، و إنّما الاختلاف في حدّه.

و ما يتوهّم من أنّ المسألة من المستحدثات، كما يظهر من الكاشانيّ (رحمه اللَّه)(1) و غيره، فهو من قلّة التدبّر؛ فإنّ المحكيّ عن ابن عبّاس، و ابن عمر، و أبي هريرة، و سعيد بن جبير، و مجاهد، و أحمد، و إسحاق، و أبي عُبيدة، و أبى ثور الّذين هم في القرن الأوّل هو اعتبار القلّتين(2)، و يظهر منهم أنّهم يريدون من التحديد تنجّس ما دون الحدّ.

و عن أبي حنيفة التفصيل و القول بالنجاسة نوعاً(3)، و بها يقول الشافعيّ في أحد قوليه أو أقواله(4)، و قيل: «المعروف عنه هي


1- الوافي 6: 20.
2- الخلاف 1: 191، المغني 1: 24، المجموع 1: 112.
3- الخلاف 1: 192، المغني 1: 25.
4- الخلاف 1: 191، المغني 1: 24.

ص: 67

النجاسة»(1)، و هكذا ابن حنبل(2).

فإذا وصلت النوبة إلى أرباب التأليف منّا، فذهبوا إلى النجاسة، و عليها الإجماعات البالغة حدّ الثلاثين أو أكثر، و الشهراتُ المحقّقة في الأعصار و الأمصار، و يساعده الاعتبار جدّاً.

و عن العلّامة الطباطبائيّ صاحب «الرياض»: «أنّ روايات هذه المسألة تبلغ ثلاثمائة»(3).

هذا مع أنّ السيرة الموجودة الوسيعة جدّاً، تكشف عن أنّ المسألة، كانت من المسائل المتلقّاة من أصحاب الأئمّة (عليهم السّلام (الأوّلين، فأصل تنجّس الماء القليل في الجملة، ممّا لا سبيل إلى مناقشته، و لو كان مذهب بعض العامّة الطهارة(4) أو بعضٍ من الخاصّة كما نسب إلى العمّاني(5)، و القاضي نعمان أبي حنيفة الشيعيّ(6) فلا يضرّ.

و من الغريب، توهّم ذهاب الكلينيّ و الصدوق إلى الطهارة، فما في


1- مقابس الأنوار: 67/ السطر 14.
2- المغني 1: 24، المجموع 1: 112.
3- انظر رياض المسائل 1: 5/ السطر 8.
4- الخلاف 1: 192، المجموع 1: 113/ السطر 4.
5- مختلف الشيعة 1: 176، تذكرة الفقهاء 1: 22.
6- دعائم الإسلام 1: 111 و 112.

ص: 68

«المقابيس»(1) في غير محلّه، كما أنّ كلام «مفتاح الكرامة» من نسبة الطهارة إلى مشهور العامّة(2)، غير تامّ.

فعلى ما تحرّر: لو فرضنا وجود طائفة من الأخبار ظاهرة في الطهارة(3)، فهي إمّا معرض عنها، أو محمولة على التقيّة، أو ساقطة بالمعارضة.

نعم، هي موافقة لإطلاق الكتاب(4) على تقدير كون «الطهور» بمعنى العصمة، مع أنّ جمعاً من المياه ليس من السماء، و البحث أعمّ، فافهم.

إلّا أنّ موافقة الشهرة مقدّمة عليها، مع أنّ النوبة لا تصل إلى الترجيح؛ لأنّ المسألة من صغريات تمييز الحجّة عن اللّابدية حجّة، كما لا يخفى.

و لعمري، إنّ الشكّ و الشبهة في هذه المسألة، معلول التسويل، و يشبه الشكّ في ركعتي الفجر، و لا نحتاج إلى الإجماع(5) و الرواية، كي يناقش في الإجماع صغرويّاً، و في الرواية كبرويّاً.


1- مقابس الأنوار: 66/ السطر 22 و 26.
2- مفتاح الكرامة 1: 74/ السطر 3.
3- وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 8 و الباب 3.
4- الفرقان: 48.
5- لاحظ مفاتيح الشرائع 1: 83.

ص: 69

و احتمال حدوث الاغتراس؛ لأجل فتوى الفقهاء و إن كان ممكناً، إلّا أنّه بعد تلك المؤيّدات بعيد جدّاً، و لا يقاس بحديث نجاسة ماء البئر إلى عصر ابن الجهم و العلّامة(1)، كما هو معلوم، فلا تخلط.

هذا تمام الكلام حول انفعال القليل.

و أمّا حدّه، فهو مورد الخلاف جدّاً؛ فالمنسوب إلى المشهور أنّه بحسب المساحة ثلاثة أشبار و نصف في مثله(2)، فيصير المجموع ما في المتن، و إلى ذلك يرجع ما في «الناصريّات»(3) و «الانتصار»(4) و «الغنية»(5) و عليه فيها الإجماع.

و عن الصدوق: «أنّه من دين الإماميّة»(6).

و عن «التنقيح»: «أنّه المشهور بين الأصحاب»(7).

و ذهب جمع إلى أنّه ثلاثة أشبار عرضاً و طولًا و عمقاً، و إليه ذهب


1- جامع المدارك 1: 7.
2- مفتاح الكرامة 1: 71/ السطر 6، الروضة البهيّة 1: 13/ السطر 21، جواهر الكلام 1: 173.
3- الناصريّات ضمن الجوامع الفقهيّة: 214.
4- الانتصار: 8.
5- الغنية ضمن الجوامع الفقهيّة: 489/ السطر 33.
6- لاحظ مستند الشيعة 1: 56، الأمالي للصدوق: 514/ المجلس 93.
7- التنقيح الرائع 1: 41.

ص: 70

«المختلف»(1) و «الروض»(2) و «المجمع»(3) و في «السرائر» نسبته أيضاً إلى القُمّيين(4).

و عن ابن جُنَيد: ما بلغ مائة شبرٍ؛ جمعاً(5).

و عن الراونديّ: ما يبلغ عشر أشبار و نصف(6).

و عن جماعة من المعاصرين تبعاً «للمدارك»(7): أنّه ستّة و ثلاثون شبراً(8).

و عن الأُستاذ في حاشية «المدارك»: أنّه ثلاثة و ثلاثون شبراً تقريباً(9).

و عن ابن طاوس: تجويز العمل بمجموع ما في الأخبار(10).


1- مختلف الشيعة 1: 184.
2- روض الجنان: 140/ السطر 24.
3- مجمع الفائدة و البرهان 1: 260.
4- السرائر 1: 60.
5- مختلف الشيعة 1: 183، مستند الشيعة 1: 61.
6- لاحظ مستند الشيعة 1: 61.
7- مدارك الأحكام 1: 51.
8- لاحظ العروة الوثقى 1: 35، كتاب الطهارة، فصل الراكد بلا مادّة، المسألة الخامسة، الهامش 5.
9- مفتاح الكرامة 1: 72/ السطر 8.
10- لاحظ مستند الشيعة 1: 61.

ص: 71

و حيث أنّ المسألة ليست بين القدماء واضحةً؛ لاختلاف كلمات الناقلين و المنقول عنهم في المقدار و المساحة، بل و المساحة خصوصاً أيضاً، فلا مستند إلّا الأخبار الموجودة، و المتّبع هي الصناعة، فإنّها الحجّة.

و لأجل ذلك كانت هذه المسألة كجلّ المسائل الفقهيّة بكراً، فأردت حلّ مشكلتها، بعد الغور بعين الإنصاف في رواياتها، و هو أنّ ممّا قرع سمعك من السلف؛ هو أنّ مسروقاً و ابن سيرين، ذهبا إلى أنّ موضوع المنفعل و المعتصم عرفيّ؛ و هو الماء القليل و الكثير(1)، و على هذا يحوّل الأمر إلى العقلاء، كسائر المفاهيم.

و بعبارة اخرى: إرجاع العناوين الكثيرة إلى العنوان الواحد، غير جائز؛ لأنّه يشبه القياس، إلّا إذا اقتضت القرائن الخاصّة، و قد صنع المشهور ذلك في كثير السفر من غير وجود قرينة، و لذلك عدل المتأخّرون عنه إلى الأخذ بتلك العناوين الكثيرة المذكورة في الروايات(2)، ك «الجمّال» و «المكاري» و «الّذي يدور في تجارته» و هكذا.


1- لاحظ التفسير الكبير، الفخر الرازي 24: 96.
2- وسائل الشيعة 8: 484، كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، الباب 11.

ص: 72

و أمّا فيما نحن فيه، قد اضطربت المآثير(1) حسب بيان ما هو الحدّ، و إرجاعُ هذه الحدود المختلفة إلى الواحد، أيضاً غير جائز إلّا مع القرينة، فإذا قامت هي على أنّ ما هو الموضوع للاعتصام هو الماء الكثير، و ما في الأخبار تحديد صوريّ و توضيح لمصاديق العنوان المذكور من غير دخالة الحدّ الخاص فيه يتبيّن أنّ القليل العرفيّ موضوع الانفعال.

و الّذي يساعد ذلك: أنّ الموضوعات الشرعيّة بحسب الطبع عرفيّة، و قليل منها مورد تدخّل الشرع، و أنّ الأخذ بالتحديد الشرعيّ، يورث لزوم الدقّة العرفيّة في ذلك الحدّ، و هذا ممّا يُطْعن فيه بحسب الارتكاز البَدْويّ.

مع أنّ من ثمرات هذا المسلك، الأخذ بمجموع الأخبار، كما أومى إليه ابن طاوس(2) أيضاً، و لكن لا يلزم اتباع ما فيها، فلو كان حدّ الكثير أقلّ من سبع و عشرين كما هو رأي جمع من المعاصرين(3) يكون هو المتّبع، فالّذي هو المعتصم هو الكثير المعتنى به عرفاً، كالموجود في الحياض


1- وسائل الشيعة 1: 164، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 10 و 11.
2- مستند الشيعة 1: 61.
3- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 197.

ص: 73

الصغار، و الأواني الكبار، و أشباه ذلك، فما هو المهمّ هو الغور في تلك القرائن، و إليك نبذة منها، و تفصيلها في كتابنا الكبير(1).

ففي معتبر حَريز، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام)، قال: قلت له: راوية من ماء .. إلى أن يقول:

قال: «إذا تفسّخ فيها فلا تشرب من مائها، و لا تتوضّأ و صبّها، و إن كان غير متفسّخ فاشرب منه و توضّأ، و اطرح الميتة إذا أخرجتها طريّة، و كذلك الجرّة و حبّ الماء و القِربة، و أشباه ذلك من أوعية الماء».

قال: و قال أبو جعفر (عليه السّلام): «إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجّسه شي ء؛ تفسّخ فيه، أو لم يتفسّخ ..»(2) الحديث.

و في رواية معتبرة مضت، قال: سألته عن الدجاجة و الحمامة و أشباههما، تطأ العَذِرة، ثمّ تدخل في الماء، يتوضأ منه للصلاة؟

قال: «لا، إلّا أن يكون الماء كثيراً؛ قدر كرّ من ماء»(3).

و في معتبر أبي بصير، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام)، قال: «ليس بفضل السِّنَّوْر


1- تحريرات في الفقه، كتاب الطهارة، المبحث الخامس، الأمر الثامن.
2- تهذيب الأحكام 1: 412/ 1298، وسائل الشيعة 1: 139، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 8.
3- تهذيب الأحكام 1: 419/ 1326، وسائل الشيعة 1: 155، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 13.

ص: 74

بأس أن يُتوضّأ منه و يُشرب، و لا يشرب سؤر الكلب، إلّا أن يكون حوضاً كبيراً يستقى منه»(1).

و في خبر صفوان الجمّال قال: سألت أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) عن الحياض الّتي ما بين مكّة إلى المدينة؛ تردها السباع، و تلغ فيها الكلاب، و تشرب منها الحمير، و يغتسل منها الجنب، و يتوضّأ منه.

فقال: «و كم قدر الماء؟».

قلتُ: إلى نصف الساق، و إلى الركبة و أقلّ.

فقال: «توضّأ منه»(2).

و في «الكافي»: عن عبد اللَّه بن المغيرة، عن بعض أصحابنا، عنه (عليه السّلام) قال: «الكرّ من الماء نحو حِبّي هذا» و أشار إلى حِبٍّ من تلك الحِباب الّتي تكون بالمدينة(3).

و فيما سبق كفى دلالة على ما أشرنا إليه، مع أنّ الأخير له الحكومة


1- تهذيب الأحكام 1: 226/ 650، وسائل الشيعة 1: 226، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 1، الحديث 7.
2- تهذيب الأحكام 1: 417/ 1317، وسائل الشيعة 1: 162، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 12.
3- الكافي 3: 3/ 8، وسائل الشيعة 1: 166، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 10، الحديث 7.

ص: 75

على أخبار الكرّ في الشرع؛ و أنّه ليس له الحدّ إلّا الكثرة العرفيّة؛ لاختلاف الحِباب طبعاً.

و أيضاً في «التهذيبين» عن ابن المغيرة، عن بعض أصحابه، عنه (عليه السّلام)، قال: «إذا كان الماء قدر قُلّتين لم ينجّسه شي ء» و القلّتان: جرّتان(1).

فيعلم منه و ممّا سبق: أنّ الكثرة المتسامح فيها موضوع الاعتصام.

و في معتبر محمّد بن مسلم قال: سَألت أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) عن الثوب يصيبه البول.

قال: «اغسله في المركن ..»(2).

و يزيدك شاهداً نفس اختلاف أخبار التحديد للكرّ.

و بالجملة: تبيّن أنّ المتأمّل في هذه الطائفة من المآثير، يتبيّن له حال الطوائف الأُخر(3)، و ينكشف لديه أصل المسألة بما لا مزيد عليه.

و لا منع من دعوى اختلاف الأخبار؛ بحسب اختلاف مقدار النجس كمّاً و كيفاً و استعمالًا، إلّا أنّ النتيجة عدم انفعال القليل في مورد، و اعتصام


1- تهذيب الأحكام 1: 415/ 1309، الإستبصار 1: 7/ 6، وسائل الشيعة 1: 166، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 10، الحديث 8.
2- تهذيب الأحكام 1: 250/ 717، وسائل الشيعة 3: 397، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 2، الحديث 1.
3- وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9.

ص: 76

الكرّ على المشهور من كافّة النجاسات كمّاً و كيفاً و استعمالًا، إلّا إذا تغيّر.

و لكنّه حيث تبيّن فساده، يظهر انفعال القليل العرفيّ بالقليل، و عدم انفعال الكثير المعتنى به و لو كان خمسمائة رطل أو خمسة و عشرين شبراً بالكثير المذكور إنظاره في الأخبار.

ص: 77

[مسألة 15: الماء المشكوك كرّيّته إن علم حالته السابقة، يبني على تلك الحالة]

مسألة 15: الماء المشكوك كرّيّته إن علم حالته السابقة، يبني على تلك الحالة (1)، و إلّا فالأقوى (2) عدم تنجّسه بالملاقاة، قوله مدّ ظلّه: «تلك الحالة».

من القلّة و الكثرة؛ نظراً إلى الاستصحاب الموضوعيّ، أو استصحاب اعتصامه و انفعاله من غير أن يرجع إلى التعليقيّ، و لو كان منشأ الشبهة مفهوميّاً كما هو الأكثر على ما سلكناه فالأصل غير جارٍ.

كما أنّه لو كان الماء الكثير السابق خارجاً عن المتعارف كثرةً، ثمّ في ظرف الشكّ يشكل جريانه؛ لاختلاف موضوعي ظرف اليقين و الشكّ، فافهم.

و في حاشية المصنّف إشارة إلى الصورة الأخيرة(1) ظاهراً، فينافي إطلاق كلامه هنا، فراجع.

قوله مدّ ظلّه: «فالأقوى».

نظراً إلى قصور الأدلّة الناهضة عن تنجّسه، و قد مرّ الكلام في الجاري المشكوك اتّصاله بالمادّة(2)، و هذا من غير فرق بين أن تكون الكرّية مانعة، أو شرطاً لعدم الانفعال(3).

بل الأظهر: أنّ مستند القول بطهارته، ليس قاعدة الطهارة، بل هو


1- العروة الوثقى 1: 36، فصل الراكد بلا مادّة، المسألة 7.
2- تقدّم في الصفحة 42 43.
3- كتاب الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 160، مستمسك العروة الوثقى 1: 163.

ص: 78

و إن لم يجرِ عليه سائر أحكام الكرّ (1).

الإطلاق الحاكم بطهوريّة الماء؛ لما تحرّر منّا جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة(1).

نعم، في كون معنى «الطهور» هو الاعتصام، إشكال محرّر في محلّه.

و أمّا توهّم: أنّ الماء المفروض مجرّد فرض؛ فإنّ الماء يخلق تدريجاً، فهو في غير محلّه، فلا تغفل.

قوله مدّ ظلّه: «أحكام الكرّ».

اعلم: أنّ الأقوال في هذا الماء بين طهارته و مطهّريته، و نجاسته، و طهارته دون مطهّريته، و لكلّ وجه:

أمّا نجاسته، فقد مرّ وجهها.

و أمّا طهارته دون مطهّريته بإيلاج المتنجّس فيه؛ فلاستصحاب بقاء نجاسة المتنجّس، ضرورة أنّه في صورة كونه قليلًا ينجس و لا يطهر.

و أمّا إذا تطهّر به؛ بإيراد الماء على المتنجّس، فلا بأس به، إلّا إذا كان بعد ملاقاة النجاسة، فإنّ قاعدة الطهارة لا يثبت بها إلّا طهارته، و أمّا عنوان «الماء المطهِّر» فلا يثبت بها.

و أمّا وجه جريان سائر الأحكام و مطهّريته، فهو بين ما يكون عرفيّاً؛ نظراً إلى الملازمة العرفيّة الموجودة بين المتشرّعة، لأنّ الغسل بما


1- تحريرات في الأُصول 5: 251 و ما بعدها.

ص: 79

لا ينفعل شرعاً و لو ظاهراً مطهّر.

و لا يخفى سخافته؛ ضرورة أنّ عدم الانفعال من تبعات الكرّ أو الكثرة، و ليس هو في نفسه حكماً وضعيّاً مستقلا.

أو صناعيّاً؛ نظراً إلى جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، و أنّ معنى «الطهور» هو الاعتصام و المطهّرية و لو بورود النجس عليه، و فيه ما مرّ آنفاً.

و غير خفيّ: أنّ العموم الّذي يتمسّك به لطهارة المشكوك الكرّية، هو عموم «خلق اللَّه الماء طهوراً ..»(1) و العمومَ الّذي يتمسّك به للنجاسة، هو العموم المستفاد من أخبار الكرّ؛ و أنّ الماء ينجس إلّا في صورة الكرّية.

و الّذي يظهر لي: أنّ تمسّك القوم للنجاسة في المسألة بذلك العموم غير صحيح؛ و ذلك لأنّ نفس أخبار الكرّ عمومها مذيّل بالاستثناء(2)، فلا تكون المسألة من صغريات التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.

و أمّا العموم المنفصل، فلا يوجد على ما ببالي عجالة في أخبارنا، بل الأمر بالعكس، كما أُشير إليه، فما في كتب الأصحاب (رحمهم اللَّه)(3)،


1- وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.
2- وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 3 و 4.
3- مستمسك العروة الوثقى 1: 163، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 217.

ص: 80

في غير محلّه، فليلاحظ.

و ربّما يتوهّم التفكيك بين أحكامه؛ ففي مثل تطهير الماء المتنجّس يمكن القول: بطهارة الماء الملقى عليه بعد إلقاء ذلك المشكوك، و أمّا في غيره فلا؛ و ذلك إمّا لكونه من النجس المتمّم كرّاً بالطاهر، أو لما قيل: «بأنّ الماء الواحد ليس ذا حكمين بالإجماع؛ نظراً إلى أنّ استصحاب نجاسة الماء الملقى عليه و طهارةَ ما القي متساقطان، فتصل النوبة إلى قاعدة الطهارة»(1).

و فيه: أنّه لو صارا واحداً فلا محطّ للاستصحاب، و لو بقيا على شخصيّتهما فلا إجماع؛ لكونه لبّياً، و قدر تيقّنه على فرض أصل وجوده صورة الوحدة الاستهلاكيّة، فاغتنم.


1- الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 153، مستمسك العروة الوثقى 1: 165.

ص: 81

[مسألة 16: إذا كان الماء قليلًا فصار كرّاً]

مسألة 16: إذا كان الماء قليلًا فصار كرّاً، و قد علم ملاقاته للنجاسة، و لم يعلم سبق الملاقاة على الكرّية أو العكس، يحكم بطهارته (1)، قوله مدّ ظلّه: «يحكم بطهارته».

على المعروف بين المتعرّضين للمسألة.

و قيل: بالاحتياط(1)، بل و بالنجاسة(2)؛ و ذلك إمّا لأجل عدم جريان الاستصحابين ذاتاً في مجهولي التأريخ خلافاً للتحقيق، أو لجريانهما و سقوطهما بالمعارضة، على إشكال يأتي الإيماء إليه(3)، و عندئذٍ نحتاج في الطهارة إلى إحراز كريّته حين الملاقاة؛ لحكم العقلاء، أو لأنّه في خصوص ما نحن فيه و أمثاله، لا بدّ من إحراز المانع؛ نظراً إلى الأدلّة، لأنّ الحكم بعدم الانفعال معلّق على أمر وجوديّ، و قد تحرّر في الأُصول(4) فساد التوهّمين و لو كانا من العلّامتين (رحمهما اللَّه)(5).

و على هذا يحكم بالطهارة، إلّا أنّ دليله استصحابها لا القاعدة؛ ضرورة أنّ الاستصحاب الساقط بالمعارضة، غير استصحاب طهارة الماء المفروضة، فلا تختلط.


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 238، العروة الوثقى 1: 32، حاشية السيّد الخوئي.
2- لاحظ ذخيرة المعاد: 126/ السطر 12.
3- يأتي في الصفحة 86 88.
4- لم نعثر عليه فيما بأيدينا من مباحثه الأُصوليّة.
5- فرائد الأُصول، الشيخ الأنصاري 2: 666، كفاية الأُصول: 477.

ص: 82

و يمكن المناقشة في جريان استصحاب عدم الملاقاة إلى عصر وجود الكرّية لما لا أثر له إلّا عقلًا؛ فإنّ نفي السبب و الموضوع لأجل نفي الأثر من الأحكام العقليّة، إلّا أنّ بناءهم على جريانه، و لا تنحلّ المشكلة إلّا بما تحرّر منّا؛ من حجّية الأُصول المثبتة(1).

و يمكن منع جريانهما ذاتاً؛ لأجل انصراف دليل الاستصحاب، دون حديث عدم اتصال زمان الشكّ باليقين، فإنّه من الغرائب الواقعة في كلمات «الكفاية»(2) و غيره(3)، و التفصيل في محلّه. هذا في صورتي جهالة تأريخهما.

و أمّا في صورة العلم بتأريخ الكرّية؛ و أنّها حدثت أوّل الزوال مثلًا، فاستصحاب عدم الملاقاة إلى الزوال يستلزم عدم النجاسة؛ نظراً إلى نفي المسبّب أو الحكم بنفي السبب أو الموضوع، و قد أُشير إلى ما فيه على مسلكهم، و لكن لا وجه لنجاسة الماء بعد جريان قاعدة الطهارة بل و استصحابها كما عرفت وجهاً يعتدّ به.

نعم، إجراء أحكام الكرّ عليه مشكل؛ لأنّ الكرّ الموضوع


1- تحريرات في الأُصول 8: 523.
2- كفاية الأُصول: 478.
3- مستمسك العروة الوثقى 1: 166، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 234.

ص: 83

لأحكامه، هو الّذي لم يتنجّس و صار كرّاً، فيكون الموضوع مقيّداً، و لا يحرز ذلك بالاستصحاب أو القاعدة، إلّا على القول: بالأصل المثبت.

أو يقال: بعدم سريان القيود الثبوتيّة و اللبّية إلى الإثبات، كما هو الحقّ، فسلب الملاقاة كافٍ، و لا نحتاج إلى إحراز القيد اللّبّي، كما حرّرناه في أمثاله(1)، و ذكرنا: أنّ بحث المرأة غير القرشيّة و حديث غير المذكى و أمثاله، غير واقع في محلّه؛ لأنّ العامّ الأوّلي لا ينفى إثباتاً، و العبرة بذلك، دون الثبوت و اللّب المجهول كيفيّة ورود القيد عليه، المحتمل فيه أزيد من عشرة احتمالات.

نعم، في صورة كون الدليل المنفصل المتضمّن للقيد، ناظراً إلى العامّ في محيط التقنين، يسري القيد إليه عرفاً، و ليلاحظ جيّداً.

و عندئذٍ تختلف صور مجهولي التأريخ، كما تختلف صور معلوم التأريخ و مجهوله، فإنّه ربّما يوجب جهالة أحدهما جهالةً في معلوم التأريخ بالقياس و النسبة، فتندرج في مجهولي التأريخ بحسب جريان الاستصحاب.

و ممّا لا ينبغي اختفاؤه، أنّه كما يعارض استصحاب العدم النعتي العدم النعتي الآخر في مجهولي التأريخ مثلًا، يعارض عدمه الأزليّ في عَرْض ذلك، فتوهّم سقوط العدمين النعتيّين، و جريانِ العدم الأزليّ، في


1- تحريرات في الأُصول 8: 486 488.

ص: 84

إلّا إذا علم (1) تأريخ الملاقاة دون الكرّية. و أمّا إذا كان كرّاً فصار قليلًا، و قد علم ملاقاته للنجاسة، و لم يعلم سبق الملاقاة على القلّة أو العكس، فالظاهر الحكم بطهارته مطلقاً؛ غير محلّه، و التفصيل في الأُصول(1) و في كتابنا الكبير(2).

قوله مدّ ظلّه: «إلّا إذا علم».

على المعروف بينهم، و احتاط بعضهم(3)، و قيل: بالطهارة(4)، و قد تبيّن وجه القول بالنجاسة؛ لعدم المعارضة، أو لم يكن الاستصحاب جارياً؛ لكونه مثبتاً.

و قد عرفت: أنّ الأنسب استصحاب طهارة الماء، و عندئذٍ لا يترتّب عليه أحكام الكرّ، كما مرّ وَ مرّ وجه ترتّبه.

و أمّا وجه الطهارة و الاحتياط، فهو أنّ مجرّد عدم وقوع الكرّية إلى الزوال- الّذي حصلت فيه الملاقاة غير كافٍ؛ لأنّ موضوع النجاسة ليس عنوان «ما ليس كرّاً» حتّى يقال: بإحراز ملاقاة النجس لما لا يكون كرّاً إلى الزوال، بل موضوعه القليل، و هو غير ثابت به.


1- لم نعثر على تفصيله في مباحثه الأُصوليّة الموجودة لدينا.
2- تحريرات في الفقه، كتاب الطهارة، المقصد الأوّل، المبحث الخامس، الأمر الثامن.
3- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 233 و 238.
4- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 234.

ص: 85

مع أنّه لو كان الموضوع هو العنوان المذكور، فلا إطلاق لأدلّة الكرّ مفهوماً حسب التحقيق، و ما له الإطلاق موضوعه العنوان الآخر، فما ترى من استصحاب عدم الكرّيّة إلى زمان علم فيه تأريخ الملاقاة(1)، غير تامّ، فلا وجه لنجاسته.

و ممّا أُشير إليه ظهر وجه الاحتياط؛ و هو أنّ لأدلّة الكرّ مفهوماً ذا إطلاق احتمالًا قويّاً، فما ليس بكرّ ينفعل بالملاقاة، أو لأنّ عنوان «القليل» و عنوانَ «ما ليس بكرّ» واحد عرفاً في محيط الأدلّة الاجتهاديّة، فيثبت المطلوب من غير أن يلزم كونه مثبتاً، و حيث أنّه أمر غير واضح فلا بدّ من الاحتياط.

و الأشبه بالقواعد هو الطهارة، و عدم ترتّب أحكام الكرّية، و لكن حيث عرفت عدم سراية القيد المنفصل إلى المطلق أو العامّ إثباتاً، يمكن ترتيب أحكامها عليه أيضاً، و المسألة لا تخلو عن عمق، فلا تغفل.

و ربّما يتوهّم معارضة استصحاب عدم الكرّية إلى الزوال، باستصحاب عدم تحقّق الملاقاة الّتي توجب النجاسة؛ فإنّ ما هو المعلوم هي ملاقاة النجس مع الماء في أوّل الزوال، إلّا أنّ الملاقاة لها الأحوال، و ما هي المفيدة هي الملاقاة الموجبة لسراية النجاسة إلى الماء، و هي مقيّدةً بذلك القيد مشكوكةٌ؛ لاحتمال كون الماء كرّاً، و استصحاب عدم الكرّية


1- مستمسك العروة الوثقى 1: 167، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 238.

ص: 86

حتّى فيما إذا علم تأريخ القلّة (1)، إلى ما بعد الزوال، لا يحرز القيد المذكور إلّا على القول بالأصل المثبت.

و فيه: مضافاً إلى أنّه عندنا معتبر تبعاً للأشهَر بين السلف أنّه لا يكون الأصل مثبتاً؛ و ذلك لأنّ القيد المذكور مجرّد تخيّل من مقايسة الأدلّة في مرحلة الثبوت و اللبّ.

و أمّا توهّم: أنّ الشكّ المزبور ناشئ عن الشكّ في الكرّية في أوّل الزوال، فيكفي الثاني لرفع الأوّل، فهو في غير محلّه كما لا يخفى.

قوله مدّ ظلّه: «تأريخ القلّة».

في المسألة أيضاً وجوه، تبيّن وجه الكلّ ممّا مضى في الصّور الثلاث؛ فإنّ في مجهولي التأريخين يتعارض الاستصحابان، فتصل النوبة إلى استصحاب الطهارة أو قاعدتها.

و يحتمل أن يكون الأصل المقتضي لتأخّر زوال الكرّية عن الملاقاة، المنتهى إلى نجاسة الماء، معارضاً للأصل الجاري في رتبته و لاستصحاب طهارة الماء و لقاعدتها، فما مرّ منّا و اشتهر بين أبناء التحصيل غير صحيح؛ ضرورة أنّ ما مع المتقدّم ليس بمتقدّم، فيعارض الأصل المذكور تلك الأُصول الثلاثة.

و يحتمل عدم جريان استصحاب الكرّية؛ لأنّ ما هو المجعول في الشرع؛ هو تنجّس القليل، و أمّا اعتصام الكثير فلا تناله يد الجعل، بل هو

ص: 87

أمر واقعيّ، فلا معارض لاستصحاب عدم الملاقاة إلى زمان القلّة، فتثبت النجاسة؛ لأنّ أصل الملاقاة قطعيّ.

و ينعكس الأمر، بدعوى جريان استصحاب بقاء الكرّية إلى زمان الملاقاة، دون معارضة؛ لأنّه مثبت. و مجرّد التعبّد بعدم الملاقاة غير كافٍ، إلّا بلحاظ نفي عدم التنجّس.

و في جريان الأصل في سبب النجاسة بالتعبّد بعدمه لعدم الحكم الّذي هو أيضاً عدميّ إشكال؛ لأنّ عدم التنجّس لعدم الكثير، ليس مجعولًا شرعاً و إن أمكن في الاعتبار ثبوتاً.

و بما ذكرنا يظهر وجه صورتي معلومي التأريخ، سواء كان هو القلّة أم الملاقاة، و قد اشتهر نجاسته في صورة العلم بتأريخ القلّة؛ نظراً إلى تأخّر الحادث و هي الملاقاة، إلّا أنّ ذاتها ليست ذات أثر إلّا باعتبار موجبيّتها لنجاسة الماء، فالتعبّد بالسبب لا يكفي لترتّب آثاره، بخلاف الموضوع و الحكم، فتأمّل.

و ربّما يخطر بالبال قصور أدلّة الاستصحاب عن شمول هذه الموارد الّتي نقضت باليقين اللاحق؛ فإنّ إطلاق: «انقضه بيقينٍ آخر» يشمل ما نحن فيه، و لو لزم الإجمال بين الصّدر و الذّيل في بعض الأخبار، يشكل التمسّك بإطلاق سائر الأخبار؛ لسرايته إليها لأجل كونه ناظراً إليها، كما حرّرناه في الأُصول، فتأمّل.

ص: 88

ثمّ إنّه قد عرفت وجه المناقشة في جواز ترتيب آثار الكرّية و لو كان طاهراً بالاستصحاب أو بالقاعدة في بعض الصور الّتي يمكن، مثل الصورة الاولى من الصور الثلاث.

و غير خفيّ: أنّ مفروض مسائل المتن صور السبق و اللّحوق، و أمّا صور احتمال الاقتران بين حدوثهما بحسب الزمان، فلها جهات مذكورة في كتابنا الكبير(1)؛ لاختلاف آثارها و أحكامها.


1- تحريرات في الفقه، كتاب الطهارة، المبحث الخامس، الأمر السادس.

ص: 89

[مسألة 17: ماء المطر حال نزوله من السماء كالجاري]

مسألة 17: ماء المطر حال نزوله من السماء كالجاري (1)، فلا ينجس ما لم يتغيّر. و الأحوط اعتبار كونه بمقدار يجري على الأرض الصلبة، و إن كان كفاية صدق «المطر» عليه لا يخلو من قوّة.

حكم ماء المطر قوله مدّ ظلّه: «كالجاري».

هكذا وصل إلينا من السلف، و فيه ما لا يخفى، إلّا أنّ مرادهم معلوم؛ و هو أنّ ماء المطر الموجود في الأرض و غيرها من الأواني كالجاري، إذا كان يتقاطر و ينزل و تمطر السماء عليه. و بالجملة لا شبهة في المسألة.

بل ماء المطر هو القدر المتيقّن من الكتاب(1)، فهو طهور بالضرورة، و إنّما الاختلاف في إطلاقه و قيوده.

و الذي هو الغامض في المسألة، و هي مشكلتنا في هذا المقام؛ أنّ قضيّة طائفة من الأخبار معتضدة بذهاب الأكثر إليها، عدمُ اعتبار شي ء أزيد من صدق «المطر» ففي مرسلة الكاهليّ التي توهّم انجبارها بعمل الأصحاب عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: قال: «كلّ شي ء يراه ماء المطر فقد طهر»(2).


1- الفرقان) 25): 48.
2- الكافي 3: 13/ 3، وسائل الشيعة 1: 146، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 5.

ص: 90

و في مصحّح هشام بن سالم: أنّه سأل أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) .. (إلى أن يقول:) فقال: «لا بأس به؛ ما أصابه من الماء أكثر منه»(1).

و أصرح من هاتين الروايتين في كفاية مطلق المطر، ما عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) عن الكنيف يكون خارجاً، فتمطر السماء، فتقطر عليّ القطرة.

قال: «ليس به بأس»(2) .. و غير ذلك.

و مقتضى الطائفة الثانية اشتراط الجريان(3)، و منها معتبر عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى (عليه السّلام) قال: سألته عن البيت يبال على ظهره، و يغتسل من الجنابة، ثمّ يصيبه المطر، أ يؤخذ من مائه فيتوضّأ به للصلاة؟

فقال: «إذا جرى فلا بأس به»(4) و تشبهه الروايتان


1- الفقيه 1: 7/ 4، وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 1.
2- تهذيب الأحكام 1: 424/ 1348، وسائل الشيعة 1: 147، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 8.
3- وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 2 و 3 و 9.
4- الفقيه 1: 7/ 6، وسائل الشيعة 1: 145، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 2.

ص: 91

الأُخريان(1).

و قد أخذ كلّ مهرباً للجمع، و لم يأت به أحد إلّا من أخذ بهما، فقال: باعتبار الجريان، كما هو المحكيّ(2) عن الشيخ(3) و «الوسيلة»(4) على إشكال في عبارتهما المحكيّة عنهما.

و الذي ظهر لي: أنّ في هذه الأخبار لوحظ حكم الماءين: ماء المطر و هو الماء الموجود النازل من السماء، و نفس المطر النازل على المتنجّس، فما كان من الأوّل فلا يعتبر فيه شي ء؛ حسب الإطلاق و التعليل، و ما كان من الثاني فلا يكفي مجرّد التقطّر على النجس، فلو كان موضع من البدن نجساً، فأصابته قطرة، فهي غير كافية حسب الطائفة الثانية.

و أمّا ماء المطر المجتمع غير الجاري، فهو معتصم و طاهر و مطهّر، و هو في الحقيقة في هذه الصورة و هو حال تقاطر السماء عليه بعيد عندنا من الماء ذي المادّة، و قد مرّ أنّه لا يعتبر اتصال المادّة بالماء


1- قرب الإسناد: 177/ 654، وسائل الشيعة 1: 145، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 3، مسائل عليّ بن جعفر( عليه السّلام): 130/ 115، وسائل الشيعة 1: 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 9.
2- تهذيب الأحكام 1: 411.
3- لاحظ مفتاح الكرامة 1: 63/ السطر 4 و جواهر الكلام 6: 313.
4- الوسيلة: 73.

ص: 92

المعتصم بها مطلقاً، فعلى هذا فصلت المخاصمة بحمد اللَّه.

و الخبر الأخير مضافاً إلى ضعف سنده(1) لإهمال رجل هو فيه غير تامّ دلالة كما لا يخفى؛ ضرورة أنّ القطرة ليست هي القطرة النازلة بشخصها، فلا بُعْد في كونها من الماء الموجود، لا المطر، فليتدبّر.

و تصير النتيجة: عدم اعتبار شي ء في مطهّرية ماء المطر، و يعتبر في قطرة تنزل على المتنجّس و تسمّى ب «المطر» كما ترى في الطائفة الثانية، و لذلك عدّ قول القائل: بكفاية القطرة من الشواذّ جدّاً(2)، حتّى حكي في ترجمة صاحبه في كتب التراجم(3).

و ربّما يتوهّم تأيّد هذا النظر، بما في الباب 16 من أبواب النجاسات، حيث روى الصدوق بإسناده عن زيد الشحّام: أنّه سأل أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) عن الثوب يكون فيه الجنابة، فتصيبني السماء حتّى يبتلّ عليّ.

فقال: «لا بأس به»(4).

فإذا كانت البلّة مطهّرة، فالقطرة أولى.


1- وسائل الشيعة 1: 147، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 8.
2- لاحظ روض الجنان: 139/ السطر 3، مستند الشيعة 1: 7/ السطر 18.
3- لاحظ روضات الجنّات 2: 294.
4- الفقيه 1: 40/ 5، وسائل الشيعة 3: 425، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 16، الحديث 7.

ص: 93

و فيه: مضافاً إلى ما في سنده إلى زيد، عن أبي جميلة، الذي عندي أمره مشكل أنّها ربّما لا تقتضي مطهّرية البلّ، بل قوله (عليه السّلام): «لا بأس به» لعدم كفايته لسراية النجاسة إلى البدن؛ لاعتبار القطرة فيه، فاغتنم.

ص: 94

[مسألة 18: المراد ب «ماء المطر» الذي لا يتنجّس إلّا بالتغير؛ القطراتُ النازلة]

مسألة 18: المراد ب «ماء المطر» الذي لا يتنجّس إلّا بالتغير (1)؛ القطراتُ (2) النازلة و المجتمع منها تحت المطر حال تقاطره عليه (3). و كذا المجتمع المتّصل بما يتقاطر عليه المطر، فالماء الجاري من الميزاب تحت سقف حال عدم انقطاع المطر كالماء المجتمع فوق السطح المتقاطر عليه المطر.

قوله مدّ ظلّه: «إلّا بالتغيّر».

قد مرّ(1) وجه المناقشة في التنجّس بالتغيّر.

قوله مدّ ظلّه: «القطرات».

قد تبيّن: أنّ ما هو المطر هي القطرات، فلو استولت على بدنك المتنجّس تطهّره، و توهّم كفاية رؤية بعضه لطهارة جميع البدن حسب إطلاق الخبر واضح المنع، كما يأتي إن شاء اللَّه تعالى.

و ما هو ماء المطر، هي الطائفة المجتمعة في الأرض الحاصلة من المتقاطر من السماء، كما هو كثير الدور.

قوله مدّ ظلّه: «حال تقاطره عليه».

فيه إشارة إلى الشرطين:

الأوّل: اعتباره التقاطر.

و الثاني: كون التقاطر على ذلك الماء الذي يغسل فيه النجس و هو قليل.


1- تقدّم في الصفحة 28 29.

ص: 95

أمّا الشرط الأوّل: فهو واضح، و مجرّدُ كونه ماء المطر، لا يكفي لما ينفيه الأدلّة الخاصّة الواردة في القليل الموجود بين مكّة و المدينة(1) و غيرها(2)، الذي ليس إلّا من المطر.

مع أنّ صدق «ماء المطر» عليه فعلًا محلّ مناقشة، و إجراءَ الاستصحاب ممنوع؛ لكونه من الشبهة المفهوميّة، فلا تختلط. هذا مع أنّه مورد الارتكاز و الإجماع.

نعم، إذا كان على وجه ينقطع و يتّصل كما في بعض البلاد ربّما يمكن توهّم اعتصامه، إلّا أنّه بعد كونه قليلًا يشكل جدّاً.

و أمّا الشرط الثاني: فهو ظاهر الأصحاب (رحمهم اللَّه)، و إن كانت عباراتهم قابلةً للحمل على إفادة الشرط الأوّل، و لذلك صرّح به المتأخّرون(3)؛ نظراً إلى دفع التوهّم المذكور في «الجواهر»(4) بل تمايل إليه، و هو بما أنّه من


1- تهذيب الأحكام 1: 417/ 1317، وسائل الشيعة 1: 162، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 12.
2- وسائل الشيعة 1: 163، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 14 و 15.
3- مصباح الفقيه، الطهارة: 645/ السطر 34، العروة الوثقى 1: 39، فصل ماء المطر، المسألة 3.
4- جواهر الكلام 6: 322.

ص: 96

ماء المطر ربّما يشكل إثباته؛ لعدم إطلاق في أخبار المسألة(1) من هذه الجهة، فإثبات مطهّريته بها و بالاستصحاب محلّ منع.

نعم، هو عندي مطهّر؛ لكونه من الماء ذي المادّة، و لا يعتبر الاتصال في المادّة، و ربّما يكون أساس مطهّرية ماء المطر؛ لأجل كونه من هذا القسم، كما هو كذلك في الحمّام و غيره، فما في المتن من الصورة الثانية الملتحقة بماء المطر، محلّ شبهة.

و ربّما يكتفى بتقاطر السماء في كون القليل من المطر، و لو لم يكن متّصلًا بالماء الآخر المتقاطر عليه؛ لأنّه من ماء المطر حال التقاطر.

و فيه ما لا يخفى؛ للزوم كون التقاطر في قطر من الأرض، عاصماً للقليل في القطر الآخر.


1- وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6.

ص: 97

[مسألة 19: يطهّر المطر كلّ ما أصابه من المتنجّسات القابلة للتطهير]

مسألة 19: يطهّر المطر كلّ ما أصابه (1) من المتنجّسات القابلة للتطهير؛ من الماء و الأرض و الفرش و الأواني.

قوله مدّ ظلّه: «ما أصابه».

أي ما استولى عليه، و لا يعتبر الغسالة في حصول الطهارة، فلو كان المتنجّس تحت المطر بمقدار استولت عليه القطرات، فالظاهر حسب الأخبار(1) كفايته، دون الاعتبار فإنّه المساعد في وجه لأن يكون الماء حاملًا نجاسته، و لأجل ذلك قيل: بنجاسة الغسالة(2).

و يمكن دعوى: أنّ المتعارف في الاغتسال بالمطر حصول الغسالة، و إطلاق قوله (عليه السّلام): «كلّ شي ء يراه ماء المطر ..»(3) غير مأخوذ به في الجوامد، و لو لم يكن ماء المطر على ذلك الوجه لا يكون أكثر، بناءً على ما في بعض أخبار(4) من العبرة بالأكثريّة، فالقدر المتيقّن في حصول الطهارة بماء المطر النازل على المتنجّس؛ كونُه على وجه ينفصل عنه بعد الإصابة و الرؤية، و لا يكفي مجرّد الاستيلاء المحض، و هذا غير الجريان


1- وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 1 و 5.
2- مستمسك العروة الوثقى 1: 229.
3- الكافي 3: 13/ 3، وسائل الشيعة 1: 146، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 5.
4- الفقيه 1: 7/ 4، وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 1.

ص: 98

و الأقوى اعتبار الامتزاج (1) في الأوّل، و لا يحتاج في الفرش و نحوه (2) إلى العصر (3) الفعليّ أو الشأنيّ المعتبر عند جمع(1)، الممنوع عندنا في المطر، فلا تختلط.

قوله مدّ ظلّه: «اعتبار الامتزاج».

قد مرّ: أنّ الأشبه عدم تطهير المياه النجسة و المائعات إلّا بالاستهلاك(2) العرفيّ، و قضيّةُ إطلاق العموم المخصوص بماء المطر، كفايةُ الرؤية(3) و الإصابة(4) حتّى في المائعات الأُخر، كالنفط، و الزيت السائل، و الدبس المائع، و لا يقولون به، و مقتضى الأصل ما ذكرناه.

قوله مدّ ظلّه: «و نحوه».

أي كلّ شي ء يقبل العصر، و في كون الفرش المتعارف في العصر ممّا يقبل العصر تدبُّر، بل منع.

قوله مدّ ظلّه: «إلى العصر».

لعدم الدليل عليه كي يتمسّك به في كلّ مقام.


1- لاحظ مفتاح الكرامة 1: 63، مستمسك العروة الوثقى 1: 176.
2- راجع التعليقة رقم 36.
3- الكافي 3: 13/ 3، وسائل الشيعة 1: 146، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 5.
4- الفقيه 1: 7/ 4، وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 1.

ص: 99

و توهّم: أنّ صدق «الغسل» منوط به(1)، في غير محلّه إذا غلب الماء عليه و انفصل منه، فلو لم يكن إطلاق يعتنى به في ناحية ماء المطر، يكفي إطلاق أدلّة اعتبار الغَسل(2) بعد صدقه.

نعم، لو شكّ في صدقه بدون العصر فيشكل؛ لإمكان التمسّك باستصحاب نجاسة المغسول، إلّا أنّه لمكان كون الشبهة حكميّة نظراً إلى إجمال النصّ ففي جريان الاستصحاب تأمّل عندنا، فالمرجع هي قاعدة الطهارة بناءً على جريانها فيها و حديث الرفع.

و غير خفيّ: أنّ منشأ منع جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة الكلّية العدميّة شي ء، و منشأَ عدم جريانه في الكلّية الوجوديّة العنوانيّة شي ء آخر، و منشأَ عدم جريانه في الكلّية المضمونيّة كما نحن فيه شي ء ثابت، إلّا أنّ في أخبار ماء المطر(3) ما يكفيك، كما يأتي إن شاء اللَّه تعالى.


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 267.
2- وسائل الشيعة 3: 468، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 38.
3- وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6.

ص: 100

و التعدّد (1)، قوله مدّ ظلّه: «و التعدّد».

اعلم: أنّ مقتضى اعتبار التعدّد في بعض النجاسات(1)، و قضيّةِ مصحّح ابن سالم(2) و مرسلة الكاهلي(3) في المقام، متكاذبان بالعموم من وجه، و قد اشتهر تقديم جانب هذه المسألة؛ فراراً عن اللّغوية، و لزومِ عدم خصوصيّة للمطر، و لا عكس(4).

و فيه: أنّ الجمع بين الأخبار ليس ممّا يجب عقلًا أو بمقتضى رواية أو إجماع، حتّى يتوسّل بالطريقة المعروفة، و ما هو بناء العقلاء و أرباب فهم القوانين العرفية، هو الجمع بين العامّ و الخاصّ و المطلق و المقيّد، و أمّا فيما نحن فيه فلا عهد منهم، و لا أقلّ من الشكّ، فالمعارضة باقية، و قد حرّرنا خروج العامّين من وجه عن تحت الروايات العلاجيّة(5)، كما هو الظاهر، فلا بدّ من الترجيح.


1- تهذيب الأحكام 1: 250/ 717، وسائل الشيعة 3: 397، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 2، الحديث 1.
2- الفقيه 1: 7/ 4، وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 1.
3- الكافي 3: 13/ 3، وسائل الشيعة 1: 146، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 5.
4- مستمسك العروة الوثقى 1: 180.
5- لم نعثر عليه فيما بأيدينا من مباحثه الأُصوليّة.

ص: 101

و لكن لو كان لدليل بعض النجاسات إطلاق بالنسبة إلى التعدّد(1)، من غير ظهور له في ماء خاصّ، كالراكد و القليل الوارد عليه، و كان مقتضى إطلاق سائر المياه كفاية المرّة(2)، يقدّم أخبار التعدّد طبعاً، و لا تلزم اللّغوية، و لها الحكومة عليها، و لا وجه لتقديم أخبار ماء المطر و سائر المياه عليها؛ لتعرّض تلك الأخبار لما لا يتعرّض له روايات المياه، و إن كان في تلك الأخبار ما يدلّ على اعتبار التعدّد بالنسبة إلى ماء خاصّ(3)، فلا إطلاق حتّى تقع العارضة بالعَرَض، فالمسألة تطلب من أحكام النجاسات.

ثمّ إنّك عرفت فيما مرّ: أنّ ماء المطر من المياه التي تكون ذات مادّة، كالحمّام و البئر و الجاري، و لا خصوصيّة إلّا كونها ذات مادّة أعمّ من المتّصلة و المنفصلة و الجعليّة و الانجعاليّة، فإلغاء خصوصيّة المطر ممّا لا بأس به؛ فإنّ الأظهر من صحيح ابن بَزيع(4)؛ أنّ كلّ ما كان ذا مادّة، معتصم لا يفسده شي ء، و ماء المطر أيضاً من مصاديقه.


1- وسائل الشيعة 3: 395، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 1.
2- وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6 و 7 و 9 و 14.
3- تهذيب الأحكام 1: 250/ 717، وسائل الشيعة 3: 397، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 2، الحديث 1.
4- تهذيب الأحكام 1: 234/ 676، وسائل الشيعة 1: 172، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 7.

ص: 102

بل لا يحتاج في الأواني (1) أيضاً إلى التعدّد. نعم، إذا كان متنجّساً بولوغ الكلب، فالأقوى لزوم التعفير (2) أوّلًا، ثمّ يوضع تحت المطر، فإذا نزل عليه يطهر؛ قوله مدّ ظلّه: «في الأواني».

سيظهر تحقيقه في محلّه، كما أنّ محطّ المسألة هناك، و إلّا يلزم في كلّ فصل ذكر هذه المسائل، فلا تغفل، و أساس البحث ما عرفت، و المهمّ هو الفحص عن إطلاق مخصوص بالأواني.

قوله مدّ ظلّه: «لزوم التعفير».

كما يأتي، و احتمال عدم الحاجة إليه؛ لإطلاق دليل ماء المطر، فهو يسري إلى إطلاق دليل ماء الحمّام و الجاري و البئر، بل و إطلاق دليل الماء القليل، و لا ترجيح لتقديم أدلّة التعفير(1) على بعضها دون بعض، فأدلّة التعفير حاكمة؛ لتعرّضها لما لا يتعرّض له دليل ماء المطر.

و لو وصلت النوبة إلى المعارضة، فجريان استصحاب النجاسة محلّ إشكال؛ لأنّ الشبهة حكميّة، و أمّا تخيّل معارضته مع استصحاب عدم


1- وسائل الشيعة 1: 226، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 1، الحديث 4، و 3: 415، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 12، الحديث 2، و 3: 516، أبواب النجاسات، الباب 70، الحديث 1، مستدرك الوسائل 2: 602، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 45.

ص: 103

من دون حاجة إلى التعدّد (1).

جعل النجاسة كما عن النراقي (قدس سره)(1) في الأحكام التكليفيّة فهو غير راجع إلى محصّل.

قوله مدّ ظلّه: «إلى التعدّد».

قد عرفت وجه الحاجة إليه؛ حسب الصناعة و الاحتياط.


1- الاستصحاب، الإمام الخميني( قدّس سرّه): 121.

ص: 104

[مسألة 20: الفراش النجس إذا وصل إلى جميعه المطر، و نفذ في جميعه]

مسألة 20: الفراش النجس إذا وصل إلى جميعه المطر، و نفذ في جميعه، يطهر (1) ظاهراً و باطناً. و لو أصاب بعضه يطهر ما أصابه (2). و لو أصاب ظاهره و لم ينفذ فيه، يطهر ظاهره فقط.

قوله مدّ ظلّه: «يطهر».

قد مرّ: أنّ مجرّد نزول المطر و استيلائه غير واضح كفايته، و الأشبه خروج شي ء من المطر عنه.

نعم، الغسل في ماء المطر، يكفي على الوجه المذكور.

قوله مدّ ظلّه: «يطهر ما أصابه».

بالشرط المذكور، و غير خفيّ أنّه في هذا الفرع و الفرع التالي عند انقطاع المطر، تسري النجاسة إلى الظاهر إذا كانت شرائطها موجودة.

نعم، تقف النجاسة على الخطّ المتّصل، و سرايتها إلى سائر الخطوط بوساطته محلّ شبهة، و لا سيّما الخطوط ذوات الوسائط.

ص: 105

[مسألة 21: إذا كان السطح نجساً، فنفذ فيه الماء، و تقاطر من السقف حال نزول المطر]

مسألة 21: إذا كان السطح نجساً، فنفذ فيه الماء، و تقاطر من السقف حال نزول المطر، يكون (1) طاهراً و إن كان عين النجس موجوداً على السطح، و كان الماء المتقاطر مارّاً عليه. و كذلك التقاطر بعد انقطاع المطر، إذا احتمل (2) كونه من الماء المحتبس في أعماق السقف، أو كونه غير مارّ على عين النجس، و لا على ما تنجّس بها بعد انقطاع المطر. و أمّا لو علم: أنّه من المارّ على أحدهما بعد انقطاعه، يكون نجساً.

قوله مدّ ظلّه: «يكون».

أي يكون ما تقاطر طاهراً؛ بشرط عدم التغيّر على الأحوط، و قد عرفت أنّ شرطيّة التقاطر على السطح المذكور ممنوعة، و يكفي اتصال هذا الماء النافذ بما يتقاطر عليه من السماء.

و قوله: «و تقاطر حال نزول المطر» موافق للتحقيق، و مخالف لما مرّ منه مدّ ظلّه للزوم التقييد المذكور.

قوله مدّ ظلّه: «إذا احتمل».

لقاعدة الطهارة، بل استصحابها، و لا وجه للإشارة إلى هذه الشبهات الموضوعيّة.

و يحتمل طهارة الماء المتقاطر و لو علم أنّه من المارّ على أحدهما بعد انقطاعه، خلافاً لما في المتن:

أمّا في صورة الانقطاع و النزول فوراً، فالوجه واضح.

ص: 106

و أمّا في صورة الانقطاع الكلّي؛ فلما مرّ(1) أنّه من تبعات مختار «الجواهر» (رحمه اللَّه)(2)؛ لكونه قريب الوجود و الصدق بالنسبة إلى المطر، فيكون مطراً عرفاً.

نعم، في مورد الفصل البعيد بين القطع و النزول فلا، و لكنّ الالتزام بها في الفرضين مشكل جدّاً.


1- تقدّم في الصفحة 97 98.
2- جواهر الكلام 6: 320 و 319.

ص: 107

[مسألة 22: الماء الراكد النجس، يطهر بنزول المطر عليه و امتزاجه به]

مسألة 22: الماء الراكد النجس، يطهر (1) بنزول المطر عليه و امتزاجه به، و بالاتصال بماء معتصم كالكرّ و الجاري، و الامتزاج به. و لا يعتبر كيفيّة خاصّة في الاتصال، بل المدار على مطلقه و لو بساقية أو ثقب بينهما، كما لا يعتبر علوّ المعتصم أو تساويه مع الماء النجس. نعم، لو كان النجس جارياً من الفوق على المعتصم، فالظاهر (2) عدم الكفاية في طهارة الفوقاني في حال جريانه عليه.

قوله مدّ ظلّه: «يطهر».

قد مرّ حكم هذه المسألة و اختلاف الأنظار(1)، و مقتضى إطلاق أدلّة المطر، كفايةُ الرؤية و الإصابة في المائع و الجامد، و حيث لا يلتزم به في الثاني فالأوّل مثله، و اشتراط الامتزاج بلا وجه يعتدّ به، و القدر المتيقّن لزوم الاستهلاك العرفيّ؛ بفناء النجس في الطاهر.

قوله مدّ ظلّه: «فالظاهر».

لاعتبار الامتزاج، و هو منتف، و لازمه طهارة المقدار الوارد الممتزج، و نجاستُه ما لم يمتزج بعد، و هذا مرجعه إلى أنّ للماء الواحد حكمين، و الإجماع منقول على خلافه. و أمّا على ما هو المذهب، فالمقدار المستهلك فانٍ في المعتصم، و الباقي ماء آخر، فلا يلزم تعدّد الحكم مع وحدة الماء، كما لا يلزم على القول: بكفاية الاتصال، و ما أُشير إليه لا يفرّق بين صورتي العلوّ و التساويّ، كما لا يخفى.


1- تقدّم في الصفحة 58 60.

ص: 108

[مسألة 23: الماء المستعمل في الوضوء، لا إشكال في كونه طاهراً]

مسألة 23: الماء المستعمل في الوضوء، لا إشكال في كونه طاهراً (1) و مطهّراً (2) للحدث و الخبث.

حكم الماء المستعمل قوله مدّ ظلّه: «طاهراً».

من غير نقل خلاف في طهارته، و أمّا جواز ترتيب جميع آثار الطهارة عليه- كالشرب مثلًا فهو كلام آخر؛ لأنّه ليس مجرّد طهارته كافياً فيه، و ما نسب(1) إلى بعض الأجانب من أنّ نجاسته مغلّظة(2)، فهو على ما عندي محلّ منع، و لا ينبغي الخلط بين الطهارة الاصطلاحيّة و النظافة العرفيّة.

قوله مدّ ظلّه: «مطهّراً».

و هو المشهور المعروف المدّعى عليه ضرورة المذهب(3)، و عليه أكثر المخالفين(4).

و غير خفيّ: أنّ مقتضى الأصل عدمها؛ فإنّ المطهّرية من الاعتبارات المحتاجة إلى الإمضاء، لجواز سلبها عنه بالضرورة، و ما يستدلّ به(5) من


1- مستمسك العروة الوثقى 1: 219.
2- المجموع 1: 151.
3- مستمسك العروة الوثقى 1: 219.
4- المغني 1: 18.
5- مستمسك العروة الوثقى 1: 219.

ص: 109

الإطلاقات المثبتة لمطهّرية جميع المياه(1)، محلّ إشكال مضى وجهه في أوائل البحوث السابقة(2)، و تفصيله في كتابنا الكبير(3)؛ ضرورة أنّ مفهوم «الطهور» غير ظاهر بعد بحسب اللّغة و الاستعمال.

و حديث الأدلّة الخاصّة(4) التي لا سند لها، لا يرجع إلى محصّل بتوهّم الانجبار؛ لأنّ الشهرة ليست عمليّة، حتّى ينجبر بها تلك الأخبار، مع أنّ من المحتمل اعتقاد السلف بأنّ المطهّرية مقتضى القواعد، فالاستناد إلى بعض أخبار(5) مسألتنا لا يكفي؛ لعدم استفادة حصر دليلهم به، مع الحاجة إلى فهم الانحصار في الانجبار.

فبقي أمر ثالث: و هو الاستصحاب، و ما هو التعليقيّ منه غير جارٍ؛ لأنّه ليس من تلك التعليقيّات الجارية، و التنجيزيّ منه و هو نفس عنوان «المطهّرية» الثابتة له قبل الاستعمال بالضرورة غير مخدوش بما قيل، و لكنّه مخدوش بما تحرّر منّا في الاستصحابات الحكميّة الكلّية،


1- وسائل الشيعة 1: 133، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1.
2- تقدّم في الصفحة 63.
3- تحريرات في الفقه، كتاب الطهارة، المبحث التاسع، فصل في المستعمل في الوضوء.
4- وسائل الشيعة 1: 209، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 8.
5- تهذيب الأحكام 1: 221/ 630، وسائل الشيعة 1: 210، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 8، الحديث 2.

ص: 110

كما أشرنا إليه سابقاً.

فعلى هذا، مطهّرية الماء المستعمل في الوضوء غير ثابتة جدّاً، و هذا هو المناسب لروح الإيمان و أُصول النظافة.

و ربّما إليه يرجع ما عن المحقّق الأكبر و المفيد الأعظم رضوان اللَّه تعالى عليه حيث اعتبر التحرّي(1)، و لكن قضيّة ما مرّ هو التعميم؛ لأنّ المستظهر من الكتاب و السنّة للانتقال إلى الترابيّة، فقدُ المطهِّر و لو كان ماءً عرفاً، فتأمّل جيّداً.

و حيث لا يجري استصحاب العدم الأزليّ؛ لحلّ مشكلة الماء الموجود بين يديك، فلا بدّ من الاحتياط بالتوضُّؤ به و الترابيّة.

هذا مع أنّ استصحاب عدم جعل المطهّرية، أيضاً غير جارٍ عندنا ذاتاً، فلا تصل النوبة إلى تخيّل المعارضة، حتّى يقال: بفقد المعارض الوجوديّ، فيبقى الأزليّ العدميّ بلا معارض، فاغتنم.

و ربّما يجوز لأحد دعوى القطع؛ بأنّ مثل هذا الماء غير النظيف، غير مطهّر شرعاً، فلا حاجة إلى الجمع بينهما.

أو يقول: إنّ التطهّر و المطهّرية، ليست لها حقيقة شرعيّة، بل لها ميزان عرفي رضي به الشرع، و العرف هنا غير مساعد، اللّهمّ إلّا أن يقال:


1- المقنعة: 64.

ص: 111

كما لا إشكال في كون المستعمل في رفع الحدث الأكبر، طاهراً (1) باختلاف العرف.

و لا ينبغي للعاقل التفكّر لملاحظة جهة خاصّة في الأحكام الشرعيّة، مثلًا النظر في مسألة النظافة لازم، و لكنّ النظر في بقائها من الحرج، و عدمُ اختلال نظم جماعة هي الأكثر ألزم، مع أنّ للشرع أنظاراً أُخر معنويّة مخفيّة علينا، فاتباع الأدلّة أشدّ و أكثر لزوماً و تحفّظاً، فلا تكن من الجاهلين.

قوله مدّ ظلّه: «طاهراً».

حسب الإجماعات المنقولة(1)، و الشهرات المحكيّة، و الاشتهار المحقّق بين المؤلّفين من الخاصّة و العامّة.

و فيهم من يقول: بنجاسته(2)، و ربّما ينسب(3) إلى ابن حمزة(4)، و هو حسب ما في عبارته غير تامّ، مع أنّ القائل بالنجاسة ربّما يكون نظره إلى النجاسة العرضيّة الآتية من قبل نجاسة البدن عادة، و تخيّل أنّه يرفع الحدث، كما ترفع الغسالة نجاسة الخبث، فهما في هذا الأمر


1- الخلاف 1: 172، مختلف الشيعة 1: 233، مستمسك العروة الوثقى 1: 219.
2- الخلاف 1: 172، المغني 1: 19/ السطر 5.
3- مستمسك العروة الوثقى 1: 219.
4- الوسيلة: 74.

ص: 112

و مطهّراً للخبث (1)، بل الأقوى كونه مطهّراً للحدث (2) أيضاً.

مشتركان؛ لما لا يخفى.

نعم، مقتضى معتبر ابن مسلم الآتي ذكره، نجاسته إلّا إذا كان كرّاً(1)، و لكن غلبة تنجّس بدن الجنب تمنع عن انعقاد الإطلاق.

قوله مدّ ظلّه: «و مطهّراً للخبث».

على المعروف المتّفق عليه بين القديم و الجديد، إلّا ما عن ابن حمزة(2) و قد مضى أنّه غير موافق للقواعد الاجتهاديّة و العمليّة، و تلك الشهرات و الإجماعات غير الواضحة عندنا، بل الواضح اتكاؤهم على هذه الآيات و السنّة التي بين أيدينا لا تنفع و لا تضرّ، و المتّبع هو البرهان، دون عقول الرجال و أفكار الفرسان.

قوله مدّ ظلّه: «للحدث».

وفاقاً للشهرة الحديثة، بل في «الروض»(3) و «الدلائل»(4): «أنّه


1- تهذيب الأحكام 1: 39/ 107، وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 1.
2- لاحظ مفتاح الكرامة 1: 88/ السطر 17، الوسيلة: 74.
3- روض الجنان: 158/ السطر 8.
4- مفتاح الكرامة 1: 88/ السطر 19.

ص: 113

المشهور»، و إليه ذهب طائفة من القدماء(1)، كالسيّد(2)، و أبي يعلى(3)، و ابن زهرة(4)، و خلافاً لجمع(5)، كالصدوقين(6)، و الطوسيّ(7)، و القاضي(8)، و المحقّق(9)، و عن «الخلاف»: «هو مذهب أكثر أصحابنا»(10).

و ظاهر ما نسب إلى أهل الخلاف(11)، هي الطهارة بلا تفصيل.

و يستظهر من «المبسوط» قول ثالث(12)، مذكور في الكتاب الكبير(13).

و ما هو محطّ البحث، هو الماء القليل الوارد أو المورود، و أمّا


1- نفس المصدر.
2- رسائل الشريف المرتضى 3: 22.
3- لاحظ مفتاح الكرامة 1: 88/ السطر 19.
4- الغنية ضمن الجوامع الفقهيّة: 490/ السطر 19.
5- لاحظ مفتاح الكرامة 1: 88/ السطر 22.
6- الفقيه 1: 10.
7- الوسيلة: 74.
8- جواهر الفقه: 8، المسألة 4.
9- شرائع الإسلام 1: 8.
10- الخلاف 1: 172.
11- لاحظ نفس المصدر.
12- المبسوط 1: 11.
13- تحريرات في الفقه، كتاب الطهارة، المقصد الأوّل، المبحث التاسع، فصل: المستعمل في الحدث الأكبر.

ص: 114

الكرّ و الجاري فهما على الظاهر خارجان عنه، و تفصيل البعض(1) هنا في غير محلّه.

و يشهد على حدود الخلاف بينهم، معتبر ابن مسلم المذكور في أخبار الكرّ، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) و سئل عن الماء تبول فيه الدوابّ، و تلغ فيه الكلاب، و يغتسل فيه الجنب قال: «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي ء»(2).

و قد عرفت كفاية الشكّ عندنا في ممنوعيّة المطهّرية، و هي هنا أقوى؛ لاعتضاد القاعدة بما أُشير إليه من الخلاف، و بطائفة من المآثير(3) التي لا تخلو عن الضعف سنداً و دلالة على سبيل منع الخلوّ، المحمولة على صورة نجاسة بدن الجنب، أو الكراهة؛ نظراً إلى أنّ مقتضى إطلاق بعضها، المنع(4) حتّى عن الكثير الذي اغتسل فيه الجنب، و هذا ممّا لا يمكن الالتزام به.


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 339.
2- تهذيب الأحكام 1: 39/ 107، وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 1.
3- وسائل الشيعة 1: 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 5، و 1: 163، الباب 9، الحديث 15، و 1: 211، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 13، و 1: 217، الباب 10، الحديث 2، و الباب 11، الحديث 1.
4- تهذيب الأحكام 1: 221/ 630، وسائل الشيعة 1: 215، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 13.

ص: 115

بقي شي ء: و هو أنّ مقتضى بعض الروايات، تجويز الاغتسال بالماء المستعمل(1)، فهي مقدّمة على قضيّة القاعدة المشار إليها، و من تلك الأخبار معتبر ابن مسلم: قلت لأبي عبد اللَّه (عليه السّلام): الحمّام يغتسل فيه الجنب و غيره، أغتسل من مائه؟

قال (عليه السّلام): «نعم، لا بأس أن يغتسل منه الجنب، و لقد اغتسلت فيه ..»(2).

و فيه: أنّ الماء الذي يغتسل منه في الحمّام، هي مياه الحياض الصغار، و هي عندنا كثير، مع أنّها متمادية بالمادّة الجعلية، فتكون خارجة عن محطّ الخلاف؛ ضرورة أنّه بحسب الطبع دائماً على التبادل، و ما هو مورد البحث هو الماء الذي اغتسل به الجنب، و انفصل من بدنه، و اجتمع في ظرف و إناء، فأراد هو أو غيره أن يغتسل به أو يتوضّأ، فإنّه حسب ما مرّ يحتاج مطهّريته إلى دليل، و قد عرفت قصور الأدلة برمّتها.

و ربّما يوجد في بعض الأخبار أيضاً، ما يقرب من الاستدلال المزبور، و هو خالٍ عن التحصيل، و ستمرّ عليك طائفة من الأخبار المتوهّم دلالتها


1- وسائل الشيعة 1: 211، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9.
2- تهذيب الأحكام 1: 378/ 1172، وسائل الشيعة 1: 211، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 3.

ص: 116

على هذه المسألة، مع أنّها تدلّ على طهارة ماء الغسالة، أو الماء المستعمل، دون المطهّرية.

فبالجملة: التوضّي من الإناء الذي فيه الماء، و إن يوجب صدق كونه «المستعمل في الوضوء» أو «الغسل» و لكنّه غير مقصود الباحثين، و ما هو محطّ النظر كما مرّ ممنوع مطهّريته عندنا هنا، كما مرّ في الوضوء.

و ممّا يؤيد ما أبدعناه؛ موثّق ابن ابي يعفور قال: «لا تغتسل من البئر التي تجتمع فيها غسالة الحمّام»(1) فتأمّل.


1- الكافي 3: 14/ 1، وسائل الشيعة 1: 219، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 11، الحديث 4.

ص: 117

[مسألة 24: الماء المستعمل في رفع الخبث]

مسألة 24: الماء المستعمل في رفع الخبث المسمّى ب «الغسالة» نجس مطلقاً (1).

قوله مدّ ظلّه: «نجس مطلقاً».

وفاقاً للمعروف المشهور بين المتأخّرين(1)، و هو مختار «المبسوط»(2) و «الخلاف»(3) و ظاهر «المقنع»(4) و «الوسيلة»(5) و خلافاً لأكثر القدماء(6)، و قد نسب إلى شيوخ المذهب، كالسيّد(7)، و الشيخ في مسألة الولوغ من «المبسوط»(8) و إلى أبناء أبي عقيل، و حمزة(9)، و إدريس(10).


1- تذكرة الفقهاء 1: 36، جامع المقاصد 1: 128، الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة 1: 25/ السطر 4.
2- المبسوط 1: 11 و 92.
3- الخلاف 1: 179، المسألة 135.
4- المقنع: 18.
5- الوسيلة: 74.
6- لاحظ مفتاح الكرامة 1: 90/ السطر 21.
7- الناصريّات ضمن الجوامع الفقهيّة: 215، المسألة الثالثة، راجع مدارك الأحكام 1: 119.
8- المبسوط 1: 15/ السطر 3.
9- الوسيلة: 74.
10- مفتاح الكرامة 1: 90/ السطر 22.

ص: 118

و هو ظاهر صاحب «الجواهر» (رحمه اللَّه)(1)، و الأشبه إلى القواعد؛ ضرورة أنّ مقتضى الاستصحاب و قاعدة الطهارة ذلك، و لو نوقش في الأوّل تسلم الثاني عن الأصل الحاكم.

و قد أوضحنا فساد الوجوه الخمسة التي يمكن الاتكاء عليه لنجاستها في الكتاب الكبير(2)؛ فإنّ حديث الإجماع(3)، و إلغاء الخصوصيّة عرفاً، و ارتكاز العرف على حمل الماء نجاسة المحلّ إلى الخارج، فيكون الماء نجساً، غير راجعة إلى محصّل، حتّى تكون دليلًا و حجّة، كي لا يصل الشكّ في الحكم، حتّى تشمله القاعدة.

و أمّا قضيّة مفهوم(4) أخبار الكرّ(5) فهي مضافاً إلى أنّ حجيّة مفهوم الشرط أوّلًا، و حجّية القضيّة الشرطيّة التي أداتها حروف وقتيّة ك «إذ» و «إذا».

ثانياً، فإنّها أقرب إلى بيان قيد للموضوع، دون التعليق للحكم، محلّ


1- جواهر الكلام 1: 353.
2- تحريرات في الفقه، كتاب الطهارة، المقصد الأوّل، المبحث التاسع، فصل في المستعمل في رفع الخبث.
3- مستمسك العروة الوثقى 1: 229.
4- مستمسك العروة الوثقى 1: 229.
5- وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9.

ص: 119

المنع أنّ كشف الإطلاق للمفهوم من جهات محطّ النظر:

فأوّلًا: من جهة أنّ كون كلمة «شي ء» أعمّ من الأعيان و المتنجّسات غير واضح، فلا يثبت عموم الدعوى به.

و ثانياً: أنّ مفاد المنطوق بعد كون كلمة «شي ء» كناية عن المنجِّس هو «أنّ الماء إذا كان يبلغ كرّاً لا ينجّسه منجِّس» و هذا غير معقول بعد كونه منجَّساً، فلا بدّ أن أُريد به أنّه لا ينجِّسه ما يمكن أن يكون منجِّساً لغيره، و في ناحية المفهوم يثبت إمكان التنجّس؛ و هو الأعمّ.

و ثالثاً: ليس مفهوم «لا ينجِّسه شي ء» جملةً إثباتيّة كما في كلام القوم؛ أي «ينجِّسه شي ء» بل المفهوم أيضاً سلب السلب جاء؛ أي «ليس لا ينجِّسه شي ء» و هو ظاهر في الجزئيّة.

و قد تحرّر: أنّ كلمة «ليس» لا سور القضيّة الجزئيّة(1)، فالخلاف بين العلمين (رحمهما اللَّه)(2) في المسألة الكلّية و لو كان خلافاً مقيّد بها، ليس بخلاف في خصوص هذه القضيّة، و لا سيّما على الوجه الأخير؛ فإنّه و لو كان النكرة قائمة مقام أداة العموم، كي يستفاد هنا أنّ الماء المذكور


1- تحريرات في الأُصول 5: 130.
2- لاحظ تحريرات في الأُصول 5: 124 125، مطارح الأنظار: 173/ السطر 29، كتاب الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 318، هداية المسترشدين: 291/ السطر 16.

ص: 120

لا ينجّسه كلّ شي ء، و لكن إذا كان مفهومه «ينجّسه كلّ شي ء» يثبت العموم الأفراديّ، و في المرحلة الثانية العموم الأحواليّ، كما هو مرام الشيخ الأنصاريّ (قدس سره).

إلّا أنّ مفهومه هو «أنّه ليس ينجّسه كلّ شي ء» و هو بحكم الإهمال، و إثبات الإطلاق لأجل الفرار عن لغويّة الإهمال ممنوع؛ لإمكان الأخذ بالقدر المتيقّن؛ و هو القليل المورود، لا الوارد و القليل الوارد الباقي فيه عين النجس مثلًا، لا الزائل و لو كان ممّا لا يطهر إلّا بالتكرر، خلافاً لما ينسب إلى بعضهم من التفصيل بين الغسلة الأُولى و الثانية(1)، و بين الغسلة المزيلة و غيرها(2)، كما أومى في المتن إليهما بقوله: «مطلقاً».

فالمهمّ في المسألة هي الأخبار الخاصّة، و من بينها ما هو الظاهر، كخبر العِيص بن القاسم، الذي رواه الشيخ في «الخلاف»(3) و الصدوق في «المقنع»(4) على عادته، و الشهيد في «الذكرى»(5) و المحقّق في


1- لاحظ مفتاح الكرامة 1: 90/ السطر 8.
2- العروة الوثقى 1: 39/ السطر 3.
3- الخلاف 1: 179.
4- المقنع: 18.
5- ذكرى الشيعة: 9/ السطر 17.

ص: 121

«المعتبر»(1) قال: سألته عن رجل أصابته قطرة من طشت فيه وَضوء.

فقال: «إن كان من بول أو قذر فيغسل ما أصابه»(2).

و في «الخلاف» قال: «و إن كان من وَضوء الصلاة فلا بأس»(3).

و ذهاب الجلّ و فيهم الوالد المحقّق(4) إلى أنّه نقيّ السند؛ لظهور نقل الشيخ عن كتابه، و طريقه إليه حسن، بل صحيح كما يظهر من «الفهرست»(5) و صرّح بحسنه «الحدائق»(6) و غيره(7) و يؤيده وجود مضمونها في المقنع(8) جدّاً، فلا يضرّ إضمارها غير تامّ عندي؛ لأنّ «الخلاف» كتاب ألّفه الشيخ في شبابه، و لو كان عنده كتابه لحكاها في «التهذيبين» مع أنّه أفتى على خلافه في موضع على الإطلاق(9)، و في موضع


1- المعتبر: 90.
2- وسائل الشيعة 1: 215، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 14.
3- الخلاف 1: 179، بتفاوتٍ في ألفاظها.
4- الطهارة) تقريرات الإمام الخميني( قدّس سرّه)(، اللنكراني: 28) مخطوط).
5- الفهرست، الشيخ الطوسي: 121.
6- الحدائق الناضرة 1: 479.
7- الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 322، مستمسك العروة الوثقى 1: 231.
8- المقنع: 18.
9- الخلاف 1: 181، المسألة 137.

ص: 122

بالتفصيل(1)، فلم يعمل به هو و لا الصدوق، مع ما نسب إلى القدماء من القول: بالطهارة(2).

هذا مع أنّ في طريقه إليه ابن أبي جِيد، و هو عليّ بن أحمد القمّي(3) غير المذكور بمدح و لا ذمّ.

و في سائر الأخبار(4) المستدلّ بها نظر واضح؛ لا يحتاج إلى التدبّر.

هذا مع أنّ هذه المسألة من المسائل المبتلى بها، فلو كانت نجسة لبانت غايتها، من غير حاجة إلى هذه الدلائل الساقطة.

و قد أوضحنا المؤيّدات للقول بالطهارة في الكتاب الكبير(5)، و في روايات الاستنجاء(6) أيضاً بعض الشواهد القويّة(7) على المسألة، و قول


1- الخلاف 1: 179، المسألة 135.
2- لاحظ مفتاح الكرامة 1: 90/ السطر 22.
3- لاحظ معجم رجال الحديث 21: 124، تنقيح المقال 2: 267/ 8162.
4- وسائل الشيعة 1: 212، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 4 و 14، و الباب 11، و 3: 496، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 53، الحديث 1.
5- تحريرات في الفقه، الطهارة، المبحث التاسع، فصل في المستعمل في رفع الخبث.
6- تهذيب الأحكام 1: 86/ 228، وسائل الشيعة 1: 222، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13، الحديث 4.
7- كما في معتبر محمّد بن النعمان الأحول عن أبي عبد اللَّه( عليه السّلام) قال: قلت له: أستنجي ثمّ يقع ثوبي فيه و أنا جنب فقال:« لا بأس به»، وسائل الشيعة 1: 222، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13، الحديث 4.

ص: 123

الفقيه الهمدانيّ (رحمه اللَّه): «بأنّ من استثناء ماء الاستنجاء يكشف نجاسة الغسالة»(1) من الظرافة في الاستدلال، أو كشف الاتفاق المعلوم حاله.

و لو وصلت النوبة إلى تمسّكهم بالأخبار، تقع العارضة بين ما مرّ و ما يأتي في مسائل الاستنجاء إن شاء اللَّه تعالى، و الترجيح مع الثانية؛ لذهاب المعروفين من العامّة إلى النجاسة(2)، مع أنّ القول بالطهارة موافق للكتاب(3) على وجه، كما لا يخفى.


1- مصباح الفقيه، الطهارة: 64/ السطر 36.
2- لاحظ الخلاف 1: 179 و 181، المسألة 135 و 137، المجموع 1: 158 و 2: 585.
3- الفرقان: 48.

ص: 124

[مسألة 25: ماء الاستنجاء]

مسألة 25: ماء الاستنجاء سواء كان من البول أو الغائط طاهر (1) قوله مدّ ظلّه: «طاهر».

على المعروف و المشهور، و المصرّح به في كلام جمع عدم الفرق بين الخبثين(1).

نعم، ما هو المحكيّ عن «الذخيرة»(2) بل و في «المدارك»(3): «أنّ عدم الفرق بمقتضى النصّ» مشكل جدّاً؛ لعدم ورود نصّ فيه.

مع أنّ قضيّة اللّغة أنّ «الاستنجاء» مربوط بالخبث الأكبر، و إن ألحقوا به الأصغر في الحكم من الطهارة أو العفو.

و بالجملة: في مسألة أعمّية الاستنجاء قد تبيّن عندنا في كتابنا الكبير(4) أنّه أعمّ بلا شبهة في محيط الاستعمال و الأخبار، ففي خبر الساباطيّ قال: سألته عن الرجل إذا أراد أن يستنجي بالماء، يبدأ بالمقعدة أو بالإحليل؟

فقال: «بالمقعدة ..»(5) الحديث.


1- المعتبر 1: 91، تذكرة الفقهاء 1: 37، الدروس الشرعيّة 1: 122.
2- لاحظ مفتاح الكرامة 1: 93/ السطر 23، ذخيرة المعاد: 143/ السطر 45.
3- مدارك الأحكام 1: 124.
4- تحريرات في الفقه، كتاب الطهارة، المبحث التاسع، فصل في ماء الاستنجاء.
5- الكافي 3: 17/ 4، وسائل الشيعة 1: 323، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 14، الحديث 1.

ص: 125

و فيه أيضاً: لو أنّ رجلًا أراد أن يستنجي من الغائط(1) .. الحديث.

و في رواية عبد الملك بن عمرو في الباب الثالث عشر من أبواب نواقض الوضوء: في الرجل يبول ثمّ يستنجي، ثمّ يجد بعد ذلك بللًا(2) .. الحديث.

و في حديث عن سَماعة مثله(3).

مع أنّ مقتضى التحقيق: أنّ حقيقة مادة «النجو» هو القطع من أُصول الشجرة، فالمستنجي كأنّه يقطع في الجانبين أُصول الخبثين، فراجع و تدبّر.

و أمّا مسألة طهارته على الإطلاق، أو نجاسته على الإطلاق، أو عفو بعض أحكامه، أو التفصيل بين البول و الغائط؛ بنجاسة الأوّل دون الثاني، أو العفو عن الثاني دون الأوّل، فهي وجوه بل أقوال، يلحق بالاتفاق القول: بالطهارة الموضوعيّة أو الحكميّة، المعبّر عنها ب «العفو» فيما يقتضيه


1- تهذيب الأحكام 2: 201/ 789، وسائل الشيعة 1: 318، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 10، الحديث 3، بتفاوت يسير.
2- تهذيب الأحكام 1: 20/ 50، وسائل الشيعة 1: 282، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 13، الحديث 2.
3- تهذيب الأحكام 1: 51/ 150، وسائل الشيعة 1: 283، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 13، الحديث 4.

ص: 126

الدليل، و لو قلنا: بطهارته، فالمنع يحتاج إلى دليل.

و الذي هو الحقّ: أنّ ماء الاستنجاء بالمعنى المراد عندهم كما يأتي عند ذكر الشرائط يعدّ من الغُسالة، و قد مرّ طهارتها عندنا(1)، فهي هنا تكون أقوى، و لا سبيل إلى التمسّك(2) بأدلّة انفعال القليل؛ لما مرّ.

و أمّا على القول: بنجاسة الغسالة، فالأشبه و الأقرب نجاسة الاستنجاء؛ جمعاً بين أدلّة انفعال القليل، و بين أدلّة منجّسية المتنجّس(3)، و بين أخبار المسألة؛ بحملها على عدم شرطيّة طهارة الثوب الذي يصلّى فيه الواقع في ماء الاستنجاء، كما في روايات الاستنجاء(4).

فما في كتب المتأخّرين بعيد عن الصواب؛ لأنّ هذه الأخبار إمّا تدلّ على طهارة الغسالة، و لا خصوصيّة لها، بل كثرة الابتلاء بغيرها في حدّها، و إمّا لا تدلّ على شي ء إلّا جواز الصلاة في الثوب الواقع فيه؛ ضرورة أنّ الجهة المسئول عنها بين السائل و المجيب في الثوب المذكور في الروايات الكثيرة، هو الصلاة فيه، دون شي ء آخر؛ فإنّه بعيد، كشرب


1- راجع التعليقة رقم 117.
2- كتاب الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 346، التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 360.
3- الفقيه 1: 14/ 26، وسائل الشيعة 1: 142، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 4، الحديث 1.
4- وسائل الشيعة 3: 501، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 60.

ص: 127

الماء إذا وقع فيه الثوب، أو الطواف به.

كما أنّ المتفاهم منها اختصاص الحكم بالماء الذي استنجي به الخبث الأكبر؛ لأنّه الذي يقع فيه الثوب المتعارف في بلد الأخبار و الروايات، فلا تصل النوبة إلى معارضة العمومات الثلاثة، و الابتلاء بما لا يُعتنى به، كما في كتب بعض المتأخّرين، كالشيخ (رحمه اللَّه)(1) و أتباعه(2).

نعم، في تلك الأخبار رواية «التهذيب» بسند معتبر، عن عبد الكريم ابن عتبة الهاشميّ قال: سألت أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) عن الرجل يقع ثوبه على الماء الذي استنجى به، أ ينجِّس ذلك ثوبَه؟

فقال: «لا»(3).

فإنّه و إن يشهد على نجاسة الماء كما هو خيرة القائلين بالعفو، و تكون شاهدة على مفاد سائر الأخبار الساكتة عن الحكم الوضعيّ، و لكنّها تدلّ على طهارة الملاقي، و لازم ذلك تخصيص منجّسية المتنجّس على القول بإطلاق دليله، كما لا يخفى.

و يحتمل أن يكون عدم منجّسيته؛ لأجل عدم نجاسته، فتدلّ على الطهارة،


1- الطهارة، الشيخ الأنصاري 1: 347.
2- مصباح الفقيه، الطهارة: 65/ السطر 25.
3- تهذيب الأحكام 1: 86/ 228، وسائل الشيعة 1: 223، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13، الحديث 5.

ص: 128

و تؤيّد التفاهم البدويّ من سائر الأخبار.

و يحتمل أن تكون ناظرة إلى عدم تنجّس الثوب حكماً؛ لجواز الصلاة فيه، و حيث إنّه الأثر الواضح صحّ السلب المذكور، فلا يلزم تخصيص في أخبار انفعال القليل، و لا في منجّسية المتنجّس.

و غير خفيّ: أنّه لو خصّص أخبار الانفعال بتلك الأدلّة، فيلزم خروجه موضوعاً عن إطلاق دليل تنجيس المنجّس، و لا تقييد، كما أنّ الأمر كذلك بالنسبة إلى دليل شرطيّة طهارة ثوب الصلاة(1).

و لو قلنا: بأنّه نجس غير منجِّس، يبقى عموم أدلّة الانفعال على حاله، دون العموم الثاني، و يخرج موضوعاً عن العامّ الثالث، فتلك العمومات ليست عرضيّة، بل هي طوليّة غير متعارضة صناعةً.

و الذي يسهّل الخطب: أنّ ابن عُتْبة اللهبيّ الهاشميّ أمره مريب عندي، و لا يكفي مجرّد توثيق الشيخ (رحمه اللَّه)(2) و رواية بعض أصحاب الإجماع(3)؛ لما في تأريخه بعض الكلام، و لذلك قيل: «في توثيق الشيخ


1- وسائل الشيعة 3: 428، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 18 22 و 30 و 31 و 40 47.
2- رجال الطوسي: 354.
3- و هو أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي الواقع في طريق الصدوق( رحمه اللَّه( إليه، مشيخة الفقيه 4: 55.

ص: 129

إذا لم يتغيّر أحد أوصافه الثلاثة (1). و لم يكن فيه أجزاء متميّزة (2) عند عدّه من أصحاب أبي الحسن (عليه السّلام) إشكال»(1) لكونه منهم غير واضح، و لم يوثّقه غيره إلّا تبعاً له(2)، و لا هو إلّا في ذلك الموضع.

و لكن مع ذلك كلّه، لا يبعد اعتباره؛ لإمكان ما قيل في حياته من الخدشة(3) فراجع، نعم هو من المعمّرين ظاهراً، و مع ذلك قليل الرواية جدّاً.

و توهّم الانجبار في غير محلّه؛ لأنّ الشهرة أوّلًا على الطهارة غير معلومة، مع أنّها شهرة غير عمليّة.

قوله مدّ ظلّه: «أحد أوصافه الثلاثة».

قد مرّ ما فيه و ما في اختصاص الحكم بالثلاثة(4)، فالاحتياط لا يترك على الإطلاق.

قوله مدّ ظلّه: «متميّزة».

لما في رواياتها من الاختصاص بالماء المستنجى به(5).

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ المتعارف وجودها فيه، و دعوى أنّ وقوع الثوب في ذلك الماء بعد تبديل المكان، غير واضحة، مع أنّ السكوت و عدم ذكر


1- لاحظ تنقيح المقال 2: 160/ السطر 3.
2- لاحظ تنقيح المقال 2: 159.
3- تنقيح المقال 2: 160.
4- تقدّم في الصفحة 28 و 33.
5- وسائل الشيعة 1: 221، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13.

ص: 130

من الغائط (1)، و لم يعدّ فاحشاً على وجه لا يصدق معه «الاستنجاء (2)» السؤال من قبل المعصومين (عليهم السّلام (في هذه الحال، أيضاً يؤكّد.

و بذلك يقع الفرق بين ماء الغسالة و ماء الاستنجاء عندنا؛ فإنّ الأوّل طاهر بالشرط، و الثاني غير مشروط بما أُفيد على الأشبه، فتأمّل.

قوله مدّ ظلّه: «من الغائط».

أي الذي استنجي منه، و أمّا ما هو الخارج الأجنبيّ عنه فالانفعال قطعيّ.

قوله مدّ ظلّه: «لا يصدق معه الاستنجاء».

لا منع من صدقه إذا كان يستنجي بالنسبة إلى محلّ النجوة و المحلّ المتعدّى إليه، فإنّه يصدق، و مع ذلك يشكل؛ لصدق «الاستنجاء» مقروناً بغسل المحلّ الآخر، فتدبّر.

هذا بناءً على نجاسة الغسالة، و إلّا فمع شرائط طهارة الغسالة فلا يضرّ التجاوز المذكور.

و ربّما يتوهّم في صورة اختلاط ماء الاستنجاء مع ماء المحلّ الزائد الفاحش، تعارضُ الإطلاقين إذا صدق على الماء الموجود الواقع فيه الثوب «ماء الاستنجاء» و «الغسالة».

و تخيّل تقدّم الإطلاق الثاني على الأوّل، في غير محلّه، كما أنّ توهّم انصراف الإطلاق إلى غير هذه الصورة، ممنوع.

ص: 131

و لم تصل إليه نجاسة من خارج (1)، و منه ما إذا خرج مع البول أو الغائط نجاسة أُخرى مثل الدم (2)، حتّى ما يعدّ جزءً منهما على الأحوط (3).

نعم، إنكار الإطلاق لأخبار الباب من أجل أنّه إطلاق سكوتيّ ممكن؛ لأنّ الغلبة مع عدم التعدّي الفاحش، فلا يحصل من ترك الاستفصال شي ء، كما لا يخفى.

قوله مدّ ظلّه: «من خارج».

قد مرّ وجهه، و لا يختصّ الحكم بالنجاسة؛ فإنّ بحكمها المتنجّس.

و الأولى أن يقال: «و أن لا يتنجَّس بمنجِّس آخر» فإنّه يشمل صورة وصولها إليه، أو ورود الماء عليها.

قوله مدّ ظلّه: «مثل الدم».

يندرج ذلك في الشرط السابق؛ لأنّه شي ء أجنبيّ خارج، كدم البواسير و النواسير و أمثالهما، فما في بعض الكتب؛ من عدّه شرطاً آخر(1)، في غير محلّه.

قوله مدّ ظلّه: «على الأحوط».

فيما إذا كان يتبدّل الخرء بالدم في الجوف، ربّما يشكل القول بنجاسته(2).

اللهمّ إلّا أن يقال: بعدم ثبوت الإطلاق في الباب رأساً، فيرجع إلى


1- العروة الوثقى 1: 47، فصل الماء المستعمل في الوضوء، المسألة 2.
2- نفس المصدر.

ص: 132

أدلّة انفعال القليل، و ما في كلام القوم؛ من توهّم الإهمال من هذه الجهة في أخبار المسألة(1)، غير تامّ، و لا تختلط.

و أمّا وجه الاحتياط في صورة عدّه جزءً من الخرء و الغائط فواضح؛ ضرورة أنّه قويّاً يحتمل كون المورد وارداً في محطّ الأخبار؛ ممّا يعدّ ماؤه من ماء الاستنجاء بالنسبة إلى الجزء الآخر، و قضيّة المعارضة هو الاحتياط؛ لإمكان ترجيح كلّ من الإطلاقين على الآخر كما مرّ، فلا تثبت المعارضة حتّى تندرج في الأخبار العلاجيّة. نعم، على ما عرفت منّا، يقدّم أخبار الانفعال.

نعم، في ثبوت الإطلاق هناك أيضاً بحث، فاغتنم.

ثمّ إنّ هاهنا شروطاً أُخر ذكرناها في كتابنا الكبير(2)، و في بعض تعاليقنا على «العروة الوثقى»(3) فليراجع، و من تلك الشرائط؛ الاستنجاء في المحلّ الذي بال عليه كما هو المتعارف، و ترشّح من مائه على ثوبه مثلًا بعد ملاقاته لذلك المحلّ، فإنّه- حسب ما يستظهر منهم نجس؛ لكونه ملاقياً للنجاسة الخارجيّة، إلّا أنّ احتمال طهارته قويّ؛ للتعارف في البول، كما مرّ في الغائط، اللّهمّ إلّا أن يقال: التعارف غير معلوم، فتأمّل.


1- مستمسك العروة الوثقى 1: 237.
2- تحريرات في الفقه، كتاب الطهارة، المبحث التاسع، فصل في شروط طهارة ماء الاستنجاء.
3- تعليقة على العروة الوثقى: 70 71 و تحرير العروة الوثقى: 65.

ص: 133

[مسألة 26: لا يشترط في طهارة ماء الاستنجاء، سبقُ الماء على اليد]

مسألة 26: لا يشترط في طهارة ماء الاستنجاء، سبقُ الماء على اليد و إن كان أحوط.

[مسألة 27: إذا اشتبه نجس بين أطراف محصورة]

مسألة 27: إذا اشتبه نجس بين أطراف محصورة كإناء في عشرة يجب الاجتناب (1) عن الجميع، و إذا لاقى بعضَ أطرافه شي ءٌ ..

قوله مدّ ظلّه: «يجب الاجتناب».

على المعروف و المشهور بين المحصّلين، و الكلام هنا في مفروض الماتن.

و بالجملة: مقتضى العلم الإجماليّ هو الاجتناب عقلًا، كما تحرّر في محلّه(1)، من غير فرق بين تعلّقه بالحكم، أو بالحجّة القائمة على وجوب الاجتناب عن النجس شرعاً، هذا هو مقتضى العقل.

و أمّا قضيّة النقل، ففيما إذا تكن الحالة السابقة في بعضها النجاسة، فالمعروف عنهم أمران:

أحدهما: عدم جريان أدلّة الأُصول رأساً.

و ثانيهما: جريانها ذاتاً، و سقوط الكلّ بالمعارضة، سواء كانت الأُصولَ العدميّة الأزليّة، أو الأُصولَ الوجوديّة؛ من الاستصحاب، أو قاعدة الطهارة.


1- تحريرات في الأُصول 6: 184.

ص: 134

و الذي قوّيناه في محلّه(1)، جريانُها و عدم سقوطها، من غير أن يلزم المناقضة و الرخصة في المعصية أو اللّغوية، كما تحرّر في كتابنا الكبير فقهاً(2) و أُصولًا(3). هذا كلّه بحسب جميع أطراف المعلوم بالإجمال.

و أمّا في خصوص المعلوم نجاسته، فربّما يستظهر من قاعدة الطهارة، دخالة العلم بالنجاسة تفصيلًا، كما عن «الحدائق» و لكنّه ضعيف.

أو يستظهر: أنّ ما هو موضوع القاعدة، عنوان «المشكوك نجاسته» و بينه و بين عنوان النجس ك «البول» مثلًا عموم من وجه، و في موارد العلم الإجماليّ يكون كلّ واحد موضوعاً للقاعدة، و ما هو البول واقعاً موضوع دليل تحريم النجس، فتقع المعارضة، و يلزم إنكار الحكم الظاهريّ؛ فإنّ الطهارة حكم مجعول واقعاً على العنوان المزبور، كالنجاسة على عنوان «البول» فإن أحرزنا أهمّية جانب الحكم الواقعيّ- كما في الشبهات المهتمّ بها يقدّم جانبه، و إلّا فيقدّم جانب الحكم الآخر المسمّى ب «الظاهريّ» عند الأصحاب (رحمهم اللَّه).

و هذا نظير موارد الاضطرار و الاستكراه في صورة اعتبار الشرع عذريّة


1- تحريرات في الأُصول 7: 331 332.
2- تحريرات في الفقه، كتاب الطهارة، المبحث العاشر، فصل إذا علم إجمالًا بنجاسة ماء في إحدى الإناءات.
3- تحريرات في الأُصول 7: 331 332.

ص: 135

الاضطرار و الاستكراه، فإنّه لا يلزم على ما هو الحقّ رفع الحكم في مواردهما، بل الحكم الفعليّ باقٍ، و الرخصة ثابتة؛ لأهمّية جانب الرخصة، و الشرع في موارد الشكّ اعتبر الرخصة ذات أهمّية؛ لما فيها من السهولة و السماحة التي بنيت عليها الشريعة، و تمام الكلام في محلّ آخر.

و لو أبيت عن تصديق الوجه الأخير، فيكفيك الوجه العامّ المقتضي لجريان جميع الأُصول في أطراف جميع موارد العلم الإجماليّ، و كما في الشبهات المهتمّ بها، فإنّه في غيرها يجوز ارتكاب الكلّ على الأشبه.

و لعلّ إلى ما ذكرناه يرجع ما نسب(1) إلى العلمين؛ الخوانساري و القمّي (رحمهما اللَّه)(2)، فإنّهما لا ينكرون تنجيز العلم ظاهراً، بل يرخّصان ارتكاب المجموع، فليراجع، و اغتنم جيّداً.


1- فرائد الأُصول، الشيخ الأنصاري 2: 451.
2- مشارق الشموس: 77، قوانين الأُصول 2: 37/ السطر 3.

ص: 136

ص: 137

[كتاب الصلاة]

اشارة

كتاب الصلاة

القول في الخلل

اشارة

ص: 138

ص: 139

القول في الخلل القبلة

[مسألة 4: من صلّى إلى جهة بطريق معتبر، ثم تبيّن خطأه]

مسألة 4: من صلّى إلى جهة بطريق معتبر، ثم تبيّن خطأه، فإن كان منحرفاً عنها إلى ما بين اليمين و الشمال (1)، القول في خلل القبلة(1) قوله مدّ ظلّه: «اليمين و الشمال».

في النصوص عنوانان، عنوان المشرق و المغرب، كما في معتبر زرارة(2) و غيره(3)، و عنوان اليمين و الشمال، كما في معتبر معاوية بن عمّار(4) الآتي إن شاء اللَّه تعالى، و عبائر القوم مختلفة.


1- هذه المسألة من المقدّمة الثانية من مقدّمات الصلاة في تحرير الوسيلة، ذكرها المصنّف( قدِّس سرُّه) هنا جمعاً بين مسائل خلل الصلاة في موضع واحد.
2- الفقيه: 180/ 855، وسائل الشيعة 4: 312، كتاب الصلاة، أبواب القبلة، الباب 9، الحديث 2.
3- وسائل الشيعة 4: 314 315، كتاب الصلاة، أبواب القبلة، الباب 10، الحديث 1، 2، 4، 5.
4- الفقيه 1: 179/ 846، وسائل الشيعة 4: 314 كتاب الصلاة، أبواب القبلة، الباب 10، الحديث 1.

ص: 140

صحّت صلاته، (1) و عن «كشف اللثام»: «لم أر عن قبل الفاضلين اعتبار المشرق و المغرب»(1).

و الأمر عند المحقّق سهل؛ لأنّ النظر الى المحدود في الأخبار دون المشرق و المغرب، كي يذهب بعضهم إلى أنّ المتعيّن ما في المتن، غافلًا عن اختلاف الأخبار في المعتبر، مع أنّ اتّباع عناوين الأخبار أقرب إلى الواقع.

قوله مدّ ظلّه: «صحّت صلاته».

على الإطلاق بالنسبة إلى الصلوات، و المفروض هنا هو الملتفت العالم، الخاطئ طريقه المعتبر شرعاً الذي مرّ تفصيله.

و بالجملة: لا وجه لتوهّم البطلان بعد الشهرة(2) و الأخبار الكثيرة(3)، و القدر المتيقّن منها هو المجتهد، أو الأعمّ منه، و من المتحرر المختبر الفاحص عن العلامات المستخرجة من قبل المجتهدين.

و غير خفّي: أنّ الماتن (قدِّس سرُّه) غير متعرّض لحكم سائر الفرق، كالجاهل،


1- كشف اللثام 1: 180/ السطر 34.
2- تذكرة الفقهاء 3: 32، شرائع الإسلام 1: 58، جامع المقاصد 2: 73، مفتاح الكرامة 2: 123/ السطر 30.
3- وسائل الشيعة 4: 314 315، كتاب الصلاة، أبواب القبلة، الباب 10.

ص: 141

و الناسي بقسميه، و الغافل و غيره هنا، و لا في فصل الخلل، و قد أوضحنا حال المسألة في الكتاب الكبير(1).

و ما قد يتوهّم(2) من ذهاب جملة من الأقدمين إلى الإعادة في الصورة المذكورة.

كمثل السيّد في «الناصريات»(3) بل و المفيد في «المقنعة»(4) و الشيخ في «المبسوط»(5) و «النهاية»(6) و «الخلاف»(7) و جملة من تلامذته(8)، و ابن إدريس في «السرائر»(9) فهو باطل؛ لأنّ المفروض هو أن يصلّي إلى غير القبلة، مع أنّ القبلة لمثل المجتهد مثلًا، ما بين المشرق و المغرب، كما في جملة من الأخبار(10).


1- تحريرات في الفقه، الخلل في الصلاة: 96 و ما بعدها.
2- مستمسك العروة الوثقى 5: 228.
3- الناصريّات، ضمن الجوامع الفقهية: 230/ السطر 29.
4- المقنعة: 97.
5- المبسوط 1: 80.
6- النهاية: 64.
7- الخلاف 1: 303.
8- الوسيلة: 99، الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 494/ السطر 4 5.
9- السرائر 1: 205.
10- وسائل الشيعة 4: 314 315، كتاب الصلاة، أبواب القبلة، الباب 10.

ص: 142

و إن كان في أثنائها مضى ما تقدّم منها، و استقام في الباقي (1)، و يكفيك ذهاب المشهور إلى صحّة صلاته، فيعلم منه أنّ المقصود في كلامهم، هو أن يصلّي دبر القبلة، و أنّه هو غير القبلة في الشرع.

قوله مدّ ظلّه: «في الباقي».

حسب القاعدة؛ لأنّ الشرط بحسب الجعل هو استقبال الكعبة، لا استقبال ما بين المشرق و المغرب، فإنّه خلاف الضرورة الإسلاميّة.

نعم، حيث كانت الصلاة الواقعة بتمامها حال الاجتهاد الخاطئ صحيحة حسب الأخبار، فإذا وقع بعضها الى ما بين المشرق و المغرب، و بعضها إلى الكعبة، فهو أولى بالصحّة، و إلّا فمقتضى الفهم العقلائي شرطيّة القبلة في الصلاة مطلقة، فيلزم بطلانها إذا توجّه إلى الإخلال بها.

و يحتمل صحتها، حسب إطلاق عقد المستثنى؛ لكفاية كون بعض الصلاة الى القبلة، و انصرافه عن العامد، فاغتنم.

هذا مع ذهاب الجميع(1) إلى الصحّة، و الاستقبال في الأثناء، وفاقاً لبعض النصوص، و معتبرها ما عن الكتب الثلاثة عن الساباطي، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) في رجل صلّى على غير القبلة، فيعلم و هو في الصلاة قبل أن يفرغ عن صلاته، قال:


1- شرائع الإسلام 1: 58، تذكرة الفقهاء 3: 29، جواهر الكلام 8: 37، مستمسك العروة الوثقى 5: 230.

ص: 143

من غير فرق بين بقاء الوقت و عدمه. (1) «إن كان متوجّهاً فيما بين المشرق و المغرب، فليحوّل وجهه إلى القبلة ساعة يعلم، و إن كان متوجّهاً إلى دبر القبلة، فليقطع ثمّ يحوّل وجهه إلى القبلة، ثمّ يفتتح الصلاة»(1).

و يؤيد ما ذكرنا في المسألة السابقة، ذهاب الأقدمين في هذه المسألة إلى ما مرّ، و إلّا يلزم طرح مجموع أخبار المسألة، فليتدبّر.

و لو كان زمان العلم بالانحراف إلى زمان الانحراف مضرّاً بالصحة فرضاً، يلزم أيضاً طرح خبر الساباطيّ، كما لا يخفى.

قوله مدّ ظلّه: «و عدمه».

بناء على تقريب عرفت أنّ الصّحة حسب القاعدة، و بناءً على إطلاق المعتبر السابق، و حمله على ضيق الوقت، حمل على النادر، و لو كان مورده سعة الوقت ففي الضيق أوضح، فليتدّبر.

فعلى هذا يتبيّن عدم الفرق من الجهتين.


1- الكافي 3: 285/ 8، تهذيب الأحكام 2: 48/ 159، وسائل الشيعة 4: 315، كتاب الصلاة، أبواب القبلة، الباب 10، الحديث 4.

ص: 144

و إن تجاوز انحرافه عمّا بينهما، أعاد (1) في الوقت دون خارجه و إن بان استدباره، إلّا أنّ الأحوط القضاء مع الاستدبار، قوله مدّ ظلّه: «أعاد».

على المشهور القريب من الإجماع(1)، إلّا أنّ الأشبه عندنا خلافه؛ و ذلك لأنّ مقتضى معتبر زرارة في الفقيه، عن أبى جعفر (عليه السّلام) أنّه قال: «لا صلاة إلّا إلى القبلة» قال: قلت: أين حدّ القبلة؟ قال: «ما بين المشرق و المغرب قبلة كلّه» قال: قلت: فمن صلّى لغير القبلة، أو في يوم غيم في غير الوقت؟ قال: «يعيد»(2).

و إذا لوحظ ذلك إلى عقد المستثنى من «لا تعاد»(3) يتبيّن سعة القبلة تعبّداً، بل صدر الرواية تومئ إلى أنّ الصلاة بدون القبلة ليست بصلاة ادّعاءً، كي تكون مصداق المأمور به، و يسقط بها الأمر.

و ما بين المشرق و المغرب ليس إلّا المحدودة، التي تتراوح فيها الشمس شرقاً و غرباً، و ذلك) 4 3 (من دائرة فلك المصلّي تقريباً، و دبر القبلة


1- الخلاف 1: 303، كشف اللثام 1: 180/ السطر 31، مفتاح الكرامة 2: 125/ السطر 25، مستمسك العروة الوثقى 5: 233.
2- الفقيه 1: 180/ 855، وسائل الشيعة 4: 312، كتاب الصلاة، أبواب القبلة، الباب 9، الحديث 2.
3- الفقيه 1: 181/ 857، تهذيب الأحكام 2: 152/ 597، وسائل الشيعة 4: 312، كتاب الصلاة، أبواب القبلة، الباب 9، الحديث 1.

ص: 145

يكون ذلك الربع الباقي تقريباً.

و لا وجه لحمل الرواية على المشرق و المغرب الشتائي أو الاعتدالي، أو المشرق و المغرب بالنسبة إلى المصلّي في زمان الصلاة، فإنّ كلّ ذلك تصرف فيه، بل مقتضى الإطلاق، و لا سيّما التأكيد المذكور سعة القبلة، و كأنّ النظر في الأخبار إلى أنّ التقسيم ثنائي، و الباطل من الصلاة ما وقع دبر القبلة، و الصحيح غير ذلك، و لا ثالث كما ترى في معتبر الساباطي السابق.

و الأخبار المشتملة بكثرتها على أنّ الصلاة لغير القبلة باطلة، للأمر فيها بالإعادة في الوقت، و عدمها خارجه(1)، ناظرة إلى مثل هذه القبلة المذكورة في معتبر زرارة، و هو مشتمل أيضاً على قوله: «فمن صلّى لغير القبلة».

و من الغريب ما في المفصّلات، من توهم المعارضة أو غير ذلك(2)، أو التمسّك ببعض الأخبار الضعيفة الأُخر، كرواية معمّر بن يحيى(3) المشتملة على إيجاب الإعادة خارج الوقت، الدالّة طبعاً على بطلانها في


1- وسائل الشيعة 4: 315 318، كتاب الصلاة، أبواب القبلة، الباب 11.
2- كشف اللثام 1: 180/ السطر 28، و لاحظ مصباح الفقيه، الصلاة: 114/ السطر 2 و 7.
3- التهذيب 2: 46/ 149، وسائل الشيعة 4: 313 كتاب الصلاة، أبواب القبلة، الباب 9، الحديث 5.

ص: 146

الوقت؛ كي يلزم إعادتها خارجه حسب القواعد، مع معارضته بالأخبار المفصّلة الآتية إن شاء اللَّه.

نعم، في خصوص المجتهد المخطئ يحتمل سعة القبلة، و صحّة صلاته و لو كان دبر القبلة؛ و ذلك لبعض روايات(1)، و مهمّها و معتبرها خبر الحلبيّ في أبواب الجماعة، حيث اشتمل على أنّ الأعمى يؤمّ القوم و هو على غير القبلة، قال (عليه السّلام): «يعيد و لا يعيدون، فإنّهم قد تحرّوا»(2).

و ذلك لأنّ التعليل و إن كان قابلًا لأن تقيّد به الإطلاقات الادّعائية، أو قابلًا لأن يكون قوله (عليه السّلام) ابتداء: «لا صلاة إلّا إلى القبلة» فتكون القبلة المنظورة في معتبر زرارة و غيره، مخصوصة بالمجتهد المخطئ، و لكنه مجرّد تخيّل القابليّة، و لا واقعيّة له جدّاً، لاحتمال كون مصبّ خبر الحلبي خارج الوقت، و في مورد يمكن التحري، فلم يتحرّ الأعمى و غير ذلك، إلّا أنّ الأشبه الأقرب أنّه صلّى إلى غير القبلة، و هو الدبر حسب ما عرفت منّا، فيعيد و لا يعيدون.

و بالجملة: مقتضى الطوائف المختلفة من الآثار، صحّة صلاة المنحرف


1- وسائل الشيعة 4: 315 318، كتاب الصلاة، الباب 11، الحديث 2 و 6 و 7.
2- الكافي 3: 378/ 2، تهذيب الأحكام 3: 269/ 771، وسائل الشيعة 8: 338، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة، الباب 21، الحديث 6.

ص: 147

بل مطلقاً (1).

إلى ما بين المشرق و المغرب، و إلى المشرق و المغرب، و عدم صحة المصلّي مستدبراً، و وجوب الإعادة، لوقوع صلاتهم إلى غير القبلة، إلّا المجتهد الخاطئ، و اللَّه العالم.

قوله مدّ ظلّه: «بل مطلقاً».

بل الأحوط هي الإعادة؛ لأنّ مثل معتبر زرارة و غيره، بعد ملاحظة سائر الأخبار، يصير مجملًا، و القدر المتقين منه هو ثُمن الدائرة، و إذا احتمل إعراض هؤلاء الأقدمون عنه، نرجع إلى مقتضى الضرورة، و هو أنّ نفس الكعبة قبلة؛ لأنّ احتمال الإعراض ليس كاحتمال التخصيص و التقييد، كما تحرر في محلّه(1).

و من هنا يظهر وجه القول باعتقاد القبلة بالنسبة إلى ثُمن الدائرة، كما ذهب إليه سيدنا الأُستاذ الفقيه البروجردي، و تبيّن وجه اعتقاده بالنسبة إلى نصف الدائرة في المجموع أي: ربعها من جانب كما ظهر وجه ما أبدعناه، و هكذا وجه إيجاب الإعادة مطلقاً في الوقت، نعم بالنسبة إلى خارج الوقت، الإعادة للنصوص الكثيرة(2).


1- تحريرات في الأُصول 6: 402 403.
2- وسائل الشيعة 4: 315 318، كتاب الصلاة، أبواب القبلة، الباب 11.

ص: 148

و إن انكشف في الأثناء انحرافه عمّا بينهما، فإن وسع الوقت حتّى لإدراك ركعة قطع الصلاة و أعادها (1) مستقبلًا، و الّا استقام للباقي، و صحّت على الأقوى و لو مع الاستدبار، و الأحوط قضاؤها أيضاً.

قوله مدّ ظلّه: «أعادها».

في الصورة المذكورة، أو يختصّ ذلك بما إذا كان مستدبر القبلة؛ فإنّه عندئذٍ لا دليل على اعتقاد القبلة، و لا على سعتها، فمقتضى القاعدة بطلانها، كما هو الظاهر، و هكذا مقتضى القاعدة الثانية، بناءً على إطلاق عقد المستثنى كما هو الأشبه، بل هي ليست بصلاة حسب صدر معتبر زرارة.

اللهمّ إلّا أن يقال: بعد عوده إلى القبلة، يشمله إطلاق عقد المستثنى على التقريب السابق، و تكون الصلاة التي بيده بعد العود إليها، صلاة واجدة للقبلة عقلًا و عرفاً، و لو كانت فاقده بالنسبة إلى بعض الأجزاء، و لا معنى لتوهّم فقدانها للقبلة، بعد العلم و قبل العود و حينه، كما هو واضح.

و أمّا خبر القاسم بن الوليد(1) فليس بمعتبر سنداً، على إضماره، بل و إعراضهم عنه، فتأمّل.


1- وسائل الشيعة 4: 314، كتاب الصلاة، أبواب القبلة، الباب 10، الحديث 3.

ص: 149

[القول في الخلل الواقع في الصلاة]

اشارة

القول في الخلل الواقع في الصلاة

[مسألة 1: من أخلّ بالطهارة من الحدث، بطلت صلاته مع العمد]

مسألة 1: من أخلّ بالطهارة من الحدث، بطلت صلاته (1) مع العمد، و السهو، و العلم، و الجهل، قوله مدّ ظلّه: «بطلت صلاته».

اتّفاقاً قطعيّاً(1)، و حسب النصوص الخاصّة(2) المتفرّقة في المسائل السابقة، و لم يعهد نقل خلاف من أحد في مطلق الإخلال العمدي و غيره.

نعم، لو أخلّ بالطهارة المائيّة بأن أهرق الماء عمداً، و أتى بالترابيّة، فالمعروف صحّة صلاته(3)، و عندي فيها مناقشة، و تفصيله في أحكام التيمّم، كما أنّه يمكن على وجه، اختيارُ الصحّة حتّى في صورة العمد بالإخلال بالطهور، و لكنّه عندي غير معقول، تحرّر تفصيله في


1- شرائع الإسلام 1: 81، تذكرة الفقهاء 3: 271، جواهر الكلام 11: 2 و 3، مستمسك العروة الوثقى 6: 525 526.
2- وسائل الشيعة 1: 365 374، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 1 4. وسائل الشيعة 7: 233 237، كتاب الصلاة، أبواب قواطع الصلاة، الباب 1.
3- جواهر الكلام 5: 88، العروة الوثقى 1: 471 فصل في التيمّم، المسألة 13، مستمسك العروة الوثقى 4: 320، تحرير الوسيلة 1: 103 فصل في التيمّم، المسألة 9.

ص: 150

بخلاف الطهارة من الخبث (1)، كما مرّ تفصيل الحال فيها و في غيرها من الشرائط، كالوقت، و الاستقبال، و الستر و غيرها.

الأُصول(1)، و في رسالة «لا تعاد»(2).

نعم، لو أخلّ بالطهور بالنسبة إلى بعض أجزاء الصلاة، فهو من نقصان الشرط، إلّا أنّ المركّب واجد له في الجملة، فربّما يكفي ذلك، كما في مثل الوقت، و لا ينافيه مستثنى «لا تعاد» كما لا يخفى، فلو توجّه في أثناء الصلاة إلى فقدان الطهور فتوضأ، صحّت صلاته حسب القاعدة، فتأمّل.

قوله مدّ ظلّه: «من الخبث».

ربّما يستظهر أنّ الفاقدة للطهور الخبثي و الحدثي ليست بصلاة، فكيف بكونها صحيحة، نظراً إلى قوله (عليه السّلام): «لا صلاة إلّا بطهور»(3) و هذا أصل، و الصحّة في بعض الفروض ربّما لا تنافي التعبير المذكور، و تفصيله في محلّه(4).


1- تحريرات في الأُصول 8: 97 و مابعدها.
2- رسالة في قاعدة« لا تعاد» للمؤلّف( قدّس سرّه)) مفقودة).
3- تهذيب الأحكام 1: 49/ 144 و 209/ 609، الفقيه 1: 35/ 129، وسائل الشيعة 1: 315، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 9، الحديث 1.
4- تحريرات في الفقه، الخلل في الصلاة: 194.

ص: 151

و من أخلّ بشي ء من واجبات صلاته عمداً (1)، و لو حركة من قراءتها و أذكارها الواجبة، بطلت، قوله مدّ ظلّه: «صلاته عمداً».

حسب درك العقل في المركّبات، و حكم العقلاء، بعد الفراغ عن جزئيّة حال العمد، و هو المفروغ عنه عند الأصحاب كافّة، قديماً و حديثاً(1).

و قد أشرنا إلى توهّم إمكان الالتزام بالصحّة(2)، كما في كلام العلّامة التقيّ الشيرازيّ(3)، و الوالد المحقّق(4)، و العلّامة الأراكي(5) عفي عنهم و لكنّه ممتنع عندنا(6).

و غير خفي: إنّه إذا ترك القراءة فمضافاً إلى ترك الجزء، أخلّ بشرط تكبيرة الافتتاح و السورة، لاشتراط كلّ منهما بلحوق القراءة و سبقها.

اللهمّ إلّا أن يقال بممنوعيّة ذلك؛ لأنّه مجرد انتزاع، أو اعتبار و تحليل عقلي، و لا يكون شرعيّاً.


1- شرائع الإسلام 1: 103، نهاية الأحكام 1: 527، مفتاح الكرامة 3: 281، مستند الشيعة 7: 86.
2- تقدّم في الصفحة 149.
3- الخلل في الصلاة، للمحقّق الشيرازي( رحمه اللَّه): 194/ السطر 16.
4- الخلل في الصلاة، الإمام الخميني( رحمه اللَّه): 6.
5- نهاية الأفكار 3: 434.
6- تحريرات في الفقه، الخلل في الصلاة، للمؤلف( قدّس سرّه): 7 و ما بعدها.

ص: 152

و كذا إن زاد (1) فيها جزء متعمّداً، قولًا أو فعلًا من غير فرق بين الركن و غيره، قوله مدّ ظلّه: «و كذا ان زاد».

إذا تمكّن من ذلك و لو عرفاً أي: بعد زيادة عرفيّة يكون باطلًا للإجماع(1)، بل الضرورة، و لاختصاص «لا تعاد» بالنقيصة، و إطلاق معتبر زرارة «من زاد في صلاته فعليه الإعادة»(2).

و لما تحرّر منّا في الأُصول: أنّ الفرد الممتثل به، المقرون بالمحرم و البدعة، بأن يزيد في صلاته على وجه يعدّ بدعة، أو يحسب تشريعاً، و لو لا يعقل التشريع بحسب القصد، إلّا أنّه يريد بذلك عدّ عمله من الشريعة.

و بالجملة: من يريد امتثال الأمر و التقرّب، قليل الوجود إن يريد ذلك، إلّا أنّه إذا اتّفق لأجل جهة ذلك، يلزم بطلانه، و لا معنى لدعوى صرفه عن العالم العامد، بحيث تصحّ صلاته لو اتفق، بل لو قيل بذلك فلأجل عدم اتّفاقه خارجاً، لما لا يخفى.

هذا مع أنّ المحرر في الأُصول: أنّ الزيادة في مثل الماهيّة المحدودة تكون مبطلة، حسب الأصل كالنقيصة(3)، و كما أنّ السهو من


1- شرائع الإسلام 1: 103، مستند الشيعة 7: 86 90، جواهر الكلام 12: 228.
2- الكافي 3: 355/ 5، تهذيب الأحكام 2: 194/ 764، الإستبصار 1: 376/ 1429، وسائل الشيعة 8: 231، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 19، الحديث 2.
3- تحريرات في الأُصول 8: 121 122.

ص: 153

بل و لا بين كونه موافقاً لأجزائها أو مخالفاً (1)، و إن كان الحكم في المخالف، بل و في غير الجزء الركني لا يخلو من تأمّل و إشكال (2).

النقيصة في غير الأركان لا يبطل، كذلك في الزيادة، و كلّ ذلك لاستفادة أنّ الصلاة في الشريعة ماهيّة محدودة عرفيّة اعتباريّة تأليفيّة، و إن لم يلزم من الزيادة نقصان، كالإخلال بالتوالي و الماهيّة الاتّصاليّة.

و قوله (عليه السّلام): «من زاد» ربّما هو ناشئ عن القاعدة الدالّة على محدوديّة الماهيّة و الصلاة، فاغتنم.

قوله مدّ ظلّه: «أو مخالفاً».

على المعروف المشهور(1)؛ لأنّ الزيادة لا تعقل إلّا بلحاظ لحوق الفرد، و المأتي به حتّى في المماثل، فعليه يمكن إلحاق الأجنبي به، حسب النيّة، و القصد و الإرادة، كما ترى ذلك في العمد المعذور، بالنسبة إلى التكتّف و قول آمين.

قوله مدّ ظلّه: «و إشكال».

كما هو في المستند بالنسبة إلى المخالف(2)، و في كتب بعض أصحابنا، بالنسبة إلى الجزء غير الركني(3)، و قد عرفت وجه البطلان و الزيادة.


1- العروة الوثقى 2: 4، فصل في الخلل الواقع في الصلاة، المسألة 4، مستند العروة الوثقى 6: 31.
2- مستند الشيعة 7: 82.
3- جواهر الكلام 12: 274، مصباح الفقيه، الصلاة: 546/ السطر 1.

ص: 154

نعم، إذا كان ممّا يناجي به ربّه، و يذكر به اللَّه تعالى، فهو من الصلاة- أي من اللواحق المصداقيّة كما هو يعلم بالقياس إلى المركّبات التأليفيّة.

نعم، بناءً على عموم المستثنى منه، و انصراف «من زاد» إلى الركعة، أو تقدّمه عليه، و إن لم يكن منصرفاً، لا تبطل الصلاة بتلك الزيادة العرفيّة؛ لأنّه إذا كان قاصداً به الصلاة يكون منها تعبّداً، بل حقيقةً، و يشمله ما ورد من جواز ما يناجي به ربّه، و لأجله قال دام ظلّه-: «و إن كان الحكم ..» إلى آخره، فيعلم منه أنّه لا تردد له في كونه زيادة و لاحقاً، و لا تردّد له في بطلان الصلاة بالمخالف، لما لا يناجي به ربّه، و لا يذكر به اللَّه.

و فيه: إنّ هذه الأخبار ناظرة إلى صورة الإتيان بها ذكراً و تقرّباً، لا تشريعاً و تعبّداً، على الوجه الممكن المحرّر في محلّه، فيبقى إطلاق المستثنى منه، و هو أعمّ من الموافق و المخالف، بعد كونه لاحقاً بالمصداق.

و لو استشكل في إمكان الزيادة لتقوّمها بالقصد، فلا فرق بينهما أيضاً، بل دعوى بطلانها بالموافق أقوى، لحصول الزيادة قهراً؛ لأجل السنخيّة، بخلاف المخالف.

ص: 155

و يعتبر في تحقّق الزيادة في غير الأركان (1)، الإتيان بالشي ء بعنوان أنّه من الصلاة أو أجزائها (2)، فليس منها الإتيان بالقراءة و الذكر و الدعاء في أثنائها، إذا لم يأتِ بها بعنوان أنّها منها، فلا بأس بها ما لم يحصل بها المحو للصورة، كما لا بأس بتخلّل الأفعال المباحة الخارجيّة، كحكّ الجسد و نحوه، لو لم يكن مفوّتاً للموالاة، أو ماحياً للصورة كما مرّ سابقاً.

قوله مدّ ظلّه: «في غير الأركان».

لا وجه له؛ لأنّ بطلان الصلاة بزيادة الركن مسألة أجنبيّة عن مسألة الزيادة فيها.

قوله مدّ ظلّه: «أو أجزائها».

لا يعتبر أكثر من الإتيان بعنوان الصلاة، فإنّ الجزئيّة تحصل قهراً، كما يستفاد من إفاداته مدّ ظلّه في الدروس.

نعم، قصد الشي ء الآخر ربّما يضّر بذلك كما إذا قرأ في الصلاة بعد تكبيرة الافتتاح، بعنوان الترحيم و النفسيّة لمؤمن، فإنّها لا تكون صلاة.

اللّهمَّ إلّا أن يقال بكفايتها، لدليل أنّه يذكر و يناجي به الربّ، و يكون من الصلاة مقيّداً أو واقعاً، فتأمّل.

ثمّ إنّ من المحتمل قويّاً كون الزيادة على قسمين: منها ما يبطل الصلاة، و منها: ما يستكمل بها الصلاة، بعد الفراغ عن إمكان الزيادة بالنسبة إلى الماهيّة التقديريّة، اللاحقة بالفرد الممتثل به و على

ص: 156

هذا لا وجه لمحو الصلاة بتلك الزيادة، للزوم محو الصلاة بالصلاة، حسب ما يستفاد من المتن، و لا بما يوجب كمالها حسب ما ذكرناه، فقوله مدّ ظلّه: «ما لم يحصل» أبعد عن الحقّ حسب مختاره، كما لا يخفى.

فرع: في الإتيان بالزيادة المستحبّة تشريعاً على الوجه المذكور، خلاف، و الأشبه بطلانها بها، كما تحرّر في التعبّدي و التوصّلي(1)، و في الإتيان بها لا بعنوانه، ففي بطلانها بها قولان.

و من الغريب توهّم أنّ ما في رواية الحلبيّ: قال أبو عبد اللَّه (عليه السّلام): «كلّ ما ذكرت اللَّه عزّ و جلّ به و النبي (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (فهو من الصلاة»(2) يشعر بوجوبه، لكونه منها(3)، غافلًا عن أنّه ناظر إلى أنّ الإتيان به حين الاشتغال بها، فهو منها قهراً أو تعبّداً، و على هذا، الإتيان بالقنوت في الأُولى حسب القاعدة مبطل، لكونه من الزيادة، فعليه الإعادة، إلّا أنّ مقتضى هذه الرواية و أشباهها: أنّ ما يناجي به اللَّه في الصلاة لا يضرّ بها، فتأمّل.


1- تحريرات في الأُصول 2: 184 185.
2- الكافي 3: 337/ 6، تهذيب الأحكام 2: 316/ 1293، وسائل الشيعة 7: 263، كتاب الصلاة، أبواب قواطع الصلاة، الباب 13، الحديث 2.
3- مستمسك العروة الوثقى 7: 388.

ص: 157

و أمّا الزيادة السهويّة، فمن زاد ركعة (1)، قوله مدّ ظلّه: «ركعة».

لا وجه للتعرّض له، بعد كون المراد مجموع الركوع و السجدتين، و بعد بطلانها بزيادة واحد منهما، إلّا أنّ المسألة في هذه الصورة أظهر؛ للنصوص الكثيرة(1).

هذا مضافاً إلى الاتّفاق القطعي، و لم يعرف من أحد خلافه، و هو مقتضى القاعدة الأوّليّة و الثانويّة، إلّا إطلاق حديث الرفع(2)، بناءً على جريانه في سهو الموضوع، و لكنّه محكوم الأدلّة الخاصّة، كما هو كذلك بالنسبة إلى خبر سفيان بن السمط(3) الماضي.

و بالجملة: معتبر الشحّام يكفي لقوله: سألته عن الرجل يصلّي العصر ستّ ركعات، أو خمس ركعات، قال (عليه السّلام): «إن استيقن أنّه صلّى خمساً أو ستّاً فليعد»(4) و غير خفيّ: أنّ اختصاص مثله بالفارغ عن الصلاة غير


1- وسائل الشيعة 8: 231 233، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 19.
2- وسائل الشيعة 8: 249، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 30، الحديث 2.
3- وسائل الشيعة 8: 251، كتاب الصلاة أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 32، الحديث 3.
4- تهذيب الأحكام 2: 352/ 1461، وسائل الشيعة 8: 232، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 19، الحديث 3.

ص: 158

معلوم، بل إطلاقه أعمّ.

فعلى هذا لا فرق بين ما إذا استيقن قبل التشهد، أو بعده، أو جلس بمقداره في الرابعة و في الأخيرة.

و من الغريب ما ذهب إليه جلّ من أصحابنا، كالشيخ في «التهذيب»(1) و المحقّق في «المعتبر»(2) و العلّامة في جمع من كتبه(3)، و عن ثاني الشهيدين نسبته إلى المتأخّرين، و هو أنّه إن كان جلس آخر الرابعة بقدر واجب التشهّد، صحّت صلاته(4).

و بعد التدبّر في أخبار المسألة، يؤيّد المذهب المذكور: أنّ التشهّد سنّة، و هي لا تنقض الفريضة، و الجلوس المذكور بمقداره، يوجب الخروج و لا تكون الخامسة من الزيادة موضوعاً، بخلاف زيادة الركوع؛ فإنّ مقتضى الأخبار الآتية بطلانها بها.

و يؤيّده أنّ «لا تعاد» مخصوص بالنقيصة، و الزيادة خارجة عنها،


1- تهذيب الأحكام 2: 194 ذيل الحديث 67.
2- المعتبر 2: 380.
3- مختلف الشيعة 2: 394، تحرير الأحكام 1: 49/ السطر 9 و 10، المنتهي 1: 409/ السطر 14.
4- مسالك الأفهام 1: 286.

ص: 159

و لو كانت مبطلة، فهو خلاف «أنّ السنّة لا تنقض الفريضة»(1) لأنّ اشتراطها بعدم الخامسة من السنّة.

و توهم الإعراض عن الأخبار الناطقة بالتفصيل المذكور(2)، في غير محلّه، بعد ذهاب «التهذيب» و المحقّق إليه.

نعم، الأخبار المفصّلة(3) مخصوصة بالخامسة دون الرابعة، في المغرب، و الثالثة في الغداة، و صلاة المسافر.

فعلى هذا يقيّد الإطلاق السابق، الحاكم ببطلان الصلاة بزيادة الركعة بمثل هذه النصوص، كصحيح ابن مسلم(4) و جميل(5).

و من الغريب ما عن بعضهم بحمل هذه الأخبار على الجلوس بمقدار التشهّد و الإتيان بوظائفه، و السلام(6)، غافلًا عن أنّ هذه الأخبار بصدد أنّ


1- وسائل الشيعة 5: 470، كتاب الصلاة، أبواب أفعال الصلاة، الباب 1، الحديث 14.
2- مستمسك العروة الوثقى 7: 392.
3- وسائل الشيعة 8: 232 233، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 19، الحديث 4، 5، 6، 7.
4- وسائل الشيعة 8: 232، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 19، الحديث 5.
5- وسائل الشيعة 8: 232، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 19، الحديث 4 و 6.
6- مستمسك العروة الوثقى 7: 392.

ص: 160

مثل هذه الركعة ليست زيادة؛ لأنّه قد أتى بما عليه.

و يؤيّدهم الأخبار الأُخر الحاكمة بتماميّة الواجب يأتيان الطهور و الركوع و السجود(1)، و حيث أنّ الفرض المذكور في الأخبار نادر الاتّفاق، فيلزم بطلان الصلاة بالركعة الزائدة دائماً، كما لا يخفى.

و الذي يسهّل الخطب: أنّ كيفيّة الصلاة اليوميّة، و بطلانها بالركعة الزائدة، ممّا قامت عليها السيرة العمليّة الشرعيّة أباً عن جدّ، مع ذهاب أبي حنيفة و الثوري(2) إلى التفصيل المذكور، و مع أنّ إخبارها عن الأئمّة المعاصرين لهما، و لذلك يعدّ القول المذكور منكراً في الفقه، و عند الخواصّ، فضلًا عن عوامّ الشيعة، فيكون هناك معارضة لا جمع عقلائي.

مع أنّ معتبر محمّد بن مسلم لا يخلو عن غرابة، ففي «الفقيه» عن العلاء، عن محمَّد بن مسلم، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام)، قال: سألته عن رجل صلّى الظهر خمساً، فقال (عليه السّلام): «إن كان لا يدري جلس في الرابعة أم لم يجلس، فليجعل أربع ركعات منها الظهر، و يجلس و يتشهّد، ثمّ يصلّي و هو جالس ركعتين و أربع سجدات، فيضيفهما إلى الخامسة، فتكون نافلة»(3).


1- وسائل الشيعة 6: 310، كتاب الصلاة، أبواب الركوع، الباب 9، الحديث 1.
2- المجموع 4: 163/ السطر 4 و 15، المغني 1: 684 685.
3- الفقيه 1: 229/ 1017.

ص: 161

أو ركناً (1) من ركوع و سجدتين من ركعة أو تكبيرة الإحرام سهواً، فإنّ ذلك و إن كان ناظراً بحسب الذيل إلى عدّ الركعتين جلوساً ركعة من قيام، إلّا أنّه أمر مبتدع أيضاً في الشريعة، كما لا يخفى.

و بالجملة: قضيّة الصناعة و لو كان ذلك، و لكنّه خلاف المرتكز في الشريعة، و يعدّ مستنكراً جدّاً.

قوله مدّ ظلّه: «ركناً».

إجماعاً، بل لم يعهد الخلاف في الطائفة، و هكذا في السجدتين، كما عن «المدارك»(1) و غيره ك «الرياض» و نحوه(2).

و توهّم أنّه مقتضى الركنيّة في غير محلّه، كما أنّ التمسّك بالأخبار الخاصّة المتعرّضة لبطلان الصلاة كمعتبرين على إشكال جدّاً لمحمّد ابن مسلم(3) الآتيين، و بعض الأخبار الأُخر المشتملة على بطلان الصلاة بالركعة، نظراً إلى أنّ الأصل أنّ الركعة هي الواحد من الركوع، فإنّه مصدر مثله، و يطلق في طائفة من الأخبار(4) على الركوع بقرينة المقابلة


1- مدارك الأحكام 4: 222 223.
2- رياض المسائل 1: 212/ السطر 15، مستند الشيعة 7: 123، مفتاح الكرامة 3: 289/ السطر 29.
3- وسائل الشيعة 8: 232 233 أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 19، الحديث 5 و 7.
4- وسائل الشيعة 6: 314، كتاب الصلاة، أبواب الركوع، الباب 11، الحديث 2.

ص: 162

مع السجدة، غير تامّ؛ لأنّه، إمّا بحمل أو منصرف إلى تمام أجزاء الركعة، و لا يبعد الثاني، فينحصر الوجه في غير الإجماعات و الشهرات المستقيمة و غير المستقيمة؛ لأنّها لا تكشف عن شي ء وراء ما عندنا.

و حيث هي ليست عمليّة، فليست جابرة لبعض الأخبار الخاصّة الناطقة بالبطلان كخبر منصور بن حازم، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام)، قال: سألته عن رجل صلّى فذكر أنّه زاد سجدة، فقال (عليه السّلام): «لا يعيد صلاته من سجدةٍ، و يعيدها من ركعة»(1).

و مثله خبر عبيد بن زرارة(2) و لو أمكن تصحيح الخبرين، و لا سيّما الأوّل، فكونها صريحة في المراد، محل منع، و في نسخة من «الفقيه»: «يعيدها من ركوعه»(3).

و يحتمل أن يقرأ، «يعيدها من ركعة» فإنّ الركع و الركوع مصدران، و لكنّه بعيد، إلّا أنّ أضبطيّة «الفقيه» تورث الوثوق بعد ذهاب المشهور إليه، على القول بكفاية التطابق بين مفاد الخبر و الشهرة الفتوائيّة


1- الفقيه 1: 228/ 1009، تهذيب الأحكام 2: 156/ 610، وسائل الشيعة 6: 319 كتاب الصلاة، أبواب الركوع، الباب 14، الحديث 2.
2- وسائل الشيعة 6: 319، كتاب الصلاة، أبواب الركوع، الباب 14، الحديث 3.
3- لاحظ جامع أحاديث الشيعة 6: 288/ 9487.

ص: 163

بطلت صلاته على إشكال في الأخير (1). و أمّا زيادة القيام الركني، للجبر، كما عن سيّدنا الأُستاذ البروجرديّ (رحمه اللَّه)(1) إلّا أنّه غير تامّ عندنا.

نعم، سند «الفقيه» إلى منصور معتبر عندي، فلا حاجة معه إلى الجبر.

و بالجملة: مضافاً إلى ما مرّ، يكون البطلان بزيادة الركوع و السجود، قضيّة «من زاد» حسب ما عرفت منّا، و أجنبيّة «لا تعاد» عن الزيادة على الإطلاق، إلّا في بعض الفروض، و ما نحن فيه ليس منها.

و مرسل سفيان أيضاً حسب ما في ذيله، يومئ إلى أنّ ترك سجدة واحدة يجتمع مع الصحّة دون السجدتين، كما أنّ في الأخبار(2) الحاكمة بالإعادة في صورة ترك الركوع و الدخول في السجدة، إشعاراً قوياً بذلك.

و يكفيك ارتكاز ذهن المتشرّعة بمثله، الذي ابتلي به المسلمون في كلّ يوم مرّات، و لا يقاس مثله بمسألة طهارة ماء البئر و نجاسته بتوهّم أنّ تلك الارتكازات مختلفة.

قوله مدّ ظلّه: «على إشكال في الأخير».

و بلا إشكال عند كافّة الأصحاب(3)، و في «المستند»: «أنّه إجماعي»(4)


1- نهاية الأُصول 2: 541 542.
2- وسائل الشيعة 6: 313، كتاب الصلاة، أبواب الركوع، الباب 10، الحديث 3 و 4.
3- مفتاح الكرامة 2: 336، جامع المقاصد 2: 234، المعتبر 2: 151، تذكرة الفقهاء 3: 111.
4- مستند الشيعة 7: 123.

ص: 164

و يحتمل لزوم الأخذ بالقدر المتيقّن منه، و هو الزيادة العمديّة، أو التقصيريّة الجهليّة دون السهويّة، و حيث لا نصّ على بطلانها بزيادتها، فالأصل يقتضي الصحّة.

و فيه: مضافاً إلى أنّه خلاف الأصل عندنا في الماهيّات المعدودة اعتباراً، و خلاف إطلاق «من زاد في صلاته»(1) بعد عدم جواز الاعتماد على مرسلة سفيان السابقة، و اختصاص «لا تعاد» بالنقيصة، يكون معقد الإجماع ظاهراً في السهويّة و الجهليّة، دون العمديّة، مع تعرض كثير منهم لصورة المسألة.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ «من زاد» في صلاته إمّا معناه أنّ الزيادة مانعة عن تحقّق الصلاة ادعاء، فهي ليست من الزيادة في الصلاة، و إن كان معناه أنّه يشترط في الصلاة عدم الزيادة، و وحدة التكبيرة و الركوع مثلًا، فلازمه بطلانها من جانب النقيصة، فيندرج في المستثنى منه من قاعدة «لا تعاد»؛ لأنّ تكبيرة الإحرام ليست من الخمسة، مع ظهور المستثنى في النقيصة، مع أنّه لا يعقل خلافه كما تحرّر.


1- وسائل الشيعة 8: 231، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 19، الحديث 2.

ص: 165

فلا تتحقّق (1) إلّا مع زيادة الركوع أو تكبيرة الإحرام.

و لو قلنا بأنّ الزيادة الموجبة للنقيصة، لا تكون إلّا في صورة كونها في الصلاة بحسب المصداق، كزيادة الركوع، و القراءة، و القنوت و أمثالها، و إِلّا فلا توجب النقيصة، فلازمه كون الموانع و القواطع من الصلاة.

نعم، يمكن دعوى أنّ في مثل الموانع و القواطع يلزم النقيصة، و لا يعدّ المخلّ بها من الصلاة بالضرورة، و أمّا ما كان من جنس الصلاة و أجزائها، ففي صورة الإتيان بها سهواً تعدّ من الصلاة.

و لو اقتضت «لا تعاد» صحتها، و «من زاد» بطلانها، يقدّم الثاني، لما تحرّر في وجه تقدّم «من زاد» على «لا تعاد» فزيادة تكبيرة الإحرام، مبطلة حسب الصناعة الدقيقة، مؤيّدة بتلك المحكيّات من الشهرة و الإجماعات. و قيل بعدم البطلان(1)، و هو غير متين.

قوله مدّ ظلّه: «فلا تتحقّق».

كما في «المستند»(2) و لا دليل على أنّ زيادة الركن بما هو هو، توجب البطلان، و لا على أنّ حقيقة الركن ما يوجب نقصانه و زيادته البطلان.

و مجرّد كلام «المهذّب البارع»(3) مع أنّه معارض بكلام المحقّق


1- مستند العروة الوثقى، كتاب الصلاة 6: 52 53.
2- مستند الشيعة 7: 126.
3- المهذّب البارع 1: 356.

ص: 166

الثاني(1) و غيره(2)، غير كافٍ، و ليست المسألة إلّا فقهية اصطلاحيّة، مصطادة عن اختلاف الأحكام، و تعابير الأخبار، و ربّما تكون بعض الأمور مقوّم الماهيّة تعبّداً، كقوله (عليه السّلام): «لا صلاة إلّا بطهور»(3) أو «لا صلاة لمن لم يقم صلبه»(4) على إشكال في الأخير.

و المسألة على هذا ترجع إلى زيادة الركوع و الافتتاحيّة، و غير خفيّ: أنّه لو كان في خصوص القيام حال تكبيرة الإحرام مثلًا دليل على أنّه مبطل، يمكن الأخذ بإطلاقه، و لو كانت تكبيرة الإحرام باطلة شرعاً، و صحيحة على الأعمّ، فافهم.

فعلى هذا نمنع الملازمة، كما لا ملازمة بين صدق الركوع و القيام، و لأجله يعدّ حراماً ركوع القاعد للأصنام و الأزلام، مع أنّه ركوع عرفاً، كما لو هوى من الجلوس إلى حدّ الركوع، لا يشمله مستثنى «لا تعاد» بالضرورة


1- لاحظ جامع المقاصد 2: 199، مفتاح الكرامة 2: 303/ السطر 7، الجواهر 9: 239.
2- روض الجنان: 258/ السطر 16 و 271/ السطر 23 و 275/ السطر 1.
3- تهذيب الأحكام 1: 49/ 144، وسائل الشيعة 1: 315، كتاب الطهارة، أبواب الخلوة، الباب 9، الحديث 1.
4- الكافي 3: 300/ 6 و 320/ 4، الفقيه 1: 180/ 856، وسائل الشيعة 5: 488 489، كتاب الصلاة، أبواب القيام، الباب 2، الحديث 1 و 2. لكن ورد في الحديث: من لم يقم صلبه« في الصلاة» فلا صلاة له.

ص: 167

و أمّا النيّة فبناء على أنّها الداعي لا تتصور زيادتها (1)، و على القول بالإخطار لا تضر (2)، و زيادة غير الأركان سهواً، لا تبطل (3) و إن أوجبت سجدتي السهو على الأحوط كما سيأتي.

عندنا، و تفصيله في أفعال الصلاة.

قوله مدّ ظلّه: «لا تتصور زيادتها».

لو نوى الظهر، ثمّ غفل غفلة موجبة للذهول عن خزانة النفس، فإن قلنا بأنّ الصلاة على ما افتتحت، معناه كفاية تلك النيّة البدويّة، فتلزم الزيادة الداعية إلى إتمام ما بيده ظهراً، إلّا أنّها لا تضرّ مثلًا، أو يلزم بطلان الصلاة بذهولها بتاتاً.

قوله مدّ ظلّه: «لا تضرّ».

لو كان من قصده التشريع، و بالجملة لو كان ملازماً لعمل محرّم، فكفاية ما يأتي به عندي محلّ تردّد جدّاً.

قوله مدّ ظلّه: «لا تبطل».

على المشهور المعروف قديماً و حديثاً(1)، و قد عرفت قصور «لا تعاد» عن شمول الزيادة، بل قد حرّرنا مناقشة في جواز التمسّك بها في النقيصة على إشكال، و أوضحنا امتناع شمولها للزيادة، كما حرّرنا وجه بطلان مثل


1- شرائع الإسلام 1: 105، مدارك الأحكام 4: 224 225، مستند الشيعة 7: 126.

ص: 168

الصلاة بالزيادة(1)، حسب القاعدة، و هو مقتضى إطلاق «من زاد في صلاته».

نعم، لو لا إرسال خير سفيان بن السمط كان الاعتماد عليه وجيهاً؛ لتقدّمه على «من زاد» كما تقدّم وجه، و لا شاهد على الشهرة العمليّة بالنسبة إليه.

اللّهمّ إلّا أن يقال بكفاية الشهرة الروائيّة حجّة، حسب ما حرّرناه في الأُصول(2).

و من الغريب إنكار دلالته على صحّة الصلاة، مع أنّ قاعدة الملازمة، تكشف عن مفروغيّة صحّة الصلاة المزيد فيها على الإطلاق.

و الحمد للَّه ربّ العالمين


1- الظاهر أنّه في رسالة لا تعاد و هي مفقودة.
2- تحريرات في الأُصول 6: 383.

ص: 169

ص: 170

[كتاب الصوم]

اشارة

كتاب الصوم

ص: 171

[القول في النيّة]

اشارة

القول في النيّة

[مسألة 1: يشترط في الصوم النيّة]

مسألة 1: يشترط في الصوم النيّة (1)، بأن يقصد إلى تلك العبادة المقرّرة في الشريعة، و يعزم على الإمساك عن المفطرات المعهودة (2) قوله مدّ ظلّه: «النيّة».

بالضرورة؛ لأنّه من الواجبات العنوانيّة التي لا تحصل خارجاً إلّا بها، بخلاف مثل الغسل، فإنّه يحصل و لو كان من باب الاتّفاق، و هذا هو المراد من النيّة المعتبرة قبال القربة، و سائر العناوين الأُخر التي تأتي الإشارة إليها.

قوله مدّ ظلّه: «عن المفطرات المعهودة».

سيمرّ عليك تفصيله(1)، و قد صرّح المصنّف بعدم لزوم ذلك، و قال بصحّة صوم من يعتقد أنّ الاحتقان ليس بمفطر و تركه من باب الاتّفاق.


1- يأتي في الصفحة 236.

ص: 172

بقصد القربة (1).

و لا يعتبر في الصحّة، العلم بالمفطرات على التفصيل (2)، فلو نوى الإمساك عن كلّ مفطر، و لم يعلم بمفطريّة بعض الأشياء كالاحتقان مثلًا، أو زعم عدمها و لكن لم يرتكبه، صحّ صومه، قوله مدّ ظلّه: «بقصد القربة».

بالضرورة؛ لأنّه من العبادات، و قضيّة الإطلاق عدم اعتباره، و القول بعدم جواز التمسّك بمثله في مثلها ناشئ عن شبهات عقليّة مندفعة في محلّها(1)، فالتقييد ثابت من سيرة المتشرّعة، و الإجماعات المحكيّة(2)، و الشهرات المحقّقة.

قوله مدّ ظلّه: «على التفصيل».

لأنّ طبيعة الصوم ليست إلّا الإمساك و قصد التجنّب عن مثل الأكل و الشرب، و للشرع إضافات و أحكام، فلا يعتبر العلم الإجمالي، كما يظهر من الفرع الآتي الّذي تفرّع عليه بقوله: «فلو نوى الإمساك» و غير خفيّ أنّه ليس متفرّعاً على قوله: «على التفصيل» بل المتفرّع عليه قوله: «و كذا لو نوى ..» إلى آخره، و الأمر سهل.

و بالجملة: مقتضى التحقيق أنّ الصوم متقوّم بقصد الإمساك عن شي ء،


1- تحريرات في الأُصول 2: 118 132.
2- التنقيح الرائع 1: 348، مستند الشيعة 10: 171، مهذّب الأحكام 10: 11.

ص: 173

و كذا لو نوى الإمساك عن أُمور يعلم باشتمالها على المفطرات، صحّ على الأقوى (1).

و ليكن ذلك مثل الأكل و الشرب، و أمّا سائر المفطرات، فهي إضافات شرعيّة، فلا يعتبر الالتفات إليها و قصد تركها، كما في مثل ترك القهقهة في الصلاة، و ترك تروك الإحرام في الحجّ، بناءً على ما تحرّر منّا في محلّه(1).

بل لو كان يعزم على ترك الأُمور التي ليست من المفطرات الشرعيّة؛ جهلًا، و اتّفق أن ترك المفطرات في ظرف الصوم، فلا يبعد صحّة صومه؛ لأنّ قصد القربة المعتبرة ليس مصبّه إلّا نفس الصوم، على أنّ القيود خارجة و التقيّد داخل، و من الواضح أنّ ما هو مورد الأمر هو الصوم، لا ترك هذه الأُمور بعناوينها حتّى يعتبر العلم بها، و يعتبر قصد القربة بالنسبة إلى تلك التروك.

قوله مدّ ظلّه: «صحّ على الأقوى».

هذا هو أولى بالصحّة من الفرع السابق، لما أنّه قصد- فرضاً جميع المفطرات، و الزائد عليها كالحجر جنب الإنسان. نعم لو كان في قصده التشريع بالنسبة إلى الزائد، فيمكن المناقشة في الصحّة، فتأمّل.


1- تحريرات في الفقه، كتاب الصوم، الجهة الثانية من المقدّمة.

ص: 174

و لا يعتبر في النيّة بعد القربة و الإخلاص، سوى تعيين الصوم (1) الذي قصد إطاعة أمره، و يكفي في صوم شهر رمضان نيّة صوم غد، قوله مدّ ظلّه: «تعيين الصوم».

لأنّ المفروض تقسيم الصوم إلى الأنواع و الأصناف كسائر العناوين، و منها الصلاة، فلا يكفي مجرّد قصد الصوم القربي؛ لأنّ المأمور به متقيّد بقيد آخر داخل في محطّ الأمر غير حاصل إلّا بالقصد.

نعم، ربّما يكون القيد المأخوذ في محطّ الأمر غير دخيل في الملاك، و قد تشبّث به المولى الآمر؛ نظراً إلى أنّه لا يتمكّن من تكثير الأمر التأسيسي إلّا بفرض القيد في الطبيعة؛ فإنّ تكثّر المتعلّق لازم في تكثّر الأمر المتعلّق به- على ما تحرّر في الأُصول(1) فحينئذٍ لا يلزم قصد ذلك القيد.

و لذلك لو أتى بصلاة الغفيلة- مثلًا غافلًا عن وقت مشروعيّتها، صحّت صلاته نافلة مطلقة؛ لأنّها مورد الأمر و الطلب بحسب اللبّ، و إن كان بحسب الإثبات متقوّماً بقيد؛ حتّى يمكن تكرار الأمر المتعلّق بالغفيلة و بالنافلة المطلقة، فاغتنم.


1- تحريرات في الأُصول 2: 257 259، و 5: 87 89.

ص: 175

من غير حاجة (1) إلى تعيينه، قوله مدّ ظلّه: «من غير حاجة».

على المشهور عندنا، و به قال بعض المخالفين(1)، و عن «الغُنْية» و «التنقيح» الإجماع عليه(2)، و هو مقتضى الإطلاق و غيره.

و في «التذكرة»: «إنّ القصد من نيّة التعيين تمييز أحد الفعلين، و لا يتحقّق التعدّد هنا فأشبه ردّ الوديعة»(3).

و قيل: إنّ الأمر ليس كذلك و لو لم يصحّ فيه غير صومه؛ لأنّ القربة معتبرة بالنسبة إلى خصوصيّات المأمور به(4). و هذا في غير محلّه؛ لأنّ مراد القائلين عدم خصوصيّة للصوم في رمضان، و أنّه في شهر رمضان لا يكون المأمور به إلّا نفس الطبيعة الفارغة عن مطلق القيود، فما أُفيدَ خالٍ عن التحصيل.

و الذي يظهر لي، و أُشير إليه آنفاً، عدم إمكان تعلّق الأمر التأسيسي بالطبيعة المطلقة ثمّ الأمر التأسيسي الآخر بها أو بالمقيّدة، بل لا بدّ من


1- المغني 3: 27/ السطر 9 15، و 28/ السطر 1 2، فتح العزيز 6: 292.
2- الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 509/ السطر 3، التنقيح الرائع 1: 348.
3- العبارة هكذا: لأنّ القصد من نيّة التعيين تمييز أحد الفعلين أو أحد وجهي الفعل الواحد عن الآخر، و لا يتحقّق التعدّد هنا؛ فإنّه لا يقع في رمضان غيره، فأشبه ردّ الوديعة. لاحظ تذكرة الفقهاء 6: 8.
4- مستمسك العروة الوثقى 8: 201.

ص: 176

بل لو نوى غيره فيه جاهلًا به أو ناسياً له صحّ (1) و وقع من رمضان، التباين بينهما في مرحلة الجعل و التشريع، فصوم شهر رمضان بما أنّه مضاف إلى الشهر مورد الأمر، و هو قيد له يوجب تمييزه عن غيره، كالظهريّة و العصريّة.

نعم، ربّما لا يكون القيد بحسب مرحلة الامتثال واجب التحصيل إذا اقتضت القرينة ذلك، فالخصوصيّة لازمة جعلًا، و غير لازمة أحياناً امتثالًا، و من القرينة الإجماع و الشهرة، و عدم وقوع غيره فيه على الإطلاق، و وقوع غيره فيه، منه حال الجهل و النسيان، مع أنّ المكلّف قصد الخلاف.

و لو نوقش في ذلك كما سيمرّ عليك أحياناً(1) لكان لنا استظهار كفاية ذلك من الكتاب؛ لقوله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ(2) فإنّ الشهر مفعول به، فلا بدّ أن يكفي نفس الطبيعة في مرحلة الامتثال، و لو كانت مقيّدة عقلًا بحسب مرحلة الجعل و الثبوت.

قوله مدّ ظلّه: «ناسياً له، صحّ».

على المعروف بينهم المحكي عليه الإجماعات الكثيرة(3)، و قد أُشير


1- يأتي في الصفحة 190 193.
2- البقرة( 2): 185.
3- مدارك الأحكام 6: 31، جواهر الكلام 16: 205، مستمسك العروة الوثقى 8: 201، مهذّب الأحكام 10: 17.

ص: 177

بخلاف العالم به، فإنّه لا يقع لواحد منهما (1).

إلى أنّ قضيّة القواعد فيما يُستفاد من الأدلّة، هو الاجتزاء أيضاً؛ لأنّ صوم رمضان غير متلوّن بلون الخصوصيّة إلّا في مرحلة الجعل- على وجه لا يلزم في مرحلة الامتثال مراعاته فعليه يصحّ عن رمضان، و يقع عنه.

و يشهد لخصوص صورة الجهل معتبر سماعة، قال: قلت لأبي عبد اللَّه (عليه السّلام): رجل صام يوماً- إلى أن قال (عليه السّلام): «و إنّما ينوي من الليلة أنّه يصوم من شعبان، فإن كان شهر رمضان أجزأ عنه، بتفضّل اللَّه تعالى، و بما قد وسّع على عباده، و لو لا ذلك لهلك الناس»(1).

و لا يبعد استفادة صورة النسيان منه؛ لأجل ما في ذيله إلّا أنّه ظاهر في الحكمة، لا العلّة.

ثمّ إنّ مقتضى عدم صالحيّة شهر رمضان لصوم غيره أيضاً هي الصحّة، و سيمرّ عليك تحقيقه(2)، و كان ينبغي التعرّض لتلك المسألة أوّلًا، ثمّ لفروعها، و تأتي إن شاء اللَّه تعالى مناقشتنا في عدم صالحيّته، فانتظر حتّى حين.

قوله مدّ ظلّه: «لواحد منهما».

أمّا عن رمضان فهو مختار جمع كالحلّيّ، و الشهيدين، بل و الكركيّ،


1- الكافي 4: 82/ 6، تهذيب الأحكام 4: 182/ 508، وسائل الشيعة 10: 21، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 5، الحديث 4.
2- يأتي في الصفحة 190 193.

ص: 178

و «المدارك»(1) و أمّا عن نفسه فلما سيمرّ عليك من عدم صلاحيّة رمضان لصوم غيره(2)، المدّعى عليه الإجماع(3) و الضرورة(4).

و يحتمل وقوعه عنهما؛ لأنّ المقيّد يوجب سقوط أمره و الأمر المتعلّق بالمطلق، لا بمعنى تعلّقه به في مرحلة التشريع و الجعل، فإنّه محال و ممتنع، بل بالمعنى الذي مرّ(5) الإيماء إليه، فيكون في مرحلة السقوط كافياً قصد الطبيعة القربيّة، كما يسقط أمر النافلة المطلقة و أمر صلاة التحيّة بإتيان الصلاة المخصوصة، و هذا هو الأشبه بالقواعد لولا الإجماع، أو الرواية(6).

و يحتمل وقوعه عن رمضان، كما هو الظاهر من «التذكرة»(7)، بل


1- السرائر 1: 372، الدروس الشرعيّة 1: 268، مسالك الأفهام 2: 12، جامع المقاصد 3: 59، مدارك الأحكام 6: 32.
2- يأتي في الصفحة 190 193.
3- الدروس الشرعيّة 1: 268.
4- جواهر الكلام 16: 203.
5- تقدّم في الصفحة 176.
6- الكافي 4: 130 131/ 1 و 5، وسائل الشيعة 10: 203، كتاب الصوم، أبواب من يصحّ منه الصوم، الباب 12، الحديث 4 5.
7- تذكرة الفقهاء 6: 10.

ص: 179

و «الشرائع»(1)، و هو المحكي عن «المبسوط»(2) و «المعتبر»(3)، نظراً إلى ما في الخبر السابق، و لما في ذيل خبر «الكافي» عن الزهريّ، عن عليّ بن الحسين (عليه السّلام) في حديث طويل قال: «و صوم يوم الشكّ أمرنا به و نهينا عنه» إلى أن قال-: فقلت: و كيف يجزي صوم تطوّع عن فريضة؟ فقال: «لو أنّ رجلًا صام يوماً من شهر رمضان تطوّعاً، و هو لا يعلم أنّه من شهر رمضان، ثمّ علم بذلك لأجزأ عنه؛ لأنّ الفرض إنّما وقع على اليوم بعينه»(4) و كون المفروض حال الجهل لا يضرّ؛ لعدم اتّفاقه حال العلم نوعاً و غالباً.

و يحتمل وقوعه عن الطبيعة المخصوصة، لاعن رمضان؛ لأنّ وقوعه عن رمضان بلا وجه، و على خلاف القاعدة، و في موارد وقوعه عنه تكون الرواية الخاصّة مقتضية إيّاه؛ لاختصاصها بغير صورة العلم، بل المستند هو الإجماع(5)، و معقده مخصوص بغير صورة العمد، بل فيها الإجماع


1- شرائع الإسلام 1: 169.
2- المبسوط 1: 276.
3- المعتبر 2: 645.
4- الكافي 4: 83/ 1، وسائل الشيعة 10: 22 كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 5، الحديث 8.
5- مدارك الأحكام 6: 31، جواهر الكلام 16: 205، مستمسك العروة الوثقى 8: 201.

