التعليقة على المكاسب (لللاري) المجلد 1

اشارة

سرشناسه : لاری ، عبدالحسین ، 1340 - 1264؟ق . شارح

عنوان و نام پديدآور : التعلیقه علی المکاسب / تالیف عبدالحسین اللاری

مشخصات نشر : قم : موتمر احیاآ ذکری آیه الله المجاهد السید عبدالحسین اللاری ، اللجنه العلمیه للموتمر: موسسه المعارف الاسلامیه ، 1418ق . = 1377.

مشخصات ظاهری : 2 ج .نمونه

فروست : (موتمر احیاآ ذکری آیه الله المجاهد السید عبدالحسین اللاری 3، 4)

شابک : 964-6289-21-5 ؛ 964-6289-21-5 ؛ 964-6289-21-5 ؛ 964-6289-21-5 ؛ 1964-6289-22-3

يادداشت : عربی

يادداشت : این کتاب شرحی است بر المکاسب انصاری

يادداشت : به مناسبت کنگره بزرگداشت آیت الله سید عبدالحسین لاری 1377: لار و جهرم

یادداشت : کتابنامه

موضوع : انصاری ، مرتضی بن محمدامین ، 1281 - 1214ق . المکاسب -- نقد و تفسیر

موضوع : معاملات (فقه )

شناسه افزوده : انصاری ، مرتضی بن محمدامین ، 1281 - 1214ق . المکاسب . شرح

شناسه افزوده : کنگره بزرگداشت آیت الله سید عبدالحسین لاری (1377. لار و جهرم )

شناسه افزوده : کنگره بزرگداشت آیت الله سید عبدالحسین لاری . هیات علمی

شناسه افزوده : بنیاد معارف اسلامی

رده بندی کنگره : ‫ ‮ BP190/1 /‮الف 8م 702176 1377

رده بندی دیویی : ‫ ‮ 297/372

شماره کتابشناسی ملی : م 77-5896

ص: 1

الجزء الأول

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

مقدّمة التحقيق

اشارة

ما أشد حاجة المسلمين في عصرنا هذا و في هذه الظروف التي تمرّ بها الأمّة الإسلاميّة إلى القدوات و المثل البارزة لكي تقتدي بها، و تتأسّى بها، و تخطو خطاها في مسيرتها المصيرية.

و ما أكثر النماذج الفاضلة التي تخرّجت من مدرسة الوحي و العترة حاملة على عاتقها نشر القيم و التعاليم الإسلامية المنبثقة من ينابيع مدرسة أهل البيت عليهم السلام الذين هم صنو القرآن و عديله.

و لا غرو في انّ شيخ الفقهاء الشيخ مرتضى الأنصاري- هو أحد القدوات الفذّة و الّذي ظلّ شمعة تحوم حولها فرّاشات العلم آخذين منه العلم و المعرفة- قد بنى بفكره مدرسة أصولية و فقهية عريقة، و كتب في هذين المجالين- الفقه و أصوله- كتابين مهمّين و هما «الرسائل» و «المكاسب» و اللذين أصبحا مدارين للبحث و التنقيب في الحوزات العلمية التابعة لأهل البيت عليهم السّلام بحيث لا يمكن الاستغناء عنهما، خاصّة لمن أراد التفقّه في الدين.

و قد حاز كتاباه من الأهميّة شأنا عظيما بحيث ما زالا محورين للتحقيق و الاجتهاد، و خاصّة كتابه «المكاسب» الّذي عكف العلماء و الفضلاء على تدريسه، و شرحه، و التعليق عليه، و توضيح غوامضه، بحيث قيل: انّه أحرز صدارة الكتب من جهة كثرة الشروح و التعليقات.

و هذا الكتاب الذي بين يديك هو إحدى التعليقات الأنيقة و المليئة بنكت علميّة قلّما يجدها القارئ الكريم في سائر الشروح و التعليقات ..

ص: 6

و قد ظلّ هذا الكتاب- و الكثير من مصنّفات مؤلفه و تأليفاته- بين دفّتي النسيان و الغفلة برهة زمنية طويلة حتى منّ اللّٰه عزّ و جلّ على العاملين في الأمانة العامة لإحياء الذكرى السادسة و السبعين من وفاة المؤلّف آية اللّٰه العظمى العلّامة النحرير الفهامة الحاج السيد عبد الحسين النجفي اللاري أن يخرجوه بثوب جديد و نمق بديع ..

و لسوف يجد القارئ الابداعات و الاحتجاجات القوية و الرصينة التي تميّز بها سيّدنا اللاري قدّس سرّه.

و أمّا المؤلّف فقد ترجمنا له منفردا في مقدّمة تعليقاته على رياض المسائل.

و أمّا الكتاب- و الذي ذكره العلّامة الشيخ آقا بزرگ الطهراني في كتابه نقباء البشر في القرن الرابع عشر (ج 3 ص 1049)- فقد عثرنا بعد البحث الحثيث و الجهد الجهيد على ثلاث نسخ منه.

1- نسخة فتوغرافية من المجلد الأول أتحفنا بها حفيده الحجّة آية اللّٰه العظمى السيّد عبد العلي آية اللّٰهي حفظه اللّٰه إمام جمعة لار، و كانت هذه النسخة ناقصة و فاقدة لبعض الصفحات.

2- نسخة فتوغرافية أخرى من المجلد الأوّل مدّنا بها حفيده آية اللّٰه السيّد عبد الرسول الشريعتمداري الجهرمي، و هذه النسخة كانت كاملة و تامّة من أوّل صفحة حتى نهايتها.

3- نسخة خطّية من المجلد الثاني فقط. و قد أمدّنا بها حفيده آية اللّٰه السيد عبد الحسين آية اللّٰهي، و قد كانت هذه النسخة تحتوي على حواشي كتبها المؤلّف، و للأسف قد سقط منها بعض الصفحات عند تجليد الكتاب بحيث لا يمكن الاستفادة منها.

ص: 7

فلهؤلاء الأحفاد الأبرار نقدّم جزيل الشكر و الامتنان، راجين من العلي الأعلى طول العمر لهم، و زيادة توفيقهم لخدمة المذهب الحقّ و الفرقة الناجية و الحوزات العلمية.

منهجيّة التحقيق و التخريج:

بعد العثور على تلك النسخ الثلاث المذكورة قامت الأمانة بتوظيف بعض الفضلاء و المحقّقين- الذين سنشير إلى أسمائهم فيما بعد- بالبدء في عملية التحقيق حسب الأسلوب و الطريقة التالية:

1- استنساخ الكتاب.

2- مطابقة ما استنسخ مع النسخ الأصلية و مقابلته مع مصادرها.

3- إرجاع الأحاديث الواردة في الكتاب إلى المصادر و المراجع التي أشار إليها المصنّف قدّس سرّه في الكتاب.

4- ما أضفناه من المصادر أو من عندنا- من أجل مراعاة السياق- جعلناه بين [].

5- تقويم النصّ على قدر الوسع و الإمكان.

6- المراجعة النهائية من أجل تصحيح الأخطاء و الأغلاط المطبعية التي وجدت أثناء المراحل الأولى.

ملحوظة: أوّلا: لقد تقدّمت تعليقات السيّد اللاري قدّس سرّه على مبحث الخيارات تالية لتعليقاته على المكاسب المحرّمة، في المجلد الأول، و كذلك بعض التعليقات غير مرتّبة و منسّقة، و فيها تقديم ما شأنه التأخير و بالعكس، فقد التزمت الأمانة العامّة للمؤتمر بترتيب الكتاب و تنسيقه حسب ما جاء في المكاسب للشيخ الأنصاري قدّس سرّه فجعلت أوّلا مبحث الخيارات في أواخر المجلد الثاني، و كذلك رتّبت التعليقات طبقا لأقوال الشيخ في مكاسبه.

ص: 8

و ثانيا: نرى من الواجب أن نتقدّم بالشكر الجزيل إلى الإخوة المحقّقين الّذين قاموا بتحقيق هذا السفر الثمين، و تقديرا لخدماتهم نذكر أسماءهم و المرحلة التحقيقية التي قاموا بها:

1- الاستنساخ: محمد آغا أوغلو.

2- المقابلة: محمد آغا أوغلو، أبو علي الحكّاك.

3- استخراج المصادر: الحاج أبو أحمد، أبو حياة النعماني، أبو رعد، السيّد طالب الموسوي.

4- تقويم النصّ: الميرزا محمود الزنجاني، فارس حسّون كريم.

5- المراجعة النهائية: الشيخ يحيى كمالي البحراني.

6- تنضيد الحروف: محمد رحيمي.

7- التصحيح النهائي و الإخراج الفني: محمود البدري.

و في الختام نرجو من العلماء الأفاضل أن يغضّوا البصر عن أيّ سهو قد يوجد في هذا الكتاب، لأنّنا لم ندّع العصمة في عملنا هذا، خصوصا انّ المدّة التي تمّ فيها إنجاز هذا العمل- أي تحقيق جميع مصنّفات السيّد اللاري قدّس سرّه- كانت مدّة قصيرة لا تتعدى عشرة شهور، و لا يخفى انّ هذه الفترة الزمنية القصيرة تستدعي حصول بعض الأخطاء الغير متعمّدة، و خاصّة انّ بعض المصادر التي استفدناها في عملنا هذا كانت مفقودة أو لم نعثر عليها.

آملين أن يتقبّل اللّٰه منّا هذا العمل القليل، و يجعله في صحائف أعمالنا ليوم لا ينفع فيه مال و لا بنون إلّا من أتى اللّٰه بقلب سليم.

و آخر دعوانا أن الحمد للّٰه ربّ العالمين الأمانة العامّة للمؤتمر

ص: 9

ص: 10

ص: 11

ص: 12

ص: 13

بسم اللّٰه الرّحمن الرّحيم و بعد: فهذه تعليقات علّقتها على مكاسب أستاذ أساتيذنا الأعلام، عند مذاكرته لإخواننا الكرام.

[القول في المكاسب المحرمة]

[و ينبغي أولا التيمن بذكر بعض الأخبار الواردة على سبيل الظابطة للمكاسب]

قوله: «روى في الوسائل .. إلخ».

أقول: و هذه الرواية و إن كانت مرسلة، بالنظر إلى أن الحسن بن علي بن شعبة الذي رواها في تحف العقول (1) ليس من عداد الرجال الرواة، و لا من طبقتهم، إلا أنها مجبورة بشهرة أصحابنا المتأخّرين على العمل به، و نقله في الوسائل (2) و الحدائق (3)، و بموافقتها القواعد العقلية و النقليّة، و لفقه الرضا (4)، و رسالة السيّد المرتضى (5).

و أمّا استبعاد أن يكون بعض عبارتها من الإمام عليه السّلام فلعلّه من جهة نقله بالمعنى، أو بما يطابق حال السائل و فهمه الذي هو معنى البلاغة المطابقة لمقتضى حال المخاطب من حيث الذكاوة و البلادة، كما قال تعالى وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ رَسُولٍ إِلّٰا بِلِسٰانِ قَوْمِهِ (6)، و قيل: «كلّم الناس على قدر عقولهم» فإن البلاغة تختلف باختلاف حال المخاطب.

قوله عليه السلام: «أربع جهات».

[أقول:] و أمّا المغارسات و الحيازات و المزارعات و النتاجات و مطلق إحياء


1- تحف العقول: 331.
2- الوسائل 12: 54 ب (2) من أبواب ما يكتسب به ح 1.
3- الحدائق الناضرة 18: 67.
4- فقه الإمام الرضا عليه السلام: 250.
5- رسالة المحكم و المتشابه: 29 (مخطوط).
6- إبراهيم: 4.

ص: 14

الموات من وجوه المعايش فلا يقدح حصرها في الأربع، لدخول المذكورات فيها بالمعنى الأعمّ.

قوله: «و البرابط».

[أقول:] جمع بربط على وزن جعفر: عود، و بالفارسيّة: سازى است.

كما أن المزامير جمع مزمار- بالكسر- قصبة يزمر بها. و هي مع الغناء و الدفّ و الطبل من جنس الملاهي و المطرب من الأصوات، إلا أن الفرق كون المطرب من الأصوات بالكلام غناء، و بآلة العود بربطا، و بآلة القصبة مزمارا. كما أنه بسائر الآلات يسمّى دفّا أو طبلا أو ناقوسا أو بوريا أو شيپورا و نحوها.

قوله: «فيه، أوله، أو شي ء منه، أوله».

أقول: التنويع ب «أو» تعميم لكلّية قاعدة: اقتضاء حرمة الشي ء حرمة مقدّماته، و أجزائه، و أسبابه المحصّلة له، و غاياته المترتّبة عليه عقلا و نقلا.

كما أن قوله: «و كذلك كلّ مبيع ملهوّ به» إشارة إلى عموم قاعدة كلّية حرمة الملاهي و بيع الملهوّ به، منها ما كثر اعتياده في الزمان من شرب الوافور و القليان و التتن و الدخان و الترياك و التنباك.

كما أن قوله: «معذّب فاعل ذلك على قليل من فعله أو كثير .. إلخ».

إشارة إلى عموم حرمة الظلم و الجور، و كلّية استقلال النقل و العقل بقبحه العقلي، الآبي من التخصيص بالمخالفين كما توهّمه بعض، أو بغير الأقلّ بالإضافة إلى الأكثر عند الدوران بين الأقلّ من أحد و الأكثر من آخر، كما يوهمه ظاهر عبارة الوحيد البهبهاني في رسالة المعاملات، حيث جوّز بل أوجب التولي من قبل الجائر في الظلم لمن علم أنه لو لم يتولّ القليل من الظلم لتولّى غيره الأكثر منه. و هو من أغرب الموهمات المنافية للعقل و النقل، التي لم يسبقه أحد فيما أعلم من مذهب العدليّة، و غير مراد قطعا، و لكن المراد لا يدفع الإيراد.

قوله: «نظير البيع بالربا، أو بيع الميتة .. إلخ».

ص: 15

[أقول:] التنويع إشارة إلى تعميم المحرّم من البيع للمحرّم بنفسه كبيع الخمر، أو بوصفه كبيع الربا.

قوله: «حلال لمن كان من الناس ملكا أو سوقة».

[أقول:] الملك هنا- بكسر اللام- بمعنى الوالي و السلطان العادل. و سوقة- بفتح (1) السين- بمعنى رعيّته، باعتبار أن الرعيّة مسوق و الراعي سائق.

قوله: «قيام الغير به. فتأمّل».

[أقول:] لعلّه إشارة إلى أن وجه من أهمل الواجب و المستحبّ من المعاملات لعلّه من جهة اندراجهما في المباح و الجواز بالمعنى الأعمّ.

أو من جهة انصراف الواجب و المستحبّ إلى الراجح النفسيّ التعبّديّ بالأصالة، و الراجح من المعاملات رجحانه عرضيّ غيريّ توصّليّ لمحض التوصّل إلى رفع حاجة النوع مثلا.

أو من جهة أغلبيّة المباح و الحرام من الراجح الشرعيّ في المعاملات بحسب وجودها الخارجيّ أو إيجادها القصدي، على وجه يلحق النادر بالعدم.

أو من جهة تغليب جهة المعامليّة و التوصّليّة في المعاملات، على وجه يلحق الجهة العباديّة و الراجحيّة النادرة بالعدم.

و أمّا ما عن المسالك (2) من أن وجه من خصّ تقسيم التجارة بالثلاثة من جهة جعله المقسم الأعيان المتّجر بها، و من عمّه للأحكام الخمسة جعل المقسم نفس الاكتساب و الاتّجار.

ففيه: ما في الجواهر (3) من أن الأعيان المتّجر بها باعتبار نفسها كما لا


1- السّوقة بضمّ السين، و لم أجد ضبطها بفتح السين في مصادر اللغة، أنظر لسان العرب 10: 170، القاموس المحيط 3: 248.
2- مسالك الأفهام 3: 118.
3- جواهر الكلام 22: 7.

ص: 16

يتعلّق بها الوجوب و الندب، كذلك لا يتعلّق بها سائر الأحكام من الحرمة و الإباحة. و أمّا باعتبار ما يتعلّق بها من فعل المكلّف فلا فرق بين الواجب و الحرام و المكروه و المستحبّ، و لا وجه لتخصيصها بالثلاثة دون سائر الأحكام.

قوله: «لأنّ ظاهر أدلّة تحريم بيع مثل الخمر منصرف إلى ما لو أراد ترتيب الآثار المحرّمة .. إلخ».

أقول: فيه أولا: أن لازمة انحصار المحرّم من بيع الخمر و نحوها في خصوص ما لو علم ترتّب الأثر المحرّم عليه و قصد ترتّبه في البيع أيضا، دون سائر صورة الثلاثة الآخر، ممّا لم يعلم و لم يقصد منه الأكثر المحرّم، أو علمه و لم يقصده، أو قصده و لم يعلم.

بل و جواز بيعه من طرف البائع غير القاصد منه ترتيب الأثر المحرّم على بيعه و إن حرم من طرف المشتري القاصد منه ترتيبه على شرائه أو بالعكس. بل و جواز نفس القمار و المقامرة غير المقصود منهما ترتيب الأثر المحرّم. بل و جواز صنعة الأصنام، و المعاملة مع الظّلام، و بيع الملاهي و كلّ حرام، إذا لم يقصد ترتيب الأثر المحرّم عليه. بل لازم ذلك كلّه انحصار جميع وجوه المعايش و المعاملات المحرّمة- على عموماتها و إطلاقاتها و كثرة أفرادها- في خصوص الحرام الغيريّ التبعيّ التوصّلي المقصود منه التوصّل إلى ترتيب الأثر المحرّم، و أن لا يكون فيها- على كثرتها و عموماتها- حرام نفسيّ يكون في نفسه حراما مع قطع النظر عن الحرمة الغيريّة المقدّميّة التوصّليّة.

و ثانيا: أن لازم ذلك عدم صحّة إطلاق الحرمة على شي ء من وجوه المعاملات المحرّمة المذكورة في النصوص و الفتاوى على وجه الإطلاق و العموم، حذرا من لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة، و التخصيص بالأكثر المستهجن عرفا. بل كان اللازم تبديل ما في النصوص و الفتاوى من قولهم: لا يحلّ بيع

ص: 17

الخمر إلّا في الضرورة، بقولهم: يحلّ بيعه إلا فيما قصد منه ترتيب الأثر المحرّم.

و ثالثا: أن سبب الانصراف في المطلقات إمّا غلبة الوجود أو غلبة الاستعمال، و من الواضح أن الموجود من غلبة الوجود بنفسه غير صارف، و الصارف من غلبة الاستعمال غير موجود.

و رابعا: أن الانصراف من شئون الإطلاقات، لا عمومات قوله المتقدّم:

«حرام محرّم بيعه و شراؤه، و إمساكه و ملكه، و هبته و عاريته، و جميع التقلّب فيه، إلّا في حال تدعو الضرورة فيه» و عموم قوله: «و كذلك كلّ مبيع ملهوّ به، و كلّ منهيّ عنه». و تطرّق التخصيص على تلك العمومات و إن كان ممكنا- بل ستعرف وقوعه في الجملة- إلّا أن وقوعه بما ادعي من التخصيص بما أراد ترتيب الآثار المحرّمة على وجه الإطلاق و الكلّية ممّا لم يقع في نصّ و لا معقد إجماع، بل الواقع خلافه.

قوله: «فلا دليل على تحريم المعاملة إلّا من حيث التشريع».

أقول: فرض التشريع في المعاملة مبنيّ على فرض المعاملات كالعبادات أمورا توفيقيّة، أو على كون الأصل فيها الحظر. و أمّا على المشهور المنصور- الذي هو منهم- من كون الأصل في الأشياء الإباحة- خصوصا الإباحة العقليّة- فلا يتأتّى التشريع في المعاملات غير المنصوصة حلّيتها بالخصوص.

ثمّ و من العجب فرضه حرمة التشريع فيما لا دليل على تحريمه في المعاملات، مع عدم احتماله في معاملة الترياك و التتن و التنباك المقصود منه الآثار المنهيّة من الإسراف و التبذير و الملاهي، مع اندراجها في عموم: «و كلّ منهيّ عنه، و كلّ ملهوّ به، و كلّ وجه من وجوه الفساد» الشامل لإفساد المال و الحال، إلّا لضرورة نظير الضرورة إلى الدم و الميتة.

[النوع الأول الاكتساب بالأعيان النجسة عدا ما استثني]

اشارة

قوله: «الضرورة المسوّغة للشرب كافية في جواز البيع».

ص: 18

[أقول:] و فيه: أن الضرورة المسوّغة للشرب بقاعدة «أن الضرورة تتقدّر بقدرها» إنما تكفي في جواز البيع حال الضرورة، لا مطلقا الذي هو محلّ النزاع، و إلّا لحلّ جميع المحرّمات بواسطة حلّها عند الضرورة، ما عدا حرمة الدم الذي لا تسوّغه الضرورة.

قوله: «يراد به جهة الصلاح الثابتة حال الاختيار دون الضرورة».

[أقول:] لا يقال: إن تخصيصها بحال الاضطرار معلوم من النصّ و الضرورة، و أمّا تخصيصها بحال الاختيار فأين مخصّصة؟

لأنّا نقول: تخصيصه بحال الاختيار في المعنى تعميم للحالتين، بمقتضى العموم و الأولويّة في حال الاضطرار، بخلاف العكس. مضافا إلى أنّ مقتضى قاعدة كون المشتقّ حقيقة في المتلبّس و مجازا في المقتضي عنه المبدأ و فيما لم يتلبّس بعد هو كون المراد بجهة المنفعة و الصلاح إنما هو المنفعة و الصلاح الفعلي، لا الشأني و لا المنقضي، خصوصا البعيد منهما.

لا يقال: لو كان المدار على المنفعة و الصلاح الفعلي لما صحّ شراء ما يصلح للشتاء في الصيف و بالعكس، بل لا يصحّ شراء العقاقير و الأدوية قبل حال المرض، لعدم الحاجة و المصلحة الفعليّة فيها قبل أوان الحاجة.

لأنّا نقول: المدار في المنفعة و الصلاح الفعلي على النوع لا خصوص الأشخاص، و الوجود الفعلي للنوع إنما هو بوجود الأشخاص و الأفراد. و هذا أوضح ما استفيد من النصوص مدارا و ميزانا مائزا بين ما يجوز و ما لا يجوز بيعه، من حيث الطرد و العكس و الجامعيّة و المانعيّة.

قوله: «بل لأن المنفعة المحلّلة للاضطرار و إن كانت كلّية لا تسوّغ البيع».

أقول: إذ لا ملازمة بين حلّيّة الأكل للضرورة و (عدم) (1) حلّيّة البيع،


1- ورد ما بين القوسين في النسخة الخطّية، و هو زيادة قطعا نشأت من طغيان قلمه الشريف قدّس سرّه.

ص: 19

خصوصا في غير حال الضرورة، و إلّا لحلّ جميع المحرّمات المحلّلة حال الضرورة حتى الخمر و العذرة.

أقول: بل المحلّلة لاضطرار التداوي و الاستشفاء من الأمراض، فضلا عن الحافظة للرمق و هلاك النفس، في حيّز التأمّل، بل المنع جدّا، بعد الاستخباث الراجع إلى تنفّر الطبع السليم منه.

و لعلّ فرض المنفعة فيه مع ذلك في بعض الأخبار مجرّد فرض، أو ضرب من التقيّة و المماشاة الزعميّة مع الزاعمين نفعها جهلا مركّبا، كجواب قوله تعالى:

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ (1) بقوله قُلْ فِيهِمٰا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ (2). و أمّا رواية الجعفري: «أبوال الإبل خير من ألبانها» (3)- فمضافا إلى ضعفه و شذوذه، و مخالفة الضرورة، و معارضة الشهرة و نصوص الكتاب و السنّة و عموم: «حرّمت عليكم الخبائث»- لا تقاوم عمومات المنع.

قوله: «لأن الأول نصّ في عذرة الإنسان .. إلخ».

[أقول:] وجه نصوصيّة كلّ من اللفظين المتّحدين في خلاف معنى الآخر هو اختلاف حكميهما بما لا يحتمل لغيرهما.

قوله: «و فيه ما لا يخفى من البعد».

[أقول:] وجه البعد نصوصيّة لفظ السحت و الحرام- على خلاف لفظ النهي- في التحريم، بخلاف النهي، فإنه ظاهر فيه محتمل للكراهة.

قوله: «و أبعد منه ما عن المجلسي .. إلخ».

[أقول:] وجه الأبعديّة لعلّه من جهة أبعديّة فرض عدم الانتفاع بالعذرة في بلد السائل، لأنه قال في السؤال: «إنّي أبيع العذرة» (4)، فلو لم تكن العذرة منتفعة


1- البقرة: 219.
2- البقرة: 219.
3- الوسائل 17: 87 ب «59» من أبواب الأطعمة المباحة ح 3.
4- الوسائل 12: 126 ب «40» من أبواب ما يكتسب به ح 2.

ص: 20

بها فيها لم يكن كسبه بيعها.

قوله: «حمل خبر المنع على التقيّة، لكونه مذهب أكثر العامّة».

[أقول:] و وجه أبعديّته أقربيّة حمل خبر الجواز على التقيّة من العكس، لأنه مذهب أبي حنيفة (1) و أبي يوسف (2) المعاصرين لزمان الصادق عليه السلام، بخلاف خبر المنع، فإنه مذهب الشافعي (3) و مالك (4)، و التقيّة منهما أبعد، خصوصا بلفظ السحت الصريح في التحريم.

قوله: «من وجوه لا تخفى».

[أقول:] كضعف الخبر، و شذوذه، و عدم مقاومته المعارض الأصحّ الأشهر الناقل.

قوله: «إلا أن الإجماع المنقول هو الجابر».

أقول: بل و يكفي الجابر المتقدّم له من شهرة المتأخّرين، و إرسالهم العمومات إرسال المسلّمات، و ضابطة كلّية للتفريعات.

قوله: «و فيه نظر».

أقول: وجه النظر ما تقدّم من العمومات و الإجماع المنقول على الإلحاق.

و أيضا يمكن أن يكون سكوت الشيخ لتردّده في عذرة غير الإنسان، فلا يظهر من السكوت القول بالجواز.

قوله: «الأقوى جواز بيع الأرواث الطاهرة .. إلخ».

أقول: و يدلّ عليه- مضافا إلى ما في المتن من الشهرة و الإجماع المنقول- السيرة القطعيّة من المسلمين على الوقود بها و بيعها و شرائها من غير نكير، و عموم


1- المغني 4: 327.
2- انظر فتح العزيز (المجموع): ج 8 ص 113.
3- الحاوي الكبير 5: 383.
4- المغني 4: 327.

ص: 21

حلّية بيع كلّ ما فيه وجه من وجوه الصلاح، بعد فرض منفعة الوقود بها من أعظم المنافع الكلّية المقصودة منها، و مفهوم تقييد الممنوع بيعه من السرجين بالنجس في معقد الإجماع فافهم.

قوله: «فالظاهر إرادة حرمة البيع للأكل».

أقول: بل الأظهر حرمة بيع المسفوح النجس من الدم بقرينة القصّابين.

قوله: «لكن الظاهر أن حكمهم بتبعيّة الأم».

[أقول:] يعنى: أن هذا التعليل دوريّ شبيه بالمصادرة، لأن المراد بعدم الملك عدم الانتفاع.

قوله: «التقرير الغير الظاهر في الرضا».

[أقول:] وجه عدم ظهور التقرير في الرضا مع كون الأصل فيه الرضا:

وجود المانع من ظهوره في الرضا، و هو عموم المنع من جواز بيع الميتة، القابل للاكتفاء به في السكوت عن المنع في الكتاب و السنّة. أمّا الكتاب فيكفي عموم:

فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثٰانِ (1)، و عموم وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ (2) بعد قوله تعالى إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ (3).

و أمّا السنّة فيكفي ما تقدّم من عموم النهي عن بيع شي ء من وجوه النجس.

قوله: «فلا مانع من صحّة بيعه .. إلخ».

[أقول:] و فيه: أنه [إن] قام الدليل الخاصّ على جواز الانتفاع كما قلت فهو مخصّص لعموم المنع من جواز بيع الميتة، من باب ملازمة الإذن في الشي ء- و هو جواز الانتفاع- للإذن في لوازمه، و هو جواز البيع، و لا حاجة إلى تكلّف دعوى عدم المانع. و إن لم يقم الدليل الخاصّ فالمانع هو عموم قوله عليه السلام: «أو شي ء من


1- الحج: 30.
2- المدثر: 5.
3- المائدة: 90.

ص: 22

وجوه النجس» (1)في ص: 15- 16.

(2) فيما تقدّم من العمومات.

و دعوى ظهورها في الانصراف إلى حرمة الانتفاع- كما قاله المصنف- فيه أولا: المنع بما قدّمنا (3) من الوجوه الأربعة، و تعليل الانصراف بتعليل المنع من بيع شي ء من وجوه النجس بكونه منهيّا عن أكله و شربه عليل، بأنه كما علّل بالنهي عن خصوص الأكل و الشرب كذلك علّل أيضا بالنهي عن عموم إمساكه و جميع تقلّبه.

و ثانيا: لو سلّم ما قلت من عدم المانع فلا حاجة إلى ما قلت من فرض الدليل الخاصّ على جواز الانتفاع، ضرورة أن عدم المانع كاف في جواز البيع بعد وجود المقتضي له، من أصالة الإباحة الشرعيّة و العقليّة، و عموم أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ (4) و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (5).

قوله: «إناطة جواز البيع و عدمه بجواز الانتفاع و عدمه».

أقول: هذه الإناطة مسلّمة، لكنّها بمنزلة الكبرى- كسائر العبارات التالية- للإناطة لا يثبت بها الصغرى، و هو جواز الانتفاع بجلد الميتة الذي هو المطلوب.

فإن كان المثبت له دليل خاصّ و نصّ مخصّص، كالاستصباح بالنجس (6)الوسائل 12: 86 ب «16» من أبواب ما يكتسب به ح 1.

(7) و بيع العبد الكافر (8) و كلب الصيد (9)، فعليه بإثباته. و إن كان أصالة الإباحة و عموم أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ فمن المقرّر أن الأصل- و لو كان لفظيّا- دليل حيث لا دليل، فلا يقاوم الدليل، و هو عموم الأدلّة الناهية عن


1- الوسائل 12: 56 ب
2- من أبواب ما يكتسب به قطعه من ح 1.
3- في ص: 15- 16.
4- البقرة: 275.
5- النساء: 29.
6- الوسائل 12: 66 ب
7- من أبواب ما يكتسب به.
8- الوسائل 12: 86 ب «16» من أبواب ما يكتسب به ح 1.
9- الوسائل 12: 82 ب «14» من أبواب ما يكتسب به.

ص: 23

الانتفاع بالنجس بجميع وجوه الانتفاع.

قوله: «و الانصاف إمكان إرجاعه إلى ما ذكرنا. فتأمّل».

أقول: أمّا إرجاعه إلى ما ذكره فلإمكان رجوع شرطيّتهما إلى الشرطيّة في الجملة، أعني: شرطيّة أحدهما لا كلّ منهما.

و أمّا وجه التأمّل فلأن الاكتفاء بأحد الشرطين خلاف ظاهر الشرطيّة.

قوله: «و هو مشكل».

أقول: لا إشكال في كون الأخبار المجوّزة صحيحة و صريحة في تخصيص عمومات النهي عن بيع الميتة و الانتفاع بالنجس. و إنما الإشكال فيها من جهة استلزامها التخصيص في قاعدة اشتراك جميع المكلّفين في الأحكام الواقعيّة بغير المستحلّ، و هو من التصويب الباطل.

و يمكن رفع هذا الإشكال عن الأخبار المجوّزة أولا: بمنع استلزامها تخصيص قاعدة الاشتراك في الأحكام و تحليل الحرام، لاحتمال أن يكون تجويزها بيع الميتة من المستحلّ من باب «ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم» (1)النساء: 29.

(2).

و ثانيا: بمنع بطلان اللازم، و هو التخصيص في قاعدة الاشتراك و بطلان التصويب بغير المستحلّ، لأن دليل الاشتراك و بطلان التصويب من الأدلّة النقليّة القابلة للتخصيص لا العقليّة الآبية منه.

قوله: «لوجود المقتضي و عدم المانع».

أقول: أمّا جواز بيع الميتة الطاهرة فلأصالة الإباحة و عموم أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ (3) و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (4).

و أمّا عدم المانع فممنوع، إذ لا ينحصر المانع في النجاسة، بل عموم النهي


1- الوسائل 17: 598 ب
2- من أبواب ميراث المجوس ح 2.
3- البقرة: 275.
4- النساء: 29.

ص: 24

عن بيع الميتة في عرض النهي عن بيع الخمر و وجوه النجاسة مانع مستقلّ، لم يثبت التخصيص المخرج له عن عموم النهي، إلّا بفحوى الخبر (1) المتقدّم في جواز الإسراج بالزيت النجس و ذوبان الألية النجسة.

قوله: «خذها و أفسدها .. إلخ».

أقول: دلالة الخبر على جواز بيع الخمر مبنيّ على أن يكون المراد من الأخذ أخذها شراء، لا مجّانا أو تقاصّا عن الدراهم، قبل التخليل لا بعده، و أن يكون المراد من إفسادها تخليلها لا إهراقها، لعدم الماليّة، و إلّا فلا يدلّ على جواز بيعه، بل على منعه كما هو الأظهر.

قوله: «يمكن الاستدلال على ذلك بالتعليل .. إلخ».

أقول: الاستدلال على حرمة المتنجّس بعموم تعليل حرمة الأعيان النجسة بأنه «محرّم الأكل .. إلخ»، دون عموم وجوه النجس الظاهر في الأعيان النجسة دون المتنجّسة، مبنيّ على حجّية عموم منصوص العلّة، بأن يكون التعليل «بأنه محرّم الأكل» في قوّة التعليل بأن كلّ محرّم الأكل و لو كان من الأعيان المتنجّسة لا النجسة محرّم البيع، و إلّا فعلى القول بالمنع من حجّية عموم منصوص العلّة، و احتمال اختصاص ضمير العلّة بخصوصيّة خصوص معلوله، فينصرف عموم العلّة إلى خصوص عموم معلوله و لا يتعدّاه، و يكون التعليل «بأنه محرّم الأكل» في قوّة: لأن خصوصيّة حرمة أكل الأعيان النجسة توجب حرمة بيعها، لا أن حرمة مطلق الأكل توجب حرمة البيع.

[و أما المستثنى من الأعيان المتقدمة]

قوله: «و أن اشتراطهم قبول التطهير إنما هو فيما يتوقّف الانتفاع به على طهارته .. إلخ».

أقول: مضافا إلى ذلك فيه أولا: أن الظاهر من قبول التطهير- نظرا إلى أن


1- الوسائل 12: 66 ب (6) من أبواب ما يكتسب به.

ص: 25

المشتقّ حقيقة في المتلبّس دون غيره، و إلى أن الدليل على اشتراط قبول التطهير ليس إلّا نصوص (1) المنع من بيع النجس و اعتبار الطهارة فيه- إنما هو قبوله بالفعل لا بالقوّة، فضلا عن القوّة البعيدة، فضلا عن البعيدة الخارجة عن قدرة المالك رأسا.

و ثانيا: أن قبول الطهارة بالقوّة البعيدة لو صحّحت بيع النجس لصحّحت بيع كلّ من الأعيان النجسة، إذ ما من عين من الأعيان النجسة إلا و يقبل التطهير بالقوّة البعيدة، كالانقلاب و الانتقال و الاستحالة و التجفيف و التنقيص.

و ثالثا: أن الوصف الشأنيّ لو صحّح بيع النجس لكانت الصحّة مراعاة بحصوله، مثل الإجازة في الفضولي و القدرة على التسليم و القبض في غيره، فيلزم منه فساد بيع الكافر لو لم يسلم و المرتدّ لو لم يتب، بل لا أقلّ من لزوم أن يكون تخلّفه من قبيل تخلّف الوصف و الشرط موجبا للخيار، و لم يلتزم به أحد.

قوله: «ينشأ من تضادّ الحكمين».

[أقول:] يعني: من جواز بيعه، و وجوب إتلافه و حرمة إبقائه.

و فيه: أنه لا تضادّ في الحكمين بعد فرض اختلاف موضوع أحدهما و هو البيع و الآخر و هو النفس، مضافا إلى عدم التضادّ و التنافي بين موضوعهما، و إمكان الجمع بين البيع و الإتلاف في آن واحد، و ليسا مثل حفظه و إتلافه، و لا مثل استخدامه و إتلافه، في عدم الاجتماع و تضادّ الموضوعين.

فالأقوى صحّة بيعه و عدم صحّة رهنه، لأن سلب المنافع شرعا لا ينافي المقصود من البيع، بخلاف المقصود من الرهن.

قوله: «لأن مرجع التقييد إلى إرادة ما يصحّ عنه سلب صفة الاصطياد».

[أقول:] أي: لا سلب صفة السلوقيّة أقول: فيه أولا: أن سلب صفة


1- الوسائل 12: 56 ب (2) من أبواب ما يكتسب به ح 1.

ص: 26

الاصطياد عنه إنما هو عين منطوق القيد و الوصف لا مرجع القيد و مفهومه.

و ثانيا: أن تعليل عدم انصراف الصيود إلى السلوقي، بإرادة سلب صفة الاصطياد من سلب الصيود لا سلب صفة السلوقي، مصادرة بالمطلوب.

و ثالثا: أن الانصراف و الحمل على الغالب- و هو السلوقي- إن صحّ في مطلق الصيود صحّ في المقيّد الموصوف بالاصطياد أيضا. و بعبارة أخرى: كما أن المطلق الوارد مورد الغالب لا إطلاق فيه، كذلك القيد و الوصف و الشرط و الصلة و الموصول الوارد مورد الغالب لا مفهوم له، فلا فرق و لا فارق. إلّا أن يوجّه الفرق بأن القيد و الوصف و صلة الموصول لفظ زائد على إطلاق المطلق كالعموم، لا بدّ له بحسب البلاغة من معنى زائد على المطلق المنصرف إلى الغالب، و هو العموم غير المنصرف إليه.

قوله: «الأول أظهر فتدبّر».

[أقول:] لعلّه إشارة إلى أن وجه أظهريّة تعميم السلوقيّ لمطلق الصيود دون تخصيصه بخصوص الصيود منه، مع أظهريّة تعليله بأكثريّة الصيود منه بالخصوص في التخصيص لا التعميم، إنما هو إطلاق كلب الصيد في سائر الفتاوى و النصوص في التعميم لا التخصيص.

قوله: «مع أن دعوى الإجماع ممّن يصطلح الإجماع على مثل هذا الاتّفاق لا يعبأ بها».

[أقول:] لا يقال: إن مثل الشيخ هو الذي فتح باب الإجماع اللطفيّ و الكشفيّ، فكيف لم يصطلح الإجماع على مثل هذا الاتّفاق؟! مع أن المصنف (1) جعل هذا الوجه من جملة وجوه القدح في الإجماع المنقول.

لأنّا نقول: قد تقرّر في محلّه أن الإجماع مختلف جدّا بين الخاصّة


1- فرائد الأصول: 49.

ص: 27

و العامّة، و بين القدماء و المتأخّرين، من حيث الأقسام و الأحكام و اشتمال الإمام بالتضمّن أو الالتزام، و من حيث الاستناد إلى الملازمة العاديّة بين الرئيس و المرءوس، أو إلى قاعدة اللطف و الكشف و غيرهما، إلّا أن الظاهر مع ذلك كلّه عدم تغيّر المصطلح عند الكلّ بأنه اتّفاق كلّ أهل عصر واحد، و أن سائر الأقسام و الأفراد منه على اختلافها إنما تلحق بالإجماع المصطلح حكما لا اسما، لاشتراكهما فيما هو مناط الحجّية من باب التنزيل المجازي، فلا يحمل عليه إطلاق الإجماع، لظهوره في المصطلح.

قوله: «هو المنع. فافهم».

[أقول:] لعلّه إشارة إلى دفع ما يقال: من أن الظنّ الحاصل من عمومات الأدلّة المانعة أضعف من الظنّ الحاصل من الشهرة المجوّزة، لفعليّة هذا الظنّ و شأنيّة الظنّ الآخر، فكيف يكون أقوى منه؟!.

و طريق دفعه: أن أقوائيّة الظنّ الحاصل من الأدلّة إنما هو بالنسبة إلى الأدلّة من حيث انه ظنّ خاصّ، و أضعفيّته إنما هو بالنسبة إلى نفسه مع قطع النظر عن أدلّة اعتباره، و أقوائيّة الظنّ الحاصل من الشهرة المجوّزة من حيث العكس، فلا تنافي.

قوله: «بعد الجفاف».

أقول: و أقرب من ذلك قبولها التطهير بغسل المصبوغ بها بعد الصبغ، كالاختضاب بالحنّاء النجس ثم غسل محلّ الخضاب.

قوله: «و قد تقدّم أن المنع عن بيع النجس .. إلخ».

أقول: تقدّم (1) أيضا منّا ما فيه من الوجوه الأربعة، و أن فرض حلّ المنفعة إن كان بالدليل الخاصّ المخصّص للعمومات المانعة عن بيع النجس فالمفروض


1- في ص: 15- 16.

ص: 28

عدمه، و إن كان بأصالة الإباحة و عموم أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ (1) و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (2) فمن المقرّر عدم مقاومتها لأدلّة الحرمة.

قوله: «المطلق المنصرف إلى الفوائد المحرّمة فافهم».

[أقول:] لعلّه إشارة إلى أن غلبة الوجود بنفسه لا يوجب الانصراف ما لم يستند إلى غلبة الاستعمال، أو إلى دفعه، لأن المراد من انصراف المطلق ليس انصراف لفظه حتى يعتبر في صارفة غلبة الاستعمال، بل انصراف فعله، أعني:

فعل البيع، حيث إن الفعل المجهول الوجه بالنسبة إلى الجاهل يحمل على الغالب وجوده من الصحيح و الفاسد، و بالنسبة إلى الفاعل يدان بنيّته، كما قيل: العقود تابعة للقصود.

بيان ذلك: أن كلّ ما كان من قبيل الإحسان و الظلم و إلقاء المحترم في القاذورة من الأفعال التي لها جهة واحدة، فهي لا تنصرف إلى غير جهتها المتّحدة. و كلّ ما كان من قبيل ضرب اليتيم و المحترم من الأشخاص و المصحف و طين الحائر، و مسّ الأسماء المشتركة بين المحترم و غيره، و نحوها من ذي الجهات العديدة من الأفعال، فهي ممّا لا تتعيّن و لا ينصرف فعلها إلّا إلى ما يعيّنه قصد الفاعل من الجهات العديدة.

هذا كلّه في توجيه ما وجّه به المصنف، التفصيل الذي اختاره قولا رابعا في المسألة.

و لكن فيه: أن تبعيّة الأفعال للعقد كتبعيّة العقود للقصود إنما هو فيما ثبت له في العرف و الشرع جهتان مختلفتان غير مميّزتين بوجه من الوجوه، كضرب اليتيم حيث ثبت في الخارج أنه بوجه العدوان حرام و بوجه الإحسان حسن،


1- البقرة: 275.
2- النساء: 29.

ص: 29

فينحصر تعيينه في القصد. و ما نحن فيه ليس كذلك، إذ لم يثبت شرعا إناطة حلّية بيع النجس و حرمته بماليّة المبيع و عدم ماليّته، و لا إناطة ماليّته و عدم ماليّته بإزاء ما يقابله من منافعه المحرّمة و المحلّلة كما زعم المصنف، حتى ينصرف تعيينه إلى القصد و ينحصر في القصد، و إنما هو أمر مستنبط و رجم بالغيب، و العلل المستنبطة كالقياس و الاستحسان ممّا لا تعتبر عندنا، خصوصا عند المصنف، كما صرّح (1) به في وجه خروج القياس عن مطلق الظنّ على تقدير الانسداد.

بل الثابت فيما نحن فيه إنما هو النهي عن بيع النجس على وجه العموم، و استثناء بيع الدهن منه على وجه التخصيص و مقتضى القاعدة العرفيّة في إطلاق المستثنى و تخصيصه بخصوص قصد الإسراج أو اشتراطه أو عدمهما هو الرجوع إلى إطلاق المخصّص و عدمه، كما أن المرجع في عموم المستثنى منه و عدمه إلى عمومه و عدم عمومه، لا إلى تبعيّة القصود و مدخليّتها في التعيين.

قوله: «و مرجع هذا في الحقيقة إلى أنه لا يشترط إلّا عدم قصد المنافع المحرّمة. فافهم».

[أقول:] لعلّه إشارة إلى منافاة صحّته لما ادّعاه من انصراف مطلق البيع (2) إلى ما يكون ماليّته في إزاء المنافع الغالبة المحرّمة.

أو إلى دفعه بأن هذا من شئون انصراف اللفظ لا الفعل، أعني: من انصراف لفظ البيع و المبيع، و أمّا انصراف فعله- و هو النقل و الانتقال- إلى الجهة المحلّلة فيكفي فيه مجرّد عدم قصد الجهة المحرّمة، كما وجّهنا به أمره المتقدّم (3) بالفهم.

ألا ترى أنه يكفي في جواز مسّ الأسماء المشتركة بين المحترم و غيره عدم قصد المحترم لا قصد غيره، و في إباحة السفر عدم قصد المعصية لا قصد الطاعة.


1- فرائد الأصول: 156.
2- أي: مطلق بيع الدهن المتنجّس من غير قصد الفائدة المحلّلة.
3- في ص: 28.

ص: 30

قوله: «على أضعف الوجهين من وجوب الاقتصار في الانتفاع بالنجس على مورد النصّ».

أقول: أضعفيّته مبنيّ على ما اختاره من إهمال عمومات النهي عن بيع النجس، و دعوى انصرافها إلى قصد ما يترتّب عليه من المنافع المحرّمة. و قد عرفت ما فيه، و أقوائيّة عمومها بأبلغ وجه.

قوله: «هو النفع المحرّم. فافهم».

[أقول:] لعلّه إشارة إلى ما قد يقال من عدم الفرق بين الشرطين في استناد فساد المشروط إلى فساد الشرط في البين، من جهة أن ما وقع من العقد المطلق لم يقصد، و ما قصد منه من المشروط بالشرط لم يقع شرعا.

أو إلى دفعه و إبداء الفرق الواضح بين قولك: بعتك النجس بشرط أن تأكله، و بعتك العنب بشرط أن تخمّره، من جهة أن بيع العنب لا فساد فيه إلّا من قبل تخمّره الفاسد، بخلاف بيع النجس فإن فساده من قبل نفسه قبل شرطه.

هذا، و لكن فيه أن فساد بيع النجس إن كان من جهة مانعيّة عموم النجاسة- كما هو الأشهر- فالفرق المذكور بين الشرطين و العلاوة المذكورة في البين واضح، إلّا أن هذا المبنى خلاف مختاره فيما مرّ و فيما سيأتي. و إن كان من جهة مانعيّة آثاره المحرّمة دون مانعيّة نفسه- كما هو مختاره- فالفرق المذكور بين الشرطين ممنوع في البين، إلّا أن العلاوة المذكورة مسلّمة فيه.

قوله: «إنما جعل غاية للإعلام».

[أقول:] يعني: أن الاستصباح إنما جعل في النصوص غاية للإعلام الخارج عن البيع، لا شرطا و لا قيدا داخلا في البيع حتى يعتبر اشتراطه أو قصده فيه، و لا غاية للبيع أيضا، لعدم الترتّب بينهما حتى يعتبر فيه، بل المترتّب على نقل البيع الانتقال لا الاستصباح.

ص: 31

قوله: «فهل يجب مطلقا أم لا؟ .. إلخ».

[أقول:] أي: فهل يجب مطلقا حتى على الأجنبيّ غير المتسبّب لإغراء الجاهل بنجاسته ببيع و نحوه، كما هو ظاهر العلامة (1) في تعليله وجوب الإعلام بوجوب النهي عن المنكر، أم لا يجب إلّا على البائع المتسبّب لإغراء المشتري ببيعه له من غير إعلام؟

قوله: «فإن الغاية للإعلام ليس هو تحقّق الاستصباح .. إلخ».

أقول: فيه أولا: أن ذلك مناف لقوله آنفا: «إنما جعل غاية للإعلام» و لما هو المحقّق من ترتّب الإصباح على الإعلام، و العمل على العلم، و الائتمار على الأمر، و الانتهاء على النهي، بحسب التديّن و الديانة و المقتضيات الإيمانيّة و المحاسن الفطريّة، لو لا الموانع الخارجيّة، كما أن ترتّب كلّ غاية على ذي الغاية و مسبّب على سببه مبنيّ على عدم الموانع الخارجيّة، و عدم ترتّبها بواسطة الموانع لا يخرجها عن الغاية و المسبّبيّة.

و ثانيا: أن الدليل على عدم كون الإعلام واجبا شرطيّا في صحّة البيع هو عدم ترتّب صحّة البيع عليه لا عدم ترتّب الإصباح عليه، فإن عدم ترتّب الإصباح عليه دليل عدم كونه شرطا في حصول الإصباح، لا دليل عدم كونه شرطا في صحّة البيع الذي هو محلّ النزاع. إلّا أن يوجّه قوله: «فإن الغاية .. إلخ» بأن عدم ترتّب الإصباح على الإعلام دليل عدم كونه غاية له، و أن الغاية له هو مجرّد رفع الجهل و الإغراء عن الجاهل، لا دليل عدم كونه واجبا شرطيّا حتى يرد عليه ما أورد.

قوله: «و يؤيّده أن أكل الحرام و شربه من القبيح».

أقول: وجه كونه مؤيّدا لا دليلا لعلّه من جهتين:


1- أجوبة المسائل المهنّائية: 49 المسألة 53.

ص: 32

أولا: من جهة أن قبحه في حقّ الجاهل بمعنى النقض لا العقاب، و أن حسن الاحتياط فيه حسن ندبيّ لا وجوبي، إلّا في الشبهة المحصورة لا البدويّة.

و ثانيا: أن قبح ارتكاب خلاف الواقع و حسن الاحتياط في تحصيل الواقع بالنسبة إلى الجاهل لا يستلزم وجوب الإعلام على العالم إلّا من باب المقدّمة و عموم وَ لٰا تَعٰاوَنُوا (1).

قوله: «لكن إثبات هذا مشكل».

أقول: وجه الإشكال من جهة أصالة البراءة من وجوب إعلام الجاهل كلّية على وجه العموم، و من جهة وجوب إرشاد الجاهل في الأحكام و تنبيه الغافل في الموضوعات، خصوصا في ما هو معرض إتلاف النفوس و الأعراض و الأموال في الجملة. فتأمّل.

قوله: «كما إذا أكره غيره على المحرّم».

[أقول:] بأن أمره بالظلم، أو نصبه واليا أو حاكما أو ضابطا أو كاتبا أو قاضيا على الجور و الظلم، و تحرير ديوانه، و الحكم بغير ما أنزل اللّٰه، و نحو ذلك ممّا جرت عليه عادة ملوك الجور و العدوان، و طاغية كلّ زمان، في إكراه الناس على الحرام، بكلّ من وجوه العلّية أو السببيّة أو الشرطيّة أو عدم المانعيّة من الحرام و المحرّمات.

قوله: «و لا إشكال في حرمته و كون وزر الحرام عليه، بل أشدّ، لظلمة».

أقول: وجه ذلك عموم قوله إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ (2).

و عموم قوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ (3).

و عموم: «رفع عن أمّتي تسعة .. و منها: ما أكرهوا عليه .. و ما اضطرّوا


1- المائدة: 2.
2- النحل: 106.
3- البقرة: 173.

ص: 33

إليه» (1).

و لكن لا يخفى أن معذوريّة المكره- بالفتح- و كون وزره على المكره- بالكسر- عقلا و شرعا إنّما هو في غير الدماء و في غير شرب الخمر و مسح الخفّين، لاستثناء الدماء عقلا و شرعا، و الخمر و مسح الخفّين نصّا، و في غير ما يكون المكلّف بسوء اختياره معينا أو طالبا أو راغبا أو معرّضا نفسه لإكراه الغير له، كالضائف بسوء اختياره المكره له بأكل الحرام، و المجيب دعوته اختيارا مع العلم بأنه سيكرهه على الحرام، فإنه في جميع هذه الموارد- كالمتوسّط بسوء اختياره في الأرض المغصوبة- غير معذور عقلا و لا نقلا، بل هو ضامن و غارم على ما أكره، لأن ما كان بسوء الاختيار من الإكراه و الاضطرار فهو في حكم الاختيار لا الاضطرار عقلا و نقلا.

قوله: «و إلّا لم يكن عيبا. فتأمّل».

[أقول:] لعلّه إشارة إلى أنه و إن لم يكن عيبا عرفا بل و لا شرعا، بالنظر إلى عدم حرمته على الجاهل ظاهرا، إلّا أنه بالنظر إلى حرمته الواقعيّة و منقصته الخفيّة واقعا يعدّ نقصا واقعيّا و عيبا خفيّا، و لهذا يستحيل الخطأ و النسيان على المعصوم، و يغرم الجاهل المخطئ في حقوق الناس، و يضمن الطبيب و لو كان حاذقا، و يقضى الفائت و لو غافلا.

أو إشارة إلى عدم المنافاة بين كونه عيبا خفيّا و منكرا شرعيّا ليجب الإعلام به في المعاوضات من جهتين، و في غيرها من جهة النهي عن المنكر.

أو إشارة إلى أن إعلام الجاهل و تنبيه الغافل بالمحرّمات الواقعيّة و إن لم يثبت وجوبه بأدلّة النهي عن المنكر، إلّا أن استحبابه ثابت بمثل عموم استحباب الأذان الإعلامي، و عدم القول بالفصل بين ما يوجب إيقاظ النائم و عدمه،


1- الوسائل 11: 295 ب «56» من أبواب جهاد النفس و ما يناسبه ح 1.

ص: 34

خصوصا قبل الفجر، و بسيرة الأمير عليه السلام على إيقاظ النائمين في مسجد الكوفة للصلاة، و نصوص الأمر باستهلال شهر رمضان (1)، و أوامر اختبار المرأة عن حالها المشتبه بين حدوث الحيض و عدمه، أو انقطاعه و عدمه، أو بين الحيض و العذرة و القرحة أو الاستحاضة، أو بين القليلة و الكثيرة و المتوسّطة.

فإن بنينا على ظاهر تلك الأوامر ثبت وجوب الاستعلام و الإعلام في خصوص هذه الموضوعات، مضافا إلى ما تقدّم منها. كما أن نصوص حرمة كتمان الشهادة (2) و وجوب أدائها و تحمّلها أيضا ممّا يثبت وجوب الإعلام في الموضوعات في الجملة، مضافا إلى ما تقدّم أيضا. كما أن وجوب نصح المستشير و قوله عليه السلام: «اذكروا المرء بما فيه ليتحرزه الناس» (3) أيضا ممّا يثبت وجوب الإعلام في الجملة، مضافا إلى ما تقدّم.

قوله: «مرسلة الشيخ (4) المنجبرة بالشهرة المحقّقة .. إلخ».

أقول: انجبار الرواية بشهرة الرواية منصوص، و أمّا بشهرة الفتوى فمبنيّ على حجّية مطلق مظنون الصدور من الأخبار أو حجّية الظنّ المطلق في الأحكام، و إلّا فلا يسلم الانجبار بها، كما يومي إليه قوله: «لو سلّم».

قوله: «خصوصا بالحمل على الإرشاد أولى».

أقول: أمّا وجه أولويّة حمل الجملة الخبريّة في المرسل على الندب من الحمل على تقييد المطلق، فلأن تقييد المطلق و إن كان أشيع المجازات و أرجحها في مقام تعارض الأحوال، بل قيل بأنه حقيقة، إلّا أن تقييده بالجملة الخبريّة يستلزم مجازين: تجوّز في المطلق و تجوّز في استعمال الجملة الخبريّة في


1- لم نجد نصوص بهذا المعنى، و ربما كان مقصوده شي ء آخر.
2- الوسائل 18: 227 ب (2) من أبواب الشهادات.
3- جامع السعادات 2: 321، و فيه اختلاف يسير.
4- المبسوط 6: 283.

ص: 35

الإنشاء، بخلاف حملها على الندب، فإنّه تجوّز واحد.

و أمّا وجه خصوصيّة الإرشاد فلعدم استلزامه التجوّز أصلا.

قوله: «لإبائها في أنفسها عنه، و إباء المقيّد عنه».

أقول: في كلّ من الإباءين نظر، بل منع واضح. أمّا عدم إباء أنفسها عن التقييد فلأنها ليست من الأحكام الفعليّة، و لا في مقام إعطاء القاعدة الكلّية، حتى تأبى عن التقييد. فكما أن العمومات المتقدّمة عليه المانعة من وجوه الاستنفاع بالنجس لم تأب من التخصيص بجواز الاستصباح به، كذلك إطلاق المخصّص لها لا يأبى من التقييد ب «تحت السماء» بالطريق الأولى.

و أمّا عدم إباء المقيّد عنه فلأن إباء المقيّد عن التقييد مبنيّ على أن ما دلّ عليه التقييد المذكور من نجاسة الدخان مخالف للشهرة، و أن حرمة تنجيس السقوف لا دليل عليه. و كلاهما ممنوعان.

أمّا شهرة طهارة الدخان فلأنها في دخان أعيان النجس لا المتنجّس، خصوصا الدهن الذي لا ينفكّ دخانه عن أجزائه اللطيفة المتصاعدة من الدسومة المحسوسة غير المستهلكة فيه.

و أمّا تنجيس السقوف فما كان منها مثل سقوف المساجد و المشاهد فدليل حرمته واضح. و أمّا سقوف غير المساجد فلاحتمال النهي عن تنجيسها، للإرشاد إلى عموم الابتلاء بانتشار النجاسة و سرايتها إلى الجدران و ما يقربها من الألبسة و الظروف و الفروش و الأطعمة و الأشربة و الأبدان، بل و سرايتها إلى تنجيس كلّ من يجتمع مع الدخان تحت السقوف، بل كثيرا ما يتكوّن الدخان في سقوف الحمّام بقطرات ماء ينجّس من يتقطّر عليه، أو يجتمع الدخان في السقوف فيأخذه الجاهل أو الناسي نجاسته لمداد الكتب و الصحف، إلى غير ذلك من معرّضيّة تنجيسه السقوف مفاسد انتشار النجاسة و سرايتها المسوّغة لحرمة

ص: 36

تنجيسها، كما سيحكيه المصنف في آخر المسألة عن الكافي عن الوشّاء: «قلت لأبي الحسن عليه السلام: جعلت فداك إن أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها، فقال: حرام هي ميتة، فقلت: جعلت فداك فيستصبح بها؟ فقال: أما علمت أنه يصيب اليد و الثوب و هو حرام؟!» (1).

فعلى هذا ينبغي أن يقال في تفصيل المقال و تحقيق الحال: إنه إن لم نقل بانجبار المرسلة بشهرة الفتوى بها فلا مقتضى لتقييد الاستصباح بها تحت السماء رأسا. و إن قلنا بانجبارها- كما يقتضيه حجّية الظنّ المطلق في الأحكام، أو مطلق مظنون الصدور من الأخبار- فلا مانع من تقييدها الاستصباح بما تحت السماء، لأن المانع إن كان أولويّة الحمل على الإرشاد فهو غير مانع، لأنّ الإرشاد إلى عدم تأثّر السقوف بنجاسة الدخان غير مانعة الجمع مع تقييد الاستصباح بما تحت السماء، بل هو مقتض له أيضا. و إن كان المانع هو لزوم نجاسة الدخان و حرمة نجاسة السقوف، فمن الواضح عدم مانعيّتهما، للمنع من بطلان اللازم، حسب ما عرفت من أن ما يصحّ للمانعيّة من شهرة طهارة الدخان فيما نحن فيه لم يوجد، و ما وجد منه من حرمة تنجيس السقوف لا يصلح للمانعيّة.

قوله: «مع أنه لو عمّ المتنجّس لزم أن يخرج عنه أكثر الأفراد».

[أقول:] يعني: من الظروف و الفروش و الألبسة و الأمكنة و الأصبغة و الأمتعة و نحوها، ممّا لم يشترط في استعمالها الطهارة.

و لكن فيه: إمكان منع الملازمة، و إخراج جميع ما لا يتوقّف استعماله على الطهارة بعنوان واحد، كقولك: إلّا ما يقبل التطهير، أو ما لا يشترط فيه الطهارة، أو ما لا يستلزم منه التنجيس و المفسدة من الاستعمالات، بحيث لا يلزم من إخراجها التخصيص بالأكثر و إن كان الخارج أكثر، كقوله:


1- الكافي 6: 255 ح 3، و فيه اختلاف يسير.

ص: 37

إِنَّ عِبٰادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطٰانٌ إِلّٰا مَنِ اتَّبَعَكَ (1) و الحال أن تابعيه أكثر بأضعاف.

قوله: «المائعات المتنجّسة كالدهن و الطين و الصبغ و الدبس إذا تنجّست ليست من أعمال الشيطان».

أقول: فيه كما أن تصنيع الخمر و الأصنام إنما كان بتعليم الشيطان، كذلك تنجيس المتنجّس لا يكون في الخارج إلّا من شرّ الشيطان، إذ ما من شرّ و لا فساد و لا فسق و لا تنجيس و لا آفة و لا عاهة و لا خطأ و لا نسيان و لا جهل و لا غفلة إلّا و هو مستند بالأصالة أو الأوّليّة أو الأولويّة أو السببيّة أو العلّيّة إلى عمل الشيطان و وسوسته، كما أنه ما من معصية أو استعمال حرام إلّا و هو مستند إلى إغوائه و تسويله.

و على ذلك فلا فرق بين التخمير و التصنيم و بين التنجيس في كون كلّ منهما من تعليم الشيطان و تسبيبه. كما أنه لا فرق بينهما في كون استعمالها على النحو الخاصّ- يعني: على النحو المحرّم من الشرب و الأكل- أيضا من إغواء الشيطان و استتباعه. فآية الاجتناب عن الرجس بإطلاقها شاملة لاجتناب المتنجّس أيضا.

قوله: «و أضعف من الكلّ الاستدلال بآية تحريم الخبائث» (2).

أقول: وجه الأضعفيّة أن الخبيث في العرف و الشرع ما يتنفّر منه الطبع، فلا يشمل كلّ متنجّس، بخلاف عموم الرجس.

قوله: «المراد هنا حرمة الأكل بقرينة مقابلته بحلّية الطيّبات».

أقول: فيه أنه لا قرينة و لا صارف للحرمة و الحلّية عن عموم حذف المتعلّق لجميع الاستنفاعات، من الأكل و الشمّ و التنزّه و التفرّج و غيرها.


1- الحجر: 42.
2- الأعراف: 157.

ص: 38

قوله: «و الملاقي للنجس و إن كان عنوانا للنجاسة، لكنّه ليس وجها من وجوه النجاسة في مقابلة غيره».

أقول: يمكن منعه بأن الملاقي للنجس بعد فرض كونه عنوانا- أي:

موضوعا و محكوما للنجاسة- لا مانع من كونه وجها من وجوه النجاسة- أي:

فردا و مصداقا و قسيما من أفراد النجاسة و أقسامها و مصاديقها- في مقابل غيره، أي: غير الملاقي. أمّا بحسب الحكم الشرعي و هو وجوب الاجتناب فلاشتراكه معها فيه. و أما بحسب الصدق العرفي و إطلاق النجس فلاشتراكه أيضا فيه معها، فأين الفرق و الفارق؟ إلّا أن يستظهر من وجوه النجس خصوص الأعيان النجسة بالذات. لا العرض، و لكنّه غير بيّن و لا مبيّن.

قوله: «و فيه: أن طرحها كناية عن عدم الانتفاع بها في الأكل».

أقول: فيه أولا: أنه لو كان كناية عن خصوص عدم أكله لكان طرحه رأسا، و إراقة المرق المتنجّس و الماء المتنجّس، بل و المشتبه به عند اشتباه ماء الوضوء فيه، خصوصا الكثير من منزوحات البئر، من التبذير المحرّم، مع إمكان الانتفاع به في سقي الدوابّ و الزرع، بل و الطين و الجصّ و نحوها. فجواز إراقتها من غير نكير و لا تبذير أصدق شاهد على إرادة المعنى الحقيقي الظاهر من الإراقة و الطرح، لا الكناية عن عدم الأكل، لأن المعنى الحقيقي لا يجتمع مع الكنائي في إرادة واحدة.

و ثانيا: أن الكناية استعمال اللفظ في المعنى لينتقل منه إلى لازمة، و الانتقال يتوقّف على ناقل عرفي معيّن، و تعيينه بقوله: «فإن ما أمر بطرحه من جامد الدهن و الزيت يجوز الاستصباح به إجماعا» ممنوع، لأن ما أمر بطرحه من جامد الدهن مقدار جزئي بحسب العادة، بحيث يكون إثمه بتنجيس الظرف و المصباح أكثر من نفعه بالاستصباح، و خارج عن مورد نصوص جواز

ص: 39

الاستصباح، فلم يعلم جواز الاستصباح بالمقدار الجزئيّ من الجامد المتنجّس على ما كان الاستصباح بالمائع الكلّي منه بالنصّ، حتى يكون قرينة معيّنة على الانتقال من معنى الطرح إلى لازمة و هو عدم الأكل.

قوله: «فإن الظاهر من كلام السيّد (1) [المتقدم] أن مورد الإجماع هو نجاسة ما باشره .. إلخ».

أقول: ما استظهره من كلامه من أن معقد إجماعه ثبوت أصل النجاسة لا الأحكام المتفرّعة عليه إنما هو استشعار من انسياق كلامه في مقابلة العامّة المنكرين للنجاسة، و لكنّه لا يقاوم أظهريّة كلامه و تصريحه بالتعميم بقوله: «لا يجوز أكله و لا الانتفاع به .. إلخ».

و كذلك ما استظهره من إجماع الخلاف (2) من تخصيصه بردّ المخالفين لا يقاوم أظهريّة كلامه و تصريحه بالتعميم بقوله: «لا يجوز أكله و لا الانتفاع به بغير الاستصباح». مضافا إلى عدم مانعيّة الجمع بين المرادين و عدم المنافاة في البين بالجمع بين الظاهرين.

و كذلك إجماع الغنية (3) و إن كان ظاهرا فيما ذكره من تحريم لا تحريم سائر المنافع، إلّا أن استثناءه بيع الزيت للاستصباح به تحت السماء أظهر في حرمة الاستصباح تحت الظلّ، فضلا عن حرمة سائر الانتفاعات، و بقائها تحت عموم المستثنى منه. مضافا إلى عدم مانعيّة الجمع بين الظاهرين.

قوله: «فلا ريب في وهنها بما يظهر من أكثر المتأخّرين».

أقول: لو سلّم مخالفة المتأخّرين أمكن منع وهنها و قدحها في إجماعات المتقدّمين، لانقراض عصر المخالف، فإن المعتبر في الإجماع اتّفاق أهل عصر


1- الانتصار: 193.
2- الخلاف 6: 91، 92 المسألة 19.
3- غنية النزوع: 213.

ص: 40

واحد لا جميع الأعصار، و إلّا لم يتحقّق إجماع بعد.

قوله: «دون غيره، مثل بلّ الطين و سقي الدابّة».

أقول: عدم حرمة الانتفاع بهما كما يحتمل أن يكون من جهة أصالة الحلّ في كليّ الانتفاعات، كذلك يحتمل أن يكون من جهة تنقيح المناط من نصوص جواز الاستصباح، و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال به على مخالفة الإجماع.

قوله: «و لا يخفى أن كلا وجهيه صريح في حصر التحريم».

(1) أقول: إنما الصريح فيما ذكر هو الوجه الثاني لا الأول.

قوله: «قال الشهيد في قواعده: النجاسة ما حرم استعماله في الصلاة و الأغذية (2) .. إلخ».

أقول: إثباته حرمة استعمال النجس في الصلاة و الأغذية لا ينفي ما عداه حتى يثبت حلّيّة سائر استنفاعاته.

قوله: «و مراده بالنهي عن النجس النهي عن أكله».

أقول: كما يحتمل ذلك يحتمل أن يريد بالنهي عنه عمومات النهي عنه الدالّة على حرمة جميع الاستنفاعات إلّا ما خرج، و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

قوله: «جواز الانتفاع بالدهن المتنجّس في جميع ما يتصوّر من فوائده».

أقول: هذا أيضا ليس بصريح في مخالفة الإجماعات على أصالة حرمة الاستنفاعات بالمتنجّس إلّا ما خرج، لاحتمال استناد جوازها في خصوص الدهن المتنجّس إلى النصّ (3) لا الأصل، فضلا عن جوازها في غير الدهن المتنجّس.


1- الوسائل 12: 66 ب (6) من أبواب ما يكتسب به.
2- القواعد و الفوائد 2: 85.
3- الوسائل 12: 66 ب (6) من أبواب ما يكتسب به.

ص: 41

قوله: «و لا يخفى ظهوره في جواز الانتفاع».

أقول: بل الأمر بالعكس، فإن قوله: «إنما خرج هذا الفرد بالنصّ» صريح في عدم خروج سائر الاستنفاعات، إلى آخر سائر الفقرات و العبارات، فإنها أدلّ على موافقة الإجماع من الاستدلال بها على مخالفته، و لا أقلّ من الاحتمال المبطل للاستدلال.

قوله: «يقتضيه استصحاب الحكم قبل التنجيس و هي القاعدة .. إلخ».

أقول: الاستصحاب و القاعدة أصل لا يقاوم الدليل من عمومات النهي عن استعمال النجس، حسب ما عرفت. مضافا إلى أن قوله: «كلّ شي ء يكون لهم فيه صلاح (1)البقرة: 29.

(2) .. إلخ» محتمل لأن يكون بيانا كاشفا عن كون الحلال الواقعي و الحكم الشرعي تابعا للصلاح الواقعي و المصلحة و الحكمة النفس الأمريّة، كما يقال: إن الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح النفس الأمريّة، لا إنشاء لجعل الحلال الظاهري لكلّ ما فيه منفعة ظاهريّة، كقوله تعالى خَلَقَ لَكُمْ مٰا فِي الْأَرْضِ (3) و «خلق اللّٰه الماء طهورا» (4)، حتى يكون من القواعد الظاهر (5) المنشئة للحلّية الظاهريّة في كلّ ما فيه منفعة ممكنة، و ذلك لظهور الصلاح في السرّ و الحكمة المكمونة، بخلاف المنفعة، فإنها قد تطلق حتى على الموهمات الزعميّة، كقوله تعالى قُلْ فِيهِمٰا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ (6)، و لم يقل: فيهما مصالح، فرقا بين المصلحة و الحكمة و النفع و المنفعة. فافهم.

قوله: «حلّ بيع كلّ ما يباح الانتفاع به».


1- الوسائل 12: 55 ب
2- من أبواب ما يكتسب به قطعه من ح 1.
3- البقرة: 29.
4- الوسائل 1: 101 ب (1) من أبواب الماء المطلق ح 9.
5- كذا في النسخة الخطّية، و لعلّ الصحيح: الظاهريّة.
6- البقرة: 219.

ص: 42

أقول: ظاهر الرواية أن حلّية البيع منوط بحلّية الانتفاع لا بنفس ما يمكن الانتفاع، فالاستدلال به على قاعدة كلّية حلّية الانتفاعات في النجس كالمصادرة على المطلوب.

قوله: «و يمكن حمل كلام من أطلق المنع .. إلخ».

أقول: التقييد في المطلق- خصوصا في فتاوى العلماء- من غير مقيّد و لا صارف خلاف الظاهر جدّا، لا يصار إليه من غير قرينة صارفة، لقبح تأخير البيان عن وقت الحاجة.

قوله: «و يؤيّده تعليل استثناء الدهن لفائدة الاستصباح».

أقول: أمّا في النصوص فقد جعل الاستصباح غاية للتنبيه و الإعلام، لا تعليلا لجواز البيع حتى يكون من قبيل العلّة المنصوصة على حلّية كلّ ما فيه فائدة و منفعة، كتعليل حرمة الخمر بأنه مسكر الدالّ بعمومه على حرمة كلّ مسكر.

و أمّا في الفتاوى- فمضافا إلى أنّه لم يقع تعليلا إلّا في كلام من ذكر- فهو من قبيل العلّة المستنبطة التي لا حجّية فيها.

قوله: «قلنا: ليس المراد ذلك، لأن الفائدة بيان لوجه الاستثناء».

أقول: أمّا توجيهه فهو أن يكون جواز بيع الدهن المتنجّس لفائدة الاستصباح بيانا لوجه استثناء بيعه فائدة (1) الاستصباح، لا حصر المبيع المستثنى في المقيّد للاستصباح، فكأنّه قال: إلّا الدهن لكلّ فائدة كالاستصباح، لا المقيّد لخصوص الاستصباح.

و مع ذلك فيه أولا: أن التعليل به لم يقع في نصّ حتى يكون من قبيل العلّة المنصوصة في الحجّية، بل هو من قبيل العلّة المستنبطة التي لم تقع في كلام غير


1- كذا في النسخة الخطيّة، و الظاهر أن الصحيح: لفائدة.

ص: 43

من ذكر، و لا حجّية فيها أيضا.

و ثانيا: أن جعل الاستصباح وجها للاستثناء لا حصرا للمستثنى لعلّه خلاف الظاهر، و الاحتمال كاف في الإبطال للاستدلال.

و ثالثا: لو سلّم كون الاستصباح وجها للاستثناء لا المستثنى فغايته تعميم حكم جواز البيع لكلّ ما يمكن الاستصباح به، لا لكلّ ما يمكن الانتفاع به كما هو المدّعى، كما لا يخفى.

قوله: «يكفي في صحّة ما قلنا تطرّق الاحتمال».

أقول: الاحتمال الكافي لبطلان الاستدلال إنما هو الموجب للإجمال، لا المخالف لظاهر الحال و المقال.

قوله: «على مذهب المتكلّم. فافهم».

[أقول:] لعلّه إشارة إلى أن إشكال المستشكل لا يتوجّه على مخالفة مذهب المستشكل، و إنما يتوجّه على مخالفة مذهب المستشكل عليه، أو على مخالفة ما هو المسلّم بينهما.

[بقي الكلام في حكم نجس العين]

قوله: «فلظهورها في الانتفاعات المقصودة .. إلخ».

أقول: بل الظاهر من عموم حذف المتعلّق هو حرمة عموم الانتفاعات.

مضافا إلى أن التقييد و الانصراف من دون مقيّد و صارف خلاف الأصل، بل خلاف البلاغة، بل تأخير البيان عن وقت الحاجة قبيح على الحكيم، مع إمكان أن يقول بدل «فاهجر»: فلا تأكل أو فلا تناوله. مضافا إلى أن الاستقراء في المحرّمات الشرعيّة أنه إذا حرّم شيئا حرّم قليله و كثيره و أسبابه و غاياته و مقدّماته و مؤخّراته و جميع تقلّباته. مضافا إلى سيرة الصلحاء و العلماء و الأنبياء و الشواهد القطعيّة من حالهم على الاجتناب من جميع تقلّباته و استنفاعاته و تصنّعاته و محافظاته و إمساكاته، حتى التفرّج و النظر إليها و إمساكها و حفظها، كما صرّح به

ص: 44

في خبر تحف العقول (1) و نصوص (2) حرمة الخمر.

و أمّا ما قال من الاتّفاق على جواز إمساك نجس العين لبعض الفوائد، فلم تثبت الكلّية المدّعاة، لكون العامّ المخصّص حجّة في الباقي.

قوله: «فإن الظاهر أن المراد من النفع المفروض للدم و الأبوال و الأوراث هو النفع المحلّل .. إلخ».

أقول: أمّا توجيه ظهور النفع المطلق في النفع المحلّل، و انصراف فرض وجود النفع المقابل لفرض عدمه إلى حلّ النفع المقابل لحرمته، فدعوى الصارف العقلي المشار إليه بقوله: «و الّا لم يحسن ذكر هذا القيد .. إلخ». يعني: إن لم ينصرف النفع من قوله: «و إن فرض له نفع» إلى النفع المحلّل لم يحسن عقلا و لا عرفا التوصّل ب «إن» الوصليّة إلى فرض وجوده، لأن فرض وجود غير المحلّل منه تحصيل للحاصل، و فرض عدم غير المحلّل المصحّح لفرض وجوده في الأشياء المذكورة- يعني: الدم و الروث و البول ممّا لا يؤكل- خلاف الواقع و الظاهر من قوله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ (3). و لم يحسن أيضا ذكر خصوص الصبغ للدم دون الأكل، مع اشتراكه في النفعين، و عدم الفارق بينهما في البين.

هذا، و لكن التوجيه غير وجيه. أمّا أولا: فمن جهة أنه توجيه لما لا يرضى به صاحبه، نظرا إلى أن فرض النفع المذكور في كلام الشهيد محلّلا ينافي قوله: «لا يجوز بيع الدم و إن فرض له نفع .. إلخ» لأن حلّية نفعه يستلزم حلّية بيعه من باب المقدّمة، و أن الإذن في الشي ء إذن في لوازمه كما هو المختار، أو من باب إناطة حلّية النفع و حرمته بحلّية النفع و عدمه، كما هو مختار المصنف في المسألة.


1- تحف العقول: 331.
2- الوسائل 17: 237 ب (9) من أبواب الأشربة المحرمة.
3- المائدة: 3.

ص: 45

و أمّا ثانيا: فمن جهة أن الصارف المذكور إنما هو يصلح لصارفيّة فرض النفع إلى حلّ النفع لو لم يفرض لعدمه وجه إلّا الحرمة. و هو ممنوع جدّا، لاتّفاق العرف و الشرع من جميع أهل الملل و النحل على استقذار أكل الدم و الروث و البول ممّا لا يؤكل، و استخباثها و تنفّر الطبع عنها، على وجه ينزّل عرفا و عقلا وجود منفعة الأكل المحرّم منها منزلة العدم بالنسبة إلى مثل وجود منفعة الصبغ بالدم، لكن لا من جهة حرمة أكله و حلّية الصبغ به، حتى يتوهّم انصرافها إلى الحرمة و الحلّية كما زعمه المصنف، و إلّا لكان الانصراف و التنزيل خاصّا بأهل الملل دون النحل، بل بخصوص الملتزم و المطّلع بالملّة، لا أنه مستقلّ بالعلّة و إن لم يلتزم و لم يطّلع و لم يكن من أهل الملل، بل التنزيل المذكور إنما هو من جهة الاستقذار العرفي من أكل الدم دون الصبغ به، أو من جهة عدم توهّم الحلّية في أكله و توهّمها في الصبغ به.

قوله: «فإن عدوله عن التعليل بعموم المنع عن الانتفاع بالنجس إلى ذكر خصوص الميتة يدلّ على عدم العموم في النجس».

أقول: فيه أولا: أن الاستدلال بعموم «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ» لا يدلّ على عدم عموم المنع عن النجس، فإن إثبات الشي ء لا ينفي ما عداه.

و ثانيا: لو دلّ على عدم عموم المنع عن النجس فلعلّه لا من جهة عدم عمومه، بل من جهة طروّ التخصيص عليه أو توهّمه، فإن توهّمه ليس بأبعد من توهّم عدم عمومه.

قوله: «بل من جهة التسامح و الادّعاء العرفي تنزيلا للموجود منزلة المعدوم .. إلخ».

أقول: فيه أن هذا التسامح و الادّعاء العرفي المنزّل للموجود من منافع النجس منزلة العدم عرفا إن كان بالنسبة إلى منافعه المتعارفة كالتسميد للعذرة

ص: 46

و الإيقاد للروث، فمن البيّن أنه لا يصحّ و لا يجري ذلك التنزيل العرفي أصلا و رأسا، فضلا عن إيجابه خروج تلك المنافع عن عموم المنع و الحرمة.

و إن كان بالنسبة إلى منافعه النادرة المسمّى في اصطلاح شريف العلماء بالمضرّ الإجمالي، كالتداوي بالخمر و الإيقاد بالعذرة و الاستصباح و الإطلاء بالدهن، فمن البيّن أنه و إن صحّ و جرى ذلك التنزيل العرفي للمنافع النادرة منزلة العدم عرفا، إلّا أنه يوجب انصراف المطلق عنها و خروجها عن تحت المطلق لا العموم.

و إن كان بالنسبة إلى منافعه النادرة الأندر المسمّى في اصطلاح شريف العلماء بالمبيّن العدم، كالتخليل بالخمر و التداوي بالعذرة و سدّ الساقية بالميتة و إطفاء النار بالجلاب، فهو و إن صحّ و جرى بل و أوجب صحّة سلب تلك المنافع النادرة الأندر عرفا عن النجس، إلّا أنه لا يتمّ المطلوب كلّية بل جزئيّة، و لا يثبت المدّعى بالجملة بل في الجملة، ضرورة أن الموجبة الجزئيّة لا تنتج المطلوب الكلّي، و النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمات. فالذي يعمّ المطلوب من التنزيل لا يتمّ، و الذي يتمّ لا يعمّ. فالموجب لصحّة سلب المنافع عرفا في الجملة غير منتج للمطلوب بالجملة، و المنتج له بالجملة غير موجب للصحّة.

قوله: «بل في الرواية (1) إشعار بالتقرير. فتفطّن».

أقول: لعلّه إشارة إلى أن إشعار الرواية بالتقرير ناظر إلى أن سكوت الامام عليه السلام عن عدم ردعه و منعه عن إيقاد الجصّ بالعذرة و عظام الموتى مستلزم و كاشف عن رضاه و جواز الانتفاع بالأعيان النجسة.

أو إلى إمكان منع الملازمة، بوجود المكفي للردع بعموم المنع في الآيات و الروايات، أو بوجود المانع من التقيّة، أو سلب القابليّة بالكلّية أو الجزئيّة.


1- الوسائل 2: 1099 ب «81» من أبواب النجاسات ح 1.

ص: 47

قوله: «و أمّا حمل الحرام على النجس كما في كلام بعض».

أقول: جملة: «كما في كلام بعض» وصف للنجس المحمول عليه لا للحمل، يعني: أن حمل الحرام في الرواية على النجس الذي لا يبالي به كما قاله بعض الأساطين فلا شاهد عليه.

قوله: «لعدم المانع مع وجود المقتضي. فتأمّل».

[أقول:] لعلّه إشارة إلى أنه إن سلّم عموم الآيات و الأخبار المانعة من قوله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ (1) و نحوه، فهو مانع عامّ لجميع الانتقالات من بيع و غيره، بل و من جميع التقلّبات من استنفاع و غيره، و إن لم يسلّم عمومها فغير مانعة حتى من البيع إذا قصد منه الآثار المحلّلة، إذ المفروض اتّحاد المانع من النقلين، و عدم الفارق في البين.

قوله: «لكن الإنصاف أن الحكم مشكل. نعم، لو بذل مالا .. إلخ».

أقول: المراد من الحكم المشكل بقرينة العهد السابق و الاستدراك اللاحق هو جواز المعاوضة و دفع العوض المالي في إزاء ما فرض أنه ليس بمال عرفا.

و وجه هذا الإشكال حينئذ: أن معاوضة العين المفروضة غير مال بالمال.

كيف لا يعدّ ثمنا لنفس العين حتى لا يكون سحتا بمقتضى (2) النصوص؟! و لهذا يستدرك رفع هذا الإشكال بما قال من جعل العوض عوضا عن رفع اليد المانعة شرعا من حيازة الباذل، أو عوضا عن الدخول و التصرّف في ملك المانع من حيازته لأجل أن يحوزه، أو بما نقول من جعله عوضا عن حقّ الاختصاص الشرعي لذي اليد على ما في يده.

ثمّ إن في كلام المصنف إشكالين آخرين لا يستدرك رفعهما بشي ء.


1- المائدة: 3.
2- الوسائل 12: 126 ب «40» من أبواب ما يكتسب به.

ص: 48

أحدهما: فيما قال من الفرق عرفا بين جلد الميتة للاستقاء و العذرة للتسميد، من حيث جعل مثل منفعة الاستقاء المحلّلة لجلد الميتة مالا في العرف، و عدم جعل مثل منفعة التسميد بالعذرة مالا فيه، مع فرض اتّحاد النفع و اشتراكه بين النجسين، و انتفاء الفرق في البين.

ثانيهما: في أن حكم الماليّة العرفيّة في مثل جلد الميتة لمنفعة الاستقاء يستلزم جواز المعاوضة على نفسه و النقل و الانتقال بغير ما نصّ الشارع على منعه كالبيع، من هبة أو صلح أو إجارة أو إرث أو وصيّة، و إغرام المفوّت و المانع من الاستقاء بجلد الميتة بغصب أو إتلاف أو ضمان أو كفالة.

و هذا الإشكال أيضا ينحلّ إلى إشكالين:

أحدهما: في أصل التزام الفقيه بترتّب الأحكام المذكورة على ماليّة جلد الميتة لمنفعة الاستقاء.

و ثانيهما: في تخصيص ترتّبها على مثل جلد الميتة لمنفعة الاستقاء، دون الميتة لإطعام الجوارح و العذرة للتسميد و الخمر للتخليل، مع اشتراك المقتضي بين النفعين، و انتفاء الفرق في البين.

قوله: «يشترط في الاختصاص بالحيازة قصد الحائز للانتفاع .. إلخ».

أقول: فيه أولا: أنه لا دليل في نفس الحيازة و لا من الخارج على اشتراط القصد في إفادته التمليك أو الاختصاص، إذ لا مانع من كونها من الأسباب القهريّة لإفادة التمليك أو الاختصاص، كما أن فعل الإتلاف و اليد الجانية من الأسباب القهريّة للضمان و لو صدرت عن خطأ لا قصد. و حينئذ فلا يبعد أن تكون الحيازة و لو عبثا أو خطأ أو قهرا أو إكراها يوجب التملّك أو الاختصاص فيما لا يقبل التملّك، كما أن قبض العين المغصوبة و اللقطة و لو عن خطأ و غفلة أو عبث أو نسيان يوجب الضمان شرعا، و ثبوت أحكام الأمانة الشرعيّة على ما وقع في يده

ص: 49

بعموم: «على اليد ما أخذت حتى تودّي» (1).

و ثانيا: سلّمنا اشتراط القصد، لكن الخروج عن فرض اللغويّة و العبثيّة كما لا يقتضي بأزيد من قصد الحيازة أو قصد التملّك في إفادتها التملّك، كذلك لا يقتضي بأزيد من من قصد الاختصاص في إفادتها الاختصاص، فما المقتضي لاشتراط زيادة قصد الانتفاع؟

و ثالثا: سلّمنا اشتراط قصد الانتفاع، لكن قصد الانتفاع بالمحاز الجزئي القليل الذي لا ينتفع به منفردا إلّا بعد الاجتماع الكثير- كالتقاط النواة و البعرور و البعر- أيضا من قصد الانتفاع في كلّ ما يعتبر فيه القصد، فإن قصد المجموع المركّب من الهيئة الاجتماعية لا يتحقّق إلّا بقصد كلّ من أجزائه المنفردة. و حينئذ فلا مسرح للإشكال الذي رتّبه على اشتراط قصد الانتفاع بقوله: «فيشكل الأمر فيما تعارف في بعض البلاد .. إلخ». و لا حاجة إلى استدراك كلفة حمله بقوله:

«نعم، لو جمعها في مكانه المملوك .. إلخ».

[النوع الثاني مما يحرم التكسب به ما يحرم لتحريم ما يقصد به]

[القسم الأول ما لا يقصد من وجوده على نحوه الخاص إلا الحرام]

قوله: «بناء على أن تحريم هذه الأمور تحريم لمنافعها .. إلخ».

أقول: في كلّ من صحّة البناء و المبنى تأمّل، بل منع. أمّا الأول فلأن حرمة الاكتساب كما يحصل من حرمة منافع تلك الأمور المذكورة، كذلك يحصل من حرمة نفسها من باب المقدّمة و التعاون، أو الملازمة المنصوصة فيها بين حرمة الشي ء و حرمة ثمنه، إذ كما أن مقدّمة الحرام حرام كذلك غاية الحرام حرام عقلا.

هذا، مضافا إلى أن حرمة كلّ من نفس الأمور المذكورة و منافعها منصوص فيه بالاستقلال على حدة، فلا يبتني حرمة الاكتساب بالأمور المذكورة على تخصيص حرمتها بحرمة منافعها من جهتين: إحداهما: من جهة أن حرمة كلّ منهما كاف في حرمة الآخر. و ثانيها: من جهة أن حرمة كلّ منهما منصوص به


1- المستدرك للحاكم 2: 47، و عوالي اللئالي 2: 345.

ص: 50

مستقلا و على حدة، فلا يصحّ الابتناء المذكور.

و أمّا الثاني: فلأنه لو سلّمنا صحّة ابتناء حرمة الاكتساب بما ذكر على تخصيص حرمتها و انصرافها إلى حرمة منافعها، إلّا أنّه لا نسلّم صحّة المبنى المذكور، لعدم صحّة التخصيص بلا مخصّص و الانصراف بلا صارف.

قوله: «و لو فرض ذلك كان منفعة نادرة لا يقدح في تحريم العين .. إلخ».

أقول: الفرد النادر إنما لا يقدح خروجه عن المطلقات بواسطة الانصراف، و أمّا بالنسبة إلى عموم النواهي المحرّمة فيقدح خروج النادر فضلا عن المنفعة غير النادرة، و إن فرض اشتراك الهيئة المحرّمة بينها و بين المحلّلة، فإن خروجها و جواز البيع بقصدها- كما قاله المصنف- يقدح في عمومات الباب من غير مخصّص.

قوله: «محمول على الجهة المحلّلة التي لا دخل للهيئة فيها».

أقول: الجهة المحلّلة التي للهيئة فيها دخل مثل ضرب الدفّ و المزمار و العود لأجل إعلام الغافل و النائم لا لأجل الطرب، و الجهة المحلّلة التي لا دخل للهيئة المحرّمة فيها جعل الأمثلة المذكورة ظرفا أو اتّخاذها زينة. و من البيّن أن عدم مدخليّة الهيئة المحرّمة في الجهة المحلّلة مقتض لحلّيتها لا توجيها لحرمتها كما هو المدّعى، إلّا أن يوجّه بأن المراد الجهة المحلّلة من العنوان المحرّم لنفسه لا لهيئته، بمعنى الحرام الذي لا هيئة له مثل الخمر.

قوله: «لمنع شمول الأدلّة لمثل هذا الفرد».

أقول: و أيّ مانع من شمول الأدلّة لمثل هذا بعد فرض عمومها و صراحتها في العموم؟!

قوله: «لأن المتيقّن من الأدلّة .. إلخ».

أقول: الاقتصار على المتيقّن فيما خالف الأصل إنما هو في المجملات

ص: 51

و الأدلّة اللبيّة، لا العمومات و الأدلّة اللفظيّة كما فيما نحن فيه.

قوله: «الملحوظ في البيع قد يكون مادّة الشي ء».

أقول: و إن كان الملحوظ في البيع قد يكون المادّة إلّا أن مجرّد لحاظ المادّة و قصده في البيع لا يسوّغ جواز بيعه و رفع مانعيّة الهيئة و صدقها عليه، إلّا إذا انفكّت المادّة عن الهيئة و أزيلت الصفة المانعة عنها، أو لم تكن الهيئة المفروضة مانعة و محرّمة شرعا. و أمّا إذا لم تنفكّ عنها، و كانت مانعة محرّمة على وجه العموم كما هو المفروض، فمن البيّن أن حرمة الهيئة العارضة هي حرمة مادّتها المفروضة لها، لأن النهي عن الشي ء نهي عن لوازمه المقوّمة له، و إلّا لساغ بيع جميع العناوين المحرّمة و الأوصاف المانعة، من الخمر و الأصنام و الأزلام و الطبول و المزامير و الدفوف، بلحاظ قصد ما عدا وصف الخمريّة من مادّة جسميّته أو سائر أوصافه و ألوانه و منافعه غير المخمّرة (1)، من الاستشمام و الاستنشاق من البهائم و الأطفال.

و أمّا الاستدلال على جواز بيع المادّة بضمان الغاصب و المتلف لهذه الأمور موادّها دون هيئاتها، ففيه منع الدلالة، لاحتمال اختصاص ضمان الموادّ بصورة كون الإتلاف تدريجا لا دفعيّا، أو بصورة ما إذا لم يجز إلّا إتلاف الهيئة دون المادّة، كما هو الأظهر من أدلّة النهي عن المنكر، و أمّا إذا توقّف إتلاف الهيئة على إتلاف المادّة معا فلا ضمان للمادّة، كما لا ضمان للهيئة، لأن الإذن في الشي ء إذن في لوازمه. و مثله ما إذا لم يكن للمادّة قيمة بعد سلب الهيئة و زوال الوصف عنه.

قوله: «و لعلّ التقييد في كلام العلّامة ب (كون المشتري ممّن يوثق بديانته) (2) لئلّا يدخل في باب المساعدة على المحرّم .. إلخ».


1- كذا في النسخة الخطّية، و لعلّها تصحيف: المحرّمة.
2- لم نقف عليه في كتبه، انظر التذكرة 1: 465، فإن فيه نوع شبه، و لكن نقله عن التذكرة السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 32.

ص: 52

أقول: بل احتمال أن يكون التقييد في كلام العلّامة لأجل إخراج المبيع عن الهيئة المحرّمة المانعة من صحّة البيع، و إدخاله في بيع الرضاض و المادّة المجرّدة عن المانع الداخلي المسلّم المانعيّة، نظير بيع المتنجّس حال تنجّسه لكن بشرط التطهير، أو بيع لحم الشاة حال حياته بشرط التذكية، أظهر من كونه لأجل دفع عروض ما لا يصلح للمانعيّة من الأمور الخارجيّة من جهات عديدة، ككون النهي عن التعاون بالنسبة إلى البيع نهيا خارجيّا فلا يقتضي الفساد، خصوصا في المعاملات، خصوصا مع إمكان التفصّي عن مانعيّته- على تقدير تسليم المانعيّة- بتكسيره بعد بيعه و قبل إقباضه، بل و بمحض عدم قصد المعاونة على الإثم في بيعه، كما سوّغوا به بيع العنب لمن يعمله خمرا.

قوله: «إن أراد بزوال الصفة زوال الهيئة فلا ينبغي الإشكال في الجواز، و لا ينبغي جعله محلّا للخلاف».

أقول: عدم إمكان إرادة الزوال الفعليّ للوصف المانع في محلّ الخلاف لا يعيّن المدّعى و هو إرادة الزوال القصديّ للوصف، بأن يكون مجرّد قصد المادّة الموصوفة بالوصف المانع كافيا في رفع المانعيّة و صحّة البيع، لاحتمال إرادة الزوال الشرطي المشروط في بيعه، بل الزوال الشأني القريب إلى الفعلي أو المشرف إلى الفعل بعلاقة أوله إليه بعد البيع فورا، كما هو الأظهر ممّن اعتبر في صحّة بيع الموصوف بالوصف المانع زوال الوصف، و لو بقرينة أقربيّته إلى الزوال الفعليّ المتعذّر من الزوال القصديّ المحض الخارج عن صدق الزوال رأسا، و لا يصدق عليه الزوال لا حقيقة و لا مجازا بمحض القصد إلى عدم إرادته في البيع.

قوله: «لحق الآلة المعدّة لها حكم آلات القمار».

أقول: بل الأظهر من عموم حرمة كلّ ملهوّ به و كلّ وجوه الفساد و القمار

ص: 53

و المسير في النصوص (1) هو حرمة عموم (2) الآلات المعدّة لها، كالشطرنج و الصولجان، و غير المعدّة لها كالمقامرة بالبيض و الخاتم و نحوها، بل و حرمة فعل المراهنة و لو لم يكن بآلة، كالمصارعة و المماطلة و المغالبة بركض و نحوه، بل و المقاولة بإنشاء شعر أو خطبة، بل و حرمة التفرّج، بل التعليم و التعلّم له، فضلا عن انضمام القول بالفعل و الفعل بالآلة، و بالالتزام بالعوض و أخذ العوض عليه.

فإن كلّها داخلة في عموم النهي عن وجوه الفساد، غايته أنه كلّما كثرت الضمائم اشتدّت الحرمة و تعدّدت جهاتها، فإن الحرام القولي إذا انضمّ الى الفعل صار حراما من جهتين، و إذا انضمّ إلى الآلة اشتدّت من جهة ثالثة، و إذا انضمّت إلى أخذ العوض اشتدّت من جهة رابعة، و إذا انضمّت إلى الالتزام بأخذ العوض اشتدّت من جهة خامسة، و إذا انضمّت إلى التديّن و الاستحلال العملي اشتدّت الحرمة من جهة سادسة، إلى أن يبلغ إلى الاستحلال القولي الموجب للكفر و الارتداد، الذي هو سوء عاقبة مآل الإصرار و الاستصغار الموعود عليه النار بقوله تعالى سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لٰا يَعْلَمُونَ* (3) وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ* (4) ثُمَّ كٰانَ عٰاقِبَةَ الَّذِينَ أَسٰاؤُا السُّواىٰ أَنْ كَذَّبُوا بِآيٰاتِ اللّٰهِ وَ كٰانُوا بِهٰا يَسْتَهْزِؤُنَ (5).

كما أن مآل كسب الطاعات، و تحصيل ملكة العدالات، و التزهّد في المباحات، على هذه المراتب و الكيفيّات إلى أن يبلغ في العروج و الترقّيات حدّ بلوغ الروحانيّات، و اجتذاب نفحات الرضا و الرضوان، التي هي أعظم من التنعّم


1- الوسائل 12: 54، 237 ب «2، 102» من أبواب ما يكتسب به.
2- الوسائل 12: 119، 242 ب «35، 104» من أبواب ما يكتسب به.
3- الأعراف: 182.
4- الأعراف: 183.
5- الروم: 10.

ص: 54

بالجنّات و الحور الحسان التي أعدّت للمتّقين، و العاقبة للمتّقين.

قوله: «إلّا أن المتيقّن منه ما كان من جنس المزامير و آلات الأغاني و من جنس الطبول».

أقول: فيه أولا: أن قاعدة الاقتصار على المتيقّن إنما يصار إليه فيما خالف الأصل من الأدلّة اللبيّة و المجملة، لا العمومات اللفظيّة المبيّنة كما فيما نحن فيه.

و ثانيا: أن ما كان من جنس المزامير و الطبول إنما هو من آلات الأغاني و الغناء، و هو أخصّ من عمومات حرمة اللهو و الملاهي بقوله: «و كلّ ملهوّ به» (1)كذا في النسخة الخطّية، و الظاهر أن الصحيح: فكيف لا يجعل .. إلخ، و لعلّه سقط من العبارة.

(2) بمراتب عديدة و جهات متعدّدة، و المفروض أن عموم النهي عن اللهو و الملاهي يقتضي حرمة مطلق اللهو حتى القولي كالقصص الملهية، فضلا عن الفعلي كالتصفيق و الترقيص و المصارعة و المماطلة و المغالبة و شرب الملهيات من الترياك و التنباك، فضلا عن المنضمّ بمطلق الآلة كاللعب بالطيور و السبحة، فضلا عن الآلات المعدّة له كالمجانيق و المراجيح و فنون الشعبذة المعدّة للّعب و اللهو و الإلهاء، فضلا عن اللهو بأصوات الغناء المطرب الموجبة للخفّة الملحقة بنوع من السكر المحرّم، فضلا عن الآلة المعدّة له من المزامير و الطبول و الصناديق، فإنها من أقصى منتهى مراتب حرمة الأغاني و وجوه الفساد، التي لا واسطة بينهما و بين الكفر و الارتداد إلّا الاستحلال، فكيف (3) يجعل من الملاهي؟

قوله: «خيار التدليس. فتأمّل».

[أقول:] لعلّه إشارة إلى أن خيار تفاوت سكّة السلطان مع سكّة غير السلطان ليس من تفاوت صفة شدّة الرغبة و ضعفها، كتفاوت وصف الجيّد و الردي ء و الصحيح و الأصحّ، حتى يكون من قبيل خيار التدليس، بل تفاوته من


1- الوسائل 12: 57 باب
2- من أبواب ما يكتسب به ح 1.
3- كذا في النسخة الخطّية، و الظاهر أن الصحيح: فكيف لا يجعل .. إلخ، و لعلّه سقط من العبارة.