ص: 180

و لا بدّ فيما عدا شهر رمضان من التعيين (1)، على خلافه(1)، إلّا أنّه لمكان كونه غير حاكٍ عن الحجّة؛ لما عرفت، فالأقرب ما عرفت، و لا يترك الاحتياط جدّاً؛ لأنّ دعوى العلم بعدم سقوط الأمرين معاً قريبة، فليتدبّر.

قوله مدّ ظلّه: «من التعيين».

و عليه الإجماعات المحكيّة عن ابن إدريس(2)، و «معتبر» المحقّق، و «منتهى» العلّامة و «تذكرته»(3) إلّا أنّ المهمّ في المسألة ما تقتضيه القواعد، و قد تبيّن امتناع تعدّد الأمر التأسيسي، إلّا في صورة ورود القيد على الطبيعة، حتّى تصير متعدّدة في الاعتبار و في عالم الجعل و اللحاظ، و إذا كان القيد مورد الأمر طبعاً فلا بدّ من تحصيله، و هو لمكان كونه ذهنيّاً لا يتحصّل إلّا في الذهن.

هذا، و لكن يجوز عدم اعتبار تحصيله في مرحلة الامتثال، لعدم دخالته في الملاك، بل المولى تشبّث به؛ ليتعدّد به الأمر التأسيسي، و لا يصير الأمر الثاني بحكم التأكيد.

و على هذا إذا اقتضى دليل في مرحلة الإثبات كفاية مطلق الطبيعة،


1- مجمع الفائدة و البرهان 5: 155.
2- السرائر 1: 368 371.
3- المعتبر 2: 644، منتهى المطلب 2: 557/ السطر 25 26، تذكرة الفقهاء 6: 9.

ص: 181

بمعنى القصد إلى صنف الصوم المخصوص، كالكفّارة (1) و القضاء (2) فهو، و إلّا فلا بدّ حسب الظاهر من امتثال الأمر المتعلّق بالطبيعة المقيّدة، التي لا توجب سقوطه إلّا بعد تحقّقها بتمام قيودها الخارجيّة و الذهنيّة.

و على هذا لا بدّ من التدبّر في الأمثلة التي ذكرها الماتن، و في أدلّتها حتّى يتبيّن ذلك.

قوله مدّ ظلّه: «كالكفّارة».

قضيّة الظاهر من الأدلّة، لزوم الإتيان بعنوانها إذا كانت هي مأخوذة تحت الأمر، و لكن ربّما يخطر بالبال اختلاف الكفّارات.

مثلًا: في كفّارة الظهار يستظهر وجوب صوم شهرين متتابعين، فإذا أتى بهما فقد امتثل الأمر قهراً، لتعلّقه بالشهرين المتتابعين و لا يزيد عليه شي ء، فعلى هذا ربّما تختلف الكفّارات.

قوله مدّ ظلّه: «و القضاء».

يظهر من صحّة الصلاة مثلًا فيما إذا أخطأ في النيّة، أنّ عنوان القضاء و الأداء ليس ذا ملاك، بل هو لمجرّد تكثير الأمر تأسيساً؛ و تعدّد الأمر النفسي المستتبع للعقوبة و المثوبة الخاصّتين؛ فعلى هذا يكفي في قضاء الصوم نفس الطبيعة الفارغة ما دامت لم تُقيَّد بقيد القضاء، بل قضيّة القاعدة سقوط الأمرين.

هذا، و لو كان القضاء بعنوانه مورد الأمر، كما هو كذلك في مثل صلاة

ص: 182

و النذر المطلق (1)، الولد الأكبر، أو في الصلاة على القول به، و لكنّه في ما نحن فيه مشكل؛ لظهور الكتاب في جعل عدّة أيّام أُخر(1)، فلو صام كذلك، يقع عن رمضان قهراً، و لا سيّما إذا لم يكن عليه شي ء من الصيام، و لم يكن قاصداً للندب و للعنوان الخاصّ، فعنوان قضاء رمضان كأنّه غير لازم، فتأمّل.

قوله مدّ ظلّه: «المطلق».

و هو المشهور المعروف، و يظهر عن موضع من «التذكرة» ذهاب جمع من العامّة إلى الخلاف(2). و المراد من المطلق هو أن لا يكون في زمان خاصّ، و ما لا يكون في زمان خاصّ، بين ما يكون مطلق الصوم القابل للصدق على الصيام الخاصّ، أو يكون الصوم المطلق الفارغ عن النيّة، فيكون فراغه عن النيّة الخاصّة من قيوده، إلّا أنّه لا يعتبر لحاظه في مرحلة الامتثال، بخلاف الفرض الأوّل، فإنّ صومه يصحّ نذراً و لو كان صوم الكفّارة.

ثمّ إنّ البحث المربوط بالصوم النذري: تارة يدور حول الطبيعة المنذورة، و هو ما أُشير إليه، و أُخرى يدور حول النيّة و القصد الآتي من قبل النذر، و هذا مشكل تحقيقه جدّاً، فإنّ الظاهر من القوم كفاية الإتيان


1- البقرة( 2): 185.
2- تذكرة الفقهاء 6: 9.

ص: 183

بذات المنذور امتثالًا عن أمر النذر(1).

و قد خالفهم السيّد الماتن حفظه اللَّه تعالى و قال: «إنّ الوفاء بالنذر مورد الأمر النذري، فلا بدّ من مراعاته، و إلّا فلا يسقط أمره، نظراً إلى ظاهر أدلّته»(2).

و حيث إنّ الالتزام بمقالة المشهور، مورد الشبهة العقليّة؛ ضرورة أنّ نذر الصلاة الواجبة لو كان موجباً لحدوث الأمر الجديد النفسي التأسيسي، فلا بدّ و أن يتعلّق بالعنوان الآخر، و إلّا فيلزم رجوعه إلى التأكيد، و لا يترتّب عليه الحنث؛ لأنّ الأمر النذري موجب للحنث، لا مطلق مخالفة المولى.

فبالجملة: مقتضى هذه الشبهة امتناع حدوث الأمر الثاني التأسيسي، و حيث إنّ الالتزام بأنّ الوفاء واجب، يستلزم كون الوفاء بالعقد أيضاً واجباً بعنوانه، مع أنّه ليس كذلك، و هكذا الوفاء بالشرط في باب المعاملات، و يستلزم عدم كفاية ردّ المال المتعلّق به النذر إلى المنذور له بلا قصد الوفاء، مع أنّه خلاف الفهم العرفي و العقلائيّ بالضرورة؛ لأنّه من قبيل


1- مستمسك العروة الوثقى 8: 198، مستند العروة الوثقى، كتاب الصوم 1: 190.
2- العروة الوثقى 1: 186، كتاب الطهارة، في غايات الوضوء، التعليقة 2، مناهج الوصول 1: 167 168 و 2: 141، كتاب الطهارة، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 2: 4.

ص: 184

بل المعيّن أيضاً على الأقوى (1).

ردّ الوديعة و مال الغير إلى صاحبه، فلا بدّ من اختيار الشقّ الثالث و هو: أنّ الوفاء بالنذر و العهد لا يصير واجباً، و لا يحدث بالنذر أمر و لا نهي، بل يحدث به لأجل حكم الشرع استحقاق العقوبة، و لا يعتبر في استحقاق العقوبة على شي ء كونه واجباً أو حراماً بأصل الشرع، فقد حكم جمع باستحقاق العقوبة في موارد التجرّي من غير التزامهم بحرمته التشريعيّة(1)، فليتدبّر فإنّ المسألة تحتاج إليه.

قوله مدّ ظلّه: «على الأقوى».

كما هو المعروف المشهور، و يظهر عن «الجواهر» احتمال كفاية نفس الطبيعة(2).

و قيل بكفايته سهواً و غفلة، لا عمداً(3)، كما قيل به في صوم شهر رمضان.

و الّذي يتوهّم أنّه مستند المسألة هو: أنّ كلّ زمان كان صالحاً لوقوع الصومين فيه، فلا بدّ فيه من القصد الخاصّ و إلّا فلا(4).


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 335 340، نهاية الأُصول: 410 417.
2- جواهر الكلام 16: 189.
3- جواهر الكلام 16: 189، مصباح الفقيه 14: 305.
4- مصباح الفقيه 14: 305.

ص: 185

و يكفي التعيين الإجمالي، (1) و هذا و لو كان صحيحاً ثبوتاً، و لكنّه غير صحيح إثباتاً؛ لعدم الدليل عليه، و لا سيّما فيما نحن فيه؛ فإنّ يوم الخميس لا يخرج عن الصالحيّة الوضعيّة عن تحمّل سائر الصيام، إذا كان مورد النذر الخاصّ؛ لأنّه أمر آخر خارج عن حيطة دليل النذر.

و لا يقاس ذلك بنذر بذل المال الخاصّ، مع أنّه أيضاً غير محرز تحقيقه، فما في «الجواهر» و «المصباح»(1) غير راجع إلى المحصل جدّاً، و تفصيله محرّر منّا في كتابنا الكبير(2).

قوله مدّ ظلّه: «الإجمالي».

بمعنى الإشارة إلى الخصوصيّة المأخوذة، أو أخذ العنوان على وجه لا ينطبق إلّا عليه؛ لحصول قيد المأمور به الذهني بتلك الطريقة.

و أمّا تميّز الأمر بذلك، فهو بلا محصّل؛ لأنّ الأمر يتميّز في نفس الواقع بالخصوصيّة، و يكون لأجلها مترشّحاً على حدة.

فما قد يقال: إنّ المنظور من ذلك نفس التمييز و لا أثر آخر ورائه(3)، ر صحيح؛ لأنّ القيد المأخوذ ربّما يكون ذا ملاك ثبوتاً، و هو الظاهر إثباتاً.


1- جواهر الكلام 16: 189، مصباح الفقيه 14: 305.
2- تحريرات في الفقه، كتاب الصوم، الفصل الثالث من الموقف الأوّل.
3- مستند العروة الوثقى، كتاب الصوم 1: 16 19.

ص: 186

كما إذا كان ما وجب في ذمّته صنفاً واحداً، فقصد ما في الذمّة (1) فإنّه يجزيه. و الأظهر عدم اعتبار التعيين في المندوب المطلق، (2) قوله مدّ ظلّه: «ما في الذمّة».

إنّه غير كافٍ؛ لأنّه يجوز أن يكون في ذمّته الصوم الآخر، و هو لا يعلم؛ فلا بدّ من أخذ العنوان على الوجه الذي لا ينطبق إلّا على المأمور به المنجّز، و ما هو مقصود المكلّف حين الامتثال.

قوله مدّ ظلّه: «في المندوب المطلق».

خلافاً لصريح «العروة» و غيره(1).

و الوجه: أنّ الأوامر، كما عرفت تحتاج في تكثيرها إلى تكثير الطبيعة بالقيود، فيكون كلّ قيد وارداً مورد الأمر، فلا بدّ من القصد إليه و لو إجمالًا.

و أمّا وجه ما في المتن: ما أُشير إليه من أنّ القيود المأخوذة ربّما تكون غير ذات مصلحة، فيكون نفس الطبيعة الفارغة عن كلّ لون، مورد الملاك بشرط القربة، إلّا أنّ المولى لا يتمكّن من إفادة تعدّد المطلوب، إلّا بهذا الوجه؛ و لذلك أفتى الكثير منهم بصحّة الصلاة الفارغة عن كلّ نيّة إلّا القربة(2)، و لوقوع صلاة الغفيلة مثلًا إذا ترك و نسي خصوصيّاتها،


1- العروة الوثقى 2: 6، فصل في النيّة، المعتبر 2: 644، تذكرة الفقهاء 6: 9.
2- انظر مسالك الأفهام 2: 11، مدارك الأحكام 3: 311.

ص: 187

فلو نوى صوم غدٍ للَّه تعالى، صحّ و وقع ندباً لو كان الزمان صالحاً له، و كان الشخص ممّن يصحّ منه التطوّع بالصوم (1)، بل و كذا المندوب المعيّن أيضاً إن كان تعيّنه بالزمان الخاصّ (2)، كأيام البيض و الجمعة و الخميس. نعم، في إحراز ثواب الخصوصيّة يعتبر إحراز ذلك اليوم و قصده.

ة مطلقة، و نافلة، و ما ذلك إلّا لأجل أنّ نفس الطبيعة مطلوبة، و إن لا يمكن تعلّق الأمر بها إلّا مقيّداً كما عرفت(1).

هذا كلّه بحسب الثبوت، و أمّا بحسب الإثبات، فربّما يستظهر من الدليل دخالة الخصوصيّة و القيد، فلا بدّ من الإتيان بها كصوم الحاجة في المدينة للمسافر(2).

قوله مدّ ظلّه: «التطوّع بالصوم».

هذا واضح، و سيمرّ عليك موارد جواز التطوّع، و الزمان الصالح له إن شاء اللَّه تعالى.

قوله مدّ ظلّه: «بالزمان الخاصّ».

و ذلك أيضاً لما عرفت، و لازم ذلك وقوع صوم أيّام البيض و لو كان


1- تقدّم في الصفحة 174.
2- تهذيب الأحكام 4: 232/ 682، المقنعة: 350، النهاية، للطوسي: 162، مدارك الأحكام 6: 150، وسائل الشيعة 10: 202، كتاب الصوم، أبواب من يصحّ منه الصوم، الباب 12، الحديث 1.

ص: 188

يقصد صوم الكفّارة؛ لأنّ المنظور وقوع الصوم القربي و هو حاصل، فلو كان الصوم فارغاً عن كلّ خصوصيّة إلّا القربة يقع عن صوم البيض و أمثاله، و هكذا في صورة التقييد؛ لاجتماع المطلق معه قهراً.

اللّهمّ إلّا أن يقال بانصراف دليله عن ذلك، و من هنا يظهر حديث ترتّب الثواب، فإنّه لا وجه لاختصاصه بصورة القصد بعد إطلاق دليله، بل هو يترتّب حتّى في صورة قصد الخصوصيّة الأُخرى، و أمّا بدونها فلا وجه للشكّ في ترتّب الثواب؛ لأنّه تابع ما أتى به، و أسقط به أمره الخاصّ، و المفروض حصول صوم أيّام البيض في تلك الصورة، فتأمّل فإنّ لحديث الثواب منهجاً آخر.

ص: 189

[مسألة 2: يعتبر في القضاء عن الغير نيّة النيابة]

مسألة 2: يعتبر في القضاء عن الغير نيّة النيابة. (1) قوله مدّ ظلّه: «نيّة النيابة».

نظراً إلى أنّ الأمر لا يسقط إلّا بذلك، كما لا يكفي مجرّد نيّة النيابة عن الغير الكلّي؛ بل لا بدّ من أن يكون الشخص المنوب عنه متعيّناً و لو إجمالًا.

و غير خفيّ أن لا تعتبر نيّة النيابة الاصطلاحيّة، و هو القيام مقام الشخص في الذات، بل يكفي أن يقصد الصوم الذي في ذمّة زيد، و أمّا موارد جواز النيابة، فتطلب عن محلّه.

ص: 190

[مسألة 3: لا يقع (1) في شهر رمضان صوم غيره، واجباً كان أو ندباً]

مسألة 3: لا يقع (1) في شهر رمضان صوم غيره، واجباً كان أو ندباً، سواء كان مكلّفاً بصومه أم لا، كالمسافر و نحوه، بل مع الجهل بكونه رمضاناً أو نسيانه، لو نوى فيه صوم غيره يقع عن رمضان كما مرّ.

قوله مدّ ظلّه: «لا يقع».

عند أصحابنا(1)، و في «الجواهر»: «إنّه كاد يكون من قطعيّات أرباب الشريعة، إن لم يكن من ضرورياتها»(2) انتهى.

و يستظهر عن مالك، و الشافعيّ في أحد قوليه، و أبي حنيفة لغير المقيم تجويز غيره فيه(3)، لاعتبارهم قصد التعيين في صوم شهر رمضان، فلا يكون حديث «لا صالحية لشهر رمضان» من قطعيّات أرباب الشريعة.

و عن «المبسوط» منعه حال الحضر لا السفر، فراجع(4).

و بالجملة: لو كان مستند الأصحاب و الشهرة، الخبرين المرويين في الباب الثاني عشر(5)، الضعيف سند أحدهما قطعاً، و الآخر عند القاطبة إلّا


1- مدارك الأحكام 6: 30 31، مستند الشيعة 10: 181، مستمسك العروة الوثقى 8: 201 204.
2- جواهر الكلام 16: 203.
3- تذكرة الفقهاء 6: 8، المغني 3: 27 28، المجموع 6: 294 و 302.
4- المبسوط 1: 276 277، مختلف الشيعة 3: 378.
5- وسائل الشيعة 10: 203، كتاب الصوم، أبواب من يصحّ منه الصوم، الباب 12، الحديث 4 و 5.

ص: 191

نحن، حيث اتّخذنا سبيلًا خاصّاً(1)، فللإشكال في الحكم وجه؛ لأنّ الانجبار و لو لم يكن قطعاً، لأجل أنّ المستند إن كان الخبرين فهو، و إن لم يكن ذلك الخبرين، فلا بدّ من وجود حجّة عندهم على الوجه المحرّر؛ و لكنّ احتمال كونه الخبرين بعد قصور دلالتهما، يكفي لعدم تماميّة السند لفتوى المشهور.

و أمّا ضعف دلالتهما، فلأنّ ما رواه فيه مرسلًا، قال، قال: خرج أبو عبد اللَّه (عليه السّلام) من المدينة في أيّام بقين من شهر شعبان، فكان يصوم، ثمّ دخل عليه شهر رمضان، و هو في السفر فأفطر فقيل له: أ تصوم شهر شعبان، و تفطر شهر رمضان؟ فقال: «نعم شعبان إليّ، إن شئت صمت، و إن شئت لا، و شهر رمضان عزم من اللَّه تعالى على الإفطار»(2).

و الخبر مضافاً إلى دلالته على جواز الصوم في السفر، و هو غير مفتى به، لا يدلّ على عدم صالحيّة الشهر للحاضر، الذي يجوز له ترك صوم الشهر، كالشيخ و الشيخة و غير ذلك.

و في المرسل الثاني، قال: كنت مع أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) فيما بين مكّة


1- لاحظ تحريرات في الفقه، كتاب الصوم، الفصل الرابع من الموقف الأوّل.
2- الكافي 4: 130/ 1، وسائل الشيعة 10: 203، كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، الباب 12، الحديث 4.

ص: 192

و المدينة في شعبان، و هو صائم، ثمّ رأينا هلال شهر رمضان، فأفطر، فقلت له: جعلت فداك أمس كان من شعبان، و أنت صائم، و اليوم من شهر رمضان، و أنت مفطر؟! فقال: «إنّ ذلك تطوّع، و لنا أن نفعل ما شئنا، و هذا فرض، فليس لنا أن نفعل إلّا ما أُمرنا»(1).

و هذا الخبر كأنّه الخبر السابق، و لا سيّما مع وحدة الراوي.

و بالجملة: ظاهر الخبرين أنّ النظر إلى الكتاب، و أنّه تعالى قال وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ(2) و أنّ الصوم على إطلاقه يكون كذلك، و أمّا الحاضر، فحكمه مسكوت عنه، فلو بنى على العصيان، فصام بعنوان آخر، فربّما يمكن تصحيحه على الترتّب، على التقريب الذي أبدعناه(3)، دون الترتّب المصطلح عليه(4).

و هكذا في موارد الرخصة، كما أُشير إليه، فالأحوط الذي لا يترك ما ذهب إليه المشهور المفروغ عنه في كلماتهم، و هي الحجّة؛


1- الكافي 4: 131/ 5، وسائل الشيعة 10: 203، كتاب الصوم، أبواب من يصحّ منه الصوم، الباب 12، الحديث 5.
2- البقرة( 2): 185.
3- تحريرات في الأُصول 3: 344 350 و 512 515.
4- فوائد الأُصول) تقريرات المحقّق النائيني( الكاظمي 1: 336، درر الفوائد، المحقّق الحائري: 140 145.

ص: 193

لأنّ قصور الخبرين عن إطلاق معقد الإجماع، يشهد على أنّهما ليسا مورد الاستناد.

و احتمال كونهما السند، بضميمة اجتهادهم و فهمهم عدم الخصوصيّة، و إن كان موجوداً، و لكنّه بعيد، فليتدبّر جيّداً.

ص: 194

[مسألة 4: الأقوى أنه لا محلّ للنيّة شرعاً في الواجب المعيّن]

مسألة 4: الأقوى أنه لا محلّ للنيّة شرعاً (1) في الواجب المعيّن، رمضاناً كان أو غيره، بل المعيار حصول الصوم عن عزم و قصد باق في النفس، و لو ذهل عنه بنوم أو غيره. و لا فرق في حدوث هذا العزم بين كونه مقارناً لطلوع الفجر أو قبله (2)، قوله مدّ ظلّه: «لا محلّ للنيّة شرعاً».

كان الأولى أن يقال: لا يجوز في الواجب المعيّن لغير ذوي الأعذار، تأخير النيّة عن طلوع الفجر؛ ضرورة أنّه محلّ للنيّة، و هو قبل طلوع الفجر لطائفة خاصّة تأتي(1).

قوله مدّ ظلّه: «مقارناً أو قبله».

فلا يصحّ لو حصلت بعده بالاختيار حال التوجّه و العلم، إجماعاً محكيّاً(2)، و شهرة معتدّاً بها(3).

و هو المعروف بين المخالفين، إلّا عن أبي حنيفة(4).

و في أصحابنا من اختار التوسعة إلى الزوال كالسيّد(5)، و إلى ما


1- تأتي في الصفحة 198.
2- الحدائق الناضرة 13: 47، مهذّب الأحكام 10: 28.
3- تذكرة الفقهاء 6: 10، مدارك الأحكام 6: 39، جواهر الكلام 16: 194.
4- تذكرة الفقهاء 6: 11، المغني 3: 22، المجموع 6: 301/ السطر 9 11.
5- الانتصار: 60، رسائل الشريف المرتضى 3: 53.

ص: 195

قبل الغروب كابن الجنيد(1). و قد حكي عن ابن أبي عقيل لزوم التقديم ليلًا(2).

و حيث إنّ قضيّة القواعد أنّ مطلق الإمساك و ترك المفطرات بين الحدّين، ليس من الصوم اللغوي و الشرعي بالضرورة، فلا بدّ من اقترانه بالقصد؛ فإنّه به يصير صوماً، و إلّا فيلزم أن يمتدّ وقت الصوم من الليل إلى الليل، لو ترك المفطرات اتّفاقاً، فتركها بين الحدّين لا يصير صوماً إلّا باقترانه بالقصد.

و أمّا توسعة الشرع في الواجب غير المعيّن مثلًا إلى الزوال، و في المندوب إلى ما قبل الغروب، فلا يوجب توهّم السيّد و ابن الجنيد، أنّ طبيعة الصوم تكون هكذا؛ لأنّه توسعة لأجل المصالح، و لا يعقل أن يصير الصوم المقرون بالقصد أثناء النهار، صوماً من أول الفجر، إلّا باعتبار الأثر الخاصّ.

و توهّم أنّ الإمساك بين الحدّين إذا اقترن جزء منه بالنيّة يعدّ من الصوم تمام النهار، لكفاية توصيف العامّ المجموعي بتوصيف بعضه(3)،


1- مختلف الشيعة 3: 365 و 367.
2- مختلف الشيعة 3: 365 و 367، جواهر الكلام 16: 193.
3- المبسوط، للسرخسي 3: 162/ السطر 3 5، و لاحظ مصباح الفقيه 14: 309.

ص: 196

فهو موهون و محمول على المجاز لا الحقيقة.

و لازم ذلك جواز أن ينوي، ثمّ ينصرف، ثمّ ينوي و هكذا، بل يلزم كفاية جزء من النهار منويّاً، عن الصوم إلى آخره و لو كان ذلك الجزء أوّل الطلوع.

فبالجملة: ماهيّة الصوم و مفهومه تأبى عن التوسعة، و يصير صوماً من حين القصد، و لا يوصف الإمساك المطلق قبلها بصوم، كما لا يوصف الإمساك بين الحدّين به بالضرورة.

هذا، و إذا كان المفهوم كذلك، فلا وجه للتشبّث بحديث عباديّة الصوم(1)، و أنّه لا بدّ و أن تكون أجزاؤه عبادة، و هي لا تقع إلّا مع القصد حتّى يناقش فيه(2)، فإنّه بعيد عن الصواب؛ ضرورة أنّه نوع عبادة خاصّة، لا يتحمله الذوق، و لا يقبل أن يكون نائماً من قبل الطلوع إلى الغروب جنباً، و يكون عابداً زاهداً مسلماً، فلا تخلط.

و بالجملة: هذا هو الأصل، و سيمرّ عليك مواضع الخروج عنه، و يجوز دعوى استفادة توسعة الشرع في ظرف النيّة إلى ما قبل الزوال، حتّى في الواجب المعيّن مطلقاً، و لكنّ قضيّة النصوص الواردة هي


1- مستند الشيعة 10: 203، مصباح الفقيه 14: 309، مستمسك العروة الوثقى 8: 212.
2- مستمسك العروة الوثقى 8: 212.

ص: 197

التوسعة في غير الواجب المعيّن(1)، كما أنّ مقتضى تلك النصوص الآتية، فساد القول بالتوسعة إلى ما بعد الوقت؛ لما يستفاد منها مفروغيّة عدم التوسعة في المعيّن، و لا سيّما شهر رمضان.

و أمّا القول المنسوب إلى ابن أبي عقيل(2)، فهو مضافاً إلى عدم ثبوته؛ لأنّ المحكي عنه ظاهر في توسعته في ظرف النيّة، كما هو الجائز بالضرورة، كما أنّه يظهر منه عدم اختصاص التوسعة في خصوص الواجب المعيّن، أنّه لو سلّمنا صحّة النسبة فهي بلا مستند إلّا بعض


1- عن عمّار الساباطي عن أبي عبد اللَّه( عليه السّلام) عن الرجل يكون عليه أيّام من شهر رمضان و يريد أن يقضيها، متى يريد أن ينوي الصيام؟ قال: هو بالخيار إلى أن تزول الشمس، فإذا زالت الشمس فإن كان نوى الصوم فليصم، و إن كان ينوي الإفطار فليفطر، سئل: فإن كان نوى الإفطار يستقيم أن ينوي الصوم بعد ما زالت الشمس؟ قال: لا .. الحديث. تهذيب الأحكام 4: 280/ 847، وسائل الشيعة 10: 13، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 2، الحديث 10. عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللَّه( عليه السّلام) قال: قلت له: الرجل يصبح لا ينوي الصوم فإذا تعالى النهار حدث له رأي في الصوم؟ فقال: إن هو نوى الصوم قبل أن تزول الشمس حسب له يومه، و إن نواه بعد الزوال حسب له من الوقت الذي نوى. تهذيب الأحكام 4: 188/ 532، وسائل الشيعة 10: 12، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 2، الحديث 8.
2- تقدّم في الصفحة 195، الرقم: 2.

ص: 198

و لا بين حدوثه في ليلة اليوم الذي يريد صومه أو قبلها (1)، المراسيل(1) الشائعة في الكتب الاستدلاليّة(2).

قوله مدّ ظلّه: «أو قبلها».

لأنّ النيّة الارتكازيّة كما تكون كافية في أثناء النهار و هو نائم، كذلك عند الطلوع، و لزوم الخطور في الابتداء دون الأثناء، لقيام الضرورة على عدم اعتباره في الأثناء، مبني على ما تحرّر فساده في محلّه(3).

و غير خفيّ: أنّ النائم الباني على الصوم، له الارتكاز النفساني على ترك المفطرات، و ربّما يجتنب عنها حال النوم و في النوم، فليس الكفاية حكميّة، بل هي موضوعيّة أيضاً إلّا أنّها إجماليّة ارتكازيّة، مع أنّ الذهول و الغفلة المطلقة لا يضرّ، و لو كان لو اتّفق، لا يترك المفطر، اللّهمّ إلّا أن يقال بأنّه لا يخلو عن إشكال.


1- عن النبيّ( صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم)، أنّه قال:« لا صيام لمن لا يبيّت الصيام من اللّيل». عوالي اللّئالي 3: 132/ 5، مستدرك الوسائل 7: 316، كتاب الصيام، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 2، الحديث 1.
2- المعتبر 2: 646، تذكرة الفقهاء 6: 16، مستمسك العروة الوثقى 8: 213.
3- تحريرات في الفقه، كتاب الصوم، الفصل الثاني عشر من الموقف الأوّل.

ص: 199

فلو عزم على صوم الغد من اليوم الماضي، و نام على هذا العزم إلى آخر النهار، صحّ على الأصحّ (1). نعم، لو فاتته النيّة لعذر، كنسيان أو غفلة أو جهل بكونه رمضاناً أو مرض أو سفر، فزال عذره قبل الزوال، يمتدّ (2) وقتها شرعاً إلى الزوال، قوله مدّ ظلّه: «على الأصحّ».

هذا في غير الصورة التي كان صائماً في اليوم السابق، و إلّا فتكون المسألة مندرجة في صوم الوصال الآتي.

قوله مدّ ظلّه: «يمتدّ وقتها».

قد أُشير(1) إلى أنّ قضيّة القاعدة عدم إمكان تحقّق الصوم بالنيّة اللاحقة؛ لأنّ مفهوم الصوم مأخوذ فيه الإمساك و هو لا يتحقّق إلّا بالقصد.

و توسعة الشرع إجمالًا في مورد، لا يكفي حتّى في ذلك المورد، لصيرورة الصوم صوماً من أوّل الفجر، فعليه لا بدّ من الدليل للخروج منه، من إجماع، أو نصّ، و إلّا فيقتصر على موردها، فخروج جميع الحالات و الأعذار، بالنسبة إلى مطلق الصوم، لا يمكن إثباته كما سيظهر.

نعم، لو قلنا بأنّ الصوم هو ترك المفطرات، كما قوّيناه سالفاً(2)، و ليس


1- تقدّم في الصفحة 194 196.
2- تحريرات في الفقه، كتاب الصوم، الجهة الثانية من المقدّمة، و الجهة الاولى من الفصل الحادي عشر.

ص: 200

معنى قصديّاً في مفهومه اللغوي، و لا في مفهومه المنصرف إليه شرعاً، فيجوز تصحيح الصوم في مطلق الصور بطروّ النيّة و لو في آخر الوقت، عليه، و لحوقها به؛ لأنّ ترك المفطرات بين الحدّين حاصل، و الاقتران بالنيّة في الجملة، الذي هو لازم بالضرورة، أيضاً متحقّق، فلا حاجة إلى الأدلّة الخاصّة.

و هنا وجه آخر و هو: أنّ الصوم و لو كان بماهيّته الإمساك المتقوّم بالقصد، إلّا أنّ من توسعة الشرع في الصيام المستحبّ و في الواجب غير المعيّن، إلى الزوال ليكشف تصرّفه فيه جوهريّا، و هكذا في موارد خاصّة كالمسافر الجائي إلى وطنه و غير ذلك، فإنّ من المجموع يحصل الوثوق، بأنّ الصوم عند الشرع هو الترك المقرون بالنيّة في برهة من زمانه.

نعم، فيما بعد الزوال لا تكفي النيّة اللاحقة به، في مثل الصوم الواجب، و هكذا في المعيّن إذا كان عن عمد.

و بالجملة: يؤيّد الوجه الأخير أنّ الضرورة قاضية بجواز السفر قبل الزوال؛ و لازم ذلك جواز كون المكلّف بانياً على ارتكاب المفطرات، بعد التجاوز عن حدّ الترخيص، و الضرورة قاضية بجواز العود من تلك النيّة، و البناء على البقاء في محلّه؛ و على هذا كيف تكون نيّة الصوم غير موسّعة إلى الزوال حتّى للعامد، و لو كان الصوم هو المعنى المتقوّم بالإمساك القصدي، لا يمكن تجويز الأمر المذكور، كما يأتي بتفصيل.

ص: 201

فمن هنا يستكشف أنّ الصوم فيما يستقرّ، و هو بعد الزوال، لا يمتدّ وقته إلى ما بعده، و أمّا إذا كان غير مستقرّ على المكلّف القاصد للأكل في مكان كذا، فيكون موسّع الوقت، و لو لا مخافة مخالفة الإجماع، لكان تجويز تأخير القصد لغير العازم على السفر، في محلّه.

و توهّم أنّ الفرق بين القصد إلى ارتكاب المفطر في هذا المكان دون ذاك المكان، يكفي لتحقّق مفهوم الصوم(1)، ناشئ عن ملاحظة الحكم الشرعي، و إلّا فعند اللغة و العرف، مَن كان عازماً على الأكل عند زيد دون عمر، لا يكون صائماً و ممسكاً بالمعنى المعهود عنه بحسب اللغة، و بحسب المتفاهم منه عرفاً.

مع أنّ دعوى اختصاص الحكم بالمسافر، و في موارد الجهل للإجماع و بعض الأخبار الخاصّة(2) غير صحيحة؛ لأنّ في الأحكام الوضعيّة يستفاد المعنى الوضعي المشترك، كما في باب النجاسات و النواقض، فليتدبّر.


1- مستمسك العروة الوثقى 8: 214.
2- إنّ ليلة الشكّ أصبح الناس فجاء أعرابي فشهد برؤية الهلال، فأمر النبيّ( صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم( منادياً ينادي: من لم يأكل فليصم، و من أكل فليمسك. المعتبر 2: 646، المبسوط، للسرخسي 3: 62/ السطر 13 17.

ص: 202

لو لم يتناول (1) المفطر، فإذا زالت الشمس فات محلّها (2).

قوله مدّ ظلّه: «لو لم يتناول».

بلا شائبة خلاف من أحد؛ لأنّه ليس بصائم بجميع معانيه، و هو مقتضى طائفة من الأخبار المنتشرة الآتية، و منها حديث مجي ء الأعرابي، الذي تمسّك به في هذه المسألة خصوصاً.

قوله مدّ ظلّه: «فات محلّها».

إجماعاً قويّاً، لم يحك الخلاف فيه إلّا عن ابن الجنيد(1)، و يكفي للحكم هنا فوت محلّها في الواجب غير المعيّن، حسب النصوص الآتية(2)، فإنّ الأولويّة واضحة، و مفروغيّة الحكم عند السائل و المجيب، مستفادة عن تلك الأخبار، و لأجل احتمال كون المجمعين مستندين إلى تلك الأخبار، فيكون في البين اجتهاد، يمكن المناقشة أوّلًا في الإجماع، و ثانياً في تلك الأولوية.

اللهم إلّا أن يقال: مقتضى ما ورد في المسافر القادم في شهر رمضان(3) أيضاً، بطلان وقت النيّة في الواجب المعيّن بإلغاء الخصوصيّة، و لما


1- مختلف الشيعة 3: 365 و 367.
2- يأتي في الصفحة 204، الرقم 3 و 4.
3- تهذيب الأحكام 4: 255/ 754 و 327/ 1020، وسائل الشيعة 10: 191 كتاب الصوم، أبواب من يصحّ منه الصوم، الباب 7، الحديث 6 و 7.

ص: 203

نعم، في جريان الحكم في مطلق الأعذار (1) إشكال، بل في المرض لا يخلو من إشكال و إن لا يخلو من قرب.

أُشير إليه.

قوله مدّ ظلّه: «مطلق الأعذار».

مضى وجهه، و ما فيه(1)، و أمّا في خصوص المرض، فلاختصاص نصوص المسألة بالجاهل و المسافر، و اختصاص حديث الرفع(2) على فرض صحّة الاستناد إليه في أمثال المقام، بالناسي و الجاهل بالحكم و الموضوع و الغافل، و لا نصّ في خصوص المريض.

و لكن المهمّ قصور تلك الأدلّة، إلّا ما ورد في المسافر، عن إثبات التفكيك، و قد عرفت وجه اشتراك الحكم في جميع الأعذار بما لا مزيد عليه.


1- تقدّم في الصفحة 200.
2- الخصال: 417/ 9، التوحيد: 353/ 24، وسائل الشيعة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.

ص: 204

و يمتدّ محلّها اختياراً في غير المعيّن إلى الزوال (1)، قوله مدّ ظلّه: «إلى الزوال».

إجماعاً قطعيّاً(1)، معتضداً بالأخبار الكثيرة الصريحة(2)، أو المنصرفة إلى الواجب المعيّن، و تأتي من ذي قبل الإشارة إليها.

و يحتمل اختصاص الحكم بالقضاء، أو النذر دون مطلق الواجب غير المعيّن، و لكنّه غفلة عن مآثير المسألة المطلقة، الناطقة بكفاية النيّة قبل الزوال.

ففي معتبر هشام بن سالم، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: قلت له: الرجل يصبح و لا ينوي الصوم، فإذا تعالى النهار حدث له رأي في الصوم؟ فقال (عليه السّلام): «إن هو نوى الصوم قبل أن تزول الشمس، حسب له يومه، و إن نواه بعد الزوال، حسب له من الوقت الذي نوى»(3).

و مثله خبر ابن بكير(4)، و معتبر الحلبيّ، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) أنّ رجلًا


1- مدارك الأحكام 6: 22، مستند الشيعة 10: 212، مستمسك العروة الوثقى 8: 215.
2- وسائل الشيعة 10: 10 14، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 2.
3- تهذيب الأحكام 4: 188/ 532، وسائل الشيعة 10: 12، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 2، الحديث 8.
4- عن ابن بكير، عن أبي عبد اللَّه( عليه السّلام) قال: سئل عن رجل طلعت عليه الشمس و هو جنب ثمّ أراد الصيام بعد ما اغتسل و مضى ما مضى من النهار؟ قال: يصوم إن شاء، و هو بالخيار إلى نصف النهار. تهذيب الأحكام 4: 322/ 989، وسائل الشيعة 10: 68، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 20، الحديث 3.

ص: 205

دون ما بعده، فلو أصبح ناوياً للإفطار و لم يتناول مفطراً، فبدا له قبل الزوال أن يصوم قضاء شهر رمضان، أو كفارة أو نذراً مطلقاً، جاز و صحّ، دون ما بعده، (1) أراد أن يصوم ارتفاع النهار، أ يصوم؟ فقال (عليه السّلام): «نعم»(1) و غير ذلك من المطلقات السكوتيّة، الحاصلة من ترك الاستفصال تقيّة.

قوله مدّ ظلّه: «دون ما بعده».

على الأقوى المدّعى عليه الإجماع(2)، و أمّا المحكي عن ابن الجنيد(3) هنا حسب إطلاق كلامه، فهو مختار الكاشانيّ و السبزواري(4)، و هو مورد تمايل بعض المتأخّرين(5) لبعض الإطلاقات السابقة، المعتضد بمعتبر ابن الحجّاج، قال: سألت أبا الحسن موسى (عليه السّلام) عن الرجل يصبح، و لم يطعم و لم يشرب، و لم ينوِ صوماً، و كان عليه يوم من شهر رمضان، إله أن يصوم ذلك اليوم و قد ذهب عامّة النهار؟ فقال: «نعم،


1- الكافي 4: 121/ 1، وسائل الشيعة 10: 10، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 2، الحديث 1.
2- الانتصار: 60، كتاب الصوم، الشيخ الأنصاري: 108 و 111.
3- مختلف الشيعة 3: 365.
4- مفاتيح الشرائع 1: 244، ذخيرة المعاد: 514/ السطر 27.
5- مصباح الفقيه 14: 317.

ص: 206

له أن يصومه، و يعتدّ به من شهر رمضان»(1) بعد ظهور عامّة النهار في الأكثر.

و مرسل البزنطيّ، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: قلت له: الرجل يكون عليه القضاء من شهر رمضان، و يصبح فلا يأكل إلى العصر، أ يجوز له أن يجعله قضاء من شهر رمضان؟ قال: «نعم»(2).

و حيث إنّ تلك الإطلاقات، مقيّدة بمعتبر عمّار الساباطيّ(3) الصريح في عدم الجواز، تبقى المعارضة التوهّميّة بينه و بين الخبرين اللذين لأسند للثاني، و لا دلالة للأوّل، و على تقدير تماميّة سند الثاني، تكون مهجورة معرضاً عنها.


1- تهذيب الأحكام 4: 187/ 526، وسائل الشيعة 10: 11، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 2، الحديث 6.
2- تهذيب الأحكام 4: 188/ 529، الإستبصار 2: 118/ 385، وسائل الشيعة 10: 12 كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 2، الحديث 9.
3- عن عمّار الساباطي، عن أبي عبد اللَّه( عليه السّلام) عن الرجل يكون عليه أيّام من شهر رمضان و يريد أن يقضيها، متى يريد أن ينوي الصيام؟ قال: هو بالخيار إلى أن تزول الشمس، فإذا زالت الشمس فإن كان نوى الصوم فليصم، و إن كان ينوي الإفطار فليفطر، سئل: فإن كان نوى الإفطار يستقيم أن ينوي الصوم بعد ما زالت الشمس؟ قال: لا .. الحديث. تهذيب الأحكام 4: 280/ 847، وسائل الشيعة 10: 13 كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 2، الحديث 10.

ص: 207

و كون المراد من عامّة النهار هو المقدار الكثير جائز، و على تقدير المعارضة يتعيّن الأخذ بما يدلّ على عدم الجواز؛ لأنّه موافق الشهرة، و تعضده النصوص الواردة في السفر(1)، الناطقة بالإفطار لزوماً.

ففي معتبر سماعة، قال: سألته عن الرجل، كيف يصنع إذا أراد السفر- إلى أن قال: «إن قدم بعد زوال الشمس أفطر، و لا يأكل ظاهراً»(2)، و القول بالتفكيك(3) بين أقسام الواجب الغير المعيّن و لو أمكن، و لكنّه خلاف ما بنينا عليه فيما سبق(4)، من ظهور الأخبار في المسائل الوضعيّة إلى اشتراك الحكم في الأمثال و النظائر، مع أنّه لم ينقل القول بالتفصيل في مثل المسألة.

و من الغريب توهّم الجمع بين خبري ابن الحجّاج و الساباطيّ باستحباب الإفطار(5)؛ ضرورة أنّ الأمر بالإفطار إرشاد إلى بطلان الصوم حسب الأصل، و لا يساعده المقام لاستحباب الإفطار نفسيّاً، و ذلك كلّه


1- وسائل الشيعة 10: 189 191، كتاب الصوم، أبواب من يصحّ منه الصوم، الباب 6.
2- تهذيب الأحكام 4: 327/ 1020، وسائل الشيعة 10: 191، كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، الباب 6، الحديث 7.
3- مسالك الأفهام 2: 9.
4- تقدّم في الصفحة 202.
5- مستمسك العروة الوثقى 8: 217.

ص: 208

و محلّها في المندوب يمتدّ إلى أن يبقى من الغروب زمان يمكن تجديدها (1) فيه.

لقوله (عليه السّلام) فيه «فإن كان نوى الصوم فليصم، و إن كان ينوي الإفطار فليفطر».

سئل فإن كان نوى الإفطار، يستقيم أن ينوي الصوم بعد ما زالت الشمس؟ قال (عليه السّلام): «لا»(1) فإنّه كالنصّ في سلب القابليّة.

قوله مدّ ظلّه: «يمكن تجديدها».

إجماعاً محكيّاً(2) عن «الانتصار» و «الغنية» و «السرائر»(3) و هو المحكي عن الصدوق، و الإسكافيّ، و السيّد، و الشيخ، و العلّامة، و الشهيدين(4) و أضرابهم(5).

و من الغريب ما عن «المسالك» و «المدارك» من نسبة الخلاف إلى


1- تهذيب الأحكام 4: 280/ 847، الإستبصار 2: 121/ 394، وسائل الشيعة 10: 13 كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 2، الحديث 10.
2- جواهر الكلام 16: 196، مستمسك العروة الوثقى 8: 217.
3- الانتصار: 60، الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 570/ السطر 35 37، السرائر 1: 373.
4- الفقيه 2: 97/ 11، حكاه عن الإسكافي في مختلف الشيعة 3: 367، رسائل الشريف المرتضى 3: 54، المبسوط 1: 278، منتهى المطلب 2: 559/ السطر 22، الدروس الشرعيّة 1: 266، الروضة البهيّة 1: 193/ السطر 9.
5- الوسيلة: 140، المعتبر 2: 648، الحدائق الناضرة 13: 26.

ص: 209

المشهور(1)، و عن «الذخيرة» إلى الأكثر(2)، فقالوا بالامتداد إلى الزوال، فلا فرق بينه و بين الغير المعيّن من الواجب، و هذه النسبة غير واضحة جدّاً.

و على كلّ، المعوّل هي الروايات، و هي بين ما تدلّ على الامتداد إلى ما بعد الزوال بإطلاقه، كمعتبر محمّد بن قيس، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: «إذا لم يفرض الرجل على نفسه صياماً، ثمّ ذكر الصيام قبل أن يطعم طعاماً أو يشرب شراباً، و لم يفطر، فهو بالخيار إن شاء صام، و إن شاء أفطر»(3).

و بين ما هو ظاهر في الاختصاص به، كمعتبر هشام بن سالم، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: «كان أمير المؤمنين (عليه السّلام) يدخل إلى أهله فيقول: عندكم شي ء و إلّا صمت؟ فإن كان عندهم شي ء أتوه به و إلّا صام»(4).

و حيث يستبعد كون صومه غير الصوم الندب، فيكون مختصّاً به


1- مسالك الأفهام 2: 9، مدارك الأحكام 6: 25.
2- ذخيرة المعاد: 514/ السطر 18 و 27.
3- تهذيب الأحكام 4: 187/ 525، وسائل الشيعة 10: 11، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 2، الحديث 5.
4- تهذيب الأحكام 4: 188/ 531، وسائل الشيعة 10: 12، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب، الحديث 7.

ص: 210

فلا تغفل، و من هذا القسم خبر أبي بصير، بل معتبره(1).

و بين ما يدلّ بإطلاقه على اختصاص السعة إلى الزوال، كخبر هشام بن سالم، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: قلت له: الرجل يصبح و لا ينوي الصوم، فإذا تعالى النهار، حدث له رأي في الصوم، فقال: «إن هو نوى الصوم قبل أن تزول الشمس، حسب له يومه، و إن نواه بعد الزوال، حسب له من الوقت الذي نوى»(2).

و معتبر ابن بكير، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: سئل عن رجل طلعت عليه الشمس، و هو جنب، ثمّ أراد الصيام بعد ما اغتسل، و مضى ما مضى من النهار، قال: «يصوم إن شاء، و هو بالخيار إلى نصف النهار»(3).

هذا و الجمع بين المطلقين المتباينين، بالصريح في التوسعة إلى


1- عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللَّه( عليه السّلام) عن الصائم المتطوّع تعرض له الحاجة؟ قال: هو بالخيار ما بينه و بين العصر، و إن مكث حتى العصر ثمّ بدا له أن يصوم و إن لم يكن نوى ذلك فله أن يصوم ذلك اليوم إن شاء. الكافي 4: 122/ 2، تهذيب الأحكام 4: 186/ 521، وسائل الشيعة 10: 14، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 3، الحديث 1.
2- تهذيب الأحكام 4: 188/ 532، وسائل الشيعة 10: 12، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 2، الحديث 8.
3- تهذيب الأحكام 4: 322/ 989، وسائل الشيعة 10: 68، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 20، الحديث 3.

ص: 211

ما بعد الزوال، جمع مقبول عند القوم، فالنسبة تنقلب قهراً، و لو نوقش فيه فلازمه السقوط إن لم يكن مرجّح، و الشهرة ترجّح الطائفة الأُولى، و لو وصلت النوبة إلى التخيير بينهما، فالقول قول المشهور أيضاً، كما هو الظاهر.

ص: 212

[مسألة 5: يوم الشكّ في أنّه من شعبان أو رمضان]

مسألة 5: يوم الشكّ في أنّه من شعبان أو رمضان، يُبنى (1) على أنّه من شعبان، فلا يجب صومه (2).

قوله مدّ ظلّه: «يُبنى».

لا أثر له، بل يكفي نفس الشكّ في أنّ الغد من شهر رمضان لاستحباب صومه مثلًا.

نعم، لو كان له الأثر الخاصّ فلا بأس به.

قوله مدّ ظلّه: «فلا يجب صومه».

بلا شبهة. نعم، عن بعضهم القول بالحرمة(1)، و عن المفيد كراهته(2)، و هي محمولة على صورة خاصّة، كما هو ظاهر عبارته المحكيّة عنه، و على كلّ تقدير، المراد منها، هي الكراهة في باب العبادات.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ مقتضى طائفة من الأخبار(3) ممنوعيّة صوم يوم الشكّ، و قضيّة إطلاقه عدم الفرق بين أن يصوم بنيّة شعبان أو رمضان.

و لكن هناك نصوص أُخر، صريحة في جواز الصوم على أنّه


1- الحدائق الناضرة 13: 41، الفقه على مذاهب الأربعة 1: 553.
2- المقنعة: 298، البيان: 362.
3- تهذيب الأحكام 4: 183/ 509 510، وسائل الشيعة 10: 25 29، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 6.

ص: 213

و لو صامه بنيّة أنّه من شعبان ندباً، أجزأه عن رمضان لو بان أنّه منه. و كذا لو صامه بنيّة أنّه منه قضاءً أو نذراً أجزأه (1) لو صادفه (2)، شعبان(1)، فتحمل تلك الأخبار على الصوم بعنوان رمضان، أو على كراهته و أقليّة الثواب دون الحرمة.

و أمّا الخبر الناهي عن الصوم في اليوم الذي يشكّ فيه(2)، فربّما يكون ناظراً إلى إجراء الاستصحاب الحاكم بعدم الشكّ تعبّداً.

قوله مدّ ظلّه: «ندباً أجزأه».

بالضرورة، و هذا هو المصرّح به في النصوص(3) المعتضدة بالإجماعات القطعيّة(4).

قوله مدّ ظلّه: «أجزأه لو صادفه».

حسب القواعد؛ ضرورة أنّ صوم رمضان لا لون له، فقد وقع الفرض


1- وسائل الشيعة 10: 26 كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 6، الحديث 4، و 10: 21 22، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 5، الحديث 4 و 8.
2- تهذيب الأحكام 4: 183/ 509 510، وسائل الشيعة 10: 25 26، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 6، الحديث 2 و 3.
3- الكافي 4: 82/ 6 و 85/ 1، وسائل الشيعة 10: 21 23، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 5، الحديث 4 و 8.
4- مدارك الأحكام 6: 35، مستند الشيعة 10: 186، جواهر الكلام 16: 211، كتاب الصوم، الشيخ الأنصاري 12: 122، مستمسك العروة الوثقى 8: 221.

ص: 214

في محلّه كما عرفت(1)، و هو المصرّح به في خبر الزهريّ(2)، و أمّا عدم وقوع ما نواه عمّا نواه، فلما مرّ من المفروغيّة عندهم، فلا نحتاج هنا إلى الدليل بعد ما عرفت(3).

هذا مع أنّ مقتضى عدم صلاحيّة رمضان للصوم الآخر، هو وقوع كلّ صوم فيه عنه.

نعم، في صورة العمد، قد مرّ الإشكال، و ما هو الحقّ أيضاً، قد مرّ عليك(4) فلا نعيده.

و أمّا المناقشة في تعليل خبر الزهريّ(5)، بأنّه يشمل صورة العلم، و المفروض فيه نفي ذلك(6)، فهي غريبة؛ لأنّه لا يضرّ بإطلاق التعليل في غير الفرض مع أنّ في الفرض لا يحكم الخبر بعدم الصحّة، لأجل العمد، بل هو مجرّد فرض؛ لأنّه الغالب و عليه العادة فلا تخلَط.


1- تقدّم في الصفحة 175 177 و 186 187.
2- الكافي 4: 85/ 1، وسائل الشيعة 10: 22، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 5، الحديث 8.
3- تقدّم في الصفحة 176 177.
4- تقدّم في الصفحة 190 193.
5- وسائل الشيعة 10: 23، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم، الباب 5، الحديث 8.
6- مستمسك العروة الوثقى 8: 223.

ص: 215

بل لو صامه على أنّه إن كان من شهر رمضان، كان واجباً و إلّا كان مندوباً، لا يبعد الصحّة (1) و لو على وجه الترديد في النيّة في المقام.

قوله مدّ ظلّه: «لا يبعد الصحّة».

بل هي قطعيّة، لعدم معقوليّة الترديد في تعلّق الإرادة بصوم الغد القربي، و التقييد المذكور لا يوجب الترديد في المنوي، فإذا كان صوم الغد مورد القصد قطعاً، و هو متقرّب، يقع عن رمضان لما مرّ، كما إذا تبيّن في الفرض أنّه من شعبان، فإنّه لا معنى للشكّ في الصحّة؛ لأنّ صوم شعبان ليس إلّا ما أتى به.

و هذا نظير الاقتداء بالخارج، و بالإمام الحاضر إن كان زيداً، و إن لم يكن فلا يكون مقتدياً؛ فإنّه لا يعقل إلّا أن يقع اقتداؤه بالموجود العادل الخارجي، فصحّت جماعته، و له نظائر كثيرة، و تفصيله في محلّه(1).

فما عن(2) «خلاف» الشيخ و «المبسوط» و العمانيّ، و ابن حمزة، و العلّامة في «المختلف» و الشهيد في ظاهر «الدروس» و «البيان» و هو المتمايل إليه للأردبيليّ، و الكاشانيّ من الصحّة(3)، في غاية المتانة،


1- تحريرات في الفقه، كتاب الصوم، الفصل الثالث عشر، الجهة الخامسة.
2- مستند الشيعة 10: 196 197.
3- الخلاف 2: 179، المبسوط 1: 277، حكاه عن العماني و اختاره في مختلف الشيعة 3: 383، الوسيلة: 140، الدروس الشرعية 1: 268، البيان: 359، مجمع الفائدة و البرهان 5: 164، الوافي 11: 107، مفاتيح الشرائع 1: 246.

ص: 216

إلّا أنّ الوجوه العقليّة المتشبّث بها غير نقيّة.

و من الغريب مناقشة الشيخ الأعظم الأنصاريّ في الصحّة(1)، و غير خفيّ أنّه لا تحتاج المسألة إلى الرواية بعد عدم وجود نصّ على البطلان.

و أمّا توهّم وجود الإجماع المذكور في «التذكرة»(2)، فيضعّفه «مختلفه»(3)، و ذهاب أمثال الشيخ إلى خلافه(4)، مع تعليله بما لا يرجع إلى محصّل(5).

و أمّا قول الماتن مدّ ظلّه: «و لو على وجه الترديد ..» إلى آخره، فهو غير صحيح؛ لأنّه من الترديد في الخصوصيّة، غير اللازم العلم بها في صحّته، شعبان كان أو رمضان.

ثمّ إنّه لو قصد الكفّارة مثلًا إن كان شعبان، و قصد رمضان إن كان رمضان، فإنّه أولى بالصحّة ممّا إذا جزم على أنّه شعبان و ندب فتبيّن أنّه رمضان واجب، فتأمّل جيّداً.


1- كتاب الصوم، الشيخ الأنصاري 12: 121.
2- تذكرة الفقهاء 6: 20.
3- مختلف الشيعة 3: 383.
4- الخلاف 2: 179، المبسوط 1: 277.
5- مستمسك العروة الوثقى 8: 226.

ص: 217

نعم، لو صامه بنيّة أنّه من رمضان، لم يقع (1) لا له و لا لغيره.

قوله مدّ ظلّه: «لم يقع».

هنا مسائل ثلاث:

المسألة الاولى: في جواز صوم يوم الشكّ بعنوان رمضان هل يجوز أن يصوم بعنوان رمضان في يوم الشكّ أم لا يجوز تكليفاً؟ وجهان: من أنّه من التشريع، و من أنّه يقصد رجاء الواقع و الإصابة، كسائر موارد الاحتياط، و احتمال الأمر.

نعم، هناك طائفة من الأخبار، ظاهرة في الممنوعيّة التكليفيّة، كخبر الزهريّ السابق، و فيه: «أمرنا بصيامه، و نهينا عنه، أمرنا أن يصومه الإنسان على أنّه من شعبان، و نهينا عن أن يصومه على أنّه من شهر رمضان، و هو لم يرَ الهلال»(1).

و فيه: أنّه لا يدلّ على الحرمة في صورة الرجاء و احتمال إدراك الواقع، و ظاهر النهي هي الحرمة الوضعيّة و بطلانه، و عدم صحّة الاجتزاء به عن رمضان.

و كمعتبره السابق «و نهينا عنه أن ينفرد الرجل بصيامه، في اليوم


1- تهذيب الأحكام 4: 164/ 463، وسائل الشيعة 10: 26، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 6، الحديث 4.

ص: 218

الّذي يشكّ فيه الناس ..»(1).

و فيه: أنّه يلزم منه ممنوعيّة صوم يوم الشكّ مطلقاً؛ لأنّ قوله: «فيه الناس» متعلّق بقوله: «يشكُّ» و هذا خلاف الأخبار المرخّصة(2)، هذا مع أنّه ربّما يكون النهي متعلّقاً بعنوان خارج عن الصوم، و هو التفرّد اللاحق به، فلا تغفل.

نعم، مرسلة الصدوق، قال: كان أمير المؤمنين (عليه السّلام) يقول: «لئن أفطر يوماً من شهر رمضان، أحبّ إليّ من أن أصوم يوماً من شعبان، أزيده في شهر رمضان»(3) ظاهرة فيما نحن فيه، إلّا أنّه مرسل، مع أنّ ظاهره غير بعيد أن يكون هو فرض التجزّم في النيّة، دون الإتيان رجاء، فالحرمة التكليفيّة الذاتيّة إذا كانت ممنوعة، يبقى الكلام في حرمته التشريعيّة لأجل عدم وجود الأمر، و هو خلاف الضرورة؛ فإنّه بلا شبهة إذا كان الغد رمضان، يكون مورد الأمرُ واقعاً، و إلّا يلزم اختصاص الحكم بالعالم بالموضوع، و هو خلاف الأدلّة.


1- تقدّم في الصفحة 179، الرقم 4 و 214، الرقم 2.
2- الكافي 4: 81 83، وسائل الشيعة 10: 20 22، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 5، الحديث 1 و 3 و 6.
3- الفقيه 2: 79/ 349، وسائل الشيعة 10: 28، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 6، الحديث 8.

ص: 219

المسألة الثانية: على تقدير الإتيان بالصوم جزماً أو رجاء، فهل يقع و يجتزى به عن رمضان؟

قضيّة القاعدة نعم، إلّا في صورة التجزّم؛ لأنّه من انضمام التشريع المحرّم إلى العمل و النيّة و القصد، فلو كان هو غير موجب لتحريم العبادة و بطلانها، و لكن يساعد الاعتبار ورود الأخبار الحاكمة بالقضاء، لأجل تلك الجهة احتمالًا.

و منها: معتبر ابن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السّلام)، في الرجل يصوم اليوم الذي يشكّ فيه من رمضان، فقال (عليه السّلام): «عليه قضاؤه و إن كان كذلك»(1) و مقتضى رجوع قول الراوي «من رمضان» إلى قوله: «يصوم» و لزوم القضاء عليه، هو البطلان.

و يؤيّد رجوعه إلى قوله: «يصوم» معتبر ابن سالم، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام)، قال في يوم الشكّ: «من صامه قضاه، و إن كان كذلك»(2) يعني: من صامه على أنّه من شهر رمضان فلو صام على هذا على أنّه رمضان، يصير باطلًا بالتعبد، و لو كان صومه من الصوم المأمور به، إلّا أنّه


1- تهذيب الأحكام 4: 182/ 507، الإستبصار 2: 78/ 239، وسائل الشيعة 10: 25 كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 6، الحديث 1.
2- تهذيب الأحكام 4: 162/ 457، وسائل الشيعة 10: 27، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 6، الحديث 5.

ص: 220

لأجل الجهات اللّاحقة يكون باطلًا.

اللّهمّ إلّا أن يقال: الظاهر رجوع الجارّ إلى الفعل القريب، فيكون الخبر الأوّل من أخبار تعارضها الأخبار الكثيرة الظاهرة، بل و الصريحة في صحّة صوم يوم الشكّ في الجملة(1)، فيحملان على استحباب القضاء.

و قوله: «يعني» في الخبر الثاني، من كلام الراوي، فلا يكفي حجّة.

و توهّم ظهور الصدر في قصد رمضان، لقوله: «و إن كان كذلك»(2) غير جيّد، بل هو الأنسب للاستحباب، و كأنّه لدفع توهّم ذلك، و أنّه كيف يجمع بين الأمرين، صحّة صومه رمضاناً و استحباب القضاء.

ثمّ إن حمل الأخبار على من يصوم عن رمضان مع التفاته و توجّهه إلى الشكّ فيه، حمل نادر جدّاً، و الالتزام ببطلان الصوم في صورة الجهل بالحكم غير مصرّح به في كلامهم هنا.

فبالجملة: يبقى دليل بطلان الصوم في يوم الشكّ، إذا أتى به عن رمضان، منحصراً في معتبر ابن سالم، و قضيّة إطلاقه بطلان جميع صور المسألة، و إخراج كلّها إلّا صورة واحدة، أيضاً بعيد، فالبطلان مشكل جدّاً.


1- الكافي 4: 81 82/ 1 و 2 و 4، وسائل الشيعة 10: 20 22، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 5، الحديث 1 و 2 و 6.
2- مستمسك العروة الوثقى 8: 224.

ص: 221

فما ذهب إليه العمانيّ، و الإسكافيّ(1)، بل و الشيخ على المحكي عنه من الإجزاء(2) لو كان مفروضهم هذه الصورة، قريب إلى الصناعة، إلّا أنّ الظاهر أن مصبّ فرضهم غيرها، فراجع و لا تغترّ.

و ممّا لا يخفى أنّه يؤيّد رجوع الجارّ إلى الفعل القريب، معتبر ابن وهب، قال: قلت لأبي عبد اللَّه (عليه السّلام): الرجل يصوم اليوم الّذي يشكّ فيه من شهر رمضان، فيكون كذلك؟ فقال (عليه السّلام): «هو شي ء وفّق له»(3).

و توهّم المعارضة(4) غير سديد، بل من الحكم يتبيّن أنّ مرجع الجارّ و المجرور هو الفعل الأقرب، كما يساعده الأدب، و غير ذلك ممّا هو يوجب أن يكون الأنسب أصوب، فمقتضى القاعدة هي الصحّة هنا و لو قلنا بالفساد في غير المقام؛ و ذلك لأنّ الفعل المتشرّع به أو الملازم للمحرّم و التشريع، ربّما لا يصلح للتقرّب، إلّا أنّ الصوم ليس فعلًا، فربّما ينوي في الليل فينام إلى الليل، فلا فعل منه يتشرّع به أو ينتزع منه و ينطبق عليه المحرّم، فافهم.


1- حكاه عنهما في مختلف الشيعة 3: 380.
2- حكاه عنه في مختلف الشيعة 3: 380، الخلاف 2: 180.
3- الكافي 4: 82/ 3، وسائل الشيعة 10: 22، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 5، الحديث 5.
4- ذخيرة المعاد: 516/ السطر 5، الحدائق الناضرة 13: 38.

ص: 222

هذا، و لو أتى به برجاء شهر رمضان و الأمر الإلهي، فلا يبطل؛ لخروج هذه الصورة عن الأخبار الناهية السابقة(1)، و حيث أنّ فيها معتبر الزهريّ، و يكون نهيه إرشاداً إلى الوضع ظاهراً، فيمكن الجمع بين الأخبار بحمل ما يدلّ على الصحّة على غير هذه الصورة.

و ما في «الجواهر» من: «أنّ النواهي ظاهرة في التكليفيّة المقتضية للبطلان»(2) ممنوع هنا لما أُشير إليه، و إن كانت صحيحة في العبادات في غير المقام، و التفصيل في محلّه(3).

المسألة الثالثة: في وقوع صوم يوم الشكّ عن شعبان بناء على البطلان، بمعنى عدم وقوعه عن رمضان، ففي وقوعه عن شعبان وجهان: من النهي المتعلّق به، فيورث بطلانه، لا البطلان الحيثي.

و من أنّ ظاهر النهي تعلّقه بالقيد، لا المقيّد على إطلاقه، كما هو كذلك في نوع المحاورات، فيستفاد مبغوضيّة الطبيعة عرضاً لا ذاتاً، و مجازاً لا حقيقة، و كون المفروض في الأخبار، الأمر بالصوم بعنوان شعبان، لا يورث حصر الصحّة به، و إن كان يوهمه قويّاً، كما لا يخفى.


1- تقدّم في الصفحة 213، الرقم 2.
2- انظر جواهر الكلام 16: 207.
3- تحريرات في الأُصول 4: 337.

ص: 223

[مسألة 6: لو كان في يوم الشكّ بانياً على الإفطار]

مسألة 6: لو كان في يوم الشكّ بانياً على الإفطار، ثمّ ظهر في أثناء النهار أنّه من شهر رمضان، فإن تناول المفطر أو ظهر الحال بعد الزوال و إن لم يتناوله، يجب عليه إمساك بقيّة النهار تأدّباً (1)، قوله مدّ ظلّه: «بقيّة النهار تأدبّاً».

بلا خلاف بين الخاصّة(1)، و هو المحكي عن جمع من المخالفين(2)، و عن الشيخ الأعظم (قدِّس سرُّه) المناقشة في سند المسألة(3)، لعدم تماميّة حديث الأعرابي(4)، و لا قائم عليه شهرة عمليّة. و كيف لا يكفيه الإجماع المحكي عن جماعة(5)، و لو لم يكفه حديث إطلاق حرمة المفطرات بالضرورة، و لو كان موجباً للكفّارة ارتكابها بناءً على القول به، كما سيمرّ عليك(6)؟! اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ مقتضى الالتزام بالكفّارة هو وجوب الإمساك، و هو ظاهر الأمر بوجوب الصيام إلى الليل، فإنّ المتخلّف عن ترك الواجب في


1- الخلاف 2: 79، تذكرة الفقهاء 6: 19، مستمسك العروة الوثقى 8: 228.
2- الخلاف 2: 179، المجموع 6: 271 272.
3- كتاب الصوم، الشيخ الأنصاري: 122 123، مصباح الفقيه 14: 352.
4- تقدّم في الصفحة 201، الرقم 2.
5- الخلاف 2: 179، كتاب الصوم، الشيخ الأنصاري 12: 122، مستمسك العروة الوثقى 8: 228.
6- يأتي في الصفحة 232.

ص: 224

برهة، لا يضرّ بالإطلاق، فتأمّل.

و يجوز دعوى أنّ تلك الإجماعات عليلة؛ لأنّ في خبر الزهريّ: «كلّ من أفطر لعلّة في أوّل النهار، ثمّ نوى بعد ذلك أُمر بالإمساك بقيّة يومه تأديباً»(1) و هو ربّما يكون مستندهم، بناءً على أنّ المراد من قوله: «أفطر» أي: لم يقصد الصوم لا أنّه أتى بالمفطّرات و تناولها. و أيضاً في المسافر القادم، الأمر بالكفّ عن الأكل، و النهي عن المواقعة(2)، فبالغاء الخصوصيّة لأجل فهم الأدب منها، يحكم مطلقاً، فالإجماعات أصبحت غير حجّة.

و حيث إنّ الخبر الأوّل غير كافٍ دلالة، و ما في المسافر غير شاهد على الوجوب، لتجويز الأكل بعد الزوال في بعض الأخبار(3)، و تجويز


1- الكافي 4: 86/ 1، الفقيه 2: 48/ 208، تهذيب الأحكام 4: 296/ 895.
2- عن سماعة قال: سألته عن مسافر دخل أهله قبل زوال الشمس و قد أكل؟ قال: لا ينبغي له أن يأكل يومه ذلك شيئاً، و لا يواقع في شهر رمضان إن كان له أهل. الكافي 4: 132/ 8، وسائل الشيعة 10: 191 192، كتاب الصوم، أبواب من يصحّ منه الصوم، الباب 7، الحديث 1.
3- عن سماعة قال: سألته عن الرجل كيف يصنع إذا أراد السفر إلى أن قال: إن قدم بعد زوال الشمس أفطر و لا يأكل ظاهراً و إن قدم من سفره قبل زوال الشمس فعليه صيام ذلك اليوم إن شاء. تهذيب الأحكام 4: 327 328/ 1020، وسائل الشيعة 10: 191، كتاب الصوم، أبواب من يصحّ منه الصوم، الباب 6، الحديث 7.

ص: 225

و قضاء ذلك اليوم، و إن كان قبل الزوال و لم يتناول مفطراً، يجدّد النيّة و أجزأ عنه (1).

المواقعة بعد الزوال فيها(1) أيضاً، فلو كان من الأدب فلا فرق بين قبل الزوال و بعده، فيشكل إثبات وجوب الإمساك جدّاً، نعم هو الأحوط.

قوله مدّ ظلّه: «و أجزأ عنه».

لما مرّ من استكشاف توسعة وقت النيّة إلى الزوال حتّى للعامد(2)، حسب الأصل الثانوي إلّا أنّه في خصوص العامد لا نقول به، و لو لم يكن مجزياً عنه تكون المسألة من موارد وجوب الإمساك تأدبّاً.


1- عن محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللَّه( عليه السّلام) عن الرجل يقدم من سفر بعد العصر في شهر رمضان فيصيب امرأته حين طهرت من الحيض، أ يواقعها؟ قال: لا بأس به. تهذيب الأحكام 4: 242/ 710، و 254/ 753، وسائل الشيعة 10: 193، كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، الباب 7، الحديث 4.
2- تقدّم في الصفحة 200 202.

ص: 226

[مسألة 7: لو صام يوم الشكّ بنيّة أنّه من شعبان، ثمّ تناول المفطر نسياناً]

مسألة 7: لو صام يوم الشكّ بنيّة أنّه من شعبان، ثمّ تناول المفطر نسياناً، و تبيّن بعد ذلك أنّه من رمضان، أجزأ عنه (1). نعم، لو أفسد صومه برياء و نحوه لم يجزه منه (2) قوله مدّ ظلّه: «أجزأ عنه».

بالأولويّة؛ لأنّه لو أفطر في شهر رمضان نسياناً، لا يضرّ. هذا مع أنّ صومه بحسب الواقع صوم رمضان حسب الفرض، فلا يكون بعد التبيّن، من رمضان حتّى يتوهّم الإشكال كما لا يخفى.

قوله مدّ ظلّه: «لم يجزه منه».

لعين ما مرّ، فإنّ صومه كان صوم شهر رمضان فأبطله.

نعم، في مبطليّة الرياء كلام محرّر منّا في محلّه(1)، و على تقدير بطلان العبادة به ففي الصوم مشكل تحقّق الرياء، لما ليس فعلًا يصدر حتّى يكون ريائيّاً، فلو تقوّل بعض الأقاويل، فهو ليس من الرياء بالصوم فالإخبار الريائي عن الصوم، و الإعلان الريائي عنه، يشبه الإخبار و الإعلان بعد العمل، فتأمّل.

نعم، إذا رجع الرياء إلى الإخلال بأصل عباديّة الصوم، فتكون الحلقة الاولى من حلقات النيّات مخدوشة، يصير باطلًا.


1- تحريرات في الفقه، الواجبات في الصلاة: 88 و ما بعدها.

ص: 227

حتّى لو تبيّن كونه منه قبل الزوال و جدّد النيّة (1).

قوله: «و جدّد النيّة».

قد أُشير آنفاً إلى أنّ صومه صوم رمضان فلا معنى لتجديد النيّة، بل هو يضرّ، فما في كلمات جمع منهم من تجديد النيّة بالنسبة إلى شهر رمضان(1)، غير واضح سبيله.

و أمّا لو كان صومه حال الرياء غير صوم شهر رمضان، فأبطله بالرياء، فهو ليس بمتناول بالنسبة إلى المفطرات، فله تجديد نيّة صوم شهر رمضان بالضرورة، فإبطال الصوم بغيرها لا يضرّ بإمكان تصحيحه رمضاناً، كما إذا سافر قبل الزوال فعاد قبله، و لم يتناول شيئاً، فإنّه لم يحدث حدثاً، فله أن يصوم، و يصحّ عنه قطعاً.


1- شرائع الإسلام 1: 169، قواعد الأحكام 1: 63/ السطر 22 24.

ص: 228

[مسألة 8: كما تجب النيّة في ابتداء الصوم، تجب الاستدامة عليها في أثنائه]

مسألة 8: كما تجب النيّة في ابتداء الصوم، تجب الاستدامة عليها في أثنائه، فلو نوى القطع في الواجب المعيّن بمعنى قصد رفع اليد (1) عمّا تلبّس به من الصوم، بطل على الأقوى، و إن عاد (2) إلى نيّة الصوم قبل الزوال، قوله مدّ ظلّه: «قصد رفع اليد».

إذا كان الصوم هو قصد ترك المفطرات، و تكون ماهيته الإمساك القصدي عنها، فمجرّد التخلّف عن ذلك، يلزم ترك الصوم الواجب، فاعتبار الاستدامة، و وجوب البقاء عليه ليس أمراً وراء ذلك حتّى يحتاج إلى دليل آخر، فليس للشرع أن يقبل الصوم المقطوع، و يقبل نفس ترك المفطرات صوماً، و يعتبره إمساكاً لأجل الآثار الخاصّة كما مرّ، فلا معنى لاحتمال صحّة الصوم بعد الترك المذكور حتّى يقال في المتن: «على الأقوى».

ثمّ إنّ الاستدامة موضوعيّة، كما أُشير إليه، و ليست حكميّة؛ لأنّ الارتكاز، على أن لا يرتكب المفطر إذا ابتلى به، و لا يعتبر أزيد منه؛ لأنّ من الناس من لا يبتلي ببعض المفطرات ما دام العمر، و لا يتمكّن من إبطال صومه به.

قوله مدّ ظلّه: «و إن عاد».

و هو المفروغ عنه في كلماتهم(1)، إلّا أنّ الإشكال في إطلاقه محلّا،


1- العروة الوثقى 2: 175، كتاب الصوم، الفصل الأوّل، المسألة 22، مستند العروة الوثقى، كتاب الصوم 1: 83 85، مهذّب الأحكام 10: 47 48.

ص: 229

و كذا لو قصد (1) القطع لزعم اختلال صومه، ثمّ بان عدمه.

لاحتمال كفاية العود فوراً بحيث لا يضرّ بالصدق، كما قالوا به في مثل الجماعة(1)، بل و الصلاة(2)، فإنّ الاتّصال و الهيئة الاتّصاليّة لا يتضرّر بالعدول الآني.

اللّهمّ إلّا أن يقال بالفرق؛ لأنّ الصوم تمام ماهيته القصد، و المرجع هو العرف المحقّق، فليتأمّل.

قوله مدّ ظلّه: «و كذا لو قصد».

و يأتي هنا ما مرّ. و الذي هو المهمّ في المسألة ما مرّ من قصور الأدلّة عن إثبات شرطيّة اعتبار القصد من الأوّل، و القدر المتيقّن من مورد الإجماع هو الإخلال به عمداً، فلتصحيح الصوم في أمثال هذه الفروع وجه تبيّن ممّا مضى.

و تحصّل: أنّ الصوم و لو كان ماهيته القصد إلّا أنّ الشرع حسب الظاهر تدخّل فيه، فراجع.


1- العروة الوثقى 1: 771، في صلاة الجماعة، المسألة 20.
2- العروة الوثقى 1: 620، في نيّة الصلاة، المسألة 16.

ص: 230

و ينافي الاستدامة، التردّد (1) في إدامة الصوم أو رفع اليد عنه، و كذا لو كان تردّده في ذلك لعروض شي ء لم يدرِ (2) أنه مبطل لصومه أو لا.

قوله مدّ ظلّه: «التردّد».

لا معنى لكونه منافياً، بل لا تبقى النيّة مع التردّد الطارئ، كما لا توجد مع التردّد من الأوّل.

قوله مدّ ظلّه: «لم يدرِ».

كما هو حال كثير من الجاهلين بالمفطرات تفصيلًا، و لو صحّ ما في المتن، فيلزم وجوب تعلّم المفطرات بتفصيلها؛ لأنّ إبطال الصوم الواجب المعيّن غير جائز.

و معنى عروض شي ء لم يدرِ، أعمّ من أن ارتكبه ثمّ شكّ أو لم يرتكبه، فإنّه على الثاني و إن يمكن التحفّظ على صومه بتركه، و أمّا في الفرض الأوّل فلا.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ ارتكابه حال الجهل ليس مضرّاً بالصحّة، فإذا كان عالماً بذلك لا يلزم وجوب التعلّم المذكور، و لكنّه محلّ إشكال، بل هو صريح كلامه في البطلان إذا كان عن جهل تقصيري، و احتاط في القصوري.

ثمّ إنّه يستلزم القول ببطلان الصوم هنا، بطلان الصوم الاحتياطي، مع أنّ الضرورة على خلافه، و لذلك قال في «العروة» بعدم البطلان(1)؛ لأنّ


1- العروة الوثقى 2: 175، كتاب الصوم، الفصل الأوّل، المسألة 22.

ص: 231

و أمّا في غير الواجب المعيّن لو نوى القطع، ثمّ رجع قبل الزوال صحّ صومه (1)، هذا كلّه في نيّة القطع.

المتردّد المذكور بانٍ على الصوم على تقدير الصحّة، بل في موارد الشكّ في ارتكاب المفطر موضوعاً، يكون التردّد موجوداً إلّا أنّه تردّد في صحّة صومه، و بناءً على الصوم على تقدير الصحّة، و لا بدّ من الالتزام بصحّته عملًا بالسيرة القطعيّة.

نعم، ربّما يكون نظر الماتن هنا إلى استلزام التردّد المذكور، التردّد في أصل البقاء على الصوم قهراً و ارتكازاً، بخلاف الصورتين المذكورتين إلّا من كان متوجّهاً إلى الاستلزام المذكور، فإنّه إذا بنى على الصوم لو كان صحيحاً صحّ صومه.

قوله مدّ ظلّه: «صحّ صومه».

بناءً على ما عرفت من الأصل المحرّر في المعيّن، ففي غير المعيّن يكون الأمر أوضح، بل اعتبار الشرع صحّة الصوم من أوّل طلوع الفجر، و لو قصده قبل الزوال آناً ما، يشهد قويّاً على الأصل الّذي أبدعناه.

و مع قطع النظر عن ذلك الأصل شمول الأدلّة الناهضة على توسعة النيّة في الواجب غير المعيّن(1) لمثل ما نحن فيه، محل إشكال؛ لأنّ


1- وسائل الشيعة 10: 10 14، كتاب الصوم، أبواب وجوب الصوم و نيّته، الباب 2، الحديث 2 و 4 و 5 و 6 و 9 و 10.

ص: 232

و أمّا نيّة القاطع، بمعنى نيّة ارتكاب المفطر، فليست بمفطرة على الأقوى (1)، المفروض في أدلّته غير هذه الصور، فتدبّر.

قوله مدّ ظلّه: «على الأقوى».

نظراً إلى أنّ الظاهر من الأدلّة، استناد المفطريّة إلى ذوات المفطرات، و أنّ الكفّارة كفّارة ارتكابها فيما إذا تكرّر، فلو كان نيّة القاطع ترجع إلى نيّة القطع، فاعتبار مبطليّة هذه الأُمور غلط.

و ممّا يشكل أمره أنّ ما هو الشرط، و قوام الصوم، هو القصد، و إذا كانت نيّة القاطع منافيّة له تكويناً، فلا يعقل أن يعتبر الشرع صحّة الصوم عند نيّة القاطع، للزوم التناقض، فللفرار عنه ينصرف الاستناد و النسبة المذكورة إلى خلاف الظاهر، فيتعيّن قول جماعة يقولون بالبطلان(1)، و هو المشهور بين متعرّضي المسألة(2).

و ينحلّ الإشكال بأنّ من تلك الظواهر يستكشف أنّ ما هو الشرط، هي نيّة الإمساك و قصد الصوم على وجه لا يتضرّر بنيّة المفطر، و يتضرّر بنيّة


1- الكافي في الفقه: 182، مختلف الشيعة 3: 385، مسالك الأفهام 2: 15، مستند الشيعة 10: 219.
2- الدروس الشرعية 1: 267، مدارك الأحكام 6: 40، العروة الوثقى 2: 175، في نيّة الصوم، المسألة 22.

ص: 233

القطع، فإنّ الأوّل ينافيه بالاستلزام، و الثاني بالاستقلال.

و بالجملة: لا يعتبر قصد الإمساك على الإطلاق، فلو انعدمت من هذه الطريقة التبعيّة فلا بأس به، لعدم الدليل على اشتراطها على الوجه المذكور، بل الدليل على خلافه.

و توهّم: أنّه لا معنى لاعتبار المفطر حينئذٍ، لعدم النيّة تكويناً، فالنسبة على كلّ تقدير مجازيّة، يندفع بأنّ المفطريّة باعتبار هدم النيّة السابقة، و إفسادها على وجه لا تصلح للصحّة بانضمام النيّة اللاحقة كما لا يخفى.

نعم في أصل اعتبار المفطر، إشكال محرّر في مسألة كيفيّة اعتبار المانعيّة في الصلاة، و قد تحرّر منّا امتناعه هناك(1)، و أمّا هنا فهو كذلك بالنسبة إلى المفطرات الشرعيّة دون العرفيّة كالأكل و الشرب، و على هذا ترجع المفطرات إلى شرطيّة تركها بحكم العقل، فالمجاز قطعي حسب الدليل العقلي، و لكن حسب النظر العرفي الّذي هو المتّبع، لا بدّ من التحفّظ على الحقيقة الّتي أمكنت.

و على هذا يمكن الالتزام بعدم فساد الصوم عند نيّة القاطع، إلّا أنّه يشكل الأمر من جهة أنّ نيّة القطع لا تكون، بعد أن يكون الصوم نفس


1- تحريرات في الأُصول 8: 86 89.

ص: 234

القصد إلى ترك المفطرات، إلّا مستلزماً لنيّة القاطع؛ ضرورة أنّ ما هو الشرط- كما عرفت هو البناء على ترك المفطرات عند الابتلاء، و في صورة الابتلاء بإحدى المفطرات، فإذا ترك الصوم، و قصد قطع النيّة، فمعناه أنّه لا بناء منه على تركها عند الابتلاء، فيلزم الإخلال بالشرط الّذي هو وجه صحّة الصوم كما أُشير إليه، و عليه ترجع نيّة القطع إلى الإخلال بما هو أساس الصوم، و هو البناء على ترك المفطر إذا ابتُلي به؛ لأنّه يضمحلّ قصده المذكور بالرجوع عن النيّة.

و من هنا يظهر: أنّ ما هو الموجب لبطلان الصوم، كلُّ ما يوجب خلوّ الصائم عن القصد المذكور، سواء كان نيّة القطع أو القاطع، و تبيّن أنّ كلّ واحد منهما ليس موجباً بما هو هو للبطلان، بل انعدام الشرط يستتبع عدم سقوط الأمر، فتدبّر.

و لو قيل: الصائم: «من كان من قصده ترك المفطر إذا ابتُلي به» فلو ترك القصد المذكور، فلا يلزم أن يكون بانياً على الأكل، لإمكان ترك الأكل لأجل جهة أُخرى.

قلنا: نعم، إلّا أنّه مع فرض انتفاء الجهة الأُخرى لا يكون بانياً على الترك.

و بالجملة: نيّة القطع و القاطع على وجه واحد، تخلّ بما هو الشرط و ما به الصوم صوماً.

ص: 235

و إن كانت مستلزمة لنيّة القطع تبعاً (1). نعم، لو نوى القاطع و التفت إلى استلزامها ذلك فنواه استقلالًا، بطل على الأقوى (2).

قوله مدّ ظلّه: «تبعاً».

اعترافه مدّ ظلّه بذلك لا بدّ أن يستلزم الاعتراف بأنّ الاستدامة المطلقة على النيّة ليست شرطاً كما مرّ(1).

قوله مدّ ظلّه: «على الأقوى».

لأنّه من نيّة القطع، و قد أُشير آنفاً إلى أن الموجب للفساد ليس إلّا ترك ما هو الشرط، أو ما هو قوام الصوم به، و لا خصوصيّة لنيّة القطع و لا القاطع.


1- تقدّم في الصفحة 229 و 231.

ص: 236

[القول فيما يجب الإمساك عنه]

اشارة

القول فيما يجب الإمساك عنه مسألة 1: يجب (1) على الصائم الإمساك عن أُمور:

[الأوّل و الثاني: الأكل و الشرب]
اشارة

الأوّل و الثاني: الأكل و الشرب (2)، قوله مدّ ظلّه: «يجب».

وجوباً شرطيّاً، و ليس ارتكاب المفطرات من المحرّمات التكليفيّة، و لا تركها من الواجبات النفسيّة، بناءً على إمكان كون الترك واجباً- كما في تروك الإحرام كما هو التحقيق، و تفصيله في الأُصول(1).

و بالجملة: ما هو الواجب النفسي ليس إلّا الصوم، و تركه موجب لاستحقاق العقوبة على ترك الواجب، فما يستظهر عنهم أحياناً في غير محلّه(2).

قوله مدّ ظلّه: «الأكل و الشرب».

في الجملة بلا شائبة إشكال، و عليه الإجماع المدّعى(3)، المقرون


1- تحريرات في الأُصول 3: 300 و 316 317 و 336 337.
2- مسالك الأفهام 2: 17 18، مستند الشيعة 10: 223، مصباح الفقيه 14: 363.
3- تذكرة الفقهاء 6: 21، مدارك الأحكام 6: 43، الحدائق الناضرة 13: 56، جواهر الكلام 16: 217.

ص: 237

بدعوى القطع و الضرورة(1).

و الّذي هو الأصل: أنّ حديث ترك الطعام و الشراب ليس من شرائط الصوم، بل هما من مقوّمات ماهيّة الصوم، و كان تركهما، بل و ترك الجماع حسب ما يظهر من الكتاب، ممّا ارتكزت عليه أذهان المتشرّعة، و أرباب الشرائع السالفة، فإنّ قوله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ(2) كان ما يفهمه صدر الإسلام أبناء المنطقة، فيعلم منه أنّ أصل ترك الأكل و الشرب كان معهوداً، بل و من قوله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ(3) أيضاً يعلم أنّ تركه كان معهوداً في ذلك.

و قد اشتهر أنّ زمان الصوم كان إلى زوال الشمس، و لأجله ورد ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ(4).

هذا، فالأولى أن يكون ترك الطعام و الشراب، و الإمساك عنهما مورد العنوان أوّلًا، ثمّ إلحاق مطلق الأكل إليه إذا اقتضاه الدليل؛ و ذلك لأنّ معتبر ابن مسلم يتضمّن عنوان الطعام و الشراب كما يأتي(5)، و ليس في


1- جواهر الكلام 16: 217.
2- البقرة( 2): 185.
3- البقرة( 2): 187.
4- البقرة( 2): 187.
5- يأتي في الصفحة 243.

ص: 238

الأخبار الصحيحة ما يدلّ على أنّ عنوان الأكل مورد الحكم.

و توهّم أنّ قوله تعالى كُلُوا وَ اشْرَبُوا ..(1) إلى آخره يشهد على أنّ ترك الأكل لازم إلى الليل(2)، غير جائز؛ لعدم كونه في هذا المقام، لما عرفت أنّ ترك الأكل في الجملة من مقوّمات الصوم، و الآية بصدد دفع ما كان صوماً في الجاهليّة إلى الزوال، و يكون توطئة لقوله تعالى ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ(3).

نعم، في طائفة من الأخبار عنوان الأكل و الشراب(4)، و هي و إن لم تكن نقيّة الأسناد، و لكنّها لأجل الإجماعات منجبرة.

اللّهمّ إلّا أن يقال: لا يكون الإجماع و الشهرة عمليّة حتّى تكون جابرة، و لا يكفي لقوّة استفادتهم ذلك من الكتاب و السنّة، فتجعل اجتهادهم، يمرّ عليك ما ينفعك في التعليقة الآتية إن شاء اللَّه تعالى.


1- البقرة( 2): 187.
2- مدارك الأحكام 6: 43.
3- البقرة( 2): 187.
4- وسائل الشيعة 10: 32، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 1، الحديث 3، و 10: 34، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 3، الحديث 6.

ص: 239

معتاداً كان كالخبز و الماء أو غيره كالحصاة (1) و عصارة الأشجار، قوله مدّ ظلّه: «الحصاة».

إلحاق غير المعتاد بالمعتاد مذهب الأصحاب، و عليه الإجماعات المحكيّة عن «الخلاف» و «الغنية» و «السرائر»(1)، و عن السيّد نفي الخلاف فيه بين المسلمين(2).

نعم، حكي عن الحسن بن صالح، و أبي طلحة الأنصاريّ تجويزه(3)، و هو المحكي عن ابن الجنيد(4)، بل و نفس السيّد (رحمه اللَّه (في بعض كتبه(5)، و هذا لا ينافيه دعواه الإجماع.

و بالجملة: يظهر أنّ المسألة خلافيّة جدّاً بين أهل الخلاف في جهة أُخرى، و هي الكفّارة دون البطلان(6).

و توهّم كفاية إطلاقات الأكل و الشرب أو إلغاء الخصوصيّة(7)، في


1- الخلاف 2: 212، المسألة 71، الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 509/ السطر 8 12، السرائر 1: 377، مستمسك العروة الوثقى 8: 233.
2- الناصريّات، ضمن الجوامع الفقهية: 242/ السطر الأخير.
3- الخلاف 2: 212 213، تذكرة الفقهاء 6: 21، المغني 3: 36، المجموع 6: 317/ السطر 5 6.
4- حكاه عنه في المختلف 3: 387.
5- رسائل الشريف المرتضى 3: 54.
6- جواهر الكلام 16: 217 218.
7- مستند العروة الوثقى، كتاب الصوم 1: 93 94.

ص: 240

غير محلّه؛ ضرورة أنّها مضافاً إلى ممنوعيّتها، منصرفة عن غير المعتاد.

و لعمري إنّه لو كان مورد للانصراف فهذا أحقّ به، لعدم الدواعي إلى ذلك حسب العادة الغالبة جدّاً.

نعم، يمكن دعوى الإلحاق، و إن لم يصدق عليه الأكل و الشرب المفطّرين، أو و إن لم يكن طعاماً و شراباً متعارفاً، أو و إن لم يكن أكلًا و شرباً؛ لأنّ المأكولات و المشروبات هي الأنواع الخاصّة، لا مطلق ما يُؤكل و يُشرب، فتأمّل؛ و ذلك لتلك الشهرة العظيمة، و لما ورد في الغبار الغليظ(1)، و لا يخفى ما في الثاني، فإنّ مبطليّة الغبار ممنوعة كما تأتي(2)، و لو كان مبطلًا فهو أمر وراء الأكل كما في نصّه، و يكون نفس إيصاله إلى الحلق مبطلًا و لو لم يكن أكلًا، فلا يخلو التمسّك المزبور(3) من غرر به.

و أمّا حديث الشهرة فهو قريب، و ذلك لأنّ في المسألة بعض نصوص ظاهرة في أنّ المبطل هو المتعارف من الطعام، ففي خبر مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام)، عن آبائه (عليهم السّلام)، أنّ عليّاً (عليه السّلام) سُئِلَ عن الذباب يدخل


1- تهذيب الأحكام 4: 214/ 621، وسائل الشيعة 10: 69 70، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 22، الحديث 1.
2- يأتي في الصفحة 280 283.
3- كتاب الصوم، الشيخ الأنصاري 12: 21، مستند العروة الوثقى، كتاب الصوم 1: 93.

ص: 241

حلق الصائم، قال: « «ليس عليه قضاء؛ لأنّه ليس بطعام»(1).

و عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السّلام) في الصائم يكتحل، قال: «لا بأس به، ليس بطعام و لا شراب»(2) و مقتضاهما أنّ غير المتعارف غير مبطل، و مع ذلك ذهب الأصحاب إلى خلافهما، فيعلم منه أنّ المسألة كانت معهودة عندهم من السلف.

و كون السؤال عن ورد الذباب إلى الحلق نسياناً، و لا عن اختيار، لا يضرّ بمفاد التعليل، و المنظور من الاكتحال، هو دخول أجزائه من ناحية الحلق إلى المري ء، كما هو المحسوس، فيكون نظر السائل بطلان الصوم به، و الخبر نفاه، فليتدبّر جيّداً.

و يمكن المناقشة في تلك الشهرة بدعوى ظهور كلماتهم في استنادهم في الالتحاق إلى الأكل و الشرب، فراجع(3).


1- الكافي 4: 115/ 2، تهذيب الأحكام 4: 323/ 994، وسائل الشيعة 10: 109، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 39، الحديث 2.
2- الكافي 4: 111/ 1، تهذيب الأحكام 4: 258/ 765، وسائل الشيعة 10: 74، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 25، الحديث 1.
3- الخلاف 2: 212 213، تذكرة الفقهاء 6: 21، الحدائق الناضرة 13: 57.

ص: 242

و لو كانا قليلين جدّاً (1) كعشر حبّة و عشر قطرة.

قوله مدّ ظلّه: «قليلين جدّاً».

على المعروف بينهم(1) إلّا أنّ الأخبار الكثيرة المنتشرة في الأبواب المتفرّقة، تدلّ على جواز القليل كالأخبار الواردة في جواز الاستياك و كراهته بالعود الرطب(2)، و ما في مسألة المضمضة(3)، و في مسألة مضغ الطعام للصبيّ، و زقّ الطائر(4)، و ذوق المرق(5)، و بلع بصاق الغير(6).

و حملها على إخراج تلك الأجزاء عن محيط الفم أو حملها على الاستهلاك(7)، غير صحيح، فبعد قصور الأدلّة رأساً، و تلك الأخبار صراحة، يكون نفي القليل البالغ في القلّة إلى الأجزاء الصغار دون غيرها، قريب كما أنّ شرب عشر القطرة لا معنى له، بل و شرب القطرة، كما لا يخفى، و تأمّل.


1- العروة الوثقى 2: 176، فصل فيما يجب الإمساك عنه في الصوم، مستمسك العروة الوثقى 8: 234.
2- وسائل الشيعة 10: 82 86، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 28.
3- وسائل الشيعة 10: 70 72، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 23.
4- وسائل الشيعة 10: 108، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 38.
5- وسائل الشيعة 10: 105 108، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 37.
6- وسائل الشيعة 10: 102، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 34.
7- مستند العروة الوثقى، كتاب الصوم 1: 99.

ص: 243

[مسألة 2: المدار على صدق الأكل و الشرب و لو كانا على النحو غير المتعارف]

مسألة 2: المدار على صدق الأكل و الشرب و لو كانا على النحو غير المتعارف، فإذا أوصل الماء إلى جوفه من طريق أنفه، صدق الشرب (1) عليه و إن كان بنحو غير متعارف.

قوله مدّ ظلّه: «صدق الشرب».

قد عرفت: أنّ تعيين الصدق غير جائز للفقيه إذا كان موجباً لوقوع المقلّد في الضلالة، فما هو وظيفته تعيين الحكم، و الّذي يظهر لي: أنّ معتبر ابن مسلم يقول: «لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال: الطعام و الشراب ..»(1) و ليس البحث حول الأكل المصدري، و الشرب المصدري، بل اللازم هو اجتنابه عنهما.

نعم، الاجتناب عنهما ليس بمعنى الاجتناب عن القمار، بل هو معناه العرفي، و هو استيفاء الحظّ منه، سواء كان عن طريق الأكل و الشرب المصدريين أو الحقنة، فإنّ حقنة الطعام داخل في هذا الحديث أيضاً، كما لا يخفى.

فتلقيح الموادّ و الأغذية من سائر الثقب كثقب الإحليل، أو سائر الطرق المتعارفة في اليوم، يمكن منعه؛ لأنّه خلاف الاجتناب عن الطعام و الشراب- أي: المشروب بقرينة الطعام.


1- تهذيب الأحكام 4: 189/ 535، الإستبصار 2: 80/ 244، وسائل الشيعة 10: 31 كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 1، الحديث 1.

ص: 244

[الثالث: الجماع]

الثالث: الجماع (1) فما قد يتوهّم من استنباط ممنوعيّة الإدخال في الجوف من موارد مختلفة(1)، فهو غير صحيح لجواز الحقنة بالجامد، فالطريق الوحيد ما أشرنا إليه، و هو يقبل التقييد.

و حمل خبر ابن مسلم على الأكل من الفم(2)، فهو لأجل فهم الناس بحسب القطر و المنطقة، لا بحسب الواقع و مراد المتكلّم، فلا تغفل.

و من ذلك يظهر حكم كثير من الفروع المستحدثة الّتي وقفت أنظار جمع فيها صرعى، و اللَّه وليّ التوفيق و الحمد.

قوله مدّ ظلّه: «الجماع».

بضرورة الإسلام، و عدّ تركه من الشروط لا يخلو عن مناقشة، لما يظهر أنّه كان من مقوّمات الصوم عند طلوع الإسلام، و لأجله وردت آية التحليل في الليل، بعد الأمر بالصوم على إطلاقه(3).

و أمّا التمسّك بقوله تعالى فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ ..(4).


1- مستمسك العروة الوثقى 8: 238.
2- مستمسك العروة الوثقى 8: 238.
3- البقرة( 2): 187.
4- البقرة( 2): 187.

ص: 245

ذكراً كان (1) الموطوء أو أُنثى، بدعوى أنّ الغاية مربوطة أيضاً بقوله تعالى بَاشِرُوهُنَ فتدلّ الآية على المنع عن المباشرة نهاراً(1)، فهو غير جيّد، محرّر تفصيله في كتابنا الكبير(2).

و ربّما تخلّل قوله تعالى وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ(3) يكفي لصرف الغاية عنه، و اختصاصها بالجملة الأخيرة.

فالجماع في الجملة ممّا لا شائبة خلاف فيه، و أمّا فروعه فتأتي في التعاليق الآتية إن شاء اللَّه تعالى.

قوله مدّ ظلّه: «ذكراً كان».

حسب الإجماع المحكي على الملازمة بين موجب الغسل، و مبطل الصوم(4)، و لكنّه اصطياد و ليس بتمام.

و ما هو الأقرب دلالة الأخبار الناهية و الزاجرة عن النكاح(5)،


1- مدارك الأحكام 6: 44، الحدائق الناضرة 13: 106 107.
2- تحريرات في الفقه، كتاب الصوم، الثالث من المفطرات.
3- البقرة( 2): 187.
4- الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 509/ السطر 9 12، مختلف الشيعة 3: 390، كتاب الصوم، الشيخ الأنصاري 12: 25 26، مستمسك العروة الوثقى 8: 240.
5- الفقه المنسوب للإمام الرضا( عليه السّلام): 203، دعائم الإسلام 1: 268، مستدرك الوسائل كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 1، الحديث 2، و الباب 2، الحديث 1.

ص: 246

و يكفيك من بينها معتبر المروزيّ، قال: سمعته يقول: «إذا تمضمض الصائم في شهر رمضان- إلى أن قال: فإنّ ذلك له مفطر مثل الأكل و الشرب و النكاح»(1).

و المناقشة في صدق النكاح(2) غير نقيّة، بعد كون المراد هو الدخول، مع صدقه على نكاح البهائم، و لا يتوقّف المنع على صدق الجماع، بل ليس في ظاهر الكتاب و الأخبار عنوان الجماع، مورد النظر، إلّا أنّه قد ورد في طي بعض الأخبار(3)، و على كلّ تقدير يكفي صدق النكاح بعد كون النسبة بينهما مثبتين.

نعم، مفهوم معتبر ابن مسلم(4)، يوجب حصر المبطل بترك الاجتناب عن النساء، فيلزم التقييد و لو كان بينهما العموم من وجه، و لكنّك أحطت خبراً بعدم المفهوم له، فليتدبّر.


1- تهذيب الأحكام 4: 214/ 621، وسائل الشيعة 10: 69 70، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 22، الحديث 1.
2- مصباح الفقيه 14: 373 374.
3- وسائل الشيعة 10: 39 40، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 4.
4- تقدّم في الصفحة 243.

ص: 247

إنساناً أو حيواناً (1)، قبلًا أو دبراً (2)، قوله مدّ ظلّه: «حيواناً».

إجماعاً راجعاً إلى الإجماع السابق، فلا يكون مفطراً بما هو هو؛ لأنّ المعروف في تلك المسألة شرطيّة الإنزال، فالمستند ما مرّ من صدق النكاح، و لا وجه لدعوى الانصراف(1) جدّاً.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ معتبر ابن مسلم الأسبق يفسّر المراد من النكاح، و يكون منشأً للانصراف في محيط الأخبار.

قوله مدّ ظلّه: «دبراً».

أمّا دبر النساء فلإطلاق معتبر ابن مسلم.

و من الغريب توهّم دلالة ما رواه الشيخ عن بعض الكوفيين، يرفعه إلى أبي عبد اللَّه (عليه السّلام)- الآتي ذكره على ما نحن فيه(2)، فإنّها و ما يرجع إليها في حكم الصائمة الموطوءة، لا الصائم الواطئ في الدبر.

فبالجملة: وجه المناقشة هو الانصراف، و هو- بعد ما عرفت ممنوع، مع أنّه لم يحك عليه خلاف من أحد من السلف و الخلف.

و أمّا دبر الحيوان فهو و قبله بحكم واحد كما مرّ وجه الإشكال فيه.


1- مصباح الفقيه 14: 373 374.
2- الحدائق الناضرة 13: 109 110.

ص: 248

حيّاً أو ميّتاً (1)، صغيراً (2) أو كبيراً، واطئاً كان الصائم أو موطوءاً (3)، قوله مدّ ظلّه: «ميّتاً».

لما مرّ و دعوى أنّه ليس من الجماع و لا النكاح، لو كانت مسموعة، و لكن خلاف الاجتناب اللازم عليه إذا كان الميّت من النساء، و لا بأس في صورة الشكّ من حديث الاستصحاب، فتأمّل.

قوله مدّ ظلّه: «صغيراً».

و ربّما يكون الوطء مع الزوجة الصغيرة من الإفطار المحرّم.

و دعوى أنّها ليست من النساء و لو كانت مسموعة، إلّا أنّ صدق النكاح و الجماع كافٍ، و في هذا و أمثاله وجه لدعوى القطع بالحكم، و لو كان القياس ممنوعاً محرّماً.

قوله مدّ ظلّه: «موطوءاً».

هنا إشكال؛ لأنّ النساء مورد وجوب الاجتناب للصائم، فكون صومهنّ باطلًا بمعتبر محمّد بن مسلم(1) ممنوع جدّاً.

و يؤيّد ذلك خبر «التهذيب»(2) السابق(3)، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام): في


1- تقدّم في الصفحة 243.
2- تهذيب الأحكام 4: 319/ 975، وسائل الشيعة 2: 200، كتاب الطهارة، أبواب الجنابة، الباب 12، الحديث 3.
3- تقدّم في الصفحة 247.

ص: 249

فتعمّد ذلك مبطل و إن لم ينزل (1).

الرجل يأتي المرأة في دبرها و هي صائمة؟ قال: «لا ينقض صومها، و ليس عليها غسل».

و قريب منه الخبر الآخر(1)، و لعلّهما واحد كما هو الأظهر، فلولا ضعفهما الذاتي، و ذهاب الأُمّة إلى بطلان صوم الموطوء على الإطلاق، كان هنا وجه للمنع.

و أمّا بطلان صوم الرجل الموطوء فيستظهر من الوجوه السابقة؛ ضرورة أنّ النكاح الممنوع يشمل الفروض حتّى فرض موطوئيّة الصغير و المرأة.

و من هنا يظهر ضعف تمايل «المبسوط» إلى المناقشة في مفطريّة الوطي دبراً(2)، فراجع.

قوله مدّ ظلّه: «و إن لم ينزل».

إجماعاً في الجملة(3)، و هو مقتضى الإطلاقات المستفادة منها مضرّيّة مباشرة النساء و النكاح و الجماع(4)، و المناقشة فيها ناشئة عمّا


1- تهذيب الأحكام 4: 319/ 977.
2- المبسوط 1: 270.
3- جواهر الكلام 16: 219 220، مستمسك العروة الوثقى 8: 240.
4- وسائل الشيعة 10: 31، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 1، الحديث 1، و الباب 22، الحديث 1.

ص: 250

و لا يبطل (1) مع النسيان أو القهر السالب للاختيار، دون الإكراه فإنّه مبطل أيضاً، فإن جامع نسياناً أو قهراً فتذكّر أو ارتفع القهر في الأثناء، وجب الإخراج فوراً، فإن تراخى بطل صومه (2). و لو قصد التفخيذ مثلًا فدخل بلا قصد لم يبطل (3)، و كذا (4) لو قصد الإدخال و لم يتحقّق، لما مرّ من عدم مفطريّة قصد المفطر.

يرجع إلى المناقشة في الوطي قبلًا و إن لم ينزل، و لا فرق بين الفروع في شمول الأدلّة حسب الأظهر، و هو المناسب في المقام، و تقتضيه مناسبة الحكم و الموضوع جدّاً.

قوله مدّ ظلّه: «لا يبطل».

سيظهر وجهه في المسألة الثامنة عشرة و هكذا وجه بطلان صوم المكره.

قوله مدّ ظلّه: «بطل صومه».

أمّا الوجوب فلما مرّ، و أمّا البطلان فلأنّ الاجتناب عن النساء لا يحصل إلّا بمثله في مفروض المسألة، و لو تراخى وجب الإخراج أيضاً على الأحوط، حسب لزوم ترك المفطّرات على المفطر.

قوله مدّ ظلّه: «لم يبطل».

إمّا لكونه عن غير عمد أو لعدم صدق النكاح و الجماع، فتدبّر.

قوله مدّ ظلّه: «و كذا».

ليس الإدخال بعنوانه من المفطرات، فما هو مورد البحث هو قصد

ص: 251

و يتحقّق الجماع بغيبوبة الحشفة أو مقدارها، بل لا يبعد (1) إبطال مسمّى الدخول في المقطوع و إن لم يكن بمقدارها.

المفطر، و قد مرّ(1) ما يتعلّق به، و قوّينا في محلّه التفصيل بين مثل قصد الأكل و الشرب و بين مثل قصد الكذبة و الاحتقان، فإنّ الأوّل من قصد المفطر بخلاف الثاني، لعدم إمكان اعتبار المفطر إلّا برجوعه إلى اشتراط تركه في المأمور به، فتأمّل جيّداً.

قوله مدّ ظلّه: «بل لا يبعد».

بل لا يبعد إبطال مسمّى الدخول و لو في غير المقطوع، و ذلك لإطلاق معتبر ابن مسلم(2)؛ ضرورة أنّه ينافي الاجتناب عن النساء.

و لو أشكل الأمر في صدق الجماع و النكاح لأجل استفادة الحدّ الشرعي ممّا ورد في موجب الغسل، و هو التقاء الختانين(3)، فلا محلّ للإشكال في الإطلاق المذكور، مع أنّ الاستفادة المزبورة غير واضحة جدّاً، لعدم الملازمة بين المسألتين.


1- تقدّم في الصفحة 232 234.
2- تقدّم في الصفحة 243.
3- الكافي 3: 46/ 2 و 3، وسائل الشيعة 2: 183، كتاب الطهارة، أبواب الجنابة، الباب 6، الحديث 2 و 3.

ص: 252

[الرابع: إنزال المني]
اشارة

الرابع: إنزال المني (1) و أمّا الإجماع الناهض على الملازمة بين الموجب للغسل و المبطل(1) فهو على أمر اصطيادي من الأخبار، و قد أشرنا إلى عدم تماميّته.

قوله مدّ ظلّه: «إنزال المنيّ».

بلا خلاف في الجملة، و عليه الإجماعات المحكيّة(2) عن «الانتصار» و «الوسيلة» و «الغنية» و «التذكرة»(3).

و عن «المدارك»: «عليه أجمع العلماء كافّة»(4). و لعلّ نظره إلى المخالفين، ففي «الخلاف»: «أنّه قول مالك و الشافعيّ»(5).

و المناقشة في هذه المحكيّات بأنّها ليست تعبّديّة، لوجود بعض النصوص(6) في المسألة، و المناقشة في تلك النصوص بعدم تماميّتها استناداً للحكم، موجبة لسريان الشكّ في أصل المفطّرية، و ذلك لأنّ حديث


1- تقدّم في الصفحة 245، الرقم 5.
2- مستند الشيعة 10: 240، مستمسك العروة الوثقى 8: 244 245.
3- الانتصار: 64، الوسيلة: 142، الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 509/ السطر 9 12، تذكرة الفقهاء 6: 24.
4- مدارك الأحكام 6: 21.
5- الخلاف 2: 198.
6- الكافي 4: 102/ 4، تهذيب الأحكام 4: 206/ 597، وسائل الشيعة 10: 39، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 4، الحديث 1.

ص: 253

باستمناء أو ملامسة أو قُبلة أو تفخيذ أو نحو ذلك من الأفعال الّتي يقصد بها (1) حصوله، وحدة موجب الغسل و المفطر غير تمام؛ لأنّ الاحتلام في النهار موجب للغسل و ليس بمفطر، و الإنزال العمدي بعده موجب للبطلان دون الغسل.

و معتبر ابن مسلم لا يشمل الاستمناء اليدويّة، و كذا معتبر عبد الرحمن ابن الحجّاج(1) الوارد في العابث بأهله، فإنزال المنيّ باستمناء في مقابل الاستمناء بالملاعبة مع الأهل و غيره، لا يتبيّن مبطليّته إلّا دعوى القطع أو استفادة الحكم من الأخبار بإلغاء الخصوصيّة.

هذا و غير خفيّ: أنّ تلك الإجماعات كأنّها ناظرة إلى لعب خاصّ، و هو الاستمناء على الوجوه المذكورة غير الوجه الأوّل، و لذلك ما تعرضت «العروة الوثقى» لهذا الفرض.

قوله مدّ ظلّه: «يقصد بها».

أي: من الأفعال المتعارفة في هذا الأمر، و تكون عاديّة نوعيّة، و إن لم يكن من العادة بالنسبة إلى شخص خاصّ، و هذا ظاهر العبارة إلّا أنّ المنظور ليس إلحاق غير المعتاد بالمعتاد.

و بالجمله: مبطليّة الاستمناء بتلك الطرق تستفاد مضافاً إلى تلك


1- عن عبد الرحمن بن الحجّاج، قال: سألت أبا عبد اللَّه( عليه السّلام) عن الرجل يعبث بأهله في شهر رمضان حتّى يمني؟ قال: عليه من الكفّارة مثل ما على الّذي يجامع.

ص: 254

الإجماعات، من معتبر ابن مسلم، و إطلاقه يقتضي ترك كلّ هذه الأُمور إلّا ما قام الدليل على خلافه أو كان انصراف، لأجل أنّها تنافي الاجتناب عن النساء محلّلات كنّ أم محرّمات.

و من معتبر ابن الحجّاج قال: سألت أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) عن الرجل يعبث بأهله في شهر رمضان حتّى يمني؟ قال: «عليه من الكفّارة مثل ما على الّذي يجامع»(1).

و فيه نظر، لأجل أنّ كلمة «حتّى» ربّما تكون للغاية، بمعنى ما إليه الحركة، لا ما لأجله الحركة، و لازم ذلك البطلان و لو لم يكن قاصداً فيعارضه الأخبار الأُخر(2)، بل تكون الرواية حينئذٍ معرضاً عنها، فلا تغفل.

و لو صحّ ما في «المدارك» من ضعف جميع أخبار هذه المسألة إلّا الخبر المذكور(3)، فيلزم سقوط الكلّ، لأجل ما أُشير إليه، و لكنّه غير صحيح لما فيها المعتبر عندنا.

و من معتبر ابن الحجّاج أيضاً إلّا أنّه مثله دلالة، و من معتبر سماعة قال: سألته عن رجل لزق بأهله فأنزل، قال: «عليه إطعام ستّين مسكيناً، مدّ


1- الكافي 4: 102/ 4، تهذيب الأحكام 4: 206/ 597، وسائل الشيعة 10: 39، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 4، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 10: 97 101، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 33.
3- مدارك الأحكام 6: 61 62.

ص: 255

بل لو لم يقصد حصوله، و كان من عادته ذلك بالفعل المزبور، فهو مبطل أيضاً (1).

لكلّ مسكين»(1).

و مقتضى إطلاقه أيضاً عدم اختصاص الحكم بصورة القصد، و حيث إنّ مقتضى الأدلّة الآتية في طي «المسألة 18» عدم مبطليّة المفطّرات في غير حال العمد فيقيّد الإطلاقات هنا.

فتحصّل أنّ اللعب بالمرأة المنتهى إلى الإمناء و سبق الماء، يوجب الفساد، إلّا أنّ الظاهر من أخبارها(2) اختصاص الفساد بصورة خاصّة، و هو اللّعب بالأفعال العاديّة دون مطلق الفعل، كما يأتي إن شاء اللَّه تعالى.

قوله مدّ ظلّه: «مبطل أيضاً».

و ذلك لطائفة من الأخبار كمعتبر زرارة و محمّد بن مسلم جميعاً، عن أبي جعفر (عليه السّلام) أنّه سُئل، هل يباشر الصائم أو يقبّل في شهر رمضان؟ فقال: «إنّي أخاف عليه فليتنزّه من ذلك إلّا أن يثق أن لا يسبقه منيّه»(3).

و معتبر ابن حازم، قال: قلت لأبي عبد اللَّه (عليه السّلام): ما تقول في الصائم يقبّل


1- تهذيب الأحكام 4: 320/ 980، وسائل الشيعة 10: 40، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 4، الحديث 4.
2- وسائل الشيعة 10: 39، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 4.
3- تهذيب الأحكام 4: 271/ 821، وسائل الشيعة 10: 100، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 33، الحديث 13.

ص: 256

الجارية و المرأة؟ فقال: «أمّا الشيخ الكبير مثلي و مثلك فلا بأس، و أمّا الشابّ الشبق فلا؛ لأنّه لا يؤمن، و القبلة إحدى الشهوتين»(1).

فإنّ قضيّة الأخبار الماضية و هذه المآثير، أنّ مجرّد الفعل غير كاف، بل لا بدّ و أن يكون منضمّاً إليه العادة، كما أنّ الفعل الذي هو الموجب بانضمام العادة، هو الفعل الخاصّ؛ لأنّه ممّا لا يؤمن منه، و لا يحصل فيه الوثوق و الاطمئنان فعند عدم حصول الوثوق لا بدّ من الاجتناب، و في ما كان الفعل ممّا يتعارف انتهائه إلى الإمناء لا يكون وثوق عادة و نوعاً، إذا كان من عادته ذلك.

و لأنّ مع الاعتياد لا يبعد صدق العمد عليه، و يعدّ من سوء الاختيار و الإهمال فيناسب حينئذٍ العمل بإطلاق ما مرّ من مثل معتبر ابن الحجّاج(2) و غيره(3) الناطق بالكفّارة على الإطلاق.

و يناقش، أوّلًا: في أصل الحكم بطائفة من الأخبار الصريحة في جواز ذلك في شهر رمضان مطلقاً، و أحسنها سنداً و دلالةً، ما في «المقنع» عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) «لو أنّ رجلًا لصق بأهله في شهر رمضان فأمنى، لم يكن


1- الكافي 4: 104/ 3، وسائل الشيعة 10: 97، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 33، الحديث 3.
2- تقدّم في الصفحة 254، الرقم 1.
3- تقدّم في الصفحة 254، الرقم 1 و 255، الرقم 1.

ص: 257

عليه شي ء»(1).

إلّا أنها لأجل ما سبق، و لضعف السند عندنا، و لعدم إمكان العمل بمضمونه، محمول على صورة عدم القصد أو عدم الاعتياد أو غير ذلك.

اللّهمّ إلّا أن يقال: دلالة الأخبار السابقة على المبطليّة غير واضحة، فيجوز أن يكون مكروهاً، و لكنّه بعيد إنصافاً.

و ثانياً: في اعتبار الأفعال الخاصّة ففي خبر أبي بصير، قال: سألتُ أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) عن رجل وضع يده على شي ء من جسد امرأته فأدفق؟ فقال: «كفّارته أن يصوم شهرين متتابعين ..»(2)، فإنّه صريح في أنّ فعلًا ما يكفي.

نعم، يقيّد إطلاقه بصورة العمد، و بما إذا لم يكن مأموناً، فلو كان يؤمن عليه، فلا بأس به لما مرّ.

اللّهمّ إلّا أن يضعّف الخبر أو يقيّد بصورة القصد، و لعمري أنّ هذه المسألة متشتّت الأخبار، و مضطرب الآثار، و تنقيحها يوجب الخروج عن وضع الكتاب الّذي هو على الاختصار، و لها موقف آخر، من شاء فليراجع


1- المقنع: 188 199، وسائل الشيعة 10: 98، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 33، الحديث 5.
2- تهذيب الأحكام 4: 320/ 981، وسائل الشيعة 10: 40، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 4، الحديث 5.

ص: 258

نعم، لو سبقه المنيّ من دون إيجاد شي ء يترتّب عليه حصوله- و لو من جهة عادته من دون قصد له لم يكن مبطلًا. (1) كتابنا الكبير(1).

قوله مدّ ظلّه: «لم يكن مبطلًا».

نظراً إلى أنّه من غير العمد موضوعاً، و غير لاحق به حسب الأخبار السابقة؛ لأنّ المفروض عدم اعتياده به.


1- تحريرات في الفقه، كتاب الصوم، الرابع من المفطرات.

ص: 259

[مسألة 3: لا بأس بالاستبراء بالبول أو الخرطات لمن احتلم في النهار]

مسألة 3: لا بأس بالاستبراء بالبول أو الخرطات لمن احتلم في النهار، و إن علم بخروج بقايا المنيّ الذي في المجرى إذا كان ذلك (1) قبل الغسل من الجنابة. و أمّا الاستبراء بعده، فمع العلم بحدوث جنابة جديدة فالأحوط تركه، بل لا يخلو لزومه من قوّة. (2) قوله مدّ ظلّه: «إذا كان ذلك».

لعدم حصول الجنابة الجديدة حتّى يقال بأنّ الإمناء الموجب للغسل مبطل بالإجماع السابق تنقيحه و حدّه(1)، و لعدم كفاية الأدلّة اللّبيّة و اللفظيّة عن منعه لو لم تكن السيرة الإجماليّة، و لا سيّما بالبول، على خلافه.

قوله مدّ ظلّه: «من قوّة».

نظراً إلى إجماع السلف، و قد عرفت بما لا مزيد عليه، فلا فرق بين الصورتين في الحكم على الأظهر.

و توهّم أنّه من الإمناء العمدي الممنوع(2)، و لو صحّ فهو أيضاً يوجب عدم الفرق بين الصورتين، مع ما عرفت من قصور الأدلّة.


1- تقدّم في الصفحة 252 253.
2- مستمسك العروة الوثقى 8: 248، ذيل الرقم 3.

ص: 260

و لا يجب (1) التحفّظ من خروج المنيّ بعد الإنزال إن استيقظ قبله، خصوصاً مع الحرج و الإضرار.

قوله مدّ ظلّه: «لا يجب».

شرطيّاً فيصحّ صومه لما مرّ، و لو أمكن الالتزام بوجوبه تكليفاً أو حرمة إدامة الخروج، نظراً إلى أنّه من الاستمناء الممنوع مثلًا.

و لذلك استشكل بعضهم في المسألة في كتاب الطهارة(1)، و لعمري أنّ أمثال هذه التوهّمات غير لائق بأمثال فقهائنا رضوان اللَّه تعالى عليهم.

قد تمّ الفراغ يوم الثلاثاء من الأُسبوع الأخير من شهر رمضان لعام 1394 هجري قمري في النجف الأشرف على صاحبها آلاف الثناء و التحيّة، و نسأل اللَّه أن يوفّقنا لإتمامه في سائر شهور الصيام إن شاء اللَّه تعالى(2).


1- العروة الوثقى 1: 283 فصل في غسل الجنابة، المسألة 7.
2- و قد سقط هنا عدة مسائل، و ما عثرنا عليه بعد ذلك هو السادس من المفطرات.

ص: 261

[السادس: تعمّد الكذب على اللَّه تعالى و رسوله]
اشارة

السادس: تعمّد الكذب (1) على اللَّه تعالى و رسوله.

قوله مدّ ظلّه: «الكذب».

على المشهور بين القدماء(1)، و ادّعي عليه الإجماع مراراً(2)، و نسب إلى العمانيّ(3) و السيّد في «جمله»(4) و إلى ابن إدريس(5)، و المحقّق في «الشرائع» و «معتبرة»(6) و إلى جملة من المتأخّرين(7)، عدمه.

و خالفهم أصحابنا المتأخّرين(8)، نظراً إلى أنّ هذه المسألة من المسائل المبتلى بها جدّاً.

و يبعد استنادهم فيها إلى الأخبار حتى يناقش فيها سنداً أو دلالة، مع أنّه لم يثبت نسبة الخلاف إلى السيّد، و لا سيّما بعد دعواه الإجماع(9).


1- المقنعة: 344، الكافي في الفقه: 179، النهاية 1: 388، الخلاف 2: 221، المسألة 85.
2- الانتصار: 62 63، الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 509/ السطر 11 12، جواهر الكلام 16: 224، مستمسك العروة الوثقى 8: 251.
3- حكاه عن العمّاني في مختلف الشيعة 3: 397.
4- رسائل الشريف المرتضى 3: 54.
5- السرائر 1: 376.
6- شرائع الإسلام 1: 173، المعتبر 2: 656 و 671.
7- تذكرة الفقهاء 6: 32، التنقيح الرائع 1: 363، مسالك الأفهام 2: 24، مدارك الأحكام 6: 46.
8- مستند الشيعة 10: 253، العروة الوثقى 2: 180، كتاب الصوم، الفصل الثاني في المفطرات، المسألة 18، جامع المدارك 2: 158.
9- الانتصار: 62 63.

ص: 262

و حيث إنّه من المسائل التي انفردت بها الإماميّة، و خالفهم الجمهور(1)، تكون الأخبار الظاهرة في أنّ الكذب ناقض الكمال لا الصحّة(2)، محمولة على التقيّة.

هذا و في الأخبار معتبر سماعة، قال: سألته عن رجل كذب في رمضان، فقال: «قد أفطر، و عليه قضاؤه» فقلت: فما كذبته؟ قال: «يكذب على اللَّه و على رسوله صلّى اللَّه عليه و آله»(3) و دلالته واضحة.

و المناقشة فيها(4) باشتمال بعض الأخبار على أنّ الكذبة تنقض الوضوء(5)، و أنّ الغيبة مفطر(6)، و أنّ النظرة و الظلم مفطر(7)،


1- الخلاف 2: 221، المغني 3: 35، المجموع 6: 312.
2- وسائل الشيعة 10: 33 35، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 2.
3- تهذيب الأحكام 4: 189/ 536، وسائل الشيعة 10: 33، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 2، الحديث 1.
4- مصباح الفقيه 14: 378.
5- تهذيب الأحكام 4: 203/ 585، وسائل الشيعة 10: 33، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 2، الحديث 2.
6- كتاب النوادر: 23/ 12، وسائل الشيعة 10: 35، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 2، الحديث 8 و 10.
7- إقبال الأعمال: 87/ السطر 1 2، وسائل الشيعة 10: 35، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 3، الحديث 9.

ص: 263

و أمثاله(1)، ليست في محلّها، و إلّا يلزم الإشكال في وجوب الصلاة و الصوم و الزكاة و الحج و غيرها، لاختلاف ألسنة أخبارها.

ثمّ إنّ توهين الخبر بوحدة السياق في الخبر الآخر(2) و لو كان جائزاً، و لكنّه بعد تماميّة صدور الجملة الناطقة بأنّ الكذبة تنقض الوضوء، و بعد تماميّة جهة الصدور، و بعد تماميّة الدلالة؛ و الأخبار التي تشتمل عليها(3)، بين ما لا يثبت به صدور الجملة المذكورة، و بين ما يحتمل كونها تقيّة؛ لذهاب العامّة إلى نواقض الوضوء غير ما عندنا، و يجوز أن يكون الكذبة منها و إن لم يذكر عنهم، و بين ما يحتمل أن يكون المراد من الوضوء نفس الصوم، لأنّه طهور كما عن بعض المراسيل(4)، و يساعده الاعتبار.

هذا مع أنّ عدم ذهاب الكلّ إلى ناقضيّة الكذبة يورث الإجمال،


1- مستدرك الوسائل 7: 322، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 2، الحديث 1.
2- مصباح الفقيه 14: 378 381.
3- الكافي 4: 89/ 10، تهذيب الأحكام 4: 203/ 586، كتاب النوادر: 24/ 14، وسائل الشيعة 10: 33 34 كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 2، الحديث 2 و 3 و 5 و 7.
4- الفقيه 2: 56/ 1.

ص: 264

فلا يبقى لتلك الأخبار وجه لصالحيّتها للقرينة بالنسبة إلى معتبر سماعة، و معتبر ابن يونس، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام): «إنّ الكذب على اللَّه، و على رسوله، و على الأئمّة (عليهم السّلام (يفطر الصائم»(1) فلا تخلط.

بقي شي ء: في المراد من تعمّد الكذب تعمّد الكذب هو الكذب العمدي الصادر عن العالم بالكذب، و من المحرّر في محلّه: أنّ العالم بالكذب لا يتمكّن من الكذب، و من الإذعان بالقضيّة، و من الإخبار عن الواقع(2)، كما لا يعقل أن يخاف الإنسان من الأسد مع العلم بالعدم، فالمراد من التعمّد هو التشبّه بالعمد و تصنّع العمد، كما هو مقتضى هيئة باب التفعّل، أو يكون المراد من العمد هنا شبه العمد؛ لأنّ عمد الكذب لا يرجع إلّا إليه.

فالإشكال الصغروي بأن الكذب العمدي مفطر، و لا مصداق له، و ما هو له المصداق ليس بمفطر حتّى الهزل، كما يأتي عنهم، ينحلّ بذلك، و أمّا التشبّث لحلّ معضلة المسألة عقلًا، بما في المفصّلات، فكلّه خال عن


1- الفقيه 2: 67/ 277، وسائل الشيعة 10: 34، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 2، الحديث 4.
2- لاحظ تحريرات في الفقه، كتاب الصوم، الخامس من المفطرات.

ص: 265

و الأئمّة (عليهم السّلام) (1) على الأقوى التحصيل، و من شاء فليراجع.

قوله مدّ ظلّه: «و الأئمّة (عليهم السّلام)».

إجماعاً قطعيّاً، و يدلّ عليه معتبر ابن يونس، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام): «إنّ الكذب على اللَّه، و على رسوله، و على الأئمّة (عليهم السّلام (يفطر الصائم»(1).

و القدر المتيقّن من الكذبة على اللَّه، و على الرسول، و عليهم (عليهم السّلام)، هو ما إذا كانت المسائل التشريعيّة الإسلاميّة، و تكون الكذبة على اللَّه أصل الشرع، و صاحب الشريعة، دون غيره، و إذا كانت الكذبة على غيره راجعة إليه تعالى، موجب للبطلان، و الرجوع إليه ليس قهريّاً، بل لا بدّ من القصد و الإرادة و إلّا فلا تحصل النسبة و الكذبة، كما لا يخفى.

و عليه لا يكون فرق بينهم (عليهم السّلام)، و بين فاطمة الزهراء سلام اللَّه عليها و الفقهاء و غيرهم من هذه الجهة، و كلّ ذلك لأنّ الخبر الناطق بمفطريّة الكذبة ليس له الإطلاق ظاهراً؛ لأنّ النظر فيه و في ما يشبهه إلى أبناء العامّة القائلين بعدم المفطرية، و المفتين في الإسلام على خلاف موازين الإفتاء، و ناسبين الأحكام في الفتوى إلى صاحب الإسلام،


1- الفقيه 2: 67/ 277، وسائل الشيعة 10: 34، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 2، الحديث 4.

ص: 266

و كذا باقي الأنبياء و الأوصياء (عليهم السّلام) على الأحوط، من غير فرق بين كونه في الدين أو الدنيا. (1) و ربّ الشرع.

هذا، مع أنّ أخذ الرسول بعنوان الرسالة، و الأئمّة بعنوان الإمامة، يشعر بما يرتبط بالعنوانين، دون ما هو خارج عنهما، فلو كان واحد يكذب على الرسول (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم)، و يقول: «إنّه تسرّع في حكم كذا، و ليس من الوحي» فبطلان صومه ممنوع إلّا إذا كان قوله ردّة، و بطلان الصوم بالردّة بحث آخر، ربّما يمكن تصحيحه بالتوبة إذا لحقته فوراً، فلا تخلط.

قوله مدّ ظلّه: «أو الدنيا».

على المعروف بينهم(1)، خلافاً لما نسب إلى صاحب «الكشف»(2) (قدِّس سرُّه) و هو قويّ جدّاً؛ ضرورة أنّه مضافاً إلى ما مرّ من عدم ثبوت الإطلاق جدّاً، لا يجوز أن يلتزم أحد بأنّ نسبة الضحك و البكاء على الرسول (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (حين الولادة، و حين ما كان مثلًا في القماط، أو نسبة أنّ قماطه كان أبيض أو أسود أو كونه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (كان يضرب بكذا، و هكذا سائر الأئمّة و غيرهم، من


1- تحرير الأحكام 1: 78/ السطر 1، منتهى المطلب 2: 565/ السطر 9 10، مصباح الفقيه 14: 381 382، العروة الوثقى 2: 180 181، كتاب الصوم، في المفطرات، المسألة 18.
2- كشف الغطاء: 321/ السطر الأخير، جواهر الكلام 16: 226.

ص: 267

و بين كونه بالقول أو بالكتابة أو الإشارة أو الكناية، و نحوها ممّا يصدق عليه (1) الكذب عليهم (عليهم السّلام). فلو سأله سائل: هل قال النبيّ (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم) كذا؟ فأشار: نعم في مقام لا، أو لا في مقام نعم، بطل صومه (2). و كذا لو أخبر صادقاً عن النبيّ (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم)، ثمّ قال: ما أخبرت به عنه كذب، أو أخبر عنه كاذباً في الليل، ثمّ قال- في النهار: إنّ ما أخبرت به في الليل صدق، فسد صومه (3)، المفطر المبطل للصوم و لو كان محرّماً و أحياناً موجباً للارتداد، فلا تخلط، و كن على بصيرة من أمرك.

قوله مدّ ظلّه: «ممّا يصدق».

و هو لا يحصل إلّا في صورة الإرادة و القصد، فلو كان الكلام بحسب النوع كنائيّاً، و لكنّه لم يقصد به النسبة و الإخبار عن المكنى عنه، لا يفطر، لما لا يتحقّق به الإخبار و الكذب.

قوله مدّ ظلّه: «بطل صومه».

بشرط كونه ممّا يرجع إلى الدين، و يريد الإخبار و الكذب على صاحب الدين و أصل الشرع.

قوله مدّ ظلّه: «فسد صومه».

إلّا إذا كان النظر إلى إفادة أنّه صادق أو كاذب، و لا يكون مقصوده مؤن المنجر به، فإطلاق الفرعين ممنوع.

ص: 268

و الأحوط عدم الفرق بين الكذب عليهم في أقوالهم أو غيرها (1). كالإخبار كاذباً بأنّه فعل كذا أو كان كذا، و الأقوى عدم ترتّب الفساد مع عدم القصد الجدّي (2) إلى الإخبار بأن كان هازلًا أو لاغياً.

قوله مدّ ظلّه: «أو غيرها».

ممّا يرجع إلى الأحكام دون العادات و الآداب، كما إذا أخبر بأنّه (عليه السّلام) عند ما كان ابن خمس سنين يحبّ الرمّان، أو لا يأكل المرق، و هكذا بالقياس إلى عصر إمامتهم (عليهم السّلام)، و لعمري إنّه من يتدبّر في ما يستلزم فتواهم هنا يطمئنّ بأن الكذبة المفطرة مخصوصة بالمسائل الخاصّة.

قوله مدّ ظلّه: «القصد الجدّي».

قد مرّ أنّ القصد الجدّي الحاصل في أكل الربا و شرب الخمر، لا يحصل في الكذبة بعد العلم بكذبها، و ما يحصل من الكاذب هو التصنّع بالجدّ، و الهازل و الكاذب بالجدّ غير مفترق إلّا في الأغراض، مثلًا إذا كان رجل يكذب ثمّ يسأل عنه: هل أنت صادق؟ فيخبر بصدقه، فإنّه لا يكون إخباراً جدّيّاً إلّا أنّه يتمثّل الجدّ.

و بالجملة: عدم مبطليّة الكذبة عن هزل لقصور الإطلاق، و لذلك احتاط فيه بعض الأصحاب(1).


1- كشف الغطاء: 322/ السطر 1 2.

ص: 269

[مسألة 4: لا فرق بين أن يكون الكذب مجعولًا له أو لغيره]

مسألة 13: لا فرق بين أن يكون الكذب مجعولًا له أو لغيره (1). كما إذا كان مذكوراً في بعض كتب التواريخ، أو الأخبار إذا كان على وجه الإخبار، نعم لا يفسده إذا كان على وجه الحكاية و النقل من شخص أو كتاب.

[السابع: رمس الرأس في الماء على الأحوط]
اشارة

السابع: رمس الرأس في الماء على الأحوط. (2) قوله مدّ ظلّه: «أو لغيره».

غير خفيّ أنّ ما هو المجعول لغيره لا يمكن أن تناله يد الجعل ثانياً، فلا محالة إذا حكاه يستند إلى الغير، و لو لم يستند إليه يكون كذباً آخر مجعولًا له إلّا أنّه مماثل مع الكذبة المجعولة في الكتاب، و الأمر سهل.

قوله مدّ ظلّه: «على الأحوط».

وفاقاً للأكثر(1)، بل قيل هو المشهور(2)، و عليه دعوى الإجماع(3)، خلافاً للجمهور من العامّة(4)، و ذهب «الاستبصار» و ابن إدريس و «الشرائع» و «المعتبر» إلى التحريم بلا فساد(5).


1- المقنعة: 344، النهاية 1: 396، المبسوط 1: 270، الخلاف 2: 221، جواهر الكلام 16: 227 228.
2- جواهر الكلام 16: 227، مستمسك العروة الوثقى 8: 262.
3- الانتصار: 62 63، الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 509/ السطر 11 12.
4- تذكرة الفقهاء 6: 33، المجموع 6: 348/ السطر 8 9.
5- الاستبصار 2: 85، ذيل الحديث 263، السرائر 1: 386 387، شرائع الإسلام 1: 173، المعتبر 2: 656.

ص: 270

و عن جمع: يكره الارتماس(1)، وفاقاً لطائفة من العامّة(2).

و يحتمل عدم الكراهة، فتكون النواهي إرشاداً إلى المنقصة في الصوم كالصلاة في الحمّام، و حيث إنّ العبرة بروايات الباب(3)، فهي ظاهرة في الإرشاد إلى الفساد حسب الأصل المحرّر، إلّا أنّه هناك بعض القرائن المقتضية لكون النواهي الصريحة محمولة على التكليف، لا الوضع؛ و ذلك لوحدة السياق، كما في معتبر حريز: «لا يرتمس الصائم، و لا المحرم رأسه في الماء»(4).

و لقوله (عليه السّلام)- على ما في خبر عبد اللَّه بن سنان، عنه (عليه السّلام): «يكره للصائم أن يرتمس في الماء»(5).


1- تهذيب الأحكام 4: 209، ذيل الحديث 605، رسائل الشريف المرتضى 3: 54، مستند الشيعة 10: 262، مستمسك العروة الوثقى 8: 263.
2- حكاه عنهم في تذكرة الفقهاء 6: 33، المغني و الشرح الكبير 3: 45/ السطر 8 9 و 24 25.
3- وسائل الشيعة 10: 35 38، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 3.
4- تهذيب الأحكام 4: 203/ 588، وسائل الشيعة 10: 38 كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 3، الحديث 8.
5- تهذيب الأحكام 4: 209/ 606، وسائل الشيعة 10: 38 كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 3، الحديث 9.

ص: 271

و لمعتبر إسحاق بن عمار الناطق بالصحّة و عدم لزوم القضاء(1)، فهو و ذان شواهد قطعيّة على صرف الظواهر من الإرشاد إلى التحريم أو التنزيه.

و حيث إنّ هناك معتبر محمّد بن مسلم الحاصر السابق(2)، الظاهر في مفطريّة الارتماس، يلزم التعارض بينه و بين معتبر إسحاق بن عمار، فيكون المرجع خبر ابن مسلم؛ لمخالفته للعامّة، فيكون الشاهد على صرف تلك الظواهر، ساقطاً، و شهادة رواية ابن سنان ممنوعة، لضعفها سنداً و دلالة.

و حديث وحدة السياق لا يقتضي أن يكون الارتماس غير مبطل، لإمكان كونه حراماً و مبطلًا كما لا يخفى.

نعم ربّما يتوهّم أنّ دلالة معتبر ابن مسلم الحاصر على البطلان، ليست وضعيّة، بل هي إطلاقيّة سياقيّة، فيمكن الجمع بينه و بين خبر إسحاق عرفاً(3)، فلا تصل النوبة إلى المعارضة، ضرورة أنّ الارتماس


1- عن إسحاق بن عمّار قال: قلت لأبي عبد اللَّه( عليه السّلام): رجل صائم ارتمس في الماء متعمّداً، عليه قضاء ذلك اليوم؟ قال: ليس عليه قضاؤه و لا يعودن. تهذيب الأحكام 4: 209 210/ 607، وسائل الشيعة 10: 43، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 6، الحديث 1.
2- تقدّم في الصفحة 243.
3- مستمسك العروة الوثقى 8: 263.

ص: 272

يجوز أن يكون مضرّاً، و موجباً لنقصان الصوم فقط.

و لأجل ذاك و ذلك احتاط الماتِن و جمع من المعاصرين(1).

كما أنّ لأجل إمكان الخدشة في سند خبر إسحاق- لوجود عمران بن موسى فيه اشتهر القول بالبطلان، لضعف الشواهد الأُخر على صرف الظواهر، بعد تأييدها بما في الحصر المستفاد من خبر ابن مسلم(2).

و لكن بعد اللتيا و التي الأخذ بمدلول الحصر، و ظهوره في البطلان، بعد اعتبار خبر إسحاق، مشكل.

و حمل النواهي على التحريم غير جائز؛ لأنّ الارتماس في الصوم غير الواجب المعيّن ليس بحرام قطعاً، و حمل الأخبار عليه بلا شاهد، و حملها على التنزيه أيضاً غير وجيه، لقوله (عليه السّلام) في خبر إسحاق بن عمار «و لا يعودن» الظاهر في النهي عن العود، و هكذا بعض الأخبار الأُخر الظاهرة في غير الكراهة المصطلحة(3) المحمول كلّها على الإرشاد إلى أنّ الارتماس موجب للمنقصة في الصوم، فلا يكون مكروهاً حسب الاصطلاح.


1- العروة الوثقى 2: 183، السابع من المفطرات، وسيلة النجاة: 137، فصل فيما يجب الإمساك عنه، المسألة 13.
2- تقدّم في الصفحة 243.
3- وسائل الشيعة 10: 35 38، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 3.

ص: 273

و لو مع خروج البدن. (1) و هناك بعض الشواهد الأُخر على ما أبدعنا محرّر في كتابنا الكبير(1).

و منها: أنّ الذوق السليم، و الفهم المستقيم حول الأوامر و النواهي الصادرة حول المركّبات الشرعيّة، بين ما هي إرشاد إلى الشرطيّة و المانعيّة، فتكون تلك المركّبات باطلة عند الاختلال، و بين ما هي إرشاد إلى حصول المنقصة في المركّب بارتكاب المنهي عنه أو بترك المأمور به.

و أمّا حرمة نفس المنهي عنه أو كراهته أو وجوب نفس المأمور به أو استحبابه على وجه يكون المركّب ظرفاً لهما، فهو مضافاً إلى شبهة في إمكانه- لعدم تماميّة القضايا الحينيّة في الاعتباريّات مطلقاً أنّه غير موافق لفهم العرف جدّاً، فالصلاة و الصوم هنا واحد من هذه الجهة، فكما أنّ نواهيها الواردة في نواحيها المختلفة ترجع إلى قلّة ثوابها في ضميمة تلك الخصوصيّة، كذلك نواهي الصوم ترشد إلى نقصان الصوم درجة، و ثواباً، و أثراً معنويّاً، و غير ذلك، فلا تخلط.

قوله مدّ ظلّه: «البدن».

و عن الميسي عدم البطلان(2)، و عن «الدروس» التوقّف فيه(3)،


1- تحريرات في الفقه، كتاب الصوم، السابع من المفطرات.
2- مستمسك العروة الوثقى 8: 264.
3- الدروس الشرعيّة 1: 278.

ص: 274

و لا يلحق المضاف (1) بالمطلق، نعم لا يترك الاحتياط في مثل الجلّاب، خصوصاً مع ذهاب رائحته، و لا بأس بالإفاضة.

و الوجه انصراف الأخبار إلى ما هو المعتاد و أنّه لو كان باطلًا الصوم به، يلزم كون الارتماس المستند في الأخبار إلى الشخص، مبطلًا، و المستند إلى الرأس كما في معتبر ابن مسلم قال: «و لا يغمس رأسه في الماء»(1)، مبطلًا آخر.

اللّهمّ إلّا أن يقال: قضيّة الصناعة رفع الإبهام و الإجمال في الخبر الأوّل بما في الخبر الثاني، فيكون ارتماس البدن، من الحجر في جنب الإنسان.

قوله مدّ ظلّه: «المضاف».

و عن الشهيد: إنّ في حكم الماء مطلق المائع و إن كان مضافاً(2)، و عن صاحب «الكشف» إلحاق خصوص المضاف بالمطلق(3)، فقول الشهيد: «و إن كان مضافاً» في غير محلّه، لأنّه أولى بالإلحاق من مطلق المائع.

و لو كان مجرّد الارتماس، يلزم بطلان الصوم بالرمس في التراب،


1- الكافي 4: 106/ 3، تهذيب الأحكام 4: 262/ 785، وسائل الشيعة 10: 36، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 3، الحديث 2.
2- مسالك الأفهام 2: 16.
3- كشف الغطاء: 320/ السطر 12.

ص: 275

و نحوها ممّا لا يسمّى رمساً (1) و إن كثر الماء، بل لا بأس برمس البعض و إن كان فيه المنافذ، و لا بغمس التمام على التعاقب بأن غمس نصفه، ثمّ أخرجه، و غمس نصفه الآخر.

كما هو مقتضى اللغة، فالحكم في غير المطلق بلا وجه جدّاً، و لا معنى لإلغاء الخصوصيّة بعد اختصاص الحكمة بالماء.

نعم احتمال عدم مبطليّة الارتماس في الماء الحارّ الفائر غير بعيد، لدعوى الانصراف، و لمناسبة الحكمة له.

قوله مدّ ظلّه: «رمساً».

أو شكّ في الصدق، نعم إذا كان الماء المفاض على وجه إذا يدخل الصائم فيه يستولي عليه فيغشيه، فإنّه لا يبعد صدق الارتماس، لعدم اشتراط الارتماس بكون المرتمس وارداً عليه من السطح العالي، و لذلك لو ألقى عليه مقدار من الماء بحيث يرمسه، و يحتويه دفعة، يصدق الارتماس عليه.

ص: 276

[مسألة 5: لو ارتمس الصائم مغتسلًا]

مسألة 14: لو ارتمس الصائم مغتسلًا، فإن كان تطوّعاً أو واجباً موسّعاً بطل صومه (1)، و صحّ غسله. و إن كان واجباً معيّناً، فإن قصد الغسل بأوّل مسمّى الارتماس بطل صومه و غسله، على تأمّل (2) فيه.

قوله مدّ ظلّه: «بطل صومه».

على المبنى الذي عرفت فيه، و في صحّة غسله إشكال ناشئ عن النواهي المطلقة عن ارتماس الصائم، بناء على كونها محرّمة، بل و مكروهة على الإطلاق، و لكن عرفت ما فيه بما لا مزيد عليه.

قوله مدّ ظلّه: «صومه و غسله على تأمّل».

أمّا الصوم فربّما يبطل بنفس القصد، بناء على أنّ نيّة القطع قاطعة كما عرفت أنّه الأحوط(1)، و أمّا بطلان الغسل فهو ممنوع، لأنّ الارتماس منهي بالنواهي الإرشاديّة حسب مبناهم، و لا يقولون بأنّه محرّم في ذاته حتّى يلزم أن يكون من الإفطار بالمحرّم، فما هو سبب عصيان العبد تركه الواجب المعيّن بإبطاله بالارتماس، فالغسل صحيح، و لا سيّما إذا قلنا بأنّ نيّة القاطع قاطعة، فلا يكون الارتماس من باب المقدميّة لترك الواجب ممنوعاً أيضاً لو قلنا به، مع أنّه كلام غير متين محرّر في محلّه(2)، فتأمّل


1- تقدّم في الصفحة 232 234.
2- تحريرات في الأُصول 3: 283 323.

ص: 277

و إن نواه بالمكث أو الخروج صحّ غسله (1)، دون صومه في غير شهر رمضان، و أمّا فيه فيبطلان معاً. (2) الماتن في غير محلّه، و فتواهم بالبطلان(1) أسوأ حالًا منه.

قوله مدّ ظلّه: «صحّ غسله».

بناء على ما هو المعروف عنهم في كفايته لصحة الغسل(2)، و إلّا فللمناقشة- من جهة لزوم الولوج في الماء، و لا يكفي حين الخروج وجه محرّر في محلّه(3)، و أمّا وجه التقييد بغير شهر رمضان سيظهر من الفرض الآتي إن شاء اللَّه تعالى.

قوله مدّ ظلّه: «فيبطلان معاً».

أمّا بطلان الصوم فحسب الفرض، و أمّا بطلان الغسل فبتوهّم أنّ الخروج و المكث مبغوضان أو محرّمان، و على كلّ تقدير لا يصلحان ليتحقّق بهما العبادة؛ ضرورة أنّ المفروض دخوله و ارتماسه عمدي، فما يترتّب عليه تصحّ العقوبة عليه.

و لو كان خارجاً عن الاختيار؛ لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي جواز العقاب،


1- العروة الوثقى 2: 186، فصل فيما يجب الإمساك عنه في الصوم، المسألة 43.
2- العروة الوثقى 1: 295 297، في الغسل الارتماسي.
3- تحريرات في الفقه، كتاب الصوم، السابع من المفطرات.

ص: 278

بل و الخطاب، و لا سيما على ما هو المحرّر من قانونيّة الخطابات(1)، و لذلك كان الأقوى محرميّة الخروج و المكث خطاباً و عقاباً.

و لكن ممّا يؤسف عليه، أجنبيّة هذه المسألة عمّا نحن فيه؛ ضرورة أنّ المفطر هو الارتماس، و قد مرّ(2) أنّه ليس بحرام تكليفاً و لو كان ما هو الواجب الاجتناب عنه بعد بطلان الصوم بعنوان التأديب، هو المفطر و هو الارتماس، فلا يكون البقاء و المكث من المفطر بالضرورة؛ لأنّ ما هو المفطر هو المعنى الحدثي الآني المتحقّق، و قد زال و انعدم بعد الارتماس.

فما في «العروة الوثقى»(3) و غيره(4)، و ما سلكه المحشّون نوعاً أو كلّا، خال عن التحصيل، فالغسل حال الخروج، و المكث يصحّ إلّا على القول بلزوم الولوج في صحّته على ما تحرّر في كتاب الطهارة، و لا وجه لتوهّم النهي عنه.

ثمّ إنّ الحقّ: صحّة الغسل و لو كان الارتماس محرّماً تكليفاً أو مكروهاً كما هما القولان في المسألة؛ لأنّ بين العنوانين عموم من وجه،


1- تحريرات في الأُصول 3: 449 455.
2- تقدّم في الصفحة 272 273.
3- العروة الوثقى 2: 186، فصل، المسألة 44.
4- وسيلة النجاة: 137، فصل، المسألة 15.

ص: 279

إلّا إذا تاب (1) و نوى الغسل بالخروج، فإنّه صحيح حينئذٍ.

فيكون كمسألة الصلاة في الدار الغصبيّة.

و توهّم أنّ الغسل الارتماسي مورد الأمر ممنوع، بل المأمور به هو الغسل، و الارتماسي أحد مصاديقه، و الترتيبي مصداق آخر له.

ثمّ إنّه إذا قلنا بأنّ الارتماس مبطل، و حرام تكليفاً فالصحّة أيضاً معلومة، لما عرفت آنفاً، فعلى جميع التقادير لا فرض يفسد فيه الغسل.

نعم، قد ذكرنا في تنبيهات التوصّلي و التعبّدي: أنّ في صورة تمكّن العبد من امتثال الواجب أو المستحبّ الغير الملازم مع المحرّم، لا يبعد حكم العرف بلزوم ذلك كشفا نوع تقييد في المأمور به(1)، و لكنّه هنا لا ينفع؛ لأنّ الارتماس على رأينا واضح، و على رأيهم مفسد، و ليس من المحرّم التكليفي بعنوانه، فلا تخلط.

قوله مدّ ظلّه: «إلّا إذا تاب».

ذلك لما أُشير إليه من أنّ بعد الارتماس العمدي الممنوع، يكون المكث و الخروج مورد العقاب، و إذا كان واجباً الخروج، و محرّماً المكث، فالغسل حين المكث غير نافذ.

و أمّا إذا تاب عمّا صنعه فلا يستحقّ العقوبة بالنسبة إلى المكث حين


1- تحريرات في الأُصول 2: 184 188.

ص: 280

[الثامن: إيصال الغبار الغليظ إلى الحلق]

الثامن: إيصال الغبار (1) الغليظ إلى الحلق، بل و غير الغليظ على الأحوط.

الخروج، و بالنسبة إلى الحركة الخروجيّة، فإذا غسل حينها يصحّ، و لكن كلّ ذلك ممّا لا ينبغي.

و كفاية التوبة بالنسبة إلى نفي الاستحقاق في مثل الخروج عن الأرض المغصوبة، محلّ إشكال؛ لأنّ من شرائط التوبة إمكان ترك المنهي عنه، و هو هنا منتف.

قوله مدّ ظلّه: «إيصال الغبار».

إجماعاً كما عن «الناصريّة» و «الغنية» و «السرائر»(1) و غيرها(2)، و قيل على المشهور شهرة عظيمة، كادت تكون إجماعاً؛ إذ لم يعرف مخالف فيه صريحاً إلى الأزمنة المتأخّرة(3).

و الذي يظهر لي: أنّ خلو كتب «الخلاف» و «التذكرة» في المقام عن نقل الإجماع(4)، و صريح «الشرائع» نسبة الخلاف في المسألة(5)، و خلو


1- الناصريّات، ضمن الجوامع الفقهيّة: 242، المسألة 129، الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 509/ السطر 8 12، السرائر 1: 377.
2- التنقيح الرائع 1: 357، نهج الحق و كشف الصدق: 461، كتاب الصوم، الشيخ الأنصاري 12: 44 45.
3- مستمسك العروة الوثقى 8: 259.
4- الخلاف 2: 177، تذكرة الفقهاء 6: 25.
5- شرائع الإسلام 1: 170.

ص: 281

كلمات الصدوق، و المفيد، بل و الشيخ في «المصباح» و سلّار في «المراسم» و هكذا السيّد(1)، يشعر بأنّ المسألة ليست إجماعية، و لا مشهورة و إنّما الشهرة أُخذت في كلمات المتأخّرين ك «الحدائق» فإنّه استظهر أنّه المشهور(2).

فلمّا وصلت النوبة إلى «الجواهر»(3) فقال ما قال من غير تأمّل في كلمات القوم، فإنّ مثل الشيخ في «الخلاف» مع أنّ دابة على نقل الإجماع، تمسّك بالأخبار(4).

و ممّا يشهد على عدم تأمّلهم نقلهم الإجماع(5) عن «التذكرة» و هي فاقدة له(6)، فراجع.

نعم الجمهور قالوا بعدم المبطليّة(7)، و هو الأقرب، كما عليه كثير


1- المقنع: 188 191، المقنعة: 303 و 344 و 345، رسائل الشريف المرتضى 3: 54، مصباح المتهجّد، الجزء الثالث: 484 485، المراسم: 98.
2- الحدائق الناضرة 13: 72.
3- جواهر الكلام 16: 232 233.
4- الخلاف 2: 177.
5- مستند الشيعة 10: 227، مستمسك العروة الوثقى 8: 259.
6- تذكرة الفقهاء 6: 25.
7- المغني 3: 39 41، الشرح الكبير 3: 50، المجموع 6: 327، المبسوط، السرخسي 3: 98/ السطر 14.

ص: 282

من المتأخّرين(1)، و هو ظاهر جمع من الأقدمين(2).

فإذا لم تكن الشهرة تامّة فالخبر(3) المستدلّ به(4)، مضافاً إلى ضعف سنده لإضماره، غير معمول به، لذهاب بعضهم أو كثير منهم إلى القضاء دون الكفّارة(5)، و فيه الكفّارة شهرين متتابعين.

هذا مع أنّ تقييد الغبار بالغليظ غير موجود في «الشرائع»(6) و في الخبر المذكور.


1- مجمع الفائدة و البرهان 5: 53 54، مفاتيح الشرائع 1: 248، الحدائق الناضرة 13: 72.
2- المقنع: 188 191، رسائل الشريف المرتضى 3: 54، المراسم: 98.
3- تهذيب الأحكام 4: 214/ 621، وسائل الشيعة 10: 69 70، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 22، الحديث 1.
4- استدلّ به في منتهى المطلب 2: 565، المسألة التاسعة. عن سليمان بن جعفر المروزي قال: سمعته يقول: إذا تمضمض الصائم في شهر رمضان أو استنشق متعمّداً أو شمّ رائحة غليظة أو كنس بيتاً فدخل في أنفه و حلقه غبار فعليه صوم شهرين متتابعين، فإنّ ذلك له مفطر مثل الأكل و الشرب و النكاح. تهذيب الأحكام 4: 214/ 621، وسائل الشيعة 10: 69، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 22، الحديث 1.
5- المقنعة: 359، الكافي في الفقه: 183، السرائر 1: 377، مجمع الفائدة و البرهان 5: 84.
6- شرائع الإسلام 1: 170.

ص: 283

و إن كان الأقوى خلافه (1)، سواء كان الإيصال بإثارته بنفسه بكنس أو نحوه، أو بإثارة غيره أو بإثارة الهواء مع تمكينه من الوصول، و عدم التحفّظ.

و لعلّ القائلين بالبطلان يعتقدون أنّه من الأكل فاعتبروا الغلظة، لأنّ في غير هذه الصورة يشكّ في حصوله.

فبالجملة: لو كان مثل الغبار مبطلًا، و هو مورد الابتلاء جدّاً، لبان حكمه و لاشتهر بينهم، فالحصر الظاهر من معتبر ابن مسلم(1) محكم.

و توهّم(2) جبران الضعف بتلك الشهرة، أو الشهرة الروائيّة فاسد، محرّر تفصيله في الأُصول(3).

و الشهرة الفتوائيّة العمليّة جابرة، و هي ممنوعة أيضاً فلا تخلط.

قوله مدّ ظلّه: «خلافه».

نظراً إلى أنّ الرقيق منه مورد السيرة القطعيّة، و الغليظ منه متعارف في كنس البيت الوارد فيه الخبر، فيكون في حكم المقيد.


1- عن محمّد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر( عليه السّلام) يقول: لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال: الطعام و الشراب، و النساء، و الارتماس في الماء. تهذيب الأحكام 4: 189/ 535، وسائل الشيعة 10: 31، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 1، الحديث 1.
2- كتاب الصوم، الشيخ الأنصاري 12: 45 46، مستمسك العروة الوثقى 8: 259 260.
3- تحريرات في الأُصول 6: 388 403.

ص: 284

و فيما يعسر التحرّز عنه تأمّل، (1) و إلى أنّ المشهور المدّعى قالوا به في مورد الغليظ(1)، و إن كان كلام «الشرائع» خالياً و فارغاً عنه(2) إلّا أنّه لا يضرّ.

و إلى أنّ خبر ابن سعيد(3) يصرّح بجواز الغبار الداخل في الحلق، المحمول على الرقيق.

و الحكم بالبطلان في الفروض المذكورة كلّها، لصدق الإيصال، مع أنّ في الخبر الذي استندوا إليه ليس عنوان الإيصال، قال: «أو كنس بيتاً، فدخل في أنفه و حلقه غبار، فعليه صوم شهرين متتابعين ..»(4) الحديث.

قوله مدّ ظلّه: «تأمّل».

إمّا لعدم صدق الإيصال، أو لأنّ المنصرف من الخبر غير ذلك، أو لأنّ القدر المتيقّن من الإجماع و الشهرة غير هذه الصورة، أو لأنّ السيرة


1- المبسوط 1: 271، المعتبر 2: 654، تذكرة الفقهاء 6: 25.
2- شرائع الإسلام 1: 170.
3- عن عمرو بن سعيد، عن الرضا( عليه السّلام) قال: سألته عن الصائم يتدخّن بعود أو بغير ذلك فتدخل الدخنة في حلقه؟ فقال: جائز، لا بأس به، قال: و سألته عن الصائم يدخل الغبار في حلقه؟ قال: لا بأس. تهذيب الأحكام 4: 324/ 1003، وسائل الشيعة 10: 70، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 22، الحديث 2.
4- تقدّم في الصفحة 282، الرقم 4.

ص: 285

و لا بأس به مع النسيان (1) أو الغفلة، أو القهر الرافع للاختيار، أو تخيّل عدم الوصول، إلّا أن يجتمع في فضاء الفم، ثمّ أكله (2) اختياراً، قائمة على عدم التحرّز في مورد التعسّر.

قوله مدّ ظلّه: «مع النسيان».

لا وجه لذكر هذه الفروع هنا، لما يأتي اختصاص المفطريّة بصورة العمد، و العلم بالموضوع.

قوله مدّ ظلّه: «ثمّ أكله».

غير خفيّ أنّ إيصال الغبار إلى الحلق بعنوانه مفطر، لا من باب صدق الأكل، فهذا التفريع في غير محلّه.

ثمّ إنّه من هنا يظهر: أنّ ما في الخبر كما أُشير إليه، ناظر إلى وصول الغبار، و دخوله قهراً، و في حال الكنس من غير توسّط الازدراد.

نعم، هو اختياري بالقياس إلى المبادي البعيدة كالكنس و نحوه.

و يؤيّد ذلك أنّه قال المخبر في ذيل الخبر: «شهرين متتابعين فإنّ ذلك له طر(1) مثل الأكل و الشرب و النكاح»(2).


1- تهذيب الأحكام 4: 214/ 621.
2- تقدّم في الصفحة 282، الرقم 4.

ص: 286

و الأقوى عدم لحوق البخار (1) به قوله مدّ ظلّه: «عدم لحوق البخار».

خلافاً للمحكي عن المتأخّرين(1)، حيث ألحقوه به إذا كان غليظاً.

و عن «المدارك»(2) و جمع من المتأخّرين(3) المناقشة فيه، بل عن «التنقيح» الجزم بعدمه(4).

و قال في «العروة»: «الأقوى إلحاق البخار الغليظ»(5).

و الذي هو المستند توهّم إلغاء الخصوصيّة، و أنّ البخار الغليظ أقوى في التأثير في البدن، فيكون أقرب إلى المنع، فلو كان الغليظ من الغبار ممنوعاً، فهو مثله.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ الوصول إلى الحلق لمثل الغبار يحرم، بخلاف البخار، فإنّه ليس بحرام في نفسه.

أو يقال: إنّ الوصول إلى الحلق ليس بمحرّم، و لو كان تراباً؛ لأنّ الأكل حرام، و لازم ما ذكره القوم و التزموه بطلان الصوم بالوصول إلى الحلق، و لو


1- جامع المقاصد 3: 70، مسالك الأفهام 2: 17، مدارك الأحكام 6: 52 53.
2- مدارك الأحكام 6: 53.
3- كفاية الأحكام: 46/ السطر 18، ذخيرة المعاد: 499/ السطر 29، الحدائق الناضرة 13: 75.
4- التنقيح الرائع 1: 358، مستمسك العروة الوثقى 8: 261.
5- العروة الوثقى 2: 183، المسألة 29.

ص: 287

إلّا إذا انقلب في الفم ماء و ابتلعه (1)، كما أنّ الأقوى عدم لحوق الدخان (2) به أيضاً، نعم، يلحق به شرب الأدخنة على الأحوط. (3)

[التاسع: الحقنة]

التاسع: الحقنة.

أرجعه إلى الخارج كما هو متيسّر أحياناً، و هذا أيضاً من مبعدات مرامهم في المسألة.

و توهّم أنّه لو أرجعه يكون من القي ء، لا يخلو عن تأسّف.

قوله مدّ ظلّه: «و ابتلعه».

هذا أيضاً خروج عن فروع هذه المسألة، كما عرفت.

قوله مدّ ظلّه: «الدخان».

قد مرّ وجه اللحوق و عدمه في ذيل المسألة الأخيرة، و يؤيّد عدم اللحوق، مضافاً إلى قصور الأدلّة المقتضية للحوقه به، وجود الدخنة في رواية ابن سعيد، عن الرضا (عليه السّلام)، قال: سألته عن الصائم يتدخّن بعود أو بغير ذلك، فتدخل الدخنة في حلقه قال: «جائز لا بأس به»(1).

قوله مدّ ظلّه: «على الأحوط».

و ذلك إمّا لأجل أنّه من الغليظ الملحق بالغبار الغليظ، لإلغاء الخصوصيّة أو لأجل صدق الشرب فعلًا، و في عصرنا، أو لأجل تنافيه في


1- تقدّم في الصفحة 284، الرقم 3.

ص: 288

في محيط المتشرّعة للصوم و الإمساك، أو لأجل أنّ المستفاد من الأدلّة ممنوعيّة الإدخال في الجوف، كما سيظهر تقريبه في ذيل المسألة الآتية إن شاء اللَّه تعالى.

و أمّا توهّم أنّ شرب الأدخنة لا يدخل في المعدة، و لا في المري، فلا يلحق بالأُمور السابقة، فهو في غير محلّه؛ لأنّه و إن يدخل قصبة الرئة إلّا أنّه يدخل في الحلق أولًا، ثمّ من الحلق ينقسم مجرى الهواء، و مجرى الغذاء، و قد عرفت أنّ الإيصال إلى الحلق مورد المنع، فإذا التحق بالغبار التدخين فالمنع لأجل ذلك، أو لأجل أنّ الإدخال في الجوف ممنوع، فلا فرق بين المجريين.

ص: 289

[كتاب المكاسب و المتاجر]

اشارة

كتاب المكاسب و المتاجر و هي أنواع، نذكرها و نذكر المسائل المتعلِّقة بها في طيِّ كتب:

ص: 290

ص: 291

[مقدمة تشتمل على مسائل]

اشارة

مقدمة تشتمل على مسائل(1)

[مسألة 1 حرمة الاكتساب بالأعيان النجسة]
اشارة

مسألة 1 لا يجوز (1) حرمة الاكتساب بالأعيان النجسة قوله: «لا يجوز».

تكليفاً و وضعاً على المشهور بينهم، و عليه الإجماعات الكثيرة المحكيّة عن القدماء و المتأخِّرين(2).

و توهّم حصر النزاع في الوضع(3)، ناشئ من الغفلة عن تقسيمهم


1- المتن من أوّل كتاب المتاجر إلى المسألة 9 من وسيلة النجاة و أضفنا إليه تعاليق الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) في عضادتين.
2- الخلاف 3: 166، المسألة 270، الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 524/ السطر 19، تذكرة الفقهاء 1: 464/ السطر 5، و لاحظ: مفتاح الكرامة 4: 11 24، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 3 6.
3- انظر منية الطالب 1: 4/ السطر 2.

ص: 292

المكاسب إلى الحرام و المكروه و المباح، بل إلى الواجب و المستحبّ، و عن تخصيصهم البحث على حدة بالمكاسب المحرَّمة؛ لرجوع المسألة الوضعيّة في المقام إلى كتاب البيع، و الإجارة، و غيرهما؛ من اشتراط الماليَّة و الملك فيهما، أو الطهارة، فالتمسُّك بكلام العلّامة في «التذكرة» و دعواه الإجماع على عدم صحَّة البيع(1)، في غير محلّه؛ لأنَّه فرض البحث حول اشتراط الطهارة في المعقود عليه جهات البحث في حرمة التكسُّب بالأعيان النجسة.

و على هذا يقع الكلام في هذه المسألة في جهات: أصل الحرمة التكليفيّة، و عمومها، و أصل الحرمة الوضعيّة، و عمومها.

و لا شبهة في الحرمتين إجمالًا، و لا وجه يعتمد عليه لعموم المدَّعى في الطرفين؛ و ذلك لأنَّ أمر سنده دائر بين ما هو ضعيف دلالةً و سنداً، كعمومات المسألة المستدلّ بها، مثل رواية «تحف العقول»(2) و «الفقه


1- تذكرة الفقهاء 1: 464/ السطر 4 5.
2- سأله سائل .. و أمّا تفسير التجارات، في جميع البيوع و وجوه الحلال من وجه التجارات التي يجوز للبائع أن يبيع ممّا لا يجوز له. و كذلك المشتري الذي يجوز له شراؤه ممّا لا يجوز له فكلّ مأمور به ممّا هو غذاء للعباد و قوامهم به في أُمورهم في وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره ممّا يأكلون و يشربون و يلبسون و ينكحون و يملكون و يستعملون من جهة ملكهم و يجوز لهم الاستعمال له من جميع جهات المنافع التي لا يقيمهم غيرها من كلّ شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات فهذا كلّه حلال بيعه و شراؤه و إمساكه و استعماله وهبته و عاريته. و أمّا وجوه الحرام من البيع و الشراء فكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا هو منهيّ عنه من جهة أكله و شربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه أو إمساكه أو هبته أو عاريته أو شي ء يكون فيه وجه من وجوه الفساد نظير البيع بالربا، لما في ذلك من الفساد، أو البيع للميتة، أو الدم، أو لحم الخنزير، أو لحوم السباع من صنوف سباع الوحش، أو الطير، أو جلودها، أو الخمر، أو شي ء من وجوه النجس، فهذا كلّه حرام و محرّم، لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله و شربه و لبسه و ملكه و إمساكه و التقلّب فيه بوجه من الوجوه لما فيه من الفساد، فجميع تقلّبه في ذلك حرام و كذلك كلّ بيع ملهوّ به و كلّ منهيّ عنه ممّا يتقرّب به لغير اللَّه، أو يقوى به الكفر و الشرك من جميع وجوه المعاصي، أو باب من الأبواب يقوى به باب من أبواب الضلالة، أو باب من أبواب الباطل، أو باب يوهن به الحقّ فهو حرام محرّم، حرام بيعه و شراؤه و إمساكه و ملكه وهبته و عاريته و جميع التقلّب فيه إلّا في حال تدعو الضرورة فيه إلى ذلك. تحف العقول: 332 333.

ص: 293

الرضوي»(1) و «الدعائم»(2) و النبوي(3) المنسوب إلى الشهرة بين


1- اعلم يرحمك اللَّه أنّ كلّ مأمور به ممّا هو صلاح للعباد، و قوام لهم في أُمورهم، من وجوه الصلاح الّذي لا يقيمهم غيره ممّا يأكلون و يشربون و يلبسون و ينكحون و يملكون و يستعملون فهذا كلّه حلال بيعه و شراؤه وهبته و عاريته. و كلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا قد نهي عنه من جهة أكله و شربه و لبسه و نكاحه و إمساكه، لوجه الفساد، ممّا قد نهي عنه، و مثل: الميتة، و الدم، و لحم الخنزير، و الربا، و جميع الفواحش، و لحوم السباع، و الخمر، و ما أشبه ذلك فحرام ضار للجسم و فاسد للنفس. الفقه المنسوب للإمام الرضا( عليه السّلام): 250.
2- عن جعفر بن محمّد( عليه السّلام) أنّه قال: الحلال من البيوع كلّ ما هو حلال من المأكول و المشروب و غير ذلك ممّا هو قوام للناس و صلاح و مباح لهم الانتفاع به، و ما كان محرّماً أصله منهيّاً عنه لم يجز بيعه و لا شراؤه، و هذا من قول جعفر بن محمّد( عليه السّلام) قول جامع لهذا المعنى. دعائم الإسلام 2: 18/ 23.
3- قال النبيّ( صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم):« إنّ اللَّه إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه». مسند أحمد 1: 247/ السطر 21 م و 322/ السطر 20، سنن أبي داود 2: 302/ 3488، عوالي اللّئالي 2: 110/ 301، مستدرك الوسائل 13: 73، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 6، الحديث 8.

ص: 294

الفريقين(1)، و بين ما هو قويّ سنداً، و لكنَّه لا يفي بعموم المقصود، مثل ما ورد بيع الخمر(2) و الميتة(3)، بل و العذرة(4)، و نوع من الكلب(5)، فتأمَّل.


1- لاحظ المكاسب، الشيخ الأنصاري: 3/ السطر 20، منية الطالب 1: 4، الشرح الكبير، في ذيل المغني 4: 15.
2- وسائل الشيعة 17: 223، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 55، الحديث 1.
3- وسائل الشيعة 17: 93، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 5.
4- وسائل الشيعة 17: 175، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 40، الحديث 2.
5- وسائل الشيعة 17: 119، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 14، الحديث 3.

ص: 295

اللَّهمَّ إلّا أن يقال: بإلغاء الخصوصيَّة، و بدعوى فهم العرف منها عدم رضا الشرع بذلك و أنّه مبغوض لديه، و لكنَّه مشكل جدّاً.

و دعوى انجبار ضعفها بتلك الإجماعات و الشهرات(1)، بعد كونها شهرة غير عمليّة، غير مسموعة.

و استكشاف استنادهم إليها بعدم وجود رواية في المسألة غيرها، غير ممكن؛ لاحتمال استنادهم إلى ما لم يصل إلينا أو استنادهم إلى فهمهم من شتات المآثير.

و لو كانت هذه النصوص عندهم، فكيف لم ينقلوها في كتبهم المعدّة لنقل الأخبار؟! فهذه الشهرة ليست مستندة إلى مثلها.

و كونها كاشفة عن رواية عندهم ممنوع؛ لما سمعت، فينحصر الأمر بين أمرين، أو أُمور:

اتكالهم على القواعد.

أو اطلاعهم على رأي المعصوم و فتواه.

أو استنباطهم ذلك من الجزئيّات بعد إلغاء الخصوصيّات.

و حيث إنَّ قضيَّة القواعد حليَّتها و صحَّتها؛ لأنَّ الكلام في المعاملات الجامعة للشرائط العرفيّة، من شرط الماليّة و غيرها، و درج ما لا منفعة


1- مفتاح الكرامة 4: 16/ السطر 4.

ص: 296

التكسُّب بالأعيان النجسة (1) له فيها من الغلط؛ لرجوعه إلى أنّ البطلان ناشئ من فقد المقتضي.

و الحرمة لو كانت من جهة التشريع، فهي ليست مستندهم، لأنَّهم حرَّموا المعاملات الدارجة العقلائيّة التي فيها المنافع المحلَّلة المقصودة كما ترى في المتن و اتّفاقهم في الرأي لا يناسب كون مستندهم الفهم من الموارد الأُخر، بعد ما نعلم من أنَّهم ليسوا أهل هذا النحو من الاجتهاد المشابه للقياس.

فيتعيَّن اطلاعهم من أساتيذهم على الرأي الحجَّة و قول المعصومين (عليهم السّلام (و بذلك يتمّ عموم المدّعى بعد عموم دعواهم، فتدبّر، و ربّما يشكل ذلك؛ لاستنادهم بالنبوي و غيره، فتأمّل.

قوله: «بالأعيان النجسة».

لا خصوصية لهذا العنوان، و لا يوجد في الكتب منه أثر إلّا في «تحف العقول»(1) فلو كانت التجارة بها محرّمة فهي لكونها من الأعيان المحرّمة، باعتبار الأكل و الشرب و الانتفاع، كما يعرب عنه بعض فقرأت الرواية المذكورة. و لا يتمّ الاستشهاد بالنبوي(2) إلّا بمثل ذلك.


1- تقدّم تخريجه في الصفحة 292، الهامش 2.
2- تقدّم تخريجه في الصفحة 293، الهامش 3.

ص: 297

بجميع أنواعها (1) بالبيع و الشراء، و جعلها ثمناً في البيع، و أُجرة في الإجارة، و عوضاً، (1) مع أنَّ القائل بطهارة الخمر(2) لا يقول بصحّة بيعه و جوازه، لا للنصوص الخاصّة، بل لتلك العمومات.

و هكذا الدم الطاهر، فإنّه لكونه محرَّماً في الكتاب(3) على الإطلاق يمنع عن جواز بيعه، و صحّته بناء على الأخذ بالنبوي، و هكذا يحرم التكسب بالجلّال المحرّم و الموطوء، فتدبّر.

قوله: «بجميع أنواعها».

من البول، و الغائط، و المنيّ، و الدم، و الميتة، و الخمر، و الكلب، و المتنجّس الذي لا يقبل التطهير، فإنّه يصير منها أيضاً، و غيرها كالخنزير، و الفقّاع، و الأعراق المذكورة في محلّها، و قد عرفت ما في هذا العموم، كما أشار إليه الأُستاذ الوالد- مُدَّ ظلّه في التعليقة.

نعم في طائفة منها وردت روايات خاصّة، لا بأس في نقلها، و بيان حدود دلالتها، و قبل الخوض فيه لا بدّ من الإشارة الإجماليّة إلى جهتين:

أُولاهما: هي أنّ مقتضى الأصل الأوّلي في المقام حلّيّة المعاوضة


1- لا يخلو عمومه من إشكال، لكن لا يترك الاحتياط
2- انظر المقنع: 453.
3- \i إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ\E. البقرة( 2): 173.

ص: 298

عليها، و صحّتها بعد كونها جامعة لشرائطها العرفية، و هكذا الشرعيّة غير الطهارة.

و الإشكال في صحّتها، لأجل أنّها ممّا لا ينتفع منها، و ليست لها الفائدة العقلائيّة؛ ناشئ من الغفلة عن الجهة المبحوث عنها في المكاسب المحرّمة بالذات، و هي حرمتها تكليفاً ذاتاً، لا تشريعاً و بالعرض، و هي حرمتها وضعاً؛ لأجل إحداث الشريعة شرطاً شرعيّاً فيها مثل الطهارة، أو مانعاً عنها بناءً على إمكان تصويره كالنجاسة، أو المحلّلية و المحرميّة بشرط أن لا يرجعان إلى اعتبار الماليّة، فلا تغفل جدّاً.

و مستند هذا الأصل عمومات الكتاب و السنّة، و اقتضاء بناء العقلاء و الملّة، بل هو مقتضى الأصل العملي إذا وصلت النوبة إليه، فتدبّر.

ثانيتهما: مقتضى الأصل الثانوي الحديث النبوي(1) المعلّل به في بعض كتب الشيخ(2)، و المعروف بانجبار السند، و المشهور بين الفريقين، فإنّه يورث حرمتها تكليفاً و وضعاً؛ لأنّ النجاسات و غيرها ممّا ثبتت حرمتها في الشريعة، أمّا حرمة أكثر منافعها كالميتة و الخنزير و الخمر و الكلب، أو معظمها، أو نوع منها كالعذرة و البول و المنيّ و الدم، فإنّه يحرم أكلها


1- تقدّم تخريجه في الصفحة 293، الهامش 3.
2- الخلاف 3: 185، المسألة 310.

ص: 299

فيحرم ثمنها، و هو الملازم عرفاً لفساد المعاملة، كما لا يخفى.

و قد يقال: بأنّ الحرمة المنتسبة إلى ذات الشي ء لا تشمل إلّا ما هو المحرّم بجميع منافعه، أو ما يصحّح هذه النسبة(1)، فلا تشمل مثل الأبوال و العذرات و الأعراق، ممّا لا وجه محرّم لها إلّا الأكل الذي هو متروك طبعاً، و لأجل ذلك لا يقال: العذرة و البول من المحرّمات، بخلاف الخمر و الخنزير.

و لا تشمل مثل الدم أيضاً و إن ورد في الكتاب حرمته(2)؛ لأنّه مخصوص بمحرّميّة الأكل، فإثبات الحرمة المطلقة بالنبوي يتوقّف على ثبوت الحرمة للشي ء على وجه الإطلاق واقعاً، أو ادّعاءً. فلو كانت منافع العذرة و البول من التسميد و الصبغ محرّمة، فيشملها النبوي؛ لأنّها المنافع المرغوب فيها التي بها تصحّ دعوى حرمتها بذاتها، و عليه لا يثبت عموم المدّعى به على فرض صحّة سنده.

هذا و إلغاء الخصوصيّة من الثمن، و إسراء الحكم إلى سائر المعاوضات، في غاية الإشكال.

و يمكن دعوى: أنّ القضيّة الشرطيّة قضيّة واحدة، لا بدّ من لحاظ


1- انظر تذكرة الفقهاء 1: 464/ السطر 5، مصباح الفقاهة 1: 24.
2- البقرة( 2): 173.

ص: 300

خصوصيّات الألفاظ المستعملة فيها، ثمّ الاستظهار منها، و عليه مقتضى نسبة الحرمة إلى الشي ء في الصدر، أنّ المقصود هو الذي يمكن أن يكون محرّماً، و هو الفعل دون الذات «فإنّ اللّه إذا حرّم شيئاً أي الأكل و الشرب و الانتفاع حرّم ثمنه».

و مقتضى كلمة «الثمن» أنّ المحرّم هو الذات؛ لأنّها تقابل الشي ء.

و بعد ملاحظة أنّ الثمن لا خصوصيّة له من جهة، و هو كونه الدرهم و الدينار، بلا شبهة، و بعد إفتاء الأصحاب و تمسّكهم به في غير البيع(1)؛ يقدّم ظاهر الصدر فيقال: الشي ء إذا كان محرّماً أكله، فإن باعه للأكل يحرم ثمنه و إلّا فلا، و هكذا.

فتكون النتيجة: حرمة ثمن العذرة في صورة، و هكذا حرمة ثمن سائر النجاسات و المحرّمات. و هذا هو المساعد للاعتبار إلّا أنّه لا ينفع في المقام.

و توهّم: أنّه خلاف ما هو المحقّق في محلّه من أنّ الثمن لا يقابل المنافع(2)، غير مفيد؛ ضرورة أنّ الثمن لبّا يقابل المنفعة و إن كان في


1- جواهر الكلام 36: 340، العروة الوثقى 1: 156، فصل في الأواني، المسألة 4، و 2: 477، كتاب الحجّ، الفصل الثاني، المسألة 110.
2- جواهر الكلام 22: 208، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 79.

ص: 301

الإنشاء خلافه، بل قيل: تملّك الأعيان ليس إلّا تملّك المنافع على النحو الكلّي من جميع الجهات(1).

و قد يمكن دعوى: أنّ معنى الحديث هو: أنّ المحرّم الشرعي كالمحرّم العقلي، فكما أنّ الشي ء بلا منفعة لا يبذل بإزائه شي ء، كذلك هو، فما كان محرّماً بحيث يعدّ ساقطاً لدى الشرع يحرم ثمنه، إمّا وضعاً فقط، أو هو مع التكليف.

و المراد من الحرمة الثانية ما هو المراد من الحرمة الأُولى، فيكون تكليفاً، و لكنّه يلازم عرفاً فساد المعاملة، و إن يمكن دعوى دلالته على الصحّة أخذاً بمفهوم الثمن أوّلًا، و جمعاً بينه و بين ما يدلّ على صحّة المعاملة، مثل قوله) عليه السّلام): «لا بأس ببيع العذرة»(2) على ما يأتي، ثانياً.

و حول هذه الجملة تفاسير أُخر أوردناها في كتابنا الكبير في مواضع مختلفة منه(3)، فليراجع.

و لعمري إنّ هذا الحديث لا يسمن و لا يغني من جوع، لضعف السند، و قوّة اصطياده من المواقف الأُخر المسانخة معه، و عدم وضوح المقصود؛


1- لاحظ مصباح الفقاهة 1: 24.
2- الكافي 5: 226/ 3، تهذيب الأحكام 6: 372/ 1079، وسائل الشيعة 17: 175 كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 40، الحديث 3.
3- المكاسب المحرّمة من تحريرات في الفقه) مفقودة).

ص: 302

فعليه لا بدّ من الفحص عن الموارد الخاصّة.

فمنها العذرة: و قد وردت فيها روايات، بعضها يدلّ على أنّه لا بأس ببيع العذرة، و بعضها يدلّ على أنّ ثمنها من السحت(1)، و بعضها مشتمل على الجهتين كمعتبرة سماعة(2)، فإنّها مع اشتمالها على أنّ ثمنها محرّم، و هكذا بيعها، مشتملة على أنّه «لا بأس ببيع العذرة».

و الرواية الأُولى و الثانية غير منقّحتي السند، إلّا أنّ فتوى المشهور على العمل بالثانية(3)، و لكنّها ليست شهرة عمليّة، و استكشاف الشهرة العمليّة، كما هو دأب جماعة مشكل جدّاً، كما مضى الإيماء إليه.

و ذلك فتواهم في البول و المنيّ(4) مع عدم ورود النصّ فيهما، فيعلم أنّ المستند أمر آخر، و لا أقلّ من الشكّ و هو كافٍ في المقام؛ فعليه يتعيّن


1- تهذيب الأحكام 6: 372/ 1080، وسائل الشيعة 17: 175، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 40، الحديث 1.
2- عن سماعة بن مهران قال: سأل رجل أبا عبد اللَّه) عليه السّلام( و أنا حاضر فقال: إنّي رجل أبيع العذرة فما تقول؟ قال: حرام بيعها و ثمنها. و قال: لا بأس ببيع العذرة. تهذيب الأحكام 6: 372/ 1081، وسائل الشيعة 17: 175 كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 40، ألح، ديث 2.
3- السرائر 2: 219، مفتاح الكرامة 4: 20/ السطر 28.
4- الخلاف 3: 166، المسألة 270، مفتاح الكرامة 4: 20/ السطر 28.

ص: 303

الأخذ بالمجوّزة لموافقتها لعموم الكتاب أوّلًا، و مخالفتها لفتوى العامّة(1) ثانياً.

نعم، لو ثبتت الشهرة العمليّة يتعيّن الأخذ بالناهية؛ لأنّها المخيّرة بين الحجّة و اللّاحجّة، و على تقدير كونها لا حجّة أيضاً يتعيّن ذلك، كما لا يخفى.

و حمل الرواية الناهية على ما لا منفعة فيه غير تامّ، كما صنعه المجلسيّ (قدس سره)(2)، ضرورة أنّها وردت في موقف الانتفاع منها بالتسميد، فنفس ورودها فيها، دون مثل البول و المنيّ، يشهد على رائجيّة الانتفاع منها، فلا معنى للحمل المذكور، و تأبى كلمة «السحت» من الحمل على الكراهة.

و الرواية الثالثة تورث في المسألة أمراً آخراً و قد أشرنا إليه، و هو: أنّ الممنوع شرعاً هو الثمن، دون عنوان البيع بما هو بيع؛ و ذلك لورود النهي عن الثمن في المواضع الأُخر، و لتصريح الرواية بجواز البيع.

و انتساب الحرمة إلى عنوان البيع في رواية سماعة(3)، من باب


1- الفقه على المذاهب الأربعة 2: 231، الشرح الكبير، في ذيل المغني 4: 14.
2- ملاذ الأخيار 10: 379.
3- تقدّم في الصفحة 302، الهامش 2.

ص: 304

العرض و المجاز، لقوله (عليه السّلام) في ذيلها: «لا بأس ببيعها».

و حمل الرواية على الروايتين مستنداً إلى: أنّ سماعة كان يعمل به في مضمراته، لا يفيد حجّة شرعيّة في المسألة، بعد اتّحاد الرواية ظاهراً؛ فإنّه منه خيانة بالأحكام إلّا في بعض المواضع، و ما نحن فيه ليس كذلك، فتأمّل جيّداً.

و الحقّ: أنّ المسألة مشكلة جدّاً؛ ضرورة أنّ تعرّض الأصحاب للمكاسب المحرّمة، و ذكر هذه الأُمور فيها كلّها، شهيد على أنّ للشرع الأقدس أمراً جديداً في هذه المعاملات، و كان لا يرضى بها، لاستلزامها بعض ما لا ينبغي لنفوس المؤمنين، و صرف النظر عنها و الاعتماد على الصناعة مشكل إنصافاً.

و إثبات الجواز بما عن «توحيد المفضّل» المرويّ في «المستدرك»(1) كإثبات المنع بما عن «دعائم الإسلام» المرويّ في


1- عن الصادق( عليه السّلام)، أنّه قال:« فاعتبر بما ترى من ضروب المآرب، في صغير الكلب و كبيره، و بما له قيمة و ما لا قيمة له، و أخس من هذا و أحقره الزبل و العذرة، الّتي اجتمعت فيها الخساسة و النجاسة معاً، و موقعها من الزروع و البقول و الخضر أجمع الموقع، الذي لا يعدله شي ء، حتّى أنّ كلّ شي ء من الخضر لا يصلح و لا يزكو إلّا بالزبل و السماد، الّذي يستقذره الناس و يكرهون الدنو منه. توحيد المفضّل: 107، مستدرك الوسائل 16: 188، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 20، الحديث 1.

ص: 305

«الجواهر»(1)؛ لا يرجعان إلى محصّل، فما ذهب إليه جماعة من المتأخّرين، من تجويز بيعها(2) بعد ما أحطت بما ذكرناه، في غاية الإشكال.

و منها المنيّ: فإنّه قد ورد في رواية الحسين بن عليّ (عليهما السّلام)، عن أبيه في «الخصال» في حديث: «أنّ رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (نهى عن خصال تسعة؛ عن مهر البغي، و عن عسيب الدابّة يعني كسب الفحل و عن خاتم الذهب»(3) و الظاهر أنّ التفسير من المعصوم (عليه السّلام)، أو عنه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم).

و ربّما يشكل استفادة الحكم الإلزامي التكليفي أو الوضعي منها، لعدم الاطلاع بكيفيّة النهي بعد اختلاف الإفادة في اختلاف التعابير.

و على أيّ تقدير يعلم مبغوضيّة الكسب لوحدة السياق، و الكسب


1- روينا عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن آبائه عن عليّ أنّ رسول اللَّه( صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم( نهى عن بيع الأحرار، و عن بيع الميتة و الدّم و الخنزير و الأصنام و عن عسب الفحل و عن ثمن الخمر، و عن بيع العذرة، و قال هي ميتة. دعائم الإسلام 2: 18/ 22، جواهر الكلام 22: 17.
2- مجمع الفائدة و البرهان 8: 39، مفتاح الكرامة 4: 21.
3- هكذا في وسائل الشيعة 17: 95، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 13 و في الخصال 2: 417. مع تفاوت يسير.

ص: 306

أعمّ من الإجارة و البيع، فلو كان كسب الفحل بيع المنيّ، فهو و إن لم يكن منه، إلّا أنّه متّحد معه في الحكم عرفاً، بل تحريم عنوان «كسب الفحل» لاشتماله على ما هو الساقط و المحرّم مثلًا، فتدبّر.

و لو كان مجرّد التوافق و الشهرة الفتوائيّة كافٍ في انجبار ضعف السند، كان القول بممنوعيّة كسب الفحل متعيّناً.

و منها الدم: فإنّ مقتضى إطلاق الآية الشريفة حرمته(1)، و ممنوعيّة بيعه و لو كان طاهراً، و هكذا قضيّة مرفوعة الواسطيّ(2).


1- \i إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ\E. البقرة( 2): 173.
2- عن أبي يحيى الواسطي رفعه، قال: مرّ أمير المؤمنين( عليه السّلام) بالقصّابين، فنهاهم عن بيع سبعة أشياء من الشاة، نهاهم عن بيع: الدّم و الغدد، و آذان الفؤاد، و الطحال، و النخاع، و الخصي، و القضيب، فقال له بعض القصّابين: يا أمير المؤمنين. إما الطحال و الكبد إلّا سواء، فقال: كذبت يا لكع ايتني بتورين من ماء، أُنبّئك بخلاف ما بينهما، فاتي بكبد و طحال و تورين من ماء فقال: شقّوا الكبد من وسطه، و الطحال من وسطه، ثمّ أمر فمرسا في الماء جميعاً، فابيضّت الكبد، و لم ينقص منها شي ء، و لم يبيّض الطحال، و خرج ما فيه كلّه، و صار دماً كلّه،) و بقي جلد و عروق)، فقال له: هذا خلاف ما بينهما، هذا لحم، و هذا دم. الكافي 6: 253/ 2، وسائل الشيعة 24: 171، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 31، الحديث 2.

ص: 307

اللَّهم إلّا أن يحملان على الأكل، لاقتضاء السياق فيهما، فيجوز بيعه لغير الأكل و لو كان من النجس.

و منها الميتة: فإنّ مقتضى الآية الشريفة(1) المستدلّ بها لحرمة الانتفاع بها مطلقاً في «الخلاف»(2) و غيره(3) ممنوعيّة بيعها على الإطلاق، و هو المدّعى عليه الإجماعات الكليّة و الجزئيّة(4).

و الذي يقتضي حرمته التكليفيّة قوله (عليه السّلام) في عدّة روايات «أنّ ثمنها من السحت»(5)، فليزم ممنوعيّته تكليفاً، أو ممنوعيّة عنوان الثمن.

و ممّا يشهد على فساد بيع الميتة على الإطلاق، رواية «جامع البزنطي» صاحب الرضا (عليه السّلام) قال: سألته عن الرجل تكون له الغنم، يقطع من ألياتها و هي أحياء، أ يصلح له أن ينتفع بما قطع؟ قال: «نعم يذيبها


1- البقرة( 2): 173.
2- الخلاف 3: 240، المسألة 34.
3- تذكرة الفقهاء 1: 464/ السطر 5.
4- السرائر 3: 574، تذكرة الفقهاء 1: 464/ السطر 5، مفتاح الكرامة 4: 19.
5- وسائل الشيعة 17: 93، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 5 و 8 و 9.

ص: 308

و يسرج بها و لا يأكلها و لا يبيعها»(1).

و رواية «قرب الإسناد» عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السّلام) قال: سألته عن الماشية تكون للرجل، فيموت بعضها، يصلح له أن يبيع جلودها و دباغها و يلبسها؟ قال: «لا، و إن لبسها فلا يصلّي فيها»(2).

و دعوى: أنّ هذه الطوائف بمقتضى مناسبة الحكم و الموضوع و إلغاء الخصوصيّة عرفاً، كلّها ناظرة إلى المنع عن البيع بالنسبة إلى ما هو المحرّم فيها، و هو لحمها دون جلدها و غيره، فلو كانت سائر أجزائها ذات منفعة محلّلة، صحّت المعاوضة عليها(3).

غير مسموعة؛ لأنّ الانتفاع بجلدها ممّا لا يبعد جوازه في غير ما يشترط فيه الطهارة، و لكنّ إطلاق المنع عن البيع يشمله؛ لأنّ تعارف التجارة بها كما تشهد به الروايات خصوصاً رواية الصيقل الآتية ينافي الصرف المذكور.

فما ورد «أنّ ثمن الميتة سحت»(4) يشمل جميع أجزائها، لأنّها من


1- السرائر 3: 573، وسائل الشيعة 17: 98، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 7، الحديث 6.
2- هكذا في وسائل الشيعة 17: 96، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 17، و في قرب الإسناد: 268/ 1067 مع تفاوت يسير.
3- انظر المكاسب المحرّمة، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 1: 84 86.
4- وسائل الشيعة 17: 93، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 5 و 8 و 9.

ص: 309

الميتة حتّى ما لا تحلّه الحياة، و حتّى الميتة الطاهرة.

نعم، في كلّ مسألة مستثنيات لا منع من الالتزام بها، فلا ينبغي الخلط بين الجهات في المسألة.

ثمّ لمّا كان مذهب العامّة في مسألة بيع الميتة مختلفاً، و منه مذهب أبي حنيفة، و هو الأعرف من غيره، و هو يقول بجواز بيع جلود الميتة بعد الدباغ و قبله(1)، و كان الشافعي جديداً يقول بجوازه بعد الدباغ(2)، و يظهر من «منتهى العلّامة»: أنّه مذهب جماعة منهم(3)؛ سكت المعصوم (عليه السّلام)- على احتمال قويّ في صحيحة الصيقل(4)، بعد كونها مكاتبة، مع أنّهم (عليهم السّلام (ليس دأبهم ذلك، أي الاختصار في الجواب بعد ما سأل عن مسائل


1- المجموع 9: 231.
2- المجموع 1: 227 229.
3- منتهى المطلب 2: 1009/ السطر 5.
4- عن أبي القاسم الصيقل و ولده: كتبوا إلى الرجل( عليه السّلام): جعلنا اللَّه فداك إنّا قوم نعمل السيوف ليست لنا معيشة و لا تجارة غيرها و نحن مضطرّون إليها، و إنّما علاجنا جلود الميتة و البغال و الحمير الأهلية لا يجوز في أعمالنا غيرها، فيحلّ لنا عملها و شراؤها و بيعها و مسّها بأيدينا و ثيابنا، و نحن نصلّي في ثيابنا، و نحن محتاجون إلى جوابك في هذه المسألة يا سيّدنا لضرورتنا؟ فكتب: اجعل ثوباً للصلاة. التهذيب 6: 376/ 1100، وسائل الشيعة 17: 173، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 38، الحديث 4.

ص: 310

كثيرة؛ فالرواية مع صراحة دلالتها و تماميّة سندها، مخدوشة جهة صدورها، هذا بعد ذهاب الطائفة إلى عدم جواز بيع الجلود إلّا من شذّ منهم(1).

و من المحتمل قويّاً: أنّ الرواية ناظرة إلى صورة الاضطرار، لما فيه من تصريحه بذلك في الموضعين، فلاحظ و تدبّر جيّداً.

و منها الخمر: و هي في الكتاب مثل الميتة، و إطلاقه على ما صرّح به شيخ الطائفة(2) يقتضي ممنوعيّة جميع التقلّبات فيه، و هذا هو قضيّة المآثير الكثيرة المرويّة في «الكافي»(3) و «الفقيه»(4) و «المقنع»(5) و «جامع الأخبار»(6) و «عقاب الأعمال»(7) و «دعائم الإسلام»(8) و «فقه الرضا»(9)


1- لاحظ مفتاح الكرامة 4: 19 20.
2- الخلاف 3: 240، المسألة 34.
3- الكافي 5: 230، باب بيع العصير و الخمر.
4- الفقيه 3: 105/ 435.
5- المقنع: 451.
6- جامع الأخبار: 426/ 1190.
7- ثواب الأعمال و عقاب الأعمال: 291/ 11.
8- دعائم الإسلام 2: 131/ 458.
9- الفقه المنسوب للإمام الرضا( عليه السّلام): 279.

ص: 311

و «لبّ اللباب»(1) للراوندي و «عوالي اللآلي»(2).

و قد صرّح الأُستاذ الوالد- مدّ ظلّه: «بأنّ أسنادها و إن لا تخلو عن خدشة، لكن يمكن دعوى الوثوق و الاطمئنان بالصدور إجمالًا»(3). انتهى.

و لو كان مستند المجمعين احتمالًا تلك الأخبار، كان للإشكال في حكم المسألة وجه، لعدم تماميّة دلالتها؛ لأنّ أحسن ما يستدلّ له على المدّعى رواية جابر المتضمّنة للعن رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (بائعها و مشتريها(4)، و كفاية اللعن في إثبات الحرمة مشكلة(5)، مع ما فيها من لعنه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (غارسها، مع أنّه ممّا لا معنى له إلّا بالتوجيه، فتدبّر.

ثمّ إنّ قضيّة إطلاق معاقد الإجماعات(6)، ممنوعيّة بيع الخمر و لو


1- مستدرك الوسائل 13: 182، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 47، الحديث 3.
2- عوالي اللآلي 3: 562/ 62.
3- المكاسب المحرّمة، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 1: 16.
4- عن جابر، عن أبي جعفر( عليه السّلام) قال: لعن رسول اللَّه( صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم( في الخمر عشرة: غارسها و حارسها و عاصرها و شاربها و ساقيها و حاملها و المحمولة إليه و بائعها و مشتريها و آكل ثمنها. الكافي 6: 429/ 4. وسائل الشيعة 17: 224، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 55، الحديث 4.
5- لاحظ المكاسب المحرّمة، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 1: 16 17.
6- الخلاف 3: 185، المسألة 311، السرائر 2: 219، مفتاح الكرامة 4: 18.

ص: 312

كان للخلّ، و قد يشكل ذلك للانصراف، كما ادّعاه الشيخ في نظيره(1)، مع أنّه ورد في الخبر جواز أخذه و جعله خلًّا بالإفساد قبال الدَّيْن(2).

كون مقتضى إطلاق ما يدلّ على سحتيّة ثمنه(3) ذلك أيضاً، ممنوع؛ لاقتضاء المناسبة بين الحكم و الموضوع، مقصوريّة حكم التحريم في صورة بيع المسكر، لا المادّة التي تنقلب خلًّا، سواء كان مسكراً أم لا، و سواء فيه حال المشتري من العلم و الجهل.

و هذا الانصراف بعد النظر في موارد الاستثناءات و التجويزات في الشريعة، قويّ جدّاً، و لا أقلّ من كونه قابلًا للقرينيّة في قبال المطلقات، و إليه ذهب الأُستاذ الوالد- مدّ ظلّه(4).

و الإنصاف: أنّ الانصراف لو تمّ في سائر الأخبار لا يتمّ في النبوي(5)، و ما ادّعاه الشيخ الأعظم في بيع الأصنام(6) لا يلازم صحّة دعواه هنا، لعدم


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 14/ السطر 24.
2- تهذيب الأحكام 9: 118/ 508، الإستبصار 4: 93/ 358، وسائل الشيعة 25: 371 كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأشربة المحرّمة، الباب 31، الحديث 6.
3- وسائل الشيعة 17: 92، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5.
4- المكاسب المحرّمة، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 1: 40 و 121.
5- تقدّم في الصفحة 293، الهامش: 3.
6- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 14/ السطر 34.

ص: 313

شمول النبوي تلك المسألة؛ و ذلك لأنّ موضوعه «الشي ء» نكرة، فكأنّه يورث حرمة الثمن إذا كانت الذات منتسبة إلى الحرمة بوجه، فهذا الخمر و العصير المغلي ممّا حرّمهما اللَّه تعالى فحرّم ثمنهما، فلاحظ و تأمّل. و ممّا ذكرنا يظهر حكم كلّ مسكر.

و لو كان الاستدلال بروايات الخمر تامّاً، فالنصوص المتعرّضة لخمريّة الفقّاع(1)، بل كلّ ما يورث عاقبة الخمر(2)، تكون حاكمة عليها، أو مبيّنة لما خفي على القوم من مصاديقها، و الأظهر هو الثاني.

و توهّم أنّ هذه المسألة من متفرّعات القول بنجاسة المسكر المائع، فاسد جدّاً لما مضى من أنّ عناوين النجس لا خصوصيّة لها.

و منها الكلب: و قد ورد فيه الروايات الكثيرة الناطقة بأنّ ثمنه سحت(3)، أو هو


1- وسائل الشيعة 17: 225، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 56، الحديث 1 و 2، وسائل الشيعة 25: 359، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأشربة المحرّمة، الباب 27.
2- الكافي 6: 412/ 1 و 2، تهذيب الأحكام 9: 112/ 486، وسائل الشيعة 25: 342، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأشربة المحرّمة، الباب 19، الحديث 1 و 2.
3- وسائل الشيعة 17: 93 95، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الأحاديث 5 و 7 و 8 و 9 و 14 و 17: 118، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 14.

ص: 314

منهيّ(1).

و الإشكال في إطلاقها بما مرّ، لا يرجع إلى محصّل، بعد فهم أصحاب الحديث منها الإطلاق، و هو يشهد على أنّ لها ذلك، كما لا يخفى.

و ما أورده الأُستاذ الوالد المحقّق- مدّ ظلّه هنا، زائداً على ما مرّ من: أنّ هذه المآثير، المتضمّنة لعدّ أثمان المحرّمات و الأنجاس من السحت، ليس إلّا مثل ما ورد في تعديد الواجبات و المحرّمات، فإنّ المقام مقام الإهمال لا الإطلاق(2)؛ غير بعيد إنصافاً.

نعم، الطائفة الأُخرى المتعرّضة لتحريم ثمن الكلب الذي لا يصيد(3)، ممّا لا يمكن إنكار إطلاقها؛ لأنّ التقييد من أمارات الإطلاق و مؤكّداته.

و يمكن دعوى: أنّ الاستثناء يشهد على أنّ المقصود هو الكلب الذي لا منفعة عقلائيّة فيه، من الحراسة و نحوها، و عليه يجوز بيع الكلب الهراش إذا كان يتّخذه المشتري فيعلّمه، كما هو الآن في بلدتنا «قم المشرفة» معمول، فإنّه كالعصير المغلي، فكيف لا يجوز هنا و يجوز


1- وسائل الشيعة 17: 119، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 14، الحديث 4.
2- المكاسب المحرّمة، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 1: 98.
3- وسائل الشيعة 17: 118، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 14، الحديث 1 و 3 و 5 و 6 و 7.

ص: 315

هناك؟! و ما أفاده الشيخ الأعظم هناك، من انصراف النبوي و غيره(1)، يأتي هنا.

و هل يصحّ الالتزام بأنّ الشرع يقول بتحريم ثمن الكلب في الموضع الذي لا يقدم العاقل على بيعه و شرائه لسفهيّة المعاملة؟

و دعوى ممنوعيّة ذلك؛ لأنّ هذه الروايات تمنع عن اشتراء الكلب للتفريح و التفرّج، كما هو المتعارف في يومنا، بل ربّما يقال: بأنّها ناظرة إلى تحريم ثمن الكلاب التي يشتريها الخلفاء و يلعبون بها، مشكلة جدّاً؛ لأنّ إثبات النكتة الأخيرة غير ممكن، و الأصحاب يقولون بصحّة بيع ماله المنفعة العقلائيّة(2)، و هي الأعمّ من الأغراض العالية و الدانية؛ و لذلك أفتوا بصحّة بيع أواني الذهب و الفضّة، في صورة جواز الاقتناء(3)، و هكذا المجسّمة(4)، فلاحظ و تدبّر.


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 8/ السطر 14.
2- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 20/ السطر 15، حاشية المكاسب، السيّد اليزدي: 13/ السطر 23 37.
3- مسالك الأفهام 3: 123، العروة الوثقى 1: 156، فصل في الأواني المسألة 4.
4- مفتاح الكرامة 4: 33/ السطر 15، و 4: 49/ السطر 11 و 23، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 25/ السطر 1، المكاسب المحرّمة، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 1: 291.

ص: 316

و منها الخنزير: و ما وردت فيه(1) قاصرة الدلالة على حرمتها تكليفاً، و العجب أنّه لم يرد فيها الكلمة المعروفة في غيرها؛ من عدّ ثمنه سحتاً، و لا ظهور لمعاقد الإجماعات(2) في تلك المسألة التي هي المقصودة في هذا الكتاب، و قد غفل عنها بعض الأصحاب(3).

و أمّا دلالتها على فساد المعاملة، فهي عندهم واضحة.

و توهّم عدَم ورود الرواية فيها في غير محلّه؛ لأنّ الروايات المجوّزة المرتبطة بالذمّي(4)، كاشفة عن ممنوعيّتها من الغير، مع أنّه روي في «الوسائل» عن بعض أصحابنا، عن الرضا (عليه السّلام) قال: سألته عن نصراني أسلم، و عنده خمر و خنازير و عليه دَين، هل، يبيع خمره و خنازيره، فيقضي دَينه؟ قال: «لا»(5).


1- وسائل الشيعة 17: 226، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 57، الحديث 1 و 2.
2- المبسوط 2: 165 166، تذكرة الفقهاء 1: 464/ السطر 5، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 6/ السطر 11.
3- تذكرة الفقهاء 1: 24/ السطر 5، جواهر الكلام 22: 10 11، مصباح الفقاهة 1: 79 81.
4- وسائل الشيعة 17: 232، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 60.
5- وسائل الشيعة 17: 226، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 57، الحديث 1.

ص: 317

و مقتضى الإطلاقات بترك الاستفصال، جواز المعاملة عليها، إلّا أنّ الثمن محرّم تكليفاً في جهة دون اخرى، و كأنّه في مقام بيان أنّ الشي ء إذا كان محرّماً، فهو إمّا محرّم من جميع الجهات؛ فيحرم ثمنه كذلك، و إذا كان محرّماً من جهة كالأكل مثلًا، فهو محرّم أكله لا صرفه في الدَّين مثلًا، و على مثل هذه قد وردت روايات كثيرة، جمعها في «الوسائل».

فمنها رواية محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السّلام)، في رجل كان له على رجل دراهم، فباع خمراً و خنازير، و هو ينظر، فقضاه، فقال: «لا بأس به، أمّا للمقتضي فحلال، و أمّا للبائع فحرام»(1).

و منها: رواية زرارة، عن أبي عبد اللّه) عليه السّلام)، في الرجل يكون لي عليه الدراهم، فيبيع بها خمراً و خنازير، ثمّ يقضي منها، قال: «لا بأس» أو قال: «خذها»(2) و غير ذلك(3).

و اشتمالها على الخمر يورث حمل المطلقات هناك على فرض صرف الثمن في المأكل و المشرب.


1- الكافي 5: 231/ 9، وسائل الشيعة 17: 232، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 60، الحديث 2.
2- الكافي 5: 232/ 11، وسائل الشيعة 17: 233، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 60، الحديث 3.
3- وسائل الشيعة 17: 232، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 60.

ص: 318

بل مطلق المعاوضة (1) عليها و لو بجعلها مهراً، أو عوضاً في الخلع و نحو ذلك، و قوله: «و أمّا للبائع فحرام»، نصّ في أنّ المسألة كما ذكرناها، إلّا أنّ الالتزام به في غاية الإشكال، و التفصيل يطلب من كتابنا الكبير(1).

فتحصَّل إلى هنا: أنّ الحرمة التكليفيّة و الوضعيّة في عموم المسألة غير مستندة، و في الكلّ يمكن الخدشة، إلّا أنّ الضرورة قائمة بأنّ الشرع المقدّس في هذه المسائل له أمر جديد، و هو غير إلحاق المحرّمات الشرعيّة بما لا منفعة له عقلائية.

و اشتهار الفتوى في القديم و الجديد، و في الكتب غير المعتمدة، دليل على أنّ الخروج عنها في غاية الإشكال، فالحرمة التكليفيّة في الميتة و الكلب، بل و الخنزير، و العذرة، بل و البول، بل و المنيّ و الخمر؛ قويّ جدّاً فيما إذا كانت المعاملة فاسدة، لأجل حرمته و سقوط منفعته، أو لاشتراط الطهارة، فلا تغفل.

قوله: «مطلق المعاوضة».

على المعروف بينهم، و لم أجد من صرّح بهذا العموم مدّعياً عليه الإجماع.

و يدلّ عليه: الروايات العامّة، مثل «تحف العقول» الناطقة بأنّ المحرّم جميع التقلّبات، و المصرّح فيها بالهبة و العارية(2).


1- مباحث المكاسب المحرّمة من كتابه الكبير) مفقودة).
2- تقدّم في الصفحة 292، الهامش: 2.

ص: 319

و في دلالة «الفقه الرضوي»(1) شبهة.

و في «الدعائم» اختصاص بالبيوع، حيث قال: «الحلال من البيوع كلّ ما هو حلال من المأكول ..»(2)، مع أنّه قاصر الدلالة على الحرمة التكليفيّة في موردها.

و بطلان جميع المعاوضات عليها أيضاً، محلّ المنع؛ لقصور سند المسألة.

و التمسّك بإلغاء الخصوصيّة عن مواقف الأدلّة الخاصّة، في غاية الإشكال؛ لأنّ للبيع أحكاماً خاصّة، و لو صحّ الإلغاء في هذه الموارد كان الحكم بورود الربا في جميع المعاوضات متعيّناً، بل تفصيل الشرع بين المعدود و غيره(3) يشهد على أنّ هذه الأمور من القياس المنهيّ، و إن نبتلى بها في مختلف من المواضع.

و توهّم كون كلمة «الثمن» ظاهرة في العوض في البيع، من الظهور المستحدث بعد الاصطلاح؛ لما يظهر من بعض كتب اللغة خلافه؛ فاسد جدّاً، قال في «أقرب الموارد»: «الثمن: ما قدّره العاقدان عوضاً للمبيع، و إذا


1- تقدّم في الصفحة 293، الهامش: 1.
2- تقدّم في الصفحة 293، الهامش: 2.
3- وسائل الشيعة 18: 132، كتاب التجارة، أبواب الربا، الباب 6، و 152، الباب 16.

ص: 320

أُطلق الثمن أُريد به الدراهم و الدنانير، قال الفرّاء: الثمن عند العرب ما يكون دَيْنا في الذمّة»(1). انتهى.

و ليس مقصود الفرّاء من كلمة «ما» أعمّ من البيع، فإنّه ناظر كلامه إلى أنّ مطلق العوض ليس ثمناً.

و لو تمّ إلغاء الخصوصيّة فهو هنا غير بعيد إنصافاً، فمطلق العوض في البيع محرّم بالنبويّ.

و دعوى: أنّ سقوط ماليّته في البيع يستلزم فساد سائر المعاوضات، بل لأجلها اختار الماتن في غيرها أيضاً، غير مسموعة.

أوّلًا: بمنع لزوم اعتبار سقوط ماليته شرعاً، بل الشرع منع عن البيع و سائر المعاوضات مثلًا بإيجاد شرط في المبيع، كما هو ظاهر «التذكرة» من اشتراط الطهارة في المعقود عليه، و ادّعى عليه الإجماع(2)، و لو كان الأمر كما توهّم كان ذلك لغواً بل و تناقضاً، لأنّه اشترط الماليّة، ثمّ اشترط الطهارة، و كونها شرطاً متقوّم باعتبار الماليّة و بقائها.

و ثانياً: التفكيك في الأُمور الاعتباريّة و الشرعيّة واقع قطعاً، فلا بأس بإسقاط الماليّة لمصالح في البيع دون غيره، فكيف لا و أنت ترى أنّ


1- أقرب الموارد 1: 95.
2- تذكرة الفقهاء 1: 464/ السطر 4.

ص: 321

بل يقوى (1) عدم جواز هبتها و الصلح عنها أيضاً. و لا يدور حرمة بيعها و التكسّب بها مدار عدم المنفعة، الشرع فصّل، في مسألة تحريم الخمر و الخنزير و أمثالهما بين المستحلّ و غيره فهل يعقل ذلك، إلّا بوجه يورث معقوليّته هنا أيضاً؟! و على هذا تحتاج المسألة إلى التأمّل.

قوله: «بل يقوى».

و استشكل فيه بعض المحشّين و الشرّاح، و الوجه في المسألة، و الوجه في إشكالها، ما مضى. و دخول المعاملات الغير المعاوضيّة في معقد الاتّفاق ممنوع جدّاً.

ثمّ اعلم: أنّ قضيّة القواعد فيما تردّد المبيع بين كونه من الأعيان النجسة و الطاهرة، أو كونه من الأعيان المحرّمة و غير المحرّمة، هو الرجوع إلى أصالتي الحلّ و الطهارة لحكومتهما على الإطلاقات المانعة.

و يمكن دعوى التفصيل بين القاعدتين، بأنّ الأعيان النجسة ممنوع المعاملة، لاعتبار الطهارة، و لا دليل على سقوط ماليّتها، بخلاف الأعيان المحرّمة، فإنّها ساقطة ماليّتها، فمثل العذرة ليست من المحرّمات، بخلاف الميتة و الخمر، فعند ذلك يشكل إحراز الماليّة بعموم أصالة الحلّ.

اللَّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ الماليّة كما تعتبر من الحلال الواقعي تعتبر من

ص: 322

بل يحرم ذلك و لو كانت (1) لها منفعة محلَّلة مقصودة كالتسميد في العذرة.

الحلّيّة الظاهريّة بنحو الكشف لا الانتزاع، فلا تخلط.

أو يقال: بأنّ قاعدتي الحلّ و الطهارة تتكفّلان الحلّيتين و الطهارتين الواقعيّة و الظاهريّة.

و ربّما يمكن دعوى أنّه على جميع التقادير لا يصحّ التمسّك و لا يفيد؛ لعدم الدليل الشرعي على اعتبار الماليّة في المعاملات حتّى تحصل الحكومة، فتأمّل جيّداً.

و تختصّ قاعدة الطهارة بشبهة و هي: إنّ الشرط إن كان الطهارة فهي تفيد، و لو كانت النجاسة مانعة فإثبات الطهارة لا يفي برفع المانع إلّا بالأصل المثبت. و ربّما يخطر بالبال اشتراك قاعدة الحلّ معها في تلك الشبهة أيضاً كما لا يخفى.

قوله: «و لو كانت».

قد عرفت أنّ بناء الكتاب على بيان المكاسب المحرّمة بالذات، لا المحرّمة بالتشريع(1)، و الفاسدة عرفاً، حتّى يجعل ذلك مورد التصريح على نحو ما في المتن.


1- تقدّم في الصفحة 298.

ص: 323

[و يستثنى من ذلك العصير المغلي قبل ذهاب ثلثيه]

و يستثنى من ذلك العصير المغلي (1) قبل ذهاب ثلثيه بناءً على نجاسته، حكم التكسّب بالعصير العنبي قوله: «العصير المغلي».

في كونه استثناء إشكال؛ لعدم الدليل على صحّة بيع العصير المغلي قبل ذهاب ثلثيه خصوصاً.

نعم، يشكل شمول العمومات لمثله؛ لأنّ النجس القابل للطهارة خارج عنها، و إلّا جميع المتنجّسات مشمول قوله في «تحف العقول»: «وجوه النجس»(1) كما عرفت، و هكذا النبوي(2)؛ لأنّ المحرّم فيه هو الذي حرّم، و لا يحلّ إلّا بانقلاب الموضوع، و لذلك العصير المغلي بنفسه لا يكون مستثنًى؛ لأنّه يعدّ خمراً في الروايات(3).

بل في «مفتاح الكرامة»: «قد نصّ عليه الأكثر من المتقدّمين»(4).

و لعمري إنّ النصوص في هذه المسألة ناظرة إلى تجويز العصير


1- تقدّم في الصفحة 292، الهامش 2.
2- تقدّم في الصفحة 293، الهامش 3.
3- وسائل الشيعة 17: 229، كتاب التجارة باب 59 حديث 2 و 5 و 256: 285، كتاب الأطعمة و الأشربة المحرّمة باب 2، حديث 6 و 7 و باب 3 حديث 3 و 4، الكافي 6: 419، حديث 1 و 2 و 3 و 4، التهذيب 9: 119 120، حديث 513 و 514 و 515.
4- مفتاح الكرامة 4: 12/ السطر 17.

ص: 324

المغلي، قبل أن ينقلب خمراً(1).

و بعبارة اخرى: هذه المسألة من صغريات المستثنى منه إذا غلى العصير بنفسه، و إذا غلى بالنار، فتلك الأدلّة قاصرة عن شمولها، و عمومات المسألة مثلها.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّه من وجوه النجس؛ لأنّ العين النجس ليست ما لا تقبل الطهارة، بل هي: ما يكون نجاسته من قبل نفسه، مقابل المتنجّس، و أنّه حين غليانه محرّم؛ فيشمله النبوي.

و اختار الأستاذ الوالد- مُدّ ظلّه جواز المعاوضة عليه مطلقاً، حتّى حال خمريّته(2)، و لم يظهر لي وجه لمرامه، بعد كونه خمراً و تشمله تلك الروايات الواردة في الخمر.

نعم، لو قلنا: بأنّه لا يصير خمراً حتّى لو غلى بنفسه، فهو بحث تامّ صغروي فلا تخلط.

و المسألة من حيث صغراها تحتاج إلى التأمّل في مباحث النجاسات، و حيث أنّ أخبار المسألة كلّها ضعاف غير معتبرة، فلا خير في


1- وسائل الشيعة 17: 229، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 59.
2- المكاسب المحرّمة، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 1: 124.

ص: 325

[حكم التكسّب بالكافر]

و الكافر (1) بجميع أقسامه حتَّى المرتدّ عن فطرة على الأقوى، (2) نقلها، و قد أقصينا البحث حولها في كتابنا الكبير(1).

حكم التكسّب بالكافر قوله: «و الكافر».

إجماعاً، و قيل: «عليه ديدن المسلمين في صدر الإسلام» و ربّما يستشمّ الحكم من بعض الروايات في المسألة(2).

قوله: «على الأقوى».

لأنّ شرائط الصحّة، من الماليّة و غيرها، موجودة، و لا دليل على المنع عنه.

و لو كان وجوب القتل منافياً لنفوذ البيع، لما كانت تصحّ إجارة من يجب قتله قصاصاً، و غيره من الأسباب الأُخر المقتضية له، مع أنّ الأمر هناك بديهيّ، فنفس الوجوب يجامع صحّة المعاملة.

و أمّا تصدّي الوالي لقتله فهو يوجب سفهيّة إقدام المعامل عليه إلّا لغرض العتق، و هذا لا ينحصر بصورة، بل لو تصدّى الظالم ذلك قهراً عليه،


1- مباحث المكاسب المحرّمة من كتابه الكبير) مفقودة).
2- وسائل الشيعة 17: 122، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 16، الحديث 1، وسائل الشيعة 18: 243، كتاب التجارة، أبواب بيع الحيوان، الباب 1 و 2.

ص: 326

و كلب الصيد، (1) و ربّما يلحق به كلب الماشية و الزرع و البستان و الدور أيضاً (1)، و فيه تأمُّل و إشكال، فإنّه يوجب فساد المعاوضة لجهة أُخرى، كما لا يخفى.

هذا و لكنّ الحقّ: أنّ إيجاب القتل لا يجامع الإرادة الجديّة بوجوب الوفاء بالعقد، المستلزمة لحفظه.

نعم، لو كان الحكم مشروطاً، و لم يكن شرطه موجوداً، فهو ممّا لا بأس به، و لكنّه خلاف الفرض، و مثله ما لو كان معلّقاً، بل الحكم كذلك عرفاً، فلو سلّمنا إمكان الجمع ترتّباً، فالعقلاء لا يساعدون على صحّة هذه المعاملة، و على أنّ الشرع جمع بين إيجاب القتل و تصحيح البيع، فالحكمان التكليفيان غير قابلين للجمع، و الحكم التكليفي و الوضعي أيضاً كذلك. و في المسألة «إن قلت، قلتات» حول هذه الشبهة، فالأحوط ترك مثل هذا النقل و الانتقال.

جواز بيع كلب الصيد قوله: «و كلب الصيد».

بالإجماع، و الشهرة القطعيّة(2)، و النصوص الكثيرة(3)، و لا خلاف


1- هذا هو الأقوى
2- الخلاف 3: 181، منتهى المطلب 2: 1009/ السطر 12، مفتاح الكرامة 4: 28/ السطر 11.
3- وسائل الشيعة 17: 118، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 14.

ص: 327

في المسألة من حيث الاستثناء في الجملة، و من أنّه الكلب الصيود، إنّما الكلام في سائر الأصناف الأُخر، و منها الكلاب المستخدمة في البيوت، و التي هي الملاعب بها في القصور، و قد مرّ بعض الكلام حول المستثنى منه، و أُشير هناك إلى حقّ القول في المسألة(1).

و طريق الإشكال في المسألة من وجهين:

قصور المطلقات عن شمول هذه الأصناف؛ لأنّها بالاستثناء تكون ظاهرة في: أنّ المنع لفقد الجهة العقلائيّة في المستثنى منه.

و أنت خبير بما فيه؛ فإنّ هذه الروايات ناظرة إلى تحريم ما هو الراسخ عند العقلاء، لا الذي لا يرتكبه العرف بطبعه بالضرورة.

و إلغاء الخصوصيّة من المستثنى أو ادّعاء أنّ المراد من الصيد ليس ما هو المصطلح عليه، بل هو الكلب الذي يصطاد، و هي الكلاب التي فيها صفة اللهث، و هي الأعمّ من الصفة التي يأخذ بها الغزال أو السارق أو الذئب، فكلّها ممّا يصطاد، و يختلف صيدها حسب تربيتهم، أو حسب اقتضاءٍ في طباعهم.

و يؤيّد هذه الطريقة مرسلة «المبسوط» القاضية بجواز بيع كلب


1- تقدّم في الصفحة 314 315.

ص: 328

نعم لا إشكال (1) في إجارتها و إعارتها.

الماشية و الحائط(1)، فما أفاده الماتن من التردّد و الإشكال في الإلحاق، في نهاية المتانة و القوّة، خلافاً لما ذهب إليه الوالد الأُستاذ- مدّ ظلّه.

و ربّما يقال: بأنّه كيف يمكن الالتزام بجواز بيع كلب الصيد الذي يستعمله أبناء الملوك في السفر المحرّم و اللهو، و بحرمة الكلب الحارس للماشية و البيوت الذي يحتاج إليه الناس في معاشهم؟! فعليه تكون هذه الروايات ناظرة إلى طائفة خاصّة من الكلاب، و هي المستعملة في لعب السلاطين و أتباعهم الرائجة في ذلك اليوم بينهم كثيراً، فلاحظ و تدبّر.

قوله: «لا إشكال».

للإجماع، و إلّا فقضية القواعد سريان الإشكال من البيع إلى غيره أيضاً، مثل الصلح و نحوه لما سرى منه إلى سائر التقلّبات.

و عندي في تماميّة هذا الإجماع المنقول، بل و المحصّل منه شبهة؛ ضرورة أنّ المسألة ذات رواية و ذات وجوه اعتباريّة، و لعلّهم إليها استندوا.

فالتفصيل بين البيع و غيره هنا، أي في المستثنى دون المستثنى منه خصوصاً في الكلب، في غاية الإشكال، بل و المنع، فتدبّر.


1- المبسوط 2: 166.

ص: 329

[مسألة 2: الأعيان النجسة لا يجوز الاكتساب بها]

مسألة 2: الأعيان النجسة عدا ما استثني و إن لم يعامل معها شرعا معاملة الأموال (1)، فلا يجوز الاكتساب بها، و لا يصحّ جعلها عوضاً أو معوّضاً في المعاوضات، بل وهبتها و الصلح عنها كما عرفت؛ قوله: «معاملة الأموال».

في المعاوضات إجمالًا على ما عرفت تفصيله.

و أمّا لو أتلفها فإن قلنا بأنّها غير جائز اقتناؤها، فيعلم سقوطها في الشريعة من جميع الجهات، فلا يكون المتلف ضامناً، و إلّا فهو ضامن؛ لعدم خروجها عن الملكيّة و إن سقطت ماليّتها في الجملة؛ لأنّ الملكيّة من الاعتبارات المتقوّمة بأثرٍ ما، على ما تحرّر في محلّه.

بل مقتضى ما سمعت منّا أنّ الماليّة تقبل التفكيك(1)، و لذلك يصحّ بيع شي ء للمستحلّ و لا يصحّ لغيره، و قد علمت أنّ مسألة سقوط الماليّة ممّا لا أساس لها رأساً إلّا مع تصريح الشرع به، أو خلعه جميع آثارها، نعم الأثر النادر في حال لا يورث عدّ شي ء مالًا.

و يمكن دعوى: أنّ أدلّة الضمانات قاصرة عن شمول هذه الموارد، و إلّا يلزم ضمان تلف الخمر، و قد ورد في النصوص الأمر بإهراقه(2).


1- تقدّم في الصفحة 320 321.
2- الكافي 5: 230/ 2، تهذيب الأحكام 7: 136/ 601، وسائل الشيعة 17: 223، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 55، الحديث 1.

ص: 330

لكن لِمَن كانت هي في يده و تحت استيلائه حقّ اختصاص (1) متعلّق بها، ناشئ إمّا من حيازتها، أو من كون أصلها مالًا له، كما إذا مات حيوان له فصار ميتة، أو صار عنبه خمراً.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ كلّ شي ء إذا كان ذا منفعة محلّلة مقصودة عند العقلاء، يعدّ مالًا و إن حرّم المبادلة عليه بأنواعها، و الأمر بالإهراق لا ينافي ذلك، بعد قوّة احتمال أنّ صاحبها يشربها.

قوله: «حقّ اختصاص».

قضية الصناعة: أنّ الحقّ ليس من الملك الضعيف، و لا من مراتب السلطنة، و عليه فنفس الاستيلاء يورث الحقّ المذكور، و لا دخالة لملك العين في ذلك؛ فإنّه إذا خرج عن ملكه لا يخرج عن تحت يده، فيعتبر عندئذٍ حقّ الاختصاص له.

فالعذرة التي تحتاز، و التي هي في يده إذا كانت قابلة للانتفاع بها شرعاً و عرفاً، لا يجوز التصرّف فيها بدون إذن صاحب الحقّ.

و ما ورد في الحديث النبويّ «من سبق إلى ما لا يسبق إليه مسلم فهو أحقّ به»(1) و إن لا يشمل الفرض الثاني، و لكنّه حكم قطعي لا يحتاج إلى شمول دليل، مع أنّ قضية الاستصحاب في بعض فروض المسألة، ممنوعيّة


1- عوالي اللآلي 3: 480/ 4، مستدرك الوسائل 17: 111، كتاب إحياء الموات، الباب 1، الحديث 4.

ص: 331

و هذا الحقّ قابل للانتقال إلى الغير بالإرث و غيره، (1) فيصحّ أن يصالح عنه بلا عوض، بل بالعوض أيضاً لو جعل مقابلًا لذلك الحقّ، لا عوضاً لنفس العين، لكنّه لا يخلو من إشكال، بل لا يبعد دخوله في الاكتساب المحظور.

الغير عن التصرّف فيه.

هذا و الذي يظهر لي: أنّ كبرى المسألة، و هي ثبوت الحقّ في الجملة، ممّا لا شبهة فيها، و لكنّها في هذه الأُمور ممنوعة؛ ضرورة أنّ هذه الأعيان لها المنافع المحلّلة و إن لم تكن غالبة، و لا كثيرة إلّا أنّها ليست قليلة، خصوصاً في بعض منها، و تلك الأُمور علل اعتبار الملك هنا، و لا دليل على سقوط الملكيّة و لو فرضنا سقوط الماليّة، مع ما عرفت فيه أيضاً، فتدبّر.

فقياس الأماكن المشتركة بهذه المسألة مع الفارق جدّاً، مع قصور دليله عن شمول تمام المدّعى كما ذكرناه.

قوله: «بالإرث و غيره».

إطلاق العبارة يقضي بجوازه بيعاً أيضاً، بل يصحّ جعل متعلّقه مورد الإجارة.

اللَّهمّ إلّا أن يدّعى اعتبار كون المبيع عيناً، و كون الإجارة ناقلة للمنفعة، و هما هنا منتفيان، و لكنّها ضعيفة على ما حرّرناه في محلّه(1).


1- لم نعثر عليه فيما بأيدينا من كتبه، و لعلّه في كتاب الإجارة المفقودة.

ص: 332

و العجب إنّه قد يتوهّم: أنّ تضييع الحقّ لا يوجب الضمان؛ لأنّه ليس مالًا. و ما فيه أوضح من أن يبيّن.

نعم، دعوى: أنّ المنع عن عموم التقلّبات يشمله؛ لأنّه و إن لم يكن من التقلّب في المحظور و المحرّم إلّا أنّه يستلزمه، و لا فرق طبق إطلاقها بين التقلّبات الواردة عليها بالذات و الواردة عليها بالعرض؛ ممكنة.

و أعجب ممّا مضى توهّم أنّ المعاملات الأُخر الواردة على الأعيان، لا تورث إلّا التقلّب في الملكيّة المتعلّقة بالأعيان، فلا فرق بين الحقّ المتعلّق بالعين و الملكيّة، فالحكم في الفرضين متّحد.

و ما فيه واضح، بداهة أنّ العرف يكذّبه، و أنّ الملكيّة ليست معتبرة في التبادلات، كما في تبديل أحد الحاكمين الخمس بالزكاة في مورد، و كون الحقّ متقوّماً في الماليّة بالعين الخارجي لا يورث كونه مثل الملكيّة في الاعتبار، بل لا يعقل التبديل في الملكيّة على أن تكون الإضافة بالذات مورد المعاملة.

نعم، التبديل بين العينين في الملكيّة يستلزم الملكيّة المستأنفة بالتبع فلا تغفل.

و بالجملة في المسألة إشكال مبنوي مضى سبيله، و على فرض صحّة المبنى صحّة الدعوى السابقة مشكلة، فالمرجع هو الأصل السابق.

ص: 333

نعم، لو بذل له مالًا ليرفع يده و يعرض عنها فيحوزها الباذل، سلم من الإشكال، (1) نظير بذل المال لمن سبق إلى مكان من الأمكنة المشتركة كالمسجد و المدرسة، ليرفع يده عنه و يسكنه الباذل.

قوله: «من الإشكال».

إذا لا يعدّ من الأكل بالباطل، كما لو كان بناء الحائز في المسجد عليه، فيكون ذلك متجره، و يشكل مطلقاً؛ لأنّه يعدّ من المعاوضة عرفاً، و ليس منه العين و الأثر في الأنحاء المعروفة منها، و هو يندفع بالإطلاقات في محلّها.

و ربّما يشكل جواز حيازتها؛ لأنّها من الأسباب المملّكة، فيندرج في العموم المنفي في «تحف العقول».

ص: 334

[مسألة 3: لا إشكال في جواز بيع ما لا تحلّه الحياة من أجزاء الميتة، ممّا كانت له منفعة محلّلة مقصودة]

مسألة 3: لا إشكال في جواز بيع ما لا تحلّه الحياة من أجزاء الميتة (1)، ممّا كانت له منفعة محلّلة مقصودة كشعرها و صوفها، بل و لبنها أيضاً إذا قلنا بطهارته، كما مرّ في النجاسات.

قوله: «من أجزاء الميتة».

لعدم الدليل، و توهّم صدق الميتة عليها غير تامّ، لأنّها من صفات ذوات الأرواح، و إطلاقها على النباتات، باعتبار الروح النباتي، من المجاز.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بالتبعية في الحكم؛ لفناء الجزء في حكم الكلّ. فلو ورد مثلًا: «الكلب نجس» فكما يعلم منه نجاسة جميع أجزائه، كذلك لو ورد: «لا يجوز بيع الميتة» فإنّه لا يلاحظ صدق الميتة بالنسبة إلى جميع الأجزاء.

و لك دعوى: أنّ الميتة من صفات الحيوان كالذكاة، و ليست الأجزاء حتّى ما تحلّه الحياة ميتة إلّا تسامحاً، فعدّ الأليات المقطوعة ميتة لا يورث صحّة الإطلاق على نعت الحقيقة، فعليه لا بدّ من الاحتياط إلّا في مثل لبنها؛ فإنّه لا يعدّ من أجزائها، بل هو كحجر المثانة، و لذلك ليس فيه الروح النباتي، فضلًا عن غيره.

ص: 335

و في جواز بيع الميتة الطاهرة كالسمك الطافي إذا كانت له منفعة و لو من دهنه، إشكال، لا يبعد الجواز، بل لا يخلو من قوّة (1).

قوله: «لا يخلو من قوّة».

استشكل الوالد الأُستاذ- مدّ ظلّه في القوّة و منعها، فاحتاط في المسألة و قال في المكاسب المحرّمة: «ثمّ إنّ الميتة من غير ذي النفس السائلة تجوز المعاوضة عليها و على أجزائها؛ لقصور الأدلّة»(1). انتهى ما أردنا نقله منه- دام ظلّه.

و المسألة ليست من المسائل الإجماعيّة؛ لعدم معروفيّتها بين القدماء، فدعوى الشيخ (رحمه اللَّه ( «نفي الخلاف»(2) لا تورث شيئاً.

و توهّم أنّ تقييد مورد الإجماع بذي النفس السائلة، معناه اتفاقهم على جواز البيع في غيرها، فاسد؛ ضرورة أنّه لأجل درجها في النجاسات فلا شهرة على جواز بيعها، فالمتّبع إطلاقات الأدلّة، و الانصراف غير معلوم.

و اقتضاء المناسبة بين الحكم و الموضوع ليست تامّة، بل في رواية البزنطيّ(3)، تجويز الانتفاع و النهي عن بيعها، فيعلم نفي الملازمة بمثلها


1- المكاسب المحرّمة، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 1: 96.
2- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 6/ السطر 10.
3- السرائر 3: 573، وسائل الشيعة 24: 72، كتاب الصيد و الذبائح، أبواب الذبائح، الباب 30، الحديث 4.

ص: 336

المؤيّد بتلك الإطلاقات، و لا ينافيها قوله) عليه السّلام): «هو الطهور ماؤه، و الحلّ ميتته»(1).

و لعمري إنّ هذه الإطلاقات ليست في حدّ الإطلاقات الكلّيّة القانونيّة، بل هي ناظرة إلى ما تعارف في عصر الصدور من أكل الميتة، و منها ما لا يراعى فيه الشرائط الشرعيّة في تذكيته، فتأمّل.

و المراد من السمك الطافي: هو الذي يموت و يعلو الماء، سواء كان من المحلّل أو المحرّم.

و لو قلنا بقبول سائر الحيوانات البحريّة التذكية، فبيعها يجوز؛ لأنّها ليست ميتة.

و ظاهر الأصحاب في تلك المسألة نفي ذلك؛ لعدم الأثر عليها، و هو ممنوع كما عرفت.


1- وسائل الشيعة 1: 136، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 2، الحديث 4.

ص: 337

[مسألة 4: لا إشكال في جواز بيع الأرواث الطاهرة إذا كانت لها منفعة]

مسألة 4: لا إشكال (1) في جواز بيع الأرواث الطاهرة إذا كانت لها منفعة، و أمّا الطاهر من الأبوال، قوله: «لا إشكال».

على المعروف بين المتعرّضين(1)، و ذلك لتماميّة المقتضي و عدم المانع، إلّا توهّم شمول أدلّة المنع عن بيع العذرة؛ لأنّها منها لغة، كما يعرب عنه جمع الشيخ في «الاستبصار» بين أخبار تلك المسألة، بحمل ما يدلّ على البأس بعذرة الإنسان، و ما يدلّ على عدم البأس بعذرة غير الإنسان(2)، و يؤيّد عموم اللغة ما في «أقرب الموارد»(3).

و قد عرفت: أنّ قضيّة القواعد تعيّن العموم بما يدلّ على أنّ بيع العذرة سحت و لا تهافت بين تلك الروايات(4).

نعم لك دعوى: أنّ السيرة خصوصاً في البلاد العربيّة و لا سيّما في الأعصار السابقة على خلاف هذا الإطلاق، و لا يمكن ردعها بمثله، فيعلم أنّ الحكم هو الجواز.


1- الخلاف 2: 82 مسألة 310 من كتاب البيوع، مجمع الفائدة و البرهان 8: 38 39، جامع المقاصد 4: 14، جواهر الكلام 22/ 19، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 4، المكاسب المحرّمة، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 1: 58.
2- الاستبصار 3: 56.
3- أقرب الموارد 2: 757.
4- تقدّم في الصفحة 302 305.

ص: 338

فأمّا بول الإبل فيجوز بيعه (1) بلا إشكال، و أمّا غيره ففيه إشكال، لا يبعد الجواز، فيما كان له منفعة محلّلة مقصودة.

قوله: «فيجوز بيعه».

إجماعاً محكيّاً عن «جامع المقاصد»(1) و هو لا يفيد شيئاً.

و ما ورد في الحديث: «أبوالها خير من ألبانها»(2)، فيحتمل أن يكون في مقام ذمّ الألبان، لا مدح الأبوال، و لا دلالة لمثله على جواز البيع، كما لا يخفى.

فلو كان محلّلًا شربه كما يكون محلّلًا كثير من الأشياء إذا لم يورث الضرر، فهو لا يوجب صحّة المعاملة، لاشتراط المنفعة النوعيّة في صحّتها؛ بحيث يعدّ عند العرف من الأموال حال الاختيار، كما هو مختار الأصحاب طرّاً.

نعم، إذا كانت لها المنفعة الغالبة، فهي و غيرها في هذا الحكم متّحدان؛ لتماميّة المقتضي و قصور أدلّة المنع.

و بالجملة: لم يرد: «إنّ اللَّه إذا حلّل شيئاً حلّل ثمنه» نعم، بناء على شمول النبوي(3)، الأبوال المحرّم شربها يشكل ثمنها، و لكن حرمتها بعنوانها الذاتي غير تامّة، و بعنوانها العرضي و إن كانت مورد الفتوى إلّا أنّ المعاوضة


1- جامع المقاصد 4: 14.
2- الكافي 6: 338/ 1، وسائل الشيعة 25: 114، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المباحة، الباب 59، الحديث 3.
3- تقدّم في الصفحة 293، الهامش 3.

ص: 339

ليست عليها.

و بعبارة أُخرى: تارة يبيع الخبث، و أُخرى يبيع البول، فإن باع الخبث فالثمن محرّم، و إلّا فلا، فليتأمّل جيّداً.

و ربّما يرد على المصنّف: أنّ منع المعاوضة في الأعيان النجسة و لو كانت ذوات منافع محلّلة مقصودة و عدم المنع هنا، بلا وجه؛ لإطلاق الدليلين و كون أحدهما متعرّضاً لعنوانها الذاتي، و الآخر للعنوان العرضي، لا يوجب الفرق المزبور.

ص: 340

[مسألة 5: لا إشكال في جواز بيع المتنجّس الذي يقبل التطهير]

مسألة 5: لا إشكال (1) في جواز بيع المتنجّس الذي يقبل التطهير، و كذا ما لا يقبله، و لكن يمكن الانتفاع به مع وصف نجاسته في حال الاختيار؛ بأن لا تكون منفعته المحلّلة المقصودة في حال الضرورة متوقّفة على طهارته، كالدهن المتنجّس الذي يمكن الانتفاع به بالإسراج و طلي السفن، و الصبغ و الطين المتنجّسين، و الصابون الذي لا يمكن تطهيره.

و أمّا ما لا يقبل التطهير و كان الانتفاع به متوقّفاً على طهارته، كالسكنجبين النجس و نحوه، فلا يجوز بيعه و المعاوضة عليه.

قوله: «لا إشكال».

اتفاقاً و هذا هو مقتضى الأصل المتقدّم(1) بعد قصور الأدلّة العامّة.

اللَّهمّ إلّا أن يتوهّم: أنّ المتنجّس من وجوه النجس الواردة في حديث «تحف العقول» و لكنّه بمعزل عن التحقيق، بل لو قلنا: بأنّ المتنجّس ليس إلّا نجساً لا يشمله الحديث، مع ما عرفت في أصل الحكم في النجاسات.

ثمّ إنّ وجه المسائل المشار إليها في المتن معلوم، ممّا سبق.

نعم، بناء على اعتبار المنفعة النوعيّة في صحّة البيع مثلًا، يشكل بيع الأدهان النجسة في المصارف النازلة، و لو تمّ الحكم فيها، فلا بأس ببيع السكنجبين لبعض المصارف اللازمة أحياناً.


1- تقدّم في الصفحة 295 و 297 298.

ص: 341

و ما يدلّ على صحّة بيع الدهن للاستصباح(1) إمّا يدلّ على جواز جميع هذه البيوع، أو يدلّ على ممنوعيّة بيع الدهن للاستصباح في عصرنا؛ لأنّه من المنافع النادرة، و منها طلي السفن بدهن الشاة النجس، فما ذكره صدراً و ذيلًا غير راجع إلى محصّل.


1- وسائل الشيعة 17: 97، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 6.

ص: 342

[مسألة 6: لا بأس ببيع الترياق المشتمل على لحوم الأفاعي]

مسألة 6: لا بأس (1) ببيع الترياق المشتمل على لحوم الأفاعي (1)، مع استهلاكها فيه، كما هو الغالب، بل المتعارف، فجاز استعماله و ينتفع به منفعة محلّلة معتدّاً بها، و أمّا المشتمل على الخمر فلا يجوز بيعه؛ لعدم قابليّته للتطهير، مع عدم حلّيّة الانتفاع به مع وصف نجاسته.

قوله: «لا بأس».

هذا الحكم واضح إذا لم تكن الأفاعي من ذوات الأنفس السائلة أو شكّ فيه، و المراد من الاستهلاك هو: أن لا يعدّ في نظر العرف المركّب المعجون ذا أجزاء معلومة، بل كان عنواناً آخر بسيطاً أو مركّباً، فالمسألة نظير البيضة الموجود فيها الدم، فإنّه على القول بنجاسته فلا يجوز أكلها و إن استهلك؛ لتنجّسها به قبل ذلك، و على القول بطهارته يجوز أكلها بعد الاستهلاك، و في مثل الترياق الذي ليس من العناوين الذاتيّة المعلومة عند العرف يشكل الحكم؛ لأنّه يُسأل عنه و لا يجاب إلّا بأنّه: المعجون المشتمل على كذا و كذا، بخلاف البيضة، كما لا يخفى.

فكبرى المسألة واضحة، بخلاف صغراها و قد مضى حكم صحّة البيع و عدمها في المسألة السابقة، فلا وجه لإعادته و تكراره.


1- إذا لم يثبت أنّها من ذوات أنفس سائلات

ص: 343

و جواز التداوي به عند الاضطرار (1) ليس عليه المدار، بل المدار على حلّيّة الانتفاع بالشي ء في حال الاختيار.

قوله: «عند الاضطرار».

المقصود منه ليس حال المرض، و إلّا يلزم سقوط صحّة بيع الأدوية طرّاً، بل المقصود حال انحصار التداوي به، و يشهد له قوله: «حال الاختيار» فما توهّمه بعض الشرّاح ناشئ من قلّة الباع.

ص: 344

[مسألة 7: يجوز بيع الهرّة و يحلّ ثمنها]

مسألة 7: يجوز (1) بيع الهرّة و يحلّ ثمنها بلا إشكال.

و أمّا غيرها من أنواع السباع فالظاهر جواز بيع ما كان منها ذا منفعة محلّلة مقصودة عند العقلاء، و كذا الحشرات، بل المسوخ أيضاً إذا كانت كذلك.

فهذا هو المدار في جميع الأنواع؛ فلا إشكال في بيع العلق الذي يمصّ الدم الفاسد، و دود القزّ، و نحل العسل و إن كانت من الحشرات، و كذا الفيل الذي ينتفع بظهره و عظمه و إن كان من المسوخ.

قوله: «يجوز».

في إطلاقه إشكال؛ فإنّ المدار على ما أفاده في ذيل المسألة، و قد مرّ ما يتعلّق بهذه الكبرى(1).

و توهّم إطلاق صحيحة محمّد بن مسلم(2)، حتّى يجوز بيعه و إن كان فاقداً للشرائط العرفيّة، لا يخلو من تعسّف، و لقد عرفت منّا: أنّ هذه الروايات، سواء كانت مشتملة على صحّة البيع، أو على فساده، ناظرة إلى الشرائط الشرعية، سواء رجعت إلى إلغاء الشرط العرفي تعبّداً


1- تقدّم في الصفحة 295 و 297 298.
2- عن محمّد بن مسلم و عبد الرحمن بن أبي عبد اللَّه قال: ثمن الكلب الّذي لا يصيد سحت، ثمّ قال: و لا بأس بثمن الهرّة. تهذيب الأحكام 6: 356/ 1017، وسائل الشيعة 17: 119، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 14، الحديث 3.

ص: 345

كالماليّة، أو إلى إيجاب الشرط الشرعي كالطهارة مثلًا، ففي مثل مسألتنا هذه تكون الرواية ناظرة إلى أنّ الهرّة جامعة للشرط الذي هو مفقود في غيرها كالكلب و الخنزير.

ثمّ إنّه غير خفيّ أنّ التعرّض لهذه المسائل في هذا الكتاب خروج عن وضعه؛ ضرورة أنّ الجهة المبحوث عنها هنا هي المكاسب المحرّمة تكليفاً، لا المحرّمة وضعاً، و لا المحلّلة، فلا ينبغي الخلط.

و دعوى دلالة رواية سهل بن زياد(1) على المنع من بعض المسوخ، غير مسموعة، مع ضعف سندها بغيره.

و مثلها في الضعف رواية صفوان، عن عبد الحميد بن سعيد المشتملة على نفي البأس عن بيع عظام الفيل و شرائها(2)، فإنّها لا تدلّ على الإشكال في نفسه؛ لعدم الانتفاع من غير عظمه.

و هكذا رواية عليّ بن جعفر عن أخيه المشتملة على نفي البأس


1- الكافي 5: 227/ 7، وسائل الشيعة 17: 171، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 37، الحديث 4.
2- الكافي 5: 226/ 1، وسائل الشيعة 17: 171، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 37، الحديث 2.

ص: 346

عن بيع جلود السباع و ركوبها إذا لم يسجد عليها(1)، و التقييد محمول على صورة عدم التذكية، بناء على قبولها إيّاها، كما هو المعروف(2).


1- مسائل علي بن جعفر: 189/ 382، وسائل الشيعة 17: 172، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 37، الحديث 5.
2- شرح اللمعة 2: 267، كتاب الذباحة، مجمع الفائدة و البرهان 11: 87 89، المهذّب 2: 442، مسالك الأفهام 2: 186، كتاب السرائر 3: 114، جواهر الكلام 36: 192 200، قواعد الأحكام 1: 154.

ص: 347

[مسألة 8: يحرم بيع كلّ ما كان آلة للحرام]

مسألة 8: يحرم بيع (1) كلّ ما كان آلة للحرام، بحيث كانت منفعته المقصودة منحصرة فيه، مثل آلات اللهو كالعيدان، و المزامير، و البرابط و نحوها، و آلات القمار كالنرد، و الشطرنج و نحوهما، قوله: «يحرم بيع».

أمّا حرمتها الوضعيّة فبدعوى سقوط الماليّة عرفاً، بعد تحريم المنافع الرائجة.

و أمّا حرمتها التكليفيّة فللإجماعات المنقولة(1)، و الشهرات المحقّقة، بل ادعى صاحب «الرياض» الإجماع المستفيض عليه(2)، و للروايات الخاصّة في خصوص الهياكل المبتدعة(3)، و إن لم يمثّل بها الماتن، و في خصوص النرد، و الشطرنج، و الأربعة عشر، و آلات المزامير، و أُمور الجاهلية(4).

و ضعف سندها منجبر بعمل الأصحاب، و فتواهم، و لو كان مستندهم غير هذه الأخبار لوصل إلينا.


1- منتهى المطلب 2: 1011/ السطر 34، مجمع الفائدة و البرهان 8: 41، مفتاح الكرامة 4: 31.
2- رياض المسائل 1: 499/ السطر 29.
3- وسائل الشيعة 17: 176، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 41.
4- وسائل الشيعة 17: 318، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 102 و 103 و 104.

ص: 348

و كما يحرم بيعها و شرائها يحرم صنعتها، (1) اللّهمّ إلّا أن يقال بتلقّيهم المسألة من مشايخهم من غير احتياجها إلى الرواية، فالأمر دائر بين كون المستند تلك المآثير الدالّة على المقصود، و بين كون المسألة من المتلقّيات عن الأئمّة الطاهرين- سلام الله تعالى عليهم أجمعين.

و وجوب الكسر يشهد على بطلان المعاملة أيضاً، لحرمة الاقتناء، و سقوط الشرط العرفي، و لزوم التضادّ بين إيجاب الكسر و إيجاب الوفاء، بل و تنفيذ المعاوضة و التجارة.

و دعوى القطع برضا الشرع المقدّس بهذا الحكم و عمومه، غير بعيدة انصافاً.

نعم، في خصوص هياكل الأصنام يشكل الأمر في مثل هذه الأعصار؛ و لذلك قوّينا جواز التجارة بها إلّا للعبادة، و تفصيل المسألة يطلب من كتابنا الكبير(1).

قوله: «يحرم صنعتها».

على المعروف بينهم، و لا خلاف بين المتعرّضين لها و إن لا دليل عليها


1- مباحث المكاسب المحرّمة من كتابه الكبير) مفقودة).

ص: 349

إلّا رواية «تحف العقول» و قد مرّ ما يتعلّق بها(1)، و لكنّ المسألة قطعيّة؛ لأنّ مذاق الشرع معلوم فيها.

و دعوى جواز صنعتها إذا كانت للاقتناء و التزيين، كما في الأواني(2)، غير مسموعة؛ لأنّ ذلك فيها يوجب انحفاظ ماليّتها بخلافه في تلك الآلات، كما لا يخفى.

و في خصوص الشطرنج رواية عن أبي بصير تدلّ على مبغوضيّته بجميع مراتب وجوده(3)، فيحكم في الباقي بمثله؛ لعدم القول بالتفصيل، فتأمّل.

بل قضيّة رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السّلام) «و الانتفاع بشي ء من هذا حرام من اللَّه محرّم»(4) ممنوعيّة الاقتناء، و لعلّ إطلاق الأمر بالاجتناب في الكتاب(5) يورث ممنوعيّة الصنعة، و أخذ الأُجرة عليها، و غيرهما مما ينافي الاجتناب، فتدبّر.


1- تقدّم في الصفحة 292 295.
2- مسالك الأفهام 3: 123.
3- السرائر 3: 577، وسائل الشيعة 17: 323، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 103، الحديث 4.
4- تفسير القمّي 1: 180، وسائل الشيعة 17: 321، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 102، الحديث 12.
5- \i يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ\E. المائدة( 5): 90.

ص: 350

و الأُجرة عليها، (1) قوله: «و الأُجرة عليها».

أي على صنعة هذه الأُمور كلّها.

و كونها محرّمة وضعاً فلبطلان الإجارة؛ لاشتراط كون موردها محلّلًا، و قد استوفينا البحث عنه في كتاب الإجارة(1).

و العجب إنّ الأصحاب تمسّكوا بالنبوي(2) في هذه المواقف(3)، مع بنائهم في المسائل السالفة على أنّه يدلّ على أنّ ما حرّم من الأعيان حرّم ثمنه، و لا معنى لحملة على ما حرّم أكله و نظائره؛ للزوم كون الثمن حذاء العين، و هي في الفرض ليست محرّمة، مع أنّ ظاهره أنّ ثمن المثمن المحرّم، حرام.

و توهّم أنّ حرمة الإعانة بالإثم توجب حرمة الإجارة، و الأُجرة، و الصنعة و غيرها، فاسد جدّاً؛ لعدم صدق الإعانة في هذه المواضع، مع أنّه لا يورث فساد المعاملة.

و لو كان مثل صنعة الأُمور المؤدّية إلى المحرّم إعانة عليها، لكان


1- كتاب الإجارة، للمؤلّف الشهيد( قدّس سرّه)) مفقود).
2- تقدّم في الصفحة 293، الهامش 3.
3- شرح تبصرة المتعلمين للمحقّق العراقي 5: 9، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 14، و راجع مصباح الفقاهة 1: 148. و ربّما يستظهر من المكاسب المحرّمة للإمام الخميني قدّس سرّه الشريف و إن لم يصرّح بالرواية: 172.

ص: 351

بل يجب كسرها (1) و تغيير هيئتها.

جميع الحركات، من جميع الناس إلّا ما شذّ مثلها.

قوله: «بل يجب كسرها».

إذا كانت تحت استيلائه؛ لأنّها- على ما يعلم من الكتاب، و السنّة مبغوضة جدّاً، و إذا لم تكن كذلك ففي وجوب استراقها و لو سرقة ما يخلّ باللعب بها و وجوب كسرها و إن اطّلع عليها، و يؤدّي إلى الضرر و الحرج في أدنى مراتبهما المتعارف تحمّلهما في نوع الأُمور، و عدمه، وجهان، و الأقوى هو الأوّل.

و المقصود من الكسر إفناؤها و لو بإلقائها في البحر، و البر، بعد الأمن من الانتفاع بشي ء منها.

نعم، إبقاؤها في الصندوق، مع القطع بعدم الانتفاع بها مطلقاً، ما دامت موجودة غير جائز؛ لأنّ قطعه لا يفيد شيئاً بعد إمكان التخلّف، فحسماً لمادّة الفساد لا بدّ من كسرها أو تغييرها؛ بحيث لا يمكن الاستفادة منها، و مع كونهما غير ممكنين، يتعيّن الممكن من المراتب النازلة عقلًا.

ص: 352

نعم، يجوز بيع مادّتها من الخشب، و الصفر مثلًا بعد الكسر (1)، بل قبله أيضاً إذا اشترط على المشتري كسرها و أمّا مع عدم الاشتراط ففيه إشكال.

قوله: «بعد الكسر».

بالاتفاق(1)؛ لتماميّة الشرائط المعتبرة في صحّته، و لا دليل على ممنوعيّته تكليفاً، و هكذا قبل الكسر، مع اشتراط الكسر، خصوصاً إذا كان المشتري موثوقاً به، و أنّه وفى به و كسره.

و ربّما يشكل صحّة المعاملة مطلقاً و لو مع الشرط و الوثاقة؛ لأنّ المبيع عرفاً ليس إلّا ما هو المنهي، و لا يكون التفكيك بين المادّة و الصورة عرفيّاً.

نعم، إذا كانت الهيئة فانية في الأنظار؛ بحيث لا يعدّ المبيع إلّا في جملة الأحطاب، بقرينة اشترائه بقيمتها، يجوز البيع من غير لزوم الشرط، فالشرط لا يفيد صحّة المعاملة، و تركه لا يورث فسادها.

اللّهمّ إلّا أن يقال بعدم الدليل على ممنوعيّة بيع تلك الآلات، على نحو الإطلاق، فإذا باعها ممّن يستعملها في المحرّم، فهو ممنوع؛ لحرمة الإعانة على الإثم، و إذا شرط على المشتري الكسر، أو كان موثوقاً به في كسرها، فهو لا يعدّ من الإعانة عليه.


1- جامع المقاصد 4: 16، مسالك الأفهام 3: 122، رياض المسائل 1: 499.

ص: 353

و فيه: إنّ مجرّد البيع و الشراء ليس من الإعانة على الإثم، مع أنّها لا توجب فساد المعاملة؛ لانطباقها عليها.

و دعوى: أنّ صحّة بيعها من غير كسرها، توجب صحّة بيع الخمر، إذا كان مقصود المتبايعين المعاملة على المائع، و صحّة بيع اللباس الحرير، إذا كان المقصود اشتراء الإبريسم، غير نافعة؛ لأنّ من الممكن مساعدة العرف، في بعض الفروض دون بعض.

و توهّم أنّ إيجاب البيع و الوفاء به يضادّ إيجاب الكسر(1)، في محلّه إذا كان ما يجب كسره و إعدامه داخلًا في البيع بالمعنى الاسمي الدخيل في القيمة و إلّا فلا، و ما فرضناه من الصورة الثانية، فتدبّر.

و ربّما يمكن دعوى صحّة بيع تلك الآلات، بالنسبة إلى مادّتها المملوكة، لا هيئتها، فيكون من بيع ما يملك و ما لا يملك.

و لو أتلفها متلف فهل يضمن بالنسبة إلى المادّة أو لا أو يفصّل فإن كسرها فأتلفها بإحراقها فهو ضامن، و إن أحرقها حال تصوّر المادّة بالصورة فلا يحرق إلّا ما هو المبغوض؛ لأنّ المادّة غير ملحوظة، وجوه فتأمّل جيّداً.

و ممّا ذكرناه يظهر وجه الإشكال الذي أشار إليه الماتن (قدس سره).


1- المكاسب المحرّمة، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 1: 166.

ص: 354

و أمّا أواني الذهب و الفضة، فحرمة بيعها و عدمها مبنيّان (1) على حرمة اقتنائها، و التزيّن بها باقية على صورتها و هيئتها، و عدمها، فعلى الأوّل يحرم بيعها و شرائها، بل و صياغتها، و أخذ الأُجرة عليها، بخلافه على الثاني، و قد مرّ في أحكام الأواني: إنّ أحوطهما الأوّل، و أظهرهما الثاني.

قوله: «مبنيّان».

ليس الأمر كما ذكر، فإنّه يجوز بيعها إذا كانت مادّتها مورد المعاملة، كما عرفت، فلو كان اقتناؤها محرّماً يصحّ بيعها قبل كسرها، و لا يجوز بيعها إذا كان الاقتناء و التزيّن من المنافع النادرة، أو المتروكة، أو غير المتعارفة، و هذا على مبناه رحمه اللَّه تعالى. و وجه الحكم في سائر أحكامها يظهر ممّا مرّ.

و يمكن دعوى: أنّ الممنوع هي الهيئة مع المادّة الكذائيّة، لا الهيئة وحدها، و لا المادّة وحدها؛ ضرورة أنّ الذهب جائز بيعه و هكذا الآنية، و ما هو المحرّم آنية الذهب و الفضّة، فلو باع الأواني بنعت الكلّي، ثمّ سلّم الأواني من الذهب و الفضّة، من غير كون المادّة قيداً في مورد المعاملة، يجوز البيع، و يصحّ الوفاء على إشكال، فتأمّل.

ص: 355

[مسألة 9: الدراهم الخارجة أو المغشوشة، المعمولة لأجل غشّ الناس، تحرم المعاملة بها]

مسألة 9: الدراهم الخارجة أو المغشوشة، المعمولة لأجل غشّ الناس، تحرم المعاملة بها (1)، و جعلها عوضاً أو معوّضاً في المعاملات، مع جهل من تدفع إليه، بل مع علمه و اطّلاعه أيضاً، على الأحوط لو لم يكن أقوى ..

قوله: «تحرم المعاملة».

أمّا في الدولة الحقّة فالحكم قطعيّ؛ للدخول في سلطان الحقّ، و أمّا في الدولة الباطلة، فما كان منها مغشوشاً بالمقدار المتعارف المقدّر بالثلث في بعض الروايات(1)، فهو ممّا لا بأس به قطعاً؛ لأنّه ليس


1- عن العلاء بن رزين، عن زيد الصانع قال: قلت لأبي عبد اللَّه( عليه السّلام): إنّي كنت في قرية من قرى خراسان يقال لها: بخارى، فرأيت فيها دراهم تعمل ثلث فضّة، و ثلث مسا و ثلث رصاصاً. و كنت تجوز عندهم و كانت أعملها و أنفقها، قال: فقال أبو عبد اللَّه( عليه السّلام): لا بأس بذلك إذا كان تجوز عندهم، فقلت: أ رأيت إن حال عليها الحول و هي عندي و فيها ما يجب عليّ فيه الزكاة، أُزكيها؟ قال: نعم، إنّما هو مالك، قلت: فإن أخرجتها إلى بلدة لا ينفق فيها مثلها فبقيت عندي حتّى حال عليها الحول، أُزكّيها؟ قال: إن كنت تعرف أنّ فيها من الفضّة الخالصة ما يجب عليك فيه الزكاة فزكّ ما كان لك فيها من الفضّة الخالصة) من فضّة( و دع ما سوى ذلك من الخبيث، قلت: و إن كنت لا أعلم ما فيها من الفضّة الخالصة إلّا أنّي أعلم أنّ فيها ما تجب فيه الزكاة؟ قال: فاسبكها حتّى تخلص الفضّة و يحترق الخبيث ثمّ تزكّي ما خلص من الفضّة لسنة واحدة. الكافي 3: 517/ 9، وسائل الشيعة 9: 153، كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب و الفضّة، الباب 7، الحديث 1. عن عمر بن يزيد قال: سألت أبا عبد اللَّه( عليه السّلام) عن إنفاق الدراهم المحمول عليها، فقال: إذا جازت الفضّة المثلين فلا بأس. تهذيب الأحكام 7: 108/ 463، الإستبصار 3: 96/ 330، وسائل الشيعة 18: 186 كتاب التجارة، أبواب الصرف، الباب 10، الحديث 3.

ص: 356

لأجل غشّ الناس.

و أمّا ما هو المحمول عليه بالمقدار الزائد على الثلث، فإن جعله ثمناً في بلاد الكفّار، مع الأمن من وصوله إلى سوق المسلمين، فمع اطّلاع البائع لا بأس به، و مع عدم اطّلاعه لا تجوز المعاملة، إذا كان من قصده الإعطاء به، و تجوز فيما كان الثمن كلّياً، فأعطى المغشوش، فإنّه حينئذٍ يكون للبائع الخيار.

و أمّا في بلاد الإسلام، فمع العلم أيضاً مشكل؛ للزوم المفاسد الكثيرة، فضلًا عن الجهل، فإنّه في هذه الصورة و إن لا يلزم الغرور، و لكنّه في معرض التبادلات الفاسدة.

اللّهمّ إلّا أن يقال بأنّ نوع المعاملات في الأثمان كليّة، فلا يلزم الفساد، فيجوز حتّى مع الجهل، فتأمّل.

و لكنّ الإنصاف: أنّ المستفاد من الأخبار، جواز الإنفاق و الصرف في القسم الأوّل، و عدم جوازه، و وجوب كسره في القسم الثاني، لاستلزام وقوع الناس في أيدي السلطان الجائر إذا اطّلع عليه، و لذلك أُمروا بالكسر.

ص: 357

نعم، لا يلزم إيقاعها في البالوعة؛ لأنّ الأمر به(1) كناية عن شدّة الحكم في الكسر، فلا تغفل و تدبّر.

و يمكن دعوى: أنّ قضيّة بعض المآثير في بيع الصرف، مثل رواية عليّ بن رئاب قال: لا أعلمه إلّا عن محمّد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد اللَّه (عليه السّلام): الرجل يعمل الدراهم، يحمل عليها النحاس أو غيره، ثمّ يبيعها، قال: «إذا بيّن ذلك فلا بأس»(2)؛ هو التفصيل بين صورتي العلم و الجهل، و قضيّة المفهوم فساد المعاملة مع الحرمة التكليفيّة.

و فيه: إنّ مقتضى بعض النسخ «إذا بيّن الناس ذلك»(3) و هذا هو الإرشاد إلى ما ذكرناه من: أنّه إذا كان عند الناس معلوماً حتّى لا يقعوا في الفساد، فهو ممّا لا بأس به، لا المشتري وحده فعليه قضيّة الجمع بين روايات المسألة ما سمعت منّا.


1- الكافي 5: 160/ 3، وسائل الشيعة 17: 280، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 86، الحديث 5.
2- تهذيب الأحكام 7: 109/ 467، وسائل الشيعة 18: 185، كتاب التجارة، أبواب الصرف، الباب 10، الحديث 2.
3- الكافي 5: 253/ 2.

ص: 358

إلّا إذا وقعت (1) المعاملة على مادّتها، و يشترط على المتعامل كسرها، أو يكون موثوقاً به في الكسر، إذ لا يبعد وجوب إتلافها و لو بكسرها، دفعاً لمادّة الفساد.

قوله: «إلّا إذا وقعت».

من هنا يكون المتن من تحرير الوسيلة للسيّد الأُستاذ الوالد- مدّ ظلّه العالي- الذي ألّفه في بورسا و الوجه ما عرفت، و قد مضى: أنّ اللازم جواز بيعها و إن كانت باقية على هيئتها؛ لعدم لحاظ الهيئة.

نعم، فيه ما ذكرناه في خصوص الدراهم من لزوم الكسر و لو كان البيع للتزيين؛ لإطلاق الدليل، و مساعدة الحكم العقلي و الموضوع عرفاً، ففي الآلات السابقة كان يجوز البيع، من غير الحاجة إلى اشتراط الكسر، و لا كون المشتري موثوقاً به، و هنا يجب الكسر، و لا ينفع الشرط؛ لأنّه به لا يحصل الأمن من الفساد العظيم الجائي، على احتمال قويّ من قبله؛ لأنّ الاشتراط لا يورث الفرار منه.

نعم، لا بأس بالبيع إذا كان المتعامل موثوقاً به في الكسر، و قد كسره بعده، و إلّا تبطل المعاملة حسب ما يستفاد من المآثير.

ص: 359

و المراد من المغشوش تارة: يكون ما هو فيه الغشّ، حسب المادّة إذا غشّت الشركة المجازة، و أُخرى: ما عليه الهيئة و السكّة الباطلة، و هو الفرض الأوّل في المتن، و ثالثة: هما معاً.

ص: 360

[مسألة 10: يحرم بيع العنب أو التمر ليعمل خمراً، و الخشب مثلًا ليعمل صنماً]

مسألة 10: يحرم (1) بيع العنب أو التمر ليعمل خمراً، و الخشب مثلًا ليعمل صنماً، أو آلة للهو، أو القمار و نحو ذلك، إمّا بذكر صرفه في المحرّم و الالتزام به في العقد، أو تواطئهما على ذلك قوله: «يحرم».

على المعروف بينهم، من زمن المحقّق(1)، و لا أظنّ عنوان المسألة في الأقدم عليهم، فلا شهرة في المسألة.

و قضيّة الصناعة جواز البيع، و صحّته، و فساد الشرط، لما تحرّر من أنّه لا يسري إلى المشروط.

و توهّم أنّه إعانة على الإثم(2) فاسد جدّاً، لما تقرّر: أنّ عمل الخمر ليس محرّماً أوّلًا، فيمكن حينئذٍ الالتزام بصحّة الشرط أيضاً، في خصوص الخمر، لا في مثل آلات القمار.

و ثانياً: هذا أسوأ حالًا من الإعانة، و ليس منها عنواناً؛ لأنّ المعين هو: الذي يدخل في إثم المعان، بأن يكون بانياً على الحرام، فأعانه، و أمّا إعطاء شي ء به، مشروطاً صرفه في المحرّم ليس من الإعانة و إن كان أسوأ منه عقلًا، فلا وجه لحرمته التكليفيّة و لو كانت الغاية محرّمة.


1- مجمع الفائدة و البرهان 8: 50، مفتاح الكرامة 4: 37، جواهر الكلام 22: 30.
2- مجمع الفائدة و البرهان: 8 50، مفتاح الكرامة 4: 37/ السطر 16، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 16/ السطر 5.

ص: 361

نعم، دعوى استفادة العرف من حرمة الإعانة على الإثم، حرمة هذه الأُمور(1)، بمكان من الإمكان، فتأمّل، و لكنّه لا يورث فساد التجارة إلّا على بعض المباني الفاسدة.

و أمّا حرمته الوضعيّة فهي في ما نحن فيه، و هو بيع العنب بشرط الصرف في المحرّم، ممنوعة إلّا على القول بالسراية.

نعم، في خصوص الصليب، و الصنم يحرم ذلك للنصّ، و هو موثّق عمرو بن حريث(2)، و صحيح ابن أُذينة(3).

و أمّا إرجاع الشرط إلى القيد الداخل في مورد الإنشاء، فيكون المملوك ما لا يعدّ ملكاً للبائع عرفاً؛ لأنّ ملكيّة الأعيان ليست ذات حيثيّات و حصص حتّى يكون الخمر في الدار ملكاً غير ماليّة الخمر في البيت،


1- حاشية المكاسب، السيّد اليزدي: 10/ السطر 23.
2- عن عمرو بن حريث قال: سألت أبا عبد اللَّه( عليه السّلام) عن التوت أبيعه يصنع للصليب و الصنم؟ قال: لا. تهذيب الأحكام 6: 373/ 1084، وسائل الشيعة 17: 176، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 41، الحديث 2.
3- عن ابن أذينة قال: كتبت إلى أبي عبد اللَّه( عليه السّلام) أسأله عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه برابط؟ فقال: لا بأس به. و عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه صلباناً؟ قال: لا. الكافي 5: 226/ 2، وسائل الشيعة 17: 176، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 41، الحديث 1.

ص: 362

و لو بأن يقول المشتري لصاحب العنب مثلًا: بعني منّاً من العنب لأعمله خمراً (1)، فباعه. و كذا تحرم إجارة المساكن (2)، ليباع و يحرز فيها الخمر، أو ليعمل فيها بعض المحرّمات، و إجارة السفن، أو الحمولة لحمل الخمر و شبهها بأحد الوجهين المتقدّمين.

فهو خارج عن هذه المسألة المفروض فيها الالتزام بالمحرّم في العقد. هذا و المسألة بعد تحتاج إلى التدبّر و التأمّل.

قوله: «لأعمله خمراً».

لا يخفى إنّ هذه العبارة تورث اندراج المسألة في المبحث الآتي، و هو بيع العنب ممّن يعلم أنّه يعمله خمراً.

قوله: «تحرم إجارة».

وجه الحرمة التكليفيّة حرمة الإعانة على الإثم، و وجه الفساد ما مرّ في أصل المسألة، و قوله (عليه السّلام) في معتبرة جابر قال: سألت أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) عن الرجل يؤاجر بيته، فيباع فيه الخمر، قال: «حرام أجره»(1) و لعلّه يفيد الحرمة التكليفيّة المستلزمة عرفاً للفساد أيضاً، فلو أشكل إثبات الحكم التكليفي من تلك الجهة لا يشكل هنا، كما لا يخفى.


1- تهذيب الأحكام 6: 371/ 1077، وسائل الشيعة 17: 174 كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 39، الحديث 1.

ص: 363

و كلمة «فيباع» إمّا معناه حتّى يباع أو معناه التفريع، و بيان الصدفة من دون تعلّق الغرض به، فإن كان الأوّل فيحرم الأجر و تحرم الإجارة، و إن كان الثاني فالفرض الأوّل لازمه بالأولويّة العرفيّة، فيثبت الحكم قطعاً، فكونها مجملة في الاستعمال لا يورث سقوط الكشف القطعي الحاصل من التقديرين، فتأمّل.

هذا و لكنّ الإنصاف: إنّ كلمة «فاء» ظاهرة في الثاني، و تكون الرواية معارضة بصحيح ابن أُذينة، قال: كتبت إلى أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) سألت عن الرجل، يؤاجر سفينته و دابّته لمن يحمل فيها أو عليها الخمر و الخنازير، قال: «لا بأس»(1).

و قضيّة الجمع الالتزام بالكراهة الشديدة، أو معاملة التعارض، لإباء كلمة التحريم من الحمل على الكراهة، بعد إلغاء الخصوصيّة؛ و النتيجة هي الأخذ برواية ابن أُذينة، لتوافقها مع الكتاب، بعد سقوط الشهرة بين المتأخّرين عن المرجّحيّة و المميّزيّة، فلا تغفل.


1- الكافي 5: 227/ 6، وسائل الشيعة 17: 174، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 39، الحديث 2.

ص: 364

و كما يحرم البيع و الإجارة فيما ذكر يفسدان (1) أيضاً، فلا يحلّ له الثمن و الأُجرة.

قوله مدّ ظلّه: «يفسدان».

لما عرفت، و لأنّ الشرط المذكور يرجع إلى خلاف مقتضى ذات العقد؛ لأنّه في حكم حصر انتفاع المشتري من الوجه المحرّم، فكأنّه باعه بشرط عدم تملّكه؛ لأنّه بالنسبة إلى المنافع المحلّلة محروم حسب الشرط، و بالنسبة إلى المنفعة المحرّمة محروم حسب الشرع، و هذا يرجع إلى عدم اعتبار الملكيّة للمشتري لتقوّمها به إجمالًا.

هذا و الحقّ: أنّ الشرط المذكور لا يورث تقييد المبيع بالحصّة، و إلّا يلزم بطلان البيع؛ لأجل عدم اعتبار الملكيّة المتحصّصة بين المالك و العين، كما أُشير إليه، و فصّلناه في كتاب الإجارة(1)، و قلنا: أنّ المنافع تحصّص بالأزمنة، بخلاف الأعيان، فإنّها لا تحصّص بها، و لا بتلك القيود، فعليه هذا في حكم الالتزام في الالتزام المورث للخيار عند التخلّف، و حيث هو فاسد و لا يسري فساده إلى المشروط، يصحّ البيع و غيره من سائر المعاملات.

و إذا كان الحكم كذلك في هذه الفروض، فصحّة المعاوضات في الفروض الآتية بطريق أولى.

و التمسّك ب «تحف العقول» لا يخلو عن ذهول، بعد ما عرفت ما فيه من


1- كتاب الإجارة، للمؤلّف( قدّس سرّه)) مفقود).

ص: 365

و كذا بيع الخشب (1) لمن يعلم أنّه يجعله صليباً أو صنماً، بل و كذا بيع العنب، و التمر، و الخشب ممّن يعلم أنّه يجعلها خمراً، و آلة للقمار و للبرابط، و إجارة المساكن لمن يعلم أنّه يعمل فيها ما ذكر، أو يبيعها و أمثال ذلك، في وجه قويّ، و المسألة من جهة النصوص مشكلة جدّاً، و الظاهر أنّها معلّلة.

الشبهات، و اضطراب المتن و الفقرات(1).

قوله مدّ ظلّه: «و كذا بيع الخشب».

هذا هو مختاره، و لا موافق له في المسألة ظاهراً إلّا السيّد صاحب «الرياض»(2).

و الوجه فيه: أنّه بعد المراجعة إلى الرواية الناهية عن بيع الخشب لمن يعلم أنّه يجعله صلباناً(3)، و بعد المراجعة إلى الأخبار الواردة في أنّ الشرع الأنور يضادّ الخمر في جميع حلقات وجوده، حتّى نهى عن غرسها، و لعن رسول اللَّه كذا و كذا(4)؛ يعلم: أنّ الخمر مبغوض الوجود، و الإيجاد، و منهيّ كلّ ما يوصل إلى عمله، و محرّم ذلك كلّه.


1- تقدّم في الصفحة 292، الهامش 2.
2- رياض المسائل 1: 500/ السطر 16.
3- الكافي 5: 226/ 2، وسائل الشيعة 17: 176، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 41، الحديث 1.
4- وسائل الشيعة 17: 224، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 55، الحديث 3 5.

ص: 366

و لو وردت روايات ظاهرة في الترخيص(1)، فهي غير قابلة للتصديق، خصوصاً بعد لزوم تخصيص آية «تحريم المعاونة»(2)، و الالتزام بما لا يليق بشأن الأئمّة (عليهم السّلام)، من بيع عنبهم لمن يعمل خمراً، مع استنكار أواسط الناس عن ذلك، و تقبيح العقل مثله الآبي عن التقييد قطعاً، فما أفاده الأردبيلي(3)، و تبعه السيّد صاحب «الرياض»(4) في غاية المتانة.

و على هذا في جميع الصور يشكل الحكم، و يقرب القول بفساد المعاملات، و يحرم تكليفاً لحرمة الإعانة على الإثم.

هذا و الحقّ: أنّ المستفيضة المتضمّنة لنهي رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم)، و لعنه الخمر، و غارسها إلى عشرة طوائف(5)، غير داخلة في الأدلّة الناهضة على تحريم الشي ء؛ لأنّ لعنه لا يدلّ على أزيد من الكراهة الشديدة، مع


1- وسائل الشيعة 17: 229، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 59.
2- المائدة( 5): 2.
3- مجمع الفائدة و البرهان 8: 46 51.
4- رياض المسائل 1: 500/ السطر 32.
5- عن جابر، عن أبي جعفر( عليه السّلام) قال: لعن رسول اللَّه( صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم( في الخمر عشرة: غارسها و حارسها و عاصرها و شاربها و ساقيها و حاملها و المحمولة إليه و بائعها و مشتريها و آكل ثمنها. الكافي 6: 429/ 4، وسائل الشيعة 17: 224، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 55، الحديث 4.

ص: 367

عدم إمكان الالتزام بجميع المدلول، و خصوصاً بعد معارضته بما يدلّ على جواز ذلك، كما عرفت في صحيحة ابن أُذينة(1).

و حديث حرمة المعاونة على الإثم لا يشمل جميع المعدّات المطلقة، و الأسباب الناقصة الدخيلة، بل هي تختصّ بطائفة خاصّة و هي التي وقع في تتميم الإثم الذي أراد الآثم إتيانه.

و أمّا إعطاء الشراب مع اشتراط الشرب ليس عرفاً من المعاونة، و مجرّد كونها أسوأ حالًا لا يكفي؛ لأنّه ممّا لا يفتى به، كما في مثل ظهور الرجال عراة عند النساء، فتدبّر.

فعليه لا وجه لصرف النظر عن النصوص الصحيحة الصريحة، في جواز بيع العنب لمن يعلم أنّه يصنعها خمراً(2)، و جواز بيع الخشب لمن يصنعه برابط(3).

بل، لنا قلب الدليل، و جعل هذه الروايات قرينة قطعيّة على أنّ المسألة ليست على ما يظهر من تلك المآثير، فلا تغفل و لا تخلط.


1- تقدّم في الصفحة 361.
2- وسائل الشيعة 17: 229، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 59.
3- الكافي 5: 226/ 2، وسائل الشيعة 17: 176، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 41، الحديث 1.

ص: 368

[مسألة 11: يحرم بيع السلاح من أعداء الدين]

مسألة 11: يحرم (1) بيع السلاح من أعداء الدين حال مقاتلتهم مع المسلمين، بل حال مباينتهم معهم؛ بحيث يخاف منهم عليهم، و أمّا في حال الهدنة معهم، أو زمان وقوع الحرب بين أنفسهم، و مقاتلة بعضهم مع بعض، فلا بدّ في بيعه من مراعاة مصالح الإسلام و المسلمين، و مقتضيات اليوم، قوله: «يحرم».

بالضرورة، و الحكم في بعض الفروض قطعي، و لا يحتاج إلى الدليل.

و الذي هو المقصود في هذه المسألة، دعوى فساد هذه المعاملة، و حرمتها التكليفيّة و إن لا ينطبق عليها العناوين و القواعد الكلّيّة، بداهة أنّ نظر العقل في هذه المسألة معلوم، بخلافه في سائر المواضيع، فله تجويز بيع العنب ليعمل خمراً، دون تجويز بيع السلاح حال الهدنة، مع احتمال استعمالها في الحرب علينا؛ لاختلاف الموضوعات بعد التأمّل حولها.

فما ورد من المطلقات الناهية عن بيع السلاح(1)، ربّما يكون ناظراً إلى دفع مادّة الفساد.

و مجرّد القطع بعدم ترتّب الحرب عليها لا يورث جوازه؛ لعدم الملازمة بين القطع و الواقع، فإنّه كثيراً ما يتخلّف عن الواقع، فما أشار


1- وسائل الشيعة 17: 102، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 8، الحديث 4 6 7.

ص: 369

و الأمر فيه موكول إلى نظر والي المسلمين (1)، و ليس لغيره الاستبداد بذلك.

إليه الشهيد، بل أفتى به من ممنوعيّة بيع السلاح منهم(1)، غير بعيد، خصوصاً بعد ما أفاد من ترتّب التقوية قهراً عليه؛ ضرورة أنّ المسلمين إذا وقفوا على أهمّية مواقفهم الحربيّة، يخافون منهم، و ذلك يؤدّي إلى وقوع الفساد في حومتهم، و إلى مفاسد أُخر و التي لا بدّ من مراعاتها.

و ما ورد من تجويز ذلك حال الهدنة(2) أو مطلقاً(3)، محمول بالضرورة على صور مخصوصة، مع مراعاة الجهات الكثيرة.

و المراد من السلاح هو سلاح كلّ عصر، و المقصود من أعداء الدين أعمّ من الهاجمين على المملكة الإسلامية و إن لم يكونوا كذلك.

قوله مدّ ظلّه: «والي المسلمين».

و المتصدّي لحفظ مصالحهم و لو كان من الجائرين، إذا كان التصدّي بإذن المجتهد العادل.

فبالجملة: ملاحظة المصالح قد تؤدّي إلى تجويز حمل السلاح إلى بلاد الكفر، لعدم ترتّب الفساد عليه، و مقتضى العمومات حليّته


1- مفتاح الكرامة 4: 35/ السطر 2.
2- وسائل الشيعة 17: 101، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 8، الحديث 1.
3- وسائل الشيعة 17: 103، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 8، الحديث 5.

ص: 370

و صحّته، و قد تؤدّي إلى المنع عنه، و مفاد المآثير يدور حول ذلك(1).

و العجب من الشيخ الأعظم حيث قال بعدم دلالة النواهي في هذه المسألة على الفساد(2).

و أنت خبير بأنّ الحمل المنهيّ عنه في المآثير، و إن كان أعمّ من البيع، و لكنّه يورث فساد جميع أنحاء الحمل المعاوضي، لمعلوميّته من تلك المآثير، بل في رواية السرّاد، عن الصادق (عليه السّلام)، أو رجل عنه، قال: قلت له: إنّي أبيع السلاح، قال: فقال: «لا تبعه في فتنة»(3)؛ ما يورث الفساد على القاعدة كما ترى.

و مثله رواية الصدوق، في وصيّة النبيّ (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (لعليّ (عليه السّلام)(4).

و ممّا ذكرنا يظهر الوجه في سائر الفروع المذكورة في المسألة.

و لو قيل: العدول عن مقتضى الأخبار، بحكم العقل غير جائز؛ لأنّ هذه


1- وسائل الشيعة 17: 101، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 8.
2- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 20/ السطر 4.
3- الكافي 5: 113/ 4، وسائل الشيعة 17: 102، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 8، الحديث 4.
4- الفقيه 4: 257/ 821، وسائل الشيعة 17: 103، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 8، الحديث 7.

ص: 371

الأُمور ممّا لا يدرك جميع المصالح الممكنة في أطرافها، فلا بدّ من المراجعة إلى المطلقات، و هي جواز بيع السلاح من المشركين، و الكفّار، و أهل الحرب، و أعداء الدين إلّا في صورة واحدة، و هي حال قيام الفتنة و الحرب؛ للنصّ كصحيحة الحضرميّ(1)، أو صورة أُخرى، و هي حال الهدنة مع العلم بقيام الحرب بها؛ لقوله (عليه السّلام) ذيل الصحيحة المشار إليها «فمن حمل إلى عدوّنا سلاحاً يستعينون به علينا، فهو مشرك»(2).

قلنا: هذه الأحكام من الضروريّات الأوّليّة، و لا يعقل التجاوز عنها بإطلاق رواية و لو كانت صحيحة، و تحتاج المسألة إلى غور آخر حولها، و لقد تعرّضنا لحدودها في كتابنا الكبير(3)، و لا يخفى أنّ عناوين المشركين، و أهل الحرب، و أعداء الدين مختلفة الصدق، و لكنّ المقصود معلوم.


1- عن أبي بكر الحضرمي قال: دخلنا على أبي عبد اللَّه( عليه السّلام) فقال له حكم السراج ما تقول فيمن يحمل إلى الشام السروج و أداتها؟ فقال: لا بأس أنتم اليوم بمنزلة أصحاب رسول اللَّه( صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم)، إنّكم في هدنة، فإذا كانت المباينة حرم عليكم أن تحملوا إليهم السروج و السلاح. الكافي 5: 112/ 1. وسائل الشيعة 17: 101، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 8، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 17: 101، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 8، الحديث 2.
3- مباحث المكاسب المحرّمة من تحريرات في الفقه) مفقودة).

ص: 372

و يلحق بالكفّار من يعادي الفرقة الحقّة، من سائر (1) الفرق المسلمة، و لا يبعد (2) التعدّي إلى قطّاع الطريق و أشباههم، قوله مدّ ظلّه: «من سائر».

على المعروف بينهم، و هو قضيّة معتبرة الحضرميّ صريحاً، و رواية السرّاج، و إطلاق الفتنة، بل القدر المتيقّن منه ذلك كما قيل(1)، و هذا مع قطع النظر عن المصالح المعلومة أحياناً، فإنّه عند ذلك لا بدّ من متابعتها.

قوله مدّ ظلّه: «و لا يبعد».

بمقتضى إطلاق بعض الأخبار المشار إليها، و قد يشكل: أنّ إطلاقها غير ثابت، و مقتضى القواعد صحّته إلّا إذا كان من قصده ذلك، فيندرج في المسائل السابقة، و حيث أنّ سند رواية السرّاد أو السرّاج غير منقّح، لا يتمّ الاستدلال بها في خصوص مسألتنا.

و توهّم ممنوعيّة ذلك لأدائه إلى قتل المؤمن، ناشئ من الجهل بالمسألة، كما لا يخفى.

و بالجملة: هذه المسألة خارجة عن كبرى كلّيّة منقّحة، في المكاسب المحرّمة، و هي: ممنوعيّة بيع السلاح لأعداء الدين، بل في نفسي أنّ هذه الكبرى تندرج حسب الأخبار في مسألة بيع العنب لمن يصنعه خمراً و يشربه، و تكون من جهة الحرمة مثل بيع الخشب لمن


1- الحدائق الناضرة 18: 208.

ص: 373

بل لا يبعد (1) التعدّي من بيع السلاح إلى بيع غيره ممّا يكون سبباً لتقويتهم على أهل الحقّ، كالزاد، و الراحلة، و الحمولة و نحوها.

يجعله صنماً و صلباناً، نعم، حسب القواعد العقليّة عرفت تفصيلها.

قوله مدّ ظلّه: «بل لا يبعد».

لحكم العقل، و من المحتمل جوازها لإطلاق معتبرة عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى (عليه السّلام) قال: سألته عن حمل المسلمين إلى المشركين التجارة، قال: «إذا لم يحملوا سلاحاً فلا بأس»(1) فإنّ مقتضى الإطلاقين، منطوقاً و مفهوماً، ممنوعيّة حمل السلاح لأنّه لا يستفاد منه إلّا في الحرب الباطل، و جواز غيره لأنّه لا ينتفع به على المسلمين في الحرب.

و تقوية المحارب لو كانت ممنوعة، لما كان وجه لما حكي من صنع بعض المعصومين (عليهم السّلام)، من عدم منع الماء على الأعداء(2) فتدبّر.

و قد يتوهّم اختصاص المنع المطلق بالمشركين، لأنّ دليل التقييد موضوعه المسلمين و أهل الشام، و لا يخفى وهنه و فساده، كما أشرنا إليه آنفاً.


1- مسائل علي بن جعفر: 176/ 320، وسائل الشيعة 17: 103، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 8، الحديث 6.
2- وقعة صفّين: 162، تاريخ الطبري 6: 572، الكامل في التاريخ 3: 285.

ص: 374

[مسألة 12: يحرم تصوير ذوات الأرواح من الإنسان، و الحيوان إذا كانت الصورة مجسّمة]

مسألة 12: يحرم (1) تصوير ذوات الأرواح من الإنسان، و الحيوان إذا كانت الصورة مجسّمة كالمعمولة من الأحجار، و الفلزّات، و الأخشاب و نحوها.

قوله مدّ ظلّه: «يحرم».

بالاتفاق، و عليه الإجماعات المنقولة(1)، بل و المحصّلة، و لا خلاف في الصورة الأُولى، و هي تجسيم ذوات الأرواح، و هي القدر المتيقّن من معاقدها، و تلك المطلقات و النصوص الواردة في المسألة أو المهملات(2) و إلى زماننا لا مخالف لها، إلّا أنّ المحتمل ممنوعيّتها في عصر اتّخاذها أوثاناً من دون اللَّه تبارك و تعالى، و القرينة المقاميّة كالكلاميّة في المانعيّة عن انعقاد الإطلاق، و كما يصحّ أن يتّكل المتكلّم بها يصحّ بذاك أيضاً بالضرورة، فربّما تكون الروايات في المسألة ناظرة إلى تلك المسألة.

هذا و مناسبة الحكم و الموضوع لا تقتضي في المقام إلّا الكراهة، و لعلّه يشير إلى هذه الجهة ما ورد من الأخبار المشتملة على الأمر بتوهين الصور، و جعلها في الظهر، و الخلف، و التحت، و وطئها(3)، و أنّ


1- مجمع الفائدة و البرهان 8: 54، مفتاح الكرامة 4: 48/ السطر 16، جواهر الكلام 22: 41.
2- لاحظ وسائل الشيعة 5: 303، كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن، الباب 3 و 17: 295، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 94.
3- وسائل الشيعة 4: 436، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي، الباب 45، و 5: 170، كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلّي، الباب 32، و 5: 308، كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن، الباب 4.

ص: 375

الأعاجم يعظّمونها، و إنّا لنمتهنها(1)، و نحقّرها، و نهينها، و الأخبار الكثيرة الزاجرة عن جعلها في القبلة(2)، و في اللباس الذي يصلّى فيه(3)، و هكذا ممّا يكون وجهه إلى ما كان عليه آبائهم، من العبادة، و من بقايا حبّهم لها، و ميلهم إليها.

و لو صحّ الأخذ بالمطلقات في المسألة- كما يأتي يلزم تخصيص الأكثر.

و ما ورد من تكليفهم بالنفخ في عدّة روايات(4)، يستلزم عود الأجسام في المعاد، مع إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ(5) و لذلك جلّ أخبار الباب، و كلّ الروايات المتضمّنة لهذه الجملة، غير نقيّ السند.

و لا تكفي مرسلة ابن أبي عمير(6)، مع الإشكال في حجّيّتها، لإثبات هذا


1- الكافي 6: 477/ 7، وسائل الشيعة 5: 308، كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن، الباب 4، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 5: 170، كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلّي، الباب 32.
3- وسائل الشيعة 4: 436، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي، الباب 45.
4- وسائل الشيعة 17: 297، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 94، الحديث 6 9.
5- العنكبوت) 29): 64.
6- الكافي 6: 527/ 4، وسائل الشيعة 5: 304، كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن، الباب 3، الحديث 2.

ص: 376

الرأي، مع أنّها غير مشتملة على كلمة «العذاب» و مجرّد التكليف أعمّ من الحرمة المقصودة، كما لا يخفى.

و لنعم ما أفاد الوالد المحقّق- مدّ ظلّه في ابتداء المسألة، من أنّ ظاهر طائفة من الأخبار بمناسبة الحكم و الموضوع، أنّ المراد «بالتماثيل و الصور» فيها هي: تماثيل الأصنام التي كانت مورد العبادة؛ لأنّها مشتملة على التشديدات التي لا تناسب مطلق عمل المجسّمة، أو تنقيش الصور، لأعظميّة الكبائر منها، و هي ليست من الكبائر رأساً(1).

و لكنّه بعد ذلك التزم بحرمة عمل التجسيم على الإطلاق(2)، فكأنّه آخذ بأنّ هذه الأُمور لا تضرّ بالإطلاقات، و هو غير جيّد.

و سيأتي: أنّ الأمر يدور بين أمرين، إمّا جواز عمل التصوير حتّى التجسيم، و إمّا حرمته حتّى النقش، و حرمة اقتنائه؛ ضرورة أنّ التمثال و الصور حسب الاستعمال و اللغة، أعمّ من المجسّمات، و التقييد المستهجن ممنوع؛ فيكون القدر المتيقّن منها، ما صنع للعبادة، أو لحفظ الآثار و العتائق إشعاراً ب «شعائريّة» هذه الأُمور في السلف الفاجر.


1- المكاسب المحرّمة، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 1: 257.
2- المكاسب المحرّمة، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 1: 260.

ص: 377

و الأقوى جوازه (1) مع عدم التجسيم، و إن كان الأحوط تركه.

و أمّا غير ذلك ممّا يرجع إلى ذوق الإنسان، و حسن فكرته، و ظهور قدرته، فلا دليل قطعي على ممنوعيّته.

و ممّا يشهد على جواز التجسيم هو ما يدلّ على جواز الاقتناء(1)، فإنّ التفكيك غير مساعد لفهم العرف قطعاً، كما سيأتي.

قوله مدّ ظلّه: «جوازه».

و هو الظاهر من متون الأصحاب، حيث قالوا بعد العنوان «كعمل الصور المجسّمة»(2) و سكتوا عن النقوش، و ليس سكوتهم نسياناً، بل هم لا يقولون بحرمة أزيد من الفرض الأوّل، و إليه ذهب «الجواهر» بل يستظهر منه أنّ الشهرة على خلاف التحريم(3).

و قد اختار جمع حرمته(4)، و الدليل الوحيد هي الروايات الخاصّة، بعد دعوى قصور العمومات عن شمولها، مثل قوله (عليه السّلام): «من صوّر صورة»(5) أو «من مثّل مثالًا»(6) لأنّ موضوعهما الأخصّ، أو هو المنصرف


1- وسائل الشيعة 5: 170، كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلّي، الباب 32.
2- شرائع الإسلام 2: 4، قواعد الأحكام 1: 120/ السطر 24، كفاية الأحكام: 85/ السطر 20.
3- جواهر الكلام 22: 42.
4- المهذّب 1: 344، السرائر 2: 215، الحدائق الناضرة 18: 100.
5- وسائل الشيعة 17: 297، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 94، الحديث 6 7.
6- وسائل الشيعة 5: 306، كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن، الباب 3، الحديث 10.

ص: 378

إليه، أو يكون ذيل هذه الروايات، مثل قوله (عليه السّلام) «كلّف أن ينفخ فيها و ليس بنافخ»(1) قرينة على الأخصّ، و لا أقلّ من صلاحيّتها للاقتران، و قد تقرّر عدم جواز التمسّك في هذه المواقف(2).

و من تلك الروايات صحيحة ابن مسلم الثقفيّ (رحمه اللَّه (قال: سألت أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) عن تماثيل الشجر، و الشمس، و القمر، فقال: «لا بأس ما لم يكن شيئاً من الحيوان»(3) و هي أظهر ما في الباب، مع وضوح قصورها؛ لعدم معلوميّة وجه السؤال أوّلًا، فمن المحتمل أن يكون المقصود الصلاة عليها، كما في روايات(4)، أو اللعب بها، أو غيرهما؛ و لأنّ كلمة «البأس» بمعنى العذاب، و هي الظاهرة في الحرمة بخلاف كلمة «لا بأس» فإنّه على ما في «أقرب الموارد»(5) يناسب الكراهة، و المفهوم المستفاد من هذه الرواية لا يفيد حينئذٍ شيئاً لتبعيّته للمنطوق قهراً. و من هنا يعلم الوجه


1- وسائل الشيعة 17: 297، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 94، الحديث 6 و 7 و 9.
2- تقدّم في الصفحة 134 136.
3- المحاسن: 619/ 54، وسائل الشيعة 17: 296، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 94، الحديث 3.
4- وسائل الشيعة 4: 436، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي، الباب 45.
5- أقرب الموارد: 28.

ص: 379

في النواهي المتعلّقة بها مع مجهوليّة الوجه.

و دعوى الأخذ بالإطلاق، و الخروج عنه بالدليل، غير مسموعة في هذه المواقف، و لا سيّما بعد لزوم كونه على الكراهة في أكثر منافعها، بل كلّها إلّا إيجادها فلا تغفل.

و ممّا ذكرنا يظهر الوجه في فساد التمسّك(1) بروايات الحسين بن زيد(2)، و أبي بصير(3)، و جرّاح المدائنيّ(4)، و عبد اللَّه بن طلحة(5)، فإنّها كلّها ضعيفة، بل في دلالة بعضها نظر واضح.

و توهّم دلالة موثّقة أبي العبّاس، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) في قول اللَّه عزّ و جلّ يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ(6) فقال: «و اللَّه ما هي


1- انظر الحدائق الناضرة 18: 99، المكاسب المحرّمة، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 1: 264.
2- الفقيه 4: 3/ 1، وسائل الشيعة 17: 297، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 94، الحديث 6.
3- الكافي 6: 526/ 1، وسائل الشيعة 5: 303، كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن، الباب 3، الحديث 1.
4- تهذيب الأحكام 1: 461/ 1505، وسائل الشيعة 5: 306، كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن، الباب 3، الحديث 9.
5- مستدرك الوسائل 13: 210، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 75، الحديث 2.
6- سبأ) 34): 13.

ص: 380

و يجوز تصوير (1) غير ذوات الأرواح كالأشجار، و الأوراد و نحوها و لو مع التجسيم، تماثيل الرجال و النساء، و لكنّها الشجر و شبهه»(1) على محرميّة النقش(2)؛ غير تامّ؛ لما في السند إشكال، لاشتراك أبي العبّاس، و لأنّ من المحتمل كونها زاجرة عن النسبة الباطلة إلى النبي (عليه السّلام)، و هو سليمان من غير النظر إلى حكم المنسوب، من الكراهة و الحرمة، كما في نسبة الولد إلى الحقّ تعالى.

قوله مدّ ظلّه: «و يجوز تصوير».

بالاتفاق على ما يستظهر، خلافاً لجماعة ممّن لا يضرّ خلافهم.

و لعمري إنّ المسألة من حيث الروايات واضحة، اللّهمّ إلّا أن يقال بإطلاقات الأخبار العامّة(3)، و عدم دلالة الروايات الخاصّة(4) على جواز الإيجاد، فإنّ الوجود غير مبغوض، بخلاف الإيجاد، و ما عرفت من


1- الكافي 6: 527/ 7، وسائل الشيعة 17: 295، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 94، الحديث 1.
2- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 23/ السطر 21.
3- وسائل الشيعة 5: 303، كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن، الباب 3.
4- وسائل الشيعة 17: 295، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 94، الحديث 1 3.

ص: 381

الروايات المشار إليها في المسألة الثانية(1)، غير ناهض لتحريم النقش، و لا لتجويز تجسيم غير ذوات الأرواح، و تصويرها.

و قضيّة ذيل المآثير السابقة، و مقتضى التشبّه بالخالق، في ترسيم الأشجار، و بعض الأحجار؛ ممنوعية الكلّ.

و قصّة النفخ ليست ظاهرة إلّا في الكناية عن تعذيب العامل، و أنّه تعالى كان إذا صنع هذه الأُمور يقدر على أن ينفخ فيها فانفخ فيها، لو كنت تزعم الأُلوهيّة، أو تدخل في حومتها.

و لك القول بممنوعيّة الأشجار، دون غيرها؛ لأنّها ذوات الأرواح، خصوصاً على رأي بعض المحقّقين.

كما لك اختيار اختصاص الحكم بالحيوان، دون الإنسان و الملك و الجنّ؛ لانصرافه عنهم، كما في لباس المصلّي، و أعميّة كلمة «ذوات الأرواح» منه مخصّص به، فتأمّل.

فبالجملة: ليس كلّ ما يمكن أن يقال مورد الفتوى، و قد عرفت: أنّ المسألة من رأسها محلّ إشكال إلّا في صورة واحدة، و هي ما لو عمل الصور للعبادة، كما كانوا يصنعون ذلك، فتدبّر.

و في تلك الصورة يحرم عملها مطلقاً، و لا يجوز اقتناؤها، و يجب كسرها؛


1- تقدّم في الصفحة 378.

ص: 382

و لا فرق (1) بين أنحاء التصوير من النقش، و التخطيط، و التطريز، و الحكّ و غير ذلك، و يجوز العكس المتداول في زماننا بالآلات المتداولة، بل الظاهر أنّه ليس من التصوير.

لاقتضاء الأدلّة السابقة في مشابهها بالقطع.

و في المسألة احتمال آخر و هو حرمة عمل صورة الإنسان، دون سائر الحيوانات؛ لأنّها ليست ذوات الأرواح، و هو قضية رواية «تحف العقول» حيث قال في الصناعات المحلّلة: «و صنعة صنوف التصاوير ما لم يكن مثل الروحاني»(1) فإنّها تقيّد إطلاقات الأدلّة المانعة بالمفهوم.

قوله مدّ ظلّه: «و لا فرق».

لعدم الدليل بعد شمول الأدلّة إيّاها، نعم في العكس المتعارف في هذه الأزمنة، يشكل الحكم تارة: من أجل صدق التصوير، بدعوى أنّه انعكاس الأنوار النقرويّة على الصفحة السوداء، و في العمل الثاني يظهر ما وقع على تلك الصفحة، فالقوّة في الانعكاس انفعاليّة، كما في انفعال النفس من الصور الخارجيّة مثلًا، و التصوير فعل النفس، فلا يصدق عليه، كما صرّح به الفقيه الأصفهانيّ رحمه اللَّه تعالى(2) أيضاً.

و أُخرى: من أجل انصراف الأدلّة عن مثل العمل الإبداعي، كما في


1- تقدّم في الصفحة 292، الهامش 2.
2- وسيلة النجاة 2: 3، المسألة 12.

ص: 383

و كما يحرم عمل التصوير من ذوات الأرواح مجسمة، يحرم التكسّب (1) به، و أخذ الأُجرة عليه، هذا كلّه في عمل الصور. و أمّا بيعها، و اقتناؤها و استعمالها، و النظر إليها، فالأقوى جواز ذلك (2) كلّه حتّى المجسّمات.

المجسّمة الصادرة عن المكائن الحديثة، فتدبّر.

قوله مدّ ظلّه: «يحرم التكسّب».

بلا إشكال للنبويّ المذكور «إنّ اللَّه إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه»(1) و أنت خبير بقصوره عن إثبات الحرمة التكليفيّة لعنوان الكسب، فصيرورته أجيراً للعمل المذكور، أو بيعه ما صنعه، ليس من المحرّمات، نعم، يحرم ثمنه تكليفاً، و وضعاً على ما عرفت.

و ربّما يقال بالترتّب في الأحكام الوضعيّة، و تصويره يطلب من كتبنا الأُصوليّة(2).

قوله مدّ ظلّه: «جواز ذلك».

و هو المشهور، و قد حكي(3) عن الأردبيليّ تحريم الاقتناء(4)؛ لأنّ العرف يجد لملازمة بين الوجود و الإيجاد، في المحبوبيّة و المبغوضيّة، فما كان


1- تقدّم في الصفحة 293، الهامش 3.
2- تحريرات في الأُصول 2: 108 و مابعدها.
3- جواهر الكلام 22: 44.
4- مجمع الفائدة و البرهان 8: 56.

ص: 384

منها محرّماً إيجاده مبغوض وجوده، بل مبغوضيّة الوجود باعثة إلى النهي عن الإيجاد، و ما كان منها جائزاً وجوده جائز إيجاده، و مجرّد إمكان التفصيل غير كافٍ.

نعم، لا بدّ من القرائن الصريحة، فإنّ الالتزام بحرمة عمل التصوير على الشمعة الزائلة فوراً، في غاية البعد، فما دام لم يكن الإيجاد متعقّباً بالوجود الباقي عرفاً، لا يكون محرّماً.

و قد يقال بوجود القرائن القطعيّة على التفصيل المذكور(1)، و لكنّها غير تامّة.

و ممّا ذكرناه يظهر: أنّ الإيجاد في التماثيل و الصور حتّى المجسّمة، غير ممنوع، ممّا اتفقت الأخبار المذكورة في كتاب الصلاة على جواز الاقتناء(2) بالضرورة؛ فيعلم أنّ ما هو المنهي في المآثير الزاجرة، يختصّ بما هو المبغوض بقاءً، و هي الصور المصنوعة للاحترام و العبادة، و حفظاً للآثار القديمة، و التفصيل يطلب من كتابنا الكبير(3).


1- المكاسب المحرّمة، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 1: 286.
2- وسائل الشيعة 4: 436، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي، الباب 45.
3- مباحث المكاسب المحرّمة للمؤلّف الشهيد( قدّس سرّه)) مفقودة).

ص: 385

نعم، يكره (1) اقتناؤها و إمساكها في البيت.

قوله مدّ ظلّه: «يكره».

للنصوص الكثيرة(1)، و ربّما يمكن دعوى استحباب كسرها، للأمر به في النصوص(2)، و تزول الكراهة بالتوهين، و التفريش، و الوطي بمقتضى بعض الروايات(3)، بل الظاهر استحباب هتكها في جميع الأماكن، و السرّ في ذلك كلّه هو: أنّ هذه النقوش و المجسّمات تشابه ما كانوا يعبدونه، و اللَّه العالم.


1- وسائل الشيعة 5: 303، كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن، الباب 3.
2- وسائل الشيعة 4: 441، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي، الباب 45، الحديث 18 20 21، و 5: 171، كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلّي، الباب 32، الحديث 5 10 12.
3- وسائل الشيعة 17: 296، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 94، الحديث 4.

ص: 386

[مسألة 13: الغناء حرام فعله]

مسألة 13: الغناء حرام فعله، (1) قوله مدّ ظلّه: «فعله».

إجماعاً و اتفاقاً، و لا مخالف في حرمته إجمالًا، و ما نسب إلى العلمين السبزواريّ(1) و الكاشانيّ(2)، و تبعهما النراقيّ(3)، لا يستلزم إشكالًا، بعد ظهور جملاتهم في التزامهم بالحرمة في المجلس الخاصّ.

و يدلّ على أصل الحكم آيات(4)، و روايات وردت في ذيلها(5)، و طوائف اخرى منها وردت مستقلّة(6)، و لا شبهة في ذلك قطعاً.

إنّما البحث في إطلاق الحكم، و ما يمكن أن يكون سنداً له قوله تعالى فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ(7) و قد فسّر الثاني بالغناء(8).

و قوله تعالى:


1- كفاية الأحكام: 86/ السطر 19.
2- الوافي 3: 35/ السطر 8.
3- مستند الشيعة 2: 343/ السطر 10.
4- الحجّ) 22): 30، الفرقان) 25): 72، لقمان) 31): 6.
5- وسائل الشيعة 17: 303، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 99.
6- نفس المصدر.
7- الحجّ) 22): 30.
8- وسائل الشيعة 17: 303، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 99، الحديث 2 8 9 20 26.

ص: 387

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ(1).

و قوله تعالى وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ(2) فإنّ الغناء على ما في روايات من لهو الحديث(3)، و الزور هو الغناء.

و يشكل: أوّلًا: بأنّ ماهيّة الغناء ليست قول الزور، فهو من مصاديقه باعتبار اشتماله على الزور الذي هو الباطل، فما هو الواجب اجتنابه ما لا يمكن الالتزام به، و هو مطلق الباطل.

و ثانياً: بأنّه من الكبائر و لا يلتزم به الفقيه.

و ثالثاً: بعدم دلالته على الحرمة، خصوصاً حرمة الفعل.

هذا مع أنّ الروايات الواردة في ذيل الآيات، بل و غيرها بكثرتها البالغة حدّ التواتر اللغوي، غير نقيّة السند إلّا ما شذّ منها.

و الذي يظهر لي: أنّ الغناء بمفهومه الوسيع ممّا لا دليل على حرمته، و ما هو المحرّم نوع منه، و قد تعرّضنا للمسألة في كتابنا الكبير(4)، و هذا غير ما صدر عن السابقين، فإنّي أقول بحرمته و لو لم يكن معه المحرّمات


1- لقمان) 31): 6.
2- الفرقان) 25): 72.
3- وسائل الشيعة 17: 304، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 99، الحديث 6 7 11 16 20 25.
4- مباحث المكاسب المحرّمة من تحريرات في الفقه) مفقودة).

ص: 388

الأُخر، و لكنّه لا بدّ من أن يكون مجلس فيه الغناء، و معدّاً للّهو و الباطل.

و يشهد له، مضافاً إلى قصور الأدلّة عن إثبات حرمة مطلق الغناء، و احتمال كون المآثير ناظرة إلى المجالس المتعارفة في عصر الأخبار و الأحاديث، ما في اللغة: بأنّ الغناء مجلس التغنّي، و ما في جملة من الروايات، كرواية ابن أبي عمير، عن مهران بن محمّد، عن الحسن بن هارون، قال: سمعت أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) يقول: «الغناء مجلس لا ينظر اللَّه إلى أهله، و هو ممّا قال اللَّه عزّ و جلّ وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ(1)»(2) و هذه الرواية لها الحكومة على المطلقات المفروضة.

و صحيحة زيد الشحّام قال: قال أبو عبد اللَّه (عليه السّلام): «بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة»(3) الحديث.

و رواية ابن محمّد المدنيّ، عمّن ذكره، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: سئل عن الغناء و أنا حاضر، فقال: «لا تدخلوا بيوتاً اللَّه معرضٌ عن أهلها»(4) و رواية


1- لقمان) 31): 6.
2- الكافي 6: 433/ 16، وسائل الشيعة 17: 307، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 99، الحديث 16.
3- الكافي 6: 433/ 15، وسائل الشيعة 17: 303، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 99، الحديث 1.
4- الكافي 6: 434/ 18، وسائل الشيعة 17: 306، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 99، الحديث 12.

ص: 389

عليّ بن جعفر في كتابه، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السّلام (قال: سألته عن الرجل يتعمّد الغناء يجلس إليه، قال: «لا»(1) و غيرها.

فبالجملة: بعد التدبّر في المسألة يشكل حكمه، و عندي: أنّ حكم الغناء أصعب من موضوعه و ما ترى من إرسال حرمته من غير التدبّر في السند، من القصور في الاجتهاد ضرورة أنّ ما أوعد اللَّه عليه النار(2) كيف يرخّصه في الأعراس؟! و هل هذا إلّا الاستثناء المستهجن؟! و ممّا يشهد على ما ذكرناه، بل يدلّ عليه، صحيحة أبي بصير قال: قال أبو عبد اللَّه (عليه السّلام): «أجر المغنّية التي تزفّ العرائس ليس به بأس، و ليست بالتي تدخل عليها الرجال»(3).

و رواية ابن جعفر، عن أخيه (عليه السّلام) قال: سألته عن الغناء، هل يصلح في الفطر و الأضحى و الفرح؟ قال: «لا بأس به ما لم يعص به»(4)


1- مسائل علي بن جعفر 148/ 186، وسائل الشيعة 17: 312، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 99، الحديث 32.
2- الكافي 6: 431/ 4، وسائل الشيعة 17: 304، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 99، الحديث 6.
3- الكافي 5: 120/ 3، وسائل الشيعة 17: 121، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 15، الحديث 3.
4- قرب الإسناد: 294/ 1158، وسائل الشيعة 17: 122، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 15، الحديث 5.

ص: 390

و غيرها(1).

فإنّ هذه الروايات كالنصّ في نفي الحرمة عن بعض الأغاني.

و ما ورد في المغنّيات و المغنّي(2)، لا يدلّ على حرمة الغناء مرّة واحدة؛ لأنّ الموضوع أخصّ، بل فيه إشعار باختصاص الحرمة ببعض الفروض، و يشهد للاختصاص مرسلة الصدوق (رحمه اللَّه (قال: سأل رجل عليّ بن الحسين (عليه السّلام) عن شراء جارية لها صوت، فقال: «ما عليك لو اشتريتها فذكّرتك الجنّة»(3) و في الأحاديث ما يساعد هذه المقالة كثير.

و الجمع بين الأخبار في نهاية الإشكال، بل قضيّة ما تحرّر منّا في محلّه، حمل المطلق على المقيّد في المتوافقين أيضاً، لامتناع تعلّق الإرادة الجدّيّة بهما؛ لأنّ المقيّد هو المطلق مع القيد. و يشترط في حصول الإرادتين الجدّيّتين على العنوانين من كونهما متباينين، أو عموماً من وجه، فإنّهما في عالم التشريع متباينان، و تصادقهما خارج من محيط التقنين(4).


1- وسائل الشيعة 17: 120، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 15، الحديث 1 و 2.
2- وسائل الشيعة 17: 122، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 16.
3- الفقيه 4: 42/ 139، وسائل الشيعة 17: 122، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 16، الحديث 2.
4- تحريرات في الأُصول 5: 492.

ص: 391

و قد يقال: بأنّ الأخبار تجمعها نكتة اخرى و هي: أنّ الغناء بحسب المفهوم اللغوي عامّ، و هو ليس موضوعاً في الأدلّة، بل الموضوع الصوت المطرب الذي يأتي تفصيله(1)، و هو المعنى الأخصّ العرفي، و لكنّه غير تامّ، ضرورة أنّه يستلزم القول بانصراف الأدلّة إلى الحصّة الخاصّة، أو الحقيقة الثانويّة، كما قيل في لفظة «الحيوان» و هذا غير صحيح، مع أنّه به لا يجمع بين شتات المآثير، كما لا يخفى.

فما ذهب إليه الجماعة من اختصاص الحرمة بالاقتران بالمعاصي(2)، غير تامّ؛ لعدم تماميّة سنده، و ما ادّعي عليه الإجماع بقسميه في «الجواهر» في كتاب الشهادات(3)، غير مرضيّ، فلا يترك الاحتياط جدّاً.

و قد يستدلّ على حرمة الغناء مطلقاً بحرمة الاستماع و لو مرّة واحدة، للتلازم العرفي(4).

و فيه: أنّ حرمة الإيجاد ملازم عرفاً لحرمة الاستماع؛ لأنّه الأثر الواضح منه و لا عكس، هذا مع أنّ المحرّم من الاستماع كما يأتي، ليس إلّا


1- يأتي في الصفحة 396.
2- الوافي 3: 35/ السطر 8، مفاتيح الشرائع 2: 21، كفاية الأحكام: 86/ السطر 19، مستند الشيعة 2: 243/ السطر 10.
3- جواهر الكلام 41: 47.
4- الحدائق الناضرة 18: 106 108. انظر: مختلف الشيعة 5: 19 20.

ص: 392

و سماعه، (1) الاستماع إلى الغناء المحرّم، و عليه الشاهد في مآثيره الآتية.

قوله مدّ ظلّه: «و سماعه».

اتفاقاً، و لم يعهد المفصّل و الذي يقول بحرمة نوع منه يحرم استماعه، و لا يقول بحرمة الاستماع مطلقاً؛ للتلازم عرفاً و ملاكاً و دليلًا.

و يدلّ عليه: مضافاً إلى إطلاق الأمر بالاجتناب، بل إطلاق ما يدلّ على حرمته، فإنّ الغناء إيجاداً و استماعاً من المطلوب للنفوس، فما أوعد اللَّه عليه النار هو الغناء، و إطلاقه يشمل إيجاده و استماعه، و لا يقاس بالكذب و نحوه، لعدم التلذّذ في سماعه بخلاف الغيبة؛ قوله تعالى وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ(1) فإنّه ظاهر في ذمّ الاستماع، و بناء على الملازمة العرفيّة يعرف مذموميّة الإيجاد.

و فيه: ما قد عرفت من قصوره عن الدلالة على الحرمة.

و إدراج قول المستمع «أحسنت» في قول الزور، كما في معتبرة حمّاد ابن عثمان، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: سألته عن قول الزور، قال: «منه قول الرجل للذي يغنّي أحسنت»(2)؛ يورث وهن الهيئة في اللزوم، خصوصاً بعد


1- الفرقان) 25): 72.
2- معاني الأخبار: 349/ 2، وسائل الشيعة 17: 309، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 99، الحديث 21.

ص: 393

اقترانه بالهيئة السابقة الظاهرة في الإرشاد، بل لا بدّ من الالتزام بكون الهيئة إرشاداً إلى أمر آخر، و إلّا يلزم وجوب الاجتناب عن قول الزور، لا حرمة الغناء.

و أيضاً يدلّ على الحكم المذكور، معتبرة عنبسة عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: «استماع اللهو و الغناء ينبت النفاق، كما ينبت الماء الزرع»(1) و فيه ما لا يخفى.

رواية عاصم بن حميد قال: قال لي أبو عبد اللَّه (عليه السّلام): «أنّى كنت؟» فظننت أنّه قد عرف الموضع فقلت: جعلت فداك، إنّي كنت مررت بفلان، فدخلت إلى داره، و نظرت إلى جواريه، فقال: «ذاك مجلس لا ينظر اللَّه عزّ و جلّ إلى أهله، أمنت اللَّه على أهلك و مالك»(2).

و هي تشهد على ما قوّيناه حسب الناظر القاصر، بناء على ارتباطها بهذه المسألة، و كونها كناية عن مجلس الغناء.

و لعمري إنّ الإشكال في حرمة الاستماع على الإطلاق حسب الصناعة، قويّ، و لكنّ العرف لا يقبل التفكيك.


1- الكافي 6: 434/ 23، وسائل الشيعة 17: 316، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 101، الحديث 1.
2- الكافي 6: 434/ 22، وسائل الشيعة 17: 317، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 101، الحديث 4.

ص: 394

و التكسّب به، (1) قوله مدّ ظلّه: «و التكسّب به».

للنصّ الخاصّ في المغنّي و المغنّية(1)، و «لأنّ اللَّه إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه»(2) و لبناء الأصحاب على الملازمة بين حرمة الشي ء و حرمة التكسّب به، مع الالتزام بفساده.

و قد يشكل في خصوص المقام أن قوله (عليه السّلام)، في جملة من الروايات «أنّ ثمن المغنّية حرام» أو «سحت»(3) و ورود الرواية في خصوص الجواري(4)، يومي إلى أنّ اتّخاذه كسباً من المحرّم، فيقيّد بالمفهوم هنا عموم النبوي، فتأمّل.

و توهّم: أنّ هذه الروايات مخصوصة بمسألة بيع القينات و الجواري المغنّيات، غير تامّ، لأنّ الثمن، كما في النبوي أعمّ، فتحرم الإجارة و غيرها من سائر أنواع الكسب، نعم في خصوص بيعها بعض


1- الفقيه 3: 105/ 436، وسائل الشيعة 17: 307، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 99، الحديث 17.
2- تقدّم في الصفحة 293، الهامش 3.
3- وسائل الشيعة 17: 122، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 16، الحديث 3 7.
4- وسائل الشيعة 17: 122، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 16، الحديث 4 7.

ص: 395

و ليس هو مجرّد تحسين الصوت، بل هو مدّه و ترجيعه، بكيفيّة خاصّة مطربة، تناسب مجالس (1) اللهو، و محافل الطرب، و آلات اللهو و الملاهي، الروايات المتعارضة(1)، و تفصيل البحث حولها يطلب من محالّه.

و ممّا يدلّ على حرمة الإجارة النصوص الخاصّة الناطقة بأنّ أجر المغنّية و كسبها سحت و حرام(2).

قوله مدّ ظلّه: «مجالس».

و قد بلغت الأقوال و الاحتمالات في تعريفه إلى أكثر من عشرين، بل و الثلاثين، و اضطربت كلمات الفقهاء في ذلك، و قد أشار إليها السيّد العامليّ في «مفتاح الكرامة»(3) و صنّف شيخ مشايخنا محمّد رضا الأصفهاني في هذه المسألة رسالة لطيفة و قال: «الغناء: صوت الإنسان الذي من شأنه إيجاد الطرب بتناسبه لمتعارف الناس، و الطرب: هي الخفّة التي تعتري الإنسان فيكاد أن يذهب بالعقل، و تفعل فعل المسكر لمتعارف الناس أيضاً»(4) انتهى.


1- وسائل الشيعة 17: 122، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 16، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 17: 120، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 15، الحديث 1 و 4، و 17: 307، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 99، الحديث 17.
3- مفتاح الكرامة 4: 50/ السطر 10.
4- هذه الرسالة غير مطبوعة و نقل عنه الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) في المكاسب المحرّمة 1: 300.

ص: 396

و قال الوالد الأُستاذ- مدّ ظلّه، بعد ذلك و بعد الغور في تفصيل كلامه: «فالأولى تعريف الغناء: بأنّه صوت الإنسان الذي له رقّة، و حسن ذاتي و لو في الجملة، و له شأنيّة إيجاد الطرب بتناسبه لمتعارف الناس»(1) انتهى.