ص: 55

باب تفاوت الذوات الصحيحة و المعيبة، و التامّ و الناقص عن الخلقة الأصليّة. فهو في نظر العرف من قبيل خيار العيب لا التدليس، و لهذا لا يتعاطون سكّة غير السلطان بوجه من الوجوه، و لا يفرضون في إزائه ماليّة أصلا، و لا يعبئون به رأسا، بل يجعلون تفاوته أشدّ من تفاوت المعيب بأشدّ وجه. نعم، لو كان تفاوته من باب تفاوت سكّة سلطان مع سلطان آخر- من حيث شدّة الرغبة، و ضعفها- كان من خيار التدليس لا العيب.

[القسم الثاني ما يقصد منه المتعاملان المنفعة المحرمة]

قوله: «يطرح ظاهر كلّ بنصّ الآخر. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى منع كون الروايتين من قبيل المتعارضين بالنص و الظاهر و العام و الخاص حتى يطرح ظاهر كلّ منهما بنصّ الآخر، كأكرم العلماء و لا تكرم الفسّاق، بل تعارضهما من قبيل تعارض المتبائنين، كأكرم العلماء و لا تكرم العلماء، في عدم إمكان الجمع الدلالتي العرفي بينهما إلّا بشاهدين صارفين موجبين لطرح كلّ من ظاهريهما، بحمل «أكرم» على العدول و «لا تكرم» على الفسّاق.

و المفروض عدم الشاهد العرفي الموجود بين النصّ و الظاهر كالعام و الخاص، فتعيّن الرجوع فيهما إلى المرجّحات السنديّة الموجبة لطرح أحدهما رأسا و العمل بالآخر كلّا، كما هو القاعدة المسلّمة في علاج المتعارضين المتبائنين، حيث إن طرح أحد سنديهما خير من طرح كلّ من ظاهريهما.

قوله: «و الفرق بين مؤاجرة البيت لبيع الخمر فيه و بيع الخشب على أن يعمل صليبا أو صنما لا يكاد يخفى».

أقول: و يمكن أن يقال أولا: بمنع الفرق.

و ثانيا: لو سلّم ندور بيع المسلم الخشب على أن يعمل صنما فإنما هو في مثل زماننا لا زمان الصدور حتى يمنع من حمل الصادر عليه.

ص: 56

و ثالثا: سلّمنا، لكن الندور المانع من حمل المطلق عليه إنما هو ندور الاستعمال لا ندور الوجود. نعم، ندور الوجود مانع من حمل الواقعة الموجودة لا المسألة المفروضة عليه.

و رابعا: سلّمنا، لكن ندور اشتراط الحرام في البيع دون الإجارة إنما هو من جهة تضمّن البيع من حيث كونه تمليك العين لجميع منافعه المحلّلة و المحرّمة، فلا حاجة إلى اشتراط المحرّم، بخلاف الإجارة، فإنها لمّا كانت عبارة عن تمليك منفعة فيحتاج إلى تعيينها بالاشتراط.

و خامسا: سلّمنا ندور اشتراط الحرام في البيع من جميع الوجوه، لكنّه إنما يمنع من حمل المطلق عليه فقط، لا من حمله عليه و على غيره بالعموم. و بعبارة:

أن ندور اشتراط الحرام في بيع الخشب في الخبر (1) إنما يمنع من حمل قوله عليه السلام:

«لا يجوز» عليه فقط بالخصوص، و لا يمنع من حمله عليه و على غيره من سائر الأفراد غير النادرة، أعني: غير المشترط فيه الحرام، خصوصا بالنظر إلى عموم النكرة في سياق النفي، و عموم ترك الاستفصال في جواب السؤال.

قوله: «على وجه يكون دخيلا في زيادة الثمن».

أقول: لا مقيّد عرفا و لا شرعا و لا عقلا لتقييد قصد الصفة المحرّمة في البيع على وجه يكون دخيلا في زيادة الثمن، إذ يكفي في صدق «ثمن المغنّية سحت» عرفا و شرعا و عقلا أن يقصد الثمن في إزاء المغنّية بوصف المغنّية و لو لم يكن الثمن دخيلا في زيادة الثمن، بل و لو لم يكن ثمن و عوض على المنقول المحرّم بصلح أو هبة، إذ من المعلوم أن المانع من صحّة تعلّق النقل و الانتقال بالمغنية و حرمة ثمنها ليس إلّا من جهة قصد المحرّم و الفاسد من اللهو و الغناء، و من البيّن أن هذا المناط المنقّح- و هو فساد المقصود و حرمته- لا يفرّق بين حصوله في


1- الوسائل 12: 127 ب «41» من أبواب ما يكتسب به ح 1.

ص: 57

ضمن البيع أو الهبة أو الصلح أو سائر الانتقالات، و لا مقيّد لكونه في ضمن البيع، فضلا عن التقييد بمدخلّية الوصف في زيادة الثمن.

قوله: «و إن كانت نادرة .. إلخ».

أقول: فيه أولا: أن فرض النفع المحلّل لوصف الحرام من اللهو و الغناء غير واقع شرعا، فضلا عن فرضه مقيّدا بغير النادر المعتدّ به، إلّا على بعض ما يوافق العامّة من الأقوال الشاذّة في جواز مثل الغناء في خصوص القرآن، و جواز اجرة المغنّية في خصوص العرائس.

و ثانيا: لو سلّمنا، لكن ندور نفعه و عدم ندور نفعه مثل قلّة اجرة نفع الغناء و كثرته ممّا لا يجدي في حلّية الغناء و حرمته بعد فرض صدق الغناء المحرّم، فضلا عن أن يجدي المنفعة الكثيرة المعتدّ بها عن الحلّية و الخروج عن الحرمة، دون المنفعة النادرة القليلة غير المعتدّ بها النازلة منزلة العدم، مع أنها أولى بالحلّية و الخروج عن الحرمة. نعم، لو فرض نصّ الشارع بأن ثمن المغنّية و نفع الغناء حلال أمكن تنزيل المنفعة النادرة القليلة منزلة العدم في الخروج عن موضوع النفع المحلّل، بخلاف المنفعة الكثيرة المعتدّ بها. و أمّا فيما نصّ الشارع بالعكس و أن ثمن المغنية و نفع الغناء سحت و حرام (1)- كما هو المفروض- فالأمر بالعكس.

نعم، الذي يجدي تفصيله في الحلال هو أن يقال: إن المنفعة المحلّلة لمثل اللهو و الغناء إن كان حلّيتها بالأصل- كما هو الظاهر- فهو لا يقاوم عموم النصّ المحرّم لثمن المغنية و منفعة الغناء (2) المفروض. و إن كان بالنصّ ففيه أولا: أنه لا نصّ. و ثانيا: على تقديره فالمرجع في حلّيتها و عدمها و ترجيح أحد النصّين على الآخر إنما هو إلى إعمال المرجّحات الدلالتيّة أو السنديّة، لا إلى ندور النفع و عدمه و قلّته و كثرته، كما لا يخفى.


1- الوسائل 12: 84 ب «16» من أبواب ما يكتسب به.
2- الوسائل 12: 84 ب «16» من أبواب ما يكتسب به.

ص: 58

قوله: «هذا في غاية البعد، إذ لا داعي للمسلم .. إلخ».

أقول: قد تقدّم (1) منع بعده من وجوه عديدة، لا أقلّ من كون البعد على تقدير تسليمه مبنيّا على إرادة صورة الاشتراط النادر فقط، و أمّا في ضمن العموم بانضمام فرد آخر من العموم إليه كالمقصود منه الحرام من دون اشتراطه- كما أفتى بحرمته هو آنفا- بل و غير المقصود منه الحرام إذا علم ترتّبه عليه- كما يقتضيه العموم- فلا بعد فيه.

قوله: «فالأولى حمل الأخبار المانعة على الكراهة .. إلخ».

أقول: فيه أولا: أن حملها على تجوّز الكراهة ليس بأولى من بقائها على ظاهر الحرمة و العموم، و تقييد الأخبار المجوّزة بصورة عدم قصد الحرام من بيع العنب و العصير، كما هو الغالب من حال المسلم، بل و بصورة عدم العلم بإعماله خمرا حين البيع و إن علم به بعده، أو علم بأن عمل المشتري تخمير العنب كلّية لا خصوص هذا العنب، فإن خبر جواز بيع العنب لمن يعلم أنه يعمله خمرا (2) لا يأبى من الحمل على العلم به بعد البيع، أو العلم بأنه خمّار يعمل العنب خمرا لكن لا يعلم بإعماله هذا العنب خمرا. و لو أبى عنه فليس بأبعد من حمل نصوص المنع على الكراهة. و الاستشهاد عليه بقوله عليه السلام: «بيعه ممّن يطبخه أو يصنعه خلّا أحبّ إليّ و لا أرى به بأسا» (3) لا شاهد فيه، فإنه مثل قولك: الحلال أحبّ إليّ من الحرام، و قوله تعالى السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّٰا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ (4) وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولىٰ (5).


1- في ص: 55.
2- الوسائل 12: 169 ب «59» من أبواب ما يكتسب به ح 5.
3- الوسائل 12: 170 ب «59» من أبواب ما يكتسب به ح 9، و فيه: و لا أرى بالأول بأسا.
4- يوسف: 33.
5- الضحى: 4.

ص: 59

سلّمنا إباء أخبار الجواز من الحمل على ذلك، و لكن لا تأبى من الحمل على التقيّة، لموافقة العامّة، خصوصا قوله عليه السلام: «هو ذا نحن نبيع تمرنا ممّن نعلم أنه يصنعه خمرا» (1)، فإن شاهد الحال القطعي من الامام عليه السلام آب من الاقتحام في التقريب إلى الآثام و لو كان المرام من المكروه لا الحرام.

و ثانيا: أن المرجع في تعارض ما نحن فيه من الأخبار المجوّزة و المانعة ليس إلى المرجّحات الدلالتيّة فضلا عن الحمل الكراهة، لعدم كون التعارض فيما نحن فيه من قبيل النصّ و الظاهر و الظاهر و الأظهر حتى يجمع بينهما بالحمل، بل من قبيل المتبائنين المتعيّن فيهما المرجّحات السنديّة و طرح المرجوح، و من جملة المرجّحات السنديّة المنصوصة موافقة الكتاب و السنّة الموافقة للأخبار المانعة عموم قوله تعالى وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ (2) وَ لٰا تَقْرَبُوا الْفَوٰاحِشَ مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا وَ مٰا بَطَنَ (3) و الإثم و البغي و اجتنبوا ظاهر الإثم و باطنه وَ لٰا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّٰارُ (4) فَلٰا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظّٰالِمِينَ (5) بناء على عموم الظالم نفسه و هو الخمّار، و فحوى النصوص المانعة من إعانة الظالم في المباحات بل في الطاعات، كقوله عليه السلام لصفوان الجمّال: «كراؤك هذا الرجل .. إلخ» (6).

قوله: «و ربما زاد بعض المعاصرين على اعتبار القصد اعتبار وقوع المعان عليه في تحقّق مفهوم الإعانة».


1- الوسائل 12: 169 ب «59» من أبواب ما يكتسب به ح 6.
2- المائدة: 2.
3- الأنعام: 151.
4- هود: 113.
5- الأنعام: 68.
6- الوسائل 12: 131 ب «42» من أبواب ما يكتسب به ح 17.

ص: 60

أقول: أمّا هذا المعاصر فهو صاحب الفصول. و أمّا دعواه: فهو اعتباره في حرمة مقدّمة الحرام زيادة على قصد الحرام فيها التوصّل بها إلى الحرام (1)، و فصّل في المقدّمات بين الموصلة و غيرها في التنبيه الأول من تنبيهات مقدّمة الواجب من فصوله (2).

أمّا دليله على ذلك: فهو أن دليل مطلوبيّة شي ء للغير لبّي عقلي، فيقتضي مطلوبيّة ما ترتّب ذلك الغير عليه دون غيره، فيعتبر في المطلوب فيه المقيّد حيثيّة كونه مقيّدا، و هذا لا يتحقّق بدون القيد الذي فعل الغير (3).

و أمّا جوابه: فهو أن علّة وجوب المقدّمة إن كان وصفا اعتباريّا منتزعا من وجوب الغير و ترتّبه عليه- كما يقتضيه الدليل المذكور- فإنما يقتضي الوجوب العقليّ اللابدّي الراجع إلى الوصف بحال المتعلّق المبائن، الذي لا يجدي أثرا حقيقيّا في الموصوف، كتوصيف الرجل بأنه عالم أبوه، و مبنى النزاع إنما هو على تقدير وجوبها بغير ذلك المعنى.

و إن كان وصفا حقيقيّا قائما بحصول ذي المقدّمة فممتنع، لأنه بالنظر إلى كونه علّة لوجوب المقدّمة يلزم سبق المعلول على العلّة، و بالنظر إلى كونه معلولا لوجود المقدّمة يلزم أن يعود من جانبه فائدة إلى العلّة. و كلاهما محال. أمّا الأول فظاهر. و أمّا الثاني فلما قرّر في المعقول من استحالة أن يعود من جانب المعلول أثر أو فائدة و كمال إلى العلّة، لأكمليّة مرتبة العلل من مرتبة المعلولات، كما هو معنى من معاني أن أفعال اللّٰه ليست معلّلة بأغراض.

و إن كان قائما بنفس المقدّمة، فإن أريد من المقدّمة العلّة التامّة فهو خلاف المفروض، و خروج عن البحث. و إن أريد فيها الأعمّ فليست العلّة القائمة بنفسها


1- الفصول الغروية: 81.
2- الفصول الغروية: 86.
3- الفصول الغروية: 81.

ص: 61

للمطلوبيّة و المبغوضيّة إلّا أهليّة الإيصال بها مطلقا، سواء ترتّب عليها الغير أم لم يترتّب، بل و سواء قصد فاعل المقدّمة الوصول بها إلى ذي المقدّمة أم لم يقصده، لأن المدار و الاعتبار في الاتّصاف بالأوصاف و تحقّقها إنما هو على مجرّد حصول ملكتها و قوّة الاقتدار على صدور الوصف و إن لم يصدر فعلا. و بعبارة: أن المراد من المقدّمة الموصلة إن كان الإيصال الفعلي فلا شي ء من المقدّمات كذلك، إلّا العلّة التامّة الخارجة عن محلّ النزاع. و إن كان الإيصال الشأني و المدخليّة القابليّة فجميع المقدّمات كذلك، و هذه صفتها.

و هذا تفصيل جواب المصنف، عنه بقوله: «فإن حقيقة الإعانة على الشي ء هو الفعل بقصد حصول الشي ء، سواء حصل أم لا». إلّا أنه يرد عليه أنه بما تجيب عن المقدّمة الموصلة تجاب به عن المقدّمة المقصودة، فإن حقيقة الإعانة على الحرام هو الإتيان ببعض مقدّماته، سواء قصد بها الحرام أم لا. فكما أن ترتّب ذي المقدّمة على المقدّمة من الغايات الخارجة التي لا مدخليّة له في معنى المقدّمية و لا في حكمها، كذلك قصد ترتّبه عليها من الضمائم و المقارنات الخارجيّة التي لا مدخليّة له في معنى المقدّمية و لا في حكمها.

قوله: «فظهر الفرق بين بيع العنب و بين تجارة التاجر .. إلخ».

[أقول:] يعني: الفرق الاسمي في صدق الإعانة و عدمه بين الفرعين، و في استناد ذلك الفرق الاسمي إلى مدخليّة القصد في البين.

أقول: فيه أولا: إمكان منع الفرق بين الفرعين اسما و حكما، و الحكم بحرمة كلّ ما يوقع الغير في الحرام من المقدّمات و المعونات، و إن بلغت في البعد و الضعف و التسلسل ما بلغت، و لو لم تكن موصلة بل و لا مقصودة منها الحرام، بل و لا وجوديّة، كعدم بذل الطعام لمن يخاف تلفه، حيث استدلّ المبسوط و غيره

ص: 62

على حرمته بأن فيه إعانة على قتل مسلم (1)، مع أنه مقدّمة عدميّة غير مقصود به القتل. و كما استدلّ جمع من الأعلام في باب اشتراط خلوّ السرب من الموانع لوجوب الحج، بأن أخذ الخادة (2) و المال من الحاجّ ظلما من موانع وجوب الحج، لما فيه من الضرر المنفي و الإعانة على الظلم الحرام (3).

و ثانيا: سلّمنا الفرق المذكور بينهما، لكن لا نسلّم كونه فرقا اسميّا، من صدق الإعانة على البيع المقصود به الحرام، و عدم صدقها على التجارة و الحجّ و نحوهما ممّا يقصد به المباح و الطاعة، بل هو مستند إلى الفرق الحكمي و اختلاف الجهة الحكميّة بينهما، إذ كما أن التجارة و الحجّ مقدّمة و معونة و سبب لكلّ من استنفاع نفسه و دينه و من إنفاع غيره الظالم له، كذلك بيع العنب لعاصر الخمر مقدّمة و إعانة و سبب لكلّ من جلب منفعة تملّكه الثمن و من حدوث مفسدة تملّك غيره المثمن.

إلّا أن المرجع عند الدوران لمّا كان بمقتضى العقل إلى ارتكاب أقلّ القبيحين و الأخذ بأقوى السببين و أعظم الفائدتين، و كان ذلك المرجع مختلفا في البين و متفاوتا بين الفرعين، اختلف الحكمان.

و من البيّن أن الأقوى سببا و مسبّبا و فائدة- عقلا و نقلا- إنما هو ترجيح التجارة على تركها، لما في فعله من قوام المعاش و المعاد، و في تركه من الفساد و الإفساد، و ترك بيع العنب لعاصره خمرا، لما في فعله من الفساد و الإفساد، و في تركه من السداد و الرشاد.

مضافا إلى أولويّة دفع المفسدة من جلب المنفعة. و قوله عليه السّلام: «ما اجتمع


1- المبسوط 6: 285.
2- كذا في النسخة الخطيّة.
3- مسالك الافهام 2: 141، مدارك الأحكام 7: 62، الحدائق الناضرة 14: 141.

ص: 63

الحلال و الحرام إلّا و غلب الحرام الحلال» (1) يقتضي الحرمة في المقام من جهة التغليب العقلي و الشرعي، لا من جهة صدق المعاونة على الحرام فيه دون صدقه في التجارة و الحج، و لا من جهة مدخليّة قصد الحرام في صدق المعاونة عليه اسما، و لا مدخليّته في الحرمة حكما، بل لو لم يقصد البائع الحرام في بيع عنبه لعاصره خمرا لم نأب من حرمة بيعه أيضا، من جهة بقاء صدق المعاونة و تغليب الحرمة شرعا و عقلا. كما أنه لو لم نقل بتغليب الحرام الحلال في مثله لم نأب من تجويز بيعه له و إن قصد الحرام، لأن قصد الحرام على القول بحرمته إنما هو حرام عقلي لا شرعي، بل قبحه قبح فاعلي لا فعلي من باب التجرّي، خارج عمّا نحن فيه، و لا دخل له بحرمته من حيث المقدّميّة و صدق الإعانة على الحرام شرعا، بل المعاونة صادقة عرفا حتى لو لم يعلم بها، كما لو باع العنب لعاصره خمرا من غير قصد و لا علم، غايته أن عدم حرمته عليه إنما هو بعموم قاعدة حديث الرفع، لا من جهة عدم صدق المعاونة.

و الحاصل: أن الفرق بين الموارد المعاونة إن سلّم فليس من جهة الفرق في صدقها اسما، و لا من جهة مدخليّة القصد بل و لا العلم في صدقها عرفا، بل إنما هو من جهة اختلاف الحكم المختلف باختلاف مدركه من المعقول و المنقول و القواعد و الأصول.

و ثالثا: لو سلّمنا الفرق الاسمي في أفراد المعاونة، و مدخليّة قصد الحرام في صدقها عرفا، فإنّما يسلّم في تميّز المشتركات لا مطلقا، يعني: في خصوص ما إذا كان فعل المعاون من الأفعال المشتركة بين المعاونة على الإثم و غيره، و لم يكن له تميّز خارجي إلّا القصد، مثل السفر المشترك بين الطاعة و المعصية، و ضرب اليتيم المشترك بين العدوان و الإحسان، حيث لا يتميّز إلّا بالقصد، كما


1- سنن البيهقي 7: 169.

ص: 64

في كلّ فعل ذي جهات. مثلا: لو فرضنا أن للخمّار في ذمّتي عنبا يجب بذله له أداء لدينه، و عنبا يحرم بذله له لتخمير و نحوه، و فرضنا اندفاع أحد العنبين إليه، فإن كان المدفوع إليه ممتازا من حيث الكمّ و الكيف و الوزن و الوصف كان اعتبار تعيينه بالقصد تحصيلا للحاصل، كما فيما نحن فيه. نعم، لو لم يكن له جهة مميّزة و معيّنة غير القصد اعتبر في تعيينه و تميّزه القصد، لكنّه خارج عن محلّ الفرض.

و من هذه الأبواب ينفتح باب الجواب عن شبهة الجبر في استناد أفعال العباد من الصلاح و الفساد إلى مسبّب الأسباب، فإن جميع تهيئة أسباب الخير و الشرّ من الإيجاد و ما دونه من الحكيم المطلق إنما هو من باب اللطف و المعرضيّة للثواب و السعادة لا العقاب و الشقاوة، و بقصد الإحسان و الامتحان لا الحرمان و العدوان، و استناد الفعل إلى أقوى السببين و العلّتين من المباشر و السبب و الفاعل و العادل.

قوله: «و إلّا لزم التسلسل. فافهم».

[أقول:] أي: إن لم يشترط في حرمة المقدّمات و المعونات قصد الحرام لزم تسلسل الحرمة في سلسلة المقدّمات و المعونات إلى ما لا نهاية له، من المعاملات و المغارسات و الصناعات، بل التجارات و الإحسانات، المعلوم لفاعلها بالعلم الإجمالي الانتهاء إلى الحرام و الشرّ و الفساد، إلى أن ينتهي إلى ألطاف ربّ العباد بالنسبة إلى أهل الفساد، فيلزم حرمة جميع المعاملات، بل و جواز الجبر على اللّٰه تعالى.

قوله: «فافهم».

[أقول:] لعلّة إشارة إلى عدم إمكان منع الملازمة، بإبداء الفرق بين المقدّمات المحرّمة من حيث القرب و البعد و القوّة و الضعف و الخفاء و الجلاء و العلم و الجهل، إلّا من حيث القصد و عدم القصد.

ص: 65

و لكن قد عرفت ما فيه من إمكان منع الملازمة، بإبداء الفرق الحكمي بينها من حيث الحرمة و عدم الحرمة، المختلفة باختلاف مدرك الحكم لا صدق الاسم، حسب ما تقدّم (1) بأبلغ وجه.

قوله: «نعم لو ورد النهي بالخصوص عن بعض شروط الحرام، كالغرس للخمر، دخل الإعانة عليه في الإعانة على الإثم .. إلخ».

[أقول:] و فيه: أيّ فرق بين النهي الخاص عن بعض مقدّمات الحرام في إفادته النهي عنه مطلقا و لو لم يقصد به الحرام، و بين النهي العام عن عموم مقدّمات الحرام في عدم إفادته النهي عنها إلّا مع القصد؟

يعني: أيّ فرق بين قوله: لا تغرس للخمر، و بين: لا تعاون عليه؟ فإن عمّ النهي الخاص النهي عن الغرس له مطلقا و لو لم يقصده إذا علم به، فليعمّه النهي العام أيضا عن مطلق التعاون عليه ببيع و غيره مطلقا و لو لم يقصده إذا علم به، و إلّا إذا لم يعمه النهي العام إلّا مع القصد إلى الحرام- كما زعمه- لم يعمه النهي الخاص أيضا إلّا مع القصد إليه.

قوله: «محلّ تأمّل، إلّا أن يريد الفحوى».

[أقول:] وجه التأمّل ظهور الإعانة في المقدّمات الوجوديّة، و ترك بذل الطعام لخائف التلف من المقدّمات العدميّة التركيّة لتلفه، فلا يشمله صدق الإعانة إلّا بالفحوى، يعني: بأولويّة ترك اللقمة من شقّ كلمة في إهلاك النفس المحترمة.

قوله: «يمكن التفصيل في شروط الحرام .. إلخ».

أقول: فيه أن هذا التفصيل- و هو عدم انحصار منفعة العنب في الحرام- لا يوجب تفاوت حرمة البيع بعد فرض علم البائع بإعماله خمرا كما هو المفروض، فإنه بعد فرض العلم يصير أيضا محصور الفائدة في الحرام، فإن حصر فائدة


1- في ص: 62- 63.

ص: 66

المبيع في الحرام تارة بحسب العادة و تارة بحسب العلم بإعماله فيه، و لو لم يفد العلم حصره لم يفده القصد أيضا، بل و لا العادة أيضا.

قوله: «نظر إلى ذلك .. إلخ».

أقول: بل الأظهر ممّا تقدّم أن نظرهما في تجويز بيع العنب دون السلاح إنما هو أخبار الجواز في بيع العنب، التي عرفت علاجها بالطرح أو الحمل على التقيّة أو على صورة عدم العلم، لا أن نظرهما إلى التفصيل و الفرق المذكور بين البيعين، لما عرفت منع الفرق أوّلا، و عدم كونه فارقا ثانيا.

قوله: «فإن تملّك المستحلّ للعصير منحصر فائدته عرفا عنده في الانتفاع به حال النجاسة، بخلاف تملّك العنب».

أقول: فيه أولا: منع الفرق و انحصار فائدة العصير عرفا في الانتفاع به حال النجاسة، لإمكان الانتفاع به عرفا في غير الشرب أو بعد التخليل أو ذهاب الثلثين، خصوصا في بيع السلاح، فإنه يمكن انتفاع المحارب به في غير محاربة المسلمين، على نحو ما يمكن انتفاع الخمّار بالعنب في غير التخمير.

و ثانيا: سلّمنا الفرق المذكور بين البيعين، إلّا أنه غير فارق في البين بعد فرض العلم بانحصار فائدة تملّك العنب للخمّار في التخمير لا غير.

و ممّا يشهد على صدق ما ادّعيناه من صدق التعاون المحرّم عرفا و شرعا على مطلق المعاونة و لو لم يقصد به الحرام إذا علم الوصول إليه- مضافا إلى ما تقدّم من المتن و الشرح من قوله: «من أكل الطين فقد أعان على نفسه»- وجوه:

منها: قوله تعالى ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لٰا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لٰا نَصَبٌ وَ لٰا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ وَ لٰا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفّٰارَ وَ لٰا يَنٰالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلّٰا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صٰالِحٌ (1). بتقريب أنه إذا ثبت حكم الجهالة شرعا، و صدق اسم


1- التوبة: 120.

ص: 67

العمل الصالح عرفا على مطلق مقدّماته و غاياته المقصودة و غير المقصودة من التعب و النصب، ثبت حكم الحرام و صدق المعاونة عليه كذلك على مطلق مقدّمات الحرام و غاياته مطلقا و إن لم يقصد به الحرام إذا علم بترتّبه عليه.

و منها: عموم قوله تعالى مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسٰادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمٰا قَتَلَ النّٰاسَ جَمِيعاً (1). نظرا إلى أن وجه التشبيه كون المستبدّ في قتل- كالمبدع- معاونا على قتل جميع الناس، من جهة اتّحادهم مع المقتول في الاخوّة أو في شأنيّة البنوّة، أو معاونا على تأسّي جميع الناس به في التجرّي على القتل، مع عدم قصد القاتل معاونة الغير على القتل قطعا. و كذلك وجه تحمّل القاتل جميع ذنوب المقتول في النصوص (2) الأخر إنما هو من جهة معاونته و سببيّته لعدم تلافي المقتول و تداركه ذنوبه لو أراد.

و منها: عموم قوله عليه السّلام: «من سنّ سنّة سيّئة كان له وزر من عمل بها» (3) مع عدم قصد الفاعل عمل عامل.

و منها: عموم قوله عليه السّلام: «لا تعلّموا العلم لغير أهله فتظلموه» (4) مع عدم قصد المعلّم ظلم المتعلّم فيما علم عدم أهليّته.

و منها: ما ذكره الشهيد في المنية و غيره في آداب المفتي من أنه لا يجوز الفتوى بمرّ الواقع إذا ترتّب عليها المفسدة، مستشهدا بفتوى ابن عبّاس لمن استفتاه هل للقتل توبة؟ بقوله: «لا، مع قوله في المجلس لآخر: نعم، فلما سئل عن اختلاف الجوابين قال: «علمت من السائل الأول إرادة قتل فقلت له: لا توبة للقتل، لئلّا أعاونه عليه، و من الثاني الإياس من رحمة اللّٰه فقلت: نعم، لئلّا ييأس


1- المائدة: 32.
2- الوسائل 19: 7 ب (1) من أبواب القصاص في النفس ح 16.
3- صحيح مسلم 2: 704 ح 69.
4- البحار 108: 15 و فيه «لا تؤتوا الحكمة غير أهلها فتظلموها».

ص: 68

من روح اللّٰه» (1).

و منها: ما اتّفق لعلّامة أساتيدنا الأعلام من تحريمه التنباك كلّية، لمّا استلزم استعماله معاونة الكفّار الخارجة على أغراضهم الفاسدة.

قوله: «و كيف كان فلو ثبت تميّز موارد الإعانة من العرف فهو، و إلّا فالظاهر مدخليّة قصد المعين».

أقول: فيه أولا: إمكان أن يقال: أمّا تميّز موضوع الإعانة من قوله تعالى:

وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ (2) وَ لٰا تَقْرَبُوا الْفَوٰاحِشَ أي: القبائح مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا وَ مٰا بَطَنَ* (3) وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ (4)، فظاهر عرفا و لغة في مطلق ما يقوى به الحرام، و ما يقرّب إليه من مقدّماته و ما يتوقّف عليه الحرام عقلا أو عرفا أو شرعا، لفظا أو فعلا، شطرا أو شرطا، وجودا أو عدما، من غير مدخليّة قصد المعين الإعانة و المقدّميّة، بل و لا العلم بمعاونته و مقدّميّته و ترتّب الحرام عليه في تحقّق موضوع الإعانة و القرب و التقوى عرفا، كما لا مدخليّة للقصد بل و لا للعلم في تحقّق موضوع الإثم و الفاحشة و شرب الخمر و سائر الموضوعات المحرّمة نفسها، من الغناء و الزنا و القتل و الجرح من المحرّمات النفسيّة، فالغيريّة كذلك، من غير فرق من حيث الإطلاق و التقييد، و ذلك لما تقرّر في الأصول من أن الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة لا المعلومة، فضلا عن المقصودة.

و لو سلّمنا الشكّ في إجمالها فهو خلاف الأصل الأصيل في وضع الألفاظ غالبا، كما قرّر في باب المجمل و المبيّن، بل و خلاف وضع الشرع و وظيفته و معناه، فإن معنى الشرع و وضعه و وظيفته البيان لا الإجمال. و أمّا تميّز حكم


1- منية المريد: 299، ذكره في آداب الفتوى.
2- المائدة: 2.
3- الانعام: 151.
4- الأعراف: 33.

ص: 69

الإعانة و ما يقرّب إلى الحرام و يقوّيه و يترتّب عليه و يتوقّف عليه من المعونات و المقدّمات على كثرتها و تشتّت أقسامها المذكورة من القريب و البعيد فهو الحرمة، لعموم النكرة في سياق النفي من قوله وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ (1) وَ لٰا تَقْرَبُوا الْفَوٰاحِشَ (2)، و لم يخرج من عموم حكمها العقلي و النقلي- أعني: تبعيّة المقدّمات لذي المقدّمة عقلا و شرعا- إلّا ما يخرجه حديث: «رفع عن أمّتي تسعة، و منها: السهو و النسيان، و ما لا يعلمون، و ما أكرهوا عليه، و ما اضطرّوا إليه» (3). فالإعانة على ما لم يعلم ترتّب الحرام عليه من المقدّمات و المعونات و المقوّيات بأنواعها مرفوعة المؤاخذة بعموم «لا يعلمون».

و أمّا التجارات و الصناعات و المغارسات و الحرف و بعض العبادات- كالحج- فمرفوعة المؤاخذة بعموم «ما أكرهوا عليه» (4)، فإن ما يأخذه الجائر من التجارات و الحجّاج و يقوى به و يستعين به الجائر و الظالم إنما هو بالإكراه المرفوع من الأمّة، بل و بعموم: «ما لا يطيقون، و ما اضطرّوا إليه» (5)، فإن التجارات و الصناعات ممّا اضطرّوا إلى فعلها في معاشهم و معادهم و ممّا لا يطيقون تركها، بخلاف بيع العنب لعاصره خمرا، و عقد النكاح للمترتّب عليه فساد الملاهي و الحرام، و تعليم العلم لصارفه في الباطل، ممّا يطاق تركها و لم يضطرّوا إلى فعلها بوجه، فلا يقاس على التجارات و الصناعات المضطرّ إلى فعلها من جميع الوجوه في الخروج حكما عن عموم المنع عن المعاونة، بل هي باقية في عموم المنع عن المعاونة عقلا و نقلا، لأصالة عدم التخصيص و حجّية المخصّص في الباقي.

و ثانيا: لو سلّمنا الإجمال و مدخليّة القصد في اسم المعونة أو حكمها فإنما


1- المائدة: 2.
2- الأنعام: 151.
3- الوسائل 11: 295 ب «56» من أبواب جهاد النفس ح 1.
4- المصدر المذكور آنفا.
5- المصدر المذكور آنفا.

ص: 70

هو في خصوص ما إذا اشترك فعل بين ذي جهتين، مثل ضرب اليتيم المشترك بين التأديب و الإحسان و بين الظلم و العدوان، و السفر المشترك بين المعصية و الطاعة حيث لا تميّز بوجه إلّا بالقصد، بخلاف ما نحن فيه ممّا هو متميّز من دون قصد. نعم، قصد الحرام لو كان له مدخليّة في الحرمة فإنما هو حرمة خارجيّة من جهة التجرّي بنفس القصد، لا من جهة حرمة نفس الفعل المقرون به الذي نحن فيه، كما لا يخفى.

قوله: «بأن دفع المنكر كرفعه واجب، و لا يتمّ إلّا بترك البيع فيجب».

أقول: قد يورد على هذا الاستدراك: أنّك إن اعتبرت القصد في صدق المعاونة على بيع العنب لعاصره خمرا، اقتضى اعتباره أيضا في صدق المنكر على ذلك البيع و ترك المنكر على ترك ذلك البيع، لعدم الفرق، بل للأولويّة القطعيّة. و إن لم تعتبر القصد في صدق المنكر على بيع العنب لعاصره خمرا، و لا في صدق ترك المنكر على ترك ذلك البيع، اقتضى عدم اعتبار القصد في صدق المعاونة على ذلك البيع أيضا، لعدم الفرق، بل للأولويّة القطعيّة.

قوله: «إلّا أنه لم يقم دليل على وجوب تعجيز من يعلم أنه سيهمّ بالمعصية».

[أقول:] تعجيز من يعلم أنه سيهمّ بالمعصية تارة برفع المعونات و المقدّمات الموجودة عنده و إتلاف الأسباب المملوكة له كإتلاف العنب و المال المملوك لمن يعلم أنه سيهمّ بتخميره أو تبذيره، و تارة بترك معاونته و عدم تمكينه و تمليكه أسباب المعصية غير الموجودة و غير المملوكة. و الذي لم يقم دليل على وجوب تعجيزه إنما هو القسم الأول، حيث إن العنب و المال المملوك لمن يعلم أنه سيخمّره و يبذّره و يفسده لم يدخل في المنكر بعد حتى يجب أخذه أو إتلافه أو

ص: 71

تحجيره من مالكه، و لا في المعاونة على الخمر (1) حتى يحرم فعله و يجب تركه، بل التعرّض له حينئذ من قبيل القصاص الممنوع قبل الجناية، و العقاب المرفوع قبل المعصية، لم يقم دليل على وجوبه إلّا على شريعة الخضر عليه السلام في قتل الغلام و خرق السفينة، و يحتمله بعض الأحكام الجارية في الرجعة على يدي الحجّة عليه السّلام.

و أمّا القسم الثاني من تعجيزه عن المعصية بعدم تمكينه من الأسباب غير الموجودة له، و ترك تمليكه العنب غير المملوك له، فالدليل على وجوبه و حرمة تركه كلّ من عموم أدلّة النهي عن المنكر و المعاونة على المحرّم (2)، و صدق موضوع معاونة الحرام و المنكر عرفا على ترك تعجيزه بهذا المعنى عن المعصية، من غير فرق في الصدق العرفي بين من همّ فعلا بالمعصية و بين من يعلم أنه سيهمّ بها بعد.

و توهّم اختصاص صدق المنكر و المعاونة عرفا على خصوص من همّ بها فعلا لا من سيهمّ بعدا، ممنوع بأنه لو كان كذلك لم تدل مناهي المنكر و معاونة الإثم على حرمة مقدّمة من مقدّمات المنكر و الحرام أصلا، و لم يبق للمعاونة المحرّمة مورد رأسا، لأن الإثم و المنكر قبل وجوده ليس بمحرّم فعلي حتى يحرم مقدّماته، و بعد وجوده لا مقدّمة له، فيلزم نفي المورد للحرمة، و هو باطل، فالملزوم مثله.

قوله: «و ما نحن فيه من هذا القبيل .. إلخ».

أقول: الذي من قبيل الوجوب الجمعي المشروط باجتماع آحاده- مثل وجوب حمل الثقيل على من يتحمّله من الجماعة، الساقط عن الواحد عند عدم


1- كذا في النسخة الخطّية، و لعلّ الصحيح: المنكر.
2- المائدة: 2، الوسائل 11: 393 ب (1) من أبواب الأمر و النهي.

ص: 72

اجتماع البقيّة معه في الحمل- إنما هو مثل وجوب انعقاد الجمعة على عدد الانعقاد، حيث لم يحصل الانعقاد الواجب بالأقلّ من عدد الانعقاد، و وجوب جهاد الكفّار على عدد الغلب، حيث لم يحصل الغرض الموجب منه بالأقلّ من عدد الغلب.

و أمّا نحن فيه من مثل تمليك العنب لعاصره خمرا فهو من قبيل الوجوب الآحادي تركه و الحرام الآحادي فعله، لا الجمعي كالجهاد و الجمعة، و ذلك لأن النهي عن المنكر لا ينحصر في خصوص ترك المنكر حتى يجب على خصوص من يحصل بنهيهم تركه مجتمعا من الجماعة، دون من لم يحصل بنهيه تركه منفردا من الآحاد، بل الواجب من نصوصه جميع مراتب النهي عن المنكر على وجه الترتيب و الأقرب فالأقرب إلى ترك المنكر، أعني: ترك المنكر رأسا ثمّ الأقرب فالأقرب إليه، من تقليله و تخفيفه، و وجوب المهاجرة من بلده، و وجوب هجر فاعله و تفضيحه و تشنيعه، و ترك المداهنة معه، و الجلوس على خوانه، و مجالسته و مرافقته، و اخوّته و مؤاخاته و محبّته، و الركون إليه، و الرضا ببقائه، و معاونته و مجاورته و إجابته و تأمينه و تصديقه، و التسليم عليه و جواب السلام عليه، و النظر إلى وجهه، و إعانته حتى في المباحات، بل و في الطاعات، مثل كراء الجمال له في الحج، إلى أن تنتهي مراتب النهي عن المنكر إلى الإعراض القلبي و التبرّي القلبي عنه، إلى غير ذلك ممّا يقصم الظهور من مراتب وجوب النهي عن المنكر الواجب على الآحاد فردا فردا، مع عدم حصول ترك المنكر بها التي عقد في كلّ من كتب الأصول- كالوسائل و غيره- لكلّ من مراتبه العديدة بابا مستقلّا من النصوص الأكيدة الشديدة: منها: باب وجوب هجر الفاسق، و هجر فاعل المنكر، و التوصّل إلى إزالته بكلّ وجه ممكن، و لو بتفضيحه و تشنيعه و هجره و الإعراض عنه و لو بالقلب، كقوله عليه السّلام: «لآخذنّ البري ء بذنب السقيم، و لأحملنّ ذنوب

ص: 73

سفهائكم على علمائكم» إلى أن قال عليه السّلام: «ما يمنعكم إذا بلغكم عن الرجل منكم ما تكرهون، و ما يدخل علينا به الأذى، أن تأتوه فتؤنّبوه و تعذلوه و تقولوا له قولا بليغا؟! قلت: جعلت فداك إذا لا يقبلون منّا، قال: اهجروهم و اجتنبوا مجالستهم» (1). إلى غير ذلك.

قوله: «و أمّا ما تقدّم من الخبر في أتباع بني أميّة فالذمّ فيه إنما هو على إعانتهم بالأمور المذكورة في الرواية .. إلخ».

أقول: فيه أولا: ما عرفت من أن النصوص الصحيحة الصريحة من الكتاب (2) و السنّة (3)- الدالّة بعمومها على عموم النهي عن جميع معونات الحرام و المنكر، و مطلق مقدّماته و مراتبه و أنحائه و أقسامه- غير منحصرة في الرواية الخاصّة في مذمّة المعاونة لبني أميّة.

و ثانيا: أن الذمّ على المعونات المذكورة في الرواية لو لم يكن معلّلا بالعلّة المنصوصة العامّة- كمضمون قوله عليه السّلام: لو لا ما يتوصّل إلى ذي المقدّمات من المنكرات و المحرّمات- لما جاز التعدّي منها إلى سائر مقدّمات الحرام و المنكر، لما في التعدّي و الإلحاق من القياس الممنوع، خصوصا مع الفارق من حيث المقدّمة و ذي المقدّمة، و أمّا بعد استدلال الإمام عليه السّلام بعموم تلك العلّة المنصوصة العامّة لحرمة مطلق ما يتوقّف و يترتّب و يلزم منه الحرام و المنكر فلا وجه لمنع التعدّي و الإلحاق، بدعوى الخصوصيّة و الفرق الملغى في نظر الشارع المستدلّ بعموم العلّة المنصوصة.

لا يقال: لا علّة منصوصة في الرواية حتى يؤخذ بعمومها.


1- الكافي 8: 158 و 162 ح 150 و 169، الوسائل 11: 414 و 415 ب (7) من أبواب الأمر و النهي 2 و 3.
2- آل عمران: 104، الأعراف: 157، التوبة: 71.
3- الوسائل 11: 403 ب (3) من أبواب الأمر و النهي و ما يناسبهما.

ص: 74

لأنّا نقول: لا فرق في مفاد العلّية و عمومها عرفا بين قولك: لا تشرب الخمر لأنه مسكر أو علّة حرمة الخمر الإسكار، و بين قولك: لو لا الإسكار ما حرم الخمر، في عموم علّة الحرمة لكلّ مسكر من خمر أو بنج أو غيره. و كذلك ما نحن فيه لا فرق في مفاد العلّية و عمومها بين ما لو قال: حرم إعانة بني أميّة لأنه يؤدي إلى سلب حقّنا أو أن علّة حرمة إعانتهم هو التأدية إلى سلب حقّنا، و بين قوله: لو لا إعانتهم ما سلب حقّنا، في عموم علّية جهة الإعانة و المقدّمية و السببيّة لكلّ ما يؤدّي إلى كلّ منكر و حرام من أيّ مقدّمة و سبب، من غير مدخليّة لشي ء من خصوصيّة سبب و لا مسبّب و لا مقدّمة و لا ذي مقدّمة في الحرمة، سوى جهة المقدّميّة و السببيّة و التوقّف و الترتّب المشترك بين جميع المقدّمات و ذي المقدّمات و الأسباب و المسبّبات.

قوله: «يسقط وجوب الجزء إذا علم بعدم تحقّق الكلّ في الخارج .. إلخ».

أقول: سقوط الجزء بعدم تحقّق الكلّ و الشرط بعدم تحقّق المشروط، و المقدّمة بعدم تحقّق ذي المقدّمة، كالعكس و هو عدم المشروط بعدم الشرط و الكلّ بعدم الجزء و ذي المقدّمة بعدم المقدّمة، إنما هو مقتضى القاعدة العقليّة الأوّليّة المورودة بعمومات قاعدة: «الميسور لا يسقط بالمعسور» (1) و «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» (2)، بل و بخصوص نصوص (3) عمومات حرمة جميع مراتب المنكرات على وجه الترتيب المقرّر، من دفع أصل المنكر إلى أن ينتهي إلى أقلّ ما يمكن، من تفضيحه و تشنيعه و الإعراض عنه و عن مجلسه و بلده إلى غير ذلك، إلى أن ينتهي إلى الإعراض القلبي. و حينئذ فلا يسقط الكلّ بسقوط جزء منه، و لا المشروط بسقوط شرطه، بل الميسور الباقي من مراتبه العديدة لا


1- عوالي اللئالي 4: 58 ح 205.
2- عوالي اللئالي 4: 58 ح 207.
3- الوسائل 11: 403 ب (3) من أبواب الأمر و النهي و ما يناسبهما.

ص: 75

يسقط بسقوط المعسور، و يتعدّد المطلق بتعدّد تلك المراتب.

[القسم الثالث ما يحرم لتحريم ما يقصد منه شأنا]

قوله: «و تحريم هذا مقصور عن النصّ، إذ لا يدخل ذلك تحت الإعانة».

أقول: و فيه ما عرفت من منع كلّ من العلّة و المعلول.

أمّا منع العلّة فلأنه و إن لم يدخل تحت الإعانة من جهة فرض عدم القصد و عدم العلم بترتّب الحرام عليه، إلّا أنه يكفي في الدخول تحتها بانحصار فائدة بيع السلاح لأعداء الدين حال الحرب في الإعانة عليه، كما اعتبره سابقا في الصدق العرفي، و اشتراطه آنفا بقوله: «بحيث يصدق حصول التقوّي لهم بالبيع».

و أمّا منع المعلول فلعدم انحصار حرمته على وجه القاعدة الكلّية في الدخول تحت الإعانة، بل يكفي الدخول فيما لا يتمّ المنكر إلّا به، حسب ما ذكره هو.

قوله: «شبه الاجتهاد في مقابل النصّ، مع ضعف دليله».

أقول: أمّا وجه كونه شبه اجتهاد لا اجتهادا في مقابل النصّ، فلأنه بالنظر إلى استناد حكمه إلى عموم حرمة المعاونة المقابل للنصّ (1) الخاص بالجواز يكون اجتهادا في مقابل النصّ، و بالنظر إلى عدم استناد حكمه إلى صرف قاعدة مقدّمة الحرام حرام، بل إلى عموم النصّ بحرمته، لا يكون اجتهادا في مقابل النصّ.

و أمّا ضعف دليله- و هو عموم حرمة المعاونة- فمبنيّ على عدم صدق المعاونة على ما لم يعلم و لم يقصد منه الحرام. و لكن قد عرفت ضعف هذا المبنى حتى على مبناه.

قوله: «بحيث يصدق حصول التقوّي لهم بالبيع».

[أقول:] لا يقال: مع فرض عدم العلم و عدم قصد التقوّي بالبيع كيف يصدق


1- الوسائل 12: 69 ب (8) من أبواب ما يكتسب به.

ص: 76

التقوّي به؟ و يشترط اعتباره في الحرمة.

لأنّا نقول: فرض عدم العلم و القصد في البيع لا ينافي صدق التقوّي و الإعانة عرفا. أمّا على ما اخترناه فلعدم توقّف الصدق الاسمي على العلم و القصد. و أمّا على مختار المصنف فلانحصار فائدة بيع السلاح على المحارب حال الحرب في التقوّي به.

و كيف كان فاشتراط صدق التقوّي بالبيع المذكور في الحكم بحرمته ينافي قوله: «و حينئذ فالحكم مخالف للأصول، صير إليه للأخبار المذكورة». و ذلك لأنه إن كان المراد بالأصول أصل البراءة و الحلّ و «الناس مسلّطون» فالحكم بحرمة البيع المذكور و إن كان مخالفا لها إلّا أنه غير مشروط بصدق التقوّي به عرفا. و إن كان المراد من الأصول عموم قاعدة حرمة التقوّي و التعاون على الإثم فالحكم بهذه الحرمة و إن كان مشروطا بصدق موضوع التقوّي و التعاون إلّا أنه غير مخالف للأصول حتى يصار إليه للأخبار، و يقتصر في مخالفتها الأصل على المتيقّن من بيع خصوص السلاح، دون سائر أسباب التقوّي و التعاون.

قوله: «و فيه تأمّل».

[أقول:] لعلّه إشارة إلى دعوى انصراف الحقّ و الباطل إلى الديني، أي: إلى الكفر و الإسلام لا الصلاح و الفساد.

و فيه أولا: منع الانصراف، لعدم الصارف.

و ثانيا: لو سلّمنا، لكن المنع لا ينحصر في تقوّي الباطل، بل تقوّي الفساد، و المعاونة على الإثم أيضا منصوص المنع في مناهي الكتاب (1) و السنّة، خصوصا في رواية تحف العقول (2).


1- المائدة: 2.
2- تحف العقول: 331.

ص: 77

[النوع الثالث مما يحرم الاكتساب به ما لا منفعة فيه محللة معتدا بها عند العقلاء]

قوله: «و فيه تأمّل، لأن منافع كثير من الأشياء التي ذكروها في المقام يقابل عرفا بمال و لو قليلا، بحيث لا يكون بذل مقدار قليل من المال بإزائه سفها .. إلخ».

أقول: و في وجه التأمّل الموجّه بهذا الوجه نظر.

أمّا أولا: فمن جهة أن الباطل من قوله تعالى لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ* (1) هو خلاف الصحيح، أي: ما لا أثر و لا ثمر له، لا خصوص ما يعدّ سفها، و لعلّه أعمّ من السفه.

و ثانيا: لو سلّمنا كون الباطل ما يعدّ سفها، لكن تقييد مالا يعدّ سفها ببذل مال قليل في إزائه دون الكثير ممنوع، لأن ما لا يسفّه على بذل قليله لا يسفّه على كثيره من جهة أصل المعاملة، و لو سفّه بذل الكثير فليس من حيث أصل المعاملة الذي هو محطّ النظر، بل من حيث وصف الباذل بالسفه، و هو مانع عرضي خارجي، خارج عن محطّ النظر. فالبذل المانع من صحّة أصل المعاملة الذي هو محطّ النظر لا يفرّق بين قليله و كثيرة، فإذا لم يسفّه على قليله و يسفّه على كثيره. و البذل المختلف بين قليله و كثيره- بحيث لا يسفّه على قليله و يسفّه على كثيره- غير مانع من صحّة أصل المعاملة، و خارج عن محطّ النظر.

و ثالثا: سلّمنا كون الباطل ما يعدّ سفها، لكن يحتمل أن يكون السفه منوطا بنظر الشرع، أو نظر من يكشف عنه، كالعقل السليم أو إجماع العلماء أو العقلاء المعصوم من الخطأ، لا مطلق العرف و العقلاء ممّن لا يعصم عن الخطأ.

و يشهد على ذلك وجوه:

منها: أن وظيفة العقل و العقلاء على تقدير اعتباره هو تشخيص الأحكام،


1- النساء: 29.

ص: 78

و أمّا تشخيص موضوع السفه فمرجعه إلى العرف الخاص الشرعي، فإن لم يكن فإلى العام لا العقلاء.

و منها: أن المرجع فيما هو من هذا السنخ من الموضوعات الكلّية المستنبطة المرتّب عليها الأحكام الشرعيّة، من الصفات النفسيّة كالتميّز و العقل و الصبا و البلوغ و العلم و المعرفة و الرشد و السفه و العدالة و التقوى و العصمة و الكفر و الإسلام و الإيمان و نحوها، إنما هو إلى نظر الشرع لا مطلق العرف و العقلاء، فليكن المرجع في أكل المال بالباطل و السفه كذلك.

و منها: أن السفه المانع من صحّة العقد الذي هو من صفات العاقد المقابل للرشد المعتبر في صحّة العقود، اختلف الفقهاء في أنه هل [هو] ملكة العدالة الشرعيّة في جميع الأمور، أو في خصوص التصرّفات الماليّة بحيث له قوّة الاعتدال في حفظ المال من السرف و الإفساد و التبذير و التقتير، أو مطلق قوّة حفظ المال من الإتلاف، لقوله عليه السّلام في تفسير الرشد: «أن لا يشتري الدرهم بدرهمين» (1)؟ فإذا كان المرجع في هذا السفه الذي هو من صفات العاقد إلى الشرع، فليكن السفه الذي هو من صفات العقد و أصل المعاملة كذلك.

و منها: الاستقراء في غالب ما لا يعدّه العقلاء سفها، خصوصا في أعصارنا، و هو في نظر الشرع من أسفه السفهاء، كبيع الخمر و جلود الميتة و المسكرات، و آلات الملاهي و القمار و الملاعب، و الغناء و الدفوف و الطبول، و الشعبذة، و كتب الضلال، و أشعار الجاهليّة و اللغويّة و الملهية، كالحافظ و اليغما و التأني (2)، و القهوة و الغرشة و الترياك و التنباك و الچائي و الوافور، ممّا يوجب


1- الوسائل 13: 430 ب «44» في أحكام الوصايا ح 8، «و فيه: الذي يشتري الدرهم بأضعافه».
2- كذا في النسخة الخطّية.

ص: 79

النقص و الفتور و الإسراف و التبذير، ممّا لا يعدّونه سفها، و الحال أن شاهد حال الأنبياء و الأوصياء و سنّتهم و سيرتهم قولا و فعلا على تسفيه ما هو من هذا القبيل و ما دونه بمراتب، كأكلك التمر و لفظك النواة و شربك الماء و إراقة فاضله، حيث نصّ الشرع بكونه من السرف المبغوض (1)، مع أن العرف و العقلاء لا يعدّون من السرف ما هو فوقه بأضعاف مضاعفة.

و هكذا أكل التمر مع السمن كلّ يوم (2)، و تصدّق المحتاج لعياله بدرهم على غيرهم (3)، حيث نصّ الشارع بكونه من السرف.

و هكذا الأكل على الشبع (4)، و فيما بين البكرة و العشيّ (5)، حيث علّل النهي عنه بكونه إفسادا للبدن، مع بناء الأطبّاء بل عقلاء الزمان على العكس.

و هكذا نهي الشارع عن السرف في ماء الوضوء بأكثر من مدّ و الغسل بأكثر من صاع (6)، مع تنصيصه بأن الواجد قدر ما يتوضّأ به بمائة و ألف أو مائة ألف درهم يتوضّأ بذلك المبلغ و لا يتيمّم (7)، مع تسفيه العقلاء شراء ما يتوضّأ به بهذا المبلغ الكذاف (8)، و عدّه من الغرر و الإسراف.

و هكذا أمره بلباس التقوى (9) و التواضع (10)، و لبس الخشن و الغليظ و الصفيق، و تقصير الثوب و رقعه و خصف النعل (11)، و نهيه عن لباس


1- الخصال 1: 10 و 93 ح 36 و 37.
2- لم نعثر عليه في مظانه.
3- الخصال 1: 10 و 93 ح 36 و 37.
4- الوسائل 3: 574 ب «2» من أبواب أحكام المساكن ح 2.
5- لم نعثر عليه في مظانه.
6- لم نعثر عليه في مظانه.
7- الوسائل 2: 997 ب «26» من أبواب التيمم.
8- كلمة فارسيّة، و تكتب في اللغة الفارسيّة: گزاف، و معناها: الغالي و النفيس.
9- الوسائل 1: 371 ب «13» من أبواب آداب الحمام.
10- الوسائل 11: 215 ب «28» من أبواب جهاد النفس و ما يناسبه.
11- الوسائل 3: 375 ب «29» من أبواب أحكام الملابس.

ص: 80

الشهرة (1) و الرقيق و الليّن (2) و ملابس العجم و مطاعمهم (3)، مع الأمر بإجادة الأكفان و المغالاة في أثمانها بما بلغ ثمن برد واحد أربعين أو أربعمائة دينار (4)، مع قصور فهم العقلاء عن إدراك الحكم المكمونة لاختلاف الحكم و توفيق الجمع بينها بأشدّ قصور و أعظم فتور.

قوله: «و لا مانع من التزام جواز بيع كلّ ماله نفع .. إلخ».

[أقول:] لا يقال: كفى بأصالة الفساد و استصحاب عدم النقل و الانتقال مانعا منه.

لأنّا نقول: الأصل العمليّ المذكور لا يقاوم الأصل اللفظيّ، و هو عموم:

وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ (5). و لو شكّ في صدق البيع على ما يشكّ في صدق الماليّة عليه فعموم تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (6)، إلّا أن يستظهر بمانعيّة عموم لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ* (7)، بناء على عموم الباطل لمثله.

قوله: «لا من حيث عدم المنفعة المتعارفة. فتأمّل».

[أقول:] لعلّه إشارة إلى أن المنع عن بيع النجس لو كان لتعبّد النجاسة لا من حيث عدم المنفعة لما ورد النصّ باستثناء ما فيه منفعة، من بيع المملوك (8) الكافر، و كلب الصيد و الحائط و الماشية (9)، و الزيت النجس للاستصباح (10)،


1- الوسائل 3: 358 ب «17» من أبواب أحكام الملابس ح 5.
2- الوسائل 3: 364 ب «21» من أبواب أحكام الملابس.
3- الوسائل 16: 508 ب «80» ب استحباب التواضع ح 1.
4- الوسائل 2: 749 ب «18» من أبواب التكفين.
5- البقرة: 275.
6- النساء: 29.
7- البقرة: 188.
8- الوسائل 13: 86 ب «16» من أبواب ما يكتسب به ح 1.
9- الوسائل 12: 82 ب «14» من أبواب ما يكتسب به.
10- الوسائل 12: 66 ب «6» من أبواب ما يكتسب به.

ص: 81

و شحم الميتة للصابون (1) و نحوه.

قوله: «الإشكال في تعيين المنفعة النادرة و تميّزها عن غيرها، فالواجب الرجوع في مقام الشكّ إلى أدلّة التجارة و نحوها».

أقول: فيه أولا: أن الموضوع المستنبط في نصوص المقام لحكم الحلّ و الحرام إنما هو ما فيه الصلاح و الفساد، لا المنفعة و عدم المنفعة. و لعلّ بينهما فرقا، من حيث إن الصلاح و الفساد عبارة عن العلل و الحكم المكمونة الواقعيّة للحكيم المطلق في أحكامه، ليكون المرجع في تميّز المشكوك منه إليه لا إلى غيره.

و ثانيا: سلّمنا، لكن إلغاء الشارع لبعض المنافع لعلّه ليس من جهة ندورها و تنزيلها منزلة العدم، بل من جهة عدم كونها منافع في نظر الحكيم و الصواب، و العقل السليم من اولي الألباب، و كون المتّبع في تشخيص المنافع إنما هو نظر ربّ الأرباب، و أن ما يزعمه غيره من الأطبّاء من بعض المنافع فيها فهو خطأ زعميّ، كما يرشد إليه تفسير الإمام عليه السّلام لقوله تعالى «قُلْ فِيهِمٰا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ» (2) بالنفع الزعمي، تسمية للشي ء باسم ضدّه، مماشاة من الكرام مع الخصوم اللئام، و بلاغة في الكلام، و تمهيدا للإلزام و الإفحام، كتسمية الخليل كلّا من الشمس و القمر و الكوكب هٰذٰا رَبِّي* (3) تمهيدا لإبطاله، و قوله عليه السّلام: «ما جعل اللّٰه في شي ء من الحرام شفاء» (4).

و ثالثا: سلّمنا، لكن ندور المنفعة على تقديره إنما هو صارف المطلقات، لا عمومات قوله عليه السّلام: «و كلّ شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات فذلك


1- مستدرك الوسائل 13: 73 ب (6) من أبواب ما يكتسب به ح 7.
2- مستدرك الوسائل 17: 83 ب «27» من أبواب الأشربة المحرّمة ح 2.
3- الأنعام: 76، 77، 78.
4- الوسائل 17: 77 ب «50» من أبواب الأطعمة المباحة ح 4، و فيه: من المرّ شفاء.

ص: 82

كلّه حلال بيعه و شراؤه .. إلخ» (1).

و رابعا: سلّمنا، لكن المرجع في الندور المشكوك صارفيّته إنما هو إلى أصالة إطلاق المطلق و عدم صارفيّة مشكوك الصارفيّة له، لا إلى الإطلاقات الخارجيّة من أدلّة التجارة.

و خامسا: سلّمنا مرجعيّة الخارج لا الداخل، لكن الرجوع في مشكوك الصارفيّة إلى ما ذكره المصنف من أدلّة التجارة ليس بأولى من الرجوع إلى عموم:

لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ* (2).

قوله: «و الفرق أن الأول لا يملك .. إلخ».

أقول: تفصيل الفرق بين الأقسام و الأحكام في الملك و المال هو أن يقال:

إن الشي ء إمّا ملك و مال كالدراهم و الدنانير، أو ليس بملك و لا مال كالحشرات، أو ملك لا يتموّل كالحبّة من حنطة، أو بالعكس مال لا يتملّك، كالمساجد و القناطر و الأوقاف العامّة و المشارع و الشوارع.

أمّا الذي يملك و يتموّل- كالماء و النار و الكلإ- فلا إشكال في ثبوت أحكام اليد الملكيّة عليها من التملّك و التمليك و الضمان. كما لا إشكال في عدم ترتّب شي ء من أحكام اليد الملكيّة على ما لا يملك و لا يتموّل، كالحشرات و الفضلات، لعدم الملكيّة، بل و لا اليد الأولويّة و لا حقّ الاختصاص، لعدم الماليّة و العلاقة الشرعيّة.

و أمّا قول المصنف: «منع حقّ الاختصاص فيه مشكل، مع عموم قوله صلى اللّٰه عليه و آله:

«من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد من المسلمين فهو أحقّ به (3)، مع عدم أخذه قهرا ظلما عرفا».


1- الوسائل 12: 54 ب «2» من أبواب ما يكتسب به ح 1.
2- البقرة: 188.
3- سنن البيهقي 6: 142، و فيه اختلاف يسير.

ص: 83

ففيه: منع عموم الموصول إلّا لما يملك أو يتموّل، كالسبق إلى السوق و المسجد أو إحياء أرض أو حيازة ماء أو كلإ، و لو بقرينة سائر النصوص المصرّحة بذلك، أو ظهور السبق و الاستباق في مثلها لا غير، و منع عدّ أخذ مثل الذباب و القمّل و البرغوث من أحد قهرا ظلما، لأنه فرع ثبوت حقّ الاختصاص الشرعي، و الأصل عدمه.

نعم، لو استدلّ عليه بمثل قوله عليه السّلام في نهج البلاغة: «و لو ملئت لي الدنيا ذهبا على أن أظلم نملة في قشر شعيرة ما فعلت» (1) لكان أوضح.

و لكن مع ذلك في دلالته على المدّعي تأمّل، من جهة أن ثبوت حقّ اختصاص النملة في قشر الشعيرة لا يستلزم حقّ اختصاص الإنسان على النملة الذي هو المطلوب. و من جهة كونه في مقام بيان مراتب كمال الزهد و التقوى المستحبّ لا الواجب، مثل قوله عليه السّلام: «و لو أن قطرة خمر وقعت في بحر ثم جفّ البحر ثم نبت عليها نبات ثمّ أكل منها شاة ثم اشتبه الشاة في قطيعة ما أكلت من تلك القطيعة» (2).

و أمّا الذي يتموّل و لا يملك- كالمساجد و القناطر و الشوارح و المشارع و الكتب الموقوفة- فلا إشكال في ثبوت حقّ الاختصاص للسابق إليها، و لا في حرمة المزاحمة و المدافعة لحقّه، لعموم: «من سبق إلى شي ء فهو أحقّ به» (3).

و يتفرّع على حرمته بطلان صلاة المزاحم لحقّ الاختصاص كالغاصب، على القول بامتناع اجتماع الأمر و النهي في مكان واحد. بل و لا في ضمان المزاحم و المدافع لحقّ الاختصاص بالمثل و القيمة لذي الحقّ كالغاصب، لعموم:


1- نهج البلاغة: 247 رقم الخطبة 224، لم نجده بهذا المعنى و وجدنا فيه: «و اللّٰه لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي اللّٰه في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته».
2- لم نعثر عليه، و وجدنا نظيره في تفسير الكشاف 1: 260.
3- الوسائل 3: 542 ب (6) من أبواب أحكام المساجد ح 1، و فيه: موضع بدل شي ء.

ص: 84

«على اليد ما أخذت» (1). إلّا إذا كان المزاحم شريكا للمزاحم بالأصالة لو لا حقّ الأسبقيّة، كما لو سبق إلى المشارع و الشوارع و الموقوفات العامّة المشتركة بين المزاحم و المزاحم بالأصالة، فإنه يحرم مزاحمة السابق إليهما، لعموم حقّ الأسبقيّة، إلّا أنه لا يضمن المزاحم للمزاحم مقدار المزاحمة، لحقّ الشركة بينهما، و عدم صدق «على اليد ما أخذت» على اليد المشاركة في المأخوذ. نعم، لو لم يكن شريكا- كما لو أتلف الوقوف على الموقوف عليهم- فإنه يضمن لهم المثل و القيمة، لعموم: «على اليد ما أخذت» (2).

و أمّا الذي يملك و لا يتموّل- كحبّة من حنطة، أو مسّ يد الغير أو ثوبه أو حائطه- فلا إشكال في حرمة المزاحمة لمالكه من غير إذنه، لكونه غصبا عدوانا، و ظلما منهيّا عنه بقوله تعالى: «و عزّتي و جلالي لا يجوزني ظلم ظالم و لو مسحا بكفّ و لو كفّ بكفّ» (3) وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (4). و لأن حرمة الكثير المتموّل منه تقتضي حرمة القليل غير المتموّل منه بالاستصحاب.

إنما الخلاف في ضمانه على الغاصب و المتلف له مطلقا، أو عدمه مطلقا كما عن التذكرة (5)، أو التفصيل بين ضمان المثليّ منه و عدم ضمان غير المثليّ منه، وجوه بل أقوال أقواها الضمان مطلقا، و أضعفها العدم مطلقا، و أوسطها التفصيل.

أمّا وجه أقوائيّة الضمان مطلقا فلعموم قاعدة: «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» (6) خرج منه ما لا يملك، و بقي ما يملك مطلقا و لو كان غير مثليّ.


1- سنن البيهقي 6: 95.
2- سنن البيهقي 6: 95.
3- البحار 6: 30 ضمن ح 35.
4- الزلزلة: 8.
5- التذكرة 1: 465.
6- سنن البيهقي 6: 95.

ص: 85

فإن قلت: ضمان المثليّ منه بالمثل ممكن التأدية، و لكن تضمين غير المثليّ منه بالمثل غير مماثل، و بالقيمة غير متقوّم و لا متموّل بالفرض، فالتكليف بتضمين غير المثليّ يستلزم التكليف بما لا يطاق المستحيل على مذهب العدليّة، فيسقط التضمين، و يخرج عن عموم: «على اليد ما أخذت».

قلت: أولا نمنع الملازمة نقضا: بما لو عرض تعسّر المثل في المثليّ و القيمة في القيميّ على الضامن، و بما لو علم أصل الدين و جهل قدره أو وصفه أو هما، بل و لو جهل مع ذلك صاحبه، فبما يتخلّص به عن الضمان ثمّة يتخلّص به هنا.

و حلّا: بأنه كما «لا يسقط الميسور بالمعسور» (1) كذلك لا يسقط المقدور بالمعذور، بل يتخلّص عن ضمانه بكلّ ما تيسّر و قدر عليه و لو بصلح و نحوه، إذ كما أن العقل مستقلّ في الحكم بضمان نفس العين و وجوب ردّ العين ما دامت باقية، و بالأقرب فالأقرب إليها إذا انتفت و تعذّرت، و هو المثل في المثليّ أو القيمة في القيميّ، كذلك يحكم بالأقرب فالأقرب من أبداله الميسورة و أجزائه الباقية إذا انتفى الأصل و تعذّر المثل و الكلّ، فلا يسقط المضمون به رأسا بتعذّر أصله أو وصفه أو قدره أو جزئه أو أحد إبداله.

و ثانيا: سلّمنا الملازمة، لكن نمنع بطلان اللازم، و هو قبح التكليف بما لا يطاق إذا كان بسوء اختياره، كالمتوسّط بسوء الاختيار في الأرض المغصوبة.

و ما نحن فيه كذلك، فإن المتعرّض بسوء اختياره لغصب غير المثليّ غير المتموّل لم يقبح عقلا تضمينه بالمثل بل و بالقيمة، فضلا عن تضمينه بالقدر الميسور من غيره.

و ممّا ذكرنا يظهر وجه القول بالتفصيل و ضعفه، فضلا عن القول بعدم


1- عوالي اللئالي 4: 58 ح 205.

ص: 86

الضمان و سقوطه رأسا.

[النوع الرابع ما يحرم الاكتساب به لكونه عملا محرما في نفسه]

[المسألة الأولى تدليس الماشطة حرام]

قوله: «و في عدّ و شم الخدود من جملة التدليس تأمّل .. إلخ».

أقول: في كلّ من وجه التأمّل و توجيه رفعه نظر. أمّا وجه التأمّل في عدّ الوشم من التدليس بقوله: «لأن الوشم في نفسه زينة» فلإمكان منع كون الوشم كالاكتحال و التنظيف و لبس الحليّ و الجديد و الخاتم و نحوها ممّا هو زينة في نفسه، لا لأجل اشتباه خلاف الواقع بالواقع و تدليس العرض بالأصل و الكذب بالصدق و العرضيّ بالخلقيّ، بل إنما هو كسائر أفراد التمشيط من التحمير و التبييض و التدهين و نحوها ممّا من شأنه أن يحدث الزينة، لأجل اشتباه العرضيّة بالخلقيّة و تدليس الوصف الظاهر بالواقع، حتى إن الاكتحال في العين الزرقاء تدليس و في السوداء زينة نفسيّة. و المدار و العبرة في حكم التدليس و إن كان على التلبّس الفعليّ، إلّا أن المدار في عدّ الشي ء من أسباب التدليس و أمثلته إنما هو على إمكان التدليس به و شأنيّته للتدليس، و إلّا لعمّ التأمّل في جميع أمثلة التدليس و أسبابه، حتى التحمير و وصل الشعر حيث لا يلتبس الصفة العرضيّة بالخلقيّة.

قوله: «فإن ذلك».

[أقول:] يعني: التفصيل بين الوصل بشعر الإنسان فيعدّ تدليسا و شعر الحيوان فلا يعدّ تدليسا لا مدخل له في التدليس، لأن وصل الشعر بالشعر إن كان تدليسا لم يفترق فيه بين الوصلين، و إن لم يكن تدليسا فكذلك.

قوله: «إلّا أن يوجّه الأول بأنه قد يكون الغرض من الوشم أن يحدث في البدن نقطة خضراء حتى يتراءى بياض سائر البدن و صفاؤه أكثر .. إلخ».

أقول: فيه أولا: أن سببيّة الوشم لأكثريّة بياض البدن إنما هو توجيه كونه زينة لا تدليسا، إذ ما من زينة نفسيّة إلّا و يحدث في محلّها صفة زائدة، حتى

ص: 87

التنظيف و الغسل و لبس الحليّ و الجديد. فالتوجيه بإحداث الوشم أكثريّة بياض البدن توجيه عدم كونه تدليسا، و أمّا توجيه كونه تدليسا فإنما هو بإحداث التباس الوشم العرضيّ بالخلقيّ، لا بأكثريّة ظهور البياض به، فإن إحداث أكثريّة الوصف إنما هو في كلّ زينة نفسيّة، و لولاه لم يكن زينة نفسيّة، بل عمّ التدليس لجميع المزيّنات النفسيّة بأسرها حتى التنظيف و التكشيف.

و ثانيا: سلّمنا، لكن توجيه تدليس الوشم بكون الغرض منه إحداث أكثريّة بياض البدن مبنيّ على ما تقدّم من اعتبار قصد الحرام في مقدّماته و أسبابه، و قد عرفت منعه بأبلغ وجه.

و ثالثا: لو صحّ توجيه تدليس الوشم بكون الغرض منه التدليس لصحّ ذلك لتوجيه التدليس في جميع المزيّنات النفسيّة بأسرها، حتى التنظيف و لبس الحلّي و الجديد بمجرّد قصد التدليس.

قوله: «و لعلّه أولى من تخصيص عموم الرخصة بهذه الأمور».

أقول: وجه أولويّة حمل المناهي على الكراهة من تخصيص عموم الرخصة أن التخصيص كلّية و إن كان في نفسه أرجح المجازات طرّا، إلّا أنه في خصوص تخصيص عموم الرخصة بما عدا الواصلة من سائر الفقرات ينافي ظهور اتّحاد سياق سائر الفقرات للواصلة الصريحة في الرخصة.

هذا، و لكن لا يخفى أن خبر (1) الرخصة خاصّ بزينة الزوجة لزوجها، فيخصّص بها عموم (2) حرمة النبويّ المذكور بالزينة لغيره، من لزوم تدليس أو إيذاء لا مصلحة فيه أولا زينة يعتريه، بل يوجب قبح المنظر، كأغلب أقسام الوشم المتداول في الأعراب و أهل البوادي، و ثقب الأنوف، خصوصا بين


1- الوسائل 12: 94 ب «19» من أبواب ما يكتسب به ح 3.
2- الوسائل 14: 114 ب (8) من أبواب مقدمات النكاح ح 6.

ص: 88

المنخرين، مضافا إلى النهي (1) عن خزم (2) الأنوف، و أنه من دأب الجاهليّة نسخها الإسلام.

و الحاصل: أن تخصيص عموم حرمة الفقرات الأربع في النبويّ المذكور بصورة التدليس أو الإيذاء لغير مصلحة مسوّغة شرعا- كما يشهد عليه عموم خبر الرخصة- أولى من حمله على الكراهة، و إن كان حمله على الكراهة أولى من إبقائه على عموم الحرمة و تخصيصه بغير الواصلة، [كما] قاله المصنف.

قوله: «إن التدليس بما ذكرنا إنما يحصل بمجرّد رغبة الخاطب».

أقول: لو كان التدليس يحصل بمجرّد الترغيب بالأمر الواقعي لكان جميع المرغبّات و إظهار المزيّنات و المحسّنات بأسرها من التدليس المحرّم، حتى التنظيف و غسل الوجه و كشف للخاطب و المشتري (3) تدليس محرّم. و هو ممنوع جدّا. بل لزم انحصار الاجتناب عن التدليس في إخفاء المحاسن و استتارها عن الناظر الخاطب و المشتري بالستر و الاحتجاب، و هو مع القطع ببطلانه أقوى و أشدّ تدليسا. بل و لزم عدم جواز النظر إلى محاسن من يريد تزويجها أو شراءها من النساء و الإماء، و من الإجماع و الضرورة جوازه، و جواز تمكين الناظر منه.

لا يقال: لو لم يحصل التدليس بمجرّد مزيّة الرغبة لوجب النظر دفعا للتدليس و الغرر عن الخاطب و المشتري.

لأنّا نقول: عدم وجوبه ليس من جهة تفاوت الرغبة به، بل من جهة عدم تفاوت المقصود الأصلي من الزوجيّة و هو البضع، و من الجارية و هو الاستخدام به. و لهذا لا يعدّ انتفاء البكارة عيبا من العيوب الموجبة لخيار الفسخ، مع أنها من


1- لم نعثر عليه في مظانه.
2- كلّ شي ء ثقبته فقد خزمته، انظر لسان العرب 12: 174.
3- كذا في النسخة الخطّية، و لعلّ الرفع باعتباره خبرا ل «انّ» المقدّرة بعد «حتى»، و فرض «من التدليس» خبرا ل «لكان» في أول الكلام.

ص: 89

أعظم المرغوبات و مزيد الرغبات شرعا و عرفا، فضلا عمّا دونها من المرغوبات.

قوله: «و إمّا لأن المشارطة في مثل هذه الأمور لا يليق بشأن كثير».

أقول: يحتمل ثالثا: أن تكون كراهة المشارطة على المشّاطة من جهة كراهتها النفسيّة، فتكره المشارطة عليها بالتبعيّة.

و رابعا: من جهة مرغوبيّتها النفسيّة على وجه ينافيها الشرطيّة.

و خامسا: لعلّ الحكمة في كراهة المشارطة كونها من الأعمال اليسيرة السهلة التي ينبغي عدّها من التحيّات و التأليفات، المنافية للاشتراطات أو للأخوّة و المروّات، أو يوجب القساوة و التنفّرات.

[المسألة الثانية تزيين الرجل بما يحرم عليه من لبس الحرير و الذهب حرام]

قوله: «المسألة الثانية: تزيين الرجل بما يحرم عليه .. إلخ».

أقول: فيه أولا: أن اتّفاق النصوص و الفتاوى إنما هو على عموم النهي، و تحريم لبس الحرير و التختّم بالذهب على الرجال دون النساء و لو لغير التزيين، فتخصيص الحرمة و التشبّه بخصوص التزيين تخصيص بلا مخصّص.

و ثانيا: أن مقتضى البلاغة و البراعة و المناسبة هو التطبيق و المطابقة بين الأجوبة و الأسئلة، و الدليل و المسألة، و العنوان و البرهان، كما لا يخفى على من له براعة الاستهلال و البلاغة في مقتضى الحال.

قوله: «لا مجرّد لبس أحدهما لباس الآخر مع عدم قصد التشبّه».

أقول: بل الأظهر من التشبّه و التأنّث عموم تشبّه أحدهما بالآخر، سواء كان في خصوص التزيين أم في غيره، و سواء كان في خصوص الأفعال الخاصّة كملوطيّة الرجل و مساحقة المرأة، أو مجرّد الشكل و الصورة كحلق اللحى للرجل و الرأس للمرأة، أو في محض الكيفيّة و السيرة كتكشّف المرأة و تستّر الرجل، أو في محض اللباس و الحلية كلبس الرجل القناع و المرأة المنطقة، أو في محض التكلّم و اللهجة، أو في الكنية و التسمية كمخاطبة الرجل نفسه بخطاب المرأة

ص: 90

و بالعكس، أو تسمية الرجل باسم المرأة أو كنيتها و بالعكس، أو في محض المحبّة و الرغبة لكلّ منهما في عمل الآخر، من غير اعتبار التزيّن و لا التوصّل و لا القصد و لا العلم في موضوعه و لا في حكمه، سوى ما يقتضيه حديث الرفع امتنانا.

و الدليل على التعميم المذكور من حيث الموضوع و الحكم وجوه:

منها: كون اللبس و التشبّه و التأنّث كسائر الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة، الأعمّ من المقصود منه ترتّب الحرام و عدمه، و من المعلومة و عدمها، فلا مدخليّة لوصف التزيّن و لا للقصد و لا للعلم في صدق موضوعها عرفا و لا شرعا، و لا في انسحاب الحرمة إليها.

و منها: أن قوله عليه السّلام: «و نهى المرأة أن تتشبّه بالرجال في لباسها» (1) يدلّ بالفحوى و الأولويّة القطعيّة على حرمة التشبّه بهم فيما هو أشبه من اللباس، كالتشبّه بهم في الصورة أو السيرة، و بالإطلاق و مفهوم الموافقة أو بتنقيح المناط أو الإجماع المركّب و عدم القول بالفصل فيما يساوي التشبّه في اللبس، كالتشبّه في اللهجة و التسمية، أو فيما دونه كالتشبّه في الميل و الرغبة.

و منها: الاستقراء في الموضوعات العرفيّة و الشرعيّة المحرّمة، حيث لم يعثر المتتبّع فيها على ما يعتبر القصد أو العلم في شي ء منها على وجه الموضوعيّة، سوى ما كان من الأفعال المشتركة التي لا تتميّز إلّا بالقصد ممّا هو خارج عن محلّ الكلام، كالعقود التابعة للقصود. و أمّا قوله عليه السّلام: «كلّ شي ء طاهر حتى تعلم أنه قذر» (2) فإنما هو على وجه الطريقيّة و الامتنان بحديث الرفع. و أمّا قوله: «لا عمل إلا بالنيّة» (3) فالمراد بها القربة الخاصّة بالعبادة.


1- الوسائل 3: 355 ب «13» من أبواب أحكام الملابس ح 2.
2- الوسائل 2: 1054 ب «37» من أبواب النجاسات ح 4، و فيه: نظيف بدل طاهر.
3- الوسائل 1: 33 ب (5) من أبواب مقدّمة العبادات.

ص: 91

و منها: أن إناطة الشارع الحكيم حكم المحرّمات و المنهيّات بقصد الحرام دون غير القصد و قصد الغير ينافي الحكمة المحكمة و العلّة المنصوصة لكلّ منها بغير القصد، كتعليل حرمة الخمر بالإسكار، و الدم بالقساوة، و الميتة بالنجاسة، و الخنزير بالخباثة، و البول بالقذارة، و الطين بالمضرّة، و الإسراف و التبذير و القمار و الربا بالمفسدة، إلى غير ذلك من علل الشرائع و حكم المناهي و الموانع الآبية من التخصيص بالقصد و نحوه.

و منها: أنه لو اعتبر القصد فيها لزم خروج جميع المحرّمات عن الحرمة النفسيّة إلى الحرمة الغيريّة المقيّدة بصورة انضمام القصد الحرام لا غير، فيحلّ جميع المحرّمات النفسيّة- حتى الخمر و الزنا- بعدم قصد العنوان أو قصد العدم.

و منها: أنه لو كان القصد أو العلم شرطا أو شطرا في صدق موضوع المحرّمات لم يكن في رفعها عن الجاهل و المخطئ بحديث الرفع (1) امتنان، بل و لا صدق رفع، لارتفاع كلّ مشروط بارتفاع شرطه في نفسه لا برفع رافع، بل يكون رفع المرتفع في نفسه من تحصيل الحاصل المحال.

قوله: «بأن الظاهر من التشبّه صورة علم المتشبّه».

أقول: بل الأظهر ما عرفت من عموم الوضع و اللفظ، و عدم مدخليّة العلم و الجهل في موضوعه و لا في حكمه. مضافا إلى أن العلم الإجمالي منجّز للتكليف، و ليس بجهل و لا في حكم الجهل عقلا و لا شرعا، و إلّا لجاز ارتكاب كلّ من أطراف الشبهة المحصورة بالتدريج. بل جاز ما أورد عليه الفصول (2) من أن يتعمّد العامد بإخفاء درهمه أو ديناره في دراهم الغير فيتناول كلّا منها متدرّجا معتذرا بجهله الحرام، و كذلك يخفى حليلته في الأجنبيّات و يطأ كلّا منها معتذرا


1- الوسائل 11: 295 ب «56» من أبواب جهاد النفس و ما يناسبه.
2- الفصول الغروية: 362.

ص: 92

بجهله المحرّمة. بل جاز للخنثى أن تطأ جاريتها و توقع نفسها موطوءة لمولاها.

بل جاز للخنثى أن تتزوّج بكلّ من الذكر و الأنثى، معتذرا بجهله و عدم علمه بالحرام التفصيلي حين الفعل تدريجا.

لا يقال: إن استصحاب الحرمة في اللحوم و الفروج مانع من مجرى أصالة الحلّية و الإباحة في مشكوك الحلّية فيما نحن فيه.

لأنّا نقول اعتراضا: لو كان مانعا لمنع استصحاب حرمة الحرام المشتبه قبل الاشتباه عن ارتكاب كلّ شبهة محصورة.

و حلّا: بأن مانعيّته عند الخصم إنما هو قبل العلم الإجمالي بانقطاع استصحاب حرمة الحرام الواقعي و معارضته باستصحاب حلّية الحلال الواقعي قبل عروض الشبهة، و أمّا بعد عروضها فتعارضا [و] تساقطا، و يرجع في محلّهما إلى مقتضى الأصل الحاكم بالإباحة أو العقل الحاكم بالتحريم مقدّمة لتحصيل الواقع.

و من الفروعات المتفرّعة على هذا الأصل العليل- و هو اعتبار القصد و العلم التفصيلي بالحرام في تحريمه- توهّم بعض جواز نقل الأموات المستلزم للهتك المحرّم للمؤمن المحترم، من الانتفاخ و نشر الرائحة و الانفساخ، بقصد الاحترام لا الهتك.

بل و جواز نقلها بعد الدفن بقصد الأمانة لا الدفن و إن استلزم النبش المحرّم، مع تصريح السرائر (1) و بعض الأساتيد الأعلام بأنه من بدائع (2) الإسلام.

بل و جواز ضرب الطبول المحرّمة في جنب القبّة الرضويّة عليه آلاف سلام و تحيّة التي هي محلّ مختلف الملائكة، و إيذاؤهم و إيذاء الإمام عليه السّلام، و هتك


1- السرائر 1: 170.
2- كذا في النسخة الخطّية، و الصحيح: بدع، لأنها جمع البدعة، و أمّا البدائع فهي جمع البديعة.

ص: 93

الحرمات بقصد التعظيمات.

بل و جواز الكذب و الغناء و ضرب الطبول و الشيپور، و سائر المحرّمات المبتدعة من الشبيه و غيره، في مراثي سيّد الشهداء بقصد البكاء و الإبكاء لا الكذب و الغناء.

بل و من أعظم ما ابتلينا به من انطماس آثار مشايخنا الأعلام تجويز بعض المعاصرين حلق اللحى، و سائر البدائع (1) المبتدعة في تعزية سيّد الشهداء إذا قصد البكاء و الإبكاء دون التشبيه و الغناء. و هل هو إلّا الزمان الموعود بقوله عليه السّلام:

«سيأتي زمان لا يبقى من الإسلام إلّا اسمه، و من القرآن إلّا درسه، و من الإيمان إلّا رسمه» (2)؟!. يستحلّون الربا بالبيع، و الرشوة بالهديّة، و الخمر بالفقّاع و النبيذ، و بقصد التداوي و الاستشفاء، كاستحلال اليهود صيد السبت بالحيلة، و الحنفيّ نكاح المحارم بلفّ الحرير، و بيع الخمر بالاستنابة، و المالكيّ وطء الغلام بالمتعة، و التولّي من قبل الجائر بقصد التخفيف، و إعانة الجائرين و الظالمين بالدخول في أمرهم و سوادهم بقصد تعظيم شوكة الإسلام لا بقصد الظلم و الحرام. و من هنا هجروا الفرائض و السنن، و اتّبعوا الشهوات و الفتن، و الملاهي و المناهي في السّر و العلن.

و من أعظم ما ثلم به الإسلام بعد فقد أساتيدنا الأعلام تسليط طاغية الزمان الكفّار الخارجة على ثغور الإسلام، بحيث لم يبق للإسلام شأن و لا احترام.

و أعظم ثلمة حدثت بعد السقيفة على الإسلام أن السلطان عبد العزيز العثماني لمّا بلغ غاية الاقتدار طلب كتاب قانون الفرانسة الذي ابتدعه سفاؤهم،


1- انظر الهامش (2) في الصفحة السابقة.
2- أنظر جامع الأخبار للشعيري: 129، ثواب الأعمال: 301 ح 4.

ص: 94

و أجراه في جميع ممالكه على خلاف كتاب اللّٰه و سنّة نبيّه صلى اللّٰه عليه و آله، و لم ينكر عليه أحد من فقهائهم و لا وزرائهم، و لا من تخلّفه ممن بعده من سلاطينهم.

و في كلّ من هذه الحوادث العظيمة، و البدائع (1) الشنيعة، و الثلم المستحدثة، في أعمارنا القاصرة و أيّامنا الفاترة، من أقوى شواهد تصديق ما استحدثه السلف، و ابتدعه الأول، من تحريف الكتاب و السنّة، و هجر أهل الصواب و الملّة، و تغيير الوصيّة بالأذيّة، و من أصدق من اللّٰه حديثا حيث قال:

لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (2)، سُنَّةَ اللّٰهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ* (3) وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّٰهِ تَبْدِيلًا* (4)، و كفى بذلك عبرة لأولي الأبصار، و اقترابا للفرج و الانتظار، ليملأ الأرض قسطا و عدلا بعد ما ملئت ظلما و جورا.

[المسألة الثالثة التشبيب بالمرأة المعروفة المؤمنة المحترمة حرام]

قوله: «هذه الوجوه لا تنهض لإثبات التحريم، مع كونه أخصّ من المدّعي».

أقول: أمّا وجه عدم نهوضها لإثبات التحريم فناظر إلى أن الظلم و الإيذاء و الغيبة و التفضيح إنما هو ذكر النقص و العيب و الذمّ، دون ذكر المدائح و المحاسن المفروض.

و فيه: أن النقص و الظلم و الإيذاء و التفضيح الحاصل من ذكر المحاسن، بحسب الكيفيّة المتعارفة في أشعار التشبيب المسمّى بالفارسيّة التصنيف، أشدّ و أعظم و أقبح و أظلم من النقص و الظلم في الكميّة بالسبّ و القذف و اللعن و الطعن بالسنان، لأنه في النفوس و النصوص أبقى من بنيان مرصوص.

و ما أبعد ما بين ما قاله المصنف من عدم نهوض حرمة الإيذاء و الظلم


1- كذا في النسخة الخطّية، و الصحيح: بدع.
2- الانشقاق: 19.
3- الأحزاب: 38.
4- الأحزاب: 62.

ص: 95

و التفضيح لحرمة التشبيب، و بين ما ابتلينا بطوائف ممّن لو قلت له: رحم اللّٰه أمّك أو أختك أو زوجتك، قتلوك و ضربوك، و يستقبحون تسمية النساء حتى بالكنى، و إذا أرادوا التسمية عنها في خطاب أو كتاب سمّوها باسم ولدها موصوفا له بلفظ «بزرگ» يعني: الكبير، حتى إنهم يستقبحون إدخال الميتة العجوزة من القواعد في القبر من وراء الثياب و الكفن حتى عند الضرورة، كمثل بني أميّة يجتنبون من دم البعوضة و لا يجتنبون من قتل الحسين عليه السّلام.

و أمّا أخصّيّة الأدلّة المذكورة و أعميّتها من المدّعى فممنوع، لأن التشبيب غير المؤذي نادر لا يقدح خروجه بإطلاق مطلق التشبيب المدّعى. و حرمة الإيذاء بالنثر أيضا لا يقدح في تخصيص المدّعى بالشعر، لوضوح الحكم، و أن إثبات الشي ء لا ينفي ما عداه.

قوله: «من جهة اختلاف الوجوه المتقدّمة للتحريم».

أقول: و إن لم ينهض التفضيح و الإغراء من وجوه التحريم على حرمة التشبيب لمن لم يعرفها السامع، إلّا أن مثل الإيذاء و الغيبة كاف في النهوض على تحريمه.

لا يقال: إن الإيذاء و الظلم الحرام إنما هو الإيذاء و الظلم الفعليّ لا الشأنيّ.

لأنّا نقول: الإيذاء الشأني فيما نحن فيه كالغيبة و السرقة المخفيّة إنما هو فعليّ واقعيّ لا شأنيّ، إلّا من جهة وجود المانع من العلم به، لا من جهة عدم وجود المقتضي به.

قوله: «لم يحرم عليه الاستماع .. إلخ».

أقول: وجه عدم حرمة الاستماع و وجوب نهيه عن المنكر مبنيّ على أصالة الصحّة في فعل المسلم، و لكن مجراها إنما هو فيما له جهة صحّة متعارفة غير نادرة، مثل البيع غير الربوي بالنسبة إلى الربوي، بخلاف ما كان مبناه الفساد

ص: 96

أصالة و الجهة المصحّحة له على خلاف الأصل، كبيع الوقف و أمّ الولد و الكذب و الظلم و الغيبة و التشبيب، فإنه لا يحمل على الصحّة بمجرّد احتماله بعد المعارضة بالغلبة.

[المسألة الرابعة تصوير ذوات الأرواح حرام]

قوله: «و لا يحصل به تشبّه بحضرة المبدع تعالى».

أقول: عدم حصول التشبّه بحضرته تعالى في تصوير غير ذي الروح إن كان من جهة اختصاصه تعالى بخلق ذوي الأرواح دون غيرها من الشمس و القمر و الكواكب و الأشجار و الأزهار، ففيه منع واضح، فإن إبداع جميع المخلوقات من ذي الروح و غيره إنما هو من خصائص إبداعه و عجائب صنعه الخاصّ به تعالى.

و إن كان من جهة ما صرّح به من حصول تصوير غير ذي الروح بدون قصد التصوير أحيانا، ففيه أولا: عدم الفرق غالبا في اقتران حصول كلّ فعل بقصده، خصوصا التشكيل و التمثيل و لو لم يكن من ذي الروح.

و ثانيا: عدم اعتبار القصد في صدق موضوع التشكيل و التمثيل.

و ثالثا: لو سلّم اعتباره فلازمه اختصاص حرمة التمثيل و التصوير بالمقصود به التشبّه، و عدم حرمة غير المقصود به ذلك حتى من ذوي الأرواح.

و قد عرفت ما فيه من النقض و الإبرام، بل العمدة في مستند التفصيل بين ذي الروح و غيره هو النصوص لا غير.

قوله: «فتعيّن حملها على الكراهة دون التخصيص بالمجسّمة».

أقول: و المعيّن لحمل النهي عن مطلق المنقوش على الكراهة ليس إلّا عدم حرمة مطلق المنقوش، و هو قرينة صارفة لا معيّنة للحمل على الكراهة، مع أرجحيّة التخصيص من المجاز و لو بالمجسّم.

قوله: «فلو دعت الحاجة إلى عمل شي ء يكون شبيها بشي ء من خلق اللّٰه و لو كان حيوانا من غير قصد الحكاية فلا بأس .. إلخ».

ص: 97

أقول: إن كانت الحاجة الداعية إلى تشبيه حيوان مسوّغة شرعا للتشبيه الحرام، كضرورة أو إكراه أو رفع ضرر أو عسر منفيّ شرعا، كإقامة صورة جسم إنسان في الليل في المزارع و البساتين و الدور لتخويف السرّاق و السباع المفسدة و الحيوانات المؤذية عن الضرر و الإضرار، فهو مسوّغ له مطلقا و لو بقصد الحكاية. و إن لم تكن الحاجة الداعية مسوّغة له شرعا، كتصوير صورة الأباليس و الأجنّة لداعية إحراقها أو تقبيح منظرها أو ملاعبة الصبيان، أو تصوير صور الأنبياء و الملائكة لتعظيمها و تحسين منظرها، فلم يجز مطلقا و لو لم يكن بقصد الحكاية.

قوله: «و منه يظهر النظر فيما تقدّم عن كاشف اللثام».

[أقول:] أي: و من إناطة حكم حرمة التمثيل بقصد الحكاية يظهر النظر فيما تقدّم عن كاشف اللثام (1) من تعميم كراهة الصلاة في ذي التماثيل لذوات الأعلام.

و فيه أولا: إمكان منع النظر في تعميم الكراهة لذوات الأعلام بمنع استفادة التعميم إلى عموم التماثيل، بل إلى تنقيح مناط كراهة التماثيل في مطلق ما يشغل الإنسان و يلهيه النظر إليه في الصلاة، من نقوش كان الشاغل و الملهي أو من أعلام.

و ثانيا: لو سلّمنا استناد التعميم إلى عموم التماثيل فوجه النظر فيه إنما هو من جهة منع العموم و تخصيصه بغير الأعلام بحسب النصّ و الفتوى و الحكمة، لا من جهة عدم قصد الحكاية في الأعلام و قصدها في سائر النقوش، و إلّا لدار الحكم مدار القصد مطلقا حتى في ذي الروح.

قوله: «و ليس فيما ورد من رجحان تغيير الصورة بقلع عينها أو كسر رأسها دلالة عليه».


1- كشف اللثام 1: 194.

ص: 98

[أقول:] و ذلك إمّا من جهة كون الراجح هو التغيير الماحي للصورة لا مطلق التغيير. و إمّا من جهة عدم الملازمة بين رجحان التنقيص فيها و بين تجويز الناقص ابتداء، كما لا ملازمة بين جواز اقتناء ما تصوّر و حرمة عمل التصوير.

قوله: «ففي حرمته نظر، بل منع».

أقول: فيه أنه لو كان المانع منحصرا في مطلقات: «من مثّل مثالا (1) أو صوّر صورة» (2) لكان لمنع إطلاق المثال و الصورة على مثل الكفّ و القدم منه وجه، من دعوى الانصراف، و لكن في عموم مثل قوله عليه السّلام: «نهى أن ينقش شيئا من الحيوان» (3) «و نهى عن تزويق البيوت» (4) لتنقيش جزء من الحيوان لا مانع منه عرفا.

قوله: «هو قضاء العرف. فتأمّل».

[أقول:] لعلّه إشارة إلى أن قضاء العرف بالفرق المذكور إنما هو بين النفي و الإثبات المتعلّق بذي الأفراد، كالنكرة في سياق النفي و الإثبات، لا بذي الأجزاء من المركّب.

و فيه: منع الفرق، ألا ترى أن نهي الحائض عن الصلاة نهي عن الشروع في كلّ جزء من أجزائها و إن لم يتمّها، و عن قراءة العزائم نهي عن كلّ من أجزائها حتى البسملة، و كذلك عن المقامرة و المنازعة و المجادلة و المكالمة، بخلاف الأمر بالمركّب من الصلاة و الوقوف و المبيت، لا يتحقّق صدق الامتثال إلّا بإتمام الجزء الأخير من المجموع المركّب.

قوله: «الممنوع هو إيجاد الصورة، و ليس وجودها مبغوضا حتى يجب


1- الوسائل 2: 868 ب «43» من أبواب الدفن ح 1.
2- الوسائل 12: 220 و 221 ب «94» من أبواب ما يكتسب به ح 6 و 9.
3- الوسائل 12: 220 ب «94» من أبواب ما يكتسب به ح 6.
4- الوسائل 3: 560 ب «3» من أبواب أحكام المساكن ح 1.

ص: 99

رفعه .. إلخ».

أقول: الملازمة بين حرمة الشي ء و حرمة غاياته كالملازمة بين حرمة الشي ء و حرمة مقدّماته عقليّة.

و يمكن الاستدلال عليه بكلّ من الأدلّة الأربعة.

فمن الكتاب قوله تعالى حكاية عن الخليل عليه السّلام فَرٰاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (1) فَجَعَلَهُمْ جُذٰاذاً (2). و قوله تعالى حكاية عن الكليم في العجل المصنوع لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (3).

و من السنّة يكفي مثل قوله صلى اللّٰه عليه و آله في النبويّ المتقدّم (4): «و لا تدع صورة إلا محوتها» (5).

و من الإجماع استدلال الفقهاء على قبول الشهادة بوجوب أدائها، و على وجوب أدائها بوجوب تحمّلها، في قوله تعالى وَ لٰا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مٰا خَلَقَ اللّٰهُ فِي أَرْحٰامِهِنَّ (6)، و على وجوب الحذر بوجوب التحذير في آية النفر (7).

و من الاستقراء ما ترى من حرمة التخمير و وجوب إتلاف الخمر، و حرمة صياغة الأصنام، و آلات القمار، و الدفوف و الطبول و الملاهي، و أواني النقدين، و وجوب كرها و تضييعها، و حرمة كتابة كتب الضلال، و حرمة حفظها بعد الكتب، و حرمة إيجاد النجاسة في المسجد و وجوب رفعها، و حرمة الغصب و إبقاء


1- الصافّات: 93، 94.
2- الأنبياء: 58.
3- طه: 97.
4- لم يتقدّم منه «قدّس سرّه» و لكن سوف يأتي منه في ص: 102.
5- الوسائل 3: 562 ب «3» من أبواب أحكام المساكن ح 8.
6- البقرة: 228.
7- التوبة: 122.

ص: 100

المغصوب في يد الغاصب، و حرمة أكل الحرام و وجوب تهوّعه و تقيّئه بعد الأكل، بل و استبراء الجلل، و حرمة شروع الحائض في الصلاة و وجوب قطعها بعد الشروع، و حرمة إبداع بدعة و وجوب ردّها و ردّ من افتتن أو رضي بها، إلى غير ذلك من موارد الملازمة بين حرمة الشي ء و حرمة ما يترتّب عليه من الغايات.

و الموهم لمنع الملازمة أمران:

أحدهما: حرمة تصوير التماثيل، و ما ورد من عدم حرمة اقتناء ما يوطأ منها في الفرش و البسط (1).

و فيه: أنه لو سلّم ذلك فهو خروج عن الأصل بالنصّ، كخروج تصوير غير الروحاني عن عموم حرمة التصاوير بالنصّ (2).