و الذي ظهر لي: أنّه من الصوت ما طرب به، و كونه مطرباً فعليّاً و لو لجماعة غير مستمعين إليه، و لا وجه للاختصاص بالإنسان، و لا سائر القيود الزائدة، بل هو أمر عند العرف واضح.

و يمكن دعوى: أنّه في اللغة و الاستعمال مطلق الصوت الذي يؤدّي للتلذّذ و إن لم يتلذّذ به إلّا صاحبه، و كان في حدّ نفسه من أنكر الأصوات، خصوصاً إذا قلنا بأنّه محرّم بالعرض، لأجل انطباق عنوان المحرّم عليه، كاللهو و الباطل، و الزور، فإنّها أوسع دائرة في الصدق.

و الذي يظهر من الشيخ الأعظم (قدِّس سرُّه) أنّه ينكر حرمة الغناء، حيث قال، بعد الفراغ عن البحث حوله: «فكلّ صوت يكون لهواً بكيفيّة، و معدوداً من ألحان أهل الفسوق و المعاصي، فهو حرام و إن فرض أنّه ليس بغناء، و كلّ ما لا يعدّ لهواً، فليس بحرام و إن فرض صدق الغناء عليه، فرضاً غير محقّق؛ لعدم الدليل على حرمة الغناء إلّا من حيث كونه باطلًا، و لهواً، و لغواً،


1- المكاسب المحرّمة، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 1: 305.

ص: 397

و لا فرق (1) بين استعماله في كلام حقّ من قراءة القرآن، و الدعاء، و المرثية و غيره، من شعر أو نثر، و زوراً»(1) انتهى.

و هذه العبارة صريحة في إنكارها حرمته الذاتيّة، و إثباتها أنّه محرّم بالعناوين الكثيرة المحرّمة، فلا تغفل و تدبّر.

قوله مدّ ظلّه: «و لا فرق».

للإطلاقات السابقة، و عدم معارضتها بشي ء، و الأمر عموماً بتحسين القرآن(2) لا يقاوم النهي الإلزامي، و خصوصاً بالترجيع فيه، و لا يستلزم جواز الطرب به، و بالتغنّي به، كما في رواية، عن تفسير الشيخ أبي عليّ «و تغنّوا بالقرآن، فمن لم يتغنَّ بالقرآن فليس منّا»(3) فلا تورث جواز ما ثبت حرمته، و لا سيما بعد معارضتها برواية عبد اللَّه بن سنان، الناهية عن ترجيع القرآن، و الإتيان به بمثل ألحان أهل الفسق، و الكبائر(4)، و لكنّه خالفهم الأردبيليّ (قدِّس سرُّه) في القرآن و المراثي(5)، و لعلّه لما مضى من قصور الأدلّة،


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 37/ السطر 22.
2- وسائل الشيعة 6: 211، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، الباب 24، الحديث 5 6.
3- مجمع البيان 1: 86، مع تفاوت يسير.
4- الكافي 2: 450/ 3، وسائل الشيعة 6: 210، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، الباب 24، الحديث 1.
5- مجمع الفائدة و البرهان 8: 61.

ص: 398

بل يتضاعف (1) عقابه لو استعمله فيما يطاع به اللَّه تعالى. نعم، قد يستثنى غناء المغنّيات في الأعراس، و هو غير بعيد (2)، و لا يترك الاحتياط بالاقتصار على زفّ العرائس، و المجلس المعدّ له مقدّماً و مؤخّراً، لا مطلق المجالس، بل الأحوط الاجتناب مطلقاً.

و اغتشاشها، و ضعف أسنادها إلّا عدّة منها، مع ضعف ما ورد في خصوص القرآن، و النهي عن الترجيع فيه(1).

قوله مدّ ظلّه: «بل يتضاعف».

لاستلزامه اللعب بما هو الموضوع للعبادة، و قد عنون في «الوسائل» باباً في خصوص وجوب إكرام القرآن، و حرمة إهانته(2)، و المراد من تضاعف العقاب ليس اشتداده، بل يتكرّر ذلك لتكرّر العنوان المحرّم المنطبق على العمل الوحداني.

قوله مدّ ظلّه: «و هو غير بعيد».

و هذا هو الصريح في كلام جماعة(3)، و المخالف في المسألة فخر الدين(4)،


1- وسائل الشيعة 6: 210، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، الباب 24.
2- وسائل الشيعة 6: 169، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، الباب 2.
3- النهاية: 367، تذكرة الفقهاء 1: 582/ السطر 22، جامع المقاصد 4: 24، مسالك الأفهام 3: 126.
4- إيضاح الفوائد 1: 405.

ص: 399

و لعلّه المنساق من كلام كلّ من تعرّض للمسألة و لم يتعرّض لهذا الاستثناء، و خصوصاً بعد تعرّضه للبعض الآخر(1)، للإشكال في موضوعه.

و ما يدلّ على الاستثناء روايات أبي بصير قال: قال أبو عبد اللَّه (عليه السّلام): «أجر المغنّية التي تزفّ العرائس ليس به بأس»(2).

و في روايته الأُخرى قال: «المغنّية التي تزفّ العرائس، لا بأس بكسبها»(3).

و روايته الثالثة قال في كسب المغنّيات: «التي يدخل عليها الرجال حرام، و التي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس»(4).

و لو تمّ الإشكال في سند بعضها لمكان عليّ بن أبي حمزة، أو لجهة أُخرى، و لكنّ الظاهر تماميّة بعض الأسناد، فمثلها تخرج عن المطلقات


1- شرائع الإسلام 4: 117، قواعد الأحكام 2: 236/ السطر 20، الدروس الشرعيّة 2: 126، كفاية الأحكام: 85/ السطر 31.
2- الكافي 5: 120/ 3، وسائل الشيعة 17: 121، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 15، الحديث 3.
3- الكافي 5: 120/ 2، وسائل الشيعة 17: 121، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 15، الحديث 2.
4- الكافي 5: 119/ 1، وسائل الشيعة 17: 120، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 15، الحديث 1.

ص: 400

المانعة(1).

و يشكل العمل بهذه الروايات، لأجل إباء قوله (عليه السّلام): «الغناء ممّا وعد اللَّه عليه النار»(2) عن مثل هذا التقييد.

و لأجل أنّ المطلقات الكثيرة الواردة في المقامات المختلفة البالغة إلى حدّ التواتر(3) و الأكثر، تأبى عن التقييد برواية، فإنّ من المحتمل قويّاً كون روايات أبي بصير، رواية واحدة مختلفة الإسناد إلى أبي بصير، فيلزم التعارض، و لا تقاوم هي ذاك قطعاً.

و لأجل إعراض القدماء(4)، في احتمال قويّ لما سمعت منّا، و عمل المتأخّرين كالمحقّق و العلّامة(5)، لا يورث شيئاً كسراً و جبراً.

نعم، و لأجل احتمال كون الغناء في المستثنى المرتبة الأُولى منه على ما عرفت من بعض البحث فيه.


1- وسائل الشيعة 17: 303، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 99.
2- الكافي 6: 431/ 4، وسائل الشيعة 17: 304، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 99، الحديث 6.
3- وسائل الشيعة 17: 120، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 15، و 17: 303 كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 99.
4- الكافي في الفقه: 281، المقنعة: 588، السرائر 2: 222.
5- المختصر النافع: 116، تذكرة الفقهاء 1: 582/ السطر 22.

ص: 401

و لأجل احتمال كون المغنّية تدعى للزفّ لا للغناء، و لأجل إعراض المشهور قطعاً عنها لو أُخذ بقيدها و مفهومه؛ لأنّ في الرواية الثالثة قال كسب المغنّيات: «التي يدخل عليها الرجال حرام»(1) مع أنّه حرام على الإطلاق، و بعد كونها رواية واحدة ينعقد إعراضهم عنها، بل قيل في صورة الشكّ في الإعراض، يشكل العمل بالسند، للزوم تقييده(2)، فلا يخفى.

هذا مع أنّ في السند بحثاً آخر.

و الحاصل من هذه الأُمور ذهاب الوثوق النوعي عن مثلها، فالاستثناء حكماً، مشكل إلّا على القول الآخر، و هو عدم ثبوت الإطلاق في الأدلّة الناهية، و القدر المتيقّن منها ما أسمعناك فلاحظ.

و لعلّ الماتن- مدّ ظلّه، لأجل هذه الأُمور أخذ بالقدر المتيقّن في الاستثناء، و احتاط في أصل المسألة، و اللَّه العالم.

ثمّ إنّه غير خفيّ أنّ موارد الاستثناء المذكورة في الروايات، كثيرة


1- الكافي 5: 119/ 1، وسائل الشيعة 17: 120، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 15، الحديث 1.
2- انظر المكاسب، الشيخ الأنصاري: 39/ السطر 3.

ص: 402

مثل العيدان، و الفرح(1)، و النياح(2)، و العرس(3) و غيرها(4)، إلّا أنّ ثبوت الحكم في بعضها، و الموضوع في الآخر، غير معلوم.


1- قرب الإسناد: 121، وسائل الشيعة 17: 122، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 15، الحديث 5.
2- الفقيه 3: 98/ 376، وسائل الشيعة 17: 127، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 17، الحديث 7.
3- وسائل الشيعة 17: 120، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 15، الحديث 1 3.
4- وسائل الشيعة 6: 211، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، الباب 24، الحديث 5، مستدرك الوسائل 4: 273، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، الباب 20، الحديث 7 8.

ص: 403

[مسألة 14: معونة الظالمين في ظلمهم، بل في كلّ محرّم، حرام]

مسألة 14: معونة الظالمين في ظلمهم، بل في كلّ محرّم، حرام (1) بلا إشكال، بل ورد عن النبيّ (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (أنّه قال: «و من مشى إلى ظالم ليعينه و هو يعلم أنّه ظالم، فقد خرج عن الإسلام»(1) و عنه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم): «إذا كان يوم القيامة ينادي مناد: أين الظلمة و أعوان الظلمة حتّى من بري لهم قلماً و لاق لهم دواتاً» قال: «فيجتمعون في تابوت من حديد، ثمّ يرمى بهم في جهنّم»(2).

قوله: «حرام».

على المعروف المشهور، و في عنوان المسألة احتمالات: أن يكون المقصود حرمة الإعانة على الإثم، و ذكر الظلم لكونه أعظم، و لخصوص بعض الروايات، مثل خبر طلحة بن زيد، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: «العامل بالظلم و المعين له و الراضي به شركاء ثلاثتهم»(3) و لعلّ المراد من الأوّل هو المتصدّي لظلم الظالم، لا الذي يظلم بنفسه.

و أن يكون المقصود إعانة من يعدّ من الظالمين و المتجاوزين على أموال الناس و أعراضهم، في ظلمهم، أو سائر المعاصي، و جميع ما نهوا عنه.


1- تنبيه الخواطر 1: 54، وسائل الشيعة 17: 182، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42، الحديث 15، مع تفاوت يسير.
2- تنبيه الخواطر 1: 45، وسائل الشيعة 17: 182، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42، الحديث 16.
3- الكافي 2: 250/ 16، وسائل الشيعة 17: 177، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42، الحديث 2.

ص: 404

و أن يكون المقصود إعانتهم في ظلمهم، و هو غصب الحكومة و إن لم يكن من أعوانهم الاصطلاحي.

و أن يكون المقصود الدخول في الأُمور المرتبطة بهم؛ بحيث يعدّ من عمّالهم و أعوانهم.

و الذي هو التحقيق: إنّ ها هنا مسائل: الأُولى: مسألة حرمة الإعانة على الإثم و لو كان الإثم ظلماً، كما يظهر من الكتاب إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ(1) و يكون المراد من الظالمين المتلبّسين بالمبدإ، من غير حصول الكثرة، و الحرفة فيه.

و الحقّ: أنّها محرّمة بالكتاب(2)، و يساعده الاتّفاق و العقل في الجملة، و يدلّ عليه بعض الأخبار(3)، على إشكال فيه، و هو مقتضى الأدلّة الدالّة على وجوب الأمر بالمعروف، و النهي عن المنكر؛ فإنّ العرف يفهم منها حرمة الإعانة عليه.


1- لقمان) 31): 13.
2- المائدة( 5): 2.
3- وسائل الشيعة 17: 177، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42.

ص: 405

الثانية: مسألة إعانة الظالمين المشغولين بالظلم كالحكومات الجائرة و أمثالهم و لو كانوا شيعه في ظلمهم و تعدّيهم على الناس، من غصب الأموال، و قتل الأنفس، و هتك الأعراض، و هذا هو المحرّم للجهتين، بناء على معقوليّته فيما كان بين العنوانين عموماً مطلقاً، و هو القدر المتيقّن من الروايات الواردة في المسألة(1).

و من الظلم غصب الخلافة، و لعلّ المقصود من بعض الروايات المطلقة الفرض الأخير؛ لعدم تنافيه مع الإطلاق.

الثالثة: معونة الظالمين في غير الظلم و سائر المحرّمات و المعروف هو الجواز؛ لعدم الدليل، و للزوم بعض الإشكالات، و لاستلزامه الصعوبة في الدين، و لمنافاته لما دلّ على مجاملتهم، و حسن العشرة معهم، و جلب قلوبهم؛ كي يقولوا: رحم اللَّه جعفر بن محمّد، ما أحسن ما كان يؤدّب به أصحابه(2).

و ما ورد من المطلقات غير معمول به، فيدور الأمر بين الأخذ بإطلاقها،


1- وسائل الشيعة 17: 177، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42.
2- وسائل الشيعة 8: 430، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة، الباب 75، الحديث 1 و 12: 5، كتاب الحجّ، أبواب أحكام العشرة، الباب 1، الحديث 2.

ص: 406

و أمّا معونتهم في غير المحرّمات، فالظاهر جوازه ما لم يعدّ من أعوانهم (1) و حواشيهم و المنسوبين إليهم، أو حملها على الصورة السابقة، أو سقوطها رأساً؛ لأنّ منشأ الإعراض يمكن أن يكون وجود القرائن المورثة للإجمال، كما لا يخفى، أو بعض جهات أُخر في سندها.

نعم، مقتضى بعض الروايات(1)، و حكم العقل بلزوم دفع الظلم، وجوب الإعراض عنهم، الموجب لسقوطهم، و هذا ما لا يحصل إلّا بالاتّفاق.

و لعمري إنّ اشتهار الفتوى بالجواز، و ترغيب الناس إلى أُمورهم لبعض المصالح المتوهّمة، أوقعهم فيما وقعوا فيه، و ابتلوا بالبليّات المدهشة إلى يوم القيامة، و لو كانوا متأمّلين في هذه المسألة و ما ورد فيها، لما بقي لهم شبهة في حرمة العشرة معهم إلّا في بعض المواضع الخاصّة ممّا كان التابعون قليلين، و إلى ما ذكر أُشير في المآثير(2).

قوله مدّ ظلّه: «ما لم يعدّ من أعوانهم».

للنصوص الخاصّة، ففي معتبرة ابن أبي يعفور، قال: كنت عند


1- وسائل الشيعة 17: 177، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42، الحديث 1 2.
2- الكافي 5: 106/ 4، وسائل الشيعة 17: 199، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 47، الحديث 1.

ص: 407

أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) إذا دخل عليه رجل من أصحابنا، فقال له: جعلت فداك إنّه ربّما أصاب الرجل منّا الضيق و الشدّة، فيدعى إلى البناء يبنيه، أو النهر يكريه، أو المسنّاة يصلحها، فما تقول في ذلك؟ فقال أبو عبد اللَّه (عليه السّلام): «ما أُحبّ أنّي عقدت لهم عقدةً، أو وكيت لهم وكاءً، و إنّ لي ما بين لابتيها، لا و لا مدّة بقلم، إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتّى يحكم اللَّه بين العباد»(1).

و دلالتها على المطلوب قطعيّة، لأنّه القدر المتيقّن منه.

نعم، توهّم إطلاق الصدر بعد ظهور الذيل في العنوان المخصوص، مشكل إلّا بدعوى أعمّيّة عنوان أعوان الظلمة؛ فإنّ «عون الضعيف صدقة» أعمّ، و الظلمة لو كانت أخصّ لا تورث أعمّيّة المضاف بعد اقتضاء المناسبة خلافه.

ثمّ إنّه قد يتوهّم اختصاص الظلمة بالحكّام و السلاطين الجائرين، و الأمراء الفاسقين، من أهل الخلاف، المعاندين لأهل الحقّ في دينهم، أو الذين يقتلون النبيّين و أئمّة المؤمنين، حفظاً لسلطانهم كالعبّاسيين، و أمّا سلاطين الشيعة المظهرين للوداد و المحبّة بالنسبة إليهم، و إن كانوا


1- الكافي 5: 107/ 7، وسائل الشيعة 17: 179، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42، الحديث 6.

ص: 408

و لم يكن اسمه مقيّداً (1) في دفترهم و ديوانهم، فاسقين و غاصبين حقوق الفقهاء و المجتهدين، فهو خارج من هذه المآثير(1). نعم، إذا كان مظهراً للتشيّع، و مبدعاً للأحكام الكافرة و مضيّعاً للقوانين الحقّة، فهو داخل في حكم هذه المسألة بحكم العقل.

و يندفع ذلك بالعمومات(2)، بعد اقتضاء المناسبة بين الحكم و الموضوع ذلك، كما هو الظاهر.

قوله مدّ ظلّه: «مقيّداً».

مقتضى إطلاق هذه العبارة ممنوعيّته و إن لم يلزم منه صدق العون، و أنّه من أعوان الظلمة.

و هذا هو قضيّة رواية يعقوب بن يزيد، عن ابن بنت الوليد بن صبيح الكاهليّ، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: «من سوّد اسمه في ديوان ولد سابع حشره اللَّه يوم القيامة خنزيراً»(3) و يمثّله الحواشي فإنّهم لا يعدّون أعواناً.

و لكنّه ورد في المعتبرة قال، قال رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم): «ما اقترب عبد من سلطان جائر إلّا تباعد من اللَّه، و لا كثر ماله إلّا اشتدّ حسابه، و لا كثر تبعه إلّا


1- المكاسب المحرّمة، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 2: 154 156.
2- وسائل الشيعة 17: 177، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42.
3- تهذيب الأحكام 6: 329/ 913، وسائل الشيعة 17: 180، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42، الحديث 9.

ص: 409

و لم يكن ذلك موجباً (1) لازدياد شوكتهم و قوّتهم.

كثرت شياطينه»(1).

و في معتبرة اخرى قال، قال رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم): «إيّاكم و أبواب السلطان و حواشيها، فإنّ أقربكم من أبواب السلطان و حواشيها أبعدكم من اللَّه عزّ و جلّ، و من آثر السلطان على اللَّه أذهب اللَّه عنه الورع و جعله حيراناً»(2).

و قضيّة المعتبرتين و غيرهما، حرمة العنوان الآخر، و هو كونه من المقرّبين و المعروفين بأنّه مورد احترامه، و يكون نافذاً فيه، و سيأتي في المسائل الآتية، عند تعرّض المصنّف- مدّ ظلّه تمام الكلام في المقام(3).

قوله: «و لم يكن موجباً».

يمكن دعوى لحوقها بالعنوان المشار إليه، فإنّ ذلك من الإعانة على الإثم، و هو غصب الخلافة، فإنّ ما يوجب بقاء الآثم في إثمه أو شركته في الإثم محرّم بالعقل و النقل، أو لحوقه بعنوان أعوان الظلمة؛ فإنّ من كان فعله المباح مرّة واحدة موجباً لذلك يعدّ به من أعوانه عرفاً، و في


1- عقاب الأعمال: 310/ 1، وسائل الشيعة 17: 181، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42، الحديث 12.
2- عقاب الأعمال: 310/ 2، وسائل الشيعة 17: 181، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42، الحديث 13.
3- ذيل مسألة 24 من التحرير عند تعرّض المصنّف عدم جواز الدخول في الولايات 4: 313.

ص: 410

خصوص ذلك ما أُشير إليه.

و من العجيب أنّ المسألة عندهم واضحة و لكن المسموع من بعض السالفين، و المشهور من جماعة من المعاصرين هداهم اللَّه تعالى، خلاف ذلك، و لقد أخّرتني الدهور إلى عصر عجيب، و ذو ردّة واهية نرى ميل العلماء إلّا الشاذّ منهم إلى الملوك و السلاطين، مستدلّين بصنع عليّ بن يقطين(1)، غافلين عن الجهات، ذاهلين لشدّة الحبّ إلى ما هم عليه عمّا هو وظيفتهم، و قد اتّفق في عصرنا رجوع الناس عن تقليد الراكن إلى أبوابهم، و وقع في قلوبهم الخلل و الزلل بالنسبة إلى عقائدهم، فبئس الملوك و بئس العلماء، خذلهم اللَّه تعالى أو هداهم.


1- انظر وسائل الشيعة 17: 193، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 46، الحديث 1.

ص: 411

[مسألة 15: يحرم حفظ كتب الضلال]

مسألة 15: يحرم حفظ (1) كتب الضلال، و نسخها، و قراءتها، و درسها و تدريسها إن لم يكن غرض صحيح في ذلك، كأن يكون قاصداً لنقضها و إبطالها، و كان أهلًا لذلك، و مأموناً من الضلال، و أمّا مجرّد الاطّلاع على مطالبها، فليس من الأغراض الصحيحة المجوّزة لحفظها لغالب الناس، من العوام الذين يخشى عليهم الضلال و الزلل، فاللازم على أمثالهم التجنّب عن الكتب المشتملة على ما يخالف عقائد المسلمين، خصوصاً ما اشتمل منها على شبهات و مغالطات، عجزوا عن حلّها و دفعها، قوله مدّ ظلّه: «يحرم حفظ».

و عن «التذكرة» و «المنتهى»(1) نفي الخلاف عنه، و لعلّه المشهور بين جماعة من القدماء المتعرّضين للمسألة(2)، إلّا أنّ الأدلّة المذكورة من الآيات و الروايات، قاصرة عن إثبات هذا العنوان، و الدليل العقلي لا يورث الحرمة الشرعيّة؛ لعدم تماميّة قاعدة الملازمة، خصوصاً في مثل المقام فإنّ ما هو المبغوض في الشريعة معلوم، و هو الإفساد في الأرض، و الإضلال، و المقدّمات حتى الموصلة منها ليست محرّمة على ما تحرّر في محلّه(3).


1- تذكرة الفقهاء 1: 582/ السطر 37، منتهى المطلب 2: 1013/ السطر 34.
2- المقنعة: 589، النهاية: 365، السرائر 2: 218، شرائع الإسلام 2: 4.
3- تحريرات في الأُصول 3: 206 و 290 291.

ص: 412

و قوله (عليه السّلام) في معتبرة عبد الملك الوارد في التنجيم: «أحرق كتبك»(1) لا يورث المطلوب بعد ظهور الصدر في أنّ الذيل كناية أو إرشاد إلى ترك العمل و القضاء بما في كتبه.

و قضيّة حكم العقل في الشبهات المهتمّ بها بعد معلوميّة غرض المولى، هو الاحتياط، و ذلك بلا فرق بين كتب الضلال، و المدارس التي توجبه، و من يكون مضلا و هادياً إلى سبل الفساد، و الزلل في العقائد، فإنّ عنوان المسألة ممّا لا شاهد عليه خصوصاً.

و ليس مطلق القراءة ممنوعاً، بل القراءة الممنوعة هي الملازمة للأثر الفاسد شخصاً، أو نوعاً، و هي التي يعقبها النظر، و التفكّر.

و سائر العناوين المشار إليها ليست من المحرّمات المتعدّدة عنواناً و المستقلّة دليلًا و ملاكاً.

و الأمان من الضلال إن كان شخصيّاً فيلزم جواز الاطّلاع عليها و إن لا يقصد النقض و الإبطال، و إن كان نوعيّاً فلا يجوز له النظر و لو للردّ و الإبطال، و المدار على حكم العقل و لا يكفي مجرّد الاحتمال، و إلّا يمكن منع القاطع بالأمن؛ لأنّ القطع يخطئ و يصيب.


1- الفقيه 2: 175/ 779، وسائل الشيعة 11: 370، كتاب الحجّ، أبواب آداب السفر، الباب 14، الحديث 1.

ص: 413

و لا يجوز (1) لهم شراؤها، و إمساكها، و حفظها، بل يجب عليهم إتلافها.

و بالجملة: يندرج في المسألة الكتب الفلسفيّة المشتملة على شبهات عقليّة في المبدأ و المعاد، و مغالطات علميّة في التوحيد و غيره ممّا لا يسلم منها إلّا الأوحدي. و أمّا الكتب المضلّة عن سواء السبيل، و الراغبة إلى المعاصي و الفسق، و الباعثة إلى المفاسد الأخلاقيّة، فهي أيضاً ربّما تكون منها، لقوله تعالى ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ و منها: الصحف و الجرائد، و المنشورات الرائجة في عصرنا، المشتملة على الفواحش؛ فإنّه ربّما يشملها قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا.

قوله دام ظلّه: «و لا يجوز».

في المواضع الممنوعة عقلًا يكون الحكم ممنوعيّة هذه الأُمور احتياطاً، و غاية ما يمكن أن يقال للحرمة الوضعيّة، دعوى عدم رضا الشرع بذلك، و لكنّه ممنوع؛ لما ورد عنهم (عليهم السّلام (من بيع العنب لمن يعلم أنّه يصنع خمراً؛ فإنّ في هذه الروايات ما يومئ إلى أنّ فساد المطالب الأُخر لا يسري إلى موضوعات اخرى.

و بالجملة: لا حرمة لمقدّمات المحرّم حتّى الموصلة منها، فالمنع مبني على الاحتياط.

و استكشاف الحكم التكليفي من قاعدة الملازمة على تقدير صحّتها

ص: 414

في نفسها، و كون المورد من مصاديقها يستلزم فساد المعاملة عليها، بناء على تماميّة النبوي سنداً و دلالة، فافهم و تدبّر.

و ممّا ذكرناه يظهر حال إتلافها و إمساكها، فإنّ الأمر فيهما كما عرفت، و قد يستظهر من قوله تعالى في مسألة المفسد في الأرض من أنّه يصلب، أو يقطع، أو ينفي؛ أنّ هذه الكتب تحرق و لكنّه غير تامّ، و للحاكم و الوالي جمع الكتب المضلّة الرائجة بين الناس، الموجبة لوقوعهم في الضلال و الزلل، فافهم و تأمّل.

ص: 415

[مسألة 16: عمل السحر و تعليمه و تعلّمه و التكسّب به حرام]

مسألة 16: عمل السحر و تعليمه و تعلّمه و التكسّب به حرام (1)، و المراد به ما يعمل من كتابة، أو تكلّم، أو دخنة، أو تصوير، أو نفث، أو عقد يؤثّر في بدن المسحور، أو قلبه، أو عقله، فيؤثّر في إحضاره، أو إنامته، أو إغمائه، أو تحبيبه، أو تبغيضه قوله دام ظلّه: «حرام».

أمّا عمله فعليه الإجماع منقولًا(1)، بل و محصّلًا، و ليس في المسلمين من يجوّزه على إطلاقه، بل في «الجواهر»: «هو من الضروريّات التي يدخل منكرها في سبيل الكافرين»(2).

و الذي هو القدر المتيقّن منه ما يستعمل ليضلّ عن سبيل اللَّه تعالى، و يوجب الزلل في العقائد، و حدوث احتمال كون عمل الأنبياء (عليهم السّلام (من سنخ أعمالهم، و هكذا لو ترتّب على عمله ما لا يرضى به الشرع الأقدس من المفاسد، فإنّ محمّد بن إدريس روى في آخر «السرائر» عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) أنّه قال: قال رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم ( «مَنْ مَشى إلى ساحر أو كاهن أو كذّاب، يصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل اللَّه تعالى من كتاب»(3).

و ظاهره كونه قرينة على ما ورد في السحر، بعد قصور تلك الروايات


1- منتهى المطلب 2: 1014/ السطر 17، رياض المسائل 1: 503/ السطر 24.
2- جواهر الكلام 22: 75.
3- السرائر 3: 593.

ص: 416

عن إثبات حرمة السحر بإطلاقه، فإنّ قوله (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم): «ساحر المسلمين يقتل، و ساحر الكفّار لا يقتل»(1) بعد شبهة في سنده، و إشكال أدبيّ في عبارته؛ لا يدلّ على أنّ السحر بذاته حرام، و على إطلاقه ممنوع، و لا سيما على ما احتملناه في الكتاب الكبير(2)، من أنّه من الإضافة اللّفظيّة أي سحر الكافر لا يورث شيئاً في نفس الكافر حتّى يقتل ساحرة، بخلاف المسلم، فلو أتى الكافر بسحر المسلم فهو أيضاً يقتل.

و قوله: «من كتاب» ربّما يكون إشارة إلى ما ورد فيه وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى(3).

و قوله تعالى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ(4).

فإنّ المشي إليه خلاف الاعتقاد بالكتاب إلّا للتفريح. و قوله تعالى:


1- عن جعفر بن محمّد، عن أبيه( عليهما السّلام( قال: قال رسول اللَّه( صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم): ساحر المسلمين يقتل و ساحر الكفّار لا يقتل، قيل: يا رسول اللَّه لِمَ لا يقتل ساحر الكفّار؟ قال: لأنّ الشرك أعظم من السحر، لأنّ السحر و الشرك مقرونان. الفقيه 3: 371/ 1752، وسائل الشيعة 17: 146، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 25، الحديث 2.
2- مباحث المكاسب المحرّمة، من تحريرات في الفقه) مفقودة).
3- طه( 20): 69.
4- يونس( 10): 81.

ص: 417

عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ أيضاً دليل على ما ذكرناه.

و هكذا قوله تعالى وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَ مارُوتَ وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَ يَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ(1).

بل في قوله تعالى وَ لا يَنْفَعُهُمْ إشارة إلى تجويز الضرر المتدارك بالنفع، كما لا يخفى.

و ممّا يدلّ، أو يشهد على ما مرّ رواية إبراهيم بن هاشم عن شيخ من أصحابه الكوفيّين، قال: دخل عيسى بن ثقفي على أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) و كان ساحراً، يأتيه الناس، و يأخذ على ذلك الأجر، فقال له: جعلت فداك، أنا رجل كانت صناعتي السحر، و كنت آخذ عليه الأجر، و كان معاشي، و قد حججت منه، و مَنّ اللَّه عليّ بلقائك، و قد تبت إلى اللَّه عزّ و جلّ، فهل لي في شي ء من ذلك مخرج؟ فقال له أبو عبد اللَّه (عليه السّلام): «حلّ و لا تعقد»(2).

و لو كان نفس السحر و تعلّمه حراماً كان صرفه في الحلّ أيضاً ممنوعاً،


1- البقرة( 2): 102.
2- الكافي 5: 115/ 7، وسائل الشيعة 17: 145، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 25، الحديث 1.

ص: 418

و كان اللازم الأمر بإنسائه و إزالته من النفس، فيعلم منه: أنّ إعماله فيما تعارف ممّا يكشف عن اعتقاد العامل و المستأجر به محرّم.

و الأمر بالحلّ ليس مقصوراً بأنّ صورة جوازه تنحصر به، بل العرف يفهم منها أنّ الممنوع هو العقد، و لو كان في عمله تفريح فلا بأس به.

و ما روي «أنّ توبة الساحر أن يحلّ و لا يعقد»(1) دليل على أنّ ما عمله من المحرّمات لا يغفر إلّا بذلك، لا أنّ نفس كونه ساحراً و عالماً بالسحر، محرّم يحتاج إلى التوبة فإنّه لا معنى لأن يكون الحرام توبة عن الحرام، بل اللازم إيجاب الإنساء، كما لا يخفى.

حرمة تعليم و تعلّم السحر ممّا ذكرنا يظهر حال التعليم و التعلّم، و ما ورد عن عليّ (عليه السّلام) أنّه قال: «من تعلّم شيئاً من السحر، قليلًا كان أو كثيراً فقد كفر، و كان آخر عهده بربّه، و حدّه أن يقتل إلّا أن يتوب»(2) يحمل على ما عرفت، مع أنّه لو كان كافراً،


1- علل الشرائع: 546، الباب 338، ذيل الحديث 1، وسائل الشيعة 17: 147، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 25، الحديث 3.
2- قرب الإسناد: 152/ 554، وسائل الشيعة 17: 148، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 25، الحديث 7.

ص: 419

بالسحر لا يقتل لما ورد عن النبيّ (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم)، فتأمّل.

و توهّم: أنّ التعلّم محرّم بمعناه المصدري على الإطلاق، و أمّا لو عصى و تعلّم فعليه التوبة، و هي الحلّ، و هذا هو مفاد الأخبار؛ و إن لا يبعد في حدّ ذاته إلّا أنّ الالتزام بالتفكيك مشكل في نظر العرف.

و ربّما يخطر بالبال أنّ تحريم السحر نوع فرار من الإتيان بما يشابه ما يتحدّى به النبيّ (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (و هذا يورث سوء الظنّ بالمعجزة، بل المساعد للاعتبار تجويز السحر، حتّى يعلم منه حقيقة المعجزة، و تكون العقائد الحاصلة منها راسخة، فمن يتصدّى للأُمور المزاحمة لدعوة الأنبياء، ربّما يكون نظره تحقيق ما عندهم و إبطال ما عنده، فلو لم يلقَ السحرة ساجدين، لم يؤمن بموسى أحد من بني إسرائيل.

و لعلّ قوله (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم): «ساحر الكفّار لا يقتل» لأنّه غير مكلّف بهذا الفرع خصوصاً، و هذا لا ينافي التعليل المذكور في الرواية على إجمال فيه، فراجع.

و بالجملة: التصدّي للإتيان بسورة من الكتاب لو كان محرّماً في الشريعة فهو يستلزم الخلل، و حيث أنّ الساحر لا يفلح حيث أتى و لا يبقى و لا يستمرّ يكون الكتاب معجزة خالدة، فعندئذٍ يقال: بأنّ السحر المحرّم هو ما تعارف بين أبنائه من الأُمور الفاسدة، الّتي يترتّب عليها ما لا يرضي الشرع المقدّس به.

ص: 420

حكم التكسّب بالسحر ثمّ إنّ التكسّب به ربّما يكون ممنوعاً و لو كان إعماله جائزاً، بناء على أنّ المستفاد من الأدلّة: أنّ الحلّ توبة السحر فكأنّه مبنيّ على المجّانية، و أمّا على ما استظهرناه و احتملناه ففي مواقف المحرّم يكون ممنوعاً تكليفاً، و أمّا حرمته وضعاً فيمكن منعها؛ لأنّه (عليه السّلام) سكت في رواية إبراهيم بن هاشم عن حكم الأجر المأخوذ قبال سحره، و الوجه الثالث: أنّ عمله و تعليمه و تعلّمه فيما كان حراماً أخذ الأُجرة عليها و إعطاء الأُجرة حذاءها محرّم وضعاً و تكليفاً؛ للنبويّ و غيره ممّا عرف من الشرع.

فبالجملة: لو سلّمنا جميع ما في المتن من أنّه من السحر موضوعاً فما هو المحرّم منه صنف خاصّ، و ممّا يدلّ أو يشهد على ما قوّيناه بعد عدم مساعدة الدليل لحرمة التعليم و التعلّم تكليفاً، خصوصاً بعد سكوت «الشرائع» عن الأوّل(1)، و قصور رواية أبي البختريّ عن تحريم التعلّم الصرْف؛ رواية الصدوق، في «العيون» عن الحسن بن عليّ العسكريّ (عليه السّلام)، و هي رواية مفصّلة وردت في تفسير الكتاب، و قصّة


1- شرائع الإسلام 2: 4.

ص: 421

و نحو ذلك. (1) العسكريّ (عليه السّلام)، و هي رواية مفصّلة وردت في تفسير الكتاب، و قصّة الملكين ببابل «هاروت» و «ماروت»(1) و مثلها رواية عليّ بن الجهم، عن الرضا (عليه السّلام)(2).

حقيقة السحر و أقسامه قوله دام ظلّه: «و نحو ذلك».

في كون هذه الأُمور من السحر موضوعاً بحث، فإنّه مقابل المعجزة و يعرف بها، فهي ما لا واقعيّة لها، و يخيّل أنّه الواقع، و أمّا مجرّد «خفاء مأخذه» كما في بعض كتب اللغة(3)، فهو لا يكون سحراً؛ لأنّ منه ما هو مأخذه معلوم، من التصوير و الكتابة، و لو كان ذلك منه يلزم كون الأدعية المكتوبة المؤثّرة في بدن المريض، و في صيرورة الطفل ذكراً و هكذا، من السحر، لخفاء مأخذه، و لو رجع الأمر إليه تعالى، فهو أيضاً مشترك؛ لعدم


1- عيون أخبار الرضا( عليه السّلام) 1: 266/ 1، وسائل الشيعة 17: 147، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 25، الحديث 4.
2- عيون أخبار الرضا( عليه السّلام) 1: 271/ 2، وسائل الشيعة 17: 147، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 25، الحديث 5.
3- المصباح المنير: 317.

ص: 422

و يلحق بذلك (1) استخدام الملائكة، و إحضار الجنّ و تسخيرهم، و إحضار الأرواح و تسخيرها، و أمثال ذلك.

إمكان الخروج من حكومته، فالسحر موضوعاً في غاية الإشكال.

و الذي هو منه ما يقابل المعجزة، من إحياء الأموات، و تحريك الكائنات، و إراءة التخيّلات بالتصرّف في المبصرات بوجه لا يطلع الإنسان على الخطأ في الحسّ و إن كان له الواقعيّة التخيليّة في وعائها. ثمّ إنّ دعوى: أنّ الشريعة لا ترضى بهذه الأُمور، و ترى الأكل منها بالباطل؛ لأنّه خروج عمّا هو بناء النظم، في محلّه.

قوله دام ظلّه: «و يلحق به».

حكماً، لدعوى الفخر «أنّ مستحلّه كافر»(1) و هي غير كافية، و ليس دأب الشرائع تحريم الأُمور النادرة التي لا يتّفق إلّا للأوحدي.

نعم، ما تعارف في العصر من الأكاذيب و الإغراء بالجهل ممنوع و يعدّ من الأكل بالباطل، و من الملحقات بها، و يعدّ منها «المينايتزم» و بعض الأُمور الأُخر الحاصلة من القوى النفسانيّة التي حصلت من الرياضات الباطلة و الصحيحة، و هي الّتي بها يفعل الإنسان ما يشابه أعمال الأنبياء من بني إسرائيل، و كيف تكون هي محرّمة و علماء الأُمّة أفضل منهم، أو مثلهم، و قد حُكيت مشابهاتها من السابقين؟! و اللَّه العالم.


1- إيضاح الفوائد 1: 405.

ص: 423

بل يلحق أو يكون منه الشعبذة، و هي: إراءة (1) غير الواقع واقعاً، بسبب الحركة السريعة.

نعم، لو كان في الاستخدام و الإحضار و التسخير ظلم فهو محرّم، و أمّا لو كان ذلك برضاهم و ميلهم فالحرمة تحتاج إلى دليل آخر.

و ربّما يقال: إنّ هذه الأُمور كلّها أكاذيب، و لا يجوز عليه تعالى إقدار جماعة على جماعة بمثل هذه الكيفيّة، فليتدبّر.

قوله دام ظلّه: «و هي إراءة».

بل هي: الحركة السريعة الواقعة من المشعبذ غير قابلة للرؤية، ممّا يشترط فيها من زمان تكون تلك الحركة قبل مضيّه فيتوهّم خلاف الواقع.

مثلًا: المشعبذ يجعل تحت القلنسوة الموجودة في المجلس عند الناظرين، ما لا يراه هؤلاء النظّار، فإذا يسألونهم عمّا تحتها، فيجيبون، لا شي ء، مع أنّ في تحتها شيئاً.

ثمّ إنّ مقتضى ما في كتب الأصحاب قديماً و حديثاً حرمتها(1)، و هي قضيّة رواية الاحتجاج(2)، و الإجماع، و لكن للنظر فيها مجال واسع، لعدم كفاية هذه الإسناد. نعم، يبطل الكسب بها؛ لأنّه باطل، و هي فيما إذا استلزمت محرّماً آخر ممنوعة عقلًا.


1- جواهر الكلام 22: 94، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 34/ السطر 32.
2- الاحتجاج 2: 220.

ص: 424

و كذلك الكهانة (1): و هي: تعاطي الأخبار عن الكائنات في مستقبل الزمان، بزعم أنّه يلقى إليه الأخبار عنها بعض الجانّ، أو بزعم أنّه يعرف الأُمور بمقدّمات و أسباب يستدلّ بها على مواقعها.

قوله دام ظلّه: «الكهانة».

و هي محرّمة عرضاً؛ لأنّها من السحر، أو ذاتاً؛ لما ورد في النصوص ما يدلّ عليه، ففي رواية أبي بصير، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام)، قال: «من تكهّن أو تكهّن له فقد برئ من دين محمّد (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم)»(1).

و في اخرى: «الكاهن ملعون»(2).

و في ثالثة: «الكاهن كالساحر، و الساحر كالكافر، و الكافر في النار»(3).

و في رواية أبي خالد الكابليّ، قال: سمعت زين العابدين (عليه السّلام) إلى أن قال: «و الذنوب الّتي تظلم الهواء السحر و الكهانة»(4).

و في صحيحة الهيثم، قال: قلت لأبي عبد اللَّه (عليه السّلام) إلى أن قال: قال


1- الخصال: 19/ 68، وسائل الشيعة 17: 149، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 26، الحديث 2.
2- الخصال: 297/ 67، وسائل الشيعة 17: 143، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 24، الحديث 7.
3- الخصال: 297/ ذيل الحديث 67، وسائل الشيعة 17: 143، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 24، الحديث 8.
4- معاني الأخبار: 270/ 2، وسائل الشيعة 16: 281، كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، أبواب الأمر و النهي، الباب 41، الحديث 8.

ص: 425

رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم): «من مشى إلى ساحر أو كاهن أو كذّاب يصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل اللَّه من كتاب»(1) و غيرها(2).

و منها يعلم: أنّها ما يشابه فعل الأنبياء و الرسل العالمين بما لا يعلم به الناس من قبل اللَّه تعالى، فلو كان إخباره مطابقاً للواقع فيورث الزلل في معتقدات الناس، و أنّ غير النبيّ يتّصل بالمبادي الخارجة عن أُفق أفهام الناس و عقولهم، و في ذلك مهلكة؛ لإمكان الاعتقاد بأنّه يطّلع من قبل الملائكة المحدّثين، و لا منع من الالتزام بحرمته على الإطلاق؛ لتماميّة بعض الروايات، و لكنّه مع ذلك لا يخلو عن إشكال إذا لم يترتّب عليه الباطل نوعاً.

و ممّا يدلّ على محرميّة الكهانة النصوص الناطقة بأنّ أجر الكاهن من السحت، ففي رواية السكونيّ، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام)، قال: «السحت ثمن الميتة» إلى أن قال: «و أجر الكاهن»(3) و مثلها ما في وصيّة


1- تقدّم في الصفحة 425، الهامش 1.
2- وسائل الشيعة 11: 373، كتاب الحجّ، أبواب آداب السفر، الباب 14، الحديث 8، وسائل الشيعة 12: 309، كتاب الحجّ، أبواب أحكام العشرة، الباب 164، الحديث 11، وسائل الشيعة 17: 93، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 5 و 8 و 9.
3- الكافي 5: 126/ 2، وسائل الشيعة 17: 93، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 5.

ص: 426

النبيّ (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (لعليّ (عليه السّلام)(1)، و فيها مضافاً إلى الدلالة على الحكم التكليفي دلالة على الوضعي، على ما تقرّر في وجه صحيح.

و توهّم: أنّ الملازمة العرفيّة ثابتة بين حرمة العمل و حرمة التعليم و التعلّم و إن سكت عنه الماتن مدّ ظلّه، غير بعيد، فتأمّل.

و تعريف الكهانة بما في المتن غير تامّ؛ لانطباقه على إخبار المنجّم، فهي عندي: الإخبار عن مقدّرات الإنسان، متلقّياً من غير الطرق المألوفة، جازماً أو متجزّماً.

و أمّا العالم بعلم المنايا و البلايا متلقّياً من الأنبياء و الأولياء فهو ليس بكاهن، فكأنّه متّصل بالغيب من غير الوسائط الشرعيّة، و كثيراً ما يتّفق صدق أخبارهم.

و من هؤلاء الذين يقرءون خطوط الكفّ و يخبرون بما هو واقع حقيقة، و لكن حرمة هذه الكهانة مشكلة جدّاً.

نعم، مع عدم اعتبار المستند، و عدم العلم بصدق الخبر لا يجوز الإخبار، و وجهه يحتاج إلى بسطٍ، تعرّضنا له في كتابنا الكبير(2).


1- الفقيه 4: 262/ 824، وسائل الشيعة 17: 94، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 9.
2- مباحث المكاسب المحرّمة، من تحريرات في الفقه) مفقودة).

ص: 427

و القيافة (1) و هي: الاستناد إلى علامات خاصّة في إلحاق بعض الناس ببعض، و سلب بعض عن بعض على خلاف ما جعله الشارع ميزاناً للإلحاق و عدمه، من الفراش و عدمه.

قوله دام ظلّه: «و القيافة».

كان ينبغي تغيير العبارة؛ للزوم احتمال كونها من السحر، بناء على العطف، كما هو الظاهر، و قد حكي على حرمتها الإجماع(1)، و عن جماعة: «تحريمها بما إذا ترتّب عليها محرّم»(2) و في حرمتها بعنوانها إشكال؛ لقصور الأدلّة سنداً و دلالة، بل في بعضها ما يدلّ على جوازها بذاتها(3)، و ما اتّفق عليه الأصحاب أعمّ من الحرمة الشرعيّة؛ فإنّهم كثيراً ما عدّوا من المحرّمات ما هو الممنوع عقلًا، للملازمة بينه و بين المحرّم الشرعي، أو للاستلزام.

ثمّ إنّ ماهيّة هذا العلم أعمّ ممّا في المتن من جهات، و لعلّه يريد بيان الموضوع المحرّم، و هو الصنف الخاصّ منه.


1- منتهى المطلب 2: 1014/ السطر 32، مفتاح الكرامة 4: 80/ السطر 30.
2- الدروس الشرعيّة 3: 165، جامع المقاصد 4: 33، مسالك الأفهام 3: 329.
3- الكافي 1: 322/ 14.

ص: 428

و التنجيم (1) و هو: الإخبار على البتّ و الجزم عن حوادث الكون، من الرخص و الغلاء، و الجدب و الخصب، و كثرة الأمطار و قلّتها، و غير ذلك من الخير و الشر، و النفع و الضرر، مستنداً إلى الحوادث الفلكيّة، و النظرات و الاتصالات الكوكبيّة معتقداً تأثيرها في هذا العالم، على نحو الاستقلال، أو الاشتراك مع اللَّه تعالى عمّا يقول الظالمون، دون مطلق التأثير و لو بإعطاء اللَّه تعالى إيّاها، إذا كان عن دليل قطعي. و ليس منه الإخبار عن الخسوف، و الكسوف، و الأهلّة، و اقتران الكواكب و انفصالها، بعد كونه ناشئاً عن أُصول و قواعد سديدة، و الخطأ الواقع منهم أحياناً ناشئ من الخطأ في الحساب، و إعمال القواعد كسائر العلوم.

قوله مدّ ظلّه: «و التنجيم».

قد وردت في المسألة طوائف من الروايات إحداها: ما يمنع عنه، ففي مرسلة الصدوق قال: و قال (عليه السّلام): «المنجّم كالكاهن ..»(1).

ثانيها: ما يظهر منه الجواز، ففي رواية عبد الرحمن بن سيابة، قال: .. و إن كانت لا تضرّ بديني فواللَّه لأشتهيها و أشتهي النظر فيها، فقال: «ليس كما يقولون، لا تضرّ بدينك» ثمّ قال: «إنّكم تنظرون في شي ء منها كثيره لا يدرك،


1- الخصال: 297/ 67، وسائل الشيعة 17: 143، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 24، الحديث 8.

ص: 429

و قليله لا ينتفع به»(1) الحديث.

و مقتضى الطائفة الثالثة الجمع بينهما، بأن يكون المحرّم الاعتقاد بأنّ الهموم و الغموم و الأفراح و الخيرات و الشرور و البركات مستندة إلى الأفلاك، و هي المأخوذات و المؤثرات، كما في كثير من أشعار العرب و العجم، و الإخبار بأنّ الموجودات العليّة مناشئ المقدّرات الحسنة و السيّئة، كما كان دأب المنجّمين و الناظرين في العلويّات، و عليه اعتقاد كثير من الفلاسفة.

ففي الخصال، عن أبي الحصين، قال: سمعت أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) يقول: «سُئل رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (عن الساعة، فقال: عند إيمان بالنجوم و تكذيب بالقدر»(2).

و في مرسلة الأعلام «المحقّق» و «العلّامة» و «الشهيدين»، قالوا: قال النبي (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم): «من صدّق كاهناً أو منجّماً فهو كافر بما انزل على محمّد»(3).


1- الكافي 8: 195/ 233، وسائل الشيعة 17: 141، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 24، الحديث 1.
2- الخصال: 62/ 87، وسائل الشيعة 17: 143، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 24، الحديث 6.
3- المعتبر 2: 688، تذكرة الفقهاء 6: 137، مسالك الأفهام 2: 53، وسائل الشيعة 17: 144، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 24، الحديث 11.

ص: 430

فدعوى: أنّ التنجيم غير جائز و لو كان معتقداً تأثيره الإعدادي، لإطلاق دليل المنع أو لاستلزامه الكذب غير تامّة، لأنّ صدق الخبر و كذبه خارج عن الاختيار، و إذا كان مستنده موجباً لحصول العلم فهو كسائر المسانيد في العلوم الأُخر.

بل قضيّة رواية هشام الخفّاف، قال: قلت: لا و اللَّه، لا أعلم ذلك، قال: فقال: «صدقت، إنّ أصل الحساب حقّ، و لكن لا يعلم ذلك إلّا من علم مواليد الخلق كلّهم»(1)؛ هو أنّ المنجّم يبتلي بالكذب، لما هو جاهل، و عليه لو كان الاطّلاع على جميع الجهات محتاجاً إلى العلم المذكور دون الأُمور المتعارفة، فالإخبار بنحو البتّ مع تماميّة السند حسب القواعد، يكون جائزاً، كما أفاده في المتن، و المراد من «دليل قطعي» ليس المقطوع به عقلًا كما هو واضح.

و في حرمة التعليم و التعلّم فيما كان حراماً نظر، و الوجه ما قد عرفت.

و يمكن دعوى دلالة معتبرة عبد الملك بن أعين، الآمرة بإحراق الكتب التي في النجوم(2) على ممنوعيّتها، فتدبّر.


1- الكافي 8: 351/ 549، وسائل الشيعة 17: 141، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 24، الحديث 2.
2- الفقيه 2: 175/ 779، وسائل الشيعة 11: 370، كتاب الحجّ، أبواب آداب السفر، الباب 14، الحديث 1.

ص: 431

ثمّ إنّ تعريف «التنجيم» بما في المتن غير تامّ، و المقصود بيان أنّ ما هو المحرّم هو العنوان المأخوذ حدّا له تسامحاً، كما أنّ منع تأثير العلل الماديّة بنحو الإعداد غير جائز، و إثبات الاستقلال و العليّة التامّة ممنوع، و كما أنّ الأوّل جبر و كفر كذلك الثاني شرك و تفويض، فالاستقلال بالوجهين ممنوع سواء كان المقصود كونها مؤثّرات لعدم الاعتقاد باللَّه العالم أو كان المقصود كونها عللًا مستقلّة بإفاضة القدير، فإنّه ممتنع أيضاً على ما تقرّر في محالّه.

هذا و يمكن دعوى: أنّ المتراءى من كلمات الأصحاب، و عدّ التنجيم من المحرّمات لا موجبات الكفر و الشرك، أنّ نفس النظر إليها، و الاعتقاد بأنّها ذات آثار في الأرض و من عليها، و القضاء على طبقه محرّم، و لو كانت مؤثّرات بنحو الإعداد أو العليّة كعلّيّة النار للحرارة، فما هو الممنوع لا يستلزم سلب تأثيرها واقعاً، فافهم و تدبّر.

ص: 432

[مسألة 17: يحرم الغشّ]

مسألة 17: يحرم (1) الغشّ قوله دام ظلّه: «يحرم».

على المعروف بينهم، و عليه النصوص، ففي معتبرة هشام بن سالم، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام)، قال: قال رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (لرجل يبيع التمر: «يا فلان، أما علمت أنّه ليس من المسلمين من غشّهم؟!»(1).

و قد يشكل الحكم، لأجل أنّ ما صحّ سنده غير تامّة دلالته و بالعكس، خصوصاً إذا كانت المعاملة صحيحة.

نعم، إذا قلنا: بأنّ بيع المغشوش باطل و هو منهي أو فيه الغرر فيكون فاسداً فالتحريم مناسب، أو يقال: بأنّ الغشّ محرّم و إن لم يتّفق التجارة بالمغشوش، كان لذلك أيضاً وجه، و هو مساعدة بعض النصوص في المسألة، ففي معتبرة السكونيّ، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام)، قال: «نهى النبيّ (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (أن يشاب اللبن بالماء للبيع»(2). و مثلها غيرها ممّا يدلّ على ذلك(3)، و سيأتي زيادة توضيح إن شاء اللَّه تعالى.


1- الكافي 5: 160/ 2، وسائل الشيعة 17: 279، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 86، الحديث 2.
2- الكافي 5: 160/ 5، وسائل الشيعة 17: 280، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 86، الحديث 4.
3- وسائل الشيعة 17: 279، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 86.

ص: 433

بما يخفى في البيع و الشراء (1) كشوب اللبن بالماء، و خلط الطعام الجيّد بالردي ء، و مزج الدهن بالشحم أو بالدهن النباتي و نحو ذلك، من دون إعلام، قوله دام ظلّه: «البيع و الشراء».

خلافاً لما يظهر من الآخرين(1)، و منهم العلّامة في القواعد(2)، و هو قضيّة المطلقات، فهو حرام في سائر المعاوضات، بل و في مثل الخلع و النكاح والمباراة، و لو صدق في الهبات و الصدقات فهو كذلك.

نعم، مقتضى عدّة من النصوص و منها ما مرّ الاختصاص بالبيع(3) جمعاً بين المطلقات و تلك المقيّدات، و لكن حمله على المثال و الغالبيّة أولى من الحمل المزبور بعد كونهما موجبتين، و لمناسبة الموضوع للحرمة أينما كان أصدق.

قوله دام ظلّه: «و نحو ذلك».

ليس «الغشّ» مجرّد الخلط بين الجنسين المختلفين في القيمة، و لا منه ما لو خلط بينهما و باع بقيمة الجنس الأدنى، و ليس منه أن يؤدّي في مقام الوفاء الجنس الأعلى، و لا يختصّ بالمعاوضات الجنسيّة، بل


1- السرائر 2: 216، شرائع الإسلام 2: 4، تذكرة الفقهاء 1: 582/ السطر 29، الروضة البهيّة 1: 310/ السطر 15.
2- قواعد الأحكام 1: 121/ السطر 2.
3- وسائل الشيعة 17: 279 كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 86.

ص: 434

و لا تفسد (1) المعاملة به و إن حرّم فعله و أوجب الخيار (2) للطرف بعد الاطّلاع، يصدق في الهبة المعوّضة، و ليس معناه الغرور و التدليس حتّى يكونا متساوقين و مترادفين، و ليس منه ما يطّلع عليه المشتري و يرفع الغرر فيه بالمشاهدة، و لا منه بيع المغشوش و المخلوط بغشّ الآخر، بل هو: دسّ الشي ء في الشي ء، و إراءة الجنس، الغالي و بيعه بقيمة أو للبيع بقيمته.

و بعبارة اخرى: هو إحداث العيب الاختياري، و ليس منه ما لو كان الجنس الغالي قليلًا في قبال الداني، و أن لا يطلّع عليه المشتري، و عند ذلك يشكل صحّة المعاوضة، لا لأنّه يصدق عليه الغشّ حتّى يقال ما يقال، بل لأنّه يعدّ أكلًا للمال بالباطل، و أدلّة خيار العيب لا تشمل ما إذا حدث العيب باختيار البائع، بل هي تختصّ ببيع المعيب، و اللَّه العالم.

قوله دام ظلّه: «و لا تفسد».

لعدم تعلّق النواهي في الباب إلّا بعنوان خارج، و قد عرفت آنفاً.

قوله دام ظلّه: «الخيار».

خيار العيب فيما كان الغشّ موجباً للاختلال في سلامة المبيع، و خيار التدليس لو قلنا بجريان الغشّ في النكاح أو بجريان خياره في البيع حذاء خيار تخلّف الوصف، و خيار تخلّف الوصف فيما كان الغشّ بإظهار خلاف الواقع في الوصف المعتبر فيه، و للمسألة مقام آخر يطلب منه، و خيار تبعّض الصفقة فيما كان المغشوش ما يتمكّن المشتري عادة

ص: 435

نعم لو كان الغشّ بإظهار الشي ء على خلاف جنسه كبيع المموّه على أنّه ذهب و فضّة و نحو ذلك فسد (1) أصل المعاملة.

عادة من إخلاصه.

و في كونه من الغشّ، إشكال؛ لأنّه قد يعتبر كونه ممّا لا يعلم إلّا من قبل البائع أو الخبير المتضلّع، و ذلك في غير هذا الفرض يستلزم الغرر؛ لأنّه يرتفع بالمشاهدة، و عند ذلك يكون البيع باطلًا لجهة أُخرى.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ ذلك غشّ في البيع الفاسد، و ليس من شرائط حرمته صحّة البيع، بل و لا إثباته الخيار؛ لأنّه لو غشّ في المبيع يسيراً فإنّه لا يورث الخيار عرفاً و إن كان محرّماً شرعاً.

قوله دام ظلّه: «فسد».

إذا كانت المعاوضة شخصيّة، و لو كانت كلّيّة فالوفاء فاسد دونها، و هكذا في الفروض السابقة، و الوجه في المسألتين واضح لا يحتاج إلى التأمّل.

ص: 436

[مسألة 18: يحرم أخذ الأُجرة على ما يجب عليه فعله]

مسألة 18: يحرم (1) أخذ الأُجرة على ما يجب عليه فعله عيناً، بل و لو كفائيّاً، قوله دام ظلّه: «يحرم».

وضعاً على المشهور، بل ادّعى عليه «الرياض» الإجماع، و حاكياً عن جماعة(1)، و في «الجواهر»: «بلا خلاف معتدّ به أجده فيه»(2) و هو الموافق لما تقرّر عندنا في الكتاب الكبير، إذا كان المراد من الأُجرة المجعول في الإجارة، لا مطلق العوض، و منها الجعل في الجعالة، و مثلها عندي على إشكال في كبراها الإباحة بالعوض.

و أمّا أخذ العوض في الشروط البدويّة، بناء على صحّتها، أو في ضمن العقود اللازمة، بل و الجائزة، فهو عندي جائز، و ذلك لعدم تماميّة الوجوه المذكورة في الكتب المفصّلة، و قد تعرّضنا لها في المكاسب المحرّمة، و في صلاة الاستئجار، و في قضاء الولي(3).

و الوجه الوحيد فيها هو: أنّ لكلّ معاملة مصبّ خاصّ، معلوم الحدود عند العرف و العقلاء، و لا يجوز التوصّل إلى العقل في الاستنتاج منها حتّى يدخل البيع في مورد الإجارة و بالعكس، و الوكالة في مورد


1- رياض المسائل 1: 505/ السطر 27.
2- جواهر الكلام 22: 116.
3- ممّا يؤسف له فقدان هذه المباحث من مؤلّفات المؤلّف( قدّس سرّه).

ص: 437

الاستئجار على العمل، و بالعكس، حتّى لا تجوز الإجارة في مواقف النيابة، فإنّ لها موقفاً خاصّاً، و تكون النيابة بحذاء الإجارة و الوكالة، و لنا كتاب آخر في الفقه، و هو كتاب النيابة كالإجارة و الوكالة، و الاستئجار على النيابة، كالاستئجار على الوكالة، ممّا لا أصل له عند الناس.

و لو صحّ خلط مواقف العقود لكان القول: «بأنّ الإجارة من أصناف البيع» حقّا و بالعكس و هكذا، فعلى هذا يعلم: أنّ ماهيّة الإجارة موضوعة لمواقف معلومة عند العقلاء، و ليس اعتبارها بيد الفضلاء حتّى يجروها إلى أيّ مصبّ شاؤوا.

فالقول بالصحّة الإجارة فيما نحن فيه، في غاية الوهن، و نهاية الوهم؛ لعدم تأتّي ماهيّتها في هذه المواضيع، مع أنّ لنا في كون استئجار الحرّ من الإجارة حقيقة كلاماً، ذكرناه في كتاب الإجارة(1)، و لذلك لا تصحّ هي في المستحبّات، و في المباحات المشابهة مع الواجبات، بأن يستأجر مثلًا لزرع أرضه نفسه، و مثلها الواجبات النظاميّة، على إشكال في وجوبها.

و من العقود الباطلة في هذه المواقف، الجعالة؛ فإنّ ماهيّتها عند العرف مخصوصة بمصبّ معيّن، و لا معنى للاستفادة منها في كلّ موقف أشكل


1- كتاب الإجارة، للمؤلّف( قدّس سرّه)) مفقودة).

ص: 438

الاستفادة عن سائر العقود، و هكذا الصلح، و غيره.

و الخلط بين المعتبرات المنجّزة العقلائيّة، و بين الاعتبارات التقديريّة المستحسنة الّتي كان يليق اعتبارها، أوقعهم في هذه المهالك، مع بعض الأخلاط الأُخر.

و بالجملة: ظاهرهم تحريم العوض من غير النظر إلى العناوين المنطبقة عليه، و حيث لا إطلاق لمعاقد الإجماعات المدّعاة، بل فيها الموهنات، فالقول بجواز أخذ العوض في الصور المذكورة قويّ.

بل في المسألة بعض روايات تدلّ على جوازه، و حملها على خلاف ظاهرها بلا وجه.

ففي مصحّحة محمّد بن الحسن الصفّار، عن أبي محمّد (عليه السّلام): أنّه كتب إليه: رجل كان وصيّ رجل فمات و أوصى إلى رجل، هل يلزم الوصيّ وصيّة الرجل الذي كان هذا وصيّه؟ فكتب (عليه السّلام): «يلزمه بحقّه إن كان له قبله حقّ إن شاء اللَّه»(1).

و سيأتي الكلام في الروايات الأُخر، الّتي يمكن دعوى استفادة حرمة مطلق العوض بإلغاء الخصوصيّة. هذا تمام الكلام فيما هو الخارج عن


1- التهذيب 9: 215/ 850، وسائل الشيعة 19: 402، كتاب الوصايا، الباب 70، الحديث 1.

ص: 439

المكاسب المحرّمة.

و أمّا ما هو المقصود، و هو حرمته التكليفيّة فلعلّ الإجماعات ناظرة إليه؛ ضرورة أنّ عنوانه في هذا الباب قبال المكاسب المستحبّة، و المكروهة، قرينة قطعيّة عليه، و بطلانها لا يحتاج إلى إعمال التعبّد بعد اقتضاء القواعد إيّاه.

و ربّما يستشهد على الحرمة التكليفيّة بما ورد في النهي، و إظهار المبغوضيّة بالنسبة إلى أجر الأذان، و الإمامة، و القضاء، و تعليم القرآن، في كتاب الأمر بالمعروف(1)، و القضاء و الشهادات(2)، و كتاب الحج(3)، و الصلاة(4)؛ فإنّه بعد إلغاء الخصوصيّة يعلم ذلك في غير موردها.

هذا و لكنّ الروايات في المسائل المشار إليها، غير نقيّة السند، و ما هو يتمّ سنده محمول عندهم على الكراهة، و لو سلّمنا تماميّة السند


1- وسائل الشيعة 16: 275، كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، أبواب الأمر و النهي، الباب 41، الحديث 6.
2- وسائل الشيعة 27: 221، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 8، الحديث 1 و 5.
3- وسائل الشيعة 11: 163، كتاب الحجّ، أبواب النيابة في الحجّ، الباب 1.
4- وسائل الشيعة 5: 447، كتاب الصلاة، أبواب الأذان و الإقامة، الباب 38، و 6: 181، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، الباب 8، الحديث 1 و 3 و 7 و 8.

ص: 440

و الدلالة فإلغاؤها للتجاوز إلى عنوان المسألة حتّى يشمل التوصّليّات الواجبة، غير صحيح.

نعم، دعوى الأولويّة بالنسبة إلى سائر المستحبّات و الواجبات التعبديّة، ليست غريبة، خصوصاً بعد ملاحظة رواية العلاء بن سيّابة، عن أبي جعفر (عليه السّلام)، قال: «لا يصلّى خلف من يبتغي على الأذان و الصلاة الأجر»(1).

و معتبرة حمران المشتملة على المنكرات المبتلى بها الناس، و منها: «و رأيت الأذان بالأجر، و الصلاة بالأجر»(2) فإنّهما ظاهرتان في أخذ الأجر قبال الصلاة.

و لكنّ الإنصاف اختصاصهما بالصلاة بالناس، كما في رواية معتبرة عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: «لا تصلّ خلف من يبغي على الأذان و الصلاة بالناس أجراً، و لا تقبل شهادته»(3).

و قضيّة الأولوية ممنوعيّة مطلق العوض حتّى في الصور الّتي جوّزناها وضعاً.


1- الكافي 7: 396/ 11، وسائل الشيعة 27: 377، كتاب الشهادات، الباب 32، الحديث 2.
2- الكافي 8: 36/ 7، وسائل الشيعة 16: 275، كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، أبواب الأمر و النهي، الباب 41، الحديث 6.
3- الفقيه 3: 27/ 75، وسائل الشيعة 27: 378، كتاب الشهادات، الباب 32، الحديث 6.

ص: 441

على الأحوط (1) فيه، كتغسيل الموتى و تكفينهم و دفنهم، نعم لو كان الواجب توصّلياً كالدفن، و لم يبذل المال لأجل أصل العمل، بل لاختيار عمل خاصّ، لا بأس به، فالمحرّم أخذ الأُجرة لأصل الدفن، و أمّا لو اختار الولي مكاناً خاصّاً و قبراً مخصوصاً و أعطى المال لحفر ذلك المكان الخاصّ، فالظاهر أنّه لا بأس به، كما لا بأس بأخذ الطبيب الأُجرة للحضور عند المريض و إن أشكل أخذها لأصل المعالجة، نعم، لا بأس قطعاً بإيجاد الداعي إلى العبادات، بعد عدم لزوم الإخلال بشرائطها، كما تقرّر في محلّه(1)، بل مقتضى أدلّة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، جواز إعطاء الأجر للتوصّل إلى المعروف على الوجه المزبور عندنا، و لكنّه أعمّ، و لو تمّ ما أُشير إليه يتعيّن التقييد جمعاً بين الأدلّة.

ثمّ إنّ ظاهر المتن جواز أخذ الأُجرة حذاء الواجب التخييري و لو كان تعبديّاً، و الوجه قصور القواعد عن إبطاله و إجمال معاقد الإجماعات، و قد عرفت ما فيهما، و يكفي الأوّل.

قوله دام ظلّه: «على الأحوط».

مخافة الإجماع، و إلّا فمقتضى ما أفاده في وجه بطلان أخذ الأُجرة في العيني، عدم بطلانه هنا.


1- تحريرات في الأُصول 3: 256.

ص: 442

و إجماله: أنّ جميع الواجبات العينيّة التعيينيّة كالصلاة و الصوم و الحجّ و نحوها اعتبر فيها مضافاً إلى أصل الوجوب، كونها على ذمّة العبد نحو الديون الخلقيّة، و يشهد لذلك المرام آيات و روايات، و عليه تكون الأعمال الواجبة ملك للَّه تعالى، و دَين على العبد، فلا يجوز إجارة نفسه لما لا يملكه، و يكون ملكاً للغير، فما كان من سائر الواجبات داخلة في هذا الاعتبار تخييريّاً كان أو كفائيّاً، فلا يجوز أخذ الأُجرة عليها، و إلّا فيجوز، و ليس في الأدلّة ما يورث اندراج الكفائيّات فيها، فالأقوى صحّة الاستئجار فيها، كما لا يخفى.

و فيه: مضافاً إلى قصور دليله عن العينيّات التوصليّة، و انحصار أمثلته في العباديّة و التقرّبيّة كالخمس، و الزكاة، أنّ المكلّف بهذه التكاليف ليس أجيراً خاصّاً في نظر الشرع و العرف، و لو سلّمنا ذلك فالإجارة الثانية تبطل على المشهور، خلافاً لما اخترناه في كتاب الإجارة(1).

ثمّ إنّ بطلان الإجارة لا يورث بطلان أخذ الأجر بعنوان آخر، مثلًا لو امتنع الأجير الخاصّ من القيام بالوظيفة، فأعطاه المستأجر أو الأجنبي أجراً، لأجل قيامه بالوظيفة الشرعيّة الحاصلة من عقد الإجارة، يكون


1- كتاب الإجارة، من تحريرات في الأُصول) مفقود).

ص: 443

ذلك غير ممنوع، مع أنّ كلام الأصحاب ظاهر في منع مطلق الأجر(1)، بل استئجار المستأجر أجيره الخاصّ على الإقدام بإيجاد ما استؤجر له، غير ممنوع حسب ما أفاده في حقيقة الإجارة(2).

و عليه لا بأس بالإجارة في تلك الواجبات؛ لأنّها في طولها، و ما هو الممنوع كون الإجارة الثانية، مزاحمة لمفاد الإجارة الأُولى و التكاليف الإلهيّة، لا المؤكّدة و الباعثة كما لا يخفى.

و بالجملة: لا تجري العقود المعروفة، و المعاوضات المتعارفة في هذه المواقف، لقصور ماهيّاتها، و عدم كونها بيدنا في السعة و الضيق، من غير دخالة الوجوب و الاستحباب، بل في الأعمال المباحة هي قاصرة عن الجريان إلّا في بعض الصور الآتية.

و العجب من جماعة، حيث توهّموا: أنّ الممنوع في المقام هو الأُجرة، لا مطلق الأجر، و لكنّه عندي غير ممنوع.

و توهّم تنافيه لقصد القربة في العباديّات، مدفوع بما تقرّر في محلّه(3).

ثمّ إنّ الصورة المستثناة من الاستثناء المنقطع، مع أنّه قد يشكل


1- لاحظ: تذكرة الفقهاء 1: 583/ السطر 12، جامع المقاصد 4: 35، مجمع الفائدة و البرهان 8: 89.
2- تحرير الوسيلة 1: 570، كتاب الإجارة، المسألة 1.
3- تحريرات في الأُصول 3: 256.

ص: 444

ذلك؛ لاتّحاد الخصوصيّة مع الخاصّ، و التفكيك ليس عرفيّاً.

و منه يعلم حال أخذ الأُجرة للحضور، أو المشي إلى البيت، أو حمل الأثاث، و مقدّمات العمل، و الطبابة؛ فإنّه ممّا يفهم العرف بأنّ الشرع لو منع أخذ الأُجرة للطبيب حذاء الطبابة، منع عن هذه الأُمور، ممّا كان الصلاح في أمر ينقلب إلى الفساد بتلك الحيل القريبة من الأذهان العرفيّة، فكأنّه منع من إعاشة الطبيب من تلك الطريقة، و اعتبر مجّانيّة العمل وضعاً، و لزوم ذلك تكليفاً.

و الّذي هو التحقيق: أنّ الواجبات و غيرها، ممّا يتعلّق بالناس، و ليس من الوظائف الفرديّة، مثل العباديّات، و ما شابهها من التّوصليّات عينيّة كانت، أو تخييريّة، أو كفائيّة، أو غيرها، تجري فيها المعاوضات العقلائيّة؛ لتماميّة المقتضي و عدم وجود المانع، و ما توهّمت مانعيّته لا يرجع إلى محصّل، كما تحرّر منّا في كتابنا الكبير(1).

و ما هو من الوظائف الفرديّة التي لا تكون للناس فيه الأغراض و المنافع، لا تجري فيه ماهيّات المعاوضات.

نعم، أخذ الجعل حذاء صلاة نفسه بوجه مضى، ممّا لا بأس به. فالواجبات النظاميّة الّتي هي ترجع في الحقيقة إلى الواجبات العقليّة أو


1- مباحث المكاسب المحرّمة، من تحريرات في الفقه) مفقودة).

ص: 445

و إن كان الأقوى جوازه (1).

الغيريّة، لحرمة الإخلال و الهرج و المرج، مصبّ عناوين المعاوضات، فلا بأس بأن يأخذ الطبيب أجرين، أجراً حذاء طبابته من المريض، و أجراً حذاء تهيئته للعيادة من الأمير و الحاكم، و هذا الأجر الأخير ينبغي أن يكون محلّ البحث، دون الأوّل، فلا تغفل.

و بعبارة أُخرى: تارة يأخذ البقّال و الصانع مقابل البقل و الصنع، و أُخرى مقابل البقّاليّة و التصنيع بالمعنى المصدري، أو بالمعنى الآخر، و هو تحمّل قبول ذلك؛ لأنّه أعظم شأناً من أن يكون طبيباً و صانعاً و بقّالًا، إذا تبيّن ذلك فيعلم: أنّ ما لا تأتي فيه ماهيّات العقود ما هو، و ما تأتي فيه ما هو، و تقدر على التمييز، و يعلم أيضاً وجه عدم استثناء الماتن للواجبات النظاميّة الكفائيّة، أو التخييريّة.

قوله: «و الأقوى جوازه».

و لو كان متعيّناً فإنّ التعيّن و التعيين في الكفائيّة و التخييريّة، لا يورث تصرّفاً في الجعل، كما في المشروطة و الموسّعة، فإنّه بحصول الشرط و ضيق الوقت، لا يكون واجباً مطلقاً و مضيّقاً، بل و لو اقتضى ذلك، كما عرفت.

نعم، لا معنى للمعاوضة على أن يكون طبيباً لنفسه، فإنّه من قبيل الاستئجار على أن يصلّي صلاته.

و توهّم الإشكال في أخذ الأُجرة على أصل الطبابة، و دفعه بأخذها

ص: 446

و لو كان العمل مبتدئاً يشترط فيه التقرّب كالتغسيل فلا يجوز (1) أخذها عليه على أيّ حال.

حذاء المقدّمات، كتوهّم الإشكال في أخذها حذاء العبادة، و دفعه بأخذها حذاء النيابة؛ فإنّ إمكان اعتبار الماليّة لشي ء باعتبار الأمر الآخر كما في الأوراق النقديّة، لا يكفي، بل لا بدّ من كونه عقلائيّاً، فلا تغفل.

قوله دام ظلّه: «فلا يجوز».

إجماعاً، و هذا هو القدر المسلّم من معاقد الإجماعات المحكيّة(1)، و إليه يشير قوله «على أيّ حال»، و ذلك لتنافي قصد القربة و الامتثال معها؛ لأنّها هي المؤثّر و المحرّك نحو العمل.

نعم، إذا كانت الأُجرة محرّكة بالعنوان الإلهي المنطبق عليها، كما في التحرّك من الجنّة و النار، و من التوسعة في الرزق، و غيرها، فهي جائزة.

و من هذا القبيل لو استأجر فأعطى الأُجرة قبل العمل، و صرفها، ثمّ بعد ذلك تمشي من القربة؛ للزوم أداء الدين، و لا يشترط القدرة على تسليم مورد الإجارة حين العقد، بل اللازم منها حين التسليم، كما هو الظاهر.

بل الّذي يظهر هو: أنّ العمل المأتي به لا بدّ من كونه عبادة للَّه تعالى، من غير رياء، و لا حاجة في عباديّة الشي ء إلى الأمر حتّى يلزم كون


1- مجمع الفائدة و البرهان 8: 89، رياض المسائل 1: 505/ السطر 27، مفتاح الكرامة 4: 92/ السطر 5.

ص: 447

نعم، لا بأس (1) بأخذها على الأُمور غير الواجبة، كما تقدّم في غسل الميّت.

التحرّك من قبله، بل الأوامر كلّها توصّليّة يتسامح و الاختلاف في التعلّقات، فلا تكون العبادة عبادة إلّا بصلاحيّة الذات و القصد، فلو عبد اللَّه لما أمره الأب، و الأمر بالمعروف، و لغير ذلك من البواعث المختلفة، صحّت عبادته، و لا دليل على تقوّم الصحّة بالأمر، و لا بمضريّة التحرّك من قبل الأمر الآخر بأبعادها.

و لكنّه مع ذلك كلّه تكون المعاوضات لعدم مشروعيّتها إلّا في مواضع معلومة عند العقلاء باطلة في المقام، و في المسائل الآتية أيضاً، و ليس مجرّد إمكان الإسراء كافٍ في صحّة سريان عناوين المعاملات في جميع المواضيع.

و ممّا حصّلنا يظهر بطلان الإجارة في صلاة الاستئجار، و صومه، و حجّه، و غير ذلك، و قد فصّلنا البحث حوله في كتاب الصلاة، من كتابنا الكبير(1) و في هذا المختصر لا وجه للإعادة.

قوله دام ظلّه: «لا بأس».

قد عرفت وجه الإشكال في صحّة المعاوضة على الأُمور اللّاحقة(2)، غير ذات الماليّة إلّا بالتقييد.


1- لم نعثر عليه فيما بأيدينا من مباحث كتاب الصلاة من« تحريرات في الفقه».
2- تقدّم في الصفحة 443 و ما بعدها.

ص: 448

و ممّا يجب (1) على الإنسان تعليم مسائل الحلال و الحرام، فلا يجوز أخذها عليه.

قوله دام ظلّه: «و ممّا يجب».

كفائيّاً، و في كونه واجباً عند السؤال عيناً إشكال، بل منع، و لعلّ نظره إلى الإفتاء، أو نقل الفتوى للمحتاج إليه، في صورة الجواز، و أمّا نقله لمن يعرف فساده، فهو غير جائز؛ للزوم تفويت المصلحة، بل و في وجه، الإلقاء في التهلكة، و الإغراء إلى الجهل، دون من يؤخذ منه الصناعات العلميّة، و العلوم، لتحصيل الملكات الاجتهاديّة.

و لكنّ ممنوعيّة الأخذ غير تامّة بالوجوه المتوهّمة؛ لأنّها ترجع إلى توهّم تنافي الوجوب معه، و قد تقرّر خلافه، و عليه يأخذ الأجر حذاءه، و إذا لم يؤدّ فيعلمه، لئلّا يقع في الهلكة.

و دعوى لزوم تجويزها للأنبياء غير مسموعة؛ لاستلزامه الإخلال بالمقصد، مع ظهور فعلهم في المجّانيّة.

و بالجملة: هذا في الحقيقة يشبه الواجبات النظاميّة التي تجب مع العوض، و إن لم يوجد من يؤدّيه فعليه ذلك مجّاناً.

ص: 449

و أمّا تعليم القرآن فضلًا عن غيره من الكتابة و قراءة الخطّ و غير ذلك، فلا بأس (1) بأخذها عليه.

قوله دام ظلّه: «فلا بأس».

و لعلّه يشمل نفي الكراهة، كما عن «القواعد»(1) و «الإرشاد»(2).

و عن «الاستبصار»: «أنّه حرام مع الشرط»(3) و تبعه العلّامة في «التذكرة»(4)، و عن بعضهم: إطلاق الحكم بالتحريم(5)، و في المسألة أقوال أُخر(6).

و المشهور، بل المدّعى عليه الإجماع(7)، هو الجواز، و هو في محلّ الضعف، مع أنّه لا حاجة إليه.

و الأخبار مختلفة، ففي طائفة منها ما هو الصريح في الجواز بلا كراهة، مثل رواية الفضل بن أبي قرّة(8)، و في اخرى ما هو كالنصّ في


1- قواعد الأحكام 1: 230/ السطر 8.
2- إرشاد الأذهان 1: 358.
3- الاستبصار 3: 65 66.
4- تذكرة الفقهاء 2: 299/ السطر 39.
5- الكافي في الفقه، الحلبيّ: 283.
6- مفتاح الكرامة 4: 84/ السطر 6 و ما بعده.
7- السرائر 2: 223، مفتاح الكرامة 4: 86/ السطر 3.
8- الكافي 5: 121/ 2، وسائل الشيعة 17: 154، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 29، الحديث 2.

ص: 450

و المراد بالواجبات المذكورة ما وجب على نفس الأجير، و أمّا ما وجب على غيره، و لا يعتبر فيه المباشرة، التحريم، مثل رواية «الفقيه» و «التهذيب» عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) أنّه أتاه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين، و اللَّه إنّي لأُحبّك في اللَّه، فقال له: «و اللَّه إنّي لُابغضك للَّه»، قال: و لم؟ قال: «لأنّك تبغي على الأذان أجراً، و تأخذ على تعليم القرآن أجراً، و سمعت رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (يقول: من أخذ على تعليم القرآن أجراً، كان حظّه يوم القيامة»(1). و لا جمع بينهما حسب الدلالة، و لا وجه لحمل مثلها على التقيّة.

نعم، دعوى إعراض المشهور عن هذه الرواية و ما شابهها، في محلّه؛ فتكون النتيجة حينئذٍ عدم الكراهة، مع ضعف أسناد المشتملات على النهي.

و تجويز الكسب مع الغرر، و عدم تعيين الأجر، بأن لا يشترط ضمن تجار، خلاف القواعد، و سيأتي بعض الكلام حوله إن شاء اللَّه تعالى.


1- الفقيه 3: 109/ 461، تهذيب الأحكام 6: 376/ 1099، وسائل الشيعة 17: 157، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 30، الحديث 1، مع تفاوت.

ص: 451

فلا بأس (1) بأخذ الأُجرة عليه حتّى في العبادات التي يشرع فيها النيابة، فلا بأس بالاستئجار للأموات في العبادات كالحجّ و الصوم و الصلاة.

قوله دام ظلّه: «فلا بأس».

قد مرّ تفصيل البحث حول ذلك في كتاب الصلاة(1)، و المختار عدم جوازه.


1- كتاب الصلاة للمؤلّف الشهيد( قدّس سرّه)) مفقود).

ص: 452

[مسألة 19: يكره اتّخاذ بيع الصرف]

مسألة 19: يكره اتّخاذ (1) بيع الصرف، و الأكفان، و الطعام، حرفة، و كذا بيع الرقيق؛ فإنّ شرّ الناس من باع الناس، و كذا اتخاذ الذبح، و النحر صنعة، و كذا صنعة الحياكة، و الحجامة، (2) قوله دام ظلّه: «يكره اتّخاذ».

و هو مقتضى رواية إسحاق بن عمّار، قال: دخلت على أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) فخبّرته أنّه ولد لي غلام، قال: «أ لا سمّيته محمّداً؟» قلت: قد فعلت إلى أن قال: «إذا عزلته عن خمسة أشياء فضعه حيث شئت، لا تسلّمه صيرفيّاً، فإنّ الصيرفيّ لا يسلم عن الربا، و لا تسلّمه بيّاع أكفان، فإنّ صاحب الأكفان يسرّه الوباء إذا كان، و لا تسلّمه بيّاع طعام، فإنّه لا يسلم من الاحتكار، و لا تسلّمه جزّاراً، فإن الجزّار تسلب منه الرحمة، و لا تسلّمه نخاساً، فإنّ رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (قال: شرّ الناس من باع الناس»(1).

و دعوى ظهورها في الاتّخاذ حرفة، غير بعيدة، كما في «الجواهر»(2).

قوله دام ظلّه: «و الحجامة».

قد ورد في روايات المسألة تجويزها عند عدم الشرط(3)، و ظاهرها


1- الكافي 5: 114/ 4، تهذيب الأحكام 6: 361/ 1037، وسائل الشيعة 17: 135، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 21، الحديث 1.
2- جواهر الكلام 22: 129 130.
3- وسائل الشيعة 17: 104، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 9، التهذيب 6: 354/ 1008.

ص: 453

صحّة هذا التكسّب الفاقد للشرط، و هو خلاف الضرورة الثابتة في محلّه، من لزوم كون العوض معلوماً في جميع المكاسب القديمة و الحديثة.

و دعوى أنّه ليس كسباً غير تامّة جدّاً.

و دعوى التخصيص ممّا لا بأس به، بل هذه المآثير تشهد على ما اخترناه في كتاب الإجارة، من التوسعة في هذه الأُمور، و عدم تماميّة ما سلكه المشهور، من لزوم الاطّلاع على القيود في العقود.

ثمّ إنّ من المحتمل قويّاً، توجيه بعض مآثير الباب، الواردة في الحياكة(1)، إلى الحائك الذي هو «الكاذب»، لا الذي هو «الناسج» و ما ورد من «أنّ ولد الحائك لا ينجب إلى سبعة أبطن»(2) محمول عليه، فتأمّل جيّداً.


1- وسائل الشيعة 17: 140، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 23.
2- لم نعثر على هذه الرواية في المعاجم الروائية و لكن نقلها عدة من الفحول في كتبهم لاحظ مجمع الفائدة و البرهان 8: 16 و مفتاح الكرامة 4: 7 و جواهر الكلام 22: 132.

ص: 454

و كذا التكسّب بضراب الفحل (1)، بأن يؤاجره لذلك، مع ضبطه بالمرّة و المرّات المعيّنة، أو بالمدّة، أو بغير الإجارة. نعم، لا بأس بأخذ الإهداء و الإعطاء لذلك.

قوله دام ظلّه: «و كذا التكسّب بضراب الفحل».

بلا خلاف معروف بين المتعرّضين؛ لما ورد به الخبر(1).

و صحّة هذا النحو من الكسب الفاقد لشرط المعاوضة هنا، مشكلة لعدم الدليل عليه، و لا يكفي الاتّفاق المشار إليه؛ لقصوره عن الجبر.

ثمّ إنّ الكسب بالفحل إمّا بالإجارة، أو بالبيع، و في الفرضين إشكال آخر، فإنّ النطفة من النجاسات، و ما ورد من الإجماعات في محلّه يشمل الفرض، إلّا أنّ قضيّة صحيحة معاوية بن عمّار(2) و غيرها(3)، هو الجواز، و قد تعرّضنا لها في محلّه و قلنا بدلالتها على أنّ المنع في سائر النجاسات، ربّما كان لأجل فقد الشرط، فتدبّر.


1- وسائل الشيعة 17: 111، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 12.
2- الكافي 5: 116/ 5، وسائل الشيعة 17: 111، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 12، الحديث 2.
3- وسائل الشيعة 17: 111، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 12، الحديث 1.

ص: 455

[مسألة 20: لا ريب أنّ التكسّب و تحصيل المعيشة بالكدّ و التعب محبوب عند اللَّه تعالى]

مسألة 20: لا ريب أنّ التكسّب و تحصيل المعيشة بالكدّ و التعب محبوب عند اللَّه تعالى، و قد ورد عن النبيّ صلّى اللَّه تعالى عليه و آله، و الأئمّة (عليهم السّلام (بالحثّ و الترغيب عليه مطلقاً(1)، و على خصوص التجارة(2)، و الزراعة(3)، و اقتناء الأغنام، و البقر(4) روايات كثيرة، نعم، ورد النهي عن إكثار الإبل(5).

[مسألة 21: يجب على كلّ من يباشر التجارة، و سائر أنواع التكسّب، تعلّم أحكامها]

مسألة 21: يجب (1) على كلّ من يباشر التجارة، و سائر أنواع التكسّب، تعلّم أحكامها، و المسائل المتعلّقة بها، ليعرف صحيحها من فاسدها، و يسلم من الربا، قوله مدّ ظلّه: «يجب».

في أنّه أيّ قسم من الوجوب خلاف، فعن جماعة كالأردبيليّ(6)، أحب «المعالم»(7) وجوبه النفسي و لو أتى بالواقع، و عن كثير وجوبه


1- وسائل الشيعة 17: 66، كتاب التجارة، أبواب مقدّماتها، الباب 23.
2- وسائل الشيعة 17: 41، كتاب التجارة، أبواب مقدّماتها، الباب 1 و 2 و 4.
3- وسائل الشيعة 17: 41، كتاب التجارة، أبواب مقدّماتها، الباب 10، و 19: 32، كتاب المزارعة و المساقاة، الباب 3.
4- وسائل الشيعة 11: 508، كتاب الحجّ، أبواب أحكام الدواب، الباب 29 و 30 و 48.
5- وسائل الشيعة 11: 501، كتاب الحجّ، أبواب أحكام الدواب، الباب 24.
6- انظر مجمع الفائدة و البرهان 2: 110 عند قوله: و اعلم أيضاً انّ سبب بطلان الصلاة ..
7- معالم الدين: 201.

ص: 456

حال تخلّف المأتي به عن الواقع(1)، فيعاقب مرّتين، و الحقّ عدم وجوبه، على ما تقرّر في مقامه(2).

نعم، يصحّ العقوبة على الواقع مع الجهل الذي ليس عذراً، و ما ورد من الترغيب إلى التعلّم(3) لا يدلّ على أكثر منه و إمكان الحمل على النفسي لا يكفي بعد عدم مساعدة العرف فهماً.

و توهّم الاستحباب النفسي مطلقاً أو في خصوص الصورة الآتية، لا يتمّ حسب ظواهر المآثير.

و بالجملة: إذا كان المتاجر في بلد يعلم المشتري أحكام التجارة، فلا يجب عليه التعلّم إلّا إذا احتمل تخلّفه عن علمه، فالمقدار اللازم هو ما إذا احتمل وقوعه في الخلاف، فكما لا يجب على البقّال تعلّم أحكام الربا، لعدم ابتلائه به، كذلك لا يجب على العالم بعدم الابتلاء، بخلاف الواقع المنجّز المستلزم للعقاب.


1- لاحظ تحريرات في الأُصول 8: 229.
2- تحريرات في الأُصول 3: 87 90.
3- وسائل الشيعة 17: 381، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 1.

ص: 457

و القدر اللازم: أن يكون عالماً و لو عن تقليد (1) بحكم التجارة و المعاملة التي يوقعها حين إيقاعها، بل و لو بعد إيقاعها (2) إذا كان الشكّ في الصحّة و الفساد فقط، قوله دام ظلّه: «و لو عن تقليد».

لا وجه له بعد إمكان الاحتياط، نعم إذا لم يمكن ذلك يجب التعلّم، و هو الأعمّ من الاجتهاد.

و يمكن دعوى وجوبه مطلقاً، لما تقرّر منّا من: أنّ حجيّة العلم كحجيّة غيره في الحاجة إلى الإمضاء؛ لإمكان سلبها عنه(1)، و مقتضى إطلاق هذه المآثير عدم حجيّة العلم بعدم التورّط في الحرام، فتأمّل.

ثمّ إنّ وجوب التعلّم يختصّ بمورد يحتمل فيه الحكم الإلزامي، كما في التقليد أيضاً و لو لأجل التشريع، و قد مرّ البحث حوله في كتاب التقليد(2).

قوله: «و لو بعد إيقاعها».

و ذلك؛ لأنّ العقل الحاكم في المسألة يرى كفاية الحجّة الشرعيّة، و منها التقليد، فالمعذّر عن احتمال مخالفة الواقع، أنحاء، و الكلّ في نظره بنسبة واحدة، فلا حاجة إلى الاجتهاد.


1- تحريرات في الأُصول 6: 20 21.
2- مباحث الاجتهاد و التقليد من مستند تحرير الوسيلة مفقودة.

ص: 458

و أمّا إذا اشتبه حكمها من جهة الحرمة و الحليّة، لا من جهة مجرّد الصحّة و الفساد، يجب (1) الاجتناب عنها ثمّ إنّه قد يشكل تجويز المعاملة مع الشكّ في أحكامها؛ لاستلزامه الإخلال بمقوّمها، و هو القصد و الإرادة الجديّة، فإنّها كيف تترشّح إلى عنوان التجارة مع الشكّ في وقوعها، و مع التزامه بعدم الوقوع لو تبيّن الخلاف؟! و ليس صورة المعاملة بيعاً و لا إجارة، ما دام لم يكن موجوداً، و إن كان فاسداً في نظر الشرع أو العرف الخاصّ.

نعم، إذا اتّفق غفلته عن حاله، فإنّه حينئذٍ يتمكّن، و لكنّه خلاف المفروض في المتن ظاهراً.

قوله دام ظلّه: «يجب».

لما تقرّر في محلّه و أُشير إليه، فإنّ البراءات الثلاثة العقليّة، و العقلائيّة، و الشرعيّة، غير جارية، فلو أقدم على ذلك، فإن لم يتمكّن من الإنشاء الجدّي كما عرفت فتلك المعاملة غير قابلة للتصحيح.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ أدلّة الفضولي لا تقصر عن شمول المورد، فإنّه و إن لم يكن بيعاً إلّا أنّه يصير بيعاً بعد لحوق الإمضاء، كما يصير في الموارد الأُخر مؤثراً به.

و إن تمكّن منه، فإن تبيّن بعد المراجعة أنّه الصحيح الحلال فلا شي ء

ص: 459

كموارد الشكّ في أنّ المعاملة ربويّة (1)، بناءً على حرمة نفس المعاملة أيضاً، كما هو كذلك على الأحوط.

عليه إلّا التجرّي، و إن تبيّن أنّه الصحيح الحرام فلا شي ء عليه إلّا التوبة، و إن تبيّن أنّه الفاسد الحلال، فإن كان من موارد المقبوض المغصوب فعليه أحكامه، و إن كان من موارد المقبوض المرضي تقديراً فلا شي ء عليه إلّا التجرّي، و إن تبيّن أنّه الفاسد الحرام فقد علم حكمه ممّا أُشير إليه.

قوله دام ظلّه: «ربويّة».

لا يبعد ظهور الكتاب(1) و السنّة(2) في: أنّه محرّم تكليفاً كالقمار، بل لو كان المحرّم فيه التصرّف في مال الغير كسائر المعاملات الفاسدة، فلا وجه لقوله تعالى فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ ..(3) و لا سيما لو كان من الموارد الحاصل فيها الطيب التقديري.

و قد يشكل: بأنّ المحرّم الذي لا يبعد كونه أشدّ من عشرين زنية(4)، بل ثلاثين زنية(5) كما يأتي في الكتاب، هو الربا و هو الزيادة


1- البقرة( 2): 275 279.
2- وسائل الشيعة 18: 117، كتاب التجارة، أبواب الربا، الباب 1.
3- البقرة( 2): 279.
4- وسائل الشيعة 18: 119، كتاب التجارة، أبواب الربا، الباب 1، الحديث 6 و 22.
5- وسائل الشيعة 18: 118، كتاب التجارة، أبواب الربا، الباب 1، الحديث 5.

ص: 460

بعنوانها لا بعنوان التصرّف في مال الغير، فكون نفس المعاملة الربويّة محرّمة، غير معلوم، و لا سيّما على مختار جماعة، من صحّة أصل المعاملة(1)، كما لا يخفى.


1- جواهر الكلام 23: 334.

ص: 461

[مسألة 22: للتجارة و التكسّب آداب مستحبّة و مكروهة]

مسألة 22: للتجارة و التكسّب آداب (1) مستحبّة و مكروهة، أمّا المستحبّة فأهمّها: الإجمال في الطلب، و الاقتصاد فيه؛ بحيث لا يكون مضيّعاً و لا حريصاً. و منها: إقالة النادم (2) في البيع و الشراء لو استقاله. و منها: التسوية بين المبتاعين في السعر، فلا يفرّق بين المماكس و غيره، بأن يقلّل الثمن للأوّل و يزيده للثاني، نعم لا بأس بالفرق بسبب الفضل و الدين، و نحو ذلك ظاهراً. و منها: أن يقبض لنفسه ناقصاً و يعطي راجحاً.

قوله دام ظلّه: «آداب».

استحباب هذه المذكورات و غيرها المزبور في المفصّلات و كراهتها شرعاً إلّا بعضاً منها، غير معلوم.

نعم، بناءً على إثباتها بأدلّة التسامح(1) فلا يبعد، خصوصاً على القول بشمولها لفتوى الفقيه الذي لا يكون سندها إلّا الرواية دون الفتوى المستندة إلى القواعد.

قوله دام ظلّه: «إقالة النادم».

كونها من الآداب مبني على عدم كونها من المعاملات كالبيع، و مثلها الفسخ. ثمّ إنّ اشتراط الندامة مشكل بعد إطلاق بعض الروايات(2)،


1- وسائل الشيعة 1: 80، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 18.
2- الكافي 5: 153/ 16، وسائل الشيعة 17: 386، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 3، الحديث 2.

ص: 462

و تعارف القيد في الأُخرى(1) لا يورث التقيّد، و اختصاصها بالبيع غير معلوم بعد الإطلاق في رواية سماعة(2)، و تعارف القيد المذكور في الأُخرى(3)، و قد ذكرنا المسألة في كتاب الإجارة(4)، و اشتراطها بالاستقالة، لأجل أنّ الندامة لا تلازم رضاه بالإقالة؛ لأنّه خلاف شرفه و دينه، و إذا لم يكن نادماً فلا بدّ منها حتّى يتحقّق عنوان الإقالة.

و اعتبار كون المستقيل مسلماً أو مؤمناً، غير ثابت لما أُشير إليه، إلّا أنّ ظهور القيد هنا قويّ في التقييد، فكأنّ هذا القيد أولى بالذكر ممّا صنعه الماتن تبعاً لغيره.

و ممّا ذكرناه: يظهر وجه النظر في سائر القيود المذكورة في المتون تبعاً للنصوص، على أنّ إلغاء الخصوصيّة هنا غير بعيد جدّاً.


1- وسائل الشيعة 17: 385، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 3، الحديث 1 و 3 و 4 و 5.
2- الخصال: 224/ 55، وسائل الشيعة 17: 387، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 3، الحديث 5.
3- وسائل الشيعة 17: 385، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 3، الحديث 1 و 2 و 4.
4- كتاب الإجارة للمؤلّف) قدّس سرّه)) مفقود).

ص: 463

و أمّا المكروهة فأُمور: مدح البائع لمتاعه، و منها: ذمّ المشتري لما يشتريه، و منها: اليمين صادقاً على البيع و الشراء، و منها: البيع في موضع يستتر فيه العيب (1)، و منها: الربح على المؤمن إلّا إذا كان الشراء للتجارة، أو كان اشتراؤه للمتاع أكثر من مائة درهم، فإن ربح قوت اليوم منه غير مكروه، أو للضرورة، و منها: الربح على من وعده بالإحسان إلّا مع الضرورة، و منها: السوم ما بين الطلوعين، قوله دام ظلّه: «يستتر فيه العيب».

هذا هو المعروف بينهم، و من الممكن دعوى ممنوعيّته؛ لأنّه أكل للمال بالباطل، و ما ورد في خيار العيب(1) ربّما كان يختصّ بما إذا لم يكن المالك عامداً إلى سترة. و هذا هو الظاهر من رواية السكونيّ، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: قال رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم): «مَن باع و اشترى فليحفظ خمس خصال، و إلّا فلا يشترينّ، و لا يبيعنّ: الربا، و الحلف، و كتمان العيب، و الحمد إذا باع، و الذمّ إذا اشترى»(2).

و كون بعضها مكروهاً لا يكون قرينة بعد كون الربا محرّماً، و بعد اقتضاء القواعد حرمته.


1- وسائل الشيعة 18: 29، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 16.
2- الكافي 5: 150/ 2، وسائل الشيعة 17: 383، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 2، الحديث 2.

ص: 464

و منها: الدخول (1) في السوق أوّلًا و الخروج منه آخراً، و منها: مبايعة الأدنين الذين لا يبالون بما قالوا و ما قيل لهم، و ما ورد عن الرضا (عليه السّلام) حين مروره على هشام بن الحكم بائع السابري في الظلال: «يا هشام إنّ البيع في الظلال غشّ، و الغشّ لا يحلّ»(1) أيضاً يدلّ على ما ذكرناه.

نعم، إذا كان المشتري مقدماً على المعيب لما تعلّق غرضه بالأعمّ، و يعامل معه على قيمة المعيب، فتكون المعاملة صحيحة لازمة.

قوله دام ظلّه: «الدخول».

بنحو التقييد، فلو كان أوّل داخل فقط فلا كراهة ظاهراً.

و يمكن دعوى ظهور الخبر في الحرمة(2)، إلّا أنّ اشتماله على خلاف ضرورة الإسلام من كون أبغض البقاع عند اللَّه الأسواق يوهنه، فلا تثبت الكراهة، و يحتمل أن يكون المراد الأسواق الخاصّة، و يكون أوّل من دخل، و آخر من خرج على الدوام عاصياً.


1- الكافي 5: 160/ 6، وسائل الشيعة 17: 466، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 58، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 17: 468، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 60، الحديث 1- 2.

ص: 465

و منها: التعرّض للكيل أو الوزن أو العدّ أو المساحة إذا لم يحسنه (1)، و منها: الاستحطاط من الثمن بعد العقد.

قوله دام ظلّه: «إذا لم يحسنه».

سواء كان ذلك تبرّعاً، أو بالاستئجار من قبل المالكين، أو للإيفاء بتجارته، و الثاني هو المقصود هنا ظاهراً، و لعلّه المراد من رواية الحنّاط، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) مرسلًا، قال: قلت له: رجل من نيّته الوفاء، و هو إذا كال لم يحسن أن يكيل، قال: «فما يقول الذين حوله؟» قلت: يقولون: لا يوفي، قال: «هذا ممّن لا ينبغي له أن يكيل»(1).

و قد يشكل: إنّ عدم الإحسان في الماليّات الموجب للاحتمال العقلائي على التضييع، خلاف الاحتياط، بل ممنوع، فعليه تحمل الرواية على الصورة الثالثة، مع القطع بالوفاء، و احتمال تضييع ماله بإعطاء الزائد، و ممّا يشهد على أنّه الاحتمال العقلائي قولهم فيها: أنّه لا يوفي.

و كلمة «لا ينبغي» ليست صريحة في الجواز، لاستعمالها في المحرّمات، كما في روايات الاستصحاب(2)، فتدبّر.


1- الكافي 5: 159/ 4، وسائل الشيعة 17: 394، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 8، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 3: 482، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 44، الحديث 1.

ص: 466

و منها: الدخول في سوم المؤمن على الأظهر (1)، و قيل بالحرمة، و لا يكون منه الزيادة فيما إذا كان البيع في المزايدة، و منها: تلقّي الركبان و القوافل، و استقبالهم للبيع عليهم، أو الشراء منهم قبل وصولهم إلى البلد، قوله دام ظلّه: «على الأظهر».

وفاقاً لجماعة(1)، و خلافاً لمثل الشيخ(2) و «السرائر»(3) و «الغنية»(4) و المقصود منه: جلب البيع بالمداخلة في مقاولة أخيه المسلم أو المؤمن.

و هذا هو المراد من النبويّ: «لا يسوم الرجل على سوم أخيه»(5) و من رواية الحسين بن زيد، عن الصادق (عليه السّلام)، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليهم السّلام)، و فيه: «و نهى رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (أن يدخل الرجل في سوم أخيه المسلم»(6).


1- شرائع الإسلام 2: 14، تذكرة الفقهاء 1: 84 5/ السطر 29، اللمعة الدمشقيّة: 109.
2- النهاية: 374، المبسوط 2: 160.
3- السرائر 2: 235.
4- الغُنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 525/ السطر 3.
5- هذه الرواية غير موجودة في الجوامع الروائية الإماميّة و إن كانت موجودة في كتبهم الفقهيّة، راجع المبسوط 2: 160، السرائر 2: 234. لاحظ دعائم الإسلام 2: 34/ 74، مسند أحمد بن حنبل 2: 411، السنن الكبرى، البيهقي 5: 345.
6- الفقيه 4: 3/ 1، وسائل الشيعة 17: 458، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 49، الحديث 3.

ص: 467

و من مرسلة مجمع البحرين: «لا يسوم أحدكم على سوم أخيه»(1).

و يمكن دعوى عدم تماميّة الكراهة فضلًا عن الحرمة؛ لأنّ ضعف السند لا ينجبر بعمل بعض القدماء، خصوصاً إذا كان من المحتمل تلقّيهم الحكم من غير ما استندوا إليه كما هو كثير، و لا تكون الشهرة قويّة حتّى يكشف بها رأي المعصوم، أو الرواية التي تكون واضحة الدلالة.

و ما في «الجواهر» من: أنّ الأشدّ منه البيع على البيع، المروي في المرسل عن النبيّ (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم)(2)، لا يخلو من غرابة؛ لأنّه مضافاً إلى تحريف معنى السوم، و ما حكى عن الصحاح من اشتباهاته، و من خلط المعنى المجازي بالصحيح، أنّ تحريك البائع إلى الفسخ و الاستقالة ليس أشدّ؛ لأنّ الأقربيّة إلى اللزوم ليست مناطه، كما لا يخفى.

و حمل النبويّ على السوم بمعنى البيع، و غيره على السوم بمعنى المقاولة، غير صحيح.

و بالجملة: ينبغي الدقّة في الاستعمالات، حتّى لا يلزم الخلط، فربّما يستعمل البيع مجازاً و توسّعاً في المقاولة، و ربّما ينعكس و يستعمل السوم فيه.


1- مجمع البحرين 6: 94.
2- جواهر الكلام 22: 460، الفقيه 4: 4/ 1، وسائل الشيعة 17: 357، كتاب التجارة، أبواب عقد البيع و شروطه، الباب 12، الحديث 12.

ص: 468

و قيل: يحرم (1) و إن صحّ البيع و الشراء، و هو الأحوط، ثمّ إنّ خصوصيّة السوم في البيع و الشراء غير مصدّقة، و شرطيّة الإيمان غير مبرهنة، و لعلّ ذلك يكشف عن استنادهم إلى غير هذه الروايات، و مثل الخصوصيّة المشار إليها خصوصيّة الرجل، فإنّها ملغاة أيضاً، و احتمال كون المراد من النبويّ الأخ النسبي لا يضرّ بظهوره بعد ملاحظة غيره.

و ربّما يمكن دعوى دلالة متن هذه الروايات على الكراهة، بعد الغضّ عمّا في سندها، بأنّ تعليق الحكم على الرجل إشارة إلى أنّ هذا التدخّل خلاف الرجوليّة، و هو المساعد للاعتبار و يقتضيه المناسبة بين الحكم و الموضوع.

قوله دام ظلّه: «و قيل يحرم».

و هو قول جماعة كابن الجنيد(1)، و الشيخ في «الخلاف»(2) و التقي(3)، و القاضي(4)، و «السرائر»(5) و غيرهم(6)، و عن الإسكافيّ، بطلانها(7)،


1- لاحظ مختلف الشيعة: 346/ السطر 29.
2- الخلاف 3: 172، المسألة 282.
3- لاحظ مختلف الشيعة: 346/ السطر 20 21.
4- نفس المصدر.
5- السرائر 2: 237.
6- الدروس الشرعيّة 3: 179، جامع المقاصد 4: 37.
7- لاحظ مختلف الشيعة: 346/ السطر 29.

ص: 469

و المشهور على الكراهة، و يظهر من المحكي عن «نهاية الإحكام» ذهاب جمع إلى عدم الكراهة(1).

و بكلٍّ وجه، و ذلك لإمكان الشبهة في السند، و عدم تماميّة الجبر، فلا كراهة، و لإمكان تصحيحه، و وجود النهي عن عنوان المعاملة و أثرها و هو جواز الأكل، في النصوص(2)، و لإمكان دعوى ظهور النهي في المعاملة في التكليف محضاً، و ما تعلّق بعنوان الاشتراء(3) ليس يفيد الفساد لتعلّقه بغير في غيره، فيكون النهي ظاهراً في الحرمة، و لوجود القرينة لا يستفاد منه البطلان، و لإمكان دعوى أنّ قضيّة الجمع بين المآثير المختلفة في الموضوعات المنهيّة، هي الكراهة.

و يمكن دعوى: أنّ المحرّم هو عنوان تلقّي الركبان، و الاشتراء ليس محرّماً، و لكنّه فاسد، جمعاً بينها، و لك اختيار القول السادس، أو السابع، و هو حرمة التلقّي، أو الكراهة، و صحّة المعاملة، و كون البائع بالخيار بعد الاطّلاع على حدود القيم السوقيّة، فإنّ العرف ينتقل من هذه المآثير إلى أنّ النهي لأجل وقوعهم في الغبن، أو لصدق الغرر.


1- نهاية الإحكام 2: 517.
2- وسائل الشيعة 17: 443، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 36، الحديث 2 و 3.
3- نفس المصدر.

ص: 470

و إن كان الأظهر الكراهة (1)، و إنّما يكره بشروط:

أحدها: كون الخروج بقصد ذلك.

ثانيها: تحقّق مسمّى الخروج من البلد.

نعم، فيما زاد على الأربعة فراسخ، و فيها، فهو مكان آخر يعدّ الخارج مسافراً إلى التجارة، و جالباً لمال التجارة إلى البلد، و يختلف قيمة الأشياء بعد لحاظ هذه المسافة، التي هي تحتاج إلى المئونة الملحوظة في الأموال، فلا بأس به.

قوله دام ظلّه: «الأظهر الكراهة».

و ذلك لتماميّة السند، لوجود أرباب الإجماع فيه و صحّته إليهم، و لذهاب الأُمّة إلى الممنوعيّة بالمعنى الأعمّ، مستندين إليها، أو ظاهرهم الاستناد إليها.

و لم يحك من أحد نقل عدم الكراهة، و ما عن «نهاية الإحكام» باطل لما قال في ذيله: «و ليس حراماً، إجماعاً»(1) مع أنّك عرفت ذهاب العظام إليها.

و لأنّ اختلاف الموضوعات المنهيّ عنها في النصوص بنحو الترتّب، شاهد قويّ على الكراهة؛ فإنّ المقنّن ليس من دأبه فرض العصيان.


1- نهاية الإحكام 2: 517.

ص: 471

ثالثها (1): أن يكون دون الأربعة فراسخ، فلو تلقّى في الأربعة فصاعداً لم يثبت الحكم، بل هو سفر تجارة، و قوله (عليه السّلام): «لا تلق، و لا تشتر ما تلقى، و لا تأكل منه»(1) و قوله (عليه السّلام) أيضاً: «لا تلق، و لا تشتر ما تلقى، و لا تأكل من لحم ما تلقى»(2) معناه أنّه لا تلق، و إذا لقيت فلا تشتر، و إذا اشتريت فلا تأكل، و هذا يناسب الكراهة عرفاً على الأظهر.

قوله دام ظلّه: «ثالثها».

أمّا وجه الأوّل عدم صدقه بدون القصد؛ فإنّ المخاطب هو الحاضر في البلد، الخارج منه إلى ما دون المسافة، و يكون خروجه للتجارة و الارتزاق، و هو المنصرف من الروايات، و منه يعلم وجه الشرط الثاني، و يعلم انحلال الشرط الأوّل إلى شرطين، كما لا يخفى.

و أمّا وجه الثالث فلما ورد في النصّ عن منهال القصّاب قال: قال أبو عبد اللَّه (عليه السّلام): «لا تلقَ، فإنّ رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (نهى عن التلقّي» قال: و ما حدّ التلقّي؟ قال: «ما دون غدوة و روحة» قلت: فكم الغدوة و الروحة؟ قال:


1- الكافي 5: 168/ 2، وسائل الشيعة 17: 443، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 36، الحديث 2.
2- الفقيه 3: 174/ 779، وسائل الشيعة 17: 443، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 36، الحديث 3.

ص: 472

و الأقوى (1) عدم اعتبار كون الركب جاهلًا بسعر البلد.

«أربعة فراسخ» قال ابن أبي عمير: و ما فوق ذلك فليس بتلقٍ(1).

و ما ورد من الإطلاق في بعض الأحاديث(2)، محمول عليه.

و وجه التفسير واضح؛ لأنّ سير القوافل في اليوم ثمانية فراسخ، ففي نصفه نصفها، فإذا سار أربعة فراسخ يتحقّق السفر، و يكون بحسب النصّ جلباً، و قد مضى البحث حوله.

قوله دام ظلّه: «و الأقوى».

لإطلاق النصّ، و قد يقال: إنّ الأحوط عدم الخروج لاستلزام الغرر، و العاقل لا يقدم على المعاملة مع الجهل بحال السعر في البلد المتوجّه إليه، و القريب منه، فلو أقدم تكون المعاوضة سفهيّة و باطلة، خصوصاً إذا أخبر الخارج كذباً عن سعر البلد.

و توهّم إطلاق النصّ خصوصاً للفرض الأخير، غير تامّ، و لكنّه في غير الفرض الأخير يتمّ، فإنّ الجهالة في المبيع ترتفع، و إذا كان البائع عاقلًا فإقدامه على السعر خارج البلد، ربّما كان لأجل الجهات المرغوب فيها،


1- الكافي 5: 169/ 4، وسائل الشيعة 17: 442، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 36، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 17: 443، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 36، الحديث 2 و 3.

ص: 473

و هل يعمّ الحكم غير البيع و الشراء كالإجارة و نحوها؟ وجهان. (1) من عدم المكث الكثير في البلد و غيره.

و أمّا في الفرض الأخير فيشكل وضعاً؛ لأنّه أكل بالباطل، و أدلّة خيار الغبن(1) ناظرة إلى غير تلك الصورة.

و ربّما يمكن دعوى حرمته التكليفيّة، زائداً على الكذب المحرّم، للعلم بأنّ مذاق الشرع بري ء من هذا النحو من التكسّب.

قوله دام ظلّه: «وجهان».

من وجود النهي عن الاشتراء في الروايتين اللتين هما الأصل في المسألة(2)، و من إطلاق بعض مآثير الباب(3)، و إمكان إلغاء الخصوصيّة بحمل القيد على الغالب في خصوص المقام؛ لاقتضاء النكتة أعمّيته.

و يمكن دعوى التفصيل بين ما يكون مثل البيع في نقل العين، كالصلح و نحوه، و ما هو مثل الإجارة، فإنّ المآثير منصرفة عنها، خصوصاً إذا كان الركب مستأجرين و الخارج مؤجراً، كما لا يخفى.


1- وسائل الشيعة 18: 31، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 17.
2- وسائل الشيعة 17: 443، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 36، الحديث 2 و 3.
3- وسائل الشيعة 17: 442، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 36، الحديث 1 و 5.

ص: 474

ثمّ إنّ مقتضى رواية عروة بن عبد اللَّه، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: قال رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم): «لا يتلقّى أحدكم تجارة خارجاً من المصر»(1) خصوصيّة التجارة و زائداً عليها، خصوص البلد و المصر، و مقتضى الإطلاقات عدمها.

و يمكن اختصاص الحكم بالتجارة، فإنّها الأعمّ من البيع، و أخصّ من الهبة المعوّضة أحياناً، و قضيّة الإطلاقات عدم الفرق بين كون القادم من أهالي البلد و غيره.


1- الكافي 5: 168/ 1، وسائل الشيعة 17: 443، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 36، الحديث 5.

ص: 475

[مسألة 23: يحرم الاحتكار]

مسألة 23: يحرم (1) الاحتكار، قوله: «يحرم».

إذا كان يؤدّي الاحتكار إلى الإضرار، و إحداث الهرج، و إخلال النظام، فهو ممنوع عقلًا؛ لأنّ العناوين الأُخر المحرّمة مترتّبة عليه، فما هو محلّ البحث إمّا نفس المنع و الحبس انتظاراً للغلاء، أو هو مع استلزامه وقوعهم في المشقّة لاحتياجهم إليه، فإنّه عندئذٍ يمكن تجويزه ذاتاً، و منعه و تحريمه.

و الذي يظهر لي: أنّ الأصحاب لا يختلفون في حكم المسألة، إلّا في بعض الجهات الراجعة إلى حدود موضوعها، فمن قال بالكراهة يكون ناظراً إلى المعنى اللغوي للاحتكار، و من اختار الحرمة نظراً إلى الموضوع المقصود في الأخبار.

و ما يساعده المآثير و المناسبات(1) هو: أنّ نفس الحكرة ليست محرّمة، و هي بمقتضى إطلاق طائفة من النصوص(2) ممنوعة كراهة؛ لأنّ كلمة اللعن و أشباهه، مع بعض القرائن الأُخر، لا تدلّ إلّا على الكراهة.

نعم، إذا كانت الحكرة في موقف حاجة الناس و المسلمين، و في


1- وسائل الشيعة 17: 427، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 28.
2- وسائل الشيعة 17: 424، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 27، الحديث 3 و 8.

ص: 476

و هو: حبس الطعام و جمعه، يتربّص به الغلاء، مع ضرورة المسلمين (1) و حاجتهم، و عدم وجود من يبذلهم قدر كفايتهم، نعم مجرّد حبس الطعام انتظاراً لعلوّ السعر، مع عدم ضرورة الناس، و وجود الباذل، ليس بحرام. و إن كان مكروهاً.

موضع استلزم وقوعهم في الحرج و المشقّة، بأن لا يكون عند غيره الطعام، فالظاهر حرمته، لقوله (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم): «إيّاك أن تحتكر»(1) وارداً في موقف ضرورتهم، و أمره (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (بالبيع و النهي عن الحبس(2).

و توهّم كون الروايات في الفرض الأوّل قرينة على صرف هذه النواهي في الفرض الثاني، لا يخلو من غرابة.

قوله دام ظلّه: «المسلمين».

قضيّة المآثير قاطبة(3) عدم الفرق بينهم و بين غيرهم، من الّذين هم في ذمّة الإسلام، أو في تعاهدهم من المحترمين أموالًا و أنفساً.

نعم، في رواية حذيفة بن منصور، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام)، ذكر المسلمين على حسب اقتضاء القضيّة الخارجيّة، لا الاشتراط و التقييد، و توهّم


1- الكافي 5: 165/ 4، وسائل الشيعة 17: 428، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 28، الحديث 3.
2- الكافي 5: 164/ 2، وسائل الشيعة 17: 429، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 29، الحديث 1.
3- وسائل الشيعة 17: 423، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 27 28 29 30.

ص: 477

و لو حبسه في زمان الغلاء لصرفه في محاويجه، لا للبيع، فلا حرمة (1) فيه، و لا كراهة، اقتضاء بعض الخطابات ذلك، غير تامّ.

فالأقوى ممنوعيّته حتّى بالنسبة إلى غيرهم، خصوصاً أهل الذمّة، و لو كان الأمر كما توهّم لكان ذلك طريقاً إلى منافع أرباب الاحتكار، و ليس في الأخبار منه العين و الأثر، مضافاً إلى أنّه خلاف المذاق من الشريعة المقدّسة.

قوله دام ظلّه: «فلا حرمة».

لظاهر اللّغويين القائلين: إنّ الحكرة هي: الحبس انتظاراً للغلاء(1)، و لا خصوصيّة لمفهوم الحبس في موضوع الحكم، بل المنع عن التقلّبات من الشراء و غيره أيضاً، محرّم و مكروه في موضعهما المذكور و لو اقتضى كلام بعض أهل اللغة أعميّة مفهوم الحكرة(2)، و لكنّ الظاهر من الأخبار هو ذاك، فتأمّل.

ثمّ إنّ الإطلاق المذكور يمنع فيما يؤدّي الاحتكار إلى الإخلال بالنظم، و وقوع المسلمين و المحترمين في المشقّة المؤدّية احتمالًا إلى الهلاكة، إلّا إذا كان الاحتمال المذكور سارياً في حقّ المحتكر أيضاً، فلا تغفل.


1- الصحاح، 2: 635، المصباح المنير: 175، لسان العرب 3: 267.
2- معجم مقاييس اللغة 2: 92.

ص: 478

و الأقوى (1) عدم تحقّقه إلّا في الغلّات الأربع، و السمن، و الزيت، قوله دام ظلّه: «و الأقوى».

للنصّ، ففي معتبر غياث بن إبراهيم، عن الصادق (عليه السّلام): «ليس الحكرة إلّا في الحنطة، و الشعير، و التمر، و الزبيب، و السمن»(1) و في المروي عن «الخصال» زيادة: الزيت على الخمسة(2).

و للتجاوز عنها إلى غيرها نحتاج إلى إلغاء الخصوصيّة، و هي ممنوعة جدّاً، أو إلى دعوى الإطلاق، و هي مضافاً إلى ظهور بعض كلمات بعض اللّغويّين في: أنّ مادّة الاحتكار أخصّ(3)، خلافاً لبعضهم الآخر(4)، يقيّد بالمفهوم في رواية غياث.

نعم، دعوى لغويّة خصوصيّتها إذا لم تكن مورد الحاجة المتعارفة، كالحنطة في طبرستان مثلًا، و لحوق غيرها بها فيما صار من الرزق الغالب بعد مراجعة النصوص في المسألة، غير بعيدة.

هذا و قد يشكل جريانها في الزيت؛ لأنّ مقتضى ما تحرّر منّا في محلّه(5):


1- الكافي 5: 164/ 1، وسائل الشيعة 17: 425، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 27، الحديث 4.
2- الخصال 1: 329/ 23.
3- المصباح المنير: 175، لسان العرب 3: 267.
4- القاموس المحيط 2: 13.
5- تحريرات في الأُصول 5: 455 و مابعدها.

ص: 479

أنّ الجمع بين مفهوم الحصر و المنطوق بالتقييد، ليس من الجمع العقلائي، و عندئذٍ إذا ثبت سند القيد يحمل الحصر على الأفراد التي تشتمل على الأهميّة بالذكر، و عليه يمكن دعوى: أنّ الحكرة ممنوعة في جميع ما يحتاج إليه المسلمون.

هذا فيما لم يكن مستلزماً لوقوعهم في المشقّة المستلزمة للإخلال بالنظم، و إلّا فهو ممنوع عقلًا، كما مرّ الإيماء إليه.

ثمّ إنّ أمثال هذه المسائل بيد أمير المصر، و سلطان الممالك، و عليه حفظ شؤون الملك حسب ما يراه مع رعاية مصالح المالك و الملك و الرعيّة.

و يحتمل أن تكون المسألة من قبيل المسائل الصادرة عن النبيّ و الأمير «صلّى اللَّه تعالى عليهما» بما هما سلطان الناس، و سائس الأُمّة، و مقتضى قوله (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم): «حكمي على الأوّلين حكمي على الآخرين»(1) نفوذه في عصرنا، و لزوم التبعيّة لهما (عليهما السّلام).


1- لم نعثر على هذه الرواية في مجامعنا الروائيّة و كذا في كتب العامّة و يقرب منه ما ورد في الكافي و فيه:« لأنّ حكم اللَّه في الأوّلين و الآخرين .. سواء» و أيضاً ما في عوالي اللآلي 1: 456/ 197 و فيه« حكمي على الواحد حكمي على الجماعة» لاحظ أيضاً العناوين 1: 26 و القواعد الفقهية 2: 45.

ص: 480

نعم هو أمر مرغوب عنه (1) في مطلق ما يحتاج إليه الناس، لكن لا يثبت لغير ما ذكر (2) أحكام الاحتكار.

قوله دام ظلّه: «هو أمر مرغوب عنه».

قد عرفت وجه ما ذكره الأصحاب وجهاً له، مضى ما فيه، و لعلّه- مدّ ظلّه أجمل في بيان الحكم فيما سوى الستّة؛ لما في دليله من الإجمال، فإنّ قوله: «مرغوب عنه» أعمّ من الحرمة، و الكراهة، و المذموميّة الأخلاقيّة المعلومة من مذاق الشريعة، و ما يحتاج إليه الناس أعمّ من المأكولات، و المشروبات، و الملابس، و الآلات.

و لعلّ قوله تعالى وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ(1) من الرمز إلى هذه المسألة، فإنّ الماعون معناه المعروف، و كلّ ما ينتفع الناس به.

قوله دام ظلّه: «لا يثبت لغير ما ذكر».

لأنّ المرغوب عنه أعمّ من الحرمة كما عرفت، و أمّا إذا كان محرّماً، كما هو الظاهر من المتن بعد ملاحظة هذه العبارة، فإن كان دليله نصوص هذه المسألة بوجه مضى أو بوجوه أُخر أُشير إليها، فعندئذ تثبت أحكام الحكرة، و إن كان دليله قاعدة «نفي الضرر و الحرج» ففي جريانهما في المقام؛ بحيث ينتج حرمة الحبس و المنع بحث، لا أظنّ التزامه به إلّا على بعض التقاريب؛ ضرورة أنّ القاعدتين تتكفّلان نفي ما يوجب الضرر و الحرج على المكلّف لا الآخرين.


1- الماعون) 107): 7.

ص: 481

و يجبر المحتكر (1)، اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ مورد قاعدة «لا ضرر» يدلّ على نفي سلطنة المالك، إذا كان إطلاقها موجباً لوقوع الغير في الضرر، فتدبّر.

و يمكن دعوى: أنّ القاعدتين عامّتان متكفّلتان لنفي الأحكام المزاحمة، و تحريم الإضرار و الإحراج، فعندئذٍ لا يجوز الاحتكار المؤدّي إلى ضرر المسلمين، و وقوعهم في المشقّة و الحرج.

و من المباحث في القاعدتين: أنّهما ناظرتان إلى نفي الضرر و الحرج عن النوع من غير النظر إلى الشخص، فلو كان الاحتكار موجباً للضرر على النوع، و نفيه موجباً للضرر على الشخص، و هكذا في جانب الحرج، يقدّم لحاظ النوع، فإنّهما منّة على الأُمّة لا على كلّ واحد واحد منهم حتّى يلزم التزاحم بين الضرر الشخصي و النوعي، و المشقّة الشخصيّة و النوعيّة.

فعليه يحرم الاحتكار، و يمنع عنه، من غير سريان أحكامه الخاصّة الثابتة في الموارد المنصوصة.

قوله دام ظلّه: «و يجبر المحتكر».

إجماعاً محكيّاً عن غير واحد(1)، و هو قضيّة النصّ(2)، و في إطلاق


1- المهذّب البارع 2: 370، التنقيح الرائع 2: 42، مفتاح الكرامة 4: 109.
2- وسائل الشيعة 17: 429، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 29، الحديث 1، و الباب 30، الحديث 1.

ص: 482

على البيع (1) و لا يعيّن عليه السعر على الأحوط، (2) المتن نظر، و لعلّه يريد صورة الاحتكار المحرّم، لا الأعمّ منه و من المكروه.

قوله مدّ ظلّه: «على البيع».

لما في النصّ، و لكنّه محمول على المثال، فلو اجبر على التجارة فاختار القرض أو الهبة المعوّضة أو غير ذلك من الصلح و نحوه، فهو أيضاً جائز؛ لمعلوميّة الملاك، و المقصود من الإجبار، بل الإجبار على الأمر الكلّي، و اختيار المجبور أحد مصاديقه، أوفق بالاحتياط من الإجبار على خصوص البيع، فتدبّر.

قوله: «السعر على الأحوط».

إجماعاً محكيّاً عن «المبسوط»(1) و «السرائر»(2) و «التذكرة»(3) و هو الموافق للقواعد؛ لأنّ الإجبار على خلافها، و تقتضيه النصوص(4)، و عن «السرائر»: «أخبار متواترة»(5).

و قد يشكل في ذلك كلّه؛ لأنّ الإجماعات معلومة السند، و القواعد


1- المبسوط 2: 195.
2- السرائر 2: 239.
3- تذكرة الفقهاء 1: 585/ السطر 32.
4- وسائل الشيعة 17: 430، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 30.
5- السرائر 2: 239 و حكى عنه مفتاح الكرامة 4: 109.

ص: 483

محكومة بما يقتضيه ظاهر كلام الأمير في «النهج» قال: «فامنع من الاحتكار؛ فإنّ رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (منع منه، و ليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل، واسعاً لا يجحف بالفريقين من البائع و المبتاع»(1) فإنّ الظاهر اختيار البيع بيد الحاكم.

و لا ينافيه رواية ضمرة(2) مع إجمالها، و عدم تماميّة سندها، و لا رواية حذيفة بن منصور، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) فإنّ قوله: «و بعه كيف شئت، و لا تحبسه»(3) مجمل من حيث أنواع الكيف، مع أنّه غير قابل للعمل به في صورة الإجحاف، و لا دلالة فيه على المنع من التسعير.

و ما ورد في الروايات الكثيرة: «أنّ السعر بيد اللَّه عزّ و جلّ»(4) غير هذا التسعير المقصود في المقام، كما لا يخفى.


1- نهج البلاغة: 615، وسائل الشيعة 17: 427، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 27، الحديث 13.
2- تهذيب الأحكام 7: 161/ 713، وسائل الشيعة 17: 430، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 30، الحديث 1.
3- مرَّ تخريجها في الصفحة: 298، الهامش: 2.
4- وسائل الشيعة 17: 430، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 30.

ص: 484

بل له أن يبيع بما شاء إلّا إذا أجحف (1)، فيجبر على النزول (2)، من دون أن يسعّر عليه، قوله دام ظلّه: «إلّا إذا أجحف».

و هو مختار جماعة(1)، و قضيّة ما في النهج، و ضعف السند ينجبر بعملهم بعد اقتضاء القواعد بطلان المعاملة المجبور عليها، فتأمّل.

و هذا هو المناسب في المقام من إرادة الحاكم رفع المشقّة و الحرج، و إحداث النظم في المصر و البلد؛ ضرورة أنّه مع الإجحاف لا يرفع ذلك، و لا يحصل المقصود من تجويز البيع بلا رضا المالك، و لا سيّما في الإجحاف الكثير.

قوله: «فيجبر على النزول».

رعاية للقواعد و نصوص المسألة، و حفظاً على الخروج عنها بالقدر المتيقّن، و ممّا مضى و تقدّم.

ثمّ إنّ تعيين السعر عليه يختصّ على فرض الجواز بما إذا لم يرد المالك البيع بأقلّ من الثمن المتعارف، و في المسألة بعض مباحث ترجع إلى بيع المكره، فتطلب من محالّها.


1- الوسيلة: 260، مختلف الشيعة: 346/ السطر 15، إيضاح الفوائد 1: 409، الروضة البهيّة 1: 331/ السطر 24.

ص: 485

و مع عدم تعيينه يعيّن الحاكم (1) بما يرى المصلحة (2).

قوله دام ظلّه: «يعيّن الحاكم».

أو من هو المنصوب من قبله في خصوص هذه القضيّة، أو في الأمر الكلّي.

قوله مدّ ظلّه: «بما يرى المصلحة».

و هي العمل بموازين العدل من غير أن يجحف بالفريقين.

ص: 486

[مسألة 24: لا يجوز مع الاختيار الدخول في الولايات، و المناصب، و الأشغال من قبل الجائر]

مسألة 24: لا يجوز (1) مع الاختيار الدخول في الولايات، و المناصب، و الأشغال من قبل الجائر و إن كان أصل الشغل مشروعاً، قوله دام ظلّه: «لا يجوز».

على المشهور، بل في الفرض الثاني حرمته من الضروريّات المفروغ عنها، و ذلك إمّا لأنّها محرّمة بذاتها و بعنوان التولّي و التقلّد من قبل السلطان الجائر، كما هو ظاهر بعض النصوص(1)، و هذا هو الداخل في الروايات الزاجرة عن الدخول في أعوان الظلمة(2)، بل هم الظالمون، أو لأنّ تصدّى الخلافة الإسلاميّة، و السلطنة على الرعيّة غصب، فيكون محرّماً؛ فلا يحرم عمل العاملين من قبلهم بهذا العنوان.

اللّهمّ إلّا أن يقال: هو أيضاً غصب الولاية التي هي حقّ الشيعة و أتباع الأئمّة (عليهم السّلام)، أو يختلف وجه الحرمة المنطبق، فإنّ الخليفة يحرم فعله لكونه غصباً و عدواناً، و العمّال يحرم فعلهم و تصدّيهم لكونه دخولًا في سلطان الغير، أو لكونه عون الظالم أو سبباً لبقاء الظلم و ازدياد شوكته، أو لأنّ التدخّل في هذه الأُمور يستلزم المحرّمات فيكون ممنوعاً عقلًا.

و الّذي تقتضيه الصناعة حلّيّة العنوان المذكور بنفسه، و لا دليل على حرمة غصب الخلافة بعنوانه.


1- وسائل الشيعة 17: 187، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 45.
2- وسائل الشيعة 17: 177، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42.

ص: 487

نعم، هو قبيح عقلًا؛ لأنّه ظلم، و لا يحرم الظلم عندنا بعنوانه حتّى يلزم كون الغصب محرّماً بعنوانين، بل لا يعقل؛ لأنّ النسبة بين عنوان الظلم و العناوين الخاصّة الّتي من مصاديقه العموم المطلق، لا من وجه.

و هذا هو المتراءى من روايات المسألة؛ لأنّ مقتضى الجمع بين ما يدلّ على حرمته بعنوانه(1)، و ما يدلّ على حرمته لاستلزامه المحرّم(2) هو الالتزام بحلّيّة العنوان المذكور ذاتاً، و حرمته عقلًا و تبعاً.

و نتيجة هذا: أنّه لو فرض عدم ترتّب المحرّم على تقلّد الأمر و تصدّي الخلافة، لكان هذا جائزاً، بل و لمكان حفظ المسلمين عن المفاسد المرتقبة في المعيشة و دفع شرّ الكفّار عنهم، يكون مأجوراً. و هذا هو الصريح في رواية ابن إدريس نقلًا من كتاب «مسائل الرجال»(3).

و توهّم الفرق بين العامل الكذائي و المعمول له غير تامّ، فإنّ سلطان الإسلام لو كان يدخل في أمره لدفع الشرّ عن حدود الإسلام، مريداً بسط السنّة و الكتاب، معتقداً أنّ غيره لا يتمكّن من ذلك، غير مبال بأمر الإمام


1- وسائل الشيعة 17: 191، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 45، الحديث 12.
2- وسائل الشيعة 17: 188، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 45، الحديث 4 6 7.
3- السرائر 3: 583.

ص: 488

و نهيه، فإنّه مثل العامل الداخل في الأمر مريد هذه الحسنات.

هذا فيعلم من ذلك أنّ المآثير في المسألة قاصرة عن إفادة ما هو المحرّم في الشريعة قطعاً، أو تحتاج إلى التعمّق و التأمّل الشديد، و هو يعطي أنّ المآثير في المقام خمس طوائف، على ما فصّلناها في كتابنا الكبير.

و نتيجة هذه الطوائف: أنّ التولّي و تقلّد الأمر من أعظم المحرّمات الإلهيّة، الّتي لا تترخّص إلّا في مواقف التقيّة و الضرورة، مع لزوم جبر المفسدة الواقعة فيها بالأعمال الصالحة، و قضاء حوائج الشيعة، ف إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ(1) كما في رواية مفضّل بن مريم(2)، و «كفّارة عمل السلطان قضاء حوائج الإخوان» كما في «الفقيه»(3)، و ما ورد في ترخيص الدخول في ولاياتهم و مناصبهم كثيراً(4) على مبنى التقيّة حتّى عن مثل زرارة، كما في صحيحة الوليد بن صبيح(5)، و لا سيّما إنّ المسألة في نهاية


1- هود( 11): 114.
2- وسائل الشيعة 17: 198، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 46، الحديث 6.
3- الفقيه 3: 108/ 453، وسائل الشيعة 17: 192، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 46، الحديث 3.
4- وسائل الشيعة 17: 192، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 46.
5- الكافي 5: 105/ 2، وسائل الشيعة 17: 187، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 45، الحديث 1.

ص: 489

الدقّة في الحفظ على دمائهم و دماء أصحابهم.

و دخول مثل عليّ بن يقطين للإذن الخاصّ و لمصالح عالية مؤقّتة(1).

و بالجملة: تصدّي أُمور الممالك محرّم، و الإعانة على هذا الظلم العظيم محرّم بأن يتصدّى الولايات و المناصب حتّى على الشيعة، و الاستثناء ينحصر بصورة التقيّة و الضرورة، راعياً مصالح الأُمّة حال الاشتغال.

و لا معنى لأن يكون المستثنى في المقام مستحبّاً لما تقرّر: أنّ الاستثناء عن العناوين المقبحة لا يعقل، إلّا فيما زاحم الملاك الأقوى البالغ حدّ الإيجاب، و السرّ كلّ السرّ أنّ الشقاوة و السعادة الدنيويّة و الأُخرويّة تنشأ عن الخلافة الصحيحة و السلطنة العادلة، و الفاسدة الظالمة، و جميع الخيرات و الشرور مربوطة بهما، و عندئذٍ يجب بحكم العقل إيجاد هذه و اقتناء ذاك و لو بالسياسة المنفيّة، الّتي هي المنساق من مآثير المسألة بعد التدبّر و التأمّل.

هذا كلّه حول السلطان الجائر المدّعى للخلافة الإسلاميّة، الّذي هو القدر المتيقّن من الأدلّة حسب زمان صدورها.

و أمّا من يتصدّى الممالك الإسلاميّة من غير الادّعاء المذكور، فهو


1- وسائل الشيعة 17: 192، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 46، الحديث 1 و 8 و 16.

ص: 490

عندي أيضاً من الفساق في تقلّده؛ لما تقرّر منّا أنّه حقّ الفقهاء(1)، و ليس أمر الممالك مرخى و مرسل العنان من قبل الشريعة الخاتمة، للزوم الخلف فعلى الإسلام تعيين الوظيفة في جميع الأعصار، و لا يجوز عليه إيقاع المسلمين في الهرج و المرج حتّى يتكدّر منه روح كلّ أحد، و لا يميل إليه ذو مسكة.

و لا فرق عندنا بين الإمام و المنصوب من قبله عامّاً و خاصّاً، في وجوب تصدّي الملك، و تعيين الحدود، و بسط العدل و الإسلام إلى أن يأتي قائم الأُمّة عجّل اللَّه تعالى فرجه.

و لو كان الأمر كما زعمه زملائنا القدماء و المتأخّرون(2)، لكان يجب إرسال الرسول، لاتّحاد هذه الجاهليّة مع الجاهليّة الاولى في الاقتضاء، فلا يجوز وضع اليد على اليد مدّعياً أنّ الإسلام أمر به، فإنّه إثم و بهتان عظيم، و هذا ممّا لا يحتاج فيه إلى الدليل، كما في أصل التوحيد و الرسالة، و لا ينبغي الخلط بين المانع عن التقدّم و البسط، و عدم اقتضاء الإسلام ذلك، فإنّه في الثاني نقص عليه و خذلان.


1- لاحظ ثلاث رسائل للمؤلّف( قدِّس سرُّه) رسالة ولاية الفقيه.
2- انظر مفتاح الكرامة 4: 114.

ص: 491

مع قطع النظر عن تولّيه من قبله كجباية الخراج و جمع الزكاة، و تولّي المناصب الجنديّة و الأمنيّة، و حكومة البلاد و نحو ذلك، فضلًا عمّا كان غير مشروع في نفسه (1)، كأخذ العشور و المكوس و غير ذلك من أنواع الظلم المبتدعة.

قوله دام ظلّه: «غير مشروع في نفسه».

المراد من المناصب المشروعة هي المتعارفة في جميع الحكومات حتّى العادلة، و من غير المشروعة هي ما لا يتعارف في حكومة العدل، فإنّ أخذ المكوس و العشور ليس من شؤون السلطان العادل.

نعم، هو بعنوانه ليس من المحرّمات حتّى يكون حراماً، مع رضاء الأُمّة الراقية القائلة بلزومها لحفظ المملكة، و لذلك يمكن إحداث هذه الشؤون في الدولة الحقّة إذا كانت محتاجة إلى الإعانة في الإدارة، فيأمر السلطان العادل الرعيّة بأن يعطي كذا و كذا زائداً على الأخماس و الزكوات.

و ممّا يؤسف عليه أنّ الإسلام ليس معروفاً كما هو، و لا متلقّياً من أتباعه حقّه، فهو الغريب كما بدأ غريباً.

ص: 492

نعم، يسوغ كلّ ذلك (1) مع الجبر و الإكراه، بإلزام من يخشى من التخلّف عن إلزامه على نفسه أو عرضه أو ماله المعتدّ به، إلّا في الدماء المحترمة بل في إطلاقه بالنسبة إلى تولّي بعض أنواع الظلم كهتك أعراض طائفة من المسلمين، و نهب أموالهم، و سبي نسائهم، و إيقاعهم في الحرج، مع خوفه على عرضه ببعض مراتبه الضعيفة، أو على ماله إذا لم يقع في الحرج، قوله: «يجوز كلّ ذلك».

للعقل و النقل، ففي موثّقة مسعدة بن صدقة قال: سأل رجل أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) عن قوم من الشيعة يدخلون في أعمال السلطان، يعملون لهم، و يجبون لهم، و يوالونهم، قال: «ليس هم من الشيعة، و لكنّهم من أُولئك» ثمّ قرأ أبو عبد اللَّه (عليه السّلام) هذه الآية لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ..(1) إلى أن قال: «ثمّ احتجّ اللَّه على المؤمنين الموالين للكفّار فقال تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ ..(2) إلى قوله تعالى وَ لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ(3) فنهى اللَّه عزّ و جلّ أن يوالي المؤمن الكافر إلّا عند التقيّة(4).


1- المائدة( 5): 78.
2- المائدة( 5): 80.
3- المائدة( 5): 81.
4- تفسير القمّي 1: 176، وسائل الشيعة 17: 190، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 45، الحديث 10.

ص: 493

بل مطلقاً في بعضها إشكال، بل منع. (1) و هذه الرواية تشتمل على جهات شتّى دالّة على ما أفدناه، من حرمة التولّي بذاته، و من ممنوعيّة الدخول حتّى للشيعة، و من حرمة تصدّي الخلافة و السلطة بالأولويّة القطعيّة، و من أنّهم في حكم الكافر، و الشيعة بما هي شيعة لا تتصدّى أمرهم، فيعلم ممنوعيّته شديداً، و مقتضى مفهوم الحصر انحصار الدخول بحال التقيّة دون مصالح أُخر يأتي ذكرها، و من أعمّية السلطان من المدّعين للخلافة الإسلاميّة، و من كونه عامّيّاً مسلماً، و استثناء التقيّة شاهد على أنّ الموالاة هي التولّي، لا الوداد و المحبّة، و حملها على ترتيب آثار الوداد فاسد.

قوله دام ظلّه: «إشكال، بل منع».

و ذلك لأنّ وجه الرخصة إن كان مراعاة المقتضيات، فهي في جانب المستثنى منه أقوى، بل لا تقاوم الأموال الأعراض، فلا يجوز هتك عرض المؤمن و لو بذهاب جميع أمواله، و إن كان المآثير الخاصّة(1)، و عمومات التقيّة(2)، و حديث الرفع(3)، فهي منصرفة عن هذه المواقف، فإنّه كيف يجوز


1- وسائل الشيعة 17: 202، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 48، الحديث 4- 5.
2- وسائل الشيعة 16: 203، كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، أبواب الأمر و النهي، الباب 24 25.
3- التوحيد: 353/ 24، الخصال: 417/ 9، وسائل الشيعة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس و ما يناسبه، الباب 56، الحديث 1.

ص: 494

و يسوّغ خصوص القسم الأوّل و هو الدخول في الولاية على أمر مشروع في نفسه القيام بمصالح (1) المسلمين و إخوانه في الدين، بل لو كان دخوله فيها بقصد الإحسان إلى المؤمنين، و دفع الضرر عنهم كان راجحاً، الالتزام بهدم الكعبة، و ردّ الكتاب و السنّة حذاء النفس فضلًا عن المال، فيما إذا كان في هدمه و ردّه ضلالة الناس و كفرهم، و التزلزل في عقائدهم، و التفصيل يطلب من مقام آخر.

أ فما سمعتم تقبّل المئات من أعاظم المؤمنين و أقارب الرسول الأكرم (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم (في الجهاد لبسط الإسلام و هداية الضالّين؟ أ فما تدرك أنّ أساس التقيّة لحفظ أُصول الإسلام، و عقائد الناس، و إحداث الوحدة الإسلاميّة بين الملل قبال الملّة الكافرة؟ فلا ينبغي إجرار أذيال هذه الأدلّة إلى غير مصابّها حتّى يضلّ القاصرون.

قوله: «القيام بمصالح».

إجماعاً محكيّاً(1)، و هو قضيّة حكم العقل و النقل(2)، فإنّ ملاك الدخول يتكاسر بالمصالح العالية الإسلاميّة فتارة: تبلغ المصلحة إلى حدّ الوجوب، كما لو تمكّن من حفظ الدماء المحترمة و الأعراض، و أُخرى: إلى حدّ الندب، كما لو تمكّن من دفع المنكرات غير البالغة إلى حدّ


1- فقه القرآن، الراونديّ 2: 24، انظر مفتاح الكرامة 4: 114، جواهر الكلام 22: 160.
2- وسائل الشيعة 17: 201، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 48.

ص: 495

القاهريّة على ملاك مفسدة الدخول و لكنّها غالبة، و ثالثة: إلى حدّ الكراهة، كما لو انكسر ملاك الحرمة بمصلحة مترتّبة عليه.

و في صحيحة الحلبيّ قال: سُئل أبو عبد اللَّه (عليه السّلام) عن رجل مسلم، و هو في ديوان هؤلاء، و هو يحبّ آل محمّد (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم)، و يخرج مع هؤلاء في بعثهم فيُقتل تحت رايتهم، قال: «يبعثه اللَّه على نيّته» قال: و سألته عن رجل مسكين خدمهم رجاء أن يصيب معهم شيئاً فيغنيه اللَّه به، فمات في بعثهم، قال: «هو بمنزلة الأجير، إنّه إنّما يعطي اللَّه العباد على نيّاتهم»(1).

و أنت خبير بقصور هذه الوجوه عن تجويز ما هو الممنوع صغرىً و كبرى، فإن الإجماع المحكي و المحصّل منه في أمثال المسألة لا يفي بشي ء؛ لكثرة الأدلّة و اطّلاع العقل على حدودها.

و انكسار المفاسد بالمصالح لا يورث تجويز المحرّم، كما لا ينكسر ملاك المحرّم بانطباق عناوين كثيرة من المستحبّات.

و حفظ الملاك الأهمّ في فرض لا يورث انقلاب الحكم المحرّم واجباً أو مستحبّاً أو مرجوحاً، على ما تقرّر منّا في الأُصول(2).


1- تهذيب الأحكام 6: 338/ 944، وسائل الشيعة 17: 201، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 48، الحديث 2.
2- تحريرات في الأُصول 4: 216 218.

ص: 496

نعم، العامل معذور في ارتكاب المهمّ، مع أنّ الاطّلاع على هذه التكاسرات في الملاكات و المصالح غير ممكن بنحو الكلّي، و لا سيّما إذا كان اللازم القطع بترتّب المصالح على دخوله فيها و مع كونه مطابقاً للواقع، و إلّا فلا يعد معذوراً؛ لأنّ المقرّر جواز عدم كون العلم من الأعذار، و يمكن سلب اعتباره عنه.

فالدليل الوحيد هو النصوص، و الذي يظهر لي بعد التعمّق فيها: قصور هذه الطائفة من الأخبار لترخيص الدخول، فإنّ شدّة المنع في المستثنى منه توجب الشبهة في هذه المآثير، مع ضعف سند كثير منها و قصور دلالة الأخيرين، فإنّ خبر الحلبيّ مشعر بأنّه (عليه السّلام) لاحظ بعض المحاذير في العصر، و أقدم على الجواب بما هو المجمل، فإنّ من المحتمل قويّاً إرادته من قوله: «يبعثه اللَّه على نيّته» ما لا ينافي ممنوعيّة فعله شرعاً، و من قوله (عليه السّلام): «هو بمنزلة الأجير» ما ورد في قصّة صفوان الجمال(1)، الذي هو أجير هارون، المحبّ لبقائه حتّى يرد أجرته، و لو كان المقصود منها تجويز الدخول لمجرّد القصد إلى توجيه الخير إلى المسلم لا يبقى أحد إلّا و هو مسودّ السمعة في ديوانهم.


1- رجال الكشي 2: 740/ 828، وسائل الشيعة 17: 182، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42، الحديث 17.

ص: 497

و لعمري إنّه كيف يمكن الركون إلى مثل رواية زياد بن أبي سلمة، عن أبي الحسن موسى (عليه السّلام)، فقال لي: «يا زياد، لأن أسقط من حالق فأتقطّع قطعة أحبّ إليّ من أن أتولّى لأحدٍ منهم عملًا، أو أطأ بساط رجل منهم، ألّا لماذا؟» قلت: لا أدري جعلت فداك، قال: «إلّا لتفريج كربة عن مؤمن، أو فكّ أسره، أو قضاء دينه ..»(1).

فإنّه مع ندائها بمثل ذلك في جانب يرخّص هذا الأمر العظيم و المحرّم الكبير في نهاية السهولة في قبال الأمر اليسير جدّاً، و لا سيّما أنّ الظاهر منها الرخصة في قبال القصد إليه و إن لم يتحقّق أو يكون مظنون العدم تحقّقه.

و إلى مثل ما رواه الكشّيّ في ترجمة محمّد بن إسماعيل بن بزيع على نقل الشيخ عنه عن أبي الحسن الرضا (عليه السّلام) قال: «إنّ للَّه تعالى في أبواب الظلمة من نوّر اللَّه به البرهان، و مكّن له في البلاد ليدفع به عن أوليائه، يصلح اللَّه بهم أُمور المسلمين، إليهم ملجأ المؤمنين من الضرّ، و إليهم مرجع ذوي الحاجة من شيعتنا، بهم يؤمّن اللَّه روعة المؤمنين في دار الظلمة، أُولئك المؤمنون حقّا، أُولئك أُمناء اللَّه في أرضه، أُولئك نور اللَّه في رعيّته يوم القيامة،


1- الكافي 5: 109/ 1، وسائل الشيعة 17: 194، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 46، الحديث 9.

ص: 498

و يزهر نورهم لأهل السماوات كما يزهر نور الكواكب الدرّيّة لأهل الأرض، أُولئك نورهم يوم القيامة تضي ء منه القيامة، خلقوا و اللَّه للجنّة، و خلقت الجنّة لهم فهنيئاً لهم، ما على أحدكم أن لو شاء لنال هذا كلّه؟» قلت: بماذا جعلت فداك؟ قال: «يكون معهم فيسرّنا بإدخال السرور على المؤمنين من شيعتنا، فكن منهم يا محمّد»(1).

فإنّه كيف يحصل لأحد احتمال صدق مثل هذه المآثير قبال ما ورد عن الأئمّة المعصومين (عليهم السّلام)، و يحتمل إرادة الجماعة الغائبين عن أعينهم، الحافظين لمنافع المؤمنين و اللَّه العالم.

فالخروج عن المآثير المانعة عن الدخول(2) بمثل هذه و أشباهها، في غاية الإشكال و المنع.

ثمّ إنّه ممّا تقرّر يظهر الوجه في سائر ما أفاده- مدّ ظلّه، و لو كان وجه الرخصة انكسار الملاك في المستثنى منه، لما كان وجه لاختصاص الترخيص بالقسم الأوّل، كما لا يخفى.

فما سلكه في المقام الشيخ الأعظم من تحرير المسألة حول ما


1- حكى الشيخ الأعظم الرواية عن رجال الكشّي راجع المكاسب، الشيخ الأنصاري: 56/ السطر 23، و لكنّ الرواية ليست موجودةً في رجال الكشّي بل رواها النجاشيّ في رجاله، انظر رجال النجاشي: 331، الرقم 893.
2- وسائل الشيعة 17: 177، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42 و 45.

ص: 499

بل ربّما بلغ الدخول في بعض المناصب و الأشغال لبعض الأشخاص أحياناً إلى حدّ الوجوب، كما إذا تمكّن شخص بسببه على دفع مفسدة دينيّة (1)، أو المنع عن بعض المنكرات الشرعيّة مثلًا، و مع ذلك فيها خطرات كثيرة إلّا لمن عصمه اللَّه تعالى.

يدركه العقل من المصالح و المفاسد(1)، لا يرجع إلى محصّل، و هكذا ما أفاده غيره حول الدليل اللفظي(2).

و من العجب أنّهم كانوا يرون الخطرات في هذه الأشغال و المناصب، و يؤيّدهم المآثير الناطقة بأنّ «تناول السماء أيسر عليك من ذلك»(3) أي العدل و مع ذلك كانوا يرخّصونه في حذاء احتمال الأمر اليسير، أو الظنّ به.

قوله دام ظلّه: «مفسدة دينيّة».

مقتضى ما تحرّر منه- مدّ ظلّه في كتابه الكبير(4) انحصار الدليل في المستثنى بالمآثير، و لو تَمَّ ذلك فيشكل إلحاق مصالح الدين بمصالح المسلمين إلّا بدعوى الأولويّة القطعيّة؛ ضرورة أنّ المسلم بما هو مسلم


1- المكاسب، الشيخ الأنصاريّ: 56/ السطر 10.
2- انظر حاشية الإيروانيّ على المكاسب 1: 45/ السطر 3 و ما بعده.
3- الكافي 5: 107/ 9، وسائل الشيعة 17: 188، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 45، الحديث 4.
4- المكاسب المحرّمة، الإمام الخمينيّ 2: 174 175 و مابعدها.

ص: 500

محترم، فكيف لا يراعي الإسلام في المقام؟! مع أنّ إطلاقات أدلّة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر(1) يرخّص في هذه المواقف، و كون النسبة عموماً من وجه بينها و بين نصوص المسألة يؤيّد الرخصة للرجوع إلى البراءة أو قاعدة التزاحم مع أنّ دليل العقل لو لم يكن تامّاً في كثير من المواضيع لعدم الاطّلاع على الملاكات، و لكنّه هنا يتمّ إذا كان الداخل عالماً بحصول المعروف و دفع المنكر و رفعه.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ هذه المسألة من قبيل مسألة تزاحم المحرّمات و المستحبّات، فكما تكون أدلّتها قاصرة عن شمول موردها كذلك هنا.


1- وسائل الشيعة 16: 117، كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، أبواب الأمر و النهي، الباب 1.

ص: 501

[مسألة 25: ما تأخذه الحكومة من الضريبة على الأراضي]

مسألة 25: ما تأخذه الحكومة من الضريبة على الأراضي مع شرائطها جنساً أو نقداً، و على النخيل و الأشجار، يعامل معها (1) معاملة ما يأخذه السلطان العادل، فيبرأ ذمّة الدافع عمّا كان عليه من الخراج الذي هو اجرة الأرض الخراجيّة، و يجوز لكلّ أحد شرائه، و أخذه مجاناً و بالعوض، و التصرّف فيه بأنواع التصرّف، بل لو لم تأخذه الحكومة و حوّل شخصاً على من عليه الخراج بمقدار فدفعه إلى المحال، يحلّ له، قوله دام ظلّه: «يعامل معها».

و في «الرياض»: «و عليه الإجماع المستفيض(1)؛ ضرورة عدم استقامة تعيّش الإنسان بدون نماء الأراضي و الغرس فيها، و الفرض أنّ الجميع بأيديهم». و في «الجواهر» ما يشبه ذلك، إلى أن قال: «بل لعلّ المسألة من الضروريّات، لا يحتاج في إثباتها إلى الروايات، و لعلّ وقوع البحث بين الكركيّ و القطيفيّ- رحمهما اللَّه تعالى دعا إلى التطويل في المسألة، و كم من مسألة ضروريّة صارت نظرية لسبق الشبهة»(2).

أقول: الأراضي في زمن السلطان الجائر على قسمين: إمّا للمسلمين، و إمّا للإمام (عليه السّلام)، فما كان منها مفتوحة بأيديهم بإذنه (عليه السّلام) فهي لهم، و ما كان غير ذلك فهي له (عليه السّلام) مع سائر الشرائط المقرّرة، و على التقديرين تصدّي


1- رياض المسائل 1: 508/ السطر 1.
2- لاحظ جواهر الكلام 22: 181 182.

ص: 502

السلطان الجائر و عمّاله لها على خلاف الموازين الشرعيّة، لأنّها بيد الإمام العادل، أو المنصوب من قبله خاصّاً أو عامّاً، فتقبّلها منهم أوّلًا و تقبيلها للغير ثانياً، غير جائز على حسب الأصل الأوّلي، و التصرّف في منافعها و ثمارها حسيّا و اعتباريّاً، أيضاً ممنوع بمقتضى ما عرفت.

و توهّم أنّها لو كانت لهم فتصرّفهم فيها جائز غير تامّ؛ لأنّه على تقدير كونها لهم، على نحو كون الزكاة للفقراء، بمعنى أنّه كما يجوز للفقير أخذ الزكاة تمامها و إن كان الفقير الآخر موجوداً، فيجوز له الاستيفاء من الأرض أكثر من نصيبه، و لكنّه أيضاً غير جائز لاحتياجه إلى الإذن، فيكون تقبّله باطلًا.

إذا عرفت ذلك، فإن استكشفنا إمضاء الشرع لتصدّيهم فيكون الأموال عندهم كالأموال عند السلطان العادل، فيجوز جميع الاستمتاعات منها بلا فرق بين أنحائها، و ما اشتهر من ممنوعيّة مثل الإحالة لعدم كونها مقبوضة(1)، غير راجع إلى محصّل.

و عندئذٍ لا فرق بين أنحاء الفرق الإسلاميّة، و المحترمين في الدولة الإسلاميّة، و يجب حينئذٍ مراعاة شؤون العامل المتصدّي، و لا يجوز الاستراق، و لا التخلّف عمّا تعاهدوا عليه من الثلث و الربع الخمس باسم المقاسمة، و لا من الخراج المعيّن عليه، كما أنّ العامل إذا تعدّى و أخذ


1- لاحظ مجمع الفائدة و البرهان 8: 107، مفتاح الكرامة 4: 246 247.

ص: 503

الزائد على السهم المقرّر، فإنّه لا يجوز التصرّف فيما أخذه ظلماً و عدواناً، فهؤلاء أهل الجور كأهل العدالة بعد إمضاء صاحب الشريعة.

بل قضيّة صحيحة أبي عبيدة، قيل له: فما ترى في الحنطة و الشعير يجيئنا القاسم، فيقسم لنا حظّنا، و يأخذ حظّه، فيعزله بكيل، فما ترى في شراء ذلك الطعام منه؟ فقال: «إن كان قبضه بكيل و أنتم حضور ذلك فلا بأس بشرائه منه من غير كيل»(1) هو أنّ الأخذ من العامل بغير كيل اتّكالًا على كيله بعد حضورهم جائز، و الأخذ منه إذا يأخذ ظلماً و جوراً من غير مراعاة الشرائط المقرّرة ممنوع، فليتأمّل.

و إذا احتملنا أنّ الذي وقع عليه الإمضاء ليس إلّا الانتفاعات من تلك الأموال، و للحذر عن وقوع المسلمين في الحرج و المشقّة، و خصوص الشيعة في التعب و الإعضال، أجازوا ذلك، فحينئذٍ لا يلزم مراعاة النظم، و يجوز الاستنقاذ و الفرار من إعطاء الثمن فيما إذا اشترى و لو ببذل شي ء إلى العامل، مثلًا يأخذ منه المقاسمة، و غير ذلك، ممّا تعارف في هذه الأعصار، و يعدونه الرشوة فراراً عن العشور و الضريبة الموظّفة من قبل الدول.

و لو كان قضيّة الحرج أو لزوم الاختلال و الهرج، جواز التصرّف،


1- الكافي 5: 228/ 2، وسائل الشيعة 17: 219، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 52، الحديث 5.

ص: 504

و صحّة الآثار المترتّبة عليها، من براءة الذمّة عن الخراج و المقاسمة و من عدّها من المئونة في الزكاة؛ فهو مقصور و لا يمكن توزينه، و يستلزم ذلك المشقّة و الإعضال، بل و الاختلال، فإذن ينحصر الدليل بالسيرة، و الأدلّة اللفظيّة.

أمّا السيرة: فهي قضيّة خارجيّة تقصر عن إفادة وجه الجواز، و لعلّ الوجه أُمور مختلفة في الموضوعات المتشتّتة، و للحاكم الإلهي ترخيص المسلمين في التصرّف في أموال محترمة، في مواقف خاصّة.

بل من المحتمل قويّاً كون جميع ما في أيديهم الباطلة للإمام (عليه السّلام)؛ لكونها من الأنفال، فلا يستفاد منها إمضاء الضريبة على الأراضي الخراجيّة التي هي للمسلمين، فما يأخذ السلطان الجائر لو ينحصر بالمحرّم أو اختلط بالمحرّم، و وجه الاختلاط كما يمكن أن يكون لحلّية الخراج و المقاسمة، أو لحلّية الأنفال، أو لحلّية الأموال الأُخر الداخلة في أموالهم فرضاً، كما في عصرنا؛ فهو غير ممنوع التصرّف و التقلّب، لتلك السيرة المشاهدة بين الملل و العلماء، بل و المعروف من الأئمّة (عليهم السّلام).

و أمّا أنّها تكفي و تبرئ الذمّة فللإجماعات المحصّلة و المنقولة(1)، و لعدم معهوديّة خلافه، مع أنّه لو كان لبان؛ لابتلاء المتديّنين من أوّل الأمر بتلك الأراضي.

و أمّا الأدلّة اللفظيّة: فهي مختلفة و متشتّتة في الكتب، و المحصّل لنا


1- مفتاح الكرامة 4: 246/ السطر 22 و ما بعده.

ص: 505

منها ليس إلّا رفع المنع عن تلك الأموال، و لا دلالة لها على إمضاء التصدّي حتّى يترتّب عليه الحلّيّة حتّى لنفس العامل فيما يأخذه عوضاً عن عمله، أو فيما يتصرّف فيه عند ما يدخل ضيفاً عند أحد من المسلمين، فإنّ إمضاء التصدّي خلاف ما عليه الروايات الكثيرة الواردة في الذبّ عنهم(1)، و النهي عن التدخّل في أُمورهم(2)، و المشي معهم(3)، و المعاونة لهم(4)، و التسويد في ديوانهم(5) و هكذا، فكلّ ما كان من قبلهم (عليهم السّلام (فهو بالنسبة إلى الأُمّة راحة و ترخيص و إرشاد و تحليل و خلاص من المشقّة و الحرج، و بالنسبة إلى سلطانهم تضييق و تحديد و منع و عناد؛ لأنّ في تصدّيهم بقاء الأباطيل و سلطان الشيطان.

فالأمر بالاشتراء(6)، و ردّ سهم السلطان(7)، و أمثال ذلك لا يدلّ على أمر،


1- وسائل الشيعة 17: 177، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42.
2- وسائل الشيعة 17: 188، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 45، الحديث 4 و 12.
3- وسائل الشيعة 17: 182، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42، الحديث 15.
4- وسائل الشيعة 17: 177، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42.
5- وسائل الشيعة 17: 180، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 42، الحديث 9.
6- وسائل الشيعة 17: 218، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 52، الحديث 1 و 3 و 4.
7- وسائل الشيعة 9: 192، كتاب الزكاة، أبواب زكاة الغلّات، الباب 10، و 19: 44، كتاب المزارعة و المساقاة، الباب 10، الحديث 1.

ص: 506

بعد احتمال كون كثير من الروايات الموافقة لمذاقهم محمولًا على التقيّة، و صادراً من الجهات السياسيّة، و منها التقيّة المداراتيّة حقناً لدمائهم، و صوناً لأعراضهم.

فالفرار من إعطاء سهم السلطان مع الأمن من الوقوع في الهلكة، و خصوصاً مع القدرة على ردّه إلى السلطان العادل سرّاً، جائز، بل واجب و يشهد له: معتبر زرارة، قال: اشترى ضريس بن عبد الملك و أخوه من هبيرة أُرزاً بثلاثمائة ألف، قال: فقلت له: و يحك، انظر إلى خمس هذا المال فابعث به إليه و احتبس الباقي، فأبى عليّ، قال: فأدّى المال، و قدم هؤلاء فذهب أمر بني أُميّة، قال: فقلت ذلك لأبي عبد اللَّه (عليه السّلام)، فقال مبادراً للجواب: «هو له، هو له»، فقلت له: إنّه قد أدّاها، فعضّ على إصبعه(1).

فإنّه يعلم منه: أنّ مع بروز آثار ضعف الدولة السابقة كيف أدّى إليهم ما ليس لهم؟! و لا يستظهر منها أنّ المسألة مبنيّة على اختلاط الحرام بالحلال، و أنّه يجوز في هذه الصورة التصرّف، و الحرام هي الزكاة، و الحلال هي الضريبة حتّى يلزم مراعاة أحكام العلم الإجمالي، و مجرّد وجود بعض المآثير الظاهرة في ذلك لا يورث كون هذه المسألة على هذا المبنى.


1- تهذيب الأحكام 6: 337/ 936، وسائل الشيعة 17: 218، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 52، الحديث 2.

ص: 507

و قد عرفت كلام صاحب «الرياض»(1) و «الجواهر»(2) الفحلين- رضوان اللَّه تعالى عليهما، الظاهر في تحليل المحرّم، و عرفت أنّ الظاهر عدم ثبوت الإذن من قبل الأئمّة، و العادل من الأُمّة في الجهاد حتّى تكون الأراضي للمسلمين فيكون تصرّفهم فيها من التصرّف في أموالهم، و كان ذلك بحسب الحكم الوضعي حلالًا، و تصرّفاً غير غصبي، و إن يحرم ذلك لجهة أُخرى تكليفيّة محضة، مثل تصرّف الناذر في ماله إذا نذر ترك التصرّف لأمر راجح.

و رواية «الاحتجاج»(3) غير تامّة سنداً، و غير قابلة للتصديق دلالة.

و رضاهم ببسط الإسلام لا يكفي ظاهراً؛ لكون تلك الأراضي المحياة في ء المسلمين، و لأجل ذلك لا بدّ من الاقتصار على القدر الخارج من الأصل، المحرّر بالدليل المعتبر.

و مقتضى الأُصول العمليّة عند الشكّ في أنّ تلك الأراضي للمسلمين أو من الأنفال، كونها للإمام (عليه السّلام)؛ لأنّ ما لا يكون بخيل، و لا ركاب، و لا كذا و كذا فهو للإمام، و الاستصحاب النافي للقيد يورث شرعاً ذلك، فليتأمّل


1- رياض المسائل 1: 508/ السطر 1.
2- جواهر الكلام 22: 181 182.
3- الاحتجاج 2: 572، وسائل الشيعة 17: 217، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 51، الحديث 15.

ص: 508

و تبرأ (1) ذمّة المحال عليه عمّا عليه، جيّداً. و ما ورد: «هو له، هو له» أو «إنّ لك في بيت المال نصيباً»(1) لا يدلّ على خلاف ذلك؛ لأنّ من المحتمل قويّاً كون الجملتين إنشائيّة أو إخباراً عن الإنشاء، و التحليل السابق، بل تجويز الأخذ من تلك الأموال من غير مراعاة النصيب المعيّن و أخذهم (عليهم السّلام (منها كثيراً، يشهد على أنّ الأموال المأخوذة من ثمرات أملاكهم، فلاحظ و تدبّر.

قوله: «و تبرّأ».

لما عرفت، و ما يظهر من جماعة من أنّ الحلّيّة منوطة بالأخذ و القبض(2)، لا يرجع إلى محصّل.

نعم، لا ملازمة بين الحلّيّة و الإبراء، إلّا أنّ سقوط الذمّة إجماعي، مع أنّه كان مورد الابتلاء، فلو لم يترتّب عليه تلك الآثار الواضحة لكان واضحاً عند الأصحاب، و معلوماً عند المتأخّرين منهم- رضوان اللَّه تعالى عليهم.


1- تهذيب الأحكام 6: 336/ 933، وسائل الشيعة 17: 214، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 51، الحديث 6.
2- لاحظ مجمع الفائدة و البرهان 8: 107، المكاسب، الشيخ الأنصاريّ: 73/ السطر 25.

ص: 509

لكن الأحوط خصوصاً في مثل هذه الأزمنة (1) رجوع من ينتفع بهذه الأراضي، و يتصرّف فيها في أمر خراجها، و كذلك من يصل إليه من هذه الأموال شي ء، إلى حاكم الشرع أيضاً.

قوله مدّ ظلّه: «هذه الأزمنة».

البحث في هذه المسألة كان من جهات، بيّن أكثرها، لأنّه تارة: يبحث عن أنّ تقبّل الأرض يندرج تحت أحد العناوين المتعارفة من الصلح و الإجارة، أو يختصّ بعنوان مستقلّ آخر؟ الظاهر هو الثاني. و ربّما يكون من جهة شبيه الضمان الاجتماعي و عقد التأمين، فإنّ الخراج يؤخذ على الأرض سواء تمكّن العامل من الاستيفاء من الأرض أم لا، و سواء حصلت الشرائط في صحّة الإجارة فيها أم لم تحصل، فتأمّل.

و لو كان تلاحظ هذه الشرائط دون المدّة لكان الأوّل أقرب، لما تقرّر منّا: أنّ المدّة ليست من مقوّمات المنفعة(1) خلافاً لما توهّمه بعض المحقّقين، و لا دليل على مانعيّة الغرر في مطلق المعاملات، خصوصاً فيما نحن فيه.

و أُخرى: يبحث عن تقبيل المتقبّلات من الآخرين، و سيأتي بعض الكلام فيه، و هذان البحثان يشترك فيهما العادل و الجائر.

و ثالثة: في أنّ تلك الأراضي إذا لم تكن أنفالًا، ملك المسلمين، أم هي لهم منفعة و حقّاً؟ الظاهر هو الثاني، لعدم مساعدة الاعتبار لملكيّة الذات،


1- لم نعثر عليه فيما بأيدينا من كتبه و لعلّه في كتاب الإجارة المفقودة.

ص: 510

مع المنع عن التصرّفات الناقلة كالبيع و غيره، و التفصيل يطلب من مقام آخر.

و هكذا الأنفال للإمام ملكاً شخصيّاً، أو للإمام أي للدولة الإسلامية بأنّه لا يرث الثاني من الأوّل حتّى يتقسّم، أو يختصّ بولد دون ولد؟ الظاهر هو الثاني، و هي الضريبة لبسط الإسلام، و ترويج الدولة الحقّة، و تشكيل المدينة الفاضلة.

و رابعة: أنّ حلّيّة تلك الأموال الموجودة في خزائن الدول تختصّ بالدولة الإسلاميّة المدّعية خلافة رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه و آله و سلّم)، أو يشترك فيها غيرهم؟

و أنّها تختصّ بالموجودين في عصر الأئمّة، كبني أُميّة و بني العباس، أو يشترك فيها غيرهم؟

و أنّها تختصّ بالدولة الإسلاميّة الجائرة أو يشترك فيها المعنونون بالإسلام، و الذاكرون له و إن كان عملهم مورثاً لكفرهم شرعاً، و هم عند علماء المذهب من الكفّار و المرتدّين، ككثير من سلاطين الدول الإسلاميّة الفعليّة، فإنّهم على حسب صنائعهم يعدّون مرتدّين عن الطريقة الحقّة، و معاندين للإسلام و لعلمائه و أبنائه؟

و خامسة: هل الحلّيّة تختصّ بالشيعة و غيره ممنوعون، أو يشترك فيها أهل الإسلام دون العمّال و من هم في ديوانهم و من أعوانهم، أو يشترك فيها هؤلاء أيضاً إلّا إذا كان العمل الذي تصدّاه من المحرّمات الشرعيّة أو يشترك فيها أهل الذّمم أيضاً، بل الدول المعاهدة مع الدولة الإسلامية،

ص: 511

فلا يكون تصرّف هؤلاء فيها غصباً؟

و سادسة: يظهر في بعض أُمور لا حاجة إلى الإيماء إليها.

و الذي يظهر لي في الأمر الرابع هو أنّ قضيّة المنع الأكيد من الدخول في الولايات و المناصب، و من الإعانة و نحوها تمايلهم إلى إبطال هذه الدولة و بعث الأُمّة الإسلاميّة إلى تشكيل السلطنة الحقّة، و إليه يشير ما في بعض الأخبار(1)، و قد مضى أنّ مفادها إغراء المسلمين إلى السياسة الخاصّة المصطلح عليها بالسياسة المنفيّة(2).

و لو كان الإذن عامّاً لجميع الأُمم، بل لجميع أفراد الشيعة، لاختلّ نظام تلك السياسة، بل قضيّتها منع الناس عن هذه الأراضي و ثمارها، و إيجاد المشقّة و الكلفة عليهم حتّى يتولّد منها الثورة، و يتزايد التهاجم على تلك الدول الباطلة بوجه محفوظ من إراقة الدماء، و هتك الأعراض، كما قد يشاهد ذلك في الأُمم الراقية، الّتي هي تابعة في الاعتقادات الدينيّة للرجل الديني المتضلّع، و لكنّه مع ذلك كلّه صدر الإذن للشيعة؛ لطيب مولدهم و مأكلهم و مشربهم، و إليه يشير ما ورد من فساد منابتهم، و اندراجهم في من


1- الكافي 5: 106/ 4، وسائل الشيعة 17: 199، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 47، الحديث 1.
2- تقدّم في الصفحة 489 490.

ص: 512

لا طيب لمولده، و يعدّ من أولاد الزّنا(1).

فالّذي هو القدر المتيقّن من الأمر الخامس هو الإذن الخاصّ، و ما يظهر من الأصحاب و من عموم تعليلاتهم، خصوصاً ما ورد في كلام صاحب «الرياض»(2) و «الجواهر»(3) رحمهما اللَّه تعالى من التعليلات الراجعة إلى السيرة، و المشاهدات الخارجيّة و القضايا الجزئيّة، غير قابل للتصديق.

نعم، الظاهر اشتراك الحاضر و الغائب في هذا الإذن، و لا يختصّ به التابعون الأوّلون من المهاجرين و الأنصار.

و يمكن دعوى لزوم الرجوع إلى الحاكم؛ لأنّ الإذن الصادر من الإمام العادل لا يكفي لحلّيّة الأموال للغيّاب، و لكنّها إذا كانت بنحو العموم الظاهر في الأعمّيّة من العصر الحاضر، تكون مستلزمة لكشف الكفاية، و إلّا لم يكن وجه لمثله، فتدبّر.


1- بحار الأنوار 27: 145، كتاب الإمامة، الباب 5، و 38: 189، تاريخ أمير المؤمنين، الباب 63 في النوادر، الحديث 1.
2- رياض المسائل 1: 508/ السطر 1.
3- جواهر الكلام 22: 181.

ص: 513

و الظاهر أنّ حكم السلطان المؤالف كالمخالف (1)، و إن كان الاحتياط بالرجوع إلى الحاكم في الأوّل أشدّ.

قوله دام ظلّه: «كالمخالف».

قد عرفت عموم الإذن بالنسبة إلى الطائفة الحقّة مطلقاً، و الاحتياط بالرجوع إلى الحاكم خصوصاً في المؤالف، و لا سيّما في المؤالف الصوري، لا الواقعي، حسن جدّاً؛ لما علمت من بعض الاحتمالات في المسألة، و منها يعلم وجه الأشدّيّة أيضاً، فليتدبّر جيّداً.

ص: 514

[مسألة 26: يجوز لكلّ أحد أن يتقبّل الأراضي الخراجيّة]

مسألة 26: يجوز لكلّ أحد أن يتقبّل الأراضي الخراجيّة، و يضمنها من الحكومة بشي ء، و ينتفع بها بنفسه بزرع أو غرس أو غيره، أو يقبلها قوله: «يقبلها».

ظاهرهم أنّه عنوان آخر مستقلّ حيال سائر العناوين، و لا يلتزمون بعدم خروجهم عن العناوين الشائعة، كما يشاهد منهم في المواضع غير العزيزة، و ما قيل من أنّ الإجماع قائم على الحصر غير مصدّق في محلّه.

هذا و لكنّ الإنصاف شاهد على أنّ حقيقة الإجارة ليست إلّا هذا، و عدم لزوم مراعاة جميع الشرائط المعتبرة في صحّتها في غير ما نحن فيه هنا لا يورث انسلاب ماهيّتها عمّا نحن فيه.

ثمّ إنّه يمكن أن يتقبّلها بعنوان الصلح و المزارعة أيضاً، مع لزوم مراعاة الشرائط الشرعيّة فيهما؛ لأنّ القدر المتيقّن من سقوط الشرط هو ما كان التقبّل بعنوان الإجارة، و ذلك لوقوعه قهراً إجارة، بخلاف المزارعة و الصلح فإنّهما لا يقعان قهراً، فالتقبّل ليس عنواناً مستقلا، بل هو الإجارة بالحمل الشائع، و قضيّة السيرة عدم مراعاة شرائطها فيه بحيث توهّم كونه ماهيّة اخرى حذاء سائر الماهيّات الاعتباريّة.

و يدلّ عليه: مضافاً إلى مقطوعيّة الحكم، صحيح داود بن سرحان، عن

ص: 515

و يضمنها لغيره (1) و لو بالزيادة، على كراهية (2) في هذه الصورة، إلّا أن يحدث فيها حدثاً كحفر نهر أو عمل فيها بما يعين المستأجر، بل الأحوط ترك التقبيل بالزيادة إلّا معه.

أبي عبد اللَّه (عليه السّلام)(1) و صحيح الحلبيّ(2) و غيرهما(3).

قوله دام ظلّه: «لغيره».

مع مراعاة الشرائط المحرّرة في تحويل مورد المعاوضة إلى الغير، و مع كون التقبّل الأوّل غير محدود سلطنته على مورد التقبّل، كما في سائر الكتب كالمزارعة و الإجارة و المساقاة و غيرها.

و يمكن دعوى خصوصيّته في المقام و هو أنّ العين للمسلمين، فتحويلها إلى المستأجر الثاني غير ممنوع، فلتتأمّل تعرف.

قوله دام ظلّه: «على كراهية».

لما تقرّر في كتاب الإجارة، و قالوا هناك: أنّ الأقوى جواز الإجارة ثانياً


1- الكافي 5: 265/ 5، وسائل الشيعة 19: 57، كتاب المزارعة و المساقاة، الباب 17، الحديث 1.
2- تهذيب الأحكام 7: 201/ 888، وسائل الشيعة 19: 59، كتاب المزارعة و المساقاة، الباب 18، الحديث 3.
3- وسائل الشيعة 19: 45، كتاب المزارعة و المساقاة، الباب 10، الحديث 2، 19: 52، كتاب المزارعة و المساقاة، الباب 15، الحديث 3.

ص: 516

مع عدم الشرطين في الأرض على كراهية، و إن كان الأحوط الترك(1)، و قد مضى البحث حول هذه المسائل في محلّها في كتابنا الكبير(2).

و الذي هو الإشكال هنا هو: أنّ التقبّل ليس من الإجارة المتعارفة حتّى تأتي فيها الممنوعات فيها و شرائطها، بل ظاهر جماعة أنّه عنوان آخر، فشمول أخبار تلك المسألة(3) لهذه الصورة محلّ بحث.

و المراد من الشرطين إحداث الحدث، و كون الأُجرة في الإجارة الثانية من غير جنس الأُجرة في الإجارة الأُولى، و كان عليه- مدّ ظلّه الإشارة إلى الشرط الثاني في المتن أيضاً حتّى يستوفي المسألة من جهاتها، و لا سيّما بعد تصديقه الشرط الثاني في كتاب الإجارة على إشكال فيه(4).


1- العروة الوثقى 2: 608، كتاب الإجارة، الفصل 5، المسألة 1.
2- كتاب الإجارة من تحريرات في الفقه مفقود.
3- وسائل الشيعة 19: 126، كتاب الإجارة، الباب 21.
4- تحرير الوسيلة 1: 579، كتاب الإجارة، المسألة 25.

ص: 517

هذا آخر ما أردناه في هذا المضمار، و قد تمّ بيد الفقير إلى اللَّه الغني، صباح يوم الجمعة، التاسع من شهر صفر المظفّر، من السنة السابعة، من العشر التاسع، من القرن الرابع عشر، من الهجرة النبويّة، على هاجرها آلاف الصلاة و التحيّة، في النجف الأشرف، في الأيّام الّتي كنّا فيها بحكم القضاء الإلهي مقصيين من بلادنا، و قد أخرجنا ربّنا منها إلى تركيا، ثمّ منه إلى هذه البلدة الطيّبة على مشرّفها الثناء الجميل، و نرجو منه الخير الكثير، و أن يوفّقنا لأن نقتل في سبيله بعد ما نقتل أعدائه، و الحمد للَّه أوّلًا، و آخراً، و ظاهراً، و باطناً، فإنّه خير موفّق و معين. 7/ صفر المظفر 1397 ه. ق.

المجلد 2

[كتاب البيع]

اشارة

ص: 2

ص: 3

[القول في الإيجاب و القبول]

[مسألة 1: عقد البيع يحتاج إلى إيجاب و قبول]

مسألة 1: عقد البيع يحتاج (1) إلى إيجاب و قبول، و قد يستغني عن القبول، في الإيجاب و القبول قوله مدّ ظلّه: «يحتاج».

إجماعاً و اتفاقاً بين الملل، سواء قلنا باشتراط صدق «العقد» على عناوين المعاملات المعاوضيّة و المتقوّمة بالطرفين، أو قلنا بعدمه، كما هو التحقيق؛ فإنّ الضرورة قاضيّة بصحّة البيع و لزومه و إن سلب عنه عنوان «العقد» و ما ورد في الكتاب و السنّة، فهو ناظر إلى ما هو بالحمل الشائع بيع و إجارة، و تكون لفظة «العقد» إشارة إليها.

ثمّ إنّ تقسيم القوم العناوين إلى العقود و الإيقاعات، ليس في محلّه؛ فإنّ جميع الماهيّات الاعتباريّة مشتركة في تحقّقها بالموجب تحقّقاً إنشائيّاً، و لكنّها لا تؤثّر في العقود إلّا بإمضاء المشتري، فماهيّة البيع هي التمليك، أو إنشاؤه، أو التبادل، أو المبادلة، أو غيرها، و كلّ ذلك يحصل بإنشاء الموجب، و لكنّها كالفضوليّ لا أثر لها إلّا بعد ظهور الرضا من

ص: 4

قبل الطرف المقابل، فلو كان الأثر الفعليّ من مقوّمات الماهيّة، يلزم عدم كون بيع الفضوليّ بيعاً حقيقة، و لو لم يكن ذلك مقوّماً لها، فهي و هي إنشاء التمليك بالعوض متحقّقة في الاعتبار قطعاً.

و دعوى: أنّه ليس عقداً، ممنوعة أوّلًا بما عرفت.

و ثانياً: بأنّ عقديّة العقد تحصل بالعقدة، و هي توجد بإنشاء الموجب.

بل الخاطر بالبال: أنّ ماهيّة المعاملات و منها البيع، لها إطلاقات، قد يراد منها المعنى المسبّبي؛ و هو النقل و الانتقال، و لعلّه المراد من قوله تعالى وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ(1).

و قد يراد منها السبب التامّ المتعقّب بالأثر و المسبّب، و هذا لعلّه المراد منه.

و يمكن أن يطلق و يراد منه فعل البائع الملازم لقبول المشتري.

و تارة: يراد منه فعله و إن لم ينضمّ إليه القبول؛ ضرورة أنّه يصحّ أن يقال: «باع زيد و ما اشترى عمرو منه».

و ما هو المقصود في أدلّة النفوذ و في الاستعمالات المتعارفة، أحد الأوّلين، و ليس معناه على التقديرين متقوّماً بالأثر الفعليّ، و عليه كما يتحقّق


1- البقرة( 2): 275.

ص: 5

كما إذا وكّل المشتري أو البائع صاحبه في البيع و الشراء، أو وكّلا ثالثاً، فيقول: «بعت هذا بهذا» فإنّ الأقوى عدم الاحتياج (1) حينئذٍ إلى القبول.

تمام ماهيّته بالإيجاب، كذلك يتحقّق بالقبول فيما كان مثل: «اشتريت» و «تملّكت» فإنّهما مثل: «بعت» و «ملّكت» في عدم حصول الأثر حقيقة إلّا بهما، و في حصول تماميّة الماهيّة الاعتباريّة بهما؛ و هي إنشاء المعاوضة عن جدّ.

قوله مدّ ظلّه: «الأقوى عدم الاحتياج».

لما عرفت من عدم تقوّم الماهيّة به، فإذن يحصل عقد البيع بعمله الوحدانيّ واجداً جميعَ الآثار و الأحكام.

و هذا هو الظاهر من قوله تعالى فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها ..(1) فإنّه لم يعهد منه (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم (قبوله بعد ذلك، فلو أوقع وليّ الابن و البنت بينهما عقد الزواج، فلا معنى للقبول بعده. و لعلّه الظاهر من بعض ما ورد في قصص زواج المعصومَين: عليّ و فاطمة سلام اللَّه تعالى عليهما و كون الآية قابلة لحملها على الإخبار، لا ينافي ظهورها العرفي في الإنشاء بعد اقتضاء القواعد صحّته.

نعم، قضيّة الإجماعات المحصّلة ممنوعيّته و شرطيّة القبول، و لكنّها بمعزل عن إفادة أمر وراء ما فهموه، فتدبّر.


1- الأحزاب) 33): 37.

ص: 6

و الأقوى عدم اعتبار العربيّة، بل يقع بكلّ لغة و لو مع إمكان العربيّ (1).

قوله دام ظلّه: «و لو مع إمكان العربيّ».

خلافاً لجمع، كالسيّد عميد الدين(1)، و الفاضل المقداد(2)، و الثاني من المحقّقين(3) و الشهيدين(4)، معلّلًا بالحجج العليلة، مثل إنكار صدق «العقد» مع التمكّن من العربيّة، و هو قضيّة التأسّي، و غير ذلك، و وفاقاً للمحقّقين(5)؛ لعدم الدليل، و للعمومات.

بل الذي سلكناه في كتابنا الكبير(6)؛ أنّ الأحوط أن يعقد كلّ بلسانه، لأنّه أخبر بخصوصيّاته، فيتمكّن من الغفلة عن اللغات بإبراز المعنى المقصود، و إنشاء العقد و الإيقاع، و لقد سمعت عن بعض المشايخ التجنّب عن تكفّل عقد النكاح بالعربيّ؛ لأنّ العاقد لا يعتبر الزواج، و لا ينشئ عقدة النكاح، بل تمام توجّهه إلى الألفاظ و كيفيّة الاستعمالات، غافلًا عن إبراز المعنى و إيجاد المعتبر.


1- نقل عنه مفتاح الكرامة 4: 162/ السطر 25.
2- كنز العرفان 2: 72.
3- جامع المقاصد 4: 59 60.
4- الروضة البهيّة 1: 313/ السطر 14.
5- انظر المكاسب، الشيخ الأنصاري: 95/ السطر 34.
6- تحريرات في الفقه، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الجهة الثالثة، المسألة الرابعة، الفرع الأوّل.

ص: 7

كما أنّه لا يعتبر فيه الصراحة، بل يقع بكلّ لفظ (1) دالّ على المقصود عند أهل المحاورة، ك «بعت» و «ملّكت» و نحوهما في الإيجاب، و «قبلت» و «اشتريت» و «ابتعت» و نحو ذلك في القبول.

مع دعوى انصراف العمومات إلى العقود المتعارفة بين الملل و الأقوام، و هي ما حصلت بألفاظهم، دون ألفاظ آخرين، و هذا هو القدر المتيقّن، دون ما توهّمه بعض الأصحاب (رحمهم اللَّه).

قوله دام ظلّه: «بكلّ لفظ».

على المعروف بين المتأخّرين(1)، و في المسألة أقوال ربّما تبلغ إلى سبعة.

و قد يشكل جوازه بغير الألفاظ المتعارفة الصريحة الموضوعة المشتملة على عناوين المعاملات؛ لما يظهر من كلّ متصدٍّ للفقه اعتبار ألفاظ مخصوصة؛ حتّى تصدّى جمع لتأليف كتاب في ألفاظ الصيغ، فيعلم التعبد الشرعيّ بالإجماع القطعيّ، ففي غير هذه الصورة يشكل شمول عمومات الكتاب و السنّة للعقد العرفيّ، و التمسّك بها غير جائز؛ لاستلزامه الإخلال بمعقد الإجماع.

و لكنّه بمعزل عن التحقيق؛ ضرورة أنّ الإجماع لا يكشف في هذه المسائل عن رأي متّبع، و لو سلّمنا فله القدر المتيقّن، و لا يلزم منه


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 94/ السطر 3.

ص: 8

و الظاهر عدم اعتبار الماضويّة، فيجوز بالمضارع و إن كان أحوط. (1) ممنوعيّة التمسّك بالعمومات في جميع ما يحتمل دخالته.

نعم، بعض المجازات البعيدة أو الكنايات غير المأنوسة، غير قابل لإيقاع العقد به، دون غيره.

ثمّ إنّ المقصود من «الدلالة» في الجملة الثانية بعد نفي اعتبار الصراحة، هي الدلالة بالقرائن المقاميّة و المقاليّة، و ظاهرهم عدم الصحّة بالألفاظ الموضوعة بالخصوص بين المتعاملين؛ بأن كان بناؤهم على إيقاع البيع بألفاظ النكاح و هكذا، فإنّ المدار على الأسباب العرفيّة، دون مطلق ما يمكن أن يتسبّب به.

و يظهر من بعض الأجلّة جوازه بها أيضاً(1)، و لكنّه مشكل.

نعم، إذا اقتضت الضرورة إخفاءَ المقاصد العرفيّة، فأرادوا بألفاظ النكاح البيع؛ لجهة عقلائيّة، فإنّه حينئذٍ لا يبعد شمول الأدلّة؛ لولا مخافة مخالفة الإجماع المزبور، فتدبّر.

قوله دام ظلّه: «و إن كان أحوط».

لما عن العلّامة في «التذكرة» من دعوى الإجماع عليه(2)، و ممّا يدلّ


1- انظر مصباح الفقاهة 3: 19.
2- تذكرة الفقهاء 1: 462/ السطر 11.

ص: 9

و لا يعتبر (1) فيه عدم اللّحن من حيث المادّة و الهيئة و الإعراب؛ إذا كان دالّاً على المقصود عند أبناء المحاورة، و عدّ ملحوناً منه، لا كلاماً آخر ذكر في هذا المقام، كما إذا قال: «بعت» بالفتح، أو بكسر العين و سكون التاء. و أولى بذلك اللغات المحرّفة، كالمتداولة بين أهل السواد و من ضاهاهم.

على خلافه النصوص الواردة في كتاب النكاح في مسألة الاستيجاب(1)، فإنّها كما تدلّ على حكم المسألة الآتية، تدلّ على حكم هذه المسألة.

و ما قد يتوهّم من عدم مساعدة العرف، لا يخلو من غرابة؛ لأنّ الماضي ليس موضوعاً للإنشاء، بل الاستعمال فيه مع القرينة خصّه به، و هذا أيضاً يصحّ في غيره؛ أمراً كان، أو مضارعاً.

قوله مدّ ظلّه: «و لا يعتبر».

لعدم الدليل عليه بعدُ، و لو كان كلاماً آخر فقد عرفت وجه الإشكال و تصحيحَه في بعض الحالات.

و أمّا إذا كانت اللّغات المحرّفة من أهل السواد، ففي صحّة تعبيرها إشكال مضى سبيله في مسألة اعتبار العربيّة.


1- وسائل الشيعة 20: 264، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح و أولياء العقد، الباب 1، الحديث 10. و 21: 43، كتاب النكاح، أبواب المتعة، الباب 18.

ص: 10

[مسألة 2: الظاهر جواز تقديم القبول على الإيجاب]

مسألة 2: الظاهر جواز تقديم القبول على الإيجاب إذا كان بمثل «اشتريت» و «ابتعت» إذا أُريد به (1) إنشاء الشراء، لا المعنى المطاوعيّ، و لا يجوز (2) بمثل: «قبلت» و «رضيت». و أمّا إذا كان بنحو الأمر و الاستيجاب، كما إذا قال من يريد الشراء: «بعني الشي ء الفلانيّ بكذا» فقال البائع: «بعتكه بكذا» قوله دام ظلّه: «إذا أُريد به».

فإنّه في هذه الصورة يكون من الإيجاب المقدّم بلفظ الشراء، و فيما كان نظره إلى المطاوعة يعدّ من الألفاظ الصريحة في القبول الممنوع عندهم و المُدّعى عليه الإجماع في «الخلاف»(1).

قوله: «و لا يجوز».

عقلًا و إجماعاً؛ ضرورة أنّ المعدوم غير قابل للقبول.

و فيه: أنّ إنشاء التمليك بألفاظ الإيجاب، كإنشاء القبول بألفاظه، فكما أنّ الاعتبار هناك قائم ببقاء الملكيّة المنشأة، كذلك الاعتبار قائم هنا بحدوثه، فهو يقبل ما يراه في الخارج و يجده.

و إن شئت قلت: هو من تأخّر القبول أيضاً في مفهومه؛ و لو كان متقدّماً في وجوده، فعليه تندفع الشبهة العقليّة من غير حاجة إلى تصوير الواجب المشروط أو المعلّق.


1- الخلاف 3: 40، المسألة 56.

ص: 11

فالظاهر الصحّة (1) و إن كان الأحوط إعادة المشتري القبول.

قوله دام ظلّه: «فالظاهر الصحّة».

و ذلك لأنّ الأمر الباعث إلى البيع، يستلزم عرفاً رضا الآمر بالمأمور به، و لا نحتاج في قبول الإنشاء المتأخّر إلّا الرضا بالمنشإ البارز بأحد الدلالات الثلاثة، و هكذا الاستيجاب.

و لكنّه يشكل على مبنى القوم؛ و هو ممنوعيّة القبول المتقدّم، و الرضا المظهر بالإيجاب المتأخّر غير كافٍ عندهم، فما اختاره الماتن هنا يناقض منعه في مثل: «قبلت» و «رضيت».

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ وجه التفصيل هو الإجماع، دون الدليل العقليّ و القواعد العقلائيّة.

إن قلت: فرق بين الأمر، و تقديم القبول بلفظه، فإنّه شامل للماهيّة المقصودة من البيع و غيره، بخلافه.

قلت: نعم، إلّا أنّ مقصود المجوّز ليس تقديم مادّة القبول من غير سبق المقاولة، و إذا سبقت المقاولة، فترى بعد تماميّتها يصحّ أن يقول المشتري: «قبلته» و البائع: «بعته» من غير إشكال.

هذا مع أنّه يمكن أن يقول المشتري بدواً: «قبلت هذا بهذا مبيعاً» فيقول البائع: «بعته» فإنّه عند العقلاء أيضاً صحيح قطعاً.

ص: 12

[مسألة 3: يعتبر الموالاة بين الإيجاب و القبول]

مسألة 3: يعتبر الموالاة (1) بين الإيجاب و القبول؛ بمعنى عدم الفصل الطويل بينهما بما يخرجهما عن عنوان «العقد» و «المعاقدة» و لا يضرّ القليل؛ بحيث يصدق معه «أنّ هذا قبول لذلك الإيجاب».

قوله: «يعتبر الموالاة».

إجماعاً، و عليه السيرة القطعيّة، و الخروج عنه خلاف المرتكز العرفيّ. و لعلّه يرجع إلى المسألة الآتية من لزوم التطابق؛ فإنّ القبول المتأخّر إذا لم يعدّ من قبول الإيجاب المتقدّم، فلا يحصل التطابق، فتدبّر.

و قد يقال: إنّ عنوان العقد لا يحصل إلّا به، و هو ممنوع كما في العقود الجائزة، و قد مرّ عدم الحاجة إليه في تحقّق عناوين المعاملات صحّة و لزوماً، فما في المتن واضح المنع.

و اختار الماتن في مقام آخر عدم اعتبار الموالاة(1)؛ لما اختار أنّ تمام ماهيّة المعاملة تحصل بالإيجاب(2)، و قد أنكر العقود بالمعنى المعروف بين الأصحاب (رحمهم اللَّه) فالعقد يحصل بنفس الإيجاب، و تأخّر القبول كتأخّر الإجازة في الفضوليّ.

و هذا و إن كان موافقاً للتحقيق، إلّا أنّه لا يستنتج منه نفي اعتبارها؛ لأنّه لا يحصل التطابق المعتبر عرفاً، فتأمّل.


1- البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 1: 227.
2- البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 1: 219.

ص: 13

[مسألة 4: يعتبر في العقد التطابق بين الإيجاب و القبول]

مسألة 4: يعتبر في العقد التطابق (1) بين الإيجاب و القبول، فلو اختلفا بأن أوجب البائع على وجه خاصّ من حيث المشتري، أو المبيع، أو الثمن، أو توابع العقد من الشروط، و قَبِل المشتري على وجه آخر، لم ينعقد (2)، فلو قال البائع: «بعت هذا من موكِّلك بكذا»، فقال الوكيل: «اشتريته لنفسي» لم ينعقد. (3) قوله مدّ ظلّه: «التطابق».

لا شبهة في كبرى هذه المسألة، و لا معنى لعدّه من الشرائط؛ لأنّه من مقوّمات ماهيّة البيع المتوقّف على القبول المتعلّق بإنشاء الموجب.

نعم، هو من الشرائط؛ بناءً على كون القبول علّة تأثير الماهيّة الموجودة بفعل الموجب، على ما تقرّر.

نعم، قد يشكل الأمر في حصوله في بعض الفروض المذكورة في المتن؛ و أنّه حصلت صغرى التطابق، أم لا.

قوله دام ظلّه: «لم ينعقد».

إذا كان مورثاً لقصور الإنشاء و تحدّده، أو احتمل ذلك، و أمّا لو كان المقصود بيع متاعه مخاطباً في بيعه أحدَ الحضّار من أجل أنّه واحد منهم، من غير النظر إلى الخصوصيّة في أمره، فإنّه إذا قبله الآخر ينعقد، و من ذلك يعلم النظر في مشابهات المسألة.

قوله: «لم ينعقد».

إلّا في الوجه المشار إليه.

ص: 14

نعم، لو قال: «بعت هذا من موكِّلك» فقال الموكّل الحاضر غير المخاطب: «قبلت» لا يبعد الصحّة (1). نعم، لو قال: «بعتك هذا بكذا» فقال: «قبلت لموكِّلي» فإن كان الموجب قاصداً لوقوع البيع للمخاطب نفسه، لم ينعقد، و إن كان قاصداً له أعمّ من كونه أصيلًا أو وكيلًا، صحّ (2). و لو قال: «بعتك هذا بألف» فقال: «اشتريت نصفه بألف» أو «بخمسمائة» لم ينعقد. (3) قوله: «لا يبعد الصحّة».

لا وجه لنفي البعد لقطعيّة الصحّة. بل قبول الوكيل مع حضور الموكِّل الذي هو المشتري حقيقة، الناظر الشاعر بالبيع و خصوصيّاته، لا يخلو من توهّم الإشكال؛ بدعوى قصور أدلّة الوكالة عن شمول هذه الموارد، فتدبّر.

قوله: «صحّ».

إذا رجع الإنشاء إلى الجامع المنطبق عليهما، أو رجع ذلك إلى إلغاء الخصوصيّة عن المخاطب؛ بدعوى ما أشرنا إليه، و إلّا فهو المستحيل؛ لأنّ المخاطب الجزئيّ إمّا هو الوكيل، أو الموكّل.

و على هذا، يتوجّه إليه- مدّ ظلّه عدم الفرق بين ما نحن فيه، و المسألةِ السابقة، التي مضى قوله فيها بعدم الانعقاد.

قوله: «لم ينعقد».

إلّا فيما كان البيع عند العرف ينحلّ إلى البيوع، فإنّه ينعقد

ص: 15

بل لو قال: «اشتريت كلّ نصفٍ منه بخمسمائة» لا يخلو من إشكال (1). نعم، لا يبعد الصحّة لو أراد كلّ نصف مشاعاً. و لو قال لشخصين: «بعتكما هذا بألف» فقال أحدهما: «اشتريت نصفه بخمسمائة» لم ينعقد (2). و لو قال كُلّ منهما ذلك لا يبعد الصحّة؛ و إن لا يخلو من إشكال (3).

بالنسبة إلى البعض، كما إذا قال: «بعتك هذه القطعات من الأرض الكذائيّة بكذا» فقبل في واحدة منها بالنسبة أو الأزيد، فإنّه ينعقد.

قوله مدّ ظلّه: «لا يخلو من إشكال».

لا وجه للإشكال بعد إرادة اشتراء جميع المبيع؛ لأنّه قد قبل جميع ما أنشأه، و اختلاف الألفاظ و تشتّت التعابير لا يضرّ بالتطابق المعتبر، من غير فرق بين اشتراء النصف المعيّن، أو المشاع؛ لأنّه أمر خارج عن إنشاء البيع، فإنّ البائع لا ينشئ إلّا بيع أمر وحدانيّ من غير النظر إلى القسمة الوهميّة، فلو قبل تمامه بأيّ وجه كان، فقد أتى بما هو اللازم في التطابق قطعاً.

قوله: «لم ينعقد».

إلّا إذا كان المطلوب متعدّداً، فأورث عرفاً انحلال البيع.

نعم، في غير هذا الوجه يبطل؛ لظهور اللفظ في وحدة الغرض، فلا ينبغي الخلط بين الفروض المشار إليها.

قوله دام ظلّه: «من إشكال».

لا إشكال فيه، و لا وجه لتوهّمه؛ من غير فرق بين أن يقول كلّ واحد

ص: 16

و لو قال: «بعت هذا بهذا على أن يكون لي الخيار ثلاثة أيّام» مثلًا، فقال: «اشتريت بلا شرط» لم ينعقد. و لو انعكس بأن أوجب البائع بلا شرط، و قَبِل المشتري معه، فلا ينعقد مشروطاً. و هل ينعقد مطلقاً و بلا شرط؟ فيه إشكال. (1) منهما: «اشتريت نصفه بخمسمائة» أو يقول: «بألف» و لو صحّ الإشكال فيه يلزم عدم التمكّن من قبول هذا الإيجاب على الوجه الصحيح، إلّا بأن يوكّلا أحداً فيقبل منهما، و هذا شاهد على أنّ الإشكال المذكور لا أصل له.

قوله: «فيه إشكال».

في المسألة صورتان:

إحداهما: ما إذا كان الشرط في كلام المشتري بنفع البائع؛ بأن يقول: «قبلت على أن أخيط لك ثوباً» فإنّه في هذه الصورة ينعقد البيع قطعاً، و في لزوم هذا الشرط عليه إشكال.

إلّا أن يقال: بأنّ عمومات الشروط تشملها؛ لأنّها في الإنشاء تبع العقد، و في الحقيقة ليس إلّا مجرّد الوعد، و ما يدلّ على عدم وجوب الوفاء بالوعد و هي السيرة قاصرة عن شمول هذا المورد و أمثاله.

ثانيتهما: ما لو كان الشرط في كلامه ينفعه، بأن يقبل على أن يكون له الخيار إلى ثلاثة أيّام، أو على أن يخيط له البائع ثوبه، فإنّه في هذه الصورة لا ينعقد بلا إشكال؛ لأنّ القبول المقيّد غير القبول المطلق.

ص: 17

[مسألة 5: لو تعذّر التلفّظ لخرس و نحوه، تقوم الإشارة المفهمة مقامه]

مسألة 5: لو تعذّر التلفّظ لخرس و نحوه، تقوم الإشارة المفهمة مقامه؛ حتّى مع التمكّن من التوكيل على الأقوى (1). و لو عجز عن الإشارة أيضاً فالأحوط التوكيل أو المعاطاة، و مع تعذّرهما إنشاؤه بالكتابة.

قوله مدّ ظلّه: «على الأقوى».

و هو قضيّة المطلقات الواردة فيه(1)، مع إمكان التوكيل نوعاً.

ثمّ إنّ قيامه مقامه كما في أكثر المتون، ربّما كان للإشارة إلى سريان الأحكام الخاصّة بالعقد اللفظيّ إليه؛ و أنّه ليس من قبيل المعاطاة المتنازع فيها صحّة و لزوماً.

و الذي هو التحقيق: أنّ هذه المبرزات مشتركة في تحقّق عنوان العقود و الإيقاعات بها و إن لا يحصل اعتبار العقد مفهوماً؛ لعدم الاحتياج إليه في صحّتها، و لا في لزومها؛ على ما تقرّر منّا سابقاً. و لا إجماع على خلاف ذلك بعد اقتضاء الأدلّة العامّة مشروعيّتها.

فما في المتن من الاحتياط طولًا، إن كان يرجع إلى قصور الكتابة بذاتها عن السببيّة، فهي ممنوعة مطلقاً، لا في فرض.

و إن كان يرجع إلى قصور الأدلّة العامّة عن شمولها في عَرْض غيرها، أو يرجع إلى وجود الإجماع على الممنوعيّة بالكتابة إلّا في هذه


1- وسائل الشيعة 6: 136، كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، الباب 59. و 19: 373، كتاب الوصايا، الباب 49. و 22: 47، كتاب الطلاق، أبواب مقدّماته و شرائطه، الباب 19.

ص: 18

الصورة، فهو غير تامّ.

و ما ورد في طلاق الأخرس(1) و قراءته(2)، لا يورث تعيّن الإشارة في غير موردها، و لا تقدّم التوكيل و المعاطاة على الكتابة؛ لأنّ عرفان الأخرس للكتابة غير ممكن في عصر المآثير، و حمل «الأخرس» على الأعمّ فيها بحيث يستنتج منه ذلك، خلاف المتبادر من الأخبار.

و لعمري، إنّه بعد عدم دخالة الشرع الأقدس في السبب، فدخالة أرباب الفتوى نفياً و إثباتاً، توجب الفساد؛ لتوهّم العرف لزوم تبعيّتهم لهم في ذلك.

فالأولى الأحوط أن يقال: إذا تحقّق البيع فأحكامه كذا و كذا، و ما به يتحقّق موكول إلى العرف، و تشخيص مصاديقه بيدهم، و عليهم رضوان اللَّه تعالى عليهم اتباعهم، فهم و العرف متعاكسان في المرجعيّة.

و ما قد يتوهّم من لزوم المراجعة إلى العرف في المفاهيم، دون تشخيص المصاديق(3)، إن كان ذلك يرجع إلى أنّ مع اتحاد العرف على مصداقيّة أمر لعنوان، لا بدّ من العمل على طبق تشخيصه دون تشخيصهم،


1- وسائل الشيعة 22: 47، كتاب الطلاق، أبواب مقدّماته و شرائطه، الباب 19.
2- وسائل الشيعة 6: 136، كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، الباب 59.
3- كفاية الأُصول: 77.

ص: 19

فهو باطل؛ لأنّه يرجع إلى عدم دركه المفهوم العرفيّ من العنوان الوارد في الدليل مثلًا.

و إن كان ذلك يرجع إلى أنّ مع اختلاف العرف في ذلك، أو مع جهلهم بالواقعة، لا يصحّ الاتكال على دركهم، فهو الحقّ الذي لا محيص عنه، و للمسألة مقام آخر يحتاج إلى البسط فيها.

ص: 20

[مسألة 6: الأقوى وقوع البيع بالمعاطاة في الحقير و الخطير]

مسألة 6: الأقوى وقوع البيع بالمعاطاة (1) في الحقير و الخطير، و هي عبارة عن تسليم العين بقصد صيرورتها ملكاً للغير بالعوض، و تسلّم العوض بعنوان العوضيّة.

قوله دام ظلّه: «البيع بالمعاطاة».

على المعروف بين متأخّري المتأخّرين(1)، خلافاً للمشهور و «للجواهر»(2) و غيره(3).

و الذي تقتضيه القواعد هو صحّة المعاطاة التي كان عليها مدار المبادلات في الأزمنة الأوّلية، و غيرها يحتاج إلى الدليل؛ ضرورة أنّ الاعتبارات الموجودة بين الملل، حصلت بعد ما كانت تلك المفاهيم الاعتباريّة متّخذة من المصاديق التكوينيّة، و ما من مفهوم اعتباري إلّا و هو ذو مصداق تكوينيّ، هو الموضوع في اللّغات، و عليه كان العمل لدى الأسلاف.

و بعد التوسعة في المعيشة، و إمساس الاحتياج إلى المبادلات نسيئة وكالياً بكالٍ، أحسوا الاعتبار و التبادل التوهّمي و غير الواقعيّ، منزّلين ذلك منزلة ذلك التعاطي الخارجيّ. و هذا المعنى أيضاً قد كان


1- جامع المقاصد 4: 58، مجمع الفائدة و البرهان 8: 139.
2- جواهر الكلام 22: 210.
3- السرائر 2: 250، شرائع الإسلام 2: 7، قواعد الأحكام: 123/ السطر 20، الحدائق الناضرة 18: 348.

ص: 21

حاصلًا قبل الشريعة المقدّسة بالضرورة، و ليس من المستحدثات الأخيرة.

و حينئذٍ يقع الكلام في أنّها بعد مرورها عليهما، و على هذين السبيلين المتعارفين، هل أمضتهما، أو أمضت ما هو الأصل دون الفرع، أو أمضت العكس، و ردعت عن الأصل، أو يفصّل بين العقود؟

بل يمكن دعوى الشكّ في حصول اعتبار بعض العقود قبل الإسلام، مثل عقد المساقاة و أمثالها ممّا قلّ تداولها في الملل السابقة التي تمضيها الشريعة المقدّسة.

وجوه و أقوال:

ظاهر المشهور مردوعيّة المعاطاة، و إمضاء الفرع و العقود القوليّة، و ما يحتمل حدوثها بعدها يستصحّ بالعمومات الواردة في الكتاب، و السنّة، و النصوص الخاصّة في كلّ كتاب و باب.

و ظاهر غيرهم عدم مردوعيّتها(1)، و يكفي ذلك من غير الحاجة إلى الأدلّة الإمضائيّة؛ كتاباً كانت، أو سنّة، مع إمكان تأتّي الخدشات فيها: من قصور موضوعاتها عن شمولها، أو قصور إطلاقها و عمومها عن الشمول.

و ما يتوهّم كونه رادعاً مضافاً إلى الإجماعات المحصّلة، و الشهرات المحقّقة قديماً و حديثاً، بل إرسالها من المسلّمات؛ لشهادة


1- جامع المقاصد 4: 58، مجمع الفائدة و البرهان 8: 139.

ص: 22

كلّ كتاب من كلّ مصنّف عليه، مع تكفّل جماعة لتأليف كتب في صيغ العقود بعض المآثير المذكورة في الكتب المفصّلة(1).

إلّا أنّها لا ترجع إلى محصّل، بل المقرّر في محلّه: أنّ الاغتراسات العرفيّة التي ذات العروق في القلوب و البواطن، غير قابلة للردع بروايات، فضلًا عن الرواية المهجورة، أو الإطلاق و العموم في الكلام المحتمل فيه الوجوه، و الإجماع في المسألة غير كاشف، و اشتهار المسألة عند القدماء غير ثابت.

مع أنّه لو فرضنا جميع هذه المبادئ، فاستكشاف الرواية الصريحة أو الرأي الحجّة في هذا الموقف الذي لا وجه لخفائه بعد شدّة الابتلاء مشكل.

فتحصّل: أنّ المعاطاة ليست مردوعة، و المعاملات العقديّة أحوج إلى الدليل، و قد تحرّر منا في كتاب الإجارة(2) عدم وجود الدليل على إمضاء الإجارة القوليّة؛ و إن أمكن إثبات نفوذها من بعض الطرق الخفيّة.


1- الكافي 5: 201/ 6، وسائل الشيعة 18: 50، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، الباب 8، الحديث 4.
2- كتاب الإجارة للمؤلّف( قدّس سرّه)) مفقود).

ص: 23

و الظاهر تحقّقها بمجرّد تسليم المبيع بقصد التمليك بالعوض، مع قصد المشتري في أخذه التملّك بالعوض، فيجوز (1) جعل الثمن كلّياً في ذمّة المشتري. و في تحقّقها بتسلّم العوض فقط من المشتري بقصد المعاوضة إشكال، (2) قوله دام ظلّه: «فيجوز».

لما مرّ، و لعدم ثبوت الدليل على التعاطي من الطرفين، بل السيرة الناهضة عليه، أقوى من القائمة على التبادل من الجانبين.

قوله: «إشكال».

منشأُه قصور السيرة، و عدم تحقّق عنوان «البيع» و «العقد» و «الشرط» و أمثالها بمثله، و لا أقلّ من الشكّ.

و قد يقال: إنّه إذا أمكن إنشاء التمليك بتسلّم العوض، و لا يكون البيع أكثر منه، فعدم كونه بيعاً عند العرف هو لا يضرّ؛ لعدم لزوم التبعيّة لهم في تشخيص المصاديق، بل المتّبع هي المفاهيم، كما مضى بعض البحث حوله في التعاليق السابقة(1).

و أنت خبير برجوع ذلك إلى الاختلاف في المفهوم أيضاً، كما لا يخفى.


1- تقدّم في الصفحة 18 19.

ص: 24

و إن كان التحقّق به لا يخلو من قوّة. (1) قوله مدّ ظلّه: «لا يخلو من قوّة».

وفاقاً لأكثر القائلين بصحّة المعاطاة، و خلافاً للفقيه الأصفهانيّ (قدّس سرّه)(1)، و حيث إنّ السيرة ناهضة على كفايته في حصول عنوان المعاملة، فالأقوى تحقّقها به، و ما ترى من المساهلات لا يرجع إلى قصور المعاطاة في إفادة الملكيّة، و إلّا يلزم الإشكال مطلقاً.

نعم، إذا كان المعوّض في هذه الصورة كلّياً، فكأنّ العرف لا يمتنع من بيع جميع ما عنده؛ و إن كان فيه ما باعه بنحو الكلّي، و ذلك لما لا يرى أنّ ذلك تصرّف في ملك الغير، فلاحظ و تدبّر.


1- وسيلة النجاة 2: 11، كتاب البيع، المسألة 6.

ص: 25

[مسألة 7: يعتبر في المعاطاة جميع ما يعتبر في البيع بالصيغة]

مسألة 7: يعتبر في المعاطاة جميع ما يعتبر (1) في البيع بالصيغة من الشروط الآتية قوله مدّ ظلّه: «جميع ما يعتبر».

لأنّها القدر المتيقّن من الأدلّة، و لو فرض إهمالها فالأولى الشكّ في اعتبار تلك الشروط في البيع بالصيغة.

نعم، قد يشكل بناءً على أنّ المعاطاة ليست بعقد، فحينئذٍ لو كان في الأدلّة المتكفّلة لبيان الشروط عنوان «العقد» فإنّه حينئذٍ ينحصر بالصيغة، و لا يشمل المعاطاة.

هذا، و لكنّه مضافاً إلى فساد المبنى لا أثر من البناء في المآثير و الأخبار. و ما قد يتوهم: من أنّ أدلّة الشروط قاصرة عن شمول المعاطاة؛ لأنّها مختصّة بما فيه الالتزام، و المعاطاة خالية منه(1)، في غير موضعه؛ و ذلك لفساد المبنى أيضاً، و هو خلوّها منه، و عدم الحاجة إليه في شمول تلك الأدلّة؛ فإنّ الشرط إمّا بماهيّته يشمل جميع المعاهدات بدويّة كانت أو ضمنيّة، أو تكون الماهيّة قاصرة عنه، و تختصّ بالتعاليق الضمنيّة، و لا يوجد في كلام الأصحاب ما يورث كونه مختصّاً بما في ضمن الأمر الالتزاميّ؛ و الذي يصدق عليه «العقد» فافهم و تأمّل.


1- انظر البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 1: 92 و 143.

ص: 26

ما عدا اللّفظ (1)، فلا تصحّ مع فقد واحد منها؛ سواء كان ممّا اعتبر في المتبايعين، أو في العوضين.

قوله: «ما عدا اللّفظ».

فيه احتمالان:

أحدهما: أن يكون من الاستثناء المنقطع، فتأتي الشروط المربوطة بالصيغة في المعاطاة، كالموالاة، و التنجيز، و التطابق، و غيرها.

ثانيهما: أن يكون متّصلًا، فلا تأتي تلك الشرائط فيها.

و بالجملة: في المسألة تفصيل؛ فما كان من قبيل شرطيّة التنجيز، و قلنا: بأنّ دليله الإجماع، فالقدر المتيقّن منه عندهم هي الصيغة، دون الفعل.

و إن قلنا بإلغاء الخصوصيّة عرفاً، أو إنّ دليله العقل، فهي مشتركة معها في ذلك.

و أمّا توهّم عدم تصوير هذه الشروط في الفعل، فهو غير قابل للتصديق، مثلًا إذا اعتبر التعاطي من الطرفين، يأتي البحث عن مسألة اعتبار الموالاة.

و إذا سلّم البائع المبيع إلى المشتري بعنوان البيع معلّقاً على مجي ء زيد مثلًا، و قبله عليه، فإنّه عنده أمانة إلى حال المجي ء، و يصير بعده ملكه، و إلّا فعليه ردّه إليه، كما إذا باعه بالصيغة، و سلم المبيع قبل حصول المعلّق عليه، فما يظهر منهم من قصور الفعل عن تأتّي هذه الشروط فيه غير تامّ.

ص: 27

كما أنّ الأقوى (1) ثبوت الخيارات الآتية فيها.

و إذا سلّم البائع بعنوان البيع، و قبله المشتري بعنوان الهبة، فلا يحصل التطابق المعتبر.

فعلى هذا، يشترط في المعاطاة جميع الشرائط.

نعم، بناءً على ما هو التحقيق من تحقّقها بفعل الطرف الواحد، لا معنى لشرطيّة الموالاة، اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّه تتصوّر الموالاة هنا بين بسط يد المالك لبيع ماله، و تأخير المشتري في قبضه، الذي هو بمنزلة القبول في ماهيّته.

قوله دام ظلّه: «الأقوى».

لإطلاق أدلّتها، و قد يمكن دعوى إمكان جريانها فيها و لو قلنا: بأنّها جائزة؛ لأنّه من قبيل جريان خيار المجلس في الحيوان و بالعكس، و لا يمكن إنكاره هناك.

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ العرف يأبى عن ذلك إلّا بالدليل، و هو ناهض هناك، دون ما نحن فيه، فتدبّر.

كما يمكن دعوى عدم جريان الخيارات و لو قلنا: بأنّها لازمة بالذّات أو بإحدى الملزمات؛ و ذلك لأنّ الخيار هو حلّ العقد، و العقد لا يحصل إلّا باللّفظ.

و أنت خبير: بأنّ القائل بعدم كونها عقداً، لا بدّ و أن يلتزم إمّا بأنّ الخيار

ص: 28

معناه أعمّ، أو باختصاصه بالصيغة.

و على كلّ تقدير: ما هو الحقّ أنّ المعاطاة عقد، و عقديّة الصيغة في الرتبة المتأخرة كما عرفت(1)، و عرفت أنّ من البديهيّ بطلانه، عدمَ الحاجة في المعاملات إلى إثبات عقديّتها مطلقاً، و معنى الخيار ليس إلّا الإقالة الإيقاعيّة، و لا شبهة في جريان الإقالة في المعاطاة بعد لزومها. و يشهد له أنّ موضوع أدلّتها البيع، لا العقد.


1- تقدّم في الصفحة 20 22.

ص: 29

[مسألة 8: البيع بالصيغة لازم من الطرفين]

مسألة 8: البيع بالصيغة لازم (1) من الطرفين قوله دام ظلّه: «لازم».

للأدلّة الخاصّة(1)، و لبناء العقلاء، و أمّا التمسّك(2) بآية وجوب الوفاء(3)، فهو غير تام عندنا؛ لأجنبيّتها عن الموقف، أو لإجمالها.

و ربّما يشكل التمسّك ببناء العرف؛ لأنّه غير ثابت قبل الإسلام على البيع العقدي، و البناء بعده غير كافٍ، خصوصاً إذا كان مستنداً إلى الإسلام، فالدليل الوحيد هو النصّ الخاصّ في البيع، و بعض العمومات الأُخر المذكورة في المفصّلات(4).

و لو فرضنا قصورها، و إجمالَ النصّ الوارد في خيار المجلس عن البيع اللفظيّ؛ لأنّ موضوعه ليس مطلق البيع، بل هو البيع اللازم؛ و هو المعاطاة عند العرف قطعاً، فلا يدلّ على لزوم العقد بالصيغة، فيكفينا الاتفاق، فتأمّل.


1- وسائل الشيعة 18: 8، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 2.
2- انظر المكاسب، الشيخ الأنصاري: 215/ السطر 12.
3- المائدة( 5): 1.
4- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 215 216.

ص: 30

إلّا مع وجود (1) الخيار. نعم يجوز الإقالة؛ و هي الفسخ من الطرفين. و الأقوى أنّ المعاطاة أيضاً لازمة من الطرفين إلّا مع الخيار، و تجري فيها (2) الإقالة.

قوله مدّ ظلّه: «إلّا مع وجود».

لا تخلو العبارة من المسامحة؛ لأنّ الخيار لا ينافي لزومه الذاتيّ، و لذلك لا يجوز حلّه و فسخه بطريق آخر غير الحقّ الثابت له، فلو أراد مع وجود خيار المجلس الإقالة، فهي لا يمكن إلّا برضا الآخر و هكذا، فليتدبّر.

فعليه البيع ذو الخيار لازم بذاته، و جائز حيثيّ؛ أي فيه طريق معيّن لحلّه و فسخه.

قوله مدّ ظلّه: «و تجري فيها».

لإطلاق أدلّتها(1)، بل هي أي المعاطاة القدر المتيقّن. نعم إذا قلنا بجوازها، فإجراء الإقالة أيضاً موافق للاحتياط.

و في كونها الإقالة الشرعيّة التي وردت بها النصوص(2)، إشكال بل منع؛ لأنّ ظاهرها في مورد لزوم ما يستقال، كما لا يخفى.


1- وسائل الشيعة 17: 385، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 3.
2- نفس المصدر.

ص: 31

[مسألة 9: البيع المعاطاتيّ ليس قابلًا للشرط على الأحوط]

مسألة 9: البيع المعاطاتيّ ليس قابلًا للشرط على الأحوط، فلو أُريد ثبوت خيار بالشرط، أو سقوطه به، أو شرط آخر حتّى جعل مدّة و أجل لأحد العوضين يتوسّل بإجراء البيع بالصيغة، و إدراجه فيه. و إن كان قبوله لذلك بالمقاولة قُبيله، و التعاطي مبنيّاً عليها، لا يخلو من وجه و قوّة. (1) قوله مدّ ظلّه: «لا يخلو من وجه و قوّة».

لأنّ غاية ما يمكن أن يكون وجهاً للمنع أُمور:

و هو أنّ الأفعال تأبى عن قبوله؛ لأنّها ليست إلّا مورثة للنقل و الانتقال.

و لأنّ معنى «الشرط» هو الأمر الحاصل في ضمن العقد، و المعاطاة ليست عقداً.

و لأنّ حال ذكر الشرط لم يتحقّق البيع، و بعد تحقّق البيع لا يذكر الشرط.

و لدعوى الإجماعات في كلمات الشيخ(1) و غيره(2)، و عليه الشهرة في باب ذكر الشرط قبل العقد، و إيقاع العقد مبنيّاً عليه، فإنّهم منعوا من نفوذ مثله.


1- المبسوط 3: 299/ السطر 16، كتاب الوقوف و الصدقات، و أُنظر الخلاف 3: 354، المسألة 23.
2- انظر تذكرة الفقهاء 2: 114/ السطر 25، مسالك الأفهام 5: 239، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 99/ السطر 15. و نقل الشيخ الأنصاري القولَ بالإجماع عن عدّةٍ من الفحول، انظر المكاسب: 99.

ص: 32

و أنت خبير: بأنّ هذه الوجوه قاصرة عن منع ذلك، بل لو سلّمنا عدم تعلّق الشرط بالمعاملة إذا ذكر قبلها، فالذي هو الخارج عن عموم أدلّة الشروط؛ هي الشروط البدويّة، لا التي تذكر على العقد و المعاوضة، و لذلك أفتى الأصحاب بلزوم المهر المذكور بعد عقد النكاح بالتراضي، و لا يجوز لأحدهما التخلّف(1)، و هذا ليس أمراً تعبّدياً صِرفاً.

و لو سلمنا ذلك، فإيقاع المعاطاة مبنيّة على القيود و الشروط، كإيقاع العقود بالصيغة كذلك، و لا يكاد يمنع عنه، و قد صرّحوا في مواضع كثيرة بصحّة ما وقع العقد مبنيّاً عليه، و لا خصوصيّة للشرط(2).

و الإجماع المدّعى بعد قصوره عن كشف رأي المعصوم (عليه السّلام) منقوض بمخالفة «الخلاف»(3) و «المختلف»(4) فتدبّر. مع أنّ ظاهرهم منع نفوذ الشرط المذكور في العقد بالصيغة، و لو كان ذلك من التعبّد فلنا دعوى عدم جريانه في المعاطاة.


1- الخلاف 4: 376، المسألة 17.
2- الخلاف 3: 160، المسألة 254 و 257.
3- الخلاف 3: 21، المسألة 28.
4- مختلف الشيعة: 350/ السطر 17.

ص: 33

[مسألة 10: هل تجري المعاطاة في سائر المعاملات مطلقاً]

مسألة 10: هل تجري المعاطاة في سائر المعاملات مطلقاً، أو لا كذلك، أو في بعضها دون بعض؟ سيظهر (1) الأمر في الأبواب الآتية إن شاء اللَّه تعالى.

قوله دام ظلّه: «سيظهر».

و الذي لا بدّ من التنبيه عليه هنا: هو أنّ كثيراً ما يشكل جريان المعاطاة صغرويّاً: بأن لا يقبل العوضان النقل و الانتقال، كالأراضي، فتحويل الأرض اليابسة لا يمكن إلّا بالمقاولة و اللّفظ، أو يكون كلّ من العوضين عند المتعاوضين قبل العقد. و مجرّد الإمكان لا يكفي لخروجه من المتعارف، كما لا يخفى.

ص: 34

[مسألة 11: كما يقع البيع و الشراء بمباشرة المالك، يقع بالتوكيل أو الولاية]

مسألة 11: كما يقع البيع و الشراء بمباشرة المالك، يقع بالتوكيل أو الولاية من طرف واحد، أو الطرفين. و يجوز (1) لشخص واحد تولّي طرفي العقد أصالة من طرف و وكالةً، أو ولايةً من آخر، أو وكالةً من الطرفين، أو ولايةً منهما، أو وكالةً من طرف، و ولايةً من آخر.

قوله دام ظلّه: «و يجوز».

لعدم الدليل على المنع، و تحقّق عناوين المعاملات بما يصنعه قطعاً، مع دعوى الإجماع بقسميه عليه في «الجواهر»(1) و هو مقتضى النصوص الواردة في تقويم الجارية على نفسه(2)، و الاقتراض من مال المولّى عليه(3)، كما عن فعل السجّاد (عليه السّلام)(4).

و توهّم الفرق بين الوكيل و الوصيّ كما عن بعض(5)؛ ظنّاً أنّ النصّ وارد في الثاني دون الأوّل، غير مرضيّ.

و من القوي أنّ الجهة المبحوث عنها في مسألة تولّي طرفي العقد،


1- جواهر الكلام 22: 324.
2- وسائل الشيعة 17: 267، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 79، الحديث 1 2.
3- قرب الإسناد: 119، وسائل الشيعة 17: 264، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 78، الحديث 6.
4- الكافي 5: 131/ 5، وسائل الشيعة 17: 258، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 76، الحديث 1.
5- لاحظ جواهر الكلام 22: 331.

ص: 35

مورد الاتفاق، و الذي مورد الإشكال هو ما إذا أمر آمر بالبيع و الشراء و غيرهما، و المأمور باعه من نفسه، أو اشترى له من ماله، فإنّه هنا مشكل لأمر آخر، فلا ينبغي الخلط، فهذه المسألة اتّفاقيّة، و تلك المسألة أيضاً تامّة، إلّا إذا كان في البين موجب الانصراف.

و توهّم استفادة المنع(1) من معتبرة عمّار الساباطيّ في كتاب النكاح(2)، فاسد؛ لاحتمال الخصوصيّة جدّاً في موردها.


1- انظر جواهر الكلام 22: 330.
2- تهذيب الأحكام 7: 378/ 1529، وسائل الشيعة 20: 288، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح و أولياء العقد، الباب 10، الحديث 4.

ص: 36

[مسألة 12: لا يجوز على الأحوط تعليق البيع على شي ء غير حاصل حين العقد]

مسألة 12: لا يجوز على الأحوط (1) تعليق البيع على شي ء غير حاصل حين العقد؛ سواء علم حصوله فيما بعد، أم لا، و لا على شي ء مجهول الحصول حينه. و أمّا تعليقه على معلوم الحصول حينه؛ كأن يقول: «بعتك إن كان اليوم يوم السبت» مع العلم به، فالأقوى جوازه.

قوله دام ظلّه: «على الأحوط».

خلافاً للإجماعات المحكيّة على بطلانه جزماً عن الفخر(1)، و الشهيد الثاني(2)، و الشيخ(3)، و المسألة معروفة بين المتأخّرين(4) و إن قيل: «هو متسالم عليه عند الكلّ» و لكنّه غير معلوم، خصوصاً بعد تعليلهم بعلل؛ فإنّه يعلم منهم عدم ثبوت الإجماع التعبّدي في المقام.

و إجمال البحث: أنّ القيد المذكور إمّا راجع إلى الإنشاء، أو المنشأ، أو المتعلّق، أو الموضوع، كقوله: «بعتك هذا إن كنت عالماً» فإنّه يرجع إلى أنّه باعه للعالم جزماً، فهو إن كان عالماً فقبله صحّ البيع، و هذا في الحقيقة راجع إلى كون المشتري كلّياً، و قد فرغنا سابقاً عن صحّة مثله(5).


1- لاحظ المكاسب، الشيخ الأنصاري: 99/ السطر 9.
2- مسالك الأفهام 5: 357.
3- المبسوط 3: 299/ السطر 16، كتاب الوقوف و الصدقات.
4- لاحظ المكاسب، الشيخ الأنصاري: 99/ السطر 7.
5- تقدّم في الصفحة 13.

ص: 37

و رجوع القيد إلى الإنشاء دون المنشأ، هو الذي اختار المتأخّرون امتناعه(1)؛ لأنّه من التعليق في الإيجاد، و اضطراب كلماتهم لعدم نيلهم ما هو مقصودهم، فلو قال: «بعت إن كان كذا» فالعنوان المعلّق حاصل، و لا يعقل تعلّق هذا المعلّق بقيد، و هذا هو الضروري عند من يتصوّر أطراف المسألة.

و لذلك قلنا بجواز التعليق في التكوينيّات؛ قضاءً لحقّ البراهين القطعيّة في مسألة ارتباط الحوادث فيما لا يزال بالموجود الأزليّ.

فما هو الممنوع عقلًا في المقامين: التكوين، و التشريع، هو التعليق في الإنشاء؛ بمعنى أن لا يحصل المعنى المعلّق، لا الأمر الآخر الآتي ذكره.

ثمّ رجوع القيد إلى المنشإ أو الإنشاء؛ بمعنى منعه عن تأثيره، و توقّفه في إفادة الأثر على أمر آخر؛ إذا حصل تحصل العلّة التامّة، هو من الواضح إمكانه و وقوعه، و لا فرق بين المنشأ و الإنشاء إلّا في اللحاظ، فما هو المعلّق هو البيع السببيّ المدلول عليه بالهيئة الموضوعة للإنشاء و الإيجاد الاعتباري.

و إن شئت قلت: إنّما الأُمور ثلاثة:

أحدها: إيجاد السبب التامّ من غير قيد في الكلام، و هو المتعارف في المقام.


1- كفاية الأُصول: 122 و مابعدها، فوائد الأُصول 1: 175 176.

ص: 38

ثانيها: إيجاد السبب الناقص المتوقّف تأثيره على الجزء الآخر الذي أخذه البائع قيداً و جزءاً، فإنّه عند ما حصل يترتّب الأثر، و لا شبهة عندنا في ذلك.

و ما قيل في منع تقييد المعاني الحرفيّة، تامّ(1)، إلّا أنّه لا يفيد ذلك؛ لأنّ التوصيف غير التقييد في اصطلاحنا، كما في الأعلام الشخصيّة، و التفصيل في محلّه.

نعم، يمكن دعوى عدم نفوذ دخالة المالكين في الأسباب العرفيّة و الشرعيّة، و لعلّ المانعين يمنعون لأجله، بل هو صريح كلام جماعة، حيث حكي عنهم: «أنّ العقود أُنيطت بضوابط متلقّاة من الشرع، و تبطل فيما خرج عنها و إن أفاد فائدتها»(2).

و لكنّها غير مسموعة؛ لعرفيّة ذلك، و عدم المنع اللّفظيّ، و يكشف الإمضاء من طرق ذكرناها في محلّها.

ثالثها: إيجاد السبب التامّ على المسبّب المتأخّر وجوده؛ بمعنى أنّ الإرادة تعلّقت بالمتأخّر، و هذا في التكوين له بساط آخر لا يليق بالجاهل الورود فيه، و أمّا هو في التشريع فمع كون السبب تامّاً يتحقّق المسبّب،


1- فوائد الأُصول 1: 180 183، نهاية الأُصول: 170.
2- مسالك الأفهام 5: 241/ السطر 2، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 99/ السطر 14.

ص: 39

و هو خلف، و إذا كان السبب بمعنى الزمان المتوسّط مسبّباً، فهو خلف أيضاً.

فعليه إمّا يقال: بأنّ المسبّب يحصل بعد السبب، فيكون المستأجر للسنة الآتية مالكاً لمنفعة الدار فعلًا، و يجوز له إيجارها قبل مجي ء السنة، إلّا أنّ ظرف مملوكه متأخّر، كالتأخّر المكانيّ، و هذا هو المتراءى منهم في كتاب الإجارة(1)، فلا تعليق أصلًا، و إنّما التأخّر لأمر آخر.

أو يقال: بأنّ خلط الأسباب التكوينيّة بالاعتباريّة، أورث ذلك، فهو أيضاً يستلزم الخلف، كما لا يخفى.

فرجوع القيد إلى المتعلّق و المادّة ممتنع؛ بأن يكون السبب التامّ موجوداً، و المسبّب متعلّقاً على أمر غير حاصل، فإنّه تفكيك بين العلّة و المعلول على الفرض، و بين الموضوع و الحكم على الاعتبار الآخر المذكور تفصيله في مقامه.

فتحصّل: أنّ التصرّف في السبب أمر واضح إمكانه، و أمّا بعد تماميّة السبب فلا يعقل التصرّف في المسبّب، فإنّه خارج عن مصبّ الاختيار و القدرة. و توهّم وقوع ذلك في الوصيّة و التدبير، فاسد؛ ضرورة أنّ


1- مسالك الأفهام 5: 193، جواهر الكلام 37: 273، العروة الوثقى 2: 421، أحكام الإجارة، المسألة 19.

ص: 40

المستحيل لا يمكن بالدليل.

ففي كلّ موقف كذائيّ، يعلم إمّا بقصور السبب، و لا يكون مضيّ الزمان دخيلًا في تأثيره، و لا يعقل اعتبار السبب التامّ مع عدم المسبّب؛ لأنّه متقوّم بالغرض، و لا معنى لتماميّة السّبب إلّا حصول المسبّب خلفه بلا وسط.

أو يكون المسبّب حاصلًا بلا فصل فهو حرّ فعلًا دبر حياته، و لكنّه ما دام لم يمت لم يتحقّق الموضوع، كما في الإجارة.

و من هنا يعلم: أنّ الواجب المعلّق أمر واقعيّ بهذا المعنى؛ لأنّ الواجب متحقّق بعد الإنشاء، و متأخّر لتأخّر ما هو الخارج عن حدود الإنشاء، لا بمعنى حصول الأمر و الإنشاء، و عدم حصول الواجب إلّا بعد دخول الوقت فتدبّر، فكما أنّ الانتقال حاصل بعد حصول سببه، و لكنّ الاستيفاء من المنتقل إليه لا يمكن إلّا بعد برهة من الزمان، كذلك الواجب حاصل بعد الإيجاب، و لكنّ الانبعاث نحوه و انقداح إرادة العبد، لا يعقل إلّا في ظرفه.

فعلى ما أسمعناك، يظهر جواز التعليق في الإنشاء؛ أي مفاد الهيئة، و في المنشإ؛ أي مفادها الانتزاعيّ، و الحاصل المصدري، و جواز التعليق في المادّة و المتعلّق و المنشأ؛ بمعناه الآخر بالوجه الذي عرفت. هذا حسب القواعد الكليّة.

و أمّا قضيّة الإجماع فممنوعيّة التعليق؛ بمعنى اشتراط الجزم، و مصبّه أعمّ، و لكن تماميّة هذا الإجماع ممنوعة.

ص: 41

و قد يشكل جوازه في المتعلّق فقط، دون الهيئة، و هو مختار الوالد المحقّق- مدّ ظلّه(1): بأنّ ما يدلّ على ممنوعيّة رجوع القيد إلى الإنشاء، غير كافٍ، و لكن نقل ملكيّة العين يوم الجمعة، أو ملكيّة العين المقيّدة بمجي ء زيد، غير صحيح؛ لعدم مالكيّة الإنسان للأملاك المتعدّدة إذا كان مالكاً لعين واحدة، فالتحصيص بالحصص في الإجارة لا يستلزم، صحّته في البيع؛ لأنّها متقوّمة بالزمان، فبحسبه يصحّ التحصيص، و لكنّه مغفول فيه الزمان و العصر، فلا يكون زيد مالكاً للعين المقيّدة هكذا و كذا؛ حتّى ينقله إلى غيره.

و هذا بحسب نظر العرف بدواً تامّ، و لكنّه فرق بين ما إذا أُريد نقل ملكيّة العين يوم الجمعة على أن يكون قيد الملكيّة، و تكون العين منتقلة إليه في يوم الجمعة، و بين ما كان المقصود انتقال ملكيّة العين يوم الجمعة من يوم الجمعة، فإنّ الأوّل باطل، و لا أظنّ أنّه المراد هنا، و الثاني صحيح، و هو مقصود القائلين بصحّة التعليق، فافهم و تدبّر جدّاً.

ثمّ إنّ تكثير الصور، فيه النتيجة لو كان المستند الإجماع المحكيّ في كلام جمع كما تقدّم(2)، و إلّا فعلى القواعد لا فرق. إلّا أن يقال بشرطيّة الجزم، فيكون التعليق على الحاصل غير منافٍ للجزم، فافهم.


1- البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 1: 234.
2- تقدّم في الصفحة 36.

ص: 42

[مسألة 13: لو قبض المشتري ما ابتاعه بالعقد الفاسد لم يملكه]

مسألة 13: لو قبض المشتري ما ابتاعه بالعقد الفاسد لم يملكه، (1) قوله مدّ ظلّه: «لم يملكه».

بالعقد بالضرورة؛ للزوم الخلف، فإنّ السبب المملِّك هو العقد، و إذا كان فاسداً فهو كأن لم يكن شيئاً مذكوراً. و أمّا تملّكه بسبب آخر مثل القبض، أو يقال بكفاية الألفاظ المذكورة في النقل و إن لم يكن بيعاً؛ حتّى يجري فيه أحكامه، و به يجاب عن من يتوهّم أنّ سببيّة الفعل و القول المذكورين، تنافي اعتبار العقد و اعتبار القيود فيه، فهو غير معلوم.

اللهمّ إلّا أن يقال: ليس البيع إلّا التمليك بالعوض إنشاء؛ و المبادلة بين المالين في الإضافة من الملكيّة أو السلطنة، و هو حاصل بالسببين عرفاً، فيعلم أنّ العقد الفاسد و القبض المترتّب عليه، لا يورث النقل شرعاً.

نعم، العقد الفاسد عند الشرع سبب عند العرف، فيحصل النقل و الانتقال، إلّا أنّه غير ممضى؛ بمعنى أنّه لا يجوز لكلّ واحد منهما ترتيب آثار الملكيّة على المقبوض، و إذا ردّ إلى صاحبه يحصل لهما الملكيّة الجديدة عند العرف، و لكن لدى الشرع الأقدس يعاد مملوكه إليه، و في المسألة من هذه الجهة بحث يطلب من مقام آخر، فتدبّر.

إن قلت: ليس القبض هنا أسوأ حالًا من المعاطاة المورثة للملكيّة.

قلت: المدار في المعاملة على الإنشاء، و هو هنا غير حاصل، بخلافه هناك، فالإعطاء المقارن لإنشاء التمليك، غير الإعطاء المقارن للوفاء

ص: 43

و كان مضموناً عليه؛ (1) بالعقد، فإذا كان السبب فاسداً فلا معنى لكون المسبّب مفيداً لمعنى السبب بالضرورة، أو إذا كان المقتضي بلا أثر، فلا يعقل كون المقتضى بالفتح، و هو النقل و الانتقال الخارجيّ قائماً مقام المقتضي بالكسر.

قوله مدّ ظلّه: «مضموناً عليه».

شهرة كادت تكون إجماعاً، و في «المسالك»(1) و «الكفاية»(2) دعوى الاتفاق و القطع به في كلام الأصحاب (رحمهم اللَّه (بل في «التذكرة» تأكيد دعوى إجماعه بكلمة «أجمع»(3).

و لكن ظاهر الشيخ في «الخلاف» لعدم تمسّكه بالإجماع أنّ المسألة ليست إجماعيّة، قال: «إذا اشترى جارية شراء فاسداً، ثمّ قبضها فأعتقها، لم يملك بالقبض، و لم ينفذ عتقها، و لا يصحّ شي ء من تصرّفه فيها، مثل البيع، و الهبة، و الوقف، و غير ذلك، و يجب عليه ردّها على البائع بجميع نمائها المنفصل منها، و به قال الشافعيّ.

و قال أبو حنيفة: يملك بالقبض، و يصحّ تصرّفه فيها، و يجب على كلّ واحد منهما فسخ الملك و ردّ المبيع على صاحبه.


1- مسالك الأفهام 2: 207/ السطر 26.
2- كفاية الأحكام: 256/ السطر 28.
3- تذكرة الفقهاء 1: 495/ السطر 22.

ص: 44

دليلنا على ذلك: أنّه إذا كان ..» إلى آخره(1) من الوجه العرفيّ، و عدم الدليل على صحّته، فلاحظ.

و لا يخفى: أنّ أكثر عبارات القوم حول عدم سببيّة الفاسد، و عدمِ جواز التصرّف فيما قبضه، و عدمِ نفوذ تصرّفاته فيه، و لكنّ الضمان مسكوت عنه إلّا فيما نسب إلى رهن الشيخ(2)، و في موضع من البيع(3)، و حكي عن «شرح القواعد» أيضاً «أنّ تلفه عليه بالإجماع»(4) و هذا هو الظاهر من «السرائر» لدعواه «أنّ البيع الفاسد يجري مجرى الغصب عند المحصّلين في الضمان»(5).

و منه يعلم: أنّ دعوى غصبيّة المقبوض موضوعاً فاسدة، و يكذّبها شهادة العرف بخلافه، مع ظهور قولهم: «إنّ الغصب هو الاستيلاء عدواناً»(6) في كونه عالماً بأنّه مال الغير على نعت جزء الموضوع، فإثبات الضمان


1- الخلاف 3: 158، المسألة 250.
2- المبسوط 2: 204/ السطر 15.
3- الخلاف 3: 158، المسألة 251.
4- جامع المقاصد 4: 61، لاحظ المكاسب، الشيخ الأنصاري: 101/ السطر 24.
5- السرائر 2: 285.
6- الروضة البهيّة 2: 222/ السطر 8، رياض المسائل 2: 300/ السطر 30.

ص: 45

بأدلّة مخصوصة بالغصب(1)، غير مرضيّ جدّاً.

نعم، بناء العقلاء على الضمان حسب ما قرّرناه في قاعدة الإقدام(2): من أنّ الإقدام على تسليم المال إلى الغير على نحوين: مجّاني، و غير مجّاني، فلو كان التسليط مجّانياً سواء كان على العين كالهبة، أو المنفعة كالعارية فإنّه لا يورث الضمان عندهم، إلّا في صورة الإتلاف في الفرض الثاني بل لا يبعد حكمهم به في صورة التلف أيضاً.

و إذا كان غير مجّاني، بل يحاذيه شي ء مفروض أو مجهول، فإنّه مضمون عندهم قطعاً، و القابض يقبضه على هذا الوجه.

و هذا عندهم بلا فرق بين الصورتين: قبل القبض، و بعده؛ لحصول الملكيّة عندهم بالفاسد الشرعيّ، و لكنّه لدى الشرع الأقدس قبل القبض فيما كان صحيحاً في البيع، أو فاسداً فيه، و في غيره ليس على الطرف، و لا يكون تلفه عليه، و أمّا بعده فقضيّة البناء العرفيّ و السيرة المستمرّة، ضمان المقبوض بالفاسد.

ثمّ إنّه قد يتوجّه إلى قصور هذه القاعدة بعض إشكالات لا أساس


1- وسائل الشيعة 25: 390، كتاب الغصب، الباب 7.
2- تحريرات في الفقه، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الجهة الثالثة، المسألة الرابعة، الفرع السابع، الأمر الثالث.

ص: 46

لها، مع أنّها ليس كافلة للضمان إلّا مع لحاظ شرائطها، و عدم المخصّص الشرعيّ في مورد من مواردها، فلا ينبغي الخلط كما وقع من الأعلام(1)، و ما تمسّكوا به من أدلّة الضمان في المقام(2)، غير تامّ، و التفصيل يطلب من كتابنا الكبير(3).

هذا، و قد يشكل قاعدة الإقدام؛ لأجل أنّ إسقاط الشرع اعتبار العوضيّة، و إيجابَه عدم ترتيب آثار الملك على كلّ من العوض و المعوّض، لا يستلزم كون المقبوض بلا عوض عرفاً، و لا يورث في معتبر العقلاء أن يصير مالًا يقصد به المجّانية مجّاناً؛ حتّى يجب عوضه الواقعيّ، أو المماثل مع المسمّى في الماليّة.

بل غاية ما يظهر؛ سقوط المعاملة عن التأثير في محيط الشرع، أو عدم جواز ترتيب الآثار، و هذا غير ذاك قطعاً، فعليه يكون المقبوض ذا عوض، فلو قبضا ما ابتاعا فتلفا، فلا شي ء عند العقلاء عليهما بعد ذلك، كما


1- انظر المكاسب، الشيخ الأنصاري: 102/ السطر 32 و ما بعده، حاشية المكاسب، السيّد اليزدي: 92/ السطر 10.
2- لاحظ المكاسب، الشيخ الأنصاري: 102، البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 1: 247 و مابعدها.
3- تحريرات في الفقه، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الجهة الثالثة، المسألة الرابعة، الفرع السابع.

ص: 47

لو لم يتلف العوض الشخصيّ مثلًا، فإنّه و إن لا يجب حسب الشرع ردّه؛ لعدم كونه ملك الغير، و لكنّه حسب حكم العقلاء يجب؛ حتّى يسقط ضمانه بالنسبة إلى المعوّض التالف في يده.

فقاعدة الإقدام أيضاً قاصرة عن إثبات عموم المدّعى؛ و هو ضمان المقبوض على الإطلاق، كالمغصوب، فما اشتهر من الحكم بالضمان في المسألة، محلّ إشكال.

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ معنى فساد العقد عدم الانتقال شرعاً، و معنى ذلك أنّ المقبوض ملك الطرف، و معناه أنّه لا يجوز التصرّف فيه إلّا بإذنه و طيبة منه، و معنى ذلك أنّه لو أخبره و أعلنه بعدم رضاه بعد الاطّلاع مع قيامه بردّ ما عنده من القابض، كما هو المفروض في الجهة المبحوث عنها أنّه يكون غاصباً، فيكون ضامناً، و لكنّه لا يفي للضمان قبل الإعلام، و فيما كان غافلًا عن فساد العقد.

أقول: حال كلّ واحد من المتعاقدين بالنسبة إلى المقبوضين، لا تخلو من صور:

إمّا يكون كلّ واحد راضياً فعلًا بما عند الآخر، كما هو المتعارف في العقود؛ لأنّ مقصود الناس في العقود هو الوصول إلى مقاصدهم و أغراضهم، فلو علم كلّ واحد: بأنّ طيب الآخر لا يحصل إلّا بطيبة، فإنّه يتحقّق منه ذلك الطيب بالتصرّف؛ لقيام غرضه بذلك، فعندئذٍ لا معنى

ص: 48

للضمان، كما أفاده في المتن.

و إمّا يكون كلّ واحد راضياً تقديراً، فهي مثل السابقة في الكفاية عرفاً؛ و إن كان ظاهر المستثنى في الروايتين الواصلتين عن أوّل المعصومين و آخرهم صلوات اللَّه عليهم و هو قوله (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم): «إلّا بطيبة نفسٍ منه»(1) و قوله عجّل اللَّه تعالى فرجه: «بغير إذنه»(2) هو الرضا الفعليّ، و لكنّ العرف يتجاوز منه إلى الأعمّ، فتدبّر جيّداً.

فلو تلف أحدهما قبل الإعلام و في حال الغفلة، و كان الأمر قبل التلف على ذلك، فلا ضمان أيضاً قطعاً.

أو يكون التلف بعد الإعلام بعدم رضاه، فهو من الغصب موضوعاً بالضرورة.

أو يكون التلف في حال الغفلة، أو قبل الإعلام، و كان في نفسه عدم رضاه بذلك؛ لندامته على أصل المعاملة، فإنّ الحكم حسب البناء العرفيّ عدم الضمان و عدم الاعتناء به، و لا يرون استحقاقه إلّا للمسمّى، و ليس لصاحب العوض منعه عنه؛ بدعوى أنّه ليس عوضه الشرعيّ،


1- الفقيه 4: 66/ 195، وسائل الشيعة 5: 120، كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلّي، الباب 3، الحديث 1، مع تفاوت.
2- إكمال الدين: 520/ 49، وسائل الشيعة 9: 540، كتاب الخمس، أبواب الأنفال، الباب 3، الحديث 7.

ص: 49

بمعنى أنّه يجب عليه أن يردّه (1) إلى مالكه، و لا ضمان بالنسبة إلى المعوّض؛ لأنّه خلاف قاعدة الإقدام التي قدر متيقّنها هذه الصورة، كما أُشير إليه.

و أمّا حسب القواعد الشرعيّة، فالحقّ قصورها عن إثباته، و مقتضى البراءات الشرعيّة و العقلائيّة و العقليّة، عدم الضمان.

قوله مدّ ظلّه: «يجب عليه أن يردّه».

عقلًا و شرعاً إن كان المقصود من «الردّ» أعمّ من التخلية بينه و بين صاحبه و مالكه.

و أمّا وجوب الردّ بالمعنى الأخصّ و هو الإيصال إلى صاحبه فهو غير معلوم حتّى إذا صارت يده غاصبة؛ لأنّه ليس من الغصب الحدوثيّ.

و توهّم: أنّه يحرم الإمساك، فيجب الردّ عقلًا أو شرعاً(1)، فاسد لأنّه أوّل البحث، و الذي يحرم هو التصرّف بدون الإذن، و ليس الإمساك منه عرفاً، كما في العين المستأجرة بعد انقضاء مدّة الإجارة، فلا تغفل.

و دعوى دلالة صحيحة زيد الشحّام المشتملة على قوله (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم): «أ لا من كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها؛ فإنّه لا يحلّ دم امرئ


1- لاحظ المكاسب، الشيخ الأنصاري: 104/ السطر 12 13.

ص: 50

و لو تلف و لو بآفة سماويّة يجب عليه ردّ عوضه (1) من المثل أو القيمة. (2) مسلم و لا ماله إلّا بطيبة نفسه»(1) على وجوب الردّ(2)؛ لأنّ ظاهرها الاستدلال على وجوب ردّ الأمانة بالجملة الأخيرة، غير تامّة؛ لأنّ الصحيحة ليست في هذا الموقف، لأنّ وجوب الأداء منوط بالطلب، فيعلم منه: أنّ المقصود المنع عن الخيانة في الأمانة.

و لو كان الأمر كما توهّم، فالتأدية ليست بالردّ حتّى يستلزم وقوع المؤتمن في المشقّة بلا وجه، بل هي بالتخلية كما هو المفتى به في الأمانة بالمعنى الأخصّ، مع ظهور الصحيحة فيها، و عدم شمولها لمطلق الأمانة الشرعيّة و المالكيّة، فلا تخلط.

قوله مدّ ظلّه: «يجب عليه ردّ عوضه».

المقصود ضمانه في المثليّات بالمثل، و في القيميّات بالقيمة، و لا يجب الردّ على الإطلاق و لو لم يطلب، بل و لو طلب لا يجب إلّا التخلية، و لعلّ المقصود منه ليس إلّا هي.

قوله دام ظلّه: «من المثل أو القيمة».

اختلفت آراء القوم في هذه المسألة على أنّ قضيّة العرف و الشرع،


1- الكافي 7: 273/ 12، وسائل الشيعة 29: 10، كتاب القصاص، أبواب القصاص في النفس، الباب 1، الحديث 3.
2- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 104/ السطر 13 14.

ص: 51

هل هي أصالة المثليّة؛ بمعنى وجوب المثل، أو لا، و إذا تعذّر تتعيّن القيمة؟ أو أصالة القيميّة؟

أو الأشياء مختلفة؛ فمنها المثليّات، و منها القيميّات؟

أو أصالة تخيير المالك، فإن عيّن المثل فهو، و إن عيّن القيمة فهي. أو أصالة تخيير الضامن؟

أو الأشياء مختلفة عند المالك، فما كان النظر فيها إلى ماليّتها- كأموال التجارة يتعيّن القيمة، و إذا كان النظر فيها إلى خواصّها و آثارها يتعيّن ردّ المثل؟

أو المالك و الضامن كلاهما بالخيار، فإن توافقا على أمر فهو، و إلّا فيرجع الأمر إلى الحاكم؟

أو غير ذلك من الوجوه و المحتملات؟

و الذي يستدعي مقالة المشهور و إليه ذهب الماتن أمران:

الأوّل: دعوى بناء العقلاء على هذا التفصيل، و أنّ الأشياء المتعارفة في هذه المدن و الأزمان و العصور و الأمصار، مختلفة عند العرف، و لا طريقة للشرع الأقدس حذاء بنائهم.

و الثاني: لو سلّمنا أصالة المثليّة؛ لأنّه الأقرب إلى القواعد و الأفهام، خصوصاً في هذه الأيّام التي تخرج من المكائن الأشياء المتماثلة المتّحدة في جميع الجهات المرغوب فيها، إلّا الهويّة الشخصيّة غير

ص: 52

المرغوب فيها، مع أنّها قيميّات عند المشهور على ما عرّفوهما في كتبهم(1).

و لكنّ ذلك فيما كان المثل كثيراً و متعارفاً في الأسواق، و أمّا مجرّد المماثلة مع ندرة الوجود، فهو غير مرضيّ عند أحد في إلزام الضامن تسليمه، كما هو الظاهر و فيما لم تكن الأدلّة الشرعيّة قاضية بالقيمة في كثير من المواقف، و مقتضى الجمع بين حكم العرف و تلك الأدلّة التي موردها القيميّات كأثاث البيت(2)، و الحيوانات(3) مذهب المشهور.

و أنت خبير بما في الأمرين:

أمّا الدعوى المزبورة، فهي غير مسموعة جدّاً، و لا حاجة إلى بيانها بعد وضوحها بمجرّد المراجعة إلى الوجدان، و إلى العقلاء و العرف في الأسواق و معاملاتهم.

و أمّا الجمع بين الأدلّة، فلِمَ لا يقتضي التخيير؟! فإنّه الأقرب إلى الصناعة؛ فإنّ في المذكورات و أثاث البيت الواردة في المآثير و الروايات، مثليّا و قيميّاً، و لا وجه لحصرها بها. مع أنّ المتقيّمات بالقيمة معناها أعمّ من القيمة بالمعنى الأخصّ؛ و هي الماليّة المتقوّمة


1- لاحظ المكاسب، الشيخ الأنصاري: 105/ السطر 16 و 106/ السطر 1.
2- وسائل الشيعة 29: 279، كتاب الديات، أبواب موجبات الضمان، الباب 41.
3- وسائل الشيعة 29: 250، كتاب الديات، أبواب موجبات الضمان، الباب 14.

ص: 53

بالنقود، أو الماليّة السارية.

هذا مع أنّ ذكر القيمة من باب أحد مصاديق التخيير، لا من باب التعيين، فإنّه لا يتمّ إلّا بتماميّة الدعوى الاولى، فتكون حجّة المشهور أمراً واحداً بلا بيّنة و برهان. و نفس الاشتهار في خصوص المسألة، مع عدم كونه حكماً عقلائيّاً، ربّما يكشف عن اطّلاعهم على رأي المعصوم عليه الصلاة و السلام إلّا أنّها غير ناهضة بعد قوّة احتمال اعتقادهم ذلك من الجمع بين الشرع و العرف، فتدبّر.

و الذي كان يستقرّ عليه رأينا في السلف؛ هو تخيير الضامن؛ لعدم وجوب شي ء عليه إلّا إفراغ ذمّته و إسقاط ضمانه، و لا دليل على الأزيد منه؛ حسب الأدلّة الشرعيّة و العمليّة عند الشكّ، على ما تقرّر في محلّه تفصيلًا، و لا يلزمون العقلاء أحداً بتسليم المثل أو القيمة؛ و إن كان أحدهما رائجاً دون الآخر.

نعم، لو تمّ ما سلكناه في الجملة؛ من أنّ تلف العين في باب الضمانات القائمة بالميول و الرغبات، بتلف جميع الأمثال، و أنّ الوحدة و الكثرة في هذا الموقف، غير الوحدة و الكثرة في العلوم الأُخر، فإذا كان المماثل واجداً لجميع ما في التالف ممّا ترغب إليه النفوس؛ ماليّة، و غيرها من الألوان المطلوبة فلا يعدّ ذلك غيره عرفاً، بل هي ذاك، فعندئذٍ يتعيّن أصالة المثليّة.

ص: 54

نعم، لو كان كلّ من البائع و المشتري، راضياً بتصرّف الآخر مطلقاً فيما قبضه و لو على تقدير الفساد، يباح لكلّ منهما التصرّف و الانتفاع بما قبضه و لو بإتلافه، و لا ضمان عليه. (1) قوله دام ظلّه: «و لا ضمان عليه».

لأنّ التلف بإذن مالكه و رضاه، و منه يعلم عدم جواز تصرّفه فيه بما يتوقّف على الملك. و مراده من «التصرّف» ليس مطلق التصرّفات.

و توهّم كفاية الرضا المعاملي عن ذلك الرضا(1)، في غير محلّه؛ لأنّ المتعلّقين مختلفان، و لا يعقل ترشّح الرّضا منه مع الاعتقاد بالصحّة؛ لأنّه لا يرى ما بيده ماله حتّى يرضى بتصرّف الآخر فيه، و لا معنى لرضاه بتصرّف الآخر في ماله، و مع الشكّ في الصحّة أو العلم بالفساد، لا يترشّح منه الإرادة الجديّة للمعاملة المؤثّرة في النقل إلّا مع الغفلة، و عندئذٍ لا يكون ذلك الرضا أيضاً كافياً.

فعلى ما تحصّل، يمكن دعوى حصول الملكيّة في غير صورة العلم بالصحّة؛ لأنّه تحصل المبادلة عندهم بين المالين بعد القبض، و لا حاجة إلى أكثر منها في المعاملات العقلائيّة. و هذا يشبه المعاطاة، و يترتّب عليه أحكامها.

بل في الصورة الأُولى و هي الاعتقاد بالصحّة، يمكن دعوى عدم


1- انظر مجمع الفائدة و البرهان 8: 193.

ص: 55

الضمان إذا أتلف؛ لأنّه فيما يسلّم المبيع إلى المشتري مثلًا، يكون راضياً بتصرّفه فيه و إن كان منشأُ الغفلة عن القصّة و الواقعة؛ فإنّ التقييد في الموضوعات الخارجيّة و المعاني الجزئيّة، لا يستلزم الكثرة النفس الأمريّة كما لا يخفى، فعلى هذا يمكن دعوى كفاية التسليط الخارجيّ في رفع الضمان.

هذا كلّه بناءً على اشتراط التصرّفات الناقلة بالملكيّة، كما هو المشهور المقطوع به في كلام الأصحاب.

و عندي فيه نظر فصّلناه في كتابنا الكبير(1)، و قد بيّنا هناك: أنّ القواعد لا تقضي بذلك، و يجوز تبادل المالين في الملكيّة، و تكون الإضافة الحادثة بين المالين و المالكين الآخرين لا الأوّلين في الملكيّة، أو السلطنة، أو هما معاً، فعليه لا منع من تصرّفات القابض بعد رضا المالك بجميع التصرّفات فيما قبضه، من غير لزوم الالتزام بالملكيّة آناً ما الذي هو من الأباطيل الواضحة، أو الالتزام بالهبة، أو غير ذلك.


1- تحريرات في الفقه، كتاب البيع، المقصد الثاني، الشرط الرابع، الأمر السابع.

ص: 56

ص: 57

[القول في شروط البيع]

اشارة

القول في شروط البيع و هي إمّا في المتعاقدين، و إمّا في العوضين

ص: 58

ص: 59

القول في شرائط المتعاقدين و هي أُمور:

[الأوّل: البلوغ]

الأوّل: البلوغ، فلا يصحّ بيع الصغير (1) قوله: «بيع الصغير».

إجماعاً بقسميه، بل عليه اتفاق المسلمين في الجملة، و لا فرق بين بيعه و غيره من العقود إلّا بعض منها يأتي في محالّها تفصيلها.

و هذا فيما كان غير رشيد و كان غير يتيم قطعيّ. إلّا أنّ الإشكال في غير اليتيم الرشيد، فإنّه خارج من الآية(1)، و من كثير من الروايات في المسألة(2)، و لا ينبغي الخلط، و لا معنى لإلغاء الخصوصيّة بعد وضوح وجودها في اليتيم بالضرورة.


1- النساء( 4): 6.
2- وسائل الشيعة 18: 409، كتاب الحجر، الباب 1 2، و 19: 366، كتاب الوصايا، الباب 45.

ص: 60

و أمّا الأخبار التي موضوعها «الصغير» و «الصغيرة»(1) فهي بعد صحّة إسنادها ذاتاً، أو انجباراً تدلّ على عدم جواز أمره و المنصرف إليه منها ما كان متعارفاً من الصغار، دون الرشيد الذي هو الأقوى من البالغ بمراتب و مراحل، فإنّ المآثير ربّما تكون منصرفة عنه. و قضيّة القواعد و العمومات عدم الفرق بين عقد الصبيّ و غيره.

بل فيما رواه الصدوق بإسناده عن الأصبغ، عن أمير المؤمنين عليه الصلاة و السلام إلى يوم الدين: «أنّه قضى أن يحجر على الغلام المفسد حتّى يعقل»(2) دلالة واضحة على حكم العقلاء، و مساعدة الحكم و الموضوع أيضاً توجب الانصراف.

و مثلها رواية الحلبيّ، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: سألته عن المرأة المعتوهة الذاهبة العقل، أ يجوز بيعها و صدقتها؟

قال: «لا»(3). فإنّها تدلّ مضافاً إلى الحكم المذكور في الجملة، على اغتراس ذهن السائل في أنّ المدار على العقل. و أوضح منهما معتبر السكونيّ الآتي المروي في «الكافي»(4).


1- وسائل الشيعة 19: 360، كتاب الوصايا، الباب 44 45.
2- الفقيه 3: 19/ 43، وسائل الشيعة 18: 410، كتاب الحجر، الباب 1، الحديث 4.
3- الكافي 6: 191/ 2، وسائل الشيعة 18: 409، كتاب الحجر، الباب 1، الحديث 2.
4- يأتي في الصفحة 64.

ص: 61

و لو كان مميّزاً (1)، أو كان بإذن الوليّ؛ إذا كان مستقلا في (2) إيقاعه، قوله دام ظلّه: «و لو كان مميّزاً».

إجماعاً، و عليه المنقولات و الشهرات المحقّقة في جميع الأعصار، بل هو المنساق من الأدلّة؛ لأنّ ما لا تمييز له لا يحتاج إلى السؤال.

قوله مدّ ظلّه: «مستقلا في».

لأنّه عندئذٍ يكون الأمر بيده؛ و هو التصدّي لشأن المعاملة، و يشمله الأدلّة، مثل دليل خيار المجلس(1) و نحوه، فهو البيِّع قطعاً، و إذا ورد «أنّه لا يجوز أمره في البيع و الشراء»(2) فإطلاقه يشمل الفرضين من الاستقلال: استقلاله النفسي، و استقلاله الإعطائي من قبل الولي و الحاكم.

هذا مع أنّ قضيّة الحكمة أو العلّة عدم الفرق بينهما؛ لأنّ منعه من هذه التصرّفات و عدم إمضائها، ليس إلّا لأجل عدم ترتّب الفساد عليه، و المقصود سدّه حتّى في صورة الاحتمال، و عدم الوقوع في المشاكل.

فما قد يتوهّم: من أنّ إذن الوليّ هنا كإذنه في نكاح البالغة الرشيدة، و أنّه تعبّد محض لحفظ الاحترام، في غير محلّه؛ لشهادة العرف على خلافه. و اختلاف الفقهاء هناك(3)، و اتفاقهم هنا(4)، أيضاً يمنع عن هذا


1- وسائل الشيعة 18: 5، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 1 2.
2- وسائل الشيعة 18: 410، كتاب الحجر، الباب 2، الحديث 1.
3- الحدائق الناضرة 23: 210/ السطر 23.
4- تذكرة الفقهاء 2: 73/ السطر 25، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 114/ السطر 8 و ما بعده.

ص: 62

على الأقوى في الأشياء الخطيرة (1)، و على الأحوط في غيرها. (2) الموهوم، كما لا يخفى.

فبالجملة: لو تمّ ما تخيّلناه من خروج الرشيد من الأدلّة، و هو غير المميّز المعنون في متون الأصحاب، فلا حاجة إلى الإذن مطلقاً، و إلّا فقضيّة الإطلاق بعد الشمول عدم الفرق بين الصور، حتّى الصور الآتية من ذي قِبَل إن شاء اللَّه تعالى.

و لعلّ الأردبيلي على ما ذكرنا كلامه في كتابنا الكبير(1)، ذهب إلى ما أفدناه في أصل المسألة(2)، فراجع و تدبّر.

قوله مدّ ظلّه: «في الأشياء الخطيرة».

لأنّها القدر المتيقّن من الأدلّة، و من الخروج عن السيرة غير المردوعة.

قوله دام ظلّه: «في غيرها».

و هو الأعمّ من السيرة جدّاً، و غير الخطيرة، فإنّ كثيراً من التجارات و المكاسب ليست خطيرة، و لا يسيرة، مثل ما تعارف بين الأطفال، فعليه يمكن دعوى شمول العبارة لثلاثة صور:


1- تحريرات في الفقه، كتاب البيع، المقصد الثاني، الشرط الأوّل، الفرع الثاني.
2- مجمع الفائدة و البرهان 8: 152.

ص: 63

و إن كانت الصحّة في اليسيرة إذا كان مميّزاً ممّا جرت عليها السيرة، لا تخلو من وجه و قوّة. (1) أوّلها: عدم الجواز فيها هو الأقوى.

ثانيها: الحكم فيها على الاحتياط؛ لأنّ قضيّة الإطلاقات(1) هي الممنوعيّة، و لا شاهد على شمول السيرة لها.

ثالثها: ما هو الحكم فيها الجواز، و هي اليسيرة المعبّر عنها ب «معاملات الصغير» على نعت إضافة الموصوف إلى الصفة، فتدبر.

قوله دام ظلّه: «من وجه و قوّة».

لأنّ تلك السيرة أوّلًا: متّصلة، و ليست منقطعة الأوّل بالضرورة.

و ثانياً: ليست مردوعة، و دعوى أنّها غير مرتدعة، و هي عندئذٍ غير كافية(2)، غير مسموعة جدّاً، و لو كان الأمر كما قيل يلزم وضوح الحكم، و صدور المآثير الكثيرة، و لا يكفي في هذه الموضوعات التي عليها العقلاء، الإطلاقُ و العموم فيعلم منه قصور الأدلّة عن الرادعيّة، عنها.

بل يستلزم ذلك فسق العلماء و الفقهاء رضوان اللَّه تعالى عليهم لعدم أمرهم بالمعروف، و نهيهم عن المنكر. مع ابتلائهم في جميع الأعصار و الأمصار بها في كلّ يوم مراراً، و هذا يستلزم العسر و الحرج في معيشة


1- وسائل الشيعة 17: 360، كتاب التجارة، أبواب عقد البيع و شروطه، الباب 14.
2- لاحظ المكاسب، الشيخ الأنصاري: 116/ السطر 3، جواهر الكلام 22: 263.

ص: 64

الإنسان، و هي مشقّة أعظم من الالتزام بالأطفال، أو التدخّل في أُمورهم، فتبصّر.

فعلى هذا، الحكم كما في المتن قوي جدّاً، و دعوى الإجماع عليه(1)، غير ثابتة، خصوصاً بعد وجود النصوص في المسألة.

هذا مع شهادة معتبر السكونيّ في «الكافي» عن أبي عبد اللَّه عليه الصلاة و السلام قال: «نهى رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم (عن كسب الإماء؛ فإنّها إن لم تجد زنت، إلّا أمة قد عرفت بصنعة يد، و نهى عن كسب الغلام الصغير الذي لا يحسن صناعة بيده؛ فإنّه إن لم يجد سرق»(2) على أنّ كسب الغلام في الجملة، ممّا لا بأس به. و لقد تعرّضنا للوجوه المحتملة في هذه الرواية في محالّها(3)، و لكنّها بكثرتها لا تنافي دلالتها عرفاً على الصحّة إجمالًا.

بل قضيّة إطلاقها صحّتها في جميع الصور و لو كان منهيّاً من قبل الوليّ، و لا منع من الالتزام به لولا مخافة مخالفة الإجماع فيما كان رشيداً مميّزاً بالغاً في العقل؛ و إن كان غير بالغ إلى أشدّه و هو الجسم بالاحتلام و نحوه.


1- تقدّم في الصفحة 61.
2- الكافي 5: 128/ 8، وسائل الشيعة 17: 163، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 33، الحديث 1.
3- تحريرات في الفقه، كتاب البيع، المقصد الثاني، الشرط الأوّل، الفرع الثاني، بحث و تفصيل.

ص: 65

كما أنّه لو كان بمنزلة الآلة بحيث تكون حقيقة المعاملة بين البالغين ممّا لا بأس به مطلقاً. (1) قوله دام ظلّه: «مطلقاً».

و لو كان منهيّاً من قبل وليّه؛ لأنّه لا يؤثّر في شي ء:

أمّا تكليفاً فواضح.

و أمّا وضعاً، فلأجنبيّته عنه، فإنّه إذا لم يكن إذنه شرطاً، فلا دليل على مضرّية منعه.

و توهّم شمول الإطلاقات لهذه الصورة، غير تامّ؛ لأنّه ليس متصدّياً لأمر المعاملة حتّى يكون مشمول الأدلّة.

هذا، و لكنّ النظر الدقيق يؤدّي إلى عدم الفرق؛ ضرورة أنّ ما يتكفّله الصغير و إن لم يكن أمر البيع و الشراء، إلّا أنّه لا بدّ و أن ينطبق عليه أحد العناوين المعروفة، و هو هنا «الوكالة» و لا شبهة في أنّه عندئذٍ ممنوع عنها. و توهّم عدم كونها شيئاً حتّى يحتاج إلى تطبيق العناوين عليه، فاسد؛ ضرورة أنّ من الممكن أخذ الأجر و حقّ الوكالة على ذلك الأمر، فعدم جواز أمره يؤدّي إلى جميع أُموره، خصوصاً في الوكالة.

و كونه آلة مثل الحيوان، لا يستلزم عدم انطباق عنوان عليه، و إلّا يلزم ذلك فيما يتصدّى الكبير لإجراء العقد، و يأخذ الأجر حذاءه، و لا يمكن الالتزام بخروجه عن العناوين المعروفة بالضرورة.

ص: 66

اللهمّ إلّا أن يقال: بعدم الدليل على عدم نفوذ أمره على الإطلاق، و إلغاء الخصوصيّة عمّا ورد في البيع و الشراء مشكل؛ لما أنّه التجارة المتعارفة المستلزمة لوقوعه في الهلكة، بخلاف غيرها، خصوصاً إذا لم يكن مرتبطاً بالماليّات التي هي المقصودة في عدم الإمضاء قويّاً.

و ما ورد في «الخصال» بسند صحيح إلى أبي الحسين الخادم بيّاع اللؤلؤ، عن عبد اللَّه بن سِنان، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: سأله أبي و أنا حاضر عن اليتيم الذي يجوز أمره.

قال: «حتّى يبلغ أشدّه».

قال: و ما أشدّه؟

قال: «احتلامه».

قال: قلت: قد يكون الغلام ابن ثمان عشرة سنة، أو أقلّ أو أكثر و لم يحتلم.

قال: «إذا بلغ و كتب عليه الشي ء، و نبت عليه الشعر، جاز عليه أمره، إلّا أن يكون سفيهاً أو ضعيفاً»(1).

و إن كان مطلقاً، إلّا أنّ أبا الحسين غير معلوم، و دعوى كونه آدم بن


1- الخصال: 495/ 3.

ص: 67

المتوكّل(1) و إن كانت قريبة، إلّا أنّها لا تتمّ حجّة.

اللهمّ إلّا أن يقال: بتماميتها؛ لرواية البَزنطيّ عنه.

نعم، لا يبعد إطلاق معتبر ابن سِنان الآخر عنه (عليه السّلام) قال: سأله أبي و أنا حاضر عن قول اللَّه عزّ و جلّ حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ(2).

قال: «الاحتلام».

قال فقال: يحتلم في ستّ عشرة، أو سبع عشرة سنة و نحوها؟

فقال: «لا، إذا أتت عليه ثلاث عشرة سنة كتبت له الحسنات، و كتبت عليه السيّئات، و جاز أمره ..»(3).

و لكن الذي يسهّل الخطب: أنّ إسراء الحكم من اليتيم إلى غيره في غاية الإشكال، فافهم و تأمّل جدّاً.

نعم، الظاهر تماميّة إطلاق المنع بالنسبة إلى اليتيم في أمواله، فإنّه في غاية المتانة. و أمّا عدم صحّة وكالته في إجراء العقد بالنسبة إلى أمواله، فهي لأجل عدم مساعدة الاعتبار، و عليه لا منع من تصدّيه لإجرائه؛


1- رجال النجاشيّ: 104/ 260، معجم رجال الحديث 1: 121 122/ 10.
2- الأحقاف) 46): 15.
3- تهذيب الأحكام 9: 182/ 731، وسائل الشيعة 19: 363، كتاب الوصايا، الباب 44، الحديث 8.

ص: 68

و كما لا تصحّ معاملة الصبيّ في الأشياء الخطيرة لنفسه، كذلك لا تصحّ لغيره أيضاً. (1) لأنّ تلك المطلقات ناظرة إلى عدم نفوذ أمره؛ أي بيعه و شرائه، أو وكالته و إجارته، و هذا ليس منها.

نعم، بناءً على كونه مسلوب العبارة كما يأتي الإيماء إليه، يلزم عدم نفوذ تصدّيه له أيضاً، و لكنّه غير تامّ.

و توهّم: أنّه وكيل عن وليّه، طويل الذيل، من شاء فعليه بالرجوع إلى الكتاب الكبير(1).

قوله دام ظلّه: «لا تصحّ لغيره أيضاً».

للإطلاق في النصّ(2)، و الفتوى(3)، و لأنّ تصدّيه لأمر الغير يرجع إلى الوكالة، أو الولاية، أو النيابة، و كلّ يطلب من محلّه، أو يرجع إلى بعض العقود الأُخر، كما لا يخفى.


1- تحريرات في الفقه، كتاب البيع، المقصد الثاني، الشرط الأوّل، الفرع الثاني، بحث و تفصيل في نفوذ أمر الصبي مطلقاً.
2- وسائل الشيعة 17: 360، كتاب التجارة، أبواب عقد البيع و شروطه، الباب 14 و 18: 409، كتاب الحجر، الباب 1 2، و 19: 366، كتاب الوصايا، الباب 45 46.
3- جواهر الكلام 22: 260، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 114/ السطر 8.

ص: 69

[إذا كان وكيلًا حتّى مع إذن الوليّ في الوكالة، و أمّا لو كان وكيلًا لمجرّد إجراء الصيغة و كان أصل المعاملة بين البالغين فصحّته لا تخلو من قرب (1)، فليس هو (2) مسلوب العبارة، لكن لا ينبغي ترك الاحتياط].

قوله مدّ ظلّه: «لا تخلو من قرب».

قد عرفت وجهه و وجه الإشكال فيه(1)، و غاية ما يوجّه به نفوذ هذا الأمر؛ عدم ثبوت الإطلاق، و عدم صحّة إلغاء الخصوصيّة.

و العجب أنّه- مدّ ظلّه و أصحابه يعتقدون بأنّ الأخبار المشتملة على حكم اليتيم، لا تختصّ به، و الموضوع فيها «الصبيّ»(2) كما يشهد به بعض المآثير(3) وهماً، و مع ذلك أفتوا بذلك!! و هل هذا إلّا دعوى الانصراف؟! و هي غير مسموعة؛ لعدم تماميّة سندها و كأنّه لكونه فعلًا يسيراً لا يعبأ به، يكون خارجاً منها، و لو تمّ ذلك يلزم بعض ما لا يلتزمون به، فتدبّر جيّداً.

قوله: «فليس هو».

خلافاً لما نسب إلى الشهرة(4)، و سند هجرانه ليس بناء العقلاء حتّى


1- تقدّم في الصفحة 65.
2- البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 2: 16.
3- وسائل الشيعة 18: 410، كتاب الحجر، الباب 2، الحديث 1 و 5. و أيضاً الباب 1، الحديث 1 و 3.
4- جواهر الكلام 22: 262، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 114/ السطر 25 26.

ص: 70

يكون منشأُه قصور المقتضي، بل سنده بعض الإطلاقات، كحديث الرفع(1)، و أنّ «عمد الصبيّ و خطأُه واحد»(2) و بعض النصوص الناطقة بأنّ الحسنات لا تكتب له إلّا بعد البلوغ(3)، و الأُمور تكون أمّا حسنة أو سيّئة، و العقود ليست خارجة عنها، فإذن هو مسلوب العبارة تعبّداً، خرج منه بعض المواضع، كالوصيّة(4)، و العتق(5)، و الطلاق(6)، و التدبير(7)، و في باب الشهادات باب منعقد لاستماع شهادته في القتل(8)، و هذا لا يضرّ بتلك


1- الخصال: 93/ 40 و 175/ 233، وسائل الشيعة 1: 45، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 4، الحديث 11.
2- تهذيب الأحكام 10: 233/ 920، وسائل الشيعة 29: 400، كتاب الدّيات، أبواب العاقلة، الباب 11، الحديث 2.
3- وسائل الشيعة 1: 42، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 4، الحديث 1، و 19: 363، كتاب الوصايا، الباب 44، الحديث 8 و 11 و 12.
4- وسائل الشيعة 19: 362، كتاب الوصايا، الباب 44، الحديث 3 و 5.
5- وسائل الشيعة 23: 91، كتاب العتق، الباب 56، الحديث 1.
6- وسائل الشيعة 19: 212، كتاب الوقوف و الصدقات، الباب 15، الحديث 2.
7- لم نعثر على خبرٍ في هذا الباب لكنّ الشيخ( رحمه اللَّه( قال بصحّة تدبير الصبيّ إذا كان مميّزاً عاقلًا مراهقاً و قال قيّده أصحابنا بما إذا بلغ عشر سنين فصاعداً إذا كان عاقلًا و قال دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم على أنّ الصبيّ إذا بلغ عشر سنين صحّت وصيّته و التدبير وصيّته، انظر الخلاف 2: 672، المسألة 21.
8- وسائل الشيعة 27: 343، كتاب الشهادات، الباب 22.

ص: 71

الإطلاقات و النصوص، كما لا يخفى.

و مثلها حجّه و سائر عباداته التي ورد الأمر بحثّ الموالي إيّاه عليها(1)، الظاهرة على إشكال في صحّتها، و قضيّة الجمع بين الأدلّة كونها تمرينيّة، و ليست حسنة.

أقول: قد تعرّضنا لهذه الأدلّة تفصيلًا و ما يتوجّه إليها في كتابنا الكبير(2)، و المحرّر في محلّه: أنّ حديث الرفع(3) مضافاً إلى عدم ثبوت سند قوي له غير واضح الدلالة، و فيه المحتملات الكثيرة(4)، و لعلّ الأظهر من بينها؛ أنّ ما هو الثابت في الشريعة على نحوين:

أحدهما: ما هو ثابت للإنسان.

و ثانيهما: ما هو ثابت للكبير.

فما هو المرفوع هو الثاني؛ لأنّ الظاهر أنّ منشأ الرفع هو صباه و جنونه و نومه، فما يثبت للكبير العاقل المنتبه مرفوع عن الثلاثة، و أمّا


1- وسائل الشيعة 4: 18، كتاب الصلاة، أبواب أعداد الفرائض، الباب 3 4 و 10: 234، كتاب الصوم، أبواب من يصحّ منه الصوم، الباب 29، الحديث 3 و 11.
2- تحريرات في الفقه، كتاب البيع، المقصد الثاني، الشرط الأوّل، الفرع الثاني.
3- تقدّم في الصفحة 70.
4- تحريرات في الفقه، كتاب البيع، المقصد الثاني، الشرط الأوّل، الفرع الثاني، ذنابة قد يستدل على أنّه مسلوب العبارة.

ص: 72

هذا الأمر ما هو؟ فهو يحتاج إلى دليل آخر، و القدر المسلّم هو العقاب و العتاب.

و أمّا نسبة الرفع فهي خفيفة المئونة؛ فإنّ توجيه الخطاب القانونيّ، أو جعل العنوان الكلّي القابل للانطباق عليه في القانون الكلّي، كافٍ لصحّة الرفع، و لا تمسّ الحاجة إلى الشرائط العامّة في ذلك، بل هي شرائط الإرادة الجديّة و تنجيز الحكم.

أمّا التسوية، فهي ثابتة و مدّعاة بين خطأ الصبيّ و عمده، لا الخطأ و عمده، و ما هو المفيد هو الثاني، دون الأوّل، فإذا قال: «عمد الصبيّ خطأ ..»(1) فإطلاقه يستلزم ارتفاع جميع الأحكام الثبوتيّة عنه، فهو مسلوب العبارة، و إذا قال: «عمد الصبيّ و خطأُه واحد» كما في صحيحة ابن مسلم(2)، فهو دليل على أنّ لخطأ الصبيّ حكماً خاصّاً لا بدّ من الفحص عنه و إثباته لعمده، و هذا الحكم هو الحكم الثبوتيّ، لا الأعم منه و من العدميّ، و لا يختصّ بالعدميّ، فلا ينبغي الغفلة عن هذه النكتة، فتكون الرواية مخصوصة بباب الدية.

هذا مع أنّ الالتزام بالتسوية، يستلزم الفقه الجديد.


1- وسائل الشيعة 29: 400، كتاب الديات، أبواب العاقلة، الباب 11، الحديث 3.
2- تقدّم في الصفحة 70.

ص: 73

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ ما توهّمه جمع من اللزوم المذكور(1)، منشأُه الاعتقاد بصحّة عباداته، و إذا قلنا: بأنّها تمرينيّة فلا يلزم، فتدبّر جدّاً، و لا تغفل.

و إن شئت قلت: لمّا كانت الصحيحة في مقام الامتنان، فكلّ حكم و لو كان عدميّاً ثابتاً للخطإ امتناناً فهو ثابت لعمد الصبيّ، و ما لا امتنان فيه مثل الأحكام الثابتة لخطأ غير الصبيّ فهو غير ثابت للصبيّ؛ رعاية لحقّ الامتنان عليه، و أمّا النصوص(2) فشمولها للعقود ممنوع؛ لأنّها عرفاً و لغة ليست حسنة.

و دعوى الأولويّة غير بعيدة، إلّا أنّ الالتزام بمفاد هذه الأخبار، مشكل بعد خروج الحسنات المكتوبة، فتحمل على حسنات الواجبات المرفوعة.

مع أنّها معارضة بمعتبر طلحة بن زيد، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: «إنّ أولاد المسلمين موسومون عند اللَّه عزّ و جلّ شافع و مشفّع، فإذا بلغوا اثنتي عشرة سنة كتبت لهم الحسنات، فإذا بلغوا الحلم كتبت عليهم السيّئات»(3).


1- لاحظ مصباح الفقاهة 3: 254.
2- تقدّم في الصفحة 70.
3- الكافي 6: 3/ 8، وسائل الشيعة 1: 42، كتاب الصلاة، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 4، الحديث 1.

ص: 74

و التحديد الأوّل لإفادة التمييز، مع أنّ المعارضة بين المفهوم و المنطوق، فهذه الرواية في حكم القرينة على انتفاء الأوّل.

فتحصّل: أنّ المآثير الدالّة بالمفهوم على أنّ الحسنات و السيّئات تكتب بعد البلوغ(1)، قاصرة عن إثبات مسلوبيّة عبارة الصبيّ، بل و عدم مشروعيّة عبادته.

مع أنّ عدم المشروعيّة غير عدم مكتوبيّة الحسنات، فيصحّ الالتزام بالثاني من غير لزوم الالتزام بالأوّل، فجميع عباداته و معاملاته صحيحة إمّا بالفعل، أو بالقوّة، فتحتاج إلى الإجازة، إلّا أنّها إذا كانت ذات حسنة لغيره، لا تكتب تلك الحسنة له.


1- تقدّم في الصفحة 70.

ص: 75

[الثاني: العقل]

الثاني: العقل، فلا يصحّ بيع المجنون. (1) قوله دام ظلّه: «بيع المجنون».

صحّته فعليّة إذا ترشّح منه الجدّ إلى المعاملة، و صحّته بالقوّة مطلقاً.

هذا فيما إذا تصدّاها حال جنونه، و إلّا فالصحّة مطلقاً قويّة جدّاً. و احتمال عدم إمضاء عقد المجنون على إطلاقه و إن كان عاقلًا في برهة(1)، كاحتمال عدم إمضاء المجنون في بعض الأُمور و هو عاقل في المعاملات، و كلاهما غير مبرهن.

اللهمّ إلّا أن يقال: باستيحاش العقلاء من تجارة هؤلاء؛ لعدم الاعتماد عليهم و عندئذٍ يؤيّد الإطلاق في بعض الأخبار(2). و قد مضى في قضاء الإمام عليّ (عليه السّلام) على ما روي في الصغير(3)، ما يدلّ على أنّ المدار على كونه عاقلًا(4)، فتبصّر.


1- لاحظ مقابس الأنوار: 114/ السطر 16.
2- وسائل الشيعة 1: 45، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 4، الحديث 11، و 28: 23، كتاب الحدود و التعزيرات، أبواب مقدّمات الحدود و أحكامها العامة، الباب 8، الحديث 2.
3- الفقيه 3: 19/ 43، وسائل الشيعة 18: 410، كتاب الحجر، الباب 1، الحديث 4.
4- تقدّم في الصفحة 60.

ص: 76

[الثالث: القصد]

الثالث: القصد، فلا يصحّ بيع غير (1) القاصد، كالهازل، و الغالط، و الساهي.

قوله دام ظلّه: «فلا يصحّ بيع غير».

صحّته فعليّة بالضرورة، و صحّته بالقوّة؛ بحيث لا تنفع الإجازة اللاحقة؛ لعدم ترشّح الإرادة إلى معنى العقد، بل و لا إلى معنى اللفظ.

و إن شئت قلت: القصد ليس من شرائط ماهيّة العقد، و لا من شرائط المتعاقدين، و لا من مقوّمات الماهيّة، بل هو السبب لوجود العقد، فيكون العقد بوجوده متقوّماً به.

و هذا القصد كما يعتبر في المداليل التصوّرية، و يعتبر في تحقّق الألفاظ الموضوعة لتلك المعاني، و يعتبر في المداليل التصديقيّة الناقصة، كقوله: «بعت زيداً غير آجرته» كذلك يعتبر في المداليل التصديقيّة التامّة.

و أمّا دخالته في الأثر الفعليّ، فهي كلام طويل الذيل في بحث الفضوليّ.

إن قيل: القصد إجمالًا من أجزأ ماهيّة العقد، و إلّا يلزم صحّة عقد الهازل بالقوّة، و إذا لحقته الإجازة يصحّ بالفعل.

قلنا: فرق بين كون الشي ء من أجزاء الماهيّة، و بين كونه دخيلًا في

ص: 77

كونه الماهيّة ماهيّةً، مثلًا ماهيّة الإنسان ليست إلّا الأجناس المترتّبة و الفصل الأخير، و لكنّ الإنسان لا يصدق بالحمل الشائع إلّا حين الوجود.

فالبيع ليس إلّا إنشاء المبادلة، و هذا الإنشاء ليس إنشاءً إلّا بالوجود و الجدّ و الإرادة المتعلّقة بمضمونه. و ممّا ذكرناه يظهر مواقف النظر و الخلط في كلمات القوم صدراً و ذيلًا(1).

ثمّ إنّ في المقام فروعاً كثيرة تعرّضنا لحدودها في كتابنا الكبير، و من شاء تفصيلها فليراجع هناك(2)، و تدبّر فيما أسمعناك.


1- لاحظ مقابس الأنوار: 114/ السطر 22 و ما بعده، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 117/ السطر 3 و ما بعده.
2- تحريرات في الفقه، كتاب البيع، المقصد الثاني، الشرط الأوّل، الفرع الثالث.

ص: 78

[الرابع: الاختيار]

الرابع: الاختيار، فلا يصحّ (1) البيع من المكره ..

قوله دام ظلّه: «فلا يصحّ».

إجماعاً، و عليه بناء العقلاء، و أمّا النصوص الواردة في مواقف أُخر(1)، فدلالتها على بطلان البيع بعد عدم وجه للسراية منها إليه. مع إشكال في كونها واردة في مفروض كلام الأصحاب؛ و هو القاصد إلى البيع، و اعتباره في الخارج كغيره.

بل ظاهر بعض منها إبطال الطلاق؛ لعدم القصد إليه، كرواية منصور ابن يونس(2). و قد عرفت عدم الحاجة إلى الرواية في المسألة بعد وضوحها حسب القواعد العقلائيّة.

إن قلت: العمومات و الإطلاقات تردع عن البناء المعروف؛ بعد كون عقد المكره بيعاً جامعاً للشرائط.

قلت أوّلًا: يمكن منع صدق العناوين عليه، لا لفقدانه القصد و الاختيار، بل لفقدانه الشرط الآخر: و هو عدم كون الإرادة المتعلّقة بتلك العناوين، مقهورةً للإرادة الأُخرى عرفاً، و موجودةً بالإرادة الأُخرى عند العقلاء و العرف.


1- وسائل الشيعة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، و 22: 86، كتاب الطلاق، أبواب مقدّماته، الباب 37، الحديث 18 و 5: 120، كتاب الصلاة، أبواب أحكام المصلّي، الباب 3، الحديث 1 و 3.
2- وسائل الشيعة 22: 87، كتاب الطلاق، أبواب مقدّماته، الباب 38، الحديث 1.

ص: 79

و ثانياً: الانصراف فيما نحن فيه قطعيّ بالوجدان، بل العقل قاضٍ بأنّه كيف يمكن الالتزام بإجبار الغير على البيع، ثمّ بعد ذلك يجبره الحاكم على ردّ المبيع بعنوان الامتناع من التسليم؟! و هذا حكم لو صدر من أحد، فهو أحوج إلى المعالجة من التحصيل.

إن قيل: فما معنى اشتراط الاختيار في كلمات الأصحاب؟

قلنا: إن كان المقصود منه اشتراط الاستقلال في الإرادة حسب الدواعي الشخصيّة قبال المكره الذي هو و إن كان مستقلا في الإرادة بنظر العقل، إلّا أنّه بنظر العرف ليس مستقلا فيها، و تكون إرادته مترشّحة من القاهر الجابر فهو صحيح(1).


1- هذا آخر ما عثرنا عليه من إفادات شهيدنا السعيد( قدِّس سرُّه) شرحاً لمبحث البيع من تحرير الوسيلة.

ص: 80

ص: 81

[كتاب الخيارات]

اشارة

كتاب الخيارات

ص: 82

ص: 83

[القول في الخيارات]

اشارة

القول في الخيارات (1) و هي أقسام:

[الأوّل: خيار المجلس]

الأوّل: خيار المجلس قوله مدّ ظلّه: «في الخيارات».

و هي جمع «الخيار» على خلاف القياس، و «الخيار» بحسب اللغة من «الاختيار»(1)، و هو اصطفاء خير الأمرين و طلب خير الشيئين.

و في الاصطلاح فسّر بتفاسير:

فعن المشهور: «هو ملك إقرار العقد و إزالته»(2). و عن موضع من «الإيضاح»: «هو ملك فسخ العقد»(3).

و قيل: «هو ملك فسخ العقد و تركه»(4).

و عن رابع: «هو السلطنة و الاستيلاء».


1- لسان العرب 4: 257، أقرب الموارد 1: 311.
2- رياض المسائل 1: 522/ السطر 30، جواهر الكلام 23: 3.
3- إيضاح الفوائد 1: 482.
4- لاحظ البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 5 6.

ص: 84

و اختار المصنّف: «أنّه حقّ اصطفاء الفسخ»(1) مقرّاً بأنّه معنىً مباين مع معناه اللّغوي، إلّا أنّه أقرب من معانيه الأُخر.

و الذي هو الأقرب من أُفق التحقيق: أنّ المعاني الاصطلاحيّة الاعتبارية الجعليّة، مصاديق المعاني اللغويّة حقيقة، و لمّا كان صاحب الخيار قبل الاعتبار، غيرَ مستولٍ على فسخ العقد و إعدامه، ما كان مختاراً في أمر العقد، كما هو ليس مختاراً في كثير من الأُمور الخارجيّة، و كما أنّه ربّما يعطى إليه الاختيار تكويناً، كذلك اعطي إليه اختيار العقد اعتباراً؛ لاعتباريّة محلّه و مورده، فقوله (عليه السّلام): «هو بالخيار» كما في خيار المجلس(2)، معناه أنّه مفوّض إليه أمر العقد حلّا و نقضاً.

نعم، المتبادر منه في محيط الأخبار في المعاملات، ليس معناه اللغوي، بل هو المعنى الأخصّ، و غلب عليه حتّى صار حقيقة فيه ثانياً؛ لتبادره منه بلا قرينة. اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ من القرينة كونه في محيط خاصّ، و الأمر سهل.

ثمّ إنّ هذا الخيار ليس من أوصاف الأفعال، بل هو اعتبار ثابت لذي


1- البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 5.
2- تهذيب الأحكام 7: 20/ 86، وسائل الشيعة 18: 5، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 1.

ص: 85

الخيار، و ينتزع منه أنّ العقد خياري، و أمّا الاصطفاء فهو بمعنى الاختيار و إعمال القدرة و الإرادة.

و بعبارة اخرى: هو إعمال الاختيار النفسانيّ المشترك فيه كافّة أرباب الإرادة، و منهم ربّ الأرباب.

و أمّا تفسيره بالملك، فهو أيضاً في غير محلّه، إلّا إذا أُريد منه الاقتدار الاعتباري الثابت، و لأجل ذلك كان الأولى تفسيره بالسلطنة. و أمّا أنّه السلطنة على العين، أم العقد، أو فسخ العقد، فكُلّ ممكن، و لو قام دليل عليه فهو المتّبع، و إلّا فما هو مورد الخيار بلا تأويل هو الفسخ، دون العقد و العين كما لا يخفى.

و حيث إنّ السلطنة على الفسخ تستتبع قهراً الاقتدار على ترك أعمال السلطنة المزبورة، يكون الفسخ خياريّاً و مورد الاختيار، فلا حاجة إلى ذكر قولهم: «و تركه» بل لا يعقل تعلّق الاختيار بالترك.

و من هنا يظهر سقوط النزاع المشهور: و هو أنّ طرفي الخيار هل هما وجوديّان، أمْ وجودي و عدمي(1)؟ هذا مع أنّ الخيار يتعلّق بالعنوان حقيقة، و ما هو شأنه ذلك لا يمكن أن يتعلّق مع وحدته بالعنوانين: الإزالة، و الإثبات. و إرجاعه إلى الكثير على نعت التخيير و إن كان ممكناً، إلّا أنّه


1- منية الطالب 2: 2/ السطر 7، حاشية المكاسب، الأصفهاني 2: 3/ السطر 32 33.

ص: 86

فإذا وقع البيع فللمتبايعين الخيار (1) ما لم يفترقا، خارج عن فهم الأصحاب (رحمهم اللَّه (وحدة الخيار تعييناً.

قوله مدّ ظلّه: «فللمتبايعين الخيار».

اتفاقاً(1)، و دعوى أنّ المسألة مجمع عليها في الجملة بين المسلمين قريبة، و عليها النصوص الكثيرة، كمعتبر ابن مسلم، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: «قال رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم): البيّعان بالخيار حتّى يفترقا ..»(2).

و معتبر ابن يزيد، عنه (عليه السّلام) قال: «قال رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم): إذا التاجران صدقا بورك لهما، فإذا كذبا و خانا لم يبارك لهما، و هما بالخيار ما لم يفترقا ..»(3).

و ما في خبر غياث بن إبراهيم، عن عليّ (عليه السّلام) قال: قال عليّ (عليه السّلام): «إذا صفق الرجل على البيع فقد وجب و إن لم يفترقا»(4)، محمول.


1- جواهر الكلام 23: 4.
2- الكافي 5: 170/ 5، وسائل الشيعة 18: 5، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 1، الحديث 1.
3- تهذيب الأحكام 7: 26/ 110، وسائل الشيعة 18: 7، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 1، الحديث 6.
4- تهذيب الأحكام 7: 20/ 87، وسائل الشيعة 18: 7، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 1، الحديث 7.

ص: 87

و دعوى: أنّ قضيّة الجمع حمل تلك الأخبار على أنّها بصدد تجويز البيع إلى الافتراق، و هذا على تجويزه إلى التصفيق، قريبة جدّاً، أو تقييد مفهوم الطائفة الأُولى بذلك الخبر، فتدبّر.

هذا مع أنّه لا تدلّ تلك الأخبار صراحة على أنّ كلّ واحد منهما- مع قطع النظر عن الآخر بالخيار، فتأمّل.

و وجه عدوله- مدّ ظلّه من البيّعين إلى المتبايعين؛ ما في معتبر ابن مسلم، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: «المتبايعان بالخيار ثلاثة أيّام في الحيوان، و فيما سوى ذلك من بيع حتّى يفترقا»(1).

و كأنّ معناه «و فيما سوى ذلك» أي الحيوان هما «من بيع» أي باقيان على البيع ادّعاءً، أو هما بالقدرة و الاختيار على التبادل و المبادلة و الترادّ الاعتباري بتوسيط الخيار «حتّى يفترقا».

و أيضاً: الإيماء إلى أنّ الحكم يدور مدار صدق «المتبايعين» سواء كانا أصيلين، أو وليّين، أو وكيلين، أو مأذونين، أو مختلفين.

و قال- مدّ ظلّه: «إنّ قضيّة القواعد عدم صدقهما إلّا على مباشري العقد و البيع، دون الموكِّلين؛ ضرورة أنّ ماهيّة البيع هي المبادلة


1- تهذيب الأحكام 7: 23/ 99، وسائل الشيعة 18: 10، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 3، الحديث 3.

ص: 88

الإنشائيّة، و هي تحصل بإرادة المباشر دون الموكِّل، و نسبتها إلى الموكِّل من المجاز قطعاً.

و دعوى استعمال اللّفظ في المعنيين: الحقيقيّ، و المجازي، ممكنة غير نافعة؛ لأنّ ذلك مضافاً إلى الحاجة إلى القرينة، بعيدة عن أُفق التقنين»(1).

نعم، لا يثبت هذا الخيار للوكيل في إجراء الصيغة انصرافاً، فكان عليه- مدّ ظلّه التصريح بعدم الخيار له؛ لصدق «المتبايعين» عليهما عنده.

و الذي محرّر عندي: أنّ الموضوع هو «التاجران» لأنّه الأعمّ، و في المثبتين يؤخذ بالأعمّ؛ ضرورة أنّهما يصدقان على غير المتبايعين في سائر العقود التجاريّة و المعاوضيّة، و قد صرّح في اللّغة ب «أنّ التجارة هي تقليب المال»(2) أو «التصرّف فيه»(3) و هو المناسب لآية التجارة(4).

و ما يقال: «من أنّ التاجر أخصّ؛ لعدم صدقه على مجرّد من يصدر منه البيع»(5) في غير محلّه، كما يظهر بأدنى تأمّل.


1- لاحظ البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 58 62.
2- أقرب الموارد 1: 74.
3- المفردات، الراغب الأصفهانيّ: 73.
4- النساء( 4): 29.
5- البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 56.

ص: 89

هذا مع أنّ «البيع» بحسب اللّغة هو «الأخذ و الإعطاء على وجه الثمنيّة و المثمنيّة»(1) و حقّقنا في محلّه أنّ عقد البيع ليس من الإضافة البيانيّة، بل هو معناه العقد على البيع و التقابض، فالعاقدان ليسا بالخيار، و تفصيله في كتابنا الكبير، و تصير النتيجة أنّ الموكِّلين ربّما يعدّان تاجرين، كما في الفرض المزبور.

نعم، الوكيل على التجارة و الأخذ و الإعطاء بالخيار، دون الموكِّل، فاغتنم.

و بعبارة أوضح: اختصّ الخيار بالمعاطاة التي هي لازمة حسب الأصل المحرّر، و أمّا عقد البيع فلا يجري فيه الخيار؛ سواء قلنا: بأنّه لازم، أم قلنا: بأنّه جائز، نعم إذا حصل الأخذ و الإعطاء فلهما الخيار.

ثمّ إنّ مقتضى إطلاق المتن ثبوت الخيار في المعاوضات، بل و في الفضوليّ، إلّا أنّ انصراف الأدلّة عنه قوي، كما ادّعاه- مدّ ظلّه(2).

نعم، فيمن باع لنفسه فأجاز المالك البيع للفضوليّ، فالأقرب عندي ثبوته، و يظهر وجهه بأدنى تأمّل إن شاء اللَّه تعالى.


1- أقرب الموارد 1: 70.
2- البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 78.

ص: 90

فإذا افترقا و لو بخطوة (1)، و تحقّق بها الافتراق عرفاً، قوله مدّ ظلّه: «و لو بخطوة».

كما في «الخلاف» و فيه أنّ الشافعيّ أرجع إلى العادة، و قسّم أقساماً(1).

و يظهر من «التذكرة»(2) و نسب إلى جماعة؛ أنّه يكفي أدنى الانتقال(3).

و قال الشيخ (رحمه اللَّه): «و يظهر من بعض اعتبار الخطوة؛ اغتراراً بتمثيل كثير من الأصحاب لأقلّ الافتراق، و عن صريح جماعة التأمّل في كفاية الخطوة؛ لانصراف الإطلاق إلى أزيد منها(4)، و قيل «إنّه الظاهر من الأخبار(5) الحاكية لفعل الباقر (عليه السّلام) حيث مشى خطىً»(6).

و يظهر من بعضهم كفاية أقلّ الجمع؛ و هي الثلاث:

و عن صاحب «الكفاية» أنّ العبرة بالافتراق المطلق، لا مطلق الافتراق(7)؛ لعدم تماميّة مقدّمات الحكمة بعد كون نظر العرف إلى عدم كفاية مطلق الافتراق تبعاً.


1- الخلاف 3: 21، المسألة 26.
2- تذكرة الفقهاء 1: 517/ السطر 29.
3- تحرير الأحكام 1: 165/ السطر 29، مسالك الأفهام 3: 196.
4- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 222/ السطر 14.
5- وسائل الشيعة 18: 8، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 2، الحديث 2 3.
6- مجمع الفائدة و البرهان 8: 384.
7- حاشية المكاسب، المحقّق الخراساني: 168.

ص: 91

و الذي هو التحقيق: أنّ المسألة حيث لا تكون إجماعيّة، و لا علميّة و تعبديّة، تكون موكولة إلى العرف، و قد تقرّر في محلّه أنّ المرجعيّة متقسّمة بين العوامّ و الأعلام، فإنّ للعوامّ أن يقلّدوا الأعلام في الأحكام الشرعيّة، و للأعلام أن يراجعوا العوامّ في المفاهيم الإفراديّة اللغويّة العرفيّة(1).

ثمّ إنّ ما هو المتّبع هي الآراء العرفيّة الدقيقة، لا التسامحيّة و التدقيقات العقليّة، كما تحرّر أيضاً مراراً منّا في محالّه(2)، و كثير من الاختلافات المرئيّة في تشخيص العرف، مستند إلى الخلط بين العرف المسامح و المحقّق.

نعم، اختلف الأُصوليّون في أنّ المرجعيّة في التطبيق و التصديقيّات، للعرف و العوامّ أيضاً، أم هي للعقل، فذهب جمع إلى الأوّل، و فيهم المصنّف- مدّ ظلّه(3) و آخرون إلى الثاني، و فيهم صاحب «الكفاية»(4) و «التقريرات»(5).


1- تحرير العروة الوثقى: 32، تعليقة على العروة الوثقى: 41.
2- تحريرات في الأُصول 1: 224.
3- مناهج الوصول 1: 231، تهذيب الأُصول 1: 128.
4- كفاية الأُصول: 77.
5- فوائد الأُصول 4: 574.

ص: 92

سقط الخيار (1) من الطرفين و لزم البيع، و الذي هو المحرّر عندي: أنّ الفقهاء العظام لا يليق بهم إلّا توجيه الناس نحو الأحكام؛ و حدود المداخلات الشرعيّة في الموضوعات العرفية، و أمّا التعرّض لتعيين المصاديق و الحدود اللغويّة، فهو ربّما ينتهي إلى الإغراء بالجهالة، و الإلقاء في الهلكة؛ ضرورة أنّ آراءهم في مفهوم «الافتراق» غير لازمة الاتباع، فلو عيّنوا حدّه يحذو حذوهم العقلاء المقلّدة؟! مع أنّ الأمر بالعكس، و لذلك ترى أنّ رواياتنا بأسرها خالية عن تعيين حدود الموضوعات، و كانوا (عليهم السّلام (يوكلون هذه المرحلة إلى الناس حسب عقولهم، فالبحث عن هذه المفاهيم من اللغو المنهي عنه، و ربّما يكون خلاف الاحتياط جدّاً، و لذلك قال- مدّ ظلّه: «و تحقّق بها الافتراق عرفاً».

قوله مدّ ظلّه: «سقط الخيار».

اتفاقاً قطعيّاً(1) في مفروض كلامه، حيث إنّ الظاهر منه افتراقهما معاً.

و لو فارق أحدهما، و بقي الآخر، فربّما يقال: بأنّهما أيضاً افترقا؛ لأنّ البقاء في المحلّ بالاختيار افتراق إرادي، فيصحّ إسناد «الفراق» إليهما كما عن الفخر(2)؛ نظراً إلى علّة عليلة.

و قد أصرّ المصنّف- مدّ ظلّه على أنّ النسبة صادقة؛ لأنّ مادّة


1- مفتاح الكرامة 4: 542/ السطر 18.
2- إيضاح الفوائد 1: 482.

ص: 93

«الافتراق» و إن لا تقتضي شيئاً إلّا نفس الطبيعة، و لكن هيئة باب «الافتعال» للمطاوعة، فلو فارق أحدهما الآخر يكون الآخر مفترقاً بقبول الفراق، فيسقط الخيار في جميع الفروض بافتراقهما؛ سواء أُخذ أحدهما في الفراق، أو أُخذا معاً فيه، و سواء فيه الافتراق الإكراهيّ و غيره، بل لا يجري في المطاوعة الإكراه.

نعم، يتصوّر الإكراه بالنسبة إلى البقاء في المجلس.

و قد يظهر هذا أيضاً من الفقيه اليزدي (قدّس سرّه)(1) و العلّامة الإيروانيّ (قدّس سرّه)(2).

و بالجملة: من قوله- مدّ ظلّه: «من الطرفين» يظهر أنّ النظر في قوله: «و لو افترقا» أي و لو افترق كلّ منهما سقط عنهما، و أمّا أنّ سقوط خيار الطرف مستند إلى أنّ افتراق الآخر غاية خيارهما، أو أنّ افتراق كلٍّ غاية خيار نفسه فهو أمر آخر، و لكن لا يلزم في صدق «الافتراق» على الآخر أن يتصدّى للافتراق بالفاعليّة.

و الذي هو التحقيق: أنّ لهيئة باب «الافتعال» معاني، و منها المطاوعة، و كثيراً ما تجي ء لغير المطاوعة، و منها قوله تعالى:


1- حاشية المكاسب، السيّد اليزدي 2: 14/ السطر 11.
2- حاشية المكاسب، المحقّق الإيرواني 2: 14/ السطر 11.

ص: 94

لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ(1).

و قوله تعالى عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ(2).

و قوله تعالى اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ(3).

و منه «اجتذب» بمعنى جذب، و «احتسب» بمعنى حسب، و هكذا ممّا يطّلع عليه الخبير البصير.

و دعوى: أنّ الأظهر من معانيه غير المطاوعة قريب. و في مادّة «الافتراق» قالوا: «هو ضدّ اجتمعوا» مع أنّ الاجتماع يحصل بفعلهم، و لا ينبغي الخلط بين اللازم و المطاوعة. و لو شكّ في المسألة، فلا يتمّ ما سلكه أيضاً، و لا بدّ من التمسّك بالأُصول، و هي مختلفة، فتأمّل.

ثمّ إنّ الظاهر من المطاوعة أنّ الفاعل غير القابل، مع أنّهم غير ملتزمين به كما هو الواضح.

و ربّما يؤيّد المطاوعة: أنّ الأخبار المتضمّنة لخيار المجلس عن طريق العامّة، كلّها مشتملة على «التفرّق»(4) و هو أيضاً للمطاوعة.

و فيه ما مرّ، فإنّ باب «التفعّل» يجي ء لغير المطاوعة؛ على وجه


1- البقرة( 2): 286.
2- القمر) 54): 55.
3- الجاثية) 45): 21.
4- صحيح البخاري 3: 136، كتاب البيوع، الباب 220 225.

ص: 95

لا يمكن أن يحمل عند الشكّ على المطاوعة، و منه قوله تعالى فَتَبَيَّنُوا(1) و تَفَسَّحُوا(2) و أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ*(3) و غير ذلك. و لعمري إنّ ما قرع سمعهم الشريف كان من عهد صباهم رحمهم اللَّه تعالى.

ثمّ إنّ الظاهر من المتن و من إطلاقه؛ أنّ الافتراق بما هو هو سبب سقوط الخيار.

و ما قيل: «من أنّ المسقط هو الالتزام القلبيّ، و الافتراق كاشف عنه نوعاً، فأُسند إليه لأجله»(4) غير صحيح، و أنّ الرضا ليس شرطاً و قيداً، فلو حصل الافتراق و إن لم يكن عن رضاهما، يسقط الخيار.

إن قلت: هذا خلاف معتبر الفضيل، عن ابي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا، فإذا افترقا فلا خيار بعد الرضا منهما»(5).

فإنّ الظاهر أنّ الافتراق المتقيّد بالرضا مسقط، و نتيجة التقييد المزبور عدم كفاية الافتراق الإكراهيّ و السهوي و الذي يحصل عن جهل


1- النساء( 4): 44، الحجرات) 49): 6.
2- المجادلة) 58): 10.
3- النساء( 4): 82، محمّد) 47): 24.
4- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 222/ السطر 31.
5- الكافي 5: 170/ 6، وسائل الشيعة 18: 6، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 1، الحديث 3.

ص: 96

و عن إطارة الريح. بل لازم الجمع بينه و بين الأخبار الحاكية لفعل الباقر (عليه السّلام)- حيث إنّه (عليه السّلام) أسرع في المشي و الخروج عن المجلس، ليجب البيع حين الافتراق(1)، مع أنّ الطرف حسب الظاهر كان باقياً، و ربّما لم يكن راضياً أنّ افتراق أحدهما إذا كان مقروناً برضاه، هو غاية سقوط الخيارين.

و بذلك يجمع بين هذه الطائفة و المطلقات؛ بأنّ افتراقهما مسقط للخيارين، و افتراق أحدهما أيضاً يورث سقوط الخيارين إذا كان عن الرضا المقرون به.

قلت: لهذه المسألة تفصيل طويل الذيل تعرّضنا له بشقوقه المحتملة في كتابنا الكبير، و قد أعرض المصنّف عن الرواية؛ معلّلًا بأنّها مجملة، لما تحتمل احتمالات من ناحية التقييد بالرضا، و من ناحية التقييد بقوله (عليه السّلام): «بعد الرضا» و من جهة أنّ تقييد تلك المطلقات بها يستلزم الغلط، و لا تكون المسألة من باب حمل المطلق و المقيّد؛ ضرورة أنّ المطاوعة إذا قيّدت بالرّضا، ترجع إلى غير المطاوعة(2).


1- وسائل الشيعة 18: 8، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 2، الحديث 1 و 2 و 3.
2- البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 165 167.

ص: 97

و قد أجبنا عن هذه المناقشات هناك بما لا مزيد عليه، و ذكرنا أنّ المنظور من هذه الرواية- بعد الجمع بينها و بين غيرها هو أنّ التفرّق الإكراهيّ لا أثر له، و كأنّ العامّة كانوا يتمايلون- حسب أخبارهم إلى كفاية مطلق الافتراق، و هو أحد قولي الشافعيّة(1)، و ربّما كان هو في عصر الرواية أظهر و أشهر، فتكون ناظرة إلى مقالتهم الفاسدة، و لذلك ذهب المشهور- المدعى عليه الإجماع إلى بقاء الخيار إذا كان الافتراق إكراهيّاً(2).

و يحتمل الحمل على التقيّة؛ لما أنّ القول الآخر مشهور عندهم، بل لم ينسب إليه في «الفقه على المذاهب الأربعة» إلّا بقاء الخيار إذا افترقا عن كره(3)، فليتأمّل جيّداً.

و بعد اللتيّا و التي تكون الرواية من جهة موافقتها لمذهب العامّة مطروحة، و لأجل ذهاب المشهور إلى مضمونها مأخوذة، و فيما دار الأمر بينهما تقتضي الصناعة بقاء الخبر على حجّيته؛ لتعارضهما.

اللهمّ إلّا أن يقال: بتقدّم الموافقة على المخالفة لتقدّمها في


1- تذكرة الفقهاء 1: 518/ السطر 13، المجموع 9: 181 182.
2- جواهر الكلام 23: 9.
3- الفقه على المذاهب الأربعة 2: 172.

ص: 98

و لو فارقا مجلس البيع مصطحبين بقي الخيار. (1) الأخبار العلاجيّة(1) أوّلًا، و لأنّ الشهرة تزيل موضوع المراجعة إلى المرجّحات، فتأمّل.

قوله مدّ ظلّه: «بقي الخيار».

بلا خلاف معتد به بين المسلمين(2)، نعم عن بعض الشافعيّة غريبة في المسألة(3).

و يمكن المناقشة فيه أوّلًا: بالانصراف.

و ثانياً: بأنّ الظاهر من «افترقا» هو أن يفترق كلّ عن الآخر بالقياس إلى أمر ثالث؛ و هو مجلس البيع.

و ثالثاً: أنّ السقوط مقتضى التسمية، و إلّا كان ينبغي أن يسمّى ب «خيار الاجتماع» و لازم ذلك عدم ثبوت الخيار إذا كان البيع حال المشي؛ لما لا مجلس للبيع.

و أنت خبير بما في جميع هذه التخيّلات؛ بعد تماميّة الإطلاقات، و التسمية- بعد تصريحهم ببقاء الخيار كدعوى الانصراف لا تنفع شيئاً.


1- وسائل الشيعة 27: 106، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي و ما يجوز أن يقضى به، الباب 9.
2- مفتاح الكرامة 4: 542/ السطر 13.
3- تذكرة الفقهاء 1: 517/ السطر 26، المجموع 9: 180/ السطر 9.

ص: 99

و قضيّة إطلاق المتن بقاء الخيار و لو كانا متلاصقين، أو كان البيِّع و المشتري واحداً شخصيّاً يتولّى طرفي العقد. و عدم إمكان طروّ المسقط من ناحية الافتراق لا ينافي ثبوته؛ لإمكان إسقاطه بسائر المسقطات، كما لا يخفى.

و الإنصاف: أنّ المتن كما يكون منصرفاً عن الفرضين الأخيرين، تكون الأخبار مثله، و لا سيّما بشهادة قوله (عليه السّلام): «فإذا افترقا وجب البيع»(1) فإنّه يشهد على أنّ مصبّ الخيار مخصوص بما إذا أمكن التفرّق، ضرورة أنّ كلمة: «إذا» الشرطيّة موضوعة عند النحاة للشرط الذي يتحقّق(2)، فاغتنم.

و من هنا يظهر وجه كون المتبايعين بالهاتف و نحوه- و لو رأيا صورتهما بالخيار، كما لو تناديا من بعيد، و يظهر أيضاً وجه المناقشة؛ لأنّ افتراقهما حاصل. و دعوى إمكان الافتراق و لو بأن يقتربا ممكنة، و لكنّها مخدوشة.

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ الافتراق و البعد ذوا مراحل قريبة و بعيدة، كما ينبئ عنه العارف الهمدانيّ بقوله:


1- الكافي 5: 170/ 7، وسائل الشيعة 18: 6، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 1، الحديث 4.
2- مختصر المعاني في شرح تلخيص المفتاح 1: 139.

ص: 100

كه اين دوري بس يا دورتر شم

(1) و عليه يثبت الخيار، و يسقط بافتراقهما بإيجاد البعد الأكثر، فتدبّر.


1- قال بابا طاهر الهمداني ما هذا لفظه: بشم از حاجيان حج بپرسم كه اين ديرى بسه يا ديرتر شم

ص: 101

[الثاني: خيار الحيوان]
اشارة

الثاني: خيار الحيوان فمن اشترى حيواناً ثبت له الخيار (1) إلى ثلاثة أيّام قوله مدّ ظلّه: «ثبت له الخيار».

إجماعاً و بلا خلاف بين أصحابنا الإماميّة(1)، و يظهر أنّه من مختصّاتنا الثابتة بالنصّ الحاكي عن رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم)(2) و الأخبار المرويّة عن أئمّتنا المعصومين (عليهم السّلام)(3) و سيأتي أنّ في الحيوان خياراً يمتد إلى ثلاثة أيّام، و هو غير خيار المجلس(4).

نعم، اختار المصنّف في درسه أنّ خيار المجلس لا يأتي في الحيوان(5)، و به يقول الفقيه اليزدي (قدّس سرّه)(6) و العلّامة الإيروانيّ (رحمه اللَّه)(7) فيكون إطلاق ما مرّ في الخيار السابق ممنوعاً، و هو عندنا غير جيّد.