و ثانيهما: ما ترى من أن حرمة بعض المقدّمات الفعليّة، من مثل ركوب الدابّة المغصوبة للتوصّل إلى مقصد صحيح، من حجّ أو جهاد أو فتح أو سبي حربي أو حمل ماء طهارة أو ساتر صلاة أو أداء دين أو خمس أو زكاة، لا تقتضي حرمة الغايات المرتّبة عليها بعد وجودها و حصولها، و لا يؤمر بإرجاع المحمول بعد الحصول و الوصول إلى محلّ الأصول و النكول عن القبول، و استرداد الأحمال و الأثقال و الكفّار المسبيّة و المستسلمة، بغير الدعوة و الطرق المشروعة من الإذن و الرخصة، إلى حالها الأصلي و محلّها الأولي.

و طريق دفع هذا الوهم أيضا أن يقال: إن لمثل ركوب الدابّة المغصوبة أو سلوك الطريق الممنوع فعلين متداخلين و إيجادين كلّيين، يستتبع كلّ منهما أثره الخاصّ به و غايته المرتّبة عليه. فالغاية المترتّبة على غصب الدابّة المركوبة إنما هو وصول الدابّة المغصوبة إلى المقصد، فيستتبعه حكم الغصب الموصل إليه في


1- الوسائل 3: 564 ب (4) من أبواب أحكام المساكن ح 2.
2- الوسائل 3: 560 ب (3) من أبواب أحكام المساكن.

ص: 101

المنع و وجوب الدفع إلى مالكها الأوّلي و محلّها الأصلي. و أمّا وصول الأثقال و بلوغ المآل إلى مقاصد الحلال- من الطهارة و الصلاة و الحجّ و الزكاة و سبي الكفّار و استسلام الأشرار- فهي من الغايات المترتّبة على طيّ المسافة الكلّية، فيستتبعها في المشروعيّة، و إن كانت في ضمن الطرق المحرّفة و الكيفيّة الممنوعة.

و لكن لا يخفى أن رفع هذا التوهّم بذلك الجواب- كرفع توهّم امتناع اجتماع الأمر و النهي في محلّ واحد- مبنيّ على ما هو الظاهر المشهور المنصور من تعلّق الأحكام بالكلّيات لا الأفراد إلّا من باب المقدّمة.

قوله: «لأن عمل الصور ممّا هو مركوز في الأذهان .. إلخ».

[أقول:] و فيه أولا: أن السؤال عن التصوير لا الصورة و التمثيل لا المثال و التنقيش لا المنقوش بعيد عن حال السائل الذي هو من أصحاب الإجماع، و أجلّ و أعلم من كان من أصحاب الصادقين، الذي لا يخفى على من دونه حرمة العمل بخلاف حرمة المعمول، بل و بعيد عن بلاغة السائل الذي هو محمد بن مسلم الثقفي الكوفي الذي هو أبلغ أصحاب الصادقين، إذ لو كان السؤال عن نفس العمل لا المعمول لسأل عن التصوير و التمثيل لا الصورة و المثال. فالسؤال عن التماثيل ظاهر في المثال و الصورة لا التمثيل و التصوير، كما أن السؤال عن الخمر في قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ (1) ظاهر في السؤال عن نفسهما لا تصنيعهما.

و ثانيا: لو سلّمنا عدم ظهوره في السؤال عن نفس الصورة لا التصوير، فلا أقلّ من أن حذف المتعلّق مضافا إلى ترك الاستفصال في جواب السؤال يفيد عموم حرمة كلّ من التمثيل و المثال.


1- البقرة: 219.

ص: 102

قوله: «إضافيّ بالنسبة إلى هذين القسمين، يعني: لم يحرم من القسمين إلّا ما ينحصر فائدته في الحرام .. إلخ».

أقول: فكأنّه قال: لم يحرم من صنعتي التخمير و عمل السيوف و السكّين بالخصوص إلّا ما يحرم فائدته، كالتخمير بالنسبة إلى الخمر لا عمل السيف بالنسبة إلى السيف بالخصوص، لا أن كلّ ما حرم صنعته بالعموم حرم فائدته بالعموم.

هذا، و لكن فيه: أن الحصر الإضافيّ المذكور تخصيص في عموم الحصر بلا قرينة مخصّصة، بل القرينة المعمّمة له موجودة، لا تخفى على من راجع أحكام الصناعات و أقسامها من رواية تحف العقول (1) من جهات عديدة، من جهة عموم لفظ الحصر، و عموم انسياقه سياق أنواع البرابط و المزامير و الشطرنج و كلّ ملهوّ به و الصلبان و الأصنام، و عموم ذيله بقوله: «و جميع التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات كلّها» (2) حيث إنه ظاهر في عموم المصنوع لا الصناعة، و عموم صدره بذكر صنوف التصاوير ما لم يكن مثل الروحانيّ أيضا، ممّا يقتضي دخول الصور المنقوشة في عموم ذيله: «إنما حرّم اللّٰه الصناعة التي هي حرام كلّها، التي يجي ء منها الفساد محضا .. إلخ» (3). مضافا إلى وروده في مساق تعليل حرمة الغايات بحرمة الصناعات، و مورد إعطاء القاعدة و الضابطة الكلّية.

قوله: «و أمّا النبويّ (4) فسياقه ظاهر في الكراهة، كما يدلّ عليه عموم الأمر بقتل الكلاب، و قوله عليه السّلام في بعض هذه الروايات: و لا قبرا إلا


1- تحف العقول: 335.
2- تحف العقول: 336.
3- تحف العقول: 335.
4- الوسائل 3: 562 ب «3» من أبواب أحكام المساكن ح 8.

ص: 103

سوّيته .. إلخ» (1).

أقول: فيه أولا: منع سياقه في الكراهة، لأن المكروه اقتناؤه من الكلاب لا يجوز قتله، فالأمر بقتله قرينة تخصيصه بالموذي و العقور المحرّم اقتناؤه.

و أمّا تسوية القبر فليس إلّا في بعض الروايات، مضافا إلى عدم استبعاد حرمته بالنظر إلى كونه بدعة.

و ثانيا: لو سلّمنا سياق الكراهة، فليس بقرينة صارفة، لظهور الأمر في الوجوب.

قوله: «و أمّا رواية عليّ بن جعفر (2) فلا تدلّ إلّا على كراهة اللعب بالصورة».

أقول: بل الظاهر من «لا يصلح»: لا يجوز، لا الكراهة، و من اللعب بها هو النظر إليها و اقتناؤها من حيث كونها تماثيل لا من حيث اللعب بها، بقرينة عدم كونها من الملاعب و الملاهي، كالدفوف و الطبول و المزامير.

نعم، هي و إن كانت من الملهيات إلّا أن كونها من الملهيات إنما هو باعتبار النظر إليها لا اللعب بها.

قوله: «و أمّا ما في تفسير الآية فظاهره رجوع الإنكار إلى مشيّة سليمان .. إلخ».

أقول: بل الأظهر من قوله: «ما هي بتماثيل الرجال و النساء» (3) رجوع الإنكار إلى نفس المعمول لا العمل، و لو بقرينة أن الظاهر من يَعْمَلُونَ لَهُ (4) باعتبار أن المعنى لشوكة سلطنته و عزّة مملكته و ملكه إنما هو المعمول لا العمل.


1- انظر الهامش (4) في الصفحة السابقة.
2- الوسائل 12: 221 ب «94» من أبواب ما يكتسب به ح 10.
3- الوسائل 3: 561 ب «3» من أبواب أحكام المساكن ح 4 و 6.
4- سبأ: 13.

ص: 104

قوله: «و أمّا الصحيحة (1) فالبأس فيها محمول على الكراهة لأجل الصلاة أو مطلقا. [مع دلالته على جواز الاقتناء و عدم وجوب المحو] (2).

أقول: حمل البأس على الكراهة مجاز بلا قرينة. و كذا التخصيص بكونها لأجل الصلاة تخصيص بلا مخصّص.

قوله: «مع دلالته على جواز الاقتناء و عدم وجوب المحو».

[أقول:] فيه: أن دلالته على ذلك إنما هو بعد التغيير الماحي للصورة لا مطلقا، كما يشهد عليه صريح الخبر الأخير: «فغيّر رأسه فجعل كهيئة الشجر» (3).

قوله: «و أمّا ما ورد من أن عليّا عليه السّلام لم يكن يكره الحلال» (4).

أقول: الاستدلال بالحديث الأوّل، أي: بأن عليّا كان يكره الصور في البيوت (5)، معنى (6) عن ضميمة لم يكن يكره الحلال حتى يقال بعدم دلالة الضميمة، لأن إطلاق الإكراه على الحرام في عرف الشرع و القدماء إلى زمان المتأخّرين اصطلح على ما يقابل الحرمة، فلا يحمل عليه الإطلاق.

قوله: «و أمّا رواية (7) الحلبي فلا دلالة لها».

أقول: دلالتها إنما هو ظاهر لفظ «أمرت».

قوله: «فهي معارضة بما هو أظهر و أكثر».


1- الوسائل 3: 564 ب «4» من أبواب أحكام المساكن ح 3.
2- ما بين المعقوفتين وردت في النسخة الخطّية، و الظاهر أنها زائدة من سهو قلمه الشريف «قدّس سرّه»، لأنه علّق عليها بعد هذه التعليقة.
3- الوسائل 3: 565 ب «4» من أبواب أحكام المساكن ح 7.
4- الوسائل 12: 447 ب «15» من أبواب الربا ح 1.
5- الوسائل 3: 561 ب «3» من أبواب أحكام المساكن ح 3.
6- كذا في النسخة الخطّية، و العبارة مشوّشة جدّا، و لعلّ المراد: لا بضميمة «لم يكن يكره الحلال» ..
7- الوسائل 3: 565 ب «4» من أبواب أحكام المساكن ح 7.

ص: 105

أقول: أما الأكثريّة فممنوعة، بل معكوسة، كما لا يخفى على من راجع نصوص الملازمة، فإنها الأكثر من نصوص المنع.

و كذلك الأظهريّة في نصوص منع الملازمة ممنوعة، بل معكوسة، فإن من أمعن النظر فيها وجدها بين ما دلّ على نفي البأس عن خصوص الصلاة في بيوت التماثيل، لا عن اتّخاذ التماثيل في البيوت الذي هو المدّعي، كصريح صحيحتي الحلبي (1) و عليّ بن جعفر (2) و ظاهر روايتي أبي بصير (3)، فإنها بقرينة الفرق بين نفي البأس عمّا يوطأ في الفرش و البسط دون ما نصب على الحائط و السرير- الراجع إلى الفرق بين ما يكون النظر إلى شاغلا ملهيا عن الصلاة كالمنصوب، و ما لا يكون ملهيا كالموطوء في الفرش- ظاهرة في تخصيص نفي البأس عن الصلاة في بيت التماثيل لا عن التماثيل، لكون الفرق المذكور فارقا لحكم الصلاة لا لحكم التماثيل، فلا ربط لها بالمدّعى و هو اتّخاذ التماثيل. و بين ما دلّ على المنع من التماثيل حتى ينزع الستر بها أو يقطع رءوسها و يفسدها، كالخبرين الآخرين (4)، و هما على خلاف المدّعى أدلّ منه على المدّعى. و لو سلّم فغاية الأمر دلالتها على وجود التماثيل في بيوت الصلاة أو مطلق البيوت، و هو أيضا أعمّ من المدّعى و هو جواز اتّخاذها فيه، إذ لا ملازمة بين وجود الممنوع و الرضا به و إمضائه، كما أن وجود الكفرة و الأصنام في بيوت الأنبياء و المسجد الحرام لا يدلّ على الرضا و الإمضاء.


1- الوسائل 3: 461، 463 ب «32» من أبواب مكان المصلي ح 2 و 10.
2- الوسائل 3: 461، 463 ب «32» من أبواب مكان المصلي ح 2 و 10.
3- الوسائل 3: 564 ب «4» من أبواب أحكام المساكن ح 2، و ج 12: 220 ب «94» من أبواب ما يكتسب به ح 4.
4- الوسائل 3: 321 ب «45» من أبواب لباس المصلي ح 20، و ص 463 ب «32» من أبواب مكان المصلي ح 12.

ص: 106

قوله: «و منه يظهر أن ثبوت البأس في صحيحة زرارة (1) السابقة مع عدم تغيير الرءوس إنما هو لأجل الصلاة».

أقول: ما أبعد بين دعوى المصنف ظهور النصّ المانع من نفس التماثيل في المنع عن الصلاة في بيت التماثيل، و بين دعوى ظهور النصوص (2) المصرّحة بجواز الصلاة في بيت التماثيل في جواز اقتناء التماثيل، فإن كان النصّ المثبت للبأس في التماثيل لأجل الصلاة لا التماثيل، فلتكن نصوص نفي البأس عن الصلاة في بيت التماثيل أيضا لأجل الصلاة لا التماثيل بالطريق الأولى.

و إن كان نصوص نفي البأس عن الصلاة في بيت التماثيل مع كثرتها و صراحتها لأجل التماثيل لا لأجل الصلاة، فليكن النصّ المثبت للبأس في التماثيل مع وحدته و صراحته لأجل التماثيل لا الصلاة بالطريق الأولى أيضا.

[المسألة الخامسة التطفيف حرام]

قوله: «فإن جرت المعاوضة .. إلخ».

أقول: و صور المسألة بحسب الاستقراء أربعة، لأن المعاوضة بين المطفّفين إمّا على الموزون الكلّي، أو الشخصي، أو الشرطي، أو الوصفي.

و لا إشكال في صحّة الأول، و لا في بطلان الثاني، لعدم مانعيّة التطفيف الشخصي و النقيصة الفرديّة الربويّة من صحّة الكلّي، و مانعيّته من صحّة الشخصي.

و إنما الإشكال في الأخيرين. و الأقوى رجوع الشرطي إلى الكلّي في الصحّة، و ثبوت خيار تخلّف الشرط، و الوصفيّ إلى الشخصيّ في الفساد و عدم الصحّة، للزيادة الربويّة.

و أمّا قوله: «و يمكن ابتناؤه على أن لاشتراط المقدار مع تخلّفه قسطا من


1- الوسائل 3: 564 ب (4) من أبواب أحكام المساجد ح 3.
2- الذي قد تقدّم منها الأحاديث في ص: 105.

ص: 107

العوض أم لا، فعلى الأول يصحّ، دون الثاني».

[أقول:] ففيه أولا: فساد المبنى المذكور و عدم صحّته شرعا، لأن الأمور الاعتباريّة كالشرط و الأجل ممّا لم يعتبر في إزائها شرعا و لا عقلا قسط من الثمن الخارجي، و لا ممّا هو من سنخه من الأمر الاعتباري، فهي في حكم العدم الصرف، لا يترتّب على وجودها و انضمامها إلى المعاملات الربويّة ما يترتّب على وجود الأشياء الواقعيّة و انضمامها إلى المعاملة الربويّة من التصحيح و الإصلاح.

و لهذا كان انضمام كلّ شي ء- و لو شقّ ثمرة- من الأشياء الواقعيّة الخارجيّة إلى الطرف الناقص من المعاملات الربويّة مصلحا لفساده و مصحّحا لبطلانه، لما في إزائه قسط من الثمن، بخلاف انضمام الأمور الاعتباريّة من الشرط و الأجل و إن بلغ ما بلغ في الكثرة، لا يصلح فساده و لا يصحّح بطلانه، و لا يوجب ضمانه لا بمثله و لا بغيره. و لهذا لو غصب شيئا من النقدين في مدّة مديدة لم يلزم الغاصب بعد ردّه بضمان مثل المدّة أو قيمتها.

لا يقال: لو لم يكن للأجل قسط من الثمن لم يجز بيع الشي ء نسيئة بأزيد من بيعه نقدا.

قلنا: صحّة الزيادة ليست لأجل كونها في إزاء الأجل، بل لو جعلت في إزائه فسد البيع قطعا، و إنما هو من جهة جعل مجموع الثمن في إزاء تمام المثمن لا الأجل.

و أمّا قولهم: «للأجل قسط من الثمن» فإنما معناه المبالغة المستفادة من الشرع من أن الزيادة الاعتباريّة الحكميّة في حكم الزيادة الحقيقيّة، لكن لا في تصحيح الربا و إصلاح فساده كما فيما نحن فيه، بل في إيجاد الربا و إيجاب فساده.

و ثانيا: لو سلّمنا صحّة المبنى المذكور، لكنّه لا يصحّح المعاملة الربويّة

ص: 108

و لا يصلح فساده الشرعي قطعا، لصدق موضوع الربا و الزيادة عرفا، و عموم حرمته شرعا حتى للزيادة الاعتباريّة الحكميّة، و الاقتصار على المتيقّن من تخصيصه نصّا، و هو انضمام الأشياء الواقعيّة إلى طرف النقيصة، لا الأمور الاعتباريّة و الزيادة الحكميّة.

و ثالثا: لو سلّمنا أن للأجل قسطا من الثمن و أن انضمامه إلى طرف النقيصة مصلح لفساده، و لكن لا نسلّم أن لاشتراط المقدار مع فرض تخلّفه قسطا من الثمن، و مصلحا لفساد الزيادة الربويّة، للفرق بين انضمام الأجل الممدود و الشرط المتخلّف، حيث يمكن جبران النقيصة الحقيقيّة بضميمة الأجل الممدود عرفا و إن لم يكتف بها شرعا، بخلاف انضمام اشتراط الكمال و التماميّة مع فرض عدمها في طرف النقيصة، فإنها و إن كانت زيادة لفظيّة اعتباريّة إلّا أنها في المعنى تزيد في النقيصة الذاتيّة نقيصة تخلّف الشرط، فكيف يمكن تداركها الزيادة الربويّة و إصلاح فسادها؟! و رابعا: لو سلّمنا تصحيح المبنى المذكور للشرطيّ من المعاوضة الربويّة لصحّحت الوصفيّ منها، بل و لزم تصحيح المؤجّل و المؤقّت من جميع المعاملات الربويّةانضمام أجل ممدود أو وقت إلى طرف النقيصة بالطريق الأولى، و اللازم باطل بالإجماع، فالملزوم مثله.

[المسألة السادسة التنجيم حرام]

قوله: «بل يجوز الإخبار بذلك إمّا جزما .. إلخ».

أقول: بل يجوز الإخبار عن الأوضاع الفلكيّة المسمّى بالنجوم لا جزما و لا ظنّا بوجه من الوجوه، إلّا على وجه النقل ما لم يستلزم الإغراء بالجهل، فضلا عن الإخبار عن أحكامها من الشرّ و الخير و السعد و النحس، و فضلا عن جواز القبول و الحجّية و الاعتماد عليها، و فضلا عن جواز الاعتقاد بها و ترتيب أحكام الصدق عليها، و ذلك لوجوه من النقل و العقل

ص: 109

منها: أن الإخبار عنها على غير وجه النقل رجم بالغيب، و إخبار عن الواقع بالوهم و الريب، و هو نوع من الكذب و العيب، كسائر الإخبارات غير المستندة إلى الحسّ كالمسموعات و المحسوسات، و لا إلى الحدس الناشئ عن مبادئ محسوسة، كالإخبار عن الملكات النفسيّة من مثل العدالة و الطبابة و الاجتهاد، بل المستندة إلى الأسباب الوهميّة و الخياليّة الصرفة التي لا تفيد لمتعارف الناس الأصحّاء المعتدلين المزاج السالمين عن مرض الإعوجاج إلّا صرف الوهم و الخيال، كقطع القطّاع و ظنّ الظنّان المستند إلى السحر و الشعبدة و الرمل و الجفر و الفال و القيافة و السكر و النوم و القمار و الكهانة، ممّا لا ينبغي لعاقل أن يستند إليه أو يعتمد عليه إلّا على وجه نقل الأكاذيب و الأعاجيب، إذ ليس لغير علام الغيوب سبيل و لا معرفة و لا دليل إلى الإخبار عن وراء الجدار فضلا عن أحوال الفلك الدوّار، و لا يدّعي من الفنون ما لا تراه العيون إلّا مجنون أو مأبون، كما قال تعالى إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلّٰا إِنٰاثاً (1) الآية.

و منها: أنه لو جاز الإخبار عن أوضاع الفلك الدوّار لوجب ترتيب الآثار، إذ لو كان لجوازه مقتضى كحرمة الكتمان وجب، و إلّا فلم يجز، لقوله عليه السّلام في جواب ما حقّ اللّٰه على العباد؟: «أن يقولوا ما يعلمون، و يكفّوا عمّا لا يعلمون» (2).

و إذا وجب الإخبار وجب القبول و ترتيب الآثار، من الصوم و الصلاة و الحجّ و الإفطار و أحكام العيدين و صلاة الخسوفين، و إلّا للغا الإخبار، و خرج عن المضمار، و اللازم باطل فالملزوم مثله.

و منها: عموم النصوص المستفيضة بل المتواترة المانعة من التنجيم مطلقا، من جميع الوجوه، قولا و فعلا، و إخبارا و اعتقادا، و تعليما و تعلّما، و استحلالا،


1- النساء: 117.
2- الوسائل 18: 112 ب «12» من أبواب صفات القاضي ح 4.

ص: 110

بالنصّ و الظهور و السياق، و جميع وجوه الدلالات، كقوله عليه السّلام: «المنجّم ملعون، و الكاهن ملعون، و الساحر ملعون» (1) و أنه «كافر كذّاب» (2) و أن «كتابه يحرق» (3).

و قوله عليه السّلام في ديوانه:

خوّفني منجّم أخو خبل تراجع المرّيخ في بيت الزحل

فقلت:

دعني من أكاذيب الحيل المشتري عندي سواء و زحل (4)

و منها: اتّفاق النصوص و الفتاوى على أن المعتمد على حساب التنجيم بالطلوع و الغروب و الزوال و الهلال و الكسوف و الخسوف في الصوم و الصلاة و الإفطار و الحج استوجب الحدّ و التعزير، بل الارتداد و القتل لو استحلّه، لعموم قوله عليه السّلام: «من أحلّ حراما و حرّم حلالا فقد خرج عن الإسلام» (5). و قوله عليه السّلام: «من قال للنواة حصاة، أو للحصاة نواة، و دان به فقد خرج عن الإسلام» (6). و لو كان المنجّم عادلا، و إن بعد فرض اجتماع العدالة معه، بل و لو كان جازما، بل و لو بالجزم المركّب، لأنه جزم في غير محلّه كالجهل المركّب، لم يعذر فيه الجاهل و المخطئ قطعا، و إلّا لكان الجازم بالباطل من جميع الكفّار- خصوصا الجازم بدين الآباء- معذورا، و هو باطل بالإجماع و الضرورة.

و منها: الاستقراء التامّ الحاصل للمتتبّع من كثرة خطئهم و اختلافهم، و تخطئة بعضهم لبعض في كلّ وضع من أوضاع الأفلاك من حيث الكمّ و الكيف،


1- الوسائل 12: 103 ب «24» من أبواب ما يكتسب به ح 7.
2- الحديث ملفق من حديثين، انظر نهج البلاغة: 105 الخطبة 79.
3- الوسائل 8: 268 ب «14» من أبواب آداب السفر إلى الحج ح 1.
4- ديوان الامام علي عليه السّلام: 109.
5- الوسائل 13: 164 ب «3» من أحكام الصلح ح 2، نقلا بالمعنى.
6- الوسائل 18: 92 ب (10) من أبواب صفات القاضي ح 13، نقلا بالمعنى.

ص: 111

بحيث يكون الاعتماد على كلّ منها ترجيحا بلا مرجّح، و إن كان الاختلاف يسيرا و قليلا.

و منها: ما شاهدنا من أول عمرنا إلى الحين من إخبار المنجّمين المخصوصين بكلّ من السلاطين، بأن الحركات الفلكيّة في هذه السنة تدلّ على الصحّة و السلامة، و القوّة و العافية، و الإقبال و الغلبة لكلّ من السلاطين و عساكرهم و ممالكهم، و مع ذلك كثيرا ما يتّفق العكس و الضدّ، و خوارق العادات و حدوث الحوادث العظيمة، من الطاعون و الوباء، و القحط و الغلاء، و الشدائد و الغناء، و الموت و العناء، و الكرب و البلاء، إلى ما لا يعدّ و لا يحصى، من اتّفاق أكل الناس بعضهم بعضا، و بلوغ الموت في الناس إلى حدّ الفناء. حتى شاهدنا هلاك كثير من الدول و السلاطين، و ملوك الأرضين، و استخلاف آخرين، على عكس إخبار المنجّمين لهم بالغلب و التمكين، و الأمن و التأمين، و الإقبال و التسكين. حتى إنّي سمعت علّامة أساتيدنا الأعلام- مع كمال مهارته و تبحره في علم النجوم- كان يخطّئهم، حاكيا عن السيّد الجزائري أن ديدن علماء العصر أنهم إذا أرادوا الحسنى من الشروع في شي ء أو سفر سألوا المنجّمين في ذلك، فكلّما أخبر المنجّمون به خالفوهم فيه، فرأوا الحسنى و الظفر فيه لا زال.

و منها: أن قول المنجّمين في كلّ واقعة و حكم معارض و مرجوح بتكذيب المخبر الصادق بالعموم و الخصوص، و الكلّية و الجزئيّة، و الالتزام و الملازمة.

أما تكذيبهم بالعموم و الكلّية ففي مثل قوله صلى اللّٰه عليه و آله: «من صدّق المنجّم فقد كذّب القرآن و الرسول» (1).

و أمّا بالخصوص و الجزئيّة، ففي خصوص هلال الصوم و العيدين ورد


1- الوسائل 12: 104 ب «24» من أبواب ما يكتسب به ح 11، نقلا بالمعنى.

ص: 112

النصوص بالمنع عن التظنّي و الحساب بقوله عليه السّلام: «صم للرؤية و أفطر للرؤية» (1) و للّٰه درّة من ضابط كلّي. و هكذا في خصوص الحركة و المسافرة ورد المنع من الاعتماد بقول المنجّم، كما لا يخفى على من راجع نصوص الباب (2).

و أمّا تكذيبهم بدلالة التعريض و الالتزام فبوجوه:

منها: ما نراه بالحسّ و الوجدان من اختلاف رؤية الهلال في النقص و الكمال، بواسطة اختلاف كيفيّة سيره من حيث السرعة و البطء، و لازمة اختلال الحساب في جميع الأبواب من حيث التسبيب و الأسباب، لأن أوضاع النجوم و أحكامها مبنيّة على إدراك كنه مقادير حركات النيّرين و أحوالها، من حيث الكيفيّة و الكميّة و الانفراد و الاجتماع و الافتراق و التركيب مع أحوال سائر الكواكب، و من المحسوس المعلوم عدم إدراك غير المعصوم على كنه حقيقة مقادير سيرها و أحوالها.

مع أن المحسوس لنا من مقادير سيرها و أحوالها و صفاتها بآلات الرصد و الزيج إنما هو على قدر حسّنا القاصر الفاتر في الظاهر، لا على قدر ما هي عليها في الواقع للحاضر الناظر. بل لم يبلغ المحسوس الظاهر بالنسبة إلى الواقع من أحوالها إلّا بمقدار النم (3) من أليم.

ألا ترى انّ حرارة الشمس المحسوسة لنا في الأرض من علو السماء الرابعة أعظم من حرارة النار بما لا يحصيه إلّا علّام الغيوب، فكيف يحيط به غيره؟! و هكذا مقدار سير فلك الأفلاك لا يحيط به إلّا خالق الأفلاك.

بل و يضاف إلى الجهل و العجز عن إدراك كنه مقادير أحوالها المفردة الجهل و العجز عن أحوالها المركّبة، من الاجتماع و الاقتران و الاتّصال، و سائر الأوضاع


1- الوسائل 7: 182 باب «3» من أبواب أحكام شهر رمضان.
2- الوسائل 8: 268 ب «14» من أبواب آداب السفر إلى الحج و غيره.
3- كلمة فارسيّة تعطي معنى: القطرة. و اليمّ: البحر.

ص: 113

و الأحوال الدخيلة قطعا في أوضاعها و خواصّها و تأثيراتها و أحكامها، كما يصدّقه قوله عليه السّلام: «إن كثيره لا يدرك، و قليله لا ينتج» (1).

و من جملة ما يستلزم اختلال نظم الحساب و اطّراده و كذب المنجّم نصوص ردّ الشمس على سليمان عليه السّلام لمّا توارث في الحجاب قال عليه السّلام: «ردّوها عليّ» (2)، و على يوشع النبيّ عليه السّلام و على أمير المؤمنين مرّتين (3). و نصوص أن الجمعة أقصر الأيّام وقتا و أسرعها سيرا لتعذيب الكفّار به، كردّ الشمس في كلّ يوم إلّا يوم الجمعة، كما في السماء و العالم عن الكافي عن الرضا عليه السّلام: «أن اللّٰه تعالى يجمع أزواج المشركين تحت عين الشمس، فإذا ركدت الشمس عذّب اللّٰه أرواح المشركين بركود الشمس ساعة، فإذا كان يوم الجمعة لا يكون للشمس ركود، رفع اللّٰه عنهم العذاب لفضل يوم الجمعة، فلا يكون للشمس ركود» (4). و من البيّن أن لازم كلّ ذلك تكذيب جميع مبادئهم و فساد مبانيهم من اطّراد نظم الحساب و مقادير سير الكواكب و أحوالها و أوضاعها المفردة و المركّبة من الاتّصال و الاقتران و الاجتماع و الافتراق.

و ممّا يستلزم كذبهم أن اطّراد صدقهم في حسابهم و إخبارهم عن تأثير الكواكب و خواصّها يستلزم بطلان إعجاز الأنبياء في أخبار المغيّبات و إيجاد خوارق العادات، من إحياء الأموات و إبراء الأكمه و الأبرص و الغلب و العطب، لاستناد ذلك إلى تأثير الكواكب و فنون العلم و المهارة العادية الحاصلة لكل من ارتاض في تحصيلها، كالسحر و الشعبدة و الكهانة و الطبّ و الحساب و الهندسة، و اللازم باطل [في] كلّ الشرائع و الملل، فالملزوم مثله.


1- الوسائل 12: 101 ب «24» من أبواب ما يكتسب به ح 1، مع اختلاف.
2- لم نعثر عليه في مظانه.
3- البحار 58: 242 ح 22.
4- الكافي 3: 416 ح 14.

ص: 114

و ممّا يستلزم كذبهم و بطلانهم اتّفاق نصوص المعصومين على انحصار سبب الخسوفين و الزلازل- كسائر الأسباب المخوفة- في كثرة المعاصي المسبّبة لانطماس النيّر في بحر فلكه، و حيلولة الفلك بينه و بين الأبصار بأمر الملائكة الموكّلين عليه، كما يشهد عليه الأمر بالفزع و الجزع و الصلاة و الدعاء لردّهما و كشفهما (1)، لأنهما من أعظم آيات العظمة و النعم الجسيمة، فإذا بلغت الذنوب إلى حدّ الكثرة توجّهت النقمة إلى انطماس النعمة في بحر فلكه، على عكس ما زعمه المنجّمون من أن سبب الخسوف حيلولة الأرض للقمر و الكسوف حيلولة القمر للشمس. و العقل البديهي حاكم على قبح ترجيح المرجوح و هو تصديق مثل المنجّم و الكاهن و الساحر الكاذب من النفوس الشريرة، و تكذيب المخبر الصادق من النفوس الطاهرة القدسيّة.

فإن قلت: لو لم تكن الحيلولة سبب الخسوفين فمن أين يعرف الحال بها في البين؟

قلت: حصول معرفة الكسوفين بالحيلولة في البين لا يقتضي سببيّة الحيلولة للكسوفين، و لا ينافي كون الحيلولة أو ما يؤدّي إليها من العلامات المقارنة علامة لسبب الخسوفين، و هو انغماس النيّرين في بحر الفلك، لا أنها نفس السبب المخسف، كما أن طلوع النجم المغربي علامة مقارنة لغروب الشمس، لا أنه سبب غروبها و أن غروبها بسبب حيلولته، و كما أن سرعة النبض و حرارة الملمس علامة مقارنة للحمى، لا أنهما سبب الحمى، بل السبب لها هو تعفّن الأخلاط و حيلولته.

فإن قلت: لو كان سبب الخسوفين كثرة المعاصي و عظمها لا الحيلولة، فما وجه اختصاص الخسوف بمنتصف الشهر و الكسوف بآخره، مع اشتراك الأزمنة


1- من لا يحضره الفقيه 1: 340 ح 1، البحار 26: 10 ح 2.

ص: 115

كلّها في كثرة المعاصي؟ فما وجه اختصاص الخسف ببعضها دون بعض؟

قلت: وجهه أنه لمّا كان كلّ من الوقتين هو منتهى كمال كلّ من النيّرين الأعظمين، و أن منتهى عظم المعاصي و اللمم عند منتهى كمال النعم، و أن منتهى رفع القلم و تأخير آثار النقم عند انتهاء أمد الكرم و حيلولة الأجل و الرقم، اختصّ الخسوفان، بحسب الغالب في الوقتين على ما تراه في البين.

و ممّا يستلزم أيضا كذب المنجّمين و اختلاط الحساب عليهم، و عدم اطّراد تخمينهم، ما تواتر في الأخبار، و اشتهر في الآثار، و دلّ عليه العقل و الاعتبار، من كتب الخاصّة و العامّة، كما في البحار وقوع الكسوف و الخسوف يوم عاشور و ليلته (1)، حتى بدت الكواكب فيها نصف النهار، على ما رواه البيهقي (2) و غيره، و يوم وفاة الخليل عليه السّلام (3) في عاشر الشهر (4) أيضا. و أن آيتين تكونان قبل قيام القائم عليه السّلام لم تكونا منذ هبط آدم عليه السّلام: كسوف الشمس في نصف رمضان، و القمر في آخره (5).

قال الشهيد في الذكرى في جملة فروع أحكام صلاة الكسوف: «الرابع: لو جامعت صلاة العيد، بأن تجب بسبب الآيات أو بالكسوفين، نظرا إلى قدرة اللّٰه تعالى و إن لم يكن معتادا» (6).

و عن الفقيه: «إن الذي يخبر به المنجّمون فيتّفق على ما يذكرونه ليس من هذا الكسوف من شي ء، و إنما يجب الفزع فيه إلى المساجد و الصلاة لأنه آية تشبه


1- البحار 91: 154.
2- السنن الكبرى 3: 37.
3- كذا في النسخة الخطّية، و المراد بالخليل إبراهيم بن رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله، انظر الهامش (2) هنا.
4- السنن الكبرى 3: 36.
5- البحار 58: 153.
6- الذكرى: 246.

ص: 116

آيات الساعة» (1).

و في البحار لمّا نقل تفصيل الفلاسفة في حصر سبب الكسوف في حيلولة القمر بين الشمس و الأبصار، و سبب الخسوف في حيلولة الأرض، أجاب بوجوه:

منها: أن هذه مقدّمات حدسيّة ظنية معارضة بالمثل، و إمكان أن تكون هذه الاختلافات لجهة أخرى، كما قال ابن هيثم في اختلاف تشكّلات القمر:

يجوز أن يكون ذلك لأن القمر كرة مضيئة نصفها دون نصف، و أنها تدور على مركز نفسها بحركة متساوية بحركة فلكها، فإذا كان نصفه المضي ء إلينا فبدر، أو المظلم فمحاق، و فيما بينهما يختلف بقدر ما تراه.

و منها: إمكان أن يكون الفاعل المختار يحدث فيه نورا بحسب إرادته في بعض الأحيان دون بعض.

و منها: إمكان أن يكون عند حدوث تلك الأسباب يقع المرور على البحر أيضا، و يكون له أيضا مدخل في ذلك، و امتناع الخرق و الالتئام على الأفلاك، و عدم جواز الحركة المستقيمة فيها، و امتناع اختلاف حركاتها، و أمثال ذلك لم يثبتوها إلّا بشبهات واهية و خرافات فاسدة لا يخفى و هنا. مع أن القول بها يوجب نفي كثير من ضروريّات الدين، المعراج و نزول الملائكة، و الأنبياء و عروجهم، و خرق السماوات و طيّها، و انتشار الكواكب و انكسافها، في القيامة و في الدنيا، إلى غير ذلك ممّا صرّح به في القرآن و الأخبار المتواترة (2).

قوله: «و إن كان يقع الاختلاف .. إلى تفاوت يسير».

أقول: إذا كان محلّ الكلام في الاعتماد على قولهم إنما هو في محلّ


1- من لا يحضره الفقيه 1: 341 ذيل ح 1.
2- البحار 58: 151.

ص: 117

الاختلاف لا الوفاق فلا فرق بين كون الاختلاف يسيرا، كما في أخبارهم بكون القمر في العقرب أو الخسوفين، أم كثيرا كما في رؤية الهلال و سائر الأحوال.

قوله: «و يمكن الاعتماد في مثل ذلك على شهادة عدلين منهم .. إلخ».

أقول: إن صحّ الإخبار عن أوضاع النجوم و كان له محمل صحّة صحّ الاعتماد على المخبر عنه مطلقا و لو كان كافرا، من باب اعتبار قول أهل الخبرة فيما يختصّ بمعرفتهم و إخباراتهم، كقول اللغوي و المقوّم و الطبيب و سائر إخبار أهل الخبرة، و إلّا فلا يصحّ الاعتماد عليه مطلقا و لو كان عادلا، بل و لو أفاد أو استفيد من القطع، لأنه جهل مركّب ليس في محلّه، كقطع القطّاع و ظنّ الظنّان.

مضافا إلى عدم إمكان اجتماع العدالة مع اعوجاج السليقة بهذه المثابة، كما لا تجتمع العدالة مع الوسواس و قطع القطّاع و ظنّ الظنّان.

قوله: «كما حكي أنه اتّفق لمروّج هذا العلم .. إلخ».

أقول: فيه أولا: أكثريّة شعور الكلاب من شعور رئيس الملّة و الحكمة و الأسطرلاب ممّا لا يصدّقه أولو الألباب.

و ثانيا: لو صحّت الحكاية و صدقت لكانت على خلاف المطلوب و بطلانه أدلّ، و هو أعلميّة الكلاب في علم النجوم و الحساب و فهم الخطأ و الصواب من رأس رئيس أولي الألباب الذي هو قطب الأقطاب، و ما خطّأه الكلب من حساب النجوم كيف يعدّه العاقل في عداد العلوم؟!

قوله: «إن مقتضى الاستفصال .. إلخ».

أقول: لا استفصال في الحديث بين القضاء بالنجوم و عدمه حتى يفصّل في حكمه، إلّا على مفهوم اللقب و دلالة إثبات شي ء على نفي ما عداه، و هو عليل.

و كذلك رواية المحاسن (1) لا تدلّ عليه إلّا بمفهوم السالبة بانتفاء الموضوع


1- المحاسن: 349 ح 26.

ص: 118

غير المعتبر.

قوله: «لأنها ظاهرة في الحكم على سبيل البتّ، كما يظهر ذلك من قوله عليه السّلام .. إلخ».

أقول: أمّا الأخبار- فضلا عمّا عرفت من الآثار و الاعتبار- فظاهرها العموم لا التخصيص بالحكم، فضلا عن التخصيص بالاعتقاد، فضلا عن التخصيص بالبتّ. و أمّا قوله عليه السّلام: «فمن صدّقك بهذا فقد استغنى عن الاستعانة» (1) فليس أيضا بظاهر في التخصيص بصورة البتّ، إلّا من باب أن إثبات الشي ء ينفي ما عداه.

قوله: «فهو أسلم».

أقول: الإخبار عن حوادث أحكام النجوم من الخير و الشرّ بطريق جريان عادة اللّٰه على وقوع الحادثة عند الاقتران و الاتّصال الكوكبي، و إن سلم عن فساد عقيدة اقتضائها على وجه العلّية أو السببيّة أو المقتضي الراجع إلى اعتقاد الشرك و الكفر، إلّا أنه لم يسلم عن الكذب و الرجم بالغيب و الافتراء المحرّم على اللّٰه عقلا و نقلا، بواسطة ما عرفت من تخلّف العادة و عدم اطّرادها دائما و لا غالبا.

هذا كلّه مضافا إلى عدم اعتبار القصد و الاعتقاد في صدق موضوع الحرمة و الفساد في شي ء من موضوع الحرف و الصناعات و مقولة العلوم و الملكات، إلّا ما كان من مقولة الأديان أو الشهادات. فلا موهم لتخصيص عمومات النهي عن النجوم بشي ء من مراتب القصد و الاعتقاد، إلّا ما كان حكمه الكفر و القتل، فإنه بقرينة الكفر ربما يخصّص بمعتقد العلّية و الشرك.

نعم، ربما سرى الوهم في تخصيص عمومات النهي عن النجوم بالحكم على سبيل البتّ، لا مجرّد الإخبار عن أوضاعها، بل و لا عن أحكامها، بل و لا


1- نهج البلاغة: 105 الخطبة 79، مع اختلاف.

ص: 119

الحكم بها على سبيل المقتضي أو جريان عادة اللّٰه، من موهمات اعتبار النجوم.

منها: الأخبار المنقولة في السماء و العالم عن ربيع الأبرار الزمخشري عن عليّ عليه السّلام: «من اقتبس علما من النجوم من حملة القرآن ازداد به إيمانا و يقينا، ثم تلا إِنَّ فِي اخْتِلٰافِ اللَّيْلِ وَ النَّهٰارِ (1) الآية» (2).

و فيه أيضا: «إيّاكم و التكذيب بالنجوم، فإنه علم من علوم النبوّة» (3).

و عن الكاظم عليه السّلام لمّا سأله هارون عن النجوم و ما ورد فيه عن العامّة قال عليه السّلام: «إن هذا حديث ضعيف و إسناد مطعون فيه، و اللّٰه تبارك و تعالى قد مدح النجوم، و لو لا أن النجوم صحيحة ما مدحها اللّٰه عزّ و جلّ، و الأنبياء كانوا عالمين بها، و قد قال اللّٰه تعالى في حقّ إبراهيم عليه السّلام وَ كَذٰلِكَ نُرِي إِبْرٰاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (4)، و قال في موضع آخر فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقٰالَ إِنِّي سَقِيمٌ (5)، فلو لم يكن عالما بعلم النجوم ما نظر فيها و ما قال: إنّي سقيم، و إدريس عليه السّلام كان أعلم أهل زمانه بالنجوم، و اللّٰه تعالى أقسم بمواقع النجوم، وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (6) و قال وَ النّٰازِعٰاتِ غَرْقاً إلى قوله فَالْمُدَبِّرٰاتِ أَمْراً (7) يعني بذلك اثني عشر برجا و سبعة سيّارات، و الذي يظهر بالليل و النهار بأمر اللّٰه عزّ و جلّ و بعد علم القرآن ما يكون أشرف من علم النجوم، و هو علم الأنبياء و الأوصياء و ورثة الأنبياء الذين قال


1- يونس: 6.
2- ربيع الأبرار 1: 117.
3- ربيع الأبرار 1: 117.
4- الأنعام: 75.
5- الصافّات: 88- 89.
6- الواقعة: 76.
7- النازعات: 1 و 5.

ص: 120

اللّٰه تعالى وَ عَلٰامٰاتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (1)، و نحن نعرف هذا العلم» (2).

إلى غير ذلك من المراسيل الضعيفة الشاذّة الموافقة للعامّة و التقيّة، ممّا لا يقاوم النصوص الناهية سندا و لا دلالة بوجه من الوجوه.

مضافا إلى إمكان الجمع بحمل أخبار صحّة النجوم على العلم المخزون الخاصّ المخصوص بالأنبياء و الأوصياء، بقرينة إضافته إلى حملة القرآن و تخصيصه بالأنبياء.

أو على القدر الذي يهتدى به في البرّ و البحر، كما صرّح باستثنائه في نصوص المنع.

أو على مثل ما يستدلّ بأفولها على حدوثها، و بحدوثها على محدثها، كما فسّر به علم نجوم الخليل عليه السّلام، و الاستدلال عليه بقوله تعالى إِنَّ فِي اخْتِلٰافِ اللَّيْلِ وَ النَّهٰارِ وَ مٰا خَلَقَ اللّٰهُ فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ لَآيٰاتٍ (3).

أو على أنه كان له أصل في الجملة قبل الإسلام، كالطيرة و الكهانة، و تعليم هاروت و ماروت السحر، و استراق الشياطين السمع إلى الكهنة، ثم اختلّ وضعها و رفع أثرها بالإسلام، كرفع أثر الكهانة و السحر و الطيرة به.

أو على أنه كان صحيحا حين لم تردّ الشمس على يوشع بن نون و أمير المؤمنين عليه السّلام، فلما ردّ اللّٰه الشمس عليهما ضلّ فيها علماء النجوم، كما هو صريح بعض الأخبار الآتية (4). و لا شبهة في أن حمل الأخبار الموهمة لصحّة علم النجوم على كلّ من هذه المحامل الخمسة إنما هو بقرينة معيّنة منصوصة، فلا يقاس عليها حمل النصوص الناهية عنه على شي ء من محامله الأربعة المذكورة


1- النحل: 16.
2- فرج المهموم: 107 ح 25.
3- يونس: 6.
4- لم يأتي منه «قدّس سرّه»، و لكن قد تقدم منه في ص: 133.

ص: 121

في المتن، إذ ليس على شي ء منها قرينة بيّنة و لا مبيّنة، مع كون القياس مع الفارق سندا و دلالة من جهات عديدة.

و من موهمات صحّة النجوم الموهمة لتخصيص عموم. نصوص المنع ما ورد مستفيضا من كراهة السفر و التزويج و القمر في العقرب و المحاق (1)، و استحباب الغسل في النوروز (2)، و الحجامة في سابع حزيران (3)، و الاستشفاء بماء النيسان (4).

و يدفعه: أن هذه الأحكام- كسائر الأحكام الشرعيّة- مبنيّة على الحقائق الواقعيّة لا المسامحات العرفيّة، إلّا أن الاختلاف فيها لمّا كان يسيرا بالغاية، و كان أحكامها من السنن لا الفروض، و لم يسأل عن موضوعاتها الشارع المبيّن كما سئل عن موضوع الفروض في الغروب و الأهلّة حتى يبيّن هنا كما بيّن هناك موضوعاتها الواقعيّة، لا جرم صار البناء فيها على المسامحة تسامحا في أدلّة السنن.

قوله: «من عدا الفرق الثلاث الأول، إذ الظاهر عدم الإشكال في كون الفرق الثلاث من أكفر الكفّار لا بمنزلتهم».

أقول: فيه أن من عدا الفرق الثلاث الأول من الفرقتين الأخيرتين ليستا بكافرتين قطعا، نظرا إلى أن الأولى منهما- و هي الاعتقاد بتبعيّة حركة الفلك لإرادة اللّٰه و مجبوليّته لها- عين الحقّ و النصوص المطلقة، كقوله تعالى وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهٰارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومُ مُسَخَّرٰاتٌ بِأَمْرِهِ (5) و في الرعد:


1- الوسائل 8: 266 ب (11) من أبواب آداب السفر إلى الحج و غيره، و ج 14: 80 ب «54» من أبواب مقدّمات النكاح و آدابه.
2- الوسائل 2: 960 ب «24» من أبواب الأغسال المسنونة.
3- مستدرك الوسائل 13: 85 ب (11) من أبواب ما يكتسب به ح 41.
4- مهج الدعوات: 419- 420.
5- النحل: 12.

ص: 122

وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى* (1) و في إبراهيم:

وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دٰائِبَيْنِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهٰارَ (2).

و أمّا الثانية- و هي الاعتقاد بأن اختيارها في التأثير عين اختياره تعالى-:

فلأنه و إن لم يكن دليل على ثبوته إلّا أنه لا دليل أيضا على كفره، بل و لا على بطلانه، لثبوت نظيره في النفوس الملكيّة، كاللوح و القلم و جبرائيل و ميكائيل و عزرائيل، بل و في النفوس البشريّة المعصومة بنصّ وَ مٰا تَشٰاؤُنَ إِلّٰا أَنْ يَشٰاءَ اللّٰهُ* (3)، بل و في النفوس الفلكيّة بظاهر قوله تعالى فَالْمُدَبِّرٰاتِ أَمْراً (4). و ظاهر قوله تعالى وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (5). و ظاهر قوله صلى اللّٰه عليه و آله في السماء و العالم عن أبي ذرّ: «قلت: يا رسول اللّٰه أين تغيب الشمس؟ قال: في السماء، ثم ترفع من سماء إلى سماء حتى ترفع إلى السماء السابعة العليا، حتى تكون تحت العرش، فتخرّ ساجدة معها الملائكة الموكّلون بها، ثم تقول: يا ربّ من أين تأمرني أن أطلع، أ من مغربي أم من مطلعي؟ فذلك قوله تعالى وَ الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهٰا (6) الحديث» (7). بل ربما أثبتوا الاختيار في جميع الأشياء بظاهر قوله تعالى وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلّٰا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لٰكِنْ لٰا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ (8).

و كيف كان، فلو لم يثبت الدليل على صحّة الاعتقاد الخامس كالرابع فلم


1- الرعد: 2.
2- إبراهيم: 33.
3- الإنسان: 30.
4- النازعات: 5.
5- يس: 40.
6- يس: 38.
7- التوحيد: 280 ح 7، و فيه: فتخرّ ساجدة فتسجد معها الشمس.
8- الأسراء: 44.

ص: 123

يثبت على بطلانه، فضلا عن الدليل على كفره. فتعيّن انحصار كفر المنجّم من حيث الاعتقاد في الفرق الثلاث الأول لا غير. و أمّا قوله: «الفرق الثلاث من أكفر الكفّار لا بمنزلتهم». ففيه أن تنزيل المنجّم منزلة الكافر إنما يصحّ على ما استظهرناه من عموم موضوع التنجيم المحرّم لما عدا فرق الاعتقاد، من جميع سائر معانيه المجرّدة عن اعتقاد الكفر، من جهة كونه من مقولة العلوم و الملكات كالحرف و الصناعات، فيشمل عموم التحريم النظر في النجوم و التعليم و التعلّم و الإخبار عن أوضاعه، فضلا عن أحكامه، فضلا عن الحكم به على وجه جريان عادة اللّٰه بالتأثير عندها، فضلا عن الحكم به على وجه الاقتضاء. و يشملها أيضا عموم صدق التنزيل بالسحر و الكهانة و الكفر، للملازمة، و صدق عموم المنزلة بالكفر في سوء الوبال و الفعال و عظم الخطيئة و المآل.

و أمّا على ما استظهره المصنف من خروج جميع ما عدا فرق الاعتقاد من سائر المعاني المتقدّمة، بدعوى انصراف موضوع التنجيم عنها إلى صورة الاعتقاد، و خروج صور الاعتقاد الثلاث من عموم المنزلة، لعدم صدقها على أكفر الكفرة، فيلزمه خلوّ المورد أصلا و رأسا، لعمومات المنع عن علم التنجيم و الحساب.

قوله: «مع صحّة عقائدهم الإسلاميّة فغير معلوم دخولهم في المنجّمين».

أقول: فيه أولا: أن اجتماع صحّة العقيدة مع استخراج النجوم و تخريص المنجّم مجرّد فرض محال، كفرض اجتماع العدالة مع الوسواس و قطع القطّاع.

و ثانيا: لو سلّمنا صحّة عقائدهم الإسلاميّة فإنما هو مانع من خصوص كفر المنجّم و دخوله في خصوص نصوص كفر المنجّم، لا من دخوله في عموم المنجّم و سائر أحكام لعنه و تكذيبه و ذمّه و التحذّر منه و الطعن عليه و تنزيله منزلة الكاهن و الساحر.

ص: 124

قوله: «و يؤيّده ما رواه في البحار (1) .. إلخ».

أقول: فيه منع التأييد بمكاتبة النوبختي، لما فيها من قصور المقاومة لنصوص ذمّ المنجّم سندا و دلالة و كيفيّة و كمّية و اعتضادا، من جهات شتّى، بل من جميع الجهات.

قوله: «و القولان باطلان .. إلخ».

أقول: حاصل الكلام في الوجه الثاني من وجوه اعتقاد سببيّة النجوم للتأثيرات على وجه المدخليّة الناقصة: أنهم اختلفوا في حكم المعتقد به على أقوال:

أحدها: الكفر. و هو المنقول عن المجلسي (2). قال المصنف: و لعلّ وجهه المخالفة للضرورة. أقول: أو الموافقة لعموم نصوص تكفير المنجّم.

و ثانيها: التخطئة و العصيان. و هو المنقول عن الشهيد في قواعده (3). قال المصنف: و لعلّ وجهه عدم المقتضي لصحّته من العقل و النقل. أقول: أو وجود المانع من صحّته، من عموم النهي و المنع من التنجيم.

و ثالثها: صحّة الاعتقاد به. و هو المنقول عن القاشاني (4).

قال المصنف: و هو خلاف المشهور.

أقول: فيه أن الذي هو خلاف المشهور إنما هو صحّة الاعتقاد بتأثيراته الشخصيّة الجزئيّة المعيّنة عند المنجّمين، الذي هو محلّ النزاع، و أمّا الاعتقاد بتأثيراته الكلّية الإجماليّة الواقعيّة على ما هي عليها في الواقع، الخارج عن محلّ النزاع، الذي هو مراد الكاشاني في إثبات البداء به، فليس بخلاف المشهور، بل


1- بحار الأنوار 58: 250 ح 36.
2- بحار الأنوار 58: 308.
3- القواعد و الفوائد 2: 35.
4- كتاب الوافي 1: 507- 508 ب «50» من أبواب معرفة مخلوقاته و أفعاله سبحانه.

ص: 125

هو المشهور المنصور المتّفق عليه ظواهر نصوص الكتاب و السنّة.

بل ظاهرها أن الأجرام السفليّة فضلا عن العلويّة لها تأثير و عقل و روح و شعور و اختيار و إرادة و إطاعة أيضا، و إن كان الذي فيها من العقل و الروح و الشعور مخالفا لما في سائر ذي العقول و الشعور كمّا و كيفا، فإن مقدوراته تعالى غير متناهية كمّا و لا كيفا، و لا يحيطون بشي ء من علمه إلّا بما شاء (1)، كما قال تعالى وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلّٰا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لٰكِنْ لٰا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ (2).

وَ مٰا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لٰا طٰائِرٍ يَطِيرُ بِجَنٰاحَيْهِ إِلّٰا أُمَمٌ أَمْثٰالُكُمْ (3). و قوله:

إِنّٰا عَرَضْنَا الْأَمٰانَةَ عَلَى السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبٰالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهٰا وَ أَشْفَقْنَ مِنْهٰا (4). و قوله لَوْ أَنْزَلْنٰا هٰذَا الْقُرْآنَ عَلىٰ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خٰاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللّٰهِ (5).

و قوله تعالى: للسماء و الأرض ائْتِيٰا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قٰالَتٰا أَتَيْنٰا طٰائِعِينَ (6). فإن ظاهر استناد القول و الأمر و الإطاعة و ضمير من يعقل إليهما تضمّنهما لضرب من العقل و الروح و الشعور.

و قوله تعالى وَ النُّجُومَ مُسَخَّرٰاتٍ بِأَمْرِهِ* (7) وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دٰائِبَيْنِ (8) وَ جَعَلْنٰاهٰا رُجُوماً لِلشَّيٰاطِينِ (9)


1- البقرة: 255.
2- الأسراء: 44.
3- الأنعام: 38.
4- الأحزاب: 72.
5- الحشر: 21.
6- فصّلت: 11.
7- النحل: 12.
8- إبراهيم: 33.
9- الملك: 5.

ص: 126

فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقٰالَ إِنِّي سَقِيمٌ (1) فَالْمُدَبِّرٰاتِ أَمْراً (2) و قوله وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ (3) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ (4).

و قوله عليه السّلام في دعاء الصحيفة عند رؤية الهلال: «أيّها الخلق المطيع الدائب السريع» (5) الدعاء و التسليم و التوديع له و مخاطبته بخطاب من يعقل. و قوله عليه السّلام:

«يا من بكت عليه السماء و الأرض بالدماء» (6) «و إن الأرض لتشكو من بول الأغلف» (7) و نوم الغافل و عصيان العاصي، و تستغفر للمطيع و تشهد للمصلّي و الساجد. إلى غير ذلك ممّا لا يعدّ و لا يحصى.

بل الضرورة على صحّة نسبة الآثار المحسوسة إلى الكواكب و الأفلاك، كقول الموحّد: أنزلني الدهر، و أنبتنا الربيع، و أصهرنا الشمس، و أضاءنا القمر، و شفانا الطبيب، و سقانا المطر. إلى غير ذلك.

و لكن قد عرفت أن ذلك كلّه إنما يدلّ على صحّة التأثيرات الواقعيّة في النجوم على ما هي عليها في الواقع، دون التأثيرات المستخرجة بالتخمين و التخريص و الرجم بالغيب الذي هو عيب و ريب. و الاستدلال على صحّتها و صحّة معتقدها بتلك النصوص المذكورة من قبيل المغالطة و الإشارة إلى الصورة المنقوشة بقول: هذا فرس، و كلّ فرس صاهل، فهذا صاهل.

قوله: «الثالث استناد الأفعال إليها كاستناد الإحراق إلى النار .. إلخ».


1- الصافّات: 88 و 89.
2- النازعات: 5.
3- الرعد: 13.
4- النور: 24.
5- الصحيفة السجاديّة: 216.
6- ذكر نظيره في البحار 45: 206 و 215 ح 13 و 38.
7- الوسائل 15: 160 ب «52» من أبواب أحكام الأولاد ح 1، مع اختلاف.

ص: 127

أقول: الكلام في هذا الوجه الثالث هو الكلام في الوجه الثاني السابق، من حيث الصحّة و البطلان، و الوجوه و الأقوال، و ما هو حقيقة الحال من المختار و مدلول الأخبار.

قوله: «بل في بعض الأخبار ما يدلّ بظاهره على ثبوت التأثير للكواكب .. إلخ» (1).

أقول: مدلول هذه الأخبار كمدلول النصوص المتقدّمة إنما هو ثبوت التأثير الواقعي لها على ما هي عليها في الواقع، الخارج عن محلّ الكلام. و الاستدلال عليها بالأخبار المذكورة من قبيل المغالطة و الإشارة إلى الصورة المنقوشة بالحقيقة الكلّية الواقعيّة. بل هي على نفي المدّعى و بطلانه أدلّ من الدلالة على المدّعى و صحّته بأبلغ وجه.

[المسألة السابعة حفظ كتب الضلال حرام في الجملة]

قوله: «حفظ كتب الضلال لا يحرم إلّا من حيث ترتّب مفسدة الضلالة قطعا أو احتمالا قريبا .. إلخ».

أقول: محصّل شقوق المسألة: أن كتب الضلال إمّا أن يكون فيها مفسدة فعليّة، أو شأنيّة. و على كلّ منهما: إمّا قطعيّة، أو ظنّية عبّر عنها المصنف بالاحتمال القريب. و إمّا لم يكن فيها مفسدة، أو كان فيها مفسدة فعليّة معارضة بمصلحة أقوى، أو شأنيّة معارضة بأقوى أو أقرب.

أمّا الشقوق الأربعة الأول فلا ريب في حرمتها و دخولها في عموم ما سبق من الأدلّة العقليّة المقدّمية التوصّليّة و النقليّة المطلقة.

و أمّا الأربعة الآخر فلا دليل على حرمتها و دخولها فيما تقدّم من الأدلّة إلّا على تقدير إطلاق معقد عدم الخلاف غير القاصر عن الإجماع، أو إطلاق سائر الأدلّة على الوجه الدالّ على حرمتها بالحرمة النفسيّة و المفسدة الذاتيّة، لا الغيريّة


1- الاحتجاج 2: 250.

ص: 128

الموصلة إلى مفسدة الضلال و الإضلال، كحرمة الخمر و الغناء و القمار و الزنا و الملاهي و الأشعار.

و على كلّ تقدير فالمراد من كتب الضلال إما مطلق ما يكون باطلا في نفسه مع الغضّ عمّا يترتّب عليه من الضلال و الإضلال، ككتب النجوم و السحر و الشعبدة و الرمل و الجفر، و ملاهي الرقص و القمار و الغناء و الأشعار و الشطرنج و الأعداد و الفال، و كتب الأكاذيب و الأباطيل.

و إمّا مطلق ما وضع لحصول الضلال، أي: ما من شأنها أن تضلّ، كأكثر كتب العرفان و فلاسفة الزمان و الطبيعيّين و شعراء الجاهليّة و الصوفيّة و البابيّة و الشيخيّة و المخالفين، و كبعض الظواهر المنكرة و المتشابهات المؤوّلة شرعا ممّا من شأنها الضلال بالنسبة إلى الجهّال الغافلين عن قرائن الأحوال.

و إمّا ما يوجب الضلال و ليس له في الكتب المضلّة مثال، إذ ليس فيها في حقيقة الحال ما يوجب الضلال و الإضلال إلّا بضميمة سوء الفعال و الإعوجاج عن الاعتدال، لوجوب اللطف و إزاحة العلّة، ليهلك من هلك عن بيّنة و يحيى من حيّ عن بيّنة.

فتعيّن إما إرادة المعنى الأول من كتب الضلال، كما هو مدلول إطلاق بعض الأدلّة النقليّة (1)، و إمّا الثاني، كما يقتضيه الدليل العقلي و هو التعاون على الإثم و العدوان. و لازم الأول هو عدم الماليّة في كتب الضلال، لا حرمة الحفظ و وجوب الإتلاف، و لازم الثاني الثاني.

قوله: «نعم، توجب الضلالة لليهود و النصارى قبل نسخ دينهما».

أقول: بل لا فرق في موجبيّة الكتب المحرّفة الضلالة و دخولها في كتب الضلال بكلا معنييه بالنسبة إلى المسلمين و غيرهم، و لا بالنسبة إلى ما قبل النسخ


1- الوسائل 8: 268 ب «14» من أبواب السفر إلى الحج و غيره ح 1.

ص: 129

و بعده، بل و لا بالنسبة إلى العالم بالنسخ و الجاهل. بل هي من أوضح أفراد كتب الضلال، و إلّا لم يكن لها مثال في حال.

غاية الفرق أنها بالنسبة إلى المسلمين- و بعد بداهة نسخها- توجب الضلال بمعنى الشبهة في مقابل البداهة، و بالنسبة إلى اليهود و النصارى قبل نسخها توجب الضلال الشأني، بمعنى الضلال لو لا المانع من تحصيل الحاصل، و بعد نسخها توجب الثبات على الضلال و تقوّيه و تشييده، و محق الحقّ و توهين الدين و هتكه.

و لو لم يكن فيها إلّا ما فيها من شدّ عزم الضالّين على الضلال، و إيهام عوام المسلمين- كالمخالفين- لشبهة الحقّية و الصحّة و الحلّية في مثل نكاح المحارم، و حلّية الخمر و النبيذ، و تخطئة الأنبياء و تخميرهم (1)، و الفجور بمحارمهم عند تخمير العقل و لو قبل النسخ، و التسبيح و التهليل بالرقص و الدفّ و العود و المزمار، و ارتداد هاروت و ماروت من الملائكة المعصومين، و شبهة الجبر و التفويض و التجسيم، و جواز الرؤية على اللّٰه، إلى غير ذلك من الشنائع و القبائح و الأباطيل المضلّة السارية من تلك الكتب المحرّفة إلى أكثر فرق الإسلام، فهو كاف في صدق الضلال و الإضلال، بل هو في أضلّ ضلال، و أكفر الأحوال، و من أسوأ سوء الظنّ و الفعال بأحكام ذي الجلال، و أحوال ذوي العصمة و الكمال.

و غاية توجيه منع المصنف من إطلاق إيجابها الضلال مع ذلك كلّه لعلّه الجمود على كون التحريف هو مطلق الزيادة و النقيصة مع الغضّ عن كيفيّة تحريفها، على وجه لا يخلو عن أحد مراتب الضلال و الإضلال على سبيل منع الخلوّ، أو الجمود على مرتبة من مراتب الضلال الفعلي و الغضّ عن تعدّد مراتبها بما لا يحصى، و عن تعيين كون المراد من ضلال الكتب وضعها للضلال الشأني،


1- أي: نسبة شرب الخمر إليهم، كما نسب إليهم ذلك في الأناجيل المحرّفة.

ص: 130

و أن فعليّتها الضلال ليس له مثال، و لا يحصل في حال، و أنه ما من شي ء من أنواع الكفر و الضلال و الشرك و الإضلال إلّا و هو مملوء منها بالتحريف، و منسوب فيها بالتوصيف إلى اللّٰه و إلى خلفائه، تعالى اللّٰه عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

مضافا إلى أن مجرّد وجود الباطل في مقابل الحقّ، و الكتاب المحرّف في مقابل القرآن، لا يقصر في هتك الحقّ و تقوّي الكفر و توهين القرآن من نصب الأصنام في المسجد الحرام، و حكومة الظلّام في مقابل الإمام، و بناء مسجد ضرار في مقابل مسجد الأخيار.

و ممّا ذكرنا يظهر لك أن حكم تصانيف المخالفين بأسرها من الأصول و الفروع و الحديث و التفسير حكم الكتب المحرّفة، بل هي هي طابق النعل بالنعل. و أن منع المصنف من شمول الأدلّة لها إلّا القليل ممّا ألّف في الجبر و نحوه ممنوع بما عرفت، من أن المراد بكتب الضلال إن كان مرتبة فعليّة من الضلال فليس له مثال في حال، حتى ما استثناه من القليل المؤلّف في الجبر. و إن أريد به سائر مراتبه الشأنيّة فلا يخلو شي ء منها من شي ء من مراتب الضلال الشأني، و لو بإيثار الثبات، و إلقاء الشبهات، و تقديم المتشابهات على المحكمات، و تفسير القرآن بالرأي و الاستحسان، و القول في الدين بقياس الشياطين، و تأويل النصوص بأهواء النفوس، و تحريف الكتاب بغير حساب، و جعل الأكاذيب الباطلة من جملة الأدلّة، كاستدلالهم على طهارة المنيّ بما عن أبي هريرة عن عائشة أنها كانت تحكّ المنيّ من ثوب النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله (1)، أي: لم تغسله، فقد ترى ما فيه من ضعف الدلالة و السند، و إثبات الفاسد بالأفسد، إلى غير ذلك ممّا فيه من مفسدة شوب الفطرة السليمة، و اعوجاج السليقة المستقيمة، و الانحراف عن الدين القيّمة.


1- صحيح مسلم 1: 238 ب «32» حكم المني، تلخيص الحبير 1: 32 ح 21، لكن الحديث لم يرد عن أبي هريرة.

ص: 131

[المسألة الثامنة الرشوة حرام]

قوله: «و يدلّ عليه الكتاب و السنّة».

أقول: بل الأدلّة الأربعة. فمن الكتاب قوله تعالى وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ (1). و قوله تعالى إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبٰارِ وَ الرُّهْبٰانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ النّٰاسِ بِالْبٰاطِلِ (2). وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوٰالَ النّٰاسِ بِالْبٰاطِلِ (3). و قوله تعالى أَكّٰالُونَ لِلسُّحْتِ (4).

و من العقل وضوح كون الرشوة ظلما قبيحا، خصوصا على الحكم بالباطل، و خصوصا للآخذ، و خصوصا مع الغناء و تعيّن القضاء. مضافا إلى دلالة الفطرة السليمة على قبحه و حسن تركه، حتى عند الكفرة و الملاحدة و خارجي المذهب، فقد نقل في قضاء السرائر أن عمر بن عبد العزيز المرواني في زمان خلافته «أهدي إليه تفّاحة فلم يقبلها، فقيل له: إن النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله كان يقبل الهديّة، قال:

إنها للنبيّ و في زمانه هديّة، و لنا في هذا الزمان رشوة» (5). إلى غير ذلك.

قوله: «قلّما يستعمل الرشوة إلّا فيما يتوصّل به إلى إبطال حقّ .. إلخ».

أقول: محصّل المفاد ممّا يصطاد: أن في كون الرشوة بذل شي ء على مطلق ما لا يجوز البذل عليه من حكم أو تطلّب أمر، أو خصوص ما إذا كان المبذول عليه حكما أو أمرا باطلا، أو الأعمّ منه و ممّا يكون حقّا، بأن يكون الرشوة مطلق ما يبذل لتحصيل غرض الباذل مطلقا حقّا كان أو باطلا، أو خصوص ما يبذل على الحكم بالباطل دون الأمر الباطل، وجوها بل أقوالا أربعة.

و عن المختلف تفصيل خامس، و هو جواز الرشى مع عدم الغناء و عدم


1- البقرة: 188.
2- التوبة: 34.
3- النساء: 161.
4- المائدة: 42.
5- كتاب السرائر 3: 178، لكن الحديث ذكره في ب الهبات و النحل و ليس في القضاء.

ص: 132

تعيّن القضاء، و عدم جوازه مع الغناء أو تعيّن القضاء (1). و لكن الوجوه السابقة تفصيل في موضوع الرشى، و الخامس تفصيل في حكمه.

و الأشهر الأظهر في كلّ من المقامين العموم و الإطلاق، لعموم الأدلّة و إطلاقها، إلّا ما لا يصلح للتخصيص ممّا يوهمه، مثل قوله: «و ممّا يدلّ على عدم عموم الرشى لمطلق الجعل على الحكم ما تقدّم في رواية عمّار بن مروان (2) من جعل الرشى في الحكم مقابلا لأجور القضاة».

و يدفعه: أن حمل المطلق على المقيّد عرفا إنما هو مع اتّحاد حكمهما، كأعتق رقبة و أعتق رقبة مؤمنة، و أمّا مع اختلاف حكمهما، كأعتق رقبة و أطعم رقبة مؤمنة، فلا يحمل المطلق على المقيّد. و كذلك ما نحن فيه، فإن قولك: أجور القضاة سحت، و أمّا في الحكم فهو الكفر باللّه، فليس بظاهر في اتّحاد الحكم حتى يكون قرينة على الحمل و اتّحاد الموضوع. و من هنا لا يتأتّى الحمل في الأحكام الندبيّة و الوضعيّة، لقابليّتهما التعدّد، بخلاف مراتب الإلزام. فقوله عليه السّلام:

«أجور القضاة سحت» «و أمّا في الحكم فهو الكفر» نظير قوله: الظلم حرام، و أمّا بآل الرسول فهو أحرم و أشدّ، في عدم اقتضاء الحمل.

و مثل قوله: «في رواية يوسف بن جابر فيمن لعنه النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله و رجلا احتاج الناس إليه لفقهه فسألهم الرشوة» (3).

و يندفع: لكن لا بما في المتن من حمل الاحتياج فيه على الاحتياج إلى نوعه لا شخصه، لأنه خلاف الظاهر، بل لأن مفهوم و هو لا يحرم سؤال الرشوة ممّن لا يحتاج إليه الناس من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع. مضافا إلى عدم حجّية مفهوم الوصف.


1- مختلف الشيعة: 342.
2- الخصال 1: 329 ح 26.
3- الوسائل 18: 163 ب (8) من أبواب آداب القاضي ح 5.

ص: 133

و مثل قوله عليه السّلام في رواية حمزة بن حمران: «إنما ذاك الذي قضى بغير علم و لا هدى من اللّٰه ليبطل به الحقوق، طمعا في حطام الدنيا» (1).

و يندفع: لكن لا بمجرّد دعوى كون الحصر إضافيّا حتى يقال إنه خلاف الظاهر، و إن لم يكن خلافه، بل لو سلّمنا ظهوره في الحصر الحقيقي إلّا أنه مع ذلك لا يدلّ على حصر حرمة الرشى بالقضاء الباطل. أمّا على تقدير كون اللام في قوله «ليبطل به الحقوق» للعاقبة و المآل، كما في قوله تعالى فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً (2) فواضح أن بطلان المآل بسوء عاقبة الفعال لا ينافي ترتّبه على نيّة العكس، أعني: قصد القضاء بالحقّ بواسطة اقترانه بقصد الرشى، كما أن جميع العبادات المقرونة بغير الخلوص يترتّب عليها سوء عاقبة البطلان و إن قصد بها الصحّة. و أمّا على تقدير كون اللام المذكورة للغاية فلأن القضاء بالرشى باطل شرعا و إن قضى بالحقّ واقعا، كما في مقبولة ابن حنظلة:

«و ما يحكم له- أي: السلطان الجائر و قاضي الجور- فإنما يأخذه سحتا، و إن كان حقّه ثابتا» (3). فتأمّل.

و مثل قوله: «كما يظهر بالتأمّل في رواية يوسف (4) و عمّار (5)».

و يدفعه: وضوح عدم ظهور الروايتين في اختصاص حرمة الرشى بصورة الاستغناء بالتأمّل، بل الظهور بالعكس. مضافا إلى توقّف التخصيص على المخصّص و الانصراف على الصارف، و إذ ليس فليس، خصوصا مع عموم [حرمة] أجور القضاة.


1- الوسائل 18: 102 ب (11) من أبواب صفات القاضي ح 12.
2- القصص: 8.
3- الوسائل 18: 98 ب (11) من أبواب صفات القاضي ح 1.
4- الوسائل 18: 163 ب (8) من أبواب آداب القاضي ح 5.
5- الخصال 1: 329 ح 26.

ص: 134

و مثل قوله: «لما تقرّر عندهم من حرمة الأجرة على الواجبات العينيّة». «و لا مانع من التكسّب بالقضاء من جهة وجوبه الكفائي».

و يدفعه: ما سيأتي من أن فعل الواجب مطلقا و لو كان كفائيّا- ما لم يسقط بفعل الغير- غير قابل عرفا و لا شرعا للماليّة و الملكيّة، حتى يصحّ المعاوضة عليها بالاجور و الماليّات، كالعبادات. و حينئذ فإن جعل العوض و الأجر على نفس فعل الواجب فلا يصحّ مطلقا و لو في الكفائيّ و التوصّلي. و إن جعل العوض و الأجر على ما يقارن فعلها من إيجاد الداعي و نحوه صحّ حتى في الواجب العيني، بل العبادات فضلا عن الكفائيّ و التوصّليّات.

قوله: «و أمّا ما تقدّم في صحيحة ابن سنان (1) من المنع من أخذ الرزق من السلطان فقد عرفت الحال فيه».

[أقول:] أي: من كون الآخذ غير أهل، أو كون المأخوذ من غير بيت المال، كما في الفقيه في جواب من قال لعليّ عليه السّلام و اللّٰه إنّي لأحبّك، فقال له:

«و لكنّي أبغضك، قال: و لم؟ قال عليه السّلام: لأنّك تبغي في الأذان كسبا، و تأخذ على تعليم القرآن أجرا». و قال عليه السّلام: «من أخذ على تعليم القرآن أجرا كان حظّه يوم القيامة» (2). و فيه أيضا عن الصادق عليه السّلام: «أنا أقرأ القرآن فتهدي إليّ الهديّة فأقبلها؟ قال: لا، قلت: إن لم أشارطه، قال: أ رأيت إن لم تقرأ كان يهدى لك؟ قلت: لا، قال: فلا تقبله» (3).

قوله: «و أمّا الهديّة، و هي ما يبذله على وجه الهبة ليورث المودّة الموجبة للحكم له، حقّا كان أو باطلا .. إلخ».

أقول: فيه أنه إن أريد بالهديّة معناها الحقيقي فهو كالهبة و التحيّة و العطيّة


1- الوسائل 18: 161 ب (8) من أبواب آداب القاضي ح 1.
2- من لا يحضر الفقيه 3: 109 ح 461، و فيه اختلاف يسير.
3- من لا يحضره الفقيه 3: 110 ح 462، و فيه اختلاف يسير.

ص: 135

وزنا و معنى و حكما، لأن معناه ما يبذل بقصد التفضّل و الإحسان، لا لغرض فساد و بطلان، على عكس الرشوة، محكوم عليه بالحسن و الرجحان لا الحرمة و البطلان، بالأدلّة الأربعة.

و إن أريد بها معناها المجازي بقرينة الحكم عليه بالغلول و السحت، فهو و إن كان كذلك إلّا أن معناه ما يبذل ظاهرا و صورة على وجه الهديّة و الإحسان، و معنى و باطنا بقصد الرشوة و البطلان مطلقا، سواء قصد منه الحكم بتوسّط إيثار المودّة الموجبة له أم بدون الواسطة، فإن ذلك غير فارق معنى و لا حكما بين الرشوتين، بل الفارق الخفاء و الظهور في البين. مضافا إلى أنه لو سلّم الفارق المذكور بينهما لزم تقديم الهديّة على الحكم لا تأخيرها، لامتناع تأخّر السبب عن المسبّب، و الحال تأخيرها في تفسير السحت بقوله عليه السّلام: «هو الرجل يقضي لأخيه حاجته ثم يقبل هديّته» (1).

قوله: «و للرواية توجيهات».

أقول: أمّا وجه احتياجها إلى التوجيه فلمخالفة حرمة الهديّة بعد قضاء الحاجة، لظهورها في معنى العطيّة و الإحسان الممدوح عقلا و نقلا.

و أمّا التوجيهات فيجمعها أن قبول الهديّة للقاضي الحاجة إمّا أن يكون مع قصد كلّ من الباذل و القابل الرشى في القضاء و الإهداء، أو مع قصد الباذل لا القابل، أو العكس، أو لا مع قصد أحدهما الرشى.

و أمّا في صورتي قصد الباذل الرشى فتحرم الهديّة ذاتا و نفسا، لكونها الرشى اسما و حكما.

و أمّا في صورتي عدم قصد الباذل فهي و إن لم تحرم ذاتا و نفسا، لعدم صدق الرشى اسما، إلّا أن مقتضى ظاهر الرواية، و عموم «هدايا العمّال غلول


1- الوسائل 12: 64 ب (5) من أبواب ما يكتسب به ح 11.

ص: 136

و سحت» (1)، و أصالة عدم التخصيص و التقييد بلا مخصّص و لا مقيّد، هو حرمتها من باب المقدّمة، للتجرّي و الاقتحام في مزالّ الأقدام، و الوقوع في معرض الحرام، و استحلال جميع الآثام بالحيل و الأوهام، فإن النفس إذا اعتادت بالهدايا لم تخف الوقوع في البلايا، و إذا ذاقت حلاوة التحف أمنت من الوعيد و الأسف، و استحلّت الحرام بالحيل و الحرف، فإن النفس لأمّارة بالسوء إلّا ما رحم، و لا عاصم إلّا من عصم.

و لعلّ ما ذكرنا من حمل الوجهين الأخيرين من الهديّة المحرّمة على الحرمة الغيريّة المقدّميّة أولى من حمل المصنف إيّاهما على المبالغة في رجحان التجنّب عن قبول الهدايا، لأن الأول محمل حقيقيّ أو أقرب مجاز من الثاني.

قوله: «لا لأجل الرشوة، لعدم الدليل عليه، عدا بعض الإطلاقات المنصرف إلى الرشى في الحكم، بل لأنه أكل للمال بالباطل .. إلخ».

أقول: فيه أولا ما عرفت من منع عدم الدليل عليه بعد عموم الرشى و إطلاقها عليه، و منع التخصيص بلا مخصّص و الانصراف بلا صارف.

و ثانيا: سلّمنا، لكن الفرق بين ما يحرم لأجل الرشوة فيحرم قبضه، و ما يحرم للأكل بالباطل فلا يحرم قبضه بل يحرم تصرّفه، ممنوع جدّا، و لا وجه له أصلا، لأن النهي عن الأكل كناية عن مطلق التصرّف، كالنهي عن التأليف في:

فَلٰا تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ (2) حيث إنه كناية عن مطلق الضجر.

قوله: «و أمّا بذل المال على وجه الهديّة الموجبة لقضاء الحاجة المباحة فلا خطر فيه، كما يدلّ عليه ما ورد .. إلخ».

[أقول:] و فيه أولا: منع حلّية الهديّة الموجبة لقضاء الحاجة المباحة، لعموم


1- الوسائل 18: 163 ب (8) من أبواب آداب القاضي ح 6، و فيه: هدية الأمراء غلول.
2- الأسراء: 23.

ص: 137

النصوص المحرّمة لهدايا العمّال، خصوصا المفسّر للسحت بقوله عليه السّلام: «هو الرجل يقضي لأخيه حاجته ثمّ يقبل هديّته» (1) صريح في حرمة الهديّة الموجبة لقضاء الحاجة.

و ثانيا: منع دلالة ما استدلّ به عليه من قوله: «لا بأس ببذل الرشوة ليتحرّك من منزله ليسكنه» (2) فإنّه إنّما يدلّ على حلّية الرشوة في إزاء الحقوق الماليّة الخارجة عن محلّ الكلام، لا الأحكام الشرعيّة و لا الأمور غير الماليّة التي هي محلّ الكلام.

و ثالثا: منع دلالة ما استدلّ به على التفصيل في الرشوة بين الحاجة المحرّمة و غيرها برواية أبي بصير (3)، لأنّها إنّما تدلّ على التفصيل في الرشوة بين ما يدفع به الظلم فيباح لدافعة لا لآخذه، و ما يوجبه فتحرم مطلقا. و هو أيضا تفصيل في الرشوة بين المحرّم و غيره من الحقوق الماليّة، لا الأحكام الشرعيّة و لا الأمور غير الماليّة، بل تفصيل بين الإرشاء و الرشوة، و ما يدفع الضرر و يصلح المال، و ما يوجب الإضرار و يفسده، و هو خارج عن محلّ الكلام بكلا شقّيه.

قوله: «و المراد المنزل المشترك كالمدرسة و المسجد و السوق».

أقول: وجه تخصيصه بالمنزل المشترك من حقوق الاختصاص دون الأملاك الخاصّة و المشتركة المشاعة لعلّه من جهة عدم إطلاق الرشوة على ما بإزاء الحقوق الملكيّة، و إنّما يطلق عليها الثمن أو مال الإجارة، و إنّما أطلق مجازا على ما بإزاء الحقوق الماليّة المشتركة كالأوقاف تنزيلا لها منزلة الأملاك الخاصّة


1- الوسائل 12: 64 ب (5) من أبواب ما يكتسب به ح 11، مع اختلاف يسير.
2- الوسائل 12: 207 ب «85» من أبواب ما يكتسب به ح 2.
3- الوسائل 12: 409 ب «37» من أبواب أحكام العقود ح 1، و فيه عن الصيرفي.

ص: 138

الخارجيّة.

قوله: «و لو لم يقصد بها المقابلة، بل أعطى مجّانا ليكون داعيا على الحكم، و هو المسمّى بالهديّة، فالظاهر عدم ضمانه، لأنّ مرجعه إلى هبة مجّانيّة فاسدة .. إلخ».

أقول: الفرق بين صور الرشوة الثلاث كون المقصود بالمحاباة في الأوّل المقابلة للحكم، و في الثاني المقابلة لسببه الداعي إليه من إيثار المحبّة الموجبة للحكم، و في الثالث جعل الداعي مقرونا بالإرشاء لا عوضا مقابلا للرشوة.

و حكم الأوّلين حكم الهبة المعوّضة بعوض فاسد في ضمان المأخوذ.

و حكم الثالث حكم الهبة المجّانيّة الفاسدة، بعد فرض عموم (1) حرمة الرشى لكلّ منها في عدم ضمان المأخوذ.

قوله: «لأنّ مرجعه إلى هبة مجّانيّة فاسدة، إذ الداعي لا يعدّ عوضا .. إلخ».

أقول: بل و يمكن إرجاعه إلى هبة مجّانيّة صحيحة لا يضمن بصحيحه كما لا يضمن بفاسده، أو هبة معوّضة بعوض صحيح كذلك، نظير الهبة و العطيّة و الصدقة على الكفّار أو المنافقين لأجل تأليف قلوبهم إلى الإسلام أو الإيمان، على وجه المعاوضة و المقابلة أو الداعي و المقارنة للرشى المباح شرعا. و لكن إمكان ذلك مبنيّ على تقدير أن يكون الرشى كالكذب مقتضيا للقبح و الحرمة ما لم يمنع منه مانع ضرورة أو يعارض بأقوى مصلحة كإنجاء مسلم و نحوه، و إلّا فعلى تقدير كونه كالظلم علّة تامّة للقبح و الحرمة فلا يتأتّى الصحّة في شي ء من


1- الوسائل 12: 61 ب (5) من أبواب ما يكتسب به.

ص: 139

كيفيّاته و مراتبه بوجه من الوجوه، إلّا بالخروج الموضوعي عن حقيقة العدوان إلى محض الإحسان.

قوله: «و كونها من السحت إنّما يدلّ على حرمة الأخذ لا على الضمان».

أقول: حرمة الأخذ و إن لم يدلّ على ضمانه بنفسه إلّا أنّه يدلّ عليه بضميمة الملازمة العقليّة الثابتة سابقا بين حرمة الشي ء و حرمة غاياته، كدلالة حرمة التصوير على حرمة إبقائه و وجوب محوه، و حرمة الأكل على حرمة إبقائه في الجوف و وجوب تقيّئه، و دلالة وجوب تحمّل الشهادة على وجوب أدائها، و وجوب أدائها على وجوب قبولها. و منه دلالة حرمة أخذ الرشوة على حرمة إبقائها و وجوب ردّها و ضمانها، إلّا ما خرج بإسقاط ضمانه من قبل المالك الحقيقي، كإسقاطه ضمان الخمر و الخنزير و آلات اللهو و القمار، أو من قبل المالك المجازي، كإسقاطه ضمان المجّانيّات و ما أذن بإتلافه أو إهلاكه.

قوله: «فروع في اختلاف الدافع و القابض».

أقول: أمّا أقسام الاختلاف في الضمان و عدمه فكما أشار إليه المصنّف ثلاثة، لأنّ منشأ الاختلاف إمّا من جهة الاختلاف في صحّة الهديّة و فسادها بعد الاتّفاق على تحقّق الهديّة.

و إمّا من جهة الاختلاف في أصل تحقّق الهديّة و عدمه، بأن يدّعي القابض الهديّة، و الدافع ينكرها و يدّعي الرشوة.

و إمّا من جهة الاختلاف في مضمونيّة المدفوع الفاسد و عدمه، بأن يدّعي الدافع أنّه رشوة أو هديّة فاسدة مضمونة، و القابض يدّعي أنّه هديّة فاسدة غير مضمونة.

و أمّا مورد الاختلاف ففيما أشار إليه المصنّف بقوله: «إذا كانت الدعوى

ص: 140

بعد التلف» إذ لو كانت قبله كانت الدعوى رجوعا في الهبة على التقديرين، و انتفى أثر الخلاف في البين.

و أمّا مرجع الاختلاف، فلتقديم قول القابض أصالة البراءة، و عدم الضمان، و استصحاب عدم تحقّق سببه. و لتقديم قول الدافع أصالة الضمان، بمعنى عموم:

«على اليد» (1)، و أعرفيّة الدافع بنيّته الراجع إلى قاعدة: «من ملك شيئا ملك الإقرار به» و أصالة الصحّة في فعل المسلم، الراجع إلى أمارة غلبة الصحّة في فعل المسلم، و إلحاق الظنّ الشي ء بالأعمّ الأغلب. و لكن مجرى الأخير فيما عدا الوجه الأخير.

ثمّ إنّ هذه الأصول الثلاثة المقتضية للضمان و إن كانت متراكمة متوافقة في اقتضاء الضمان، إلّا أنّ كلّا منها حاكمة على كلّ ما في طرف القابض من أصالة البراءة و عدم الضمان و استصحاب عدم سببه. أمّا أصالة الصحّة فلكونها من الأمارات الناظرة إلى الواقع، النازلة منزلة الواقع، الرافعة لموضوع كلّ الأصول و القواعد. و أمّا قاعدتا اليد و أعرفيّة الناوي بنيّته فلأنّهما قاعدتان مجعولتان في مورد استصحاب العدم، و هو قرينة معيّنة لحكومتهما على الاستصحاب الحاكم على سائر الأصول، و حاكم الحاكم حاكم. و لعلّ قوله:

«فافهم» إشارة إلى ذلك.

قوله: «و يحتمل العدم، إذ لا عقد مشترك هنا اختلفا في صحّته و فساده .. إلخ».

أقول: مجرى أصالة الصحّة في فعل المسلم لا يختصّ بعقوده، بل يعمّ مطلق أفعاله و نيّاته، بل و أقواله لو لا الدليل المخرج لقول الفاسق من آية النبإ (2).


1- عوالي اللئالي 2: 345 ح 10.
2- الحجرات: 6.

ص: 141

و هو أصل موضوعيّ، بل أمارة معتبرة بالأدلّة الثلاثة، مقدّمة بل حاكمة على جميع الأصول، إلّا أن يعارض بمثله، من غلبة الفساد و فساد الاعتقاد في بعض البلاد.

[المسألة التاسعة سبّ المؤمنين حرام في الجملة]

قوله: «سبّ المؤمنين حرام في الجملة بالأدلّة الأربعة».

أقول: أمّا من الكتاب فيكفي قوله تعالى وَ لٰا تَنٰابَزُوا بِالْأَلْقٰابِ (1) وَ لٰا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً (2) وَ قُولُوا لِلنّٰاسِ حُسْناً (3) وَ جٰادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (4) الآية. و قوله تعالى وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنٰاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتٰاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (5).

قوله: «السبّ و الشتم بمعنى واحد».

أقول: بل الظاهر أنّ الشتم عرفا خاصّ بسبّ الأقارب، المسمّى بالفارسيّة:

بدشنام، و السبّ مطلق الذمّ، المسمّى بالفارسيّة: ناسزا. نعم، السبّ و الذّم بمعنى واحد.

قوله: «و لو لا لقصد الإهانة غيبة محرّمة».

أقول: مثل ما لو قصد المغتاب بالغيبة ذمّ الفعل لا الفاعل و لو استلزمه في الخارج، أو قصد بتوصيفه المذموم تشخيص الفاعل لا الذمّ، مثل الأعمى و البادي. و لكن دخول أمثال ذلك في الغيبة لا يستلزم حرمتها شرعا كما زعمه المصنّف.

و يمكن فرض الغيبة أخصّ مطلقا من السبّ، باعتبار التخصيص بالغياب دون الحضور، و أعمّ مطلقا باعتبار تخصيص السبّ بذكر المناقص و المعايب،


1- الحجرات: 11 و 12.
2- الحجرات: 11 و 12.
3- البقرة: 83.
4- النحل: 125.
5- الأحزاب: 58.

ص: 142

و تعميم الغيبة لمطلق ما يكره المغتاب و لو بذكر محامده التي لا يرضى بإظهارها و إبرازها، لمصلحة، أو خوف مفسدة تقيّة، أو حسد على نفسه أو ماله أو عرضه.

قوله: «و يمكن أن يستثنى .. إلخ».

أقول: بل و يستثنى منه نسبة الذمّ إليه، بل السبّ و القذف و القتل، في مقام الولاية العامّة و السلطنة التامّة الإلهيّة التي للنبيّ صلى اللّٰه عليه و آله- و آله عليهم السّلام بعموم:

«أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» (1) و كذا في مقام الشهادة على جرحه، أو الاستشارة و الاستعلام عن حاله، أو لمصلحة دفع مفسدة المنكر عنه، أو دفع مضرّة شرّ الظالم عنه، كما لو قصد الظالم أذيّة مؤمن فتدفع شرّه بنسبة الجنون إلى ذلك المؤمن، كما عن الصادق (2) عليه السّلام أنّه كان يلعن و يظهر التبرّي من بعض خواصّه من أمثال زرارة، فإذا سئل اعتذر بقوله تعالى أَمَّا السَّفِينَةُ فَكٰانَتْ لِمَسٰاكِينَ ..

فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهٰا (3). إلى غير ذلك من المصالح المسوّغة للسبّ شرعا أو عقلا، كما أنّ طبيبا ممّن يقرب عصرنا عالج بحران أحد الأكابر بإكثار سبّه و شتمه في حضوره مصلحة لجلب بحرانه.

قوله: «أنت و مالك لأبيك (4). فتأمّل».

[أقول:] لعلّه إشارة إلى أنه لو حمل الحديث على ظاهر الحقيقة لا المبالغة فلا يزيد في الظهور على قوله عليه السّلام: «العبد و ما يملك لمولاه» (5) في تخصيص حقّه بالملك و المال لا الحال و الأحوال. يعني: كما أنّ للمولى حقّ الولاء و الملكيّة في مال عبده، كذلك للأب حقّ القوت و النفقة و الولاية في مال ابنه، لا حقّ سبّه


1- الأحزاب: 6.
2- الوسائل 20: 196 خاتمة الكتاب ذيل رقم 489.
3- الكهف: 79.
4- الوسائل 12: 196 ب «78» من أبواب ما يكتسب به ح 8.
5- لم نجده بهذا اللفظ و وجدناه بلفظ آخر انظر مستدرك الوسائل 13: 429 ب «3» من أبواب الحجر ح 1.

ص: 143

و إيذائه، كما يشهد به مورد الخبر، إذا جاء رجل إلى النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله بأبيه يطالبه إرثه من امّه و هو صغير، فسأل النبيّ أباه فقال: أنفقته عليه و هو صغير، و أكلت بقدر قوتي، فقال النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله لابنه: «أنت و مالك لأبيك» (1).

[المسألة العاشرة السحر فهو حرام في الجملة]

قوله: «الشهيدين (2) عدّا من السحر: استخدام الملائكة و استنزال الشياطين في كشف الغائبات .. إلخ».

أقول: هذا القسم من السحر داخل في قسم أكاذيب السحرة و دعاواهم الباطلة التي لا حقيقة لها أصلا و رأسا. و إنّما عدّه من عدّه من السحر حملا لأكاذيبهم الباطلة على الصدق و الحقيقة، مشيا على الظاهر، و طردا للأقسام، و غضّا عن الضرورة على بطلانه بالأدلّة الأربعة.

فمن الكتاب ظهور قوله تعالى فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمٰا مٰا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ (3) في عدم ازدياد تأثيره على قدر التفرّق، و أنّ ذلك منتهى تأثيره، بقرينة ذكره في مقام تعظيم السحر و تهويله، فلو وقع به أعظم لكان هو الحريّ بالذكر، لأنّ الأمثال عند المبالغة في المقال لا تضرب إلّا بأعلى الأحوال.

و تفسير قوله تعالى وَ جٰاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (4) الذي كان عددهم على ما قيل اثني عشر ألف ساحر، و سحرهم أعظم ما يمكن لهم بقوله تعالى سَحَرُوا أَعْيُنَ النّٰاسِ (5) و قوله تعالى يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهٰا تَسْعىٰ (6) فلو قدروا في نصب الحبال على أزيد من الخيال، الخالي عن حقيقة الحال، لم يتركوه في الفعال، و لم يقرّ كلّهم على نفسه بالضلال و الإضلال، و لم يخرّوا بالسجود


1- الوسائل 12: 196 ب «78» من أبواب ما يكتسب به ح 8.
2- الدروس 3: 164، مسالك الأفهام 3: 128.
3- البقرة: 102.
4- الأعراف: 116.
5- الأعراف: 116.
6- طه: 66.

ص: 144

و الإذلال، بمجرّد ما شاهدوا في القبال من حقيقة الإبطال، و لم يجوّزوا الاحتمال المبطل للاستدلال. و كيف يمكن استكشاف الغيب بالسحر و استخدام الجنّ، و قد نفاه اللّٰه تعالى عنهم بقوله فَلَمّٰا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مٰا لَبِثُوا فِي الْعَذٰابِ الْمُهِينِ (1) و قوله تعالى فَلٰا يُظْهِرُ عَلىٰ غَيْبِهِ أَحَداً إِلّٰا مَنِ ارْتَضىٰ مِنْ رَسُولٍ (2)؟! و من السنّة ما يأتي عن الاحتجاج في آخر سؤال الزنديق عن الصادق عليه السّلام «أ فيقدر الساحر على أن يجعل الإنسان بسحره في صورة كلب أو حمار أو غير ذلك؟ من جوابه عليه السّلام: «هو أعجز من ذلك و أضعف من أن يغيّر خلق اللّٰه» (3) الحديث.

و من الإجماع ما يظهر للخبير البصير من اتّفاقهم على عجز الساحر و إن بلغ ما بلغ، من تسخير ذبابة أو بقّة أو نملة أو قملة أو فأرة و لو اجتمعوا له، و إن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه، فكيف بتسخير حيّة أو عقرب أو كلب أو سبع، فضلا عن تسخير الجنّ و الكواكب؟! مضافا إلى أنّ هذا القسم من السحر لو كان لبان بأكثر بيان من سائر أقسامه المبيّنة في أزماننا، من خواصّ تركيب الأدوية الغريبة، و الآلات العجيبة المستحدثة للتعيل (4) و الساعة و المارتين و الطوب، و المراكب الناريّة، و عكس الأشكال و الأفعال و الأقوال، و سائر فنون الخيال و عجائب الأحوال، لأنّ توفّر الدواعي على التسخير أشدّ و فوائده


1- سبأ: 14.
2- الجن: 26 و 27.
3- الاحتجاج: 340.
4- كذا في النسخة الخطّية، و لعلّه اسم آلة كانت آن ذاك. كما و أنّ المراد بعكس الأشكال و الأفعال و الأقوال: آلة التصوير و السينما و التسجيل. و الطوب هي المدفع من الأسلحة، و يقال لها بالفارسيّة: توپ. و المارتين أظنّها اسما لنوع من الأسلحة كالبندقيّة الرّشاشة.و المراكب الناريّة هي السفن البخاريّة.

ص: 145

أعظم [من] سائر أقسام السحر، خصوصا من فراعنة الدول و سلاطين الجور المحيطين بجميع أقسام السحر و أنحائه و مراتبه، إلّا هذا القسم الذي اتّفقت آراؤهم على استحالته و امتناعه عقلا و نقلا و عادة.

و أمّا من العقل فلضرورة العقل على قبح إجراء المعجزة على يد الكذبة، و إقدار السحرة على خوارق العادة و كشف المغيبات، المبطل للمعجزات بإبداء الاحتمال المبطل للاستدلال.

قوله: «أو بتمزيج القوى السماويّة بالقوّة الأرضيّة، و هي الطلسمات».

أقول: تمزيج القوّتين بغير الآلات المعدّة له و الأسباب الخفيّة له محال.

و بها عبارة عن مثل اكتساب حرارة الشمس بالزجاجة المحرقة لما قابلها، و ضياء الشمس و القمر بالآلات المضيئة في الظلماء و نحوه، ممّا تداول عند الكفرة.

و على كلّ تقدير فلا ربط لها بالطلسمات، لأنّ الطلسمات تمزيج حروف مقطّعة عند شرف الشمس و نحوه، يدّعون أنّها الاسم الأعظم، كسائر الأكاذيب المجعولة في تأثير جلّ الختوم و الياسين المغربي و سائر الطلسمات و المربّعات و المركّبات.

قوله: «السابع تعليق القلب، و هو أن يدّعي الساحر أنّه يعرف علم الكيمياء و علم السيمياء و الاسم الأعظم حتى يميل إليه العوام، و ليس له أصل».

أقول: و ليت شعري إذا لم يكن لدعوى علوم الكيمياء و السيمياء و الاسم الأعظم أصل مع إمكانها العقلي بل العادي، فكيف بدعوى علم الغيب و تسخير الجنّ و الأرواح و الكواكب و الملائكة من المحالات العقليّة و النقليّة و العاديّة بالضرورة و الأدلّة الأربعة؟!

قوله: «و أمّا غير تلك الأربعة، فإن كان ممّا يضرّ بالنفس المحترمة فلا إشكال أيضا في حرمته».

أقول: فيه أنّه إن كان المدار في المسألة على الجمود بظواهر الفتاوى

ص: 146

و إطلاق النصوص (1) المحرّمة للسحر فمن البيّن أنّ مقتضاها عموم حرمة السحر ذاتا، و نفسا، كحرمة الظلم و الكذب و الخمر و اللواط و القمار، و عدم الفرق و التفصيل بين ما يصدق عليه السحر من جميع أفرادها و أقسامها المتقدّمة، سواء ضرّ بالمسحور أم لا، و سواء كان المسحور حيوانا أو إنسانا، و سواء كان جنّيا أو بشرا، و سواء كان فلكا أو ملكا، خصوصا الأقسام المنصوصة في مثل خبر الاحتجاج (2) و فتوى المجلسي (3) و نحوه. فلا وجه للتفصيل بين الأربعة و غيرها، و لا بين ما يضرّ و ما لا يضرّ.

و أمّا إن كان المدار فيها على تنقيح المناط القطعي الحاصل من مثل قوله تعالى وَ مٰا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبٰابِلَ هٰارُوتَ وَ مٰارُوتَ وَ مٰا يُعَلِّمٰانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّٰى يَقُولٰا إِنَّمٰا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلٰا تَكْفُرْ (4) الآية، و مثل قوله عليه السّلام للساحر: «حلّ و لا تعقد» (5)، من عدم كون حرمة السحر ذاتيّا نفسيّا، بل غيريّا مقدّميّا دائرا مدار ما يترتّب عليه من الضرر و الإضرار و الكفر و الاستكبار، كما هو المختار، فمن البيّن عدم حرمة شي ء من أقسامها بالذات أصلا و رأسا حتى الأقسام الأربعة، بل و حتى الاستخدام و استكشاف المغيبات على فرض إمكانه ما لم يضرّ أو يكفر، ضرورة أنّ الحرام النفسي ممّا يمتنع عقلا نزوله من وحي السماء و تعليمه من الملك و الأنبياء، كما نصّ به الآيات (6) و الإنباء (7)، بل خصّ إبداعه و تعليمه بالشياطين، كالخمر و اللواط و الشرك و الأصنام و سائر أصناف الحرام.


1- الوسائل 12: 105 ب «25» من أبواب ما يكتسب به.
2- تقدّم ذكر مصدره في هامش (3) ص: 144.
3- البحار 59: 277- 297.
4- البقرة: 102.
5- الوسائل 12: 105 ب «25» من أبواب و ما يكتسب به ح 1.
6- البقرة: 102، الأعراف: 116، يونس: 77، 81.
7- الوسائل 12: 105 ب «25» من أبواب ما يكتسب به.

ص: 147

و أيضا الحرام النفسي ممّا لا يجوز دفعه به، كما لا يجوز رفع الظلم بالظلم، و لا دفع الشتم بالشتم، و لا رفع الخمر بالخمر، و لا دفع القمار بالقمار، بخلاف السحر، فإنّه يجوز دفع السحر بالسحر، كما يجوز دفع السمّ بالسمّ. و هو أيضا ممّا يدلّ على عدم حرمته النفسيّة، كما هو مضمون الآيات و الروايات المسوّغة دفع السحر بالسحر. إلّا أن تحمل النصوص المسوّغة على حال الضرورة المبيحة للمحظورات، بسبب انحصار دفع السحر بالسحر دون غيره، أو على جوازه في الشريعة السابقة دون اللاحقة، كما احتملها المصنّف بدعوى الانصراف و الاستظهار، إلّا أنه تأمّل في المحمل الأخير.

بقوله: «و فيه نظر».

[أقول:] وجه النظر أنّ ثبوته في الشريعة السابقة كاف، لاستصحاب بقائه في اللاحقة ما لم يثبت الناسخ. و ليته تأمّل في المحمل الأوّل أيضا، بتقريب ما تقدّم من أنّه إن بني في النصوص (1) المحرّمة للسحر على ظهورها في الحرمة النفسيّة كفى به صارفا و معيّنا لحمل النصوص (2) المجوّزة على حال الضرورة، من غير حاجة إلى معيّن و مخصّص آخر في نفس النصوص المجوّزة. و إن بني في النصوص المحرّمة على المختار من عدم الحرمة النفسيّة فلا وجه لحمل النصوص المجوّزة على الضرورة أو الشريعة السابقة، لتوافق النصّين و عدم المعارضة في البين.

قوله: «و عمل السيمياء ملحق بالسحر اسما أو حكما».

أقول: فيه أن دخوله اسما واضح. و أمّا حكما فمبنيّ على حرمة اسم السحر نفسا، و أمّا على عدم تحريمه النفسي فلا وجه لإطلاق تحريم شي ء من أقسامها، حتى التسخير لدفع السحر، أو إذا كان المسخّر حربيّا أو مؤذيا.


1- الوسائل 12: 105 ب «25» من أبواب ما يكتسب به.
2- الوسائل 12: 105 ب «25» من أبواب ما يكتسب به.

ص: 148

قوله: «و المراد به- على ما قيل- إحداث خيالات لا وجود لها في الحسّ».

[أقول:] يعني: إحداث أسباب أو تركيب آلات و أدوية تصرف الخيال عن عدم الشي ء إلى وجوده، و تلبس الصورة بالحقيقة، كما سحروا الكليم به. كما أنّ الكيمياء أيضا تركيب أدوية لتلبيس صورة الفضّة و الذهب بحقيقته.

[المسألة الحادية عشرة الشعوذة فهو حرام بلا خلاف]

قوله: «و يدلّ على الحرمة بعد الإجماع- مضافا إلى أنّه من الباطل و اللهو- دخوله في السحر».

أقول: فيه أنّ دخوله في الباطل و اللهو و السحر لا يستلزم أصل الحرمة فضلا عن إطلاقها.

[المسألة الثانية عشرة الغشّ حرام بلا خلاف]

قوله: «الغشّ حرام بلا خلاف».

أقول: بل بالأدلّة الأربعة، لأنّه نوع من المكر و التلبيس و الظلم القبيح عقلا و نقلا، فمن الكتاب قوله تعالى الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمٰانَهُمْ بِظُلْمٍ (1) الآية.

قوله: «إلّا أن ينزّل [الحرمة- في موارد] الروايات الثلاث (2)- على ما إذا تعمّد الغشّ برجاء التلبيس على المشتري و عدم التفطّن له .. إلخ».

أقول: فيه أوّلا: منع إمكان التنزيل على التعمّد و القصد، لإباء الحكم العقليّ- و هو قبح الظلم- عن التخصيص.

و ثانيا: لو سلّمنا إمكان التخصيص فلا موجب له، و الأصل عدمه في المشكوك. و خروج ما لا يخفى من الغشّ لا يوجب خروج ما خفي بمسامحة المشتري، لأنّ العامّ المخصّص حجّة في الباقي، خصوصا و خروج ما لا يخفى


1- الأنعام: 82.
2- الوسائل 12: 208 و 220 ب «86 و 9» من أبواب ما يكتسب به ح 8 و 1 و 2.

ص: 149

منه إنّما هو بالتخصّص لا التخصيص و الخروج عن موضوع الغشّ، بخلاف ما خفي بمسامحة المشتري، فإنّه على تقدير خروجه إنّما يخرج عن حكم الحرمة، و هو تخصيص بلا مخصّص.

هذا كلّه، مع أنّ المشتقّ حقيقة في المتلبّس لا المنقضي و لا ما لم يتلبّس بعد. و من البيّن أنّ ما خفي من الغشّ، بمسامحة المشتري من الغشّ المخفيّ فعلا و غير المخفيّ شأنا، يعني: من شأنه أن لا يخفى على المشتري لو لم يتسامح في التفطّن به، و لكن قد خفي فعلا بمسامحته. و حينئذ كيف يلغى حكم الغشّ المخفيّ فعلا بواسطة عدم خفائه الشأني؟!

قوله: «فالعبرة في الحرمة بقصد تلبيس الأمر على المشتري».

أقول: فيه إمكان أن يقال: أمّا في موضوع التلبّس و تحقّق اللبس و الاشتباه فلا يعتبر القصد قطعا. و أمّا في حكمه بالحرمة فغاية ما اعتبره حديث الرفع (1) هو العلم و الاختيار، فيكون الخارج عن الحرمة هو صورة الجهل بالتلبيس أو الإكراه و الاضطرار، دون صورة عدم القصد بالتلبيس مع العلم بتحقّقه، بل و مع القصد به تبعا في ضمن قصد البيع أصالة لا محالة.

قوله: «و في التفصيل المذكور في رواية الحلبي (2) إشارة إلى هذا المعنى».

أقول: بل الأظهر كونه إشارة إلى التفصيل بين ما لا يغشّ به كخلط الماء في اللبن بقدر ما يصلحه مخيضا، و في العسل بقدر ما يصلحه و يصفّيه من الشمع، و في اللحم بقدر ما يصلحه مرقا، و منه خليط الذهب و الفضّة بقدر ما يصلحه للصياغة، و بين ما يغشّ به المسلمين كالقدر المفسد و الزائد على القدر المصلح،


1- الوسائل 11: 295 ب «56» من أبواب جهاد النفس و ما يناسبه ح 1.
2- الوسائل 12: 421 ب (9) من أبواب أحكام العيوب ح 3.

ص: 150

فإنّ القدر المصلح من أمثال ما ذكر خارج عن الغشّ اسما لا حكما حتى يكون تفصيلا بين المقصود به الغشّ و عدمه، كما لا يخفى على من راجع الرواية.

قوله: «و أنت خبير بأنّه ليس الأمر كذلك .. إلخ».

أقول: وجه الفرق بين مسألة شراء هذا الصحيح فإذا هو معيب، و مسألة الاقتداء بهذا الإمام الهاشمي فإذا هو غيره: بأنّ مسألة الاقتداء من موارد تعارض الاسم و الوصف، و أنّ الشبهة فيه موضوعيّة، باعتبار عروض الاشتباه للناوي في كون النيّة الأصليّة و المقصود الأصلي له بالذات هل هو شخص الإمام المشتبه اتّصافه بالهاشمي، أو وصفه المشتبه انطباقه على الشخص، بعد معلوميّة حكم كلّ من الفرضين، و انحصار الشبهة في الموضوع الصرف.

و أنّ مسألة شراء هذا الصحيح المنكشف كونه معيبا ليس من هذا الباب، بل وصف الصحّة ملحوظ فيه على وجه الشرطيّة لا الوصفيّة. و لو فرض على وجه الوصفيّة فالصحيح في المبيع هو المقصود الأصلي المتبوع للعقود، إذ المعيب المغاير للصحيح لا يكون مقصودا في البيع، بخلاف الوصف المغاير للاسم في الإمام قد يكون مقصودا بالأصالة في المأموم.

هذا، و لكن الفرق المذكور بين المسألتين ممنوع، فإنّ المعيب المغاير للصحيح لا يكون مقصودا في البيع مع العلم بالعيب. و أمّا مع الجهل به- كما هو المفروض- فقد يكون مقصودا بالذات و الأصالة، خصوصا إذا لم يخرجه العيب عن اسم المبيع و جنسه و إطلاقه المقصود بالبيع أصالة و بالذات، كمزج الأدنى في الأعلى، أو الماء في اللبن كما مثّل به الممثّل لمسألة الشراء بالاقتداء.

و يشهد على ما ذكرنا من عدم الفرق بين المثالين اشتراكهما في وجهين الصحّة و الفساد، بل الأقوى في بيع المعيب الصحّة، كما صرّح به المصنّف في آخر المسألة، مع أنّه لو كان الفارق كون الصحّة فيما نحن فيه ملحوظا على وجه

ص: 151

الشرطيّة أو مقصودا على وجه الأصالة لتعيّن فيه الفساد لا محالة، و لم يبق للصحّة فيه وجه فضلا عن كونه الأصحّ، أمّا على الأوّل فلمكان الشرطيّة، و أمّا على الثاني فلمكان التبعيّة.

و أمّا ما استشهد به على فساد بيع المعيب. بقوله: «و لذا اتّفقوا على بطلان الصرف فيما إذا تبيّن أحد العوضين معيبا من غير الجنس». فعلى تقدير تسليمه مفارق لما نحن فيه من المعيب بالجنس إلى المعيب بغيره الخارج المخرج عمّا نحن فيه.

[المسألة الثالثة عشرة الغناء لا خلاف في حرمته في الجملة]

قوله: «و قد يخدش في الاستدلال بهذه الروايات (1) بظهور الطائفة الاولى بل الثانية في أنّ الغناء من مقولة الكلام، لتفسير قول الزور به».

أقول: فيه أوّلا أنّ استظهار ذلك مبنيّ على دعوى ظهورين:

أحدهما: دعوى ظهور آية (2) قول الزور في القول الباطل، على أن يكون البطلان وصفا لنفس القول، كالكذب و السبّ و النميمة و البهتان و الغيبة، لا وصفا لكيفيّته، كالغناء و اللغو و اللهو.

و ثانيهما: دعوى ظهور الأخبار المفسّرة (3) له بالغناء في تخصيص حرمة القول الباطل الذي هو ظاهر الآية في خصوص المكيّف بكيفيّة الغناء الذي هو ظاهر الرواية.

و كلا الظهورين ممنوعان:

أمّا الأوّل: فلأنّ القول الموصوف بالبطلان و إن كان ظاهرا في الباطل نفسه لا بكيفيّته، إلّا أنّ المضاف إلى الباطل قد يعمّ الباطلين، إذ يكفي في النسبة أدنى ملابسة، فلا يختصّ وصف الزور بالباطل نفسه، خصوصا الوصف غير المعتمد


1- الوسائل 12: 225 ب «99» من أبواب ما يكتسب به ح 2 و 8 و 9 و 20 و 26.
2- الحج: 30.
3- تقدّم ذكر مصدره في هامش (1) من هذه الصفحة.

ص: 152

على موصوف و لا مضاف كالآية الثالثة (1)، إلّا أن تقدّر: لا يشهدون المشاهد الزور، و هو خلاف الأصل، بل و كالآية الثانية (2)، إلّا أن تقدّر: لهو الحديث بحديث اللهو، و هو خلاف الأصل أيضا. فلا وجه لتخصيصها بالباطل نفسه لا الباطل بكيفيّته.

و أمّا الثاني: فلأنّ ظهور تفسير القول الباطل بالغناء في التخصيص و التفسير بالأخصّ ليس بأولى من ظهوره في التفسير بالأعمّ، أعني: تفسير الباطل بنفسه في الأعمّ منه و من الباطل بكيفيّته، أو التفسير بالفرد الأخفى و هو الغناء من باطل الكيفيّة، ليدلّ بالفحوى و الأولويّة على الفرد الأجلى من الكذب و السبّ و الافتراء من الباطل بنفسه، بل هذا هو الأولى و المتعيّن لوجوه:

منها: أصالة عدم التخصيص فيما لو دار التفسير بين التخصيص و عدمه.

و منها: استلزام التخصيص المذكور لعدم حرمة الأقاويل الباطلة المنفكّة عن الغناء، كما استلزم عدم حرمة الغناء المنفكّ عن الأباطيل، و اللازم باطل فالملزوم مثله.

و منها: أنّ ظهور سائر الأخبار و الآية الثانية و الثالثة، و سائر الآيات كقوله تعالى وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَ إِذٰا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرٰاماً (4)، و ما ورد في تفسير قوله تعالى وَ مٰا خَلَقْنَا السَّمٰاءَ وَ الْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا لٰاعِبِينَ. لَوْ أَرَدْنٰا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْنٰاهُ مِنْ لَدُنّٰا (5) الآية، و تفسير


1- الفرقان: 72.
2- لقمان: 6.
3- المؤمنون: 3.
4- الفرقان: 72.
5- الوسائل 12: 228 ب «99» من أبواب ما يكتسب به ح 15، و الآية، الأنبياء: 16، 17.

ص: 153

قوله تعالى السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤٰادَ كُلُّ أُولٰئِكَ كٰانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا (1)، و نصوص (2) حرمة ثمن الجارية المغنّية، أظهر و أكثر و أصحّ و أصرح من الآية الاولى في الدلالة على حرمة مطلق الغناء، فلتحمل الاولى عليها، حملا للظاهر على الأظهر، و كون الأخبار كالقرآن يفسّر بعضه بعضا.

و منها: أنّ الأبلغ في الكلام، و الأغلب بتفسير الإمام عليه السّلام، و الأوفق بما ورد (3) في المقام من أنّ القرآن ذو وجوه و بطون، و إنما يفهم القرآن من خوطب به، إنّما هو عدم حمل تفسير قول الزور بالغناء على التفسير بالأخصّ، بل حمله على التفسير بالأعمّ أو بالفرد الخفيّ و الأخفى، لأنّه محلّ الحاجة و البلوى.

قوله: «فالمحرّم هو ما كان من لحون أهل الفسق و المعاصي .. إلخ».

أقول: فيه أوّلا: أنّه و إن ورد: «أقروا القرآن بألحان العرب و أصواتها، و إيّاكم و لحون أهل الفسق و الكبائر، فإنّه سيجي ء بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء و النوح و الرهبانيّة ..» الخبر (4)، ألّا أنّ لحون أهل الفسوق مجمل المراد غير مضبوط المفاد من حيث الكمّ و الكيف، فلا يحمل عليها ما هو أبين و أظهر و أكثر و أجلى و أصحّ و أصرح من نصوص الغناء، إذ كما يحتمله يحتمل السرعة في قراءة القرآن أو تفريق كلماته، كما ورد: لا تهذّه هذّ الشعر، و لا تنثره نثر الرمل، و لا على وجه القساوة و لا الغفلة، بل أقروه بالحزن و الرقّة و البكاء و التباكي و تحسين الصوت و حضور القلب و الترتيل و الوجل، إلى غير ذلك ممّا هو أعمّ من الغناء مطلقا أو من وجه.


1- الوسائل 12: 231 ب «99» من أبواب ما يكتسب به ح 29، و الآية، الأسراء: 36.
2- الوسائل 12: 86 ب «16» من أبواب ما يكتسب به ح 6.
3- لم نجده بهذا اللفظ و وجدناه بألفاظ اخرى، انظر البحار 92: 78 ب (8).
4- الوسائل 4: 858 ب «24» من أبواب قراءة القرآن ح 1.

ص: 154

و ثانيا: لو سلّمنا المدار عليه فالنهي إنّما هو عن إعماله في خصوص قراءة القرآن لا مطلقا، كما هو المدّعى.

و ثالثا: لو سلّمنا إطلاق النهي عنه، لكن مقتضى القاعدة ملاحظة النسبة بينه و بين سائر نصوص النهي عن الغناء، و الرجوع إلى حمل المطلق منهما على المقيّد و العامّ على الخاصّ، دون العكس و هو التعدّي عن الغناء لو كان أخصّ إلى مطلق الصوت اللهوي. إلّا أن يوجّه بإرجاع النزاع إلى تعارض اللغات، الراجع فيه إلى تقديم المثبت على النافي، أي: العامّ على الخاصّ. و لكن ينافيه الرجوع في تعارض كونه مطلق الترجيع أو الخاصّ بالمطرب إلى ترجيح الخاصّ بالطرب على مطلق الترجيع.

إلّا أن يوجّه تقديم المثبت على النافي هناك، بدعوى رجوع النافي فيه إلى أنّه لا أدري الإثبات الراجع إلى الدراية، و تقديم النافي هنا بدعوى رجوعه إلى الاطّلاع على خطأ المثبت، و استناد إثباته إلى مجرّد الاستعمال الأعمّ من الحقيقة، أو الاقتصار فيما خالف الأصل على المتيقّن، و الرجوع فيما عداه من الشبهة الحكميّة التحريميّة إلى أصالة الإباحة.

و لكن الفارق بين النفيين غير بيّن، و لا مبيّن في البين، بل البيّن و المبيّن بحسب القواعد رجوع التعارض على تقديره في الأوّل إلى تعارض النصّين، المحكوم فيه بتحكيم الخاصّ على العامّ، و في الثاني إلى تعارض قول اللغويّين المحكوم فيه بالعكس، و هو تحكيم العامّ على الخاصّ.

فتلخّص ممّا ذكرنا: أنّ مقتضى القواعد و رعاية البلاغة و الحكم و المصالح المقتضية لتفسيره عليه السّلام جميع آيات الزور و اللهو و اللغو و اللعب بالغناء (1) لا غير، إنّما هو جعل المدار في المحرّم من تعارض نصّي الغناء و غيره على الغناء وجودا


1- الوسائل 12: 225 ب «99» من أبواب ما يكتسب به.

ص: 155

و عدما عموما و خصوصا بلغ ما بلغ، و رفع اليد عمّا سواه من الصوت اللهوي و لحون أهل الفسوق، دون العكس كما لا يخفى. و من تعارض قولي اللغوي في كونه الترجيع أو خصوص المطرب إنّما هو على تقديم المثبت و هو مطلق الترجيع على النافي و هو خصوص المطرب، و يوافقه الاحتياط في الشبهة التحريميّة أيضا.

قوله: «و توجيه كلامهم بإرادة ما يقتضي الطرب و يعرض له بحسب وضع نوع ذلك الترجيع و إن لم يطرب شخصه لمانع».

أقول: الفرق بين هذا التوجيه الإطراب بالمقتضي نوعه و إن لم يطرب شخصه لمانع، و بين ما ادّعاه الشهيد الثاني (1) و غيره من تعميم الإطراب لما من شأنه الإطراب لو لم يمنع منه مانع، مع كون الإطراب في كليهما شأنيّا مقدّرا فعليّته على عدم وجود المانع: أنّ المقتضي للإطراب في التعميم شأنيّ بحسب شخصه، و في التوجيه فعليّ بحسب نوعه. و المانع في التعميم مانع من أصل اقتضاء الترجيع الطرب كالبكم، و في التوجيه مانع من بروزه و ظهوره لا من اقتضائه كالصمّ. نظير مانعيّة صفاء الماء من تغيّره بمقدار من الدم بحيث لو لا صفاؤه لتغيّر فعلا، و مانعيّة صبغه بلون الحمرة من بروز تغيّره التقديريّ الفعلي بحيث لولاه لبرز و ظهر تغيّره، حيث يعدّ وصف التغيّر في الأوّل شأنيّا و في الثاني فعليّا، مع عدم ظهوره الفعلي في الفرضين.

و كذلك مانعيّة غلظة الصوت من إطرابه تارة يكون مانعا من أصل اقتضائه، كما لو كان الترجيع في الخفّة بحيث لا يقتضي بنفسه الإطراب الفعلي إلّا مع انضمام حسن الصوت و عدم غلظته، و تارة يكون مانعا من بروز إطرابه و ظهوره، كما لو كان الترجيع في الشدّة بحيث يقتضي بنفسه الإطراب الفعلي من غير


1- مسالك الافهام 3: 126.

ص: 156

انضمام حسن الصوت، إلّا أنّ غلظة الصوت مانع من بروزه و ظهوره. فيعدّ إطرابه في الأوّل شأنيّا لا فعليّا، و في الثاني فعليّا لا شأنيّا. و المانع في الأوّل من أصل الإطراب، و في الثاني من بروزه و ظهوره لا اقتضائه.

قوله: «لعدم الدليل على حرمة الغناء إلّا من حيث كونه باطلا و لهوا و لغوا و زورا».

أقول: بل الأمر بالعكس، أعني: لا دليل على إطلاق حرمة الباطل و اللهو و اللغو و اللعب و الزور إلّا من حيث كونه غناء، بعد تفسير من لا ينطق عن الهوى من أئمّة الهدى (1) جميع الأصوات الباطلة من اللهو و اللغو و اللعب و الزور بالغناء قولا واحدا، إذ لو كان لها ضابط أضبط و لفظ أبين و معنى أبلغ و أجمع من لفظ الغناء لفسّرها به لا بالغناء، و لو كان للتفسير بالغناء في عرف الشارع إجمال أو احتمال ممّا طرأ في عرفنا المتأخّر لوقع السؤال و الاستفصال عنه للمشافهين به عن الإمام عليه السّلام، و إذ ليس فليس، و لو كان لبان.

و أمّا ما ذكره من حرمة سائر أقسام اللهو بالآلة كالأوتار، و بالصوت و الآلة كالقصب و المزمار، فليس لمحض إطلاق اللهو حتى يتمسّك به على حرمة الصوت اللهويّ أيضا، بل إنّما هو بالنصّ الخاصّ الذي لا يقاس.

لا يقال: لو كان الغناء و أبين و أبلغ من اللهو فما حكمة عدم تنصيص القرآن به؟

لأنّا نقول: لعلّ حكمته أنّ شأن السلطان الإجمال في البيان، و حوالة البيان إلى وسائط الترجمان، و كثرة الأعوان و مصالح الاقتران، المشار إليه بقوله صلى اللّٰه عليه و آله:

«إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّٰه و عترتي» (2) لئلّا يستغنوا عن مسألة الأوصياء، و يقولوا ما قال القائل: كفانا كتاب اللّٰه!!


1- الوسائل 12: 225 ب «99» من أبواب ما يكتسب به.
2- الوسائل 18: 19 ب (5) من أبواب صفات القاضي ح 9.

ص: 157

و أمّا حكمه الرجوع بعد هذا البيان إلى الإجمال و الكتمان و الحرمان و الخسران، فلعلّ حكمته شدّة الافتتان و الامتحان في أبناء الزمان بهجر القرآن و الأقران من خلفاء الرحمن، و الانهماك في العصيان و سخف الورع و الإيمان، و ملاهي الچائيّ و القليان، و اتّباع الهوى و الأوثان، و كفرة يونان.

قوله: «ثمّ إنّ اللهو يتحقّق بأمرين، أحدهما: قصد التلهّي و إن لم يكن لهوا، و الثاني: كونه لهوا في نفسه».

أقول: إن اعتبر ظاهر إطلاق مناهي اللهو و اللغو- كقوله تعالى وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (1) لٰا تُلْهِكُمْ أَمْوٰالُكُمْ (2) الآية، و قوله عليه السّلام في جواب الصيد اللهو: «ما للمؤمن و الملاهي، إن المؤمن لفي شغل شاغل» (3)- فمن البيّن أن ظاهر إطلاقها هو تحقّق اللهو بكلّ واحد من الأمرين لا بمجموع الأمرين، نظرا إلى أنّ ما كان لهوا في نفسه فلا مدخليّة للقصد في تحقّقه عرفا، و ما لم يكن لهوا في نفسه كان القصد محقّقا له من دون الانضمام إلى الآخر، لأصالة عدم التخصيص. و أمّا خروج بعض التلهيّات كاللعب باللحية و السبحة- على تقديره و تقدير كونه من باب التخصيص لا التخصّص- فلا يوجب خروج الباقي، لأنّ العامّ المخصّص حجّة في الباقي.

و إن لم يعتبر ظاهرها، بأن حملت على الكراهة أو فسّرت بالغناء، فلا وجه لحرمة اللهو و لو جمع الأمرين.

قوله: «الجمع بين هذه الأخبار يمكن بوجهين».

أقول: الفرق بين الوجهين: أنّ الأول تفصيل في حرمة الغناء من حيث موارده، أعني: في مورد قراءة القرآن لا في غيره، كالتفصيل بالعكس، و التفصيل


1- المؤمنون: 3.
2- المنافقون: 9.
3- مستدرك الوسائل 13: 216 ب «79» من أبواب ما يكتسب به ح 4.

ص: 158

بين الأعراس و غيره. و الثاني: تفصيل في حرمة الغناء من حيث نفسه، أعني:

الحرمة الغيريّة في نفسه و النفسيّة في غيره، و هو جوازه في نفسه و حرمته لغيره من المقارنات الخارجة.

كما أنّ الفرق بين هذين الوجهين و مختار المصنّف من حرمة الصوت اللهوي دون مطلق الغناء: أنّ مختاره تفصيل في حرمة الغناء من حيث أفراده، كالتفصيل بين المطرب و غيره.

كما أنّ الأظهر الأشهر حرمته مطلقا من حيث نفسه، و من حيث أفراده المطربة و غيرها، و من حيث موارده في القرآن و غيره، و في الأعراس و غيرها، و في الحروب و غيرها، حتى الهلهلة في الأعراس، كالتصفيق و الرقص و دقّ الإصبعين. و كذلك الهوسة لتشييد الحروب الخاصّ بالعرب، كاختصاص المزيقة (1) و الطبل بحروب الكفرة و الإعلام بالوقت و غيره. و منه الطبل المعمول للإعلام على سطح صحن الرضا عليه السّلام من أعظم منكرات بدع الإسلام. و كذلك الترادف و التجاوب في اللطميّات بجميع أنحائها من الغناء المهيّج للطرب، و أنحاء ما يسمّيه الفرس بآوازه خوانى، من السرود (2) و التصنيف و الشلوى (3) و هفت بند و ذاكري. و كذلك ما يتغنّى به النسوان لملاعبة الصبيان و مناومة اليقظان. و كذلك تهليلات العامّة بهيئة الاجتماع و الاختراع، و سائر مبتدعات الصوفيّة في كيفيّة الذكر و التصدية و الدعاء من التطريب المبتدع.

قوله: «و النسبة بين الموضوعين عموم من وجه .. إلخ».

أقول: أمّا توجيه النسبة فبفرض مادّة الاجتماع في الغناء المقرون بالأباطيل و قراءة القرآن، و افتراق حرمة الغناء عن تحسين القراءة في الغناء


1- و هي الموسيقى.
2- كلمة فارسيّة بمعنى النشيد.
3- كلمة فارسية بمعنى التغنّي.

ص: 159

المقرون بالباطل، و العكس في الترجيع الراجع إلى التجويد في القراءة لا الغناء.

هذا، و لكن توجيه العموم و الجمع بينهما بذلك غير وجيه:

أمّا أوّلا: فلمنع كون التعارض بينهما عموما من وجه، بل هو من قبيل التباين الكلّي فإنّ تحسين الصوت و ترجيعه و تزيينه، بقرينة الإضافة إلى القراءة، و شاهد الحال القطعي من قراءة الأنبياء و الأئمّة و الصلحاء و العلماء و القرّاء السبعة و غيرهم خلفا عن سلف، هو خصوص الترتيل المأمور به من حفظ الوقوف و أداء الحروف، و ما يرجع إليه من المدّ و التفخيم و الترقيق، و سائر ما يرجع إلى محسّنات القراءة و علم التجويد. و لا ريب أنّه مبائن للغناء مباينة الضحك للبكاء و النكاح للزنا و البيع للربا، خصوصا على اعتبار الطرب في الغناء، فإنّ كلّا من الموضوعين و إن اشتركا في السنخيّة و الغاية إلّا أنّهما كالمتضادّين لا يجتمعان، كالملح في الطعام حيث إنّ المقدار المصلح منه للطعام يضادّ المقدار الزائد المفسد له في الاسم، فلا يجتمعان في الإرادة، و لا يعمّ أحدهما الآخر في الدلالة.

و أمّا ثانيا: فلو سلّمنا عدم الضدّية و البينونة بين الموضوعين و كون النسبة عموما من وجه في البين، إلّا أنّ هذا النحو من العموم في حكم المعدوم و التباين المعلوم عند أرباب العلوم، لوجوده في كلّ سحت و حرام، حتى اللواط بالغلام بالنسبة إلى أدلّة الإحسان و الإكرام، و إدخال السرور في قلب الأيتام، و حتى الزنا و السرقة بالنسبة إلى استحباب الصدقة، و حتى بذل ثمن الخمر و العذرة بالنسبة إلى أدلّة الحجّ و العمرة. و يشهد على ذلك قوله عليه السّلام: «لا يطاع اللّٰه من حيث يعصى» (1) و «لا طاعة لمخلوق في سخط الخالق» (2). و كتابه عليه السّلام إلى معاوية:

سمعتك تبني مسجدا من جباية و أنت بحمد اللّٰه غير موفّق


1- انظر مجمع البحرين 4: 372.
2- نهج البلاغة: 500 رقم 165.

ص: 160

كمطعمة الرمّان ممّا زنت به جرت مثلا للخائن المتصدّق

فقال لها أهل البصيرة و التقى ويل لك لا تزني و لا تتصدّق

(1) و أمّا ثالثا: فلو سلّمنا تعارض العموم من وجه بين الموضوعين و عدم المرجّحات الداخليّة الدلالتيّة في البين، إلّا أنّ المرجّحات الخارجيّة السنديّة من العقل و النقل و الأصحّية و الأصرحيّة و الأشهريّة، خصوصا مخالفة العامّة من المرجّحات المنصوصة من جميع الوجوه، في طرف عموم (2) حرمة الغناء دون جوازه أصلا و رأسا، لأن جوازه و لو في بعض الأفراد و الموارد من الشواذّ النادرة الضعيفة سندا و دلالة و موافقة لفتوى العامّة (3) و عملهم و ديدن ملوكهم و سلاطينهم و أهل طريقتهم و تصوّفهم، المأخوذة من ديدن الكفرة و كتبهم المحرّفة، كما في مزامير أهل الذمّة: «هلّلوني سبّحوني برقص و عود و مزمار، فإنّ اللّٰه يحبّ شعبه».

و لو لم يكن إلّا الإجماع العملي و السيرة القطعيّة من العلماء الإماميّة و الحكماء الربّانيّة و الصلحاء الدينيّة على استقباح الغناء و استنكاره لكفى به مرجّحا لعموم الحرمة، و كاشفا قطعيّا عن رأي المعصوم.

و أمّا رابعا: فلو لم يكن مرجّح إلّا قوله صلى اللّٰه عليه و آله في خطبة الوداع: «معاشر الناس ما من شي ء يقرّبكم إلى الطاعة و يبعّدكم عن المعصية إلّا و قد أمرتكم به، و ما من شي ء يقرّبكم إلى المعصية و يبعّدكم عن الطاعة إلّا و قد نهيتكم عنه» (4) لكفى به مرجّحا، لعموم (5) حرمة الغناء، خصوصا المطرب منه، حيث إنّه بديهيّ التقريب إلى معصية اللهو و اللغو و التبعيد عن طاعة الذكر و الشكر.


1- البحار 34: 430.
2- تقدّم ذكر مصادره في هامش (1) ص: 151.
3- المجموع 12: 322.
4- الكافي 2: 74 ح 2.
5- تقدّم ذكر مصادره في هامش (1) ص: 151.

ص: 161

و أمّا خامسا: فلو سلّمنا التعارض و انتفاء المرجّحات من جميع الجهات فلا نسلّم التساقط و الرجوع إلى البراءة و الإباحة، بل الأشهر تقديم الناقل، و إلّا ففي التخيير و الإباحة أو التوقّف و الاحتياط وجوه و أقوال.

قوله: «و الظاهر أنّ شيئا منها لا يوجد بدون الغناء على ما استفيد من كلام أهل اللغة».

أقول: فيه ما عرفت من مصادمة هذا الاستظهار لبداهة البينونة و الضدّيّة عرفا بين الغناء و ما يرجع إلى علم التجويد و الترتيل في القراءة، و أنّه لا يطلق الغناء على أحد القراء فضلا عن الأنبياء، بل نسبة الغناء إليهم عرفا كنسبة الزنا قبحا، و أنّ تفسير الغناء عن بعض اللغويّين (1) بمدّ الصوت و ترديده و تزيينه أو تحسينه أو ترقيقه أو ترجيعه إنّما هو تعريف لفظيّ، و هو تبديل لفظ بلفظ أعمّ أشهر، مثل قولهم: السعدانة نبت، لا تعريف معنويّ حتى يعمّ النباتات المباينة له.

قوله: «قد يكون للرجل الجارية تلهيه، و ما ثمنها إلّا ثمن الكلب (2).

فتأمّل».

[أقول:] لعلّه إشارة إلى ضعف ما ذكره من صراحة تلهّيه في حرمة مطلق الغناء، لاحتمال الانصراف إلى اللهو بالآلة أو بالباطل، كما هو المعهود المتعارف في زمان صدور الرواية.

أو إلى ضعف ما ذكره سابقا من عدم ظهور شي ء من الروايات في شي ء من جواز الغناء، بأنّ ظاهر «لا بأس بالغناء إذا لم يعص به» كما في الأولى (3)، أو «ما لم يزمر به» كما في الثانية (4)، أو «ما لم يدخل عليها الرجال» كما في


1- المصباح المنير: 455، النهاية لابن الأثير 3: 319، الصحاح 1: 171- 172.
2- تقدّم ذكر مصدره في هامش (2) ص: 153.
3- الوسائل 12: 85 ب «15» من أبواب ما يكتسب به ح 5.
4- مسائل علي بن جعفر: 156 ح 219.

ص: 162

الأخيرتين (1)، هو جوازه في نفسه ما لم يقترن بالأباطيل و المزمار و دخول الرجال، لا أنّه مجرّد إشعار في خصوص الأخيرة حتى يصحّ رفع اليد عنه لأجل إطلاقات الحرمة.

فالإنصاف في الجواب تسليم ظهور تلك الأخبار في المعارضة لنصوص الحرمة النفسيّة، إلّا أنّ الترجيح مع ذلك لنصوص الحرمة دلالة و سندا. و اعتضادا من جهات عديدة.

أمّا ترجيحها دلالة، فلوضوح أظهريّتها و أصرحيّتها في عموم حرمة الغناء من ظهور المعارض في جوازه.

و أمّا سندا، فلأكثريّتها منها جدّا، حتّى صرّح المصنّف و غيره بتواترها، دون معارضها. و كذا أصحّيتها و أشهريّتها على وجه يعدّ معارضها من الشاذّ النادر المطروح.

و كذا أبعديّتها من التقيّة و موافقة العامّة، المعلّل بكون الرشد في خلافهم (2)، خصوصا بقرينة السؤال في المعارض عن الغناء في العيدين أو عن كسب المغنّية في الأعراس الخاصّة بدأب العامّة لا غير.

و أمّا اعتضادا، فلاعتضاد نصوص (3) الحرمة بالكتاب و السنّة المتواترة، و بالسيرة القطعيّة من العلماء، و الصلحاء خلفا عن سلف إلى أن ينتهي إلى عصمة الأنبياء و الأوصياء، و بأصالة تقديم الناقل، و ما يقتضيه الحكم العقليّة و المصالح الشرعيّة و السياسات المدنيّة من تأسيس القواعد على وجه الكلّية، و حسم مادّة الفساد على وجه الاطّراد، كما في تشريع العدد و الحداد، و قوله صلى اللّٰه عليه و آله في خطبة الوداع: «معاشر الناس ما من شي ء يقرّبكم إلى المعصية و يبعّدكم عن الطاعة إلّا


1- الوسائل 12: 84 و 85 ب «15» من أبواب ما يكتسب به ح 1 و 3.
2- الوسائل 18: 80 ب (9) من أبواب صفات القاضي ح 19.
3- تقدّم ذكر مصادره في هامش (4) ص: 160.

ص: 163

و قد نهيتكم عنه» (1) الحديث.

هذا كلّه، مضافا إلى معارضة تلك النصوص المجوّزة لما في الوسائل (2) و المستند (3) ممّا هو أصحّ سندا و أصرح دلالة، من النصوص المحرّمة للغناء و كسبه أو لشراء المغنّيات و بيعهنّ، كقوله: «المغنّية ملعونة ملعون من أكل كسبها» (4)، و مرسلة الفقيه: «أجر المغنّي و المغنية سحت» (5) إلى غير ذلك.

قوله: «يرجّعون القرآن ترجيع الغناء و النوح و الرهبانيّة» (6).

[أقول:] أي: الرهبانيّة التي ابتدعوها الصوفيّة.

قوله: «لا يجوز تراقيهم» (7).

[أقول:] أي: لا يتجاوز ترجيعهم القرآن التراقي، جمع ترقوة: العظام المحيطة بالصدر المركّب عليها الرقبة، كناية عن فساد قراءتهم و عدم قبوله و صعوده إلى السماء، كما قال تعالى وَ الْعَمَلُ الصّٰالِحُ يَرْفَعُهُ (8). و هو أبلغ معنى من جعله المصنّف إشارة إلى أنّ مقصودهم عدم تدبّر معاني القرآن.

قوله: «و من المعلوم أنّ مجرّد ذلك لا يكون غناء إذا لم يكن على سبيل اللهو».

أقول: هذا إنّما يتمّ على القول بجعل الغناء الصوت اللهوي أو المطرب، و أمّا على تقدير القول بأنّه مطلق الترجيع فرفع المنافاة بين الترجيعين إنّما يكون بجعل الترجيع المحبوب في القرآن هو المقدار المصلح للقراءة، الراجع إلى علم


1- تقدّم ذكر مصدره في هامش (4) ص: 160.
2- انظر الوسائل 12: 86 ب «16» من أبواب ما يكتسب به.
3- انظر مستند الشيعة 2: 341.
4- الوسائل 12: 103 ب «24» من أبواب ما يكتسب به ح 7.
5- الفقيه 3: 105 ح 436.
6- تقدّم ذكر مصدره في هامش (4) ص: 153.
7- تقدّم ذكر مصدره في هامش (4) ص: 153.
8- الفاطر: 10.

ص: 164

التجويد و الترتيل، كالمدّ في محلّه، دون المقدار المفسد له، كالمدّ في غير محلّه، فالمقصود من ترجيعه أن لا يقرأ بغير محسّنات علم القراءة.

قوله: «و إلّا فيحكم بإباحته للأصل».

[أقول:] أي: لا بكونه مقدّمة لغير حرام، كما يظهر من قوله: «و على أيّ حال فلا يجوز التمسّك في الإباحة بكونه مقدّمة لغير حرام».

و فيه أوّلا: أنّه إذا فرض عدم عموم حرمة الغناء للغناء الموجب للبكاء المستحبّ شمله إطلاق دليل استحبابه قطعا، فلا مجرى لأصالة إباحته، لأنّه دليل حيث [لا] دليل، و الإطلاق أقوى دليل.

و ثانيا: لو سلّمنا عدم شمول إطلاق المستحبّ له، أو عدم سلامته من المعارض، فلا مجرى أيضا لأصالة الإباحة فيما هو من مقولة العبادات المتوقّفة على التوقيف و التلقي من الشارع كما و كيفا، فإنّه و إن لم يعمه دليل الحرمة إلّا أنّ الحرمة التشريعيّة المستلزمة للفرية على اللّٰه فيما لم يأذن به اللّٰه بمضمون آللّٰهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّٰهِ تَفْتَرُونَ (1)، اللازمة من التعبّد بعباديّة البكاء في ضمن الغناء، كاف أيضا في حرمته، فلا مجرى أيضا لأصالة إباحته.

و ثالثا: لو سلّمنا إباحته بأيّ وجه و لو بالأصل لتمّ استدلال المستدلّ على إباحته و نفي حرمته بإعانته على البكاء، و لم يبق للتفريع على إباحته بالأصل وجه، لمنع الاستدلال بقوله: «فلا يجوز التمسّك في الإباحة بكونه مقدّمة لغير حرام».

قوله: «فلا دليل على تحريمه لو فرض شمول الغناء له، لأنّ مطلقات الغناء منزّلة على ما دلّ على إناطة الحكم فيه باللهو و الباطل من الأخبار المتقدّمة، خصوصا مع انصرافها في أنفسها- كأخبار المغنّية- إلى هذا الفرد».


1- يونس: 59.

ص: 165

أقول: فيه ما عرفت من عموم (1) أدلّة تحريم الغناء و عدم المخصّص و المنزّل و الصارف لها بوجه من الوجوه. مضافا إلى أصالة عدمها.

و دعوى المصنّف دلالة الأخبار المتقدّمة على إناطة الحكم باللهو و الباطل، فقد عرفت ما فيه أولا: من كون الأمر بالعكس، و هو إناطة الحكم فيها بالغناء لا غير.

و ثانيا: سلّمنا، لكن لا نسلّم كون اللهو و الباطل غير الغناء عرفا، بل هو هو، خصوصا بعد تفسيره بالغناء و تفسير الغناء بمطلق الترجيع.

و ثالثا: سلّمنا المغايرة بينهما و إناطة الحكم بخصوص اللهو و الباطل دون مطلق الغناء، لكن لا نسلّم كونه من قبيل العلّة المنصوصة، بل هو من قبيل العلّة المستنبطة التي ليست بحجّة، خصوصا فيما هو كالاجتهاد في مقابل النصّ.

قوله: «فلم أجد ما يصلح لاستثنائه .. إلخ».

أقول: ما يصلح لاستثنائه وجوه:

منها: خروجه عن موضوع الغناء و اسمه من قبيل التخصّص و الاستثناء المنقطع، لا التخصيص و الاستثناء المتّصل، و ذلك لاعتبار الطرب- و هو خفّة العقل- في موضوعه فعلا أو شأنا، و لا عقل للحيوانات رأسا فضلا عن خفّته.

و سوقها بالحداء إنّما هو بتخويفها أو تشويقها على السري لا لإطراب الغناء.

و منها: السيرة المستمرّة خلفا عن سلف على سوق الإبل بالحداء من غير نكير.

و منها: تقرير النبيّ به لعبد اللّٰه بن رواحة، بل أمره به، على ما حكاه الجواهر (2) و كاشف اللثام (3). و ما في المتن من ضعف سنده أو دلالته مجبور


1- تقدّم ذكر مصادره في هامش (1) ص: 151.
2- جواهر الكلام 22: 50.
3- كشف اللثام 2: 373.

ص: 166

بالشهرة و السيرة.

قوله: «و العمل بها تبعا للأكثر غير بعيد».

أقول: قد عرفت ما فيها سندا و دلالة و معارضة، و أنّها لا تقاوم عموم (1) النصوص المحرّمة للغناء من جهات عديدة، من جهة الأصحيّة و الأصرحيّة و الأشهريّة، و الأبعديّة عن العامّة و التقيّة عملا و فتوى، و الأوفقيّة بكتاب اللّٰه و السنّة المتواترة و السيرة القطعيّة، بل للمصالح و الحكم العقليّة، حسب ما تقدّم.

مضافا إلى معارضتها في نفسها بما سيأتي من الوسائل و المستند في ضمن أبواب البيع من النصوص المحرّمة للغناء و كسبه و شراء المغنّيات و بيعها و ثمنها، إذ لو كان لها جهة إباحة لم يحرم بيعها و لا شراؤها و لا ثمنها مطلقا.

بل ليست أخبار جواز الغناء في الأعراس (2) إلّا كأخبار جواز الدفّ فيها و في الختان، المأخوذة عن العامّة عنه صلى اللّٰه عليه و آله: «أعلنوا بالنكاح، و اضربوا بالغربال» (3)، يعني: الدفّ. و عنه صلى اللّٰه عليه و آله: «الفصل بين الحلال و الحرام الضرب بالدفّ عند النكاح» (4). و ما عن صحيح البخاري عن أبي هريرة عنه صلى اللّٰه عليه و آله: «اختتن إبراهيم عليه السّلام بعد ثمانين سنة بقدوم على دفّ» (5)، و القدوم آلة ينحت بها النجّار.

و في المجمع (6) تفسير الدفّ فيه بالجنب.

و هي مع معارضتها بأخبار الطعن و التكذيب، و معلوميّة الجعل و الفرية على النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله من وجوه لا تخفى، مأخوذة من كتب محرّفة اليهود و النصارى، كما في


1- تقدّم ذكر مصادره في هامش (1) ص: 151.
2- الوسائل 12: 84 ب «15» من أبواب ما يكتسب به.
3- نصب الراية لأحاديث الهداية 3: 168.
4- سنن ابن ماجة 1: 611 ح 1896.
5- صحيح البخاري 4: 170، و ليس فيه على الدفّ.
6- مجمع البحرين 5: 59.

ص: 167

مزاميرهم: «هلّلوني سبّحوني برقص و عود و مزمار»، كما في إنجيلها: «يا عيسى لا تكثرنّ شرب الماء، و اصنع خمرا، فإنّه أصلح لمعدتك». إلى غير ذلك من القبائح و الفواحش و الفضائح غير المعدودة، المنسوبة فيها إلى أنبيائهم و الملائكة، بل و إلى ربّهم، تعالى اللّٰه و خلفاؤه عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

[المسألة الرابعة عشرة الغيبة حرام]

قوله: «نعم، لو أرجعت الكراهة إلى الوصف الذي يسند إلى الإنسان تعيّن إرادة كراهة ظهورها، فيختصّ بالقسم الأوّل».

أقول: فيه منع تعيين إرادة كراهة ظهورها و تخصيصها بالقسم الأوّل برجوع الكراهة إلى الوصف، لأنّ كراهة الوصف خصوصا العاهات لا العادات- كالجذام و البرص و العمى و العور و الحول و الجنون و السفه و الجهل و الفقر- كما قد يكون باعتبار ظهور ما خفي منها، كذلك قد يكون باعتبار إظهار ما لم يخف منها، و باعتبار نفس وجودها، و باعتبار الإسناد إليها و التعيير بها دون وجودها و ظهورها، فكراهة الوصف غير معيّنة لإرادة ظهور ما هو مستور، بل المعيّن له و المخصّص به لو كان فإنّما هو الأخبار المعيّنة للغناء يكشف المستور لا الظاهر و الظهور.

قوله: «وافق الأخبار».

[أقول:] أي: أخبار (1) اعتبار كشف المستور في الغيبة.

أقول: و هو الأوفق بوظيفة تفسير اللغوي- كالصحاح (2)- لموضوع الغيبة، بخلاف تفسير المستور بمعنى غير المتجاهر، فإنّه تفصيل في حكم الغيبة لا موضوعه، خاصّ بوظيفة الفقيه لا اللغوي.

قوله: «لكن المثبت لكون الغيبة حقّا بمعنى وجوب البراءة منه ليس إلّا


1- الوسائل 8: 602 و 604 ب «152 و 154» من أبواب أحكام العشرة.
2- الصحاح 1: 196.

ص: 168

الأخبار غير النقيّة».

أقول: بل لا إشكال في اعتبارها سندا و دلالة و اعتضادا. أمّا سندا فلاستفاضة سند كلّ من أخبار حقّيته و كفاية الاستغفار في مبرئيّته، خصوصا أخبار حقّيته، خصوصا مستندة خبر الكراجكي (1) و فقرأت الصحيفة السجّاديّة (2) منها، بل لا يبعد تواترها، إذ قد عمل بها من لم يعمل بأخبار الآحاد كالسرائر (3).

و أمّا أخبار مبرئيّته بالاستغفار فهي و إن لم تكن بتلك المثابة في الاعتبار و الاستفاضة، إلّا أنّها لا تخلو عن الاعتبار، خصوصا السكونيّين (4)، فإن السكونيّ و إن ضعّف بتهمة العاميّة إلّا أنّه لا أصل لها، و قضاوته محمولة على الصحّة أو التقيّة.

و أمّا دلالة مبرئيّة الاستغفار للغيبة فلظهور إطلاق الأخبار و سياقها في المبرئيّة، خصوصا عند تعذّر الاستبراء بغير الاستغفار.

و يعضده أنّ الغيبة و إن كانت من حقوق الناس، إلّا أنّها ليست كحقوق الجنايات حتّى يتوقّف إبراؤها على القصاص، و لا كحقوق القذف و السرقة حتّى يتوقّف إبراؤها على الحدّ، و لا كحقوق الماليّة حتّى يتوقّف على ردّ المثل و القيمة، بل إنّما هي من الحقوق المتوقّف إبراؤها على الإرضاء و رفع الإكراه الحاصل من الغيبة و لو شأنا. و من البيّن أنّ الاستغفار له من أعظم أسبابه المرضية له و الرافعة


1- كنز الفوائد 1: 306.
2- الصحيفة السجادية: 198، و ص 332.
3- السرائر 2: 69، ذكر قسم من صدر الحديث و تمامه في كشف الريبة ص 110.
4- كذا في النسخة الخطيّة، و هو سهو تبعا لسهو الشيخ الأعظم في المكاسب، لأنّ الموجود عن السكوني هي رواية واحدة، و هي المروية في الوسائل 11: 343 ب «78» من أبواب جهاد النفس و ما يناسبه ح 5، و أمّا الرواية الأخرى المنسوبة للسكوني- كما في المكاسب- فهي مروية عن حفص بن عمير، كما في الوسائل 8: 605 ب «155» من أبواب أحكام العشرة ح 1.

ص: 169

لإكراهه من الاستحلال أو الاعتذار منه، بل و من الإقرار بخطائه عند سامع غيبته، خصوصا عند تعذّر الاستحلال منه بموته و نحوه، أو عدم رضاه بالاستحلال إلّا بطلب شي ء زائد على الاستحلال من الأموال و الأفعال.

و يؤيّده أيضا أنّ الاستغفار استحلال من مولى العبد المملوك و وليّ أمره و مالك رقبته، و هو لا يقصر من الاستحلال من نفس العبد إن لم يكن هو الأولى بالعفو و الاستعفاء.

و لو سلّمنا عدم كون الاستغفار سببا مرضيا له و مبرئا عنه، فلا أقلّ من كونه بدلا عنه كبدليّة المثل و القيمة عن العين المضمونة عند تعذّر ردّها، و بدليّة ردّ العين المضمونة إلى ورثة الميّت، بل لا يقصر عن بدليّة الصدقة شرعا عن اللقطة و المال المجهول المالك عند تعذّر الردّ إلى صاحبها.

ثمّ المراد من مبرئيّة استغفار المغتاب بالكسر للمغتاب بالفتح هل هو الاستغفار له على وجه النيابة، أو الهديّة، أو الصدقة، أو التحيّة و الزيارة، أو الدعاء؟

فهل يستغفر المغتاب بالكسر لنفسه بقصد النيابة عن المغتاب بالفتح كما يقضي عنه دينه و حجّه و صلاته و زكاته؟

أو بقصد الهديّة بثوابه له، كإهداء ثواب التلاوة و صلاة الزيارة للمزور و صلاة الوحشة للمدفون؟

أو بقصد الصدقة عنه، كالصدقة باللقطة و الأموال المجهولة المالك عن صاحبها؟

أو بقصد التحيّة، كالزيارة و التسليم على وجه التعارف و التعظيم؟

أو على وجه الدعاء له بالمغفرة، كما يدعو لإخوانه المؤمنين بالمغفرة في ظهر الغيب، في صلاة الليل و صلاة الميّت بقوله: اللّٰهم اغفر لفلان؟

ص: 170

و هو الأظهر من قوله، عليه السّلام: «كفّارة الاغتياب أن تستغفر لمن اغتبته» (1)، و الأشبه بالمثليّة و البدليّة بين العوض و المعوّض، فإنّ الأشبه بالغيبة تداركه بالاستغفار للمغتاب بالفتح لا المغتاب بالكسر.

و يؤيّده نصوص أرجحيّة الدعاء لإخوانه المؤمنين في ظهر الغيب من الدعاء لنفسه، و قوله عليه السّلام: «إذا مات ابن آدم انقطع منه كلّ شي ء ما عدا ثلاث:

صدقة جارية، أو ولد صالح يستغفر له، أو علم ينتفع به» (2).

ثمّ الاستبراء من غيبة المملوك و الصبيّ المميز المحرّم الغيبة هل هو بالاستحلال منه و الاستغفار له، أم من مولاه و وليه، أم منهما معا، أم التفصيل بين المملوك و الصبيّ، أم بين الاستحلال و الاستغفار؟ وجوه.

و التحقيق أن يقال: أمّا الاستغفار له فلا مانع من مبرئيّته عن اغتياب كلّ من العبد و الصبيّ، بعد عموم المقتضي و إطلاق مبرئيّته.

و أما مبرئيّة الاستحلال، فإن قلنا بعموم قوله: «لا يجوز أمر الصبيّ حتى يبلغ» (3) و عموم قوله تعالى عَبْداً مَمْلُوكاً لٰا يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْ ءٍ (4) توقّف الاستحلال من المولّى عليه على إجازة وليّه، كما هو مقتضى القول بعدم صحّة عبادات الصبيّ و معاملاته حتى يبلغ أو يجيزه الوليّ، و إلّا- أي: و إن لم نقل بعموم المنع و المانع- صحّ الاستبراء منهما كالاستغفار لهما من غير إجازة، كما هو مقتضى القول بشرعيّة عبادات الصبيّ و صحّة معاملاته.

ثمّ الاستبراء من الإيذاء و الجناية على الميّت بغيبة أو ضرب أو نبش قبر بغير ما له مقدّر شرعيّ، هل هو بالاستغفار و الصدقة عنه، أم بالاستحلال من


1- تقدّم ذكر مصادره في هامش (4) ص: 168.
2- عوالي اللئالي 2: 53 ح 139، نقلا بالمضمون.
3- الوسائل 1: 30 ب (4) من أبواب مقدّمة العبادات ح 2.
4- النحل: 75.

ص: 171

وارثه و وليّه؟ وجهان أقواهما الأوّل.

ثمّ الاستبراء من الإيلام و الجناية على الحيوان بغير ما أبيح شرعا، أو ما يضمنه الجاني لمالكه، فهل هو بالتوبة و الاستغفار من خالقها، كما يقتضيه عموم (1) مكفّريّة التوبة و الاستغفار، أو بالتلافي عليها بالتوسعة و الرفاهة في مأكلها و مشربها و الفكّ و التخفيف و التخلية عن سبيلها لو أمكن، أو ليس له مبرّئ شرعيّ سوى الجزاء و القصاص المقرّر لها في الحشر من المؤلم، كما هو من شئون العدل و قضيّة عدله المنصوص في قصاص الحيوانات بعضها من بعض، و قضيّة استصحاب حقّها إلى يوم الجزاء؟

وجوه أظهرها الأوّل، و أشبهها الأخير، و أوسطها الوسط، لما ورد من التوصية بالترفّه على الحيوانات أو فكّها و الشفاعة في عتقها، كما في الروايات المستفيضة. منها: ما في بصائر الدرجات عن جابر الأنصاري قال: «بينما نحن يوما من الأيّام عند رسول اللّٰه قعود إذ أقبل بعير حتى برك و رغا و تسيل دموعه، قال صلى اللّٰه عليه و آله: لمن هذا البعير؟ قالوا: لفلان، قال: عليّ به، فقال له: بعيرك هذا يزعم أنه ربّي صغيركم و كدّ على كبيركم، ثم أردتم أن تنحروه، قالوا يا رسول اللّٰه: لنا وليمة فأردنا أن ننحره، قال: فدعوه لي، قال: فتركوه، فأعتقه رسول اللّٰه، فكان يأتي دور الأنصار مثل السائل يشرف على الحجر، فكان العواتق يحسبن له حتى يجي ء فيقلن: هذا عتيق رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله، فسمن» (2).

قوله: «فإنّ من لا يبالي بظهور فسقه بين الناس لا يكره ذكره بالفسق».

أقول: هذه حكمة استثناء المتجاهر لا علّة، و إلّا لم يحتج إلى استثنائه، و خرج عن موضوع اسم الغيبة لا حكمه، كالاستثناء المنقطع: فالعمدة في استثنائه


1- تقدّم ذكر مصادره في هامش (4) ص: 168، البحار 75: 257 ح 48.
2- بصائر الدرجات: 348 ح 5.

ص: 172

النصوص، و العلّة المستنبطة منها أنّ من لم يراع حرمة ربّه العظيم لم يراع الربّ حرمته بين الناس.

قوله: «و مفهوم قوله عليه السّلام: «من عامل الناس فلم يظلمهم ..» (1) الحديث».

[أقول:] لا يقال: إن هذا المفهوم أعمّ من المدّعى، لاقتضائه استثناء مطلق الفاسق المصرّ و لو لم يتجاهر، كما أفتى به المجمع (2).

لأنّا نقول: عموم هذا المفهوم معارض بعموم منطوق المستفيضة (3) المفرّقة بين المستور و الظاهر، و مخصّص بمفهوم «إذا جاهر الفاسق» (4) الخبر.

قوله: «و ينبغي إلحاق ما يتستّر به بما يتجاهر فيه إذا كان دونه في القبح».

أقول فيه: إن كان المدار في جواز غيبته على إطلاق: «إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له و لا غيبة له» (5)- كما هو الأظهر-، صحّ إلحاق ما استتر به بما تجاهر فيه مطلقا و لو كان فوقه في القبح لا دونه. و إن كان المدار فيه عليه تقييد إطلاق: «من تجاهر بالفسق» بخصوص المتجاهر فيه- نظرا إلى أنّ الحكم المتعلّق بالوصف المناسب مشعر بالعلّية- لم يصحّ إلحاق ما استتر به بما تجاهر فيه و لو كان دونه في القبح، فضلا عن المساوي و الأقبح.

قوله: «و لعلّ هذا هو المراد ب «من ألقى جلباب الحياء» (6)».

أقول: فيه أنّه إن خصّص إلقاء جلباب الحياء- الذي هو كناية عن التجاهر و الإعلان- بخصوص العظائم و الكبائر من المعاصي، كان الحكم بجواز الغيبة فيه أولى بالتخصيص بخصوص ما تجاهر فيه دون ما تستّر به، و لو كان المتستّر به


1- الوسائل 18: 293 ب «41» من أبواب الشهادات ح 15.
2- مجمع البيان 2: 131.
3- الوسائل 8: 604 ب «154» من أبواب أحكام العشرة.
4- الوسائل 8: 604 ب «154» من أبواب الأحكام العشرة ح 3.
5- الوسائل 8: 604 ب «154» من أبواب الأحكام العشرة ح 3.
6- مستدرك الوسائل 9: 129 ب «134» من أبواب أحكام العشرة ح 3.

ص: 173

دون المتجاهر به في القبح. و إن لم يخصّص التجاهر بخصوص كبائر المعاصي، بل بني على ظاهر إطلاقه التجاهر و لو بالصغيرة، كان الحكم بجواز غيبة المتجاهر أولى بالإطلاق و العموم و لو فيما تستّر به، سواء كان المتستّر به دون المتجاهر به أو فوقه.

قوله: «ففيه إشكال، من إمكان دعوى ظهور روايات الرخصة فيمن لا يستنكف عن الاطّلاع على عمله مطلقا .. إلخ».

أقول: فيه ما عرفت أوّلا: من أنّ المتجاهر بالفسق- على ما هو الظاهر من إطلاقه، و العلّة المستنبطة من نصوصه- هو مطلق المتظاهر في مقابل المتستّر، لا خصوص غير المستكره من ظهوره في مقابل المستكره منه، و إلّا لكان خارجا عن موضوع اسم الغيبة لا حكمه، كالاستثناء المنقطع.

و ثانيا: سلّمنا، لكن إطلاق غير المستكره من تجاهر فسقه في بلد كاف في انسحاب حكمه إلى بلد التستّر و الغربة، لأنّ انسحاب حكم إطلاق التجاهر في مكان إلى المكان المتستّر فيه لا يقصر في الإطلاق من انسحاب حكم إطلاق التجاهر في معصية إلى المعصية المتستّر فيه، خصوصا إذا كان دونه في القبح، و من الزمان المتجاهر فيه إلى الزمان المتستّر به، كالأيّام و الليالي المتبرّكة، خصوصا إذا كان دونه في القبح، و من الحال المتجاهر فيه- كحال الغضب- إلى الحال المتستّر به، خصوصا إذا كان دونه في القبح. فإطلاق التجاهر بالنسبة إلى معصية دون معصية، و بالنسبة إلى زمان دون زمان، و بالنسبة إلى حال دون حال، و بالنسبة إلى ناظر دون ناظر، إذا كان متساوي النسبة في إطلاق الحكم بالرخصة، فكذلك بالنسبة إلى مكان دون مكان، و بالنسبة إلى بلد دون بلد. فإذا اقتصر على التخصيص بالمتيقّن من حيث المكان، فليقتصر عليه من حيث أفراد المعصية و أزمنتها و شاهديها و أحوال العاصي و حالاته، و لا أظنّ التزم فقيه به.

ص: 174

و ثالثا: سلّمنا أنّ إطلاق التجاهر في مكان خاصّ معارض بإطلاق التستّر في المكان المتستّر به و إطلاق حرمة غيبة المتستّر بالأمر المستور، لكن- مضافا إلى أنه مشترك الورود، و منقوض بأن إطلاق كلّ مخصّص بالكسر معارض بإطلاق المخصّص بالفتح- فيه: أن إطلاق المستثنى- و هو التجاهر- كنفس المستثنى، فضلا عن عموم الحكم عليه بأنّه لا غيبة له، مقدّم على إطلاق المستثنى منه و هو حرمة غيبة المستور قطعا، كتقدّم الحاكم على المحكوم و عموم العلّة على المعلول.

و رابعا: سلّمنا التوقّف أو التساقط بعد المعارضة، لكن المرجع بعده إلى أصل البراءة و الإباحة لا الاحتياط و الحرمة، على ما هو المشهور المنصور في الشبهات الحكميّة التحريميّة.

قوله: «و مناط الثاني إظهار عيوبه فلا يجوز إلّا بمقدار الرخصة».

[أقول:] لا يقال، كلّ من جاز سبّه و ذمّة في المحضر جاز إظهار عيوبه في الغياب بالأولويّة، لأنّ سوء المحضر أغلظ عقوبة.

لإمكان منع الأولويّة، بل و دعوى العكسيّة في الغالب، بأنّ التأذّي و الأذيّة بإظهار العيوب المستورة لمن لم يطّلع عليها قد يكون أشدّ من التأذّي بالسبّ و الذمّ حضورا بأضعاف مضاعفة. و ذلك لأنّ السبّ حضورا و إن كان أصرح ذمّا و أغلظ هتكا من الغيبة، إلّا أنّ الغيبة من جهة الانتقال فيها من الملزوم- و هو إظهار العيب- إلى لازمة- و هو الذمّ و التنقيص- يكون كالكناية أبلغ من التصريح، لأنّه كدعوى الشي ء ببيّنة و برهان، و هو أقبح و أفحش من السبّ. إلّا أن يقال: بأن المسوّغ للأمرين لمّا كان إطلاق التجاهر بالشين، و عموم لا حرمة و لا غيبة له في البين، اقتضى اتّحاد حكم المسألتين و إن اختلف الموضوعان.

قوله: «لعدم عموم في الآية [و عدم نهوض ما تقدّم في تفسيرها

ص: 175

للحجّية .. إلخ]» (1).

أقول: فيه أولا: أنّ المستثنى بقوله تعالى إِلّٰا مَنْ ظُلِمَ (2) و إن لم يكن له عموم كعموم قوله عليه السّلام: «إذا جاهر الفاسق فلا حرمة له و لا غيبة» (3)، ليعمّ جواز تظلّم المظلوم بإظهار مناقص الظالم و لو لم تكن ظلما كالعور و الحول، أو كانت ظلما لكن بالنسبة إلى نفس الظالم كشرب الخمر و ترك الصلاة، أو بالنسبة إلى غير المتظلّم لا المتظلّم، إلّا أنّ إطلاقه و إن لم يشمل لما ذكر من الأفراد لكنّه شامل لمطلق التظلّم و لو عند من لا يزيل الظلم عنه، و ذلك لانتفاء المقيّد الصارف لإطلاق مَنْ ظُلِمَ عن هذا المقدار من التظلّم، و إن وجد الصارف له عن المقدار الزائد عليه.

و ثانيا: سلّمنا الصارف لهذا الإطلاق عمّا نحن فيه، لكن لا صارف لإطلاق: «فَمَنِ اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ» عن التظلّم عند من لا يزيل الظلم، بل تظلّم المظلوم بمقدار المظلوميّة و عدم الزيادة على المثليّة قسم من التقاصّ و القصاص على قدر الحقّ، الكافي في جوازه العقل بل و الأصل، و لو لم يرد فيه نصّ. و عدم التمكّن من إزالة الظلم لا يمنع من التظلّم رأسا، كما أن عدم التمكّن من استيفاء الحقّ لا يمنع من حقّ المطالبة، و لا من حقّ العقوبة و المؤاخذة، و إن لم يفد إلّا تسجيل العذاب، كما ورد: «ليّ الواجد يحلّ عرضه و عقوبته» (4) و «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» (5)، بل منع المظلوم من التظلّم عند من لا يزيل ظلمه مزيد في ظلمة، فلا يجوز.


1- يلاحظ أن العبارة ما بين المعقوفتين قد علق عليها السيّد المحشّي «قدّس سرّه» في هنا.
2- النساء: 148.
3- الوسائل 8: 604 ب «154» من أبواب أحكام العشرة ح 4.
4- الوسائل 13: 90 ب (8) من أبواب الدين و القرض ح 4.
5- عوالي اللئالي 4: 58 ح 207.

ص: 176

قوله: «و عدم نهوض ما تقدّم في تفسيرها للحجّية».

[أقول:] و ذلك لعدّ تفسير القميّ (1) من الروايات الموقوفة، و العيّاشيّ (2) من المضمرة. و لكن يمكن توجيهها بأنّ شاهد حال الراوي فيها يعدّها في عداد المسانيد الظاهرة في الحجيّة.

قوله: «مع أنّ المرويّ عن الباقر عليه السّلام في تفسيرها المحكيّ عن مجمع البيان: «أنّه لا يحبّ الشتم في الانتصار إلّا من ظلم» (3) الحديث».

[أقول:] فيه: أنّ معنى الانتصار بالشتم ليس الشتم عند من ينتصر به و يزيل ظلمه، بل معناه مطلق التظلّم و معارضة المظلوم الظالم بالظلم المماثل، و مغالبة المشتوم الشاتم بالشتم، و استيفاء كلّ حقّ بمثله بما يجوز الانتصار به في الدين، أي: بمقدار ما يجوز المعارضة و المقابلة به في الدين، و هو المثليّة لا التشفّي بالزيادة. و حينئذ فتظلّم المظلوم بالظلم و المشتوم بالشتم و المذموم بالذم انتصار على الظالم بمثل ظلمه و بما يجوز الانتصار به في الدين، خصوصا إذا كان بما دون المثل كمّا أو كيفا، و عند من لا يرجى منه، إزالة ظلمه و استيفاء تمام حقّه، بل لو زاد على المثل بأضعاف لم يخرج عن صدق الانتصار و إن خرج عن حكمه.

قوله: «و ما بعد الآية لا يصلح للخروج بها عن الأصل الثابت بالأدلّة العقليّة و النقليّة».

أقول: فيه: أنّ ما بعد الآية- و هو مفهوم حصر إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النّٰاسَ وَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ (4)- كمنطوق ما قبل الآية هو عموم نفي السبيل عن الظلم بحقّ، و هو تظلّم المظلوم و استيفاء ظلمه بالمثل


1- تفسير القمي 1: 157.
2- تفسير العياشي 1: 283 ح 296.
3- مجمع البيان 2: 131.
4- الشورى: 42.

ص: 177

و الظلم بحقّ على وجه التقاصّ و القصاص بحقّ. و من البيّن أنّ هذا المقدار من التظلّم بالمثل خارج عن موضوع الأدلّة العقليّة- و هو قبح الظلم- و النقليّة- و هو عموم وَ لٰا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً (1) و لٰا يُحِبُّ اللّٰهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ (2)- من باب التخصّص لا التخصيص حتّى يقتصر في الخروج على المتيقّن، ضرورة أنّ استيفاء المظلوم حقّه من الظالم بالمثل و ما دونه و لو كان من حقّ الأولويّة لا الحقوق الواجبة لا يعدّ ظلما و لا حراما، بل يكفي في جوازه العقل، بل و الأصل، و لو لم يكن عليه عموم و لا نصّ.

نعم، لو أردنا إثبات جواز التظلّم بالزيادة على المثل كمّا أو كيفا، كتظلّم المظلوم بغير ما ظلم به من إظهار المناقص غير الظلميّة كالعور و الحول، أو بما ظلم الظالم به نفسه لا غيره كشرب الخمر و ترك الصلاة، أو بما ظلم به شخص ثالث غير المتظلّم، توقّف على إطلاق أو عموم المسوّغ من النصوص.

قوله: «الظاهر من الجواب أنّ الشكوى إنّما كانت من ترك الأولى».

أقول: كما يحتمل أن يكون المراد من الكامل البالغ أعلى مراتب الكمال لتكون، الشكوى من ترك حقّ الأولويّة، كذلك يحتمل البالغ أدنى درجاته لتكون الشكوى من تركه الحقوق الواجبة، و الاحتمال مبطل للاستدلال.

و لكن يسهّل الخطب أنّ هذا الخبر و إن لم يظهر منه المدّعى إلّا أنّ الخبر السابق (3): «من استقضى فقد أساء» (4) صريح فيه، مضافا إلى ظهور خبري العيّاشي (5) و المجمع (6) في تفسير «من ظلم» بمن لم يحسن ضيافة الضيف، مضافا


1- الحجرات: 12.
2- النساء: 148.
3- لا يخفى أنّه لم يسبق ذكر منه «قدّس سرّه».
4- الوسائل 13: 100 ب «16» من أبواب الدين و القرض ح 1.
5- تقدم ذكر مصادرهما في هامش (2 و 3) ص: 176.
6- تقدم ذكر مصادرهما في هامش (2 و 3) ص: 176.

ص: 178

إلى إطلاق نفس الآية، و عموم فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ (1).

بل قد عرفت أنّ التظلّم بالمثل و لو عن حقّ الأولويّة خارج عن موضوع الظلم و الغيبة اسما لا حكما، فيكفي في جوازه العقل و الأصل، و لو لم يكن له عموم و لا نصّ.

قوله: «فالأحوط عدّ هذه الصورة من الصور العشر المتقدّمة (2) التي رخّص فيها في الغيبة لغرض صحيح أقوى من مصلحة احترام المغتاب».

أقول: أمّا الصور العشر المتقدّمة فهي ما جمعها في آخر الأمر الأوّل من معاني الغيبة بقوله: «ثمّ الظاهر المصرّح به في بعض الروايات (3) عدم الفرق في الغيبة بين ما كان نقصا في بدنه، أو نسبه، أو خلقه، أو فعله، أو قوله، أو دينه، أو دنياه حتّى في ثوبه، أو داره، أو دابّته».

و أمّا المراد من ترخيص الغيبة فيها لغرض صحيح فهو ما ذكره في الأمر الثالث فيما استثني من الغيبة بقوله: «و اعلم .. إلخ».

قوله: «فإنّ خيانته قد تكون أقوى مفسدة من الوقوع في الغيبة».

[أقول:] وجه الأقوويّة أنّه قد يترتّب على ترك النصح بترك غيبة الخائن إتلاف المال و الحال، و النفوس و الناموس، المفوّضة إلى الخائن المستتر و الفاسق المضمر، بالوكالة و الأمانة و الشراكة و الوصلة، خصوصا بتوصية الأموات و تولية الموقوفات.

و بواسطة ترك نصح المستشير و عدم التحذّر و التحذير من الخائن و الشرير


1- البقرة: 194.
2- يلاحظ أن في المكاسب: الآتية، بدل: المتقدّمة، و تعليقة السيّد المحشّي «قدّس سرّه» تبتني على نسخته من المكاسب، و هي نسخة مغلوطة، و الصحيح ما في المتن، و هي عشر صور ذكرها في نفس الصفحة، ابتداء من س: 18.
3- مستدرك الوسائل 9: 117 ب 132 من أبواب أحكام العشرة ح 19.

ص: 179

يترتّب الضرر الخطير على المستشير، بل و العذاب الكثير على الخائن الفقير، بخلاف اغتيابه لأجل التحذّر و التحذير، فليس فيه سوى التعبير عمّا فيه من التحقير و إظهار ما في الضمير.

قوله: «مع ظهور عدّة من الأخبار في وجوبه».

[أقول:] كقوله عليه السّلام: «اذكروا المرء بما فيه ليحترزه الناس» (1).

قوله: «و احتمال كونها متجاهرة مدفوع بالأصل».

أقول: فيه أوّلا: أنّ أصالة عدم كونها متجاهرة بعد فرض كونها عاصية من قبيل الشكّ في الحادث، المعارض فيه أصالة عدم التجاهر بأصالة عدم التستّر، لا الشكّ في الحدوث حتى يعتبر فيه الأصل، نظير الشكّ في كون المعصية الصادرة غيبة أو سبّا، و كون الفاعل رجلا أو امرأة، ممّا لا مجرى للأصل فيها عند العقل و العقلاء.

و ثانيا: أنّ أصالة عدم تجاهرها دليل حيث لا دليل على ظهور تجاهرها من عموم: «لا تدفع يد لامس» (2)، مع فرض حبسها و تقييدها و المنع من الدخول عليها، بل أيّ تجاهر أجهر من ذلك.

و ثالثا: سلّمنا، لكن مجرّد عدم ردّ غيبتها النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله لا يدلّ على تقرير جواز غيبتها، فإنّه إنّما يدلّ على تقريره لو لا رادع معلوم من مثل قوله تعالى:

وَ لٰا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً (3) الآية، و لٰا يُحِبُّ اللّٰهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ (4).

و رابعا: سلّمنا عدم رادع معلوم، لكن عدم ردع النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله إنّما هو من جهة عدم تحقّق الغيبة، و هو إظهار العيب المستور عليه صلى اللّٰه عليه و آله، لإحاطة علمه صلى اللّٰه عليه و آله بجميع


1- جامع السعادات 2: 321.
2- الوسائل 18: 414 ب «48» من أبواب حدّ الزنا ح 1.
3- الحجرات: 12.
4- النساء: 148.

ص: 180

الأحوال و الفعال بواسطة العلم الحصولي و عرض الأعمال. و حينئذ فلا دلالة في أمثال تلك الروايات على جواز غيبة المستفتي عنه للمستفتي، سوى كون مصلحته أقوى من مصلحة تركها، كأقوائيّة مصلحة كشف عورة المريض على الطبيب من مصلحة سترها، فيقتصر في جوازها على قدر الضرورة و حالها و محلّها لا غير.

قوله: «إلّا أنّ ما يدلّ على كونه من الكبائر كالرواية (1) المذكورة [و نحوها] ضعيفة السند».

[أقول:] و يمكن النظر فيه أوّلا: بانجبار سندها بالشهرة و الاستفاضة، بل التواتر حسب ما سيأتي. و أمّا دلالتها فصريحة في أنّها كالغيبة من الكبائر، بل التصريح في بعضها بأنّ السامع عليه وزر المغتاب سبعين مرّة (2).

و ثانيا: لو سلّمنا، لكن يكفي في أنّ سماع الغيبة كالغيبة من الكبائر كونه أحد ركني الغيبة، كالعقد المتوقّف تحقّقه على كلّ من الإيجاب و القبول و المزاوجة، المتوقّف تحقّقه على كلّ من الزوج و الزوجة [و الصفّ و المقاتلة من قوله تعالى إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا (3)] (4) المتوقّف تحقّقه على الاثنينيّة، كما هو الظاهر أيضا من قوله عليه السّلام: «السامع للغيبة أحد المغتابين» (5) على قراءته بالتثنية لا الجمع، كما هو الظاهر.

قوله: «فيحمل فعل القائل على الصحّة ما لم يعلم فساده».


1- كشف الريبة: 64.
2- الوسائل 8: 99 ب «152» من أبواب أحكام العشرة ح 13.
3- الصف: 4.
4- ما بين المعقوفتين ورد في النسخة الخطّية، و لم نر له وجها صحيحا، و لعلّه من طغيان قلمه الشريف «قدّس سرّه»، و وضعناه في المتن كما هو عليه.
5- كشف الريبة: 64.

ص: 181

[أقول:] و يمكن النظر فيه أولا بما في القوانين (1) و أصول المصنف (2) من أنّ أصالة الصحّة إنّما تقتضي الصحّة الفاعلي لا الحاملي.

و ثانيا: سلّمنا الصحّة الحاملي، لكن مجراها فيما لم يكن الأصل فيه الفساد من الأفعال، كالبيع و الشراء و نحوهما ممّا يكون الصحّة و الفساد فيه على السواء، لا كبيع الوقف و الربا و الخمر و النجس و الرشى و الظلم و الجور و الزنا ممّا كان الأصل فيه الفساد و الفحشاء، إلّا ما صحّ بإكراه أو استثناء، خصوصا في هذه الأزمنة و البلاد، الغالب فيها الفساد و الجهل و العناد، و سوء الفعال و الاعتياد بالملاهي و الرقاد، لقوله عليه السّلام: «لا تثقنّ بأخيك كلّ الثقة، فإنّ صرعة الاسترسال لا تستقال» (3). و ما في نهج البلاغة: «إذا استولى الفساد على الزمان و أهله ثمّ أحسن رجل الظنّ برجل فقد غرّر» (4). و قوله عليه السّلام: «إذا كان الجور أغلب من الحقّ، لا يحلّ لأحد أن يظنّ بأحد خيرا حتّى يعرف ذلك منه» (5).

قوله: «و لعلّ وجه زيادة عقابه أنّه إذا لم يرده تجرّي المغتاب على الغيبة، فيصرّ على هذه الغيبة و غيرها».

أقول: مضافا إلى أنّ عدم ردّ المغتاب يوجب تجرّيه، بل و إصراره عليه بغير حساب، بل و استحلال ما عاب و اغتاب، إلى حدّ الارتداد و الخلود في العقاب، بل و يوجب سوء الظنّ و الارتياب في كلّ ما لا يدركه من الحقّ و الصواب، و لو كان من كلام أولي الألباب و أحكام ربّ الأرباب. مضافا إلى أنّ كون السماع الجزء الأخير للعلّة التامّة للاغتياب، و كونه عمدة الأسباب، كاف في


1- انظر قوانين الأصول 2: 126.
2- فرائد الأصول: 417.
3- الوسائل 8: 502 ب «102» من أبواب أحكام العشرة ح 4.
4- نهج البلاغة: 489 رقم 114.
5- البحار 78: 370، نقلا بالمضمون.

ص: 182

تضاعف العقاب.

قوله: «و الظاهر أنّ الردّ غير النهي عن الغيبة».

[أقول:] و ذلك الظهور الردّ و النصر و الانتصار، خصوصا بقرينة ما يترتّب عليه من كثرة الأجر و الآثار في تخطئة المغتاب بأنّه غير مصاب، لا مجرّد منعه عن الاغتياب الذي هو إبراز عيب المعاب، فإنّ مجرّد ذلك ليس ردّا على المغتاب، بل لا يخلو في نفسه عن نوع اغتياب، و تصديق المغتاب فيما أعاب، فكيف يترتّب عليه ذلك الثواب؟! و من هنا يظهر أنّ ردّ الغيبة على المغتاب الواجب على السامع لا يجوز بمثل: لا تكذب على أخيك و لا تتّهمه، أو لا تفتر عليه، أو قد فسقت، أو لعنت، أو نممت فيما نسبته، أو وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفّٰاكٍ أَثِيمٍ (2) هَمّٰازٍ مَشّٰاءٍ بِنَمِيمٍ (3) فإنّ أمثال ذلك من باب ردّ الفاسد بالأفسد، و انتهاك حرمة الحاضر لردّ انتهاك حرمة الغائب، و هو أحد المحرّمين، بل أقواهما غير الجائز من باب ردّ الغيبة، و إن جاز من باب النهي عن المنكر المتوقّف عليه.

و لا يجوز أيضا بمثل قولك لا تغتب، أو لا تجهر بالسوء، و لا تظهر معايب أخيك، و لا تعيّبه بما فيه، لاستلزامه تصديق المغتاب فيما أعاب، نظير قول المولى لعبده: طلّق زوجتك، فإنّه إمضاء لعقده، فلا يجب عليه الطلاق، بخلاف ما لو قاتل: لم أمض عقدك، فإنّه طلاق، و نظير اجتهاد الشافعيّة (4) في مقابل نصوص:

«التائب كمن لا ذنب له» (5) بأنّ التوبة عن ذنب إقرار به فيؤخذ به.


1- الهمزة: 1.
2- الجاثية: 7.
3- القلم: 11.
4- المغني لابن قدامة 12: 81.
5- الوسائل 11: 358 و 360 ب «86» من أبواب جهاد النفس و ما يناسبه ح 8 و 14.

ص: 183

بل الردّ الواجب على السامع للغيبة من باب ردّ الغيبة إنّما هو بمثل قولك:

لا تسئ الظنّ بأخيك، فإنّ بعض الظنّ إثم، و احمل فعل أخيك على أحسنه، أو لعلّ ما أخطأت أو سهوت أو اشتبهت في الإعابة، أو لعلّ ما المعاب معذور شرعا بسهو أو نسيان أو غفلة، أو مقهور في الإساءة بإكراه أو اضطرار أو علّة، فإنّ هذا هو ردّ الغيبة لا غير.

قوله: «و الظاهر إرادة الحقوق المستحبّة التي ينبغي أداؤها .. إلخ».

أقول: بل الأظهر خصوصا من قوله عليه السّلام: «لا براءة له منها إلّا بأدائها أو العفو» و قوله: «فيقضى له عليه» (1) إنّما هو الحقوق الواجبة، و ذلك لظهور انصراف حقوق الأخوّة في الكامل العارف المؤدّي لحقوق الأخوّة الإيمانيّة حقّ الأداء. و من المعلوم أنّ مثله واجب المجازات بالمثل بل الأحسن، لقوله تعالى:

هَلْ جَزٰاءُ الْإِحْسٰانِ إِلَّا الْإِحْسٰانُ (2) وَ إِذٰا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهٰا أَوْ رُدُّوهٰا (3) و قوله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا (4) الآية. غاية الأمر وجوب تلك الحقوق بالوجوب الكفائيّ لا العيني. و يدلّ عليه اتّفاق النصوص و الفتاوى على وجوب إقامة المعتكف في المسجد، و عدم جواز الخروج إلّا لأمر واجب، كجنازة أو عيادة أو جمعة أو لقضاء حاجة مؤمن.

و حينئذ فما يرى من عدم وجوب تلك الحقوق إنّما هو بواسطة قيام من به الكفاية، كردّ سلامه و حضور جنازته و تسميت عطسته و قضاء حاجته، أو بواسطة تجاهره بالفسق، المسوّغ لغيبته، أو بواسطة تضييعه حقوق الأخوّة المسقط لحقوق نفسه بالمقاصّة أو التهاتر في الحقوق، خارج بالتخصّص لا التخصيص.


1- الوسائل 8: 550 ب «122» من أبواب أحكام العشرة ح 24.
2- الرحمن: 60.
3- النساء: 86.
4- الحجرات: 10.

ص: 184

و لو سلّم فهو مقدّم على التجوّز بحمل الحقوق على الحقوق المستحبّة، خصوصا مع استلزامه التخصيص بغير ما وجب من الحقوق، كردّ سلامه و حفظ حليلته. مضافا إلى أنّ العامّ المخصّص من تلك الحقوق الواجبة بالاستحباب حجّة في الباقي، فكيف يحمل جميع الحقوق على الاستحباب مع اختصاص التخصيص بالمستحبّ- على تقدير التسليم- ببعضها؟!

قوله: «ثمّ إنّ ظاهرها و إن كان عامّا إلّا أنّه يمكن تخصيصها بالأخ العارف بها المؤدّي لها».

أقول: و يمكن النظر فيه أولا: بأنّ التخصيص خاصّ بفرض الحقوق واجبة، و أمّا على ما فرضت من كونها مستحبّة فلا يتأتّى التخصيص في المستحبّات، لأنّ تعدّد مراتبها يوجب الجمع بينهما و رفع المنافاة.

و ثانيا: لو سلّمنا تخصيص الحقوق بالأخ الكامل، لكن المخصّص لا ينحصر فيما ذكر من النصوص، بل فيها ما هو أصحّ و أصرح جدّا، مثل ما نقله البحار: «من أنّ زيد النار دخل على أخيه الرضا عليه السّلام فسلّم فلم يردّ عليه الجواب، فقال: أنا ابن أبيك و لا تردّ عليّ جوابي؟ فقال عليه السّلام: أنت أخي ما دام أطعت اللّٰه، فإذا عصيته لم يكن بيني و بينك إخاء» (1) الحديث.

و ما في نهج البلاغة من قوله عليه السّلام: «و اللّٰه لقد رأيت عقيلا و لقد أملق حتى استماحني من برّكم صاعا، و رأيت صبيانه شعث الشعور، غبر الألوان من فقرهم، كأنّما اسودّت وجوههم بالعظلم، و عاودني مؤكّدا، و كرّر عليّ القول مردّدا، فأصغيت إليه سمعي، فظنّ أنّي أبيعه ديني، و اتّبع قيادة مفارقا طريقتي، فأحميت له حديدة ثمّ أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضجّ ضجيج ذي دنف من


1- البحار 49: 221 ح 10.

ص: 185

ألمها، و كاد أن يحترق من مسيسها» (1) إلخ.

و ما في الاحتجاج في آخر احتجاجات الرضا عليه السّلام: «أنّه عليه السّلام لمّا ولي ولاية العهد دخل إليه آذنه فقال: إنّ قوما بالباب يستأذنوك، يقولون: نحن من شيعة عليّ.

فقال عليه السّلام: أنا مشغول فاصرفهم.

فصرفهم إلى أن جاءوا هكذا يقولون و يصرفهم شهرين، ثمّ أيسوا من الوصول فقالوا: قل لمولانا: إنّا شيعة أبيك عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، و قد شمت بنا أعداؤنا في حجابك، و نحن ننصرف عن هذه الكرّة، و نهرب من بلادنا خجلا و أنفة ممّا لحقنا، و عجزا عن احتمال مضض ما يلحقنا بشماتة أعدائنا.

فقال عليه السّلام: ائذن لهم ليدخلوا، فدخلوا فسلّموا عليه فلم يردّ عليهم، و لم يأذن لهم بالجلوس، فبقوا قياما.

و قالوا: يا ابن رسول اللّٰه ما هذا الجفاء العظيم و الاستخفاف بعد هذا الحجاب الصعب، أيّ باقية تبقى منّا بعد هذا؟

فقال الرضا عليه السّلام: أقروا وَ مٰا أَصٰابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمٰا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ما اقتديت إلّا بربّي عزّ و جلّ و برسوله و بأمير المؤمنين عليه السّلام.

إنّ شيعته: الحسن و الحسين و سلمان و أبو ذر و المقداد و عمّار و محمد بن أبي بكر، الذين لم يخالفوا شيئا من أمره، و أنتم في أكثر أعمالكم له مخالفون، و مقصّرون في كثير من الفرائض، و تتهاونون بعظيم حقوق إخوانكم في اللّٰه، و تتّقون حيث لا تجب التقيّة، و تتركون التقيّة حيث لا بدّ من التقيّة لو قلتم: إنّكم مواليه و محبّوه، و الموالون لأوليائه و المعادون لأعدائه، لم أنكره من قولكم، و لكن هذه مرتبة شريفة ادّعيتموها، إن لم تصدّقوا قولكم بفعلكم هلكتم، إلّا أن


1- نهج البلاغة: 346- 347 رقم (224)، و فيه بدل «مسيسها» «ميسمها».

ص: 186

تدرككم رحمة ربّكم.

قالوا: يا بن رسول اللّٰه فإذا نستغفر اللّٰه و نتوب إليه من قولنا، بل نقول كما علّمنا مولانا: نحن محبّوكم و محبّو أوليائكم، و معادو أعدائكم.

فقال الرضا عليه السّلام: فمرحبا بكم يا إخواني و أهل ودّي ارتفعوا، فما زال يرفعهم حتى ألصقهم بنفسه.

ثمّ قال لحاجبه: كم مرّة حجبتهم؟ قال: ستّين مرّة.

قال: فاختلف إليهم ستّين مرّة متوالية، فسلّم عليهم و أقرأهم سلامي، فقد محوا ما كان من ذنوبهم باستغفارهم و توبتهم، و استحقّوا الكرامة لمحبّتهم لنا و موالاتهم، و تفقّد أمورهم و أمور عيالاتهم، فأوسعهم نفقات و مبرّات و صلات و دفع معرّات» (1).

[المسألة الخامسة عشرة القمار و هو حرام إجماعا]

قوله: «فإن ظاهر ذلك أن محلّ الخلاف هنا هو محلّ الوفاق هناك».

[أقول:] و ذلك لظهور تحريم المسابقة فيما عدا المنصوص مع العوض الذي هو محلّ الوفاق هناك في الحرمة التكليفيّة الذي هو محلّ الخلاف هنا، لا خصوص الحرمة الوضعيّة و هو الفساد هناك.

قوله: «ليس بحرام إلّا أنّه لا يترتّب عليه الأثر».

[أقول:] أي: أثر صحّة المراهنة و الزوم الوفاء بها.

قوله: «لكن هذا وارد على تقدير القول بالبطلان».

[أقول:] يعني: إيراد ظهور الخبر (2) في نفي حرمة نفس فعل المراهنة وارد أيضا في نفي حرمة المؤاكلة به، مع ما عرفت من الاتّفاق على بطلانه و حرمة أكل المال بالباطل، و أنّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده.


1- الاحتجاج: 440- 441.
2- الوسائل 16: 114 ب (5) من أبواب كتاب الجعالة ح 1.

ص: 187

قوله: «حرام أيضا. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى إمكان تخصيص قوله عليه السلام: «لا شي ء في المؤاكلة» (1) بنفي الحرمة دون نفي الضمان، كما في الجاهل بحكمها، أو بنفي الضمان دون الحرمة، كما في أكل الرشوة المبذولة على وجه الهديّة، على ما اختاره المصنّف من إرجاعها إلى الهبة الفاسدة، أو بنفي الصحّة و آثارها لا نفي الحرمة و لا الضمان، كما لعلّه الأظهر.

و عليه، فالخبر على تقدير صحّته مناف لصحّة المراهنة، لا لحرمتها، و لا لضمان المؤاكلة بها، فيوافق المشهور المنصور، لا أنّه يخالفه.

قوله: «إلّا أن يقال: بأن مجرّد التصرّف من المحرّمات العلميّة .. إلخ».

أقول: فيه أوّلا: أنّ الجهل في سائر الأنام و إن كان عذرا مغيّرا في الظاهر للحرام، بواسطة تقييد الأحكام بالعلم و الإعلام، إلّا أنّ الاقتحام في خلاف الواقع للإمام، و تفويت الواقع عليه و لو حال الجهل و المنام، نقص تامّ و نقض عامّ لغرض الحكيم العلّام، من نصبه على الأنام حتى على الملائكة الكرام، و جعله مظهرا للعدل و الاعتصام، و هدى إلى باب السلام، و مصباحا في الظلام، و مرآة لأوصاف الجلال و الجمال و الكمال، كما قرّر في محلّه عقلا و نقلا، بل بكلّ من وجوه الأدلّة الأربعة بأبلغ وجه و أجمع.

و ثانيا: أنّ حديث (2) تقيّؤ الإمام عليه السّلام ضعيف السند بسهل بن زياد، و اشتراك أحمد بن محمد. مضافا إلى شذوذه، و موافقته العامّة، و كونه من الآحاد التي لا يجوز التعويل عليها في أصول الدين.

و ثالثا: أنّه ضعيف الدلالة، لأنّ تقيّؤ المأكول المقامر به بعد الإخبار إنّما يستلزم الجهل بحرمته حين الأكل لو حصّله الغلام من مال غير الإمام بالمقامرة،


1- الوسائل 16: 114 ب (5) من أبواب كتاب الجعالة ح 1.
2- الوسائل 12: 119 ب «35» من أبواب ما يكتسب به ح 2.

ص: 188

و أمّا لو حصّله بالشراء من مال الإمام عليه السّلام- كما هو ظاهر الخبر (1)- فمجرّد مقامرة الغلام به بعد الشراء لا يوجب حرمته، بل و لا كراهته على الإمام عليه السّلام، حتى يكون التقيّؤ بعد إخباره بالحال من جهة حصول العلم بحرمته بعد الجهل به حين الأكل.

بل يكون التقيّؤ حينئذ إمّا من جهة مجرّد رفع الاستكراه الطبعي الحاصل لنفسه من الإخبار، أو لغيره المخبر فيه بلعب القمار، نظير غسل اليد بعد الأكل من وسخ الطعام لا النجاسة.

أو من جهة ردع الغلام و نهيه عن منكر المقامرة بتقيّؤ ما قامر به، حيث إنّ فعل التقيّؤ أشدّ إنكارا و ردعا على الغلام المقامر من نهيه القوليّ عن المقامرة، كما لا يخفى أنّ الأفعال أشدّ تأثيرا من الأقوال في اقتضاء التأسّي و متابعة الحال.

أو من جهة مصلحة تحريص الناس على شدّة التحرّز عن المقامرة، كتصريحه على شدّة التحرّز من الخمر بقوله عليه السّلام: «لو وقعت قطرة منه في بحر، ثم جفّ البحر و نبت عليها نبات، فأكل ذلك شاة، ما أكلت من لبن تلك الشاة» (2).

أو من جهة مصلحة تحمية الناس عن أكل مال الغير بالمقامرة بواسطة تقيّؤ مال نفسه المقامر به، كتحميتهم بقوله عليه السّلام: «اتركوا ما لا بأس به حذرا عمّا فيه البأس» (3). و قوله عليه السّلام: «خالفوهنّ في المعروف، حتى لا يطمعن في المنكر» (4).

أو من جهة المماشاة مع المخبر بأكل ما قامر به الغلام، بضرب من التقيّة أو السياسات المدنيّة، كما كان ديدنه صلى اللّٰه عليه و آله المداراة، و قوله عليه السّلام:

«دار الناس، فإن عقولهم لا تتحمّل» (5). و قوله عليه السّلام: «كلّم الناس على قدر


1- تقدّم ذكر مصدره في هامش (1) ص: 187.
2- لم نجده بلفظه، و وجدنا نظيره في الكشاف 1: 260.
3- تحف العقول: 60.
4- نهج البلاغة: 105 رقم «80».
5- أخرج ذيله مع اختلاف في الصدر السيد الزبيدي في اتحاف السادة 6: 265.

ص: 189

عقولهم» (1). و قوله عليه السّلام في باب الروضة من الكافي: «و اللّٰه لو لا أن يقول الناس إنّ محمدا استعان بقوم فلمّا ظفروا بعدوّه قتلهم، لقدّمت كثيرا من أصحابي و ضربت أعناقهم» (2).

و روى العامّة (3) و الخاصّة عنه صلى اللّٰه عليه و آله، كالصدوق في المجالس، أنّه قال: صلى اللّٰه عليه و آله لعليّ: «يا عليّ و اللّٰه لو لا أنّي أخاف أن تقول فيك طوائف من أمّتي ما قالت النصارى في المسيح، لقلت فيك اليوم قولا لا تمرّ بملإ إلّا أخذوا التراب من تحت قدميك يتبرّكون به» (4).

قوله: «و إرادة نفي جواز العقد عليه في غاية البعد».

أقول: نفي الجواز بدلالة الاقتضاء في منفيّات الحقيقة المتعذّرة في لسان الشارع، إن لم يكن أقرب من نفي الصحّة فلا أقلّ من دخوله في عموم حذف المتعلّق، و هو نفي مطلق الحكم الشرعي، سواء كان وضعيّا أو تكليفيّا، لأنّ التخصيص يحتاج إلى مخصّص و الانصراف إلى صارف، و الأصل عدمه.

قوله: «و على تقدير السكون فكما يحتمل نفي الجواز التكليفي فيحتمل نفي الصحّة».

[أقول:] فيه: أنّ الاحتمال المبطل للاستدلال إنّما هو المورث للإجمال، و قد عرفت أنّ نفي الجواز التكليفي إن لم يكن أظهر فلا أقلّ من دخوله في عموم حذف المتعلّق، أعني: نفي مطلق الحكم الشرعي الأعمّ منهما.

قوله: «العوض أيضا غير مأخوذ فيه. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى إمكان الفرق بانصراف فعل القمار إلى خصوص المقامرة


1- الكافي 1: 23 ح 15، و فيه: إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم .. إلخ.
2- الكافي 8: 345 ح 544.
3- علل الحديث 1: 313 ح 941، و ليس فيه: لا تمرّ بملإ .. إلخ، بل فيه بدله: و ذكر الحديث.
4- أمالي الصدوق 86 ح 1، و ص 489 ح 9.

ص: 190

بعوض، بخلاف انصرافه إلى المقامرة بالآلة، نظرا إلى أنّ الآلة اسم يبعد أخذه في مفهوم الفعل، بخلاف العوض و المراهنة، فإنّه من سنخ الفعل، و انصراف الفعل إلى الفعل كانصراف الاسم إلى الاسم ممكن، بخلاف انصراف كلّ إلى غير سنخه.

[المسألة السادسة عشرة القيادة من الكبائر]

قوله: «و هي، من الكبائر».

أقول: و الدليل على حرمته و كونه من الكبائر كلّ من الأدلّة الأربعة فمن الكتاب قوله تعالى وَ يَنْهىٰ عَنِ الْفَحْشٰاءِ وَ الْمُنْكَرِ (1) وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ (2)، و فحوى إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفٰاحِشَةُ (3) الآية.

و من السنّة ما ورد (4) في حدّه، و في تفسير (5) الواصلة و المستوصلة. و من الإجماع ما ادّعاه جماعة من الإجماع صريحا على حرمته، و عدّه في عداد الكبائر المجمع عليه. و من العقل كونه من أعظم مقدّمات الحرام المحرّمة عقلا و شرعا.

[المسألة السابعة عشرة القيافة و هو حرام في الجملة]

قوله: «هو الذي يعرف الآثار».

أقول: تعريفه بذلك مأخوذ من صرف ادّعائهم معرفة الآثار، كتقسيم السحر بتسخير الكواكب و الأفلاك و الجنّ و الملائك، أخذا من صرف دعاويهم الباطلة و خرافاتهم العاطلة و أكاذيبهم المجعولة، التي يصدّقهم الجاهل الغافل عنها، كدعوى الصوفيّة الطريقة و المرشديّة، و الكشفيّة الكشف، و العرفانيّة المعرفة، و الحكميّة الحكمة.