ثمّ إنّ قضيّة إطلاق المتن ثبوت الخيار في مطلق الحيوان، إلّا أنّ قوله- مدّ ظلّه: «حيواناً» ربّما يشعر بممنوعيّة جريانه في الكلّي، كما منعه


1- مفتاح الكرامة 4: 553/ السطر 1، جواهر الكلام 23: 23.
2- الكافي 5: 170/ 5، وسائل الشيعة 18: 5، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 1، الحديث 1 و 2.
3- وسائل الشيعة 18: 10، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 3.
4- يأتي في الصفحة 105 106.
5- البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 94 95 و 183 185.
6- حاشية المكاسب، السيّد اليزدي 2: 17/ السطر 28.
7- حاشية المكاسب، المحقّق الإيروانيّ 2: 17/ السطر 14.

ص: 102

من حين العقد. (1) جمع(1)، و يقوى في النظر جريانه في الكلّي في المعيّن، لا المقيّد، فإنّه غيره كما تحرّر في محلّه.

و لو كان يموت قبل ثلاثة أيّام، و كانت حياته غير مقصودة بالبيع، ففي جريان الخيار وجهان؛ منعه في مجلس بحثه(2)، و لذلك لا يكون تلفه من التلف قبل القبض، و لا يكون إتلافه مورث الضمان.

و لكنّه بمعزل عن التحقيق؛ قضاءً للإطلاقات، و لأنّ خيار الحيوان ليس قصديّاً، و إلّا يلزم إنكاره فيما إذا اشترى الحيوان مكيلًا أو موزوناً باعتبار اللّحم، كما هو المتعارف في بيع الشاة بين جمع من القصّابين. و في المسألة بالنسبة إلى الحيوانات الخاصّة دعاوي الانصراف كثيرة، يطلب تفصيلها من كتابنا الكبير.

قوله مدّ ظلّه: «من حين العقد».

على المشهور المعروف المدّعى عليه الإجماع(3).

و عن ابن زهرة حكاية كون المبدأ فيه بعد التفرّق من مجلس


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 224// السطر 19 20، البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 177.
2- لاحظ البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 176.
3- جواهر الكلام 23: 23، لاحظ مفتاح الكرامة 4: 553/ السطر 1.

ص: 103

البيع(1)؛ أي بعد سقوط خيار المجلس.

و يؤيّده- مضافاً إلى الأصل لو شكّ فيه أنّ خيار الحيوان مجعول بعد خيار المجلس، فتكون أخباره منصرفة إلى العقد اللّازم؛ لما لا حاجة إلى جعل الخيار ثانياً، فيكون المبدأ من حين اللزوم؛ و هو الافتراق، و أنّ مقتضى جمع من الأخبار أنّ تلف الحيوان من مال البائع(2)، و لو كان المشتري له الخيار فالتلف منهما؛ لأنّ التلف في زمان الخيار المشترك ليس من مال البائع، و في زمان الخيار المختصّ من مال من لا خيار له.

هذا مع أنّ الأدلّة و لو كانت بحسب الظاهر تقتضي كون المبدأ حين العقد؛ لأنّه مبدأ الاتصاف بالصاحب، و لكن قضيّة العقل- و هو امتناع جريان الخيار الثاني في البيع الخياري هو مبدئيّة الافتراق؛ ضرورة أنّ العقد لا يقبل التزلزل مرّتين، كما لا يقبل اللزوم مرّتين، و لا يعقل أن يترشّح الجدّ من الجاعل بعد كونه خياريّاً، و هذا هو المراد من «اجتماع السّببين على مسبّب واحد».

و أمّا إذا أُريد منه اجتماع الخيارين على العقد الواحد، فهو ليس من اجتماع السببين؛ لأنّه لا منع من أن يكون له خياران، و لكنّه في مقام


1- الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 525/ السطر 33 34.
2- وسائل الشيعة 18: 14، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 5.

ص: 104

الإعمال لا يستفيد إلّا من واحد منهما، فتأمّل.

ثمّ إنّه يلزم أيضاً اجتماع المثلين في العقد، و هو محال كاجتماع الضدّين.

و أنت خبير: بأنّ هذه الشبهات و إن كانت حسبما قرّرناه قويّة، و لا يكون جواب القوم عنها كافياً، إلّا أنّه مندفعة بما تحرّر تفصيله.

و إجماله: أنّ العقد الخياري ليس متزلزلًا عندنا، بل الخيار آلة لهدم العقد أعطاها الشرع أو العقلاء، و لو لا اللزوم الموجود في الاعتبار الثابت للعقد، لما كان لاعتبار الاختيار و الاقتدار على حلّ العقد وجه صحيح. و أنّ النسبة بين خيار المجلس و الحيوان- بحسب المصبّ عموم من وجه و عندئذٍ يمكن ترشّح الإرادة الجاعلة بعد كون الخيار المجعول متّصفاً بقيد آخر؛ و إن كانت الخيارات واحدة بالطبيعة، إلّا أنّها في مرحلة الجعل تصنّف؛ فيكون أحدها خيار المجلس، و الآخر حيواناً .. و هكذا.

و حديث اجتماع السببين على مسبّب واحد، ينحلّ- على تقدير صحّته الإجماليّة بأنّ العقد يمكن إزالته و إعدامه بخيارين و اقتدارين؛ لأنّ السببيّة ليست واقعيّة، بل هي اعتباريّة، فيصحّ أن ينحلّ العقد بهما، كما ربّما يقتل شخص بالآلتين العَرْضيّتين اللتين كان يكفي كلّ واحدة منهما للقتل، فلا تخلط.

ص: 105

و على ما ذكرنا من اختلاف مصبّ الخيارين بالإضافة، يظهر عدم لزوم اجتماع المثلين. مع أنّ اجتماع الضدّين و المثلين في الأحكام الشرعيّة الاعتباريّة، ليس ممتنعاً ذاتاً، بل امتناعه يرجع إلى امتناع تمكّن المولى من الجعل، فتأمّل تعرف.

فتحصّل لحدّ الآن: أنّ مبدأ الخيار هو العقد.

نعم، إذا قلنا: بأنّ خيار المجلس لا يجري في بيع الحيوان، فلا يتوجّه إشكال، و يكون حلّ المشاكل بإنكار المبنى و الأساس أسهل و لأجل هذه الشبهات، و طائفةٍ من الآثار- و أظهرها قوله (عليه السّلام) في معتبر محمّد بن مسلم: «المتبايعان بالخيار ثلاثة أيّام في الحيوان، و فيما سوى ذلك من بيع حتّى يفترقا»(1) ذهبوا إلى أنّ خيار المجلس مخصوص بما سوى الحيوان(2)؛ ضرورة أنّ الظاهر منه هو أنّه (عليه السّلام) اعتبر الخيار الواحد في الحيوان إلى كذا، و في غيره إلى كذا.

و أنت خبير: بأنّ الخيار المجعول إلى ثلاثة هو خيار الحيوان، و هذا المجعول لا يعقل أن يكون لغير الحيوان إلى أن يفترقا، فما هو


1- تهذيب الأحكام 7: 23/ 99، وسائل الشيعة 18: 10، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 3، الحديث 3.
2- مفتاح الكرامة 4: 554/ السطر 28، جواهر الكلام 23: 28.

ص: 106

و في ثبوته للبائع أيضاً إذا كان الثمن حيواناً إشكال، (1) المجعول في الحيوان غير ما هو المجعول في غير الحيوان، و حينئذٍ لا ينعقد ظهور لفظيّ للتقييد بالنسبة إلى المطلقات الناطقة بثبوت خيار المجلس للبيّعين إلى أن يفترقا، فليتأمّل جيّداً.

هذا مع أنّ هذا الخبر مورد المناقشة و الإجمال من جهات مختلفة؛ و إن فرغنا عن إجماله بتوضيحات في الكتاب الكبير، و ظهورُه في ثبوت الخيار للبائع و لو كان الثمن نقداً مورد الإعراض، كما سيظهر توضيحه إن شاء اللَّه تعالى(1). هذا كلّه حول ما قيل.

و الذي قويّناه: هو أنّ مبدأ الخيار في المعاطاة بعد نقل الحيوان إلى المشتري، و في غيرها بعد حصول القبض، نعم قبض الوكيل يكفي(2).

قوله مدّ ظلّه: «إشكال».

أما إذا كان الثمن غير حيوان، فقد ذهب معظم أصحابنا الأقدمين- كالشيخين(3)، و الصدوقين(4)، و الإسكافيّ(5)، و ابن حمزة(6) و كثير آخرون


1- يأتي في الصفحة 108 109.
2- تقدّم في الصفحة 89.
3- المقنعة: 592، المبسوط 2: 78.
4- لاحظ مفتاح الكرامة 4: 554/ السطر 3 و المكاسب، الشيخ الأنصاري: 224/ السطر 21.
5- لاحظ مختلف الشيعة: 350/ السطر 21.
6- الوسيلة: 248.

ص: 107

كما في «المقابيس»(1) إلى عدمه، و هو المعروف بين المتأخّرين(2)، و عليه الإجماع المحكيّ عن «الغنية»(3) و ظاهر «الدروس»(4).

و لعلّه هو رأي السيّد في «الانتصار»(5) و ما نسب إليه فيه من أنّه يقول بثبوت الخيار له(6)، غير محرز. و يشهد لما احتملناه دعواه الإجماع، مع أنّه بلا وجه جدّاً؛ لعدم القول بخيار الحيوان بين المخالفين أصلًا، و لذهاب الطائفة إلى عدمه للبائع في هذه المسألة.

و يؤيّد ما نسب إليه ما أُشير إليه آنفاً؛ و هو معتبر محمّد بن مسلم الظاهر فيه.

و ما قيل: «من أنّ المتبايعين في الحيوان معناه التبايع فيه، فيكون الثمن أيضاً حيواناً» كما في «الوسائل»(7) و هو مختار المصنّف في درسه(8)،


1- لاحظ مقابس الأنوار: 243/ السطر 31.
2- جامع المقاصد 4: 291، مجمع الفائدة و البرهان 8: 391، جواهر الكلام 23: 24.
3- هذه العبارة سقط من الغنية المطبوعة في ضمن الجوامع الفقهية راجع إلى سلسلة الينابيع الفقهية 13: 211.
4- الدروس الشرعية 3: 272.
5- الانتصار: 207.
6- نَسَبَ إليه الشيخ الأنصاري في المكاسب: 224/ السطر 29.
7- وسائل الشيعة 18: 10، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 3، ذيل الحديث 3.
8- البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 180.

ص: 108

غير موافق لقوله (عليه السّلام): «و فيما سوى ذلك» فإنّ الظاهر من قوله: «سوى ذلك» هي الحنطة و الشعير و العناوين الذاتيّة، و الضرورة قاضية بعدم لزوم المماثلة في خيار المجلس بين الثمن و المثمن.

هذا مع أنّ الظاهر من الخبر هو أن خيار الحيوان منحصر في المتبايعين في الحيوان، و أنّ تمام الموضوع لخيار الحيوان هو المتبايعان، مع أن الأمر ليس كذلك، و حمل كلام الإمام (عليه السّلام)- بعد كونه ملقى بدواً من غير سؤال على بيان فرع من فروع المسألة، غير تامّ جدّاً.

فحجيّة السند بعد هذه الغائلة ممنوعة، مع ما مرّ: من أنّ قوله (عليه السّلام): «و فيما سوى ذلك من بيع حتّى يفترقا» لا يخلو عن الإجمال؛ لأنّ الصدر كان يكفي عن هذا التقييد، و قد أوضحناه حلّا لهذه المشكلة في محلّه، فراجع.

و من الغريب ما في كلام الشيخ الأعظم (قدِّس سرُّه) من تأييد هذا الخبر(1)؛ و أنّه لا يعارضه معتبر ابن رِئاب!! مع أن معتبر ابن رِئاب صريح في أنّ الخيار ليس للبائع، قال: سألت أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) عن رجل اشترى جارية، لمن الخيار للمشتري، أو للبائع، أو لهما كليهما؟

فقال: «الخيار لمن اشترى ثلاثة أيّام نظرة، فإذا مضت ثلاثة أيّام فقد وجب الشراء»(2).


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 224/ السطر 31.
2- قرب الإسناد: 78، وسائل الشيعة 18: 12، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 3، الحديث 9.

ص: 109

بل عدمه لا يخلو من قوّة. (1) فلو كان يمكن الجمع بين هذه الأخبار، لكان حمل خبر محمّد بن مسلم على غير مورد خبر ابن رئاب معيّناً.

و بالجملة: الأخبار(1) متعاضدة في صراحتها على اختصاص الخيار بالمشتري، و أنّ البائع إذا كان الثمن غير حيوان لا خيار له، و قضيّة المعارضة ترجيح جانب المشهور؛ لما أنّ الأخبار مشهورة و لأنّ إنكار الخيار للبائع مطابق للكتاب(2)، فتأمّل.

و يمكن أن يقال: بأنّ هذه الأخبار بصدد حصر خيار الحيوان بالمشتري، في مقابل سائر المعاملات و المعاوضات، فيكون ظاهر خبر محمّد بن مسلم، معارضاً مع صريح ابن رِئاب، و لكن قوّة السند الأوّل تترجّح مع كونه في الكتب الأربعة. و لا يخفى ما فيه.

قوله: «من قوّة».

وفاقاً لظاهر المشهور(3)، و خلافاً لجمع من المتأخّرين، و منهم الفقيه الأصفهانيّ (قدّس سرّه)(4) و للمصنّف في درسه(5)، حيث قوّى جريانه في مبادلة


1- وسائل الشيعة 18: 10، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 3 4.
2- المائدة( 5): 1.
3- جواهر الكلام 23: 24، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 224/ السطر 20.
4- وسيلة النجاة 2: 18.
5- البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 180 183.

ص: 110

الحيوان بالحيوان؛ قضاءً لمعتبر محمّد بن مسلم السابق، و أنّ الأخبار الناطقة بأنّ خيار الحيوان للمشتري، في مقابل نفى الخيار عن البائع في البيوع المتعارفة؛ و هو بيع الحيوان بغير الحيوان، أو بالنقد، فيكون قوله (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم): «و صاحب الحيوان ..»(1) مأخوذاً إطلاقه، فيكون البائع بالخيار إذا كان صاحب الحيوان.

و أمّا معتبر ابن فضّال قال: سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السّلام) يقول: «صاحب الحيوان المشتري بالخيار ثلاثة أيّام»(2) ففيه احتمال القراءتين: الفتح، و الكسر، و على هذا يحتمل كونه قيداً محقّقاً للموضوع، و لا مفهوم له.

و لا يخفى حزازته، هذا مع أنّ الاحتمال المزبور يأتي على القراءتين، فيكون الخبر دافعاً لاحتمال كون صاحب الحيوان بالإرث بالخيار.

نعم، احتمال كونه في مقام ردّ احتمال سريان خيار الحيوان في غير البيع و الشراء، فيكون له المفهوم من هذه الجهة، لا يخلو عن بأس.

و لكنّ الإنصاف: أنّ هذه الرواية ناظرة إلى قوله (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم (بإيراد القيد فيه، و لا يكون هنا احتمال إلّا احتمال كون البائع الصاحب بالخيار فدفعه.


1- الكافي 5: 170/ 5، وسائل الشيعة 18: 5، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 1، الحديث 1 و 2.
2- تهذيب الأحكام 7: 67/ 287، وسائل الشيعة 18: 10، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 3، الحديث 2.

ص: 111

و أمّا توهّم: أنّ الاختصاص خلاف المذاق الظاهر من الأخبار، و خلاف المناسبات بين الحكم و الموضوع(1)، فهو قويٌّ جدّاً، و لكن إذا تأمّلنا في أن تقنين القوانين الكلّية، ربّما يكون بلحاظ الملاحظات الخاصّة التي هي حاصلة في المسائل المبتلى بها نوعاً، دون الموضوعات النادرة في جنبها، مثلًا تحريم الربا في البيع لأجل المفاسد، و لكن لا بأس بتحليله في غيره مثلًا كالصلح و نحوه؛ لأجل قلّة وجوده، فإنّ المفسدة المترتبة على قليل الوجود لا يهمّ الشرع دفعها.

و هكذا فيما نحن فيه، فإنّ التوسعة المقصودة هنا على المشتري، مورد اهتمام الشرع، دون البائع؛ لندرة كونه صاحب الحيوان، و لا يصحّ قياس منطقة الصدور في مثل القوانين الإسلاميّة التي جاءت لعائلة البشر في جميع الأعصار و الأمصار. و ينبغي أن تدقّقوا النظر في هذه المسألة؛ فإنّها تنفعكم في الفقه كثيراً، و تستلزم المحاسن الكثيرة كما لا يخفى.

و بناءً على هذا، يكون قوله (عليه السّلام): «و صاحب الحيوان المشترى ..» على القراءتين مورث القيد أيضاً؛ لأنّه ناظر إلى ما صدر عنه (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم (كما هو الظاهر.


1- لاحظ البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 183.

ص: 112

[مسألة 1: لو تصرّف المشتري في الحيوان تصرّفاً يدلّ على الرضا]

مسألة 1: لو تصرّف المشتري في الحيوان تصرّفاً يدلّ على الرضا دلالة نوعيّة، و يكشف عنه كشفاً غالبيّاً، سقط خياره (1)، مثل نعل الدابّة، و أخذ حافرها، و قرض شعرها، و صبغها، بل و صبغ شعرها، إلى غير ذلك.

قوله مدّ ظلّه: «سقط خياره».

في مفروض المتن سقوط الخيار لعلّه القدر المتيقّن من الإجماع المحكيّ عن «التذكرة»(1) و هو صريح المحكيّ عن عبائر جمع من القدماء(2)؛ بناءً على أن يكون المراد من التصرّف المزبور- بضميمة الأمثلة المزبورة هو إحداث الحدث.

و المهمّ في المسألة نصوصها الناطقة: كمعتبر الصفّار بأنّه «إذا أحدث فيها حدثاً فقد وجب الشراء إن شاء اللَّه تعالى»(3).

و في معتبر ابن رِئاب: «فإن أحدث المشتري فيما اشترى حدثاً قبل الثلاثة الأيّام، فذلك رضاً منه، فلا شرط ..»(4).

فإنّ المستفاد من أخبار المسألة بدواً؛ هو أنّ الالتزام و الرضا بالعقد


1- تذكرة الفقهاء 1: 519/ السطر 8.
2- المقنعة: 599، الوسيلة: 248، النهاية: 408، السرائر 2: 280.
3- تهذيب الأحكام 7: 75/ 320، وسائل الشيعة 18: 13، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 4، الحديث 2.
4- الكافي 5: 169/ 2، وسائل الشيعة 18: 13، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 4، الحديث 1.

ص: 113

يلازم سقوط الخيار و لزومَ البيع، و ما يكون من الأحداث دليلًا عليه يكون مسقطاً، إلّا في صورة القطع بالخلاف.

و بالجملة: يتمّ ما في المتن؛ بناءً على كفاية الالتزام و الرضا، و أنّ الأخبار في المسألة ليس لها الإطلاق؛ حتّى يلزم منه أن مطلق التصرّف مسقط، أو الحدث غير الكاشف مسقط، بل الأخبار في موقف بناء العقلاء بحسب الصغرى؛ بعد تماميّة الكبرى المشار إليها، فلا تعبّد جديد من الشرع في هذه الناحية؛ و لو كان أصل خيار الحيوان تعبدّياً.

و يدلّ على أنّ الكبرى ممنوعة: معتبر السكونيّ عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام): «أنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) قضى في رجل اشترى ثوباً بشرط إلى نصف النهار، فعرض له ربح فأراد بيعه.

قال: ليشهد أنّه قد رضيه فاستوجبه، ثمّ ليبعه إن شاء، فإن أقامه في السوق و لم يبع فقد وجب عليه»(1).

فانّ مقتضاه و قضيّة القاعدة؛ هو أنّ الخيار لا يسقط إلّا بأمر تسبيبي يتسبّب به إليه، كسائر الأُمور الإنشائيّة، فلو كان معتبر ابن رِئاب دليلًا على كفاية الرضا، فهو يقيّد بهذا الخبر.


1- الكافي 5: 173/ 17، وسائل الشيعة 18: 25، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 12، الحديث 1.

ص: 114

و على أنّ الصغرى غير صحيحة: أنّ حمل المطلق في مكاتبة الصفّار على صورة الحدث الخاصّ المقرون بالالتفات، حمل على النادر، و خلاف ما ذهب إليه المشهور و دلّ عليه النصّ؛ من أنّ التقبيل و النظر و اللّمس حدث(1)، فإنّه و لو كان حدثاً، و لكنّه لا يلازم كونه كاشفاً نوعيّاً، فعلى هذا ما في المتن غير تامّ كبرى و صغرىً.

و الذي هو الأقرب: أنّ مسألة الخيار لا يسقط إلّا بالإسقاط، و أمّا المسقط فلا يعتبر أن يكون قولًا أو فعلًا- بل قد تحرّر منّا في محلّه؛ عدم اعتبار السببيّة العقلائية في التسبّب إلى الإسقاط- غير مسألة أنّ الحدث المستند إلى المشتري بما هو هو، هل يكون مورثاً للسقوط تعبّداً، أم لا؟

و ما هو التحقيق في المسألة الأخيرة؛ هي مسقطيّة إحداث الحدث، كما في جملة من الأخبار في المواضع المختلفة(2)، و أنّ المستفاد من هذه الأخبار أنّ الحدث تعبّداً من المسقطات، و لا يجوز التعدّي من رواية إلى غير موردها؛ لأنّ التصرّفات الجنسيّة إمّا من الأحداث، أو تعبّد في موردها


1- الكافي 5: 169/ 2، وسائل الشيعة 18: 13، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 4، الحديث 1، و أيضاً قرب الإسناد: 78، وسائل الشيعة 18: 13، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 4، الحديث 3.
2- وسائل الشيعة 18: 13، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 4، و 18: 98، كتاب التجارة، أبواب أحكام العيوب، الباب 2.

ص: 115

و ليس مطلق التصرّف منه، و لا إحداث الحدث، كركوبها ركوباً غير معتدّ به (1)، و تعليفها و سقيها.

لخصوصيّة فيه، فإطلاق المكاتبة باقٍ على حاله، و قوله (عليه السّلام): «فذلك رضاً منه» إمّا بيان تعبّدي، أو توضيح لحكمة مسقطيّة الحدث، و فيه الاحتمالات الأُخر التي ربّما تنتهي به إلى الإجمال، فيبقى إطلاق المكاتبة على حاله.

نعم، الركوب فراسخ، و التصرّفات الاعتباريّة كالبيع و نحوه، إذا كانت بداعي الإسقاط فهو، و إلّا فيشكل الأمر حسب الخبرين السابقين الظاهر من أحدهما أنّ ركوب فراسخ لا يسقط، و العرض للبيع- و لو انتهى إلى البيع لا يكون كافياً لسقوط الخيار، و الالتزام بهما مشكل جدّاً.

قوله مدّ ظلّه: «غير معتدٍّ به».

لا يخفى: أنّه إن أُريد أنّ الركوب المعتدّ به من الأحداث، فهو ممنوع.

و إن أُريد أنّ الميزان ما يكشف نوعاً عن الرّضا و الالتزام، و الركوب المزبور منه، فهو خلاف الأخبار الناطقة بأنّ الإحداث موضوع السقوط.

و إن أُريد أنّ الركوب المعتدّ به بنفسه من المسقطات، فهو خلاف الظاهر من الخبر.

و قد عدل المصنّف في مجلس بحثه عن جعل الموضوع لحكم السقوط

ص: 116

عنوان «التصرّف»(1) لما ليس في الأخبار منه العين و الأثر، بل فيها «الحدث المستند إلى المشتري» و هو أخصّ من «التصرّف المطلق» و بينه و بين «التصرّف الكاشف» عموم من وجه، و قد أشرنا إلى أنّ تقييد إحداث الحدث بالكاشفيّة النوعيّة.

نعم، ممنوع لو كان تقييد المكاتبة بمعتبر ابن رِئاب ممكناً، و لكنّك عرفت أنّه تقييد بالنادر(2). مع أنّ في متنه الاضطراب.

و لو وصلت النوبة بعد عدم إمكان التقييد إلى المعارضة، فالشهرة مع المكاتبة. مع أنّ الاعتبار يساعدها؛ ضرورة أنّ من أبواب الخدعة و الخيانة أن يشتري الدابّة و يستفيد منها في الثلاثة الأيام، ثمّ يردّها في الساعة الأخيرة، و هذا ممّا يشكل الالتزام به، و لذلك يقوى في النظر أنّ الفسخ إمّا يكون من الابتداء، فيكون ضامناً، و هذا خلاف صريح بعض الروايات، كمعتبر الحلبيّ(3)، أو يكون التصرّف بالركوب- بغير داعي الاختبار و مقدّماته و مقارناته من الحدث، فتأمّل فإنّ المسألة لا تخلو من نوع غموض، و اللَّه من وراء القصد.


1- البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 201 202.
2- تقدّم في الصفحة 113 114.
3- الكافي 5: 173/ 1، وسائل الشيعة 18: 26، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 13، الحديث 1.

ص: 117

[مسألة 2: لو تلف الحيوان في مدّة الخيار فهو من مال البائع]

مسألة 2: لو تلف الحيوان في مدّة الخيار فهو من مال البائع، (1) قوله مدّ ظلّه: «من مال البائع».

بالضرورة سواء قلنا: بأنّه في زمن الخيار للبائع، كما نسب إلى الشيخ الأقدم (قدّس سرّه)(1) أو قلنا: بأنّه للمشتري، فإنّه- حسب النصوص الكثيرة(2) من مال البائع؛ و منها معتبر عبد اللَّه بن سِنان قال: سألت أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) عن الرجل يشتري الدابّة أو العبد، و يشترط إلى يوم أو يومين، فيموت العبد أو الدابّة، أو يحدث فيه حدث، على من ضمان ذلك؟

فقال: «على البائع حتّى ينقضي الشرط ثلاثة أيّام، و يصير المبيع للمشتري»(3).

و لا يخلو ما فيه من نوع مناقشة. و بالجملة المسألة قطعيّة.

نعم، ربّما يناقش فيه: بأنّ الضمان في زمان الخيار المشترك من الطرفين، و مقتضى إطلاق هذه الأخبار اختصاص الضمان بالبائع و لو كان له خيار المجلس، و قد تحرّر سابقاً بعض الكلام حولها(4).

و الإنصاف: أنّ دعوى انصرافها إلى صورة التلف بعد المجلس كما عن


1- الخلاف 3: 22، المسألة 29.
2- وسائل الشيعة 18: 14 كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 5.
3- الكافي 5: 169/ 3، وسائل الشيعة 18: 14، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 5، الحديث 2.
4- تقدّم في الصفحة 103 و 105 و ما بعدها.

ص: 118

فيبطل البيع (1)، و يرجع إليه المشتري بالثمن إذا دفعه إليه.

الشيخ الأعظم (قدّس سرّه)(1) قريبة، إلّا أنّها تستلزم الضمان عليهما لو تلفت في المجلس، و هو خلاف ما يستظهر منهم حسبما نسب إلى المشهور، فالالتزام بالتقييد ممّا لا بأس به. و هنا بعض بحوث فصّلناها في كتابنا الكبير.

قوله مدّ ظلّه: «فيبطل البيع».

مسألة بطلان البيع آناً ما قبل التلف، أو بطلانه بعد التلف، أو عدم بطلانه رأساً، أو عدم كونه بيعاً شرعاً في زمان الخيار، مورد الخلاف بين الأخبار، و ليست مسألة منصوصاً بها إلّا الوجه الأخير، فإنّ قضية جمع من الأخبار- و منها الخبر السابق أيضاً أنّ المبيع ليس يصير ملكاً للمشتري إلّا بعد الثلاثة، فلا معنى لبطلان البيع إلّا بمعنى سقوطه عن القابليّة للتأثير، و قضيّة جمع آخر هو حصول الملكيّة، و منها معتبر الحلبيّ المشار إليه الصريح في حلّية شرب لبنها، و عدم الضمان بالنسبة إليه، و حيث إنّ قضيّة الجمع بينهما هو أن يكون النظر في الطائفة الاولى إلى استقرار الملكيّة، يكون البيع مؤثّراً كما تقتضيه القواعد.

و لو كانت الأخبار متعارضة تصل النوبة إليها، و تصير النتيجة كما تحرّرت.

فإذا كان البيع مؤثّراً، فانفساخه لا بدّ و أن يكون بفاسخ، كالإقالة


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 225/ السطر 19.

ص: 119

و الخيار من الأُمور العقلائيّة، و إلّا فيكون البيع باقياً؛ لأنّ تصرّف الشرع بكون الضمان على البائع، لا يتوقّف على اعتبار الفسخ، و لا يؤثّر اعتباره في الفسخ واقعاً؛ لما لا واقعيّة له إلّا عند الاعتبار العقلائيّ الذي هو على خلافه، فبطلان البيع بعد الموت و غيره غير موجّه، فضلًا عن القول: بأنّه يبطل آناً ما، كما هو في كلام جمع منهم(1).

نعم، يمكن دعوى بطلانه لأجل أنّ تلف المبيع من تلف مقوّم العقد، و هذا يورث البطلان.

و فيه: أنّ العقود ليست متقوّمة ببقاء العوضين، و يكفي بقاؤه في ظرف وجوده لحلّه بعد ذلك؛ و ترتّب الأثر عليه، أو يكفي بقاء العوض لبقاء العقد الحاصل بإنشاء العاقدين الباقي ببقائهما أو أحدهما، بل يكفي لبقائه الوراثة، كما هو كذلك في الخيار المورث.

و بالجملة: بطلانه بموت المبيع يحتاج إلى الدليل، مع أنّه خلاف الأصل.

و الذي هو الأقرب: أنّ للعقد موطناً، و للبيع موطناً آخر؛ العقد محلّه باقٍ، بخلاف البيع، فيبطل البيع دون عقد البيع، و قد تحرّر منّا في محلّه التفكيك بينهما، و يترتّب عليه الآثار الكثيرة.

و هذا الذي أبدعناه لا ينافي في كون البيع لازماً؛ فإنّ عقد البيع أمر


1- مسالك الأفهام 3: 216، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 301/ السطر 33.

ص: 120

[مسألة 3: العيب الحادث في الثلاثة من غير تفريط من المشتري]

مسألة 3: العيب الحادث في الثلاثة من غير تفريط (1) من المشتري، لا يمنع (2) عن الفسخ و الرّد.

آخر تقدّم على البيع و المبادلة؛ لأنّها أمر خارجيّ، و ليس يحصل بالعقد و مجرّد المعاقدة، فليتدبّر و اغتنم.

قوله مدّ ظلّه: «من غير تفريط».

لو كان المناط ما في الأخبار و هو إحداث الحدث، فالتفريط لا يورث سقوط الخيار، نعم التعدّي يورثه، فكأنّ العبارة محرّفة، و كانت هكذا: «من غير تعدٍّ من المشتري». نعم، التفريط إذا استلزم نسبة الحادث و الحدث إلى المفرِّط صحّ، و لكنّه غير تامّ، فتأمّل.

قوله مدّ ظلّه: «لا يمنع».

لأنّه خاصّة خيار الحيوان، و إلّا ينقلب هو إلى خيار العيب، و هو مقتضى إطلاق دليله.

نعم، ربّما يمكن المناقشة فيه؛ لأجل احتمال انصراف دليل الخيار إلى صورة انكشاف العيب في الثلاثة، و هو الظاهر من الحكمة و من معتبر ابن رِئاب في «قرب الإسناد» و فيه فقال: «الخيار لمن اشترى ثلاثة أيّام نظرة، فإذا مضت ثلاثة أيّام فقد وجب الشراء ..»(1).


1- قرب الإسناد: 78، وسائل الشيعة 18: 12، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 3، الحديث 9.

ص: 121

فإنّ المراد من «النظرة» هي الإمهال للاطلاع على ما يظهر فيه، فيكون خيار الحيوان من موارد خيار العيب. نعم، يختلف معه لأجل دليله فيما إذا لم يظهر العيب بعد، و لكنّه يحتمل ظهوره.

ص: 122

[الثالث: خيار الشرط]
اشارة

الثالث: خيار الشرط أي الثابت بالاشتراط في ضمن العقد، و يجوز جعله لهما، (1) قوله مدّ ظلّه: «و يجوز جعله لهما».

لا إشكال بين الفقهاء في نفوذ خيار الشرط(1)، و عليه العقلاء من كافّة الملل.

نعم، ربّما يناقش في ذلك بشبهات أشرنا إليها في كتابنا الكبير، و كلّها مندفعة بما لا مزيد عليها، و تكون من الشبهة في قبال البديهة.

هذا مع أنّ في كثير من النصوص ما يشهد على صحّة الشرط المزبور؛ ففي معتبر السكونيّ، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام): «أنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) قضى في رجل اشترى ثوباً بشرط إلى نصف النهار، فعرض له ربح فأراد بيعه.

قال: ليشهد أنّه قد رضيه فاستوجبه، ثمّ ليبعه إن شاء، فإن أقامه في السوق و لم يبع فقد وجب عليه»(2).

بناءً على أنّ المراد من «الشرط» هو خياره.

و في خبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللَّه قال: سألت أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) عن رجل اشترى أمة بشرط من رجل يوماً أو يومين، فماتت عنده و قد قطع


1- تذكرة الفقهاء 1: 519/ السطر 20، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 228/ السطر 4.
2- الكافي 5: 173/ 17، وسائل الشيعة 18: 25، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 12، الحديث 1.

ص: 123

أو لأحدهما، أو لثالث. (1) الثمن، على من يكون الضّمان؟

فقال: «ليس على الذي اشترى ضمان حتّى يمضي شرطه»(1).

بناءً على تماميّة السند، و أنّ خيار الحيوان ساقط بلازم الشرط الأقلّ فيكون قوله (عليه السّلام) في الجواب ناظراً إلى شرط الخيار، لا شرط الحيوان.

و معتبرِ ابن سِنان عنه (عليه السّلام) في حديث قال: «و إن كان بينهما شرط أيّاماً معدودة، فهلك في يد المشتري قبل أن يمضي الشرط، فهو من مال البائع»(2).

هذا مع أنّ العمومات كافية، و البناءات العقلائيّة لا ترتدع ببعض الشبهات الواهية، فيصح جميع ما في المتن من الفروض الثلاثة.

قوله مدّ ظلّه: «أو لثالث».

حسب العمومات، بل و إطلاق بعض الأخبار السابقة، مضافاً إلى دعوى الإجماع عليه(3)، و هو المفروغ عنه في المتون الفقهيّة، و في


1- الكافي 5: 171/ 9، وسائل الشيعة 18: 14، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 5، الحديث 1.
2- تهذيب الأحكام 7: 24/ 103، وسائل الشيعة 18: 20، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 8، الحديث 2.
3- لاحظ تذكرة الفقهاء 1: 521/ السطر 18، جواهر الكلام 23: 34، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 229/ السطر 11.

ص: 124

و لا يتقدّر بمدّة، بل هو بحسب ما اشترطاه؛ قلّت أو كثرت، (1) «الجواهر» بعد قول «الشرائع»: «و له مع الأجنبيّ» «بلا خلاف أجده، بل الإجماع بقسميه عليه»(1).

و ربّما يناقش في ذلك أيضاً بمناقشات ذكرناها في كتابنا الكبير مع دفعها، و أهمّها أنّه تدخّل في سلطان الغير، و هو محرّم، أو أنّه تمليك يحتاج إلى القبول، فلا يثبت عموم المدّعى.

و أنت خبير: بأنّ الدخول في سلطان الغير بعنوانه ليس من المحرّمات مع أنّه لا يستلزم ذلك لو لم يكن مؤكّداً لبسط سلطنته، هذا مع أنّ إعطاء الحقّ إليه- كما في الوقف لا يحتاج إلى القبول، و لا يكون من الدخول في سلطانه.

نعم عند تراكم الشبهات الكثيرة ربّما يتقوّى الانصراف. و لكن ربّما كان بناء العقلاء على جعل الخيار للأجنبيّ البصير، و للدلّالين الواقفين على حقيقة الحال، فالمناقشة غير جيّدة جدّاً.

قوله دام ظلّه: «أو كثرت».

ربّما يناقش في الكثرة المستوعبة حياةَ العوضين، فإنّ الشرط في مقدار من الزّمان المذكور في العقد، و لا يعلم المقدار الباقي، فيصير مجهولًا بالعرض و إن كان معلوماً بالذّات، فتأمّل.


1- جواهر الكلام 23: 34.

ص: 125

و لا بدّ من كونها مضبوطة (1) من حيث المقدار، قوله مدّ ظلّه: «مضبوطة».

إجماعاً صريحاً(1) و قولًا واحداً؛ معلّلًا بالغرر المنهيّ في البيع(2) خاصّاً، و في مطلق المعاوضات عامّاً، و الشرط الغرري يورث غرريّة البيع لأجل تزلزله بالخيار، فلا بدّ من معلوميّة مدّة التزلزل، مع أنّ نفس الشرط غرري، و الغرر منهيّ، و على هذا يكون الشرط المجهول خلاف الكتاب، فيكون باطلًا.

هذا مع أنّ الماليّة تختلف باختلاف الخياريّة و غير الخياريّة، فتختلف الماليّة باختلاف مدّة الخياريّة.

و يدلّ عليه مضافاً إلى ما مرّ: الأخبار الماضية، حيث إنّها مشتملة على الشرط المعلوم، و هو يشهد على مفروغيّة الحكم عند أصحابنا الأقدمين، و لعلّه هو المبنيّ عليه عند العرف و العقلاء.

أقول: في جميع هذه الوجوه مناقشة، و المهمّ أنّ كبرى المسألة غير نقيّة؛ لأنّ الغرر المطلق المنهيّ أجنبيّ عن مسائل المعاملات، لأنّه عنوان خارج عنها، و حديث الحكومة واضح المنع، و الغرر في البيع منهيّ بما لأسند له كما تحرّر، و لا دلالة له أيضاً؛ لاختلاف الاحتمالات فيها، و جبر


1- مفتاح الكرامة 4: 563/ السطر 21، جواهر الكلام 23: 32.
2- وسائل الشيعة 17: 448، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 40، الحديث 3.

ص: 126

و من حيث الاتصال و الانفصال (1). نعم، إذا ذكرت مدّة معيّنة كشهر مثلًا و أُطلقت، فالظاهر اتّصالها بالعقد.

الدلالة بفهم الفريقين ليس من دأب المجتهدين إلّا في بعض الأحيان.

فعلى ما تحصّل و فصّلنا الكلام في محلّه: إنّ الجهالة المطلقة ممنوعة في غير الشرط، و أمّا في الشرط فالمسألة غير واضحة جدّاً.

قوله دام ظلّه: «و الانفصال».

خلافاً لبعضهم حيث استشكل في صورة الانفصال: «بأنّه من الجواز بعد اللزوم، و هو غير جائز»(1) غفلة عن خيار التفليس و الرؤية.

نعم، لنا تقريب آخر: و هو أنّ اللزوم اعتبار وحدانيّ للعقد، و باقٍ باعتبار بقائه، و الشرط المزبور يرجع إلى شرط خلاف الكتاب؛ ضرورة أنّ الشرط المتّصل يمنع عن حدوث اللزوم، فلا يكون خلاف الكتاب، و أمّا المنفصل فيزيل الحادث الثابت بالطبع حسب حكم الكتاب، و لا يتجزّأ و لا ينحلّ إلى الأحكام حتّى يقال: إنّه أيضاً راجع إلى المنع عن الحدوث في قطعة، و على هذا يشكل الأمر في صورة الانفصال و هكذا نجوماً و يوماً، لا و يوماً.

نعم، و لو صحّ الشرط منفصلًا، فلازمه جواز شرط الخيار في البيع الثاني للبيع الأوّل الفارغ عنه، مع أنّ الظاهر منهم عدم التزامهم به،


1- كما قال به الشافعيّ، لاحظ تذكرة الفقهاء 1: 520/ السطر 38.

ص: 127

و لعلّه ضروري عندهم.

و لكن بعد اللتيّا و التي يستحسن هذا الإعضال على مبنى القوم، و أمّا على ما هو مختارنا- من أنّ جعل الخيار في ضمن العقد، ليس مورثاً لتزلزل العقد؛ و خروجه عن اللّزوم إلى الجواز الحقّي، فضلًا عن الحكميّ فلا يكون منافياً للكتاب، و لا مستلزماً للتجزية و التحليل.

و أمّا ممنوعيّة جعل الخيار للبيع السابق، فهي غير واضحة حتّى على رأي القوم في تفسير الشرط المخالف؛ ضرورة أنّ اللزوم ناشئ من الإطلاق، فيكون باقياً إلى طروّ الخيار، فليتدبّر جيّداً.

و أمّا حديث التجزئة، فهو و إن كان في حدّ ذاته غير صحيح؛ لأنّ اللزوم من تبعات عقد البيع، و البيع غير مرهون بالزمان، و لكن جعل الخيار إلى مدّة يستلزم تطبيق العقد بحسب صفة الخيار و الاختيار منطبقاً عليه، و عندئذٍ يجوز التقطيع؛ لما يترتّب عليه الأثر كما هو الواضح.

ص: 128

[مسألة 1: يجوز أن يشترط لأحدهما أو لهما الخيار بعد الاستئمار و الاستشارة]

مسألة 1: يجوز أن يشترط لأحدهما أو لهما الخيار بعد الاستئمار (1) و الاستشارة؛ بأن يتشاور مع ثالث في أمر العقد، فكلّ ما رأى من الصلاح إبقاءً له أو فسخاً يكون متّبعاً. (2) قوله مدّ ظلّه: «بعد الاستئمار».

لعموم دليل الشرط.

و أمّا المناقشة فيه: بأنّه من جعل الخيار، و مبدأه مجهول، كما صنعه المصنّف- مدّ ظلّه في درسه(1).

فمدفوع: بأنّ ما هو من الجهالة مضرّ غير حاصل، و ما هو حاصل غير مضرّ؛ ضرورة أنّ في ظرف الإنشاء لا خيار فلا تضرّ الجهالة و في ظرف حدوث الخيار لا جهالة؛ لأنّ المفروض امتداد الخيار في المدّة المعلومة، و يكون مبدأه الاستشارة المجهولة الوقت.

قوله مدّ ظلّه: «يكون متّبعاً».

ربّما يتخيّل المناقضة بين المفروض، و بين ما رتّبه عليه، فإنّ المفروض كونه بالخيار، و ما رتّبه عليه كونه تابعاً للمستشار في الفسخ و الإمضاء، و هذا ينافي الخيار.

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّه بالخيار و هذا شرط آخر نافذ، و لكنّه إذا


1- البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 221 222.

ص: 129

و يعتبر في هذا الشرط أيضاً تعيين المدّة (1)، و ليس للمشروط له الفسخ قبل أمر ذلك الثالث، و لا يجب عليه لو أمره، بل جاز له، فإذا اشترط البائع على المشتري- مثلًا بأنّ له المهلة إلى ثلاثة أيّام حتّى يستشير صديقه أو الدلّال، فإن رأى الصلاح يلتزم به، تخلّف عن رأيه يكون فسخه نافذاً أيضاً على خلاف ما رآه.

و لو كان الشرط المزبور موجباً لتضييق الأمر عليه يشكل صحّته؛ لكونه خلاف مقتضى ذات الخيار، فتأمّل.

و يظهر من المصنّف في العبارة أنّه بالخيار بعد الاستشارة، و لا ينفذ فسخه قبلها، و لكن يجوز التخلّف عن أمره، حيث قال: «و ليس للمشروط له الفسخ قبل أمر ذلك الثالث، و لا يجب عليه لو أمره، بل جاز له» انتهى، و هذا أيضاً ينافي قوله: «يكون متّبعاً» فافهم.

قوله مدّ ظلّه: «تعيين المدّة».

حسب أُصول المذهب و الإجماع(1)، و المراد منه تعيين زمان الخيار، كثلاثة أيّام و خمسة بعد الاستشارة، و قد مرّ ما ينفعك آنفاً.


1- جامع المقاصد 4: 292، مفتاح الكرامة 4: 563/ السطر 21.

ص: 130

و إلّا فلا يكون مرجعه (1) إلى جعل الخيار له على تقدير أن لا يرى صديقه أو الدلّال الصلاحَ، لا مطلقاً، فليس له الخيار إلّا على ذلك التقدير.

قوله مدّ ظلّه: «يكون مرجعه».

جواب عن الشرط، و صحّة هذا الشرط أيضاً بلا إشكال، و إنّما الإشكال في أنّ الظاهر من قوله في الاشتراط: «إن رأي الصلاح يلتزم به، و إلّا فلا ..» أنّه عند ما لا يرى الصلاح لا يكون ملتزماً بالعقد، و لا يلتزم به بعد ذلك، و نتيجة ذلك هو الانفساخ القهري.

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ المقصود عدم الالتزام المساوق للخيار، لا الانفساخ.

ص: 131

[مسألة 2: لا إشكال في عدم اختصاص خيار الشرط بالبيع]

مسألة 2: لا إشكال في (1) عدم اختصاص خيار الشرط بالبيع، بل يجري في كثير من العقود اللّازمة.

و لا إشكال في عدم جريانه في الإيقاعات، كالطلاق، و العتق، و الإبراء و نحوها.

قوله مدّ ظلّه: «لا إشكال في».

تطلب هذه المسألة صحّة و سقماً في محالّها إن شاء اللَّه تعالى.

ص: 132

[مسألة 3: يجوز اشتراط الخيار للبائع]

مسألة 3: يجوز اشتراط (1) الخيار للبائع قوله مدّ ظلّه: «يجوز اشتراط».

عندنا كما في «التذكرة»(1) و عليه حكاية الإجماع عن غيرها(2).

و تدلّ عليه النصوص الخاصّة(3)، و أظهرها موثّق إسحاق بن عمّار قال: حدّثني من سمع أبا عبد اللَّه و سأله رجل و أنا عنده، فقال: رجل مسلم احتاج إلى بيع داره، فجاء إلى أخيه فقال: أبيعك داري هذه و تكون لك، أحبّ إليّ من أن تكون لغيرك؛ على أن تشترط لي إن أنا جئتك بثمنها إلى سنة أن تردّ عليّ.

فقال (عليه السّلام): «لا بأس بهذا، إن جاء بثمنها إلى سنة ردّها عليه».

قلت: فإنّها كانت فيها غلّة كثيرة، فأخذ الغلّة، لمن تكون الغلّة؟

فقال (عليه السّلام): «الغلّة للمشتري، أ لا ترى أنّه لو احترقت لكانت من ماله؟!»(4).

و في «الفقيه» عن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: سأله


1- تذكرة الفقهاء 1: 521/ السطر 39.
2- جواهر الفقه، القاضي ابن البرّاج: 54، المسألة 192، جامع المقاصد 4: 293، مسالك الأفهام 3: 202.
3- وسائل الشيعة 18: 18، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 7 8.
4- تهذيب الأحكام 7: 23/ 96، وسائل الشيعة 18: 19، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 8، الحديث 1.

ص: 133

إذا ردّ الثمن بعينه أو ما يعمّ مثله (1) إلى مدّة معينة، فإن مضت و لم يأتِ بالثمن كاملًا لزم البيع، و هو المسمّى ب «بيع الخيار» في العرف.

رجل(1) .. و مثله ما في «الكافي»(2) فاحتمال كون الحديث مرسلًا، مدفوع بما فيهما المتقدّمين على «التهذيب» و احتمال أخذ «التهذيب» من كتاب آخر بعيد، و إن كان احتمال كون النسخة التي عند الشيخ منهما، أقوى من النسخة الموجودة، و لكن اضطراب روايات ابن عمّار نوعاً، يؤيّد أنّ المقصود من قوله: «و أنا عنده» نفسه، لا الرجل السائل، فإنّه غير مناسب.

فبالجملة: جواز هذا الشرط مقطوع به عندنا، خلافاً لبعض المخالفين(3).

قوله مدّ ظلّه: «أو ما يعمّ مثله».

و الذي هو المتعارف في بيع الخيار اشتراط ردّ المثل؛ لأنّ الحاجة إلى الثمن توجب البيع بالأقلّ، و هكذا الفرار من الربا القرضيّ يجرّ الناس إليه.

نعم، ردّ العين هنا- كردّ العين في القرض لا بأس به بالضرورة.

إن قلت: يشكل صحّة هذا البيع؛ لأنّ جعل الخيار بعد الردّ يرجع إلى


1- الفقيه 3: 128/ 559.
2- الكافي 5: 171/ 10.
3- تذكرة الفقهاء 1: 521/ السطر 41.

ص: 134

جهالة مبدأ الخيار، لما لا يكون زمان الردّ معلوماً، و قد ذهب المصنّف إلى أنّ هذه الجهالة تضرّ، وفاقاً لبعض آخر(1).

قلت: قد عرفت في خيار الاستئمار دفع هذا الإشكال(2).

إن قلت: جعل هذا الخيار و لو كان في ضمن العقد، يكون من قبيل الإيقاع المشروط و المعلّق.

قلت: نعم، إلّا أنّه لمكان كونه من قبيل شرط النتيجة يكون جائزاً، و قد ادعي ما يدلّ في الأخبار عليه خصوصاً(3)، و قد تعرّضنا له في كتابنا الكبير.

إن قلت: إذا ردّ الثمن إلى المشتري يكون الخيار للبائع، فإذا فسخ فلا بدّ من عود العين إلى البائع، و عود الثمن الآخر إلى المشتري؛ ضرورة أنّ معنى الشرط ردّ العوض الذي هو للمشتري إليه، فيكون هو له بنفس الردّ، و الالتزام بذلك واضح المنع.

قلت: نعم، ظاهر الشرط ردّ مال المشتري إليه، إلّا أنّ الفسخ لا يقتضي إلّا حلّ العقد، و أمّا تبادل العوضين و تراجعهما فهو في محلّ قابل، و فيما نحن


1- البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 223 224.
2- تقدّم في الصفحة 128.
3- البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 223.

ص: 135

فيه لا محلّ له.

و إن شئت قلت: إنّ مورد الأخبار هو أنّ ردّ الثمن سبب الفسخ؛ لقوله (عليه السّلام) في الخبر السابق: «إن جاء بثمنها إلى سنة ردّها عليه».

و هكذا في معتبر سعيد بن يسار قال (عليه السّلام): «إن جاء بالمال للوقت فردّ عليه»(1).

فإنّ الخيار لا يتوسّط بينهما، بل نفس الردّ تمام السبب للفسخ، فيكون الشرط على وجه يكون الردّ سبباً للفسخ، و على هذا لا خيار و لا فسخ بعد الردّ حتّى يؤخذ بما هو لازمه، فاغتنم.

لا يقال: إنّ الردّ ليس من أسباب الفسخ، و أدلّة الشروط قاصرة عن التشريع بالنسبة إلى باب الأسباب و المسبّبات.

لأنّا نقول:- مضافاً إلى عدم تماميّة هذه الدعوى إنّ الأخبار الخاصّة تكفي لمشروعيّته.

هذا مع أنّ فسخ العقد و حلّه، ليس من تلك المسبّبات المخصوصة و المحصورة بالأسباب الخاصّة و الأدوات و الصيغ المعيّنة، فلا تخلط.


1- الكافي 5: 172/ 14، وسائل الشيعة 18: 18، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 7، الحديث 1.

ص: 136

و الظاهر صحّة (1) اشتراط أن يكون للبائع فسخ الكلّ بردّ بعض الثمن، أو فسخ البعض بردّ بعضه، و يكفي في ردّ الثمن فعل البائع ما له دخل في القبض من طرفه و إن أبى المشتري من قبضه، فلو أحضر الثمن و عرضه عليه و مكّنه من قبضه، فأبى و امتنع، فله الفسخ. (2) قوله مدّ ظلّه: «و الظاهر صحّة».

نعم، إلّا أنّه خارج عن مصبّ الأخبار، فلو كان لهذا الخيار أثر خاصّ، فهو في غير الصورتين.

و وجه صحّته إطلاق أدلّة الشرط؛ لأنّ مبدأ صحّة هذا الخيار ليس إلّا الاشتراط، و تكون أخبار المسألة دليلًا على صحّة الشرط في طيّ العقد، و لو أُلغيت الخصوصيّة بالنسبة إلى ردّ تمام الثمن يترتّب عليه آثاره الخاصّة لو كانت.

و في كون البائع بعد ردّ البعض و فسخ البعض، ذا خيار التبعّض؛ كي يكون له استرداد ثمنه بردّ العين، أو يكون له التصرّف في العين في صورة التأخير بانكشاف عدم نفوذ خيار المشتري تردّد. و لا تردّد إذا كان شرط المشتري من الأوّل ردَّ البعض بحذاء البعض، كما هو المذكور في المتن.

قوله مدّ ظلّه: «فله الفسخ».

نظراً إلى حصول الشرط؛ و ذلك لأنّ المتفاهم من «الشرط» ليس إلّا تمكين المشتري و إقداره عليه.

ص: 137

و يمكن المناقشة في ذلك: بأنّ الشرط هو الردّ إليه، و هو لا يحصل بذلك، كما تأتي الإشارة إليه في الردّ إلى الوكيل و الحاكم(1)، و بناءً على هذا الاحتمال، يلزم جواز الامتناع من القبول اختياراً بالفرار أو بدونه، و يلزم جواز تهديد البائع على الردّ، فإنّه لا يثبت له الخيار إذا لم يردّ، و الالتزام بالفروض السابقة و المشابهة معها غير صحيح عرفاً.

نعم، في صورة التهديد إذا لم يردّ يشكل الأمر، كما لا يخفى و المسألة ليست إجماعيّة، و لا روائيّة، و ما وجدنا من تعرّض لها، و اللَّه العالم.


1- تأتي في الصفحة 148 150.

ص: 138

[مسألة 4: نماء المبيع و منافعه في هذه المدّة للمشتري]

مسألة 4: نماء المبيع و منافعه في هذه المدّة للمشتري، (1) قوله مدّ ظلّه: «للمشتري».

حسب القواعد؛ لأنّه ملكه، و عدم جواز التصرّف المتلف لا يلازم كون النماء للبائع، و يدلّ عليه الأخبار(1) و الخبر السابق(2).

و هذا على خلاف ما نسب إلى الشيخ (قدِّس سرُّه) من قوله بأنّ المبيع ليس يدخل في ملك المشتري قبل استقرار العقد(3).

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ النماء له في زمانٍ لا خيار للبائع فيه، و هو قبل الردّ. و هذا مخالف لما نسب إلى المشهور من اختيارهم أنّ الخيار للبائع من الابتداء(4).

و قد استظهرنا في كتابنا الكبير؛ أنّ شرط ردّ الثمن ربّما يرجع إلى أنّ البائع بالخيار، إلّا أنّه خيار مع الواسطة؛ لإمكان فسخه العقد من الأوّل بردّ الثمن، و لا نعني من «الخيار» إلّا اختيار الفسخ و لو مع الوسط كما تحرّر، و هذا هو المعنى الحقّي الاعتباري، فلا تغفل.


1- وسائل الشيعة 18: 19، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 8.
2- تقدّم في الصفحة 132.
3- الخلاف 3: 22، المسألة 29.
4- جواهر الكلام 23: 39، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 231/ السطر 27.

ص: 139

كما أنّ تلفه عليه، (1) قوله مدّ ظلّه: «كما أنّ تلفه عليه».

أي على المشتري؛ قضاءً لحقّ القواعد الأوّلية و الثانويّة؛ أمّا الاولى فلأنّ العين ملكه، و قد تلفت في ملكه.

نعم، لو أتلفه البائع فهو له ضامن؛ لقاعدة الإتلاف، و هذا في الحقيقة ليس استثناء من هذه المسألة.

و أمّا قضيّة القاعدة الثانويّة؛ و هي «أنّ التلف في زمن الخيار ممّن لا خيار له» بناءً على شمولها لما نحن فيه، مع إشكالات في ذلك على ما هو المحرّر في كتابنا الكبير فهي أيضاً من المشتري؛ لأنّه لا خيار له.

و يحتمل كون التلف من كيس البائع؛ لقوله (عليه السّلام) في أخبار خيار الحيوان الماضية في معتبر عبد اللَّه بن سِنان قال: على من ضمان ذلك؟.

فقال (عليه السّلام): «على البائع حتّى ينقضي الشرط ثلاثة أيّام، و يصير المبيع للمشتري»(1).

و لكنّه احتمال مبنيّ على مذاق الشيخ، و الخبر من أدلّته، و لكنّه محمول على استقرار الملك جمعاً بين الآثار.


1- الكافي 5: 169/ 3، وسائل الشيعة 18: 14، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 5، الحديث 2.

ص: 140

و الخيار باقٍ (1) مع التلف إن كان المشروط الخيار و السلطنة على فسخ العقد، فيرجع بعده إلى المثل أو القيمة، و ساقط إن كان المشروط ارتجاع العين بالفسخ.

قوله مدّ ظلّه: «و الخيار باقٍ».

على المعروف بين من تعرّض للمسألة، و احتمل الشيخ الأنصاري (قدِّس سرُّه) عدمَه بناءً على أنّ مورد هذا الخيار هو إلزام أنّ له الردّ و ارتجاع المبيع، و ظاهره اعتبار بقاء المبيع في ذلك، فلا خيار مع تلفه(1).

و قوّاه المصنّف في الدرس بأنّ المفروض في الأخبار بقاء العين؛ لقوله: «فالدار دارك» كما في خبر معاوية بن ميسرة، عن أبي الجارود(2)، و أنّ المعهود في هذا الخيار مفروغيّة بقاء العين، و أنّ صورة تلفها مغفول عنها، فيكون الخيار مجعولًا على الوجه الخاصّ(3).

الإنصاف: أنّ أمثال هذه المباحث ليست علميّة، و ربّما تختلف الأمصار و الأعصار لجهة الانصراف و التعارف المستند إلى اختلاف العهد و البناء، و لو خلّي الأمر و طبعه يكون تضييق الخيار محتاجاً إلى غاية خاصّة مصرّح بها، و إلّا فهو بالطبع يرجع إلى العقد، و يكون النظر


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 231/ السطر 28.
2- تهذيب الأحكام 7: 176/ 780، وسائل الشيعة 18: 20، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 8، الحديث 3.
3- البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 240 241.

ص: 141

و ليس للمشتري قبل انقضاء المدّة التصرّف الناقل (1) و إتلاف العين؛ إن كان المشروط ارتجاعها، و لا يبعد جوازهما إن كان السلطنة على فسخ العقد.

و القصد و الغرض خارجاً عن حدود المجعول.

نعم، لو اشترط استرجاع العين عند الردّ، فهو لا يستحقّ شيئاً عند التلف، و ليس هذا من الخيار المصطلح عليه و إن جاز و كان يشبه حكم الخيار.

و أمّا الرجوع إلى المثل أو القيمة، فعلى مقتضى القواعد في باب الضمانات، و قد تحرّر منّا أنّ مسألة ضمان المثل في المثليّات و القيمة في القيميّات ممّا لا أساس لها، و الذي هو الأساس أمر آخر يطلب من محلّه.

و من هنا يظهر: أنّ مجرّد كون الشرط ارتجاع العين لا يكفي؛ لعدم استحقاقه البدل، بخلاف ما إذا شرط استرجاع العين.

قوله مدّ ظلّه: «التصرّف الناقل».

حسبما يظهر من المتعرّضين للمسألة(1)؛ و ذلك لاقتضاء الشرط الضمنيّ.

و فيه: أنّ مع تمكّن إرجاع العين بعد الفسخ، لا معنى للمنع لو صحّ الشرط المزبور كما لا يبعد.


1- مفتاح الكرامة 9: 195/ السطر 3، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 296/ السطر 29.

ص: 142

و أمّا إتلاف العين، فلا يبعد الممنوعيّة مطلقاً و إن كانت السلطنة على العقد للشرط الضمني المزبور.

نعم، في صورة الشكّ أو عدم الشرط ضمناً، فالإتلاف لا ينافي الاشتراط حتّى من البائع.

نعم، يمكن أن يستظهر أحياناً أنّه يشهد على إسقاط الخيار، و لكنّه ممنوع كما ترى.

و يحتمل أن يكون شرط السلطنة على استرجاع العين، كنايةً عرفاً عن الخيار المتعلّق بالعقد طبعاً، فلا يسقط الخيار بالتلف، و يجوز الإتلاف للمشتري، فتأمّل.

ص: 143

[مسألة 5: الثمن المشروط ردّه إن كان كلّياً في ذمّة البائع]

مسألة 5: الثمن المشروط ردّه إن كان كلّياً في ذمّة البائع- كما إذا كان في ذمّته ألف درهم لزيد، فباع داره بما في ذمّته، و جعل له الخيار مشروطاً بردّ الثمن يكون ردّه بأداء (1) ما كان في ذمّته؛ و إن برئت ذمّته عمّا كان عليه بجعله ثمناً.

قوله مدّ ظلّه: «يكون ردّه بأداء».

لأنّ في مفروض المسألة لا بدّ من ذلك؛ ضرورة أنّ قضيّة البيع سقوط ما في ذمّته، و مقتضى الشرط ردّ الثمن خارجاً، و هذا لا يتيسّر إلّا بتفويض مصداق منه.

و يمكن أن يقال: إنّ للبائع أن يحتال حتّى يفسخ المشتري عقده، فإذا انفسخ العقد اشتغلت ذمّة البائع بما برئت منه، فيكون هذا ردّ الثمن إليه، فيصحّ الفسخ و الانفساخ بقاءً. و لا يخفى ما فيه.

ص: 144

[مسألة 6: إن لم يقبض البائع الثمن أصلًا]

مسألة 6: إن لم يقبض البائع الثمن أصلًا؛ سواء كان كلّياً في ذمّة المشتري، أو عيناً موجوداً عنده، فهل له الخيار و الفسخ قبل انقضاء المدّة المضروبة، أم لا؟ وجهان، لا يخلو أوّلهما من رجحان. (1) قوله دام ظلّه: «من رجحان».

و علّل الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه): «بأنّ الردّ شرط على تقدير قبضه، و يحتمل عدم الخيار مع عدم القبض؛ لأنّ المشروط إذا كان ردّ الثمن، فلازمه مشروطيّة القبض أيضاً قبله، فلم يحصل شرط الخيار؛ و هو الرّد المسبوق بالقبض»(1) انتهى.

و قال السيّد الفقيه اليزدي (رحمه اللَّه): «المسألة مبتنية على أن الردّ هل هو معتبر من باب الموضوعيّة، أو من باب الطريقيّة لوصول الثمن إلى المشتري؛ أي حصوله عنده؟

فعلى الأوّل لا خيار؛ لعدم تحقّق شرطه و هو الردّ المسبوق بالقبض، لا لاشتراط القبض قبله كما بيّنه المصنّف، بل لعدم تحقّق الموضوع حينئذٍ.

و على الثاني فله الخيار؛ لأنّ المفروض حصول الثمن عنده، و الغالب في أنظار العرف هو الطريقيّة»(2) انتهى.


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 230/ السطر 19.
2- حاشية المكاسب، السيّد اليزدي 2: 26/ السطر 33.

ص: 145

و لو قبضه، فإن كان الثمن كلّياً فالظاهر أنّه لا يتعيّن عليه ردّ عين ذلك الفرد المقبوض، بل يكفي ردّ فرد آخر ينطبق الكلّي عليه، إلّا إذا صرّح (1) باشتراط ردّ عينه إليه. و إن كان شخصيّاً لم يتحقّق الردّ إلّا بردّ عينه، فلو لم يمكن ردّه بتلف و نحوه سقط الخيار، و ما ذكره خيار المتأخّرين على الأكثر.

أقول: لو كان يكفي حصول الثمن عنده، فيلزم الخيار لو ردّه إليه بعنوان الأمانة، أو لو غصبه المشتري، و حيث إنّه لا خيار فيهما فيعلم: أنّ ردّ الثمن من العناوين القصديّة التي لا تحصل إلّا بتفويض الثمن، أو الرضا بالبقاء عند المشتري إذا وصل إليه و لو كان من زمان قبل البيع عنده.

و أمّا في صورة الغفلة عن الحال، فلا يبعد ثبوت الخيار بدعوى: أنّ قصد عنوان الوديعة و الغصب الخارجيّ يضرّ بالشرط، و أمّا عند عدمهما فيحصل الشرط عرفاً؛ لعدم الخصوصيّة بإلغائها، لا الطريقيّة المذكورة في كلماتهم.

فأخذ عنوان «الردّ» لا يلغي مطلقاً، كما لا يؤخذ به مطلقاً، و السرّ أنّ المسألة عرفيّة و استظهاريّة، ربّما يختلف كيفيّة الجهل في الإفادة و الاستفادة، و في صورة الشكّ لا يثبت الخيار.

قوله مدّ ظلّه: «إلّا إذا صرّح».

فإنّه في صورة الإطلاق و إن تعيّن الكلّي بالفرد، إلّا أنّ بناء البيع

ص: 146

إلّا إذا شرط صريحاً (1) ردّ ما يعمّ بدله مع عدم التمكّن من العين. نعم، إذا كان الثمن ممّا انحصر انتفاعه المتعارف بصرفه، لا ببقائه كالنقود، الخياري على التصرّف في الثمن أيَّ تصرّف شاءه البائع، فيكون البناء المذكور شاهداً على جواز ردّ الفرد الآخر، و لذلك لا يتعيّن إلّا مع التصريح بالخلاف هدماً لهذا البناء.

قوله دام ظلّه: «إلّا إذا شرط صريحاً».

في صورة عدم الاشتراط يسقط الخيار؛ لعدم تمكّنه من شرط خياره و هو ردّ الثمن بعينه. بل و لو كان له الخيار و كان تنفيذه بالردّ، يسقط الخيار أيضاً، و ربّما يستند السقوط إلى أمر أسبق على التلف، كما إذا أتلفه البائع، فتأمّل.

و أمّا في صورة الاشتراط، فربّما يناقش في صحّة هذا الشرط: بأنّ في صورة الفسخ لا بدّ من تبادل العوضين، و حيث لا ثمن فلا يعتبر فسخ العقد، فلا يصحّ شرط ردّ غير الثمن المذكور في العقد.

و أنت خبير بما فيه؛ ضرورة أنّ ماهيّة الفسخ ليست إلّا حلّ العقد، و أمّا ردّ العوضين إلى ما كانا عليه قبل العقد، فهو من آثار الفسخ، و عند امتناع ردّ العوض بالتلف يردّ بدله، و حيث إنّ مع التصريح بأنّ سبب الخيار أعمّ من ردّ الثمن و بدله عند تلفه، يثبت الخيار بردّ البدل، و ينفسخ العقد، و يكفي البدل عن ضمان المبدل.

ص: 147

يمكن أن يقال: إنّ المنساق من الإطلاق في مثله ما يعمّ بدله ما لم يصرّح بالخلاف. (1) قوله مدّ ظلّه: «ما لم يصرّح بالخلاف».

قد عرفت: أن المتعارف في البيع الخياري كون النظر و المقصود إلى صرف الثمن؛ سواء كان نقداً، أو جنساً كالحنطة و نحوها، فكلّما يتّفق خلافه فلا بدّ من القرينة اللفظية أو الحاليّة كخصوصية في ذات الثمن تنهض على أنّ الخيار مرهون بردّ الثمن شخصيّاً، فما أفاده غير تامّ بحسب العادة في هذه الأعصار و الأمصار.

ثمّ إنّ قوله: «ما يعمّ بدله» يحتمل كون البدل في عَرْض المبدل، فيكون مع وجود عين الثمن ردّ البدل كافياً، و يحتمل كونه في طوله، فيكون مع تلف المبدل ردّ البدل موجباً للخيار، و على التقديرين لا بأس بهما.

ص: 148

[مسألة 7: كما يتحقّق الردّ بإيصاله إلى المشتري، يتحقّق بإيصاله إلى وكيله المطلق]

مسألة 7: كما يتحقّق الردّ بإيصاله إلى المشتري، يتحقّق بإيصاله إلى وكيله المطلق، (1) قوله مدّ ظلّه: «وكيله المطلق».

نظراً إلى أنّ الشرط أعمّ.

و أمّا إذا كان المفروض ردّه إلى المشتري خصوصاً، أو على وجه لا ينطبق إلّا عليه، فقد استشكل المصنّف في درسه: بأنّ أدلّة الشروط قاصرة، و دليل الوكالة لا يقتضي إلّا نفوذ إيكال الأمر إلى الغير.

نعم، لو كانت الوكالة هي النيابة في الذات، و التنزيل في الصفات و الأفعال، كان لذلك وجه(1).

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ حكومة أدلّة الوكالة على العنوان المأخوذ شرطاً غير صحيحة؛ لأنّها من قبيل حكومة قوله (عليه السّلام): «الطواف بالبيت صلاة»(2) على العنوان المأخوذ في النذر فإنّه من نذر أن يصلّي صلاة كذا لا يجزي عنها الطواف بالضرورة، مع أنّ مقتضى الحكومة هو الإجزاء.

و توهّم: أنّه فيما إذا صرّح بالخصوصيّة لا يجوز الردّ إلى الوكيل حينئذٍ(3)، في غير محلّه؛ لأنّه لو ثبت التنزيل تحرز الخصوصيّة.


1- لاحظ البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 244.
2- عوالي اللآلي 1: 214/ 70، مستدرك الوسائل 9: 410، كتاب الحجّ، أبواب الطواف، الباب 38، الحديث 2.
3- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 232/ السطر 4. منية الطالب 2: 53/ السطر 16.

ص: 149

أو في خصوص ذلك (1)، أو وليّه، كالحاكم لو صار مجنوناً أو غائباً، بل و عدول المؤمنين في مورد ولايتهم. هذا إذا كان الخيار مشروطاً بردّ الثمن، أو ردّه إلى المشتري، و أطلق.

نعم، إذا كانت للخصوصيّة مفهوم نفي الغير، فلا يكفي بالضرورة.

و الإنصاف: أنّ الحكومة متحقّقة بحسب الموازين، و لكنّ انصراف دليل الحاكم عن التوسعة في أمثال المقامات قطعيّ، و لذلك لا يجوز الطواف عن صلاة الصبح أيضاً، و تكون الحكومة فيما إذا نذر أن يعطي الفقير، و كان زيد فقيراً بالاستصحاب، فإنّه تحصل الحكومة بالضرورة، فتأمّل.

قوله: «أو في خصوص ذلك».

هذا بلا إشكال بشرط كون الشرط هو الردّ إلى الأعمّ، و إلّا فيتوجّه إليه ما مرّ، و من هنا يظهر ما في المسائل الآتية.

نعم، فيما إذا كان الشرط هو الردّ إلى الحاكم بعنوانه، فلا يبعد ظهور الشرط في الأعمّ، كما إذا شرط الأب أن يردّ المبيع إلى وليّ الطفل، فإنّ الردّ إلى الحاكم و الجدّ جائز مع مراعاة الترتيب.

و أمّا توهّم: أنّ الردّ إلى النائب جائز؛ لأنّ الوكالة هي إيكال الأمر إلى الغير، و الحكومة و الولاية هي تولّي الغير أُمور الغائب و المجنون، فلا يحرز التنزيل، بخلاف النيابة، فإنّها تنزيل الغير مقامه

ص: 150

و أمّا لو اشترط بردّه إليه بنفسه و إيصاله بيده، فلا يتعدّى منه (1) إلى غيره.

بحيث يعدّ هو هو في الاعتبار، فيجوز- حسب أدلّة النيابة الردّ إلى النائب و لو كان الشرط مخصوصاً بالردّ إلى نفسه؛ لأنّه نفسه.

فهو غير تامّ:

فأوّلًا: لأنّ النيابة في غير استرداد الثمن لا تكون كافية، و هكذا الوكالة؛ لأنّها أُمور تقبل التفكيك، فلا بدّ من كونه نائباً عامّاً في جميع الشؤون، أو نائباً خاصّاً في هذه المسألة، كما هو المفروض هنا أيضاً.

و ثانياً: لا أثر لأدلّة النيابة و لا خبر فيها إلّا البناءات العقلائيّة، و هي قاصرة عن إثبات هذا النحو من الاتحاد و الوحدة حتّى لا يجوز الاقتداء بالنائب عن الميّت؛ لأنّه الميّت مثلًا و هكذا.

قوله دام ظلّه: «لا يتعدّى منه».

قد تبيّن ممّا سلف وجه التعدّي، و لكنّ الإنصاف أنّ التعدّي ممنوع، كما أنّه في صورة الإطلاق لا يبعد الاكتفاء؛ لأنّ الشرط أعمّ، فلا تخلط.

ص: 151

[مسألة 8: لو اشترى الوليّ شيئاً للمولّى عليه ببيع الخيار]

مسألة 8: لو اشترى الوليّ شيئاً للمولّى عليه ببيع الخيار، فارتفع حجره قبل انقضاء المدّة و ردّ الثمن، فالظاهر تحقّقه (1) بإيصاله إلى المولّى عليه، فيملك البائع الفسخ بذلك، قوله مدّ ظلّه: «فالظاهر تحقّقه».

لما مرّ، و لكن سقوط ولايته عليه برفع الحجر، لا يوجب جواز ردّ الثمن إليه، فله الامتناع عن القبول بدعوى: أنّ الشرط مخصوص به.

نعم، إذا شرط أن يردّ إليه تعييناً أو تخييراً، عرضاً أو طولًا، فوصلت النوبة إليه، يملك البائع الفسخ بالردّ إليه.

و غير خفيّ: أنّ عبارة المتن ساكتة عن كون الشرط هو الردّ إلى الوليّ، أو هو الأعمّ.

و توهّم عدم جواز الشرط بردّ الثمن إلى المولّى عليه إلّا في بعض الصور، كما إذا كان تأريخ رفع الحجر معلوماً، و إلّا فتلزم الجهالة في المدّة، في محلّه، إلّا أنّه قد عرفت المناقشة في كبرى المسألة(1).

و بالجملة: لو كان الشرط رجوعه إلى نفسه أو إلى الوليّ، فيجوز الردّ إلى الولي الآخر؛ قضاءً للأعمّ.

و أمّا إذا كان الشرط أخصّ فالردّ إلى الوليّ الآخر أيضاً غير بعيد؛ لأنّ الخصوصيّة تكون ناظرة إلى نفي الأجنبيّ.


1- تقدّم في الصفحة 134 و 128.

ص: 152

و لا يكفي (1) الردّ إلى الوليّ بعد سلب ولايته.

و أمّا إذا كانت الخصوصيّة المأخوذة نافية للحاكم و الوليّ الآخر، فإن كان الوليّ مثل الأب بل الجدّ، فلا يبعد صحّة الشرط؛ لعدم اعتبار المصلحة في تصرّفاته، بخلاف ما إذا كان من قبيل الحاكم، فإنّه لا بدّ من رعاية الغبطة و المصلحة، فعليه يجوز للمولّى عليه عند رفع الحجر دعوى: أنّ الردّ خلاف المصلحة، أو فيه المفسدة، و تكون هي مسموعة؛ بناءً على اعتبار عدم المفسدة حتّى في تصرّفات الأب و الجدّ، فتأمّل جدّاً.

قوله مدّ ظلّه: «و لا يكفي».

و لو كان الشرط هو الردّ إليه شخصاً فإذن يشكل؛ لأنّه يستلزم ضرر البائع، ضرورة أنّ الخيار باعتبار دفع الضرر أحياناً أو الحرج، و إذا منع المشتري من القبول بانسلاب ولايته، و المولّى عليه لا يقبل الردّ؛ لكونه أجنبيّا عن الشرط، يلزم وقوعه في الضرر و الحرج المنفيّين.

و ينحلّ الإشكال بأنّه من قبيل جعل الخيار للأجنبيّ فإنّه بموته ينسدّ باب الردّ عليه، فيقع بسوء اختياره، و فيما نحن فيه أيضاً كذلك، فكان عليه المحافظة على أمره و شرطه.

ص: 153

و لو اشترى أحد الوليّين كالأب، فهل يصحّ الفسخ مع ردّ الثمن إلى الوليّ الآخر كالجدّ؟ لا يبعد ذلك (1)، خصوصاً (2) فيما إذا لم يتمكّن من الردّ إلى الأب في المثال. و أمّا لو اشترى الحاكم ولاية، فالأقوى (3) عدم كفاية الردّ إلى حاكم آخر. و هذا أيضاً كما مرّ في المسألة السابقة فيما إذا لم يصرّح بردّه إلى خصوص المشتري بنفسه، و إلّا فلا يتعدّى منه إلى غيره.

قوله مدّ ظلّه: «لا يبعد ذلك».

لما مرّ من أنّ الشرط أعمّ(1) حتّى في صورة ذكر الخصوصيّة، اللهمّ إلّا إذا رجعت على وجه لا ينطبق إلّا على الأب مثلًا، فيأتي ما مرّ من التفصيل؛ لاحتمال لزوم مراعاة جانب المولّى عليه مصلحةً و مفسدةً، فلا تغفل.

قوله مدّ ظلّه: «خصوصاً».

لا وجه له؛ لأنّه إن كان الشرط أعمّ فيجوز على الإطلاق، و إن كان أخصّ فلا يجوز على الإطلاق.

قوله مدّ ظلّه: «فالأقوى».

قد تبيّن وجه المسألة، و وجه التفصيل بين صورتي الإمكان و عدمه، و وجه فساده.

و بالجملة: المدار على ملاحظة حال الشرط و حدود دلالة القضيّة


1- تقدّم في الصفحة 148.

ص: 154

الشرطيّة.

و أمّا توهّم: أنّ قبول الحاكم الثاني مزاحم للحاكم الأوّل، فهو و لو كان من الشيخ (رحمه اللَّه)(1) في غير محلّه؛ لأنّه إن كان الشرط خاصّاً فلا يجوز الردّ، و لو كان عامّاً فهو تأكيد لحكم الأوّل، لا مزاحمة.

نعم، في تخصيص الحاكم على وجه لا ينطبق إلّا على نفسه- بحيث لا يكفي الردّ إلى غيره إشكال؛ للزوم كونه على مصلحة المولّى عليه، فالإطلاق المشاهد هنا في المتن، ممنوع من جهات أُشير إليها في طيّ المسائل.


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري، الشيخ الأنصاري: 232/ السطر 23.

ص: 155

[مسألة 9: لو مات البائع ينتقل هذا الخيار كسائر الخيارات- إلى ورّاثه]

مسألة 9: لو مات البائع ينتقل هذا الخيار (1) كسائر الخيارات- إلى ورّاثه، فيردّون الثمن و يفسخون، فيرجع إليهم المبيع على قواعد الإرث، كما أنّ الثمن المردود أيضاً يوزّع عليهم (2) بالحصص. و لو مات المشتري فالظاهر جواز الفسخ؛ بردّ الثمن إلى ورثته. نعم، لو جعل الشرط ردّه إلى المشتري بخصوصه و بنفسه و بمباشرته، فالظاهر (3) عدم قيام ورثته مقامه، فيسقط الخيار بموته.

قوله مدّ ظلّه: «ينتقل هذا الخيار».

يأتي تفصيله في أحكام الخيار إن شاء اللَّه تعالى(1).

قوله: «عليهم».

أي على ورّاث المشتري، و يشكل التورث لأجل أنّ العوضين يرجعان إلى ملك المتعاقدين، و لا يورث حينئذٍ؛ لأنّه من الملك الجديد بعد الموت، و تفصيله مع حلّه في محلّه إن شاء اللَّه تعالى.

قوله: «فالظاهر».

إذا فهم من الشرط معنىً أعمّ، و إلّا فإن قلنا: بأنّ الإرث هو انتقال الأعيان إلى الورثة، فلا يجوز، و إن قلنا: إنّه قيام الورثة مقام المورِّث، و يكون من التنزيل في الاعتبار و عند الشرع، فيجوز مطلقاً حتّى في صورة التخصيص، و حيث لا سبيل إلى الثاني- لأنّه باطل عرفاً و شرعاً يشكل الجواز هنا جدّاً.


1- يأتي في الصفحة 319 323.

ص: 156

[مسألة 10: كما يجوز للبائع اشتراط الخيار له بردّ الثمن]

مسألة 10: كما يجوز للبائع اشتراط الخيار له بردّ الثمن، كذا يجوز للمشتري (1) اشتراطه له بردّ المثمن. و الظاهر المنصرف إليه الإطلاق فيه ردّ العين، فلا يتحقّق بردّ بدله و لو مع التلف، إلّا أن يصرّح بردّ ما يعمّ البدل، (2) قوله: «كذا يجوز للمشتري».

على القواعد العامّة، من غير حاجة إلى إلغاء الخصوصيّة من الأخبار الخاصّة بالمسألة السابقة، و ما عن «المستند» من المناقشة في الأصل(1) يجري هنا، و الجواب واضح؛ فإنّ الشرط المزبور ليس مخالفاً للكتاب.

قوله: «بردّ ما يعمّ البدل».

في هذه الصورة تكون المعاملة عقلائيّة إذا كان المثمن شخصيّاً، كما إذا اشترى فرساً بكتاب على أنّه إن ردّ إليه الفرس أو بدله مثلًا أو قيمته، يردّ إليه الكتاب، و يكون له الخيار.

و أمّا إذا كان المثمن كليّاً، فالشرط المزبور يرجع إلى أنّه إن ردّ إليه الفرس أو شيئاً بدله، يردّ إليه ألف دينار، و هذا ليس من شرط ردّ المثمن، بل هو من شرط ردّ ما يماثله؛ لما لا تعيّن له، و الأمر سهل.


1- مستند الشيعة 2: 384/ السطر 34.

ص: 157

و يجوز اشتراط الخيار لكلّ منهما (1) بردّ ما انتقل إليه.

قوله دام ظلّه: «لكلّ منهما».

على سبيل الاستقلال، و على سبيل الاجتماع، فلو ردّ أحدهما دون الآخر لا يكون على الفرض الثاني له الخيار، و اشتراط ردّ ما انتقل إليه أيضاً يمكن على الوجوه المزبورة.

بقي شي ء: و هو أنّ في عصرنا بيع الخيار و بيع الشرط، و المشهور بين المعاصرين بطلانه(1)؛ لأنّه ليس من بيع الخيار الشرعيّ، فإنّ فيما تعارف يكون للمشتري حقّ بيع الدار بأخذ الثمن، و ردّ الباقي إلى البائع، و الذي تحرّر منّا جواز ذلك بالشرط في ضمن البيع؛ نظراً إلى الأدلّة العامّة، و لا بأس بأن يكون هو من قبيل الفرار من الرّبا، فلا تخلط.


1- منهاج الصالحين، السيّد الخوئي، قسم المعاملات: 42 المسألة 164.

ص: 158

[الرابع: خيار الغبن]
اشارة

الرابع: خيار الغبن.

و هو فيما إذا باع بدون ثمن المثل، أو اشترى بأكثر منه مع الجهل بالقيمة، فللمغبون خيار الفسخ (1). و تعتبر الزيادة و النقيصة مع ملاحظة ما انضمّ إليه من الشرط، فلو باع ما يسوى مائة دينار بأقلّ منه بكثير مع اشتراط الخيار للبائع فلا غبن؛ لأنّ المبيع ببيع الخيار ينقض ثمنه عن المبيع بالبيع اللازم، و هكذا غيره من الشروط.

قوله مدّ ظلّه: «خيار الفسخ».

وفاقاً للأكثر، بل عن «الغنية»(1) و «المختلف»(2) الإجماع عليه صريحاً، و عن «نهج الحقّ» نسبته إلى الإماميّة(3)، و في «التذكرة» إلى علمائنا(4)، خلافاً لأكثر المخالفين إلّا مالك(5). و استدلّ عليه في الكتب المفصّلة(6) بالكتاب آيةِ التجارة(7)، و بالسنّة بطائفتين من


1- هذه العبارة سقطت من الغنية المطبوعة في ضمن الجوامع الفقهيّة. راجع سلسلة الينابيع الفقهيّة 13: 214.
2- مختلف الشيعة 1: 346/ السطر 32.
3- نهج الحقّ: 481.
4- تذكرة الفقهاء 1: 522/ السطر 40.
5- المغني لابن قدامة 4: 90 91 و الشرح الكبير 4: 79.
6- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 234/ السطر 23، البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 265 و مابعدها، مصباح الفقاهة 6: 293 و مابعدها.
7- النساء( 4): 29.

ص: 159

الأخبار(1) غير راجعتين إلى محصّل؛ لأنّ الدلالة ممنوعة، مضافاً إلى ضعف سندهما.

و قضيّة الآية بطلان البيع الغبنيّ إن كان باطلًا، و إلّا فيصحّ، و لا تدلّ على الجواز الحقّي إلّا ببعض تقاريب غير نقيّة ذكرنا أحسن وجوهها في كتابنا الكبير.

و أمّا الاستدلال عليه بقاعدة «لا ضرر ..»(2) فهي مضافاً إلى المناقشات الكثيرة، تقصر عن إثبات الجواز الحقّي المورَّث أيضاً. هذا مع أنّ مقتضى ما عرفت منّا أنّ القاعدة تنفي اللزوم، و الخيارُ الثابت بأدلّته في غير المقام يجتمع مع اللزوم في الاعتبار فإنّ العقد الخياري ليس معناه التزلزل في العقد، بل معناه تمكّن الإنسان من إعدامه، كسائر البناءات و العقود.


1- الطائفة الأُولى المرسلة المرويّة عن النبيّ( صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم(« أنّه نهى عن تلقّي الركبان و قال: من تلقّاها فصاحبها بالخيار إذا دخل السوق»، عوالي اللآلي 1: 218/ 85 و دعائم الإسلام 2: 31/ 64. الطائفة الثانية جملة من الروايات كرواية إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللَّه( عليه السّلام) ف قال:« غبن المسترسل سحت»، و رواية ميسّر عنه( عليه السّلام) قال:« غبن المؤمن حرام». وسائل الشيعة 18: 31، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 17.
2- الكافي 5: 292/ 2، وسائل الشيعة 18: 32، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 17، الحديث 3 5.

ص: 160

مثلًا: عقد البيع لازم، و جميع العقود غير الخياريّة المعاوضيّة لازمة، مع أنّها تنفسخ بالتقايل، من غير كونها متزلزلة و لا جائزة، و الخيار بمنزلة التقايل الطرفي الذي سلّطه الشارع على حلّه، فاغتنم.

و بالجملة: حقيقة الخيار ذلك، و تلك القاعدة تقصر عن إثبات مثله.

و ربّما استدلّ المصنّف ببناء العقلاء(1)، و هو لو كان حقّا فربّما يدّعى مردوعيّته بأدلّة لزوم العقد، ك أَوْفُوا بِالْعُقُودِ(2) و ذيلِ روايات خيار المجلس(3)، فإنّ قوله (عليه السّلام): «فإذا افترقا وجب البيع»(4) يقتضي بإطلاقه لزوم البيع الغبنيّ، و لو قلنا بقصورها عن إمكان الرادعيّة- كما تحرّر في سائر البناءات العقلائيّة فإنّ الإطلاق و العمومات لا تكفي لذلك، بل لا بدّ هناك من نصوص خاصّة.

فالأظهر: أنّ بناء العقلاء قاصر عن إثبات الخيار على الوجه المقصود؛ ضرورة أنّ مع بذل التفاوت يشكل دعواه، بل الظاهر أنّه لا بناء لهم عليه في الصورة المذكورة في المتن، فإنّ العقلاء غير ملتزمين بخيار


1- البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 281.
2- المائدة( 5): 1.
3- وسائل الشيعة 18: 5، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 1 و 2.
4- الكافي 5: 170/ 7، وسائل الشيعة 18: 6، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 1، الحديث 4.

ص: 161

الغبن في بيع الخيار جزماً، و ما ذكروه لتصوير الخيارات في البيع الواحد عَرْضاً أو طولًا، كما نحن فيه فإنّ الخيار المشروط في العقد مقدّم على الخيار الغبنيّ؛ بناءً على القول بأنّ مبدأه التسليم كما قيل، أو مبدأه ظهور الغبن كما عن الأكثر(1)، و هو الظاهر من أخبار تلقّي الركبان(2).

فبالجملة: قد ذكرنا في كتابنا الكبير أنّ الخيار الثابت للعقلاء فرضاً في البيع الغبنيّ، هو الاختيار بين الإمضاء و الرّدّ الذي هو ثابت في بيع الفضوليّ و المكره، فإنّ المغبون إذا كان ملتفتاً إلى الغبن، فلا بدّ لإقدامه على المعاملة الضرريّة من غرض عقلائيّ، فلا خيار له، و إلّا فيكون من البيع و الأكل بالباطل، و هكذا لو كان جاهلًا و غير معتنٍ بهذه الأُمور. و لو كان من الضرر اليسير غير الفاحش فلا خيار أيضاً له عندهم.

و بالجملة: تحصّل أنّ خيار الغبن بالمعنى المقصود غير ثابت، كما استشكل عليه المحقّق في درسه الشريف(3)، و اختار الإسكافيّ أنّه لا خيار(4)، و لو شكّ فقضيّة الأصل هو اللزوم على ما تحرّر. و من هنا يظهر وجه قوله- مدّ ظلّه في الفرع الآتي، و يتبيّن وجه المناقشة في ثبوت


1- المبسوط 2: 87، سلسلة الينابيع الفقهيّة 13: 214، شرائع الإسلام 2: 16.
2- مستدرك الوسائل 13: 280، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 29.
3- لاحظ الدروس الشرعيّة 3: 275.
4- لاحظ مختلف الشيعة: 346/ السطر 29، و الدروس الشرعيّة 3: 275.

ص: 162

الخيار و لو كان غبناً في بيع الخيار و في سائر الشروط.

و ربّما يتوهّم: أنّ مبنى خيار الشرط على تخلّف الوصف أو الشرط الضمنيّ، كما اختاره السيّد الفقيه اليزدي و جمع كثير(1)، تبعاً للشيخ في غير المقام(2)، و هذا أهون و أظهر فساداً من دعوى بناءَ العقلاء على رجوع خيار الغبن إلى خيار آخر.

هذا مع أنّ الاشتراط الضمنيّ يرجع إلى الاشتراط الذكري، فيصحّ أن يحتجّ المشروط له على المشروط عليه بذلك، مع أنّ الضرورة تحكم بخلافه، و لا عهد منه بين العقلاء في صورة تخلّف المشروط عليه، و لا ينبغي الخلط بين المعاملات العامّة الدائميّة، و بين قسم خاصّ منه ربّما يكون فيه ذلك.

و ممّا يشهد على أنّ خيار الغبن لا أصل له: أنّ المسائل العقلائيّة لها مناشئ خاصّة، مثلًا ثبوت خيار الغبن يكون لأجل أنّ بناء المعاملات على عدم الاغترار، و معناه المساواة في الماليّة مساواة عرفيّة تسامحيّة، فعلى هذا يكون البيع مردّداً بين الصحّة و الفساد، فيحتاج إلى الرضا و الإمضاء على وجه لا يعدّ من السفه في المعاملة كما لا يخفى، فتأمّل.


1- حاشية المكاسب، السيّد اليزدي 2: 38/ السطر 24، و منية الطالب 2: 57/ السطر 18.
2- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 234/ السطر 24.

ص: 163

و يشترط فيه أن يكون التفاوت بما لا يتسامح فيه (1) في مثل هذه المعاملة، و تشخيص ذلك موكول إلى العرف، و تختلف المعاملات في ذلك، فربّما يكون التفاوت بنصف العشر بل بالعشر، ممّا يتسامح فيه، و لا يعدّ غبناً، و ربّما يكون بعشر العشر غبناً، و لا يتسامح فيه، و لا ضابط لذلك، بل هو موكول إلى العرف.

قوله مدّ ظلّه: «بما لا يتسامح فيه».

كما في كلام جلّ من المتأخّرين(1)، آخذين ذلك عن الشهيد الثاني في تفسير «ما لا يتغابن به الناس»(2) و قد اشتملت كلمات الأسبقين على ذلك(3)، و لعلّه متّخذ عمّا في رواية «دعائم الإسلام»(4) فيكون المناط على ما لا يتغابن به الناس، و فيها التصريح بأنّ الخيار ثابت إذا كان الأمر فاحشاً و الغبن بيّناً، و على كلّ تقدير يكون المقصود معلوماً؛ و هو إلحاق الغبن المتقارب من الغبن المتعارف به، و ما هو موضوع الخيار هو الغبن الفاحش.

و غير خفيّ: أنّ قضيّة «لا ضرر ..» ثبوت الخيار مطلقاً، و الانصراف المدّعى أحياناً غير ثابت، فتكون القاعدة مخصّصة بالإجماع و السيرة.


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 234/ السطر 24.
2- الحدائق الناضرة 19: 41، رياض المسائل 1: 525/ السطر 9، جواهر الكلام 23: 43.
3- الروضة البهيّة 1: 377/ السطر 21.
4- دعائم الإسلام 2: 56/ 150.

ص: 164

[مسألة 1: ليس للمغبون مطالبة الغابن بتفاوت القيمة]

مسألة 1: ليس للمغبون (1) مطالبة الغابن بتفاوت القيمة، بل له الخيار بين أن يفسخ البيع، أو يرضى بالثمن المسمّى. كما أنّه لا يسقط خياره ببذل الطرف التفاوت، نعم مع تراضيهما لا بأس به.

قوله دام ظلّه: «ليس للمغبون».

ما ذكره في هذه المسألة مبنيّ على أنّ هذا الخيار إجماعيّ، و لا دليل شرعاً على أزيد من خيار حلّ الفسخ، و لا دليل على سقوطه بما وراء المسقطات الآتية، فإنّ سقوطه بها لا يرجع إلى اشتراطه بعدمها، بخلاف هذا فإنّ معنى سقوطه به اشتراطه بعدم البذل.

ص: 165

[مسألة 2: الخيار ثابت للمغبون من حين العقد]

مسألة 2: الخيار ثابت للمغبون من حين العقد (1)، و ليس بحادث عند علمه بالغبن، قوله دام ظلّه: «من حين العقد».

إجماعاً كما في «التذكرة»(1) و يعارضه الإجماع في «الغنية»(2) و ظاهر «المبسوط»(3) و «الشرائع»(4) و عليه شهرة المتأخّرين(5).

و بالجملة: ما هو السند قبل الاتفاق؛ أنّ اشتراط الظهور أو كونه تمام الموضوع، يحتاج إلى دليل لا أثر منه.

نعم، ربّما يستظهر من أخبار تلقّي الركبان(6)، دخالة الظهور في ثبوت الخيار، حيث ورد فيها عن النبيّ (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم (أنّه نهى عن تلقّي الركبان. و قال: «من تلقّاها فصاحبها بالخيار إذا دخل السوق»(7).

و الظاهر منه دخالة القيد و لو أُفيد ب «إذا» التي هي للتوقيت أقرب


1- تذكرة الفقهاء 1: 522/ 40.
2- هذه العبارة سقط من الغنية المطبوعة في ضمن الجوامع الفقهيّة. راجع سلسلة الينابيع الفقهيّة 13: 214.
3- المبسوط 2: 87.
4- شرائع الإسلام 2: 16.
5- جواهر الكلام 23: 43.
6- مستدرك الوسائل 13: 280، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 29.
7- مستدرك الوسائل 13: 281، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة، الباب 29، الحديث 2.

ص: 166

من كونها للتعليق، و لو لا ضعف إسنادها لكان دلالتها تامّة.

و أفاد المصنّف امتناع كون العقد مبدأ اعتبار الخيار، و الظهورِ شرطاً لأنّه عند ظهور الشرط لا مشروط، ضرورة أنّ الغبن حين العقد معنى حدثي.

و أجاب عنه: بأنّ ما هو موضوع حكم العقلاء أو الشرع؛ هو المعنى الحدثيّ الباقي في ظرفه(1).

و إن شئت قلت: الخيار ثابت للبائع بالنسبة إلى العقد الباقي لأجل الغبن، فلا سببيّة للغبن بوجوده الخارجيّ.

و بالجملة: قضيّة القواعد أنّ الغبن تمام الموضوع لاعتبار الخيار في العقد؛ بناءً على كون العقد تمام الموضوع للزوم.

و أمّا بناءً على أنّ في الاعتبارات العقلائيّة عقداً و بيعاً، و البيع وفاء بالعقد، و قبل المبادلة لا يكون العقد لازماً، فيكون الخيار ثابتاً من حين المبادلة، و هذا هو الذي قوّيناه في كتابنا الكبير(2).

و توهّم جواز إسقاط الخيار قبل العلم به في ضمن العقد و قبل المبادلة الخارجيّة و لو من طرف واحد، و هو يشهد على أنّ الخيار ثابت من الأوّل، و يكون مبدأ اعتباره العقد الغبنيّ، غير سديد؛ لأنّ الإسقاط قبل


1- البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 302 304.
2- هذه المباحث من كتاب الخيارات من تحريرات في الفقه مفقودة.

ص: 167

الثبوت و بعد تماميّة ما هو كالمقتضى، جائز عندهم، ففي صورة احتمال الغبن يصحّ الإسقاط التقديري، و يؤثّر أثره في ظرفه، فتدبّر.

و غير خفيّ: أنّ ما يدلّ من الأخبار فرضاً على الغبن- كخبر إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: «غبن المسترسل سحت»(1) أو «غبن المؤمن حرام»(2) و لو كان بإطلاقها دالّة على أنّ الغبن الواقعيّ يوجب الخيار، إلّا أنّ المنصرف منها ما هو العقد و البيع الذي لولا الغبن لكان لازماً من جهة عدم الغبن؛ و لو كان فيه خيار الحيوان و المجلس. هذا مع أنّ القوم ناقشوا في دلالتها على أصل المسألة(3).

و بالجملة: ما هو الوحيد لإثبات خيار الغبن الحقّي المقصود منه هنا هو الإجماع، و القدر المتيقّن منه حال الظهور، فقول المتأخّرين غير متين جدّاً.


1- الكافي 5: 153/ 14، وسائل الشيعة 18: 31، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 17، الحديث 1.
2- الكافي 5: 153/ 15، وسائل الشيعة 18: 32، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 17، الحديث 2.
3- جواهر الكلام 23: 42، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 235/ السطر 29، البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 281.

ص: 168

فلو فسخ قبل ذلك و صادف الغبن انفسخ. (1) نعم، قد عرفت منّا: أنّ خيار الغبن عندنا كإجازة الفضوليّ(1)، فلا نحتاج إلى تحرير الإجماع و تقريره، فاغتنم.

فتحصّل: أنّ الاحتمالات ثلاثة، و الثالث ما أبدعناه و قرّبناه؛ و هو أنّ مبدأ هذا الخيار هو البيع، أي التبادل المترتّب على عقده.

قوله مدّ ظلّه: «انفسخ».

لا إشكال عندنا في أنّ الفسخ يؤثّر في حلّ العقد في هذه الصورة؛ لأنّه إن كان تبادل و غبن فقد كان له الخيار، و إن لم يكن تبادل فالعقد غير لازم.

و إنّما الإشكال في أنّ الانفساخ لأجل الخيار المستند إلى الغبن الواقعيّ، أم هو لأجل ما ذكرنا، و قد عرفت أنّ مقتضى ما هو مرامهم- من أنّ الخيار الحقّي ثابت، و لا يجوز بذل ما به يرتفع الغبن هو الأخذ بالقدر المتيقّن؛ لأنّ الدليل المثبت لهذا الحقّ، ليس إلّا الإجماع بالضرورة عند المحصّلين منهم، فراجع.


1- تقدّم في الصفحة 160 161.

ص: 169

[مسألة 3: لو اطلع على الغبن و لم يبادر بالفسخ]

مسألة 3: لو اطلع على الغبن و لم يبادر بالفسخ، فإن كان لأجل جهله بحكم الخيار، فلا إشكال (1) في بقائه. و إن كان عالماً به، فإن كان بانياً على الفسخ غير راضٍ بالبيع بهذا الثمن، لكن أخّر الفسخ لغرض، فالظاهر بقاؤه. (2) قوله: «فلا إشكال».

و في «المتاجر»: «لا خلاف في معذوريّة الجاهل بالخيار في ترك المبادرة؛ لعموم نفي الضرر»(1) انتهى.

و التعليل عليل؛ إمّا لأجنبيّة القاعدة عن مسألة الحكومة على الأدلّة، أو لأجنبيّتها عن المقام؛ لما لا يثبت بها الحقّ.

نعم، لا يبعد ذلك بحكم العقلاء إذا كان الخيار عقلائيّاً، كما هو مختار الماتن(2). و لو كان المستند هو الإجماع(3) كما هو الأظهر فلا يبعد السقوط؛ لأنّ الحكم مشترك بينهما، فإن فوراً ففور على الإطلاق، و إن تراضيا فكذلك و لو أمكن احتمال الاختصاص.

قوله مدّ ظلّه: «فالظاهر بقاؤه».

لما أُشير إليه من البناء العقلائيّ عليه في أصل الخيار و حكمه(4)،


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 244/ السطر 15 16.
2- البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 281.
3- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 235/ السطر 34.
4- تقدّم في الصفحة 160 161.

ص: 170

و هو مقتضى إطلاق آية الوفاء بالعقود(1)؛ لأنّه المرجع، دون الاستصحاب. هكذا مبناه- مدّ ظلّه(2).

و الحقّ: أنّ آية الوفاء بالعقود أجنبيّة عن المسائل التجاريّة، و استصحاب الخيار ممنوع جريانه في ذاته، فتصل النوبة إلى استصحاب حكم العقد، و هو أيضاً غير محرز لأصل السبب المانع عن جريان حكم الخيار؛ ضرورة أنّ الشكّ إن كان كليّاً فمنشأه احتمال الفسخ، و هو هنا غير محتمل، و إن كان منشأه إجمال الدليل، فلا يمكن الاستصحاب؛ للزوم جرّ الحكم إلى موضوع آخر.

و إن كان شخصيّاً، فلا يقين بالنسبة إلى ما في الخارج؛ لأنّ الخارج مصدوق عليه، و لا بدّ من كون موضوع الدليل خارجيّاً حتّى يفيد اليقين المتعلّق به، و أمّا اليقين المتعلّق بالشخص المنطبق عليه عنوان الدليل، فهو ليس موضوع الحكم عند الشرع و إن كان موضوعاً بمقتضى الشكل الأوّل و القياس المنطقيّ. و على هذا، يكون المرجع إطلاق دليل قطعيّ غير الآية؛ إذا كان يقتضي لزوم العقد، فحديث جريان استصحاب حكم المخصّص بلا أساس ذاتاً، و التفصيل في محلّه.


1- المائدة( 5): 1.
2- البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 369.

ص: 171

نعم، ليس له التواني فيه بحيث يؤدّي إلى ضرر (1) و تعطيل أمر على الغابن، بل بقاؤه مع عدم البناء على الفسخ، و إنّما بدا له بعد ذلك، لا يخلو من قوّة (2).

قوله مدّ ظلّه: «إلى ضرر».

لأنّ الإضرار محرّم، و هكذا التعطيل، فإنّه تحريج، و هو أيضاً غير جائز. و لا يلزم من ذلك سقوط خيار لو كان على التراخي، إلّا على القول بحكومة مصداق من القاعدة على مصداق آخر.

و يمكن دعوى: أنّ جميع التصرّفات في العوض للغابن جائزة حتّى الإتلاف، فلا يتصور الضرر و الحرج؛ لأنّ المناط قيمة يوم الفسخ.

نعم، لو قلنا: بأنّ المناط قيمة يوم المطالبة كما هو الأقوى عندنا، فتأخير الطلب ربّما يمنع، فلا تغفل.

قوله مدّ ظلّه: «لا يخلو من قوّة».

مرّ و تبيّن وجهه؛ فإنّ التفصيل بين الفرضين بلا وجه.

ص: 172

[مسألة 4: المدار في الغبن على القيمة حال العقد]

مسألة 4: المدار في الغبن على القيمة حال العقد، فلو زادت بعده لم يسقط (1) و لو قبل علم المغبون بالنقصان حينه، قوله مدّ ظلّه: «لم يسقط».

لأنّ الخيار المذكور تعبّدي، فلو كان عقلائيّاً فلا خيار بالضرورة، و لا سيّما إذا كانت الزيادة الجابرة للغبن فوريّة.

نعم، إذا اطلع على الغبن، و كانت الزيادة في الأزمنة المتأخرة، فالسقوط غير واضح.

و لو كان مستند الخيار الاشتراط الضمني؛ حتّى يكون الخيار خيارَ تخلّف الشرط حقيقة كما عليه جمع(1)، تبعاً لأحد محتملات الشيخ (قدّس سرّه)(2) فيه، فالأمر كذلك؛ لأنّ ثبوت خيار التخلّف عقلائيّ أيضاً و هو في هذه الصورة غير معلوم أصلًا. و مثله لو كان قاعدة «لا ضرر ..».

و لو شكّ فالمرجع في أمثال هذه الأحكام هو استصحاب الخيار؛ لعدم الدليل اللفظيّ حتّى يكون هو المرجع. هذا مع أنّ مقتضى التحقيق: أنّ الخيار دليل لزوم العقد حتّى حين ثبوته، كما تحرّر في كتابنا الكبير(3)، فلا مرجعيّة صالحه إلّا الاستصحاب.


1- حاشية المكاسب، السيّد اليزدي 2: 38/ السطر 24، منية الطالب 2: 57/ السطر 18.
2- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 234/ السطر 24.
3- هذه المباحث من كتاب الخيارات من تحريرات في الفقه مفقودة.

ص: 173

و لو نقصت بعده لم يثبت. (1) و توهّم إطلاق الأدلّة اللفظية المثبتة لخيار الغبن، غير سديد أصلًا، مع ما فيها أساساً.

قوله مدّ ظلّه: «لم يثبت».

و إلّا يلزم ثبوت الخيار في كلّ بيع؛ ضرورة أنّ النقصان المتأخّر لو كان يورث الخيار للمشتري، يلزم أن تكون الزيادة على القيمة حين العقد موجبة للخيار للبائع، فلا يقوم حينئذٍ للمسلمين سوق.

ثمّ إنّه كما لا يثبت على القول: بأنّ مبدأ الخيار هو العقد، كذلك لا يثبت على القولين الآخرين، فتوهّم أنّ الظهور لو كان شرطاً شرعيّاً، لكانت الزيادة المتأخّرة أو النقصان المتأخّر موجباً للخيار(1)، غير تامّ.

و من هنا يظهر: أنّ الزيادة الجابرة للغبن حين العقد، إذا كانت قبل الظهور، تمنع عن ثبوت الخيار؛ بناءً على القول: بأنّ مبدأ الخيار هي المبادلة أو ظهور الغبن.

بقي فرع: لو باع داره، و كان المشتري مغبوناً بالعشر، و قلنا إنّه يوجب الخيار، ثمّ نقصت قيمتها السوقيّة جدّاً، أو باع داره، و كان البائع مغبوناً، ثمّ زادت قيمتها، ففي الفرعين يثبت بقاعدة «لا ضرر ..» خيار لكلّ منهما، و يرتفع الخيار؛ لكونه ضرريّاً.


1- لاحظ حاشية المكاسب، المحقّق الأصفهاني 2: 54/ السطر 39 و ما بعده.

ص: 174

و تنحلّ المشكلة أوّلًا: بأنّ القاعدة ليست مستند الخيار.

و ثانياً: بعدم وجه لانحلالها إلى مصاديق؛ يكون أحدها مثبتاً، و الآخر رافعاً.

و ثالثاً: لو انحلّت يكون إطلاق المصداق الأوّل، مثبتاً للخيار إلى حال اختلاف القيمة زيادة و نقيصة، و المصداق الآخر يقيّده، و يوجب رفع الخيار في تلك الحال، فتأمّل.

ص: 175

[مسألة 5: يسقط هذا الخيار بأمور]
اشارة

مسألة 5: يسقط هذا الخيار بأمور:

[أحدها: اشتراط سقوطه في ضمن العقد]

أحدها: اشتراط سقوطه (1) في ضمن العقد، قوله دام ظلّه: «اشتراط سقوطه».

قد مرّت المناقشة فيه(1) لو رجع إلى عدم الثبوت، و أمّا الإسقاط في ضمن العقد المنتهى إلى سقوط ما يثبت بإطلاق الأدلّة الشرعيّة، فهو فرع كون خيار الغبن حقّا يسقط، فلو كان المستند الإجماع أو الأخبار، فلا يبعد انصراف المعقد و محطّها إلى أنّه الخيار المصطلح العقلائيّ الذي يسقط.

و مثله لو قلنا: إنّه الشرط الضمنيّ(2)، على إشكال فيه التزم به من اتخذه سنداً.

و أمّا إذا كان المستند الآية أو القاعدة(3)، فلا يثبت به الحقّ و إن قرّبناه في محلّه، و حيث اختار المصنّف أنّ المستند هو بناء العقلاء(4)، فالاشتراط المزبور في محلّه.

نعم، إشكال التعليق و عدم الجزم(5)، ينحلّ بعدم مضرّيته حتّى


1- تقدّم في الصفحة 159.
2- تقدّم في الصفحة 172، الهامش 1.
3- وسائل الشيعة 25: 428، كتاب إحياء الموات، الباب 12، الحديث 3.
4- البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 281 و 307 308.
5- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 238/ السطر 25 26، و أيضاً حاشية المكاسب، المحقّق الأصفهاني 2: 59/ السطر 33.

ص: 176

و يقتصر فيه على مرتبة من الغبن كانت مقصودة عند الاشتراط (2)، و شملته العبارة، فلو كان المشروط سقوط مرتبة من الغبن كالعشر، فتبيّن كونه الخمس، لم يسقط.

في الإيقاعات، فضلًا عن أمثال هذه الإيقاعات.

ثمّ، أنّ المراد من «ضمن العقد» أعمّ من كونه بين الإيجاب و القبول، أو بعدهما، بعد كون الجملة متعلّقةً به عرفاً، و تفصيل الكلام ربّما أُشير إليه في الخيارين السابقين: المجلس، و الحيوان.

قوله مدّ ظلّه: «اشتراط سقوطه».

و هذا ممّا هو المتفق عليه المفروغ عنه في كلماتهم(1)، و هو مقتضى كونه حقّا، و الإشكال فيه تارة: من جهة أنّ سند خيار الغبن قاصر عن إثبات حقّيته(2)، و أُخرى: بأنّ السقوط خلاف الكتاب، في غير محلّه، و ينفعك ما مرّ في خيار المجلس و غيره(3).

قوله مدّ ظلّه: «عند الاشتراط».

ذلك لأنّ الحقّ يحتاج في إسقاطه إلى الإنشاء، و لا معنى لسقوط


1- الدروس الشرعيّة 3: 276، جامع المقاصد 4: 302، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 238/ السطر 31.
2- حاشية المكاسب، المحقّق الأصفهاني 2: 59/ السطر 3.
3- تقدّم في الصفحة 92 و ما بعدها.

ص: 177

بل لو اشترط سقوطه و إن كان فاحشاً أو أفحش لا يسقط (1)، إلّا ما كان كذلك بالنسبة إلى ما يحتمل في مثل هذه المعاملة، لا أزيد، فلو فرض أنّ ما اشتراه بمائة لا يحتمل فيه أن يسوى عشرة أو عشرين، و أنّ المحتمل فيه من الفاحش إلى خمسين، و الأفحش إلى ثلاثين، لم يسقط مع الشرط المذكور إذا كان يسوى عشرة أو عشرين. هذا كلّه إذا اشترط سقوط الخيار الآتي من قبل العشرة مثلًا بنحو التقييد، و يأتي الكلام في غيره في الأمر الثاني.

ما زاد عن مفاد العبارة.

و هذا ليس معناه سقوط مقدار من الحقّ؛ حتّى يقال بعدم تعدّد الحقّ، بل معناه عدم سقوط الحقّ فيما إذا كانت المعاملة مشتملة على المرتبة العليا من الغبن، و كانت ألفاظ إنشاء الإسقاط، غيرَ منطبقة عرفاً إلّا على إسقاط الحقّ و الخيار الناشئ من الغبن في المرتبة الخاصّة، و سيمرّ عليك في المسقط الآتي تمام ما يتعلّق بالبحث هنا.

قوله دام ظلّه: «لا يسقط».

لأنّ الانصراف المذكور في المتن في حكم التصريح بالمقيّد، فلا تشمل العبارة إلّا سقوط الخيار الناشئ من الغبن بمرتبة خاصّة.

و لنا في المسألة بحث نشير إليه: و هو أن تجزّؤ الخيار بحسب التصوّر و التصديق- كما في باب الإرث ممّا لا إشكال فيه، و على هذا إذا كان البيع مشتملًا على الغبن الأفحش، فإن قلنا: بأنّ صِرْف وجود الغبن

ص: 178

يورث الخيار، فالتقييد في مقام الإسقاط بالسبب، يورث عدم سقوطه إذا كان القيد غير منطبق على الخارج.

و إذا قلنا: بأنّ مجرّد التجاوز عن الحدّ المتسامح فيه يورث الخيار، و سائرَ مراتب الغبن كالحجر جنب الإنسان، فالتقييد بالمرتبة العليا لا يورث سقوط الخيار الناشئ من تلك المرتبة؛ لأجل عدم وجود خيار له مقيداً بها.

نعم، يستظهر منه عرفاً سقوط خياره؛ لأنّ الراضي بالعقد و الملتزم بالبيع الغبنيّ بالغبن الأفحش، ملتزم بالفاحش عرفاً و لو أمكن التفكيك عقلًا، كما لا يخفى.

و في المسألة احتمالات أُخر ربّما تجي ء بعد ذلك. و أمّا ما هو الأظهر من بين الاحتمالين فهو الثاني بحسب النظر البدوي.

و يمكن الالتزام بسقوط خيار الغبن في صورة التقييد بالمرتبة الأُولى؛ و لو كان الغبن في المرتبة العليا خلاف المرتكز العرفيّ، و يؤيّد الاحتمال الأوّل، فيكون الغبن في كلّ بيع بمرتبة موجباً للخيار.

أو يقال: إنّ إسقاط الخيار المتقيّد بالمرتبة الأُولى، يورث سقوطه على نعت التجزّؤ، و تصير النتيجة عدم الخيار له إذا كان الأفحش ممّا يتسامح فيه بعد سقوط تلك المرتبة.

مثلًا: إذا كان غبنه لأجل العشرين، و أسقط الخيار الناشئ من

ص: 179

[ثانيها: إسقاطه بعد العقد و لو قبل ظهور الغبن]

ثانيها: إسقاطه بعد العقد و لو قبل ظهور الغبن؛ إذا أسقطه على تقدير ثبوته. (1) الخمسة عشر، يسقط خياره، و المقدار الباقي لا يقتضي الخيار، و إسقاط الخيار المقيّد يرجع في الحقيقة إلى مضيّه عن حقّه و هو الخمسة عشر، و إلى إعطاء ماله مثلًا مجّاناً إلى الغابن، فلا خيار له بعد ذلك إلّا إذا كان المقدار الباقي فاحشاً.

قوله دام ظلّه: «على تقدير ثبوته».

على ما صرّح به الشيخ(1) و غيره(2).

و المناقشة فيه: بأنّه أمر غير عقلائيّ.

أو أنّه من التعليق المجمع على بطلانه شرعاً.

أو أنّه من إسقاط ما لا يجب، فلا يجوز عقلًا(3).

غير قادحة:

أمّا الاولى: فلأنّ التزلزل ربّما يورث ضعفاً يحتاج إلى سدّه، فيكون عقلائيّاً.

و أمّا الثانية: فلأنّ ما أجمعوا على بطلانه، ليس مثل التعليق المتقوّم مفهوم الإنشاء به، كالإبراء في موارد احتمال الاشتغال. مع أنّ الإجماع ممنوع،


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 238/ السطر 23.
2- منية الطالب 2: 70/ السطر 9.
3- لاحظ المكاسب، الشيخ الأنصاري: 238/ السطر 23، منية الطالب 2: 70/ السطر 11.

ص: 180

و هذا أيضاً يقتصر فيه على مرتبة من الغبن كانت مشمولة للعبارة، فلو أسقط مرتبة خاصّة منه كالعشر، فتبيّن كونه أزيد، لم يسقط إذا كان الإسقاط بنحو التقييد؛ بأن يسقط الخيار الآتي من قبل العشر مثلًا بنحو العنوان الكلّي المنطبق على الخارج بحسب وعائه المناسب (1) له.

و لو كان فلا دليل على كونه تعبّدياً.

و أمّا الثالثة: فالإسقاط بالحمل الشائع، لا يعقل إلّا مع كون الذمّة مشغولة مثلًا، و أمّا في صورة الاحتمال فيجوز الإسقاط، و لا يعلم أنّه إسقاط بالحمل الشائع- أي أنّه مسقط واقعاً أم لا، و هذا لا يضرّ بالمقصود، فلا تخلط.

هذا مع أنّ سدّ باب تأثير المقتضي بإيجاد المانع، أو تضعيف المقتضي، ممكن، و لكنّه خلاف الكتاب في الفرض الثاني، و غير ممكن في الأوّل، فتأمّل.

قوله دام ظلّه: «وعائه المناسب».

أي أنّ لكلّ قضيّة وعاء الصدق و الكذب، و في المقام إنّ العقد خياري في وعاء الاعتبار، فإذا تقيّد الخيار الخاصّ في مرحلة الإسقاط، يجوز أن يكون غير منطبق على ما هو في الخارج اعتباراً.

ص: 181

و أمّا إذا أسقط الخيار المتحقّق في العقد؛ بتوهّم أنّه مسبّب من العشر، فالظاهر سقوطه (1)؛ سواء وصفه بالوصف المتوهّم، أم لا، فلو قال: «أسقطت الخيار المتحقّق في العقد الذي هو آتٍ من قبل العشر» فتخلّف الوصف، سقط خياره على الأقوى. و أولى بذلك ما لو أسقطه بتوهّم: أنّه آتٍ منه.

قوله دام ظلّه: «فالظاهر سقوطه».

لأجل أنّ الساقط ليس معنىً كلّياً، بل أمر جزئيّ خارجيّ، و الأُمور الجزئيّة الخارجيّة تكون القيود الواردة عليها من الحالات، نظير تقييد الإمام الموجود في المحراب بقيود كذائيّة، فإنّه بالتقييد لا يلزم عدم وقوع الاقتداء بأمر غير خارجيّ، بل في جميع الحالات يقع الاقتداء بالخارج، فإذا كان عادلًا يكون اقتداؤه بالعادل الكافي لصحّة جماعته.

و من هنا يظهر وجه قوله دام ظلّه: «سواء وصفه ..» إلى آخره، فإنّ التوصيف تقييد و تضييق، و لكن لا يورث تقسيم الخارج؛ لامتناع انقسامه إلى الكثير، فإذا كان له الخيار في العقد يسقط؛ لأنّ إنشاء إسقاطه مرتبط به، و سبب سقوطه. و هذا هو الفرع الموجود في كلام الشيخ (قدِّس سرُّه) حيث قال: «و لو أسقطه بزعم كون التفاوت عشرة فظهر مائة، ففي السقوط وجهان»(1) انتهى.

و لو كان متحيّراً في ترجيح أحدهما على الآخر في فرض الزعم، ففي


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 238/ السطر 14.

ص: 182

فرض التوصيف يكون التحيّر أولى. و إليه يشير قوله دام ظلّه: «و أولى بذلك ما لو أسقطه بتوهّم أنّه آتٍ منه ..» إلى آخره، و لكن لا حاجة إليه بعد تصريحه في أوّل المسألة بالتسوية.

و الإنصاف خلافه، و لو صحّ ما قيل يلزم سقوط خيار العيب بإسقاط خيار الغبن.

و لا تقاس هذه المسألة بمسألة الاقتداء، فإنّه لا يعقل هناك الاقتداء بغير الخارج في جميع الصور، بخلاف ما نحن فيه، فإنّه يعقل إسقاط العنوان، فلو قيّد خياره بقيد- سواء كان قيداً، أو شرطاً يكون الساقط متضيّقاً غير منطبق عليه، و لا سيّما في مثل الشرط الذي هو يرجع إلى الهيئة، لا المادّة.

فقوله دام ظلّه: «و كذا الحال ..» إلى آخره، في غير محلّه؛ لأنّ الشرط يورث قصوراً في السبب الذي يتسبّب به إلى السقوط؛ لأنّ الحقّ جواز جعل الشرط قيد الهيئة عنده.

و لا يقاس ما نحن فيه ببيع الفرس الخارجيّ الموصوف ب «العربيّ» بل هو من قبيل بيع الفرس الخارجيّ الموصوف ب «العربيّ» المتبيّن أنّه حجر، فإنّه لا يصحّ البيع بالضرورة و لو كان مصبّ البيع و الإنشاء أمراً خارجيّاً، فإذا قيل: «أسقطت خيار العيب في هذا العقد» لا يسقط خيار الغبن به، و هكذا إذا قال: «أسقطت الخيار الناشئ من الغبن الكذائيّ في

ص: 183

و كذا الحال (1) في اشتراط سقوطه بمرتبة و إن كان فاحشاً، بل أفحش.

هذا العقد» و كلّ ذلك لعدم مساعدة العقلاء على سقوط خياره. و لا يجوز الإشكال بالصناعة العلميّة و القياسات النافية الباطلة بعضها في محلّها أيضاً.

هذا مع أنّ السقوط بالإسقاط الكذائيّ، ضرر يمكن منع إطلاقه بقاعدة «لا ضرر ..».

و توهّم: أنّه ليس أمراً شرعيّاً(1)، في غير محلّه؛ لكفاية كونه بيد الشرع نفياً و إمضاءً، فتأمّل.

و يحتمل قصور قاعدة «لا ضرر ..» عن شمول الفرض؛ لأنّ ثبوته ضرري، و هو ناشئ من القاعدة الجابرة للضرر، فتكون منصرفة أصلًا.

نعم، يثبت له الخيار بدليل آخر بعد سقوط القاعدة عن الاستناد.

قوله: «كذا الحال».

قد عرفت وجهه و وجه ما فيه(2).

و غير خفيّ: أنّه يمكن الالتزام بالتجزئة أيضاً، و إنّما الإشكال في أنّه أمر عرفيّ يساعد عليه السوق أم لا، فليتدبّر جيّداً.


1- لاحظ البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 314.
2- تقدّم في الصفحة 175 و ما بعدها.

ص: 184

و كذا يأتي ما ذكر فيمن صالح على خياره، فبطل (1) إن كان بنحو التقييد، فتبيّن الزيادة، دون النحوين الآخرين. و كما يجوز إسقاطه بعد العقد مجّاناً، يجوز المصالحة (2) عليه بالعوض، فمع العلم بمرتبة من الغبن فلا إشكال، قوله دام ظلّه: «فبطل».

أي الصلح، فإنّه إن كان بنحو التقييد بالمرتبة المذكورة في المسألة السابقة، فلا يسقط الخيار، و إن كان بالنحوين الآخرين- التوصيف، أو الزعم و التوهّم فيسقط الخيار، و يصحّ الصلح، و الوجه و ما فيه قد مرّ(1)، فتدبّر.

قوله دام ظلّه: «يجوز المصالحة».

و هو المصرّح به في كلام الأصحاب (رحمهم اللَّه)(2) نظراً إلى أنّ في الصلح، لا يعتبر كون المصالح عليه عيناً، أو منفعة، أو حقّا، و الأمر كذلك عندنا في البيع، و لا سيّما في الحقّ. نعم، في المنفعة تأمّل جدّاً.

و إنّما الإشكال في أنّ الصلح و المصالحة شرعت لرفع الخصومة، فإطلاق مشروعيّتها محلّ إشكال. و لو كان الصلح كالبيع يلزم جريان الخيارات فيه، مع أنّ الظاهر أنّ مصبّه في محيط لا يبقى بعد المصالحة شي ء؛ فينسحب إلى النزاع و المخاصمة، و التفصيل في محلّه.


1- تقدّم في الصفحة 181 و ما بعدها.
2- جواهر الكلام 26: 230، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 238/ السطر 16.

ص: 185

و مع الجهل بها صحّ المصالحة مع التصريح (1) بعموم المراتب؛ بأن يصالح على خيار الغبن المتحقّق في هذه المعاملة بأيّ مرتبة كانت.

قوله دام ظلّه: «مع التصريح».

حتّى يكون العوض في مقابل المعوّض؛ ضرورة أنّ في صورة التقييد، يشكّ في تحقّق المعاوضة العامّة الجنسيّة المشترك فيها البيع و الصلح بالعوض و غيرهما.

و ظاهر المتن عدم جواز الصلح في صورة احتمال الغبن و الخيار أيضاً، و فيه خلاف بين الأعلام؛ فالشيخ (رحمه اللَّه (اختار الجواز بشرط الانضمام(1)، و لا يخفى ما فيه.

و عن العلّامة الخراسانيّ (رحمه اللَّه (جوازه(2)؛ لأنّ الصلح واقع على الاحتمال، و هو أمر حاصل.

و ذهب الماتن إلى جواز الصلح على الإسقاط في صورة احتمال الخيار(3)، و الإسقاط متحقّق إنشاءً، و المناقشة في ماليّة الإسقاط و الاحتمال(4)، تنافيها ماهيّة الصلح المشروعة لحلّ المشاكل، فلو كان


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 238/ السطر 29.
2- حاشية المكاسب، المحقّق الخراساني: 187.
3- البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 315.
4- لاحظ حاشية المكاسب، المحقّق الخراساني: 188، حاشية المكاسب، المحقّق الأصفهاني 2: 61/ السطر 21.

ص: 186

معتبراً في العقد ماليّة واقعيّة، فهي غير معتبرة فيه إلّا على الوجه الموجود في المسألة.

و من هنا يظهر: أنّ الصلح على المرتبة الخاصّة المحتملة- كالصلح على المنفعة لا تأتي فيه الوجوه الثلاثة: بطلان الصلح، و لزومه، و جوازه، بل فيه التفصيلات السابقة المذكورة في أصل المسألة.

ص: 187

[الثالث: تصرّف المغبون بعد العلم بالغبن فيما انتقل إليه]

الثالث: تصرّف المغبون (1) بعد العلم بالغبن فيما انتقل إليه؛ بما يكشف كشفاً عقلائيّاً (2) عن الالتزام بالعقد و إسقاط الخيار، قوله مدّ ظلّه: «تصرّف المغبون».

حسب بعض الإجماعات المحكيّة(1)، و عليه فتوى جماعة(2)، و في كلامهم ما يورث كونه من التصرّفات المسقطة لأحد الخيارات السابقة، كالمجلس، و الحيوان.

و ربّما يعارض الإجماع بإطلاق كلام جمع منهم؛ بأنّ هذا الخيار لا يسقط بالتصرّف(3)، و لكن القدر المتيقّن منه قبل العلم بالغبن.

و بالجملة: كون التصرّف مسقطاً بلا وجه عند العقلاء، و استفادته من الأخبار الخاصّة السابقة ممنوعة.

قوله: «كشفاً عقلائيّاً».

لا تنافي بين عدم سقوط الخيار، و الالتزامِ القلبيّ بالعقد، و مجرّد كون التصرّف كاشفاً عن الالتزام غير كافٍ؛ لأنّ الخيار حقّ لا بدّ من إسقاطه إمّا بالقول أو الفعل، و التصرّف يمكن أن يكون مسقطاً، كالمعاطاة في البيع،


1- لاحظ المكاسب، الشيخ الأنصاري: 239/ السطر 8.
2- لاحظ المكاسب، الشيخ الأنصاري: 239/ السطر 8، مصباح الفقاهة 6: 350، البيع، الإمام الخميني( قدّس سرّه) 4: 320.
3- شرائع الإسلام 2: 16، إرشاد الأذهان 1: 374.

ص: 188

و لكنّ الكاشفيّة العقلائيّة عن الالتزام، لا تدلّ إلّا على الرضا بالبيع، و الإسقاط أمر آخر تسبيبيّ.

اللهمّ إلّا أن يقال: بكفاية الانصراف عن الحقّ ثبوتاً و إن لم يبرز، فيكون خياره ساقطاً بينه و بين ربّه، و هذا غير بعيد.

و على كلّ تقدير: الاحتياج إلى الكاشفيّة العقلائيّة، غير تامّ إلّا في مرحلة الدعوى و طرح الخصومة.

ثمّ إنّ قوله- مدّ ظلّه: «و إسقاط الخيار» يناقض الالتزام بالعقد، فإنّ الإسقاط أمر تسبيبيّ من القول أو الفعل، و الالتزامَ أمر قلبيّ، و لو كان التصرّف مسقطاً للخيار، يكفي و لو لم يكن ملتزماً بالعقد؛ و بانياً على التخلّف عن الوفاء به بقاءً.

و غير خفيّ: أنّ المسقط لا يعتبر أن يكون أمراً عقلائيّاً؛ قولًا كان، أو فعلًا، نعم في مرحلة التداعي إذا كان غير عرفيّ لا يسمع قول مدّعيه، فلا ينبغي الخلط. و لا ينبغي المقايسة بين العقود و إسقاط الدين و الحقّ؛ لما عرفت من إمكان سقوط الدين و الحقّ بمجرّد الانصراف عن حقّه بناءً و قلباً، ثمّ الإخبار عنه، فليتدبّر.

ص: 189

كالتصرّف بالإتلاف، (1) قوله مدّ ظلّه: «بالإتلاف».

على الأشهر خلافاً لغير واحد(1)، و منهم المصنّف في درسه(2)، و هو الظاهر من الشيخ (رحمه اللَّه)(3) و ذلك لأنّ الملازمة العرفيّة بين الإتلاف و الإسقاط، أو الالتزام بالعقد- بناءً على كفايته غير تامّة، و الأدلّة الواردة في بعض الخيارات السابقة و منها خيار الحيوان، غير وافية بكون التصرّف المزبور فيما نحن فيه موجباً لسقوط الخيار تعبّداً، و قد مرّ الكلام حولها في موردها بما لا مزيد عليه(4).

نعم، يجوز أن يقصد بالإتلاف إظهار سقوط الخيار، و لكنّه خروج عن المقصود بالبحث، و لذلك لا نحتاج إلى تقييد إطلاق كلام الماتن و غيره في المقام، خلافاً لما يستظهر من بعض الأعلام(5).


1- شرائع الإسلام 2: 16، إرشاد الأذهان 1: 374، حاشية المكاسب، السيّد اليزدي 2: 42/ السطر 17.
2- البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 326.
3- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 239/ السطر 21.
4- تقدّم في الصفحة 112 و ما بعدها.
5- لاحظ حاشية المكاسب، السيّد اليزدي 2: 42/ السطر 14، حاشية المكاسب، المحقّق الإيرواني 2: 34/ السطر 16.

ص: 190

أو بما يمنع الردّ (1)، أو بإخراجه (2) عن ملكه، كالبيع اللازم، بل و غير اللازم، و نحو التصرّفات التي مرّ ذكرها في خيار الحيوان.

قوله مدّ ظلّه: «أو بما يمنع الردّ».

كالاستيلاء، و الكلام فيه ما مرّ.

قوله مدّ ظلّه: «بإخراجه».

و هذا مثل ما سبق، بل الأمر في غير التصرّفات التالفة أخفى، كما لا يخفى.

نعم، في المسألة شي ء: و هو أنّ مقتضى كون خيار الغبن فوريّاً، و قضيّة المفروض في صور البحث، سقوط الخيار بعد العلم بالغبن.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّه يمكن أن تكون الصور واردة مورد جهالة المغبون بالحكم و لو كان عالماً بالغبن، و الظاهر هو الأخير؛ و ذلك لقولهم: «بأنّ التصرّف الكاشف الكذائيّ يوجب سقوط الخيار» و لو كان عالماً بالغبن و بفوريّة الخيار، فلا حاجة إلى التقييد المذكور؛ لأنّ السقوط بالتصرّف المزبور قطعيّ.

اللهمّ إلّا أن يقال: بإمكان بقاء الخيار إذا لم يكن التصرّف منافياً للفوريّة، فتدبّر.

ص: 191

و أمّا التصرّفات الجزئيّة- نحو الركوب غير المعتدّ به، و التعليف، و نحو ذلك ممّا لا يدلّ على الرضا فلا. كما أنّ التصرّف قبل ظهور الغبن لا يسقط (1)، كتصرّف الغابن فيما انتقل إليه مطلقاً.

قوله مدّ ظلّه: «لا يسقط».

خلافاً للمصرّح به في كلام المحقّق(1) و من تأخّر عنه(2)، و قيل: «إنّه المشهور»(3).

و يظهر من «الروضة» أنّ السقوط إجماعي(4)، و لو كان مورد الإجماع لما خالفهم الشهيد (رحمه اللَّه (في «اللمعة»(5).

و قال الشيخ (رحمه اللَّه): «إنّك عرفت عدم عنوان المسألة في كلام من تقدّم على المحقّق (رحمه اللَّه (فيما تتبّعت»(6) انتهى.

و بالجملة: و لو كان إجماعيّاً، و لكنّه يحتمل استناده إلى أخبار خيار الحيوان، فاهمين منها عدم الفرق بين صورتي العلم و الجهل، فراجع.


1- شرائع الإسلام 2: 16.
2- إرشاد الأذهان 1: 374، مسالك الأفهام 3: 204 207، جواهر الكلام 23: 44.
3- مفاتيح الشرائع 3: 74 و لاحظ المكاسب، الشيخ الأنصاري: 239/ السطر 24.
4- الروضة البهيّة 1: 378/ السطر 9.
5- اللمعة الدمشقية: 119.
6- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 239/ السطر 34.

ص: 192

و لذلك و ذاك اشتهر بين المعاصرين خلافه(1)؛ و أنّه لا وجه لسقوط الخيار هنا، كما لا وجه لسقوط الخيار بتصرّف الغابن فيما انتقل إليه مطلقاً، كما هو الواضح.

و يمكن أن يقال: بأنّ وجه سقوط الخيار في المسألتين قصور دليله، فإنّ مع تلف العين موضوعاً أو حكماً، لا يبقى مورد لجواز استرداد العين بالفسخ، فلا معنى لفسخ العقد، فلا معنى للخيار.

و فيه ما لا يخفى؛ فإنّ الفسخ من عوارض العقد، و هو لا ينتفي بتلف العين، و لا سيّما التلف الحكميّ، فلو التفت بعد ذلك إلى الغبن، له أن يرضى بالعقد و يجيزه، و له حلّه و أن لا يجيزه، و يرجع الغابن إليه بالبدل مطلقاً، أو في صورة التلف و التعذّر.

و القول: «بأنّ قبول البدل ضرري، فثبوت الخيار بعد التلف ممنوع»(2) في محلّه لو كان مستند الخيار قاعدة «لا ضرر ..» و المعارضة المذكورة في كلام الشهيد (رحمه اللَّه)(3) بين الضررين، مندفعة بأخصّية ضرر الغابن من ضرر المغبون، و إطلاق خيار المغبون يقيّد بصورة بقاء العين.


1- وسيلة النجاة 2: 40، البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 322.
2- لاحظ المكاسب، الشيخ الأنصاري: 239/ السطر 28.
3- اللمعة الدمشقية: 119.

ص: 193

و أمّا لو كان المستند الإجماع و التعبّد كما هو الظاهر، و القاعدة قاصرة عنه، فلا يرجع إليها حتّى يقيّد بها مورد الإجماع، أو إطلاق معقد الاتفاق، فافهم جيداً، و في المسألة بعض دقائق صناعيّة تطلب من الكتاب الكبير(1) إن شاء اللَّه تعالى.


1- هذه المباحث من كتاب الخيارات من تحريرات في الفقه مفقودة.

ص: 194

[مسألة 6: لو فسخ البائع المغبون البيع]

مسألة 6: لو فسخ البائع المغبون البيع، فإن كان المبيع موجوداً عند المشتري باقياً على حاله استردّه (1)، و إن كان تالفاً أو متلفاً رجع إليه (2) بالمثل أو القيمة.

قوله مدّ ظلّه: «استردّه».

بمعنى أنّ له فسخ العقد، و مقتضى التفاسخ رجوع كلّ من العوضين إلى محلّه، و أمّا الاسترداد فهو تابع ردّه العين، و لا يجوز له أن يستردّ العين قبل ردّ العوض، كما في الوفاء بالعقد، فلكلّ واحد منها حقّ الامتناع و حقّ الحبس ظاهراً.

قوله مدّ ظلّه: «رجع إليه».

حسب القواعد العامة في باب الضمانات، و يظهر منهم أنّ المقصود رجوعه إليه في المثليّ بالمثل، و في القيميّ بالقيمة.

و أمّا وجه رجوعه إليه، فهل هي قاعدة «على اليد ..» أم هو إطلاق قاعدة «لا ضرر ..» على التقريب الذي أبدعناه(1)، أو قاعدة الإتلاف في صورة الإتلاف، أم هو مقتضى الفسخ، أو هو حكم العقلاء بعد الفسخ؟

وجوه يكون الأخير متعيّناً؛ ضرورة أنّ التلف أو الإتلاف كان في ملكه، و لا معنى للضمان قبل الفسخ، فيكون الفسخ من الحين، و معناه حصول التلف في ملكه. و انقلاب اليد إلى يد ضمان بلا وجه حتّى على القول:


1- تحريرات في الأُصول 8: 270 و ما بعدها.

ص: 195

بأنّ العين التالفة تعتبر في ذمّة المفسوخ عليه؛ لأنّ ذلك ليس من استيلائه عليها، و هكذا قاعدة الإتلاف؛ للزوم كون المدار على قيمة يوم التلف، و هذا خلاف حكم العقلاء بالضرورة و لو كان المعتبر عين التالفة في الذمّة؛ لأنّه لا معنى له هنا بعد كون الإتلاف في ظرف تحقّقه، واقعاً على ملك المتلف.

و بالجملة: ما هو الأقرب أنّ الفسخ حيث هو يكون من حين، و ينحلّ به العقد، فما هو حكم العرف لزوم رجوع العين، و حيث هي مفقودة فيرجع إلى القيمة أو المثل، و لو كان الفسخ في الاعتبار هنا على بقاء العين التالفة في وعاء الاعتبار إلى حال الفسخ، أو إلى اعتبار بقائها حين الفسخ، فلا تلف بعد الفسخ حتّى يوجب الضمان. نعم، يتعذّر ردّ التالفة، فينتقل إلى القيمة أو المثل.

ثمّ إنّ تعيّن القيمة في القيميّات، و المثل في المثليّات، غير تامّ عندنا في مطلق باب الضمانات، و ما أفادوه(1) لا يرجع إلى محصّل، و محطّ بحثه في محلّ آخر.

و قوله- مدّ ظلّه: «أو القيمة» ظاهر في اختيار المضمون عليه و المغبون، و لكنّه خلاف مسلكهم قطعاً، فيكون المقصود رجوعه بالمثل


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 241/ السطر 31 و مابعدها.

ص: 196

و إن حدث به عيب عنده؛ سواء كان بفعله، أو بغيره من آفة سماويّة و نحوها، أخذه مع الأرش. (1) في المثليّات، و القيمة في القيميّات.

نعم، ما هو الحقّ حسب الصناعة تخيير الضامن.

ثمّ إنّ لصورة الإتلاف فروعاً كثيرة مذكورة في كتابنا الكبير، و المقصود هنا صورة كون التلف بإتلاف الغابن؛ لأنّه القدر المتيقّن من الحكم المترتّب عليه. هذا كلّه بناءً على كون البيع الغبنيّ صحيحاً، كما لا يخفى.

قوله دام ظلّه: «أخذه مع الأرش».

و هو كأنّه مفروغ عنه في كلامهم، و قال الشيخ (رحمه اللَّه): «كما هو مقتضى الفسخ؛ لأنّ الفائت مضمون بجزء من العوض، فإذا ردّ تمام العوض وجب ردّ مجموع المعوّض، فيتدارك الفائت منه ببدله»(1) انتهى.

و فيه ما لا يخفى؛ فإنّ العيب و الصحّة لا يقابلان بشي ء في البيع؛ حتّى يكون جزء الثمن في قبال الصحّة، فيردّ الأرش عند تعذّر ردّ الصحيح.

و يوجّه كلامه بمقالة: و هي أنّ المبيع في البيع، و المملوك في ملكيّة الأعيان، ليس ذوات الأعيان بجوهريّتها التي تكون مركز الخلاف بين المشائين و الإشراقيّين مثلًا؛ لأنّها غير ذات أثر في الاعتبار، و ما هو المملوك في باب الضمانات و التجارات هي المنافع، إلّا أنّها إذا كانت مرسلة من


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 240/ السطر 28.

ص: 197

و لو أخرجه عن ملكه بوقف أو معاملة لازمة، فالظاهر أنّه بحكم الإتلاف، (1) جميع الجهات و النواحي، تكون في الاعتبار عين المنفعة، و إذا كانت معتبرة في جهة لأجل جهة تكون منفعة العين، فتأمّل تعرف.

و أمّا التمسّك بقاعدة «على اليد ..» أو قاعدة «كل مبيع تلف في زمن الخيار ..» أو قاعدة «لا ضرر ..» فهو بمعزل عن التحقيق، و لذلك استظهر السيّد الماتن(1) عدم وجوب الأرش، و الالتزام به مشكل جدّاً، و هذا يكشف أيضاً عن أنّ البيع الغبنيّ ليس قبل لحوق الرضا به بيعاً عرفاً، و يكون من الفضوليّ حكماً.

و يصحّ دعوى: أنّ التضمين حكم عقلائيّ، أو المساواة بعد الفسخ شرط ضمنيّ، فلو ورد عيب يخرج عن المساواة، فلا بدّ من ردّ ما به تحصّل. و فيها أيضاً ما لا يخفى.

قوله مدّ ظلّه: «بحكم الإتلاف».

قد مرّ وجهه و ما فيه(2).


1- البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 342.
2- تقدّم في الصفحة 189.

ص: 198

فيرجع إليه بالمثل أو القيمة (1)، و إن كان بنقل غير لازم (2) كالبيع بخيار و الهبة، قوله مدّ ظلّه: «إليه بالمثل أو القيمة».

مرّ ما يتعلّق به(1)؛ و أنّ المثل في المثليّ و القيمة في القيميّ فيما نحن فيه، غير معلوم تعيّنه و لو كان متعيّناً في باب ضمان اليد و غيره.

قوله مدّ ظلّه: «بنقل غير لازم».

كما عن جماعة(2)، و هو الظاهر من عبارة القوم، حيث اعتبروا الخروج عن الملك على وجه اللزوم يمتنع الردّ، فكأنّ في صورة جواز العقد لا يمتنع الردّ.

و الحقّ: أنّ منشأ الإشكال هو أنّ إلزامه على الفسخ ليس مفيداً؛ لأنّ الملكيّة الحاصلة بعد الفسخ ليست الملكيّة السابقة، و مقتضى الفسخ و إعمال الخيار، رجوع كلّ من العوضين إلى الملكيّة السابقة قبل العقد، و قد زالت تلك الملكيّة بالهبة، و لو كان ذلك كافياً لكان لإلزامه في صورة خروجه عن ملكه بالبيع اللازم وجه؛ ضرورة أنّه يمكن الإقالة و الاشتراء أحياناً، و ما يأتي في الفرع الآتي أيضاً محلّ إشكال


1- تقدّم في الصفحة 195 196.
2- تذكرة الفقهاء 1: 523/ السطر 12، جامع المقاصد 4: 296، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 240/ السطر 3.

ص: 199

من هذه الجهة أيضاً.

و أمّا توهّم: أنّ منشأ الإشكال قصور الأدلّة عن إلزامه، فهو فاسد؛ لإطلاق الهيئة.

نعم، يمكن أن يقال: بأنّ في صورة الفسخ قبل رجوعه في هبته، لا يعتبر للبائع المغبون ملك إلّا ملك البدل؛ لأنّ كون الاعتبار مراعى بالرجوع بلا وجه، بل غير معقول، و كونَه موجباً لعود ملك الموهوب له إلى المغبون، غير جائز؛ للزوم كونه ملك الشخصين، فعلى هذا لا معنى لإلزامه بعد انتقال البدل إليه بالفسخ.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ الفسخ لا يقتضي إلّا حلّ العقد، و أمّا رجوع كلّ عوض إلى صاحبه فهو من الأحكام العقلائيّة، فإن كان كلّ عوض بلا مانع، فيرجع إليه قهراً في الاعتبار، و يكون ملكاً له، و يجب عليه ردّه خارجاً، و إذا كان العوض ممنوعاً- بالبيع اللازم كان، أو بغيره فعليه ردّ العين الموجودة عرفاً و إن لم تكن ملكاً للمغبون، فإنّ ذلك حكم العقلاء.

نعم، في صورة التعذّر عليه البدل، كما في باب الضمانات.

و من خلال هذا الإجمال تبيّن: أنّ الإشكال المزبور في غير محلّه؛ لأنّه لو كان له وجه كان يشترك فيه الفرع السابق، أو الفرع اللاحق.

و الذي هو التحقيق في المقام: أنّ تصرّفات الغابن كلّها في حكم الفضوليّ، فيسقط جميع ما أُفيد. هذا و لو قلنا: بأنّها صحيحة نافذة، فالأولى أنّ

ص: 200

ففي جواز إلزامه بالفسخ و إرجاع العين إشكال. و لو رجعت العين إلى المشتري بإقالة، أو عقد جديد، أو فسخ؛ قبل رجوع البائع إليه بالبدل، لا يبعد أن يكون له إلزامه (1) بردّ العين و لو كان الانتقال السابق لازماً.

الفسخ يورث خروج العين من الملكيّة الطارئة إلى الملكية السابقة، سواء كان مالكها الغابن، أو طرف الغابن، فإذا رجعت العين إلى المغبون يرجع الطرف الغابن إليه، و هذا ممّا يجمع به الحقوق، و لا ضيق في الاعتبار حتّى يكون هناك رادع عن تحقّق الفسخ بمعناه الواقعيّ، فليتدبّر.

قوله دام ظلّه: «إلزامه».

و استشكل في الدرس: بأنّ الخروج عن الملكيّة ثمّ العود ثانياً، يضرّ بإمكان الفسخ؛ لأنّ الفسخ حلّ العقد على وجه ترجع العين إلى الملكيّة السابقة بعد خروجها عن الملكيّة الآتية من قبل ذلك العقد(1).

و ما في المتن أقوى؛ لعدم الدليل على الدعوى المزبورة، بل قد عرفت مقتضى الفسخ بما لا مزيد عليه.

و الشيخ لم يختر في المسألة شيئاً، و قال: «و ربّما يبنيان على أنّ الزائل العائد كالذي لم يزُل، أو كالذي لم يعد»(2) انتهى، و هذا هو المرموز


1- البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 329 330.
2- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 240/ السطر 6.

ص: 201

و لو نقل منفعتها إلى الغير بعقد لازم كالإجارة، لم يمنع (1) ذلك من الفسخ، إليه في كلام بعض الشافعيّة(1)، و النظر إلى أنّ مقتضى الفسخ ما أُفيد.

و لكن يمكن دعوى: أنّ العود إلى الملكيّة ليس حدوثاً لها، بل هو من قبيل إعادة المعدوم عرفاً، و فيه ما لا يخفى؛ فإنّ العرف لا يتسامح في ذلك، و مسألة المعدوم العرفيّ و لو كانت صحيحة، و لكنّها في بعض الأمثلة الأُخرى، كالتقطير الحاصل من أبخرة البول، فإنّ البخار خروج عن صورة البوليّة، و لكن بعد التقطير يرجع إليها عرفاً، فتدبّر.

قوله مدّ ظلّه: «لم يمنع».

خلافاً لما نسب إلى الصيمري(2) و أبي العبّاس(3)، و وفاقاً للأكثر(4)، فإنّ وجه الانتقال إلى البدل هي المزاحمة لحقّ المنتقل إليه بالبيع و نحوه، و أمّا في مثل الإجارة فلا مزاحمة؛ لأنّ فسخ عقد البيع الغبنيّ لا يقتضي إلّا رجوع العين مثلًا إلى المحلّ الأوّل بالفعل مثلًا، و هذا حاصل في مفروض البحث، و عدم نقل المنفعة لا يضرّ به.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ قضيّة الفسخ رجوع العين على ما كانت حين


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 261/ السطر 12، المجموع 6: 127 و 12: 301.
2- مفتاح الكرامة 4: 575/ السطر 29، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 240/ السطر 7.
3- المهذّب البارع 2: 377.
4- لاحظ المكاسب، الشيخ الأنصاري: 240/ السطر 8.

ص: 202

كما أنّه بعد الفسخ تبقى الإجارة (1) على حالها، و ترجع العين إلى الفاسخ مسلوبة المنفعة، و له سائر المنافع غير ما ملكه المستأجر لو كانت.

العقد إلى مالكها قبل العقد، و هذا ممتنع هنا، و يظهر من السيّد (رحمه اللَّه (اختياره في المنفعة، و المقام مثله(1).

و فيه ما عرفت: من أنّ الفسخ ليس إلّا حلّ العقد، و أمّا بعد ذلك فالأمر موكول إلى العقلاء و أحكامهم، و لا اقتضاء للفسخ؛ لأنّه ليس إلّا إعدام العقد في أُفق الاعتبار.

قوله مدّ ظلّه: «تبقى الإجارة».

فيما إذا فسخ المغبون في أثناء مدّة الإجارة، فقاسوا ما نحن فيه بالعقد على المستأجرة.

و يمكن المناقشة فيه: بأنّ مالكيّة الغابن للمنفعة على إطلاقها ممنوعة، و ليست كمالكيّة المالك بالملك المستقرّ، بل هي كمالكيّة البطن الموجود، فإنّ إجارتهم على وجه يستوعب عصر البطن المعدوم، ممنوعة الصحّة عندهم في نوع صور الوقف، و إن فصّلنا في المسألة في محلّها، و على هذا إذا فسخ المغبون، يكشف ذلك عن عدم مالكيّة الغابن للمنفعة بعد الفسخ، فلا تبقى الإجارة صحيحة، كما لا يكون للغابن التصرّف بالفرس على وجه يكون له حقّ الإبقاء بعد الفسخ، فالبطلان قوي جدّاً.


1- حاشية المكاسب، السيّد اليزدي 2: 44/ السطر 32.

ص: 203

و في جواز رجوعه إلى المشتري بأُجرة المثل بالنسبة إلى بقيّة المدّة، وجه قوي (1)، كما يحتمل أن يرجع إليه بالنقص الطارئ على العين من جهة كونها مسلوبة المنفعة في تلك المدّة، فتقوّم بوصف كونها ذات منفعة في تلك المدّة مرّة، و مسلوبة المنفعة فيها أُخرى، فيأخذ مع العين التفاوت بين القيمتين، و يؤيّد ذلك مساعدة العرف على البطلان، و لا سيّما فيما إذا كانت مدّة الإجارة طويلة، و المنفعة المعتدّ بها موردها.

قوله مدّ ظلّه: «وجه قوي».

و قد أنكره في درسه- مدّ ظلّه(1) نظراً إلى أنّ القواعد قاصرة عن تثبيت الضمان و جواز المراجعة إلى الغابن؛ لقصور قاعدة «لا ضرر ..» و لعدم الاقتضاء للفسخ أكثر من عود العين و قد عادت، و لأنّ حكم العقلاء ليس محرزاً، و ربّما ينشأ عن الجهات غير الإلزاميّة.

و بعد ما عرفت فساد الإجارة، فلا تصل نوبة البحث إلى ذلك، و الترديدُ المتراءى في كلمات القوم هنا، يشهد على فساد مرامهم رأساً في أصل صحّة تصرّفات الغابن، و لا سيّما التصرّفات الباقية بعد الغبن، كالإجارة و العارية و غيرهما.

و غير خفيّ: أنّ مقتضى ما تحرّر منّا في رسالتنا الموسّعة في قاعدة


1- البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 341 345.

ص: 204

«لا ضرر ..» أنّها قاعدة عامّة نافية ناهية(1)، و في صورة كونها نافية رافعة دافعة جابرة و مشرّعة أحياناً، و على هذا إذا كان الفسخ ضرريّاً يكون الخيار منفيّاً، فلو أعمل المغبون خياره مع علمه بالجهات الموجودة فلا بأس، و إلّا فلا خيار له كشفاً بالقاعدة، لا أقول: له خيار في الخيار؛ أي له استرداد العين بعد الفسخ، و له فسخ الفسخ، بل يكشف بها عدم نفوذ فسخه، فاغتنم.

و أمّا رجوعه إليه بالمثل أو القيمة، و لا سيّما في صورة توجّه المغبون إلى إجارة الغابن؛ و أنّ العين مسلوبة المنفعة، فهو في صورة عدم إمكان انجبار ضرره من ناحية أُخرى هي المتقدّمة عليه؛ و هو نفي الخيار بعد الإجارة.

نعم، إذا كان المقدار الذي تغابن فيه موجباً لأعماله الخيار، فقضيّة كونها قاعدة جابرة لزوم المثل أو القيمة، و في المسألة بحوث دقيقة، من شاء فعليه بالرجوع إلى كتابنا الكبير إن شاء اللَّه تعالى(2).


1- رسالة في قاعدة لا ضرر للمؤلّف( قدِّس سرُّه) مفقودة.
2- هذه المباحث من كتاب الخيارات من تحريرات في الفقه مفقودة.

ص: 205

و الظاهر (1) أنّه لا تفاوت غالباً بين الوجهين.

قوله مدّ ظلّه: «و الظاهر».

لا معنى لتعرّض الفقيه لأمثال هذه المسائل الخارجة عن فنّه غير اللازم ذكرها، و غير الواجب اتباعه، و على كلّ تقدير وجود التفاوت و عدمه أجنبيّ عن البحث، و غير جدير بهم.

ص: 206

[مسألة 7: بعد فسخ البائع المغبون لو كان المبيع موجوداً عند المشتري، لكن تصرّف فيه تصرّفاً مغيّراً له]

مسألة 7: بعد فسخ البائع المغبون لو كان المبيع موجوداً عند المشتري، لكن تصرّف فيه تصرّفاً مغيّراً له إمّا بالنقيصة، أو بالزيادة، أو بالامتزاج؛ فلو كان بالنقيصة أخذه، و رجع إليه بالأرش كما مرّ.

و لو كان بالزيادة، فإمّا أن تكون صفة محضة، كطحن الحنطة، و قصارة الثوب، و صياغة الفضّة، أو صفة مشوبة بالعين، كالصبغ إذا كان له عين عرفاً، أو عيناً محضاً، كالغرس و الزرع و البناء:

أمّا الأوّل: فإن لم يكن للزيادة دخل في زيادة القيمة، يرجع إلى العين، و لا شي ء عليه (1)، كما أنّه لا شي ء على المشتري (2)، و إن كان لها دخل في زيادتها يرجع إلى العين.

قوله مدّ ظلّه: «و لا شي ء عليه».

وضعاً، و أمّا تكليفاً فيمكن أن تكون الزيادة ملكاً للمحدث، فيمنع عن التصرّف في العين إلّا بإذنه. و لكن المحقّق في محلّه: أنّ ما هو مال محترم، دون الملك. مع أنّه لا أساس للتفكيك بينهما.

قوله مدّ ظلّه: «على المشتري».

إلّا توهّم: أنّ إحداث الصفة أوجب زوال قابليّة العين عن الزيادة المقوَّمة، فإنّه يعدّ من النقيصة.

و أمّا قوله آنفاً: «رجع إليه بالأرش كما مرّ» فقد مرّ ما فيه(1) إن كان


1- تقدّم في الصفحة 196.

ص: 207

و في كون زيادة القيمة للمشتري لأجل الصفة، فيأخذ البائع العين، و يدفع زيادة القيمة (1)، أو كونه شريكاً (2) معه في القيمة، فيباع و يقسّم الثمن بينهما بالنسبة، المراد من «النقيصة» نقصان صفة الكمال، أو صفة الصحّة؛ ضرورة أنّ الأوصاف ليس بحذائها شي ء من الثمن.

و إن أُريد منه نقصان الجزء و مقدار من الكمّية، لا الكيفيّة، كما هو الظاهر من التعبير ب «الأرش» فالتقسيط في محلّه إذا كان تلف بعض الأجزاء لم يكن موجباً لتلف الكلّ عرفاً، و لم يكن التصرّف بالنقيصة ملحقاً بالتلف رأساً، كما إذا كسر الرقّي و البطّيخ، أو نقص شي ء من الحجر الكريم.

فبالجملة: الأمتعة تختلف، فإطلاق الحكم محلّ منع جدّاً.

قوله مدّ ظلّه: «زيادة القيمة».

لأنّ البائع بمقتضى الفسخ، يملك العين قهراً، و الصفة شي ء قائم بالعين تابع لها، و لا يحاذيها شي ء من الثمن كما هو المعلوم، و أمّا ذلك فلا يستلزم سقوط ماليّة الصفة الموجبة لزيادة ماليّة العين، فلا تنهدر على محدثها بحكم العرف و العقلاء، و لا حقّ له أكثر من طلب تلك الزيادة.

قوله مدّ ظلّه: «أو كونه شريكاً».

الشركة في القيمة ليست معناها الشركة بعد البيع في الثمن، فإنّه لا يورث وجوب البيع، و يلزم على هذا هتك ماله إذا وهبها بلا عوض

ص: 208

أو شريكاً معه في العين (1) بنسبة تلك الزيادة، أو كون العين للبائع، فما يظهر من بعض الأعلام من الشركة في القيمة بالمعنى المزبور(1)، غير جيّد.

نعم، يعتبر الشركة في الماليّة الشخصيّة الموجودة بوجود العين، و هذا هو الظاهر من المتن، إلّا أنّه لا يلزم البيع، بل يتعيّن إرجاع ما به التفاوت إلى المحدث الغابن؛ نظراً إلى أنّ إعطاء الزيادة بلا حصول الشركة في الماليّة، معناه كون الزيادة ملكاً للغابن، مع أنّها وصف يورث ازدياد القيمة، و ليست شيئاً مستقلا، مثل وصف كون العين قرب السوق، أو وصف العلم و الصفة، فإنّ هذه الأُمور لا تملك، و لا تكون مورد الحقّ، فالوجه الأوّل غير حسن.

و أمّا هذا الوجه، فلازمه كون الوصف تبعاً للعين، و لا يكون مستقلا في الملكيّة، و يوجب الشركة القهريّة في الماليّة الموجود بوجود العين، فترجع إليه القيمة، و تزداد تلك بازدياد القيمة السوقيّة، فيكون على المغبون إرجاع ما به التفاوت على حساب يوم المطالبة مثلًا.

قوله مدّ ظلّه: «أو شريكاً معه في العين».

لأنّ الماليّة المشترك فيها قائمة بها، و متّحدة معها، و لا يعقل التفكيك بينهما. أو لأنّ لازم عدم كون الصفة المحدثة للمرغوبيّة هدراً،


1- لاحظ حاشية المكاسب، السيّد اليزدي 2: 45/ السطر 7.

ص: 209

و للمشتري اجرة عمله (1)، أو ليس له شي ء (2) أصلًا، وجوه أقواها الثاني، و لا يكون البائع ملزماً بالبيع، بل له أخذ المبيع، و تأدية ما للمشتري بالنسبة.

هي الشركة في العين؛ ضرورة أنّ الشركة في الماليّة فرع اعتبار الماليّة، و هذا أمر حادث بعد حدوث العُروض و النقود، و أمّا في العصور القديمة بل في القرى النائية في هذه العصور أيضاً فليس من الماليّة و التقويم أثر؛ بل الناس يتبادلون الأجناس و الأمتعة؛ لاحتياجاتهم الشخصيّة، و لإدارة حياتهم و معاشهم الأوّلية، فالوجه الثاني أيضاً غلط، فالشركة لو كانت فهي في العين.

قوله مدّ ظلّه: «اجرة عمله».

نظراً إلى أنّ حرمة عمله محفوظة، و الشركة في الماليّة و في العين باطلة مطلقاً؛ ضرورة أنّ الغابن حين التصرّف في العين كان مالكاً عند الأصحاب (رحمهم اللَّه (فلا معنى للشركة قبل الفسخ، و بعد الفسخ لا بدّ أوّلًا من اعتبار الملك المستقل للغابن، ثمّ الشركة، مع أنّه لو اعتبر له ملك مستقل لشي ء لا تحصل الشركة؛ لأنّ الاستقلال في الملكيّة ينافي الإشاعة التي هي من لوازم الشركة، فالوجه السابق أيضاً غير متحصّل.