فالحقّ تعريف القائف بمدّعي معرفة الآثار لا حقيقة، و هو الاستناد في


1- النحل: 90.
2- المائدة: 2.
3- النور: 19.
4- الوسائل 18: 424 و 429 ب «1 و 5» من أبواب حدّ السحق و القيادة.
5- الوسائل 12: 94 ب «19» من أبواب ما يكتسب به ح 3.

ص: 191

تشخيص الأنساب و الطوالع و العواقب و أحوال المرضى و الغيّب و السرقة و السارق إلى علامات شعريّة و شباهات وهميّة و مبادئ غير حسّية، المورثة لقطع القطّاع و ظنّ الظنّان في النسوان و الصبيان، خصوصا في بعض البلدان، مثل كيّ الصبيان لبقاء الولدان، و هو من بدائع الشيطان، كالفوّال و الرمّال و الكشّاف و الصرّاف.

قوله: «و الظاهر أنّه مراد الكلّ».

أقول: بل زاد في الجواهر (1) تقييد حرمتها بما إذا جزم به أو رتّب عليه محرّما من المواريث و الأنكحة، إلّا أنّه لا مخصّص و لا صارف لتقييد إطلاق نصوص حرمتها و لا لمعاقد الإجماع على حرمتها بأحد الأمرين، خصوصا على تقدير اندراجها في الكهانة و النجوم أو الرجم بالغيب و الظنين، و أنّ بعض الظنّ إثم، و قتل الخرّاصون، و خصوصا بملاحظة وقوع القيافة نصّا و فتوى في سياق مطلقات النهي عن النجوم و الكهانة، و عداد المكاسب من المحرّمات النفسيّة لا الغيريّة، كالقمار و القيادة.

قوله: «و لذا نهي في بعض الأخبار (2) عن إتيان القائف و الأخذ بقوله .. إلخ».

أقول: و إن كان المنهيّ فيها إتيان القائف و الأخذ بقوله، إلّا أنّ المعلوم في الخارج أنّه لا وجه لحرمة إتيانه و الأخذ بقوله إلّا حرمة نفس القيافة، كما لا وجه لحرمة استماع الغناء و الغيبة إلّا حرمة نفس الغناء و الغيبة، و لا لحرمة إتيان القمار و تصديق الفاسق و الكاذب إلّا حرمة نفس المقامرة و الفسق و الكذب.

فالاستدلال بتلك الأخبار أدلّ على خلاف المدّعى منه على المدّعى.

و ثانيا: سلّمنا عدم دلالة النهي عن إتيانه و الأخذ بقوله على حرمته نفسا،


1- جواهر الكلام 22: 92.
2- الوسائل 12: 108 ب «26» من أبواب ما يكتسب به ح 2.

ص: 192

إلّا أنّ إطلاق معقد سائر النواهي و الإجماع كاف في حرمته النفسيّة، مضافا إلى الظاهر سياقها و عدّها في عداد المكاسب المحرّمة نفسا لا غيرا، كالكهانة و القمار و الغيبة و الكذب.

قوله: «كما يشهد به ما عن الكافي .. إلخ».

أقول: محلّ الشاهد من هذا الخبر على إنكار القضاء بالقيافة على العامّة قوله عليه السّلام: «ابعثوا أنتم إليهم، و أمّا أنا فلا» (1)، بناء على أنّه لعدم المشروعيّة لا لرفع التهمة. فما عن الحدائق (2) من الاستدلال به على عدم الحرمة محلّ نظر، لقصور الخبر من معارضة ما عرفت من وجوه، منها موافقة العامّة (3) و احتمال التقيّة، و أن يكون قوله عليه السّلام: «ابعثوا أنتم .. إلخ» لعدم المشروعيّة لا لدفع التهمة، أو للعلم بصدقها في خصوص المقام، و إلّا فعدم جواز الأخذ بها على وجه ترتيب آثار المواريث بل الإمامة العامّة مسلّم، بل ضروريّ الحرمة في الشريعة.

قوله: «في الخبر: «ما كان فينا إمام قطّ حائل اللون» (4)».

[أقول:] أي: أسمر اللون و أسوده. مقصودهم التعريض على الجواد بإنكار ما قاله الرضا عليه السّلام: «هو ابني» و أنّه من شيف الأسود مولاه، كما يظهر من صريح الرواية الأخرى، و تشبيهه فيها بإبراهيم بن رسول اللّٰه في رمي مارية القبطيّة، بل و من ذيل هذه الرواية على ما فصّلت في الباب التاسع من مدينة المعاجز (5) بأصرح وجه.

[المسألة الثامنة عشرة الكذب حرام بضرورة العقول و الأديان]

قوله: «الكذب حرام بضرورة العقول و الأديان .. إلخ».

أقول: دلالة كلّ من الكتاب و السنّة و الإجماع عليه واضح. و أمّا ضرورة


1- الكافي 1: 322 ح 14.
2- الحدائق الناظرة 18: 182- 184.
3- صحيح مسلم 2: 1081.
4- الكافي 1: 322 ح 14.
5- مدينة المعاجز 7: 264 ح 4، و فيه: أنّه من شنيف الأسود .. إلخ.

ص: 193

العقول فإنّما هو على قبحه و نقصه الذاتي لا حرمته الشرعيّة، فإنّ الإخبار بخلاف الواقع كذبا لا يزيد قبحا و نقصا على الخباثة و القذارة و القساوة و الشقاوة الذاتيّة التي في أولاد السفاح و الشياطين من النفوس الخبيثة الشريرة، و مع ذلك لم تترتّب العقوبة على مجرّد الخباثة الذاتيّة و الشقاوة الأصليّة قبل إبرازها بالمخالفة الفعليّة. إلّا أن يفرض الكذب في الجملة كالكذب على اللّٰه سببا أو كاشفا عن سوء السريرة و التجرّي الحرام عقلا، أو أنّ المراد من حرمته الحرمة في الجملة الأعمّ من الحرمة النفسيّة و الغيريّة، أو الكبيرة و الصغيرة، أو المقتضي للحرمة لا العلّة التامّة، و إلّا لكان حرمته كالظلم من مستقلّات العقل الآبية من التخصيص بالمسوّغات، و البحث عن تلك المحتملات و المباحثات.

قوله: «و كتب اللّٰه عليه بتلك الكذبة سبعين زنية» (1).

[أقول:] و وجه تضاعف عقوبته بسبعين زنية أنّ الكاذب مع وجود خوف كشف الخلاف فيه و اسوداد وجهه و سقوطه عن أعين الناس، ليس على كذبه شي ء من القوى الشهويّة الباعثة على الزنا و لا الغضبيّة الباعثة على الظلم، و كلّما ضعف سببه تضاعف عقوبته، كزنا المحصن و المحصنة و الشيخ و الشيخة. و لهذا يقبل توبة المرأة و المرتدّ الملّي دون الرجل الفطري، و يقتل ساحر المسلم دون الكافر، و يكفر المستحلّ و لو لم يفعل المعصية، و لا يكفر الفاعل و لو أصرّ بالمعصية.

قوله: «هذا أولى من تقييد المطلقات المتقدّمة».

[أقول:] وجه الأولويّة أنّ إثبات كون الكذب على اللّٰه من الكبائر لا ينفي ما عداه حتى يقيّد المطلقات، بخلاف المطلقات، فإنّها نافية للتقييد بدون المقيّد.

قوله: «و يستفاد منه أنّ عظم الكذب باعتبار ما يترتّب عليه من


1- مستدرك الوسائل 9: 86 ب «120» من أبواب أحكام العشرة ح 15.

ص: 194

المفاسد».

أقول: هذا مفاد الصغير و الكبير من الكذب بالنسبة لا المطلق، و هو لا ينافي كون الكذب في نفسه كبيرة على الإطلاق، فإنّ كلّ كبيرة و لو كان أكبر الكبائر في نفسه على الإطلاق- حتّى الكفر و الشرك منه- ما هو صغير بالنسبة إلى ما يترتّب عليه من المفاسد، و هو لا ينافي كبيريّته في نفسه. ألا ترى أنّ قتل النفس المحترمة من الكلاب صغير بالنسبة إلى قتل سائر الحيوانات، و هو صغير بالنسبة إلى قتل ذمّي، و هو صغير بالنسبة إلى قتل مسلم، و هو صغير بالنسبة إلى مؤمن، و هكذا إلى ما لا نهاية له.

قوله: «ما من أحد (1) الخبر يدلّ على أنّ الكذب من اللمم».

أقول: بل الأظهر دلالته على أنّ الكذب بصيغة المبالغة لا الكاذب بصيغة الفاعل من يغلب منه تعمّد الكذب لا من يندر منه الكذب قليلا، إذ ما من أحد إلّا و يكون منه النادر القليل، خصوصا على وجه الخطأ و السهو و النسيان. فكلّ من السؤال و الجواب في نفسه- مضافا إلى ظاهر المطابقة- ظاهر في بيان معنى المبالغة من مثل قوله تعالى سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذّٰابُ الْأَشِرُ (2)، هل يعمّ مطلق الكذب ليعمّه حكمها، أو يخصّ بالزيادة ليخصّها الحكم؟ فالتخصيص بالزيادة يجعل الكذب المطلق صغيرة بالنسبة إلى الزائد الخاصّ لا مطلقا، كما هو المدّعى.

قوله: «و فيه أيضا إشعار بأنّ مجرّد الكذب ليس فجورا».

أقول: فيه أنّ احتمال أن يكون قوله: «إنّ الكذب يهدي إلى الفجور» (3)


1- الوسائل 8: 573 ب «138» من أبواب أحكام العشرة ح 9.
2- القمر: 26.
3- الوسائل 8: 577 ب «140» من أبواب أحكام العشرة ح 3.

ص: 195

الكذب المعهود الذكري- و هو خلف الوعد أو الهزل- ممّا لا نضايق كونه صغيرة في نفسه، لا أنّ مطلق الكذب ليس فجورا حتى يثبت المدّعي.

قوله: «المبالغة في الادّعاء و إن بلغت ما بلغت ليست من الكذب».

أقول: لا دليل على خروج المبالغة عن الكذب سوى السيرة القطعيّة على المبالغة بين المسلمين بل المعصومين، من غير نكير، بل ربما يعدّون المبالغة من البلاغة. و لكن السيرة دليل جوازها لا خروجها عن اسم الكذب عرفا، خصوصا بالنسبة إلى أصل الزيادة، فإنّه و إن كان أصل الدعوى في محلّه صدقا واقعا إلّا أنّ الزيادة و إن كان في محلّه إلّا أنّه كذب ظاهرا، إلّا أنّه لا ينافي جوازها، بل و لا عدّها في البلاغة، كسائر المجازات العقليّة اللغويّة، المتأخّر عنها القرائن الصارفة.

قوله: «إلّا إذا بني على كونه كذلك في نظر المادح، فإنّ الأنظار تختلف .. إلخ».

أقول: المدار في كذب الإخبار على مخالفة الواقع لا اختلاف الأنظار، ألا ترى أنّ إخبار الأحول عن الواحد بالاثنين و الصفراويّ عن الحلو بالمرّ كذب لا صدق، مع موافقة الأخبار بنظر المخبر و ذائقته؟!

قوله: «فلا ينبغي الإشكال في عدم كونها من الكذب .. إلخ».

أقول: تفصيل الكلام في بيان الأقسام و الأحكام و تحرير محلّ النزاع في المرام هو أن يقال: لا إشكال في أنّ صدق الخبر و كذبه هو المطابقة و اللامطابقة للواقع، إنّما الإشكال في أنّ الطريق إلى هذه المطابقة و اللامطابقة للواقع- بحسب الصدق العرفي، لا الجواز الشرعي الدائر مدار المسوّغات الشرعيّة، أو الضروريّات العقليّة المبيحة للمحظورات، المقدّرة بقدرها عقلا- هل هو بإرادة اللافظ و دلالة اللفظ كما هو الفرد المتيقّن من الصدق و الكذب عرفا، أو بالإرادة

ص: 196

مطلقا كما عن المشهور و مختار المصنّف، أو بالدلالة مطلقا كما عن بعض الأفاضل؟ وجوه بل أقوال. و ثمرة النزاع تظهر في جواز الكذب للمورّي مطلقا حتى لغير التقيّة و الضرورة المبيحة للمحظورات على المشهور، و عدم جوازه على القول الآخر إلّا لمسوّغ شرعيّ أو عقليّ.

و أمّا شقوق الأقسام و الأمثلة ففي هذا الشكل:

أ) الصدق هو المطابق للواقع 1- بالدلالة و الإرادة معا كقول الشيعي: عليّ أمير المؤمنين، فإنّه صدق على القولين بالدلالة و الإرادة.

2- بالدلالة كقول السنّيّ: عليّ أمير المؤمنين، مورّيا: من قبل الناس، صدق على غير المشهور بالدلالة، كذب على المشهور بالإرادة.

3- بالإرادة كقول الشيعيّ: عمر أمير المؤمنين، مورّيا: بالجور، صدق على المشهور بالإرادة و التورية، كذب على غير المشهور بالدلالة.

ب) الكذب اللامطابق للواقع.

1- كقول الشيعيّ: عمر أمير المؤمنين، مورّيا كذب على القولين بالدلالة و الإرادة.

2- كقول السنّيّ: عمر أمير المؤمنين كذب على غير المشهور بالدلالة صدق على المشهور بالإرادة.

3- كقول السنّيّ: عليّ أمير المؤمنين، مورّيا كذب على المشهور بالإرادة صدق على غيره بالدلالة.

و أمّا تحقيق الحقّ من الأقوال، فيترجّح كون الخبر المخالف للواقع بجميع أقسامه الخمسة المتداخلة في ثلاثة من الستّة كذبا حقيقيّا، للتبادر، و صحّة السلب. و يصدّقه وجوه

ص: 197

منها: ضرورة قبح الخطاب بظاهر و إرادة خلافه بدون نصب قرينة صارفة، و من المعلوم أن لا وجه لقبحه سوى الكذب، و المفروض أن لا يترتّب عليه مفسدة سوى الإغراء بالجهل الكذبي.

و منها: أنّ التورية بمحض الإرادة لو كانت مخرجة عن اسم الكذب عرفا لجاز الكذب بها مطلقا حتّى لغير التقيّة و الضرورة، و لا للمصلحة المسوّغة عقلا أو شرعا، بل حتّى في جميع الأقارير و الوصايا و الحلف و اليمين الكاذبة و الشهادات الباطلة إذا لم يترتّب عليها مفسدة خارجيّة، بل جاز السبّ و القذف و الكفر بمحض التورية، بل لزم قبول الإنكار بعد الإقرار بدعوى التورية، بل لزم سقوط الحدّ بدعوى التورية، بل و قبول دعوى التورية في جميع العقود و الإيقاعات الاختياريّة و لو لم تكن لإكراه أو مصلحة مسوّغة. و اللوازم كلّها باطلة بالضرورة، فالملزوم مثلها.

و منها: أنّ التورية لو كانت مخرجة عن الكذب لما صحّ تكذيب المنافقين الشاهدين بالرسالة بقوله تعالى وَ اللّٰهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنٰافِقِينَ لَكٰاذِبُونَ (1)، و لا تكذيب المغرور في العصيان بكرم ربّه بقوله تعالى كَلّٰا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (2)، و لا تكذيب الأعراب إذ قالوا: «أمنّا» بقوله تعالى قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا (3)، و لا تكذيب مدّعي المحبّة بقوله عليه السّلام: «لا تخدعنّ فللمحبّ دلائل» (4) إلخ.

و منها: لو كانت التورية مخرجة عن الكذب لوجب الخروج بها عنه في جميع المسوّغات الشرعيّة و العقليّة حتى في التقيّة و الضرورة، لوجود المخلص و المندوحة بالتورية عن الكذب، و لا ضرورة مع المناصّ و المندوحة، خصوصا


1- التوبة: 107.
2- الانفطار: 9.
3- الحجرات: 14.
4- لم نعثر عليه في مظانّه.

ص: 198

في نصوص تقيّة الإمام المعصوم المنزّه عن كلّ نقص و حرام، فإنّه و إن لم يجب عليه التورية فيها للخروج عن الكذب الحرام، إلّا أنّه يجب لمزيد التنزيه و الاعتصام، اللائق بمراتب الإمام، و خلفاء الملك العلّام. و مع ذلك لم يلتزم أحد من الأعلام بلزوم التورية في أخبار التقيّة على كثرتها بشي ء من التأويل و إن بعد، بعد الحمل على التقيّة بمجرّد موافقة العامّة، و هو أقوى شاهد صدق على المطلوب.

و قد استدلّ المصنّف على كون التورية مخرجة عن الكذب بوجوه:

منها: قوله: «و لذا صرّح الأصحاب فيما سيأتي من وجوب التورية عند الضرورة بأنّه يورّي بما يخرجه من الكذب .. إلخ».

و فيه أوّلا: ما سيأتي منه من منع مسلّمية وجوبها إلّا على ظاهر ما نسبه إلى المشهور في خصوص الضرورة الملجئة إلى الحلف كاذبا، و أنّ مقتضى إطلاقات أدلّة الترخيص في الحلف كاذبا عدم اشتراط التورية فيها أصلا و رأسا.

و ثانيا: لو سلّمنا، فإنّما هو في خصوص الضرورة المجلئة إلى الحلف كذبا، لا مطلق موارد الضرورة إلى الكذب بغير الحلف، فضلا عن موارد عدم الضرورة. و حينئذ، فيحتمل أن يكون اعتبارها في خصوص الحلف على تقدير تسليمه لأجل التبعيد عن هتك عظم الحلف باللّه المنهيّ بالاختيار و لو كان صادقا، فإنّ التورية و إن لم تخرجه عن حقيقة الكذب بالجملة، إلّا أنّه يبعّده عن الحقيقة في الجملة، و من البيّن أنّ الضرورات المبيحة للمحظورات كما تقدّر بقدرها كمّا فكذا تقدّر بقدرها كيفا، فيقتصر فيما خالف الأصل على المتيقّن من جواز الحلف للضرورة بكيفيّة التورية لا مطلقا.

و منها: ما استدلّ به المصنّف أيضا من سلب الكذب عن تورية إبراهيم عليه السّلام

ص: 199

في قوله تعالى إِنِّي سَقِيمٌ (1) بإرادة السقيم في دينه، و في قوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ (2) بإرادة اشتراطه ب إِنْ كٰانُوا يَنْطِقُونَ (3) و عن قوله تعالى أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسٰارِقُونَ (4) بإرادة سارق يوسف عليه السّلام، و عن قول الجارية للمستأذن على مولاها: «ليس هو هاهنا» (5)، و عن حلف الصحابي بأنّ المصحوب أخوه (6).

و يمكن الجواب أوّلا: بأنّ المراد من نفي الكذب عن التورية فيها لعلّه نفي حرمته لا نفي حقيقته، كما في قوله عليه السّلام: «لا ذنب مع الندم» (7) و «لا إصرار مع الاستغفار» (8) و «لا إسراف في خير» (9).

فإن قلت: على تقدير كون النافي لحرمة الكذب هو الضرورة المبيحة لكلّ محظور حتّى الكفر، كقوله: لكلّ من الكوكب و القمر و الشمس: هذا ربّي هذا ربّي (10)، و توطئة للنفي و مقدّمة للسلب، فما وجه التورية بعد نفي حرمة الكذب للضرورة؟

قلت: لعلّ وجه التورية مع انتفاء حرمة الكذب للضرورة لأجل مزيّة التنزيه، و تبعيد مراتب النبوّة عن بعض شوائب منافاة المروّة و مناقص الكذب في الجملة، و إن لم ينتف صدقه بالجملة، نظرا إلى أنّه الأليق بمنصب النبوّة و العدالة و العصمة.


1- الصافات: 89.
2- الأنبياء: 63.
3- الأنبياء: 63.
4- يوسف: 70.
5- الوسائل 8: 580 ب «141» من أبواب أحكام العشرة ح 8.
6- سنن أبي داود 3: 224 ح 3256.
7- انظر مجمع البحرين 6: 174.
8- مجمع البحرين 3: 364.
9- عوالي اللئالي 1: 291 ح 154.
10- الأنعام: 77، 78.

ص: 200

و ثانيا: سلّمنا كون التورية في الآيات و الروايات مخرجة عن الكذب، لكنّه في خصوص ما لم تكن التورية على خلاف الظاهر، كما في المجملات من الآيات (1) و الروايات (2) المستدلّ بها، لا فيما له ظاهر و يورّي بإرادة خلافه من غير قرينة صارفة، كما هو المدّعى. فالاستدلال بها على تقدير الدلالة خارج عن المقالة.

قوله: «و العقل مستقلّ بوجوب ارتكاب أقلّ القبيحين».

أقول: فيه أوّلا: أنّ ارتكاب أقلّ القبيحين إنّما مجراه في خصوص ما لو دار أمر المكلّف الواحد لا المكلّفين بين ارتكاب أقلّ القبيحين العقليّين أو الضررين الدنيويّين، كما لو أكره المكلّف مخيّرا بين كذب أو كذبين أو ظلم أو ظلمين أو شتم أو شتمين في غير الدماء، أو قطع إصبعه أو قطع حياته، بخلاف ما لو دار الأمر في ارتكاب أقلّ القبيحين أو الضررين بين مكانين، كارتكاب أحد للأقلّ و الآخر للأكثر، كما فيما نحن فيه، فإنّ الأمر دائر بين ارتكاب قبح كذب و ارتكاب الآخر ما هو أقبح منه: فإنّه لا يرجّح العقل ارتكاب قبيح لدفع الأقبح عن الغير. ألا ترى أنّه لا يجوز الظلم و لو بأقلّ ما يكون لدفع ظلم من هو أشدّ ظلما على الناس، و إلا لصحّ الظلم من كلّ من يكون ظلمه أقلّ من ظلم الآخر، و لو كان ابن سعد بالنسبة إلى شمر، و هو بمكان من القبح العقلي و خلاف الضرورة.

و كذا لو دار الأمر في ارتكاب أقلّ القبيحين الشرعيّين لا العقليّين، أو الضررين الأخرويّين لا الدنيويّين، فإنّه لا يحكم العقل أيضا بتعيين الأقلّ، بل يرجع فيه إلى ترجيح الشرع، كما لو دار الأمر بين سرقة درهم أو تفويت ألف صوم أو صلاة ألف يوم فلا يرجّح الأقلّ، بل يتعيّن الأكثر. و ما نحن فيه أيضا من


1- تقدّم ذكر مصادرهما في هامش (1 و 2) ص: 199.
2- تقدّم ذكر مصادرهما في هامش (1 و 2) ص: 199.

ص: 201

هذا القبيل، فإنّ حرمة الكذب شرعيّ لا عقليّ حتّى يترجّح الأقلّ مطلقا.

قوله: «إلّا أنّه يمكن القول بالعفو عنه».

أقول: إمكان العفو شرعا عن الكذب ذي المصلحة مع إمكان التورية و عدم توقّف المصلحة على الكذب، مبنيّ على ما ذكرنا من عدم مخرجيّة التورية عن الكذب، أو على عدم كون الكذب علّة تامّة للقبح العقليّ، بل هو مقتض لقبحه، حتّى يجوز طرد المانع منه شرعا أو عقلا، و إلّا فالعلّة التامّة للقبح العقلي يأبى من التخصيص و العفو عنه قطعا.

قوله: «لأنّ النسبة بين هذه المطلقات».

[أقول:] أي: ما دلّ على جواز الكذب مطلقا مع الاضطرار- و هو عدم التمكّن من التورية- و عدمه، و بين جواز كلّ ما اضطرّ إليه من الكذب و غيره.

«عموم من وجه، فيرجع إلى عمومات حرمة الكذب. فتأمّل».

لعلّه إشارة إلى منع استبعاد التقييد، لكن لا بما ذكر بعد بقوله: «هذا مع إمكان منع الاستبعاد»، بل بأنّ المقيّد بالاضطرار لا ينحصر في مثل الخبر الأخير الأعمّ من وجه حتّى يستبعد التقييد به، بل بما قبل الآخر، و هو قوله عليه السّلام: «إذا حلف الرجل لم يضرّه إذا أكره أو اضطرّ إليه» (1)، فإنه أخصّ مطلقا من سائر المطلقات، فلا يستبعد تقييدها به.

أو إشارة إلى منع أصل التقييد لا استبعاده، بما عرفت من أنّ تقييد مطلق جواز الكذب بصورة الاضطرار- و هو عدم معرفة التورية- إنّما يصحّ لو كانت التورية مخرجة عن الكذب، و قد عرفت عدم مخرجيّته عن كذب ما هو ظاهر في الكذب بوجه، و أنّ اعتبارها في خصوص الحالف كذبا على القول به لعلّه لخصوص تبعيد الحلف باللّه عن بعض مراتب الكذب الصريح، تحفّظا على مزيد


1- الوسائل 16: 137 ب «12» من أبواب كتاب الإيمان ح 18.

ص: 202

تعظيم الجلالة من الهتك بالكذب الصريح.

و أمّا ما تقدّم (1) من آية تورية الخليل عليه السّلام و الصّديق عليه السّلام و أخبار تورية غيرهم فقد عرفت خروجها عن محلّ النزاع أوّلا: بدلالتها على جواز التورية لا وجوبها المتنازع فيه. و ثانيا: بالتورية فيما ليس له ظاهر يخالفه، لا فيما له ظاهر يخالفه الذي هو محلّ الكلام.

قوله: «يمكن الفرق بين المقامين .. إلخ».

أقول: يمكن منع هذا الفرق بأنّه إن تعلّق الإكراه في العقد و الإيقاع بالمعنى الحقيقيّ الواقعي، فكذلك الإكراه المتعلّق بالحلف متعلّق بالحلف على المعنى الحقيقيّ الواقعي، و إن تعلّق فيهما بالأعمّ من الحقيقيّ فكذلك الإكراه المتعلّق بالحلف من غير فرق.

قوله: «و هذا بخلاف الكذب، فإنّه لم يسوّغ إلّا عند الاضطرار إليه، و لا اضطرار مع القدرة».

أقول: و يمكن منع هذا الفرق أيضا بما عرفت من تسويغ الكذب عند عدم الاضطرار أيضا، بل و عند عدم الإكراه أيضا، لمصلحة من المصالح، فلا فرق من هذه الجهة أيضا.

نعم، يمكن الفرق بينهما بأنّ الإكراه المتعلّق بالإنشاء بمجرّده مخرج عن الإنشاء الحقيقي و مانع منه بدون التورية، بخلاف الإكراه المتعلّق بالأخبار، فإنّه غير مخرج إيّاه عن حقيقة الإخبار و غير مانع منه إلّا بالتورية.

أو بأنّ المكره عليه في الإنشاء ليس بحرام و لا قبيح حتّى يحتاج إلى التورية المخرجة عنه، بخلاف المكره عليه في الإخبار فإنه كذب محرّم قبيح يحتاج إلى التورية المخرجة عنه.


1- راجع ص: 199.

ص: 203

أو بأنّ التورية المعتبرة في اليمين الكاذبة إنّما لأجل التحفّظ عن هتك عظم الحلف بالكذب الصريح، حيث إنّه منهيّ شرعا حتّى بالصدق، فلا ينافي اعتباره في الإنشاء الكذب، لعدم المنع و الهتك فيه.

قوله: «لأنّ التقيّة تتأدّى بإرادة المجاز و إخفاء القرينة».

[أقول:] بخلاف الاستحباب، فإنّه مجاز بلا مئونة إخفاء القرينة. مضافا إلى أن الاستحباب أقرب المجازات إن لم يكن مجازا مشهورا راجحا على الحقيقة. مضافا إلى موافقة قاعدة التوسّع في أدلّة السنن.

قوله: «فخبّت نفسه» (1).

[أقول:] من الخبّ بالفتح و التشديد: الخداع و الفساد و الإفساد.

قوله: «قد ورد في أخبار (2) كثيرة جواز الوعد الكاذب مع الزوجة».

أقول: و إن عارضها بعض ما تقدّم من النهي عن و عد الكذب للصبيّ، إلّا أنّه يمكن الجمع بينهما بحمل النهي على الكراهة، أو على غير الزوجة، أو بما إذا لم يرد الموعد الوفاء من أوّل الأمر، أو بما إذا لم يترتّب على وعد الكذب مصلحة الألفة أو دفع مفسدة النفرة.

[المسألة التاسعة عشرة الكهانة]

قوله: «الإخبار عن الغائبات على سبيل الجزم».

أقول: بل المنصوص (3) حرمة مطلق الرجم بالغيب، سواء كان على سبيل الجزم أو غيره، و سواء كان مسبوقا بالسؤال عنه أم لا؟ و سواء كان بالتنجيم أو الكهانة أو القيافة أو الفال أو الرمل و الجفر، بأيّ قسم من أقسامها المجعولة حتّى التفاؤل بالقرآن، فضلا عن التفاؤل بكتاب الحافظ و المثنوي، و الإصغاء بالمسموع


1- الوسائل 8: 579 ب «141» من أبواب أحكام العشرة ح 6، و فيه و في المكاسب المطبوع: فتخبث.
2- الوسائل 8: 578 ب «141» من أبواب أحكام العشرة.
3- الوسائل 12: 108 ب «26» من أبواب ما يكتسب به.

ص: 204

في الطرق، و نحوها من المجعولات التي لا نهاية لها بين الجهّال.

[المسألة العشرون اللهو حرام]

قوله: «و لا يبعد أن يكون القول بجواز خصوص هذا اللعب، و شذوذ القول بحرمته .. لأجل النصّ على الجواز فيه بقوله: لا بأس».

أقول: أمّا النصّ فهو خبر علاء بن سيابة عن الصادق عليه السّلام: «سئل عن شهادة من يلعب بالحمام، قال عليه السّلام: لا بأس إذا كان لا يعرف بفسق، قال: فإنّ من قبلنا يقولون: قال عمر هو الشيطان، فقال: سبحان اللّٰه أما علمت أنّ رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله قال:

إنّ الملائكة لتنفر عند الرهان و تلعن صاحبه، ما خلا الحافر و الخفّ و الريش و النصل، فإنّها تحضره» (1).

و أمّا الاستدلال به على جواز اللعب بالطيور فأشذّ من القول بحرمته، لوجوه:

منها: عدم الوقوف على توثيق علاء بن سيابة، غير ما يروي عنه أبان من عثمان الثقة على يقول. و على تقدير وثاقة الراوي فالرواية شاذّة عملا و رواية.

و منها: عدم مقاومته لعموم الآيات و شهرة روايات قبح اللعب بجميع الأشياء و حرمة كلّ ملهوّ به في خبر تحف العقول (2)، بل و لا لظاهر فتواهم الظاهر في الإجماع على حرمة صيد اللهو، و عموم تعليل النصّ فيه بقوله عليه السّلام: «ما للمؤمن و الملاهي، إنّ المؤمن لفي شغل شاغل» (3)، و على فسق اللاعب بالطيور و عدم قبول شهادته، و عدم صحّة المسابقة و المراهنة بالطيور بلا عوض، فإنّه لا وجه لحرمتها سوى كونه لهوا و لعبا.

و في السرائر: «و قول شيخنا في نهايته: و تقبل شهادة من يلعب بالحمام، غير واضح، لأنّه سمّاه لاعبا، و اللعب بجميع الأشياء قبيح، فقد صار فاسقا بلعبه،


1- الوسائل 18: 305 ب «54» من أبواب كتاب الشهادات ح 3.
2- تحف العقول: 335- 336.
3- تقدّم ذكر مصدره في هامش (3) ص: 157.

ص: 205

فكيف تقبل شهادته؟ و إنّما أورد لفظ الحديث إيراد لا اعتقادا» (1). بل في المستند (2) عن حقّ اليقين للمجلسي و غيره نفي الخلاف عن حرمة مطلق الملاهي. بل عن الأردبيلي في شرح الإرشاد (3) و غيره نقل الإجماع عليه، بل استظهر هو الإجماع المحقّق عليه.

و منها: موافقة الخبر للتقيّة و مذهب العامّة و أخبارهم من جواز المسابقة بالطيور و القدم و المصارعة، و أنه صلى اللّٰه عليه و آله سابق عائشة بالقدم مرّتين سبق في إحداهما و سبق في الأخرى (4)، و أنّه صلى اللّٰه عليه و آله صارع ثلاث مرّات كلّ مرّة على شاة فصرع خصمه في الثلاث و أخذ ثلاث شياه (5)،، و أنّه صلى اللّٰه عليه و آله قال: «أعلنوا النكاح بالغربال» (6) يعني: الدفّ. و قال صلى اللّٰه عليه و آله: «الفصل بين الحلال و الحرام الضرب بالدفّ» (7). و عن أبي هريرة أنّ الخليل إبراهيم عليه السّلام: «اختتن بعد ثمانين سنة بالدفّ» (8). إلى غير ذلك من مزخرفاتهم غير اللائقة بصبي عاقل، فضلا عن رئيّ (9) عادل، فضلا عن نبيّ كامل، مظهر أوصاف الكمال و مرآة صفات ذي الجلال.

و منها: احتمال أن يكون المراد بلعب الحمام في خبر الجواز اتّخاذها للاستئناس بها، أو لإنفاذ الكتب، أو للفرخ، أو لتنفير الشياطين، أو نحو ذلك من المصالح المسوّغة، كما احتمله بعض الأعلام.

أقول: بل و احتمل الغلط في نسخ الحمار بالحمام، و كون المراد: لا بأس


1- السرائر 2: 124.
2- مستند الشيعة 2: 637.
3- مجمع الفائدة 8: 41.
4- سنن أبي داود 3: 29 ح 2578.
5- تلخيص الحبير 4: 162 ح 24 ح 2024.
6- تقدّم ذكر مصادرهم في هامش (3- 5) ص: 166.
7- تقدّم ذكر مصادرهم في هامش (3- 5) ص: 166.
8- تقدّم ذكر مصادرهم في هامش (3- 5) ص: 166.
9- فلان رئيّ قومه: صاحب رأيهم و وجههم. أساس البلاغة: 149.

ص: 206

بالمسابقة بالحمار، كما يدلّ عليه استدلال الإمام عليه السّلام على جوازه في ذيل الخبر (1) باستثناء الخفّ و الحافر.

قوله: «فجعل إبليس و قابيل المزاعف و الملاهي» (2).

[أقول:] و في المجمع: «في الحديث أنّ اللّٰه بعثني لأمحق المعازف و المزامير» (3) جمع معزف، بكسر الميم، و هي الدفوف و غيرها ممّا يضرب بها.

قوله: «القول بحرمته شاذّ مخالف للمشهور و السيرة».

أقول: أمّا شذوذه و مخالفته المشهور فقد عرفت منعه جدّا في صريح السرائر (4) بأنّ اللاعب بجميع الأشياء قبيح، و اللاعب بها فاسق لا تقبل شهادته.

و صريح خبر تحف العقول: «و كلّ ملهوّ به حرام» (5). و عموم تعليل المنع عن صيد اللهو بقوله عليه السّلام: «ما للمؤمن و الملاهي، إنّ المؤمن لفي شغل» (6). و ما عن المجلسي (7) من نفي الخلاف عن حرمة مطلق اللهو. بل و عن الأردبيلي و غيره في شرح الإرشاد (8) نقل الإجماع عليه، بل قد استظهر المستند (9) الإجماع المحقّق عليه.

و أمّا السيرة فالكاشف منها غير موجود قطعا، خصوصا في مقابل عموم الآيات و الروايات الرادعة لها، و الموجود منها غير كاشف، لأنّها سيرة الجهّال و أهل الضلال، المتجاهرة حتّى في ضروريّ الحرمة من أقسام اللهو و اللعب.


1- تقدم ذكر مصدره في هامش (1) ص: 204.
2- الوسائل 12: 233 ب «100» من أبواب ما يكتسب به ح 5، و فيه و في المكاسب:
3- مجمع البحرين 3: 318.
4- تقدّم ذكر مصدره في هامش (1) ص: 205.
5- تقدّم ذكر مصدره في هامش (2) ص: 204.
6- تقدّم ذكر مصدره في هامش (3) ص: 157.
7- تقدّم ذكر مصادرها في الهوامش (2- 4) ص: 205.
8- تقدّم ذكر مصادرها في الهوامش (2- 4) ص: 205.
9- تقدّم ذكر مصادرها في الهوامش (2- 4) ص: 205.

ص: 207

و لو سلّمنا خروج ما خرج بالنصّ و السيرة، لكنّه لا يقدح في عموم حرمة البقيّة و أصل الكليّة. فإخراج النصّ و السيرة للهو المسابقة و الرياضة و ملاعبة الزوجة و الصبيان عن حرمة اللهو و اللعب و البطلان، لا يقضي بإخراج ملاهي الچائي و الوافور و العكار (1) و القليان، فضلا عن الدفّ و الرقص في العرس و الختان، فإنّها من عمل الشيطان، و شبهة لا تصادم العقل و البرهان.

قوله: «أمّا اللعب فقد عرفت أنّ ظاهر بعض ترادفهما».

أقول: بل الأظهر من اللغة و العرف عدم ترادفهما، و أنّ الباطل الذي لا فائدة فيه من فعل الجوارح هو اللعب، و من الكلام هو اللغو، و من الأعمّ منهما هو اللهو. و لهذا يقيّد تارة بلهو الحديث، و اخرى بفعل اللهو.

بقي الكلام في مستثنيات المقام ما لم يتعرّض له الأعلام، كما تعرّضوا لمستثنيات الكذب في الغيبة و سائر ما تقدّم من عناوين الحرام.

فنقول: من المستثنيات بالأدلّة الثلاثة السبق و الرماية و الملاعبة للنسوان، خصوصا الصبيان، بالهزّ و اللعب و اللغو و الإلهاء، لإنامة اليقظان بقدر الإمكان.

و منها: الرياضة بالمصارعة و المسابقة و الركض و المشي بالأقدام، و حمل الأثقال و جرّ الأجرام، للأغراض العقليّة و رفع الأمراض الرطوبيّة. و لكن لمّا كان المسوّغ لذلك منحصرا في الضرورة قدّر بقدرها كمّا و كيفا، و بما إذا انحصر إصلاح سوء المزاج في خصوص هذا اللهو من العلاج، و إلّا فلا ضرورة مع المندوحة، و لا يضيق المجال مع سعة الحال و وجود الأبدال، إلّا بفرض المحال بانتفاء الحلال.

و منها: السباحة، لنصوص استحبابها، و أنّ من حقوق الولد على والده تعليمه السباحة، خصوصا لسكّان سواحل البحار و الأنهار الكبار التي هي


1- كذا في النسخة الخطّية مهملة، و لعلّها تصحيف: السيگار، و هي السيجارة.

ص: 208

معرض الغرق.

و منها: السياحة في الصحاري و البلاد، لكن لخصوص تجارة أو زيارة أو تحصيل عبرة أو صنعة مشروعة لا غير مشروعة، كسياحة القلندريّة و الصوفيّة، لمزيد العلّية و الضلالة الأبديّة. و الدليل عليه قوله تعالى فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ (1) و السّٰائِحُونَ الرّٰاكِعُونَ (2)، و قوله عليه السّلام:

تغرّب عن الأوطان في طلب العلى و سافر ففي الأسفار خمس فوائد تفرّج همّ و اكتساب معيشة و علم و آداب و صحبة ماجد

(3) و منها: الدعابة و المزاح، لقوله عليه السّلام: «ما من مؤمن إلّا و فيه دعابة» (4). و كان فيه صلى اللّٰه عليه و آله دعابة (5). و كان صلى اللّٰه عليه و آله يداعب الرجل يريد أن يسرّه (6). و في الحديث: «إن اللّٰه يحبّ المداعب في الجماعة بلا رفث» (7) أي: الممازح فيه بلا فحش. «قيل: و ما الدعابة؟ قال عليه السّلام: المزاح و ما يستملح» (8). و لكن من المعلوم و لو بشاهد حال المؤمن و المعصوم أنّ المطلوب من الدعابة و المزاح إنّما هو خصوص ما يسرّ و لا يضرّ.

و منها: الاستئناس و التنزّه و التفرّج بالمفرّحات و المفرّجات المباحة، من الطيور و النساء و البنين و المياه و الخضر و الرياحين، و لكن بما لا يؤدّي إلى مثل السكر و تضييع العمر و الإجحاف و الإسراف في الإتراف المحرّم، و ذلك لأنّ


1- التوبة: 2.
2- التوبة: 112.
3- ديوان أمير المؤمنين عليه السّلام: 45.
4- الوسائل 8: 477 ب «80» من أبواب أحكام العشرة ح 3.
5- انظر مستدرك الوسائل 8: 407 ب «66» من أبواب أحكام العشرة ح 1.
6- الوسائل 8: 478 ب «80» من أبواب أحكام العشرة ح 4.
7- الوسائل 8: 478 ب «80» من أبواب أحكام العشرة ح 5.
8- الوسائل 8: 477 ب «80» من أبواب أحكام العشرة ح 3.

ص: 209

المسوّغ له من قوله تعالى قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّٰهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبٰادِهِ وَ الطَّيِّبٰاتِ مِنَ الرِّزْقِ (1)، و من العقل الحاكم بإباحة كلّ ما فيه منفعة خالية عن أمارة المضرّة، مقيّد بنصوص وَ لٰا تُسْرِفُوا* (2) و الإسراف أمر يبغضه اللّٰه، و أنّه أمارة المضرّة، و بفحوى النهي عن صيد اللهو المعلّل بعموم: «ما للمؤمن و الملاهي، إن المؤمن لفي شغل شاغل» (3).

و ممّا ذكرنا يندفع ما توهّم استثناؤه بسيرة أهل الزمان، من ملاهي الچائيّ و القليان، و الوافور و القهوة و الفنجان، و جلوس القهاوي بكبر و طغيان، و هل هو إلّا من عمل الشيطان، و سفاهات يونان، و إسراف و تبذير و خسران، و مضعّفات العقل و الأبدان بل الإيمان، سيّما الوافور الموجب للفتور في الجنان و الأركان، المبتدعة في البلدان لتضييع العمر و الحرمان، و التبعيد عن الطاعة و الجنان، و التقريب إلى العصيان و النيران؟ أم هو من حكمة لقمان، و أتباع إمام الزمان و التأسّي بخلفاء الرحمن. فيا أيّها الثقلان هل يستوي الحقّ و البطلان، و الربح و الخسران، و الفسق و الإيمان، مثل الفريقين كالأعمى و الأصمّ و البصير و السميع هل يستويان؟

و منها: ما توهّمه بعض الأعلام تبعا لجهّال العوام من استثناء ما لم يقصد به اللهو الحرام من الملاهي و الآثام، كضرب الطبول للإفهام، و الأطواب للإعلام، و تشديد الحروب و الاقتحام، أو لتعظيم الإمام، و شعائر الإسلام، و المشعر الحرام، بزعم الإكرام و الاحترام، إنّما هو من بدع الإسلام في تحليل الحرام، و هتك الإمام بزعم الإكرام، و الإعظام بأعظم الآثام، كما هو دأب العوام، ضرورة أنّ الأحكام تابعة لأساميها لا لقصود فاعليها، و إلّا لصحّ العدوان بقصد الإحسان، و السرقة


1- الأعراف: 32.
2- الأعراف: 31، الأنعام: 141.
3- تقدّم ذكر مصدره في هامش (3) ص: 157.

ص: 210

بقصد الصدقة، و الفجور بقصد السرور، و ما هو إلّا قول زور، و ناشئ عن الغرور، و راجع إلى كفر الكفور.

و منها: توهّم جملة من الأعيان استثناء الدفّ و الغناء في العرس و الختان، لأخبار عامّية، كقوله: «أعلنوا النكاح بضرب الغربال» (1) أي: الدفّ، و «الفصل بين الحلال و الحرام بضرب الدفّ» (2). و عن أبي هريرة أنّ الخليل إبراهيم عليه السّلام اختتن بعد ثمانين سنة بالقدوم و الدفّ (3).

و منها: توهّم استثناء المصارعة و المسابقة بالأقدام تبعا للعامّة المتّهمة، بأنّه صلى اللّٰه عليه و آله سابق عائشة مرّتين فسبق في إحداهما و سبق في الأخرى (4)، و أنّه صارع رجلا على شاة ثلاث مرّات فغلبه و أخذ منه ثلاث شياه (5)، إلى غير ذلك من فروعهم المبنيّة على أصولهم الباطلة و أخبارهم الكذبة، المنافية لضرورة المذهب و نصوص الكتاب و السنّة و الفطرة العقليّة.

[المسألة الثانية و العشرون معونة الظالمين في ظلمهم حرام]

قوله: «و الوجه فيه واضح من جهة قبحه عقلا».

أقول: و هل قبحه العقلي من باب الكذب المقتضي للقبح، أم من باب الظلم الذي علّة تامّة للقبح؟ وجهان الأقرب الثاني، لاختصاص نصوص الباب بغير ذمّ الكذّاب، و لأنّ ذمّ العادل بالفسق ظلم لشخص العادل المذموم، و بالعكس ظلم لنوع العادل بالمفهوم، فهو على كلا تقديرية ظلم معلوم أو مفهوم. و تظهر ثمرة الوجهين في مستثنيات الباب كمّا و كيفا.

و أمّا ذمّ من يستحقّ الذمّ فالأصل جوازه، بل قد يجب بالعرض، لعروض مصلحة شرعيّة، كما أنّه قد يحرم لعروض غيبة محرّمة أو خوف تقيّة أو مفسدة.

و كذلك مدح من يستحقّ المدح، الأصل أيضا جوازه بالأصالة، و لكن قد يعرضه


1- تقدّم ذكر مصادرها في هامش (3) ص: 166.
2- تقدّم ذكر مصادرها في هامش (4) ص: 166.
3- تقدّم ذكر مصادرها في هامش (5) ص: 166.
4- تقدّم ذكر مصادرهما في هامش (4) ص: 205.
5- تقدّم ذكر مصادرهما في هامش (5) ص: 205.

ص: 211

الوجوب، لوجوب شكر المنعم، و من لم يشكر الناس لم يشكر اللّٰه، كما قد يعرضه الحرمة، لخوف تقيّة، و الاستحباب لإدخال السرور، و الكراهة لإغراء الغرور، كما في الخبر: «أحبّ إخواني إليّ من أهدى إليّ عيوبي» (1) و «حثوا وجوه المدّاحين بالتراب» (2).

قوله: «و أمّا لدفع شرّه فهو واجب».

أقول: في أصل وجوب المدح و الذمّ المحرّمين عقلا لمطلق رفع الشرّ فضلا عن إطلاق وجوبه نظر، ضرورة أنّ الضرورة المبيحة للمحظورات شرعا بعموم:

لٰا يُكَلِّفُ اللّٰهُ نَفْساً إِلّٰا وُسْعَهٰا (3) وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (4) وَ لٰا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (5)، و حديث (6) رفع التسع، لا تجوّز أصل ما فرض ظلما لدفع الشرّ مطلقا، فضلا عن وجوبه له مطلقا، بل إنّما تقدّر بقدرها كمّا و كيفا. فإن كان الشرّ ممّا يتحمّل عادة فلا تسوّغ الضرورة المدح المحرّم له عقلا أصلا و رأسا، فضلا عن وجوبه له. و إن كان ممّا لا يتحمّل عادة سوّغت الضرورة الأمر المحرّم له، لكن على وجه الجواز لا الوجوب، فأين مورد أصل الوجوب فضلا عن إطلاقه؟

نعم، لو كان المدح و الذمّ جائزا بالأصالة- كمدح من يستحقّ المدح و ذمّ من يستحقّ الذمّ- أمكن عروض الوجوب عليه لمصلحة ملزمة. و أمّا ما كان بالأصالة حراما ذا مفسدة عقليّة- كذمّ الممدوح و مدح المذموم، الراجع إلى الظلم


1- تحف العقول: 366.
2- الوسائل 12: 132 ب «43» من أبواب ما يكتسب به ح 1.
3- البقرة: 286.
4- الحج: 78.
5- البقرة: 185.
6- الوسائل 5: 345 ب «30» من أبواب الخلل ح 2.

ص: 212

الشخصيّ المعلوم أو النوعيّ المفهوم بالفرض- فلا يعقل عروض المصلحة الملزمة عليه.

مضافا إلى أنّه لو صحّ عروض الوجوب و المصلحة الملزمة للمدح و الذمّ المحرّمين لما صحّ للمعصومين تحسين كلّ ممّن اختار القتل على التقيّة بالمدح و الذمّ المحرّمين بتعجيله إلى الجنّة، و من اختار التقيّة به على القتل بتفقّهه في الأمر. بل لوجب النكير و الإنكار من المعصومين على من اختار القتل من أصحابهم على المدح و الذمّ المحرّمين، كوالدي عمّار و أبي ذرّ و حجر بن عديّ و ميثم التمّار و عبد اللّٰه بن عفيف و محمّد بن أبي عمير و يعقوب بن إسحاق، و سائر كبار الأصحاب، المشهورة قضاياهم في كتب الرجال.

قوله: «و إنّ لي ما بين لابتيها» (1).

أقول: أمّا الواو فحاليّة، و الجملة حال من فاعل «عقدت». و لابتيها تثنية لابة، هي الحرّة بالفتح ذات الأحجار السوداء، و جمعها لابات. و ضمير الهاء إن كان راجعا إلى المدينة كما في الحديث: «حرم رسول اللّٰه المدينة، ما بين لابتيها صيدها» (2) كان المراد من لابتيها الحرّتين العظيمتين المكتنفتين بها، و فسّر بما بين السورين، أو بما بين ظلّ عائر و وعير، يعني: ما أحبّ أن أعقد لهم عقدة و الحال أن لي ما بين سوري المدينة و حدّيها. و إن كان راجعا إلى الدنيا كان لابتاها كناية عمّا بين المشرق و المغرب، يعني: ما أحبّ أن أعقد لهم عقدة و الحال أنّ لي ما بين المشرق و المغرب، كقوله عليه السّلام: «لو أعطيت السبع الأقاليم على أن أظلم نملة في قشر شعيرة ما فعلت» (3).


1- الوسائل 12: 129 ب «42» من أبواب ما يكتسب به ح 6.
2- الوسائل 10: 285 ب «17» من أبواب المزار و ما يناسبه ح 5.
3- نهج البلاغة: 347 خ 224.

ص: 213

قوله: «أو المسنّاة يصلحها» (1).

[أقول:] المسنّاة بضمّ الميم- نحو المرز بكسر الميم-: مجمع التراب المحجّر للأرض المحياة.

قوله: «ما أحبّ ظاهر في الكراهة».

[أقول:] و فيه نظر، لأعميّته من الكراهة، فيحمل على خصوص الحرمة، لنصوصها الخاصّة، تقديما للخاصّ على العامّ و الأظهر على الظاهر، خصوصا بعد تعليل «ما أحبّ» بقوله: «إنّ أعوان الظلمة .. إلخ» (2).

قوله: «و أمّا أعوان الظلمة فهو من باب التنبيه على أنّ القرب إلى الظلمة و المخالطة معهم مرجوح».

[أقول:] و فيه: أنّ تقييد الأعوان- الذي هو جمع العون، الظاهر في معنى الفعل و حدث المصدريّة، الظاهرة في مطلق الإعانة و لو في المباحات، خصوصا بقرينة التصريح فيه بقوله: «ما أحبّ أنّي عقدت لهم عقدة أو وكيت لهم وكاء» (3)، و في خبر آخر بقوله: «لا تعنهم على بناء مسجد» (4)- بخصوص الإعانة على وجه الاعتياد و الانتساب، و جعل الإعانة لهم عادة و حرفة مستمرّة كالملكة، خلاف الأصل الأصيل، و تخصيص العموم بلا دليل. و دعوى الانصراف- مضافا إلى أنه بلا صارف- إنّما هو من خصائص الإطلاق، لا يتأتّى في عموم: «لا تعنهم على بناء مسجد» (5) و «أنّ أعوان الظلمة في سرادق من النار» (6).

قوله: «و أمّا رواية صفوان (7) فالظاهر منها أنّ نفس المعاملة معهم ليست


1- تقدّم ذكر مصادرهم هامش (1) ص: 212.
2- تقدّم ذكر مصادرهم هامش (1) ص: 212.
3- تقدّم ذكر مصادرهم هامش (1) ص: 212.
4- الوسائل 12: 129 ب «42» من أبواب ما يكتسب به ح 8.
5- تقدّم ذكر مصدره في هامش (4) هنا.
6- تقدّم ذكر مصدره في هامش (1) ص: 212.
7- الوسائل 12: 131 ب «42» من أبواب ما يكتسب به ح 17.

ص: 214

محرّمة، بل من حيث محبّة بقائهم .. إلخ».

[أقول:] و فيه و أيضا: ما تقدّم من أنّ تقييد حرمة نفس المعاملة فيه بحرمتها من حيث المحبّة، و تقييد حيث المحبّة بالمحبّة الخاصّة المحرّمة من حيث قصد الإعانة في الظلم، أو الإعانة المنصرفة إلى خصوص الإعانة المستمرّة الدائمة، خلاف الظاهر و الأصل الأصيل، و انصراف بلا صارف و لا دليل. بل الظاهر من تعليل الحرام بالأمر العامّ تعميمه الحرام، لا تخصيصه بغير المقام، و صرفه عن المرام.

و بعبارة: ظاهر الرواية- خصوصا بمعونة أنّ الأخبار كالقرآن تفسّر بعضها بعضا- أنّ نفس الكراء و المعاملة معهم حرام لسبب و علّة أنّه مستلزم لعموم المحبّة، و مطلق الركون و التولّي و المودّة المحرّمة لمن حادّ اللّٰه و رسوله، و المنافية للتبرّي و هجر أهل الفسوق و المعاصي، كما يدلّ عليه بالعموم و الأولويّة نصوص الكتاب و السنّة المتواترة في وجوب هجر الفاسق و التبرّي منه، بل التبعّد من ساحة أهل المعاصي، و النظر في وجوههم، و الركون إليهم، و القعود معهم، و المداهنة معهم، فضلا عن المعاملة و الإعانة لهم، كقوله وَ لٰا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا (1) فَلٰا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظّٰالِمِينَ (2) وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لٰا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً (3) وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ (4) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهٰاجِرُوا مٰا لَكُمْ مِنْ وَلٰايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ (5)


1- هود: 113.
2- الأنعام: 68.
3- الأنفال: 25.
4- المائدة: 51.
5- الأنفال: 72.

ص: 215

وَ إِذْ قٰالَ إِبْرٰاهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ إِنَّنِي بَرٰاءٌ مِمّٰا تَعْبُدُونَ (1). إلى غير ذلك ممّا لا يخفى كتابا و لا سنّة من النصوص (2) المستفيضة المتواترة التي لا معارض لها و لا صارف، كما في رسالة آيات الظالمين الدالّة بعمومها على عموم حرمة إعانة الظالم مطلقا و لو في المباحات.

و أمّا حرمة إعانة في الظلم فلا اختصاص له بالظلم، بل الإعانة على مطلق الإثم و العدوان حرام، بل الإعانة على الظلم إنّما هو من عين الظلم المحرّم عقلا، الآبي من التخصيص قطعا، بخلاف مطلق الإعانة و لو في المباحات، فإنّه و إن حرم نفسا مطلقا إلّا أنّه كسائر المحرّمات النفسيّة الشرعيّة مخصّصة بمثل قوله تعالى إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ (3) و إِلّٰا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً (4) فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ (5) وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (6) وَ مٰا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسٰابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ وَ لٰكِنْ ذِكْرىٰ (7) أي: لأجل الموعظة و ذكر الآخرة، أو لدفع ضرر و إضرار، أو لتأليف قلب، أو إتمام حجّة، أو لتفريج كربة عن مؤمن أو فكّ أسره، كما في المستفيضة الآتية، أو نحو ذلك من الضرورات المبيحة للمحظورات، و موارد اللطف الواجب على الحكيم من تقريب العباد إلى الطاعة و تبعيدهم عن المعصية.

و من هنا سرى الخلط و الوهم إلى مثل المصنّف و من تقدّمه من صاحب


1- الزخرف: 26.
2- الوسائل 12: 127 ب «42» من أبواب ما يكتسب به.
3- النحل: 106.
4- آل عمران: 28.
5- البقرة: 173.
6- الحج: 78.
7- الأنعام: 69.

ص: 216

الجواهر (1) و الرياض (2) و غيرهم، في إنكار حرمته النفسيّة، أو تخصيصها بخصوص إعانة الظالم في ظلمه، أو بقصد غرض محرّم من تقوية سلطانه و شوكته، أو لحبّ الدنيا و رئاسته، أو الإعانة المعدّة له من خواصّه، أو إعانة الظالم من المخالفين دون الظالم من أهل الدين. و الكلّ تقييد بلا مقيّد، و جمع بلا شاهد، بل مناف لحجّية العامّ المخصّص في الباقي.

و دعوى قصور السند و الدلالة في بعضها، أوّلا ممنوع بما تقدّم. و ثانيا على تقديره منجبر بشهرة الروايات و كثرتها عددا و صحّة و صراحة، و بموافقة الكتاب و الاحتياط، و مخالفة العامّة في العمل و الرأي و التقيّة، و كفى به في الجبر و الحجّية. كيف و ظلمة أهل الدين كنساء النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله و المنافقين عذابهم مضاعف لا أخفّ، مع أنّ خصوص المورد لا يخصّص عموم الوارد.

و دعوى صاحب الجواهر (3) أنّ هذا مخالف للسيرة القطعيّة. فيه: أنّ المسلّم من مخالفة السيرة إنّما هي في الضرورات المبيحة للمحظورات لا مطلقا.

ألا ترى سيرة الصلحاء و العلماء على كمال الامتناع و الإباء من مصاحبة الجهلة، فضلا عن الظلمة، و فضلا عن إعانتهم؟! و يكفيك الرجوع فيما ذكره منتهى المقال (4) في أحوال صاحب المدارك و المعالم و الشيخ الحرّ و بحر العلوم، و ما شاهدناه برأي العين من سيرة المصنّف، و سيّد مشايخنا الأعلام و سائر أساتيدنا الكرام، من كمال الإباء و الامتناع من ملاقاة سلاطين الزمان، فضلا عن إعانتهم.

تنبيه: و ممّا ذكرنا تبيّن أنّ الفقهاء و إن لم يتعرّضوا في الفقه إلّا لحرمة إعانة الظلمة من جهة مناسبة تعلّقه بالمكاسب، إلّا أنّ المحرّم بحسب الأدلّة لا


1- جواهر الكلام 22: 159.
2- رياض المسائل 5: 35.
3- جواهر الكلام 22: 53.
4- منتهى المقال 2: 386 رقم 729، ص 359 رقم 3089، و لم نعثر على الشيخ الحرّ.

ص: 217

ينحصر في مطلق إعانتهم، بل يعمّ مطلق الإعانة على الإثم و العدوان، لقوله:

وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ (1)، بل و يعمّ مطلق إعانة الفاسق، لكونه ظالما لنفسه، بل و يعمّ مطلق الركون إليهم و القعود معهم، لعموم وَ لٰا تَرْكَنُوا (2) فَلٰا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظّٰالِمِينَ (3)، بل و يعمّ مطلق النظر إلى وجوههم، بل و إلى زيناتهم و محاسنهم و مناظرهم المعدّة لجلب القلوب و عيون النّظارة، لعموم قوله تعالى وَ لٰا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلىٰ مٰا مَتَّعْنٰا بِهِ أَزْوٰاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا (4) الآية، و ما تقدّم عن تفسير العيّاشي (5)، و النظر إليهم على العمد من الكبائر، بل و مطلق حبّهم، بل و مطلق الرضا بفعلهم، بل و مطلق المداهنة معهم، بل و مطلق عدم التبرّي منهم، و عدم الهجر لهم، و عدم الردع و الإعراض عنهم، كما لا يخفى على من راجع آيات الظالمين، إلّا لضرورة أو تقيّة أو إتمام حجّة أو تفريج كربة من الضرورات المبيحة للمحظورات.

تنبيه آخر: و يتفرّع على ما اخترناه من أصالة حرمة مطلق إعانة الظلمة و لو في المباحات بالحرمة النفسيّة إلّا لضرورة مسوّغة فروع كثيرة الابتلاء و عامّة البلوى:

منها: أنّه لو اضطرّ المعين بالإعانة المحرّمة بالاضطرار، أو التقيّة و الإكراه و الإجبار، أو الجهل و الخطأ و الإعسار، المستندة إلى سوء الاختيار، كالدخول في محلّة الأشرار أو التقرّب إليهم بالجوار أو الاتّجار و الاشتهار، فهل يوجب هذا الاضطرار المعذوريّة و الاعتذار، أو يلحق هذا الاضطرار بحكم الاختيار؟ وجهان


1- المائدة: 2.
2- هود: 113.
3- الأنعام: 68.
4- طه: 131.
5- في ص: 176.

ص: 218

بل قولان، من عموم (1) أدلّة رفع العسر و الحرج و الاضطرار، و من استناد الاضطرار الناشئ عن الاختيار إلى الاختيار عرفا و عقلا و شرعا. أمّا عرفا فلاستناد الأفعال القوليّة الاضطراريّة إلى الاختيار عرفا. ألا ترى استناد القتل عرفا إلى الرامي و الرمي بالاختيار، لا السهم المرميّ بالاضطرار، و استناد الإحراق عرفا إلى المحرق المختار لا إلى النار؟!.

و أمّا عقلا فلتجويز العقل و العقلاء التكليف بغير المقدور الناشئ عن الاختيار. و لهذا حكموا على المتوسّط في الأرض المغصوبة بالتخلّص عن الغصب و النهي عن الغصب، و على القطّاع بمخالفة قطعه و إن كان جهلا مركّبا، و على الجاهل المقصّر بعدم المعذوريّة، و على المخطئ في أصول الدين بعدم المعذوريّة.

و أمّا شرعا فلما تقدّم (2) من منع صفوان عن إكرائه الجمال الظالم مع إكراهه و اضطراره، فليس إلّا لاستناد ذلك الإكراه و الاضطرار إلى اختياره الجماليّة، و لهذا باع جماله. و لما في الوسائل (3) و غيره باب مبوّب من النصوص المستفيضة الصريحة في وجوب تحمّل المشقّة الشديدة، فيغسل من تعمّد الجنابة و إن أصابه ما أصابه، دون من احتلم، فإنّه يتيمّم. و ما ورد من أنّ: «من سنّ سنّة سيّئة كان له وزر من عمل بها» (4)، مع أنّ عمل العامل بالبدعة خارج عن اختيار المبدع.

و ما ورد (5) في تائب بني إسرائيل عمّا ابتدعه من الدين أنّه لا تقبل توبته


1- تقدّم ذكر مصادره في هامش (3 و 6) ص: 211.
2- في ص: 214.
3- الوسائل 2: 986 ب «17» من أبواب التيمّم.
4- صحيح مسلم 2: 704 ح 69.
5- تفسير الامام عليه السّلام: 252- 257.

ص: 219

حتّى يحيي من مات على دينه و يرجعهم عنه. و في المرتد الفطري (1) من أنّه يقتل و لا يستتاب، أي: لا تقبل توبته، مع كونه مأمورا بالتوبة. و قوله تعالى فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمٰانُهُمْ لَمّٰا رَأَوْا بَأْسَنٰا (2) يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيٰاتِ رَبِّكَ (3) أي:

ظهور القائم، على ما في تفسير الإمام عليه السّلام (4) لٰا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمٰانُهٰا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمٰانِهٰا خَيْراً (5).

و ما ورد (6) من تكليف المصوّرة يوم القيامة بالنفخ في الصورة، و تكليف الظلمة بردّ المظلمة، و قوله تعالى ارْجِعُوا وَرٰاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً (7)، بل الظاهر من نفس أدلّة الرفع، بل صريح بعضها مثل: «ما حجب اللّٰه علمه عنه فهو موضوع» (8)، و «ما غلب اللّٰه عليه فهو أولى بالعذر» (9) أنّ المرفوع خصوص ما كان من قبل اللّٰه لا من قبل نفسه، حتى السهو و النسيان و خطأ المجتهد، و خوف الجبان و الوسواس و كثير الشكّ، و قطع القطّاع و ظنّ الظنّان.

و على ذلك فلا يستباح شي ء من المقدّمات الاختياريّة المفضية بالاضطرار إلى إعانة الظلمة و الأشرار و الكفّار، بل يجب التخلّص، منها مقدّمة للتخلّص عمّا يترتّب عليها من الإعانة المحرّمة و لو كانت اضطرارا، إلّا إذا اضطرّ أيضا إلى نفس المقدّمة المفضية إلى الحرام. و لو لا ذلك الاضطرار لم يستبح شي ء من الحرف و الصناعات و التجارات و الزراعات أصلا و رأسا، إذ ما من شي ء منها إلّا


1- الوسائل 18: 544 ب «1» من أبواب حدّ المرتد.
2- غافر: 85.
3- الأنعام: 158.
4- تفسير العسكري عليه السّلام: 478.
5- الأنعام: 158.
6- الوسائل 12: 220 ب «94» من أبواب ما يكتسب به ح 6.
7- الحديد: 13.
8- الوسائل 18: 119 ب «12» من أبواب صفات القاضي ح 28.
9- الوسائل 5: 353 ب «3» من أبواب قضاء الصلوات ح 13.

ص: 220

و يفضي إلى إعانتهم المحرّمة لا محالة.

و منها: أنّ العسر و الاضطرار المبيح لمحظورية الإعانة المحرّمة هل هو عسر نوعيّ ليكون حصوله في أغلب أفراد المكلّفين أو أغلب أحوال المكلّف موجبا لاطّراد حكم الرفع بالنسبة إلى الجميع حتى بالنسبة إلى الفرد النادر من المكلّفين و الحال النادر من المكلّف غير المتعسّر عليه و فيه اجتناب الإعانة المحرّمة، أم هو عسر شخصيّ دائر مدار موضوعه الشخصيّ الفعلي وجودا و عدما فلا ينسحب حكم العسر و الاضطرار المرفوع عن أغلب الأفراد و الأحوال إلى الفرد النادر و الحال النادر؟ وجهان بل قولان، من عموم قوله عليه السّلام: «بعثت على الشريعة السمحة السهلة» (1) «و أن شيعتنا لأوسع ما بين السماء و الأرض، و الخوارج ضيّقوا على أنفسهم» (2)، و من أنّ ظاهر رفع العسر و الاضطرار، خصوصا بقرينة سياق رفع السهو و النسيان، كون العسر علّة للرفع، فلا ينفكّ عن معلوله المرفوع، بل يدور مداره وجودا و عدما.

و أمّا أغلب أحكام الشريعة السمحة السهلة المنوطة بالعسر النوعي، كقصر المسافر المنوط بمشقّة السفر على الأغلب و لو لم يتعسّر على الكلّ و في الكلّ، و مسيس الحاجة الضروريّة إلى الحديد في الأغلب لرفع نجاسته عن الكلّ و في الكلّ، فإنّما هو بقرينة الإلحاق و اتّحاد السياق، كقوله صلى اللّٰه عليه و آله في جواب الأعرابي ما لنا نقصّر و قد أمنّا؟: «صدقة تصدّق اللّٰه بها عليكم فاقبلوها» (3)، و قوله صلى اللّٰه عليه و آله: «لو لا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسواك» (4). إلى غير ذلك من دليل الاتّحاد و الاطّراد، و إلحاق النادر بالغالب من الأفراد، و هو الأشهر الأظهر.


1- مستدرك الوسائل 1: 419 ب «59» من أبواب آداب الحمام ح 9.
2- البحار 80: 82 ح 2.
3- مسند أحمد 1: 25، تلخيص الحبير 1: 58.
4- عوالي اللئالي 2: 21 ح 43.

ص: 221

و يتفرّع عليه أنّ العسر و الضرورة المبيحة للإعانة المحرّمة إنّما تقدّر بقدرها كمّا و كيفا، و زمانا و مكانا، وجودا و عدما. فلو اضطرّ إلى الإعانة المحرّمة بقدر أو حال أو زمان أو مكان لم يجز له التعدّي عن محلّ العسر و الضرورة إلى الزيادة أصلا و رأسا كأكل الميتة.

و منها: أنّه لو اضطرّ إلى الإعانة أو المعاملة أو الوصلة المحرّمة أو غير المكافئة في محلّ أو زمان أو مكان، ثمّ زال ذلك العسر و الإكراه و الاضطرار المبيحة له، و تمكّن المعين من الإقالة و استرجاع المعونة و استرداد المئونة و الصلة و الهديّة و انفساخ العقود المكرهة و الازدواج غير المكافئ، فهل يجب عليه الاسترجاع و الاسترداد و الإقالة و الفسخ و الانفساخ مع بقاء العين و صدق المعونة، أم لا؟ وجهان بل قولان، من عموم (1) أدلّة الرفع و استصحاب بقاء الحكم المرفوع على ما كان، و من أنّ حكم الإكراه و العسر المرفوع كحكم السهو و النسيان المرفوع حكم اضطراريّ عقليّ يقدّر بقدره، فإذا زال موضوع الاضطرار زال حكمه، فلا سبيل إلى استصحابه مع تبدّل موضوعه، بل يرجع فيه إلى حكمه الاختياريّ الأصليّ الأوّلي، و هو حرمة الإعانة. كما أنّه لو أعين الإعانة المحرّمة من غير ضرورة مسوّغة ثمّ طرأ الاضطرار المبيح لم يجز استرداد المعونة، فيتبدّل حكم الاضطرار بتبدّل موضوعه، كما يتبدّل حكم الاختيار بتبدّل موضوعه. و هو ظاهر.

و منه يعلم أيضا أنّه لو زال وصف الظالم عرفا المنوط به حرمة معونته شرعا أزيل عنه الحكم بحرمة معونته، و لكن إذا كان الزوال بمزيل شرعيّ- كالتوبة و ردّ المظلمة، لا بمجرّد عزل و انعزال، و انتفاء المال و اختلال الحال بالقهر و الاستيصال- فإنّه مستصحب الموضوع عرفا و الحكم شرعا. كما أنّه لو انعكس


1- تقدم ذكر مصدره، في هامش (6) ص: 211.

ص: 222

الفرض، و تبدّل صفة غير الظالم المباح إعانته بوصف الظلم المحرّم إعانته شرعا، انعكس الحكم، و استرجع المعونة و استردّ الصلة و أقيل البيعة و انفسخ الزوجيّة، مع المكنة و بقاء عين المعونة و صدق المعونة باستبقائه. كما أنّ شرط المكافأة في الدين المنوط به صحّة نكاح المتزاوجين، لو انفقدت بعد العقد بارتداد و فسق مانع من النكاح، انفسخ العقد و حصل البينونة و الفراق.

و هكذا وصف الفسق و العدوان، المانع شرعا من وجوه الكرامة و الإحسان، دار مداره الحكم وجودا و عدما. فلو أعين الفاسق بمعونة محرّمة ثمّ زال فسقه لم يسترجع المعونة المحرّمة و إن بقيت عينها، بل استحلّت عليه و إن لم يتب، لزوال اسم الفاسق و العاصي و الزاني بمجرّد الترك عرفا فيزول حرمة إعانته شرعا و إن لم يتب و لم يحصل وصف العادل، لوجود الواسطة عرفا بين العادل و الفاسق في التارك للوصفين.

و ما يقال: من أنّ تركه التوبة الواجبة فورا من جملة الإصرار فيه: أنّه في حكم الإصرار شرعا، لا اسمه المنصرف إلى الفعل عرفا، بخلاف وصف الظلم، فإنّه لا يزول بمجرّد الترك ما لم يتب و يردّ المظلمة. و لعلّ الفارق إطلاق الظلم على الظالم لنفسه شرعا، و عدم انصرافه إلى الظالم لغيره عرفا، بخلاف الفاسق.

و هكذا الحكم لو انعكس فأعين العادل بإعانة محلّلة من برّ و إحسان و كرامة و تيجان ثمّ ارتدّ أو طرأ عليه الفسق و العدوان، ففي وجوب استرجاع المعونة و استرداد الصلة و انفساخ البيعة و العقد مع المكنة و بقاء عين المعونة و صدقها وجهان، من عموم أدلّة النقل و الانتقال و لزوم الوفاء بالعقد (1) في الحال و المآل و استصحاب الحكم و الحال، و من أنّ قاعدة أنّ الأحكام تابعة لأساميها


1- المائدة: 1.

ص: 223

و عموم (1) أدلّة النهي عن التعاون و المواصلة و المعاملة و المصاحبة حاكمة على عموم (2) أدلّة النقل و الانتقال و لزوم الوفاء بالعقد و المقال، فيجب هجره و التبرّي منه باسترجاع المعونة و نشوز الزوجة و فسخ البيعة و استرداد الصلة و الوصلة.

و منها: أنّه على تقدير القول بحرمة إعانة الظالم و الفاسق و حبّة و الرضا بفعله و وجوب هجره و التبرّي منه مطلقا و لو في المباحات، فهل هو حرام مطلقا، و يجب التبرّي عنه مطلقا، أي: من جميع الجهات و الحيثيّات، حتى من حيث أبوّته و أخوّته و قرابته و رحميّته و فقره و احتياجه و إيمانه و إسلامه و كرمه و شجاعته و علمه و مدافعته و سائر محامده، أم هو حرام من حيث خصوص ظلمه و فسقه و عصيانه لا غير، فيجوز بل يجب إعانته و صلته و حرمته و سائر ما كان له من حقوق الأبوّة و الاخوّة و القرابة و الرحميّة و الإيمان و الإسلام و القيافة و حقّ الجوار؟ وجهان بل قولان، صرّح الجواهر (3) و الرياض (4) بالثاني، لعموم أدلّة أحكام الجهات و الحيثيّات، أي: عموم حقّ الأبوّة و الاخوّة، بل استصحاب حكمها فيما لو طرأ عليها حيثيّة الظلم و العدوان.

و الأظهر الأوّل، لظهور حكومة عمومات النهي عن إعانة الظالم و الفاسق على جميع ماله من أحكام الحيثيّات و الجهات من الكرامات و الاحترامات و النسب و الحسب، و مقابلة المهاجر و الأنصار أرحامهم في المقاتلة و الجهاد و النخوة بالقرابة، بأنّ الإسلام قطع الأرحام، و احتجاج الإمام عليه السّلام على من اعتذر في مخالفة حقّ بوجوب إطاعة أبيه بعموم قول النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله: «لا طاعة لمخلوق في


1- تقدّم ذكر مصادرها في ص: 190.
2- تقدّم مصادره في هامش (7) ص: 213.
3- جواهر الكلام 22: 54.
4- رياض المسائل 5: 37.

ص: 224

سخط الخالق» (1).

مضافا إلى عموم قوله تعالى كُونُوا قَوّٰامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدٰاءَ لِلّٰهِ وَ لَوْ عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوٰالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ (2). و إجماع العلماء قولا و فعلا على إجراء جميع الحدود و التعزيرات من الولد على والديه، و من غير الهاشميّ على الهاشميّ العلوي و لو كان أعلم العلماء، و لم يراعوا حيثيّة الأبوّة و السيادة و الأعلميّة بوجه من الوجوه.

مضافا إلى أنّ نهي المعصوم صفوان عن حبّ البقاء من حيث إعطاء الكراء، و عن الركون إلى السلطان من حيث خصوص الإعطاء بقدر تناول العطاء، نصّ صريح على حرمة الولاء و وجوب الهجر و البراء من جميع الأنحاء.

مضافا إلى أنّ تخصيص جميع النواهي الناهية عن إعانة الظلمة و حبّ بقائهم و الركون إليهم على كثرتها و استفاضتها و تواترها و صحّتها و صراحتها في العموم بخصوص حيثيّة الظلم و الفسق، تخصيص لها بالفرد النادر الأندر، بل المعدوم، إذ ما من ظالم و فاسق و لا كافر حتى إبليس و قابيل و فرعون و قارون و أبي لهب و منافقي هذه الأمّة إلّا و فيه حيثيّة أخرى، بل حيثيّات لا تخفى، من العبادة و القرابة و المصاحبة و الهجرة و المجاهدة و الأسنّية و الأسبقيّة و غيرها من الحيثيّات الحسبيّة و النسبيّة.

مضافا إلى أنّ من أمثال القرآن ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كٰانَتٰا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبٰادِنٰا صٰالِحَيْنِ فَخٰانَتٰاهُمٰا فَلَمْ يُغْنِيٰا عَنْهُمٰا مِنَ اللّٰهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلَا النّٰارَ مَعَ الدّٰاخِلِينَ (3)، و قوله تعالى في ابن


1- تقدّم ذكر مصدره في هامش (2) ص: 159.
2- النساء: 135.
3- التحريم: 10.

ص: 225

نوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صٰالِحٍ (1)، و قوله تعالى مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرٰاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهٰا كَمَثَلِ الْحِمٰارِ يَحْمِلُ أَسْفٰاراً (2)، و قوله تعالى في عالم بني إسرائيل وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنٰاهُ آيٰاتِنٰا فَانْسَلَخَ مِنْهٰا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطٰانُ فَكٰانَ مِنَ الْغٰاوِينَ .. فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ (3) الآية.

مضافا إلى ما في البحار: «من أنّ زيد النار كان يدخل على أخيه الرضا عليه السّلام فيسلّم عليه و لم يردّ عليه الجواب، فقال: أنا ابن أبيك و لا تردّ عليّ جوابي! فقال عليه السّلام: أنت أخي ما دام أطعت اللّٰه، فإذا عصيته لم يكن بيني و بينك إخاء- إلى أن قال عليه السّلام- المحسن منّا له كفلان من الثواب، و المسي ء منّا له ضعفان من العذاب» (4).

هذا كلّه، مضافا إلى أنّ قوله تعالى يٰا نِسٰاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفٰاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضٰاعَفْ لَهَا الْعَذٰابُ (5) و قوله تعالى إِنَّ الْمُنٰافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّٰارِ (6) سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ (7) صريح في أنّ حيثيّة الأحساب و الأنساب توجب تضاعف العذاب و أشدّية العقاب.

هذا كلّه، مضافا إلى أنّ فتح هذا الباب من الريب و الارتياب يوجب تحليل كلّ حرام من البدء إلى الختام لنفع مثل الأيتام، و تحليل السرقة لأجل الصدقة، و تحليل الميسر و الخمور بقصد المنافع و السرور، و ثمن العذرة لأجل الحجّ و العمرة، و تحليل الملاهي و الغناء لأجل البكاء و الإبكاء على سيّد الشهداء عليه السّلام،


1- هود: 46.
2- الجمعة: 5.
3- الأعراف: 175- 176.
4- البحار 49: 217- 218 ذيل ح 2 و ذيل ح 3.
5- الأحزاب: 30.
6- النساء: 145.
7- التوبة: 101.

ص: 226

و تحليل اللواط لتحصيل الذلّ و الانحطاط، و استماع تغنّي الفاجرة لأجل تذكّر الآخرة، إلى غير ذلك ممّا يضحك الثكلى من مزخرفات صوفيّة العامّة العمياء، من الخطأ و السفه و الجفاء الساري إلى بعض الجهلاء.

و منها: الإعانة أو قبول الولاية لأجل التوصّل بها إلى إقامة واجب أو ترك حرام لا يتمّ ذلك الواجب و ترك الحرام إلّا بها، كإقامة الحدود و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و دفع المظلمة و كشف الكربة، و نحوه من الواجبات. و ظاهر المشهور جوازها بقول مطلق. و لعلّه مبنيّ على إنكار حرمتها النفسيّة، كما يشهد به استدلالهم بالمقدّمية التي لا تأتي إلّا في المباحات.

و كيف كان، فالحقّ التفصيل باعتبار أنّ الإعانة المحرّمة إمّا في ظلم أو غيره. و على كلّ منهما: إمّا أن يكون لأجل توصّل المعين إلى ما تعيّن على نفسه، أو على غيره من الواجبات و ترك المحرّمات ممّا لا يتمّ إلّا به.

أمّا الإعانة المحرّمة لأجل توصّل المعين إلى ما تعيّن على نفسه من الواجبات فلا إشكال و لا خلاف في جوازها و لو في المحرّمات الظلميّة، لرجوع الأمر فيها إلى الضرورة المبيحة للمحظورات، و قاعدة جواز ارتكاب أقلّ القبيحين مقدّمة لفعل أهمّ الواجبين المعيّنين، لضرورة الداعية له في البين، كما في تزاحم الحقّين و التزام أهمّ الواجبين. كما لا يجوز تلك الإعانة الظلميّة من المعين و لو كانت أقلّ قليل لأجل التوصّل إلى ما تعيّن على غيره من الواجبات و ترك المحرّمات، و لو كان من أهمّ الفرائض و أعظم العزائم المعيّنة عليه، ضرورة قبح الظلم الاختياري بالذات لمصلحة الوصول إلى ما تعيّن على الغير من الواجبات، الآبي من التخصيص عقلا و نقلا. أمّا عقلا فبالضرورة. و أمّا نقلا فلقوله تعالى:

عَلَيْهِ مٰا حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ مٰا حُمِّلْتُمْ (1) و لٰا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ (2)


1- النور: 54.
2- المائدة: 105.

ص: 227

وَ لٰا تُطِعِ الْكٰافِرِينَ* (1) وَ لٰا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا (2) وَ لٰا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنٰا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنٰا وَ اتَّبَعَ هَوٰاهُ (3). و قوله عليه السّلام: «شرّ الناس من ظلم الناس لغيره» (4).

و قوله عليه السّلام لمّا قيل له في معاوية أنصبه شهرا و اعزله دهرا: «هيهات هيهات» (5).

«و لو أعطيت السبع الأقاليم على أن أظلم نملة في قشر شعيرة ما فعلت» (6).

إنّما الإشكال في جواز القسم الثالث من الإعانة المحرّمة، و هي الإعانة غير الظلميّة لأجل التوصّل إلى مصلحة ما تعيّن على الغير و هو المستعان لا المعين، من واجب أهمّ أو ترك حرام أعظم من حرمة إعانة المعين له، نظرا إلى أنّ هذا القسم من الإعانة المحرّمة لم يسوّغها الضرورة المسوّغة للقسم الأوّل، و لم يمنعها مانع القسم الثاني من الظلم القبيح الذاتي الآبي من التخصيص.

فمقتضى عموم أدلّة حرمة الإعانة الحاكمة على أصل الإباحة و عموم حسن المعاشرة هو حرمة تلك الإعانة، و لكن مقتضى استثناء هذا القسم من عموم أدلّة الحرمة بقوله تعالى ذٰلِكَ ذِكْرىٰ (7) و قوله عليه السّلام: «إلّا لتفريج كربة عن مؤمن أو فكّ أسره» (8) و قوله عليه السّلام: «كفّارة العامل للسلطان قضاء حوائج الإخوان» (9) و قوله عليه السّلام: «فإن وليت شيئا من أعمالهم فأحسن إلى إخوانك يكون واحدة بواحدة» (10) هو جواز هذا القسم من الإعانة المحرّمة و لو لمصلحة الغير، كتجويز


1- الأحزاب: 1.
2- هود: 113.
3- الكهف: 28.
4- مستدرك الوسائل 12: 99 ب «77» من أبواب جهاد النفس و ما يناسبه ح 8.
5- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10: 233.
6- تقدّم ذكر مصدره في هامش (3) ص: 212.
7- هود: 114.
8- الوسائل 12: 140 ب «46» من أبواب ما يكتسب به ح 9.
9- الوسائل 12: 139 ب «46» من أبواب ما يكتسب به ح 3.
10- الوسائل 12: 140 ب «46» من أبواب ما يكتسب به ح 9.

ص: 228

الشارع الكذب النافع لرفع ظلم أو فتنة أو إنجاء مسلم أو تقيّة و إن حرم بالأصالة.

و هذا بخلاف القسم الثاني من الإعانة في الظلم اختيارا، فإنّه و إن كان أقلّ قليل لا يسوّغه التوصّل إلى ما تعيّن على الغير و إن توصّل بها إلى فعل ما هو من أعظم المصالح أو ترك ما هو من أقبح القبائح، ضرورة انتفاء المسوّغ للظلم الاختياريّ عقلا، و إبائه من التخصيص قطعا، و فرض المصلحة الكلّية النوعيّة و إن بلغت ما بلغت كثرة إلّا أنّها لا تسوّغ المفسدة الذاتيّة الاختياريّة عقلا. نعم، لو لم تكن فيها مفسدة ذاتيّة- كقبح الكذب المحرّم شرعا- سوّغتها المصلحة الكلّية شرعا و إن رجعت إلى الغير.

فإن قلت: ما الفرق و الفارق بين الظلم المسوّغ في القسم الأوّل لرفع ما هو أعظم ظلما، و بين هذا الظلم غير المسوّغ لرفع ما هو أعظم من باب جواز ارتكاب أقلّ القبيحين؟

قلت: الفرق و الفارق و هو استناد الإعانة الظلميّة في الأوّل إلى الاضطرار، و في الثاني إلى الاختيار. و ارتكاب أقلّ القبيحين إنّما يسوّغ الأقلّ فيما لو اضطرّ إلى القبيح و دار أمره بين الأقلّ و الأكثر، جوّز له العقل ارتكاب الأقلّ: فالاضطرار سوّغ القبيح و الدوران عيّن الأقلّ، بخلاف الإعانة الظلميّة فيما نحن فيه، فإنّها و إن كانت من المعين أقلّ قليل ما يفرض من غير المعين، إلّا أنّ دوران الأمر بين ظلم المعين و لو كان بأقلّ ما يكون و ظلم غيره و لو بأكثر ما يكون يخرج المعين عن الاختيار إلى الاضطرار في أصل الظلم حتى يكون مسوّغا لأقلّه.

فإن قلت: أقلّ المسوّغ له إطلاق نصوص قوله تعالى اجْعَلْنِي عَلىٰ خَزٰائِنِ الْأَرْضِ (1). و قوله عليه السّلام: «كفّارة العامل للسلطان قضاء حوائج


1- يوسف: 55.

ص: 229

الإخوان» (1). قوله عليه السّلام: «فإن وليت شيئا من أعمالهم فأحسن إلى إخوانك يكون واحدة بواحدة» (2). و قوله عليه السّلام: «ما من جبّار إلّا و معه مؤمن يدفع اللّٰه به عن المؤمنين» (3). «إنّ للّٰه تعالى في أبواب المظلمة من نوّر اللّٰه به البرهان» (4) الحديث.

أو لعلّ المسوّغ ما له ادّعاه الجواهر (5) من السيرة القطعيّة على إعانة النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله المنافقين المبطنين للكفر و الظلم بفنون الإعانات و المداراة و حسن المعاشرات و بذل الصدقات. و هكذا أمير المؤمنين لمّا أسّر عائشة فأحسن أسرها (6). و هكذا سيرة الحسن و سائر الأئمّة. و هكذا سيرة الخلّصين من الصحابة، كعمّار و ابن مسعود و ابن أحنف قد تولّوا على الكوفة من قبل عمر.

و هكذا سلمان قد تولّى على المدائن. و هكذا عليّ بن يقطين من قبل هارون، و عبد اللّٰه النجاشي تولّى الأهواز، إلى غير ذلك.

قلت: النصوص المذكورة- كالإجماع العملي ذي جهات- كقضايا الأحوال التي كستها الإجماع لا تفيد العموم في المقال، لطروّ الاحتمال المبطل للاستدلال، لاحتمال كونه من الإعانة في المباحات لا المحرّمات، كمجرّد المصاحبة و المراودة و المجالسة لمجرّد التوصّل به إلى عموم مصالح الناس و إصلاح أمورهم، أو في المحرّمات غير الظلميّة، كالإعانة على الملهيات و المسكرات لترك أعظم المحرّمات من الظلم و التهلكات. و لو سلّم كونه في الظلم


1- تقدّم ذكر مصدره في هامش (9) ص: 227.
2- تقدّم ذكر مصدره في هامش (10) ص: 227.
3- الوسائل 12: 134 ب «44» من أبواب ما يكتسب به ح 4.
4- مستدرك الوسائل 13: 130 ب «39» من أبواب ما يكتسب به ح 3، نقلا بالمضمون.
5- تقدّم ذكر مصدره في هامش (3) ص: 216.
6- مصنّفات الشيخ المفيد 1: 415.

ص: 230

فلعلّه في الضرورات المبيحة للمحظورات، كما يشهد به مواقع من السؤال و الجواب في كتاب النجاشي (1) إليه عليه السّلام.

و منها: أنّ ما يدفعه الدافع إلى الجائر باسم الخاوة و التذكرة و السلاميّة و القرنطينة و حقّ المرور و العبور، لتخلية السرب عن طريق الحجّ أو الزيارة، أو لدخول الكعبة أو المقام أو المشاهد المشرّفة، أو لإقامة التعزية، أو لرفع التقيّة، أو لنقل الأموات أو لدفنها في بعض الأماكن المشرّفة، أو لإحقاق حقّ، أو الرجوع إلى شرع، أو لتسنين سنّة، أو ابتياع بيعة، أو اكتساب حرفة أو صنعة، إلى غير ذلك ممّا دوّنه الديوانيّون و ابتدعه المبتدعون المفسدون في الأرض، فهل هو من الإعانة و الرشوة المحرّمة، ليسقط وجوب ما يتوقّف عليها من الواجبات فضلا عن المستحبّات و المباحات، كما عدّه بعض من موانع تخلية السرب المشروط بها وجوب الحجّ، مستدلّا عليه بأنّ ما يدفعه إلى الظالم لأجل رفع المنع إعانة على ظلمه المحرّم، أم هو تحمّل ظلم لا إعانة ظلم كما قيل؟ وجهان بل قولان.

و الحقّ أن يقال كلّية: إنّ ظاهر الأدلّة أنّ ذلك كلّه من باب الرشوة أو الإعانة المحرّمة للظالم نفسا، فلا يسوّغها إلّا ما سوّغ سائر المحرّمات، أو سوّغ الرشوة و الإعانة المحرّمة للظالم في سائر المقامات، من ضرورة أو اضطرار أو إكراه أو مسيس حاجة أو سدّ خلّة أو تفريج كربة أو تقيّة، فقد تقتضي الضرورة أو الحاجة أو التقيّة في بعض الأزمنة و الأمكنة و بعض الأحوال و بعض الأعمال جوازها، و في غيرها العدم ففي مثل زمان بني أميّة و المتوكّل المنحصر فيه تشريع الزيارة و ترويجها في تحمّل الرشوة و الظلم و الخوف قد يجوز بل قد يجب، و في غير زمان حصر التشريع و غير مكان حصر الطريق في الرشوة و تحمّل الظلم فلا يجوز، و فيمن لا يتعسّر و لا يتضرّر بدفع الرشوة و الإعانة قد يجوز بل قد يجب،


1- كشف الريبة: 122 ح 10.

ص: 231

و فيمن تعسّر أو تضرّر بها لا يجوز، و فيمن اضطرّ أو احتيج إلى الاستطراق المتوقّف على الرشوة و الإعانة قد يجوز، بل يجب، و في غيره فلا.

و حينئذ فيشكل الحال في حكم أكثر الأسفار و الأعمال و المكاسب المتوقّفة على المقدّمات المحرّمة من رشوة أو إعانة، من حيث الحكم بالإباحة أو الحرمة و القصر و الإتمام، سيّما لو كان المال المدفوع في هذه الطرق على وجه الجزية و الصغار لأشرّ الكفّار و الفجّار من أوقر الأخيار و الأبرار، المستلزم لهتك شعائر الإسلام، و توهين عزائم بيوت اللّٰه الحرام و مشاهده العظام، كما دوّنه حكّام هذا الزمان، فلا إشكال في أنّه حرام فوق حرام و إن خالف سيرة الخواصّ و العوام.

و منها: أنّ حضور جماعة المخالفين، و تشييع جنائزهم و عيادة مرضاهم و طبابة أمراضهم، و حسن معاشرتهم و إكرام ضيافتهم، و مزاوجتهم و مناكحتهم، و توجيه أباطيلهم و نقل أقاويلهم، و تحمّل شهاداتهم و فصل خصوماتهم، و تعظيم أساتيدهم و تكريم أكبارهم، و أداء حقوقهم و ترك عقوقهم، هل هو من إعانة الظلم و العصيان و التعاون على الإثم و العدوان، كما يقتضيه عموم (1) أدلّة حرمة الركون و التعاون، أما لا، كما يقتضيه عموم (2) النصوص الآمرة بحسن المعاشرة لهم و حسن المعروف إليهم؟ وجهان بل قولان، أظهرهما المنع كلّية إلّا لضرورة أو تقيّة، لأنّ النصوص الآمرة بحسن المعاشرة معهم و إن كانت مستفيضة صريحة صحيحة- بل حاكمة و مخصّصة للنصوص الناهية عن الركون و إعانة الظلمة، لورودها مورد خصوص المخالفين- إلّا أنّها خاصّة مختصّة في نفسها و بتنقيح المناط القطعي من الخارج بخصوص صورة التقيّة أو الضرورة أو الحاجة أو إتمام


1- تقدّم ذكر مصدره في
2- تقدّم ذكر مصادره في هامش (8 و 10) ص: 227.

ص: 232

الحجّة أو قطع المحجّة، كما يدلّ عليه الأدلّة الثلاثة بل الأربعة الصريحة في وجوب التبرّي و البراءة منهم (1)، و الدعاء و اللعن و على جنائزهم بعد التكبير الرابع (2)، و عليهم بعد الصلوات الخمس في المأثور من التعقيبات و في قنوت كلّ صلاة، بل كان عليّ عليه السّلام (3) يقنت بلعن صنمي قريش في كلّ غدا. و كما يدلّ عليه أيضا النصوص (4) تقدّم ذكر مصدره في هامش (7) ص: 213.

(5) الناهية عن تزويجهم بالمؤمنات دون العكس، و عن عتق المملوك منهم (6)، و عن مطلق الصدقات من الزكاة و الفطرة (7)، بل و من الحبوة، بل و من وجوه الكرامة.

مضافا إلى خصوص نصوص تخصيص التولّي بالمؤمنين و التبرّي بالمنافقين في قوله تعالى: و الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ (8). و الْمُنٰافِقُونَ وَ الْمُنٰافِقٰاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ (9). و قوله تعالى:

لٰا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيٰاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ (10)، و خصوص منع صفوان (11) عن إكرائهم الجمال، و غيره عن المجالسة و المصاحبة لهم، و قوله عليه السّلام:

«لو لا أن بني أميّة وجدوا من يجبي لهم الصدقات و يشهد جماعتهم ما سلبوا حقّنا».


1- مستدرك الوسائل 12: 317 ب «37» من أبواب الأمر و النهي و ما يناسبها ح 1.
2- مستدرك الوسائل 2: 253 ب «4» من أبواب صلاة الجنازة ح 1 و 3.
3- البحار 85: 260 ح 5.
4- الوسائل 14: 424 ب
5- من أبواب ما يحرم بالكفر و نحوه ح 3.
6- الوسائل 16: 19 ب «17» من أبواب كتاب العتق ح 3.
7- مستدرك الوسائل 7: 149 ب «15» من أبواب زكاة الفطرة.
8- التوبة: 71.
9- التوبة: 67.
10- الممتحنة: 1.
11- تقدّم ذكر مصدره في هامش (7) ص: 213.

ص: 233

و أمّا مصاحبة المعصومين مع بعض المنافقين فمن قضايا الأحوال التي كستها الإجمال و الاحتمال المبطل للاستدلال، فلعلّه بنيّة إتمام الحجّة أو ضرورة محوجة أو لقطع محجّة، كما نقل من مصاحبات و مجادلات مؤمن الطاق مع أبي حنيفة ما يتمّ بها الحجج البالغة و المحجّات القاطعة التي هي من أعظم المجاهدات الواجبة. فمنها لمّا قال له أبو حنيفة: جاء شيطان الطاق، أجابه بداهة أَنّٰا أَرْسَلْنَا الشَّيٰاطِينَ عَلَى الْكٰافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (1). و لمّا قال له: مات إمامك، قال: و أمّا إمامك فمن المنظرين. و لمّا قال له: إن كنت صادقا في الرجعة فأقرضني مائة دينار استرجعها منّي في الرجعة، قال: ائتني بضامن يضمنك أن ترجع بصورة إنسان، لا مسوخ كلب أو خنزير. و لمّا قال له: إذا مات ميّتكم كسرتم يده اليسرى ليعطى كتابه بيمينه، قال: أمّا هذا فجعل، و لكنّكم إذا مات ميّتكم حصّنتموه بجرّة من ماء لئلّا يعطش في المحشر، فيردّه عليّ عليه السّلام عن الكوثر. و لمن أنشد: من رأى صبيّا ضالّا، قال مؤمن الطاق: أمّا الصبيّ الضالّ فلم أره، و لكن الشيخ الضالّ هذا، يعني: أبا حنيفة (2). إلى غير ذلك من احتجاجاتهم البليغة المسوّغة لحرمة المصاحبة قطعا.

و يتفرّع على ذلك فروع:

منها: عدم وجوب تجهيز ميّتهم علينا، من تغسيل و لا تكفين و لا تدفين و لا صلاة، إن هم إلّا كالأنعام بل هم أضلّ، كما قال اللّٰه تعالى وَ لٰا تُصَلِّ عَلىٰ أَحَدٍ مِنْهُمْ مٰاتَ أَبَداً وَ لٰا تَقُمْ عَلىٰ قَبْرِهِ (3). و قول المجتبى عليه السّلام لمعاوية لمّا قال أعلمت ما صنعنا بأصحاب أبيك؟ قال: «ما صنعتم؟ قال: قتلناهم و غسلناهم و كفّناهم و صلّينا عليهم و دفنّاهم، قال عليه السّلام: خصمك القوم، و أمّا نحن إن قتلنا


1- مريم: 83.
2- الاحتجاج: 381، اختيار معرفة الرجال: 190، منتهى الآمال 2: 176.
3- التوبة: 84.

ص: 234

أصحابك ما كفّناهم و لا غسلناهم و لا صلّينا عليهم و لا دفنّاهم» (1).

و أمّا تجهيز ميّت فسقة الشيعة فلا بدّ أن يكون خارجا بالدليل ما لم يخرج الفاسق عن السبيل، إلّا حرمة النبش و النقل المستلزم للهتك باقية تحت الأصل الأصيل في اختصاصها بالمؤمن لا الفاسق.

و منها: عدم صحّة إتيان الظالم بل مطلق الفاسق شيئا من سهام الزكاة إلّا سهم المؤلّفة، بل و لا الفطرة إلّا للضرورة، حتّى إنّ المخالف لو استبصر لم يقض شيئا من عباداته الموافقة لمذهبه إلّا الزكاة، لوقوعه في غير أهله، كما هو منصوص (2) أيضا.

و كذلك الخمس و الحبوة و الخراج و المقاسمة من بيت المال تؤخذ منهم و لا تعطى لهم، إلّا ما يأخذه السلطان الجائر قهرا فيسقط عن المأخوذ منه، و يجوز استنقاذه منه باسم الجائزة و الهبة و الشراء، كما هو منصوص: «لك المهنّأ، و عليه الوزر» (3).

و كذلك التزويج، يجوز أن يتزوّج من الظالم و الفاسق، و لا يجوز تزويجهم المؤمنة، لنصوص (4) اشتراط المكافأة في الإيمان، و أنّ المرأة تأخذ بدين بعلها، بخلاف العكس.

فلو تزوّجت المؤمنة بالمخالف عصيانا أو جهلا بالحكم أو بالموضوع، أو تنصّب و استنّ العاقد بالمؤمنة بعد العقد، فهل يحكم ببطلان عقدها أو انفساخه،


1- انظر الاحتجاج: 296- 297، و لكن ذكر هذا الكلام ضمن احتجاج الحسين عليه السّلام مع معاوية.
2- الوسائل 6: 148 ب «3» من أبواب المستحقّين للزكاة.
3- الوسائل 12: 56 ب «51» من أبواب ما يكتسب به ح 1.
4- الوسائل 14: 43 ب «25» من أبواب مقدّمات النكاح و آدابه.

ص: 235

نظرا إلى استفادة شرطيّة المكافأة في الإيمان من النصوص (1) الناهية عن تزويجهم، أو يحكم بوجوب اختيارها النشوز و عدم ترتيب أحكام المزاوجة، جمعا بين مقتضى العقد و وجوب التبرّي؟ و على الثاني فهل للحاكم فسخه أو جبره على الطلاق عند الامتناع؟ وجوه، أظهرها بطلان العقد و اشتراط المكافأة في الإيمان. و على تقدير عدمه فالأظهر من عموم أدلّة الولاية للحاكم جبر الممتنع على الطلاق، لحكومة أدلّته على كون: «الطلاق بيد من أخذ بالساق» (2)، لقوله تعالى النَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ (3) و السلطان وليّ الممتنع.

و منها: عدم صحّة عتق المملوك لهم هنا و إن صحّ منهم لنا، لعموم مفهوم:

فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ* (4). و قوله عليه السّلام لمن أعتق خادما: «ردّها في ملكها ما أغنى اللّٰه عن عتق أحدكم، تعتقون اليوم و يكون علينا غدا، لا يجوز لكم أن تعتقوا إلّا عارفا» (5). و كذا عدم صحّة طلاقهم لهم و إن صحّ لنا منهم، من باب ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم (6) من الأحكام الضرورية.

من منها: عدم صحّة النذر و الصدقة و الوقف و قضاء الوليّ الصلاة و الصيام و الحجّ عنهم، و صحّة العكس، بل وجوبه، لعموم لٰا تَجِدُ قَوْماً .. يُوٰادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ (7). وَ لَوْ كٰانُوا أُولِي قُرْبىٰ (8). و عموم:


1- الوسائل 14: 423 ب (10) من أبواب ما يحرم بالكفر و نحوه.
2- سنن ابن ماجة 1: 672 ح 2081.
3- الأحزاب: 6.
4- النساء: 92.
5- الوسائل 16: 19 ب «17» من أبواب كتاب العتق ح 3.
6- الوسائل 15: 321 ب «30» من أبواب مقدّمات الطلاق و شرائطه ح 5، 6.
7- المجادلة: 22.
8- التوبة: 113.

ص: 236

وَ لٰا تُصَلِّ عَلىٰ أَحَدٍ مِنْهُمْ مٰاتَ أَبَداً وَ لٰا تَقُمْ عَلىٰ قَبْرِهِ (1). و عموم إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّٰهُ لَهُمْ (2). إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفٰاسِقِينَ (3). و أمّا صحّة قضاء الوليّ عن أبيه الفاسق دون المنافق فالنصّ و الإجماع هو الفارق.

و منها: هل تحلّ لهم المباحات الأصليّة من الماء و الكلإ و النار؟ و هل تحلّ لهم الصدقات و الوقفيّات من مستثنيات الخمس و إحياء الموات و حقّ السبق إلى السوق و المساجد و حقّ الحيازات، نظرا إلى العمومات من قوله صلى اللّٰه عليه و آله: «الناس شرع سواء في النار و الماء و الكلإ» (4) «و من أحيا أرضا فهي له» (5) «و من سبق إلى مكان فهو أحقّ» (6)، أم يختصّ ذلك كلّه بغير الفاسق و المنافق؟ لورودها مورد الامتنان الخاصّ بأهل الإيمان لا الفسق و العصيان من عبدة الشيطان، و لتخصيص عمومات الإباحات و الصدقات بخصوص قوله: «ما كان لنا فهو لشيعتنا» (7). بل بخصوص: «أحللنا لشيعتنا الأطيبين» (8). و بفحوى مفهوم الوصف و القيد من قوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ (9). لِمَنِ اتَّقىٰ (10).

و قوله عليه السّلام: «و لو أنّ غير موالي عليّ دخل البحر فاغترف غرفة قائلا: بسم اللّٰه و الحمد للّٰه، ثمّ شرب لم يشرب إلّا كدم مسفوح أو لحم خنزير» (11).


1- التوبة: 84.
2- التوبة: 80.
3- المنافقون: 6.
4- الوسائل 17: 331 ب «5» من أبواب إحياء الموات ح 1.
5- الوسائل 17: 326 ب «1» من أبواب إحياء الموات.
6- الوسائل 3: 542 ب «56» من أبواب أحكام المساجد ح 2.
7- الوسائل 6: 384 ب «4» من أبواب الأنفال و ما يختصّ بالإمام ح 17.
8- الوسائل 6: 379 الباب المتقدّم ح 3.
9- البقرة: 173.
10- البقرة: 203.
11- لم نعثر عليه في الكتب الحديثيّة، و وجدناه في مجمع البحرين 2: 432.

ص: 237

و منها: التلمّذ عندهم و التعلّم منهم و الرجوع إلى تفاسيرهم و أقوالهم و أفعالهم و التشبّه بأعمالهم من غير ضرورة مسوّغة، و دخل في تصديق الفاسق و تكريم المنافق و الركون و المودّة و التشبّه بالأعداء، لعموم قوله تعالى: «قل لعبادي لا تطعموا مطاعم أعدائي، و لا تلبسوا ملابس أعدائي، و لا تشبّهوا بأعدائي، فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي» (1). مضافا إلى خصوص قوله عليه السّلام: «من أصغى إلى أحد فقد عبده، فإن كان عن اللّٰه فقد عبد اللّٰه، و إن كان عن غيره فقد عبد غير اللّٰه» (2).

و منها: أداء الشهادة عند القاضي الفاسق أو المنافق فضلا عن الجائر من الركون المنهيّ، فلا يجوز إلّا لضرورة مسوّغة أو إحقاق حقّ واجب أو إتمام حجّة أو قطع محجّة، كمحاجّة فاطمة عليه السّلام و إقامتها الشهود عند أبي بكر على أحقّية ما في يد تصرّفها من ملكيّة فدك (3).

و منها: التحكّم و التحاكم إلى الفاسق أو المنافق من غير ضرورة مسوّغة، فإنّه حرام بالأدلّة الثلاثة، منها قوله تعالى أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا .. يَتَحٰاكَمُوا إِلَى الطّٰاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ (4). و في مقبولة ابن حنظلة: «سألت الصادق عليه السّلام عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما من منازعة في حقّ أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة، أ يحلّ ذلك؟ قال عليه السّلام: من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، و ما يحكم له فإنّما يأخذه سحتا، و إن كان حقّه ثابتا، لأنّه أخذ بحكم الطاغوت، و إنّما أمر اللّٰه أن يكفر


1- مستدرك الوسائل 3: 248 ب (10) من أبواب أحكام اللباس ح 4.
2- الوسائل 12: 111 ب «28» من أبواب ما يكتسب به ح 4.
3- الاحتجاج: 97.
4- النساء: 60.

ص: 238

به» (1) الحديث.

لا إشكال في كون أصل التحاكم إلى الجائر بل و كذا الأخذ بحكمه حراما إنّما الإشكال في حرمة المأخوذ إذا كان حقّا لآخذه، خصوصا إذا كان عينا لا دينا. و هو أظهر الوجوه.

أمّا إذا كان دينا فلأنّ تعيين الحاكم غير معيّن له، لأنّه تعيين من لا حكم لتعيينه شرعا، و تعيين مالكه أيضا كذلك، لأنّه تعيين جبرا.

و أمّا إذا كان عينا فهو و إن استبعد حرمته مع كونه حقّا لآخذه بمحض الاقتران بحكم الجائر، إلّا أنّ الاستبعاد اجتهاد في مقابل إطلاق النصّ بحرمته.

مضافا إلى رفع الاستبعاد بكون المراد حرمته عرضا بحكم الجائر من حيث حكمه، لا ذاتا مخرجا عن ملك مالكه إلى ملك غاصبه، و لا موجبا عليه ضمانه و غرامته كحرمة مال الغير، بل تكون العين المأخوذة حراما على الغاصب من جهة غصبه، و على الآخذ من جهة أخذه بحكم الجائر.

فلو أغمض في الأخذ عن حكم الجائر، و لم يلتزم في الأخذ بحكمه، بل التزم في أخذه بحكم الشارع و حقّ الواقع، فلا إشكال في حلّيته مطلقا، حتى في صورة ما إذا كان الحقّ دينا كلّيا و عيّنه الجائر في عين، و لكن أخذه الآخذ بعنوان التقاصّ لا الالتزام بتعيين الجائر. و نظيره في تحريم الأعيان المملوكة المحلّلة بمجرّد عروض عارض تحريم الذبيحة بمجرّد ذكر غير اللّٰه، و حرمة العبادة بمجرّد نيّة التشريع أو الرياء و السمعة، و تحريم وطء الحليلة بمجرّد تشبيهها بالأجنبيّة أو تخيّلها أجنبيّة، و تحريم مال المرتدّ على نفسه بمجرّد ارتداده، إلى غير ذلك من أشباه المسألة ممّا يرفع الاستبعاد عنها، كما لا يخفى.

و يتفرّع عليه فروع:


1- الوسائل 18: 98 ب (11) من أبواب صفات القاضي ح 1.

ص: 239

منها: أنّه لو أخذ الآخذ حقّه بعنوان الالتزام بحكم الظلّام مستحلّا له، أو بحكم الجائر في المقام، كما هو دأب العوام، ارتدّ عن الإسلام، لاستحلاله الحرام، مضافا إلى فعله الحرام و إن كان جاهلا بالأحكام.

و منها: حقوق الوصاية و التوصية على الأموات و تولية الأوقاف هل يصحّ أن يجعل للفاسق و المنافق، نظرا إلى عموم: «الناس مسلّطون على أموالهم» (1)، و عمومات الأمر بالتوصية و الأوقاف على حسب آراء واقفيها، أم لا يصحّ؟

وجوه بل أقوال أظهرها العدم مطلقا، لوجوه:

منها: أنّ التوصية و التولية ائتمان، فلا يصحّ إلى الفاسق فضلا عن المنافق.

و أنه موادّة و إحسان، فلا يصحّ و لا يليق بأهل العصيان و العدوان. و أنّه إكرام و احترام، فلا كرامة للفاسق و الظلّام.

و منها: فحوى قوله تعالى وَ لٰا تُؤْتُوا السُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ (2)، بناء على تفسيره بالصبيان و النسوان، و كون الفاسق أسفه.

و منها: فحوى قوله عليه السّلام في النساء: «تطيعوهنّ في حال، و لا تأمنوهنّ على مال، و لا تذروا لهنّ تدبير العيال» (3). و عموم تعليله بأنهنّ ناقصات العقول (4)، مع كون الفاسق أنقص.

و منها: فحوى: «لا تعلّموا العلم لغير أهله فتظلموه، و لا تمنعوه من أهله فتظلموهم» (5).

و منها: فحوى قوله عليه السّلام في تميّز دم العذرة عن الحيض بتطوّق القطنة


1- عوالي اللئالي 2: 138 ح 383.
2- النساء: 5.
3- الوسائل 14: 129 ب «94» من أبواب مقدّمات النكاح و آدابه ح 7.
4- نهج البلاغة: 105- 106 ح 80.
5- البحار 1: 140 ح 30.

ص: 240

و عدمه: «هذا سرّ اللّٰه فلا تذيعوه، دعوا الناس على ما اختار اللّٰه لهم من ضلال» (1).

و منها: عموم إخفائهم الحقّ و الصواب عن أكثر الأصحاب، بل عدم انتقال علومهم- على ما نقل- إلّا إلى أربعة (2): سلمان، و جابر الجعفي، و يونس بن عبد الرحمن.

و منها: فحوى النصوص (3) الناهية عن بيع السلاح على أعداء الدين مطلقا أو عند محاربة المسلمين. إلى غير ذلك ممّا يدلّ بالفحوى و الأولويّة على عدم ائتمان الفاسق، و عدم قابليّته و لياقته للائتمان بالتوصية و التولية.

و منها: أنّ توصية المكلّف الفاسق و جعل التولية و التوصية له سفه شرعيّ ينافي العقل و الرشد المعتبر في العقود و الإيقاعات، خصوصا على القول بتفسير الرشد بالعدالة في مطلق الأحوال، أو في خصوص حفظ المال عن الإسراف و التبذير و الاضمحلال.

و منها: أنّ جعل الشارع الوصاية و التولية للفاسق حكم ضرريّ على الأنفس و الأعراض و الأموال، و هو منفيّ بقوله صلى اللّٰه عليه و آله: «لا ضرر في الإسلام» (4).

فإن قلت: إنّ الحكم الضرريّ إنّما هو لازم خيانة الفاسق لا نفس فسقه، و خيانته مجبورة بحكم العزل و الانعزال، كما أنّ بيع المغبون ضرره مجبور بحكم الخيار لا بطلان أصل البيع.

قلت: الفرق كون المغبون بمجرّد العلم بغبنه قادرا على جبر غبنه بالخيار، بخلاف الأيتام و الأموات و القصّر، فإنّهم غير عالمين و لا قادرين على جبر ضررهم و قصورهم إلّا بنفي صحّة تولية الفاسق عليهم من البدء.


1- الوسائل 2: 535 ب «2» من أبواب الحيض ح 1.
2- كذا في النسخة الخطّية، و كأنّ السيّد المحشّي «قدّس سرّه» نسي الرابع و لم يذكره.
3- الوسائل 12: 69 ب (8) من أبواب ما يكتسب به.
4- عوالي اللئالي 3: 210 ح 54.

ص: 241

فإن قلت: كما يصحّ توكيل الفاسق و المنافق بالإجماع، فليصحّ توصيته و توليته أيضا.

قلت: القياس باطل، مضافا إلى وجود الفارق، من حيث إنّ التوكيل تحميل و التولية تجميل، و من حيث إنّ خطر خيانة الوكيل منجبر بحياة الموكّل و قدرته على عزله، بخلاف الموصى و المولّى عليه القصّر.

فإن قلت: سيرة المسلمين على جعلهم التوصية و التولية للإخوان و البنين و لو كانوا من أفسق الفاسقين، كتوصية مسلم بن عقيل إلى ابن سعد أمير الفاسقين.

قلت: هذه السيرة من قضايا الأحوال التي اعتراها الإجمال و الاحتمال المبطل للاستدلال، لاحتمال الضرورة أو التقيّة أو ضرب من الوكالة لا الوصاية.

و منها: ولاية الأب و الجدّ هل تثبت للفاسق و المنافق، نظرا إلى عموم:

فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ (1) و عموم: «لا ينقض النكاح إلّا الأب» (2) و عموم:

«ليس لها مع الأب أمر» (3) و عموم: «سألته عن الذي بيده عقدة النكاح، قال عليه السّلام:

هو وليّ أمرها» (4) و في أخبار أخر هو الأب و الجدّ، أم يعتبر في ولايتهما الوثوق و العدالة؟ وجهان، أظهرهما الثاني، لوجوه:

منها: فحوى قوله عليه السّلام في نكاح من تشاحّ فيه الأب و الجدّ: «الجدّ أولى بذلك ما لم يكن مضارّا» (5) بناء على شأنيّة المضارّة- و هو الفسق- لا فعليّتها.


1- النساء: 25.
2- الوسائل 14: 205 ب «4» من أبواب عقد النكاح و أولياء العقد ح 5.
3- الوسائل 14: 207 ب (6) من أبواب عقد النكاح و أولياء العقد ح 3.
4- الوسائل 14: 212 ب (8) من أبواب عقد النكاح و أولياء العقد ح 2.
5- الوسائل 14: 218 ب (11) من أبواب عقد النكاح و أولياء العقد ح 2.

ص: 242

و فحوى قوله الآخر: «إذا كان الجدّ مرضيّا» (1)، بناء على تفسيره بمن ارتضى دينه، كقوله وَ لٰا يَشْفَعُونَ إِلّٰا لِمَنِ ارْتَضىٰ (2) أي: دينه، بل التائب عن الكبائر، كما هو الظاهر من مرسلة ابن أبي عمير المنقولة في إكسير السعادة (3)، و ظاهر سؤال السائل: «فإن هوي أبو الجارية هوى، و هوى الجدّ هوى، و هما سواء في العدل و الرضا» (4). بل و فحوى ترجيحه الجدّ مع فرض مساواتهما في العدل و الرضا أيضا بقوله عليه السّلام: «أحبّ إليّ أن ترضى بقول الجدّ» (5) إنّما هو اعتبار العدالة و مانعيّة الفسق حين التشاحّ، و بضميمة عدم القول بالفصل يتمّ المطلوب.

و عموم فحوى قول الصادق عليه السّلام عمّن سأله عن الذي بيده عقدة النكاح، فقال عليه السّلام: «الذي يأخذ بعضا و يترك بعضا، و ليس له أن يدع كلّه» (6)، نظرا إلى أن مانعيّة عفو الكلّ عن نفوذ الولاية دالّة بالأولويّة على مانعيّة الفسق و النفاق عن نفوذها. فتأمّل.

و منها: عموم قوله عليه السّلام: «لا ضرر و لا ضرار في الإسلام» (7)، و من المعلوم أن ولاية الفاسق و المنافق على وجه النفوذ في مال القصّر و نفسه و عرضه و دينه حكم ضرريّ يوجب الضرر و الإضرار، حتّى في دين المولّى عليه، و إخراجه عن الإيمان إلى الفسق و العصيان و الإثم و العدوان، و موالاة عبدة الشيطان.

و منها: أنّ الفاسق سفيه غير رشيد شرعا، فلا ينفذ أمره في نفسه فكيف ينفذ في غيره المولّى عليه القصّر؟! خصوصا على القول بتفسير الرشد بالعدالة في


1- الوسائل 14: 218 ب (11) من أبواب عقد النكاح و أولياء العقد ح 4.
2- الأنبياء: 28.
3- اكسير السعادة: 41- 42.
4- الوسائل 14: 218 ب (11) من أبواب عقد النكاح و أولياء العقد ح 4.
5- الوسائل 14: 218 ب (11) من أبواب عقد النكاح و أولياء العقد ح 4.
6- الوسائل 14: 213 ب (8) من أبواب عقد النكاح و أولياء العقد ح 3.
7- تقدّم ذكره مصدره في هامش (4) ص: 240.

ص: 243

مطلق الأحوال، أو في خصوص حفظ المال عن الإسراف و التبذير و الاضمحلال.

فمن لم يكن له ولاية على نفسه فكيف يكون له ولاية على غيره؟! أمّا الكبرى فبديهيّة.

و أمّا الصغرى فلعموم قوله تعالى أَ فَمَنْ كٰانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كٰانَ فٰاسِقاً لٰا يَسْتَوُونَ (1). و عموم وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرٰاهِيمَ إِلّٰا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ (2) أَلٰا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهٰاءُ وَ لٰكِنْ لٰا يَعْلَمُونَ (3) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لٰا يَعْقِلُونَ (4) إِنْ هُمْ إِلّٰا كَالْأَنْعٰامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ (5). و عموم وَ لٰا تُؤْتُوا السُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّٰهُ لَكُمْ قِيٰاماً (6)، خصوصا على تفسير السفهاء بالصبيان و النسوان، و أسفهيّة أهل الفسق و العصيان، و الظلم و العدوان.

و فحوى قوله عليه السّلام في النساء: «لا تطيعوهنّ في حال، و لا تأمنوهنّ على مال، و لا تذروا إليهنّ تدبير العيال» (7). و تعليله بنواقص العقول (8)، مع كون الفاسق أسفه و أنقص عقلا منهنّ.

و عموم ما في الصافي (9) في شرح سورة الحمد قال صلى اللّٰه عليه و آله: «أكيس الكيّسين من حاسب نفسه و عمل لما بعد الموت، و إنّ أحمق الحمقاء من اتّبع نفسه هواه، و تمنّى على اللّٰه الأماني».

و ما في ترجمة البحار عن النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله: «قسّم العقل ثلاثة أجزاء، فمن كانت


1- السجدة: 18.
2- البقرة: 130.
3- البقرة: 13.
4- البقرة: 171.
5- الفرقان: 44.
6- النساء: 5.
7- تقدّم ذكر مصادرهما في هامش (3 و 4) ص: 239.
8- تقدّم ذكر مصادرهما في هامش (3 و 4) ص: 239.
9- تفسير الصافي 1: 84.

ص: 244

فيه كمل عقله، و من لم تكن فيه فلا عقل له: حسن المعرفة باللّه عزّ و جلّ، و حسن الطاعة، و حسن الصبر على أمره» (1).

و عموم ما في الكافي فيمن وصف بالعقل و كان مبتلى بالوضوء، فقال عليه السّلام:

«و أيّ عقل له و يعبد الشيطان»؟! (2).

و عموم فحوى قوله عليه السّلام: «إنّ شارب الخمر سفيه لا يزوّج» (3). إلى غير ذلك في باب العقل و الجهل من الكافي و غيره، ممّا لا يحصى صحّة و صراحة و كثرة و دلالة على أنّ الفاسق سفيه و غير رشيد، و متّصف بالحماقة و الغيّ و ضدّ الرشد، كما عن الشيخ (4) و الراوندي (5) و أبي المكارم (6) و فخر الإسلام (7)، بل عن الغنية الإجماع على اعتبار العدالة في الرشد.

و أمّا استدلال الجواهر (8) كالمشهور على عدم اعتبار العدالة في معنى الرشد بصدقه فيما دونها عرفا، فهو ممنوع بعد سلبه عنه، و إطلاق ضدّه عليه شرعا فيما عرفت من نصوص الكتاب و السنّة، ضرورة تقديم عرف كلّ متكلّم و اصطلاحه على عرف غيره، و لهذا حكموا بنجاسة الفقّاع و العصير النبيّ إذا غلى بمجرّد قوله عليه السّلام: «خمر» (9) مع عدم مساعدة العرف عليه.

و كذلك استدلاله بسيرة المسلمين بل و ضرورة الدين على المعاملة مع


1- البحار 77: 158 ح 145.
2- الكافي 1: 12 ح 10.
3- الكافي 5: 299 ح 1، و ص 348 ح 2.
4- الخلاف 3: 284.
5- فقه القرآن: 72- 73.
6- غنية النزوع: 252.
7- إيضاح الفوائد 2: 55.
8- جواهر الكلام 26: 51.
9- الوسائل 17: 288 ب «27» من أبواب الأشربة و الأطعمة ح 4.

ص: 245

الفاسقين و المنافقين و المشركين و الخمّارين، لعلّها كالسيرة على معاملة المسرفين و المبذّرين، و تزويج الخمّارين، و الركون إلى الظالمين، و مشابهة أعداء الدين.

و كذا الاستدلال بلزوم العسر و الحرج في الدين لو قلنا بفساد معاملة الفاسقين و المنافقين.

فأمّا بالنسبة إلى الفاسقين بعضهم مع بعض فبمنع بطلان اللازم، لأنّ فساد معاملاتهم المشروطة بالرشد. بمعنى العدالة كفساد عباداتهم المشروطة صحّتها بالإيمان و قبولها بالتقوى و العدالة، إنّما هو بسوء اختيارهم في حال اختيارهم، و ما في الاختيار لا ينافي الاختيار، و المقدور بالواسطة مقدور.

و أمّا بالنسبة إلى الرشيد العادل المعامل مع الفاسقين و المنافقين فبمنع لزوم العسر، و إمكان تصحيحها في حقّه و من طرفه، و إن كان باطلا من طرف الفاسق و في حقّه بوجوه:

منها: من باب قاعدة: «ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم» المحلّل لنا مطلّقات العامّة و المشركين مع فسادها في الواقع، و أثمان الخمر و الخنزير المحلّلة على المسلم أخذها عوض دينه من الذمّي.

و منها: أنّه من باب إمضاء وليّ الأمر و إجازته لنا المعاملة مع الفاسقين، من باب الولاية العامّة و اللطف العامّ الواجب على الإمام عليه السّلام بالنسبة إلى الأطيبين من شيعته، كما قال عليه السّلام: «شيعتنا منّا خلقوا من فضل طينتنا» (1). «ما أنصفناهم إن أخذناهم» (2). «ما كان لنا فهو لشيعتنا» (3). «أبحنا لهم المناكح لتطيب ولادتهم، و المتاجر لتحلّ مآكلهم، و المساكن لتصحّ صلاتهم» (4).

و منها: تصحيحها بالنسبة إلى عدول المؤمنين من باب التوسعة و توسيع


1- أمالي الطوسي 1: 305.
2- مستدرك الوسائل 7: 303 ب «4» من أبواب الأنفال و ما يختصّ بالإمام ح 3.
3- تقدّم ذكر مصدره في هامش (7) ص: 236.
4- مستدرك الوسائل 7: 303 ب «4» من أبواب الأنفال و ما يختصّ بالإمام ح 3.

ص: 246

الشارع لنا في طريق الرشد و عدم السفه، بأن اكتفى في طريقه بأصالة الصحّة في أفعال المسلمين عند عدم العلم برشدهم و سفههم، كما وسّع علينا في طريق العدالة بمعنى الملكة، بظنّ العدالة، أو بحسن الظاهر، أو ظهور الإسلام مع عدم ظهور الفسق. و في طريق النسب بظنّ النسب، بل و بقاعدة الفراش. و بصحّة الأخبار بمجرّد الوثوق بالراوي، أو بظنّ الصدور في الرواية. و في موضوعات الحلال و الحرام و الطهارة و النجاسة المشتبهة بأصالة الطهارة و الإباحة.

و منها: تصحيحها بالنسبة إلينا من باب الضرورة المحوجة، أو التقيّة اللازمة، أو العسر و الحرج المنفيّ عن الدين، و الضرر و الإضرار المنفيّ في الإسلام نوعا أو شخصا.

لا يقال: إنّ التوسعة في الطريق ليس بأولى من العكس.

لأنّا نقول: التوسعة في الطريق جمع بين الحسنين و أقلّ القبيحين، و عمل بالحقّين، و أخذ بالحكمتين: حكمة الواقع بالالتزام، و ما يقتضيه ضرورة المقام.

فروع: منها: لو أوصى الموصي أو وليّ الواقف فاسقا، فهل تبطل الوصاية و التولية إليه بالخصوص، و يرجع أمر الوصاية و التولية إلى المتولّي العامّ و هو الحاكم، فإن لم يكن فعدول المؤمنين كما في سائر الأمور الحسبيّة، أم تبطل الوصاية و الوقفيّة من أصله، و يرجع الوصيّة إلى الورثة و الوقف إلى الواقف، كما لو لم تقع الوصيّة و الوقفيّة من أصله؟ وجهان الأظهر الأوّل، لعموم (1) الوفاء بالعقود، و استصحاب بقاء صحّة أصل الوصاية و الوقفيّة بعد فساد التولية، و ذلك لتحقّق صدق موضوع الوصاية و الوقفيّة، بل و حصول شرطه الذي هو رشد الموصي و الواقف بالفرض.

و أمّا رشد الوصيّ و المتولّي فعلى تقدير اعتباره هو شرط صحّة تعيينه للشخص


1- المائدة: 1.

ص: 247

المعيّن، فانتفاؤه انتفاء للتعيين المشروط به، و فساده فساد للأمر المعيّن المنوط به، دون انتفاء أصله و فساد صدقه الموجودان بالفرض. فتلك الوصيّة و الوقفيّة حينئذ كالوصيّة و الوقفيّة غير المعيّن لها وصيّ أو متول، أو المعيّن الذي فات أو مات المعيّن فيه، في الرجوع إلى الأمور الحسبيّة الراجعة إلى الحاكم، و مع فقده فإلى عدول المؤمنين.

و كذا الحكم لو جعل التولية و الوصاية إلى مؤمن عادل ثمّ فسق الوصيّ و المتولّي بعد تحقّق الوصاية و التولية، فإنّ الأمر يرجع إلى الحاكم.

أمّا لو عاد إلى العدالة فهل يرجع الأمر إليه- نظرا إلى زوال المانع، فيقتضي المقتضي أثره- أو يبقى أثر المانعيّة و إن زال المانع؟ وجهان، أوجههما الثاني، استصحابا لبقاء ما كان على ما كان، كاستصحاب نجاسة الكرّ المتغيّر إذا زال تغيّره من قبل نفسه، و إن كان شكّا في المقتضي. و هذا بخلاف الحال في الولاية الأصليّة التي للأب و الجدّ و الحاكم و عدول المؤمنين فإنّه لو زال عنهم الفسق المانع و عادوا إلى العدالة عاد فيها الولاية الأصليّة، فرقا بين الولاية الأصليّة و الجعليّة، حيث إنّ المقتضي في الأصليّة لا يزول بوجود المانع، فإذا زال المانع اقتضى المقتضي أثره، بخلاف الجعليّة بجعل الجاعل فإنّ المقتضي فيها هو الجعل زال بوجود مانعة، فإذا زال مانعة لا يعود إلّا بجعل حادث آخر مفروض العدم، فلا يعود بعد زواله.

و منها: أنّه إذا بطلت وصاية الوصيّ و تولية المتولّي و ولاية الفاسق بفسق أو خيانة أصليّ أو عارض بعزل أو انعزال و كان تصرّفه و تعيينه و تقسيمه مال المولّى عليه و الموقوف عليه على وجه الجور و العدوان فهل يجوز للمولّى عليه و الموقوف عليه تناول ما عيّنه له و قسّمه عليه من الحقوق الإرثيّة و الوقفيّة و الارتزاق- كما يجوز لعموم الناس تناول حقّ الخراج من الجائر بأيّ وجه اتّفق،

ص: 248

و للمغصوب منه تناول الغصب من الغاصب بأيّ وجه أمكن- أم لا يجوز لهم ذلك، كما لا يجوز لغير هم تناول ما في اليد العادية بشراء و ابتياع و لو كان على وجه الغبطة و مصلحة المولّى عليه؟ و هو الأظهر، لفحوى قوله عليه السّلام: «ما يأخذه بأمر السلطان فهو سحت و إن كان حقّا ثابتا له» (1).

و أمّا حلّ أخذ الخراج للشيعة من السلطان الجائر فإنّما خرج عن الأصل بالنصّ الفارق، و الإذن الفائق عن الإمام الصادق عليه السّلام، و الوحي الناطق بأنّه أولى بالمؤمنين من أنفسهم و أموالهم، بقوله عليه السّلام: «لك المهنّأ و عليه الوزر» (2).

و أمّا حلّ أخذ المغصوب منه العين المغصوبة من الغاصب فللفرق الفارق بين أخذ العين المغصوبة من غير تعيين و تقسيم من ليس له التعيين و التقسيم، و من غير أن يكون بعنوان أمر الغاصب و حقّه، و بين العكس فيما نحن فيه، من حيث إنّ تعيين المشترك و تقسيم المشاع من الإرث و الموقوف عليه ممّن ليس له التعيين و التقسيم لا يجوز للوارث و الموقوف عليه أخذه إلّا بضرب من التقاصّ، و إذن من له التعيين و التقسيم من الحاكم أو عدول المؤمنين.

نعم، لو انحصر الوارث و المال الموروث فيما لا يحتاج أخذه إلى تعيين و تقسيم من ليس له تعيينه، لم يحتج حلّه إلى الأخذ بتقاصّ أو إذن من له الولاية، و كان المولّى عليه كالمغصوب منه في جواز أخذ حقّه ممّن ليس له ولاية شرعيّة، و كان يده يدا عادية.

و منها: هل تكون العدالة شرطا و الفسق مانعا في ولاية عدول المؤمنين، و التصدّي للأمور الحسبيّة، و هي الواجبة وجودها بعد تعذّر الحاكم من أيّ شخص كان و على أيّ وجه اتّفق، كما هو الأصل، و ظاهر من عبّر بعدول


1- الوسائل 18: 98 ب (11) من أبواب صفات القاضي ح 1.
2- تقدم ذكر مصدره في هامش (3) ص: 234.

ص: 249

المؤمنين، و ظاهر صحيحة محمد بن إسماعيل فيمن مات بغير وصيّة و خلّف صغارا و متاعا و جوازي، فباع عبد الحميد المتاع و أراد بيع الجواري، فما ترى؟

قال عليه السّلام: «إذا كان القيّم مثلك و مثل عبد الحميد فلا بأس» (1)، بناء على كون المراد بالمثليّة العدالة لا الفقاهة، لأنّه مناف لإطلاق مفهومه، و هو ثبوت البأس مع عدم الفقيه و لو مع تعذّره، و لا مجرّد كونه من أهل الولاية أو الوثاقة و رعاية الغبطة و لو من باب الأخذ بالمتيقّن في مخالفة الأصل، و ظاهر موثّقة زرعة: «إن قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كلّه فلا بأس» (2)، بناء على أنّ المراد بالثقة العدالة و لو من باب الأخذ بالمتيقّن في مخالفة الأصل، أو من باب حمل المطلق على المقيّد بالعدالة في صحيحة إسماعيل بن سعد: «لا بأس إذا رضي الورثة بالبيع و قام عدل في ذلك»؟ (3) أم لا تكون العدالة شرطا و لا الفسق مانعا، كما هو ظاهر من عبّر- كالشهيد في قواعده (4)- بأنّه يجوز للآحاد مع تعذّر الحكّام تولية آحاد التصرّفات الحكميّة على الأصحّ، كدفع ضرورة اليتيم، لعموم تَعٰاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوىٰ (5). و قوله عليه السّلام «و اللّٰه تعالى في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» (6). و قوله عليه السّلام: «كلّ معروف صدقة» (7).

وجهان، أوجههما التفصيل في أحكام فعل المتصدّي للأمور الحسبيّة بين سقوط التكليف عن المكلّف بفعله و إسقاطه عن الغير، فلا تعتبر العدالة و لا يمنع


1- الوسائل 12: 270 ب «16» من أبواب عقد البيع و شروطه ح 2.
2- الوسائل 13: 474 ب «88» من أبواب الوصايا ح 2.
3- الوسائل 12: 269 ب «16» من أبواب عقد البيع و شروطه ح 1.
4- القواعد و الفوائد 1: 406 قاعدة «148».
5- المائدة: 2.
6- سنن ابن ماجة 1: 82 ح 225.
7- وسائل 6: 321 ب «41» من أبواب الصدقة ح 1 و 2.

ص: 250

الفسق، و بين نفوذ فعله و إنفاذه إلى سائر المكلّفين، فتعتبر العدالة و يمنع الفسق.

و ذلك لأنّ الأمر المأمور به عقلا أو نقلا إمّا أن يكون المطلوب حصوله و وجوده من مأمور خاصّ على وجه خاصّ كالعبادات، و حكمه أن لا يصحّ إلّا على وجه القربة لا غير، و من المسلم لا الكافر، و لا يقبل إلّا من العادل لا الفاسق.

و إمّا أن يكون المطلوب حصوله من مأمور خاصّ على وجه التقييد، كالوظائف الخاصّة بالحاكم من الفتوى و الإفتاء و إجراء الحدود و القضاء، و حكمه الاختصاص بالحاكم، فلا يصحّ بل و لا ينفذ من غيره. أو على وجه التعدّد المطلوبي، كالعبادات بالنسبة إلى التقوى، حيث لا تقبل إلّا من المتّقين، و لكن يصحّ من غيرهم.

و إمّا أن يكون المطلوب حصوله كيف ما اتّفق، لا من مأمور خاصّ و لا على وجه خاصّ، كالواجبات التوصّليّة، من دفع الميّت و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و حفظ النفوس و الأعراض و الأموال في الجملة، و هو المتيقّن من الأمور الحسبيّة التي هي مورد ولاية عدول المؤمنين بعد تعذّر الحاكم. و لمّا كان المطلوب من تلك الأمور الحسبيّة الحصول من الحاكم و لكن على وجه التعدّد المطلوبي لا التقييدي صحّ فعله من أيّ مأمور كان و لو فاسقا أو كافرا، بل و على أيّ وجه اتّفق و لو على وجه الإكراه و الإجبار، و يسقط بفعله التكليف عن الفاعل، بل و عن سائر شركائه المكلّفين به، فلا يجب عليهم إعادة ما فعله المتصدّي من دفن الميّت و حفظ اليتيم، و لو كان المتصدّي فاسقا أو كافرا. و لكن لا ينفذ فعله من التسلّط على أخذ غرامات الدفن و نفقات الحفظ ببيع و ابتياع ماله و سقوط ضمانه و إنفاذ معاملاته، لا بالنسبة إلى المولّى عليه و لا بالنسبة إلى غيره، إلّا إذا كان المتصدّي لتلك الأمور هو الوليّ العامّ، كالحاكم الشرعي أو عدول المؤمنين

ص: 251

عند تعذّره.

و الحاصل: أنّ الأمور الحسبيّة من حيث هي هي المطلوب منها هو حصول الفعل بأيّ وجه اتّفق، و من حيث اللزوم و الإلزام و الالتزام هو الحصول من الحكّام، و مع التعذّر فمن عدول الأنام، فهي من الحيث الأوّل من الواجبات التوصّليّة الصرفة الساقطة بفعل كلّ فاعل و لو كان فاسقا، و من الحيثيّة الثانية من الوظائف الخاصّة التي لا تنفذ إلّا من الحاكم، و مع تعذّره فمن عدول المؤمنين.

فروع: منها: لو تصدّى العادل لشي ء من الأمور الحسبيّة، كما لو باع أو ابتاع شيئا لدفع ضرريّة القصّر و الأيتام ثمّ فسق، أو بالعكس، فهل ينفذ بيعه و ابتياعه في حقّ الغير من المولّى عليه و غيره، أم لا؟ وجهان، الأوجه التفصيل بين الفرض الأوّل فينفذ، و العكس فلا ينفذ إلّا بإجازة جديدة بعد العود إلى العدالة.

و منها: أنّه لا إشكال في أنّ المتصدّي لشي ء من الأمور الحسبيّة مع حضور الوصيّ و الوليّ من غير أن يستأذنهما فاعل للحرام و الفسق. و لكن هل يبطل بذلك فعله إذا كان عبادة- كغسل الميّت و تحنيطه و الصلاة عليه، نظرا إلى نهيه عن تلك العبادة من غير استيذان من له الإذن- أم لم يبطل، نظرا إلى عدم تعلّق النهي بنفس الصلاة؟ وجهان، مبنيّان على امتناع اجتماع الأمر و النهي و عدمه. فعلى الامتناع تبطل العبادة و تجب الإعادة، و لا يسقط لا عن الفاعل و لا عن غيره. و على الجواز يصحّ، و يسقط عن الفاعل و إن أثم، بل و عن الوليّ و الوصيّ أيضا، لكن لا مطلقا بل بناء على إجراء أصالة الصحّة الحامليّة في فعل الأثيم.

و منها: أنّ مقتضى أدلّة الولاية عدم جواز تقدّم أحد- و إن كان نائبا عامّا- على الوليّ الأصلي في التصدّي للأمور الحسبيّة ما دام الأصليّ حاضرا، إلّا بإذنه أو تعذّره، و إن صحّ و سقط- بل و أسقط التكليف- بفعل غير المأذون عصيانا.

ص: 252

كما لا يجوز تقدّم عدول المؤمنين فيها على حاكم الشرع و لا على الوليّ و الوصيّ ما دام حاضرا، إلّا بإذنه أو تعذّره و إن صحّ و سقط و أسقط التكليف بفعل غير المأذون عصيانا.

كما لا يجوز تقدّم غير العادل على العادل فيها ما دام حاضرا إلّا بإذنه و إن صحّ و سقط و أسقط التكليف بفعل غير المأذون عصيانا، و وجب عليه أيضا كفاية.

نعم، لو تعذّر الوليّ الأصلي قام مقامه المنصوب الخاصّ أو العامّ، كما لو تعذّر المنصوب قام مقامه عدول المؤمنين بالنصّ و الإجماع.

و أمّا لو تعذّر المنصوب الخاصّ و العامّ كحاكم الشرع العادل و عدول المؤمنين فهل يقوم الفقيه غير العادل مقامه و غير عدول المؤمنين مقامهم عند تعذّرهم- كما كانوا يقومون مقام الفقيه العادل عند تعذّره- أم لا؟ كما هو الأصل الأصيل، و الاقتصار على النصّ و الدليل فيما خالف أصالة عدم الولاية و السبيل بالنسبة إلى النفوذ و الإنفاذ، و إن اقتضى أصالة البراءة و الصحّة السقوط و الإسقاط بفعل كلّ فاعل و لو كان فاسقا.

لا يقال: قاعدة «الميسور لا يسقط بالمعسور» يقتضي سقوط شرطيّة العدالة في الولاية مع عدم سقوط المشروط بها و هو الولاية، كما لا يكتفى بصلاة العاري عند تعذّر الساتر.

لأنّا نقول: وصف العدالة ميسور لكلّ مأمور، فلا يسقط بالمعسور، لأنّ التعذّر بالاختيار في حكم الاختيار.

و منها: لو تعذّر كلّ من له الولاية الشرعيّة من الحاكم و عدول المؤمنين بواسطة تعذّر الوصف أو الموصوف فهل يقوم عدول المؤمنات مقامهم في الولاية الشرعيّة في الأمور الحسبيّة من حيث اللزوم و الإلزام و النفوذ و الإنفاذ- كما قام العدول مقام الحاكم عند تعذّره- أم لا تقوم مقامهم و لو تعذّروا، لأنّ الأصل

ص: 253

الأصيل عدم الولاية و السبيل إلّا بالمتيقّن من النصّ و الدليل، فلا يجوز العدول عن العدول إلى البديل و لو تعذّر الأصيل؟

و الأظهر ثبوت ولاية العادلة عند تعذّر العدل، لكن لا لإلحاقها بالعدول نصّا أو إطلاقا أو قياسا حتى يمنع ذلك جدّا، بل لأنّ أمرها بالأمور الحسبيّة- خصوصا إذا انحصر كلّي التكليف و المكلّفين فيها- أمر بلوازمها من نفوذ البيع و الابتياع الحسبي في حقّ المولّى عليه و غيره، و إلّا لزم سقوط تكليفها بالأمور الحسبيّة، أو الالتزام في أمرها باللغويّة، و الأوّل خلاف للفرض، و الثاني خلاف العقل.

فكما استدلّوا بآية (1) حرمة كتمان ما في أرحامهنّ على وجوب تصديقهنّ، و بآية الإنذار (2) على وجوب تصديق المنذر لئلّا يلزم اللغويّة، كذلك يستدلّ بالأوامر الحسبيّة كقوله تعالى تَعٰاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوىٰ (3) و «عونك الضعيف صدقة» (4) على نفوذ بيع العادلة و ابتياعها في الأمور الحسبيّة لئلّا يلزم اللغويّة. و ليس حكم العكس كذلك، و هو ما لو انحصر المكلّف بالأمور الحسبيّة في فاسق أو فاسقة، فلا يتعيّن له الولاية الشرعيّة لتقييد الأوامر الحسبيّة فيه بالعدالة الميسورة له، فلا تسقط بالمعسور.

و منها: هل لعدول الجنّ ولاية شرعيّة في الأمور الحسبيّة على الناس في عرض الناس أو في طولهم و عند تعذّرهم، أو ليس لهم ذلك لا عرضا و لا طولا إلّا على أنفسهم؟ وجوه، من عموم أدلّة الاشتراك و الخطاب على وجه العرضيّة


1- البقرة: 228.
2- التوبة: 122.
3- المائدة: 2.
4- الوسائل 11: 108 ب «59» من أبواب جهاد العدو و ما يناسبه ح 2.

ص: 254

بقوله تعالى أَيُّهَ الثَّقَلٰانِ (1) يٰا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ (2)، و من انصراف الأوامر الحسبيّة إلى الناس، و لكنّه بدويّ من كثرة الاستئناس، بل لا يتأتّى في العمومات، فضلا عن المنصوصات. و لو سلّمنا الانصراف فلا أقلّ من كون عدول الجنّ في طول عدول الإنس و عند تعذّرهم، كولاية العادلة عند تعذّر العادل.

و منها: هل للصبيّ العادل ولاية شرعيّة في الأمور الحسبيّة في عرض ولاية عدول المؤمنين أو في طولهم كولاية العادلة في طول العادل و تعذّره، أو لا ولاية له فيها لا عرضا و لا طولا كالفاسق و البهائم؟ وجوه مبنيّة على شرعيّة عبادته و صحّة معاملته و عبارته و عدالته. فإن قلنا بها قلنا بولايته في عرض ولاية سائر العدول، لعموم الخطاب و أدلّة الاشتراك، من غير فرق سوى ارتفاع قلم المؤاخذة و العقوبة، دون أصل التكليف و الولاية. و إلّا فإن قلنا بقابليّته العدالة كان ولايته في طول ولاية عدول المؤمنين، كولاية العادلة في طول ولايتهم، و إلّا فالأصل عدم ولايته لا عرضا و لا طولا. و الأظهر الأشهر الأوّل، كما أسلفناه في عبادته و معاملته حرفا بحرف.

و منها: هل يعتبر اشتراط العدالة أو مانعيّة الفسق في صحّة عبادة المعين و الأجير و النائب و الوكيل لقاعدة اقتضاء الشغل اليقيني البراءة اليقينيّة و استصحابا لبقاء ما كان في الذمّة على ما كان، أم لا يعتبر، لأصالة الصحّة؟ وجوه.

و تحقيق الحال أن يقال: إنّ الكلام تارة في صحّة عبادة الوكيل و الأجير، بمعنى السقوط عن نفسه و استحقاق الأجرة عليه.

و تارة في إسقاطه ما في ذمّة غير الأصيل، بحيث لو كان الأصيل أو الوليّ أو الوصيّ عاجزا عن مباشرة الوضوء و الغسل، و الطواف و السعي و الهدي و الحجّ


1- الرحمن: 31.
2- الأنعام: 130.

ص: 255

أو الصوم و الصلاة و الخمس و الزكاة و الكفّارة و غيرها من الديون فاستعان و استناب بالغير في ذلك كان فعل الغير من الأجير و الوكيل مسقطا ما في ذمّة الأصيل، كما كان يسقط ما في ذمّة نفسه بسبب الإجارة و الاستنابة.

و محلّ النظر في الثاني أيضا- أعني: إسقاط فعل الوكيل ما في ذمّة الأصيل- تارة ناشئ عن الشكّ في أصل وقوع الفعل عن الوكيل و عدمه.

و تارة ناشئ عن الشكّ في أنّ ما فعله الوكيل عن الأصيل هل وقع على وجه الصحّة ليجزي عن الأصيل، أم لا؟

و تارة ثالثة ناشئ عن الشكّ في أنّه لو ادّعى الوكيل الفراغ عن العبادة الموكّل فيه و المستأجر عليه هل ينفذ في حقّ الأصيل ليبرأ ما في ذمّته و يسقط عنه التكليف، أم لا؟

و تارة رابعة ناشئ عن الشكّ فيما لو تلبّس الوكيل بفعل مترتّب شرعا على الفراغ عمّا وكّل فيه أو استأجر عليه، أو بفعل مشروط شرعا بالفراغ عمّا و كلّ فيه أو استأجر عليه، هل ينفذ ذلك الفعل من حيث الملازمة لإسقاط ما في ذمّة الأصيل و عدمه؟ فهذه مسائل ستّ:

أمّا الاولى: فلا خلاف و لا إشكال في أنّه و إن اعتبرت العدالة و التقوى في قبول العبادات بل و غيرها، إلّا أنّه لا إشكال و لا خلاف في عدم اعتبارها في صحّة عبادة العامل لنفسه، بل و لغيره نيابة أو وكالة أو تبرّعا بحسب الواقع.

و أمّا المسألة الثانية: و هي ما لو شك الأصيل في فعل الوكيل و وقوعه من البديل و عدمه، كما لو استأجر الأجير أو وكّل الوكيل في العبادة فمات الأجير و الوكيل قبل العلم بفعله و فراغ ذمّته، فلا شكّ و لا ريب في عدم سقوط ما في ذمّة الأصيل بمجرّد توكيل الوكيل و استئجار البديل، ما لم يعلم بفعل الوكيل، فضلا عن إسقاطه عن الأصيل، لقاعدة الشغل و استصحابه.

ص: 256

و أمّا المسألة الثالثة و الخامسة: و هي ما إذا فعل الوكيل الفعل و لكن شكّ في كونه على وجه الصحّة أو الفساد برياء أو سمعة، أو ما إذا فعل ما هو مشروط أو مترتّب على الفراغ من العمل الموكّل فيه، كالتصرّف في اجرة ما هو مشروط بالفراغ منه، أو الشروع فيما هو مرتّب شرعا على الفراغ من العمل المستأجر عليه، ففي إسقاط هذا الفعل من الوكيل و البديل ما في ذمّة الأصيل و عدمه وجهان، مبنيّان على أنّ اعتبار الصحّة في فعل المسلم هل هو [من] باب الغلبة و الأمارة الناظرة إلى الواقع ليعمّ الصحّة الحاملي، أو من باب التعبّد بالأصل العملي لئلّا يتعدّى عن الصحّة الفاعلي؟

و نحن و إن اخترنا في محلّه اعتبار أصل الصحّة من باب الغلبة و الأمارة و تعميمها الصحّة الحاملي في فعل المسلم و إن لم يكن عادلا، إلّا أنّ مجرّد فعل الوكيل و البديل غير كاف في إسقاط ما في ذمّة الأصيل، إلّا مع الوثوق بصحّة فعل الفاعل و غلبة الصحّة في فعله. و أمّا لو عورضت هذه الغلبة الصحّة بغلبة الفساد في العمل و الاعتقاد، كما في هذه الأزمنة و البلاد، فيشكل السقوط و الإسقاط، و رفع اليد عن قاعدة الشغل و استصحابه حتّى يعلم المبرئ و فراغ الذمّة. فتدبّر جدّا.

و أمّا المسألة الرابعة: و هو ما إذا ادّعى الكفيل و الوكيل و البديل فراغ ذمّته عن عمل الأصيل و إبراء ذمّته عن العمل، فلا خلاف في نفوذ إقراره إلى الأصيل، و إسقاط ما في ذمّته بدعوى الكفيل و الوكيل و البديل، لعموم قاعدة «من ملك شيئا ملك الإقرار به». يعني: إقرار المقرّ نافذ بكلّ ما له فعله من إنشاء أو فعل أو حقّ مطلقا، و لو بعد زوال الولاية و العزل عن الوكالة.

و إن كان في عموم القاعدة، أو تخصيصها بما قبل زوال الولاية و الوكالة، أو بمورد إقرار العقلاء على أنفسهم الخاصّ بإقرار البائع العاقل دون إقرار الصبيّ

ص: 257

بما له أن يفعله من الوصيّة بالمعروف أو الصدقة، أو تخصيصها بإقرار ماله أن ينشئه من بيع أو ابتياع كالوليّ، دون ماله أن يفعله من صلاة أو حجّ كالأجير، أو بمورد اعتبار قول من ائتمنه المالك بإذن كالوكيل، أو الشارع بأمر كالحسبيّات أو بمورد كون الدعوى بلا معارض، أو بمورد ظهور صدق المقرّ و عدم دواعي كذبه، كإقرار الوليّ في حال الولاية بإنشاء ماله إنشاؤه (1)، وجوه مختلفة باختلاف المدرك منها للقاعدة. و هي و إن لم تستند إلى نصّ بعموم و لا خصوص إلّا أنّها اشتهرت من زمن الشيخ إلى زماننا على وجه العموم و الكلّية، و الفتوى بها في الموارد الشخصيّة، بل عن العلّامة (2) الإجماع على بعض مواردها الجزئيّة، فكأنّها بنفسها نصّ معتبر أو مضمون نصّ معتبر، مضافا إلى اعتبار كلّ ما يحتمل أن يكون له مدرك من الوجوه. هذا ممّا لا إشكال فيه.

إنّما الإشكال في أنّ قبول إقرار من ملك و إنفاذه فيما ينفذ من الوكيل و الكفيل و البديل إلى إسقاط ما في ذمّة الأصيل، هل هو من باب الشهادة أو الدعوى بلا معارض ليقبل بلا ضمّ يمين، أو من باب الأخذ بظهور صدق المدّعي، كظهور حال المسلم في صحّة فعله، و دعوى ذي اليد في قبول قوله فيما بيده؟ وجهان، أقواهما الثاني، لأنّها إن كانت شهادة فهي شهادة واحدة لا تقبل إلّا بيمين. و إن كانت دعوى فهي لا تزال معارضة من الوكيل بالأصيل، فتحتاج إلى يمين أو دليل.

و منها: هل يجوز لمن يريد الصلاة و لو جمعة أو جماعة الاكتفاء بأذان الفاسق و إقامته، أو بإدراك جماعة قبل التفرّق و لو كانوا فسّاقا، أو أمّهم فاسق لإطلاق أدلّة السقوط كقوله عليه السّلام: «و يجزئكم أذان جاركم» (3) خصوصا على القول


1- اسم ل «كان» في بداية الفقرة، في قوله: و إن كان ..
2- لم نعثر عليه في مظانّه.
3- الوسائل 4: 659 ب «30» من أبواب الأذان و الإقامة ح 3.

ص: 258

بكون السقوط عزيمة لا رخصة، أم يشترط في السقوط عدالة المسقط؟ نظرا إلى استصحاب عدم السقوط، و قاعدة الشغل، خصوصا على القول بوجوب الأذان و الإقامة، و استناد السقوط بحسب الحكمة إلى حرمة المسقط و كرامته، و لا حرمة و لا كرامة للفاسق.

و لسياق قوله عليه السّلام: «لا بأس بالغلام الذي لا يبلغ الحلم أن يؤمّ القوم و أن يؤذّن لهم» (1).

و لظاهر قوله صلى اللّٰه عليه و آله: «يؤمّكم أقرؤكم، و يؤذّن لكم خياركم» (2)، مع الإغماض عن ظهور سياقه في الاستحباب.

و لظاهر قوله عليه السّلام: «أذّن خلف من قرأت خلفه» (3).

و لظاهر قوله عليه السّلام: «لا يستقيم الأذان و لا يجوز أن يؤذّن إلّا رجل مسلم عارف، فإن علم الأذان و أذّن به و لم يكن عارفا لم يجز أذانه و لا إقامته، و لا يقتدى به» (4)، خصوصا بملاحظة سياقه في اعتبار عدالة الإمام، خصوصا بالنظر إلى التأسّي بأمر النبيّ في الأسراء جبرئيل فأذّن و أقام.

و هو الأحوط إن لم يكن أظهر، خصوصا بملاحظة نصوص (5) إكرام المؤذّنين و حسن الظنّ بهم، كقوله صلى اللّٰه عليه و آله: «يحشر المؤذّنون مع النبيّين و الصدّيقين و الصالحين» (6). إلى غير ذلك ممّا لا يحصى.

و منها: هل يجوز التعويل في دخول الوقت على أذان الثقة مطلقا؟


1- الوسائل 4: 662 ب «32» من أبواب الأذان و الإقامة ح 4.
2- الوسائل 4: 640 ب «16» من أبواب الأذان و الإقامة ح 3.
3- الوسائل 4: 664 ب «34» من أبواب الأذان و الإقامة ح 2.
4- الوسائل 4: 654 ب «26» من أبواب الأذان و الإقامة ح 1.
5- الوسائل 4: 613 ب «2» من أبواب الأذان و الإقامة.
6- الوسائل 4: 616 ب «2» من أبواب الأذان و الإقامة ح 22.

ص: 259

لقوله عليه السّلام: «صلّ الجمعة بأذان هؤلاء، لأنّهم أشدّ شي ء مواظبة على الوقت» (1)، و قوله عليه السّلام: «إذا أذّن- يعني: مؤذّن مكّة- فقد زالت الشمس» (2).

أم لا يجوز التعويل إلّا على أذان العدل مطلقا؟ لقوله عليه السّلام: «المؤذّن مؤتمن، و الإمام ضامن» (3)، خصوصا بقرينة السياق، و قوله عليه السّلام: «المؤذّنون أمناء المؤمنين على صلاتهم و صومهم و لحومهم و دمائهم» (4).

أم لا يجوز التعويل في دخول الوقت على أذان المؤذّن مطلقا؟ استصحابا لعدم دخول الوقت، و قاعدة الشغل، إلّا عند وجود مانع من غيم و نحوه، حملا للنصوص المطلقة على المقيّد منها بخصوص وجود المانع. و هو الأحوط إن لم يكن الأظهر.

و منها: هل تعتبر العدالة في عدد انعقاد الجمعة؟ كما تعتبر في الإمامة و قبول الشهادة، و كما يومئ إليه قوله عليه السّلام: «تجب الجمعة على سبعة نفر من المؤمنين، و لا تجب على أقلّ منهم: الإمام، و قاضيه، و المدّعي حقّا، و المدّعى عليه، و الشاهدان، و الذي يضرب الحدود بين يدي الإمام عليه السّلام» (5)، بناء على كون النسخة: «المؤمنين» لا «المسلمين»، و انصرافه إلى عدولهم، و على اشتراط أعيان السبعة لا عددهم. و هو مناف لصريح قوله: «و لا تجب على أقلّ منهم» حيث لم يقل: على غيرهم، و لعدم اشتراط أعيان السبعة عندنا، بل و لا لحضور إمام الأصل.

أم لا تعتبر العدالة؟ فتنعقد و لو بالفسّاق و أهل النفاق، لإطلاق أدلّة عدد


1- الوسائل 4: 618 ب «3» من أبواب الأذان و الإقامة ح 1.
2- الوسائل 4: 619 ب «2» من أبواب الأذان و الإقامة ح 9.
3- الوسائل 4: 618 ب «2» من أبواب الأذان و الإقامة ح 2.
4- الوسائل 4: 619 ب «2» من أبواب الأذان و الإقامة ح 7.
5- الوسائل 5: 9 ب «2» من أبواب صلاة الجمعة و آدابها ح 9.

ص: 260

الانعقاد في سبعة، و أقلّهم خمسة كما هو الأظهر، و إن كان الأحوط اعتباره.

و منها: هل تعتبر في خطيب الجمعة حال الخطبة العدالة كما تعتبر في إمامها حال الإقامة، أم لا تعتبر فيها كما لا تعتبر في عدد انعقادها؟ كما هو الأصل، و إطلاق نصوص اعتبار أن يكون الخطيب ممّن يحسن الخطبتين، خصوصا على القول بعدم اشتراط اتّحاد الخطيب مع الإمام عليه السّلام. و هو الأظهر، و إن كان الأحوط الاشتراط، خصوصا على القول باشتراط اتّحاد الإمام مع الخطيب، خصوصا بملاحظة ظهور المستفيضة: «إنّما جعلت الجمعة ركعتين من أجل الخطبتين، فهي صلاة حتّى ينزل الإمام» (1) في عموم البدليّة و المنزلة.

و منها: هل تعتبر في تعيين القبلة و الهلال، و دخول وقت الصلاة و الصيام، و مواقيت الحجّ و حدود الحلّ و الحرم و المشعر و عرفات و منى و مكّة و الحائر، عدالة الشاهد كما تعتبر في تعيين سائر الموضوعات، أم يكفي الظنّ و الوثوق الحاصل من أهل الخبرة و الفسوق؟ قولان أقربهما التفصيل بين من يتمكّن من تحصيل العلم أو ما يقوم مقامه من البيّنة العادلة، فلا يجوز التعويل على ما دونه، و بين من لا يتمكّن بواسطة مانع كالعمى أو غيم في السماء، فيجوز الاكتفاء، كما نصّ به الأوصياء.

و منها: هل تعتبر في تعديل المعدّل و تزكية المزكّي و توثيق الراوي و اعتبار الرواية العدالة، أم يكفي الوثاقة و حسن الظنّ و الصداقة و لو من قول الفسقة؟

قولان، من كون الأصل الأصيل في تشخيص كلّية الموضوعات الصرفة عدم الاكتفاء إلّا بالعلم أو ما يقوم مقامه، و من أنّ الاطّلاع على الملكات النفسيّة و الأمور الخفيّة كالعدالة و الصداقة، كالاطّلاع على السرائر المكمونة كالأنساب و الأوقاف و الملكات و الأمراض، ممّا لم يعلم بها إلّا علّام الغيوب، و لم يرض


1- الوسائل 5: 15 ب (6) من أبواب الصلاة الجمعة و آدابها ح 4.

ص: 261

بتعطيل الأحكام المترتّبة عليها من الحدود و الحقوق و إقامة الشهادات و الجمعة و الجماعات، فيقتضي الاكتفاء فيها بالظنّ و الوثوق، كما هو المشهور المنصور بل المنصوص.

و منها: أنّه هل يعتبر في مقوّم قيّم المتلفات و أروش المعيبات و تقدير الدّيات و تقسيم المشتركات و تخريص الخراج و المقاسمات و الزكاة و تعيين اللغات و القراءات و تفسير الآيات عدالة المقوّم و المقدّر و المعيّن و المقسّم و الخراص و اللغويّ و المفسّر و القارئ بل تعدّدهما، أم يكفي الظنّ و الوثوق الحاصل من قول أهل الخبرة و لو فاسقا أو كافرا؟ وجهان بل قولان، أحوطهما بل أقواهما الأوّل، للأصل الأصيل في كلّي الموضوعات- خصوصا الموضوعات الصرفة- و هو عدم الاكتفاء بما عدا العلم و ما يقوم مقامه كالبيّنة العادلة.

و أمّا ما استدلّ به على الاكتفاء بالإجماع و السيرة و انسداد باب العلم فيها.

فأوّلا: ممنوع جدّا. و ثانيا: لو سلّم فإنّما هو فيما لم يتعلّق بحكم شرعيّ، بل تعلّق بتفسير خطبة أو معنى شعر، أو علم شي ء من غير عمل، أو مقدّمة لتحصيل علم بعد تراكم الظنون.

و منها: هل يصحّ تصحيح أفعال الفسّاق، و أهل الظلم و النفاق، و ما في أيديهم و الأسواق، بأصل الصحّة و الطهارة و الحلّية و التذكية و الملكيّة؟ كما هو ظاهر الاتّفاق، نظرا إلى عموم (1) أدلّة حمل فعل المسلم على الصحّة و الطهارة و الحلّية و التذكية، و أنّ يده و سوقه أمارة الملكيّة و التذكية و الحلّية و الطهارة.

أم لا يصحّ مجرى شي ء من ذلك إلّا في عدول المؤمنين؟ كما هو الأحوط بل الأقوى، نظرا إلى أنّ مدرك تلك الأصول إن كانت الغلبة، كقوله عليه السّلام: «ما غلب


1- أنظر الوسائل 8: 614 ب «161» من أبواب أحكام العشرة ح 3، و أنظر هامش (6- 8) ص: 263.

ص: 262

عليه المسلمون فلا بأس» (1)، و قوله عليه السّلام: «من أسلم أقرّه على ما في يده، و لو أفضى إليه الحكم لأقرّ الناس على ما في أيديهم» (2)، و تعليل جواز استناد الشهادة بالملكيّة إلى ما في اليد بقوله: «و لو لم يجز ذلك لم يقم للمسلمين سوق» (3)، فمن المعلوم أنّ تلك الغلبة قد لا تطّرد، بل قد تنعكس غلبة الصحّة بغلبة الفساد في المعاش و المعاد، خصوصا في هذه الأزمنة و البلاد، و العمل و الاعتقاد، فلا مجرى لأصالة الصحّة و الرشاد، و لم يبق لكلّية القاعدة اطّراد و لا اعتماد، لقوله عليه السّلام في نهج البلاغة: «إذا استولى الصلاح على الزمان و أهله ثمّ أساء رجل برجل لم يظهر منه خزية فقد ظلم، و إذا استولى الفساد على الزمان و أهله ثمّ أحسن رجل الظنّ برجل فقد غرّر» (4). و في البحار عن الدرّة الباهرة: «إذا كان زمان العدل أغلب من الجور فحرام أن يظنّ بأحد حتّى يعلم ذلك منه، و إن كان زمان الجور أغلب من العدل فليس لأحد أن يظنّ بأحد خيرا حتّى يعرف ذلك منه» (5).

فإن قلت: ظاهرا تلك النصوص أنّ المنوط بغلبة الصحّة و الفساد إنّما هو الأفعال، دون اليد و السوق و الأقوال. و لو سلّمنا تعميمها فإطلاق حكم اليد و السوق و ورودها مورد غلبة الفساد حاكم على تعميم الفساد، و مخصّص لعمومه.

قلت: أوّلا: بعموم إذا استولى الفساد و غلب الجور لغلبة اليد و السوق في الفساد.

و ثانيا: سلّمنا التخصّص أو التخصيص و التحكيم، لكن نقول: إنّ إطلاق حكم اليد و السوق وارد مورد تشريع أصل الحكم لا بيان أفراده، كإطلاق اعتبار


1- الوسائل 2: 107 ب «50» من أبواب النجاسات ح 5.
2- الوسائل 18: 214 ب «25» من أبواب كيفيّة الحكم و أحكام الدعوى ح 1.
3- الوسائل 18: 215 ب «25» من أبواب كيفيّة الحكم و أحكام الدعوى ح 2.
4- نهج البلاغة: 489 رقم 114.
5- البحار: 78: 370.

ص: 263

سائر الأمارات و الظواهر و البيّنات، إنّما هو من باب الظنّ الشخصيّ الفعلي، لا النوعيّ الشأني، و لا السببيّة المطلقة.

و لو تنزّلنا فمن باب السبية المقيّدة بعدم الظنّ بالخلاف، فلا يشمل صورة المعارضة بغلبة الفساد أو الظنّ به. فكما أنّ إطلاق فَكُلُوا مِمّٰا أَمْسَكْنَ (1) وارد مورد تشريع أصل حلّية صيد الكلب و كونه غير ميتة، لا بيان أفراد حلّيته ليشمل موضع العضّ، كذلك إطلاق:

«من أسلم أقرّه على ما في يده» (2)، خصوصا المعلّل بقوله: «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق» (3) خصوصا احتجاج عليّ عليه السّلام على أبي بكر: «أ تحكم فينا بخلاف حكم اللّٰه في المسلمين؟ تسألني البيّنة على ما في يدي و قد ملكت في حياة رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله و بعده» (4)، كما يشهد عليه نصوص الترجيح في تعارض اليدين و البيّنتين باليمين أو أكثريّة الشهود أو القرعة، و اشتراطهم في الراوي أن يكون ضابطا لا كثير السهو و النسيان.

و أمّا ما كان مدركه الأصل التعبّديّ العملي، كقوله: «ضع فعل أخيك على أحسنه» (5)، «و كلّ شي ء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» (6) و «كلّ شي ء لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه» (7) أو «حتّى يجيئك شاهدان أنّ فيه الميتة» (8). و «كلّ ما حجب اللّٰه علمه عنه فهو موضوع» (9). و قوله عليه السّلام عمّن رأى أنّه يجعل فيه- أي:


1- المائدة: 4.
2- تقدّم ذكر مصادرهما في هامش (2 و 3) ص: 262.
3- تقدّم ذكر مصادرهما في هامش (2 و 3) ص: 262.
4- الوسائل 18: 215 ب «25» من أبواب كيفيّة الحكم و أحكام الدعوى ح 3.
5- تقدّم ذكر مصدره في هامش (1) ص: 289.
6- مستدرك الوسائل 2: 583 ب «30» من أبواب النجاسات و الأواني ح 4.
7- الوسائل 17: 90 ب «61» من أبواب الأطعمة المباحة ح 1.
8- الوسائل 17: 91 الباب المتقدّم ح 2.
9- تقدّم ذكر مصدره في هامش (8) ص: 219.

ص: 264

الجبن- الميتة، فقال عليه السّلام: «أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم جميع ما في الأرض، فما علمت فيه ميتة فلا تأكله، و ما لم تعلم فاشتر و بع و كل، و اللّٰه إنّي لأعترض السوق فاشتري اللحم و السمن و الجبن، و اللّٰه ما أظنّ كلّهم يسمّون» (1) الخبر.

فهو و إن لم يكن كالأدلّة و الأمارات ناظرة إلى الواقع و غالبة الوصول إليه، بل كان مضمونها التعبّد بالأصل العملي و الطريق التعبّديّ مع قطع النظر عن الواقع و عن وصوله إليه، إلّا أنّه لمّا علم كونه واردا مورد الامتنان الخاصّ بأهل الإيمان لم يتعدّ مجراه إلى أهل الفسق و العصيان و الظلم و العدوان، كما يشير إليه قوله تعالى قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّٰهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبٰادِهِ وَ الطَّيِّبٰاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا خٰالِصَةً يَوْمَ الْقِيٰامَةِ (2). و مفهوم قوله تعالى:

فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ» (3). و قوله عليه السّلام: «و إن شيعتنا لأوسع ما بين السماء و الأرض» (4). «و لو أنّ غير موالي عليّ دخل البحر و اغترف غرفة بيده و شرب مع التسمية و التحميد لم يشرب إلّا كدم مسفوح أو لحم خنزير» (5).

و يدلّ عليه أيضا نصوص (6) تخصيص سهم الغارمين من الزكاة بمن كان غرمه في طاعة لا معصية إسراف و تبذير، خصوصا على القول باشتراط العدالة في سائر أصناف مستحقّيه. و تخصيص مستثنيات الخمس من المناكح و المتاجر


1- الوسائل 17: 91 ب «61» من أبواب الأطعمة المباحة ح 5.
2- الأعراف: 32.
3- البقرة: 173.
4- قرب الإسناد: 385 ح 1358.
5- تقدّم ذكر مصدره في هامش (11) ص: 236.
6- الوسائل 6: 143 ب «1» من أبواب المستحقين للزكاة.

ص: 265

و المساكن بقوله: «بالأطيبين من شيعتنا» (1). و تخصيص سفر القصر بسفر الطاعة لا المعصية. إلى غير ذلك ممّا يدلّ صريحا أو فحوى على اختصاص الامتنان بأهل الإيمان، لا الفسق و العصيان.

و منه يعلم اختصاص مجرى ما ذكر من الأصول الخمسة الامتنانيّة بما إذا كان كلّ من فاعل الفعل و حامله من أهل الإيمان، و لا مجرى لها في غير المورد مطلقا، سواء كان كلّ منهما أو أحدهما دون الآخر فاسقا، فلا يجري [في] الحامل الظالم و الفاسق و إن كان فاعله مؤمنا عادلا، بل و لا العكس لا يجري في فعل الظالم و الفاسق و إن كان حامله مؤمنا عدلا. فتدبّر أو تأمّل جدّا.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ إسلام الفاسق و الظالم المنافق على تقدير تسليمه لا يفيده شيئا من أحكام الإيمان و الإسلام، و لا الإكرام و الإعظام، و لا شيئا من وجوه الكرامة و الاحترام، و الشريعة السمحة السهلة لخير الأنام من الامتنانات، و لا البراءات و لا الإباحات، و لا التوسّعات و لا الحلّيات، و لا الطهارات و لا التذكيات، و لا الدعوات و لا التوليّات، و لا الولايات، إلّا حقن الدماء، و حرمة الذراري و النساء، و حلّية الذبائح و المناكح، و طهارة الأسئار، على القول المختار من عدم إلحاقهم بالكفّار ما لم يموتوا على الإصرار، و إلّا فخلّدوا بعذاب النار و غضب الجبّار و انتقام العزير القهّار.

هذا، و لكن ذلك من الأسرار التي لا يتحمّله إلا الأخيار الأبرار، و لا يأتمنه الأشرار، و لا يليق به الفجّار و الكفّار، كما قال عليه السّلام: «أمرنا صعب مستصعب، لا يتحمّله إلا ملك مقرّب، أو نبيّ مرسل، أو مؤمن امتحن اللّٰه قلبه للإيمان» (2)، بل المصالح النوعيّة و الألطاف الخفيّة تقضي إخفاء الأحكام الواقعيّة،


1- تقدّم ذكر مصدره في هامش (8) ص: 236.
2- بصائر الدرجات: 26 ب «12».

ص: 266

و سلوك مسلك المداراة و التقيّة، و إعمال الأحكام الظاهريّة، إلى أن يظهر حجّته على البريّة، المكمون في سرادق الغيبة و حجب العزّ الكبريائيّة.

فمقتضى مصالح الحال و ألطاف حكمة الحكيم المتعال، في زمن الغيبة و الضلال، و التقيّة و الإمهال، هو إلزام الجهّال بظواهر الحرام و الحلال، و تسهيل المبدأ و المآل، و اطّراد الأحوال و الأفعال، و اتّحاد المسلك و المقال، جلّ جلال حكم ذي الجلال، و كم للّٰه من لطف خفيّ يدقّ خفاه عن فهم الذكيّ.

[المسألة الثالثة و العشرون النجش حرام]

قوله: «و حرمته بالتفسير الثاني خصوصا لا مع المواطاة يحتاج إلى دليل».

أقول: دليل حرمته بالمعنى الثاني هو دليل حرمته بالمعنى الأوّل من العقل و النقل، لعدم الفرق بين المعنيين من حيث الإضرار و الغشّ و الخدعة و الإغراء، و من حيث إطلاق قوله عليه السّلام: «الناجش و المنجوش ملعون» (1)، و عموم: «و لا تناجشوا» (2). بل ذكر اللغويّون- كالقاموس (3) و المجمع- المعنى الثاني أوّلا في التعداد، مصرّحا في المجمع بأنّ «النهي للتحريم، لما فيه من إدخال الضرر على المسلم» (4). فالقول بالتفصيل كما في المتن أو الكراهة مطلقا كما عن الدروس (5) لا وجه له سوى اختصاص معقد الإجماع المنقول بالمعنى الأوّل. و لعلّه وجه التفصيل بين المعنيين.

ثمّ النجش في البيع هل يوجب الخيار مطلقا، أم لا مطلقا، أم يوجبه مع الغبن لا مع عدمه، أم يبطل البيع إن كان من البائع؟ وجوه بل أقوال، أقواها


1- الوسائل 12: 337 ب «49» من أبواب آداب التجارة ح 2.
2- الوسائل 12: 338 ب «49» من أبواب آداب التجارة ح 4.
3- القاموس 2: 289.
4- مجمع البحرين 4: 154.
5- الدروس الشرعية 3: 178، و فيه: الأقرب التحريم.

ص: 267

الثالث.

[المسألة الرابعة و العشرون النميمة محرمة بالأدلة الأربعة]

قوله: «سلّط اللّٰه عليه تنّينا» (1).

[أقول:] التنّين كسكّين الحيّة العظيمة، شرّ من الكوسج، في فمه أنياب مثل أسنّة الرماح، طويل كالنخلة السحوق، أحمر العينين كالدم، واسع الفم و الجوف، برّاق العينين، يبلع كثيرا من الحيوان، يخافه حيوان البرّ و البحر، إلى آخر ما في المجمع (2).

قوله: «و يدلّ على حرمتها جميع ما دلّ على حرمة الغيبة».

أقول: بل و جميع ما دلّ على حرمة السحر، لأنّ من أكبر السحر النميمة، كما في الاحتجاج (3)، و لقوله تعالى وَ لٰا تُطِعْ كُلَّ حَلّٰافٍ مَهِينٍ هَمّٰازٍ مَشّٰاءٍ بِنَمِيمٍ (4)، و قوله تعالى وَ يَتَعَلَّمُونَ مٰا يَضُرُّهُمْ وَ لٰا يَنْفَعُهُمْ (5) و مٰا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ (6).

[النوح بالباطل]

قوله: «و كلاهما محمولان على المقيّد جمعا».

أقول: فيه أوّلا: بأن تقييد النوح بالباطل ممّا لم نقف به على نصّ صريح فيه. نعم، في المجمع: «إنّما تحتاج المرأة في المأتم إلى النوح لتسيل دمعتها، فلا ينبغي أن تقول هجرا» (7). يعني: باطلا. و فيه إذن به ما لم تهجر.

و ثانيا: سلّمنا تفسير الهجر بالباطل، لكن معناه اللغو لا الكذب. و لو تنزّلنا فمعناه أعمّ من الكذب، فلا وجه لتقييده به، بل تقييد النوح المحرّم بالكذب ليس


1- الوسائل 8: 618 ب «164» من أبواب أحكام العشرة ح 6.
2- مجمع البحرين 6: 221.
3- الاحتجاج: 340.
4- القلم: 10- 11.
5- البقرة: 102.
6- البقرة: 102.
7- مجمع البحرين 2: 422.

ص: 268

بأولى من تقييده بالنوح المشتمل على الغناء، أو على عدم الرضا بالقدر و القضاء، أو المسمع صوتها الأجانب.

و دعوى الجواهر (1) أنّ السيرة على جواز مطلق النوح بسيرة نوح فاطمة على أبيها، و الفاطميّات على الحسين، تقيّد المحرّم منه بالباطل جمعا.

فيه: أنّ المتيقّن من السيرة إنّما هو تقييد الجائز بالنوح على النبيّ و الإمام و الشهداء معهم، لا تقييد النهي عنه بالمحرّم من الكذب و نحوه.

و أمّا مرسلة المجمع: «لا بأس في أجر النائحة» (2) ففيه ضعف السند بالإرسال، و الدلالة باحتمال الحمل على النوح الحلال، مضافا إلى المعارضة بما عن الفقيه في حديث المناهي: «نهى صلى اللّٰه عليه و آله عن الرنّة عند المصيبة، و عن النياحة، و الاستماع إليها، و نهى عن تصفيق الوجه» (3)، و ما عن الكافي عن الصادق عليه السّلام:

«من أنعم اللّٰه عليه بنعمة، فجاء عند تلك النعمة بمزمار فقد كفر، و من أصيب بمصيبة فجاء عند تلك المصيبة بنائحة فقد كفر» (4)، و ما في الخصال (5) و معاني الأخبار (6) من قوله صلى اللّٰه عليه و آله: «أربعة لا يزال إلى يوم القيامة: الفخر بالأنساب، و الطعن في الأحساب، و الاستسقاء بالنجوم، و النياحة، و أن النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة و عليها سربال من قطران»، و موثّقة سماعة: «سألته عن كسب المغنّية و النائحة، فكرهه» (7).

و على ذلك فأظهر أقوال المسألة من القول بتحريم النوح مطلقا، أو


1- جواهر الكلام 22: 54.
2- مجمع البحرين 2: 422.
3- الفقيه 4: 3 و 4 ح 1.
4- الكافي 6: 432 ح 11.
5- الخصال: 226 ح 60.
6- معاني الأخبار: 326 ح 1.
7- الوسائل 12: 90 ب «17» من أبواب ما يكتسب به ح 8.

ص: 269

الكراهة مطلقا، أو التفصيل بين الباطل و غيره، هو الأول المحكيّ عن الشيخ في المبسوط (1) و ابن حمزة في الوسيلة (2)، بل ادّعى المبسوط عليه الإجماع في آخر كتاب الجنائز بقوله: «و أما اللطم و الخدش و جزّ الشعر و النوح فإنه كلّه باطل محرّم إجماعا» (3).

هذا كلّه، مضافا إلى تقييد إطلاق «لا بأس بأجر النائحة» في مستدركات الوسائل (4) عن فقه الرضا بما إذا قالت صدقا، كتقييد سائر مطلقات جواز النوح بما لم تهجر.

مضافا إلى احتمال حمل مطلق نصوص جواز النوح على البكاء المجرّد عن الرنّة و الأشعار المبكية، كما هو المعيّن في محمل نوح فاطمة على أبيها و نوح الصادق عليه السّلام على ولده الفائت، بل هو صريح تمام نصوص باب جواز النوح من مستدركات الوسائل (5)، فإنّها صريحة في البكاء.

[المسألة السادسة و العشرون الولاية من قبل الجائر محرمة]

قوله: «بناء على أنّ المشار إليه هو العدل و ترك الظلم .. إلخ».

أقول: البناء على كون الإشارة إلى حرمته الغيريّة لا ينفي ما عداه و هو حرمته النفسيّة، سيّما مع عدم الانفكاك. بل لو فرضنا ظهور نصّ في حرمته الغيريّة، لكن يقدّم عليه أظهريّة نصوص الكتاب (6) و السنّة (7) في حرمته النفسيّة قطعا، فضلا عن عدم الظهور في شي ء منها أصلا و رأسا.

قوله: «ثمّ إنّه يسوّغ الولاية المذكورة أمران .. إلخ».


1- المبسوط 1: 189.
2- الوسيلة: 69.
3- المبسوط 1: 189.
4- مستدرك الوسائل 13: 93 ب «15» من أبواب ما يكتسب به ح 1.
5- مستدرك الوسائل 2: 383 ب «58» من أبواب الدفن و ما يناسبه.
6- المائدة: 51، التوبة: 23، آل عمران: 28.
7- الوسائل 12: 135 ب «54» من أبواب ما يكتسب به، و ص 140 ب «46» من أبواب ما يكتسب به ح 9، و ص 54 ب (2) من أبواب ما يكتسب به.

ص: 270

[أقول:] و فيه: أنّ الحرام النفسي و ما فيه المفسدة الذاتيّة على وجه العلّية التامّة كالظلم، كما هو صريح نصوص تحف العقول (1)، و نصوص وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فأولئك [منهم فَأُولٰئِكَ] (2) هُمُ الظّٰالِمُونَ، لا تسوّغه المصالح أصلا و رأسا، و لا تجتمع مع المصالح، لاستحالة اجتماع الضدّين، فلا تسوّغه إلّا ضرورة أو تقيّة.

نعم، لو كان كالكذب مقتضى للحرمة و المفسدة لا علّة تامّة لها سوّغته المصلحة. لكنّه خلاف ما عرفت من نصوص الكتاب و السنّة.

قوله: «بالإجماع و السنّة الصحيحة .. إلخ».

[أقول:] فيه: أنّ معقد الإجماع و السنّة الصحيحة و قول الصّديق اجْعَلْنِي عَلىٰ خَزٰائِنِ الْأَرْضِ (3) إنّما هو التولّي من قبل الجائر فيما له فيه ولاية شرعيّة، كالمغصوب الذي يستعين من الجائر على حقّه و ماله و ملكه، و ما يختصّ به من الأموال و الوظائف الشرعيّة من حقّ الوصاية و التولية، كالفقيه الجامع يستعين بالجائر على القضاء بالعدل و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و إقامة شعائر الإسلام من الجمعة و الجماعة، و ترويج الأحكام من الحلال و الحرام، و حفظ الأوقاف و الأيتام. و منه طلب الصّديق عليه السّلام خزائن الأرض، فإنّها من قطائع النبوّة و الولاية الكلّية و الرئاسة الإلهيّة الخاصّة به. و منه تولّي عليّ بن يقطين و سلمان على المدائن و عمّار بن ياسر و ابن مسعود على الكوفة، و من المعلوم أنّ هذا القسم من الولاية الصوريّة الظاهريّة من قبل الجائر خارج عن محلّ الكلام، بل


1- تحف العقول: 332.
2- كذا في النسخة الخطّية، و لعلّها زائدة، أو أراد التلفيق بين آية 51 من سورة المائدة:
3- يوسف: 55.

ص: 271

هو استعانة بالجائر على حقّ و رفع ظلامة و باطل، فلا يقاس بها ما نحن فيه، لأنّه مغالطة صرفة.

قوله: «الولاية إن كانت محرّمة لذاتها كان ارتكابها لأجل المصالح و دفع المفاسد أهمّ».

[أقول:] فيه أوّلا: أنّ حرمة الولاية كقبح الظلم عقليّ و علّة تامّة للمفسدة، يستحيل اجتماعها مع المصلحة المسوّغة.

و ثانيا: لو سلّمنا أنّه نقليّ كالكذب مقتض لا علّة تامّة، لكن تجويز الكذب لمصلحة بالنصّ لا يجوّز سائر المحرّمات، من زنية أو شرب مسكر أو أكل ميتة لمصلحة، خصوصا لمصلحة الغير مطلقا.

قوله: «و لا يخفى أنّ العريف سيّما في ذلك الزمان لا يكون إلّا من قبل الجائر».

[أقول:] و فيه منع، لأنّ العرافة الرئاسة وزنا و معنى، و العريف هو المعروف، و المعاريف و العرفاء الرؤساء، كما في المجمع (1) و غيره (2)، و من المعلوم أنّ العرافة كالرئاسة و الخلافة و السلطنة و الحكومة و سائر الألفاظ موضوعة لمعانيها الواقعيّة الحقّة الصحيحة الشرعيّة، لا المجازيّة الباطلة الفاسدة، و إن غلبت و شاعت و ذاعت في أوهام المبطلين و إطلاقاتهم، كإطلاقهم الإله و الآلهة على ما زعموها من أصنامهم و أزلامهم تحكّما و زورا، مع أن غلبة العرافة في الجائرة و الباطلة سيّما في زمان صدور نصوصها ممنوعة، بل الأغلب العرافة الحقّة، كرئاسة الأزواج على أزواجهم، و أولي الأرحام على أرحامهم، و الأولياء على مواليهم، و الملّاك على مماليكهم و أملاكهم، و سلطنة الناس على أموالهم، و ولاية الحاكم


1- مجمع البحرين 5: 98.
2- لسان العرب 9: 238.

ص: 272

الشرعيّ على القضاء و الأمور الحسبيّة و الوظائف الشرعيّة و إجراء الحدود و إقامة شعائر الإسلام و ترويج الأحكام من الحلال و الحرام، و ولاية كلّ الناس على المباحات الأصليّة.

قوله: «إلّا لتفريج كربة مؤمن .. إلخ» (1).

[أقول:] و فيه: أنّ الاستدلال به على جواز التولّي من قبل الجائر لمطلق المصالح مبنيّ على كون الاستثناء متّصلا. و هو ممنوع، لظهور كون الاستثناء من وطء بسطهم لا تولّي أعمالهم، مضافا إلى أنّ كشف كربة المؤمن و فكّ أسره من الواجبات الكفائيّة و الأمور الحسبيّة و الولايات الشرعيّة التي لا يحرم تناولها من الغاصب و المانع بأيّ وجه اتّفق، و هو أخصّ من المدّعى.

قوله: «و ظاهرها إباحة الولاية من حيث هي».

[أقول:] و فيه: أنّه لا موهم لهذا الظهور إلّا مثل قوله عليه السّلام: «ما من جبّار إلّا و معه مؤمن يدفع اللّٰه به عن المؤمنين» (2). و هو مدفوع بأنّ المعيّة أعمّ من التولية من قبله التي هي محلّ الكلام، إذ قد يكون المعيّة على وجه الصداقة و الرفاقة و النسبة و الرحميّة و الوجاهة و الرفعة الإلهيّة، لأجل إتمام الحجّة عليهم و التوسّط و الشفاعة لديهم، كمعيّة مؤمن آل فرعون و امرأته، و سلمان و عمّار و أبي ذرّ مع أبي بكر و عمر، و عليّ بن يقطين مع هارون، و نصير الدين الطوسي مع السلطان هولاكو، و المحقّق الكركي و المجلسي مع السلاطين الصوفيّة، و الاحتمال يبطل الاستدلال.

قوله: «و الأولى أن يقال: إنّ الولاية غير المحرّمة منها ما يكون مرجوحة .. و منها ما يكون مستحبّة .. و منها ما يكون واجبة .. إلخ» (3).


1- الوسائل 12: 140 ب «46» من أبواب ما يكتسب به ح 9.
2- الوسائل 12: 134 ب «44» من أبواب ما يكتسب به ح 4.
3- علّق السيّد المحشّي قدس سرّه على هذه العبارة في ص: 271، و المضمون مختلف فيهما.

ص: 273

[أقول:] فيه: أنّ اختلاف نصوص المعيّة مع الجائر لا ينحصر في اختلاف مقاصد التولّي من قبله و مصالحه المقصودة الدنيويّة لنفسه أو لإخوانه، أو لمصالحه الأخرويّة الواجبة عليه، كالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، بل اختلافها من جهة اختلاف مراتب العمل و العامل و موارده، من حيث إنّ أفضل الأعمال أحمزها و أخلصها و أعظمها، فإن المعيّة لإنجاء نبيّ أفضل منها لإنجاء مؤمن، و هي أفضل منها لإنجاء مسلم، و هي أفضل منها لإنجاء ذمّي، و هكذا.

قوله: «بل من باب مزاحمة قبحها بقبح ترك الأمر بالمعروف .. إلخ».

[أقول:] فيه: أنّ صحّة التوجيه المذكور مبنيّ على أن يكون تزاحم القبيحين المذكورين كتزاحم الحقّين دليله لبيّا من عقل أو إجماع، و المفروض أنّه لفظيّ كالمتعارضين، فمرجعه إلى التساقط و الرجوع إلى الأصل العملي لا التخيير الظاهري.

قوله: «الولاية غير المحرّمة منها ما يكون مرجوحة .. و منها ما يكون واجبة .. و منها ما يكون مستحبّة .. إلخ».

أقول: قد عرفت أنّ الولاية غير المحرّمة الآتي فيها الأقسام المذكورة إنّما هو التولّي فيما له ولاية شرعيّة حقّانيّة، كتولّي الفقيه الجامع من قبل الجائر لأجل القضاء بالعدل و رفع الظلم، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و إجراء الحدود و الأحكام من الحلال و الحرام، و إقامة شعائر الإسلام، و حفظ أموال الأيتام و شريعة خير الأنام. و من المعلوم أنّ هذا القسم من التولّي في الحقيقة خارج عن محلّ الكلام في المقام.

و إنّما محلّ الكلام هو التولّي من قبل الجائر، إمّا في خصوص جوره و ما ليس له بحقّ كالحكومة الجوريّة على العباد و جباية الخراج و المقاسمة لهم و إجراء أحكامهم الباطلة و أوامرهم الفاسدة، و إمّا ترويج أمورهم و إعانتهم

ص: 274

و التحرير و الكتابة لهم و تنجيز حوائجهم، و نحو ذلك من إعاناتهم و معوناتهم المحرّمة حرمة نفسيّة على وجه العلّية التامّة، كالظلم في نصوص الكتاب (1) و السنّة (2). فالتولّي غير الحرام القابل للأقسام خارج عن محلّ الكلام، و الذي هو محلّ الكلام في المقام حرام غير قابل للأقسام، فالمقايسة بينهما مغالطة.

قوله: «و الشهيدين للعامّة» (3).

[أقول:] فإن قلت: ثبوت الكفّارة عليه كما ينافي جوازه لمطلق المصالح الدنيويّة، كذلك ينافي جوازه لضرورة أو تقيّة أو سائر المصالح الأخرويّة، لأنّ الضرورات تبيح المحظورات، بل قد توجبها، فمنافاة الكفّارة مشتركة الورود.

قلت: جواز المحظور بل وجوبه لضرورة كأكل الميتة لا ينافي الكفّارة عليه، كقتل الخطأ و إفطار من لا يطيق الصيام بالفدية، و استغفار النبيّ و سائر الأنبياء لمعاشرة الأشرار و ارتكاب سائر أوامر الاضطرار.

قوله: «يحشره اللّٰه على نيّته» (4).

[أقول:] فيه: أنّ النيّة المسوّغة لمحظور التولّي عن الجائر لا ينحصر في التولّي لمطلق المصالح الدنيويّة، بل لعلّه لدفع مفسدة الضرورة و الإكراه و التقيّة، و سائر المصالح الأخرويّة الموجبة للمعيّة. و الاحتمال يبطل الاستدلال، فالاستدلال به مصادرة.

قوله: «التقيّة في كلّ ضرورة .. إلخ» (5).


1- تقدّم ذكر مصدرهما في هامش (6) ص: 269.
2- تقدّم ذكر مصدرهما في هامش (7) ص: 269.
3- هذه العبارة ليست في المكاسب، و الظاهر وجود سقط بمقدار صفحتين أو أكثر أو أقلّ في النسخة الخطّية، و الظاهر أنّ جملة «و الشهيدين للعامّة» من الشرح، إذ من البعيد ابتداء الشرح ب «فإن قلت .. إذ لا محلّ للفاء».
4- الوسائل 12: 139 ب «46» من أبواب ما يكتسب به ح 6.
5- الوسائل 11: 468 و 469 ب «25» من أبواب الأمر و النهي و ما يناسبهما ح 1 و 8.

ص: 275

أقول: كما خصّص عموم التقيّة شرعا باستثناء الدم و بشرب الخمر و مسح الخفّين، كذلك يخصّص عقلا و كلّية باستثناء ما يستلزم نقض غرض الحكيم، كما في خصوص تبليغ النبيّ الأحكام فلا يتّقي فيها النبيّ، لأنه نقض غرض الحكيم من النبوّة و بعثه في تبليغ الأحكام، بخلاف التقيّة منه في الأفعال- كصلح الحديبيّة- فيجوز، كما يجوز للإمام في الأفعال و الأحكام، كتحكيم الحكم على عليّ، و صلح الحسن مع معاوية قهرا، بمعنى تقاعده عن أخذ حقّه- لا تراضيه بالباطل- من باب فَمَهِّلِ الْكٰافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (1)، كإنظار إبليس في غيّه.

و يستثنى من عموم التقيّة أيضا ما يستلزم النقض الشرعيّ و العرفيّ المنفّر للطبيعة على النبيّ و الإمام، بل على كلّ معصوم من الآثام، كتزويج المؤمن المشركة و بالعكس، و بيعة الطاغية و التولّي عنه في فعل لا مجرّد قول، فإنّ الإكراه يسوّغه للإمام كغير الإمام. و منه قبول الرضا عليه السّلام إكراها ولاية عهد الطاغية قولا لا فعلا.

و منه يعلم أنّ تزويج الأنبياء الكافرات و المشركات من باب التمليك في الواقع، و إن سمّي تزويجا في الظاهر من باب التقيّة و المداراة الظاهريّة و حسن المعاشرة الصوريّة، جمعا بين مصلحتي الواقع و الظاهر. و عدم صحّة أخبار تزويج بنات الأنبياء و الأوصياء الكفرة الفجرة. و عدم صحّة أخبار بيعتهم الطاغية و التولّي عنهم، بل و لا التسليم عليهم بإمرة المؤمنين و العبوديّة لهم، و لا الصلاة خلفهم، إلى غير ذلك من الأخبار الضعاف المنقصة لشأن الإمامة و العفّة و العصمة، و المنفّرة للطبيعة، فلا يسوّغها الإكراه و التقيّة في مثل الإمام و إن سوّغها في سائر الأنام، لقوله عليه السّلام لمّا أرادوا منه البيعة و النزول على حكم يزيد: «و اللّٰه لا أعطيكم


1- الطارق: 17.

ص: 276

بيدي إعطاء الذليل، و لا أقرّ لكم إقرار العبيد» (1) .. «الموت أولى من ركوب العار» (2).

ثمّ التقاعد عن أخذ الحقّ من الأعداء و التسويف في الانتقام إن كان من اللّٰه المختار سمّي إمهالا و إنظارا و إتماما للحجّة. و إن كان من غيره المضطرّ سمّي إكراها و مداراة و تقيّة و صلحا.

قوله: «لعموم دليل نفي الإكراه لجميع المحرّمات حتّى الإضرار بالغير .. إلخ».

[أقول:] فيه: أنّ عموم نفي الإضرار (3) و إن بلغ ما بلغ لا ينفي الإضرار بالغير، لأنّ ما يلزم من نفيه ثبوته أو بالعكس فهو باطل مستهجن الإرادة عرفا.

فتأمّل.

و لما فيه من الترجيح المرجوح أو الترجيح بلا مرجّح، خصوصا بعد ملاحظة النصوص (4) المؤكّدة لحقوق الأخوة و الاتّحاد و المساواة و المواساة، و وجوب أن يحبّ لنفسه من الخير ما يحبّ لغيره، و يكره له ما يكره لنفسه، و لا يسلّمه و لا يخذله و يعينه.

مضافا إلى إمكان دعوى الإجماع و السيرة العمليّة من الصحابة و التابعين على عدم إضرار الغير، خصوصا بالإضرار الكلّي مالا أو عرضا بمجرّد إكراه يسير.

مضافا إلى لزوم استباحة أموال المسلمين و أعراضهم بمجرّد إكراه يسير من مكره ضرير أو حقير أو فقير، كزوج أو زوجة أو والد أو ولد، فيباشر جميع


1- وقعة الطف لأبي مخنف: 209.
2- مثير الأحزان: 72.
3- الوسائل 17: 340 ب «12» من أبواب إحياء الموات.
4- الوسائل 8: 414 و 542 ب «14 و 122» من أبواب أحكام العشرة.

ص: 277

مقدّمات قتل من أكره على قتله، من إحضاره و إضجاعه و قيده و حبسه و ضربه إلى حدّ الدم و إزهاق الروح و فري الأوداج، فيوكله إلى غيره، و هو كالمحال من شاهد الحال.

ثمّ إنّه على تقدير رفع المؤاخذة عن المكره في الإضرار على الغير مطلقا، فهل المرفوع خصوص المؤاخذة و الإثم، كالساهي و الناسي و الجاهل و المغرور في الإضرار، أو مطلق الأحكام حتّى الضمان، كالمكره الملجإ في الإضرار إلى حدّ يعدّ في الضعف آلة للمكره بالكسر، و يكون السبب أقوى من المباشر عرفا؟

وجهان بل قولان، ظاهر الأكثر و الأشهر- كالمتن و غيره- أنّ ضمان إضرار المكره بالفتح على المكره بالكسر لا الفتح، كما هو صريح الشهيدين (1) و غيرهما. و لكن الأظهر خصوصا فيما عاد منافع الإضرار إلى المضرّ المكره المباشر لا المكره، لأنّه الأقوى من السبب، كما استقربه (2) الجواهر في باب الغصب (3) ..

قوله: «و صرف الضرر عن نفسه إلى غيره مناف للامتنان، بل يشبه الترجيح بلا مرجّح».

أقول: يمكن أن يستفاد من كون الامتنان برفع كلّ من الإكراه و الحرج و الضرر بالنفس و الإضرار بالغير نوعيّا أو شخصيّا، التفصيل في البين و الترجيح بين الضررين بالميسور و المعسور، لأنّ الضرر المكره عليه إمّا أن يكون معسورا تحمّله عادة على المكره بالفتح دون غيره، أو بالعكس، أو يكون معسورا على كلّ منها، أو ميسورا على كلّ منهما.

فما كان معسورا تحمّله على أحدهما و ميسورا على الآخر، كما لو أجرم


1- اللمعة الدمشقيّة و الروضة البهيّة 10: 28.
2- جواهر الكلام 37: 57.
3- في النسخة الخطّية هنا بياض بمقدار صفحة و نصف، و الظاهر أن الكلام لم يتمّ، لأن جملة «و لكن الأظهر ..» بقيت بعد بلا خبر، إلّا بتأويل بعيد جدّا.

ص: 278

الجائر المعسر بمال غير مقدور عليه مقدور على الآخر، جاز للمكره بالفتح رفع الضرر المعسور عن نفسه بإضرار الغير المقدور له، و لو بسرقة ذلك المال و بذله للجائر، و إن ضمن السارق غرامته عند الميسرة و القدرة، كجواز الغصب و السرقة عند المجاعة و المخمصة بقدر حفظ الرمق متضّمنا قيمته و غرامته.

و ما كان معسورا على كلّ منهما أو ميسورا على كلّ منهما لا يجوز رفعه عن نفسه بإضرار الغير مطلقا، سواء كان الضرر متوجّها بالأصالة إلى نفس المكره أو غيره، لعدم الترجيح بلا مرجّح، و أمّا الترجيح بأقلّ الضررين فإنّما هو فيما توجّه الضرران إلى شخص واحد لا إلى شخصين.

قوله: «إذ لا تعادل نفس المؤمن شي ء. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ قوله عليه السّلام: «لا تعادل نفس المؤمن شي ء» إنّما هو مورد وجوب ترجيح الراجح من قاعدة ارتكاب أحد القبيحين اللازم على المكلّف، كما في أكل مال الغير لرفع المخمصة و حفظ النفس المحترمة، لا فيما دار الأمر بين ارتكاب أقلّ القبيحين من شخص لرفع الأقبح من شخص آخر، فإنّه خارج عن مورد ارتكاب أقلّ القبيحين، و لو كان الأقلّ من أصغر حقوق اللّٰه و الأكثر من أعظم حقوق الناس و النفوس المحترمة.

أو إشارة إلى أنّ قوله: «حرمة مال المؤمن حرمة دمه» (1) إنّما يقتضي المساواة في الحرمة لا عموم التسوية حتّى في السقوط بالتقيّة، حتّى إنّ وجوب حفظ الأعراض و أموال الأيتام لا يزيد على وجوب حفظ الصوم و الصلاة الساقط بالإكراه و التقيّة، و لا يبلغ حدّ الدماء غير الجاري فيه حكم الإكراه و التقيّة.

قوله: «و أما الإضرار بالعرض بالزنا و نحوه ففيه تأمّل، و لا يبعد ترجيح


1- الوسائل 8: 598 ب «151» من أبواب أحكام العشرة ح 9.

ص: 279

النفس عليه».