قوله مدّ ظلّه: «أو ليس له شي ء».

نظراً إلى أنّ العمل المزبور كان في عصر مالكيّته للعين، فلا معنى لمالكيّته في ذلك العصر بالنسبة إلى نفس العمل أو الأُجرة، و بعد

ص: 210

الفسخ لا معنى لكون المغبون ضامناً لما عمله في ملكه، و إلّا يلزم ذلك في مطلق الانتقالات. و كونه متزلزلًا لا يقتضي ذلك؛ لعدم كونه فارقاً.

و حيث إنّ إنكار ذلك و القول بعدم شي ء له، خلاف الطريقة العقلائيّة، و الفهم العرفيّ، و الأحكام العرفيّة بالضرورة، اختار الماتن- مدّ ظلّه الوجه الثاني، و هو- كما عرفت ضعيف.

و الذي هو الأقوى عندي: أنّ مالكيّة الأوصاف مالكيّة صحيحة عقلائيّة، و منها مالكيّة السرقفليّة، و قد تحرّر منّا بيانها و حدودها في رسالتنا الخاصّة بها المكتوبة في سجن قزل قلعه(1)، و هي الآن مع كثير من مكتوباتنا في سجن عند حكومة إيران خذلها اللَّه، و خذل كلّ ظالم و جائر.

و بالجملة: تكون الأوصاف كالمنافع مملوكة و لو كانت أعراضاً قائمة، فإنّها أقوى من المنافع المتدرّجة حدوثاً.

نعم، في كلّ مورد لا يساعد العقلاء على مالكيّتها، فلا بدّ من الالتزام بأنّ له شيئاً في العين؛ و حقّاً قائماً بها غير مهتوك.

و من الغريب أنّه- مدّ ظلّه استقرب في الدرس الوجه الأخير(2)!! و لازمه أنّ الصورة التي تقوم في الصياغة أضعاف قيمة الذهب


1- هذه الرسالة للمؤلّف) قدّس سرّه( مفقودة.
2- البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 345.

ص: 211

و أمّا الثاني: فيأتي الوجوه المذكورة فيه أيضاً.

و الفضّة تكون هدراً.

نعم، إذا كان الغابن متوجّهاً إلى الغبن، و متوجّهاً إلى أنّ المغبون لا يرتضي و يفسخ، و مع ذلك أقدم على ذلك، كان للقول بأنّه أقدم على نفسه وجه، و لكنّه أيضاً غير وجيه. هذا على ما اشتهر من مالكيّة الغابن و تماميّة البيع.

و أمّا على ما قوّيناه و إن كان يمكن بعض الوجوه المزبورة، إلّا أنّه لمكان كونه تصرّفاً في المقبوض بالعقد الفاسد، المحكوم بالغصب عند المحصّلين؛ حسبما قاله ابن إدريس (رحمه اللَّه)(1) فلازمه عدم كونه صاحب عِرْق، و لكنّه أيضاً ليس معناه انهدار ملكه، بل معناه أنّه لا يراعي رضاه، بل يقلع و يرمي عنده، و فيما نحن فيه يعطي قيمة الصورة في الصياغة مثلًا إليه، فإن قبل فهو، و إلّا فيؤدّيها إلى الحاكم و وليّه؛ لأنّه وليّ الممتنع.

قوله مدّ ظلّه: «إذا كان له عين عرفاً».

فإنّه في هذه الصورة يكون الوجه الذي قوّيناه أقرب، و يؤيّد به سائر الصور؛ لعدم دخالة للعين في هذه الجهة كما هو الواضح.


1- السرائر 2: 285.

ص: 212

و أمّا الثالث: فيرجع البائع إلى المبيع، و يكون الغرس (1) و نحوه للمشتري، و ليس للبائع إلزامه بالقلع و الهدم، (2) قوله مدّ ظلّه: «يكون الغرس».

لصاحبه و مالكه، و هكذا البناية التي أحدثها الغابن في الأرض.

و توهّم: أنّ البيع يرجع بعد زوال الغرس و انهدام البناية؛ لتعذّر الرجوع فارغاً، و قد اعتبر رجوع البيع بالفسخ على ما كان عليه حين العقد، واضح المنع.

قوله مدّ ظلّه: «بالقلع و الهدم».

و لعلّه المشهور هنا أيضاً، و قيل: «إنّ الشهرة فيما إذا رجع بائع الأرض المغروسة بعد تفليس المشتري»(1) و عن «المختلف» في الشفعة إلزامه بالقلع بلا أرش(2).

و على كلّ تقدير: المسألة مورد القاعدة من جهات شتّى، فلا إجماع و لا شهرة مفيدة فيها؛ ضرورة أنّ الغابن المالك للأرض ليس ظالماً حتّى لا يكون له عِرْق، و لا يقتضي الخيار قلع الشجرة و هدم البناية، و لو كان متعلّقاً بالعين فلا يجوز التصرّف في مال الغير، و «لا يحلّ مال المسلم إلّا


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 241/ السطر 3.
2- مختلف الشيعة: 408/ السطر 22.

ص: 213

بطيبة نفس منه»(1) و إعطاء الأرش لا يجوِّز ذلك، كما في سائر الموارد.

و دعوى: أنّ الغارس بعد الفسخ، يكون قد هجم على مال الغير بإشغال الأرض، فلصاحب الأرض الدفاع و لو بالقلع و قتل صاحبه إذا منع عن التخليص، غير مقبولة عند العقلاء، و لا صحيحة شرعاً.

و توهّم: أنّ إطلاق قاعدة السلطنة يقتضي جوازه، كما هو ظاهر الشيخ الأنصاري (قدِّس سرُّه) حيث قال: «فلكلّ منهما تخليص ماله عن مال صاحبه»(2) غير صحيح؛ لما لا أساس لها سنداً، و لا إطلاق لها دلالة من هذه الجهة، و لا سيّما إذا استفاد العرف منها نفي سلطنة الإنسان على مال الغير، فتكون قاعدة مثبتة لها، و نافية للسلطنة على مال الغير، هذا و التصرّف حرام، و الإضرار بالغير ممنوع إمّا وضعاً، أو هو و تكليفاً؛ بناءً على عموم قاعدة «لا ضرر ..» كما قرّبناه في رسالتنا فيها(3).

و بالجملة: لا يقبل العقلاء منّا ذلك، و هذا يكفي لعدم ثبوت إطلاق لدليل يقتضي جواز القلع و الهدم، كما لا يخفى.


1- الرواية هكذا: .. فإنّه لا يحلّ دم امرئ مسلم و لا ماله إلّا بطيبة نفسه، وسائل الشيعة 5: 120، كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلّي، الباب 3، الحديث 1.
2- المكاسب، الشيخ الأنصاريّ: 241/ السطر 10.
3- رسالة قاعدة لا ضرر للمؤلّف( قدِّس سرُّه) مفقودة، لكنّه أورد بعض مباحثها المربوط بها في تحريرات في الأُصول 8: 249 309.

ص: 214

و لا بالأرش (1)، و لا إلزامه بالإبقاء (2) و لو مجّاناً.

قوله: «و لا بالأرش».

خلافاً للشيخ (رحمه اللَّه (كما أُشير إليه(1)؛ نظراً إلى عدم هدر المال و حرمته، فيجوز القلع بالأرش.

و قيل: «لو جاز القلع، و كان ذلك حقّا لصاحب الأرض، فيجوز القلع، و على صاحب الشجرة طمّ الحفرة»(2) و لا يخفى ما فيه.

قوله مدّ ظلّه: «و لا إلزامه بالإبقاء».

لأنّه صاحب الشجر و الزرع و البناية، و لا سلطنة له إلّا على ماله، أو على تخليصه.

و يمكن دعوى ذلك؛ لأنّ إطلاق القاعدة يحكم به، ضرورة أنّ بالقلع يلزم الحفرة الممنوعة، و يستلزم التصرّفات المحرّمة، و الإضرار بالأرض منهيّ، و بناءً على الجبران بطمّ الحفرة، لا يصحّح ذلك بالضرورة.

و لكنّه بمعزل عن التحقيق، و المجّانية في الإبقاء لا تستلزم السلطنة على مال الغير، و لا سيّما إذا كان في الإبقاء ضرر على صاحب الشجر و الزرع.


1- تقدّم في الصفحة 212.
2- لاحظ المكاسب، الشيخ الأنصاري: 241/ السطر 10.

ص: 215

كما أنّه ليس للمشتري حقّ الإبقاء مجّاناً (1) و بلا اجرة، فعلى المشتري قوله مدّ ظلّه: «حقّ الإبقاء مجّاناً».

لأنّ غاية ما يمكن أن يقال لاستحقاقه: إنّ تصرّفه كان عن حقّ، فله استيفاء الأرض في زمان مالكيّته المرسلة للعين و تبعاتها، فإذا رجعت العين و الأرض إلى ربّها ترجع مسلوبة المنفعة، كما في غير المقام.

و فيه: أنّ ما نحن فيه ليس نظير بيع العين المستأجرة، بل لو كان له نظيراً، فهو من قبيل إجارة البطن الأوّل بالنسبة إلى عصر البطن المتأخّر في كثير من فروض الأوقاف على البطون و الذرّيات.

و بالجملة: لا يقاس بمسألة بيع العين المستأجرة؛ لأنّ هناك اعتبرت منفعة الدار في زمان كذا ملكاً لمالك الدار، ثمّ انتقلت إلى المستأجر، و لا ترجع إلى المشتري بانتقال العين؛ للتفكيك السابق على البيع، بخلاف المقام، فإنّه كان ينتفع من الأرض تدريجاً، فإذا انتقلت الأرض فلا حقّ له.

و لو قيل: لا يعتبر إثبات حقّ له حتّى يجوز له الإبقاء، بل ممنوعيّة المالك عن التصرّف في الأرض بالقلع و الهدم يكفي.

قلنا: كما أنّ المالك ممنوع، كذلك الإبقاء المستلزم للإضرار، كما ربّما يتحقّق أحياناً، أو الإبقاء الموجب للانتفاع من أرض الغير.

بل الإبقاء المنتزع منه إشغال مال الغير ممنوع؛ لقوله (عليه السّلام): «لا يحلّ

ص: 216

أمّا إبقاؤها بالأُجرة (1)، و إمّا قلعها مع طمّ الحفر، و تدارك النقص الوارد على الأرض، و للبائع إلزامه بأحد الأمرين.

مال امرئٍ ..»(1) فإنّ اسناد عدم الحلّية إلى المال، يصحّ في موقف الممنوعيّة عن جميع أنحاء الإضافات إليه، و منها الأشغال، فإنّه بحكم العرف يعدّ عدواناً على المالك، و يكون عندئذٍ من الظالم الذي لا عِرْق له.

فتحصّل لحدّ الآن: أنّ هناك محاذير كثيرة، و لا يمكن الفرار من الكلّ، فيتعيّن أقلّها، و تلك المحاذير مضافاً إلى ما عرفت هي التبذير، و إلزام كلّ واحد الآخر على شي ء، و أخذ كلّ واحد الأُجرة إذا كان لمالك الأرض غرض في بقاء الشجرة و البناية .. و غير ذلك، فليست المحاذير محصورة بما مرّ و ما قيل، و لأجل ذلك تكون المسألة مشكلة، و ربّما تكون من المسائل التي تردّ إلى أهلها (عليهم السّلام).

قوله مدّ ظلّه: «بالأُجرة».

ما اختاره الماتن- مدّ ظلّه ليس أقلّ المحاذير؛ ضرورة أنّ ذلك إذا لم يكن مالك الأرض راضياً، يستلزم التصرّفات المحرّمة و الإضرار المحرّم، و ربّما لا ينجبر الإضرار بالأرض بالطمّ و نحوه، و لا يجوز إلزام المالك بأخذ الأُجرة.

هذا مع أنّ قلعها ربّما يكون تبذيراً للزرع و الشجر و البناية، فلو كان


1- عوالي اللآلي 1: 222/ 98.

ص: 217

رضا المالك معتبراً يستلزم القلع ذلك؛ بالنظر إلى الدليل شرعاً. ففي جانب الغابن لا سبيل إلى الاختيار المزبور.

و أمّا في ناحية المغبون، فإنّه بعد الفسخ إذا أجبره بالأُجرة يلزم أيضاً- مضافاً إلى ما مرّ في ناحية إجباره على القلع أنّ الإجبار ممنوع، و أخذ الأُجرة مع عدم رضاه ممنوع شرعاً، و التصرّف فيه محرّم، و لذلك ربّما يكون أخذ الأُجرة في صورة الامتناع عنها عن ثمرة الشجرة و الزرع و منافع البناية، أقلّ محذوراً.

و الذي ربّما يكون هو الأقرب إلى القواعد: أنّ دفع المنكر و النهي العمليّ القالع لمادّة الفساد واجب، و حيث إنّ المنكر و المحرّم في المسألة من تبعات المالكَين؛ لأنّ في عدم رضاهما يلزم كثير من المحاذير، فعندئذٍ تجب المراضاة لهدم مادّة المنكر المحرّم، فإذا تراضيا على أمر فهو، و إلّا يرجع الأمر إلى الحاكم. و ربّما يستشمّ من مورد قاعدة «لا ضرر ..» بعض ما ينفعك للمقام، و المسألة تطلب من كتابنا الكبير إن شاء اللَّه تعالى(1).


1- هذه المباحث من كتاب الخيارات من تحريرات في الفقه مفقودة.

ص: 218

نعم، لو أمكن غرس المقلوع بحيث لم يحدث فيه شي ء إلّا تبدّل المكان، فللبائع أن يلزمه به (1). و الظاهر أنّه لا فرق في ذلك بين الزرع و غيره. (2) قوله مدّ ظلّه: «أن يلزمه به».

و لو صحّ ذلك للزم جواز إلزام مالك الشجر مالكَ الأرض فيما إذا لم يلزم من بقائه فيه شي ء، و لكن جواز السلطنة على الغير مرهون بإذن الحاكم.

نعم، إذا لم يكن في قلع الشجر شي ء فله ذلك. و التصرّف في مال الغير بدون الإذن، ليس أسوأ من إعمال القدرة، مع أنّ في إعمال القدرة ربّما ينتسب التصرّف في مال الغير إلى المقتدر المسبِّب، و لا سيّما في صورة أقوائيّته، كما هو كذلك في مفروض الكلام، و عندئذٍ يلزم المحذوران.

و ربّما يشهد لما أشرنا إليه مورد قاعدة «لا ضرر ..» حيث أمر (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم (بالقلع، و لم يلزمه بذلك(1).

قوله مدّ ظلّه: «الزرع و غيره».

و قال في «المسالك»: «و أمّا الزرع فيتعيّن فيه الإبقاء بالأُجرة؛ لأنّ له أمداً ينتظر»(2).


1- الكافي 5: 292/ 2، وسائل الشيعة 25: 428، كتاب إحياء الموات، الباب 12، الحديث 3.
2- هكذا نقل الشيخ في المكاسب: 241/ السطر 19، و لكن في المسالك« بغير اجرة» لاحظ مسالك الأفهام 1: 193/ السطر 12.

ص: 219

و قال الشيخ: «و لعلّه لإمكان الجمع بين الحقّين على وجه لا ضرر فيه على الطرفين، بخلاف مسألة الشجرة، فإنّ في تعيين إبقائه بالأُجرة ضرراً على مالك الأرض؛ لطول مدّة البقاء، فتأمّل»(1) انتهى.

و غير خفيّ: أنّ الأمر لو كان على ما أفاداه، للزم التفصيل بين موارد الزرع و الشجر، و لا ينبغي الحكم المطلق عليهما، و بناءً على ما قوّيناه من لزوم الفرار من مادّة الفساد بقلعها؛ نظراً إلى أدلّة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لا فرق بين الموارد.

و لو لم يرضيا على أمر، و لم يتوافقا على شي ء، و خالفا أمر المولى، فلا يبعد سقوط حرمة مالهما بمقدار يدفع به الفساد، و ينحلّ به الإشكال و الإعضال، و ربّما يكون ذلك من الحِسبيّات؛ لانجراره إلى الفساد و النزاع في الأزمنة المتأخّرة. و لو كان في قلعه غلبة الفساد و التشاجر، فلا بدّ من المحافظة على ما هو الأوفق.


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 241/ السطر 19.

ص: 220

و أمّا إن كان بالامتزاج، فإن كان بغير جنسه بحيث لا يتميّز، فكالمعدوم يرجع بالمثل (1) أو القيمة، من غير فرق بين ما كان مستهلكاً و عدّ تالفاً، كما إذا خلط ماء الورد بالزيت، أو انقلبا إلى حقيقة أُخرى عرفاً. و لا يترك الاحتياط بالتصالح و التراضي في غير الصورتين؛ قوله مدّ ظلّه: «يرجع بالمثل».

في صورة الاستهلاك يكون الوجه عدم وجود المعقود عليه حتّى يكون راجعاً إلى مالكه الأوّل، و هذا في حدّ ذاته ممّا لا إشكال فيه.

و إنّما الإشكال بحسب نظر العرف؛ حيث يرى ماله فيه، و يجد أحقّيّته به من الأجنبيّ، فعدم بقاء المعقود عليه يستلزم البدل، أو يتعيّن على الغابن بعد الفسخ ردّ البدل من المال المستهلك فيه، أم يكون العرف حاكماً ببقائه فيه، كما أنّ العقل يحكم بذلك حتّى في المائعات الرقيقة؛ لأنّ الوحدة الاتصاليّة المساوقة للوحدة و التشخّص و للوجود، و الجزئيّة الحقيقيّة غير حاصلة في هذه الوحدات الموجودة بين أيدينا، فانقلاب الكأسين إلى كأس واحد، ليس في الحقيقة انعدام الهويّتين إلى هويّة ثالثة فيما بين أيدينا من المائعات؛ و إن كان لا بدّ من وجود الواحد الحقيقيّ صاحب الوحدة الاتصاليّة في بينها؛ لامتناع الجوهر الفرد و الجزء الذي لا يتجزّأ، و التفصيل في محلّه.

و بالجملة: وجوه في المسألة، و الوجه الأخير أقرب.

ص: 221

و إن كان جريان حكم التالف في الخلط (1) الذي يرفع به الامتياز و أمّا ما في كلام بعض المعاصرين كالفقيه اليزدي(1) و غيره(2) من تعيّن ردّ البدل من المستهلك فيه، فهو غريب؛ لأنّ الأقربيّة ممنوعة صغرويّاً، و لا دليل عليه بعد القول بالنقل إلى البدل و الاشتغال في الذمّة.

و أمّا في صورة الانقلاب، كانقلاب الخلّ خمراً، و البيض فرخاً، أو الانقلاب العرفيّ بالاستهلاك، فلا يأتي فيها التفصيل الآنف.

و ربّما يقال: بأنّ الانقلاب المزبور إذا كان في يد الغاصب، فضمانه ضمان التلف، فتأمّل.

قوله مدّ ظلّه: «في الخلط».

كخلط الجامد بالجامد، كدقيق الحنطة بالشعير، و قد استقرب جمع رجوع الباقي إلى المالك الأوّل بعد الفسخ. و مجرّد تعسّر التسليم أو تعذّره، لا يوجب عدم عوده إليه؛ ضرورة أنّ العقلاء يحكمون عليه بأحكام خاصّة، و هي ناشئة من بقاء المعقود عليه عندهم، و لذلك احتاط بالتصالح، كسائر الموارد المتعذّر فيها حلّ المشاكل الماليّة.

و ربّما يقال بالشركة تعبّداً؛ لاقتضاء معقد الإجماع حصول الشركة،


1- حاشية المكاسب، السيّد اليزدي 2: 46/ السطر 29.
2- منية الطالب 2: 82/ السطر 3 و ما بعده.

ص: 222

لا يخلو عن قوّة. (1) أحد الوجهين في كلام الشيخ (قدّس سرّه)(1) و حيث إنّ الشركة غير معقولة في الصورتين؛ ضرورة أنّه في صورة الاستهلاك و التلف يكون الاستهلاك في ظرف مالكيّة الغابن، و لا معنى لها عندئذٍ، و بعد الفسخ لا يرجع إلى المغبون شي ء ممّا في الخارج حتّى يكون شريكاً، إلّا على ما مرّ من كون العرف حاكماً بأنّ ماله في ماله، و في صورة وجود العين بعد الفسخ يرجع إلى مالكه الأوّل، فلا معنى بعد ذلك للشركة العقلائيّة.

نعم، لو كان تعبّد فهو المتّبع، إلّا أنّه غير ثابت.

و أمّا الشركة في الماليّة، أو الشركة في القيمة بعد البيع، فهي من الأباطيل؛ فإنّ الماليّة الموجودة اعتباراً في العين، ليست أمراً آخر وراءها بحيث تحصل الشركة فيها دون الخارج، و إذا أُريد منه الشركة في القيمة، فلازم ذلك وجوب البيع أو جواز المماطلة، و كلاهما ممنوعان كما ترى.

قوله: «لا يخلو عن قوّة».

و قد تبيّن وجه ذلك و وجه ضعفه ممّا مرّ، فإنّه إذا لم يكن بحكم التالف الاستهلاكُ، فهو أولى بذلك. هذا و رفع الامتياز العقليّ غير ممكن، و العرفيّ تسامحيّ لا حقيقيّ.


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 241/ السطر 24.

ص: 223

و إن كان الامتزاج بالجنس، فالظاهر ثبوت الشركة (1) بحسب الكمّية؛ قوله: «ثبوت الشركة».

كما صرّح به الشيخ (رحمه اللَّه)(1) و كأنّه المفروغ عنه في صورة التساوي، و هكذا في صورة الامتزاج بالأردإ.

و قد مرّ الإيماء إلى وجه المناقشة فيها؛ فإنّ الشركة لا تحصل قبل الفسخ، لما لا معنى لها بعد كون المعقود عليه ملك الغابن، و بعد الفسخ لا وجود للمعقود عليه ممتازاً؛ حتّى يعود إليه ثمّ تحصل الشركة، و لو كان ممتازاً فلا شركة إلّا تعبّداً؛ نظراً إلى الإجماع المحتمل كون معقده مخصوصاً بصورة الخلط الحاصل بين المالين لمالكين.

و بالجملة: لو كان المعقود عليه بحكم القطرة بالقياس إلى الممتزج فيه، فهو من التالف حتّى في صورة الخلط بغير الجنس.

نعم، في صورة التساوي في الكمّية، كمزج منّ من اللبن بمنّ منه، فلا يبعد وجوب ردّ منّ من اللبن على الغابن عرفاً و لو حصلت الشركة، و لكن يكون للغابن التصرّف بعد الفسخ أيضاً حتّى يبقى المعقود عليه القابل للردّ، فتأمّل.

و لا يجوز للمغبون استرداد ماله بدون رضاه؛ فإنّ الواجب على الغابن ردّ المعوّض. نعم إذا امتنع فلا يبعد.


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 241/ السطر 25.

ص: 224

و إن كان بالأردإ أو الأجود، مع أخذ الأرش في الأوّل، (1) فقوله: «بحسب الكمّية» ممنوع في الفرض المشار إليه جدّاً.

قوله مدّ ظلّه: «الأرش في الأوّل».

بناءً على حصول الشركة، و قد احتمل في كلماتهم الشركة في المثمن، و عدم الأرش(1).

أمّا الأوّل: فلعدم سقوط حقّ المالك.

و أمّا الثاني: فلحصول الشركة و المبادلة بالمقدار فراراً من الربا، و لا يثبت الزائد عليه بعد حكم الشرع بالشركة، و حرمة الربا، فلو وقع خلط بين منّ من اللبن، و منّين من اللبن الأردأ، يردّ إليه منّ من اللبن الموجود.

و ربّما يشهد ذلك على صحّة ما ذكرنا من إنكار الشركة هنا؛ للزوم تضييع حقّ المغبون.

اللهمّ إلّا أن يقال: حرمة الربا و لو كان مطلقة في باب المعاوضات، إلّا أنّها منتفية هنا؛ لكونها ضرريّة.

و بالجملة: إنّه في حكم التالف إذا كان الممزوج فيه أضعاف المعقود عليه.


1- لاحظ المكاسب، الشيخ الأنصاري: 241/ السطر 26، حاشية المكاسب، السيّد اليزدي 2: 47/ السطر 9.

ص: 225

و إعطاء زيادة القيمة في الثاني. (1) و أمّا في صورة التساوي في الكمّية مثلًا، فلا يبعد وجوب ردّ القيمة أو المثل إذا لم تحصل الشركة التي منعناها حتّى في صورة التساوي في الكيفيّة، و لو حصلت فالمبادلة و لو بإعطاء الأرش من الربا.

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّه مبنيّ على المشارطة، و هي هنا بحكم الشرع بعد المزج، و ليس من الربا رأساً.

قوله مدّ ظلّه: «زيادة القيمة في الثاني».

قد عرفت وجهها و وجه منعها من جهات شتّى، و لا سيّما من باب الربا موضوعاً و حكماً.

و عن الشيخ (قدِّس سرُّه) في مسألة رجوع البائع على المفلّس بعين ماله: أنّه يستلزم الربا(1)، و قال الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه): «قيل(2): و هو حسن مع عموم الربا لكلّ معاوضة»(3) انتهى.

و ظاهره المنع من غير تجويز الزيادة الأجنبيّة؛ لأنّها أيضاً عندهم من الربا.

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّه ضرري، و لا يكون بإقدامهما فلا حرمة.


1- المبسوط 2: 263.
2- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 241/ السطر 28.
3- مسالك الأفهام: 193/ السطر 25.

ص: 226

لكنّ الأحوط التصالح، خصوصاً في الثاني. (1) أو يقال: بأنّه لا يكون من الربا؛ لما لا مشارطة و لا معاملة، و جريان الربا في كلّ معاوضة أجنبيّ من هذه المسألة، فإنّه من التعارض القهري، لا المبادلة الإنشائيّة.

قوله مدّ ظلّه: «خصوصاً في الثاني».

لعدم حصول الشركة حتّى يجوز له التصرّف في ذلك بغير رضاه و لو يعطي قيمته، و أمّا في الفرض الأوّل فإنّ التصرّف جائز؛ لرضا الغابن طبعاً و إن كان يحتمل عدم رضاه.

و إذا كان المعقود عليه في المزج بالأردإ أيضاً في حكم التالف، يكون عدم رضاه مضرّاً بالتصرّف، فالأحوط التصالح جدّاً؛ لأنّ مادّة المنكر لا تقلع إلّا به بعد قصور دليل الشركة، و بعد عدم سقوط حقّ الغابن في الخلط، و لا المغبون بالأردإ و الأجود، بل في صورة التساوي في الجودة، كما أُشير إليه.

ص: 227

[مسألة 8: لو باع أو اشترى شيئين صفقة واحدة، و كان مغبوناً في أحدهما دون الآخر]

مسألة 8: لو باع أو اشترى شيئين صفقة واحدة، و كان مغبوناً في أحدهما دون الآخر، ليس له التبعيض (1) في الفسخ، بل عليه إمّا فسخ البيع بالنسبة إلى الجميع، أو الرضا به كذلك.

قوله مدّ ظلّه: «ليس له التبعيض».

الشيئان إمّا يكونان كجزئي باب الدار و كالنعال، فالأمر كما تحرّر و لو كان لكلّ جزء قيمة على حِدة؛ لاختلافهما فيها، و قد قوّم كلّ واحد منهما مستقلا.

و إمّا يكونان كالرقّيّتين و البطّيختين و أمثال ذلك، فلا يبعد أيضاً فيه ذلك.

نعم، لو رضي الغابن بالنسبة إلى الفسخ في الجملة؛ بناءً على جواز ذلك في الإقالة، فدعوى خيار تبعّض الصفقة غير مسموعة؛ لأنّه خيار لا يقتضيه إطلاق دليل شرعيّ حتّى يكون هو المرجع. مع انصرافه عنه.

و لو كانت الأشياء تقوّم أجزاؤها على حِدة، كما في بيع المتفرّقات في المزايدة، و كان الجمع في الإنشاء من الجمع في التعبير و كأنّه هناك بيوع مستقلّة و معاملات كثيرة، لا يسري عيب إحداها إلى الأُخرى، و لا يكون فساد إحداها موجباً لخيار التبعّض، فلازَمَ كلَّ واحد برأسه، فإطلاق ما في المتن ممنوع عرفاً.

و إن كان يمكن المناقشة فيه: بأنّ الإنشاء الواحد لا يعقل أن يتعلّق إلّا بالكثير الفاني في الواحد الاعتباري، كما في تعلّق أمر الصلاة بها، و عليه يكون البيع واحداً شخصيّاً و لا أساس للانحلال هنا، و لا في غير المقام.

ص: 228

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّه مقتضى الصناعة العلميّة غير المعهودة بين العقلاء في بيع الأشياء المتفرّقة، التي لا تجمعها الأُمور الخارجيّة، و لا الأغراض.

نعم، لا بأس بأن يعتبر ذلك زائداً على المئونة المتعارفة، فيكون من قبيل الشرط في ضمن العقد الواقع على المجموع، و لو صحّ ذلك فيعلم منه وحدة العقد، و إلّا فالشرط لم يقع في ضمن شي ء، فتأمّل جيّداً.

ص: 229

[الخامس: خيار التأخير]
اشارة

الخامس: خيار التأخير.

و هو فيما باع شيئاً و لم يقبض تمام الثمن، و لم يسلّم المبيع إلى المشتري، و لم يشترط تأخير تسليم أحد العوضين، فحينئذٍ يلزم البيع (1) ثلاثة أيّام، فإن جاء المشتري بالثمن فهو أحقّ بالسلعة، و إلّا فللبائع فسخ المعاملة.

قوله مدّ ظلّه: «يلزم البيع».

إجماعاً محكيّاً عن «الانتصار»(1) و «الخلاف»(2) و «التذكرة»(3) و غيرها(4)، و هذا من منفردات الإماميّة، و قد قال المخالف باللزوم حسب الأصل(5)، و ليس في أخبارنا رواية تحكي قول الرسول (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم (في هذا الخيار، بخلاف خيار المجلس و الحيوان. و المهمّ في المسألة قبل تلك الإجماعات؛ أخبارنا المحكيّة في الباب التاسع من أبواب الخيار، ففي معتبر زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال قلت له: الرجل يشتري من الرجل المتاع، ثمّ يدعه عنده فيقول: حتّى آتيك بثمنه.


1- الانتصار: 210.
2- الخلاف 3: 20 المسألة 24.
3- تذكرة الفقهاء 1: 523/ السطر 14.
4- رياض المسائل 1: 525/ السطر 26، جواهر الكلام 23: 51.
5- لاحظ الخلاف 3: 20 المسألة 24، تذكرة الفقهاء 1: 523/ السطر 18.

ص: 230

قال: «إن جاء فيما بينه و بين ثلاثة أيّام، و إلّا فلا بيع له»(1).

و ظاهره بعد القبض، فهو معرض عنه.

و معتبر ابن يقطين: أنّه سأل أبا الحسن (عليه السّلام) عن الرجل يبيع البيع، و لا يقبضه صاحبه، و لا يقبض الثمن.

قال: «فإنّ الأجل بينهما ثلاثة أيّام، فإن قبض بيعه، و إلّا فلا بيع بينهما»(2).

و فيه من الاحتمالات ما يبلغ أكثر من خمسين، و الخروج عنها على وجه الحجّة غير ميسور.

و خبر ابن الحجّاج(3) الممنوع اعتباره؛ لروايته عن أبي بكر بن عيّاش القاضي.

و خبرِ إسحاق بن عمّار، عن عبد صالح (عليه السّلام) قال: «من اشترى بيعاً


1- الفقيه 3: 127/ 554، وسائل الشيعة 18: 21، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 9، الحديث 1.
2- تهذيب الأحكام 7: 22/ 92، وسائل الشيعة 18: 22، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 9، الحديث 3.
3- الكافي 5: 172/ 16، وسائل الشيعة 18: 21، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 9، الحديث 2.

ص: 231

فمضت ثلاثة أيّام و لم يجي ء، فلا بيع له»(1) و فيه:- مضافاً إلى ما قاله العلّامة في سنده(2)، و إلى أنّ المتعارف التعبير عنه (عليه السّلام) ب «العبد الصالح» و التنكير يورث أنّه غيره (عليه السّلام) و ظهوره في أنّه غيره ربّما يمنع عن استظهار كونه هو لقول الراوي: « (عليه السّلام)» مع أنّ التعبير عنه به للتقيّة، و هو ينافيها أنّ جميع النسخ لم يجي ء، و لعلّ هناك محذوفاً، فيشكل أمره متناً.

و خبر ثانٍ عن ابن يقطين قال: سألت أبا الحسن (عليه السّلام) عن رجل اشترى جارية و قال: أجيئك بالثمن.

فقال: «إن جاء فيما بينه و بين شهر، و إلّا فلا بيع له»(3).

و فيه:- مضافاً إلى اشتراك محمّد بن أبي حمزة و أبي إسحاق أنّ المتن معرض عنه، مع ظهوره في قبض المبيع و الجارية؛ لأنّ بقاءها عند البائع يستتبع المحاذير العرفيّة و الشرعيّة، فيكون الخبر معرضاً عنه من هذه الجهة أيضاً.


1- تهذيب الأحكام 7: 22/ 91، وسائل الشيعة 18: 22، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 9، الحديث 4.
2- رجال العلّامة الحلّي: 200.
3- تهذيب الأحكام 7: 80/ 342، وسائل الشيعة 18: 23، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 9، الحديث 6.

ص: 232

ثمّ إنّ اختصار الخيار المذكور بصورة عدم قبضهما، فلو كان الثمن غير مقبوض و المبيع مقبوضاً، كان اعتبار الخيار للبائع أولى؛ لأنّه لو أخّر إلى بعد الثلاثة كان مبيعه عنده فيأخذه تقاصّاً أو غير ذلك، بخلاف ما إذا قبضه المشتري.

هذا، و هذا الخيار ليس ممّا يعهده العقلاء؛ إلّا إذا رجع إلى خيار تخلّف الشرط الضمنيّ الثابت حينئذٍ للبائع و المشتري و يظهر من «انتصار» السيّد تقريبه لمثله(1)، إلّا أنّه يؤيّد به مفاد الأخبار، و هو ممّا لا منع عنه.

و لو قيل: بناءً عليه تكون الشهرة و الإجماع مستنداً قبل الأخبار، أو تكون الأخبار منجبرة سنداً و دلالة.

قلنا: قد تحرّر منّا إمكان انجبار السند و الدلالة بالشهرة و الإجماع؛ فيما إذا كان خبر ضعيف ظاهراً في أمر خلاف ما أفتوا به، و أمّا في موارد الأخبار المضطربة القابلة لإعمال الاجتهاد فيها- كما في أخبار ماء البئر(2) فلا سبيل إليه؛ لقوّة تخلّل الآراء.

و توهّم اشتهار الحكم بقيوده و شرائطه الأربعة بين أصحابهم (عليهم السّلام (ثمّ وصوله إلى أرباب التصنيف و التأليف و إلى المتون الفقهيّة،


1- الانتصار: 210.
2- وسائل الشيعة 1: 170، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14 24.

ص: 233

و لو تلفت السلعة كانت من مال البائع. (1) ك «المقنع» و «النهاية» غير سديد، فالمستند هي الأخبار الموجودة المشتملة لاحتمال خطئهم في السند و الدلالة.

هذا، و قد ذكرنا في كتابنا الكبير: أنّ مصبّ هذه الروايات- لأجل القرائن الكثيرة المتفرّقة في الأبواب المختلفة هي المعاهدة و المقاولة على البيع، و لم يكن عقد و بيع حتّى يكون لازماً في الثلاثة، و باطلًا أو خياريّاً، أو منفسخاً أو زائلًا أثره- و هي الملكيّة بحكومة شرعيّة بعد الثلاثة، فلا أساس لخيار التأخير، و إن شئت فراجع إليه حتّى تطّلع على تلك الشواهد، و تدري أنّ على فرض التنزّل من السند و الدلالة يكون الاحتمال الرابع أظهر ما في الباب، فلا خيار، و لا بطلان، و لا انفساخ، بل لا يعقل الانفساخ، بل هناك ما يكون مثل محجوريّة المالك المطلقة المساوقة لعدم اعتبار الملك له حكومة شرعيّة.

قوله مدّ ظلّه: «من مال البائع».

فيما إذا كان بعد الثلاثة اتفاقاً و إجماعاً مستفيضاً، بل متواتراً كما عن «الرياض»(1).

و إذا كان في الثلاثة ففيه قولان: فالمشهور على أنّه من مال البائع،


1- رياض المسائل 1: 526/ السطر 9.

ص: 234

و المحكيّ عن السيّدين(1) بل و المفيد(2) أنّه من مال المشتري، و عليه الإجماع في «الخلاف»(3) و غيره(4). و ما في كلام الشيخ من نسبة إجماع «الخلاف» إلى أنّ التلف من مال البائع(5)، في غير محلّه.

و المستند النبوي المعروف المشهور بين أصحابنا شهرة عمليّة(6)، و في «الغوالي» نصّه(7)، و مقتضى إطلاقه عدم الفرق بين الصورتين، كما عليه أكثر المتأخّرين(8).

نعم، نسب إلى بعض الأجلّة التفصيل(9)، و الوجه عدم انجبار إطلاق


1- الانتصار: 210، الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 525/ السطر 30.
2- المقنعة: 592.
3- الخلاف 3: 20، المسألة 24.
4- الانتصار: 210، الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 525/ السطر 30.
5- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 248/ السطر 3 4.
6- كل مبيعٍ تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه»، شرائع الإسلام 2: 277، تذكرة الفقهاء 1: 523/ السطر 31، المكاسب، الشيخ الأنصاري 247/ السطر 35.
7- عوالي اللآلي 3: 212/ 59.
8- إيضاح الفوائد 1: 485، مجمع الفائدة و البرهان 8: 406، جواهر الكلام 23: 57 58.
9- لاحظ منيّة الطالب 2: 102/ السطر 9.

ص: 235

القاعدة؛ بعد ذهاب تلك الجماعة مدّعين الإجماع على أنّ في الثلاثة على المشتري فما في كلام بعض المتأخّرين من الاستيحاش من التفصيل(1) خالٍ من التحصيل. و أما رواية عقبة بن خالد(2) فهي في غير المورد، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ القاعدة الشرعيّة المشار إليها، ربّما تعارض بقاعدة «الخراج بالضمان» بما في خبر إسحاق بن عمّار، عن أبي إبراهيم (عليه السّلام) الوارد في الرهن، و في ذيله: «و كذلك يكون عليه يكون له»(3).

فإنّه إشارة إلى قاعدة عقلائيّة «مَن له الغنم فعليه الغرم» و بقاعدة «التلف في زمن الخيار ممّن لا خيار له».

و ما أفادوه حلّا للمعارضة من أخصّية الأُولى منها، و من أجنبيّة الثانية و الثالثة عن موردها(4)، غير موافق للتحصيل.

نعم، أجنبيّة الثانية غير بعيدة في ذاتها، إلّا أنّ فهم المشهور جابر،


1- منية الطالب 2: 102/ السطر 9.
2- الكافي 5: 171/ 12، وسائل الشيعة 18: 23، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 10، الحديث 1.
3- الكافي 5: 234/ 10، وسائل الشيعة 18: 387، كتاب الرهن، الباب 5، الحديث 6.
4- لاحظ المكاسب، الشيخ الأنصاري: 248/ السطر 1، البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 415 417.

ص: 236

و قبض بعض الثمن كلا قبض. (1) فيكون التعارض بالعموم من وجه، و حلّ المشكلة في محلّه إن شاء اللَّه تعالى.

و يجوز أن يقال: بأنّ مصبّ أخبار خيار التأخير- إلّا واحداً منها هو البيع مع قبض المبيع، فيكون من مال المشتري، و ما هو الشرط عدم قبض المبيع المستمرّ غير المتعقّب بتركه عند البائع، فتأمّل.

و بالجملة: بناءً على ما تلوناه عليك، فلا بحث هنا يخصّ بخيار التأخير، و أمّا البحث عن تعارض القواعد فسيمرّ عليك إن شاء اللَّه تعالى.

قوله مدّ ظلّه: «كلا قبض».

اعتبروا شروطاً ثلاثة في ثبوت هذا الخيار: عدم حصول التقابض، و عدم اشتراط تأخير أحد العوضين، و عند ذلك يلزم البيع ثلاثة أيّام، و بعد الثلاثة يكون للبائع خيار إذا لم يجي ء المشتري، و لم يمكّن البائع منه. و هذا كلّه مستفاد من أخبار المسألة:

أمّا الأوّلان: فلأنّ المفروض في أكثرها عدم حصول التقابض، و في معتبر ابن يقطين نصّ عليه(1).

نعم، ربّما يستفاد من معتبر زرارة(2) أنّ القبض المتعقّب بالترك عند


1- تقدّم في الصفحة 230.
2- تقدّم في الصفحة 229.

ص: 237

البائع لا يضرّ بثبوت الخيار، كما هو الأظهر، و قد أُشير إليه في ذيل الحاشية السابقة.

و يمكن أن يقال: إنّ مقتضى بعض الأخبار- كخبر إسحاق بن عمّار(1) هو عدم اعتبار عدم قبض المبيع. و يؤيّده بعض آخر، و يساعده الاعتبار؛ لأنّ قبض المبيع و عدم إعطاء الثمن، أولى بالخيار من صورة عدم قبضه؛ لأنّه يتمكّن عندئذٍ من التقاصّ.

و فيه: أنّ الجهة العمدة في هذا الخيار رفع المزاحم الموجب لتحريج الأمر على البائع، و تمكين استفادة الناس من المتاع، و إدارة المعاش على أحسن الوجوه الممكنة، فلا يجوز توهّم الخيار في الصورة المذكورة.

و أمّا خبر ابن عمّار، فهو مقيّد بما في معتبر ابن يقطين.

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ بين معتبر ابن يقطين و معتبر زرارة، تعارضاً بالمباينة، فيكون المرجع معتبر ابن عمّار المطلق، و لا يجوز تقييده بأحدهما بتوهّم انقلاب النسبة؛ لأنّ شرط التقييد مفقود، و الترجيح بلا مرجّح غير جائز.

و سرّه: أنّ قوله (عليه السّلام) في خبر ابن عمّار: «من اشترى بيعاً فمضت ثلاثة


1- تقدّم في الصفحة 231.

ص: 238

أيّام و لم يجي ء، فلا بيع له» محمول بالضرورة على صورة عدم التقابض من الطرفين مجموعاً، و إلّا فلا معنى لعدم مجيئه، و أمّا أنّه لم يجي ء لأخذ المبيع أو لإعطاء الثمن، فهو غير واضح، فيكون الحذف يفيد الإطلاق، و لا يمكن تقييد هذا الإطلاق بأحد السابقين معيّناً.

نعم، يمكن دعوى: أنّ الخبرين الأوّلين متباينان لولا هذا الإطلاق، و إذا قيسا إليه يقيّد بهما، فترتفع المباينة قهراً، و تصير النتيجة الشرط المشهور.

و أمّا الشرط الثالث: فلا دليل له- بعد الإجماع و الاتفاق إلّا دعوى انصراف الأخبار إلى غير صورة رضاهما بالتأخير، و غير خفيّ أنّه لازم ذلك عدم الخيار للبائع و لو كان المتاع ممّا يفسد بعد الثلاثة، و هذا خلاف ما يستفاد من تلك الأدلّة الناهضة على الخيار لما يفسد ليومه، الظاهرة في أنّ الشرع لاحظ جانب المتاع و خسران المجتمع بفساده، لا الفرد، و اللَّه العالم.

و في كيفيّة الشرط المزبور- و أقسامه البالغة إلى أكثر من خمسين صورة تفصيل لا يسعه المقام.

و من هنا يظهر وجه ما في المتن من: أنّ «قبض بعض الثمن كلا قبض» لأنّ الظاهر المنصرف من الأخبار ذلك.

ص: 239

[مسألة 1: الظاهر أنّ هذا الخيار ليس على الفور]

مسألة 1: الظاهر أنّ هذا الخيار ليس على الفور (1) فلو أخّر الفسخ عن الثلاثة لم يسقط إلّا بإحدى المسقطات.

قوله مدّ ظلّه: «ليس على الفور».

كما هو الأعرف؛ لإطلاق أدلّته، و من الغريب ما في «التذكرة» الظاهر في أنّه يقول بالفور؛ لأنّه يتمسّك بانسداد التضرّر في صورة الإتيان بالثمن بعد الثلاثة، و يصرّح بسقوط الخيار فيها؛ لهدم مقتضيه!!(1) و هذا غير جائز في شرعنا بعد كون الأخبار مستند المسألة، لا القاعدة.

و يظهر من الشيخ (قدّس سرّه): «أنّه بعد ما لم يكن معنى «لا بيع له» إلّا نفى اللزوم، فلازمه نفيه على وجه لا يعود لازماً أبداً، فتأمّل»(2) انتهى.

و لو كان ذلك حقّا لكان الإسقاط غير جائز، كما لا يخفى.


1- تذكرة الفقهاء 1: 523/ السطر 29.
2- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 247/ السطر 30.

ص: 240

[مسألة 2: يسقط هذا الخيار باشتراط سقوطه في ضمن العقد]

مسألة 2: يسقط هذا الخيار (1) قوله مدّ ظلّه: «هذا الخيار».

سقوط الخيار بإحدى المسقطات، فرع كونه حقّا من الحقوق القابلة له، و في كونه حقّا أوّلًا، و على التقدير قابلًا للإسقاط إشكال؛ لأنّ دليله لو كان الإجماع فهو لا ينفع؛ لأنّه ليس تعبّدياً.

و إن كان قاعدة من القواعد الشرعيّة، فهو لا يثبت إلّا نفي اللزوم الملازم للجواز الأعمّ.

و إن كان الأخبار، فهو إمّا ظاهر فيما ذكرناه؛ و هو خروج المبيع بعد الثلاثة من ملك المشتري إلى ملك البائع، فيكون محجوراً عنه بحكم الشرع، و لا يعتبر بعد ذلك ملكاً له، أو تكون الأخبار من هذه الجهة مجملة.

و ما أصرّ عليه الماتن في درسه: «من أنّ ظاهره كونه خياريّاً، و الخيار يقبل الإسقاط بحكم العقلاء»(1) غير واضح.

و لو كان خياراً ففي كونه يقبل الإسقاط مناقشة؛ لأنّ من أحكام الحقوق عند العقلاء قبول التورّث و النقل، مع أنّ كثيراً من الحقوق لا يكون كذلك، فلو كان شي ء حقّا فلا بدّ من وجود أثر له حتّى يمتاز به عن الحكم؛ فراراً من لغويّة اعتباره، و يكفي فيما نحن فيه قبوله النقل، فالإسقاط غير مُبرهن نفعه و نفوذه، إلّا أنّه غير بعيد عرفاً.


1- البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 411.

ص: 241

باشتراط سقوطه (1) في ضمن العقد، و بإسقاطه بعد الثلاثة (2). و في سقوطه بالإسقاط قبلها إشكال، و الأقوى عدمه. (3) قوله مدّ ظلّه: «باشتراط سقوطه».

و هو المحكيّ عن «الدروس»(1) و «جامع المقاصد»(2) و «تعليق الإرشاد»(3).

و يشكل ذلك؛ لأجل أنّ هذا الشرط طبعاً يمنع عن حدوث الخيار بعد الثلاثة، و يكون في حكم الشرط المخالف للكتاب.

نعم، لو كان الأمر على وجه يحدث ثمّ يسقط، فهو في محلّه، إلّا أنّه مجرّد فرض، و لا يساعد عليه الاعتبار، و لا يقولون بذلك. و حديث «آناً ما» ممّا لا أساس له- حتّى في موضع من الفقه في الملكيّة، فضلًا عمّا نحن فيه.

قوله مدّ ظلّه: «و بإسقاطه بعد الثلاثة».

إجماعاً كما هو ظاهر الشيخ (رحمه اللَّه)(4) و وجه المناقشة فيه ما مرّ، فتدبّر.

قوله مدّ ظلّه: «و الأقوى عدمه».

خلافاً لنصّه في درسه(5)، نعم اختار أنّ الاغتراسات العرفيّة لا تساعد


1- الدروس الشرعيّة 3: 276.
2- جامع المقاصد 4: 302.
3- لاحظ المكاسب، الشيخ الأنصاري: 247/ السطر 11.
4- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 247/ السطر 9.
5- البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 134.

ص: 242

كما أنّ الأقوى (1) عدم سقوطه ببذل المشتري الثمن بعدها قبل فسخ البائع.

على الإسقاط قبل العقد، و أمّا بعد العقد فإن أُريد منه الإسقاط المنجّز، فهو غير صحيح.

و إن أُريد منه الإسقاط المعلّق أو المشروط- بأن يكون الإسقاط حاليّا، و السقوط استقباليّاً فلا بأس به، و هو الأقوى لولا المناقشات السابقة.

و أمّا حديث الإجماع المحكيّ على بطلان التعليق(1)، فهو مضافاً إلى نصّ السيّد الفقيه اليزدي (قدِّس سرُّه) على عدم وضوح مسيره(2)، أنّ القدر المتيقّن منه نفي العقد.

قوله مدّ ظلّه: «كما أنّ الأقوى».

و استحسنه الشيخ قائلًا: «لو كان مستند الخيار هو الأخبار، و أمّا إذا استند فيه إلى الضرر، فلا شكّ في عدم الضرر حال بذل المشتري المثمن، فلا ضرر ليتدارك بالخيار»(3) انتهى.

و في «التذكرة» تصريح بالسقوط(4) كما مرّ.


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 99/ السطر 11.
2- حاشية المكاسب، السيّد اليزدي 2: 55/ السطر 1.
3- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 247/ السطر 15.
4- تذكرة الفقهاء 1: 523/ السطر 29.

ص: 243

و غير خفيّ: أنّ شأنهما أجلّ من أن يذكرا في مسطوراتنا، إلّا أنّه لا شأن لمن لا يراعي الجانب الصحيح في المسائل الفرعيّة؛ و هو الأخبار الواردة في المسألة، فإنّ قاعدة «لا ضرر ..» تفيد في غير مورد الأخبار، أو تكون حاكمةً على إطلاقها لو كان ضرريّاً، و أمّا بعد سكوت الشرع عن ذكر القاعدة هنا- «لم يسكت عنها نسياناً» فلا وجه لإرجاع الأخبار إلى قاعدة «لا ضرر ..» ثمّ الأخذ بها سنداً، و تحليل الفروع على مدارها صدقاً و لا صدقاً، فإنّه بعيد عن هؤلاء الأمثال الأبدال، تغمّدهم اللَّه بلطفه الخفيّ.

هذا مع أنّ قاعدة «لا ضرر ..» لو كانت مستنده، و غير جارية هنا عند بذل الثمن، لكانت لا تفيد خيار الغبن عند بذل التفاوت، مع أنّ الإجماع قائم على ثبوته بالغبن؛ سواء أعطى التفاوت بعد المعلوميّة، أم لم يعطِ، فلا تخلط.

و قد مرّ: أنّ الخيار الحقّي لا يمكن أن يكون مستند قاعدة من القواعد الحاكمة على الأدلّة، و مجرّد وجود بعض التقارير- ما قرّبناه في كتابنا الكبير(1)، و في رسالتنا(2) لا يكفي مستنداً للفقه، كما هو الواضح.


1- هذه المباحث من الخيارات من تحريرات في الفقه مفقودة.
2- رسالة في قاعدة لا ضرر للمؤلّف( قدّس سرّه)) مفقودة).

ص: 244

و يسقط لو أخذه بعدها بعنوان الاستيفاء (1)، لا بعنوان آخر.

قوله مدّ ظلّه: «بعنوان الاستيفاء».

فلا يتحقّق ذلك في صورة الجهل، و لا يسقط بمجرّد الأخذ.

و قال الشيخ (رحمه اللَّه (بالسقوط «لأنّه التزام فعليّ بالبيع، و رضا بلزومه»(1) انتهى.

و فيه: أنّه أعمّ أوّلًا، و مجرّد الالتزام و الرضا بالبيع لا يكفي للسقوط، و إلّا فهو حاصل ثانياً.

و لو كان هناك التزام جديد زائد على أصل الالتزام بالبيع، ففي كفايته للسقوط إشكال، بل منع؛ لأنّ السقوط من المسائل المترقّبة من الأسباب الإنشائيّة، و القول بالتعبّد كان غير مرضيّ في مورد أخبار الرضا الواردة في خيار الحيوان(2)، فضلًا عمّا نحن فيه.

نعم، لو كان عمل البائع على وجه يعتبر منه الإعراض عن الملك و الحقّ، كان لذلك وجه. و لعلّ معنى قوله- مدّ ظلّه: «بعنوان الاستيفاء» يرجع إلى ذلك، و إلّا فالخيار الموضوع له بحكم الأخبار لا يسقط إلّا بالأسباب.

نعم، فرق بين مقام الدعوى، و بين مقام التصرّف؛ ففي مقام الدعوى لا بدّ و أن يكون السبب قابلًا لأن يتسبّب به إلى السقوط عرفاً و شرعاً، و إلّا


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 274/ السطر 19.
2- تذكرة الفقهاء 1: 523/ السطر 30.

ص: 245

و في سقوطه بمطالبة الثمن وجهان، الظاهر عدمه. (1) فالقول قول البائع، و أمّا إذا كان في مقام التصرّف بينه و بين ربّه، فلا يعتبر شي ء؛ لأنّه يسقط حتّى بالإعراض القلبيّ، و يكون كالديون غير محتاج إلى الأسباب الظاهرة. و ربّما يكون الالتزام القلبيّ و الرضا الجديد بالعقد- لأجل استلزامه الإعراض موجباً للسقوط بينه و بين ربّه، فلا ينبغي الخلط بين الصورتين.

قوله مدّ ظلّه: «الظاهر عدمه».

قد ظهر الوجه ممّا مرّ بما لا مزيد عليه، و يظهر مواضع الضعف في كلمات القوم، و تفصيل المسألة يطلب من خيار المجلس و الحيوان.

و أمّا التمسّك بالأصل هنا، كما في «التذكرة»(1) و استرضاه الشيخ(2) و الماتن(3) عفي عنهما، ففي غير محلّه؛ لما تقرّر منّا في الأُصول من ممنوعيّة جريان الاستصحابات الحكميّة الكلّية مطلقاً ذاتاً، لا بالمعارضة(4)؛ فإنّه غير صحيح، فتدبّر.


1- تذكرة الفقهاء 1: 523/ السطر 30.
2- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 247/ السطر 23.
3- البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 412 413.
4- تحريرات في الأُصول 8: 436 438 و 533 534.

ص: 246

[مسألة 3: المراد ب «ثلاثة أيّام» هو بياض اليوم]

مسألة 3: المراد ب «ثلاثة أيّام» هو بياض اليوم (1) و لا يشمل الليالي عدا الليلتين المتوسّطتين، فلو أوقع البيع في أوّل النهار يكون آخر الثلاثة غروب النهار الثالث. نعم لو وقع في الليل تدخل الليلة الأُولى أو بعضها أيضاً في المدّة. و الظاهر كفاية التلفيق، فلو وقع في أوّل الزوال يكون مبدأ الخيار بعد زوال اليوم الرابع، و هكذا.

قوله مدّ ظلّه: «بياض اليوم».

في المسألة بحوث لا يليق هذا المختصر بالبحث عنها، و قد فصّلنا الكلام في ذيل خيار الحيوان في محلّه(1)، و المهمّ بعض الاستظهارات العرفيّة، أو الاشتقاقات اللغويّة.

و الذي لا بأس بالإشارة إليه أنّ المقادير التي تؤخذ في الأدلّة: تارة: يكون النظر إلى خصوصيّاتها، كالبياض و الظلمة المسبكين بعناوين «النهار» و «الليل» المخلفين.

و أُخرى: إلى المقدار المحض و الكمّية الخاصّة، سواء كان فيما بينه و بين البائع يوم أو ليل، أم كان كلّه اليوم، أو كلّه الليل.

فما في هذه الأخبار فهو بلحاظ القطر و المنطقة بالقطع و اليقين، و إلّا فمضيّ خمسة عشرة سنة غير لازم حتّى إذا كان إنسان في محطّ قد نتف لحاه، و اشتعل رأسه شيباً، لم يبلغ بالسنّ!! فإنّه واضح الفساد و لا يجوز


1- مباحث خيار الحيوان من تحريرات في الفقه مفقودة.

ص: 247

إسناده إلى الشرع.

و أمّا أنّ المقدار فيما نحن فيه هل هو امتداد ثلاثة أنْهُر، و ثلاث ليالٍ؟ كما قيل(1) و استظهرنا ذلك في أحكام صلاة المسافر(2)، فإنّ «اليوم» غير موضوع- ظاهراً على وجه يكون مرادنا للنهار، بل هو أكثر إطلاقاً على أصل الوقت.

و أيّام البيض أيضاً باعتبار أوقات البيض، لا باعتبار صدق «اليوم» على الليل كما توهّم.

و عندئذٍ تكون أصالة الإطلاق فيما زاد على الأنهر الثلاثة و الليلتين محكّمة؛ لما مرّ من عدم جريان الاستصحاب رأساً.

و بالجملة: ربّما يراد من جملة «ثلاثة أيّام» أي ثلاثة أوقات الليل و النهار، فيكون القول المزبور قويّاً.

و لو كان اليوم بمعنى النهار مصبَّ الخيار، فلازمه عدم ثبوت الخيار فيما إذا وقع العقد في أوّل الليل. و استفادة الحكم من قطعيّة الأمر بالمناسبات الخارجيّة صحيحة، إلّا أنّ الأنسب الدقّة في لغة العرب، و أمّا سائر التشبّثات الأُخر فهي غير متينة جدّاً.


1- مفتاح الكرامة 4: 558/ السطر 30 31.
2- مباحث صلاة المسافر من تحريرات في الفقه مفقودة.

ص: 248

[مسألة 4: لا يجري هذا الخيار في غير البيع]

مسألة 4: لا يجري هذا الخيار في غير البيع (1) من سائر المعاملات.

قوله مدّ ظلّه: «في غير البيع».

و في البيع على ما سلف احتماله، بل قوّته.

نعم، تأخير الثمن أو المثمن بالمقدار المتعارف، لا يورث شيئاً.

و لو زاد عليه، و أقبض أحدهما الآخرَ متاعَه، و لم يسلّم الآخر، فلا يبعد الخيار العقلائيّ المترشّح من الاشتراط الضمنيّ كما يلوح ذلك من «انتصار» السيّد (قدّس سرّه)(1).

و ربّما يتخيّل رجوع خيار التأخير إليه، و لكنّه خيار تأخير الثمن، لا المثمن. و لو كان الأمر كما توهّم لكان الخيار ثابتاً لهما، و إنّما للشرع تحديده زماناً؛ حفاظاً على النظام، كما صنع ذلك في غير مورد.


1- الانتصار: 210.

ص: 249

[مسألة 5: لو تلف المبيع كان من مال البائع في الثلاثة، و بعدها على الأقوى]

مسألة 5: لو تلف المبيع كان من مال البائع في الثلاثة، و بعدها على الأقوى. (1) قوله مدّ ظلّه: «على الأقوى».

قد مرّت في أوّل خيار التأخير هذه المسألة(1).


1- تقدّم في الصفحة 233 234.

ص: 250

[مسألة 6: لو باع ما يتسارع إليه الفساد]

مسألة 6: لو باع ما يتسارع إليه الفساد؛ بحيث يفسد لو صار بائتاً، كالبقول، و بعض الفواكه، و اللحم في بعض الأوقات و نحوها، و بقي عنده، و تأخّر المشتري، فللبائع الخيار قبل أن يطرأ (1) عليه الفساد، فيفسخ البيع، و يتصرّف في البيع كيف شاء.

قوله مدّ ظلّه: «الخيار قبل أن يطرأ».

على المشهور المعروف المتسالم عليه(1)، و استدلّوا عليه بمرسلة عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) أو أبي الحسن (عليه السّلام): في الرجل يشتري الشي ء الذي يفسد من يومه، و يتركه حتّى يأتيه بالثمن.

قال: «إن جاء فيما بينه و بين الليل بالثمن، و إلّا فلا بيع له»(2)(3). و في «الفقيه» عن ابن رباط، عن زرارة، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) في حديث قال: «العهدة فيما يفسد من يومه- مثل البقول، و البطّيخ، و الفواكه يوم إلى الليل»(4).


1- مفتاح الكرامة 4: 583/ السطر 28.
2- رياض المسائل 1: 526/ السطر 19، جواهر الكلام 23: 59، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 248/ السطر 14.
3- الكافي 5: 172/ 15، تهذيب الأحكام 7: 25/ 108، وسائل الشيعة 18: 24، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 11، الحديث 1.
4- الفقيه 3: 127/ 555، وسائل الشيعة 18: 25، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 11، الحديث 2.

ص: 251

و لا بأس بكونه من خيار التأخير، إلّا أنّه حدّد بيوم واحد.

و أمّا كونه خيار تأخير المثمن؛ لأنّ النظر إلى عدم طرو الفساد، فلو كان أقبض الثمن و لم يأتِ ليأخذ المبيع فله الخيار، كما صرّح به الفقيه اليزدي(1)، فهو بعيد عن ساحة الأخبار بالضرورة.

و ثبوت الخيار في نصف اليوم أو في اليومين؛ لقاعدة «لا ضرر ..» غير خيار التأخير الثابت بالخبر الخاصّ؛ لاختلافهما في الحكم أحياناً، كما في حكم الفوريّة و التراخي، فلا تخلط.

و قد مرّ منّا: أنّ هاتين الروايتين من شواهد ما أسّسناه في المسألة؛ و هو أنّ المسئول عنه و المفروض في الأخبار ليس البيع و حصول العقد و المبادلة، بل هو في فرض المقاولة، كما هو المتعارف(2)، و يبعد العقد غير المعاطاتيّ في مثل هذه الأُمور بالضرورة، فإذن يحصل القطع بأنّه لم يكن بين البائع و المشتري إلّا القرار على البيع، و تركه عنده اختصاصاً به، لا ملكاً له.

و على هذا تمّ البحث، و لا يتوجه الإشكال إلى الأخبار و في بعض فروع المسألة، و إلّا فالإنصاف أنّ في محيط بلاد الرواية، تفسد


1- حاشية المكاسب، السيد اليزدي 2: 57/ 1 السطر 20.
2- تقدّم في الصفحة 233.

ص: 252

الخضروات في ساعات من النهار، و قلّما تبقى فاكهة شجريّة في يوم الصيف الطويل، فما في الأخبار ناظر إلى المسائل الأخلاقيّة و المعاهدات، و تكون العهدة فيها يوماً إلى الليل ما لم تفسد، و إلّا فلا قرار و لا معاهدة حتّى يتّبع استحباباً و إنسانيّةً.

و قد مرّ: أنّ قوله: «لا بيع له» بمعنى أنّه لا يكون البيع و القرار عليه له، لا أنّ البيع المتحقّق المملِّك ليس له، فاغتنم.

و بالجملة: ثبوت الخيار في هذه الموارد إذا كان البيع متحققاً، ممّا لا إشكال فيه؛ لدليل آخر غير هذه الأخبار.

و غير خفيّ: أنّ مقتضى ما تحرّر عندنا عدم حصول البيع إلّا بالقبض و بالمعاطاة، و ما هو الحاصل بالعقد اللفظيّ هو عقد البيع و العقد على المبادلة الخارجيّة، فإذا لم يقبض المشتري مبيعه فلا بيع، و إذا قبضه فيكون تلفه عليه فلا خيار، و تفصيل المسألة يطلب من كتابنا الكبير(1).


1- هذه المباحث من كتاب الخيارات من تحريرات في الفقه للمؤلّف( قدّس سرّه)) مفقودة).

ص: 253

[السادس: خيار الرؤية]
اشارة

السادس: خيار الرؤية و هو فيما إذا اشترى شيئاً موصوفاً غير مشاهد، ثمّ وجده على خلاف ذلك الوصف؛ بمعنى كونه ناقصاً عنه، و كذا إذا وجده على خلاف ما رآه سابقاً، فيكون له خيار (1) الفسخ.

قوله مدّ ظلّه: «فيكون له خيار».

على المشهور(1):

أمّا في الصورة الأُولى: فالدليل بناء العقلاء، بل هو من المسلّمات.

نعم، ربّما يشكل أصل صحّة المعاملة؛ لأجل أنّ التوصيف ليس رافعاً للجهالة و الغرر، فإذا كانت الجهالة مرتفعة به أو بوجه آخر، كان له الخيار، فما حكي عن الأردبيليّ (قدّس سرّه)(2) و تبعه صاحب «الحدائق» (رحمه اللَّه (من البطلان في موارد التخلّف(3)، ممنوع إطلاقه.

و من المحتمل صحّة البيع على الإطلاق؛ و ذلك لا لأجل أنّ التوصيف يرفع الجهالة، لأنّه إذا كان من البائع و كان موجباً للوثاقة يصحّ، و إلّا فلا. و لو قلنا بحجّية إخبار البائع و لو كان في ضمن التوصيف، فهو في صورة عدم معلوميّة حاله من الكذب الواقعي، فالتوصيف ليس


1- جامع المقاصد 4: 301، مجمع الفائدة و البرهان 8: 410، الحدائق الناضرة 19: 56.
2- مجمع الفائدة و البرهان 8: 183.
3- الحدائق الناضرة 19: 59.

ص: 254

مستنداً لرفع الغرر.

نعم، لا يضرّ جهالة الأوصاف بصحّة البيع؛ لعدم الدليل عليها، و قد أوضحنا المسألة بما لا مزيد عليه في هذا المقام في كتابنا الكبير(1).

و أمّا في الصورة الثانية: فلا خيار له بحسب الموازين العقلائيّة؛ لأنّ الغرر و الجهالة المرتفعة بالمشاهدة، لا يقتضي كون العقد مبنيّاً على الوصف و الشرط.

نعم، قضيّة معتبر جميل بن درّاج قال: سألت أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) عن رجل اشترى ضيعة .. إلى أن قال: قال (عليه السّلام): «إنّه لو قلّب منها، و نظر إلى التسعة و التسعين قطعة، ثمّ بقي منها قطعة و لم يرها، لكان له في ذلك خيار الرؤية»(2) ثبوت الخيار في الصورة الثانية أيضاً؛ فإنّ المتفاهم البدوي منها هو الخيار في صورة تخلّف المبيع عمّا شاهده و اعتقده على وصف خاصّ مثلًا، بعد ظهور قوله (عليه السّلام): «في ذلك» أي في الاشتراء؛ لأنّها للبعيد، و ما هو مرجع الإشارة- بعيداً هو الاشتراء.

و بالجملة: هذا الخيار ليس بخيار الرؤية، إلّا أنّه بالنسبة إلى


1- ممّا يؤسف له فقدان هذه المباحث من كتاب الخيارات من تحريرات في الفقه.
2- تهذيب الأحكام 7: 26/ 112. وسائل الشيعة 18: 28، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 15، الحديث 1.

ص: 255

و فيما إذا باع شيئاً بوصف غيره، ثمّ وجده زائداً على ما وصف، أو وجده زائداً على ما رآه سابقاً. أو وجد الثمن على خلاف ما وصف؛ أي ناقصاً عنه، فله خيار الفسخ (1) في هذه الموارد.

طائفة من الموارد خيار تخلّف الوصف و الشرط، و هو عقلائيّ، و بالنسبة إلى أُخرى خيار تعبّدي شرعيّ؛ و هو خيار الرؤية و تخلّف الوصف غير المبنيّ عليه العقد. و احتمال كون الخبر ناظراً إلى أنّ الوصف المتخيّل بالمشاهدة موجب للخيار، غير صحيح؛ لأنّ وصف الصحّة لا يورثه، فضلًا عن وصف الكمال.

نعم، لا يبعد أن يكون مورد الخبر خيار العيب، و ليس بالرؤية؛ لأنّ الجهالة ارتفعت بالمشاهدة، و خيار العيب عرفيّ، و على هذا ينقلب الخيار المذكور إلى خيار تخلّف الوصف و الشرط، و إلى خيار العيب، و لا أساس لخيار الرؤية بالمعنى الآخر وراءهما، و الخبر ناظر- حسب الأظهر إلى خيار العيب، و القول بالتأسيس بعيد، و لا سيّما مع كون المسألة ذات رواية واحدة.

قوله مدّ ظلّه: «فله خيار الفسخ».

أمّا في الصورة الأُولى: فله الخيار إذا كان الوصف يقوّم، كما هو المقصود. و ليس هذا من خيار تخلّف الوصف، بل إمّا هو من خيار تخلّف التوصيف، أو من خيار الغبن كما هو الظاهر.

ص: 256

و أمّا كونه مندرجاً في الخبر- بناءً على كونه ناظراً إلى الخيار التعبّدي فهو مشكل جدّاً؛ لأنّ الخبر في مورد المشتري لا البائع، و ما هو الثابت للأعمّ هو خيار تخلّف الوصف و التوصيف العقلائيّ، لا الخيار التعبّدي، فلا ينبغي الخلط و إن ظهر منهم- حتّى من الشيخ (قدّس سرّه)(1) ذلك، فراجع.

و أمّا في صورة الثانية: فلا خيار حسب الموازين العقلائيّة إلّا خيار الغبن، و قد تبيّن وجه انطباق الخبر عليه أيضاً. و لكنّه في ناحية المشتري دون البائع، و لا وجه لإلغاء الخصوصيّة بعد اقتضاء الأدلّة لزومها.

و أمّا في الصورة الثالثة: فالخيار خيار تخلّف الوصف.

و هنا صورة رابعة: و هي أن يرى الثمن على خلاف ما شاهده، فإنّه لا يثبت له إلّا خيار العيب لو كان التخلّف عيباً، أو كان موجباً للغبن الفاحش، فليتدبّر جيّداً.


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 249.

ص: 257

[مسألة 1: الخيار هنا بين الردّ و الإمساك مجّاناً]

مسألة 1: الخيار هنا بين الردّ و الإمساك مجّاناً، و ليس لذي الخيار الإمساك بالأرش. (1) قوله مدّ ظلّه: «الإمساك بالأرش».

ضرورة أنّ الأرش لا يتصوّر إلّا فيما إذا كان الموجب له مورد المعاملة، و في جميع صور خيار تخلّف الوصف و الرؤية، يكون المنظور في العقد من أوصاف المبيع، و لا يعدّ من أجزائه.

نعم، في خصوص خيار العيب يثبت الأرش تعبّداً، فلو كان هذا الخيار من أصنافه فهو، و إلّا فلا أرش.

و لو كان في بعض صور المسألة خيار الغبن، فهو أيضاً بالإجماع، خلافاً «للتذكرة»(1) و الشيخ (رحمه اللَّه)(2) خيّر بين الإمساك و الفسخ.

نعم، حكم العقلاء يختلف عن مصبّ الإجماع؛ لأنّه لا معنى للخيار بعد إعطاء البائع الغابن ما تغابن به المشتري المغبون مثلًا.

و يمكن دعوى: أنّ هذا الخيار و لو كان من أصناف خيار العيب إلّا أنّه لا أرش؛ لإطلاق معتبر جميل إطلاقاً مقاميّاً، فتدبّر.

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ معتبر جميل لا إطلاق له؛ لأنّه بصدد إثبات الخيار تشريعاً. و لكنّه بمعزل عن التحقيق.


1- تذكرة الفقهاء 1: 523/ السطر 11.
2- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 235/ السطر 7.

ص: 258

كما لا يسقط خياره ببذله (1)، و لا بإبدال العين بالأُخرى. نعم، لو كان للوصف المفقود دخل في الصحّة، توجّه أخذ الأرش (2) للعيب، لا لتخلّف الوصف.

قوله مدّ ظلّه: «ببذله».

و هكذا عنونه الشيخ(1)، و لكنّه غير صحيح؛ لأنّه من الواضح غير المحتاج إلى البيان. بل لا معنى لسقوط خياره بعد الثبوت التعيينيّ ببذل البائع أو تبديله كما لا يخفى؛ لأنّ بذله و بذل الأجنبيّ على حدّ سواء.

نعم، كان ينبغي التعرّض لعدم سقوطه بقبول ما يبذله أو قبول البدل؛ لأنّه أعمّ.

نعم، إذا كان القبول فعلًا أنشأ به السقوط فهو، أو كان نظره الإعراض عن خياره و حقّه فهو، و إلّا فلا دليل عليه.

قوله مدّ ظلّه: «توجّه أخذ الأرش».

قد عرفت منّا: أنّ المتفاهم من مورد معتبر جميل كون الضيعة معيبةً(2)، و أنّ المفروض في الجواب ليس عدم الرؤية بما هو هو، بل هو عدم الرؤية اللازم للكشف المخالف؛ بأن يصير متوجّهاً إلى فساد فيها و في المتاع الذي ارتفعت جهالته بالمشاهدة الإجماليّة.


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 252/ السطر 1.
2- تقدّم في الصفحة 254 255.

ص: 259

و لو صحّ ما قالوه من أخذ الأرش(1)، يلزم التهافت بين معتبر جميل- لإطلاقه المقاميّ، بل اللفظي و إطلاقِ أخبار خيار العيب؛ في مورد الخيارين الثابت أحدهما بالخبر المذكور، فإنّ إطلاقه يورث الخيار من غير عِدْل، و حمل المعيّن على المخيّر، ليس من الجموع العرفيّة، و توهّم أنّه من رفع الإجمال بالمبيّن، غير تامّ، و قضيّة التساقط هو الأخذ بالقدر المتيقّن؛ و هو الخيار بلا أرش.


1- السرائر 2: 242، و لاحظ جواهر الكلام 23: 94 95.

ص: 260

[مسألة 2: مورد هذا الخيار بيع العين الشخصيّة الغائبة حين المبايعة]

مسألة 2: مورد هذا الخيار بيع العين الشخصيّة الغائبة حين المبايعة (1)، و يشترط في صحّته إمّا الرؤية السابقة (2) مع حصول الاطمئنان ببقاء تلك الصفات، و إلّا ففيه إشكال.

قوله مدّ ظلّه: «الغائبة حين المبايعة».

لو كان هذا الخيار من الخيار العقلائيّ، فلا مورد له بخصوصه؛ لأنّ خيار تخلّف الوصف و الشرط أعمّ مورداً بالضرورة.

و لو كان من الخيار التعبّدي، فمورده مذكور في معتبر جميل؛ و هي العين الحاضرة المشاهدة بالشهود غير الكامل الرافعة للغرر الموجب للصحّة، فما في كلام القوم و صريح الشيخ(1) و المتن، خلاف التحقيق على كلّ تقدير.

قوله مدّ ظلّه: «أمّا الرؤية السابقة».

فإنّه بها ترتفع الجهالة إذا لم يتغيّر العين حسب تخيّله و اعتقاده. بل يكفي أصالة السلامة إذا كان التغيّر إلى العيب؛ لأنّها عقلائيّة.

و أمّا استصحاب بقاء العين على حالها؛ نظراً إلى حكومته على دليل الشرط، لتنزيله منزلة العلم المأخوذ صفة أيضاً كما حرّرناه(2)، فهو متين، إلّا أنّه ربّما يشكل لكونه مثبتاً، ضرورة أنّ بقاء الفرس على العروبة


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 249/ السطر 12.
2- تحريرات في الأُصول 6: 147.

ص: 261

و إمّا توصيفه (1) بما يرفع به الجهالة عرفاً؛ بأن حصل له الوثوق من توصيفه الموجب لرفع الغرر؛ بذكر جنسها و نوعها و صفاتها التي تختلف باختلافها الأثمان و رغبات الناس.

لا يثبت به التقيّد؛ و هو اعتبار كون المبيع معلوماً.

نعم، إذا كان المستفاد من الأدلّة اشتراطَ معلوميّة المتاع إذا بيع، فلا بأس به.

و من هنا يظهر وجه إشكال الماتن في غير صورة بقاء الوثوق و الاطمئنان، و يظهر وجه المناقشة في إطلاق إشكاله.

قوله مدّ ظلّه: «و إمّا توصيفه».

لأنّ التوصيف في طيّ الجمل التامّة الخبريّة أو الإنشائيّة، بمنزلة الإخبار عرفاً، فإذا كان الخبر موجباً للوثوق فهو، و إلّا فأخبار البائع الصريح غير ثابتة حجّيته، أو لو كان مقتضى أدلّة حجّيته و لو كان لا يتولّد منه الوثوق، فهو مخصوص بما إذا كان صريحاً، فلا تشمل الأخبار الضمنيّ.

اللهمّ إلّا أن يقال: قضيّة بناء العقلاء حجّية الخبر ما دام لم يحرز ضعف المخبر، فإذا أُحرز فسقه و كذبه فلا يعتنون بإخباره.

و الذي هو التحقيق: أنّ معلوميّة المبيع من جهات الوصف، غير واضح اعتبارها، و من أهمّ الأوصاف الصحّة، و لا يعتبر العلم بها، و من الواضح عندهم أنّ الماليّة و القيمة ليست معلوميّتها شرطاً، و قد أجمعوا على

ص: 262

صحّة البيع في صورة براءة البائع من العيوب، و هو مقتضى النصّ(1) كما قيل(2). و دليل النهي عن بيع الغرر ربّما يختصّ بما إذا كان الشي ء داخلًا في البيع و المبيع بما هو مبيع، و الأوصاف خارجة عن متعلّق العقد و المعاطاة. مع أنّ دليله غير منقّح سنداً و دلالة، كما تحرّر في محلّه(3).

فالقدر المسلّم دلالة أخبار المكيل و الموزون على أن لا تكون المعاملات جزافيّة ظاهراً(4)، فعليه يعتبر في مثل المكيل و الموزون معلوميّتهما؛ لأنّ المقدار و الكم داخل في المبيع، و يعدّ من أجزائه، و يقسّط الثمن عليه، بخلاف الكيف، و مقتضى تلك الأخبار في المكيل- مع ما فيها من المناقشات الكثيرة المذكورة في كتابنا الكبير(5)، و مرّ شطر منها هنا أنّه ليس الخروج عن الجزاف شرطاً على الإطلاق؛ حتّى ينافيه صحّة البيع في صورة براءة البائع من العيوب، فراجع و تدبّر.


1- تهذيب الأحكام 7: 66/ 285، وسائل الشيعة 18: 111، كتاب التجارة، أبواب أحكام العيوب، الباب 8.
2- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 260/ السطر 18.
3- تحريرات في الفقه، كتاب البيع، الشرط الرابع، الأمر الثاني عشر، المرحلة السادسة.
4- الكافي 5: 193/ 1، تهذيب الأحكام 7: 122/ 531، الانتصار 3: 102/ 356، وسائل الشيعة 17: 341، كتاب التجارة، أبواب عقد البيع و شروطه، الباب 4.
5- هذه المباحث من كتاب البيع من تحريرات في الفقه مفقودة.

ص: 263

[مسألة 3: هذا الخيار فوري عند الرؤية على المشهور]

مسألة 3: هذا الخيار فوري (1) عند الرؤية على المشهور، و فيه إشكال. (2) قوله مدّ ظلّه: «فوري».

لأنّه عند المشهور من الخيارات العقلائيّة؛ لأنّه خيار تخلّف الوصف المبنيّ عليه العقد؛ سواء كان صريحاً في العقد، أو ضمنيّاً، و عليه يكون فوريّاً؛ لبناء العقلاء أوّلًا، و لأنّ الخيارات العقلائيّة بحسب التضرّر و المشاكل، فإذا أخّره كثيراً فيسقط؛ لعدم تماميّة مقتضيه.

و لو شكّ في ذلك فهو محلّ الخلاف، و الحقّ- كما تحرّر منّا في الاصول عدم جريان الأُصول العمليّة؛ لا استصحاب حكم المخصّص، و لا استصحاب حكم العامّ(1)، و أمّا التمسّك بعموم العامّ أو إطلاقه، ففيه منازعة اخرى.

و الحقّ في المقام: أنّ إطلاق الدليل المقتضي لأصالة اللزوم مرجع، دون الشي ء الآخر، و النتيجة هي الفوريّة.

قوله مدّ ظلّه: «فيه إشكال».

بناءً على كونه من الخيار التعبّدي، فإنّه يحتمل قويّاً تراخيه؛ لإطلاق دليله.

و استشكل الوالد المحقّق الماتن- مدّ ظلّه في إطلاقه: «بأنّ الخبر


1- تحريرات في الأُصول 5: 241.

ص: 264

في موقف التشريع(1)، و هو منافٍ لما يتمسّك به في الأُصول و غيره بالآيات الإلهيّة القرآنيّة، مع أنّها للتشريع أيضاً».

و بالجملة: مجرّد كون الحكم متعرّضاً للتشريع، لا يقتضي الإهمال أوّلًا.

و ثانياً: لو كان معتبر جميل تشريعاً أوّلياً، لكان عليه أن يسأل عن هذا الخيار الجديد غير المسبوق و لاشتهر بين الأصحاب الأوّلين فيسألون.

و بالجملة: في الخبر بعض الملامح إلى أنّه ليس الأمر كما تحرّر، فتدبّر.


1- البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 433.

ص: 265

[مسألة 4: يسقط هذا الخيار باشتراط سقوطه في ضمن العقد]

مسألة 4: يسقط هذا الخيار باشتراط سقوطه (1) في ضمن العقد؛ إذا لم يرفع به الوثوق الرافع للجهالة، قوله مدّ ظلّه: «باشتراط سقوطه».

قد مرّ جهات المناقشة في صحّة هذا الشرط و فروضه(1)، و في المقام إشكال آخر أُشير إليه في المتن: و هو أنّ هذا الخيار إن كان مبناه الخبر، و مورده العين المرفوع غررها بالمشاهدة، و لم يكن العقد مبنيّاً على صفة من الأوصاف، فلا شبهة في جواز شرط السقوط على إطلاقه؛ لما لا يتضرّر منه العقد و لا الشرط بالضرورة. و هكذا إذا كان مورده العين الشخصيّة الظاهر عيبها، فيكون الخبر متعرّضاً لخيار العيب، إلّا أنّه ليس هنا بخيار الرؤية؛ لما مرّ.

و أمّا إذا قلنا: بأنّه خيار ثابت في مورد تخلّف الوصف، فلو كان الغرر مرفوعاً بالتوصيف، و أنّ البائع يصف العين و الفرس ب «العروبة» و يشترط على المشتري سقوط خياره الناشئ من تخلّف العروبة، فكيف يمكن صحّة هذا البيع؟! لأنّ لازم الشرط المذكور سراية الجهالة إلى المبيع، و ذهاب الوثوق الحاصل من التوصيف السابق، أو عدم حصول الوثوق بانضمام الشرط المذكور نوعاً و عادة، فإذا فسد العقد فسد الشرط.


1- قد تقدّم في الصفحة 176.

ص: 266

فما في المتن: من أنّ فساد الشرط سبب لفساد العقد، مناقض لما فيه أيضاً: من رفع الوثوق بالشرط؛ فإنّ العقد يفسد أوّلًا.

و بالجملة: قد ذكرنا في الكتاب الكبير وجوهاً تسعة لبطلان البيع؛ بين ما هي عقليّة، و عقلائيّة، و شرعيّة(1)، إلّا أنّ جميعها قابل للدفع و لو كان المستشكل أمثال الشيخ، و المحشّين المحقّقين؛ و فيهم الوالد- مدّ ظلّه(2).

و ما هو المهمّ في المسألة هي الشبهة الشرعيّة التي توجب البطلان في الجملة لا مطلقاً؛ ضرورة أنّ من الممكن أن يكون شرط السقوط، منضماً لشرط مؤكّد لثبوت الوصف، كما إذا باع على أن يسقط، و شرط أنّه لو تخلّف الوصف يعطيه أضعاف المثمن، و أمّا البائع فيشترط ذلك لبعض الأغراض الخاصّة، فلا تخلط.

هذا، و ربّما يكون البائع من الثقات العدول؛ بحيث لا يضرّ اشتراطه السقوط بالوثوق و الاطمئنان، و يورث أن يجعل المشتري شرطه على الأغراض الأُخر. و بالجملة لا وجه للمنع المطلق شرعاً.

و أمّا تصحيحه على الإطلاق؛ فلما أُشير إليه مراراً: و هو منع الكبرى،


1- هذه المباحث من كتابه الكبير) تحريرات في الفقه( مفقودة.
2- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 251/ السطر 5 و ما بعده، حاشية المكاسب، المحقّق الإيرواني 2: 32/ السطر 49، حاشية المكاسب، المحقّق الأصفهاني 2: 90/ السطر 33، البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 4: 435 440.

ص: 267

و إلّا فيفسد و يفسد العقد، و بإسقاطه بعد الرؤية (1)، و بالتصرّف في العين بعدها تصرّفاً و هو اشتراط معلوميّة المبيع من جهات الكيف و الأوصاف و لو كانت الأوصاف ذات قيم و ماليّة.

نعم، إذا تبيّن التخلّف يلزم الخيار للغبن، أو يكون له خيار العيب، و أمّا البطلان المستند إلى الجهالة الناشئة من الأوصاف، فهي قابلة للمنع جدّاً، فتدبّر جيّداً. و ربّما لا يكون له خيار رأساً؛ لعدم مقتضيه كما لا يخفى.

قوله مدّ ظلّه: «بعد الرؤية».

بلا إشكال و ريب، و هو المتسالم عليه.

و يمكن المناقشة فيه أوّلًا: من جهة كونه حقّا؛ لأنّ خيار الرؤية يثبت بالنصّ، و دليله قاصر عنه. و مجرّد التعبير عنه ب «الخيار» لا يكفي لكونه حقّا.

و ثانياً: مجرّد كونه حقّا لا يكفي لجواز إسقاطه؛ لأنّ حقّية الحقّ منوط بأثر من آثاره و منها القابليّة للإسقاط.

و في كلا الوجهين نظر وجداناً و إن لم يكن مقتضى الصناعة؛ و ذلك لظهور الخيار في كونه الخيار العقلائيّ، فيكون حقّا، كما هو كذلك عند العقلاء، و أنّ الإسقاط من الآثار الواضحة اللازمة لكلّ حقّ عرفيّ

ص: 268

كاشفاً عن الرضا (1) بالبيع، و بعدم المبادرة (2) على الفسخ؛ بناءً على فوريّته.

و شرعيّ، بخلاف المعاوضة و التورّث فإنّهما من الآثار التي يمكن تفكيكها، كما هو الواقع في كثير من الحقوق.

قوله مدّ ظلّه: «كاشفاً عن الرضا».

الرضا بالبيع كان منكشفاً قبل التصرّف، و استفادة كون التصرّف مسقطاً بما هو هو من الأخبار الخاصّة، ممنوع حتّى في موردها و هو خيار الحيوان.

نعم، لا بأس بأن يريد ذو الخيار إسقاط خياره بالفعل.

و في كفاية مطلق الفعل نظر قوّينا سابقاً كفايته؛ و إن لم يكن في مرحلة الدعوى قول مدّعي الإسقاط مسموعاً؛ لاختلاف مرحلة السقوط ثبوتاً، و مرحلةِ المخاصمة إثباتاً، و التفصيل في محلّه، فاغتنم.

ثمّ إنّه لو تصرّف تصرّفاً كاشفاً عن الالتزام الجديد بالبيع المرضيّ، ففي كفايته إشكال منعنا ذلك؛ لأنّ الخيار أمر حقّي وضعيّ تسبيبيّ، لا يسقط إلّا بالإنشاء القوليّ، أو الفعليّ، أو بالإعراض، فإن كان في التصرّف إعراض عنه، فهو كالإعراض عن الملك و الدين، و إلّا فمجرّد الالتزام لا يكفي للسقوط فيستصحب، فتأمّل.

قوله مدّ ظلّه: «و بعدم المبادرة».

لا يخفى: أنّ عدم المبادرة لا يوجب سقوطه، بل هو راجع إلى قصور

ص: 269

مقتضيه.

و على كلّ حال و تقدير؛ يسقط أحياناً خياره بقبول الأرش، أو بقبول البدل؛ لأنّه ظاهر في الإعراض عن حقّه إذا كان عالماً بالخيار، و إلّا ففي كفاية الالتزام بالبيع المنكشف بهما جهلًا بالحال إشكال؛ و لو قلنا بكفاية الالتزام الجديد بالبيع، فإنّه مخصوص بصورة العلم بالخيار.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّه و لو كان جاهلًا، قد التزم بالبيع التزاماً قطعيّاً ربّما يخطر بباله ذلك و لو كان ذا خيار، فالرضا الجديد و الالتزام الحادث متعلّق بالبيع الموجود، و هو لا يجتمع مع خياره.

و فيه ما عرفت منّا: من أنّ البيع الخياري لازم، و هو مثل البيع غير الخياري في لزومه، و إنّما الخيار اختيار هدم العقد اللازم في ذاته عرفاً و شرعاً، و لا يورث الخيار قصوراً في العقد، و لا معنى له و لا للعقد المتزلزل، و لا لتوصيف العقد ب «التزلزل» فعلى هذا مجرّد الالتزام المذكور غير كافٍ على إطلاقه عندنا، إلّا إذا رجع إلى إعراضه عن حقّه و ملكه و دَينه، فليتدبّر جيّداً.

ص: 270

[السابع: خيار العيب]
اشارة

السابع: خيار العيب و هو فيما إذا وجد المشتري في المبيع عيباً، فيتخيّر (1) بين الفسخ و الإمساك بالأرش؛ قوله مدّ ظلّه: «فيتخيّر».

إجماعاً منقولًا عن جماعة، ك «الغنية»(1) و غيرها(2)، و شهرة عظيمة كادت تكون اتفاقاً و مقطوعاً به بينهم، خلافاً لما نسب إلى الشيخ في بعض مواضع «المبسوط»(3) و للأخبار الكثيرة الظاهرة في أنّه له الخيار في صورة بقاء العين، و له الأرش في غير هذه الصورة(4)، فيكون التخيير طوليّاً.

و استفادة التخيير العَرْضيّ من أخبار المسألة(5) و لو كان ممكناً، إلّا أنّها ليست من الاستفادة عرفاً، فلو كان في الأخبار بعض الإطلاقات المثبتة للردّ، أو بعض آخر يثبت الأرش، فالجمع بينهما- حسب الطائفة الثالثة المشار إليها هو بالتخيير الطوليّ أيضاً.

مع أنّ الإطلاق المذكور ممنوع؛ إما لعدم السند، أو لعدم الدلالة،


1- الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 526/ السطر 6.
2- رياض المسائل 1: 537/ السطر 28، جواهر الكلام 23: 236.
3- المبسوط 2: 131.
4- وسائل الشيعة 18: 30، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 16، الحديث 3 و أبواب أحكام العيوب، الباب 4.
5- لاحظ الحدائق الناضرة 19: 64.

ص: 271

و سيمرّ عليك في البحوث الآتية بعض أخبار المسألة إن شاء اللَّه تعالى(1).

فالعمدة هنا هي الشهرة، إلّا أنّها غير واضح كونها بالغة إلى حدّ يكشف بها الرأي، أو الخبر الموثوق به الصريح في المطلوب؛ و ذلك للمحكيّ عن الشيخ(2) أوّلًا، و لعدم ذهاب العامّة- إلّا من شذّ(3) إلى ما يوجب اشتهار الحكم عند الأوّلين فتأمّل، و أنّ في المعاملات يبعد طبعاً التعبّد الصرْف، فالمسألة مشكلة، و التصالح أحوط جدّاً.

هذا مع أنّ التخيير بين المعنيين الوضعيّين- كالتخيير بين نجاسة الشيئين ممّا لا معنى معقول له.

و توهّم: أنّه ليس من التخيير، بل المشتري له حقّ الخيار، و له حقّ الأرش، و الكلّ يورث، إلّا أنّ الجمع بين الحقّين غير ممكن؛ ضرورة أنّه بإعمال الخيار لا يبقى وجه لأخذ الأرش، و من الأخذ بالأرش يلزم سقوط خياره.

غير مرضيّ عندنا و إن أبدعناه في كتابنا الكبير(4)؛ ضرورة أن للشرع التصريح ببقاء خياره و لو بعد الأرش، لأجل أنّ ظهور العيب سبب، و لو انسدّ


1- تأتي في الصفحة 375 و ما بعدها.
2- المبسوط 2: 131.
3- الشرح الكبير 4: 86 و لاحظ أيضاً تذكرة الفقهاء 1: 524/ السطر 26.
4- هذه المباحث من كتاب الخيارات من تحريرات في الفقه مفقودة.

ص: 272

ما لم يسقط (1) الردّ قولًا خسارة المشتري بالأرش- كما إذا شرط فإنّه لا يسقط بالأرش، فعليه لا يمكن القول بكونهما بمنزلة التخيير.

نعم، قضيّة النصّ(1) و الفتوى(2) هو التخيير بين الفسخ و الأخذ بالأرش، و هذا من التخيير بين المعنيين الحدثيّين، و هو جائز، إلّا أنّه ليس من الحقّ المصطلح عليه في أبواب الخيار.

اللهمّ إلّا أن يقال: بجواز تورّث مثله؛ لمساعدة العقلاء، و لا دليل على كون المورث مالًا أو حقّا ثابت و اعتباراً وضعيّاً، بل يكفي تعبيرهم عن التخيير المذكور ب «الحقّ» لكونه مورثاً و قابلًا للإسقاط؛ و إن لم يكن من الاعتبارات الخارجيّة، فلا تخلط.

قوله مدّ ظلّه: «ما لم يسقط».

لا تخلو العبارة من الغرابة، و بالجملة يسقط الخيار المذكور- و هو حقّ فسخ العقد بالقول الصريح و ما يقرب منه، بل بمطلق القول بينه و بين ربّه و إن كان له إنكار الإسقاط. و يسمع قوله بغير الألفاظ المأنوسة العقلائيّة.


1- وسائل الشيعة 18: 29، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 16 و أبواب أحكام العيوب، الباب 4.
2- شرائع الإسلام 2: 29، قواعد الأحكام 1: 145/ السطر الأخير، اللمعة الدمشقية: 119.

ص: 273

أو بفعل (1) دالّ عليه، و أمّا قول المصنّف بعدم سقوطه ثبوتاً إلّا بما يتعاهد الإسقاط به(1)، فهو غير مرضيّ؛ لأنّ إبراز الالتزام بالعقد تمام الموضوع لاعتبار سقوط خياره عند العقلاء، و لا حاجة إلى الأسباب الخاصّة في التسبّب إلى السقوط.

نعم، إنشاء السقوط و إسقاط الحقّ إنشاءً، ربّما يحتاج إلى مراعاة المعهودات العرفيّة في الألفاظ؛ لأنّه يكفي الشكّ في السببيّة لعدم ترتّب الأثر. و لو كانت الألفاظ المتسبّب بها غير مؤثّرة في شي ء، بل هي موضوعات لاعتبار العقلاء لسقوط الخيار، فالأمر أيضاً كما تحرّر.

و أمّا في مثل سقوط الحقّ و إبراء الذمّة الكافي فيه الالتزام القلبيّ المبرز، فلا يعتبر الأزيد من طبيعيّ الإبراز.

قوله مدّ ظلّه: «بفعل».

فيما إذا كان قاصداً بالفعل، فلا جدير بالذكر، و لا يأتي فيه ما مرّ من الكفاية ثبوتاً و عدمها؛ باعتبار الاحتمال المذكور في القول، فعليه لا فرق بين أقسام الفعل.

و أمّا إذا كان غير قاصد للإسقاط، فصنع ما يدلّ بالنوع عليه، فإن كان عارفاً و ذاكراً عدم قصد السقوط، فلا دليل على السقوط ثبوتاً؛ لأنّ


1- البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 5: 23.

ص: 274

المفروض عدم تغيير في العين، و لا حدث فيها. و توهّم دلالة معتبرة زرارة الآتية على أنّ مطلق التصرّف يكفي(1)، غير جيّد كما يأتي.

و قد يستظهر من عبارات جلّة من الفقهاء؛ أنّ التصرّف لمكان الدلالة على الرضا موجب للسقوط، فمع ذكر المشتري عدم رضاه به حين التصرّف، لا يبقى وجه لسقوطه(2).

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ الشرع اعتبر التصرّف غير المقرون بالرضا من الرضا، كما ورد في خيار الحيوان، و أنّ الرضا هو السبب الأوّلي للسقوط، و الفعل و التصرّف سبب جعليّ شرعيّ تعبّدي، فلنا التجاوز عمّا ورد هناك إلى ما نحن فيه. و عهدة إثباته بيد غيري؛ لأنّي أستبعد التزام أحد بذلك، لعدم تماميّة الوجه المذكور حتّى في محلّه، فضلًا عن المقام؛ لقوّة احتمال كون التصرّف شاهداً على اقترانه بالرضا، فعبّر عنه ب «أنّ ذلك رضاً منه» فراجع.

فالمراد من قوله- مدّ ظلّه: «بفعل دالّ عليه، هو أنّه بعد مفروغيّة قصد السقوط، لا بدّ و أن يكون ذلك بفعل دالّ عليه نوعاً و كما مرّ، و مرّ ما يتعلّق به مناقشة و تأييداً.


1- تذكرة الفقهاء 1: 525/ السطر 42.
2- المبسوط 2: 139، الوسيلة: 256، الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 526/ السطر 12، جامع المقاصد 4: 332.

ص: 275

و لم يتصرّف فيه تصرّفاً مغيّراً للعين، (1) قوله مدّ ظلّه: «مغيّراً للعين».

اتفاقاً محكيّاً عن جمع(1)، و هو المفروغ عنه بينهم، و لم يعهد نقل الخلاف عن أحد في هذه الصورة: و هي ما إذا كان التغيّر مستنداً إلى تصرفّه؛ و ذلك لأنّها القدر المتيقّن من معتبر زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: «أيّما رجل اشترى شيئاً و به عيب و عَوار، لم يتبرّأ إليه، و لم يبيّن له، فأحدث فيه بعد ما قبضه شيئاً، ثمّ علم بذلك العَوار و بذلك الداء؛ أنّه يمضي عليه البيع، و يردّ عليه بقدر ما نقص من ذلك الداء و العيب من ثمن ذلك لو لم يكن به»(2).

و مرسلة جميل، عن بعض أصحابنا، عن أحدهما (عليهما السّلام): في الرجل يشتري الثوب أو المتاع، فيجد فيه عيباً.

فقال: «إن كان الشي ء قائماً بعينه ردّه على صاحبه، و أخذ الثمن، و إن كان الثوب قد قطع أو خيط أو صبغ، يرجع بنقصان العيب»(3).

فعلى هذا، سقوط الخيار في هذه الصورة قطعيّ و إن لم يكن قاصداً له.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّه في صورة قصد السقوط أو الشكّ فيه، فيكون


1- جواهر الكلام 23: 239.
2- الكافي 5: 207/ 3، تهذيب الأحكام 7: 60/ 257، وسائل الشيعة 18: 30، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 17، الحديث 2.
3- الكافي 5: 207/ 2، الفقيه 3: 136/ 592، وسائل الشيعة 18: 30، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 16، الحديث 3.

ص: 276

إحداث الصفة المغيّرة موجباً له؛ للكشف النوعيّ عنه، فتكون هذه الأخبار مشيرة إلى مصداق ما في خيار الحيوان: من أنّ التصرّف من الرضا الموجب للسقوط اعتباراً، فلو أحدث شيئاً مغيّراً، و كان من قصده الرجوع إليه و الردّ بعد ذلك، فلا يسقط. و لكنّك خبير بأنّه مجرّد احتمال بديع.

و يمكن دعوى عدم سقوط الخيار نظراً إلى قضيّة القواعد؛ فإنّ موضوعه العقد أو العاقد، كما هو الحقّ عندنا، فيكون مثلَ خيار الغبن و غيره، و هذه الأخبار بين ما لا سند لها، أو تكون معرضاً عنها؛ لظهورها في التخيير بين الردّ و الأرش طولًا، مع أنّ الإجماع على أنّ التخيير عَرْضي رغم أنف العقلاء.

و هي غير مسموعة؛ لأنّ معتبر زرارة و إن كان في سنده موسى بن بكر، و لم يوثّق، إلّا أنّه عندنا معتبر، و من الغريب توصيفها في الكتب الاستدلاليّة ب «الصحّة»(1)!! و هي ظاهرة في أنّها بصدد بيان وقت سقوط الخيار، و لا ينافيه كون الردّ في عَرْضه، بخلاف المرسلة، فإنّها كالنصّ في أنّ الردّ في صورة قيام العين، و الأرشَ في صورة عدمه؛ لأنّها مشتملة على القضيّة الشرطيّة الأُولى، و قد تعرّض في القضيّة الثانية لمفهوم القيد من تلك


1- جواهر الكلام 23: 237، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 254/ السطر 4، حاشية المكاسب، السيّد اليزدي 2: 71/ السطر 17.

ص: 277

و لم يحدث فيه عيب عنده (1) بعد خيار المشتري المضمون على البائع، القضيّة؛ لأنّ مفهوم الشرط من السلب التامّ، ضرورة أنّ مفهومه «إن لم يكن الشي ء قائماً بعينه» و هو يصدق في صورة انتفاء العين برأسها، و على كلّ تقدير لا بأس بالاعتماد عليها.

مع أنّ الإعراض غير ثابت؛ لاستدلالهم بتلك الأخبار، و هذا هو الموهن للاعتماد على الإجماع و الشهرة القائمة على أصل التخيير بين الفسخ و الردّ؛ لأنّ لازمه اجتهادهم و اتكالهم عليها في الفتوى أحياناً، فلا تخلط.

قوله مدّ ظلّه: «عيب عنده».

العيب الحادث بعد العقد، و قبل القبض، و قبل مضيّ الخيار المضمون و لو كان بعد القبض، لا يوجب سقوط الخيار الثابت بالعيب الموجود القديم الحاصل حين العقد، على المشهور المدّعى عليه الإجماع(1). بل ربّما يقال: بأنّ هذا الحادث يوجب الخيار الجديد، فيكون لأجل العيب الحادث قبل القبض و بعد العقد، خياران مستندان إلى فردين من العيب(2).

و للقول: بأنّ العيب الثالث الحادث بعد القبض، و قبل مضي ء الخيارات المضمونة الثلاثة المذكورة في المتن، يوجب خياراً ثالثاً،


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 257/ السطر 17 18.
2- نفس المصدر.

ص: 278

وجه، فيكون لأجل كون المبيع حيواناً فيه أربعة خيارات، و إذا كان في المجلس ففيه خمسة، و بالشرط يبلغ إلى ستّة، و تفصيل بحوث هذه المسألة يطلب من كتابنا الكبير(1).

و الذي أُشير إليه في المتن؛ مسألة سقوط الخيار الثابت بالعيب القديم الحاصل حين العقد لأجل العيب الحادث في يد المشتري؛ أي بعد القبض، و كان قبل مضيّ الخيارات الثلاثة، فإنّه إذا كان بعد القبض و بعد مضيّها، فالإجماع و القاعدة يقضيان السقوط، و أمّا في صورة وجود الخيارات الثلاثة فقضيّة الأخبار- بل و الاتفاق عدم سقوط الخيار.

نعم، يمكن دعوى: أنّ خيار العيب بما أنّه خيار العيب، يسقط حسب معتبر زرارة و مرسلة جميل؛ لما أحدث فيه شيئاً، و تغيّر عمّا كان عليه حين العقد، و لكنّ العقد خياري بعدُ؛ لأجل وجود المجلس و الحيوان و الشرط، فما في المتن: من بقاء خيار العيب الثابت حين العقد حتّى بعد حدوث العيب بعد القبض و قبل المضيّ، فهو لأجل أنّ معتبر زرارة موضوعه الإحداث، لا الحدث، و أنّ المرسلة غير قابلة للاعتماد عليها؛ لإرسالها أوّلًا، و لإعراض المشهور عنها؛ لظهورها في التخيير بين الردّ و الأرش طولًا، لا عَرْضاً.


1- تحريرات في الفقه، كتاب الخيارات، الرابع من مسقطات خيار العيب.

ص: 279

كخيار الحيوان، و كخيار المجلس و الشرط؛ إذا كانا له خاصّة. (1) أو لأجل أنّ الخيار طبيعيّ قابل للتكثير، و لكنّه لا يتكثّر إلّا بالعناية الخاصّة، فتتداخل الأسباب، فيكون واحداً باقياً، و لازمه سقوط خيار الحيوان بإسقاط خيار العيب في الثلاثة، و لا يلتزمون به، فالوجه الأوّل أقرب و إن لم يلتزم به الماتن.

و بالجملة: عدم سقوط الخيار القديم بالعيب الجديد، مطابق للقاعدة، و مخالف لما استظهروه من معتبر زرارة و خبر جميل(1)، إلّا أنّ في أخبار خيار الحيوان ما يستظهر منه أيضاً أنّ حدوث الحدث في عصر الخيار لا يوجب شيئاً. و لكنّ الإنصاف اختصاصه بالحيوان.

فالأقرب هو السقوط؛ لو كان الخبران تامّين فيما استظهروه منه، و سيأتي ضعفه، و على هذا لا وجه لسقوط خيار العيب؛ لأجل القواعد، لا لما أُشير إليه، فلا تخلط.

قوله مدّ ظلّه: «إذا كانا له خاصّة».

أي للمشتري، فلو كان البائع لأجل الشرط أيضاً بالخيار، أو لأجل كون المثمن حيواناً، أو قلنا بأنّ خيار المجلس ثابت للمشتري فقط فيما إذا باع الوكيل و الوصيّ، فلا يدوم الخيار فيما كان البائع أيضاً بالخيار؛ لأنّ العوضين مضمونان في أيّام خيارهما، فيكون العيب الحادث بعد


1- البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 5: 52.

ص: 280

و الظاهر أنّ الميزان في سقوطه عدم كون المبيع قائماً بعينه؛ بتلف (1) القبض و قبل مضيّ الخيارات الثلاثة، من العيب غير الموجب لسقوط الخيار؛ لاختصاص دليله بصورة ضمان البائع دون المشتري، و على هذا يرجع إلى مفاد الخبرين الناطقين بأنّ الحدث و التغيّر موجب للسقوط، و سيأتي ما في التمسّك بهما.

قوله مدّ ظلّه: «بتلف».

على المعروف، و كأنّه المفروغ عنه؛ للأولويّة القطعيّة، و لمفهوم خبر جميل: «إن لم يكن الشي ء قائماً بعينه».

و يتوجّه إلى الأوّل: أنّ الظاهر منه هو إحداث شي ء فيه، و لعلّه يوجب السقوط لكونه رضاً تعبّدياً من المشتري، كما في خيار الحيوان، فلا يحمل الإحداث على الحدث حتّى يستنبط منه الأولويّة. نعم الإتلاف من الإحداث.

و إلى الثاني: أنّ المفهوم إن كان سلباً أعمّ فلا يفيد، و إن كان سلباً أخصّ مع فرض الموضوع، فلا يشمل صورة التلف، و لا سيّما إذا كان التلف بفناء الشي ء و احتراقه.

فبالجملة: لا شبهة في أنّ الإتلاف يوجب سقوط الردّ، و أمّا التلف فغير ظاهر مستنده إلّا الإجماع المحتمل تعليله.

ص: 281

أو ما بحكمه (1)، أو عيب، أو نقص (2) و إن لم يكن عيباً.

قوله مدّ ظلّه: «بحكمه».

من التصرّفات الاعتباريّة الإيقاعيّة كالعتق، العقديّة اللازمة كالصدقة و البيع، و الجائزة كالعقود الخياريّة و الجوائز منها. و لو لم يكن في المسألة إجماع فنفس ذلك- مضافاً إلى أنّه ليس من التغيّر المذكور في معتبر جميل، و لا من الحدث المستفاد من خبر زرارة لا يوجب السقوط على وجه لو رجع إلى ملكه لم يكن له الردّ؛ لقوّة احتمال اختصاص السقوط بصورة عدم العود، فلا سقوط في الخروج المتعقّب بالعود؛ لعدم الدليل عليه على وجه يشمل المقام.

و أمّا العود بعد السقوط كما هو ظاهر الفقيه اليزدي(1)، فهو متفرّع على استفادة العنوان الكلّي من الخبرين. مع أنّ الظاهر منهما ما هو الظاهر من أخبار خيار المجلس، فإذا حصل الافتراق يسقط، و لا يعود بعود المجلس.

قوله مدّ ظلّه: «أو عيب أو نقص».

كلّ ذلك بناءً على أنّ المستفاد من الخبرين منطبق عليهما، سواء كان الموضوع خبر جميل، و يردّ إليه خبر زرارة، أو كان خبر زرارة، و يردّ إليه خبر جميل، بناءً على أنّ معتبر زرارة، ليس في مقام إدخال النسبة


1- حاشية المكاسب، السيّد اليزدي 2: 79/ السطر 29.

ص: 282

نعم، الظاهر أنّ التغيير بالزيادة، لا يسقطه (1) إذا لم يستلزم نقصاً و لو بمثل حصول الشركة. و كيف كان: مع وجود شي ء ممّا ذكر ليس له الردّ، بل ثبت له الأرش خاصّة (2). و كما يثبت هذا الخيار للمشتري إذا وجد العيب في المبيع، الصدوريّة في موضوع السقوط، بل النسبة معنىً حرفيّ مغفول عنه، أو بناءً على الأخذ بهما؛ لأنّ النسبة بينهما الإيجاب، و لا تنافي و قد عرفت أنّ الوجه الأخير ممّا لا بأس به، و الإرجاع غير جائز بعد قوّة احتمال كون الإحداث من مصاديق الرضا تعبّداً.

و لكنّه لا ينفع؛ لأن خبر جميل و إن لم يضرّ إرساله، بل هو عندنا ليس مرسلًا، و لكنّه غير معمول به، و ظاهر المشهور إعراضهم عنه، و تمسّك المتأخّرين- لا غيرهم به من باب التسامح فيما هو المفروغ عنه.

قوله مدّ ظلّه: «لا يسقطه».

لأنّ مجرّد التغيّر بالزيادة كالسمن و نحوه، مورد انصراف الخبر و معقد الإجماع، و فيما إذا كان نقصاً يكون من الحدث، أو من الإحداث إذا تغيّر بفعل المشتري مثلًا، و لا وجه لانصراف خبر جميل عنه، فليتأمّل.

قوله: «خاصّة».

ربّما يشكل: بأنّ الواجب التخييري إذا تعذّر أحد الأطراف، لا يجب الطرف الآخر؛ لأنّ الأمر واحد مردّد، فيكون كالتعيينيّ إذا تعذّر جزء منه، فلا بدّ من التمسّك بقاعدة الميسور و أشباهها التي لا يجوز الركون إليها

ص: 283

كذلك يثبت للبائع إذا وجده في الثمن المعيّن. (1) على ما تحرّر(1).

و فيه ما أشرنا إليه من احتمال كون الحقّين- حقّ الفسخ، و حقّ الأرش ثابتين، إلّا أنّه لا يمكن الجمع بينهما، أو لا يجوز، و هذا غير التخيير و إن ناقشنا في تماميّة هذا المبنى(2) الذي اختاره الماتن- مدّ ظلّه في درسه(3)، و كنّا احتملناه قبله- مدّ ظلّه.

و يمكن أن يقال: إنّ في الواجب التخييري ليس ترديد واقعيّ؛ لأنّه مستحيل، بل هو أمر آخر يرجع إلى المعيّنين ثبوتاً، مع كفاية أحدهما إثباتاً، و على هذا لو تعذّرت إحدى الخصال تجب الأُخرى و هكذا، فإسقاط حقّ الردّ لا يستلزم سقوط حقّ الأرش.

قوله مدّ ظلّه: «في الثمن المعيّن».

نظراً إلى فهم الأصحاب، و عدم وجود من يفصّل بينهما، بل صريح العلّامة(4) و غيره هنا و في باب الصرف ذلك(5)، و استظهر الشيخ «أنّه


1- تهذيب الأُصول 2: 401، مصباح الأُصول 2: 471.
2- تقدّم في الصفحة 270.
3- البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 5: 13.
4- تذكرة الفقهاء 1: 532/ 40.
5- تذكرة الفقهاء 1: 513/ السطر 8.

ص: 284

لا خلاف فيه و إن كان مورد الأخبار ظهور العيب في المبيع»(1) انتهى.

و من الغريب عدم التفاتهم إلى أنّ الأرش في عَرْض الفسخ على خلاف الأصل، فكيف تمكّنوا من إلغاء الخصوصيّة؛ و حمل الأخبار على الغالب؟! هذا و قد تحرّر منّا: أنّ الثمن المعيّن و لو كان نقداً، يرجع إلى المعاوضة، و هي ليست بيعاً عندنا في العصور الأخيرة؛ و لو كانت بيعاً في بدو معيشة الإنسان عيشاً اجتماعيّاً(2)، فجريانه فيها محلّ المناقشة.

اللهمّ إلّا أن يقال: ارتكاز العقلاء على أخذ الأرش و لو في طول ترك الفسخ، و لا يلتزمون بجواز إلزام المشتري البائعَ على الأرش بدواً، و لكن بعد ثبوت الالتزام المذكور منضمّاً إلى الارتكاز المزبور، لا يجدون خصوصيّة بين العصور و الفروع، فليتدبّر.

ثمّ إنّه يجري خيار العيب في غير المعيّن؛ سواء كان بيعاً، أو عوضاً، و لا يرجع ذلك إلى خيار التبديل؛ نظراً إلى أنّ المبيع الكلّي و الثمن الكلّي- لأجل أصالة السلامة و البناء على الصحّة يكونان مقيّدين، و إذا تبيّن عيبهما فلا خيار بالضرورة؛ لأنّه يرجع إلى عدم وفائهما بما عليهما


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 253/ السطر 33.
2- تحريرات في الفقه، كتاب البيع، الجهة الاولى في ماهية البيع.

ص: 285

و المراد ب «العيب» (1) كلّ ما زاد أو نقص عن المجرى الطبيعيّ و الخلقة الأصليّة، كالعمى، و العرج، و غيرهما.

بمتقضى العقد.

هذا، و لكنّه مع ذلك لا يرجع إلى خيار التبديل، بل هو راجع إلى خيار العيب؛ و ذلك لأنّ الكيفيّات خارجة عن حدود المعاوضات على الأعيان؛ و إن كانت داخلة في رقيّ الثمن، هكذا تحرّر، فعليه لا يكون في بيع البقرة ما هو المبيع إلّا البقرة، و ليست الصحّة قيداً بحيث إذا تخلّفت لم يكن وفاء بالعقد، بل هي من قبيل الالتزام في الالتزام، فإذا ردّ المبيع يكون ما في الخارج نفس المبيع، فإنّ الطبيعيّ موجود بشخصه، و إذا لم يكن صحيحاً يلزم خيار العيب؛ لأنّ المبيع الكلّي المتشخّص في الخارج، لا يمكن تبديله؛ لاتحاد الطبيعيّ في محطّ الخارج و الإنشاء، و على هذا يجري الخيار المذكور في غير المعيّن.

نعم، إذا كان الارتكاز على وجه التقييد، فيكون البيع مقيّداً و لو بقيد ارتكازي نوعيّ، لا تعاهدي شخصيّ، فلا يتشخّص البيع الإنشائيّ بإقباض المعيب، و لا يلزم خيار في العقد إلّا إذا تعذّر، فيكون خيار تعذّر التسليم، فلا تغفل.

قوله مدّ ظلّه: «و المراد بالعيب».

على المعروف المشهور في كثير من المتون، مع اختلاف يسير في

ص: 286

التعبير، و الكلّ كأنّه متّخذ من رواية مرسلة و ضعيفة محكيّ فيها قول رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم): «كلّ ما كان في أصل الخلقة فزاد أو نقص فهو عيب ..»(1).

و غير خفيّ: أنّ شأن الفقيه في تعريف «العيب» شأنه في تعريف «الماء» و «التراب» و لا يجوز الاعتماد على تشخيصه إلّا بما أنّه رجل ثقة عادل، و لا يزيد عليه، و لو كان نظره عدم جواز الاعتماد على خبر العدل الواحد، فربّما يضرّ تصرّفه و تعيينه، و يكون غير جائز؛ لتوهّم الراجعين إليه أنّه رجوع إلى الحجّة الشرعيّة، فتعريف «العيب» غير صحيح.

مع أنّه من العناوين التي تختلف البلدان و الأعصار و الأزمان و الأمصار بالنسبة إليه جدّاً، و لا يصحّ دعوى: أنّ ما كان عيباً في زمن رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم (فهو عيب إلى يوم القيامة، كما قيل به في الموضوعات الربويّة(2)، فربّما يكون النقصان من العيب في منطقة، و من الكمال في قطر آخر و بالعكس.

نعم، إذا تدخّل الشرع الأقدس في موضوع من الموضوعات، و كان فيه تعبّد صِرْف، فهو المتّبع، و إلّا فمجرّد وجود رواية- و لو كانت صحيحة


1- الكافي 5: 215/ 12، تهذيب الأحكام 7: 65/ 282، وسائل الشيعة 18: 97، كتاب التجارة، أبواب أحكام العيوب، الباب 1، الحديث 1.
2- جواهر الكلام 23: 362، مسالك الأفهام 3: 323.

ص: 287

غير كافٍ؛ لاحتمال كونها بصدد تعريف ما هو العيب في المنطقة، فيحمل عليه، و لا يزداد و لا يتجاوز عنه؛ ضرورة بُعد كونه تعبّداً صِرفاً و لو كان أصل الأخذ بالأرش في عَرْض الخيار تعبّداً، إلّا أنّه لقيام الإجماع، مع ما تحرّر منّا في محلّه من الإشكال(1).

فعلى ما تبيّن، لا دليل شرعاً على الأزيد ممّا هو العيب بحسب متفاهم الناس في محيط التجارة و المعاملة.

مع أنّ الرواية بحسب المتن مضطربة جدّاً، و تحتاج إلى إلغاء الخصوصيّة بالنسبة إلى كثير من السلع و الأمتعة الحديثة، بل و في مثل بيع الدور و غيرها ممّا تكون وحدتها تأليفيّة، و لا خلقة أصليّة لها إلّا إذا أُريد من «الخلقة» الأعمّ من الخلق المستند إليه تعالى و إلى غيره، كما لا يبعد.


1- تقدّم في الصفحة 270.

ص: 288

[مسألة 1: يثبت هذا الخيار بمجرّد العيب واقعاً عند العقد و إن لم يظهر بعدُ]

مسألة 1: يثبت هذا الخيار بمجرّد العيب واقعاً عند العقد و إن لم يظهر بعدُ، فظهوره كاشف عن ثبوته من أوّل الأمر، لا سبب لحدوثه (1) عنده، قوله مدّ ظلّه: «لا سبب لحدوثه».

كما في الغبن و إن كان ظاهر كثير من كلماتهم، يوهم حدوثه بظهور العيب، و هو الظاهر من جملة من الأخبار، و منها مرسلة جميل(1)، و خبر عمر بن يزيد(2). إلّا أنّ أخذ عنوان «العلم» و أمثاله لا يوجب شيئاً، و لا سيّما و أنّ معتبر زرارة ظاهر في سقوط خياره بالإحداث، مع أنّ المفروض فيه أنّه علم بعد ذلك بالعيب و العَوار، و هذا الدليل أقوى ممّا تمسّك به الشيخ (رحمه اللَّه)(3).

و الذي هو التحقيق: أنّ عقد البيع كما مرّ غير البيع، و هو التبادل الخارجيّ الاعتباري، و على هذا حيث تكون المبادلات نوعاً معاطاتيّةً، فالخيار ثابت من حين المبادلة، لا من حين العقد اللفظيّ و الإنشائيّ، و لا من حين ظهور العيب، فإنّه واضح المنع جدّاً. و لو كان العلم دخيلًا في ذلك، فهو محتاج إلى العناية الشديدة الزائدة.


1- تقدّمت في الصفحة 275.
2- الكافي 5: 206/ 1 و 2، تهذيب الأحكام 7: 60/ 258 و 259، وسائل الشيعة 18: 29، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 16، الحديث 1.
3- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 253/ السطر 26 34.

ص: 289

فلو أسقطه قبل ظهوره سقط (1). كما يسقط بإسقاطه بعده (2)، و كذلك باشتراط سقوطه في ضمن العقد، قوله: «سقط».

بالضرورة؛ لعدم الحاجة في إسقاط الحقّ إلى العلم به، و إلّا فلا يمكن الإبراء حين الشكّ و الجهالة، و لا يحتاج الإنشاء إلى أزيد من احتمال التأثير و الموضوعيّة لحكم العقلاء بالسقوط. بل لو لم يثبت يسقط بالإسقاط أيضاً، و بالشرط المذكور في ضمن العقد، كما مرّ في خيار المجلس، فلا يتوقّف سقوط خيار العيب على ثبوته من حين العقد؛ على ما يتوهّم من المتن.

و ليس هذا من إسقاط ما لم يجب، بل هو يرجع إلى الدفع لتماميّة الشرائط و المقتضي لاعتباره.

فعلى ما سلكناه من ثبوته من حين المقابضة و القبض و المعاطاة، يجوز شرط سقوطه في ضمن العقد. بل الظاهر أنّه يرجع إلى التبرّي، و يكون البيع مبنيّاً على الإطلاق، فلا يكون شرط السقوط إلّا كناية عن الارتضاء المعامليّ بالبيع على كلّ تقدير، و ليس شيئاً آخر، فاغتنم.

قوله مدّ ظلّه: «بإسقاطه بعده».

بالأولويّة القطعيّة طبعاً.

نعم، ربّما يشكل السقوط و الإسقاط مطلقاً؛ نظراً إلى أنّ خيار العيب

ص: 290

ليس- كخيار المجلس و الغبن من الحقوق، بل هو خيار من التخيير الشرعيّ الترخيصيّ بين الردّ و الأرش؛ أي بين الفعلين، كسائر التخييرات الشرعيّة، فعليه لا معنى للسقوط و الإسقاط هنا، و هذا هو الظاهر من الفتوى و النصّ.

اللهمّ إلّا أن يقال: إجماعهم على جواز الإسقاط، يشهد على أنّه نوع حقّ تخييري، و قد مرّ امتناعه.

أو نوع حقّ تعيينيّ، فيكون هناك حقّان غير قابلين للجمع، و قد مرّ فساده.

أو حقّ متعلّق بالعنوان الكلّي المنطبق على أحدهما، و قد مرّ امتناعه و فساده.

أو أنّه حقّ انتزاعيّ من الفعلين اللذين هما مورد التخيير، فهو حقّ صحيح كما هو المختار(1)، و يكفي ذلك لقابليّة السقوط بالشرط و الإسقاط بعده.

أو هو ليس بحقّ، و لكنّ الشرع رخّص للمكلّف في إخراج أحد طرفي الواجب التخييري؛ و قلبه تعيينيّاً، و هذا أيضاً ممكن، و لكنّه لا بدّ من الاختصار على مقدار ما يثبت ترخيصه؛ و هو بعد العقد و المعاطاة، و أمّا حينه فهو غير ثابت.


1- تقدّم في الصفحة 270 271.

ص: 291

و بالتبرّي من العيوب عنده بأن يقول: «بعتك بكلّ عيب». و كما يسقط بالتبرّي (1) من العيوب الخيارُ، يسقط استحقاق مطالبة (2) الأرش أيضاً.

قوله مدّ ظلّه: «و بالتبرّي».

إجماعاً محكيّاً عن «الخلاف»(1) و «الغنية»(2) و هو الظاهر من «التذكرة»(3) و هو المفروغ عنه عندهم؛ لأنّه يرجع إلى عدم المقتضي للخيار، ضرورة أنّه إذا باع على أن يكون العيب على المشتري، فلا خيار، و هذا مثله في الحقيقة. و يدلّ على الحكم في الجملة صحيح زرارة السابق(4).

و لعلّ إجمال الدليل اللفظيّ، أوجب ذهاب الإسكافيّ إلى المناقشة في سقوطه به في صورة الإجمال(5)؛ بعد عدم صلاحية بناء العقلاء للمرجعيّة، حيث إنّ الحكم في باب العيب على خلاف مذاق العرف، فاغتنم.

قوله مدّ ظلّه: «استحقاق مطالبة».

و هو الظاهر من الأصحاب (رحمهم اللَّه (حيث عدّوا التبرّي عن العيوب من


1- الخلاف 3: 127، المسألة 213.
2- الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 526/ السطر 7.
3- تذكرة الفقهاء 1: 526/ السطر 16.
4- تقدّم في الصفحة 275.
5- مختلف الشيعة: 371/ السطر 27.

ص: 292

مسقطات الخيار و الأرش(1)، و هو مقتضى أدلّة سقوط الخيار، مع قصور المقتضي عن إثباته كما هو الواضح.

و ربّما يشكل: بأنّ التبرّي من العيوب، يوجب بطلان البيع للغرر، و لا يتمّ ما يتوهّم جواباً له(2) إلّا إنكار أصل كبرى المسألة، كما ذكرنا في كتابنا الكبير(3)؛ ضرورة أنّه لا دليل على اعتبار المعلوميّة المطلقة. و الالتزام بالتخصيص- بعد عدم وجود الإطلاق الصحيح غير وجيه.

كما يشكل كفاية التبرّي لسقوطهما؛ لأجل أنّه يرجع إلى الشرط، و خيار العيب ليس من قبيل الخيارات الأُخر حتّى يكون حقّا، بل هو من الأحكام الشرعيّة، فيكون الشرط على خلاف الكتاب.

أو لو كان شرطاً، فلا بدّ من وجود الدليل على قبول الطرف ذلك الشرط، فمجرّد التبرّي غير كافٍ.

و الذي هو الحقّ: أنّ التبرّي ليس شرطاً، بل هو موجب لهدم البناء الأوّلي الثابت بين العقلاء، القائم على اشتراء الأشياء على صفة الصحّة، كما هو هدم لإجراء أصالة السلامة في إحرازها، فيكون موقف المعاملة


1- الخلاف 3: 127، المسألة 213، تذكرة الفقهاء 1: 526/ السطر 16، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 260/ السطر 18.
2- لاحظ البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 5: 72 73.
3- تحريرات في الفقه، كتاب الخيارات، الثاني من مسقطات الردّ و الأرش.

ص: 293

كما أنّ سقوطه بالإسقاط في ضمن العقد أو بعده، تابع للجعل. (1) المذكورة خارجاً عن سائر مواقف المعاملات؛ من غير شرط ضمنيّ في العقد.

مع أنّ في كلّ من كونه شرطاً مخالفاً، أو محتاجاً إلى القبول، مناقشة.

و ممّا يشهد على أنّه ليس من الشرط: أنّ بالتبرّي لا يحدث تكليف بالوفاء به، بل يلزم منه خروج البائع عن تحمّل الزائد، مع أنّ المتعارف في الشروط لزوم الوفاء بها بعد الاشتراط حتّى في شرط النتيجة، كما لا يخفى.

قوله مدّ ظلّه: «تابع للجعل».

بالضرورة، و هو مقتضى كونه حقّا؛ فإنّ لكلّ ذي حقّ إسقاطَ حقّه و استيفاءَه.

نعم، ربّما يناقش كما أُشير إليه آنفاً في كونه حقّا؛ لما لا يعقل التخيير و الترديد بين الأحكام الوضعيّة، فلا يعقل جعل النجاسة لأحد الشيئين.

نعم، في الواجبات التخييريّة يعقل؛ لأنّه يرجع إلى التخيير في إيجاد المعنى الحدثيّ، نظير تخيير الإنسان طبعاً في إيجاد كلّ شي ء، و تفصيله في الأُصول(1).

و لأجل ذلك يظهر: أنّ الأصحاب (رحمهم اللَّه (فيما نحن فيه قالوا: «بأنّ


1- نفس المصدر.

ص: 294

المشتري مثلًا مخيّر بين الردّ و الأرش، و هو الظاهر من أخبار المسألة، فلا حقّ وضعيّ في خصوص هذا الخيار.

و لأجل ذلك ذهب الماتن- مدّ ظلّه إلى أنّ هناك حقّين تعيينيّين لا يجتمعان ذاتاً أو شرعاً، و ناقشنا في ذلك، و ذكرنا: أنّ الالتزام بوحدة الخيارات سنخاً غير لازم، و مع ذلك لا بأس بتجويز الشرع، و إقدارِ المكلّف على إخراج أحد طرفي هذا المعنى التخييري الترخيصيّ، فيكون الإسقاط و شرط السقوط، معناه تعجيزه شرعاً عن إعمال الفسخ في ضمن العقد.

و ربّما يتوهّم: أنّ الواجبات التخييريّة التكليفيّة، أيضاً ترجع إلى الواجب العينيّ، فيكون وجوب الأطراف عقليّاً مستكشفاً بالشرع، أو إلى الواجب المشروط، أو المعلّق، و الكلّ باطل عاطل محرّر في قواعدنا الأُصوليّة(1).

ثمّ إنّ السقوط بالإسقاط في ضمن العقد غير واضح؛ لأنّه لو شرط الإسقاط لم يسقط بمجرّد القبول، فإذا أسقط فهو، و إلّا فالعقد باقٍ و التصرّفات جائزة؛ و لو كان آثماً بالتخلّف عن الشرط.

و ربّما يتوهّم بطلان التصرّفات الناقلة؛ لأنّ الأمر بالوفاء بالشرط مستتبع النهيَ عن تلك التصرّفات، المستتبع للفساد، و قد تحرّر بطلان


1- نفس المصدر.

ص: 295

الاستتباع الأوّل دون الثاني.

و أمّا قول الأعلام بعدم تماميّة الاستتباع الثاني أيضاً؛ لأنّه ليس نهياً كاشفاً عن الفساد، و لا مرشداً إلى البطلان(1)، فهو ممنوع عندنا محرّر في محلّه(2).


1- فوائد الأُصول 1: 316 و 456، تهذيب الأُصول 1: 416، محاضرات في اصول الفقه 5: 6.
2- تحريرات في الأُصول 4: 362 و ما بعدها.

ص: 296

[مسألة 2: كما يثبت الخيار بوجود العيب عند العقد، كذلك يثبت بحدوثه بعده قبل القبض]

مسألة 2: كما يثبت الخيار بوجود العيب عند العقد، كذلك يثبت بحدوثه بعده قبل القبض. (1) قوله مدّ ظلّه: «قبل القبض».

سواء كان المشتري بالخيار المضمون على البائع، كخيار الشرط و المجلس و الحيوان، على ما قيل، أو كان العقد غير خياري مطلقاً.

و المفروض هنا كون المبيع صحيحاً حين العقد، و صار معيباً بعد العقد و قبل القبض، و قد حكي الإجماع(1) في الجملة على ثبوت الخيار بهذا العيب الحادث قبل القبض؛ و لو كان في ملك المشتري، كما إذا وقع العقد اللفظيّ؛ بناءً على كونه تمام السبب للملكيّة، أو كان بعد إقباض المشتري الثمن؛ بناءً على لزوم القبض في الجملة في حصولها إذا كان السبب معاطاة.

و أمّا لو كان الملكيّة غير حاصلة إلّا بالتعاطي من الطرفين، فلا تصوّر لهذه المسألة. كما لا تتصوّر فيما إذا كان إقباض المبيع دخيلًا فيه.

و على كلّ تقدير: في مفروض المسألة اشتهر الحكم بحدوث الخيار و الأرش و إنّما الإشكال في سنده بعد قصور الشهرة و الإجماع عن الاستناد؛ لعدم إحرازهما.

و غاية ما ربّما يقال: إنّ قضيّة «التلف قبل القبض من مال بائعه» هو


1- جواهر الكلام 23: 241.

ص: 297

الخيار فيما نحن فيه؛ لأنّ تلف العين إذا كان مضموناً على البائع، و موجباً لانفساخ العقد، فتلف الصفة أيضاً مضمون عليه يوجب الأرش، و لا بدّ و أن يوجب ضعفاً في العقد؛ و هو الخيار.

و هذا التقريب أحسن ما يمكن أن يقال في المقام، و لكن أُوصيك أيّها الطالب بالتحذّر من أمثال هذه الطرق في الاجتهادات.

و يمكن دعوى بناء العقلاء، و لكنّه في محلّ منع بالنسبة إلى الأرش، و من تصرّف الشرع في بنائهم يلزم ردعهم في هذا المقام، فتدبّر.

و أمّا الأخبار الخاصّة، فهي في مورد المعاطاة، و لا إطلاق فيها، و لا سيّما معتبر زرارة(1)؛ لأنّ المفروض فيه الإحداث، و فرض كون العيب و العَوار حاصلًا قبل القبض و بعد العقد، من النوادر التي لا تكشف بترك الاستفصال و لا بغيره، فلا تخلط.

و على هذا يتبيّن ما هو الحقّ: و هو أنّ العقد اللفظيّ ليس سبباً للملكيّة، فيكون العيب الحادث قبل القبض في ملك البائع، و موجباً للخيار و الأرش، و يكون تلفه من مال البائع، و لو كان ملكاً للمشتري، و موجباً للأرش إذا حدث فيه العيب أو الخيار، فهو من الضرر و الضرار على


1- الكافي 5: 207/ 3، تهذيب الأحكام 7: 60/ 257، وسائل الشيعة 18: 30، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 16، الحديث 2.

ص: 298

البائع وجداناً، و لا سيّما إذا كان المشتري يريد به ذلك؛ نظراً إلى كشف حال المتاع. هذا فيما إذا حدث العيب.

و لو كان العيب الحادث كاشفاً عن السبب السابق، فيكون العيب ظاهراً بعد العقد و قبل القبض، فالقول بالخيار و الأرش أقوى.

و قد حكي عن جماعة ك «خلاف» الشيخ(1)، و الحلّي(2)، و المحقّق(3)، المناقشة في الأرش دون الخيار؛ نظراً إلى أنّ وصف الصحّة غير داخل في أجزاء المبيع، و ليس مضموناً، و قضيّة الأرش غير هذا كما لا يخفى، و يكون تعبّداً صِرْفاً.

و أنت خبير: بأنّه لو كان الوجه الذي ذكرناه تامّاً فلا فرق بين الخيار و الأرش في دلالة القاعدة و أخبارها عليه، و إلّا فالأمر كما تحرّر.

و توهّم بناء العقلاء على الخيار دون الأرش، في محلّه، إلّا أنّه بناء مشكوك اعتباره؛ لأنّ الشرع تصرّف فيه بجعل العِدْل له؛ و هو الأرش، و هذا نوع ردع عنه يوجب الشكّ في الإمضاء و الارتضاء شكّاً يعتنى به، فتأمّل.


1- الخلاف 3: 109، المسألة 178.
2- السرائر 2: 298.
3- شرائع الإسلام 2: 23.

ص: 299

و العيب الحادث بعد العقد يمنع عن الردّ (1) لو حدث بعد القبض، و بعد خيار المشتري المضمون كما مرّ. و لو حدث قبل القبض فهو سبب للخيار (2)، فلا يمنع عن الردّ و الفسخ بسبب العيب السابق بطريق أولى.

قوله مدّ ظلّه: «يمنع عن الردّ».

لأنّ المفروض وجود العيب السابق الموجب للردّ و الأرش، فإذا حدث العيب في مفروض المسألة- و هو بعد القبض و المضيّ فيكون متغيّراً غير باقٍ على عينه، و قضيّة مرسلة جميل سقوط حقّ الردّ حينئذٍ.

نعم، له أخذ الأرش، كما صرّح به معتبر زرارة و المرسلة، و هو المعروف عنهم و المشهور بينهم.

إلّا أنّه يشكل سقوط الخيار بمجرّد التغيّر؛ لعدم قابليّة المرسلة المذكورة للاعتماد عليها في المقام، و مقتضى معتبر زرارة أنّ إحداث الشي ء فيه يوجب تعيّن الأرش، لا الحدوث.

و يحتمل قويّاً كون الإحداث مصداقاً للرضا، فيكون كاشفاً تعبّداً عن الالتزام الملازم للإسقاط المستتبع لسقوط الخيار، فلا تغفل.

قوله مدّ ظلّه: «سبب للخيار».

كما مرّ، إلّا أنّ المفروض هنا أنّ المبيع معيب حين العقد، و لأجل ذلك يشكل عقلًا: بأنّ ما هو السبب هو طبيعيّ العيب، فكيف يؤثّر في الخيارين، و عرفاً: بأنّه لا معنى لاعتبار خيار عيب آخر وراءه.

ص: 300

و توهّم: أنّه تظهر الثمرة في الإسقاط، غير صحيح في محيط العقلاء، و إن قال به الفقيه اليزدي (رحمه اللَّه (في تعليقته الشريفة(1).

و غير خفيّ: أنّ الطبيعيّ لا يؤثّر، و ما هو المؤثّر هو الفرد، فكان الأولى أن يقال: إنّ السبب هو خيار العيب، و هو لا يقبل التعدّد بتعدّد السبب إلّا إذا تلوّن بلون خاصّ، كما يتلوّن الخيار بلون المجلس و الحيوان و الغبن.

هذا مع أنّ طبيعيّ العيب ليس سبباً، و إلّا يلزم أن يؤثّر العيب بعد القبض و المضيّ في إيجاد الخيار، فإذا ثبت وجود قيد فلا بأس بأن يعتبر كلّ عيب سبباً؛ حسب الإطلاق المقتضي عقلًا لذلك.

و بالجملة: هنا مسألتان:

الاولى: أنّ العيب الحادث في مفروض المسألة، هل يوجب الخيار، أم لا؟

و الثانية: أنّه على تقدير إيجابه، هل يوجب سقوط الخيار السابق، أم لا؟

و ظاهر المتن سببيّة العيب الثاني للخيار الآخر من غير سقوط الخيار الأوّل، و حيث إنّ المفروض حدوث العيب الثاني، لا اتساع العيب


1- حاشية المكاسب، السيّد اليزدي 2: 77/ السطر 17.

ص: 301

الأوّل- و قد مرّ منّا المناقشة في أصل موجبيّة العيب الحادث قبل القبض لشي ء و لو كان المبيع صحيحاً(1) فالأمر هنا أوضح.

و على تقدير القول بسببيّة العيب الحادث قبل القبض، فالالتزام بتعدّد الخيار من غير سراية القيد إليه ممتنع، كما تحرّر في مسألة تداخل الأسباب و المسبّبات(2). و إسراء القيد إليه يحتاج إلى مئونة زائدة مفقودة في المقام؛ لعدم إطلاق فيها من هذه الجهة إنصافاً، و عدم مساعدة فهم العرف على ذلك أصلًا، فليتدبّر جيّداً.


1- تقدّم في الصفحة 296 297.
2- تحريرات في الأُصول 5: 91 و ما بعدها.

ص: 302

[مسألة 3: لو كان معيوباً عند العقد، و زال العيب قبل ظهوره]

مسألة 3: لو كان معيوباً عند العقد، و زال العيب قبل ظهوره، فالظاهر سقوط الخيار. (1) قوله مدّ ظلّه: «سقوط الخيار».

و هو المفروغ عنه و المقطوع به لو كان ظهور العيب دخيلًا في ثبوت الخيار. و لو لم يكن ثبوته مربوطاً بالظهور، فالأمر كذلك في مفروض الماتن عند كثير منهم المتعرّضين للمسألة(1).

و الحقّ عدم ثبوت الفرق بين الظهور و عدمه بعد سقوط دخالته، فما في المتن من التقييد ساقط جدّاً، و لذلك صرّح في موضع من «التذكرة» بالسقوط و لو بعد العلم(2).

و بالجملة: لم أجد مخالفاً لسقوط الخيار بعد زوال العيب و قبل الردّ، كما هو مقصود الماتن؛ و ذلك لأنّ الظاهر من أدلّة الخيار، بقاء العيب إلى حال الردّ و الفسخ. مع أنّه حكم العقلاء، و مقتضى سببيّة العيب للخيار.

و لا محلّ لاستصحاب الخيار؛ لأنّ الشكّ في بقائه، راجع إلى الشكّ في اعتبار دوام العيب في ثبوت الخيار، و تصير النتيجة مرجعيّة إطلاق دليل اللزوم، و لا يجري الاستصحاب رأساً.

نعم، بناءً على جريان البراءة الشرعيّة عن الشرطيّة في


1- تذكرة الفقهاء 1: 541/ السطر 23، جامع المقاصد 4: 352.
2- تذكرة الفقهاء 1: 541/ 23.

ص: 303

بل سقوط الأرش (1) أيضاً لا يخلو من قرب، و الأحوط التصالح.

المعاملات، كما في العبادات حذواً بحذوٍ، فلا منع من هذه الجهة عن جريانه، إلّا أنّه ممنوع لأجل كونه في الشبهة الحكميّة، و قد تحرّر منّا منعه على الإطلاق(1).

و يحتمل أن يكون زوال العيب بعد الرّد، شاهداً على عدم وقوع الردّ في محلّه، فيكون العقد باقياً، و على المشتري ردّ الثمن؛ و ذلك لعدم ثبوت التحديد باشتراط دوام العيب إلى الردّ. و قضيّة حكم العرف و مناسبة الموضوع و الحكم، ذلك و لا سيّما فيما إذا ردّ فزال العيب فوراً، فثبوت الخيار من الأوّل مشكوك، فيرجع إلى أدلّة اللزوم، فتأمّل جيّداً.

و أمّا توهّم امتناع بقاء الخيار عند زوال العيب قبل الردّ، أو بعده؛ لعدم العلّة، فهو مندفع باحتمال الوساطة في الثبوت، كما في بقاء نجاسة الماء عند زوال التغيّر، و مقتضى الأدلّة بدواً هي الوساطة لا العنوانيّة، إلّا أنّها وساطة في العروض عرفاً.

قوله مدّ ظلّه: «سقوط الأرش».

خلافاً لظاهر الشيخ الأعظم الأنصاري (قدِّس سرُّه) معلّلًا: «بأنّ الأرش لمّا ثبت استحقاق المطالبة به؛ لفوات وصف الصحّة عند العقد، فقد استقرّ بالعقد، خصوصاً بعد العلم بالعيب، و الصحّة إنّما حدثت في ملك


1- تحريرات في الأُصول 8: 436 438 و 533 535.

ص: 304

المشتري، فبراءة ذمّة البائع عن عهدة المضمون عليه تحتاج إلى دليل، فالقول بثبوت الأرش و سقوط الردّ قوي؛ لو لم يكن تفصيلًا مخالفاً للإجماع، و لم أجد من تعرّض لهذا الفرع قبل العلّامة أو بعده»(1) انتهى.

و في مقابله احتمال عدم استحقاق الأرش؛ حتّى لو زال العيب بعد الأخذ بالأرش، فيردّ ما أخذه المشتري إلى البائع؛ و ذلك لا لأجل أنّه نوع جمع بين العوض و المعوّض، حتّى يقال: إنّ وصف الصحّة لم يكن يقابل بشي ء، و يردّ ذلك في الجملة: بأنّ من العيوب ما يستلزم فقد الجزء، و فسادَ البعض بزواله كما لا يخفى، بل لأجل أنّ الأرش على خلاف الأصل، و لا إطلاق في أدلّته، و القدر المتيقّن منه غير هذه الصورة.

و ما في كلامه غريب بعد ادعائه آنفاً ظهورَ الأخبار في بقاء العيب إلى حال الردّ!! لأنّ معناه في الحقيقة ظهورها في أنّه في ظرف الأخذ بالأرش، يكون له حقّ الفسخ.

نعم، مرسلة جميل تناسب زوال العيب، و نصّ في سقوط الخيار عند أخذ الأرش، إلّا أنّها معرض عنها؛ لأنّ الخيار و الأرش في عَرْض واحد جعلًا، و لذلك ذكرنا مراراً أنّها غير صالحة للاعتماد في المسألة. فالقول بسقوط الأرش أقوى من سقوط الخيار؛ لأنّه حكم عقلائيّ.


1- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 261/ السطر 9.

ص: 305

هذا مع أنّ إطلاق دليل الأرش، ضرري بالنسبة إلى البائع في صورة زوال العيب، فينفى بالقاعدة، بخلاف الخيار؛ لأنّه بالفسخ يردّ إليه الثمن.

نعم، ربّما يكون خياره أيضاً في صورة زوال العيب ضرريّاً، أو يورث حرجاً على البائع، فيلزم أن يكون وجوب ردّ الثمن حرجيّا منفيّاً.

و توهّم عدم جريان القاعدة لتقييد دليل خيار العيب؛ لأنّه نفسها، في غير محلّه؛ ضرورة أنّ دليله ليس القاعدة. مع أنّه من قبيل حكومة الأصل السببيّ على المسبّبي، فليتأمّل.

ص: 306

[مسألة 4: كيفيّة أخذ الأرش]

مسألة 4: كيفيّة أخذ الأرش بأن يقوّم الشي ء صحيحاً، ثمّ يقوّم معيباً، و تلاحظ النسبة بينهما، ثمّ ينقص من الثمن المسمّى (1) بتلك النسبة، فإذا قوّم صحيحاً بتسعة، و معيباً بستّة، و كان الثّمن ستّة، ينقص من الثّمن اثنان و هكذا.

قوله مدّ ظلّه: «من الثّمن المسمّى».

على المعروف المشهور بينهم، و هو المقصود ظاهراً من «الإطلاق» الوارد في كلام جمع(1).

و ما في كلام الشيخ (رحمه اللَّه): «من أنّ ظاهر كلام جمع من القدماء- كأكثر النصوص توهّم إرادة قيمة المعيب كلّها»(2) انتهى، غير جيّد؛ فإنّ النصوص بين ما لا إطلاق له من هذه الجهة، و بين ما هو المنصرف إلى المتعارف.

نعم، قضيّة بعض الأخبار كخبر طلحة بن زيد، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: «قضى أمير المؤمنين (عليه السّلام) في رجل اشترى جارية فوطأها، ثمّ وجد فيها عيباً، قال: تقوّم و هي صحيحة، و تقوّم و بها الداء، ثمّ يردّ البائع على المبتاع فضل ما بين الصحّة و الداء»(3). هو الأخذ بقيمة المعيب بالنسبة إلى القيمة الواقعيّة.


1- جواهر الكلام 23: 288، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 271/ السطر 13 14 و 272/ السطر الأخير.
2- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 271/ السطر 14.
3- الكافي 5: 214/ 4، تهذيب الأحكام 7: 61/ 265، وسائل الشيعة 18: 102، كتاب التجارة، أبواب أحكام العيوب، الباب 4، الحديث 2.

ص: 307

إلّا أنّه معارض بصحيح زرارة السابق؛ لمكان قوله (عليه السّلام): «و يردّ عليه بقدر ما نقص من ذلك الدّاء و العيب من ثمن ذلك لو لم يكن به»(1).

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ المراد من قوله (عليه السّلام): «ثمن ذلك» ثمنه الواقعيّ، لا المسمّى، و لكنّه بعد انصرافه إليه يصير صالحاً للتقييد و لو كانا موجبين، كما لا يخفى.

و ربّما يناقش: بأنّ ما به التفاوت بالنسبة إلى المسمّى مطابق للعدل و الإنصاف، بخلاف الواقعيّ؛ ضرورة أنّه ربّما يلزم الجمع بين العوض و المعوّض، لأنّ أخذ الأرش بالنسبة إليه يستوعب أحياناً تمام الثمن، و هذا هو المراد من الجمع المذكور.

و فيه: أنّه مجرّد فرض، و إلّا فلو اتفق اختلاف لقيمته المسمّاة و الواقعيّة على هذا المقدار، يلزم سقوط الخيار و الأرش؛ لأنّه يكشف عن أنّ البيع مهاباتيّ مبنيّ على الأغراض الأُخر، فتدبّر.

هذا، و لو اتفق أن يكون الأرش قليلًا جدّاً فله الخيار، مع أنّ في موارد تقنين القوانين العامّة لا يلاحظ هذه الموارد النادرة؛ لالتزام المقنّن به نظراً إلى مصالح عامّة في التقنين الكلّي، كما في سائر المواضع، فاغتنم.


1- تقدّم في الصفحة 275.

ص: 308

و المرجع في تعيين ذلك أهل الخبرة، (1) و بالجملة: حيث إنّ العبرة بالقيمة يوم البيع و حال البيع، دون الأحوال الأُخر، كحال سقوط الخيار، أو حال مطالبة الأرش، أو حال الاطلاع، فقلّما يتّفق اختلاف القيمتين: المسمّاة، و الواقعيّة، إلّا بمقدار يتسامح فيه في مرحلة التقويم، فتدبّر.

و غير خفيّ: أنّ مقتضى الأُصول العمليّة هو الأقلّ، سواء كان الأرش ديناً، أو كان حقّا، أو كان تكليفاً. و ما عن العلّامة الخراسانيّ من استصحاب بقاء الحقّ إلى أن يعطي الأكثر، بعيد عن ساحته (قدّس سرّه)(1) مع أنّه لا يجوز للبائع أخذه؛ لأنّ المشتري يعطي على أنّه يستحقّه، و الأصل لا يثبت استحقاقه، فاغتنم.

كما أنّ مقتضى المحاكم العرفيّة و البناءات العقلائيّة، أيضاً ذلك. فاستفادة التعبّد الخاصّ تحتاج إلى تأكيد و تشديد، و إن كان أصل الأرش تعبّداً في صورة كونه في عَرْض الخيار، و لكنّ ذلك مؤيّد بالإجماع، مع ما عرفت منّا في ذلك، فراجع.

قوله مدّ ظلّه: «أهل الخبرة».

و كذا الشاهد الحاكي لنظر الخبرة، إلّا أنّ الشهادة تارة: تكون عن رأي الخبرة، و أُخرى: عن القيمة السوقيّة؛ للوثوق و الاطمئنان الحاصل


1- حاشية المكاسب، المحقّق الخراساني: 232.

ص: 309

و الأقوى اعتبار قول الواحد (1) الموثوق به من أهلها، و إن كان الأحوط اعتبار ما يعتبر في الشهادة من التعدّد و العدالة.

للشاهد من قول أهل الخبرة.

و قد صرّح الشيخ تبعاً لظاهر الأصحاب(1)؛ باعتبار ما يعتبر في الشاهد من العدالة و التعدّد هنا(2)، و هذا أمر غير ثابت؛ لأنّ اعتبار العدالة و التعدّد في مطلق الشهادة محلّ إشكال، و قد مرّ شطر من البحث في حديث حجيّة شهادة البائع في كتابنا الكبير، فإنّها حجّة من غير اعتبار القيدين فيها.

و من هنا يظهر وجه ما في المتن آتياً: هو أنّ «الأحوط اعتبار ما يعتبر في الشهادة» و يظهر وجه النظر فيه.

قوله مدّ ظلّه: «اعتبار قول الواحد».

كما قوّاه جمع(3)، و منعه جمع(4)، و احتاط كثير(5)؛ لأنّ المسألة مشكلة، ضرورة أنّ مقتضى البناءات العقلائيّة أعمّ، كما أنّ في موارد


1- الدروس الشرعية 3: 288، جامع المقاصد 4: 336، جواهر الكلام 23: 290.
2- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 273/ السطر 2.
3- حاشية المكاسب، السيّد اليزدي 2: 103/ السطر 13، وسيلة النجاة 2: 45، القول في الخيارات، المسألة 36.
4- جامع المقاصد 4: 336، جواهر الكلام 23: 290، البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 5: 136.
5- الحدائق الناضرة 24: 148، و لاحظ العروة الوثقى 1: 46، فصل ماء البئر، المسألة 9، و ما علّقه الأعلام عليها.

ص: 310

خاصّة أيضاً يكفي ذلك، و منها نقل الفتوى، و قد تحرّر أنّ ما اشتهر من حجيّة قول الثقة في نقل الحكم، غير صحيح(1)؛ لأنّ الثقة لا يحكي إلّا الموضوع، فإنّ زرارة لا ينقل إلّا قول الصادق (عليه السّلام) و هو موضوع من الموضوعات، كما لا يخفى.

و مقتضى ما هو الظاهر من الأصحاب و خبر مَسْعدة بن صدقة- فإنّ فيه «الأشياء كلّها على ذلك» أي الحلّية «حتّى يستبين لك ذلك، أو تقوم به البيّنة»(2) و من المقابلة يظهر عدم كفاية الخبر الواحد أنّ خبر أهل الخبرة و لو تعدّد غير كافٍ، إلّا إذا كان بيّنة، أو حصل الاستبانة و الوثوق و الاطمئنان الشخصيّ.

و حيث لا يمكن الاستدلال به؛ للزوم الدور، فيعلم كفاية خبر الثقة في نقل الأخبار، و لا يكون المراد من «البيّنة» حسب الظاهر إلّا الحجّة، و إلّا يلزم خروج مثل الاستصحاب و الإقرار، بل و خروج كثير من الموارد المحتاج إثباتها إلى الأكثر من البيّنة الواحدة الاصطلاحيّة، فتكون الرواية شاهدة على كفاية قول الثقة؛ و إن لم يحصل منه الاستبانة


1- تحريرات في الأُصول 6: 535.
2- الكافي 5: 313/ 40، وسائل الشيعة 17: 89، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 4، الحديث 4.

ص: 311

و الاطمئنان، و إلّا فيكون من الحجّة الشخصيّة، فالرواية مضافاً إلى عدم دلالتها على ردع خبر الثقة، تدلّ على حجّية قوله.

و في خصوص الرجوع إلى أهل الخبرة بناء عمليّ «لولا ذلك لما كان للمسلمين سوق»(1) و في الأُصول بحوث حول هذا الخبر، و لا مزيد على ما حرّرناه هناك(2) فراجع، مع ما في سنده كما لا يخفى.

و احتمال اعتبار التعدّد أقوى من احتمال اعتبار العدالة؛ لإمكانه أوّلًا، إلّا إذا كان نفس الإسلام و عدم ظهور الفسق عدالة شرعيّة؛ و ذلك لما في خبر عبد اللَّه بن سليمان: «إلّا إذا شهد شاهدان أنّ فيه الميتة»(3).

و بالجملة: اتباع بناء العقلاء، بعد الحاجة إلى عدم الردع، مع قوّة وجود الاتفاق على الحاجة إلى البيّنة في مطلق الموضوعات إلّا ما خرج خصوصاً، مشكل.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ الشكّ في وجود الرادع لا يكفي؛ إمّا لجريان الاستصحاب، أو لبناء من العقلاء، فافهم.


1- الكافي 7: 387/ 1، تهذيب الأحكام 6: 261/ 695، وسائل الشيعة 27: 292، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 25، الحديث 2.
2- لاحظ تحريرات في الأُصول 6: 298 299.
3- الكافي 6: 339/ 2، وسائل الشيعة 25: 118، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المباحة، الباب 61، الحديث 2.

ص: 312

[مسألة 5: لو تعارض المقوّمون في تقويم الصحيح أو المعيب أو كليهما]

مسألة 5: لو تعارض المقوّمون في تقويم الصحيح أو المعيب أو كليهما، فالأحوط التخلّص (1) بالتصالح، قوله مدّ ظلّه: «فالأحوط التخلّص».

بلا شبهة، إلّا أنّ المسألة حيث تكون مندرجة في الأقلّ و الأكثر بحسب العادة، فيكون تعارض المقوّمين منتهياً إلى أنّ قول أحدهما يعيّن أنّ ما به التفاوت هو العشرون، و الآخر يزيد عليه شيئاً، و لو تساقطا فلا بدّ و أن نرجع إلى البراءة، و هي ربّما تعيّن الأقلّ، و لا شبهة في أنّ بناء العقلاء على الأخذ بالأقلّ؛ و ذلك إمّا لأنّه القدر المتيقّن من قولهما، فلا يتساقطان بالنسبة إليه بحسب المداليل المطابقيّة و الالتزاميّة، أو لبناء خاصّ على الأخذ بالأقلّ.

و توهّم المراجعة إلى حكم الحاكم، أو الأكثر، أو القرعة، أو غير ذلك ممّا يرى في كلمات القوم(1)، كلّه في غير محلّه بالضرورة، و لا وجه للقرعة في أيّة صورة كانت بعد كونها لأمر مشتبه، أو مشكل و مجهول.

نعم، في موارد التباين كما إذا قال أحدهما في مبادلة الحنطة بالعدس؛ بلزوم مقدار من الجنس الخاصّ؛ لما يرى من أنّه ما به التفاوت من الجنس المذكور، و لو كان من جنس آخر فما به التفاوت مقدار كذا، و قال الآخر على خلافه، و لا قدر متيقّن؛ لما ليست القيمة فيهما مورد النظر،


1- جواهر الكلام 23: 290، المكاسب، الشيخ الأنصاري: 273/ السطر 12.

ص: 313

و لا تبعد القرعة، خصوصاً في بعض (1) الصور.

كما في كثير من القرى و القصبات، فربّما يشكل الأمر كما هو الواضح.

و اختلفت آراء القوم في المسألة، فذهب المعظم إلى الأخذ بكيفيّة(1)، و الشهيد و بعض آخر إلى كيفيّة ثانية(2)، و يحتمل الثالثة، و الكلّ غير تامّ؛ لما عرفت الأمر في أصل المسألة.

و فيما كانت المعاوضة بين الجنسين لا يثبت الأرش؛ لأنّه على خلاف الأصل، و أخبار المسألة مخصوصة بالبيوع بالأثمان، و لو صحّ إلغاء الخصوصيّة لصحّ ذلك بالأولويّة في خيار الغبن؛ لأنّ حقيقة خيار العيب راجعة إلى الغبن حسب العادة كما لا يخفى، فلا تخلط.

قوله مدّ ظلّه: «خصوصاً في بعض».

خلافاً لما صرّح به في الدرس: «من أنّه لا محلّ لها بعد تعيين الشرع بالبراءة عن الأكثر، أو استصحابِ نفي الاشتغال بالزائد»(3) اللهمّ إلّا أن يريد منه صورة المعاوضة، فتدبّر.


1- لاحظ جواهر الكلام 23: 290 291.
2- نفس المصدر.
3- البيع، الإمام الخميني( قدِّس سرُّه) 5: 141.

ص: 314

[مسألة 6: لو باع شيئين صفقة واحدة، فظهر العيب في أحدهما]

مسألة 6: لو باع شيئين صفقة واحدة، فظهر العيب في أحدهما، كان للمشتري (1) أخذ الأرش، أو ردّ الجميع، و ليس له التبعيض بردّ المعيب وحده.

قوله مدّ ظلّه: «كان للمشتري».

أي في صورة وحدة المشتري، فالمفروض أوّلًا في المتن وحدة البائع و المشتري، مع تعدّد السلعة. و في هذه الصورة فيما إذا كان الوحدة الاعتباريّة على حدّ يعدّ السلعة جزء الصفقة- كما إذا باعا منّاً من الحنطة، أو من البطّيخ فلا إشكال حسب القواعد، و لعلّ الأخبار أيضاً لا تأبى عن الشمول.

اللهمّ إلّا أن يقال: بظهورها في الوحدة الطبيعيّة أو التأليفيّة، و أمّا الوحدات الاعتباريّة التي تعانقها الكثرة الخارجيّة فلا، و لا سيّما بضميمة ما في أخبار بيع العبيد و الإماء، بعد كون الأخذ بالأرش على خلاف الأصل.

و أمّا فيما إذا كانت السلع و الأمتعة كثيرة عنواناً و استفادة و غرضاً، و قد اجتمعت في التعبير عنها في مقام المعاملة؛ نظراً إلى إجراء صيغة البيع مرّة واحدة، فإنّه لا يبعد انحلال البيع إلى البيوع، فيجوز التبعيض، و يظهر النظر من هنا فيما أفاد بقوله على الإطلاق: «و ليس له التبعيض بردّ المعيب وحده».