[أقول:] و ذلك لأنّ الإضرار بالزنا في نفسه كالإضرار بإبطال الصوم و الصلاة حقّ اللّٰهي لا يضرّ بالنفس، بخلاف الإضرار بالنفس بضرب أو جناية، فإنّه ضرر عرفيّ مقدّم على مثل الزنا و نحوه، إلّا إذا فرض الزنا بالنسبة إلى بعض ذوي الشئون الآبية من النقص عارا و فضيحة، فإنّ ضرره مقدّم على الضرر بالنفس قطعا، بل حتّى على الموت، كما قال عليه السّلام: «الموت أولى من ركوب العار» (1). و هو الظاهر من الضرر العرضيّ أيضا، لا مجرّد الزنا.

قوله: «و احذر مكر خوزيّ الأهواز .. إلخ» (2).

[أقول:] الخوز بالمعجمتين و ضمّ أوله صقع معروف في العجم من أرض فارس، على ما في المجمع (3). و اسم لبلاد خوزستان. و خوزان بضم أوّله قرية في أصبهان، و في هرات، على ما القاموس (4). و يروى بالراء المهملة قرية في بلخ و قرية في أسترآباد، و قرية متّصلة بلار من أسنّة الألوار.

قوله: «و ليكن جوائزك و عطاياك و خلعك للقوّاد و الرسل و الأحفاد و أصحاب الرسائل و أصحاب الشرط و الأخماس .. إلخ».

[أقول:] القوّاد و القادة جمع القائد، و هو من يقود الجيش أو الخيل أو الدابّة أو الأعمى. فالقائد الآخذ بقياد الدابّة من أمامها، عكس السائق، و هو من يسوقها من ورائها.

و الأحفاد كالحفدة جمع حافد: الأعوان و الخدّام. و قيل: ولد الولد.

و أصحاب الشرط و الأخماس. الشرط جميع شرطة، كغرف و غرفة:


1- تقدّم ذكر مصدره في هامش (2) ص: 276.
2- الوسائل 12: 150 ب «49» من أبواب ما يكتسب به ح 1.
3- مجمع البحرين 4: 19.
4- القاموس المحيط 2: 175.

ص: 280

أعوان السلطان و ولاته، و أول كتيبة تشهد الحرب و تتهيّأ للموت، مأخوذ من الشرط بفتحتين واحد الأشراط، و هي العلامات، لأنّهم جعلوا لأنفسهم علامات يعرفون بها للأعداء. و الأخماس جمع الخميس: الجيش.

قوله عليه السّلام: «و ما وكدي».

[أقول:] أي: و ما حرصي و تأكيدي من الدنيا إلّا فراقها.

[المسألة الثامنة و العشرون الهجر بالضم و هو الفحش من القول حرام]

قوله: «حرّم اللّٰه الجنّة على كلّ فحّاش بذي ء» (1).

[أقول:] البذي ء على فعيل: السفيه و الناطق بالفحش، و البذاء الفحش.

و استشكل المجمع في الخبر (2).

[النوع الخامس مما يحرم التكسب به ما يجب على الإنسان فعله]

قوله: «لانتقاضه طردا و عكسا بالمندوب و و الواجب التوصّلي».

[أقول:] أي: لأعميّة الدليل- و هو منافاة الأجرة للإخلاص المعتبر في الواجب- من المدّعى و هو تخصيص المنع بالواجب، من جهة شمول المنافاة المندوب الخارج من المدّعى أيضا، و أخصّيته منه من جهة عدم شموله الواجب التوصّلي، فلم يكن الدليل جامعا لأفراد المدّعى و لا مانعا لأغياره، و هو الطرد و العكس المعتبر في الحدود في اصطلاح المنطق.

قوله: «فالأجرة في مقابل النيابة في العمل المتقرّب به إلى اللّٰه .. إلخ».

أقول: جعل الأجرة في مقابل النيابة- و هو تنزيل النائب نفسه منزلة المنوب عنه في العمل- إنما يفرض في بعض الأجراء في القضاء، و أمّا أغلب الأجراء، سيّما على مثل التلاوة و القراءة و التعزية و غسل الأموات و الصلاة عليها و الأذان الإعلامي و القضاء بين الناس و إقامة الجمعة و الجماعة لهم و تعليمهم معالم الدين و شعائر الإسلام، خصوصا على تقدير وجوبها العيني بالانحصار، فلم


1- الوسائل 11: 329 ب «72» من أبواب جهاد النفس ح 2.
2- مجمع البحرين 1: 48.

ص: 281

يلاحظوا فيما استؤجروا عليه من هذه الواجبات قصد النيابة و التنزيل المذكور، و لم يجعلوا الأجرة في مقابل النيابة بهذا المعنى أصلا و رأسا، بل إمّا يعملون الواجبات المذكورة بقصد القربة لا غير مع الإغماض عن قصد النيابة و ما بإزاء الأجرة، كما في قارئ التعزية و غاسل الأموات و مقيم الجمعة و الجماعة، و إمّا يعملونها بقصد القربة على وجه الهديّة أو الصدقة بثوابها عن المنوب عنه، كالتلاوة و القراءة و صلاة الوحشة عن الميّت، أو لأجل إبراء ما في ذمّة المنوب عنه من القضاء، أو إسقاط ما في ذمّة الأجير أو المؤجر من الأداء، و إمّا لأجل استحقاق الأجرة و في إزاء الأجرة.

أمّا صحّة ما عدا الوجه الأخير فواضح. و أمّا الوجه الأخير فلا بدّ في تصحيحها إمّا من ضمّ الأجرة على وجه التبعيّة للإخلاص، لا العكس، و لا فرض كلّ منهما علّة تامّة و غاية مستقلّة للعمل، و إمّا من جعل الأجرة في مقابل إحداث داعي التقرّب و الإخلاص، و هو غير نفس التقرّب و الإخلاص المصحّح للعمل، بل هو من مقدّماته التوصّليّة القابلة لمقابلة الأجرة و عدم توقّفه على القربة، و فائدته عائدة أيضا إلى نفس المؤجر و المنوب عنه، فلا مانع من الأجرة.

فعلم ممّا ذكرنا أنّ تصحيح عبادة الأجراء لا ينحصر فيما ذكره المصنّف، من جعل الأجير نفسه نازلا منزلة المنوب عنه في العمل المتقرّب به إلى اللّٰه، بل قد يحصل بالإغماض عن الأجرة رأسا، أو اعتبارها مستقلّا، أو جعلها في مقابل إحداث داعي القربة لا نفس القربة المانعة الجمع مع الأجرة. و أنّ التصحيح بهذا الوجه لا يختصّ بعبادة الأجراء، بل يعمّ تصحيح الأجرة على جميع الواجبات التي هي محلّ الكلام، و هي ما يتصوّر فيه نفع راجع إلى المؤجر و المنوب عنه، و لو كان واجبا عينيّا تعيينا. و أمّا ما لا يرجع نفعه إلّا إلى عامله- كالصلاة و الصوم عن نفسه- فهو خارج عن محلّ الكلام، لا يجوز أخذ الأجرة عليه، لعدم وصول

ص: 282

عوض الأجرة إلى باذلها، فهو أكل للمال بالباطل، لعدم حرمة عمله، و عدم توقّف استيفائه على طيب نفسه، بل بقهر عليه مع الامتناع و عدم طيب النفس.

قوله: «فرق بين الغرض الدنيوي .. إلخ».

[أقول:] الفارق أنّ المقصود المترتّب على فعل العبادة للّٰه- من أداء الدين، و سعة الرزق، و شفاء المريض، و سائر الحوائج الدنيويّة- من قبيل الفائدة و خواصّه القهريّة اللازمة له و لو لم تقصد، فليست بمانعة الجمع مع قصد التقرّب، بخلاف المترتّب على فعل المستأجر عليه و هو استحقاق الأجرة، فإنّه من قبيل الغاية الموقوفة على قصدها من فعل المستأجر عليه على وجه العلّية، فلا تجتمع مع قصد التقرّب بهذا الوجه.

قوله: «و ليس استحقاق الشارع للفعل و تملّكه المنتزع من طلبه من قبيل استحقاق الآدمي».

أقول: الفرق أنّ استحقاق الشارع الفعل بالذات، و استحقاق الآدمي بواسطة العوض المقابل له. و أنّ فائدة فعل العابد لا يعود إلى المعبود، بل إلى نفس العابد، بخلاف فائدة فعل الأجير، فإنّه يعود إلى المؤجر و المستأجر عنه، لا إلى نفس الأجير. و أنّ المطلوب الدنيوي و الأخروي في العبادة من المعبود الواحد، و في الإجارة، الأجرة من المؤجر و التقرّب من المعبود، فلا يجتمعان في محلّ واحد.

قوله: «لأنّ محلّ الكلام أخذ الأجرة على ما هو واجب على الأجير، لا على النيابة فيما هو واجب على المستأجر. فافهم».

[أقول:] إشارة إلى أنّه لا يقال: لا فرق بين الواجبين في منافاة أخذ الأجرة للإخلاص المعتبر في تحقّق الواجب في البين، سواء كان واجبا على الأجير أو المستأجر. لأنّا نقول: الفرق كون الأجرة في الواجب على المستأجر في مقابل النيابة، فيجتمع مع الإخلاص المعتبر في الواجب، و في الواجب على الأجير لا

ص: 283

مقابل الأجرة حتّى يجتمع مع الإخلاص المعتبر في الواجب. و لكن قد عرفت ما فيه نقضا و حلّا.

قوله: «فتسويغ أخذ الأجرة عليها لطف في التكليف بإقامة النظام».

أقول: الفرق بين جواز أخذ الأجرة على الصنائع الواجبة بهذا الوجه و بينه بالوجه الأوّل: أنّ جوازه بالوجه الأوّل بالدليل المخرج الشرعي من الإجماع و السيرة، و بهذا الوجه بالدليل العقلي، و هو اللطف في التكليف بإقامة النظام، و أنّه لولاه لاختلّ النظام و وقع أكثر الناس في المعصية، المنافي لقاعدة اللطف الواجب على الحكيم، من تقريب العبد إلى الطاعة و تبعيده عن المعصية في مصطلح المتكلّمين.

كما أنّ الفرق في جواز أخذ الأجرة عليها بالوجه السادس و السابع: أنّ وجوب الصنائع بالوجه السادس مشروط بالأجرة و متأخّر عنها، و قبلها لا وجوب لها حتّى يمنع من الأجرة، و بالوجه السابع وجوب مقدّميّ غيريّ لأجل التوصّل إلى وجوبها الكلّيّ الأصليّ، و هو إبقاء النظام و حفظ الأنام. و هذا الوجوب المقدّميّ، و هو مداواة الطبيب المريض و معالجته، و إن كان واجبا على الطبيب عينا أو كفاية، إلّا أنّ وجوبه لمّا لم يكن وجوبا بالذات و بالأصالة، بل كان مقدّمة للتوصّل إلى إبقاء النظام و حفظ الأنام، الحاصل ببذل الطبيب نفسه للعمل الأعمّ من التبرّع المجّاني و من أخذ الأجرة، جاز له أخذ الأجرة عليه.

فافترق الوجهان من حيث الصغرى و الكبرى. أمّا من حيث الصغرى فلأنّ وجوب الصنائع على الوجه السادس وجوب مشروط بالأجرة، و على السابع وجوب مقدّميّ. و أمّا من حيث الكبرى فلأنّ مقتضى الوجه السادس التفصيل في أخذ الأجرة بين الواجب المشروط وجوبه بالأجرة و غيره، و مقتضى الوجه السابع التفصيل بين الواجب الأصليّ الذاتي و المقدّميّ الغيريّ.

ص: 284

قوله: «من جهة عموم آية فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ (1) فافهم».

[أقول:] إشارة إلى أنّه لا يقال: بمنع العموم و انصراف الأجور إلى أجرة العمل و هو نفس الإرضاع، لا عوض المبذول من اللبان و اللبن، حتّى يكون من قبيل بذل المال للمضطرّ في كون المرجوع عوض المبذول لا أجرة البذل. لأنّا نقول: لو سلّمنا ظهور الآية و انصرافها إلى جواز أخذ أجرة عمل الرضاع و كونه عملا محترما و لو وجب على الأم عينا، لكن يمكن فرضه من قبيل رجوع الوصيّ بأجرة المثل خارجا بالنصّ، إلّا أنّه بعيد عن ظاهر الآية و السيرة العمليّة، فإنّ ضمان الأفعال و احترام الأعمال- كإنقاذ الغريق و إطفاء الحريق و علاج المريض و لو وجبت عينا- لا يقصر عقلا و لا عرفا بل و لا شرعا عن ضمان الأموال المبذولة في مقابلها قطعا.

قوله: «لأنّ المفروض بعد الإجارة عدم تحقّق الإخلاص .. إلخ».

أقول: منافاة الجمع بين العمل للإخلاص و لاستحقاق الأجرة إنّما هو على تقدير قصد كلّ من الغايتين مستقلّا على وجه العلّية الغائيّة، أو قصد الأجرة مستقلّا و الإخلاص تبعا. و أمّا صورة العكس، و هو قصد الفعل للإخلاص و ضميمة الأجرة على وجه التبعيّة، فلا مانع من اجتماعه و صحّته و تحقّقه، كما لا مانع أيضا من صحّة الأجرة و استحقاقها لو أغمض عنها في مقام العمل للإخلاص بالمرّة، أو جعل الأجرة في مقابل إحداث داعي القربة في العمل لا في مقابل نفس العمل، أو في مقابل إهداء ثوابه إلى المستأجر بعد العمل، كما تقدّم في الواجب.

قوله: «و الإجارة يتعلّق به» أي: بالفعل.


1- الطلاق: 6.

ص: 285

[أقول:] «بالاعتبار الأوّل». أي: باعتبار كونه فعلا للمنوب بعد نيابة النائب عنه.

قوله: «لكن ليس كذلك».

[أقول:] إذ من المعلوم و المفهوم من عموم تَعٰاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوىٰ (1)، و استحباب اتّخاذ الديك للإعلام و الاستعلام بأذانه، تأتّي استحباب الإعلام و لو بالأذان غير المقرّب.

قوله: «و أمّا الرواية فضعيفة».

[أقول:] يعني دلالة، فإنّ المنع من اتّخاذ الأجر أعمّ من فساد الإجارة.

و أمّا سندا فالأولى مشهورة منقولة في فقيه الصدوق (2). و الثانية (3) حسنة بل معتبرة.

قوله: «لو احتاج إلى بذل مال فالظاهر عدم وجوبه».

أقول: بل الأظهر وجوبه، و عدم الفرق في وجوب ما لا يتمّ الواجب إلّا به بين بذل المال و قطع المسافة.

[خاتمة تشتمل على مسائل]

[الأولى بيع المصحف]

قوله: «و إيّاك أن تشتري منه الورق و فيه القرآن مكتوب» (4).

[أقول:] أي: و إيّاك أن تشتري الورق مع كتابة القرآن على وجه الوصفيّة أو الجزئيّة.

قوله: «أو يقال: إنّ الخطّ لا يدخل في الملك شرعا و إن دخل فيه عرفا.

فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ عدم تملّك الخطّ بالثمن يستلزم عدم تملّكه بالأجرة


1- المائدة: 2.
2- من لا يحضره الفقيه 3: 109 ح 461.
3- الوسائل 11: 518 ب «41» من أبواب الأمر و النهي ح 6.
4- الوسائل 12: 116 ب «31» من أبواب ما يكتسب به ح 11.

ص: 286

أيضا، فيلزم حمل ما روي من جواز تملّكه بالأجرة (1) على جواز تملّكه بالهديّة، أو جعل الأجرة في مقابل مقدّمات الكتابة لا نفس الكتابة.

و لكن يمكن منع الملازمة نقضا، بصحّة الاستئجار و الأجرة على بناء حائط المسجد دون بيع الحائط المبنيّ بعد البناء. فتأمّل.

[الثانية جوائز السلطان و عماله]

قوله: «و كذا إذا كانت محصورة بين ما لا يبتلي المكلّف».

[أقول:] و هذا التفصيل مبنيّ على ما تفرّد به المصنّف في فرائده (2). و لا يخلو من نظر بل منع قرّرناه في محلّه.

قوله: «فلا وجه لوجود الكراهة الناشئة عن حسن الاحتياط مع اليد، و ارتفاعها مع الإخبار. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّه و إن أمكن التفكيك في الاعتبار بين اليد و الإخبار، إلّا أنّ خبر الفاسق باليد أضعف اعتبارا من يد الفاسق بالقول، فإذا سقطت يد الظالم عن الاعتبار مع قوّة اعتبارها بأصالة الصحّة بواسطة اتّهامها أو غلبة فسادها، سقط خبره عن الاعتبار أيضا بتلك الواسطة بطريق أولى.

أو إشارة إلى أنّ مالا يدخل في الملك شرعا لا يدخل فيه عرفا. نعم، يدخل فيه تبعا، كالأراضي المفتوحة عنوة، و حقّ الاختصاص من الموقوفات العامّة كالمساجد و المدارس، حيث لا تملك إلّا تبعا للآثار.

قوله: «المال المحتمل الحرمة غير قابل للتطهير».

[أقول:] فيه: أنّه ممنوع أوّلا: بعموم نصوص (3) مطهّريّة التخميس للمال الحرام المحتمل بقاؤه بعد التخميس، و عدم اختصاص تطهيره بالحلال المخلوط.

و ثانيا: بعموم أدلّة الولاية الكلّية الإلهيّة و السلطنة العامّة الأوّليّة الأولويّة،


1- الوسائل 12: 115 ب «31» من أبواب ما يكتسب به ح 4.
2- فرائد الأصول: 250.
3- الوسائل 6: 352 ب (10) من أبواب ما يجب فيه الخمس.

ص: 287

التي هي أولى بالمؤمنين من أنفسهم (1)، و أولى من البحر في عموم المطهّرية و القابليّة لتطهير كلّ ما ينفعل بالانفعال منه بعد عوده إليه و الاتّصال به.

فإن قلت: لو كان الحرام الواقعي قابلا للتطهير فلم ردّ الحجّة الأموال المخلوطة بالحرام المهديّة إليه من قم؟ بقوله عليه السّلام: «كيف تمسّ اليد الطاهرة الأموال النجسة؟!» (2).

قلت: عدم قبولها ليس لعدم قابليّتها التطهير، بل لحكمة تنزيه يده التي هي يد اللّٰه تعالى عن شوائب النقص و الحاجة، و التحفّظ على ظواهر الأحكام و الحلال و الحرام، و معرفة الإمام عليه السّلام و رفع الاتّهام.

قوله: «و على أيّ تقدير فهو على طرف النقيض ممّا تقدّم عن المسالك».

[أقول:] أمّا على تقدير كون القاعدة في الشبهة المحصورة عدم وجوب الاحتياط، فلتصريح المسالك (3) بأنّ حكم المال المختلط بالحرام وجوب اجتناب الجميع. و أمّا على خروج مورد الشبهة المحصورة من جوائز الظلمة عن عنوان الأصحاب، و اختصاص عنوانهم بالشبهة غير المحصورة، فلتفسيره عنوان الأصحاب بمطلق الشبهة بقوله «التقييد بالعين إشارة إلى جواز أخذها و إن علم أن في ماله مظالم .. إلخ» (4).

قوله: «فالرواية إمّا من أدلّة حلّ مال السلطان المحمول بحكم الغلبة إلى الخراج و المقاسمة، و إمّا من أدلّة حلّ المال المأخوذ من المسلم .. إلخ».

أقول: أمّا احتمال مال الخراج في مال الضيافة و الدراهم و الكسوة المرفوعة إلى السائل فبعيد عن مورد الرواية (5). و أمّا احتمال حلّية المأخوذ من


1- الأحزاب: 6.
2- كمال الدين 2: 458، دلائل الإمامة: 510.
3- مسالك الأفهام 3: 141.
4- مسالك الأفهام 3: 141.
5- الوسائل 12: 156 ب «51» من أبواب ما يكتسب به ح 1.

ص: 288

يد العامل من باب حمل فعل المسلم على الصحّة، و أنّه ممّا اقترضه أو اشتراه في الذمّة، فهو و إن كان أقرب من الاحتمال الأوّل بالنسبة إلى مورد الرواية، إلّا أنّه ينافيه التعليل بقوله: «لك المهنّأ و عليه الوزر»، إذ لا وزر في إنفاق الحلال.

نعم، في الرواية احتمال ثالث، و هو كون المال المدفوع إلى السائل مجهول المالك حراما على دافعه حلالا على مستحقّه، من باب أنّه مال الإمام فأباحة على السائل، أو من باب أنّ مصرفه الصدقة و السائل مستحقّ له. و هو أقرب ما يحتمل في مورد الرواية، و تعليلها بأنّ «لك المهنّأ و عليه الوزر». و لكن احتماله أيضا مسقط للاستدلال به على إباحة مطلق جوائز الظالم، و لو اشتبهت بالحرام من باب الشبهة المحصورة بالنسبة إلى مطلق الناس، و لو لم يستحقّ الصدقة المجهولة المالك و لم يأذن له الإمام، كما هو محلّ الكلام.

قوله: «ثمّ لو فرض نصّ مطلق في حلّ هذه الشبهة، مع قطع النظر عن التصرّف و عدم الابتلاء بكلا المشتبهين، لم ينهض للحكومة على قاعدة الاحتياط في الشبهة المحصورة، كما لا ينهض ما تقدّم».

أقول: أمّا عدم نهوض ما تقدّم من قوله عليه السّلام: «كلّ شي ء حلال» (1) فلأنّه معارض صرف على وجه المناقضة و طرف النقيض من قاعدة الاحتياط في الشبهة المحصورة، فلا يقدّم عليها.

و أمّا عدم نهوض النصّ المطلق في حلّ خصوص جوائز الظالم فممنوع، لأنّه فرد خاصّ يمكن خروجه عن عموم قاعدة الاحتياط في كلّي الشبهة المحصورة بالنصّ المخرج، كما نصّ به المسالك فيما تقدّم (2).

نعم، لو فرض النصّ المطلق مطلقا بالنسبة إلى أفراد الشبهة المحصورة


1- الوسائل 12: 60 ب (4) من أبواب ما يكتسب به ح 4.
2- في ص: 287.

ص: 289

لا خصوص أفراد الجوائز، لم ينهض للحكومة على قاعدة الاحتياط في الشبهة المحصورة، كما لا ينهض ما تقدّم لما تقدّم.

قوله: «هذه الخدشة غير مسموعة عند الأصحاب، فإنّهم لا يعتبرون في الحمل على الصحيح احتمال تورّع المتصرّف عن التصرّف الحرام .. إلخ».

أقول: في إطلاقه منع، فإنّ ما لا يعتبر في مجراه غلبة الصحّة هو الصحّة عند الفاعل، كما هو مورد عموم نصوص: «احمل فعل أخيك على أحسنه .. إلخ» (1).

و أمّا الصحّة عند الحامل فممّن أنكرها القمّي (2) في الصحيح و الأعمّ، و من اعتبرها فإنّما يعتبرها من باب غلبة الصحّة في أفعال المسلم. فإذا اتّفقت الغلبة أو عورضت بغلبة الفساد و عدم المبالاة في أفعاله لم يحمل على الصحّة الحامليّة، و إن حملت على الصحّة عند الفاعل تعبّدا.

قوله: «فلا يحمل على الصحيح الواقعيّ. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ فساد تصرّف الظالم المجيز في كلّ من أطراف الشبهة المحصورة التي تحت يده في ظاهر الشرع، إذا منع من حمله على الصحيح الواقعي و مصادفة الواقع قهرا، كذلك يمنع المجاز من الحمل عليه.

قوله: «و لا يخفى عدم تماميّتها».

[أقول:] و ذلك لأنّ عدم القدرة على ردّ العين المغصوبة لا يسقط ضمان المثل أو القيمة، و عدم المعرفة بصاحبها لا يسقط ضمان التخميس أو التصدّق عن صاحبها.

قوله: «بقرينة الاستهلاك. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أن كلّا من الظلمة و أموالهم المحرّمة محصورة لا غير


1- الوسائل 8: 614 ب «161» من أبواب أحكام العشرة ح 3.
2- قوانين الأصول 1: 51.

ص: 290

محصورة.

قوله: «نعم يسقط بإعلام صاحبه به».

أقول: و إن كانت النسخ الموجودة عندي هكذا إلّا أنّ الظاهر كونها غلطا، و الصحيح: يسقط بإسقاط صاحبه. كما أنّ قوله: «أو مع الوضع (1) تنزيلا له منزلة اللقطة» أيضا كذلك غلط ينبغي تصحيحه بتبديل «أو مع الوصف» فإنّ الأقوال في قبول دعوى اللقطة هي قبول قوله مطلقا، أو مع الوصف مطلقا، كما في إطلاق بعض النصوص (2)، أو مع الأوصاف الخفيّة الموجبة لظنّ صدقه، كما عن بعض، أولا يصدّق إلّا مع البيّنة العادلة، كما عن بعض.

قوله: «و يشكل بظهور النصّ في تعيين التصدّق .. إلخ».

أقول: و يرفع الإشكال بأظهريّة حكومة أدلّة أولويّة ولاية الإمام عليه السّلام على أنفسهم و أموالهم (3) في تعيين الرجوع إلى الحاكم، و عدم التخيير بينه و بين الصدقة، و عدم الولاية لكلّ منهما، فضلا عن تعيين التصدّق، ضرورة أنّ عموم ولاية الإمام عليه السّلام في عرض ولاية اللّٰه لا يوازيه و لا يشاركه ولاية أحد من الأولياء، حتّى الملائكة و روح القدس، و حتّى الرسل المصطفين من الملائك الأربع، محكومين بحكمه و مؤتمرين بأمره، عِبٰادٌ مُكْرَمُونَ لٰا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (4). فإذا كانت ولاية سائر الأولياء بأسرها في طول ولايته لا في عرضها، فكيف يقدّم عليها ولاية القابض مجهول المالك مع الشكّ في أصل ولايته الطوليّة أيضا المنفيّة بالأصل، فضلا عن العرضيّة المنفيّة بضرورة الدين؟!


1- في المكاسب: الوصف.
2- الوسائل 17: 356 ب (6) من أبواب اللقطة ح 1.
3- الوسائل 6: 334 ب «51» من أبواب الصدقة ح 1.
4- الأنبياء: 26- 27.

ص: 291

و حينئذ فيتعيّن حمل نصوص الأمر له بالتصدّق (1) على الإذن لخصوص المأذون له، دون الإذن العامّ لغيره بالتصرّف، أو بيان المصرف لا إثبات ولاية المتصرّف، كما يشهد عليه صريح خبر داود المتقدّمة عن الصادق عليه السّلام: «و اللّٰه ما له صاحب غيري، فاذهب و قسّمه بين إخوانك» (2)، و يشهد عليه صريح سائر النصوص (3) المتواترة في تعميم مال الإمام لجميع ما في الأرض و ما فيها و ما عليها و ما سقت و ما أسقت، و عدم انحصاره في الأنفال و الخمس، و أسرار حكمة مطهّريّة الخمس للمال المختلط بالحرام و للجوائز المشبهة بالحرام.

و يتفرّع على ذلك الخلاف في كون القابض المجهول المالك هل له ولاية التصدّق به، أو يتعيّن الرجوع فيه إلى الحاكم؟ و في أنّ مصرفه مصرف الخمس أو الزكاة؟ و في ضمان المتصدّق و عدمه لو ظهر المالك و لم يجز التصدّق؟

قوله: «مع أنّ كونها من المالك غير معلوم، فلعلّها ممّن تجب عليه».

أقول: بل الأصحّ كونها من المالك الحقيقي و هو الإمام كما عرفت، إلّا أنّه خلاف استصحاب بقائه على ملك مالكه المجازي، و ضمان المتصدّق باللقطة و وديعة اللصّ.

قوله: «إلّا أن يقال: إنّه ضامن بمجرّد التصدّق، و يرتفع بإجازته. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ لازمة الذي تضمين المتصدّق فيما لم يظهر المجيز، أو تضمين الفقير مع بقاء العين، بل و تضمين نمائه المتجدّد قبل الإجارة مطلقا و لو


1- الوسائل 12: 144 ب «47» من أبواب ما يكتسب به ح 1، و ص 484 ب «16» من أبواب الصرف ح 1 و 2، و ج 13: 303 ب (6) من أبواب أحكام الوقوف و الصدقات ح 1، و ج 17: 585 ب (6) من أبواب ميراث الخنثى ح 11، و ص 357 ب (7) من أبواب اللقطة ح 2.
2- الوسائل 17: 357 ب (7) من أبواب اللقطة ح 1.
3- الكافي 1: 407 باب «انّ الأرض كلّها للإمام عليه السلام».

ص: 292

أجاز، ممّا لم يلتزم به أحد، و لم يف به دليل ضمان اللقطة الذي هو الأصل لما نحن فيه، سيّما على ما عرفت من كون مجهول المالك من في ء الإمام عليه السّلام الخاصّ به، لا ملك صاحبه.

قوله: «لكن يستفاد منه أنّ الصدقة بهذا الوجه حكم اليأس عن المالك».

[أقول:] أي: لا يحكم اللقطة في لزوم التعريف إلى سنة.

قوله: «و باعتبار نفس المال إلى المحرّم و المكروه و الواجب».

أقول: بل و المباح و الحلال المعيّن بحيازة أو تجارة أو وراثة لا مانع منه.

قوله: «بل يجوز ذلك لآحاد الناس، خصوصا نفس المستحقّين .. إلخ».

أقول: أمّا وجوبه على الحاكم فمن باب عموم الولاية الشرعيّة. و أمّا جوازه على المستحقّين فمن باب التقاصّ و استنقاذ حقوقهم. أو أمّا على غيرهم فمن باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. فتأمّل. فإنّ المقاصّة لغير الحاكم إنّما يجوز في الحقوق الشخصيّة لا النوعيّة، بل في التوصّليّة المحضة من حقوق الناس، لا العبادات، على أنّ فتح باب المقاصّة للعوام بدون إذن الحاكم- كما تداوله السواد في بعض البلاد- مثار للفساد و العناد، و رفع الوداد بين العباد، و نقض غرض الشارع في الأحكام، و هتك الإسلام بإيثار الفتنة و الاتّهام.

قوله: «فالتمسّك بالسيرة المذكورة أوهن من دعوى الانصراف السابقة».

أقول: بل لا تقصر هذه السيرة عن سيرة الجبابرة و الملوك خلفا عن سلف على سفك الدماء، و قتل الأنبياء، و استيصال الأوصياء، و استحلال الظلم و الجور و أموال المسلمين، و وضع الجزية على رقاب المسلمين و أموالهم، باسم الخراج و الجمرك و التذكرة و حقّ المرور و حقّ السلطان، و ترك الجهاد و الجمعة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و مداهنة الظلمة و الكفّار، و موالاتهم و مسايرتهم و مشابهتهم في المأكل و المشرب و الألبسة و الصورة و السيرة، إلى غير ذلك من

ص: 293

المحرّمات الضروريّة المخالفة لمحكمات الكتاب و السنّة و الإجماع و العقل.

كما لا تقصر دعوى انصراف الدّين عن تركة الظالم عن دعوى انصراف قبح الظلم و حرمته- فيما يقرب من خمسمائة آية محكمة و رواية متواترة- إلى خصوص ظلم العترة الطاهرة من المخالفين في الدين، دون ظلم غيرهم، مع أنّ قبح الظلم و حرمته من مستقلّات العقل الآبية عن التخصيص، و شأن نزول الآيات إنّما كان قبل حدوث الظلم على العترة، فكيف تنصرف إليه مع أنّ أكثرها عمومات؟! و ما هو إلّا شبهة في مقابل ضرورة الدين، و زخرف من زخارف وحي الشياطين.

[الثالثة ما يأخذه السلطان المستحل لأخذ الخراج و المقاسمة من الأراضي باسمها]

قوله: «و يمكن أن يكون مستنده أنّ ذلك حقّ للأئمّة .. إلخ».

أقول: بل المتيقّن المعيّن بالسبر و التقسيم كون المستند ذلك لا غير، لأنّه لو لم يكن حقّا لهم لكان حقّا لمالكه أو لمستحقّه، و على كلّ من التقديرين لا يستحلّ لثالث، خصوصا بعد فرض حرمته على الجائر المستحلّ أخذه بالتراضي، فضلا عن غيره.

قوله: «و الأولى أن يقال: إذا انضمّ إليه إذن متولّي الملك».

أقول: هذه الأولويّة ممنوعة، بل ممتنعة عقلا و نقلا، كتابا (1) و سنّة (2). أمّا عقلا فلأنّ ولاية الإمام و سلطنته ليست كسلطنة الناس على أموالهم حتّى يوجب نقلها إلى الغير نقصا في الناقل، بل هي رئاسة إلهيّة كلّية عامّة تامّة كسائر شئون المبدأ الفيّاض، من الوجود و العلم و القدرة و الحياة التي أفيضت إلى الممكنات، من غير أن ينقص المبدأ الفيّاض بالإفاضة، بل يمتنع النقص في شأنه بالإفاضة و العليّة و إن لم تنته الإفاضات و المعلولات تعالى شأنه، و ليست كسلطنة الناس


1- الأحزاب: 6.
2- بصائر الدرجات: 200 ح 2، البحار 39: 343 ح 15.

ص: 294

في قابليّة النقل و الانتقال مع العزل و الانعزال و النقص و الانفعال، كما لا يخفى على العارف بأصول المعارف.

قوله: «إذ ليس بحلال ما أخذه الجائر. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ حرمة المأخوذ على الجائر و عدم حلّيته عليه لا يستلزم حرمته و عدم حلّيته على الآخذ منه بشراء و غيره، بعد ترخيص من هو المالك الحقيقيّ له و أولى بالمؤمنين من أنفسهم و أموالهم.

قوله: «الخبر» (1).

[أقول:] بضمّ الخاء المعجمة و سكون الباء الموحّدة- كالخبرة-: النصف.

و المخابرة المزارعة على نصيب معيّن من الثلث و الربع. و أصله من خيبر، خابرهم- أي: عاملهم- في خيبر، أو من خبار الأرض.

قوله: «في الحديث ثمّ أؤاجرها من أكرتي .. كذلك أعامل أكرتي» (2).

[أقول:] الأكرة بالضمّ الحفرة، و أكرت النهر: شققته. و بالتحريك جمع أكرة بالفتح، بمعنى الزارع و الزرّاع لصاحب الأرض بنصف الحاصل، على ما في القاموس (3)، و هو المراد به في الحديث.

قوله: «و لعلّه من الأملاك المغصوبة من الإمام».

أقول: و ممّا يعيّن ذلك- مضافا إلى أنّ مجرّد الاحتمال مبطل للاستدلال- أن اشتراء الغير لا يسوّغ حلّية شراء السائل بقوله عليه السّلام: «قل له: يشتره، فإن لم يشتره اشتراه غيره» (4)، إلّا إذا فرض أنّ التعليل به ليس تعليلا كلّية لحلّية الشراء، بل علّة لتحليل الإمام عليه السّلام على بعض مواليه، لمّا رأى غيره يشتريه رضي منه بأقلّ


1- الوسائل 13: 214 ب «18» من أبواب أحكام المزارعة ح 3.
2- الوسائل 13: 208 ب «15» من أبواب أحكام المزارعة ح 3.
3- القاموس المحيط 4: 382.
4- الوسائل 12: 162 ب «53» من أبواب ما يكتسب به ح 1.

ص: 295

الضررين إذا استلزم تركه أعظم ما في البين، فإنّ المغصوب منه إذا رأى دوران الأمر بين صرف الغاصب المغصوب على عدوّه أو وليّه رضي بصرفه على وليّه.

[و ينبغي التنبيه على أمور]

قوله: «لكن الوجه في تخصيص العلماء العنوان به جعله كالمستثنى من جوائز السلطان، التي حكموا بوجوب ردّها على مالكها إذا علمت حراما بعينها. فافهم».

[أقول:] إشارة إلى تقوية توجيه تخصيص العلماء العنوان به، بأنّه لأجل اتّباع تخصيص أسأله النصوص بخصوص المأخوذ، و بأنّ إثبات الشي ء لا ينفي ما عداه، سيّما بضميمة ترك الاستفصال في أجوبة السؤال. لكن مقتضى مفهوم الشرط في جواب صحيحة الحذّاء بقوله: «إن كان قد أخذها و عزلها فلا بأس» (1) تخصيص نفي البأس بالمأخوذ بعد الأخذ و القبض، و ثبوت البأس في غيره. كما يشهد عليه النهي عن بيع ما لم يقبض، خصوصا ما يستلزم الإعانة المحرّمة على قبول التولّي من قبل الجائر، و لو في خصوص أخذه الخراج المحرّم عليه أو الأخذ بأمره.

فمقتضى قاعدة الجمع مهما أمكن أولى من الطرح التفصيل في المسألة، بحمل النصوص (2) المسوّغة لشراء ما لم يؤخذ على ما لا يستلزم الإعانة للجائر على الأخذ المحرّم، و حمل النصوص المانعة منه على ما يستلزم الإعانة (3)، كما يشهد عليه قوله عليه السّلام: «لو لا أن بني أميّة وجدوا من يجبي لهم الصدقات و يشهد جماعتهم ما سلبوا حقّنا» (4)، و فحوى قوله عليه السّلام في مقبولة ابن حنظلة: «ما يحكم له الجائر فإنّما يأخذه سحتا، و إن كان حقّا ثابتا، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت، و إنّما


1- الوسائل 12: 161 ب «52» من أبواب ما يكتسب به ح 5.
2- الوسائل 12: 161 ب «52» من أبواب ما يكتسب به.
3- الوسائل 12: 144 ب «47» من أبواب ما يكتسب به ح 1.
4- الوسائل 12: 144 ب «47» من أبواب ما يكتسب به ح 1.

ص: 296

أمروا أن يكفروا به» (1).

قوله: «و قد ضعّف في محلّه بمنع هذا الحكم، و مخالفته لاتّفاق الأصحاب».

أقول: منع الحكم و مخالفته الاتّفاق ممنوع بعد استظهاره الحدائق (2)، و ظهوره من جميع نقلة الأخبار الصريحة الأخر بغير نكير، فإنّه ظاهر في القبول و التسليم لها، و لا معارض لها نصّا و لا فتوى سوى ما يوهمه من سيرة عليّ عليه السّلام في أهل البصرة حتّى أمر بردّ أموالهم، حتّى القدر كفاها صاحبها لمّا عرفها (3).

و لكن يدفع هذا الوهم تصريح النصوص (4) و الفتاوى بأنّ ردّها كان على طريق المنّ لا الاستحقاق، كما منّ النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله على المشركين في فتح مكّة (5).

قوله: «و أمّا الأمر بإخراج الخمس في هذه الرواية (6) فلعلّه من جهة اختلاط مال المقاسمة بغيره».

أقول: بل الأظهر أنّه من جهة اتّفاق النصوص (7) و الفتوى على أنّ الخراج من جملة الغنائم و وجوه المال الخاصّ خمسها بالإمام.

قوله: «ما ذكره من جواز الوقف لا يناسب ذكره في جملة التصرّفات فيما يأخذه الجائر».

أقول: و ذلك لأنّ الوقف متعلّق بالأعيان، و تصرّف الجائر فيما يأخذه متعلّق بمنافع الأرض. و فيه: أنّه قد يتعلّق بإبل الصدقات.


1- الوسائل 18: 98 ب (11) من أبواب صفات القاضي ح 1.
2- الحدائق الناضرة 18: 270.
3- السنن الكبرى 8: 182- 183، تلخيص الحبير 4: 47.
4- الوسائل 11: 56 ب «25» من أبواب جهاد النفس و ما يناسبه.
5- الوسائل 11: 58 ب «25» من أبواب جهاد النفس و ما يناسبه ح 6.
6- الوسائل 12: 161 ب «52» من أبواب ما يكتسب به ح 2.
7- الوسائل 6: 364 ب «1» من أبواب الأنفال و ما يختص بالإمام.

ص: 297

قوله: «و إن أراد وقف الأرض المأخوذة منه إذا نقلها إليه لبعض مصالح المسلمين، فلا يخلو عن إشكال».

[أقول:] وجه الإشكال: أنّ الأراضي المفتوحة لا تملك بالأصالة، سيّما بتمليك الجائر، و لا وقف إلّا في ملك، غاية الأمر إباحة الإمام على مواليه تقبيلها أو أخذها من الجائر لأجل الانتفاع بزرعها و محصولها.

و يدفعه إجازة المالك الحقيقي أنواع الوقف في الأراضي الخراجيّة، من المساجد و القناطر و الرباط و المقابر و القناطر و العيون و الآبار و الأنهار و الأشجار.

قوله: «ما دلّت عليه النصوص و الفتاوى كفاية إذن الجائر في حلّ الخراج، و كون تصرّفه بالإعطاء و المعاوضة و الإسقاط و غير ذلك نافذا».

[أقول:] و فيه: ما عرفت من أنّ ذلك مقتضى الجمود على صرف ظواهر بعض فتاوى مثل الشهيدين (1) و الكركي (2) لا غير، و أمّا نصوص الباب (3) المقرونة بالكتاب عند أولي الألباب، سيّما تعليله حلّ الخراج بقوله: «لك المهنّأ و عليه الوزر» (4)، و صحيحة زرارة المتقدّمة قال عليه السّلام: «هو له، قلت: إنه أدّاها، فعضّ على إصبعه» (5) في (6) عدم كفاية إذن الجائر في حلّ الخراج لو لا إذن الامام، و أن تصرّف الجائر بالإعطاء و المعاوضة و الإسقاط و غير ذلك وزر حرام و غصب و ظلم.

مضافا إلى أن من المعلوم بضرورة الدين أنّ الأراضي الخراجيّة حقّ


1- الدروس الشرعية 3: 169، مسالك الأفهام 3: 143.
2- قاطعة اللجاج «رسائل المحقق الكركي» 1: 285.
3- الوسائل 12: 161 ب «52» من أبواب ما يكتسب به.
4- الوسائل 12: 156 ب «51» من أبواب ما يكتسب به ح 1.
5- في هامش (6) ص: 296.
6- جملة: «في عدم كفاية ..» في قوّة جواب «و أمّا نصوص ..» قبل سطرين، أي: فهي دالّة على عدم ..

ص: 298

ملكيّتها أو توليتها خاصّ مختصّ من حقوق الإمام عليه السّلام المغصوبة للظلّام، فكيف ينفذ الملك العلّام إذنهم و تصرّفاتهم الغصبيّة المنافية للعدل و العدالة و المصلحة و الحكمة، و قاعدة اللطف الواجب على الحكيم من تقريب العباد إلى الطاعة و تبعيدهم عن المعصية؟ و هل هو إلّا تهافت و تناقض مناف لشواهد الحال و المقال من أحكام ذي الجلال و الملك المتعال؟! تعالى اللّٰه عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا. كيف و قد قال: «ليس لعرق ظالم حقّ» (1).

و في موثّقة سماعة: «سألت الصادق عليه السّلام عن رجل أصاب مالا من عمّال بني أميّة، و هو يتصدّق منه و يصل قرابته و يحجّ ليغفر اللّٰه ما اكتسب، و يقول: إِنَّ الْحَسَنٰاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئٰاتِ، فقال عليه السّلام: إنّ الخطيئة لا تكفّر الخطيئة، و إن الحسنة تحطّ الخطيئة» (2). و هو صريح في أنّ تصرّفات الجائر في الأموال الخراجيّة حتّى صدقاتهم غير صحيحة، بل هي خطيئة فوق خطيئة، مع ظهور كون العامل المتصدّق من مواليهم المقرّ بكون الاكتساب من الجائر سيّئة، فكيف بغيره المستحلّ له؟! و فحوى قوله عليه السّلام: «و لو أنّ رجلا قام ليله و صام نهاره و حجّ دهره و تصدّق بجميع ماله، و لم يعرف ولاية وليّ اللّٰه فيكون أعماله بدلالته فيواليه، ما كان له على اللّٰه ثواب» (3). فمن لم يقبل عباداته سيّما التصدّق بجميع ما له المملوك له بغير توسّط دلالة وليّ اللّٰه و إذنه عليه السّلام، كيف يصحّ و ينفذ تصرّفاته الظلميّة العدوانيّة في أموال المسلمين و أنفسهم، المفضية إلى التجرّي و الاستحلال و الكفر و الضلال و انتهاك حرمة ذي الجلال بسوء الفعال و الأعمال؟! و فحوى قوله عليه السّلام في باب ما أوله الزاء في المجمع: «لو أنّ غير وليّ


1- عوالي اللئالي 2: 257 ح 6.
2- الوسائل 8: 104 ب «52» من أبواب وجوب الحج ح 9.
3- الكافي 2: 19 ح 5.

ص: 299

عليّ عليه السّلام أتى الفرات و قد أشرف ماؤه على جنبيه و يزخّ زخّا، فتناول بكفّه و قال:

بسم اللّٰه، فلمّا فرغ قال: الحمد للّٰه، كان دما مسفوحا أو لحم خنزير» (1). فإذا حرم على غير موالي عليّ عليه السّلام شربة ماء البحر المباح كحرمة الخنزير و الدم المسفوح، فكيف ينفذ تصرّفاته العدوانيّة فيما لا يستحقّه من أموال المسلمين؟! نعم، إنّما أحلّها الإمام عليه السّلام بالإذن الخاصّ أو العامّ لبعض شيعته من باب الإذن و الرضا بأقلّ الضررين، لمّا استلزم تركه أعظم ما في البين، من صرفه بعد الغصب على أعدائه و قتل أوليائه، و على شرب الخمور و التجاهر بالفجور، و تشييد أركان ظلمهم و سلطان جورهم.

فتبيّن من ذلك عدم جواز الاكتفاء بإذن الظالم الغاصب، و لا جواز دفع الخراج إليه اختيارا، بل يجب مهما أمكن دفعه إلى وليّ الأمر أو نائبه، و لو بخفية أو سرقة أو غيلة، كما عرفت تصريح نصوص الإمام و فتاوى جملة من الأعلام.

قوله: «المستفاد من الأخبار الإذن العامّ من الأئمّة .. إلخ».

أقول: الأخبار المتقدّمة في حلّ الجوائز و شراء الخراج ليس فيها إلّا الإذن الخاصّ لشخص خاصّ من مواليه، فلا يتعدّى إلى غيرهم، اقتصارا فيما خالف الأصل على المتيقّن. إلّا أن يستفاد عموم الإذن من عموم المستفيضة: «ما كان لنا فهو لشيعتنا» (2)، و إن خصّصت في النصوص الأخر بالأطيبين من شيعتنا (3)، و بالمناكح و المتاجر و المساكن، كما لا يخفى.

قوله: «الحكم مع حضور الإمام مراجعته أو مراجعة الجائر مع التمكّن- إلى قوله- إذ ولاية الجائر إنّما يثبت على من دخل في قسم رعيّته حتّى يكون في سلطانه».


1- مجمع البحرين 2: 432.
2- الوسائل 6: 384 ب (4) من أبواب الأنفال ح 17.
3- الوسائل 6: 378 ب (4) من أبواب الأنفال و ما يختصّ بالإمام.

ص: 300

أقول: فيه ما عرفت من أنّه أمّا على مذهب العامّة فالمرجعيّة و الولاية خاصّة بالجائر لا غير، كما أنّه على مذهب الخاصّة العدليّة بالعكس خاصّة بالإمام عليه السّلام لا غير، فإثبات المرجعيّة و الولاية لكلّ منهما جمع بين الضدّين، و شرك في البين، و خروج عن الفرقين، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمىٰ وَ الْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمٰاتُ وَ النُّورُ (1)، أَ فَمَنْ كٰانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كٰانَ فٰاسِقاً ..» (2)

الآية.

قوله: «و هذا الدليل و إن كان فيه ما لا يخفى من الخلل».

[أقول:] و ذلك لأنّ غصب غير مستحقّ مال لا يسوّغ شراءه لغير مستحقّ آخر الذي هو المدّعى، لو لا إذن صاحبه الحقيقي في شرائه.

قوله: «لأنّ الشبهة الخاصّة إن كانت عن سبب صحيح .. إلخ».

[أقول:] فيه أوّلا: أنّ الشبهة الخاصّة إن أوجبت الحلّية للجائر أوجبتها الشبهة العامّة أيضا.

و ثانيا: فرض الصحّة في شبهة استحلال ما يستقلّ العقل بقبحه من الظلم فرض محال لا يوجب المعذوريّة فضلا عن الحلّية، إلّا على ما توهّم في الأصول من حجّية قطع القطّاع بالنسبة إلى نفسه، المدفوع بأنّ غايته المعذوريّة لا الحجّية، في خصوص القاصر لا المقصّر أيضا.

قوله: «و قد تمسّك في ذلك بعض بنفي السبيل للكافر على المؤمن.

فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ المنفيّ بجعل اللّٰه إنّما هو سبيل الحقّ و الحجّة البالغة، و أمّا سبيل الباطل و الحجّة الداحضة بسوء الاختيار فلم ينف عن الكفّار.


1- الرعد: 16.
2- السجدة: 18.

ص: 301

أو إشارة إلى أنّ شبهة الاستحقاق في الكافر أشدّ منها في سلطان المخالف، و فيه أشدّ منها في سلطان الموافق، فلو كانت شبهة الاستحقاق توجب ولاية الاستحقاق و إمضاء ولاية المشتبه لأوجبته في الكافر بالأولويّة، لأقوائيّة الشبهة فيه، كيف و من المعلوم أنّ شبهة استحقاق الظلم و استحلال أموال المسلمين مخالف لضرورة الدين، و مزيد للعلّة، و مخالف للعقول المستقلّة، و ضرورة الإسلام و الملّة، فكيف يوجب إمضاء الشبهة و الزلّة، و يكون فارقا بين مستحلّ الخراج و غيره في حلّيته أخذه ممّن استحلّه دون من لم يستحله؟! فعلم أنّ شبهة الاستحلال غير محلّل و لا فارق، و إنّما الفارق المحلّل ليس إلّا إذن من له الإذن و الولاية الحقّة. و على تقدير حصولها عموما أو خصوصا فلا فرق في حلّ أخذه من ظالمي العامّة أو الخاصّة أو الكفرة، كما يشهد به عموم تعليل الحلّ بقوله: «لك المهنّأ، و عليه الوزر» (1) و قوله: «اشتره فإنّك إن لم تشتره اشتراه غيرك» (2).

قوله: «المضي فيما نحن فيه تصرّف الجائر في تلك الأراضي مطلقا».

[أقول:] فيه: ما عرفت من تعليل نصوص حلّ أخذ الخراج من الظالم (3) أن الممضى إنّما هو أخذ الموالي الخراج من الظالم مطلق، لا العكس، أعني: أخذ الظالم مطلقا من الموالي.

قوله: «مع أنّ أصالة الصحّة لا يثبت الموضوع، و هو كون الأرض خراجيّة».

[أقول:] و فيه: أنّ ما لا يثبته هو أصالة الصحّة عند الفاعل الذي هو أصل


1- الوسائل 12: 156 ب «51» من أبواب ما يكتسب به ح 1.
2- الوسائل 12: 162 ب «53» من أبواب ما يكتسب به ح 1.
3- الوسائل 12: 161 ب «52» من أبواب ما يكتسب به.

ص: 302

من الأصول العمليّة، و مضمون: «ضع فعل أخيك على أحسنه» (1). و أمّا أصالة الصحّة عند الحامل الذي هو من الأمارات المستندة إلى الغلبة، على تقدير جريانه و عدم معارضته بغلبة الفساد أحيانا، فيثبت موضوع الخراجيّة.

قوله: «يمكن الاكتفاء عن إذن الإمام عليه السّلام المنصوص في مرسلة الورّاق (2) بالعلم بشاهد الحال برضا أمير المؤمنين و سائر الأئمّة بالفتوحات الإسلاميّة، الموجبة لتأيّد هذا الدين، و قد ورد أنّ اللّٰه يؤيّد هذا الدين [بالرجل الفاجر و] (3) بأقوام لا خلال لهم منه» (4).

أقول: شاهد حال الإمام عليه السّلام إنّما هو على الرضا بالغايات المترتّبة على غزواتهم من فتوحات الإسلام المطلوبة على وجه التعدّد المطلوبي، و هو لا يقتضي الرضا بالمقدّمات الموصلة إليها مطلقا و بأيّ وجه اتّفق، فإنّ إقامة شعائر الإسلام و إيتاء ذي القربى و الإمام عليه السّلام و إراقة الدماء و إطعام الطعام مطلوب، و مع ذلك قال تعالى لٰا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلّٰا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ (5). وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوٰابِهٰا (6). وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهٰا (7). و لَنْ يَنٰالَ اللّٰهَ لُحُومُهٰا وَ لٰا دِمٰاؤُهٰا وَ لٰكِنْ يَنٰالُهُ التَّقْوىٰ (8). إِنَّمٰا يَتَقَبَّلُ اللّٰهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (9). و قوله عليه السّلام: «ما أكثر الضجيج و أقلّ الحجيج» (10). و قوله عليه السّلام: «إنّ اللّٰه


1- الوسائل 8: 614 ب «161» من أبواب أحكام العشرة ح 3.
2- الوسائل 6: 369 ب «1» من أبواب الأنفال ح 16.
3- ما بين المعقوفتين لم يرد في المكاسب.
4- الوسائل 11: 28 ب «9» من أبواب جهاد العدو ح 1.
5- الأحزاب: 53.
6- البقرة: 189.
7- البقرة: 189.
8- الحج: 37.
9- المائدة: 27.
10- بصائر الدرجات: 358 ح 15، البحار 27: 181 ح 30.

ص: 303

يؤيّد هذا الدين بالرجل الفاجر، و بأقوام لا خلاق لهم منه» (1) إلى غير ذلك من الغايات المطلوبة التي مبادئها مشوبة و غير مرغوبة.

و كذلك خبر الخصال المتقدّم: «كان يشاورني في موارد الأمور فيصدرها عن أمري» (2) لا يستلزم إذنه لهم بالغزوات على الوجه المجزي في العبادات، بجعل الغزوة جهادا و شهادة، و القتل فيها فوزا و سعادة، و خمس غنائمه للسادة، بل كانت مشاورته و ائتماره على وجه الخفاء و الإباء، و الرياء و الإغراء، و الحيلة و الشقاء، و الغدر و الجفاء، و متابعة الهوى و مخالفة الهدى، لا على وجه الطاعة و الوفاء، و القربة و الولاء، و متابعة المولى.

و على ذلك فيقرب في النظر و إن خالف الأكثر أن يكون جميع فتوحات الإسلام بعد النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله بحكم الفي ء و الأنفال، الخاصّة بالإمام عليه السّلام على وجه التمام، لعدم ثبوت صدورها عن إذنه الخاصّ أو العامّ بوجه العلم و الإعلام. فاعتبروا يا اولي الأفهام، و اكشفوا عنكم اللثام، و اغتنموا حقّ الاغتنام في معرفة الإمام، فقد تمّ الكلام في هذا المقام.

قوله: «معارض بالعموم من وجه لمرسلة الورّاق» (3).

أقول: أعميّة المرسلة مبنيّة على أعميّة الغزو بغير إذن الإمام للغزو بغير السيف، و هو ممنوع جدّا، خصوصا في الغزو المضاف إلى القوم، فإنّه خاصّ عرفا بخصوص المأخوذ بالقهر و السيف لا الغيلة و الحيلة و السرقة، فيخصّص عمومات: «ما أخذ بالسيف فهو للمسلمين» (4) و


1- الوسائل 11: 28 ب (9) من أبواب جهاد العدو ح 1.
2- الخصال: 374 ح 58، و لكن لم يتقدّم منه «قدّس سرّه».
3- الوسائل 6: 369 ب «1» من أبواب الأنفال و ما يختصّ بالإمام ح 16.
4- انظر الوسائل 11: 119 ب «72» من أبواب جهاد العدو، و ج 12: 273 ب «21» من أبواب عقد البيع و شروطه.

ص: 304

أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ (1).

مضافا إلى معارضة هذه العمومات بما هو أكثر و أشهر و أظهر و أصحّ و أصرح، و أبعد من التقيّة و المعصية، و أقرب إلى الطاعة و الحكمة، و معرفة الإمامة و الولاية الكلّية التامّة في نصوص الكتاب (2) و السنّة، من أنّ الأنهار الثمانية و الأرض و ما فيها و عليها و ما سقت و ما أسقت كلّها لنا، و ما كان لنا فهو لشيعتنا، و ليس لعدوّنا منه شي ء، و أنّ شيعتنا لأوسع ما بين السماء و الأرض (3).


1- الأنفال: 41.
2- الأحزاب: 6.
3- الوسائل 6: 384 ب (4) من أبواب الأنفال و ما يختصّ بالإمام ح 17.

ص: 305

كتاب البيع

اشارة

ص: 306

ص: 307

[تقريظ]

بسم اللّٰه الرّحمن الرّحيم و به نستعين الحمد للّٰه ربّ العالمين، و صلّى اللّٰه على محمد و آله الطاهرين، و لعنة اللّٰه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

اللّٰهم وفّقني لإلهام الحقّ و الصواب، في إعلاء شأن مصنّف هذا الكتاب.

و من بركات النجف الأشرف- على مشرّفه آلاف التحية- أنّه قد برز في هذا الدهر بالرياضات الشاقّة و مجالسة حذّاق العصر، من جملة السادة العلماء المعاصرين: سيّدي الورع الربّاني، و مولاي العالم الفاضل الصمداني، المنزّه من كلّ سوء و شين، جناب الآقا السيّد عبد الحسين، أدام اللّٰه أيّام إفاداته على الخواصّ و العوام، و نفع بوجوده الشريف جميع من في هذه الأيّام.

و لعمري انّه سفينة مشحونة بالفقه و التقوى، و طريق يسلك فيه شعائر العلم و الهدى، من التزم به فقد نجا و لحق، و من عانده أو تخلّف عنه فقد مرق و زهق.

فقد فاز بالقوّة القدسية غاية المراد، و تحلّى بحلية العلم و مطلق الاجتهاد. فيكون مرجع الأحكام، و ملاذ الخاصّ و العامّ، و حريّا بوجوه الاحترام.

صانه اللّٰه سبحانه و إيّاي عن حوادث الأيّام. حرّره الجاني الأخير. لطف اللّٰه المازندراني.

ص: 308

بسم اللّٰه الرّحمن الرّحيم و الحمد للّٰه بجميع محامده كلّها على جميع نعمه، حمدا حقّ حمده، حمدا يدوم بدوامه، و الصلاة و السلام على محمد و آله.

[حقيقة البيع]

و بعد: فهذه تعليقات رشيقة، و مشارب رحيقة على كتاب البيع من مكاسب أستاذ أساتيذنا الأعلام طاب ثراه.

قوله: «الحقّ سلطنة فعليّة لا يعقل قيام طرفيها بشخص واحد، بخلاف الملك».

أقول: فيه: أوّلا: منع الفرق بين السلطنتين، إلّا في كون الحقّ سلطنة فعليّة و الملك سلطنة ماليّة، و هو غير فارق من حيث القابليّة للنقل و الانتقال من غير إشكال. فكما لا مانع من انتقال حقّ الخيار بالموت إلى الوارث كذلك لا مانع من انتقاله بالصلح أو البيع.

و ثانيا: لو سلّمنا الفرق و الفارقيّة فليس الفارق في عدم تعقّل قيام الحقّ في طرف واحد و تعقّله في الملك، بل لو سلّمنا الفارق فإنّما هو الدليل الخارج من إجماع و نحوه على عدم قابلية النقل و الانتقال في الحقّ و قابليّته في الملك.

و يظهر الفرق في كون المنقول إلى الغير من الحقوق إسقاط على تقدير الفرق و تمليك على عدمه، و إيقاع على الأوّل، و عقد على الثاني.

قوله: «و لا يحتاج إلى من يملك عليه حتى يستحيل اتّحاد المالك و المملوك عليه، فافهم».

[أقول:] إشارة إلى أنّ احتياج المالك إلى مملوك غير احتياجه إلى المملوك عليه.

و لكن قد عرفت عدم احتياج السلطنة إلى من يسلّط عليه حتّى يكون

ص: 309

فارق بينه و بين المملوك، بل الفرق: احتياجه إلى الملك من مملوك مالي.

و الحاصل: أنّ السلطنة تحتاج إلى متعلّق ما، سواء كان شخصا، أو مالا، أو فعلا، و الملك يحتاج إلى مملوك ماليّ بحسب منصرف الإطلاق العرفي، و هو غير فارق.

قوله: «النقل بالصيغة أيضا لا يعقل إنشاؤه بالصيغة .. إلخ».

[أقول:] و لا وجه لعدم تعقّله سوى ما ذكره هو من لزوم الدور، أو أعمّيّة التعريف من المعرّف، و يسهل خطبة أنّه إيراد عامّ وارد على جميع التعاريف، و مندفع عن الجميع لفرض كون التعريف أجلى و أعرف عرفا من المعرّف بحيث لا يتوقّف معرفة المعرّف- بالكسر- على معرفة المعرّف- بالفتح- كما في العكس حتّى يلزم الدور المذكور.

قوله: «كالتعويض الغير المشترط».

[أقول:] أي: كالتعويض عن فعل الهبة لا الموهب، أي: البذل لا المبذول.

قوله: «إذ ليس المقصود الأصليّ من المعاوضة و المقابلة. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ المقصود الأصليّ من القرض و إن لم يكن المعاوضة بل لزوم العوض من أحكامه الشرعيّة و مقتضياته العقليّة الغير المأخوذة في القصد من القرض أصالة إلّا أنّها لا تنفكّ عن القصد تبعا.

و لذا قال المجمع: القرض ما تعطيه غيرك ليقضيك، و إعطاء شي ء ليستعيد عوضه في وقت آخر. (1)

قوله: «و لذا لا يجري فيه ربا المعاوضة، و لا الغرر المنفيّ فيها، و لا ذكر العوض و لا العلم به. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى إمكان المنع من عدم جريان أحكام المعاوضة فيه، سيّما


1- مجمع البحرين 4: 226- 227.

ص: 310

ربا المعاوضة.

فقد يقال: كما أنّ بيع الحنطة بشعير زائد معاوضة باطلة كذلك قرض الحنطة بشعير قرض باطل بالربا.

قوله: «فالبيع و ما يساويه معنى من قبيل الإيجاب و الوجوب، لا الكسر و الانكسار كما تخيّله بعض. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ ذلك مبنيّ على كون البيع اسم للأعمّ. و أمّا على كونه اسما للصحيح فهو من قبيل الكسر و الانكسار الموقوف صدقه على التعقّب بالقبول.

قوله: «و منه يظهر ضعف أخذ القيد المذكور في معنى البيع فضلا [عن] أن يجعل أحد معانيها».

[أقول:] و الفرق: أنّه على الأوّل من قبيل استعمال الكلّي في خصوص الفرد مجازا. و على الثاني من قبيل استعمال المشترك في أحد معنييه حقيقة.

كما أنّه على تقدير نفي الفرضين من قبيل إطلاق الكلّيّ على الفرد، و إرادة الخصوصيّة من الخارج من قبيل الدالّين و المدلولين.

قوله: «فيستدلّ بإطلاق الحكم بحلّه أو بوجوب الوفاء به على كونه مؤثّرا في نظر الشارع أيضا. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى ما فيه: أوّلا: من إمكان منع ثبوت الحقيقة العرفية في الصحيح في نظر العرف، لأصالة عدمه.

و ثانيا: لو سلّمنا ثبوته فلا نسلّم كون المراد من الصحيح: الصحيح في نظر العرف، بل هو الصحيح الواقعيّ الجامع لجميع الأجزاء و الشرائط الواقعيّة في نظر الشارع، لا مجرّد العرف.

[الكلام في المعاطاة]

اشارة

قوله: «منها: ظهور أدلّته الثلاثة في ذلك».

ص: 311

[أقول:] أي: ظهور الإجماع، و عدم الدليل، و النهي عن بيع المنابذة (1) .. إلخ.

في أنّ محلّ الكلام من بيع المعاطاة إنّما هو المقصود به التمليك، لا مجرّد الإباحة، مضافا إلى أنّ المعلوم المتداول في المعاطاة بين الناس ليس إلّا قصد التمليك و ترتيب آثار الملكية، غايته أنّ التمليك متزلزل شرعا يتوقّف لزومه على التلف، كالعقد الخياري.

قوله: «و يدفع الثاني».

[أقول:] أي: إرادة نفي اللزوم من نفي البيع تصريح بعضهم بأنّ شرط لزوم البيع منحصر في مسقطات الخيار.

و فيه: أنّ انحصار لزوم البيع في مسقطات الخيار صريح في انحصار لزوم بيع الخيار في مسقطات الخيار، لا انحصار مطلق البيع في اللزوم، و أنّ غير اللازم ليس ببيع، فإن لزوم المعاطاة على القول بكونه تمليكا و تملّكا أيضا ينحصر في التلف و نحوه من مسقطات الخيار، كبيع الخيار.

قوله: «عدّ هذا من الأقوال في المعاطاة، تأمّل».

[أقول:] وجه التأمّل: رجوعه إلى القول بعدم اللزوم إن أراد من اشتراطه باللفظ خصوص لفظ الإيجاب و القبول، و عدمه إن أراد الأعمّ منه و من لفظ «الاستدعاء».

قوله: «و القول بعدم إباحة التصرّف».

أقول: و هذا سادس الأقوال و آخرها، و هو القول ببطلان المعاطاة.

ثمّ إنّ الكلام في ترجيح الأقوال و تأسيس الأصل الأصيل في كلّ عقد عرفيّ، و في كلّ إيجاب و قبول، و في كلّ بيع عرفيّ هل هو الصحّة و اللزوم، أو الفساد الموقوف على تفسير بعض الآيات الواردة على سبيل الضابطة في العقود؟


1- الوسائل 12: 266 باب «12» من أبواب عقد البيع و شروطه ح 13.

ص: 312

فنقول: قال اللّٰه تعالى في مفتتح سورة المائدة آخر السور المنزلة يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1) الآية و تشخيص مدلولها في ضمن مراحل:

أمّا المرحلة الأولى: ففي تشخيص مدلول العقد لغة و عرفا. أمّا لغة فهو و إن استعمل في معاني عديدة- كما عن القاموس (2) و الصحاح (3) العقد: عقد الحبل، و البيع، و عقد يعقده شدّه، و عنقه إليه لجأ، و الحاسب حسب، و العقد:

الضمان و العهد و الجمل الموثّق. و في معنى العهد: العهد الوصيّة، و التقدّم إلى المرء في الشي ء و الموثق، و اليمين، و الحفاظ، و رعاية الحرمة، و الأمان، و الذمّة و الالتقاء، و المعرفة- إلّا أنّ قاعدة أصالة عدم الاشتراك و أولويّة المجاز منه تقتضي كونه حقيقة في أحدها، و مجازا في الباقي. و غلبة مراعاتهم الترتيب بتقديم المعنى الحقيقيّ على غيره في التعداد و الذكر تقتضي تعيين مجازيّة العقد في ما عدا الشدّ و الوصل، و حقيقة في معنى الشدّ و الوصل، سواء كان حسّيّا كشدّ الحبل و وصله، أم غير حسّيّ كالعهد المشدّد بين اثنين، فكلّ عقد عهد، و لا عكس، لعدم لزوم الشدّة و الاثنينيّة.

و قاعدة أصالة الحقيقة- مضافا إلى تفسير أكثر المفسّرين و الفقهاء- تقتضي تعيين إرادة مطلق العقود، فإنّها باعتبار المعقود و العاقد ثلاثة أضرب:

عقد بين اللّٰه و بين عباده، و هو إلزامهم بالتكاليف: من الإيمان به و ملائكته و كتبه و رسله و أوصياء رسله، و تحليل حلاله، و تحريم حرامه، و الإتيان بفرائضه و سننه، و رعاية حدوده و أوامره و نواهيه.

و عقد بين اللّٰه و نفسه، كالنذر و اليمين.

و عقد بينه و بين غيره من البشر، كعقود الأمانات و المعاملات الغير


1- المائدة: 1.
2- القاموس المحيط 1: 315.
3- الصحاح 2: 510.

ص: 313

المحظورة شرعا.

فظاهر الآية- مضافا إلى تفسير أكثر الفقهاء و مفسّري الخاصّة و العامّة- يقتضي إرادة كلّ عقد من تلك العقود، سواء كان تركه قربة أو واجبا في الشرع، كالعقود المخترعة و الفاسدة.

و أمّا ما عن تفسير القميّ رحمه اللّٰه، عن الجواد عليه السّلام: من «أنّ رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه و آله عقد عليهم لعليّ عليه السّلام بالخلافة في عشرة مواطن، ثمّ أنزل اللّٰه يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ التي عقدت عليكم لأمير المؤمنين عليه السّلام» (1) فمضافا إلى احتمال كونه من البطون الغير المنافية لإرادة الظهور معه لا يوجب تخصيص عموم العقود و إن صلح له، لأنّ شأن النزول لا يخصّص عموم النازل، و المورد لا يخصّص عموم الوارد فيه بمجرّد صلوحه للتخصيص. ألا ترى أنّ السؤال لا يقيّد الجواب؟ حتّى اشتهر بأنّ ترك الاستفصال في جواب السؤال ينزّل منزلة العموم في المقال، مع أنّ السؤال أصلح لتقييد الجواب في المورد بكثير.

و أمّا ما اشتهر من «أنّ الجمع المحلّى باللام إنّما يفيد العموم حيث لا عهد» فليس المراد حيث لا صلوح للعهد، بل المراد: حيث لا ظهور للعهد في التخصيص، كظهور ما: إذا تقدّم المعهود بلفظ النكرة ثمّ تعقّبه العامّ المكتنف بالفاء الدالّة على التفريع و الاتّصال مع تقاربهما من جهة الزمان و المكان و صورة التلفظ و اتّحادهما من جهة المتكلّم و المخاطب، فإنّ انصراف العموم إلى العهد مشروط باجتماع هذه الشروط المفقود جلّها، بل كلّها فيما نحن فيه، كما في قوله تعالى:

أَرْسَلْنٰا إِلىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصىٰ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ (2) خلافا لما في العوائد (3) من رفعه اليد عن ظهور الظاهر بمجرّد الاقتران بما يصلح للصارفيّة


1- تفسير القمّي 1: 160.
2- المزّمّل: 15- 16.
3- عوائد الأيّام: 19.

ص: 314

و القرينيّة، و هو من متفرّدات صاحبه، و لو قلنا باعتبار ظواهر الألفاظ من باب الظنّ الفعليّ، كما قرّر في محلّه.

و أمّا المرحلة الثانية: ففي تشخيص مدلول الوفاء بالعقود لغة، و المراد منه عرفا.

فنقول: لا إشكال في أنّ مدلول الوفاء بالعقد لغة و عرفا هو «القيام- بمقتضاه باتّفاق اللغويّين و المفسّرين و الفقهاء. إنّما الإشكال في تشخيص المراد منه شرعا، و أنّه هل أريد منه بيان لزوم العقود و صحتها معا كما عليه مشهور الفقهاء، أم اللزوم دون الصحّة، أم الصحّة دون اللزوم، أم عدم شي ء من اللزوم و لا من الصحّة كما عن مختلف العلّامة (1)؟ وجوه أربعة:

فعلى الأوّل يكون المراد من الإيفاء: وجوب القيام بمقتضى المعقود دائما؛ حتّى يرد المزيل الشرعيّ مطابقا لحكم العقل بحسن الوفاء، فيكون الأصل وجوب الوفاء بكلّ عقد خرج ما خرج بالدليل، كالشركة و المضاربة و مثلهما فإنّها و إن كانت صحيحة بسبب الإجماع أو قوله تعالى تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (2) أو داخلة تحت عموم الآية إلّا أنّها ليست بلازمة بالدليل الخارجي.

و كالمغارسة و شركة الوجوه و الأبدان فإنّها محظورة رأسا من الخارج، فكلّ ما يندرج في «تجارة» عن تراض، يثبت صحّته منه و لزومه من الآية، و ما لا يندرج فيه يثبت صحّته و لزومه معا بها، بل يثبت الصحّة و اللزوم في جميع العقود بهذه الآية، خرج ما خرج من الصحّة و اللزوم و بقي الباقي.

و يتفرّع على هذا المعنى عدم وجوب تتبّع أحوال العرف في كلّ عقد عن تشخيص أنّ بناءهم فيه على اللزوم و الجواز، بل يثمر الآية، في العقد المجهول


1- المختلف 6: 255.
2- النساء: 29.

ص: 315

الحال بخصوصه- شرعا أو عرفا- ثبوت أصالة الرخصة و الإيجاب و اللزوم إلى أن يثبت المنع من الخارج.

و يتفرّع عليه أيضا عدم استلزام خروج الخارج عن تحت أصالة اللزوم؛ لخروجه عن تحت أصالة الصحّة و الجواز، بخلاف العكس فإنّ نفي الأخصّ يستلزم نفي الأعمّ، و لا عكس.

هذا كلّه في بيان المراد من الإيفاء على تقدير دلالته على اللزوم و الصحّة معا.

و أمّا على تقدير دلالته على اللزوم دون الصحّة فيكون المراد من الإيفاء:

وجوب القيام بمقتضى العقود بعد إحراز صحّتها من العرف، أو من الشرع؛ بسبب إجماع، أو إطلاق قوله تعالى تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (1).

و يتفرّع على هذا المعنى: وجوب تتبّع أحوال العرف أو الشرع في تشخيص صحّة كلّ ما يراد إدخاله تحت أصالة اللزوم من العقود، و عدم مجرى الأصل في العقد المجهول حاله من حيث الصحّة.

و أمّا على تقدير دلالة الإيفاء على الصحّة دون اللزوم فيكون المراد من الإيفاء: بيان الصحّة و ترتّب الثمرة الّتي كانت منظورة للمتعاقدين، يعني: كلّ ما تعاقدون عليه فيما بينكم فقد أجزته و رتّبت عليه الثمرة الّتي كانت مقصودة منه، فصار شرعيّا، فيكون الأمر بالإيفاء من باب دفع الحظر، و إثبات محض الرخصة، و جواز ما يفعلون، و لازمة أن يصير: كلما كان عندهم على وجه اللزوم لازما، و على وجه الجواز جائزا، و هذا أيضا يحتاج إلى تتبّع أحوال العرف في اللزوم و الجواز فيما لم يعلم حاله من الشرع.

و أمّا على تقدير دلالتها على غير اللزوم و غير الصحّة- كما حكي عن


1- النساء: 29.

ص: 316

المختلف (1)- فيكون المراد من الإيفاء: وجوب القيام بمقتضى العقود، بمعنى:

اعتقاد لزوم اللازم و جواز الجائز، و حلية الحلال و حرمة الحرام.

و على هذا يكون المراد: ما علم لكم من العقود جوازه أو لزومه من العرف، أو عدم جوازه و لا لزومه منه فأوفوا بها على مقتضاها، فاعتقدوا لزوم اللازمات و جواز الجائزات و اعملوا بمقتضاها، و رجحان الراجحات و مرجوحيّة المرجوحات و اعملوا بمقتضاها، و ما لم يعلم لكم من العقود صحّته أو عدم صحّته من العرف فاعملوا فيها بما يقتضيه الشكّ و عدم العلم من الرجوع إلى الأصول الخارجيّة.

فيكون الأمر بإيفاء العقود من باب محض الإمضاء و الإرشاد إلى ما لها شرعا أو عرفا، من الاتّصاف باللزوم أو عدمه، أو الصحّة أو عدمها، إن معلوما فمعلوما، و إن مشكوكا فمشكوكا.

ثمّ إنّ أقصى المعاني القابلة لتقريب إرادتها من الإيفاء هي المعاني الأربعة المذكورة، دون احتمال إرادة وجوب القيام بمقتضى العقد ما لم يرجع المتعاقدان أو أحدهما إلى الفسخ، و لا غيره من سائر ما احتمله في العوائد (2)، لرجوعه إلى ما يبعد احتماله جدّا من التوقّف على ما يخالف الأصل من إضمار أو تقدير أو تقييد.

كما أنّ أقصى المعاني المحتملة في العقود هي إرادة عقود اللّٰه تعالى على عباده، أو عقود العباد مع اللّٰه تعالى، أو عقودهم فيما بينهم و بين أقرانهم، أو مجموع الأنواع الثلاثة من العقود.

و إذا ضربت المحتملات الأربعة من العقود في المحتملات الأربعة من


1- انظر الهامش (1) ص: 315.
2- عوائد الأيّام: 13.

ص: 317

الإيفاء بلغ الحاصل من المحتملات ستّة عشر محتملا.

و كما قد علمت أنّ إضافة محتمل آخر إلى المحتملات الأربعة من الإيفاء بعيد جدّا. فاعلم أيضا: أنّ إضافة محتمل آخر إلى المحتملات الأربعة من العقود- و هو احتمال إرادة مطلق العقود، حتّى العقود المخترعة- أبعد جدّا؛ لأنّه إن لم نخرجها عن عموم العقود بعد دخولها لزم فقه جديد و دين بديع، و إن أخرجناها عن تحته لزم التخصيص بالأكثر، لعدم إحصاء المخترعات، فلا بدّ من الالتزام بخروجها على وجه التخصّص، لا التخصيص بحمل العقود على العقود المعهودة دون ما يعمّ المخترعة، كما احتمله في العوائد (1). و لهذا أسقطناه عن عداد المحتملات.

و كما قد علمت أيضا أنّ المتعيّن من محتملات العقود بواسطة ظهور اللفظ، و أصالة العموم، و عدم التخصيص، و نقل اللغويّين، و مشهور المفسّرين و الفقهاء هو إرادة جميع الأنواع الثلاثة من العقود، لا سيّما العقود الفقهيّة الّتي هي محطّ نظر الفقهاء فاعلم أيضا: أنّ المتعيّن من محتملات الإيفاء بواسطة ظهور الأمر و معونة فهم المشهور هو إرادة المعنى الأوّل، أعني: إفادة اللزوم و الصحّة في جميع العقود حتّى يرد المزيل، دون سائر المعاني المحتملة؛ و ذلك لظهور دلالة الإيفاء، و هو وجوب القيام بمقتضى العقود بالمطابقة على لزوم العقود حتّى يرد المزيل، كما ورد في المشاركة و نحوها، و بالالتزام على صحّتها حتى يرد المزيل أيضا، كما ورد في بيع الربويّ و نحوه، ضرورة أنّ القيام بمقتضى الشي ء فرع ثبوت اقتضاء لذلك الشي ء، و هو معنى صحّته. كما أن مطلوبيّة كلّ ملزوم فرع مطلوبيّة لوازمه، و مطلوبيّة الأخصّ فرع مطلوبيّة الأعمّ و لو بدلالة الالتزام العقليّ التبعي.

فإن قلت: «دلالة الإيفاء على اللزوم و الصحّة معا يستلزم استعماله في أكثر


1- عوائد الأيّام: 9.

ص: 318

من معنى.

قلت: الملازمة واضحة المنع بما عرفت من أنّ المدلولين ليسا في عرض واحد حتى يتأتّى الملازمة، و إنّما هما في الطول، من قبيل اللازم و الملزوم، و التابع و المتبوع.

فإن قلت: لو كان دلالته على الصحّة من باب الملازمة و الدلالة التبعيّة لدلّ نفي اللزوم على نفي الصحّة، كما دلّ إثبات اللزوم على إثبات الصحّة، فإنّ نفي الملزوم و المتبوع في الدلالة الالتزاميّة التبعيّة يدلّ على نفي لوازمها و توابعها كما أنّ وجودها يدلّ على وجودها.

ألا ترى انتفاء المفاهيم لو انتفى دلالة مناطيقها، و انتفاء وجوب المقدّمة لو انتفى وجوب ذيها؟

قلت: استفادة الصحّة من اللزوم و إن كانت تبعيّة إلّا أنّ المستفاد أصليّ غير تبعيّ حتّى ينتفي بانتفاء متبوعه، كما في سائر الاستفادات التبعيّة الّتي يكون المستفاد فيها أيضا تبعيّا، حسب ما قرّر في محلّه من باب مقدّمة الواجب. فالصحّة بحسب الاستفادة تابعة للّزوم، و بحسب الوجود بالعكس، كما هو حال سائر مداليل الأدلّة الإنّيّة، كالنار فإنّها بحسب الاستفادة تابعة للدخان، و بحسب الوجود بالعكس، فانتفاء الملزوم و المتبوع- و هو لزوم العقد فيما نحن فيه- لا يستلزم انتفاء اللازم و التابع و هو الصحّة؛ لكون دلالته عليها بالإن لا اللمّ.

ثمّ إن دلالة الإيفاء على لزوم العقود و صحّتها ليس على وجه التشريع و التأسيس مطلقا؛ لما في المتن و غيره من: أنّه ليس للشارع في موضوعات المعاملات و لا في أحكامها تشريع و لا تصرّف و لا اختراع، سوى اعتباره في بعضها بعض الشروط الخارجة عن ماهيّاتها، و لا على وجه الإرشاد و التأكيد

ص: 319

مطلقا حتّى يرجع إلى المعنى المتقدّم نقله عن مختلف (1) العلّامة، أعني: إرادة بيان الصحّة و إجزاء كلّ ما يرتّب العرف على عقودهم، إن لزوما فلزوم، و إن جوازا فجواز؛ ليكون الأمر بالإيفاء من باب رفع الحظر و إثبات محض الرخصة، لما عرفت من أنّ ذلك المعنى خلاف ظاهر الأمر، بل إنّما يكون على وجه التأكيد و الإرشاد بالنسبة إلى العقود المعلومة حالها من الشرع أو العرف، و على وجه التأسيس و التقرير بالنسبة إلى العقود المشكوكة حالها شرعا و عرفا.

و من هنا يعلم رجوع الفرق و الثمرة بيننا و بين العلّامة إلى مرجعيّة عموم الآية (2) للعقود المشكوكة حالها شرعا و عرفا، من حيث اللزوم أو الصحّة عندنا، و إلى مرجعيّة الأصول الخارجيّة لها عند العلّامة.

و أمّا ما في العوائد (3) من الإيراد بأنّ الجمع بين إرادة التأكيد و التأسيس من الإيفاء يستلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ففيه منع الملازمة.

أوّلا: بأنّ الرجوع إلى عموم الآية بالنسبة إلى العقود المشكوكة حالها ليس من باب الموضوعيّة و التعبّد الشرعيّ حتّى يلزم من إرادة الإرشاد منها بالنسبة إلى العقود المعلومة حالها الاستعمال في أكثر من معنى، بل لعلّه من باب الطريقيّة و الكاشفيّة عن ثبوت ذلك في أصل العرف و إن خفي على أهله. و على ذلك فلا يلزم من مرجعيّة عموم الآية للعقود المشكوكة حالها الاستعمال فيما عدا التأكيد و الإرشاد، غاية الأمر استعماله في الإرشاد الأعمّ من خفاء المرشد إليه على العرف، و عدم خفائه عليه.

و ثانيا: سلّمنا كونه من باب التعبّد الشرعيّ إلّا أنّه مع ذلك لا يلزم من انضمام إرادة التأكيد منه بالنسبة إلى العقود المعلومة حالها الاستعمال في أكثر من


1- المختلف 6: 255.
2- المائدة: 1.
3- العوائد: 20.

ص: 320

معنى؛ لأنّ انضمام إرادة التأكيد معه إنّما هو من مقتضيات الصارف الخارجي، و هو سبق العلم بحال العقد الّذي ينبغي الاقتصار على القدر المتيقّن من صارفيّته، و على ذلك يكون دلالة الإيفاء على التأكيد و التأسيس معا من قبيل الدالّين و المدلولين، لا من قبيل الدالّ الواحد و المدلولين ليلزم استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى واحد.

و ثالثا: بأنّ التأكيد و التأسيس من الأوصاف و الكيفيّات الخارجة عن المراد، الطارئة عليه أحيانا بواسطة القرائن الخارجيّة من سبق العلم ببيانه، و عدم سبقه لا من المعاني المتأصّلة بالإرادة ليلزم من اجتماعهما الاستعمال في أكثر من معنى.

ثمّ إنّ عموم الإيفاء بالعقود في الآية إنّما هو عموم أفرادي، و ليس فيها و راء الاشتمال على العموم الأفراديّ عموما أزمانيا و لا أحواليا، إذ لم يؤخذ كلّ زمان أو كلّ أحوال فردا مستقلّا لمتعلّق الحكم في الآية كما أخذ كلّ فرد منه كذلك، كما في مثل «أكرم العلماء في كلّ يوم» أو «في كل حال».

و يتفرّع على ذلك أنّه متى تخصّص عمومه بإخراج فرد عن تحته اقتصر في الإخراج على الفرد المتيقّن من غير تعدّ إلى سائر الأفراد المشكوكة؛ لأصالة عدم تخصيص آخره، و متى تخصّص بإخراج زمان أو حال أمكن التعدّي إلى سائر الأزمنة و الأحوال المتعاقبة له بالاستصحاب؛ لأنّ إبقاء الحكم في الزمان المتعاقب للزمان الأوّل لا يوجب تخصيصا آخر وراء التخصّص الأوّل، بعد أن كان المفروض عدم ملاحظة المتكلّم كلّ زمان فردا مستقلّا لمتعلّق الحكم، بخلاف ما إذا لاحظه كذلك، كما في «أكرم العالم في كلّ زمان» أو «في كلّ حال».

و ينقدح من ذلك ضعف القول بفوريّة خيار الغبن المخصّص لعموم الوفاء

ص: 321

بقاعدة نفي الضرر بما احتجّ عليه المحقّق الثاني في مسألة خيار الغبن في باب تلقّي الركبان من: أنّ عموم الوفاء بالعقود من حيث الأفراد يستتبع عموم الأزمان (1)، فيمنع جريان الاستصحاب لأجل عموم الوفاء، خرج منه أوّل زمان الاطّلاع على الغبن و بقي الباقي.

فإنّ الأقوى ما يظهر من المسالك (2) و غيره من إجراء الاستصحاب في هذا الخيار بناء على ما تقدّم من أنّه لا يستفاد من إطلاق وجوب الوفاء بالعقد إلّا كون الحكم مستمرّا، لا أنّ الوفاء في كلّ زمان موضوع مستقلّ محكوم بوجوب مستقلّ حتّى يقتصر في تخصيصه على ما ثبت من جواز نقض العقد في جزء من الزمان و بقي الباقي. و لتمام الكلام في هذا المطلب محلّ آخر سيأتي إن شاء اللّٰه تعالى.

و أمّا المرحلة الثالثة: ففي دفع موهمات الوهن في دلالة الآية- على ما ذكر- الّتي أوردها في العوائد (3) على صحّة التمسّك بالآية في لزوم جميع العقود و صحّتها، و هي وجوه:

منها: الاستشكال بلزوم تخصيص الأكثر في عموم دلالة الآية على اللزوم، و بواسطة خروج أكثر العهود الغير المعنونة في أبواب الفقه، بل و أكثر العهود المعنونة فيها أيضا على اللزوم إلى الجواز، و في عموم دلالتها على الصحّة أيضا بواسطة خروج العقود الفاسدة الّتي هي أضعاف الصحيح منها من جهة اشتراط الصحيح شرعا بشروط عديدة تنتفي الصحّة بانتفاء كلّ واحد منها، فلزم من إخراج العقود الفاسدة عن عموم الصحّة تخصيصه بالأكثر، كما يلزم من إخراج العقود الجائزة عن عموم اللزوم تخصيصه بالأكثر.


1- جامع المقاصد 4: 38.
2- المسالك 3: 205.
3- العوائد: 16 و 17.

ص: 322

و يدفعه: أوّلا: بفرض الخارج من العقود عن تحت الآية خارجا عن حكم العامّ، لا نفس العامّ حتّى يعدّ أكثريّته في العرف مستهجنا، فيرجع التخصيص بالأكثر حينئذ إلى التقييد بالأكثر، و هو ليس كالتخصيص بالأكثر في الاستهجان عرفا.

و ثانيا: بفرض الخارج عن نفس العامّ على تقدير التسليم خارجا بعلاقة التشبيه و التنزيل، دون علاقة العموم و الخصوص حتّى يعدّ أكثريّته من مستهجنات العرف، فإنّ التخصيص بالأكثر المستهجن عرفا عند القائل باستهجانه انّما هو التخصيص بعلاقة العموم و الخصوص. و أمّا التخصيص بالأكثر بعلاقة التنزيل فلا استهجان فيه، بل قد ورد في أفصح ما يكون من الكتاب الكريم، كما في قوله تعالى إِنَّ عِبٰادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطٰانٌ إِلّٰا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغٰاوِينَ (1)، و قوله في الحديث القدسي: «يا ابن آدم، كلّكم جائع إلّا من أطعمته» (2)، مع كون الباقي في كلّ منهما أقلا بالعيان و البرهان. أمّا العيان فمحسوس. و أمّا البرهان فلقوله تعالى وَ مٰا أَكْثَرُ النّٰاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (3).

و بالجملة: فكما أنّ شرف المطيعين في الرفعة و دنوّ الغاوين في الانحطاط ممّا صحّح تنزيل كثرة الغاوين منزلة القلّة، و قلّة المطيعين منزلة الكثرة في الآية كذلك غلبة استعمال العقود الصحيحة و تداولها و إن قلّ عددها، و ندور تداول العقود الفاسدة و إن كثر عددها ممّا يصحّح تنزيل الأكثر منزلة الأقلّ، و بالعكس فيما نحن فيه.

و ثالثا: بأنّ عموم العقود عموم أفراديّ لا نوعي حتّى يستكثر العقود الفاسدة و الجائزة عليه.


1- الحجر: 42.
2- صحيح مسلم 4: 1994 ح 55.
3- يوسف: 103.

ص: 323

و لا ريب أنّ أفراد العقود الصحيحة و اللازمة أكثر من أفراد غيرها، سيّما في مثل البيع و الإجارة و النكاح.

و رابعا: بإمكان فرض خروج الخارج عن تحت عموم الآية (1) من باب التخصّص دون التخصيص، بحمل عموم العقود على العهد و الإشارة إلى العقود المتداولة الصحيحة، ليكون خروج العقود الفاسدة و المخترعة من باب التخصّص، أعني: عدم الدخول، لا من باب التخصيص، أعني: إخراج ما دخل.

و أمّا ما استشكل عليه: بأنّ حمل العقود على العقود المتداولة يستدعي الاقتصار على المتداول في ذلك الزمان، و عدم صحّة التمسّك بالآية في موضع من المواضع إلّا في خصوص إثبات بعض ما يعلم لزومه خارجا أيضا، و هو خلاف سيرة العلماء و طريقتهم المسلوكة فيما بينهم من التمسّك بها في مواضع النزاع و الوفاق.

فيدفعه أيضا: حمل عموم العقود على العهد و الإشارة إلى جنس العقود المتداولة في ذلك الزمان، المعهودة المضبوطة الآن في كتب فقهائنا، كالبيع و الإجارة و نحوهما، لا خصوص أشخاص كلّ عقد متداول فيه مع كيفيّاتها المخصوصة و المتداولة فيه. و لا ريب أنّ مواضع استدلالاتهم بتلك الآية الشريفة داخلة في جنس تلك العقود و في أفرادها و إن جهل اشتراكها معها في الخصوصيّات، و ذلك لا يقدح في دخولها في تلك العقود.

و من جملة موهمات و هن عموم الآية: ما أورده في العوائد أيضا من: «أنّه و إن كان مقتضى الجمع المحلّى باللام كونه مفيدا للعموم و لكن يخدشه في الآية أمران:

أحدهما: أنّا قد ذكرنا في كتبنا الأصوليّة: أنّ الثابت من أصالة الحقيقة إنّما


1- المائدة: 1.

ص: 324

هو إذا لم يقترن بالكلام حين التكلّم به ما يوجب الظنّ بعدم إرادة الحقيقة، أي: لم يقترن به ما يظنّ بصارفيّته عن الحقيقة، بل و لا بما يشكّ في قرينيته و صارفيّته عنه. و ممّا لا شكّ فيه أنّ تقدّم طلب بعض أفراد الماهية، أو الجمع المحلّى على طلب الطلب باللفظ الدالّ على الماهية، أو بالجميع ممّا يظنّ معه إرادة الأفراد المتقدّمة، و لا أقلّ عن صلاحية كونه قرينة لإرادتها.

و على هذا فتلك الآية في سورة المائدة- على ما ذكره المفسرون- آخر السور المنزلة في أواخر عهد النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله. و لا شكّ أنّ قبل نزولها قد علم من الشارع وجوب الوفاء بطائفة جمّة من العقود، كالعقود الّتي بين اللّٰه سبحانه و بين عباده من الإيمان به و برسله و كتبه، و الإتيان بالصلاة و الصيام و الزكاة و الحجّ و الجهاد و غيرها، بل بعض العقود الّتي بين الناس بعضهم مع بعض، كالبيع و النكاح و الإجارة و الرهن و أمثالها.

و تقدّم طلب الوفاء بتلك العقود يورث الظنّ لإرادتها من قوله أَوْفُوا بِالْعُقُودِ خاصّة، أو يصلح قرينة لإرادتها، فلا يمكن التمسّك بأصالة الحقيقة في إرادة جميع الأفراد. مضافا إلى أنّ قوله تعالى أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعٰامِ .. إلى أخره تفصيل لبعض العقود أيضا، كما مرّ في كلام بعض المفسّرين، و هذا أيضا ما يضعف الحمل على العموم.

و ثانيهما: أنّه إذا ورد أمر بطلب ما لم يسبق طلبه فهو للتأسيس، و إن ورد بطلب ما سبق طلبه أوّلا فهو للتأكيد، و إن ورد أمر بطلب عامّ سبق بعض أفراده و تأخّر بعض أفراده الآخر وجب أن يحمل على التخصيص بما طلب أوّلا حتّى يكون تأكيدا، أو بغيره حتى يكون تأسيسا. و أمّا حمله على العموم فيكون تأسيسا و تأكيدا معا فغير جائز، كما في استعمال المشترك في معنييه؛ لأنّ كلّ ما يدلّ على عدم جوازه يدلّ على جوازه أيضا. و لا شكّ أنّه كان وجوب الوفاء

ص: 325

بعقود كثيرة معلوما قبل نزول الآية، فلا يمكن حملها على العموم .. إلى آخر كلامه» (1).

و لكن يدفعه منع موهنيّة شي ء من الأمرين المذكورين لعموم الآية.

أمّا الأمر الثاني- و هو استلزام عمومها استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى واحد، أعني: التأكيد و التأسيس معا- فقد مرّ في المرحلة السابقة منعه بما لا مزيد عليه، فلا نطيل بالإعادة.

و أمّا الأمر الأوّل فلمنع مورثيّة مجرّد تقدّم بعض أفراد العامّ الظنّ بتخصيص العامّ بها بالوجدان، و منع مخصّصيّة مجرّد صلوحه للتخصيص و الصارفيّة بالبرهان و إن قلنا باعتبار ظواهر الألفاظ من باب الظنّ الفعليّ حسب ما تقدّم في المرحلة الاولى تفصيله في الجملة.

مضافا إلى أنّه لو سلّم انصراف عموم العقود إلى المعهود تقدّمه فهو مع ذلك شامل للعقود الفقهيّة، الّتي هي محطّ نظر الفقهاء، لاعتراف المورد في ضمن إيراده بنزول الآية في أواخر عهد النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله و لا شكّ أنّ جميع تلك العقود الفقهيّة قبل نزول الآية كانت متداولة في العرف؛ من حيث النوع بتنصيص الشارع، أو بتقريره و إن لم تتداول من حيث خصوص الأفراد، كما لا يخفى.

و من جملة موهمات الوهن في عموم الآية: ما استشكل به في العوائد (2) أيضا بما يرجع محصّله إلى منع دلالة الآية على لزوم عقد إلّا بعد إحراز الشدّ و الاستيثاق الشرعيّ أو العرفيّ في ذلك العقد؛ لأنّه المفهوم من لفظ «العقد»، و مع إحراز ذلك منه لا حاجة إلى التمسّك بالآية. و إذا توقّف استفادة عموم اللزوم من الآية على إحراز الشدّ و التوثيق فلا ينفع في ما هم بصدده من الاستدلال بالعموم


1- العوائد: 19- 20.
2- العوائد: 20.

ص: 326

في موارد الشكّ على اللزوم، لرجوعه إلى الدور، و توقّف عموم اللزوم للعقد على إحراز الشدّ و التوثيق فيه، و توقّف الشدّ و التوثيق فيه على عموم اللزوم له.

و يدفعه أيضا: أنّه إن أريد من اعتبار الشدّ و التوثيق في مجرى عموم الآية على العقود بناء المتعاقدين و قصدهم عدم الرجوع و تكلّمهم بلفظ قاصدا منه البقاء على مقتضى العقد فيسلّم توقّف مجرى عموم اللزوم من الآية على إجرائه من العرف، إلّا أنّه لا يسلّم عدم الحاجة إلى مجراه حينئذ، لوضوح أنّ الفرق بين الالتزام العرفيّ و إمضاء لزومه شرعا عموم و خصوص مطلق.

و إن أريد من اعتبار الشدّ و التوثيق في معنى العقد معنى آخر وراء ذلك- كما هو صريح كلامه- فهو ممنوع جدّا؛ لما عرفت من أنّ العقد في ما نحن فيه ظاهر بحسب العرف و اللغة في مطلق الشدّ الراجع إلى الالتزام و الاستحكام، سواء علم لزومه عرفا أم لم يعلم حسب ما تقدّم.

و من جملة موهمات و هن العموم: موهمان آخران في العوائد (1)، يرجع محصّلهما إلى منع دلالة الآية على اللزوم، بدعوى: إجمال العقود تارة من جهة تكثير معانيه، كالوصيّة و الأمر و الضمان و اليمين و غير ذلك، فلا معيّن لإرادة ما هم بصدده من معانيه. و تارة أخرى (2) من جهة أنّ معنى العقد و إن كان حقيقة الجمع بين الشيئين بحيث يعسر الانفصال بينهما إلّا أنّ هذا المعنى غير مراد منه، بل المراد منه هو المعنى المجازي، و المجاز متّسع الدائرة؛ لاتّساع علائقه، و عدم معيّن لها، فيجمل المراد من إحدى الجهتين.

و يدفعه: أمّا إجمالا: فلمنع إجمال الآية بأصالة عدم الإجمال و ندوره و قلّته، سيّما من الشارع، فإنّ معناه المبيّن، و وظيفته التبيين، سيّما بالنسبة إلى


1- العوائد: 21.
2- العوائد: 22.

ص: 327

أحكامه، حتّى ادّعوا عدم وجوده في شي ء من أحكام الكتاب و السنّة بالتصدّي لتبيين كلّ ما مثّل به للمجمل في بحث المجمل و المبيّن.

و أمّا تفصيلا: فلأنّ إجمال العقد: إمّا من جهة دعوى اشتراكه بين ما ذكر فلأنّ اشتراكه:

أوّلا: ممنوع بأصالة عدم الاشتراك و النقل، و قلّته و ندوره، و أولويّة المجاز منه، إلّا على المذهب المهجور من القول بأصالة الحقيقة كالسيّد (1).

و ثانيا: لو سلّمنا اشتراكه لكنّه لا يؤثّر إجماله؛ لوجود المعيّن، و المرجّح الدلالتي، و هو أظهريّة ما نحن بصدده من بين معانيه المتقدّمة عرفا، مضافا إلى وجود المعيّن و المرجّح الخارجيّ له، و هو فهم المشهور.

و أمّا من جهة دعوى مجازيّته و دعوى إجمال المجازات لاتّساع علائقها فلما فيه.

أوّلا: من منع صغراه، و هو مجازيّة العقد في العهد الصادر عن المتعاهدين:

بأنّ العقد على ما يظهر من اللغة (2) و العرف هو الشدّ و الوصل بين الشيئين أعمّ من كونه حسّيّا كشدّ الحبل، أم غير حسّيّ كالبيع و أمثاله، لا أنّه حقيقة في الحسّيّ و مجاز في غيره، بل هو مشترك معنويّ بينهما.

و ثانيا: من منع كبراه، و هو إجمال المجاز بواسطة اتّساع علائقه، فإن اتّساع المعاني المجازيّة باتّساع علائقه، لا يؤثّر الإجمال في المراد بعد إعمال قاعدة حمل المنصرف عن معناه الحقيقيّ إلى الأقرب، فالأقرب عرفا من معانيه المجازيّة، إلّا فيما لو فرض تساويهما و عدم الأقربيّة العرفيّة بينها، و إلّا ففيما وجدت الأقربيّة العرفيّة لم يخالف أحد في التعويل عليها من أهل العرف، و لا من


1- الذريعة 1: 10- 11.
2- مجمع البحرين 3: 103.