و أمّا إذا كانت الوحدة الاعتباريّة يجمعها العنوان الواحد- كمصراعي الباب، و الحذاءين، و نحوهما المجتمع في الأغراض الدخيلة في باب المعاملات؛ ضرورة أنّ الأغراض بحسب الطبع ملغاة، و أجنبيّة عنها صحّة

ص: 315

و لزوماً- فإنّه بلا شبهة لا يجوز التبعيض. و لا يبعد- إنصافاً شمول أخبار المسألة لمثل تلك الكثرة الفانية في الوحدة العرفيّة، فيثبت خيار العيب بالردّ أو الأرش.

و في صورة الشكّ في أنّ البيع ينحلّ أو لا- لأجل الجهات الخارجيّة فالتبعيض على خلاف الأصل، و عليه يحمل الإجماع المحكيّ عن جمع(1) على عدم مشروعيّة التبعيض. هذا ما هو الحقّ في هذه المسألة.

و أمّا توهّم: أنّ ردّ البعض دون بعض، من التصرّف و الحدث الموجب لسقوط الخيار(2)، فهو بعيد عن ساحة المتوهّم؛ لأنّ الحدث يوجد بعد الردّ أو بالردّ، فلا تغفل.

و توهّم: أنّ محطّ الخيار هل هو المجموع، أو المعيب(3)؟ فإنّه خلاف خارج عن التحقيق، و قد مرّ منّا: أنّ الخيار اعتبر للمتعاقد و البيِّع بالنسبة إلى حلّ العقد، و لا يرتبط بالعين، هذا في غير خيار العيب.

و أمّا فيه، ففي كونه من قبيل سائر الخيارات إشكال، و منعه بعضهم،


1- الخلاف 3: 110/ المسألة 180، هذه العبارة سقطت من الغنية المطبوعة في ضمن الجوامع الفقهيّة، راجع سلسلة الينابيع الفقهيّة 13: 214، جواهر الكلام 23: 248.
2- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 258/ السطر 26.
3- جواهر الكلام 23: 248.

ص: 316

و كذا لو اشترك اثنان في شراء شي ء، و كان معيباً، ليس لأحدهما ردّ حصّته خاصّة إن لم يوافقه شريكه (1)، على إشكال فيهما (2)، خصوصاً في الثاني.

و التفصيل يطلب من كتابنا الكبير(1).

قوله مدّ ظلّه: «لم يوافقه شريكه».

قد ظهر حكم المسألة ممّا مرّ في صور تعدّد المبيع و المشتري؛ بشرط أن يكون الجمع في مقام الإنشاء و البيع فقط، و كان كلّ مبيع لكلّ واحد منهما معيّناً و معلوماً، فإنّه تنحلّ الصيغة الواحدة إلى الكثير من غير لزوم الشركة.

نعم، في موارد الاشتراك كما هو مفروض المتن، فيشكل أصل ثبوت الأرش؛ لقصور في أدلّته كما أُشير إليه، و أمّا الخيار فهو ثابت، و حكم ذلك حكم الشريكين في اشتراء حيوان أو شي ء فيه الغبن، و هكذا.

قوله مدّ ظلّه: «على إشكال فيهما».

أي في كون المشتري بالخيار بين الفسخ و أخذ الأرش في المسألتين، أو في عدم كونه ذا حقّ للتبعيض، و هو المقصود؛ لما في ذيله.

و قد عرفت: أنّ صور المسألة مختلفة، و في صورة عدم الانحلال لا معنى


1- تحريرات في الفقه، كتاب الخيارات، الجانب الرابع من المسقط الرابع من مسقطات خيار العيب.

ص: 317

للتبعيض، كما لا معنى له إذا وجد عيباً في متاعه، و كان واحداً، فإنّه ليس له إلّا الردّ أو الأرش، أو الردّ بالنسبة إلى البعض، و الأرش بالنسبة إلى البعض، فهو ممنوع اتفاقاً.

و دعوى: أنّ وحدة الخيار و تعدّده، تتبع وحدة وجوب الوفاء و تعدّده، فكما أنّه يجب على كلّ واحد منهما الوفاء في الصورة الثانية، و على المشتري بالنسبة إلى كل واحد من الشيئين، فلكلّ واحد منهما الخيار، و أخذ الأرش، و هكذا له بالنسبة إلى كلّ واحد من المتاعين، غير كافية:

فأوّلًا: للزوم التبعيض في صورة كون المتاع واحداً؛ ضرورة أنّ الوفاء واجب بردّ جميع الصبْرة إلى المشتري مثلًا، فلو ردّ بعضاً منها فإنّه و إن امتثل الأمر في الجملة عرفاً، إلّا أنّه لم يفِ بما هو مقتضى العقد، و لذلك لو رضي المشتري في هذه الصورة بالبعض يقسّط الثمن، و ليس هو بيعاً على حِدة، فتأمّل جيّداً.

و ثانياً: التزموا بوحدة الخيار للعامّ المجموعيّ في بعض المواقف، و لا يلتزمون بوحدة التكليف فيه إذا رضي الطرف، مثلًا إذا باع شيئاً، و كان له الخيار فمات، قال جمع: «بأنّ الخيار للمجموع، و لو لم يكن له الخيار و امتنع بعضهم عن التسليم، فعلى الآخرين تسليمه» فاغتنم.

ص: 318

نعم، لو رضي البائع يجوز و يصحّ التبعيض في المسألتين بلا إشكال. (1) و في المسألة) إن قلت قلتات (عقليّة لا يسعها هذا المختصر(1).

قوله مدّ ظلّه: «بلا إشكال».

و ربّما يشكل؛ لأنّ الأمر بيد الشرع لا بيده، فإن كان الخيار المجعول ثابتاً، فللمشتري إعماله سواء رضي البائع أم لم يرضَ، و إن لم يكن فلا تخيير بين الفسخ و الأرش.

و أمّا المراضاة على شي ء، فهي ربّما ترجع إلى مبادلة ثانية، أو إلى الإقالة، أو المضيّ عن حقّ أو مال، و هذا أجنبيّ عن المسألة.

و لكنّه مندفع و لو كان الأرش على خلاف القواعد، كما هو الواضح.

هذا، و لو رضي البائع، و كان المشتريان شريكين في السلعة، فهل يثبت للشريك الآخر خيار؟ وجهان.

و أيضاً: هل يكون له الأخذ بالشفعة؛ بناءً على ثبوتها في مطلق الأمتعة، أو كان المتاع من قبيل ما فيه حقّ الشفعة، أم لا؟ وجهان:

من اختصاصه بالبيع و نحوه، كالوقف.

و من أنّ الردّ معاملة جديدة، أو بحكمها في المسألة، بعد قولهم بحقّ الشفعة في أشباه البيع، غير مثل جعله صداقاً أو فدية أو هبة، فتأمّل.


1- لاحظ تحريرات في الفقه، كتاب الخيارات، أحكام الخيار، المسألة الثالثة من مسائل إرث الخيار.

ص: 319

[القول في أحكام الخيار]

القول في أحكام الخيار و له أحكام مشتركة بين الجميع، و أحكام مختصّة ببعض لا يناسب هذا المختصر تفصيلها.

فمن الأحكام المشتركة: أنّه إذا مات من له الخيار انتقل (1) خياره إلى وارثه؛ من غير فرق بين أنواعه.

قوله مدّ ظلّه: «انتقل».

بلا خلاف كما عن «الرياض»(1) و هو المستظهر من «الحدائق»(2) و في «الغنية» دعوى الإجماع على خصوص خيار المجلس(3).

و في «التذكرة»: «أنّ الخيار عندنا موروث؛ لأنّه من الحقوق- كالشفعة و القِصاص في جميع أنواعه»(4).

و يظهر منه (رحمه اللَّه (أنّ المسألة اتفاقيّة بين المسلمين؛ لاستثناء الشافعيّ فقط في خصوص خيار الشرط و المجلس(5).


1- رياض المسائل 1: 527/ السطر 22.
2- الحدائق الناضرة 19: 70.
3- الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 536/ السطر 5.
4- تذكرة الفقهاء 1: 536/ السطر 39.
5- نفس المصدر.

ص: 320

و حيث إنّ المسألة عند أصحابنا مطابقة للقواعد و الكتاب و بناء العقلاء في الجملة، فلا ثمرة في الإجماع، و لا دليل على جبر النبوي المشهور: و هو أنّ «ما تركه الميّت من حقّ فلوارثه»(1).

و أيضاً: حيث إنّ مقتضى القاعدة صرف أموال الميّت في وجوه الخير، و بقاءَها في ملكه استصحاباً باطل شرعاً و عرفاً، و الإرث على خلافه، و بناءَ العقلاء غير وافٍ بجميع المطلوب، و لا سيّما في كثير من الخيارات غير الراجعة إلى جهة ماليّة، بل ربّما يتوهّم: أنّ مثل خيار المجلس و الحيوان ليسا عقلائيّين حتّى يورثا بحكمهم، فتأمّل فلا بدّ حينئذٍ من إطلاق و عموم يفي بتمام المقصود، فإن كان هناك دليل شرعيّ، يستكشف به حقّية الخيار و قابليّته للنقل؛ حسب قاعدة الملازمة بين الحكم المذكور و هاتين الجهتين عقلًا و عرفاً، كما قيل بها لكشف صحّة العقد المعاطاتيّ و غيره، بعد الاعتماد على العموم و الإطلاق المقتضيين للزوم العقد فهو، و إلّا فالأمر مشكل.

و لا يصلح للمرجعيّة هنا إلّا بعض آيات الإرث، دون عمومها، خلافاً لما


1- لم نعثر على هذه الرواية في كتب الأحاديث من العامّة و الخاصّة بعد الفحص عنها في مظانها، و لكن استدل بها صاحب الرياض. رياض المسائل 1: 527/ السطر 22.

ص: 321

في حاشية الفقيه اليزدي (رحمه اللَّه)(1) و من تلك الآيات قوله تعالى لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ ..(2) إلى آخر الآيات.

و يؤكّد إطلاقها قوله تعالى مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ(3).

و من المتروكات حقوق هي له، و المراد من «القلّة» و «الكثرة» أعمّ من كونه قابلًا بشخصه للتقليل و التكثير، أو غير قابل بشخصه، و لكنّه قابل بنوعه فليتدبّر.

و فيه:- مضافاً إلى قصورها عن شمول الأطفال و الصغار، بل الخناثى إذا كنّ طبقة ثالثة أنّه يلزم التخصيص الكثير، أو التخصيصات المستهجنة؛ لخروج كثير من الحقوق و جميع الأحكام المتروكة على أيّة حالة، و الرجوع إلى فهم العرف من الآية معنىً أخصَّ، يرجع إلى حصر الآية بما عليه بناؤهم، فلا يثبت لها الإطلاق الصالح للمرجعيّة عند الشكّ.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ الخيارات التي فيها الحظّ و النصيب، تورث بحكم العقلاء و إمضاء الآية، و ما ليس فيها الحظوظ و الخيرات فلا تورث، و هذا التفصيل قريب جدّاً. و المراد من «النصيب» و «الحظّ» أعمّ من كونه


1- حاشية المكاسب، السيّد اليزدي 2: 142/ السطر 27 28.
2- النساء( 4): 7.
3- نفس المصدر.

ص: 322

سبباً لإرجاع العين، أو كان يبذل بإزاء الإسقاط أو الأعمال شي ء، كخيار الزوجة على الأراضي مثلًا، أو خيار غير الولد الأكبر في مورد الحبوة، و كخيار الأجنبيّ، فليلاحظ جيّداً.

و أمّا المشاكل الثبوتيّة في إرث الحقوق مطلقاً، أو في بعض الصور، كما يأتي في المسألة الأُولى(1)، فهي مندفعة بتفصيل في كتابنا الكبير(2).

و قد تبيّن في هذه الوجيزة: أنّ موضوع الحقّ هو ذو الخيار، و طرفه هو العقد، و ليس العقد متزلزلًا في زمان الخيار، و لا الملكيّة متزلزلة زائداً على معنى إمكان حلّه بمثل الإقالة، فلا مشكلة في البين؛ ضرورة أنّه لو مات الرجل و كان له دين، ينتقل إلى الورثة و لا يفوت، كذلك الحقّ المذكور، فليس متقوّماً به كي يتوهّم امتناع نقله؛ لأنّه عين الإضافة الفائتة بارتحال الرجل و موته.

بل الحقوق كالأموال طرف إضافة الملكيّة، و كالكلّيات الذميّة، و ليس الحقّ مقابل الملكيّة، فاغتنم.


1- يأتي في الصفحة 326.
2- تحريرات في الفقه، كتاب الخيارات، أحكام الخيار، حول مشاكل إرث الحقوق.

ص: 323

و ما هو المانع عن إرث الأموال- لنقصان في الوارث، كالقتل و الكفر مانع عن هذا (1) الإرث أيضاً. كما أنّ ما يحجب به حجب حرمان و هو وجود الأقرب إلى الميّت يحجب به هنا أيضاً. و لو كان الخيار متعلّقاً بمال خاصّ (2) يحرم عنه بعض الورثة- كالأرض بالنسبة إلى الزوجة، و الحبوة بالنسبة إلى غير الولد الأكبر قوله مدّ ظلّه: «مانع عن هذا».

تحتاج هذه المسألة إلى إطلاق في المانعيّة، و هكذا في الثانية، و الصورة الثانية و إن كانت قريبة جدّاً، بل ربّما يصحّ عدّها من الضروريّات في الفقه، و لكنّ الاولى غير واضحة تطلب من كتاب الإرث.

قوله مدّ ظلّه: «متعلّقاً بمال خاصّ».

هذا خلاف التحقيق؛ فإنّ العقد ليس متعلّقاً بالمال، فضلًا عن الخيار؛ ضرورة بقاء العقد في الاعتبار عند تلف العين، بل العقد له العمل الخاصّ؛ و هو نقل العين، و ليس معنىً لتعلّقه بها زائداً عليه، و الخيار له العمل الخاصّ، و هو هدم العقد الذي عمل عمل النقل مثلًا.

فالحرمان من العين، لا يقتضي الحرمان من العقد بحرمانه من حقّ الخيار الذي يعدّ خطأ أو مسامحة عرفاً، متعلّقاً بوجه بالعقد، و إلّا فهو في الحقيقة غير متعلّق به؛ لامتناع كونه معدماً له، بل الخيار اعتبار وضعيّ ثابت للعاقد، و يستتبع تمكّنه من حلّ العقد.

ص: 324

فلا يحرم (1) ذلك الوارثَ عن الخيار المتعلّق به مطلقاً.

قوله مدّ ظلّه: «فلا يحرم».

على الخلاف.

و ثالث الأقوال: هو التفصيل بين كون ما يحرم الوارث عنه نقلًا إلى الميّت، أو عنه، فيرث في الأوّل، و هو المحكيّ عن الفخر(1) و الشهيد(2) و السيّد العميد(3).

و رابعها: عدم الجواز في تلك الصورة، و الإشكال في غيرها، كما هو المحكيّ عن صريح «جامع المقاصد»(4).

و في كلام الشيخ (رحمه اللَّه): «و لم أجد من جزم بعدم الإرث مطلقاً»(5).

و غير خفيّ: أنّ ثبوت الخيار للمحروم عن الأراضي و الحبوة، يستتبع تمكّنه من إرث المال على كلّ تقدير؛ لأنّه لو انتقل إليه ففسخ، يردّ إليه الثمن فيورَّث، و إن انتقل عنه فيسقط الخيار كي يرث من ثمنه.

اللهمّ إلّا في بعض الصور؛ و هو موارد المعاوضة بين الأراضي و الحبوات، و في بعض الوجوه الأُخر، فتدبّر.


1- إيضاح الفوائد 1: 487.
2- مفتاح الكرامة 4: 590/ 13.
3- نفس المصدر.
4- جامع المقاصد 4: 306.
5- المكاسب، الشيخ الأنصاري: 290/ السطر 31.

ص: 325

و لأحد المنع، لا لأجل بعض الوجوه الاعتباريّة التسويليّة، بل لدعوى قصور أدلّة التورّث أو انصرافها عن مثل المقام؛ سواء قلنا: بأنّ التورّث هي نيابة الوارث مقام المورِّث في مقدار يرثه، أو قلنا: إنّ الموت سبب التورّث، كسببيّة البيع، فيكون نقل منه إليه به.

ص: 326

[مسألة 1: لا إشكال فيما إذا كان الوارث واحداً، و لو تعدّد فالأقوى أنّ الخيار للمجموع]

مسألة 1: لا إشكال فيما إذا كان الوارث واحداً، و لو تعدّد فالأقوى أنّ الخيار للمجموع (1)؛ بحيث لا أثر لفسخ بعضهم بدون ضمّ فسخ الباقين؛ لا في تمام البيع، و لا في حصّته.

قوله مدّ ظلّه: «للمجموع».

وفاقاً لجماعة ك «القواعد»(1) و ابنه «الإيضاح»(2) و «الدروس»(3) و «المسالك»(4) و لعلّه المعروف بين القائلين بتورّث الحقّ، خلافاً للعلّامة الخراسانيّ (رحمه اللَّه)(5).

و ربّما يشكل هنا من جهة لزوم تجزئة البسيط؛ لو كان لكلّ واحد حصّة، و لو كان للمجموع بما هو هو وجود اعتباري، فهو منصرفة عنه أدلّة الإرث.

و يمكن دفع التجزئة: بأنّ التكثير الخارجيّ ممنوع، و الاعتباريَّ جائز، و هو كافٍ.

اللهمّ إلّا أن يقال: لا بدّ في الاعتباري من الغرض الشخصيّ، أو النوعيّ الفعليّ، أو التقديري، و حيث لا أثر- كما يأتي لفسخ أحدهم بدون ضمّ الآخر، فلا وجه لاعتبار الكثرة.


1- قواعد الأحكام 1: 143/ السطر 23.
2- إيضاح الفوائد 1: 487.
3- الدروس الشرعيّة 3: 285.
4- مسالك الأفهام 1: 154/ 41.
5- حاشية المكاسب، المحقّق الخراساني: 254.

ص: 327

و فيه: أنّ الصلح عليه في هذه الصورة جائز ظاهراً، مع أنّ لكلّ ذي حقٍّ الإعراضَ عن حقّه، فلو كان لعنوان واحد- و هو المجموع بما هو مجموع فلا يصحّ إعراضه شخصاً، بخلاف ما إذا كان بنحو التجزئة في نفس التورّث؛ و إن لم يكن أثر في فسخه على الإطلاق، كما يأتي إن شاء اللَّه تعالى.

و دعوى: أنّه في صورة الإعراض يلزم عدم ترتّب الأثر على فسخ الباقين، فيكون حقّهم بإعراضه لا حقّ، غير واضحة. بل خروجه عن المجموع، لا يضرّ بكون الباقين متلقّين حقّهم، كما في الإعراض عن حقّ التحجير.

هذا مع أنّ صيرورتهم بلا حقّ غير ممنوعة؛ بعد كون الانضمام دخيلًا في تأثير فسخ الكلّ، و امتناع لغويّة التجزئة ممنوع ثبوتاً؛ لأنّ اللغويّة في أصل الخطاب و الجعل هي الممنوعة عقلًا، لا في الإطلاق كما تحرّر.

و يحتمل أن يقيّد إطلاق دليل صحّة إعراضه بنفي الضرر، كما في موارد أُخر.

فكونه إرثاً للمجموع بما هو مجموع، أو لصِرْف الوجود، أو على نعت العموم الاستغراقيّ، بلا وجه، بل هو كسائر أملاكه يقسّط، إلّا أنّه لا أثر له إلّا بالانضمام، كما في تورّث المصراعين من باب واحد و أمثاله، فافهم و تأمّل.

ص: 328

[مسألة 2: لو اجتمع الورثة على الفسخ فيما باعه مورّثهم]

مسألة 2: لو اجتمع الورثة على الفسخ فيما باعه مورّثهم، فإن كان عين الثمن موجوداً، دفعوه (1) إلى المشتري، و إن لم يكن موجوداً أُخرج (2) من مال الميّت. و لو لم يكن له مال، ففي كونه على الميّت، و اشتغال ذمّته به، فيجب تفريغها بالمبيع المردود إليه، فإن بقي شي ء يكون للورثة، قوله مدّ ظلّه: «دفعوه».

في صورة كون الثمن من الأمتعة، أو ما له الخصوصيّة العقلائيّة. و أمّا النقود و لا سيّما) الإسكناس (فالأظهر عدم لزوم ردّ العين حتّى في صورة الاستدعاء و الطلب، و لا ينبغي ترك الاحتياط.

قوله مدّ ظلّه: «أُخرج».

من مال الميّت بعلاقة سابقة، و إلّا فالمتروكات للورثة، و لا مال له بمجرّد الموت، و الفسخ من الحين حسب المفروض، و يدخل المبيع في كيسهم. و كون العقد ممّا تسبّب به الميّت في نقل العين، لا يورث شيئاً إلّا الخيار المنتقل إلى الورثة، فإذا فسخوه يقع التبادل الرجعيّ بين العين و الثمن؛ من غير دخالة وحدة المخرج و المدخل.

بل المحرز عندنا جواز أن يشتري صديق لصديقه شيئاً؛ على وجه ينتقل المبيع من الابتداء إلى ملك الصديق المشترى له، و يخرج الثمن من كيس المشتري، و ما هو المشهور غير تامّ جدّاً، و إلّا يلزم دخول العين بعد الفسخ في ملك الميّت، و لا معنى لتورثّه؛ لأنّه مخصوص بما هو

ص: 329

و إن لم يفِ بتفريغ ما عليه يبقى الباقي في ذمّته، أو كونه على الورثة كلّ بقدر حصّته، وجهان أوجههما أوّلهما. (1) متروكه حين موته. و أمّا في المورد الخاصّ كالدية، فهو للنصّ.

و هذا الذي أُشير إليه، أحد الإشكالات على تورّث حقّ الخيار المحرّر تفصيله في كتابنا الكبير.

قوله مدّ ظلّه: «أوجههما أوّلهما».

بل الأوجه هو الثاني، و قد أُشير إلى وجه أوجهيّة الأوّل الراجع إلى إنكار تورّث العين بعد الفسخ؛ و صرفها في خيرات الميّت، و حيث إنّه ظاهر الفساد؛ لتعارف خلافه، و ضرورةِ رجوع العين من الابتداء إلى الورثة، يجب عليهم ردّ العوض.

نعم، إذا لم يكن لهم ما يفي بالعوض، و لم تكن لهم الذمّة، أو كانت محكومة بالحجْر على وجه لا يفي بديته بالنسبة إلى الطرف، يمكن دعوى عدم نفوذ فسخه؛ لكونه ضرريّاً، فتأمّل.

بل لو لم يكن في إعمال خياره إلّا انتقال العين إليه، و هي تعادل دينه بالنسبة إلى العوض، فترجع شخصاً إليه، أو عليه بيعها و ردّ الثمن إليه، ففي تورّث الخيار مناقشة علميّة و عقلائيّة، و تكفي الثانية و إن لم تتمّ الاولى.

قد فرغنا أيّام تسفير الحوزة، يوم السبت) 1396 (النجف الأشرف.

ص: 330

ص: 331

[كتاب النكاح]

اشارة

كتاب النكاح

ص: 332

ص: 333

[أحكام الوطء]

[مسألة 11: المشهور الأقوى جواز وطء الزوجة دبراً]

مسألة 11: المشهور الأقوى جواز (1) وطء الزوجة دبراً قوله مدّ ظلّه: «المشهور الأقوى جواز».

بل عن «الانتصار» و «الخلاف» و «الغنية» و «السرائر» حكاية الإجماع عليه(1).

و عن «كشف اللثام» عن القمّيين، و ابن حمزة، و الشيخ أبى الفتوح الرازي، و الراوندي في «اللباب» و السيّد أبي المكارم(2)، و عن بعض آخر(3)، حكاية التحريم.

و لعل إجماع كتب الثلاثة الأوائل و لا سيّما «الخلاف» و «الغنية» غير الإجماع المصطلح عليه كما تحرّر(4)، فالشهرة قابلة للمنع، فضلًا عن


1- الإنتصار: 125، الخلاف 4: 338، الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 550/ السطر 28، السرائر 2: 606.
2- كشف اللثام 2: 54/ السطر 6.
3- لاحظ كشف الرموز 2: 105.
4- تحريرات في الأُصول 6: 364.

ص: 334

الإجماع. و المسألة لكونها روائيّة، لا تحتاج إلى شي ء ممّا ذكر.

نعم، هو المشهور بين المتأخرين(1)، و عليه النصوص الكثيرة(2)، و فيها معتبر علي بن الحكم قال: سمعت صفوان يقول: قلت للرضا (عليه السّلام) إنّ رجلًا من مواليك أمرني أن أسألك عن مسألة، فهابك و استحيا منك أن يسألك.

فقال (عليه السّلام) «ما هي؟».

قال قلت: الرجل يأتي امرأته في دبرها؟

قال: «نعم، ذلك له».

قلت: و أنت تفعل ذلك؟

قال (عليه السّلام): «لا إنّا لا نفعل ذلك»(3).

مضافاً إلى إطلاق الآيتين فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ(4)، و قوله تعالى نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ(5).


1- شرائع الإسلام 2: 214، جامع المقاصد 12: 497، الروضة البهيّة 2: 55/ السطر 7، جواهر الكلام 29: 107.
2- وسائل الشيعة 20: 145، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 73.
3- تهذيب الأحكام 7: 415/ 1663، وسائل الشيعة 20: 145، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 73، الحديث 1.
4- البقرة( 2): 222.
5- البقرة( 2): 223.

ص: 335

و الاستدلال بالأُولى يتمّ بالثانية، كما لا يخفى.

و المناقشة في الثانية؛ باختصاصها بالقُبُل؛ لأنّه «الحرث»(1) متأيّدة بما في معتبر معمّر بن خلّاد قال: قال لي أبو الحسن) عليه السّلام): «أي شي ء يقولون في إتيان النساء في أعجازهنّ؟».

قلت: إنّه بلغني أنّ أهل المدينة، لا يرون به بأساً.

فقال: «إنّ اليهود كانت تقول: إذا أتى الرجل المرأة من خلفها، خرج ولده أحول، فأنزل اللَّه عزّ و جل نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ؛ من خلف أو قدّام، خلافاً لقول اليهود، و لم يعنِ: في أدبارهنّ»(2).

و بغيره ممّا ورد في تفسيرها(3).

و في الاولى بخبر ابن أبي يعفور الآتي، لا يوجب المنع و التحريم عقلًا؛ لإمكان التحليل بغير الآية.

نعم، فيه اشتراط الجواز بالرضا، قال: سألت أبا عبد اللَّه) عليه السّلام (عن الرجل يأتي المرأة في دبرها.


1- لاحظ السرائر 2: 606، مسالك الأفهام 7: 61.
2- تهذيب الأحكام 7: 415/ 1660، وسائل الشيعة 20: 145، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 72، الحديث 1.
3- وسائل الشيعة 20: 143، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 72، الحديث 6 10.

ص: 336

قال: «لا بأس إذا رضيت».

قلت: فأين قول اللَّه عزّ و جلّ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ؟! قال: «هذا في طلب الولد، فاطلبوا الولد من حيث أمركم اللَّه؛ إنّ اللَّه تعالى يقول نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ»(1).

و ربّما به يجمع بين شتات المآشير، و اختلاف الآيات؛ من حيث التفسير(2). و لو لا مخافة المخالفة، كان القول المزبور قويّاً حسب الصناعة.

و ربّما يظهر من بعض الأخبار- كمرسل الصدوق و نحوه التفصيل بين نساء الأُمّة و غيرهن؛ و يختصّ الحرمة بالأُولى: قال محمَّد بن علىّ بن الحسين: قال رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم): «محاشّ نساء أُمّتي على رجال أُمّتي حرام»(3).

و بالجملة: قضيّة الأصل حرمة الوطء، إلا إذا قلنا: بأنّ جوازه- كجواز الوطء من القبل من مقتضيات العقد عرفاً، و لا يحتاج إلى الدليل الخاصّ. و لكنه مشكل، بل الظاهر خلافه فتأمّل.


1- تهذيب الأحكام 7: 414/ 1657، وسائل الشيعة 20: 146، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 73، الحديث 2.
2- لاحظ جواهر الكلام 29: 108.
3- الفقيه 3: 299/ 1430، وسائل الشيعة 20: 143، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 72، الحديث 5.

ص: 337

على كراهة شديدة (1)، و الأحوط تركه، خصوصاً مع عدم رضاها.

قوله مدّ ظلّه: «على كراهة شديدة».

حملًا للنواهي الواردة(1) عليها؛ لأجل نصوص الجواز(2).

و في «التذكرة»: «ذهب علماؤنا إلى كراهة إتيان النساء في أدبارهنّ»(3).

و يمكن المناقشة في الكراهة: بأنّ الأدلّة المانعة ربّما تكون ظاهرة في الحرمة؛ لاشتمالها على كلمة «الحرمة»(4) فتكون هي معرضاً عنها. مع أنّ المحكيّ عن الشيخ (رحمه اللَّه): «أنّ أحداً من العامّة لا يجيز ذلك»(5) فتكون الأخبار المانعة محمولة على التقيّة، و لو أمكن الجمع العرفي.

هذا، و لنا إنكار الكراهة مع رضاها؛ فإنّ في مرسل أبان، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: «هي لعبتك، فلا تؤذِها»(6).

و أمّا ما اشتهر بين أهل العصر، و عن الأطباء الحاذقين؛ من الضرر الكثير المؤدّي إلى اختلال نظام البدن و مزاجه، فهو مضافاً إلى عدم


1- وسائل الشيعة 20: 141، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 72.
2- وسائل الشيعة 20: 145، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 73.
3- تذكرة الفقهاء 2: 576/ السطر 34.
4- وسائل الشيعة 20: 142 143، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 72، الحديث 2 و 5.
5- الاستبصار 3: 244.
6- الكافي 5: 540/ 1، وسائل الشيعة 20: 143، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 72، الحديث 4.

ص: 338

ثبوته غير مستوعب بالنسبة إلى جميع الأشخاص، و إلى جميع الأحوال، فلا وجه للمنع الكلّي.

نعم، لو ثبت في مورد فنحكم بحرمته؛ نظراً إلى ما اشتهر بينهم: من حرمة المضرّ، و هذا لا يخصّ بالدبر كما لا يخفى.

ص: 339

[مسألة 12: لا يجوز وطء الزوجة قبل إكمال تسع سنين]

مسألة 12: لا يجوز (1) وطء الزوجة قبل إكمال تسع سنين، قوله مدّ ظلّه: «لا يجوز».

حسب النصوص(1)، و الإجماعات المنقولة(2). و في معتبر الحلبي، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: «إذا تزوّج الرجل الجارية و هي صغيرة، فلا يدخل بها حتّى يأتي لها تسع سنين»(3).

و أمّا التخيير الوارد في طائفة منها بين التسع و العشر(4)، فربّما يكون شاهداً على أنّ الحكم مبنيّ على الكراهة. و حملها على استحباب التأخير إلى العشر(5)، خلاف الظاهر من التخيير كما ترى.

و يؤيّد الكراهة، اشتمال طائفة أُخرى على ضمان الزوج(6)، و منها


1- وسائل الشيعة 20: 101، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 45.
2- مسالك الأفهام 7: 67، كشف اللّثام 2: 54/ السطر 30، جواهر الكلام 29: 414، رياض المسائل 2: 76/ السطر 11.
3- الكافي 5: 398/ 2، وسائل الشيعة 20: 101، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 45، الحديث 1.
4- الكافي 5: 398/ 1 و 3، وسائل الشيعة 20: 101 102، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 45، الحديث 2 و 4.
5- لاحظ وسائل الشيعة 20: 103، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 45، ذيل الحديث 7، جواهر الكلام 29: 414، مستمسك العروة الوثقى 14: 79.
6- وسائل الشيعة 20: 103، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 45، الحديث 5 8.

ص: 340

معتبر حمّاد، عن الحلبيّ، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: «من وطأ امرأتَهُ قبل تسع سنين، فأصابها عيب، فهو ضامن»(1).

و من الممكن التمسّك بهذه الطائفة من الأخبار على جواز الوطء دبراً؛ لظهور قوله (عليه السّلام): «حتى يأتي لها تسع سنين» في جواز الدخول بها مطلقاً، و إن كان إطلاقه ممنوعاً فتدبر.

و أمّا ما ورد في هذا الباب، عن غياث بن إبراهيم، عن عليّ (عليه السّلام) قال: «لا توطأ جارية لأقلّ من عشر سنين، فإن فعل فعيبت فقد ضمن»(2).

فهو أيضاً يؤيّد ما أبدعناه، و إلّا فلهم المناقشة فيه سنداً و دلالة؛ بحمله على الاستحباب، أو على أنّ المراد ابتداء العشر، فيكون الشرط- بناءً على هذا كونها بالغة، و كان الحكم من متفرعات حدّ البلوغ، كما لا يخفى.

و أمّا ما اشتهر من بعض أبناء العصر: من المناقشة في ضرب هذا القانون؛ و أنّه من المختصّات ببعض الأقطار العربيّة؛ لامتناع الصبايا و الفتيات عنه نوعاً، لضعف رشدهنّ، و يكون ذلك إضراراً بحقّهن، فهو مندفع: بأنّ الأمر مفوّض إليهنّ و إلى أوليائهنّ بعد الإكمال، و ليس فيه الإلزام


1- تهذيب الأحكام 7: 410/ 1638، وسائل الشيعة 20: 103، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 45، الحديث 5.
2- تهذيب الأحكام 7: 410/ 1640، وسائل الشيعة 20: 103، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 45، الحديث 7.

ص: 341

و الإيجاب. هذا مع إمكان انجبار ضعفهنّ بذلك، كما شوهد.

ثمّ إنّه ربّما يشكل الحكم؛ من أجل ما في «المنجد»: من أنّ «الجارية هي الأمة»(1) و ينحلّ بما في «الأقرب» من أنّها الفتيّة(2). و لا يبعد عموميّتها جدّاً على ما في بعض أخبار المسألة؛ من أخذ عنوان «المرأة»(3) كمعتبر حمّاد، عن الحلبيّ(4).

كما ربّما يمنع إطلاق الحكم بالنسبة إلى المدخول بها قبل الإكمال و شبهها؛ بدعوى الانصراف أوّلًا.

و بما في خبر طلحة بن زيد، عن عليّ (عليه السّلام) قال: «من تزوّج بكراً، فدخل بها في أقلّ من تسع سنين، فعيبت ضمن»(5).

و في معتبر حُمران، عن أبي عبد اللَّه) عليه السّلام (قال: سُئل عن رجل تزوّج


1- المنجد: 88.
2- أقرب الموارد 1: 119.
3- وسائل الشيعة 20: 102 103، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 45، الحديث 3 و 5 و 8.
4- تهذيب الأحكام 7: 410/ 1638، وسائل الشيعة 20: 103، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 45، الحديث 5.
5- تهذيب الأحكام 7: 410/ 1639، وسائل الشيعة 20: 103، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 45، الحديث 6.

ص: 342

دواماً كان النكاح، أو منقطعاً (1).

جارية بكراً لم تدرك ..(1) إلى آخره، فكأنّ الحكم كان مغروساً في خصوص غيرهنّ ثانياً و بأنّ الحكم كان بلحاظ ما يترتّب عليه من الفساد ثالثاً، فليتأمل جيّداً.

قوله مدّ ظلّه: «دواماً كان النكاح أو ..».

حسب إطلاق معاقد الإجماعات السابقة، و قيل: «في خصوصه الإجماع بقسميه»(2).

و لكنّ ذلك غير ظاهر عندي، و هو مقتضى إطلاق النصوص المشار إليها.

اللهمَّ إلّا أن يقال: بأنّ الأظهر منها كونها ناظرة إلى الدائمة؛ لما فيها من أقوالهم (عليهم السّلام): «حتّى يأتي لها تسع» فإنّه يومئ إلى طول المدّة، و هو خلاف المتعاهد، و لا سيّما في الصغيرة، بل متعة الصغيرة لأجل الاستمتاع، نادر جدّاً.

نعم، لا قصور في شمول الأدلّة لها من جهة الحكم الوضعيّ و الضمان، الآتي بتفصيل(3) إن شاء اللَّه تعالى، و لا منع من التفكيك جدّاً.


1- الفقيه 3: 272/ 1294، وسائل الشيعة 20: 103، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 45، الحديث 9.
2- جواهر الكلام 29: 414.
3- يأتي في الصفحة 357.

ص: 343

و أمّا سائر الاستمتاعات كاللّمس بشهوة، و الضمّ، و التفخيذ فلا بأس بها (1) حتّى في الرضيعة.

قوله دام ظلّه: «فلا بأس بها».

خلافاً للأصل، و وفاقاً لمقتضى العقد.

و لو استشكل في اقتضائه: بأنّ القدر المسلّم منه جواز الدخول قبلًا و التقبيل و الضمّ، دون مثل التفخيذ و نحوه، فيكون المعوّل استصحاب الحرمة الثابتة قبله.

هذا، و للمنع عنه مجال؛ لأجل الأخبار المانعة عن الاستمناء، الدالّة بإطلاقها على حرمته، و منها مرسلة علاء بن رزين، عن رجل، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: سألت عن الخضخضة.

فقال: «هي من الفواحش، و نكاح الأمة خير منه»(1) و خبر إسحاق بن عمّار(2) فراجع.

و لأجل ما ورد من الآثار السيّئة المترتّبة على الزنا و نحوه(3).

و بالجملة: و إن أمكن المناقشة في كلّ ذلك، و لكن جواز بعض


1- الكافي 5: 540/ 1، وسائل الشيعة 20: 353، كتاب النكاح، أبواب النكاح المحرّم و ما يناسبه، الباب 28، الحديث 5.
2- الكافي 7: 262/ 12، وسائل الشيعة 20: 352، كتاب النكاح، أبواب النكاح المحرّم و ما يناسبه، الباب 28، الحديث 4.
3- وسائل الشيعة 20: 307، كتاب النكاح، أبواب النكاح المحرّم و ما يناسبه، الباب 1.

ص: 344

و لو وطأها قبل التسع و لم يفضِها، لم يترتّب عليه شي ء غير الإثم (1) على الأقوى.

الاستمتاعات غير المتعارفة، الخارجة عن اقتضاء العقد، محتاج إلى الدليل المرخّص.

قوله دام ظلّه: «لم يترتّب عليه شي ء غير الإثم».

أمّا الإثم، فقد مضى في أوّل المسألة.

و أمّا غيره، فقد نسب(1) إلى «المقنعة»(2) و «النهاية»(3) بل و ابن إدريس(4)، حرمتها عليه أيضاً، و لعلّه مستند إلى بعض ما عندهما، أو إلى مرسل يعقوب بن يزيد، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللَّه) عليه السّلام (قال: «إذا خطب الرجل المرأة، فدخل بها قبل أن تبلغ تسع سنين، فرّق بينهما، و لم


1- جواهر الكلام 29: 418.
2- لم نعثر عليه في المقنعة بل يظهر منه الحكم في صورة الإفضاء كما في باب ضمان النفوس من أبواب القضايا و الأحكام من المقنعة: 747، فلعلّ النسبة غير ثابتة كما يظهر من جواهر الكلام 29: 418.
3- لاحظ النهاية، الشيخ الطوسي: 453، و لكن قيّده بالتعيّب في الصفحة 481. ذكر السيّد علي و في رياض المسائل 2: 76/ السطر 16:« أنّ الشيخ رجع عن الإطلاق في النهاية إلى التقييد في الإستبصار كما في المهذّب» لاحظ الإستبصار 4: 294 ذيل الحديث 1111 و المهذّب البارع 3: 210.
4- السرائر 2: 530.

ص: 345

تحلّ له أبداً»(1).

و الإشكال عليه: «بأنّه- مضافاً إلى ضعف السند، و شموله لصورة عدم الإفضاء يدلّ على انتفاء الزوجيّة بمجرّد الوطء، على خلاف النصوص الآتية»(2)(3) انتهى، في غير محلّه؛ لذهاب «النهاية» المعدّة للأصول المتلقّاة إليه(4).

و لأنّ الإرسال عن بعض أصحابنا لا يضرّ؛ لظهور الجملة في أنّه من الفقهاء أو الثقات.

و لأنّها لا تدلّ على حصول الفراق قهراً، بل ظاهرها وجوب التفريق.

و أمّا شمولها لصورة عدم الإفضاء، فهو ليس وهناً بعد ذهاب العلمين إليه، و لا سيّما فيهما، مع عدم دعوى الإجماع على المسألة.

و بالجملة: عدم الحرمة مقتضى الأصل، و الحرمة مستندة إلى مثله.


1- الكافي 5: 429/ 12، وسائل الشيعة 20: 494، كتاب النكاح، أبواب ما يحرم بالمصاهرة و نحوها، الباب 34، الحديث 2.
2- وسائل الشيعة 20: 493 494 كتاب النكاح، أبواب ما يحرم بالمصاهرة و نحوها الباب 34، الحديث 1 و 3.
3- مستمسك العروة الوثقى 14: 81.
4- النهاية للشيخ الطوسي: 453.

ص: 346

و إن أفضاها- بأن جعل مسلكي (1) البول و الحيض واحداً، أو مسلكي الحيض و الغائط واحداً و توهّم معارضته(1) مع الخبرين الآتيين(2)، في غير محلّه كما يأتي.

و لأجل ذلك احتاط الأُستاذ البروجردي (قدِّس سرُّه) في المسألة(3) و ما يتراءى من استشمام الإجماع على عدم الحرمة في صورة عدم الإفضاء(4)، في غير محلّه أيضاً.

كما أنّ توهّم انجبار ضعف المرسل بعمل المشهور به(5)، في غير محلّه كما لا يخفى.

و على كلّ حال: تحتاج المسألة إلى مزيد تأمّل، و سيظهر بعضه.

قوله دام ظلّه: «بأن جعل مسلكي ..».

اختلفت كلماتهم في حقيقة «الإفضاء»(6) بعد معلوميّة المراد منه في


1- جواهر الكلام 29: 418، مستمسك العروة الوثقى 14: 81.
2- هما خبرا حمران و بريد بن معاوية، راجع وسائل الشيعة 14: 380 كتاب النكاح، أبواب ما يحرم بالمصاهرة و نحوها، الباب 34، الحديث 1 و 3.
3- العروة الوثقى: 695 كتاب النكاح، الفصل الثاني، المسألة 2،) المطبوع في سنة 1373 ق مع تعليقة المحقّق البروجردي).
4- مستمسك العروة الوثقى 14: 82.
5- جواهر الكلام 29: 418.
6- جواهر الكلام 29: 419.

ص: 347

الروايات؛ و هو الخلل الواقع بالمقاربة و الجماع في المجاري و المسالك، من غير أن تكون المقاربة بالدخول في القبل أو الدبر. اللهمّ إلّا أن يقال: بعدم معلوميّة الإطلاق في النصوص من هذه الجهة.

و ذلك الخلل هو أن تتداخل المجاري، سواء كان ذلك بالاتحاد، كما يتّفق نوعاً بين مسلكي البول و الحيض، أو بالتثقيب، كما يتّفق بين مسلكي الغائط و الحيض.

و أمّا إمكان الاتفاق بين مسلكي البول و الغائط، دون الحيض، فهو منفيّ في محلّه.

نعم، ربّما يتّفق اتحاد المسلكين في القدّام، و تجعل الثقبة بينه و بين الدبر.

و على كلّ حال: ما هو موضوع الحكم، مورد الخلاف جدّاً، و الخروج عنه بتعيين الواحد منها، في نهاية الإعضال، و يحتاج إلى الخرص و التخمين المنهي عنه.

نعم، القدر المتيقّن هي الصورة الأُولى، و هي المتعارفة إمكاناً. و يمكن إلحاق الثانية بها لغةً أوّلًا، و حكماً بالأولويّة ثانياً، كما يمكن دعوى أنّ المناط ما في معتبر حُمران الآتي، حيث قال) عليه السّلام): «قد أفسدها و عطّلها

ص: 348

حرم عليه (1) وطؤها أبداً، على الأزواج ..»(1) إلى آخره، و هذا الأمر في الثانية أولى من الاولى.

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ المقصود هو الإفساد التشريعي؛ لقوله (عليه السّلام): «فعلى الإمام أن يغرمه ديتها ..» إلى آخره، و كون «الإفضاء» بمعنى الجماع- كما في «القاموس»(2) و نحوه(3) غير جيّد.

نعم، لا يبعد أن يكون بمعنى الانتهاء، و منه قوله تعالى وَ قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ(4) فراجع.

قوله دام ظلّه: «حرم عليه».

على المشهور، و عليه حكاية الإجماعات المنقولة عن «الإيضاح»(5) و «التنقيح»(6) و «غاية المرام»(7) و أمثالها(8)، و هو المستظهر من


1- الفقيه 3: 272/ 1294، وسائل الشيعة 20: 103، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 45، الحديث 9، و: 493، أبواب ما يحرم بالمصاهرة و نحوها، الباب 34، الحديث 1.
2- القاموس المحيط 4: 376.
3- المصباح المنير: 572.
4- النساء( 4): 21.
5- إيضاح الفوائد 3: 76.
6- التنقيح الرائع 3: 26.
7- جواهر الكلام 29: 416، مستمسك العروة الوثقى 14: 80.
8- مسالك الأفهام 7: 67، الحدائق الناضرة 23: 91.

ص: 349

«السرائر»(1) أيضاً.

و يمكن أن يستدلّ له بمعتبر حُمران، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: سئل عن رجل تزوّج جارية بكراً لم تدرك، فلمّا دخل بها اقتضّها فأفضاها.

فقال: «إن كان دخل بها حين دخل بها و لها تسع سنين، فلا شي ء عليه، و إن كانت لم تبلغ تسع سنين، أو كان لها أقلّ من ذلك بقليل حين دخل بها فاقتضّها، فإنّه قد أفسدها و عطّلها على الأزواج، فعلى الإمام أن يغرمه ديتها، و إن أمسكها، و لم يطلّقها حتّى تموت، فلا شي ء عليه»(2).

و ذلك لمكان قوله (عليه السّلام) «فإنّه قد أفسدها» فإنّه الظاهر في التحريم، و المفروغ عنه أنّها تكون لغيره، و لكنّها معطّلة عليه؛ لمكان الإفضاء، و حيث أنّ الحرمة الأبديّة مستندة إلى الشرع، فعلى الإمام غرامة ذلك، دون الزوج.

و المراد من «الإمساك و عدم الطلاق» هو إبقاؤها في بيته بتحمّل نفقتها، فلا شي ء على الإمام من التغريم.

و أمّا خبر بريد بن معاوية، عن أبي جعفر (عليه السّلام): في رجل اقتضّ جارية- يعني امرأته فأفضاها. قال) عليه السّلام): عليه الدية، إن كان دخل بها قبل أن تبلغ


1- السرائر 2: 531.
2- تقدّم في الصفحة 348، الهامش 1.

ص: 350

تسع سنين». قال: «و إن أمسكها و لم يطلّقها، فلا شي ء عليه ..»(1) الحديث، فهو لا ينافي سابقه؛ لما أنّ عهدة الأداء على الإمام. مع ما في سنده من الإهمال؛ لوجود الحارث بن محمّد بن النعمان صاحب الطاق(2).

و أمّا ما عن «الجواهر»: من الاستدلال له(3) بخبر يعقوب بن يزيد(4) الماضي، فهو في غير محلّه كما ترى. و أغرب منه توهّم انجباره بالإجماع على أمر مقيّد(5).

و ربّما يشكل الأمر في أصل الحكم؛ لضعف الاستدلال المزبور، و لعدم تماميّة الإجماعات المحكيّة الموجودة في الكتب الأخيرة، و لظهور الروايتين- بناءً على ما فهمه المشهور في بقاء الزوجيّة، و هي تنافي التحريم الأبدي؛ لعدم مساعدة الاعتبار.


1- الكافي 7: 314/ 18، وسائل الشيعة 20: 494، كتاب النكاح، أبواب ما يحرم بالمصاهرة و نحوها، الباب 34، الحديث 3.
2- حيث لم يرد في حقّه مدح أو ذمّ في كتب الرجال، راجع رجال النجاشي: 140/ 363، رجال الطوسي: 179، باب الحاء من أصحاب الإمام الصادق( عليه السّلام)، و الفهرست، الشيخ الطوسي: 64/ 245.
3- مستمسك العروة الوثقى 14: 80، جواهر الكلام 29: 417.
4- الكافي 5: 429/ 12، وسائل الشيعة 20: 494، كتاب النكاح، أبواب ما يحرم بالمصاهرة و نحوها، الباب 34 الحديث 2.
5- لاحظ جواهر الكلام 29: 418.

ص: 351

لكن على الأحوط (1) في الصورة الثانية.

إلّا أن يقال: بحرمة الوطء فقط، دون سائر التمتّعات، و معاقدُ الإجماعات ساكتة عن ذلك، و هو القدر المتيقّن منها، و يساعده الاعتبار.

و لأجل هذا و ذاك احتاط الفقيه اليزدي(1)، بل المحكيّ عن «النزهة»(2) و «كشف اللّثام»(3) هو الحلّ. و من العجيب تقوية «الجواهر» ذلك!!(4).

قوله دام ظلّه: «على الأحوط».

و ذلك إمّا لأجل عدم ثبوتها من الإفضاء موضوعاً، أو لأجل عدم إطلاق لدليل المنع و التحريم، و ظاهره أنّ الحكم يستوي فيه العاصي و غيره في الصورتين.


1- العروة الوثقى 2: 811، كتاب النكاح، الفصل الثاني، المسألة 2.
2- نزهة الناظر: 96.
3- كشف اللّثام 2: 39/ السطر 29.
4- جواهر الكلام 29: 417.

ص: 352

و على أي حال: لم تخرج عن زوجيّته على الأقوى (1)، فيجري عليها أحكامها؛ من التوارث، و حرمة الخامسة، و حرمة أُختها معها و غيرها، قوله مدّ ظلّه: «على الأقوى».

وفاقاً لما عن «الشرائع» بل و «السرائر» و «الجامع» و غيرها(1)، و عن «كشف اللّثام»: «أنّه الأقوى»(2).

و هو قضية القواعد؛ لأنّ الخروج عنها بالتحريم غير ثابت. و ما ربّما يقال: بالتنافي العرفيّ(3)، قد أُشير إليه آنفاً؛ لإمكان منعه.

و لو كانت الحرمة مستوعبة لجميع أنحاء الاستمتاعات، فتكون أشدّ حرمة من الأجنبيّة أيضاً؛ لجواز النظر إليها للتزويج. و ذلك- نظراً إلى الآثار الخاصّة؛ من إيجاب النفقة و أمثالها رغم أنفه، و هذا و لو كان عن عمد و اختيار.

و ربّما يستدل عليه بالخبرين الممرور بهما(4)؛ و هما معتبرا حُمران، و خبر بُرَيد(5).


1- مستمسك العروة الوثقى 14: 82، شرائع الإسلام 2: 214، السرائر 2: 530، الجامع للشرائع: 428، كشف الرموز 2: 110، الروضة البهيّة 2: 55/ السطر الأخير.
2- كشف اللّثام 2: 39/ السطر 32.
3- مستمسك العروة الوثقى 14: 82.
4- نفس المصدر.
5- وسائل الشيعة 20: 493 494، كتاب النكاح، أبواب ما يحرم بالمصاهرة و نحوها، الباب 34، الحديث 1 و 3.

ص: 353

و لكنّك عرفت: أنّ احتمال كون المراد من «الإمساك» هو الإبقاء في الدار و تحت العيلولة، كان قويّاً لولا ما في ذيل خبر بريد، و لكنّه لا يضرّ بعد ضعف سنده(1).

مع أنّ الظاهر من معتبر السّكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن عليّ (عليهم السّلام (هو ذلك، و فيه: «أنّ رجلًا أفضى امرأة، فقوّمها قيمة الأمة الصحيحة، و قيمتها مفضاة، ثمّ نظر ما بين ذلك فجعل من ديتها، و أجبر الزوج على إمساكها»(2).

فإنّ الإجبار لا يتعلّق إلّا بالتكوين، و لا يسلب اختياره بالنسبة إلى الطلاق، كما لا يخفى.

و يمكن المناقشة في أصل الحكم: بأنّ اعتبار بقاء الزوجيّة بلحاظ الآثار الشرعيّة، ليس من الأُمور الاختياريّة، و العقلاء يعتبرون الزواج في محيط آخر؛ لأغراض أُخر، و لأجل ذلك منعنا جواز النكاح باعتبار رفع حرمة النظر؛ فإنّ ذلك من الأحكام الشرعيّة المترتّبة على الموضوعات العرفيّة، فليتدبر جيّداً و عندئذٍ تصير الحرمة ذاتيّة، لا عرضيّة كالحرمة حال الحيض.


1- تقدّم في الصفحة 349 350.
2- تهذيب الأحكام 10: 249/ 986، وسائل الشيعة 29: 282، كتاب الدّيات، أبواب موجبات الضمان، الباب 44، الحديث 3.

ص: 354

و يجب عليه نفقتها ما دامت حيّة و إن طلّقها، (1) قوله دام ظلّه: «و إن طلّقها».

على خلاف الأُصول و ابن الجنيد(1)، و وفاقاً لجملة من الإجماعات المحكيّة عن جماعة(2).

و المهمّ معتبر الحلبيّ، عن أبي عبد اللَّه) عليه السّلام (قال: سألته عن رجل تزوّج جارية، فوقع بها فأفضاها.

قال: «عليه الإجراء عليها ما دامت حيّة»(3).

فدعوى السقوط بالطلاق(4)، غير مسموعة، و لا ينبغي عدّها منافي الإطلاق.

نعم، يمكن المناقشة فيه: بظهورها في غير الصغيرة؛ لخروجها عن المتعارف أوّلًا، و لانصراف «الجارية» إلى الكبيرة البالغة ثانياً.


1- حكاه عنه في جواهر الكلام و لاحظ أيضاً مختلف الشيعة: 525/ السطر 6 7.
2- لاحظ جواهر الكلام 29: 426، مستمسك العروة الوثقى 14: 84.
3- تهذيب الأحكام 10: 249/ 985، وسائل الشيعة 29: 282، كتاب الديات، أبواب موجبات الضمان، الباب 44، الحديث 2.
4- و هي المحكيّة عن ابن جنيد الإسكافي كما في جواهر الكلام 29: 426، و مستمسك العروة الوثقى 14: 84.

ص: 355

بل و إن تزوّجت (1) بعد الطلاق على الأحوط، بل لا يخلو من قوّة.

قوله مدّ ظلّه: «بل و إن تزوّجت».

لما مر، و عليه حكاية الشهرة(1)، و خالفهم جمع ك «الإيضاح» و «الروضة» و ابن فهد(2)، و أمثالهم(3).

و استشكل القواعد فيه، معلّلًا بتعاليل غير لائقة(4)؛ ضرورة أنّ زوال الزوجيّة لو كان مضرّاً بوجوبها، لكان الوجوب منتفياً و إن لم تتزوّج.

و أمّا تعطيلها على الأزواج، فهو مذكور في معتبر حُمران عند ذكر الدية.

و أمّا وجوب النفقة ثانياً على الزوج الثاني، فهو لا ينافيه؛ لأنّه وضعيّ. نعم لو كان تكليفيّاً صرفاً، و كان يجب الإكساء و الإطعام، فربّما يلزم المحذور مثلًا.

و من الغريب توهّم: أنّ ظاهر معتبر الحلبيّ، هو أنّ وجوب الإجراء مستند إلى الإفضاء، لا الزوجيّة(5)!! مع أنّ الموضوع مذكور في كلام


1- مستمسك العروة الوثقى 14: 85.
2- إيضاح الفوائد 3: 78، الروضة البهيّة 2: 56/ السطر 3، المهذّب البارع 3: 212.
3- مثل الصيمري و ابن القطّان كما في جواهر الكلام 29: 427، و الشيخ الأنصاري في كتاب النكاح: 428.
4- قواعد الأحكام 2: 16/ السطر 12.
5- مستمسك العروة الوثقى 14: 85.

ص: 356

السائل، و الحكمَ في كلام الإمام (عليه السّلام)، فلا تخلط.

نعم، يمكن الإشكال في أصل الحكم أو في إطلاقه: بأنّ العرف ينتقل من إيجاب الإجراء، إلى أنّ هذا حكم مترشّح عن الإفضاء المنتهى إلى سقوط المرأة في جامعة الزواج، فلو كانت مزوّجة غير معطّلة على الأزواج، فلا مصلحة في الإجراء.

و بأنّ هذا حكم من قبيل الكفّارة، و إرغام لأنفه، فيكون في مورد الإفضاء بسوء الاختيار و العمد.

و يمكن دعوى: أنّ قوله (عليه السّلام): «عطّلها على الأزواج» أولى بأن يكون علّة لوجوب النفقة من وجوب الدية، فإذا تزوّجت فليست عليها النفقة، فتأمّل جيّداً.

و أمّا كون وجوب النفقة مطابقاً للاحتياط(1)، فهو ممنوع إلّا إذا طابت نفسه، و إلّا فعلى الزوجة ردّها.


1- العروة الوثقى 2: 811 812 كتاب النكاح، الفصل الثاني، المسألة 2.

ص: 357

و يجب عليه دية الإفضاء (1)؛ و هي دية النفس، فإذا كانت حرّة فلها نصف دية الرجل، مضافاً إلى المهر الذي استحقّته بالعقد و الدخول. (2) قوله دام ظلّه: «دية الإفضاء».

أمّا وجوب الدية؛ فلما مرّ من معتبر حُمران، و رواية ابن معاوية(1).

و أمّا أنّها دية النفس، فيأتي إن شاء اللَّه تعالى تفصيله في كتاب الديات من هذا الكتاب.

و يمكن المناقشة في أصل الحكم: بأنّ المستند لو كان الخبرين، فالحكم مقيّد بما إذا لم يمسكها، و قد أعرض عنهما المشهور. و أمّا التفكيك في الفقرات بحسب الحجّية، فربّما يكون خارجاً عن بناء العقلاء.

نعم، لو كان المستند هي الشهرة الفتوائيّة القديمة، فلا موقع للإشكال فيه إلا عند جمع من الأخباريين و بعض الأُصوليّين. مع أنّ في المسألة بعضَ نصوص أُخر تطلب من محلّها(2).

قوله دام ظلّه: «بالدخول».

اللهمَّ إلّا أن يمنع مدخليّة مثل هذا الدخول في تمام المهر.


1- تقدّما في الصفحة 349.
2- الفقيه 4: 111/ 377، وسائل الشيعة 29: 330 كتاب الدّيات، أبواب ديات الأعضاء، الباب 26، الحديث 1، الكافي 7: 313/ 11، وسائل الشيعة 29: 370 كتاب الدّيات، أبواب ديات المنافع، الباب 9، الحديث 1.

ص: 358

و لو دخل بزوجته بعد إكمال التسع فأفضاها، لم تحرم عليه، (1) قوله دام ظلّه: «لم تحرم عليه».

للأصل و الاتفاق، و قد مضى وجه المناقشة في الحرمة قبل الإكمال.

و أمّا وجه المناقشة في الحلّية هنا، فهو أنّ الظاهر من قوله (عليه السّلام): «فإنّه قد أفسدها و عطّلها على الأزواج ..»(1) هو الإفساد التشريعيّ. و كون مورد التعليل التي لم تبلغ، لا يضرّ بذلك.

و أمّا قوله (عليه السّلام) في صدر معتبر حُمران- بعد فرض كونها غير بالغة «فلا شي ء عليه» فهو ناظر إلى نفي الدية، فراجع و تأمّل.

و أمّا ما في ذيل رواية ابن معاوية: «و إن كان دخل بها و لها تسع سنين، فلا شي ء عليه؛ إن شاء أمسك، و إن شاء طلّق»(2) فهو لا ينافي التحريم عندهم كما لا يخفى.

هذا مع أنّ تحريم الرشيدة البالغة بالإفضاء، أولى بالاعتبار من الصغيرة غير البالغة، فربّما يستظهر التحريم هنا بالأولوية، و اللَّه العالم بأحكامه.


1- تقدّم في الصفحة 348، الهامش 1.
2- تقدّم في الصفحة 350، الهامش 1.

ص: 359

و لم تثبت الدية (1)، و لكنّ الأحوط الإنفاق (2) عليها ما دامت حيّة، قوله دام ظلّه: «لم تثبت الدية».

حسب الاتفاق، و الأصل، و نصوص المسألة(1).

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ مقتضى بعض المطلقات- مثل معتبر سليمان بن خالد(2)، و ما رواه «الفقيه»(3) ثبوت الدية مطلقاً، و خبرَ ابن معاوية غير نقيّ السند(4)، و معتبر حُمران لاشتماله على ما لا يقول به المشهور(5) غير محرز اعتباره.

قوله دام ظلّه: «الأحوط الإنفاق».

عملًا بما مرّ عن الحلبيّ(6). بل قضيّة ما سلف منّا فيه، اختصاصه


1- وسائل الشيعة 20: 493 494 كتاب النكاح، أبواب ما يحرم بالمصاهرة و نحوها، الباب 34، الحديث 1 و 3.
2- الكافي 7: 313/ 11، وسائل الشيعة 29: 370 كتاب الديات، أبواب ديات المنافع، الباب 9، الحديث 1.
3- الفقيه 4: 111/ 377، وسائل الشيعة 29: 330 كتاب الديات، أبواب ديات الأعضاء، الباب 26، الحديث 1.
4- تقدّم في الصفحة 350، الهامش 2.
5- لاحظ جواهر الكلام 29: 426، العروة الوثقى 2: 811 812 كتاب النكاح، الفصل الثاني، المسألة 2.
6- تقدّم في الصفحة 340.

ص: 360

و إن كان الأقوى عدم الوجوب. (1) بالكبيرة على احتمال قوي(1)، و لا أقلّ من أنّ تقييده، يستلزم خروج الفرد الشائع، و لأجل ذلك احتاط كثير من المتأخّرين هنا(2)، و قيل(3): «تمايل إليه الشيخ في محكيّ الخلاف»(4).

قوله مدّ ظلّه: «عدم الوجوب».

وفاقاً للمعظم، و عليه حكاية المشهور القديمة. بل ربّما يظنّ كون المسألة إجماعيّة(5)، لولا أنّها معلّلة؛ لما في المسألة من الآثار، فإنّ الإطلاق المزبور ربّما كان مصبّه الصغيرة؛ لأنّها تحرم دونها، و الإجراء عليها و الإنفاق بمناسبة الإفضاء المنتهى إلى التحريم، حسبما يستفاد من مجموع الأخبار.

و أمّا توهّم نفي الوجوب؛ مستنداً إلى قوله (عليه السّلام) في صدر معتبر حُمران: «فلا شي ء عليه»(6) فهو في غير محلّه؛ لأنّ في ذيله: «أنّها إذا كانت غير بالغة تسع سنين، فعلى الإمام تغريم ديتها» فالرواية غير ناظرة إلى


1- تقدّم في الصفحة 340.
2- العروة الوثقى 2: 813 كتاب النكاح، الفصل الثاني، المسألة 5.
3- راجع مستمسك العروة الوثقى 14/ 88، الهامش 2.
4- لم نعثر عليه في الخلاف و لكن راجع الاستبصار 4/ 294.
5- جواهر الكلام 29: 426.
6- مستمسك العروة الوثقى 14: 88.

ص: 361

مسألة النفقة.

و لو كان لها الإطلاق، فلازمه نفي النفقة و لو كانت في حبالته، و الالتزام به و بالتقييد أبعد عن الواقع، و إلّا فالنسبة بين الإطلاقين إطلاق قوله (عليه السّلام) «فلا شي ء عليه» و إطلاق معتبر الحلبيّ عموم من وجه كما هو الظاهر، و لو كان ترجيح فهو مع إطلاق معتبر الحلبيّ و إلّا فالمرجع هي الشهرة، أو هي المرجّح، أو الشهرة الفتوائيّة مرجع، و الروائيّة مرجّح، و هما هنا مع معتبر حُمران، و لأجل ذاك و ذلك أفتى بعض المتأخّرين بوجوبها(1)، و الآخر بعدمه(2).

و لو أمكن المناقشة في دلالة معتبر الحلبيّ؛ لاحتمال كون مورده «الجارية» و هي الأمة كما في «المنجد»(3) فتصبح مجملة من هذه الجهة، و تسقط عن الدلالة و المعارضة في هذه المسألة، كما ترى.


1- لاحظ مستمسك العروة الوثقى 14: 88.
2- جواهر الكلام 29: 427.
3- المنجد: 88.

ص: 362

[مسألة 13: لا يجوز ترك وطء الزوجة أكثر من أربعة أشهر]

مسألة 13: لا يجوز (1) ترك وطء الزوجة أكثر من أربعة أشهر قوله مدّ ظلّه: «لا يجوز».

كأنّ المسألة مقطوع بها، و لم يعهد نقل الخلاف فيها(1)، مع أنّها مستندة حسب الظاهر إلى أخبار مذكورة في كتاب النكاح(2) و الإيلاء(3)، و فيها معتبر صفوان بن يحيى، عن أبي الحسن الرضا (عليه السّلام): أنّه سأله عن الرجل تكون عنده المرأة الشابّة، فيمسك عنها الأشهر و السنة لا يقربها، ليس يريد الإضرار بها، يكون لهم مصيبة، يكون في ذلك إثماً.

قال: «إذا تركها أربعة أشهر، كان آثماً بعد ذلك»(4).

و سيمرّ عليك بعض أخبار كتاب الإيلاء في فروع المسألة.

و المناقشة هنا غير ممكنة، إلّا بما يرى في المتن من الغلق في الجمل، مع الغلط النحويّ الذي يرى في قوله: «يكون في ذلك إثماً»(5) هذا مع أنّه لا دلالة لها على وجوب الوطء؛ لإمكان كفاية المضاجعة


1- جواهر الكلام 29: 115، مستمسك العروة الوثقى 14: 72.
2- وسائل الشيعة 20: 33، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 7.
3- وسائل الشيعة 22: 341 354، كتاب الإيلاء و الكفّارات، أبواب الإيلاء، الباب 1 و 2 و 5، الحديث 1 و الباب 8، الحديث 1 و 3 7، و الباب 9 و 10، الحديث 1 و 2 و 4، و الباب 11، الحديث 6.
4- تهذيب الأحكام 7: 412/ 1647، وسائل الشيعة 20: 140، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 71، الحديث 1.
5- بناءً على كونه على وزن« فعلًا» لا« فاعلًا».

ص: 363

إلّا بإذنها، (1) و الملاعبة و التفخيذ، و نحوها ممّا يجوز عندهم.

و غير خفّي: أنّ ما فيه الإضرار بها، هو تركها المستمرّ بترك المراودة، دون الوطء.

نعم، في أخبار الإيلاء ما يستدلّ به على هذه الجهة في المسألة، كما يأتي إن شاء اللَّه تعالى.

قوله مدّ ظلّه: «إلّا بإذنها».

بناءً على كون ذلك من حقوقها، و هو خلاف ظاهر معتبر صفوان.

نعم، قضية معتبر بكير بن أعين، و بريد بن معاوية، عن أبي جعفر و أبي عبد اللَّه (عليهما السّلام (أنّهما قالا: «إذا آلى الرجل أن لا يقرب امرأته، فليس لها قول و لا حقّ في الأربعة أشهر، و لا إثم عليه في كفّه عنها في الأربعة أشهر، فإن مضت الأربعة أشهر قبل أن يمسّها، فسكتت و رضيت، فهو في حلٍّ و سعة، فإن ..»(1).

فإنّه مضافاً إلى ظهوره في المسألة السابقة، يدلّ على أنّ برضاها و بسكوتها لا يأثم. و احتمال اختصاص الحكم بذلك الباب، غريب جدّاً.


1- الكافي 6: 131/ 4، وسائل الشيعة 22: 342، كتاب الإيلاء و الكفّارات، أبواب الإيلاء، الباب 2، الحديث 1.

ص: 364

حتّى المنقطعة (1) على الأقوى.

قوله دام ظلّه: «حتّى المنقطعة».

خلافاً للمحكي عن «الجواهر»(1) و وفاقاً لإطلاق كثير من المتون(2)، و تنصيص جملة منها(3).

و السرّ في الإشكال؛ قصور معقد الإجماع عن شمولها، و الروايةِ المذكورة عنها أيضاً؛ لقوله: «تكون عنده المرأة الشابّة، فيمسك عنها الأشهر و السنة»(4) فإنّ الظاهر منه السؤال عن الدائمة.

مع أنّ الإطلاق المزبور سكوتيّ؛ يحصل من ترك الاستفصال، و هو غير محتاج إليه، بعد كون الغالب في السؤال المزبور هي الدائمة؛ لحرمة المتعة عند المخالفين.

هذا مع أنّ متن الحكم يناسب الدائمة، و فيه سياسة المنزل.

و المراجعة إلى أخبار الإيلاء و إن كانت تعطي العموم، و يمكن استفادة ذلك من تلك الأخبار و إن لم يجر الإيلاء في المنقطعة، إلّا أنّ


1- مستمسك العروة الوثقى 14: 73، جواهر الكلام 29: 117.
2- النهاية: 482، السرائر 2: 606، شرائع الإسلام 2: 214، تذكرة الفقهاء 2: 577/ السطر 36، الروضة البهيّة 2: 55/ السطر 22.
3- العروة الوثقى 2: 810، كتاب النكاح، الفصل الأوّل، المسألة 7، مستمسك العروة الوثقى 14: 73.
4- تقدّم في الصفحة 362.

ص: 365

و يختصّ الحكم بصورة عدم العذر، و أمّا معه فيجوز الترك مطلقاً ما دام وجود العذر، كما إذا خيف الضرر (1) عليه.

الإنصاف خلافه. مع ما عرفت من المناقشة في أصل دلالة معتبر صفوان على حكم المسألة(1)، فلاحظ.

قوله مدّ ظلّه «كما إذا خيف الضرر».

لخروجه عن معقد الإجماع احتمالًا، فتجري البراءة عن وجوبه عند الخوف.

و أمّا التمسك بقاعدة نفي الضرر(2)، فهو في مورد أُحرز الضرر، و لا يكفي خوفه كما لا يخفى.

و هكذا التمسّك بقاعدة حرمة الضرر بالنفس(3)؛ لأنّها كالجار.

هذا مع أنّ الوالد المحقّق- مدّ ظلّه من منكري قاعدة نفي الضرر و حكومتها على الأدلّة الأوّلية(4). و مع أنّ النسبة بين وجوب الوطء، و حرمة الإضرار بالنفس، عموم من وجه، و لا يبعد تقدّم الثاني.

و يمكن دعوى تقبيح العقلاء، الإقدام في الأُمور كلّها في صورة خوف


1- تقدّم في الصفحة 362 363.
2- مستمسك العروة الوثقى 14: 75.
3- مستمسك العروة الوثقى 14: 75.
4- بدائع الدرر: 129، تهذيب الأُصول 2: 497.

ص: 366

و من العذر (1) عدم الميل المانع عن انتشار العضو. و هل يختصّ الحكم بالحاضر، فلا بأس على المسافر و إن طال سفره، أو يعمّهما، فلا يجوز للمسافر إطالة سفره أزيد من أربعة أشهر، بل يجب عليه مع عدم العذر الحضور؛ لإيفاء حقّ زوجته؟ قولان: أظهرهما الأوّل (2)، لكن بشرط كون السفر ضروريّاً و لو عرفاً، كسفر تجارة، أو زيارة، أو تحصيل علم و نحو ذلك، دون ما كان لمجرد الميل و الأُنس و التفرّج، الضرر، و يكون الحكم عند الإصابة منجّزاً، فعليه لا تجري البراءة. اللهمَّ إلّا أن يقال: بجريان الشرعيّة منها، فليتأمّل جيّداً.

قوله دام ظلّه: «و من العذر».

كان ينبغي أن يقول: «ما دام وجود العذر، كعدم الميل. و من العذر خوف الضرر».

و بالجملة: مع عدم انتشار العضو، يكون معذوراً عقلًا. نعم مع التمكّن من النشر بالعلاج يجب، إلّا إذا استشكلنا في كبراها.

قوله مدّ ظلّه: «أظهرهما الأوّل».

و يكفي له قصور أدلّة المسألة؛ إجماعاً كان، أو رواية؛ فإنّ احتمال كون مورد السؤال هي الحاضرة قريب. و لو أمكن المناقشة في الثانية، فقد عرفت الإشكال فيها رأساً؛ و أنّ الحكم قوياً مستند إلى الإجماع.

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ المراجعة إلى أخبار الإيلاء، تعطي- بكثرتها

ص: 367

و نحو ذلك على الأحوط. (1) أنّ الحكم عامّ، و لأجل ذاك و هذا، ذهب جمع من المعاصرين إلى عدم الفرق(1)، خلافاً للمحكيّ عن «كشف اللثام» حيث قيّد الحكم بحضور الزوج، و استدلّ له بالسيرة(2).

قوله دام ظلّه: «على الأحوط».

لأنّه القدر المتيقّن من الخارج عن معقد الإجماع بالسيرة، أو عن محطّ الرواية، فكأنّه- مدّ ظلّه استند إلى الإجماع و الرواية إطلاقاً، و إلى المخصّص اللبيّ، و إلّا فقصور أدلّة المسألة، ينتهي إلى الأخذ بالقدر المتيقّن؛ و هو الحاضر دون المسافر مطلقاً، و لذلك لا يرى هذا التفصيل في المسألة.

و يمكن المناقشة في السيرة العمليّة: بندرة الاتفاق، فلا يستكشف منها الإمضاء، فهي مردوعة بالرواية، و لا سيّما بعد سقوط الحكم برضا الزوجة، و خصوصاً إذا لم يكن يجب إلّا عند مطالبتها؛ لكونه من الحقوق.

و أمّا توهّم مردوعيّة السيرة بالرواية مطلقاً، فقد تقرّر في محلّه بطلان الدور، و لكن ردع السيرة الاغتراسيّة العمليّة، لا يتعارف بإطلاق رواية واحدة، فيعلم منه أنّ المقصود منها محصور في غير مورد السيرة،


1- العروة الوثقى 2: 810، كتاب النكاح، الفصل 1، المسألة 7.
2- مستمسك العروة الوثقى 14: 74، كشف اللّثام 2: 54/ السطر 26.

ص: 368

و تفصيله في محالّه(1).

تنبيه: في تأييد التفصيل بين الشابّة و العجوز لو أمكن المناقشة في أصل الحكم، فهل ترك الوطء مطلقاً يجوز؛ قضاءً لحقّ الاستصحاب أو البراءة.

أم لا يجوز؛ لأنّه خلاف طبع النكاح أو الشرط الضمنيّ، و لأجل ذلك استشكل في نفوذ اشتراطه في ضمن العقد؟

أو يفصّل بين العقود حسب اختلاف حالات المتعاقدين؟

وجوه.

و كان ينبغي التفصيل بين الشابّة و الشائبة؛ لاختصاص مورد السؤال بالشابّة(2)، مع مساعدة الاعتبار، بعد كون الإجماع غير معلوم المعقد، و لو كان فهو معلّل بالرواية.

نعم، ربّما يستظهر عموم الحكم من أخبار الإيلاء أحياناً(3) فراجع.


1- تحريرات في الأُصول 6: 501 507.
2- تقدّم في الصفحة 362.
3- تقدّم في الصفحة 364.

ص: 369

و أمّا إجماع «الرياض» على التعميم(1)، فهو من شعب التمسّك بإطلاق معقد الإجماع، مع أنّ هذه الإجماعات لا تغني من الحقّ شيئاً.

و يؤيّد التخصيص ما في بعض الأخبار: من الخوف على زناهنّ(2)، فما عن «الجواهر» من نسبة القول بالتخصيص إلى القاصرين(3) كأمثال «الوسائل»(4) و «المفاتيح»(5) و «الحدائق»(6) في غير محلّه.


1- رياض المسائل 2: 76/ السطر 22.
2- الكافي 5: 566/ 42، وسائل الشيعة 20: 141، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 71، الحديث 2. إليك نصّ الرواية: روى الكليني بسنده عن محمّد بن جعفر عن بعض رجاله عن أبي عبد اللَّه( عليه السّلام) قال: من جمع من النساء ما لا ينكدح فزنا منهنّ شي ء فالإثم عليه.
3- جواهر الكلام 29: 116، مستمسك العروة الوثقى 14: 73.
4- لاحظ وسائل الشيعة 20: 140، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 71، حيث عنون عنوان الباب كذا: باب تحريم ترك وطي الزوجة الشابّة أكثر من أربعة أشهر و إن لم يكن الترك بقصد الإضرار و إن كان لمصيبة.
5- مفاتيح الشرائع 2: 290.
6- الحدائق الناضرة 23: 90.

ص: 370

[مسألة 14: لا إشكال في جواز العزل]

مسألة 14: لا إشكال في جواز العزل- و هو إخراج الآلة عند الإنزال، و إفراغ المنيّ إلى الخارج في غير الزوجة الدائمة الحرّة، (1) قوله مدّ ظلّه: «في غير الزوجة الدائمة الحرة».

قاعدة و نصاً و إجماعاً(1)، و هو مقتضى كثير من المطلقات المذكورة في الباب «75»(2) و فيها معتبر محمّد بن مسلم. قال: سألت أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) عن العزل.

فقال: «ذاك إلى الرجل؛ يصرفه حيث شاء»(3).

و ربّما تدلّ هي على أنّ للمرء، صرفَ نطفته في أي مكان يريد، و منه الأرحام المحرّم عليه الدخول بها، فلو حملت منه الأجنبيّة بالآلات الحديثة صحّ، فتدّبر جدّاً.

و يمكن وقوع المعارضة بينه في مورد الحرّة المتمتّع بها، و بين معتبرة الثاني في الباب «76» عن أحدهما (عليهما السّلام): أنّه سئل عن العزل.

فقال: «أمّا الأمة فلا بأس، و أمّا الحرّة فإنّي أكره ذلك، إلّا أن يشترط عليها حين يتزوّجها»(4).


1- مستمسك العروة الوثقى 14: 68.
2- وسائل الشيعة 20: 149، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 75.
3- الكافي 5: 504/ 3، الفقيه 3: 273/ 1295، وسائل الشيعة 20: 149، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 75، الحديث 1.
4- تهذيب الأحكام 7: 417/ 1671، وسائل الشيعة 20: 151، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 76، الحديث 1.

ص: 371

و كذا فيها مع إذنها. (1) و يقيّد به الإطلاق الأوّل، فيكون الحكم في موردها مبنيّاً على التحريم، و عندئذٍ يرجع في التخصيص إلى الإجماع المحكيّ عن جماعة(1)، أو تنكر دلالته رأساً على الأزيد من الكراهة، أو يحمل على الكراهة الشخصيّة؛ برجوع الضمير في قوله (عليه السّلام) «حين يتزوّجها» إليه (عليه السّلام).

مع أنّها على خلاف القواعد؛ لأنّ الشرط على خلاف الكتاب، و تخصيص تلك الأدلّة به محلّ إشكال؛ لما قيل: «من إبائها عنه» فيكون هذا من الكراهة غير الاصطلاحيّة.

مع أنّ تقييد تلك المطلقات بهذه الواحدة، محلّ المناقشة، فتقع المعارضة، و تقييدها بها يستلزم خروج الفرد الشائع جدّاً، و لا سيّما مع صراحتها في الإطلاق، فليتأمّل جيّداً.

قوله دام ظلّه: «مع إذنها».

بناءً على كون الممنوعيّة في بعض الصور الآتية، مستندة إلى أنّه إضرار بحقّها عليه، و هو صريح معتبر ابن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السّلام) في


1- مستمسك العروة الوثقى 14: 68، الحدائق الناضرة 23: 86، مستند الشيعة 2: 472/ السطر 22، جواهر الكلام 29: 114.

ص: 372

حديث: «إلّا أن ترضى، أو يشترط ذلك عليها حين يتزوّجها»(1).

و الظاهر منهم عدم البأس بذلك مع رضاها حرمة و كراهة. و هذا هو مستثنى المروي عن النبيّ (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم): أنّه «نهى أن يعزل عن الحرّة إلّا بإذنها»(2).

و إمكان المناقشة في كلّ واحد من الأدلّة، يوجب المناقشة في دليل المنع؛ لأنّ منع كونه حقّا، و منعَ حجيّة النبوي و لو كان في محلّه، و لكن منع خبر ابن مسلم الآتي الدالّ على الكراهة، يوجب سقوط الحرمة من رأس.

اللهمَّ إلّا أن يقال: إنّ لمحمّد بن مسلم في هذه المسألة، خبراً واحداً و إن رواه الأصحاب بطريقين(3)، و لا يوجد قوله (عليه السّلام): «إلّا أن ترضى» فيما رواه صفوان، عن العلاء، عنه، فإذا كانا خبراً واحداً، تقع المعارضة بين أصالة الزيادة و النقيصة، و لا سبيل عند العقلاء- على نعت الجزم إلى ترجيح أحدهما على الآخر، فيلزم بقاء الكراهة أو الحرمة بحالها و لو رضيت


1- تهذيب الأحكام 7: 417/ 1672، وسائل الشيعة 20: 151، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 76، الحديث 2.
2- دعائم الإسلام 2: 212/ 777، مستدرك الوسائل 14: 233، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح، الباب 57، الحديث 1.
3- تقدّم في الصفحة 370.

ص: 373

أمّا فيها بدون إذنها، ففيه قولان، أشهرهما الجواز مع الكراهة، و هو الأقوى. (1) بذلك. و هذا هو المساعد للاعتبار، و لسائر الأدلّة المتخيّلة التي ربّما يستند إليها للتحريم.

قوله مدّ ظلّه: «و هو الأقوى».

خلافاً لما نسب(1) إلى «المقنعة»(2) و «المبسوط»(3) من الحرمة، بل الإجماع عليه في «الخلاف»(4) و وفاقاً لطائفة من الأخبار المطلقة الصريحة في الجواز(5).

و الدليل المقيّد ما رواه «الوسائل» في باب «76» بسند معتبر، عن محمَّد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السّلام (الماضي(6)، فإنّه (عليه السّلام) استكره ذلك في الحرّة، و هي الظاهرة في الحرمة، و النبوي السابق.

و في الباب المزبور، عن يعقوب الجعفيّ قال: سمعت أبا الحسن (عليه السّلام) يقول: «لا بأس بالعزل في ستّة وجوه: المرأة التي تيقّنت أنّها لا تلد، و المسنّة،


1- لاحظ جامع المقاصد 12: 53، جواهر الكلام 29: 111.
2- المقنعة: 516.
3- المبسوط 4: 266 و 267.
4- الخلاف 4: 359، المسألة 143.
5- وسائل الشيعة 20: 149، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 75.
6- تقدّم في الصفحة 370.

ص: 374

بل لا يبعد عدم الكراهة (1) في التي علم أنّها لا تلد، و في المسنّة، و السليطة، و البذيّة، و التي لا ترضع ولدها.

و المرأة السليطة، و البذيّة، و المرأة التي لا ترضع ولدها، و الأمة»(1).

و يمكن إرجاعه إلى مفهوم القيد، إلّا أنّ مقتضى المفهوم ليس الحرمة؛ لأنّ البأس أعمّ منها، مع أنّ مفهوم القيد أيضاً غير ثابت.

مضافاً إلى عدم نقاوة السند من جهات، و لا يمكن توهّم انجباره بما مرّ، كما لا يخفى.

قول مدّ ظلّه: «عدم الكراهة».

أمّا عدم الكراهة في المذكورات؛ فلما عرفت، و عرفت المناقشة في سنده، فلا يصلح للإفتاء به بعد ما تقرّر: أنّ أخبار التسامح في أدلّة السنن(2)، لا تصلح للإفتاء على طبقها في المستحبّات و المكروهات(3).

و أمّا المناقشة في الكراهة كلا؛ فلما مرّ: من أنّ معتبر ابن مسلم، لا يدلّ على الكراهة الشرعيّة(4)؛ لأنّها لا تجوز بالشرط، و قد عرفت


1- الفقيه 3: 281/ 1340، وسائل الشيعة 20: 152، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 76، الحديث 4.
2- و هي أخبار من بلغ و نحوه، راجع وسائل الشيعة 1: 80 كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 18.
3- تحريرات في الأُصول 7: 232 237.
4- تقدّم في الصفحة 371.

ص: 375

كما أنّ الأقوى عدم وجوب دية (1) النطفة عليه، و إن قلنا بالحرمة. و قيل: بوجوبها (2) عليه للزوجة، و هي عشرة دنانير. و هو ضعيف في الغاية.

حاله فيما سبق.

فعلى ما تحصّل إلى هنا: أمكن المناقشة في أصل مرجوحيّة العزل مطلقاً، فضلًا عن الحرمة.

و هل ما تعارف في العصر من تغليف العضو، يكون من العزل.

وجهان إن كان النظر إلى حقّ المرأة؛ و أنّها تستحقّ نزول الماء في رحمها، و أمثال ذلك من النكت السياسيّة المذكورة بعضها في المطوّلات.

قوله دام ظلّه: «عدم وجوب دية ..».

على المشهور بين المتأخّرين(1)، وفاقاً للأصل، و هو مقتضى كون الحكم مكروهاً، مع أنّ القول بالحرمة أيضاً لا يقتضي ذلك، فضلًا عمّا سلف من نفي الكراهة الاصطلاحيّة، على احتمال قوي.

قوله مدّ ظلّه: «و قيل بوجوبها».

و هو المحكيّ(2) عن جماعة من القدماء، كالشيخ، و القاضي،


1- جامع المقاصد 12: 506، مسالك الأفهام 7: 65، الحدائق الناضرة 23: 89، مستند الشيعة 2: 474/ السطر 32.
2- مختلف الشيعة: 814 و 815، لاحظ أيضاً مستمسك العروة الوثقى 14: 71.

ص: 376

و أبي الصلاح، و ابني حمزة و زهرة(1)، و إليه ذهب العلّامة في معظم كتبه(2)، و «كشف اللثام»(3).

و يحتمل الوجوب و إن قلنا: بالكراهة أو نفيناها رأساً؛ و ذلك لعدم التهافت بين الحكمين، و قد التزم جمع- في تأخير قضاء شهر رمضان إلى رمضان آخر بالكفّارة، و عدم الوجوب أيضاً(4)، و الدية مثلها لا تلازم حرمة الفعل.

و المهمّ في المسألة هي رواياتها، و فيها ما رواه «الوسائل» في باب (19) في أحكام ديات الأعضاء، و عن الكلينيّ (رحمه اللَّه (بأسانيده إلى «كتاب ظريف» عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) قال: «جعل دية الجنين ..» إلى أن قال: «و أفتى) عليه السّلام (في منيّ الرجل يفرغ عن عرسه، فيعزل عنها الماء، و لم يرد ذلك، نصف خمس المائة؛ عشرة دنانير، و إذا أفرغ فيها عشرين ديناراً ..»(5).


1- الخلاف 4: 359، المسألة 143، المهذّب 2: 510، الكافي، أبو الصلاح الحلبي: 392، الوسيلة: 456، الغنية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 559/ السطر 4.
2- إرشاد الأذهان 2: 5، قواعد الأحكام 2: 25/ السطر 11 و 336/ السطر 21، مختلف الشيعة: 815/ السطر 10.
3- كشف اللّثام 2: 54/ السطر 25.
4- العروة الوثقى 2: 231 233، كتاب الصوم، الفصل 13 في أحكام القضاء، المسألة 14 و 18.
5- الكافي 7: 342/ 1، وسائل الشيعة 29: 312، كتاب الديات، أبواب ديات الأعضاء، الباب 19، الحديث 1.

ص: 377

و ما عن الشيخ في الصحيح، عن يونس، عن أبي الحسن (عليه السّلام) في «التهذيب»، في طيّ خبر طويل: «أفتى (عليه السّلام) في منيّ الرجل يفرغ عن عرسه، فعزل عنها الماء، و لم يرد ذلك، نصف خمس المائة؛ عشرة دنانير»(1).

و الظاهر أنّه مثل سابقه؛ في أنّ المراد من قوله (عليه السّلام): «لم يرد» أي لم تكن المرأة راضية بذلك، فالصحيح: «لم ترد» و قضيّتهما الدية و لو كان العزل جائزاً، و لذلك نسب إلى جمع الكراهة في المسألة السابقة، و وجوب الدية في هذه المسألة(2)، كما يظهر ممّا ذكرناه بالتأمّل.

و أمّا الخبر المروي في «العروة الوثقى»(3) فيمن أفرغ رجلًا عن عرسه، فهو أجنبيّ عن هذه المسألة.

و أمّا المناقشة في سندهما و لا سيّما في الأوّل، فهي تذبّ بما تحرّر منّا في «كتاب ظريف بن ناصح» و «يونس»(4) فراجع.

نعم، ربّما يحتمل كونه دية بعد المرافعة و فصل الخصومة؛ لقوله في الثاني: «قضى» و لأنّ المتراءى منهما صورة المخاصمة.


1- تهذيب الأحكام 10: 285/ 1107.
2- جواهر الكلام 29: 112، قواعد الأحكام 2: 25/ السطر 11، كشف اللّثام 2: 54/ السطر 21 و 25.
3- العروة الوثقى 2: 809، كتاب النكاح، الفصل 1، المسألة 6.
4- لعلّه( قدِّس سرُّه) ذكر ذلك في قواعده الرجاليّة أو فيما علّقه على خاتمة المستدرك و كلاهما مفقودان.

ص: 378

[أحكام النظر]

[مسألة 15: يجوز لكلّ من الزوج و الزوجة النظر إلى جسد الآخر]

مسألة 15: يجوز (1) لكلّ من الزوج و الزوجة النظر إلى جسد الآخر؛ ظاهره، و باطنه، حتّى العورة، قوله دام ظلّه: «يجوز».

و هو قضيّة النكاح عرفاً، و عدّ من الضروريّات فقهاً(1)، و تواترت النصوص به(2).

نعم، عن ابن حمزة مخالفتهم في خصوص العورة- و هي الفرج حال الجماع(3)، و أمّا الدبر فلا نهي عنه؛ لاختصاص ما رواه الصدوق عن أبي سعيد الخدري في وصيّة النبيّ (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم (لعليّ (عليه السّلام) بالفرج، حيث قال: «و لا ينظر أحدٌ إلى فرج امرأته، و ليغضّ بصره عند الجماع؛ فإنّ النظر إلى الفرج يورث العمى في الولد»(4).

و مقتضاه حرمة النظر إلى فرج المرأة، و وجوب الغضّ عند الجماع، فلا يكون لابن حمزة الاستناد إليه إلّا بالتأويل، أو يكون الحكم و هو حرمة النظر الى الفرج مطلقاً مؤكّداً حال الجماع.

و ربّما يحمل على الكراهة؛ قضاءً لحقّ ذات الموضوع.


1- جواهر الكلام 29: 73، مستمسك العروة الوثقى 14: 23.
2- وسائل الشيعة 20: 120، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 59.
3- مستمسك العروة الوثقى 14: 24، الوسيلة: 314.
4- الفقيه 3: 359/ 1712، وسائل الشيعة 20: 121، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 59، الحديث 5.

ص: 379

و قولِهِ (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم (على ما فيها-: «فإنّ النظر إلى الفرج» فإنّه يناسب الكراهة.

هذا مع أنّ سنده إليه مذكور في «الفقيه» و فيه جماعة غير مذكورين، و بعضهم من العامّة(1)، و مع ورود معتبر سَماعة على جواز النظر إلى الفرج(2).

و ربّما يستظهر من بعض أخبار الباب، استحباب النظر إلى جسد المرأة؛ لقوله (عليه السّلام): «و هل اللذّة إلّا ذلك»(3) من غير ثبوت الكراهة حتّى بالنسبة إلى العورة.

نعم، في حال المجامعة يكره؛ لما في معتبر سماعة قال: سألته عن الرجل ينظر في فرج المرأة و هو يجامعها.

قال: «لا بأس به، إلّا أنّه يورث العمى»(4).


1- راجع مشيخة الفقيه 4: 113.
2- تهذيب الأحكام 7: 414/ 1656، وسائل الشيعة 20: 121، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 59، الحديث 3.
3- الكافي 5: 497/ 6، تهذيب الأحكام 7: 413/ 1652، وسائل الشيعة 20: 120، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 59، الحديث 1.
4- تهذيب الأحكام 7: 414/ 1656، وسائل الشيعة 20: 121، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 59، الحديث 3.

ص: 380

و كذا مسّ (1) كلّ منهما بكلّ عضو منه كلّ عضو من الآخر، مع التلذّد و بدونه.

قوله مدّ ظلّه: «و كذا مسّ».

لعين ما مرّ، إلّا أنّه لم يرد به النصّ.

و مقتضى الشبهة استصحاب الحرمة، و قضيّة إطلاقه جوازه بعد الموت أيضاً، و لكنّه لا يخلو من النظر.

و قضيّة الشبهة استصحاب الحلّية.

ص: 381

[مسألة 16: لا إشكال في جواز نظر الرجل إلى ما عدا العورة من مماثله]

مسألة 16: لا إشكال (1) في جواز نظر الرجل إلى ما عدا العورة من مماثله، شيخاً كان المنظور إليه أو شابّاً، حسن الصورة أو قبيحها، إذا لم يكن مع تلذّد و ريبة. (2) قوله مدّ ظلّه: «لا إشكال».

لأنّه لو كان ممنوعاً لبان. و أمّا عدّه من ضروريّات الدّين كما عن «الجواهر»(1)، فلا يخلو من التأسّف، و ما هو منه هو جوازه في الحمّام، و القياس غير جائز، و لا سيّما في هذه الجهة.

قوله دام ظلّه: «ما لم يكن بتلذّذ و ريبة».

و أمّا معهما فالعبارة قاصرة، إلّا أنّ المقصود تحريم النظر، أو الاحتياط في المسألة، و يكون هناك نوع فرار من حكم المسألة على وجه دقيق؛ و ذلك لعدم دليل على الحرمة بعد اقتضاء الأُصول حلّيته إلّا الإجماع الآتي في المسألة الثامنة عشرة(2) إن شاء اللَّه تعالى، و يظهر هناك معنى «الريبة» أيضاً.

نعم، ربّما يصحّ دعوى وضوح الحرمة حسب ذوق الشريعة المطهّرة؛ فإنّه إذا حرم على الوجه المزبور إلى الأجنبيّة، و إلى النساء من غير الأُمّة الإسلاميّة، فهنا أولى بالحرمة بعد ذلك التحذير


1- مستمسك العروة الوثقى 14: 22، جواهر الكلام 29: 71.
2- يأتي في الصفحة 389.

ص: 382

و العورة (1) هي القبل و الدبر و البيضتان. و كذا (2) لا إشكال في جواز نظر المرأة إلى ما عدا العورة من مماثلها، و أمّا عورتها فيحرم أن تنظر إليها كالرجل. (3) العجيب، فدعوى مقطوعيّة الحكم هنا قوي جدّاً، و الفساد اللازم هنا احتمالًا أفحش شي ء في الإسلام ظاهراً، حتّى عدّ من الكفر(1) و أفتى به الصدوق(2)، فليراجع.

قوله دام ظلّه: «و العورة».

تفصيل الكلام من هذه الجهة، يطلب من كتاب الطهارة، أحكام التخلّي، إن شاء اللَّه تعالى.

قوله مدّ ظلّه: «و كذا ..».

لما عرفت.

و قوله دام ظلّه: «و أمّا عورتها، فيحرم أن تنظر إليها كالرجل».

أي كما أنّ ذلك يحرم على المماثل، كذلك يحرم على غير المماثل.

و أمّا جواز نظر المرأة إلى مماثلتها مطلقاً كما يظهر من المتن، على


1- الكافي 5: 544/ 3، وسائل الشيعة 20: 239، كتاب النكاح، أبواب النكاح المحرّم و ما يناسبه، الباب 20، الحديث 2.
2- المقنع: 430.

ص: 383

خلاف ما يستظهر من «العروة»(1) فهو في محلّ المناقشة؛ لإمكان أن يكون في نظر المرأة إلى مماثلتها، الثوران و الريبة إلى الفساد و المساحقة.

اللهمّ إلّا أن يقال: بعدم الدليل على حرمة مطلق النظر الريبيّ، كما لا يبعد.

ثمّ إنّ حكم حرمة النظر إلى العورة أيضاً، يطلب من أحكام التخلّي، إن شاء اللَّه تعالى.


1- العروة الوثقى 2: 802، كتاب النكاح، المسألة 28.

ص: 384

[مسألة 17: يجوز الرجل أن ينظر إلى جسد محارمه، ما عدا العورة]

مسألة 17: يجوز (1) الرجل أن ينظر إلى جسد محارمه، ما عدا العورة، قوله دام ظلّه: «يجوز».

و لو كان محرّماً لبانت الحرمة بالضرورة، مضافاً إلى الإجماعات المحكيّة عن جماعة(1)، و يظهر من بعض الأخبار المرويّة في المسألة، مفروغيّة الحكم، و فيها قال: قلت لأبي عبد اللَّه (عليه السّلام): ما يحلّ للرجل أن يرى من المرأة إذا لم يكن محرّماً ..»(2).

و من الغريب ما حكي عن موضع من «القواعد» من المنع(3)، مع ما في عبارته من الإبهام!! و هكذا ما عن «التنقيح» من استثناء الثدي حال الرضاع!!(4) فراجع؛ فإنّ الأمر مريب.

نعم، احتمال الممنوعيّة بالنسبة إلى بعض الحالات و الشابّات و هنّ عاريات بتمام جسدهنّ ما عدا العورة، قوي، و يساعده الارتكاز، و ربّما يحمل عليه كلام العلّامة.

و ربّما لا يستثني الثدي جدّاً، و لا يكثر الابتلاء به إلى حدّ لو كان لبان، كما لا يخفى.


1- مستمسك العروة الوثقى 14: 32.
2- الكافي 5: 521/ 2، وسائل الشيعة 20: 201، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 109، الحديث 2.
3- لاحظ مستمسك العروة الوثقى 14: 32، قواعد الأحكام 2: 273/ السطر 23.
4- التنقيح الرائع 3: 22.

ص: 385

و كما يمكن الاستشهاد من قوله تعالى وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ ..(1) إلى آخره، لجواز النظر بالنسبة إلى المحارم، كذلك ليستشهد منه لممنوعيّته بالنسبة إلى ما هو المستور طبعاً حين المراودات في الخلوات؛ لخروجها عن حدّ الآية الشريفة أيضاً. و ما ورد في تغسيل المحارم مجرّدات، و يلقى على عورتهن خرقة(2)، لا يشهد على شي ء(3)؛ لاختلاف الحكم باختلاف الحالات في المقام جدّاً، كالقواعد منهنّ، فلا تخلط.

و أمّا خبر أبي الجارود المروي في «تفسير عليّ بن إبراهيم» فهو و إن يظهر منه المنع؛ لما فيه: «و أمّا زينة المحرّم، فموضع القلادة فما فوقها، و الدّمْلَج فما دونه، و الخَلْخال و ما أسفل منه ..»(4) الحديث، إلّا أنّه لا يفيد شيئاً؛ لأنّه مضافاً إلى عدم ثبوت سند له، و إلى ما في متنه من بُعده عن متون الأخبار غير معمول به.

و بالجملة: مقتضى الأصل هي الحلّية.


1- النور) 24): 31.
2- وسائل الشيعة 2: 516، كتاب الطهارة، أبواب غسل الميّت، الباب 20، الحديث 1 و 2.
3- لاحظ مستمسك العروة الوثقى 14: 32.
4- تفسير القمّي 2: 101، مستدرك الوسائل 14: 275، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح، الباب 85، الحديث 3.

ص: 386

إذا لم يكن مع تلذّذ (1) و ريبة. و المراد «بالمحارم» من يحرم عليه نكاحهنّ من جهة النسب، أو الرضاع، (2) اللهمّ إلّا أن يقال: بالحرمة في الأعراض و النظر إليهنّ، و اللَّه العالم.

قوله دام ظلّه: «إذا لم يكن مع تلذّذ».

اتفاقاً(1) و احتمال اختصاص الإجماع بمورد الأجنبيّة، ساقط ظاهراً، و سيظهر الأمر إن شاء اللَّه.

قوله «أو الرضاع».

لو كان المستند ما اشتهر: «من أنّ الرضاع لحمة كلحمة النسب»(2) و لكنّه غير ثابت.

و أمّا قوله (عليه السّلام): «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»(3) فلا يقتضي حلّية ما أُحلّ بالنسب، كما لا يخفى.

و أمّا الإطلاقات العرفيّة على الأُمّهات الرضاعيات و الآباء الرضاعيّين فهي ليست على وجه الحقيقة بالضرورة، فكونهم آباءً أو


1- جواهر الكلام 29: 73.
2- الوسيلة: 302، المهذّب البارع 3: 236، جامع المقاصد 12: 241.
3- وسائل الشيعة 20: 371، كتاب النكاح، أبواب ما يحرم بالرضاع، الباب 1، الحديث 1 و 3 و 4 و 6 و 7 و 8 و 10.

ص: 387

أو المصاهرة. (1) أُمّهات حتّى تشملهم الآية(1)، يحتاج إلى دليل حاكم، و ما في الأخبار من التعبير عن الأب الرضاعيّ ب «صاحب اللبن»(2) أيضاً يؤيّد ذلك، و لو لا كون الحكم مقطوعاً به عندهم، كان للمناقشة فيه مجال واسع.

قوله مدّ ظلّه: «أو المصاهرة».

و هو قضيّة الآية الشريفة(3) إجمالًا؛ لما فيها من استثناء بعولتهنّ و آباء بعولتهنّ و أبناء بعولتهنّ. و أمّا جواز النظر إلى أُمّ الزوجة و الربائب، فهو للاتفاق.

و ما يقال: «إنّ جميع المحارم محرّم» فهو ممنوع ظاهراً في المحرّم باللواط و الزّنا، على القول به.

فآية تحريم النكاح(4)، ليست مخصصة لآية تحريم النظر(5).


1- النساء( 4): 23.
2- لم نعثر على خبر يعبّر صريحاً عن الأب الرضاعي بصاحب اللبن، نعم يوجد بتعبير آخر مع اتّحاد المفهوم، راجع وسائل الشيعة 20: 393، كتاب النكاح، أبواب ما يحرم بالرضاع، الباب 6، الحديث 13، و 20: 403، الباب 15، الحديث 3.
3- النور) 24): 31.
4- النساء( 4): 23.
5- النور) 24): 30 و 31.

ص: 388

و كذا يجوز لهنّ (1) النظر إلى ما عدا العورة من جسده.

هذا، و ربّما يناقش في دلالة الآية الثانية(1) على جواز النظر: بأنّها متضمّنة لجواز الإظهار على النساء، و هو أعمّ من جواز نظرهم إليهنّ؛ فإنّه من الممكن التفكيك كما في الرجال، فإنّه يجوز خروجهم عُراة عليهنّ، مع حرمة نظرهنّ إليهم، و هنا مراعاةً للتسهيل عليهنّ رخّص في ذلك.

نعم، ربّما ينافيه قوله تعالى وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ ..(2) إلى آخره، فإنّ الظاهر من «اللام» جواز نظرهم إليهنّ، كما لا يخفى.

و بالجملة: ليست المسألة ذات رواية حتّى يعتمد عليها؛ و تدل على عموم المدّعى، و لأجل ذلك استشكل فيها بعض الأخباريّين.

قوله دام ظلّه: «و كذا يجوز لهنّ».

لما مرّ في مسألة جواز نظرهم بعضهم إلى بعض(3)، و أمّا حكم العورة و موضوعها فيطلب من بحوث التخلّي و أحكامه.

و غير خفيّ: أنّ جواز نظرهنّ غير مقيّد حسب الفتوى بعدم التلذّذ و الريبة، إلّا أنّه محتمل؛ لما يترتّب عليه من الفساد و الافتتان أحياناً. نعم مقتضى الأصل جوازه.


1- النور) 24): 31.
2- النور) 24): 31.
3- تقدّم في الصفحة 382.

ص: 389

[مسألة 18: لا إشكال في عدم جواز نظر الرجل إلى ما عدا الوجه و الكفّين؛ من المرأة الأجنبيّة]

مسألة 18: لا إشكال في عدم جواز نظر الرجل إلى ما عدا الوجه و الكفّين (1)؛ من المرأة الأجنبيّة، من شعرها و سائر جسدها، قوله دام ظلّه: «عدا الوجه و الكفّين».

إجماعاً مقطوعاً به، و مفروغاً عنه(1)، و يشهد له السيرة الالتزاميّة القطعيّة، و لعلّها إسلاميّة، و لا يخالفنا أحد من المخالفين؛ حسب ما يظهر من موضع من «التذكرة»(2) و ما عن «الجواهر»: «أنّه ضرورة من المذهب»(3) في غير محلّه.

و إليه تسوق جملة من الأخبار الآتية في فروعها. و لو أمكن المناقشة فيها سنداً أو دلالةً، على سبيل منع الخلو كما لا يبعد، و أمكن المناقشة في إطلاق معقد الإجماع: بأنّ القدر المتيقّن منه هو النظر و بتلذّذ و ريبة، كما يساعده الاعتبار، لأمكن تأييد ذلك بمعتبر عليّ بن سويد، قلت لأبي الحسن (عليه السّلام): إنّي مبتلى بالنظر إلى المرأة الجميلة، فيعجبني النظر إليها.

فقال (عليه السّلام): «يا عليّ لا بأس، إذا عرف اللَّه من نيّتك الصدق، و إيّاك و الزّنا؛ فإنّه يمحق البركة، و يهلك الدين»(4).


1- جواهر الكلام 29: 75، مستمسك العروة الوثقى 14: 25.
2- تذكرة الفقهاء 2: 446.
3- جواهر الكلام 29: 75.
4- الكافي 5: 542/ 6، وسائل الشيعة 20: 308، كتاب النكاح، أبواب النكاح المحرّم و ما يناسبه، الباب 1، الحديث 3.

ص: 390

سواء كان فيه (1) تلذّذ و ريبة، أم لا.

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ ما ورد في القواعد(1)، و ما ورد في جواز النظر حال الاضطرار(2)، و أمثال ذلك، كلّها دليل المنع الكلّي، و سيأتي زيادة توضيح حول صحيح ابن سويد(3) إن شاء اللَّه تعالى.

و أمّا الآية الشريفة(4)، فغاية ما تدلّ عليه بملاحظة ما ورد في نزولها(5) هي حرمة النظر أو وجوب الغضّ عند الريبة و التلذّذ. مع أنّ «الغضّ» ربّما يكون كناية عن صرف النظر عن النساء؛ بالمحافظة على فروجهم، و بعدم الاعتناء بتطلّباتها.

قوله دام ظلّه: «سواء كان فيه».

و يدلّ على ذلك مضافاً إلى ما أُشير إليه، ما ورد في جواز النظر الى شعور نساء أهل الذمّة و أيديهنّ(6)، و في جواز النظر إلى شعور نساء


1- وسائل الشيعة 20: 202، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 110.
2- وسائل الشيعة 20: 233، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 130.
3- يأتي في الصفحة 395.
4- النور) 24): 30، 31.
5- الكافي 5: 521/ 5، وسائل الشيعة 20: 192، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 104، الحديث 4.
6- وسائل الشيعة 20: 205، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 112.

ص: 391

الأعراب، و أهل السواد و العلوج، و المجنونة و المغلوبة(1).

و بالجملة: يدلّ عليه قوله (عليه السّلام) فيها «لأنّهم إذا نهوا لا ينتهون»(2) فإنّه يعلم منه كونه نهياً في أصل الشريعة، و هكذا ما ورد في عدم جواز النظر إلى شعر أُخت الزوجة(3) فراجع و تأمل، و قضيّة كلّ ذلك- حسب إطلاقها الممنوعيّة مطلقاً.

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ الكلّ منصرف إلى صورة النظر بتلذّذ و ريبة، و خوفِ الفتنة و الفساد، و هذا لا ينافي حرمة السفور عليهنّ، و وجوبَ الحجاب بالنسبة إليهنّ بالضرورة.

و بالجملة: في موارد الاستثناء، لا يكون جواز النظر بريبة، مورده بضرورة عقول المتشرّعة و لو لم يكن عامّ واضح المرام يدلّ على المنع، و لكن يستفاد من القيود المأخوذة في هذه الطوائف، الممنوعيّة المطلقة، فليتدبّر جيّداً.


1- وسائل الشيعة 20: 206، كتاب النكاح، أبواب مقدّماته و آدابه، الباب 113.
2- الكافي 5: 524/ 1، وسائل الشيعة 20: 206، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 113، الحديث 1.
3- وسائل الشيعة 20: 199، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 107.

ص: 392

و كذا الوجه و الكفّان إذا كان بتلذّذ و ريبة (1).

قوله مدّ ظلّه: «بتلذّذ و ريبة».

إجماعاً. نعم يأتي من ذهب إلى جواز ذلك مرّة واحدة(1)، و أمّا مطلقاً فهو ممنوع عندهم، و هو مقتضى الأدلّة المانعة.

و دعوى: أنّ الوجه و أمثاله، القدر المتيقّن من تلك الأدلّة قريبة؛ فإنّه أولى بالمنع، و عليه يدلّ ما ضبطه أهل السير و التأريخ؛ من أحوال النساء المؤمنات في عصر النبيّ (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم (و عصر الأئمّة (عليهم السّلام (و كيفيّة تردّدهن.

نعم، هناك مطلقات، مثل الاستثناء في الآية الشريفة(2)، و الأخبار الواردة في الوجه و الكفّين و القدمين(3)؛ فإنّ قضيّتها الجواز مطلقاً.

و لو أمكن المناقشة في دلالة الآية على الجواز في المسألة بأنّ الاستثناء هنا من قبيل الاستثناء في قوله تعالى وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً(4) فما يحلّ لهنّ إبداء زينتهنّ إلّا ما ظهر منها قهراً و طبعاً، لا أنّه يجوز الإبداء بالنسبة إلى ما ظهر، و سيظهر الكلام ذيل المسألة إن شاء اللَّه تعالى يمكن المناقشة في الإطلاقات المزبورة: بأنّها معرض عنها أوّلًا.


1- شرائع الإسلام 2: 213.
2- النور) 24): 31.
3- وسائل الشيعة 20: 201 202، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 109، الحديث 2 و 5، بحار الأنوار 101: 34، الحديث 11.
4- النساء( 4): 92.

ص: 393

و أمّا بدونها (1) ففيه قولان، بل أقوال: الجواز مطلقاً، و عدمه مطلقاً، و التفصيل بين نظرة واحدة فالأوّل، و تكرار النظر فالثاني. و أحوط الأقوال أوسطها.

و بأنّ ما ورد من استثناء أيدي نساء أهل الذمّة(1)، معارض لها بمفهومها الثابت له عرفاً جدّاً ثانياً.

مضافاً إلى ما ورد من تجويز النظر إلى المجنونة و المغلوبة على عقلها ما لم يتعمّد(2)، فمع التعمّد لا يجوز فيهنّ، فضلًا عن غيرهّن ثالثاً.

و بالجملة: المسألة اتفاقيّة، و يقتضيها ذوق المتشرّعة، و يناسبها اهتمام الإسلام بسدّ ثغور الفساد، و لا سيّما في الأعراض.

و يدلُّ عليه معتبر ابن سويد الماضي، حيث قال) عليه السّلام): «إذا عرف اللَّه من نيّتك الصدق»(3) و مجرّد إمكان المناقشة فيما استقصيناه حسب الصناعة، غير كافٍ؛ لما يفهم العرف من المجموع، ما اختاره المجمعين إنصافاً.

قوله دام ظلّه: «و أمّا بدونها».

أقول: لهذه المسألة نظرتان:


1- وسائل الشيعة 20: 205، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 112.
2- وسائل الشيعة 20: 206، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 113.
3- الكافي 5: 542/ 6، وسائل الشيعة 20: 308، كتاب النكاح، أبواب النكاح المحرّم و ما يناسبه، الباب 1، الحديث 3.

ص: 394

الأولى: استفادة جواز النظر من السيرة أي النظر إلى ما كان الناس يبتلون به يوماً و ليلًا، و إلى ما في بعض الأخبار و الآثار المؤيّدة لهذه النظرة.

و هو أنّ المسائل المبتلية بها الأُمّة الإسلاميّة في أدوار حياتها الاجتماعيّة، إذا كانت من المحرّمات الإلهيّة، لا بدّ و أن يتبيّن حالها و حكمها في الشريعة؛ على وجه لا يشكّ فيه الاثنان؛ لأنّ الدعاة إليها كثيرون، و الأمّة الإسلاميّة يحافظونها على الأجيال التالية طبعاً، فعندئذٍ إذا رأينا أنّ مسألة النظر غير الشهوىّ، كانت ممّا يبتلي بها كافّة المسلمين المتدينين و غيرهم؛ في معاشهم و تجارتهم، و في محاوراتهم و معاشرتهم اليوميّة الرائجة بين الأقوام و القبائل، و لم تكن حرمة واضحة في الأخبار و الآيات؛ على حدّ النار على المنار، و الشمس في رابعة النهار، يتبيّن من ذاك و ذاك أنّ الجواز قطعيّ، و لو كان الشرع يهتمّ بتحريم ذلك، لأوضحه في الآيات المختلفة، و المآثير الواضحة، بعبارات ظاهرة.

فالإنصاف: أنّ الفقيه المتدبر في الوقائع الخارجيّة، و الترّددِ المتعارف بين العشائر و القبائل، و الأقوام و الأجيال، يجد أنّه لا مخلص من هذا الأمر؛ و أنّ مسألة النظر بلا شهوة و ريبة و تلذّذ، ما كانت مطرح الأنظار السالفة، و أنّ كلّ النظر كان حول تحريم النظر الباطل الخبيث، الذي

ص: 395

يجده الناظر من نفسه و وجدانه من غير حاجة إلى توضيح ذلك؛ ضرورة أنّ ما هو الممنوع وجداناً و خُلقاً، هو المحرّم شرعاً جدّاً.

و ربّما يؤيّده معتبر عليّ بن سويد السابق، الصريح في تجويز النظر مطلقاً؛ إذا عرف اللَّه من نيّته الصدق.

و حمله على الاضطرار للنظر بقصد العلاج(1)، أو على النظر الاتفاقيّ- كما في «الكشف»(2) و «الجواهر»(3) بلا وجه جدّاً؛ ضرورة أنّ ابن سويد ما كان معالجاً حسب تأريخ حياته، و كان النظر دأبه و عادته، من غير الاضطرار و لو كان معالجاً؛ لأنّ قوله: «إنّي رجل مبتلى بالنظر إلى المرأة الجميلة» لا يناسب كونه طبيباً و معالجاً، فكأنّه كان ينظر إليها لأجل النيّات الصادقة، و تقوية الإيمان و التوحيد؛ حيث أنّها جمال اللَّه تبارك و تعالى.

و ما قيل: «إنّ الظاهر أنّه كان يتلذّذ بالنظر إليهنّ»(4) غير تامّ؛ لأنّ هذا ينافي وثاقته(5)، ضرورة معروفيّة هذا الحكم بين الأصحاب الأوّلين، بل


1- مستمسك العروة الوثقى 14: 31.
2- كشف اللّثام 2: 9/ السطر 23.
3- جواهر الكلام 29: 79.
4- النكاح، الشيخ الأنصاري: 53 54.
5- رجال الطوسي: 380، أصحاب الرضا( عليه السّلام)، الباب العين/ 6.

ص: 396

بين المسلمين.

ثمّ إنّ الظاهر من «الشرائع»(1) و «القواعد»(2) و كلّ من قيّد التحريم بقوله: «بالتلذّذ و الريبة»(3) أنّه يجوز النظر في غير هذه الصورة مطلقاً؛ من غير فرق بين النظرة الأولى و الثانية.

الثانية في أنّ القدر المتيقن حرمة النظرة الثانية بشهوة: إنّ مقتضى النظر إلى الأخبار الموجودة بين أيدينا، أنّ النظرة الأُولى و غيرها «سهم من سهام إبليس»(4) و ما ورد من التفصيل بين النظرة الأولى و الثانية(5) أيضاً، هو ممنوعيّة النظرة الثانية مطلقاً؛ سواء كان بتلذّذ و شهوة، أم كان بصدق و نيّة خالصة، فالقول بالجواز مطلقاً ينافيه الطائفتان.

و لكنّك عرفت فيما سبق حكم الطائفة الأُولى؛ فإنّها مع كثرتها غير نقيّة السند أو الدلالة. مع أنّ المنساق من إطلاقها هو النظر الخاصّ.


1- شرائع الإسلام 2: 213.
2- قواعد الأحكام 2: 3/ السطر 2.
3- لاحظ مستمسك العروة الوثقى 14: 30.
4- وسائل الشيعة 20: 190 192، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 104، الحديث 1 و 5.
5- وسائل الشيعة 20: 193 195، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 104، الحديث 8 و 11 و 13 و 14 و 15 و 17.

ص: 397

و هكذا الأمر في الطائفة الثانية؛ فإنّ منها ما في «الفقيه» قال: قال (عليه السّلام): «أوّل نظرة لك؛ و الثانية عليك و لا لك، و الثالثة فيها الهلاك»(1).

و منها: ما في «عيون أخبار الرضا (عليه السّلام)» عن آبائه (عليهم السّلام (قال: قال رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم): «من قتل حيّة قتل كافراً».

و قال: «لا تتبع النظرة النظرة، فليس لك يا عليّ إلّا أوّل نظرة»(2).

و هاتان غير نقيّتي السند؛ حسب ما تحرّر عندنا في مراسيل الصدوق مطلقاً.

نعم منها: ما رواه بإسناده عن ابن أبي عمير عن عبد اللَّه بن يحيى الأسدي الكاهليّ، قال: قال أبو عبد اللَّه (عليه السّلام): «النظرة بعد النظرة، تزرع في القلب الشهوة، و كفى بها لصاحبها فتنة»(3).

و هو قريب اعتباره عندنا، و إن لم يوثّق الكاهلي.

و لكنّ الشأن في دلالة هذه الأخبار على الحرمة و إن لم تكن


1- الفقيه 3: 304/ 1460، وسائل الشيعة 20: 193، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 104، الحديث 8.
2- عيون أخبار الرضا( عليه السّلام) 2: 65/ 284 و 285، وسائل الشيعة 20: 193، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 104، الحديث 11.
3- الفقيه 4: 11/ 3، وسائل الشيعة 20: 192، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 104، الحديث 6.

ص: 398

النظرة بشهوة؛ فإنّها ممنوعة جدّاً، فإنّ المستفاد منها أنّ النظرة الأولى- لكونها نوعاً فارغة عن النيّة الباطلة جائزة، و لكنّها في المرة الثانية، تلازم نوعاً تلك النيّة فتحرم، و أمّا فيما لم يكن النظر مقروناً بالنيّة الشيطانيّة، فهذه الأخبار غير ناظرة إليها جدّاً.

و في أخبار المسألة بعض الشواهد الأُخر، الناهضة على أنّ الأمر مبنيّ على الكراهة، و إن لم يقل بها أحد.

و ممّا ذكرنا يظهر وجه القول بالتحريم مطلقاً، و بالتفصيل بين الاولى و الثانية، كما ظهر وجه تحليل النظر الشيطانيّ في أوّل مرّة. و القدر المتيقّن هي حرمة الثانية، إذا كانت مقرونة بالتلذذ و الريبة.

ثمّ اعلم: أنّه ربّما يستفاد من أدلّة استثناء الوجه و الكفين(1) من عموم وجوب ستر المرأة نفسها، جواز النظر إليها؛ بدعوى الملازمة العرفيّة بين تجويز الاستثناء، و تجويز النظر على الرجال.

و من الغريب، خلط بعض الأفاضل بين أدلّة المسألتين(2)!! فإنّ مسألة وجوب الستر على المرأة، مذكورة في كتاب الصلاة، و مسألةَ حرمة


1- وسائل الشيعة 20: 200، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 109، بحار الأنوار 101: 34/ 11.
2- لاحظ مستمسك العروة الوثقى 5: 240 و 241.

ص: 399

النظر إلى الأجنبيّة، معنونة في المقام، و أدلّة تلك المسألة غير أدلّة هذه المسألة.

نعم، بناءً على الملازمة العرفيّة، يمكن استظهار جواز النظر منها هنا.

و في آخر المسألة، لا بأس بذكر رواية عن الرضا (عليه السّلام) و لا يبعد اعتبارها في «قرب الإسناد» تشعر بجواز النظر إلى الوجه و الكفّين، قال: سألته عن الرجل، يحلّ له أن ينظر إلى شعر أُخت امرأته؟.

فقال: «لا، إلّا أن تكون من القواعد».

قلت له: أُخت امرأته و الغريبة سواء؟

قال: «نعم».

قلت: فما لي من النظر إليه منها؟

فقال: «شعرها و ذراعها»(1).

فإنّ الضمير في قوله «منها» يرجع إلى القواعد، و تجويز النظر فيها إلى الذراع، يشعر بأنّ الوجه و الكفّين كان يجوز، فتأمّل.

و قريب منه مرسلة ابن عبيد، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: قلت له: ما يحلّ للرّجل أن يرى من المرأة؛ إذا لم يكن محرماً؟


1- قرب الإسناد: 363/ 1300، وسائل الشيعة 20: 199، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 107، الحديث 1.

ص: 400

قال: «الوجه و الكفّان و القدمان»(1).

و ممّا ذكرناه مع إجماله، يظهر وجه استثناء الكفّين و الوجه و لو كان يجب عليهنّ التستّر، و لكنهنّ لا ينتهين في ذلك، و مع هذا لم يرد نصّ يمنع الرجال عن النظر صريحاً، بل ورد بعض الظواهر على جوازه(2)، فلا تخلط.


1- الكافي 5: 521/ 2، وسائل الشيعة 20: 201، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 109، الحديث 2.
2- المصدر السابق.

ص: 401

[مسألة 19: لا يجوز للمرأة النظر إلى الأجنبي كالعكس]

مسألة 19: لا يجوز للمرأة النظر إلى الأجنبي (1) كالعكس، قوله مدّ ظلّه: «النظر إلى الأجنبي».

مطلقاً حسب ما يظهر، و عليه يدلّ- بعد الإجماع عموم الحذف في الآية الشريفة(1).

و قال في «الرياض»: «تتحد المرأة مع الرجل، فتمنع في محلّ المنع، و لا تمنع في غيره إجماعاً»(2) انتهى.

و يناقش في الإجماع: بأنّه معلّل بالآية.

و في الآية: بأنّ عموم الحذف، ينتهي إلى المنع عن كلّ شي ء، و هو كما ترى، فتكون الآية في موقف تحريم خاصّ بحسب محلّ النظر و الحال، و القدر المتيقّن منه هو الأجنبيّ؛ إذا كان في حال الشهوة و الريبة، فلا دليل على المنع المطلق حتّى نحتاج إلى استثناء الوجه و الكفين بدليل آخر.

هذا مع أنّ تحريم النظر كان يتّضح؛ لكثرة الابتلاء به، و مجرّد خبر عامّي يحكي قصّة عائشة و حفصة(3)، أو رواية أُخرى تحكي عن قضيّة


1- النور) 24): 31.
2- رياض المسائل 2: 74/ السطر 27.
3- عدّة من أصحابنا عن أحمد بن أبي عبد اللَّه قال: استأذن ابن أُمّ مكتوم على النبيّ( صلّى اللَّه عليه و آله( و عنده عائشة و حفصة فقال لهما قوما فادخلا البيت، فقالتا إنّه أعمى، فقال: إن لم يركما فإنّكما تريانه. راجع الكافي 5: 534/ 2، وسائل الشيعة 20: 232، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 129، الحديث 1.

ص: 402

و الأقرب (1) استثناء الوجه و الكفيّن.

سيّدة النساء سلام اللَّه عليها في مورد ابن أُمّ مكتوم، وروده في البيت(1)، لا يكفي لحلّ هذه المشاكل بالضرورة.

و من الغريب، دعوى جواز النظر إلى الوجه و الكفين من النساء دون الرجال؛ بتوهّم وجود الدليل(2) على الاستثناء هناك، لا هنا كما لا يخفى!! فإنّ الفقيه كلّ الفقيه، من يراجع السيرة السالفة، ويلا حظ الأخبار و الأحكام الإلهيّة بالقياس إليها، حتّى يتّضح له حالها.

قوله دام ظلّه: «و الأقرب».

لا مطلقاً حتّى بريبة و تلذّذ، و قد عرفت وجهه.

و يمكن دعوى جواز النظر للنساء و لو كان بتلذّذ؛ لأنّ التلذّذ نادر، و ربّما لا يبالي الشرع بالنادر.

كما أنّ التلذّذ الحاصل بالنظر و الاستدامة إذا كان متعارفاً يمكن


1- جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه علي بن الحسين عن أبيه أنّ فاطمة بنت رسول اللَّه( صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم( استأذن عليها أعمى فحجبته، فقال لها النبيّ( صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم): لِمَ حجبته و هو لا يراك، فقالت: يا رسول اللَّه إن لم يكن يراني فأنا أراه و هو يشمّ الريح، فقال النبيّ( صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم): أشهد أنّك بضعة منّي. الجعفريات: 95، مستدرك الوسائل 14: 289، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح، الباب 100، الحديث 1.
2- مستمسك العروة الوثقى 14: 26.

ص: 403

تجويزه في موارد جوازه، كما نسب إلى الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه)(1)، فتخصّ ممنوعيّة النظر بما إذا قصد التلذّذ بالنظر، و هو المنسوب إلى ظاهر «الشرائع»(2).


1- مستمسك العروة الوثقى 14: 30، و لاحظ كتاب النكاح، للشيخ الأنصاري: 53.
2- مستمسك العروة الوثقى 14: 30، و لاحظ شرائع الإسلام 2: 213.

ص: 404

[مسألة 20: كلّ من يحرم النظر إليه يحرم مسّه]

مسألة 20: كلّ من يحرم النظر إليه يحرم مسّه، (1) قوله مدّ ظلّه: «يحرم مسّه».

و يدلّ عليه قبل الإجماع و في «الجواهر»: «لا أجد فيه خلافاً، بل كأنّه ضروريّ على وجه يكون محرّماً بنفسه»(1) انتهى الأخبار الكثيرة المتفرّقة، ففي أبواب غسل الميّت معتبر عبد اللَّه بن سنان قال: سمعت أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) يقول: «إذا مات الرجل مع النساء غسلته امرأته، و إن لم تكن امرأته معه غسّلته أُولاهنّ به، و تلفّ على يدها خرقة»(2).

و مقتضى ما ورد من جواز تغسيل المحارم بلا لفّ(3)، اختصاص اللفّ بالأولى غير المحارم.

و في أبواب مقدمات النكاح و فيه مرسلة ابن أبي نجران، عنه (عليه السّلام) قال: «و زنا الفم القبلة، و زنا اليدين اللّمس ..»(4) الحديث.

و في حديث المناهي: و قال (عليه السّلام): «و من صافح امرأة تحرم عليه، فقد


1- جواهر الكلام 29: 100.
2- تهذيب الأحكام 1: 444/ 1436، وسائل الشيعة 2: 518، كتاب الطهارة، أبواب غسل الميّت، الباب 20، الحديث 6.
3- وسائل الشيعة 2: 516 519، كتاب الطهارة، أبواب غسل الميّت، الباب 20، الحديث 1 إلى 5 و 7 و 8 و 9.
4- الكافي 5: 559/ 11، وسائل الشيعة 20: 191، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 104، الحديث 2.

ص: 405

باءَ بسخط من اللَّه عزّ و جلّ ..»(1) الحديث.

و في حديث عقاب الأعمال: قال: «و من صافح امرأة حراماً، جاء يوم القيامة مغلولًا، ثمّ يُؤمر به إلى النار ..»(2) الحديث.

و في معتبر أبي بصير، عن أبي عبد اللَّه (عليه السّلام) قال: قلت له: هل يصافح الرجل المرأة ليست بذات محرم؟

فقال: «لا، إلّا من وراء الثوب»(3).

و معتبر سَماعة بن مِهْران، قال: سألت أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) عن مصافحة الرجل المرأة.

قال: «لا يحلّ للرجل أن يصافح المرأة، إلّا امرأة يحرم عليه أن يتزوّجها؛ أُخت، أو بنت، أو عمّة، أو خالة، أو بنت أُخت، أو نحوها، و أمّا المرأة التي يحلّ له أن يتزوجها، فلا يصافحها إلّا من وراء الثوب، و لا يغمز كفّها»(4).


1- الفقيه 4: 8/ 1، وسائل الشيعة 20: 195، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 105، الحديث 1.
2- عقاب الأعمال: 334/ 1، وسائل الشيعة 20: 198، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 106، الحديث 4.
3- الكافي 5: 525/ 2، وسائل الشيعة 20: 207، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 115، الحديث 1.
4- الكافي 5: 525/ 1، وسائل الشيعة 20: 208، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 115، الحديث 2.

ص: 406

و في أبواب النكاح المحرّم في حديث عقاب الأعمال، عنه (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم (قال: «المرأة إذا طاوعت الرجل، فنال منها حراماً و قبّلها، و باشرها حراماً، أو فاكهها، أو أصاب منها فاحشة، فعليها مثل ما على الرجل، فإن غلبها على نفسها، كان على الرجل وزره و وزرها»(1)، ما ينفعك.

و في الباب السابق روايات تحكي كيفيّة بيعة النبيّ (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم (و النساء(2)، و فيها أيضاً ما يشهد على الممنوعيّة، إن لم يكن ذلك من خصائصه (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم (لما فيه من خوف يوجب الافتراق بلا طلاق.

و غير خفيّ: أنّ ما هو المقصود تحريم المسّ، و هذه الطوائف قاصرة، إلّا الأُولى و حديث عقاب الأعمال. و إمكان المناقشة في ذلك بعد اقتضاء الاعتبار تحريمه، و هو الموافق لمرتكز المتشرّعة، و لا عسر و لا حرج في ذلك في غير محلّه.


1- عقاب الأعمال: 334/ 1، وسائل الشيعة 20: 321، كتاب النكاح، أبواب النكاح المحرّم و ما يناسبه، الباب 8، الحديث 2، باختلاف في الألفاظ.
2- وسائل الشيعة 20: 208 و 211، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 115، الحديث 3 و 4 و 5، و الباب 117 من هذه الأبواب، الحديث 4.

ص: 407

فلا يجوز (1) مسّ الأجنبيّ الأجنبيّة و بالعكس. بل لو قلنا: بجواز النظر إلى الوجه و الكفّين من الأجنبيّة، لم نقل بجواز مسّهما منها، فلا يجوز للرجل مصافحتها. نعم، لا بأس بها من وراء الثوب، لكن لا يغمز (2) كفّها احتياطاً.

قوله مدّ ظلّه: «فلا يجوز».

إلّا بدعوى انصراف أدلّة المنع حتّى الإجماع إلى مورد المسّ بتلذّذ و ريبة.

و كان ينبغي أن يقال: «فلا يجوز مسّها» حتّى يناسب التفريع ما يتفرّع عليه؛ فإنّ المصافحة أخصّ، لإمكان تحريمها خصوصاً، كما عرفت.

و بالجملة: نصّ في «الجواهر»(1) و أقرّ به الشيخ الأنصاري (قدّس سرّهما)(2)، على أنّ الملازمة ممنوعة، و في المحكي عنه: «إذا حرم النظر حرم اللّمس قطعاً، بل لا إشكال في حرمة اللّمس و إن جاز النظر؛ للأخبار الكثيرة»(3) انتهى.

و مراده من الأخبار الكثيرة، لا بدّ و أن تكون الطائفة الأُولى. إلّا أنّ تحريمه على إطلاقه محلّ إشكال، فتدبّر جدّاً.

قوله مدّ ظلّه: «لا يغمز».

أي لا يجسّها و لا يكبسها باليد، و قد مرّ في الأخبار ما يدلّ عليه


1- جواهر الكلام 29: 100.
2- النكاح، الشيخ الأنصاري: 68.
3- حكاه في مستمسك العروة الوثقى 14: 50، النكاح، الشيخ الأنصاري: 68.

ص: 408

بالأولويّة(1).

و يظهر من طائفة منهم حسب إطلاقهم، جواز المسّ من وراء الثوب عند غير الضرورة، بل و لو كان فيه الريبة و التلذّذ(2)، و يحتمل مفروغيّة الممنوعيّة من هذه الجهة، إلّا أنّ إطلاق معتبر أبي بصير يسدّها(3)، فتأمّل.


1- وسائل الشيعة 20: 207 و 208، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 115، الحديث 1، و في الحديث 2 من ذلك الباب صرّح بذلك حيث قال: .. فلا يصافحها إلّا من وراء الثوب و لا يغمز كفّها.
2- لاحظ العروة الوثقى 2: 804، كتاب النكاح، المسألة 40.
3- الكافي 5: 525/ 2، وسائل الشيعة 20: 207، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 115، الحديث 1.

ص: 409

[مسألة 21: لا يجوز النظر إلى العضو المبان من الأجنبيّ و الأجنبيّة]

مسألة 21: لا يجوز النظر إلى العضو المبان (1) من الأجنبيّ و الأجنبيّة، قوله مدّ ظلّه: «إلى العضو المبان».

على المعروف بين المتعرّضين. و في القواعد استشكل في الحكم(1)، و في كلام الشيخ المناقشة في استصحاب الحرمة الثابتة في ظرف الاتصال؛ بدعوى تعدّد الموضوع، فإنّ موضوع المنع «المرأة» و هو غير صادق على الجزء المنفصل، فالمرجع أصل البراءة(2).

و يمكن دعوى كفاية الأدلّة الاجتهاديّة المانعة؛ ضرورة أنّ المحرّم هو النظر إلى الجسم و المادّة، لا التي عرضته الروح الإنسانيّة، و لذلك لا يجوز بعد الموت.

و أيضاً: يكون حكم التحريم تحليليّاً؛ حسب الأعضاء و الأجزاء، فلا يجوز النظر إلى كلّ جزء من بدن الأجنبيّة و الأجنبيّ، فلا يجوز النظر إلى اليد و الرجل و البطن؛ لأنّ الجثمان ليس موضوع التحريم على نعت العموم المجموعيّ بالضرورة، و لا على وجه الارتباط بين الأجزاء، حتّى يكون المحرّم هو النظر إلى اليد إذا صاحبه النظر إلى سائر الأجزاء، فالحكم الثابت بالدليل الاجتهادي، ينحلّ في نظر العرف إلى الأحكام المتعدّدة بتعدّد الأجزاء، و يكون باقياً بقائها.


1- قواعد الأحكام 2: 3/ السطر 5.
2- النكاح، الشيخ الأنصاري: 68.

ص: 410

و أمّا قضيّة الاستصحاب، فالحقّ أنّ جريانه محلّ إشكال، لا لما في كلام الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه)(1)، كي يتوجّه إليه: أنّ الموضوع الاستصحابيّ باقٍ عرفاً، و إن كان موضوع الدليل غير باقٍ.

بل لأنّ الحكم الثابت للجزء، إن كان حكماً مستقلا في ظرف الاتصال، فهو باقٍ، و لا تصل النوبة إلى الاستصحاب، و إن كان حكماً ضمنيّاً، فلا يعقل بقاؤه و احتمال بقائه؛ لأنّه تابع الكلّ، كبقيّة موضوعه له.

مثلًا: إذا حرم النظر إلى البيت فخرب، فإنّ النظر إلى الجزء المبان من البيت، لا يثبت حرمته باستصحاب حرمة النظر الثابتة في ظرف الاتصال؛ لأنّ هذا الجزء المبان، ما كان بما هو مورد التحريم حتّى يحتمل بقاؤه، و لو كان كذلك فلا يحتاج إلى الاستصحاب. و من هنا يظهر حكم استصحاب نجاسة الجزء المقطوع من الكلب و أمثاله، فلا تخلط. هذا كلّه بحسب الصناعة.

و هناك دعوى: أنّ انحلال التحريم يخصّ بصورة الحياة أو الاتصال؛ اتكالًا على فهم العرف، فتصير الأدلّة الاجتهاديّة قاصرة عن التحريم، و تكون البراءة معوّلًا.


1- النكاح، الشيخ الأنصاري: 69.

ص: 411

و الأحوط (1) ترك النظر إلى الشعر المنفصل. نعم، الظاهر أنّه لا بأس بالنظر إلى السنّ و الظّفر المنفصلين.

و ربّما يؤيّد ذلك، إطلاق ما ورد من جواز وصل شعر غيرها بشعرها(1)، مع الملازمة العرفيّة و العاديّة بين ذلك و بين نظر الزوج و لمسه؛ ضرورة اطلاعهم عليه بأخبارهن به نوعاً، فتُرك الاستفصال كما يأتي في الخبرين الآتيين، و الإطلاق اللفظي و المقامي يعضدان الحلّية، و اللَّه من وراء القصد.

قوله مدّ ظلّه: «و الأحوط».

خلافاً للأكثر(2)، و وفاقاً لبعضهم(3). و في «الجواهر» ما يومئ إلى أنّه لا ينبغي الإشكال في جواز النظر إلى مثل الظفر و السنّ، و كذا الشعر(4)، و في كلام الشيخ الأنصاري التصريح بذلك(5).

و ربّما يمكن أن يوجّه الاحتياط و الإشكال: بأنّ الشعر لا يقاس بسائر الأعضاء؛ فإنّ فيه التحريك، و لا سيّما في صورة الاطلاع على أنّه من الأجنبيّة المعلومة الكذائيّة.


1- وسائل الشيعة 20: 187، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 101.
2- تذكرة الفقهاء 2: 574/ السطر 35، جواهر الكلام 29: 100، النكاح، الشيخ الأنصاري: 69، العروة الوثقى 2: 638، كتاب النكاح، المسألة 45.
3- جامع المقاصد 12: 46، إيضاح الفوائد 3: 10، مستند الشيعة 2: 473/ السطر 17.
4- جواهر الكلام 29: 100.
5- النكاح، الشيخ الأنصاري: 69.

ص: 412

و بأنّ الأدلّة الخاصّة، تدلّ على المنع عن النظر إلى شعورهنّ(1)؛ فإنّ الترخيص في شعور نساء أهل الذمّة(2)، في مورد المنع عن غيرهم، و قضيّة إطلاقها المنع حال الانفصال و لو كان متّصلًا بشعر المرأة المحلّلة أو المحرّمة فعلى هذا يتعيّن المنع.

و حيث ورد في الأخبار ما يقتضي الجواز حال الانفصال و لو كان متّصلًا بشعر آخر(3)، و تكون هي غير نقيّة السند، و يحتمل انجبار ضعفها بالعمل، احتاط المصنّف في المسألة.

و من تلك الأخبار، ما رواه الشيخ بسنده عن ثابت بن سعيد الذي لم يثبت وثاقته، قال: سُئل أبو عبد اللَّه (عليه السّلام) عن النساء تجعل في رؤوسهنّ القرامل.

قال: «يصلح الصوف و ما كان من شعر امرأة لنفسها، و كره للمرأة أن تجعل القرامل من شعر غيرها، فإن وصلت شعرها بصوف أو بشعر نفسها،


1- وسائل الشيعة 20: 193 194، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 104، الحديث 12 و 16.
2- وسائل الشيعة 20: 205، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 112، الحديث 1 و 2.
3- وسائل الشيعة 20: 187، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 101.

ص: 413

فلا يضرّها»(1).

و منها: خبر «مكارم الأخلاق» عن سليمان بن خالد(2)، و هو قريب منه.

و ربّما يمكن دعوى دلالتهما على المنع؛ لعدم إباء مفهوم «الكراهة» عن الإطلاق على الحرمة، فلا يكون قرينة على خلاف ما ثبت بالأخبار الأُخر المشار إليها.

و لأنّ قوله: «لا يضرّها» و في خبر ابن خالد: «فإن وصلت شعرها بصوف أو شعر نفسها، فلا بأس به» يدلّ بالمفهوم على الضرر و البأس المؤيّد لما سبق.

و لكن بعد اللتيّا و التي، إثبات المنع ممنوع بما مرّ؛ لأنّ أخبار المنع ناظرة إلى حال الوصل.

نعم، إذا كان معلوماً أنّه من المرأة الجميلة المقصودة، و كان النظر و اللّمس إليه بداعي تلك المرأة، يمكن المنع جدّاً كما لا يخفى.


1- الكافي 5: 520/ 3، وسائل الشيعة 20: 187، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 101، الحديث 1.
2- مكارم الأخلاق: 84، وسائل الشيعة 20: 188، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 101، الحديث 3.

ص: 414

[مسألة 22: يستثنى من حرمة النظر و اللّمس في الأجنبيّ و الأجنبيّة، مقام المعالجة]

مسألة 22: يستثنى من حرمة النظر و اللّمس في الأجنبيّ و الأجنبيّة، مقام المعالجة؛ إذا لم يمكن بالمماثل، (1) قوله مدّ ظلّه: «إذا لم يمكن بالمماثل».

إجماعاً كما في «المسالك»(1) و بلا خلاف فيه كما عن آخر(2)، و هو الظاهر من معتبر أبي حمزة الثماليّ، عن أبي جعفر) عليه السّلام (قال: سألته عن المرأة المسلمة، يصيبها البلاء في جسدها؛ أمّا كسر، و إمّا جُرح؛ في مكان لا يصلح النظر إليه، يكون الرجل أرفق بعلاجه من النساء، أ يصلح له النظر إليها؟.

قال) عليه السّلام): «إذا اضطرّت إليه فليعالجها إن شاءت»(3).

فإنّ قوله: «يكون الرجل أرفق» يشمل وجود المعالج المماثل المرفق، و مع ذلك عدل) عليه السّلام (عمّا في كلامه بالجواب عن عنوان آخر؛ و هو الاضطرار مع إرادة المرأة و مشيئتها، و لا شبهة أنّه لا يصدق «الاضطرار» مع وجود المماثل.

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ المناط اضطرارها إلى المعالجة، لا إلى المعالجة عند المعالج الخاصّ، فيكون نفس اضطرارها مجوّز


1- مسالك الأفهام 7: 49.
2- مستمسك العروة الوثقى 14: 34، رياض المسائل 2: 74.
3- الكافي 5: 534/ 1، وسائل الشيعة 20: 233، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 130، الحديث 1.

ص: 415

المراجعة إليه، و مقتضى الخبر جواز نظر المعالج إليها.

و ربّما يقال: إنّ الاضطرار العرفيّ، يحصل في موارد الحاجة العرفيّة، فلا يجب تحمّل الألم، و لا تبعيد المسافة.

و الذي هو الأقرب: أنّ الحاجة إلى المعالجة، تختلف حسب اختلاف أماكن الأبدان و أجزائها، و في الخبر ما يومئ إليه؛ فإنّ قوله: «في مكان لا يصلح النظر إليه» ليس مثل الوجه و الكفين بالضرورة، و يعلم منه أنّ في المرأة مكاناً يصلح النظر إليه.

و بالجملة: ربّما أمكن تجويز النظر بمجرّد الحاجة، كما يظهر من عبائر جمع من الأصحاب(1)، و من مورد الإجماع المحكيّ عن «المسالك»(2) بدعوى أنّه من الاضطرار المبيح، فتدبّر.

و الذي يبقى في المقام، أنّ التمسّك بقاعدة نفي الاضطرار و بالأدلّة العامّة(3)، مورد الإشكال، و هكذا بقاعدة نفي الضرر(4)؛ و ذلك لأنّ اضطرار النساء إلى إبراز المكان غير الصالح، و إبداءِ محالّ الحرام، لا يورث


1- السرائر 2: 608، إرشاد الأذهان 2: 5، تذكرة الفقهاء 2: 573/ السطر 15، كنز العرفان 2: 222.
2- مستمسك العروة الوثقى 14: 34، مسالك الأفهام 7: 49.
3- جواهر الكلام 29: 87.
4- مستمسك العروة الوثقى 14: 35.

ص: 416

جواز نظر المرء المعالج؛ ضرورة أنّ حرمة الإبداء و الإظهار ترتفع بالاضطرار، و أمّا وجوب الغضّ على المرء، فلا يستثنى منه بمجرّد اضطرار المرأة الأجنبيّة؛ فإنّ حرمة النظر إلى الأجنبيّة، ترفع إذا تعيّن العلاج عليه و يصير واجباً، فلا ينبغي الخلط بين المقامين.

كما يظهر من التمسّك بقاعدة نفي الضرر ذلك؛ فإنّ ما هو الضرري هو لزوم التحفّظ على المرأة، و هذا لا يستلزم جواز النظر للمرء.

و توهّم: أنّ دليل الاقتضاء يلازم ذلك، في غير محلّه؛ لأنّه يتمسّك به، إذا لزم منه طرح الدليل كلّاً.

و أمّا دعوى: أنّ المرأة تضطر إلى نظر المرء، فهي مضافاً إلى أنّ الاضطرار يستند إلى إظهار بدنها و إبرازه للأجنبيّ أنّ الأدلّة العامة غير لائقة بنفي هذا النحو من الحكم؛ بمعنى أنّ اضطرار المكلّف، أوجب رفع الحكم عن المكلّف غير المضطرّ، فتدّبر.

و هذا نظير اضطرار المرأة إلى الجماع، مع أنّها ذات بعل لا يتمكن منه، فإنّه لا يوجب جواز الجماع للمرء الأجنبيّ.

نعم، في موارد توقّف حفظ النفس، يمكن الترخيص إذا كان الحفظ أهمّ.

إن قلت: قضيّة إطلاق قاعدة نفي الضرر، نفي الحكم عن المرء الأجنبيّ و لو كان ضرريّاً بالنسبة إلى الأجنبيّة.

قلت: هذا غير ثابت؛ للزوم جواز الأُمور الأُخر، و لا يمكن الالتزام به، فتأمّل.

ص: 417

كمعرفة النبض إذا لم تمكن بآلة نحو الدرجة و غيرها، و الفصد، و الحجامة، و جبر الكسر، و نحو ذلك، (1) ثمّ إنّه يمكن الاستدلال لجواز النظر، بمعتبر عليّ بن سويد الماضي(1)، بناءً على القول: بأنّه وارد مورد المعالجة(2)، فراجع.

قوله مدّ ظلّه: «و نحو ذلك».

ممّا يتوقّف على النظر أو اللّمس و المسح. و في استثناء غير النظر إشكال؛ لعدم الدليل عليه، و صحيح الثماليّ(3) مخصوص بمورد النظر، و قد عرفت المناقشة في التمسّك بالأدلّة العامّة(4).

نعم، يمكن دعوى: أنّ قوله) عليه السّلام): «إذا اضطرّت إليه فليعالجها إن شاءت» لا يخصّ بمورد السؤال، فإذا اضطرت إلى العلاج، و أرادت من المعالج أن يعالجها، يجوز له ذلك بمراجعتها إليه و باختياره.

و في هذا التعبير إشعار، بأنّ إباحة النظر له منوطة بذلك، و مخصوصة بهذه الصورة، فمجرّد كون العلاج أصلح لا يكفي، و ليتأمّل جيّداً.


1- تقدّم في الصفحة 389.
2- مستمسك العروة الوثقى 14: 31.
3- الكافي 5: 534/ 1، وسائل الشيعة 20: 233، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 130، الحديث 1.
4- تقدّم في الصفحة 415.

ص: 418

و مقامِ الضرورة (1)، كما إذا توقّف استنقاذه من الغرق و الحرق، على النظر و اللّمس.

و يمكن دعوى قيام السيرة على المراجعة إليهم للمعالجة، و هذه الأدلّة غير كافية لردعها، فتكون هي إمّا موجبة لصرفها عن صورة العلاج، أو مخصّصة لها و مقيّدة إيّاها.

و لو كان المريض عالماً: بأنّ النظر يكون عن شهوة و تلذّذ، فلا يبعد أيضاً جواز الرجوع؛ لإطلاق قوله (عليه السّلام) في المعتبر المذكور، و هو قضيّة إطلاق كلماتهم.

نعم، بناءً على كون معتبر ابن سويد(1)، وارداً في هذا المقام، فلازمه جواز ذلك إذا عرف اللَّه من نيّته الصدق، لا مطلقاً، فلا تغفل.

قوله مدّ ظلّه: «و مقام الضرورة».

غير خفيّ: أنّ المقام السابق مع رعاية القيود المأخوذة في كلماته، يندرج في هذا المقام.

و على أي تقدير: في مفروض الكلام بأن يدور الأمر بين حفظ النفس عن الهلاك، و بين الابتلاء بالنظر و اللّمس و أمثالهما لا إشكال؛ لأنّ المحافظة واجبة على كلّ أحد.

نعم، السبق إلى الاستنقاذ بدواعٍ باطلة، مع وجود من فيه الكفاية،


1- تقدّم في الصفحة 389.

ص: 419

و إذا اقتضت الضرورة أو توقّف العلاج على النظر دون اللمس، أو العكس، اقتصر على (1) ما اضطرّ إليه، و فيما يضطرّ إليه اقتصر على مقدار الضرورة، فلا يجوز الآخر، و لا التعدّي.

غير جائز، و لعلّ إطلاق كلامهم منصرف عن هذه الصورة.

و ممّا ذكرنا يظهر حكم ما إذا توقّف النجاة من الهلاك على الأكثر من النظر و اللّمس، و اللَّه هو العالم.

قوله مدّ ظلّه: «اقتصر على ..».

كلّ ذلك حسب حكم العقلاء و العرف؛ بناءً على حرمة النظر و اللمس مطلقاً.

و أمّا على القول: بجوازهما إذا لم يكن بشهوة و ريبة، و لا سيّما بدعوى قصور الأدلّة العامّة عن شمول هذه المواقف، فلا يقتصر على مقدار الضرورة، و ربّما ينتهي التدقيق في هذه الأُمور، إلى هلاك المرضى؛ لأنّ المواظبة على مقدار الضرورة، توجب انحراف نظر المعالج عمّا هو اللازم عليه، ففي مقام المعالجة و الاستنقاذ و أمثالهما، يكون رعاية ذلك على خلاف الاحتياط أحياناً، فلا تخلط.

ص: 420

[مسألة 23: كما يحرم على الرجل النظر إلى الأجنبيّة، يجب عليها التستّر من الأجانب]

مسألة 23: كما يحرم على الرجل النظر إلى الأجنبيّة، يجب عليها التستّر (1) من الأجانب. و لا يجب على الرجال التستّر، و إن كان يحرم على النساء النظر إليهم عدا ما استُثني. و إذا علموا بأنّ النساء يتعمّدن النظر إليهم، فالأحوط التستّر منهنّ، و إن كان الأقوى عدم وجوبه.

قوله مدّ ظلّه: «يجب عليها التستّر».

و مقتضى الإطلاق وجوبه بالنسبة إلى جميع أعضائها؛ حتّى الوجه و الكفين، و هذا لا ينافي جواز النظر للمرء إذا لم تسترها.

و بالجملة: وجوب التستّر بالقياس إلى غير الوجه و الكفّين، ضروري و إجماعي، و إنّما الكلام في موارد الاستثناء الواقعة في كلام جمع(1)، و في الأخبار الخاصّة.

و قبل الإشارة إليها، لا بأس بذكر الآية الشريفة، حيث وردت في هذا المقام، قال اللَّه تعالى وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَ لا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ


1- المبسوط 4: 160، شرائع الإسلام 2: 113، تذكرة الفقهاء 2: 573/ السطر 9، الحدائق الناضرة 23: 53، مستند الشيعة 2: 470/ السطر 24.

ص: 421

(1). و في «الكافي» بسند فيه سعد الإسكاف و هو مشكل أمره عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: «استقبل شابّ من الأنصار امرأة بالمدينة، و كان النساء يتقنّعن خلف آذانهنّ، فنظر إليها و هي مقبلة، فلمّا جازت نظر إليها و دخل في زقاق» قد سمّاه ببني فلان «فجعل ينظر خلفها، و اعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة، فشقّ وجهه، فلمّا مضت المرأة نظر فإذا الدّماء تسيل على ثوبه و صدره.

فقال: و اللَّه، لآتينّ رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم (و لأُخبرنّه.

فلمّا رآه رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم (قال: ما هذا؟ فأخبره.

فهبط جبرئيل (عليه السّلام) بهذه الآية قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ(2)»(3).

و الظاهر أنّ الآية السابقة(4)، أيضاً وردت في ذيلها بهذه المناسبة،


1- النور) 24): 31.
2- النور) 24): 30.
3- الكافي 5: 521/ 5، وسائل الشيعة 20: 192، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 104، الحديث 4.
4- النور) 24): 31.

ص: 422

فعلى هذا تكون الآية في مورد النظر؛ و في محلّ إيجاب التستّر عن نظر الأجنبيّ، فيمكن رفع الإجمال من هذه الناحية؛ حسب ما عليه كثير من أرباب التفسير(1).

نعم، وجوب التستّر عن مطلق النظر، و حرمة الإبداء عند كلّ نظر، يحتاج إلى المئونة، و تكفيها الإطلاق؛ فإنّ المورد لا يوجب التقييد.

نعم، دعوى الانصراف إلى النظر الخاصّ و إن كانت قريبة في ذاتها، إلّا أنّها بعيدة، بعد ذهاب المعظم إلى ممنوعيّته؛ و وجوب التستّر عليهنّ في الجملة مطلقاً.

معنى آية غض النظر و بالجملة: معنى الآية: هو أنّ المؤمنات يوجدن الموانع و الحواجب بينهنّ و بين ما يحرم عليهنّ النظر إليه وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ عن كلّ آفة عرفيّة، و خلاف عقليّ، و ممنوع شرعيّ؛ حسب الإطلاق، فإنّه أُحيل فهم المحذوف إلى الأمة؛ لأنّه أمر تدركه الطبائع السليمة، و الأنفس المتشرّعة وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها و اتّفق ظهوره بجريان الرياح، فيكون حال هذا الاستثناء، حالَ الاستثناء في قوله تعالى:


1- التبيان 7: 429، مجمع البيان 7: 217.

ص: 423

وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً(1) فلو ظهرت الزينة كالجيوب و الزندين و الساقين؛ ممّا هي المحرّكات نوعاً، و تثير الشهوات عادةً فلا بأس، و لكن لا يجوز إظهارها.

و يؤيّد ذلك قوله تعالى وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ(2) حتّى لا يظهر و لو من باب الاتفاق و الصدفة؛ و حين الغفلة و الذهول.

و أيضاً: يشهد لما أُشير إليه، تعقيب القول المزبور بقوله تعالى وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ(3) فيكون الوجه و الكفّ و القدم، خارجة عن الآية صدراً و ذيلًا، و لا يكون الكفّ و الوجه و القدم محلّ الزينة، حتّى يصح إطلاق «الزينة» عليها باعتبار علقة الحلول. هذا مع قطع النظر عن أخبار المسألة.

و أمّا بالنظر إليها، فلأحد دعوى أنّ قوله تعالى وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ(4) يدلّ على وجوب تسترهنّ؛ لأنهنّ كلّهنّ فرج؛ لانّه العورة، و «المرأة كلّها عورة» كما في بعض الأخبار(5)، و لكن دون إثباتها خرط القَتاد.


1- النساء( 4): 92.
2- النور) 24): 31.
3- النور) 24): 31.
4- النور) 24): 31.
5- الفقيه 3: 247/ 1172، وسائل الشيعة 20: 66، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 24، الحديث 4 و 6.

ص: 424

و أمّا الأخبار المتضمّنة لإفادة أنّ ما ظَهَرَ مِنْها هي الزينة الظاهرة، و منها الخاتم و المَسَكة- و هي القُلْب و الكحل(1)، فهي غير نقيّة الإسناد، و لو أمكن تصحيح بعضها لكن حجّيتها في مثل المقام بعد ظهور الآية في الخلاف مشكلة جدّاً.

الأخبار الدالّة على عدم وجوب ستر الوجه و الكفيّن و بناءً على هذا، لا تدلّ الآية على وجوب التستّر بالقياس إلى مطلق الأعضاء. مع دلالة جملة من الأخبار على عدم وجوب التستّر؛ بالنسبة إلى مثل الوجه و الكفيّن(2):

و فيها: معتبر الفضيل قال: سألت أبا عبد اللَّه (عليه السّلام) عن الذراعين من المرأة، هما من «الزينة» التي قال اللَّه تعالى وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ(3).

قال: «نعم، و ما دون الخمار من الزينة، و ما دون السوارين»(4).


1- الكافي 5: 521/ 3 و 4، وسائل الشيعة 20: 201، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 109، الحديث 3 و 4.
2- وسائل الشيعة 20: 200 و 202، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 109، الحديث 1 و 2 و 5.
3- النور) 24): 31.
4- الكافي 5: 520/ 1، وسائل الشيعة 20: 200، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح و آدابه، الباب 109، الحديث 1.

ص: 425

و من الواضح: أنّ الوجه خارج عمّا يستره الخمار، و هو الرقبة و الرأس، و الكفّ فوق السوار لا دونه، فلا تشملهما الآية، و لا الفقرة الأُولى أيضاً؛ بهذه المناسبة، فلا تغفل.

و منها: معتبر أبي حمزة الثماليّ السابق، الظاهر في أنّ في بدن النساء مكاناً يصلح النظر إليه، و قد أشرنا فيما سبق إلى ذلك.

و منها: معتبر المفضّل بن عمر قال: قلت لأبي عبد اللَّه (عليه السّلام): جعلت فداك، ما تقول في المرأة تكون في السفر مع الرجال، ليس فيهم لها ذو محرم، و لا معهم امرأة، فتموت المرأة، ما يصنع بها؟

قال: «يغسل منها ما أوجب اللَّه عليه التيمّم، و لا تمسّ، و لا يكشف لها شي ء من محاسنها التي أمر اللَّه بسترها».

قلت: فكيف يصنع بها؟.

قال: «يغسل بطن كفّيها، ثمّ يغسل وجهها، ثمّ يغسل ظهر كفّيها»(1).

و يعاضد هذه الأخبار السيرة، و كثرة الابتلاء، و لو كان يجب ستر الوجه و الكفّ، لبان وجوبه، كالنار على المنار، و لا يكفي لمثله خبر


1- تهذيب الأحكام 1: 442/ 1429، وسائل الشيعة 2: 522، كتاب الطهارة، أبواب غسل الميّت، الباب 22، الحديث 1.

ص: 426

أو خبران مثل مكاتبة الصّفار(1).

و لا ينبغي الخلط بين أخبار هذه المسألة، و روايات مسألة حرمة النظر، ممّا لا ملازمة بينهما كما مرّ(2)، فإطالة البحث هنا كما في «الجواهر»(3) و غيره(4) بذكر تلك الأخبار، في غير محلّه.

و لو كانت الآية الشريفة ظاهرة فيما فهمه الجمهور، و تقتضيه المآثير المزبورة، لكانت هي أمّا دالّة على استثناء الوجه و الكفّين، أو مجملة من هذه الجهة. و إذا وصلت النوبة إلى معارضة الأخبار في المسألة، تكون روايات الجواز أقوى دلالة و سنداً.

مع أنّ أخبار المنع لا تبلغ إلى أقلّ الجمع، فيشكل اعتبارها؛ لما أُشير إليه: من أنّ اتضاح أمثال هذه المسائل، لا يحتاج إلى الخبر و الرواية، و قد علمت أنّ الأكثر من الأقدمين اختاروا الجواز(5)، و هو مقتضى بالأُصول العمليّة؛ من الاستصحاب و البراءة.


1- تهذيب الأحكام 6: 255/ 666، وسائل الشيعة 27: 401 كتاب الشهادات، أبواب الشهادات، الباب 43، الحديث 2.
2- تقدّم في الصفحة 398.
3- جواهر الكلام 29: 75.
4- مستمسك العروة الوثقى 14: 26.
5- المبسوط 4: 160، شرائع الإسلام 2: 213، تذكرة الفقهاء 2: 573/ السطر 9. اللمعة الدمشقيّة: 174، و لاحظ المقنعة: 521.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.