ص: 328

أهل اللسان، و لا من العلماء، سوى هذا الفاضل.

و أمّا ما يحكى عن نهاية العلّامة من موافقته لهذا الفاضل في القول بإجمال المجاز فغير معلوم، لاحتمال أن يريد من إجماله: إجماله في فرض عدم الأقربيّة العرفيّة، لا مطلقا، أو إجماله من حيث ذاته مع الإغماض عن ضميمة الأقربيّة إليه، و إلّا فلا مجال لإنكار كون الأقربيّة العرفيّة من المرجّحات الدلاليّة المعيّنة للمراد على تقدير إجماله.

و ثالثا: سلّمنا إجماله و عدم الأقربيّة المعيّنة للمراد، إلّا أنّ فهم مشهور الفقهاء جابر و معيّن للمراد من العقود في المقام و إن لم نقل بجابريّته في سائر المقامات.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا: دفع جميع موهمات و هن الآية الشريفة و إحياء دلالتها على كلّ من الصحّة و اللزوم، حتّى يرد المزيل الشرعيّ أو العرفيّ المتفرّع عليه إحياء كلّ ما يشكّ في صحّته و لزومه من العقود بعد إحراز كونه عقدا. فالأصل الأصيل الّذي عليه التعويل هو الصحّة و اللزوم في كلّ ما يشكّ في صحّته أو لزومه من العقود، لكنّه بعد إحراز صدق العقد عليه عرفا، الّذي هو عبارة عن الشدّ و الاستحكام الراجع إلى اعتبار التلفّظ بالصيغة الدالّة عليه، مضافا إلى اعتبار الاثنينيّة و لو بالاعتبار.

و من هنا يعلم ضعف تسمّك من تمسّك بعموم تلك الآية (1) على صحّة بيع المعاطاة و عدم مجرى لشمول عمومها المعاطاة؛ لأنّ نهوض العموم فرع صدق موضوع العامّ المنتفي صدقه عن المعاطاة، لعدم التلفّظ باللفظ الدالّ على الشدّ و الاستحكام في بيع المعاطاة، فلا بدّ من الركون في صحّتها إلى عمومات أدلّة أخر، كما لا يخفى.


1- المائدة: 1.

ص: 329

ثمّ إنّ الكلام في صحّة بيع المعاطاة و فساده يقع تارة في تشخيص محلّ النزاع و موضوعه المستنبط، و تارة في تشخيص حكمه.

أمّا الكلام في محلّ النزاع الّذي هو من الموضوعات المستنبطة فيقع من جهتين:

إحداهما: في تشخيص ما يعتبر في محلّ النزاع من قصد التمليك أو الإباحة.

الثانية: في تشخيص ما يعتبر في محلّ النزاع في المعاطاة من سائر شروط العوضين و المتعاوضين، و ما لا يعتبر منهما في المعاطاة.

أمّا الكلام في تشخيص محلّ النزاع من الجهة الأولى فالظاهر أنّ محلّ النزاع إنّما هو في المعاطاة المقصود بها التمليك، لا الإباحة، و لا مجرّد الإعطاء لتناول ما في يد صاحبه لجميع وجوه أنحاء المشخّص للموضوعات المتنازع فيها: من تصريح جماعة منهم عليه، و دلالة تعليلاتهم على الصحّة و الفساد عليه، تصريحا و تلويحا حسب ما تعرّض الماتن (1) لبسطه. و من مشاهدة أنّ الواقع المتداول في أيدي الناس هو المعاطاة بقصد التمليك، لا الإباحة.

و من أنّ المتبادر من بيع المعاطاة عرفا عدم الفرق بينه و بين البيع المشتمل على العقد إلّا الصيغة، و أنّهم يقصدون فيه كلّ ما يقصدون به في بيوعهم. و من أنّ قصد الإباحة فيها ينافي ما ترتّب عليها على القول بالصحّة من جواز الوطء و العتق و البيع و غير ذلك من آثار الملكية. و احتمال إلغاء الشارع للأكثر المقصود و ترتّب أثر الملكيّة عليه شرعا بالجعل الشرعيّ تعبّدا بعيد:

أوّلا: بقلّة النظير له في المعاملات شرعا، أو عدم النظير له رأسا.

و ثانيا: بعدم دليل عليه شرعا، و عدم إشعار كلامهم بالاستناد إليه.


1- المكاسب: 82- 83.

ص: 330

و ثالثا: بعدم بناء الشارع في المعاملات على الجعل، مضافا إلى أنّ المعاطاة و إن كانت أمرا عرفيّا لكنّها موضوع مستنبط يتعلّق عليها أحكام الشرع، و تحصيل هذا الموضوع ليس من الأمور التعبّدية شرعا أو عرفا، بل للشخص تحصيل كيفيّته بحسب عمل نفسه و عمل غيره. و لا ريب أنّ من راجع نفسه في معاملة المعاطاة رأى أنّه لم يقصد بفعله عند التعاطي سوى التمليك و التملّك.

فتلخّص بكلّ واحد من تلك الوجوه الخمسة تشخيص كون المقصود من المعاطاة التمليك و التملّك. و إن أبيت فلا أقلّ من إفادة تراكمها الظنّ باعتبار التمليك.

و من المعلوم المقرّر في محلّه كفاية مطلق الظنّ في الموضوعات المستنبطة.

نعم، الذي يوهم إرادة الإباحة في محلّ النزاع من المعاطاة أمران:

أحدهما: تعليل غير واحد من القائلين بفساد المعاطاة: بأنّه ليس بيعا؛ نظرا إلى أنّ صحّة السلب من علائم المجاز، كما أنّ عدمها من علائم الحقيقة.

و يدفعه: أنّه و إن كان بملاحظة نفسه ظاهر في إرادة نفي الماهيّة إلّا أنّه بملاحظة أظهريّة كلماتهم الأخر، بل و بعض تصريحاتهم محمول على إرادة نفي اللزوم.

و ثانيهما: اتّفاقهم- ظاهرا- على أنّ المعاطاة إن صحّت فلا تفيد سوى الإباحة، فصحّة حمل الإباحة عليها أمارة حقيقيّة فيها، كما أنّ عدم صحّة الحمل أمارة عدم الحقيقة، فمع قصد الملك و عدم الإباحة لا منشأ لإباحة التصرّف، إذ الإباحة إن كانت من المالك فالمفروض أنّه لم يصدر منه إلّا التمليك، و إن كانت من الشارع فالمفروض:

أوّلا: عدم الدليل عليه شرعا، بل و عدم إشعار كلامهم بالاستناد إليه.

ص: 331

و ثانيا: بقلّة النظير له شرعا، أو عدمه رأسا.

و ثالثا: بعدم بناء الشارع في المعاملات على إلغاء الأثر المقصود، و ترتيب أثر جعليّ من عنده، و مقتضى ذلك كون المقصود من المعاطاة الإباحة دون التمليك، أو التمليك من جهة اعتقاد أنّه يؤثّر التمليك و الجهل عن كونه لا يؤثّره، ضرورة استحالة توجّه القصد إلى تحصيل ما يعلم عدم حصوله.

و يندفع أيضا: إمّا على ما أشار إليه الكركيّ (1) من تفسير الإباحة المحمولة على المعاطاة على الملك الجائز- ناقلا إيّاه عن كلّ القائلين بالإباحة في المعاطاة- فلعدم منافاته للتمليك المطلق المقصود.

و إمّا على الأخذ بظاهر قول المجمعين على الإباحة في المعاطاة فلما ستعرف من عدم استلزام التمليك للتملّك و حصول أثر الملك. كما أنّ تكسير شي ء لا يستلزم انكسار ذلك الشي ء و قبوله الأثر، بل يدور مدار قابليّة محلّ التأثير للتأثّر من الخارج.

و إن أبيت عن ذلك فلا نابي من الالتزام بأنّ التمليك المقصود من المعاطاة تمليك معلّق على إمضائه في نظر العرف أو الشرع، لا تمليك منجّز حتّى ينافيه الحكم عليه في الخارج بالإباحة. أو بأنّه ليس تمليكا فقط، بل هو تمليك مع الإباحة على وجه التعدّد المطلوبي، لا التقييديّ حتّى ينتفي أحدهما بانتفاء الآخر في الخارج.

و إن أبيت عن ذلك أيضا فلا نابي من الالتزام بكون الإباحة المترتّبة على المعاطاة إباحة شرعيّة بالأشباه و النظائر الآتية في المتن في منع استتباع العقود للقصود؛ لأنّه و إن بعّده ما ذكر إلّا أنّه مع لا مناص عنه بعد دوران الأمر بين الالتزام به، أو الالتزام بما هو أبعد منه جدّا، و هو الالتزام بقصد الإباحة في


1- جامع المقاصد 4: 58.

ص: 332

المعاطاة، أو الالتزام بمخالفة الأصل الأصيل، و هو إفادة المعاطاة التمليك من غير دليل حسب ما يأتي الكلام فيه بالتفصيل.

فإن قلت: النزاع في أنّ المعاطاة حكمه الملك أو الإباحة مبنيّ على تأصّل الأحكام الوضعيّة و استقلالها. و أمّا بناء على انتزاعها من الأحكام التكليفيّة- كما هو التحقيق الّذي عليه المحقّقون منهم الماتن في أصوله (1)- فلا موقع لهذا النزاع و لا محلّ.

قلت: لو كان النزاع في أنّ المعاطاة تفيد الملكيّة أو الإباحة لكان مبنيّا على ما ذكر، إلّا أنّه ليس في الملكيّة و الإباحة، و إنّما هو في الملك و الإباحة.

و فرق الملك عن الملكيّة كفرق الملزوم عن لازمة الأعمّ، و السبب عن السببيّة و البول- مثلا- عن الناقضيّة، فلا يخفى كما خفي.

قوله: «بل لم نجد قائلا به إلى زمان المحقّق الثاني .. إلخ».

أقول: بل استكشف شيخنا العلّامة من عدم وجود قائل به من صدر الإسلام إلى زمان الكركيّ الّذي يقرب من تسعمائة سنة الإجماع بجميع أنحائه و أقسامه و طرقه، من القدماء و المتأخّرين، و القوليّ و الفعلي، و المحصّل و المنقول، و اللطفيّ و التقريري، و العادي و غيرها.

ثمّ إنّه لو سلّمنا عدم استكشاف الإجماع بجميع أقسامه من ذلك فلا أقلّ من استكشافه عن مدرك ظنّيّ و لو كشفا ظنّيّا، و به الكفاية لاندراجه تحت الظنون الخاصّة. بل لو تنزّلنا فلا أقلّ من استكشافه عن الظنّ الاطمئنانيّ بالواقع، و به الكفاية في الاعتبار حتّى عند من لم يكتف بمطلق الظنّ.

قوله: «للسيرة المستمرّة على معاملة المأخوذ بالمعاطاة معاملة الملك .. إلخ».


1- فرائد الأصول: 350- 351.

ص: 333

أقول: و يمكن الإيراد عليه نقضا: باستمرار سيرة أكثر الناس في عباداتهم على عدم تحصيل مسائلها و شروطها، كما هو حقّه من التقليد أو الاحتياط، و في معاملاتهم على شركة الأبدان، و شركة الوجوه و في الإجارة بقولهم: «كلّ يوم» أو «كلّ شهر بكذا من الثمن» مع عدم تعيين المدّة، و غير ذلك من المعاملات الفاسدة، و في سياساتهم على ضرب الأطفال الصغر و المماليك و الخدّام و النسوان و عقوبتهم بالعقوبات الفاحشة الفاجرة لأدنى جناية، بل و لغير جناية من ترك أدب و نحوه، و على التعرّض لإعراض الناس في غيابهم، و على السبّ و الاستهزاء و السخرية في حضورهم، و على المزاح بظواهر ما يعدّ من أنواع التجرّي المحرّم، إلى غير ذلك من سيراتهم الناشئة عن المسامحة و قلّة المبالاة في الدين.

و حلّا: بأنّ السيرة المذكورة على ترتّب آثار الملكيّة على المعاطاة إنّما تكشف عن رضا المعصوم لو لا قيام الإجماع المتقدّم على خلافه إلى زمان المحقّق الثاني. مضافا إلى أنّ السيرة إنّما هي على إباحة التصرّفات المشتركة بين الملك و عدم الملك: من البيع و الوطء و العتق و الإيصاء، لا على ترتّب الآثار المختصّة بالملك: كالتوريث و التخميس و التزكية ..، إلى آخر ما في المتن (1).

قوله: «و يدلّ عليه أيضا عموم قوله تعالى وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ (2)».

أقول: و يمكن منع دلالته، لكن لا لمنع صدق البيع على بيع المعاطاة حتى يعدّ مكابرة؛ لأنّ البيع هو مبادلة مال بعوض، و هو حاصل في المعاطاة قطعا.

و لا لمنع عموم البيع كما قيل حتّى يدفعه: أنّه و إن لم يكن عمومه لفظيّا إلّا أنّ فيه عموم حكمتي يقتضيه حكمة دليل العقل.

و لا لانصراف عمومه عن بيع المعاطاة حتّى يدفعه: عدم وجود سبب من


1- المكاسب: 83.
2- البقرة: 275.

ص: 334

سببي الانصراف، و هما غلبتي الوجود و الاستعمال في خلاف المعاطاة، بل إنّما هو لأجل أنّ تحليل البيع كما يحتمل أن يدلّ بالمطابقة على صحّة البيع عرفا، أو على حلّيّة جميع التصرّفات المترتّبة على البيع حتّى المتوقّفة على الملك الدالّ بالالتزام على حصول الملك من المعاطاة كذلك يحتمل دلالته على حلّيّة التصرّفات في الجملة في قبال حرمته الربا؛ ليكون إطلاقه واردا مورد بيان حكم آخر، أو على إمضاء ما يترتّب عرفا أو شرعا على البيع من التصرّفات، إن مالكيّة فمالكيّة، و إن غير مالكيّة فغير مالكيّة، فلا يدلّ إلّا على مجرّد الإمضاء و التأكيد و الإرشاد إلى ما هو المتداول الثابت عرفا أو شرعا على البيع، فيكون تشخيص آثار البيوع موكولة إلى المشخص الخارجي، و الآية (1) تدلّ على مجرّد إمضاء ما هو الثابت في الخارج تأكيدا له، لا مستفادة من دلالة الآية كما قيل به في دلالة آية أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (2).

و حينئذ فإن لم نقل بظهور تحليل البيع المقابل لتحريم الربا في أحد المعنيين الآخرين فلا أقلّ من الشكّ في ظهوره في أحد المعنيين الأوّلين أيضا، و به الكفاية في بطلان الاستدلال، فتأمّل جدّا، فإنّ كلّا من احتمالي التأكيد و الورود مورد حكم آخر لعلّه مخالف لأصل أصيل إن لم يخالف ظاهر الدليل.

و ممّا ذكرنا يظهر سبيل المناقشة في التمسّك بآية تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (3) على حصول الملك من المعاطاة من غير زيادة و نقصان، فإنّ الآيتين قريب المؤدّى جدا.

قوله: «لأنّ عمومه باعتبار أنواع السلطنة».

[أقول:] و ربّما يبعد بأنّ عموم التسليط و إن كان باعتبار أنواع السلطنة-


1- البقرة: 275.
2- المائدة: 1.
3- النساء: 29.

ص: 335

أعني: التسليط في نوع البيع، و نوع الإجارة، و نوع الهيئة، و نوع الوقف، و غيرها من أنواع التمليك دون التسليط باعتبار أفراد كلّ واحد من تلك الأنواع- إلّا أنّ إخراج فرد كالمعاطاة عن تحت أفراد نوع البيع و إن أوجب التقييد بالأصالة في نوع البيع لا في عموم التسليط إلّا أنّه بالواسطة يرجع أيضا إلى تقييد العموم، و هو خلاف الأصل و العموم، ضرورة أنّ التقييد مخالف لأصالة الإطلاق من غير فرق بين تعلّقه بالعموم بالأصالة أو بالتبع، لتعلّقه بفرد نوع من الأنواع المندرجة في العموم، و هو «كرّ على ما فرّ».

فإن قلت: غرض الماتن من توجيه العموم إلى أنواع السلطنة ورود عمومه مورد بيان حكم الأنواع دون الأفراد، فتكون الأفراد غير ملحوظة في العموم حتّى يعدّ خروج بعضها تخصيصا، بل هو تخصّص لا تخصيص.

قلت: التفصّي عن عموم التسليط (1) بدعوى ورود إطلاقه مورد بيان حكم آخر و إن لم يوجب «الكرّ على ما فرّ» عنه من العموم إلّا أنّه يحتاج إلى الإثبات و البرهان، إذ لا أقلّ من مخالفته الأصل و الظهور، إذا الورود مورد بيان حكم آخر أمر يحتاج إلى القرينة العرفيّة عليه، و إلّا لأمكن التفصّي عن كلّ عموم بمجرّد احتماله، حتّى عن عموم العلماء لكلّ فرد من أفراد نوع من أنواعهم و أصنافهم.

نعم، يمكن توجيه التفصّي عن عموم التسليط للزوم المعاطاة بوجه وجيه آخر، لعلّه مقصود الماتن أيضا و إن قصر عنه تعبيره- و هو أن يقال: إنّ عموم التسليط و إن فرض فيه ما فرض من السعة و الشمول لجميع الأنواع و الأفراد- إلّا أنّه مع ذلك لا يستلزم حصول التسليط في جميع محالّه و أسبابه، بل يدور حصول التسلّط و التأثّر مدار قابليّة ذلك المحلّ و السبب للتأثّر في الخارج بمجرّد قصد التسليط و عدم قابليته له.


1- عوالي اللئالي 1: 222 ح 99.

ص: 336

كما أنّ عموم التكسير و التأثير لا يستلزم حصول الانكسار و قبول التأثّر في جميع محالّه و أسبابه، بل يدور مدار قابليّة ذلك المحلّ للتأثّر بذلك السبب و عدمه، فكما أنّ عدم قابليّة بعض المحالّ للتأثّر بكلّ سبب من أسباب التأثير يرجع إلى التخصّص لا إلى تخصيص عموم التأثير ببعض أفراده كذلك عدم حصول التملّك بمجرّد قصد التمليك في المعاطاة على القول به يرجع إلى التخصّص، لا إلى التخصيص في عموم التسليط حتّى يدفعه أصالة عدم التخصيص و التقييد. كما أنّ مرجع كلّ ما يستند عدم تأثّره بتأثير المؤثّر إلى عدم قابليّة المحلّ و السبب إنّما هو إلى التخصّص لا التخصيص.

ألا ترى أنّ عدم قابلية الضدّين للاجتماع لا يجدي تخصيصا في عموم قدرته تعالى على كلّ شي ء.

فظهر ممّا ذكرنا: ضعف تمسّك من تمسّك على حصول التملّك بالتعاطي بعموم «الناس مسلّطون» (1)، و ضعف من تمسّك أيضا بعمومه لنفي شروط العقد و الصيغة بالعربية و الماضويّة، و تقدّم الإيجاب، و صحّة التمسّك به لنفي شروط المتعاقدين. و أمّا شروط العوضين فستعرف جواز التمسّك به لنفي بعضها دون بعض.

قوله: «منها: أنّ العقود و ما قام مقامها لا تتبع القصود».

أقول: و يمكن الجواب عن التزام ذلك للقول بإباحة المعاطاة.

ثالثا- علاوة على الجوابين اللذين في المتن- بالتزام: أنّ المقصود من المعاطاة مجرّد إعطاء شي ء لتناول شي ء آخر من غير قصد الإباحة، و لا التمليك حتّى يلزم تخلّف العقود عن القصود، بل لمجرّد قصد تناول ما في يد صاحبه، كما هو المقصود من معاطاة المدلّس الغاشّ صاحبه بشي ء من أنواع التدليس و الغشّ


1- عوالي اللئالي 1: 222 ح 99.

ص: 337

بإعطاء الفلوس القلّب و الدراهم الصوريّة، أو نحو ذلك ممّا يكون مقصوده من التعاطي مجرّد تناول ما في يد صاحبه و لو على وجه السرقة و الحرمة، إلّا أنّه يعطيه بدل ما أخذ منه، لا من باب إباحته أو تمليكه له، بل من باب القهر و الإكراه لأجل إسكاته عن المخاصمة و المطالبة حياء أو خوفا منه أو من الناس، كما هو المتداول ظاهرا من معاطاة غالب الفجّار و الفسّاق الّذين لا يبالون عن شي ء من أنواع المحرّمات، أعاذنا اللّٰه من القساوة.

و الفرض من ينتظر المتعاطي بالمدلّس الغاشّ، في عدم قصد التمليك و لا الإباحة ليس إلّا دفع ما زعمه الماتن من «امتناع خلوّ الدافع عن قصد عنوان من عناوين البيع» (1).

و رابعا: بالتزام قصد مجرّد إباحة التصرّفات من المعاطاة دون قصد التمليك.

و خامسا: بالتزام قصد الإباحة و التمليك على وجه التعدّد المطلوبيّ دون التقييدي، أعني: تقييد الإباحة بالتمليك حتّى تتخلّف العقود عن القصود عند القائل بإفادة المعاطاة الإباحة لا التمليك، فيكون المقصود في المعاطاة الإباحة و التمليك الناشئ عن زعم حصوله بالمعاطاة، و جهلا أو تجاهلا عن عدم حصوله بها.

و سادسا: بالتزام قصد التمليك المعلّق على تحقّقه في نظر العرف، أو إمضائه في نظر الشرع، فما دام لم يتحقّق عرفا أو لم يمض شرعا بالإجماع المفروض فهو باق على الإباحة بالإذن الفحوي، أو شاهد الحال، إذ لعلّ الالتزام بكلّ من هذه الالتزامات الستّة أهون من الالتزام بمخالفة أصل أصيل من غير دليل، أعني: مخالفة أصالة عدم التمليك بالمعاطاة من غير دلالة لفظ عليه.


1- المكاسب: 81.

ص: 338

قوله: «و منها قصر التمليك على التصرّف .. إلخ».

[أقول:] و توضيح ذلك بعبارة اخرى: أنّ فرض كون التصرّف مملّكا على القول بالإباحة في المعاطاة يستلزم كون المتصرّف في تمليك نفسه موجبا قابلا.

و فيه: أوّلا: النقض بجميع الإباحات الّتي يكون التصرّف فيها مملّكا في الهدايا و الضيافات و غيرهما المتقدّمة في الذكر.

و ثانيا: الحلّ بأنّ التصرّف في المعاطاة إن جعلناه من النواقل القهريّة- كما هو الأقوى و الأظهر- فلا يستلزم كون المتصرّف قابلا و لا موجبا. و إن جعلناه من النواقل الغير القهريّة فغاية ما يستلزم كونه موجبا، و أمّا كونه مع ذلك قابلا فلا.

و لو سلّمنا استلزام كونه موجبا و قابلا معا فنمنع استبعاد اللازم لوقوع الأشباه و النظائر الكثيرة له في الشرع:

منها: رجوع الزوج إلى مطلّقته الرجعيّة قبل قضاء عدّتها، حيث إنّ مجرّد رجوعه بلمس أو تقبيل يعدّ شرعا منزلة الإيجاب و القبول معا.

و منها: إيجاب الموكّل في العقد لنفسه، حيث إنّه كاف و مجزئ عن القبول في تحقّق العقد على القول بصحّته.

و منها: الآخذ بالشفعة فإنّه أيضا موجب و قابل.

و منها: الفاسخ بالخيار فإنّه أيضا كذلك.

قوله: «و ذلك جار في القبض .. إلخ».

[أقول:] و فيه: أوّلا: أنّه إن أراد جريانه في القبض و لو مع وجود الفرق المثمر بينهما فهو لا يثبت دعوى مساواة الفرضين، أعني: مساواة فرض الالتزام بالإباحة مع فرض الالتزام بالتمليك في المعاطاة، فضلا عن دعوى أولويّة الثاني من الأوّل.

و إن أراد جريانه في القبض من غير فرق مثمر بين الفرضين فهو ممنوع

ص: 339

جدّا، إذ من جملة فروقه و ثمراته: كون النماء الحاصل قبل القبض تابع لأصله على تقدير عدم جريانه في القبض، و غير تابع على تقدير جريانه.

و ثانيا: سلّمنا جريانه في القبض على وجه المساواة و عدم الفرق، بل الأولويّة إلّا أنّه مع ذلك لا يستلزم مساواة الفرضين في الحكم، ضرورة أنّ مساواة القبض للتصرّف في الرجوع إلى الإيجاب و القبول في المعاطاة، بل و أولويّته أيضا لا يستلزم مساواتهما في الحكم، أعني: المملكية، إلّا على حجّيّة القياس الّذي ليس من مذهبنا، بل و لا من مذهب مخالفينا في مثل المقام المفروض قيام الإجماع على خلافه.

قوله: «لا أنّ الوجوه المذكورة تنهض في مقابل الأصول و العمومات».

[أقول:] أي: في مقابل أصالة عدم ملكيّة التعاطي و عمومات «لا عتق إلّا في ملك» (1).

و فيه: أنّه كيف لا تنهض هذه الاستبعادات في مقابل تلك الأصول و العمومات؟ مع أنّها لا تقصر عمّا ينهض من الظنون العاديّة في مقابل أصالة عدم الدخول بالزوجة مع الخلوة التامّة، و عدم النفقة مع المعاشرة العامّة، و أصالة الطهارة و عدم النجاسة في غسالة الحمّام، و طين الطرق، و سؤر المتّهم من الصبيان و النسوان و الكفّار و المخالفين، و فراوي العراق المنهيّ الصلاة فيها، معلّلا بأنّهم يستحلّون الميتة بالدباغة (2)، إلى غير ذلك من موارد تقديم الظاهر على الأصل.

قوله: «و لا من القائم مقامها شرعا».

[أقول:] فيه منع؛ لأنّ التعاطي و إن لم يكن من العقود المعتبر في تحقّقها الإيجاب و القبول إلّا أنّه من القائم مقامها شرعا و عرفا في أغلب متاجرهم


1- عوالي اللئالي 3: 421 ح 3.
2- الوسائل 2: 1081 ب «61» من أبواب النجاسات ح 4.

ص: 340

و مكاسبهم و مقاصدهم، بل في ما عدا النكاح و الطلاق من جميع عقودهم و إيقاعاتهم و نقلهم و انتقالاتهم، للإجماع و السيرة القطعيّة الكاشفة عن صحّتها و قيامها مقام العقود عرفا و شرعا، كتابا و سنّة بعموم أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ (1)، و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (2)، و «الناس مسلّطون» (3).

قوله: «تبعيّة العقد للقصد و عدم انفكاكه عنه إنّما هو لأجل دليل صحّة ذلك العقد .. إلخ».

[أقول:] أي: لأجل قاعدة كلّيّة تبعيّة مطلق الأحكام الشرعيّة لأساميها، أي: موضوعاتها العرفيّة، و عدم انفكاكها عنها شرعا و عرفا، و دورانها مدارها وجوبا و عدما، كما لا يخفى على المتتبّع.

قوله: «السبب الفعلي لا يقوم مقام السبب القوليّ في المبايعات».

[أقول:] فيه ما عرفت من قيام الكتاب و السنّة و الإجماع و السيرة الوضعيّة على قيام التعاطي مقام السبب القوليّ في ما عدا النكاح و الطلاق في إقالة مطلق التملّك أو التمليك المطلق.

قوله: «تخلّف العقد عن مقصود المتبايعين كثيرة .. إلخ».

[أقول:] فيه: منع التخلّف أوّلا: بأنّ تبعيّة العقود خاصّة بالعقود الصحيحة.

و ثانيا: بأنّ التخلّف في موارده إنّما هو عن بعض المقصود بطروّ دليل، أو ضميمة قاعدة خارجيّة، بخلاف التخلّف عمّا نحن فيه.

و ثالثا: لو فرضنا التخلّف الكلّيّ أحيانا بمخرج خارجيّ فلا يقدح في كلّيّة القاعدة. كما أنّ العامّ المخصّص حجّة في الباقي، و تخصيص القواعد و العمومات غير عزيز.


1- البقرة: 275.
2- النساء: 29.
3- عوالي اللئالي 1: 222 ح 99.

ص: 341

قوله: «لإفادة العقد الفاسد الضمان عندهم في ما يقتضيه صحيحه».

[أقول:] و هذا معنى قولهم: «كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، و كلّ ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده»، يعني: كلّ ما كان من العقود يترتّب الضمان على صحيحه- كعقد النكاح و نحوه- يترتّب الضمان على فاسدة لو فسد بتخلّل بعض شروط صحته، و كلّ ما كان منها لم يترتّب على صحيحه ضمان- كالهبة و الهديّة- لم يترتّب الضمان على فاسدة لو فسد بتخلّل شروط صحّته، و مأخذ هذه القاعدة كقاعدة «أنّ العقود تابعة للقصود» هو الاستقراء المحصّل من التتبّع في كلمات الشرع أو المتشرّعة الكاشفة عنه في باب المعاملات، كما هو المأخذ في أكثر قواعد باب المعاملات.

قوله: «فيكون كتصرّف ذي الخيار و الواهب فيما انتقل عنهما بالوطء و البيع و العتق و شبهها».

أقول: وجه الشبه: أنّ تصرّف ذي الخيار و الواهب بالوطء و نحوه كما يوجب لزوم الهبة و رفع الخيار كذلك تصرّف المتعاطي في المال المأخوذ بالمعاطاة يوجب لزوم المعاطاة.

لا يقال: إنّ التصرّف ملزم للتمليك في المشبه به فيقتضي أن يكون كذلك في المشبه، و الحال أنّ المقصود كونه ملزما للإباحة في المشبه و هو المعاطاة، فتشبيه المعاطاة ببيع الخيار و الهبة نقض للغرض الّذي هو في صدده من إفادة المعاطاة الإباحة، لا التمليك.

لأنّا نقول: الغرض المقصود من التشبيه: تشبيهه به في مجرّد ترتّب اللزوم على التصرّف و إن كان تعلّق اللزوم في المشبه به التمليك و في المشبه الإباحة و لكنّ الأشبه مع ذلك هو تشبيه مملّكية التصرّف في المال المتعاطي بمملّكية العتق و التصدّق عمّن وكّلك بقوله: «أعتق عبدك عنّي» أو: «تصدّق بمالك عنّي»،

ص: 342

فكما أنّ العتق و التصدّق عن الموكّل يقتضي بقاعدة «لا عتق إلّا [في] ملك» و نحوه الكشف عن سبق الملك على العتق و التصدّق آنا ما كذلك عتق الأمة المأخوذة بالمعاطاة أو وطؤها كاشف عن سبق الملك عليهما آنا ما، آخذا بمقتضى الجمع بين أصالة عدم الملك، إلّا في الزمان المتيقّن بوقوعه، و بين دليل جواز التصرّف المطلق و أدلّة (1) توقّف بعض التصرّفات على الملك.

فكما أنّ قول القائل: «أعتق عبدك عنّي» يدلّ بدلالة الاقتضاء على تمليك العبد إيّاه لتوقّف صحّة العتق عليه شرعا كذلك إباحة المتعاطيان التصرّف في المال المتعاطي- الّذي من جملته العتق و الوطء- تدلّ بدلالة الاقتضاء على مملّكيّة العتق و الوطء له؛ لتوقّفهما على الملك شرعا.

ثمّ إنّ المعيار المائز بين التصرّفات المملّكة للمال المأخوذ بالمعاطاة، و بين الغير المملّكة له بناء على إفادة المعاطاة الإباحة دون التمليك: هو أنّ كلّ تصرف كان من قبيل التصرّفات الموجبة للضمان أو الأرش أو الإضرار على صاحب المال فهو من التصرّفات المملّكة للمتعاطي، و كلّ تصرّف لم يوجب شيئا ممّا ذكر لم يكن مملّكا له، فلا يخفى.

قوله: «فهو استبعاد محض».

[أقول:] أي: استبعاد من غير مستبعد، و فرض السيرة مستبعدة رجوع إلى السيرة، و قد عرفت و هن اعتبارها بالنقض و الحلّ السابقين، فلا وجه لتعداد ما يزعمه الجاهل متعدّدا، و الحال أنّ مرجع جميعها إلى السيرة الموهون اعتبارها بالنقض و الحلّ، مع أنّ تعلّق الاستطاعة الموجبة للحجّ و تحقّق الغنى المانع عن استحقاق الزكاة لا يتوقّفان على الملك، بل يتوقّفان على القدرة، و لهذا يحكمون باستطاعة من بذل له الزاد و الراحلة و بغنى من كان له حرفة أو صنعة أو قدرة على


1- الوسائل 16: 6 ب (5) من أبواب العتق.

ص: 343

اكتساب ما يكفي مئونة سنته.

نعم، الّذي يتوقّف على الملك ظاهرا، كتعلّق الخمس و الزكاة، و أداء الديون، و حقّ الشفعة، و الميراث، لا استبعاد في الالتزام بانتظار تصرّف أحد المتعاطيين في المال المتعاطي بناء على عدم إفادة المعاطاة التملّك. و هل تجد من نفسك استبعادا في الالتزام بتوقّف حقّ الشفعة على تصرّف المشتري في الدار المشفع بالدخول أو السكون فيه آنا ما، و بتوقّف الزكوات و الديون على تصرّف المتعاطيين في المال المتعاطي؟

نعم، إن كان استبعاد فإنّما هو ناشئ إمّا عن توهّم استلزام القول بالإباحة المجرّدة، لعدم تعلّق شي ء من الزكوات و الديون و حقّ الشفعة بما في يد المتعاطيين مطلقا و لو تصرّفا فيه، لا في خصوص فرض ما إذا لم يتصرّفا فيه بعد.

و إمّا ناشئ عن استبعاد أصل تحقّق فرض عدم التصرّف في ما في اليد من المال المأخوذ بالتعاطي إلى أن يورث، أو يصير معرضا لتعلّق الأخماس و الزكوات و نحوهما، لا عن استبعاد حكم الفرض بعد تحقّقه.

و بعبارة اخرى: أنّ الاستبعاد ناشئ عن أصل ندور وقوع الفرض و تحقّقه بحيث كاد أن يلحق و عدم بالمعدومات و الفرضيّات البحتة، لا أنّه ناشئ عن استبعاد الحكم ببقاء الإباحة و عدم التملّك على الفرض بعد وقوعه و تحقّقه في الخارج، فتدبّر فإنّ كثيرا من الاستبعادات المتعلّقة بالأحكام راجعة بعد التأمّل و التدرب إلى أصل ندور تحقّق موضوعاتها، لا إلى نفس الحكم بعد تحقّق موضوعه.

قوله: «كما يقدّر ملكية المبيع للبائع و فسخ البيع من حين التلف استصحابا لأثر العقد».

أقول: و لتقدير الملكية في الفقه أشباه و نظائر أخر يقرّب تقديره في ما نحن فيه، بل يعيّنه لاتّحاد المناط الباعث على الالتزام به فيها مع الباعث على الالتزام

ص: 344

به في المعاطاة:

فمنها: الإجماع على صحّة العتق و التصدّق بمالي عن الغير إذا قال لي:

«أعتق عبدك عنّي»، أو «تصدّق بمالك عنّي» و الرجوع إليه في ثمن المعتوق و الصدقة، مع أنّ صحّة العتق و التصدّق عن شخص و الرجوع إليه في قيمة العبد و التصدّق كلّها من آثار الملكيّة، و لمّا لم يكن فيه ملكية قديمة التجأوا إلى تقدير الملكيّة المستحدثة قبل العتق و التصدّق آنا ما.

و منها: جواز وطء الغاصب الجارية المبتاعة بالثمن المغصوب مع علم البائع بغصبيّة ثمنها، و جواز تصرّف الغاصب بجميع التصرّفات المالكيّة في ثمن المبيع المغصوب مع علم المشتري بغصبيّة المثمن، مع أنّ الوطء و نحوه من التصرّفات من آثار تملّك الغاصب ثمن المغصوب أو مثمنة، و الحال أنّ مجرّد إباحة المال المبذول له بإزاء رفعه اليد عن المغصوب لا يثبت الملكيّة القديمة له، فلا بدّ من تقديرها في التصرّفات المالكيّة.

و منها: الأكل و الشرب و غيرها من التصرّفات المباحة للشخص اختيارا في مال الضيافة و الهديّة، و قهرا في حقّ المارّة و غيره من الإباحات المجّانية المترتّب عليها بعض آثار الملكيّة.

إلّا أن يقال بما قاله الشهيد في قواعده: من أنّه لا ضرورة إلى التقدير هنا (1)، و هو مبنيّ على كون الأكل و الشرب من آثار مجرّد الرضا، لا الملكيّة حتى يحتاج إلى تقديرها، و هو قويّ نظرا إلى قوله تعالى لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (2)، و لم يقل: إلّا عن ملك، و «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفسه» (3)، و لم يقل: إلّا عن ملك.


1- القواعد و الفوائد 1: 69.
2- النساء: 29.
3- عوالي اللئالي 2: 113 ح 309.

ص: 345

و منها: انعتاق كلّ من العمودين على المشتري بمجرّد الشراء، حيث قدّروا الملك فيه قبل الانعتاق و بعد الشراء آنا ما، تحفّظا على قاعدة «لا عتق إلّا في ملك».

و منها: ما عن جماعة من الأصحاب: من تمليك الوكيل عوض ما يشتريه لنفسه من مال الموكّل، و ثمن ما يبيعه لنفسه من أعيان مال الوكيل إذا قال له:

«اشتر لنفسك من مالي ذلك الشي ء»، أو: «بع لنفسك ذلك العين من أعيان مالي»، مع أنّ تمليك الوكيل ما يشتري لنفسه من مال الموكّل له في شرائه لنفسه، أو ثمن المبيع الموكّل في بيعه لنفسه من آثار تملّكه ذلك المال، و المبيع الموكّل في بيع لنفسه من آثار تملّكه ذلك المال و المبيع، و لمّا لم يكن له ملكيّة قديمة بمجرّد التوكيل فلا بدّ من تقديرها لئلّا يلزم تخلّف قيام الثمن في غير مقام المثمن، و بالعكس.

إلى غير ذلك من موارد عدم الملكيّة القديمة المترتّب عليها آثار الملكية كلّا أو بعضا، فإنّها من الأشباه و النظائر المقرّبة لتقدير الملك في ترتّب الآثار الملكيّة على المعاطاة، و من موارد نقض استبعاد ترتّب التصرّفات المالكيّة عليها مع إفادتها الإباحة دون الملكيّة القديمة.

و حلّ ذلك النقض و تفصيل ذلك الإجمال: أنّ الجمع بين دليل إباحة التصرّفات المالكيّة الغير المنفكّة عن الملك في تلك الموارد المذكورة و بين دليل عدم الملكيّة فيها و أصالة عدمها إلّا في الزمان المتيقّن كما يقتضي الالتزام بتقدير الملك في آخر أزمنة إمكان تقديره في تلك الموارد، كذلك الجمع بين دليل ترتّب التصرّفات المالكية الغير المنفكّة عن الملك على المعاطاة و بين دليل الإجماع المتقدّم على عدم إفادتها الملكيّة و أصالة عدمها إلّا في الزمان المتيقّن يقتضي تقدير الملك قبل صدور التصرّفات المالكيّة و ترتّبها على المعاطاة آناً ما.

ص: 346

و إن شئت قلت: كما أنّ دليل إباحة جميع التصرّفات حتّى المتوقّفة على الملك يدلّ بدلالة الاقتضاء على تقدير الملك في تلك الموارد المذكورة، كذلك دليل إباحة جميع التصرّفات حتّى المتوقفة على الملك في المعاطاة يدلّ بدلالة الاقتضاء على تقدير الملك في آخر أزمنة إمكان تقديره.

لا يقال: إنّ تقدير الملك في تلك الموارد المذكورة إنّما ثبت بالإجماع فلا يتعدّى إلى غيرها.

لأنّا نقول: الإجماع إن ثبت في تلك الموارد فإنّما هو على صحّة العتق و الوطء و سائر التصرّفات المالكيّة، لا على تقدير الملك قطعا، و تقدير الملك فيها إنّما هو للتحفّظ على القواعد الشرعيّة في مثل «لا عتق إلّا في ملك» و نحوه، كما لا يخفى على من تتبّع مظانّها و لاحظها بأدنى ملاحظة.

قوله: «مشكل».

أقول: إن كان وجود المخالف موجبا للإشكال و الوهن في تحصيل الإجماع البسيط على نفي اللزوم فينبغي أن يوجب الإشكال و الوهن في تحصيل الإجماع المركّب على نفيه أيضا؛ لاتّحادهما في وجود المخالف، إذ كما أنّ للبسيط مخالفا في قباله كذلك للمركّب أيضا مخالف في قبالهما. و إن كان وجود المخالف غير موهن و مشكل في تحصيل الإجماع البسيط على نفي اللزوم فالعدول عن تحصيله إلى تحصيل الإجماع المركّب. بقوله: «نعم، يمكن .. إلخ» (1) ترجيح بلا مرجّح، و تفصيل بلا مفصّل، و لعلّ أمره بالتأمّل (2) أيضا إشارة إلى ذلك، أو إلى الوهن في تحصيل المركّب أيضا، فتدبّر و تأمّل.

بقي الكلام في حجّية القول بعدم إفادة المعاطاة الإباحة رأسا، أو التفصيل بين ما إذا كان الدالّ على التراضي و المعاملة اللفظ و عدمه.


1- المكاسب: 86.
2- المكاسب: 86.

ص: 347

و لعلّه: إمّا لدعوى الاقتصار على القدر المتيقّن من التوقيفات و أصالة عدم الإباحة و التراضي في ما عدا القدر المتيقّن.

و يندفع بما عرفت من عدم ريب و لا شكّ بعد إطلاق قوله تعالى تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (1)، و الإجماع المنقول، بل المحصّل بالتقريب المتقدّم، بل الضرورة على صحّة المعاطاة حتّى يبادر إلى الأخذ بالمتيقّن من صحّة البيوع.

و إمّا لتوهّم تخصيص إطلاق تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ و معاقد الإجماع و الضرورة بظهور قوله عليه السّلام: «إنّما يحلّل الكلام و يحرّم الكلام» في حصر أسباب الحلّيّة في الكلام. فقد صحّ عن ابن أبي عمير أنّه لمّا سأل أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الرجل يجيئني و يقول: اشتر لي هذا الثوب و أربحك كذا و كذا، فقال عليه السّلام: «أ ليس إن شاء أخذ، و إن شاء ترك؟! قلت: بلى، قال: لا بأس إنّما يحلّل الكلام و يحرّم الكلام» (2).

و يندفع أيضا: إمّا بتخصيص عموم مفهوم حصر أسباب حلّيّة البيع في الكلام بقيام الإجماع على خروج المعاطاة عن عموم مفهوم الحصر.

و إمّا بجعل الإجماع على حلّيّة المأخوذ بالمعاطاة من دون كلام قرينة كون الحصر حصر تقييد لا حصرا مطلقا، أعني: حصر قلب لقلب اعتقاد المخاطب عدم إفادة الكلام الحلّية في بيع ما ليس عنده، كما في قوله، تعالى إِنَّمٰا يُوحىٰ إِلَيَّ أَنَّمٰا إِلٰهُكُمْ إِلٰهٌ وٰاحِدٌ .. (3)، مع عدم انحصار الوحي إليه في التوحيد، و عدم انحصار صفاته تعالى في الوحدة. و كما في قوله تعالى وَ مٰا مُحَمَّدٌ إِلّٰا رَسُولٌ .. (4)، مع عدم انحصار صفاته، صلى اللّٰه عليه و آله في الرسالة. فكما أنّ الحصر في


1- النساء: 29.
2- الوسائل 12: 376 ب (8) من أبواب أحكام العقود ح 4.
3- الأنبياء: 108.
4- آل عمران: 144.

ص: 348

الآيتين حصر تقييد بقرينة قيام الدليل الخارجيّ على عدم إطلاق الحصر كذلك في الحديث حصر تقييد بقرينة الإجماع، بل الضرورة المذكورين.

و إمّا بجعل الإجماع قرينة كون المبيع في مورد الرواية عند مالكه الأوّل، ليكون وجه انحصار إيجاب البيع في الكلام في مورد الرواية هو عدم إمكان المعاطاة في خصوص المورد.

و أمّا حصر الماتن قدس سرّه وجه انحصار إيجاب البيع في الكلام في عدم إمكان المعاطاة في خصوص المورد دون سائر الوجوه المتقدّمة بقوله: «إذ المفروض أنّ المبيع عند مالكه الأوّل» (1) ففيه: منع كون المفروض ذلك، بل الغالب كون المبيع عند السمسار و الدلّال، لا عند مالكه الأوّل، بل الظاهر من تضمين السؤال الإشارة إلى الحاضر بقوله: «اشتر لي هذا الثوب» أيضا ذلك، و لو سلّمنا فلا أقلّ من تساوي الاحتمالين في مورد السؤال، فيعمّهما الجواب من باب ترك الاستفصال. و لعلّ الأمر بالتأمّل (2) في كلامه إشارة إلى ذلك أيضا.

قوله: «فلا ينفع الاستصحاب».

[أقول:] و توجيه عدم نفعه يرجع: إمّا إلى صيرورة الشكّ في لزوم المعاطاة بعد فقد التعيّن السابق به الذي هو من شروط صحّة الاستصحاب شكّا في الحادث الّذي لا يجري فيه الأصل، و على تقدير جريانه غير معتبر عند العقلاء.

و إمّا إلى صيرورة استصحاب الملك بعد رجوع أحد المتعاطيين أصلا مثبتا لإثباته اللزوم، و هو فصل من فصول كلّيّ الملك المستصحب، لا أثر شرعي. و قد اشتهر في لسان متأخّر المتأخّرين بأنّ إثبات الفصول بالأصول غير مقبول.

و لكن يدفعه:

أوّلا: بإمكان دعوى كفاية تحقّق القدر المشترك في الاستصحاب، و لكنّه


1- المكاسب: 86.
2- المكاسب: 86.

ص: 349

مضافا إلى ابتنائه على تقدير حجّية استصحاب الكلّيّ مع الشكّ في تعيين فرده و تردّده بين ما هو باق جزما و ما هو مرتفع كذلك: إمّا مبنيّ على تقدير القناعة بترتيب آثار كلّي الملك على استصحابه- أعني: ترتيب إباحة التصرّفات الثابتة على استصحاب الكلّيّ، لا لترتيب اللزوم الّذي هو فصل ذلك الكلّيّ و من لوازمه الغير الشرعيّة- و إمّا مبنيّ على تقدير الالتزام بكون اللزوم من الأمور المنتزعة عن الإباحة، و ليس من الأمور المتأصّلة و الفصول المقوّمة لكلّيّ الملك حتّى يكون إثباته بالأصول غير مقبول. و لعلّ أمر الماتن (1) بالتأمل إشارة إلى مباني حجّية استصحاب الكلّيّ في المقام، أو إلى ما فيها من الكلام.

أمّا المبنى الأوّل- و هو حجّية استصحاب الكلّيّ المردّد بين ما هو باق جزما و ما هو مرتفع كذلك، المعبّر عنه بالشكّ في الاستعداد، و الممثّل له باستصحاب كلّيّ الحيوان الدائر بين البقّ و الفيل إلى أطول زمان، يمكن عيش الفيل فيه- فهو و إن صحّحه الماتن في أصوله (2) إلّا أنّه محلّ خلاف، و المخالف له المحقّق القمّي قدس سرّه.

و أمّا المبنى الثاني- و هو القناعة- فلأنّه لا يجدي ما نحن بصدده من إثبات لزوم المعاطاة على القول بإفادته الملك.

و أمّا المبني الثالث فهو و إن صحّحه الماتن أيضا في أصوله وفاقا للمحقّقين إلّا أنّ الكلام في المقام مبنيّ على تقدير خلافه.

و ثانيا: بمنع كون نسبة اللزوم إلى الملك نسبة الفرد إلى الكلّيّ، و ذلك لأنّ انقسام الملك إلى اللزوم و الجواز من جهة الاختلاف في أسبابه، لا من جهة الاختلاف في حقيقته بالوجدان و البرهان المذكورين في المتن (3)، و مقتضى ذلك


1- المكاسب: 85.
2- فرائد الأصول: 371.
3- المكاسب: 85.

ص: 350

أن يكون اللزوم من الأمور المنتزعة الصرفة عن استصحاب الملك، لا من الفصول و الخصوصيّات المقوّمة له حتّى يكون إثباتها بالأصول غير مقبول، و أن يكون استصحاب الملك من غير الاستصحابات الكلّيّة المردّدة بين ما هو باق جزما من الأفراد، و ما هو مرتفع كذلك منها حتى يكون معرضا للتأمّلات السابقة، بخلاف مقتضى الجواب الأوّل.

و ثالثا: بأنّه يكفي في الاستصحاب الشكّ في أنّ اللزوم من خصوصيّات الملك، أو من لوازم السبب المملّك، و ذلك: إمّا على تقدير صحّة الاستصحاب على كلّ من تقديري المشكوك فيه فواضح. و إمّا على تقدير صحّته على تقدير دون تقدير فلعدم فقدان شي ء من الشروط المعتبرة في الاستصحاب من اليقين السابق و الشكّ اللاحق و بقاء الموضوع. و أمّا تعيين علّة الشكّ و منشئه فليس من الشروط، فتأمّل و تدرّب.

قوله: «نعم، لو تداعيا احتمل التحالف في الجملة».

ي [أقول:] و ذلك لأنّ المدّعي قد يوجّه الخلاف في وقوع العقد و صدوره بلفظ الهبة، أو بلفظ دالّ على اللزوم، مع الإغماض عن رجوع الدعوى إلى لزوم العقد الصادر أو جوازه، فإنّه بهذا اللحاظ يحتمل التحالف، نظرا إلى أنّ الأصل لا يشخّص اللفظ المتنازع في صدوره، بخلاف لحاظ توجّه الدعوى إلى لزوم العقد الصادر في الخارج و عدم لزومه، فإنّ الأصل بهذا اللحاظ يشخّص اللزوم.

و بالجملة: أنّ وجه الدعوى إلى أسباب اللزوم لم يكن في الدين أصل يشخّص أسباب اللزوم، و أنّ وجهها إلى المسبّب كان الأصل اللزوم.

فتلخّص ممّا ذكرنا: صحّة اقتضاء الأصول اللفظيّة و العمليّة اللزوم في كلّ عقد شكّ في لزومه، و كذا لو شكّ في أنّ الواقع في الخارج هو العقد اللازم أو غيره، سواء كان في غير مقام التداعي، أو في مقام التداعي ما لم تتوجّه الدعوى

ص: 351

إلى جهة غير اللزوم، كما لا يخفى، إلّا أنّ الظاهر في ما نحن فيه قيام الإجماع بجميع أنحائه، بل الضرورة على عدم لزوم المعاطاة و خروجها عن تحت أصالة اللزوم كما عرفت، و ستعرف من المتن و غيره.

قوله: «فالقول بالملك اللازم قول ثالث. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ هذا الإمكان خلاف ما هو ظاهر المفيد و غيره و مقتضى الأصول العمليّة من استصحاب الملكيّة و اللفظيّة من إطلاق الكتاب و السنة من أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ (1) و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (2) و «الناس مسلّطون» (3) و «البيعان بالخيار ما لم يفترقا».

قوله: «فتعيّن المعنى الثالث .. إلخ».

أقول: فيه- مضافا إلى ما في المعنى الثالث من استلزام إضمار العدم و الوجود المخالف للأصل- منع تعيين المعنى الثالث في الرواية؛ لما ستعرفه.

قوله: «أو المعنى الرابع .. إلخ».

أقول: فيه- مضافا إلى ما فيه من استلزام التفكيك بإرجاع قوله: «إنّما يحلّل الكلام» إلى العهد الذكري، و هو المقاولة و المراوضة، و إرجاع الكلام الآخر في قوله: «إنّما يحرّم الكلام» إلى العهد الذهنيّ المخالف للظاهر- منع تعيين المعنى الرابع في الرواية، كمنع تعيين شي ء من سائر المعاني الثلاثة المتقدّمة فيه، بل المتعيّن في الرواية معنى خامس أقرب عرفا من تلك المعاني، و أسلم ممّا لم يسلم منه سائر المعاني، و هو إرادة أنّ الكلام المعهود ذكرا في مورد الرواية- و هو المراوضة و المقاولة أو جنس الكلام- سبب تحليل المبيع على المشتري و تحريمه على البائع، و بعكسه في الثمن.


1- البقرة: 275.
2- النساء: 29.
3- عوالي اللئالي 1: 222 ح 99.

ص: 352

و من الواضح سلامة هذا المعنى عمّا يستلزم كلّ واحد من المعاني المذكورة في المتن (1)؛ و ذلك لسلامته عمّا في معنييه الأوّلين من عدم انطباق الجواب للسؤال فيهما، و عمّا في معناه الثالث من استلزام الإضمار المخالف للأصل، و عمّا في رابعة من استلزام مخالفة الظاهر و التفكيك بين محلّي اللام بإرجاع أحدهما إلى العهد الذكريّ و الآخر إلى الذهني.

فإن قلت: المعنى الخامس و إن سلم عمّا في سائر المعاني المذكورة في المتن إلّا أنّه لم يسلم عن مخالفة ظاهر آخر، و هو الالتزام بتقييد الحصر بحصر القلب، أو تخصيص عموم مفهوم الحصر بإخراج بيع المعاطاة.

قلت: مضافا إلى أنّ تقييد الحصر أو تخصيص عموم مفهومه مشترك الورود بين المعنى الخامس و سائر معاني المتن لا ريب أنّ التقييد و التخصيص أولى من سائر المجازات.

فإن قلت: إنّ المعنى الخامس يستلزم التخصيص بالأكثر في معنى الرواية؛ لأنّ ظاهره حصر أسباب التحليل و التحريم في الشريعة في اللفظ، فيستلزم إخراج الهدايا و التحف و المعاطاة و الضيافات و موارد شاهد الحال.

قلت: نمنع الملازمة أوّلا: بظهور الرواية بقرينة مورد السؤال في حصر أسباب تحليل البيع و الشراء الذي لا يستلزم لإخراج ما عدا بيع المعاطاة من الأمور المذكورة، لعدم دخول ما عدا المعاطاة في البيع حتى يحتاج إلى الإخراج، و ليس المراد من الرواية حصر أسباب مطلق التحليل و التحريم في الشريعة في اللفظ حتّى يستلزم لإخراج جميع ما ذكر.

و ثانيا: بأنّ الالتزام بخروج الهدايا و الضيافات و المعاطاة، و سائر الموارد المأذون فيها بشاهد الحال على تقدير التسليم لا يستلزم التخصيص بالأكثر في


1- راجع المكاسب: 86.

ص: 353

حصر أسباب التحليل و التحريم في الشريعة في الكلام؛ و ذلك لأنّ الباقي تحت ما يتوقّف تحليله على الكلام من أسباب أنواع البيوع و الإجارات و القروض و النذورات و الأنكحة و الأطلقة و سائر العقود اللازمة و الجائزة أكثر من الخارج بكثير قطعا.

و ثالثا: سلّمنا كون الخارج أكثر من الباقي لكنّ خروجه الأكثر ليس بالتخصيص حتّى يستهجنه العرف، بل إنّما هو بالتقييد، و هو غير مستهجن عرفا؛ و ذلك لأنّ عموم المفرد المحلّى باللام- أعني: لفظ الكلام- عموم حكمتيّ من شئون الإطلاق عندنا معاشر المشهور، لا عموم لفظيّ كما توهّم.

و رابعا: لو سلّمنا لزوم التخصيص بالأكثر فإنّما هو مشترك الورود بين المعنى الخامس و بعض سائر المعاني الأربعة، لا أنّه مختصّ بالمعنى الخامس.

ثمّ إن هذا كلّه في تشخيص حكم المعاطاة بعد تشخيص موضوعه المتنازع فيه من الجهة الاولى، أعني: من جهة اعتبار قصد الإباحة أو التمليك.

بقي الكلام في تشخيص موضوعه المتنازع فيه من الجهة الثانية الموعود عليها، أعني: تشخيص اعتبار سائر شروط البيع من شروط العوضين و المتعاوضين في المعاطاة و عدم اعتبارها.

فعن صاحب الحدائق (1) و الشهيد في المسالك (2): أنّه يعتبر في صحّة المعاطاة جميع ما يعتبر في البيع ممّا عدا الصيغة الخاصّة من شروط العوضين و المتعاوضين.

و عن الشهيد قدس سرّه في حواشيه (3) على القواعد عكس ذلك، أعني: عدم اعتبار شي ء من شروط البيع في المعاطاة، و لا من أحكامه.


1- الحدائق 18: 350.
2- مسالك الأفهام 3: 147.
3- حكاه عنه العامليّ في مفتاح الكرامة 4: 159.

ص: 354

و وجه بالتفصيل بين الشروط المستفاد اعتبارها في البيع بالدليل اللفظيّ، كالنصوص و الظواهر فتعتبر في المعاطاة، و بين الشروط المستفاد اعتبارها فيه بالدليل اللبيّ، كالإجماع و الشهرة فلا يعتبر.

و تفصيل آخر بين أن تكون المعاطاة مفيدة للملك، فيعتبر فيها ما يعتبر في البيع، و بين أن تكون مفيدة للإباحة فلا يعتبر فيها ما يعتبر فيه.

و تفصيل ثالث بين اعتبار ما عدا رفع الجهالة من شروط البيع في المعاطاة و اغتفار الجهالة فيها.

و التحقيق أن يقال: أمّا على القول بكون المقصود من المعاطاة الإباحة و لو مع ضميمة قصد التمليك على وجه التعدّد المطلوبيّ لا التقييدي، أو على القول المختار من كونها مفيدة للإباحة المالكية لا الشرعيّة و لو كان المقصود التمليك فلا إشكال في عدم اعتبار شي ء من شروط البيع و لا أحكامه في المعاطاة، فضلا عن شروط سائر العقود اللازمة و الجائزة، فيجوز المعاطاة على كلّ واحد من هذه الأقوال مع جهالة الثمن و المثمن، و جهالة الأجل، و مع عدم التقابض في المجلس في النقدين، بل و مع الصدور عن غير البالغين، بل و مع عدم حصول التعاطي فعلا من الطرفين بأن حصل الإعطاء فعلا من جانب واحد، أخذا بإطلاق تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (1)، و «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفسه» (2).

كما لا إشكال في اعتبار جميع شروط البيع ما عدا الصيغة الخاصّة في المعاطاة على القول بإفادتها الملك اللازم، و كذا على القول بإفادتها الإباحة الشرعيّة لا المالكيّة، و ذلك: إمّا على القول بإفادتها الملك اللازم فلكونها بيعا لازما- و هو من أكمل أفراد البيع- فيلحقها جميع الشروط المعتبرة في البيع. و إمّا


1- النساء: 29.
2- عوالي اللئالي 2: 113 ح 309.

ص: 355

على القول بإفادتها الإباحة الشرعيّة فلأنّه و إن لم يكن كذلك إلّا أنّه لمّا كان دليل الإباحة الشرعيّة هو السيرة و الإجماع دون التراضي و طيب النفس فلا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقّن من معقده، و هو الجامع لشروط البيع.

و وجه عدم نهوض إطلاق التراضي و طيب النفس على القول بالإباحة الشرعيّة: هو تقييد رضا المتعاطيين بالحصول في ضمن التملّك المفروض إلغاؤه و انتفاؤه شرعا، و انتفاء القيد- و هو التملّك- قاض بانتفاء المقيّد- و هو الرضا و طيب النفس- هذا كلّه ممّا لا إشكال فيه.

إنّما الإشكال في أنّه على القول بإفادتها الملك الجائز- كالمحقّق الكركيّ (1)- هل يعتبر فيها ما يعتبر في البيع من شروط العوضين و المتعاوضين مطلقا؛ نظرا إلى إطلاق البيع عليها حينئذ فيلحقها ما يلحقه من الشروط و الأحكام، أم لا يعتبر فيها مطلقا بناء على نقل البيع شرعا إلى البيع اللازم، و هو الصادر بصيغة خاصّة أو انصرافه إليه، أم التفصيل بين الشروط المعتبرة في البيع بالدليل اللفظيّ فيعتبر فيها، و بين الشروط المعتبرة فيه بالدليل اللبّيّ فلا تعتبر، نظرا إلى الأخذ بالمتيقّن في اللّبيّات، أم التفصيل بين اعتبار ما عدا الجهالة فيها من سائر شروط البيع، و بين اغتفار الجهالة فيها، نظرا إلى أنّ سيرة الناس جارية على عدم تعيين مقدار المكث، و لا مقدار التصرّف، و لا موضع المكث في الحمّام و السفن و المنازل و الدوابّ و غيرها، بل و لا تعيين ثمن الأجرة و المبيع اكتفاء بقولهم: «حالك حال الناس» و نحو ذلك؟ وجوه أربعة، بل أقوال:

أمّا الأوّل منها- و هو اعتبار جميع شروط البيع و أحكامه في المعاطاة ما عدا الصيغة الخاصّة- فإنّما يبتنى على القول ببقاء البيع عرفا فيما يشمل المعاطاة، و عدم صيرورته حقيقة شرعية و لا متشرّعة فيما عدا و المعاطاة ممّا يقع بصيغة


1- جامع المقاصد 4: 58.

ص: 356

خاصّة.

كما أنّ الثاني منها- و هو عدم اعتبار شي ء من شروط البيع فيها- إنّما يبتنى على صيرورته حقيقة شرعيّة فيما يقع بصيغة خاصّة، أو انصرافه إليه.

كما أنّ الثالث منها- و هو التفصيل بين الشروط المعتبرة في البيع بدليل لفظيّ و بين غيرها- إنّما يبتنى على بقائه شرعا في المعنى العرفيّ الشامل للمعاطاة، و صيرورته حقيقة اصطلاحيّة عند المتشرّعة فيما عدا المعاطاة ممّا يقع بصيغة خاصّة، و هو الأقوى و الأظهر؛ لأنّ نفي الحقيقة الشرعيّة عن ألفاظ المعاملات و إن كان هو الموافق لأصالة العدم- أعني: عدم النقل و الاشتراك- و للشهرة العظيمة، بل الاتّفاق، إلّا أنّه لا مجال لإنكار اصطلاح المتشرّعة له فيما عدا المعاطاة ممّا يقع بصيغة خاصّة؛ للشهرة، بل الإجماع المنقول عن غير موضع من مفتاح الكرامة (1)، و به الكفاية في إثبات ما يكون من الموضوعات المستنبطة الكافي في إثباتها مطلق الظنّ اتّفاقا.

فتبيّن من ذلك: أنّ أصحّ المباني هو المبنى الثالث المتفرّع على صحّته اعتبار جميع الشروط المعتبرة في البيع باللفظ، لا اللبّ في المعاطاة على القول بإفادتها الملك.

و أمّا استشهاد الماتن على القول الثاني- و هو عدم اعتبار شي ء من شروط البيع في المعاطاة حتّى على القول بإفادتها الملك بقوله: «لانصراف المطلق إلى الفرد المحكوم باللزوم (2) .. إلخ» ففيه: أنّه إن أريد الانصراف القهريّ الناشئ عن وجود أحد سببي الانصراف من غلبتي الوجود و الاستعمال- كما هو الظاهر- ففيه: أنّ غلبة البيع اللازم الناشئ عن إعمال الصيغة الخاصّة على البيع المعاطاة


1- مفتاح الكرامة 4: 154.
2- المكاسب: 87.

ص: 357

بأحد الغلبتين ممنوعة إن لم تكن معكوسة بالحسّ و العيان.

و إن أريد الانصراف القصديّ الناشئ عن اصطلاح المتشرعة للبيع في اللازم دون اصطلاح الشارع فهو و إن كان حقّا إلّا أنّه لا يثبت مدّعاه الّذي هو بصدده من عدم اعتبار شي ء من شروط البيع في المعاطاة؛ لما عرفت من أنّ غاية مقتضاه هو عدم اعتبار الشروط المستفادة من الدليل اللّبيّ في المعاطاة، لا عدم الشروط مطلقا.

كما أنّ استشهاد صاحب الجواهر عليه أيضا في جواهره بالشواهد الآتية مدفوع بمنع الصغرى، و هي أصل الشاهد في بعضها، و منع الكبرى، و هي شهادة الشاهد في بعضها الآخر.

فمن جملة ما استشهد به على عدم اعتبار شي ء من شروط البيع في المعاطاة: هو صحّة سلب اسم البيع عنها، و هو ممنوع جدّا؛ لأنّه: إن أريد صحّة سلب اسم البيع عرفا فقد عرفت الشهرة، بل الاتّفاق المنقول، بل المحصّل من التبادر.

و التصريح بكون البيع: هو مبادلة مال بمال كما عن المصباح (1)، أو ما يؤدّي مؤدّاه كما في المجمع و غيره من: أنّه إعطاء ثمن و أخذ مثمن (2). فيعمّ الحاصل من صيغة خاصّة و عدمه، و بأصالة عدم النقل و الشهرة، بل الاتّفاق على عدم الحقيقة الشرعيّة في ألفاظ المعاملات يثبت كونه في الشرع كذلك.

فقد استظهر الماتن قدس سرّه من كلام المحقّق الثاني نفي الكلام عن إطلاق البيع على المعاطاة (3)، حتّى على القول بفسادها كالعلّامة (4)، فضلا عن القول بصحّتها،


1- المصباح المنير 1: 69.
2- مجمع البحرين 4: 303 و فيه: إعطاء المثمن و أخذ الثمن.
3- المكاسب: 87.
4- نهاية الإحكام 2: 449.

ص: 358

فكيف و كلامنا على فرض إفادتها الملك؟! و إن أريد صحّة سلب اسمه عنها في عرف المتشرّعة لاصطلاحهم البيع في البيع اللازم المشتمل على الإيجاب و القبول بصيغة خاصّة، أو صحّة سلبه مجازا مريدا به سلب اللزوم من باب سلب المطلق و إرادة سلب المقيّد فهو و إن كان مسلّما إلّا أنّه لا يثبت المدّعى، و هو عدم اعتبار شي ء من شروط البيع في المعاطاة، بل غاية ما يثبت على التقدير الأوّل هو عدم الشروط المعتبرة في البيع بالدليل اللّبيّ. و أما على التقدير الثاني فلا يثبت ذلك أيضا، فضلا عن غيره.

و من جملة ما استشهد به الجواهر أيضا على عدم كون المعاطاة بيعا: هو استشهاده بإطلاق قوله عليه السّلام: «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» (1)، و «من أقال نادما ببيعه أقال اللّٰه عثرته» (2)، و «من اشترى حيوانا كان بالخيار إلى ثلاثة أيّام» (3) إلى غير ذلك ممّا لا يتمّ في بيع المعاطاة المفروض كونه جائزا بالذات إلّا بتكلّف مستقبح يمكن القطع بفساده. انتهى (4).

و طريق الاستدلال بها على عدم كون المعاطاة بيعا هو اقتضاء إطلاقها: أن يكون كلّ بيع قابلا للخيار و الإقالة- و هو بقاعدة عكس النقيض- يستلزم لقوله:

«كلّ ما ليس بقابل كالمعاطاة ليس ببيع».

و فيه: أوّلا: أنّ مقتضى الإطلاقات المذكورة لا تقاوم ما تقدّم من الشهرة، بل الاتّفاق على كون المعاطاة بيعا عرفا، حتّى على القول بفسادها كالعلّامة.

و ثانيا: نمنع عدم قابليّة المعاطاة للخيار و الإقالة و غير هما ممّا ذكر، بل هو


1- الوسائل 12: 346 ب «1» من أبواب الخيار ح 3.
2- الوسائل 12: 286 ب «3» من أبواب آداب التجارة ح 2، مع اختلاف في اللفظ.
3- لم نجده بهذا اللفظ في مصادر الحديث، و ورد مضمونه في الأخبار، انظر الوسائل 12: 348 ب «3» من أبواب الخيار.
4- جواهر الكلام 22: 241- 242.

ص: 359

قابل و إن لم تظهر ثمرة جريان الخيار و الإقالة فيها إلّا بعد اللزوم، فالخيار و الإقالة و غير هما ممّا ذكر موجودة من زمن المعاطاة، إلّا أنّ أثرها يظهر بعد اللزوم، و على هذا فيصحّ إسقاطه و المصالحة عليه قبل اللزوم، كما سيأتي عند تعرّض الملزمات.

و من جملة ما استشهد (1) به أيضا على ما ذكر: استشهاده بأنّ قوله عليه السّلام: «كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه» (2) كالصريح في عدم تحقّق البيع بالتقابض الّذي هو في الحقيقة من أحكام البيع، أو شرط في صحّته في الصرف.

و فيه: أنّه و إن سلّم ظهوره في عدم تحقّق البيع بالتقابض الّذي هو من أحكام البيع أو من شروط صحّته إلّا أنّه لا يقاوم ما تقدّم من الاتّفاق على شمول البيع العرفيّ للمعاطاة و التقابض، و حينئذ فهو قرينة تخصيص عموم كلّ بالبيع بصيغة خاصّة، أو ارتكاب الاستخدام بإرجاع الضمائر المتتالية للعامّ إلى بعض أفراده على الخلاف في أنّ العامّ المتعقّب ضميرا يرجع إلى بعض أفراده مخصّص لعمومه، أو موجب للاستخدام.

و من جملة ما استشهد به أيضا على ما ذكر (3): استشهاده بفحوى ما تسمعه في النكاح، بل و الطلاق و الظهار و غير هما من الإيقاعات المعلوم عدم جريان المعاطاة فيها. بل ربّما قيل بشمول العقود لها بناء على إرادة مطلق الملزم من العقد فيها و لو من جانب.

بل قد يشهد له ما في الدعائم: قال جعفر بن محمد عليهما السّلام أَوْفُوا بِالْعُقُودِ في البيع و الشراء و النكاح و الحلف و الصدقة (4).


1- جواهر الكلام 22: 242.
2- الوسائل 12: 358 ب (10) من أبواب الخيار.
3- جواهر الكلام 22: 242.
4- دعائم الإسلام 2: 27- 28 ح 53.

ص: 360

و فيه: أنّه إن أريد من فحوى دلالة عدم جريان المعاطاة في النكاح على عدم جريانه في البيع على وجه يعدّ في العرف بيعا هو مفهوم الموافقة فهو قياس محض، و تسميته بدلالة الفحوى محلّ نظر.

و إن أريد من دلالته عليه بالفحوى دلالته عليه بالأولويّة فهي ممنوعة إن لم تكن معكوسة، ضرورة أغلبيّة سائر ما يجري فيه المعاطاة من العقود: كالإجارة و الوكالة و البيع و الشركة و الوديعة و العارية و الرهن و القرض و الضمان و الكفالة، و غيرها على ما لا يجري فيه، كالنكاح و الطلاق مع الإشكال في كونه عقدا، فالالتزام بخروج ما يجري فيه المعاطاة مع كثرة مواردها عن تحت الأصل و القاعدة ليس بأولى من الالتزام بخروج ما لا يجري فيه المعاطاة مع قلّة موارده، بل انحصاره في النكاح إن لم يكن الأولى، بل المتعيّن هو الثاني.

[و ينبغي التنبيه على أمور]
[الأول الظاهر أن المعاطاة قبل اللزوم على القول بإفادتها الملك بيع]

قوله: «و أمّا على القول بالإباحة».

[أقول:] فيشكل بأنّه بعد عدم حصول الملك بها لا دليل على تأثّرها في الإباحة.

و فيه: أنّ ذلك الإشكال إنّما يتمّ لو أردت من الإباحة الإباحة الشرعيّة المستلزمة لإلغاء الشارع الإباحة المالكيّة.

و أمّا لو أريد من الإباحة الإباحة المالكيّة فالدليل على تأثّرها في الإباحة هو إطلاق تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (1)، و «طيب النفس» (2) و أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ (3)، و «الناس مسلّطون» (4) و إن لم يصدق التعاطي الفعليّ من الطرفين؛ لأنّ الموضوع المستنبط المتعلّق به الإباحة، و التحليل ليس لفظ «المعاطاة» حتّى يدور الحكم


1- النساء: 29.
2- عوالي اللئالي، 2: 113 ح 309.
3- البقرة: 275.
4- عوالي اللئالي 1: 222 ح 99.

ص: 361

مدار صدقه، بل إنّما هو البيع و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ و «طيب النفس» الصادق مطلقا و إن لم يصدق التعاطي فعلا.

و بالجملة: فلا إشكال في عدم اعتبار حصول التعاطي فعلا من الطرفين في صحّة المعاطاة، إلّا على القول بإفادتها الإباحة الشرعيّة من جهة انحصار دليل الإباحة الشرعيّة، مع عدم الإباحة من جانب المالك في دعوى قيام السيرة عليها كقيامها على الإباحة في المعاطاة الحقيقة.

أمّا على القول بإفادتها الملك فلعموم حكم البيع لكلّ بيع فعليّ صدق التعاطي عليه أم لا؟

و أمّا على القول بإفادتها الإباحة المالكية فلإطلاق تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ و «طيب النفس» و إن لم يكن المقصود من المعاطاة التمليك، مضافا إلى صدق البيع عرفا و شرعا على القول بإفادتها الإباحة المالكيّة إذا كان المقصود منه التمليك، و عرفا فقط لا شرعا على القول بكون المقصود منه مجرّد الإباحة.

و الحاصل: أنّ المعاطاة الحقيقيّة هي ما حصل فيها التعاطي فعلا من الطرفين على وجه يمكن تنزيل أحدهما منزلة الإيجاب، و الآخر منزلة القبول، سواء لم يقترن بصيغة أصلا أم اقترن بصيغة فاسدة، فإنّ كلّ عقد صدر بلفظ فاسد انقلب معاطاة و ألحقه حكمها، كما استظهره في الدروس (1) أيضا عمّا نقل عن الحلبيّ (2) من حكمه بلزوم البيع الصادر بلفظ فاسد بمجرّد التصرّف من أحد الطرفين.

و يقرب منه: حصول التعاطي فعلا من طرف واحد على وجه ينزّل منزلة البيع نسية.

و دونه في القرب حصوله فعلا، لكن من غير إعطاء أصلا، فضلا عن


1- الدروس الشرعيّة 3: 194.
2- الكافي في الفقه: 355.

ص: 362

التعاطي، كتناول الماء مع غيبة السقّاء و وضع ثمنه في المكان المعدّ له.

و دونه في القرب: حصول مجرّد المقاولة فعلا بينهما من غير حصول فعل فعلا، فضلا عن حصول الإعطاء، و فضلا عن حصول التعاطي، و فضلا عن حصول التعاطي الفعليّ من الطرفين.

و دونه في القرب: حصوله من غير تحصيل و لا مقاولة و لا إيصال، فضلا عمّا عداه، كما إذا فرض اتّفاق حصول مبيع في يدك و حصول ثمنه في يد بائعه بواسطة اتّفاق تهافت الأرباح و نحوه، و علم كلّ منهما رضا الآخر في تملّك ما وقع في يده من مال الغير بإزاء تملّك الغير ما وقع في يده من ماله.

و إذ قد عرفت أنّ صور المعاطاة خمس فأعلم: أنّه لا إشكال في انحصار المعاطاة الحقيقيّة في الصورة الأولى منها، و لا في صدق البيع العرفيّ على ما عدا الصورة الأخيرة من سائر الصور. و أنّه لمّا لم تكن المعاطاة موضوعا مستنبطا للحكم بالإباحة في المسألة لم يكن إشكال في إلحاق ما عدا الصورة الأخيرة بالصورة الأولى حكما، و إن خرجت عنها موضوعا بناء على المختار في إفادة المعاطاة الإباحة المالكيّة، لأنّ دليل الإباحة المالكيّة هو قوله تعالى تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ، و «طيب النفس»، و «الناس مسلّطون». و المفروض إطلاقها على كلّ ممّا عدا الصورة الأخيرة.

نعم، بناء على القول بإفادة المعاطاة الإباحة الشرعيّة لمّا كان دليلها السيرة و الإجماع اتّبع الحكم للقدر المتيقّن من معقدهما، و أشكل جريانهما فيها عدا الصورة الاولى من باقي الصور، سيّما في الصورة الثالثة، و سيّما في الرابعة، فإنّ إشكال جريان السيرة و الإجماع في الصورة الثالثة آكد من إشكال جريانهما في الصورة الثانية؛ نظرا إلى أنّ كثرة تداول الصورة الثالثة في معاملات الناس لم يبلغ مبلغ تداول الصورة الثانية في الكثرة. كما أنّ تداول الصورة الرابعة لم يبلغ مبلغ

ص: 363

تداول الصورة الثالثة فيها.

و أمّا الصورة الخامسة- و هي الصورة الأخيرة- فلمّا لم يطلق عليها البيع العرفيّ لم يكن وجه لإلحاقها بالمعاطاة حكما، أعني: في الحكم بلزومها بمجرّد التصرّف، و لا في غير ذلك من أحكام البيع. كما لم تلحق بها اسما و إن أبيح لكلّ منهما التصرّف فيما وقع في يده من مال الغير، مع علم كلّ منهما برضا الآخر، إلّا أنّه لا يلحق تصرّفهما أحكام البيع من اللزوم و غيره، بل يتعلّق بذمّة المتصرّف بعد ذهاب العين بتصرّفه، المثل في المثليّ، و القيمة في القيميّ، كما في التصرّفات الغير المأذون فيها، غاية الفرق بين التصرّفين: أنّه حلال على الأوّل، و حرام على الثاني. و أمّا من حيث إنّ المترتّب على ذمّة المتصرّف المثل في المثليّ و القيمة في القيميّ فكلاهما سيّان.

قوله: «و إن خصّصنا الحكم بالبيع».

[أقول:] و ذلك: إمّا على القول بأنّ حرمة الربا من أحكام مطلق المعاوضة كما عليه المحقّق (1) و غيره فواضح إطلاق حرمته في المعاطاة، سواء قلنا بأنّها مفيدة للإباحة أو الملك. و إمّا على القول باختصاص حرمة الربا بالبيع كما عن ابن إدريس (2)، فوجه حرمته في المعاطاة: إمّا على القول بإفادة المعاطاة الملك فواضح أيضا، لكونه بيعا في الشرع و العرف. و إمّا على القول بإفادتها الإباحة لا الملك فلما أشار إليه الماتن قدس سرّه في أوّل التنبيه من استظهار كونه بيعا عرفيا و إن لم يؤثّر شرعا إلّا الإباحة (3).

نعم، لا يتوجّه إطلاق تحريمه الربا فيه على القول بأنّ المقصود في المعاطاة مجرّد الإباحة خاصّة. و لعل إطلاق الماتن قدس سرّه الحرمة ناشئ عن


1- شرائع الإسلام 3: 219.
2- السرائر 2: 253 و 257.
3- المكاسب: 87.

ص: 364

الإغماض عن هذا الفرض؛ لضعّف القول به جدّا، و إلّا فقد صرّح هو في أوّل التنبيه: بأنّ المعاطاة على هذا القول ليست بيعا، لا شرعا و لا عرفا (1)، و مع ذلك كيف يطلق الحرمة فيه حتّى على القول باختصاص حرمته بالبيع؟ و لعلّ الأمر بالتأمّل في بعض النسخ إلى إشارة الى ذلك، و كون الزيادة الربويّة في الإباحة المعوّضة إباحة بلا عوض.

[الأمر الثالث تميّز البائع عن المشتري]

قوله: «الثالث تميّز البائع عن المشتري».

أقول: تميّز البائع عن المشتري لمّا كان متفرّعا على إحراز أصل البيع في المعاملة فلا بدّ أن نقول مقدّمة: إنّ المتعاطيين إن قصدا في التعاطي إباحة كلّ منهما ما يعطي صاحبه فلا إشكال في عدم كونه بيعا في العرف، كما أنّه لا إشكال في كونه بيعا في العرف و لو قصدا في التعاطي تمليك كلّ منهما الآخر ما يعطيه.

إنّما الإشكال في أنه لو قصدا من التعاطي مجرّد المبادلة و تناول كلّ منهما مال الآخر من غير قصد الإباحة و لا خصوص التمليك هل يعدّ بيعا في العرف؛ نظرا إلى أنّ الأصل في معاملة الأعيان البيع، كما أنّ الأصل في معاملة المنافع الإجارة، أمّ يعدّ مصالحة ليلحقه أحكام المصالحة الّتي من جملتها: جواز المصالحة مع الإقرار و الإنكار، و مع الجهل و غيره؛ نظرا إلى أنّ المصالحة معناها:

التسالم على شي ء و رفع الخصومة فيه، و هو الجنس الأعمّ و القدر المتيقّن من المقصود في جميع المعاملات، فيقتصر عليه عند الشكّ في قصد الزائد، أم يعدّ من الهبة المعوّضة ليلحقه أحكامها المختصّة بها؛ نظرا إلى إمكان انحلال كلّ من التبادلين إلى إيجاب و قبول على حدة، فإعطاء الثمن بمنزلة إيجاب، و أخذه بمنزلة قبول. و كذا إعطاء المثمن بمنزلة إيجاب آخر، و أخذه بمنزلة قبول آخر، فكما أنّ الهبة المعوّضة تناول مشتمل على إيجاب و قبول بإزاء تناول كذلك كذلك ما نحن فيه، أم يعدّ معاملة مستقلّة لئلّا يلحقها شي ء من الأحكام المختصّة بسائر


1- المكاسب: 87.

ص: 365

المعاملات؟ وجوه، أقربها انطباقا على أصالة عدم ترتّب شي ء من الآثار و الأحكام المختصّة بغيرها عليها هو المعاملة المستقلّة.

و أمّا أصالة البيع فليس لها معنى سوى الغلبة، و مجراها إنّما هو في معاملات الناس المشكوك كيفيّتها على الشخص، لا في معاملات نفسه المعلوم كيفيّتها عنده.

و كذا أصالة عدم قصد ما يزيد على التسالم الّذي هو معنى المصالحة فإنّها لا تجري في معاملات نفس الشخص، مضافا إلى أنّ الشكّ بالنسبة إلى قصد المتعاطيين شكّ في الحادث، لا الحدوث حتّى يجري فيه الأصل. فتبيّن أنّ الأصل الأصيل كونه معاملة مستقلّة، و مقتضاه عدم ترتّب الأحكام المختصّة بسائر المعاملات عليه إلّا بعد التصرّف، فيلزم ترتّب أحكام اللزوم عليه من حين التصرّف، لا من أوّل المعاملة، أخذا بأصالة العدم إلى الزمان المتيقّن، كما يلزم ترتّب أحكام اللزوم في سائر المعاملات الغير اللازمة من حين التصرّف.

و إذا عرفت ما يعدّ بيعا من أقسام المعاطاة و ما لا يعدّ فاعلم: أنّ البائع و المشتري لمّا كانا من الموضوعات المستنبطة الّتي خصّ الشارع كلّا منهما بحكم مخالف لحكم الآخر، كحكمه بأنّ ما تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه (1) و لمشتري الحيوان الخيار إلى ثلاثة أيام (2)، فلا بدّ بعد تمييز كون المعاملة بيعا من بيان ما يتميّز البائع عن المشتري. و قد اختلف كلم الأصحاب في طرق تمييز كلّ منهما عن الآخر، و مع ذلك لم يتمكّنوا من تعريف المائز بما يصحّ طردا و عكسا، فأقرب طرق تميّز كلّ منهما عن الآخر هو الإحالة إلى العرف.

إذن لا أقول بعدم إمكان تعريف المميّز لهما بما عدا الحوالة إلى العرف.


1- الوسائل 12: 358 ب (10) من أبواب الخيار.
2- الوسائل 12: 348 ب (3) من أبواب الخيار.

ص: 366

بل أقول: لمّا كان حصول امتيازهما من مراجعة العرف أوضح من مراجعة غيره لم يسلم تعريف المميّز لهما بغير ذلك عن التعريف بالأخفى أو الأعمّ أو الأخصّ.

و أيضا لا أقول: إنّ الرجوع إلى العرف تمييز كلّ منهما عن الآخر في جميع الموارد بحيث لم يبق لتميّزه مورد اشتباه مخفيّ الامتياز من العرف.

بل إنّما أقول: إنّ بمراجعة العرف و إن لم يحصل امتيازهما في جميع الموارد إلّا أنّ امتياز غالب موارده منه و الرجوع إلى الأصول العمليّة في النادر المخفيّ امتيازه من العرف على تقدير تحقّقه أقرب من التعريفات الّتي لم يسلم شي ء منها عن التعريف بالأخفى أو الأعمّ أو الأخصّ.

و وجه الأقربيّة: أنّ القاعدة في تشخيص الموضوعات المستنبطة و تميّز بعضها عن بعض هو أنّه إن شخّصها هو كان المرجع إلى تشخيصه و تمييزه، و إن لم يشخّصها هو كان المرجع في تمييزها إلى العرف، و إن لم يحصل أحيانا من العرف تميّزها أو تمييز بعض مواردها كان المرجع لا محالة إلى الأصول العمليّة.

ثمّ الأصل العمليّ فيما لم يشخّص امتياز البائع عن المشتري من العرف قد يقتضي عدم ترتّب أحكام المبيع على مشكوك المبيعيّة، و قد يقتضي عدم ترتّب أحكام المشتري للحيوان من الخيار إلى ثلاثة أيام على المشكوك مشتريّته، و قد يقتضي عدم ترتّب كلا حكمي البائع و المشتري على مشكوك البائعيّة و المشتريّة، و قد لا يقتضي عدم ترتّب شي ء من الحكمين، كما لا يقتضي ترتيبه بواسطة تعارضه بأصل آخر، أو رجوعه إلى الشكّ في الحادث على حسب اختلاف موارد الشكّ.

و بالجملة: فالمرجع في تمييز البائع عن المشتري إلى العرف، و ما لم يحصل تمييزه منه على تقدير تحقّقه فالمرجع فيه إلى الأصل العمليّ المختلف

ص: 367

مقتضاه بحسب اختلاف الموارد. و أمّا تعريفاتهم المميّز فمع كثرتها تعريفات غالبيّة لا يحصل التمييز بها دائما:

فمنها: ما عن القطب: من جعل المعيار المائز للبائع عن المشتري في النقد، كالدراهم و الدنانير و الفلوس المسكوكة، فمن يعطي النقد فهو المشتري، و من يعطي غيره فهو البائع (1).

و فيه: أنّ المائز المذكور غير مطّرد فيما كان العوضان كلاهما من النقد، أو كلاهما من غير النقد.

و منها: ما عن الشهيد (2): من علاوته على المعيار المذكور معيارا آخر، و هو دخول الباء، فما من شأنه الاقتران بباء العوضيّة من العوضين فهو المثمن (3)، و ما ليس من شأنه الاقتران بها منهما فهو المبيع.

و فيه أيضا ما في الأوّل من عدم اطّراده في معاوضة النقد بنقد آخر، أو الجنس بجنس آخر؛ لشأنيّة كلّ منهما الاقتران بباء العوضيّة.

و منها: ما عن بعض: من جعل المعيار المائز بينهما في لفظ «البيع» و «الشراء»، فمن قال: «بعت» فهو البائع، و من قال: «اشتريت» فهو المشتري.

و فيه: أنّه غير مطّرد في بيع الأخرس و إن عمّمه بما من شأنه التلفّظ بالبيع و الشراء. و إن لم يتلفظّ ففيه أيضا: أنّه غير مطّرد في تعويض الدراهم بالدنانير، و الخبز بالحنطة مثلا.

و منها: ما استقواه الماتن من جعل المائز في البادئ و المستتبع، فمن بدأ في الإعطاء و الدفع فهو البائع، و من تبعه فيه ثانيا فهو المشتري (4).


1- فقه القرآن 2: 55.
2- القواعد و الفوائد 2: 265.
3- كذا في الأصل، و الظاهر أنّ الصحيح «فهو الثمن»، و كما في المصدر.
4- المكاسب: 88.

ص: 368

و فيه أيضا: أنّه غير مطّرد، إذ كثيرا ما يبدأ المشتري في إعطاء الثمن، ثمّ يستتبعه البائع في إعطاء المثمن.

و منها: ما ارتضاه الماتن (1) من التفصيل بين ما إذا كان أحد العوضين ممّا تعارف جعله ثمنا كالدراهم و الدنانير، و بين ما إذا كان العوضان من غيرهما، حيث جعل المعيار في الأوّل في الثمن، فالمشتري هو صاحب الثمن، مع عدم التصريح بالخلاف، و البائع هو آخذ الثمن كذلك. و في الثاني جعل المعيار في القصد، فالمقصود دفعه بالأصالة هو المبيع، و المقصود دفعه بالتبع لأجل قيامه مقام الآخر فهو الثمن.

و أمّا لو لم يلاحظ إلّا كون أحدهما بدلا عن الآخر من دون نيّة قيام أحدهما مقام الثمن في العوضيّة، أو لوحظ القيمة في كليهما فاحتمل كون كلّ منهما مصداقا للبائع و المشتري باعتبارين فيحنث كلّ منهما لو حلف على عدم البيع أو عدم الشراء، مع احتمال أن يترتّب على كلّ منهما أحكام البائع و المشتري بالاعتبارين.

و بطلان الماتن قدس سرّه على وجه الجزم بعدم ترتيب أحكام البائع و لا المشتري عليهما؛ لانصرافهما في أدلّة تلك الأحكام إلى من اختصّ بصيغة البيع أو الشراء، فلا يعمّ من كان في معاملة واحدة مصداقا لهما باعتبارين (2) فممّا لا ينبغي. مضافا إلى ما في جعل المعيار القصد من إفادته التمييز لنفس المتبايع دون الغير، كالحاكم لو ترافعا عنده. إلى غير ذلك من التعريفات الراجعة إلى ما ذكر، و التعريف بالغالب كجعل المعيار في مصدر الإيجاب و القبول، أو مصدر الفعل و الانفعال.

[الرابع أن أصل المعاطاة يتصور بحسب قصد المتعاطيين على وجوه]

قوله: «على وجوه».

[أقول:] و محصّل الوجوه: أنّ المقصود من التعاطي، بل من كلّ متعامل:


1- المكاسب: 88.
2- المكاسب: 88.

ص: 369

إمّا تمليك بإزاء تمليك، و إمّا تمليك بإزاء تملّك، و إمّا إباحة بإزاء إباحة، و إمّا إباحة بإزاء تملّك. إلى غير ذلك من الوجوه المتصوّرة.

و الكلام فيها: تارة في تشخيص الفرق المائز بعضها عن بعض، و تارة في تشخيص حكمها من حيث الصحّة و البطلان، و تارة في تشخيص ما يترتّب عليها على تقدير الصحة من إباحة جميع التصرّفات أو بعضها.

أمّا الكلام في المقام الأوّل فتفصيله: أنّ الفرق بين ما إذا قصد المتعاطي التمليك بإزاء التمليك و بين أن يكون مقصوده التمليك بإزاء التملّك كون المعاملة في الأوّل بين التمليكين، أعني: الفعلين المؤثّرين للملك، لا بين الملكين اللازمين من التمليك. و في الثاني بين التمليك و حصول ملك فالمعاملة على الأوّل متقوّمة بالعطاء من الطرفين، بحيث لو مات الثاني قبل الدفع لم تتحقّق المعاطاة، و هو بعيد عن معنى البيع، و قريب إلى معنى الهبة المعوّضة، بخلافه على الثاني حسب ما يستفاد تفصيله من المتن (1).

و أمّا الكلام في المقام الثاني و الثالث فتفصيله: أنّه لا إشكال في صحّة الفرضين الأوّليين، و لا في ترتّب إباحة جميع التصرفات حتّى المالكيّة عليهما حسب ما في المتن. إنّما الإشكال في صحّة الفرضين الأخيرين، أعني: فرضي قصد الإباحة بإزاء الإباحة، أو بإزاء التملّك، و في ترتّب جميع التصرفات المالكيّة عليهما على تقدير الصحّة.

أمّا الكلام في أصل صحّتهما فممّا لا ينبغي الإشكال فيه، بعموم السيرة، و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (2)، و تحليل طيب النفس (3)، و تسليط الناس على


1- المكاسب: 88.
2- النساء: 29.
3- عوالي اللئالي 2: 113 ح 309.

ص: 370

أموالهم (1) على وجه، و «المؤمنون عند شروطهم» (2) حسب ما سنتعرّض لتفصيله عند تعرّض الماتن له، اقتفاء بآثاره، و إن كان الأنسب تقديم الكلام فيه.

و أمّا الكلام في ترتّب إباحة جميع التصرّفات حتّى المالكيّة على التعاطي بقصد الإباحة بإزاء الإباحة فتفصيله: أنّ الماتن و إن استظهر عدم ترتّبها (3) تبعا للشيخ (4) و الشهيد (5) إلّا أنّ الأظهر وفاقا للأكثر، بل الإجماع المركّب، و عدم القول بالفصل بين التصرّفات على وجه منقول هو ترتّب إباحة جميع التصرفات حتّى المتوقّفة على الملك على التعاطي بقصد الإباحة، من غير فرق بين التصرفات المالكيّة و غيرها، فيجوز وطء الجارية للمباح له و عتقها، و غيرهما من التصرفات المالكيّة و لو لم يسبقها شي ء من التصرّفات الملزمة للإباحة، كما صرّح به في الجواهر (6) أيضا؛ و ذلك لعموم جريان السيرة، و إطلاق تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ، و طيب النفس، و تسليط الناس على أموالهم.

و أمّا ما زعمه الماتن (7) من منافاة عمومها لمؤدّي قاعدة توقّف العتق على الملك، و توقّف الوطء على التحليل بصيغة خاصّة لا بمجرّد الإذن في مطلق التصرفات، ففيه: منع المنافاة نقضا بصحّة عتق عبدك عن الغير بمجرّد استدعائه، من غير سبق تمليك إياه، و صحّة وطء جارية الغير بمجرّد قوله: «أبحت لك وطئها».

و جواب الماتن: بأنّ قول الرجل: «أعتق عبدك عنّي بكذا» استدعاء


1- عوالي اللئالي 1: 222 ح 99.
2- الوسائل 15: 30 ب «20» من أبواب المهور ح 4.
3- المكاسب: 89.
4- المبسوط 3: 315.
5- حكاه عن حواشيه النجفيّ «قدّس سرّه» في جواهر الكلام 22: 224.
6- جواهر الكلام 22: 214- 215.
7- المكاسب: 89.

ص: 371

لتمليكه و إعتاق المولى عنه جواب لذلك الاستدعاء، فيحصل النقل و الانتقال بهذا الاستدعاء و الجواب، و يقدر وقوعه قبل العتق آنا ما، فيكون هذا بيعا لا يحتاج إلى الشروط المقرّرة في عقد البيع (1)، مدفوع: بأنّه مضافا إلى كونه مجرّد تمحّل و تكلّف يستلزم عدم القول بصحّة العتق في أكثر الموارد الّتي لم يكن التمليك الضمنيّ مقصودا للمتكلّم و المخاطب، كالعوام، بل و أكثر الخواصّ، و يستلزم أيضا صحّة تمليكه العبد المأمور بعتقه و انعزال نفسه عن العتق.

و حلّا: بأنّ منافاة «لا عتق إلّا في ملك» (2) لعموم إباحة جميع التصرّفات بالعمومات المذكورة موقوف على أن يكون معناه: لا عتق إلّا في ملك خاصّ، أعني: الخاصّ حصوله بتحصيلك، و هو ليس بأولى من أن يكون معناه: لا عتق إلّا بملك، سواء أحصل بتحصيلك و اختيارك، أم حصل قهرا بجعله تعالى، و استبعاد حصوله القهريّ بجعله تعالى ليس بأشدّ من استبعاد حصوله الاختياريّ بمجرّد استدعاء عتقه عنه مع انتفاء جميع الشروط المقرّرة لعقد البيع، بل و مع انتفاء قصد المتكلّم و المخاطب البيع، سيّما مع عدم النظير شرعا لحصول الملك الاختياريّ الفاقد لجميع الشروط المقرّرة للبيع، و وجود الأشباه و النظائر الكثيرة لحصول العتق القهريّ بجعله تعالى من غير أن يريده المالك، فضلا عن أن يحصّله:

منها: انعتاق العمودين قهرا بمجرّد شرائهما و لو لم يقصده المشتري.

و منها: انعتاق أمّ الولد بمجرّد موت مولاها، و انعتاق المملوك بالعمى و الجذام و الإقعاد و التنكيل، و غير ذلك من الانعتاقات القهريّة الحاصل بجعله تعالى، من غير قصد المالك تحصيلها، و مع ذلك كيف يكون حمل مثل «لا عتق


1- المكاسب: 89.
2- عوالي اللئالي 2: 299 ح 4.

ص: 372

إلّا في ملك» على إرادة تحصيل الملك الاختياريّ أولى من إرادة ما يعمّ حصوله القهريّ بالجعل من عنده تعالى آنا ما قبل التصرفات المالكية، على أن تكون التصرّفات المالكية المترتّبة على الإباحة كاشفة عن سبق حصول الملك القهريّ فيها آنا ما بجعله تعالى و قدرته، كما في تلك الأشباه و النظائر؟ بل الأولى و المتعيّن هو الثاني لا الأوّل؛ و ذلك لأنّ حمله على إرادة الأوّل يستلزم تقييد عموم تحليل التراضي، و طيب النفس، و التسليط للتصرّفات المالكيّة و غيرها بتحصيل ملك اختياريّ في تحليل التصرفات المالكية، و الأصل عدم التقييد و التخصيص.

سلّمنا تساوي المعيّنين و إجمال اللفظ مفهوما إلّا أنّ عموم العامّ مبيّن و رافع احتمال التخصيص بمحتمل التخصّص حسب ما قرّر في محلّه.

و ممّا ذكرنا يعلم: أنّ تنظير الماتن (1) حكومة دليل عدم جواز وطء جارية الغير أو عتقها على عموم طيب النفس و تسليط الناس بحكومة دليل عدم جواز وطء جارية الغير أو عتقها على عموم وجوب الوفاء (2) بالنذر و العهد (3) إذا نذر وطء جارية الغير أو عتقها له أو لنفسها تنظير بما لا يخلو من نظر.

لأنّه إن كانت الجارية المنذور وطؤها أو عتقها ممّا أباح مالكها التصرّف لك فيها كيف ما شئت فحكومة دليل عدم جواز الوطء و العتق على عموم وجوب الوفاء بالنذر ممنوع في المقيس عليه، فكيف في المقيس؟

و إن كانت ممّا لم يبح المالك التصرّف لك فيها فحكومة دليل عدم الجواز على عموم الوفاء بالنذر و إن كان مسلّما إلّا أنّه لا يقتضي حكومة دليل عدم جواز الوطء و العتق على عموم تحليل التراضي و طيب النفس و التسليط؛ لأنّه قياس مع


1- المكاسب: 89.
2- الإنسان: 7، الحجّ: 29.
3- الإسراء: 34.

ص: 373

الفارق، و هو وجود المحلّل في المقيس دون المقيس عليه، فإثبات حكومة دليل عدم جواز التصرّفات المالكية- فيما نحن فيه- بالتنظير المذكور: إمّا مصادرة بالمطلق، أو قياس مع الفارق.

ثمّ إنّ اعتضاد الماتن (1) في توقّف العتق في مسألة «أعتق عبدك عنّي» على تحصيل الملك الاختياري ضمنا بتصريح العلّامة في التذكرة (2) على موافقته له غير صريح في المدّعى؛ لاحتمال إرادة العلّامة قدس سرّه من الالتزام بالملك الضمنيّ التقديريّ هو الملك القهريّ الحاصل بجعله تعالى، لا الملك الاختياريّ المحصّل من قصده، كما لا يخفى على المتأمّل في عبارته المنقولة في المتن.

كما أنّ عدّهم دلالة «أعتق عبدك عنّي» من دلالة الاقتضاء المتوقّف عليه صحّة الكلام شرعا، حيث يفسّرون «أعتق عبدك عنّي» بقولهم، أي: مملّكا له إيّاه يحتمل إرادة التمليك القهريّ المنتزع عن هذا الكلام، لا التمليك الاختياري، فلا يكون في ذلك أيضا صراحة على عدم إباحة التصرّفات المالكية في المعاطاة المقصود بها الإباحة.

نعم، كلّ ما ذكره الماتن من وجوه منع ترتّب إباحة جميع التصرفات المالكية إنّما ينهض حجّة على المنع فيما لو لم يقم دليل شرعيّ على حصول الملكية للمباح له بمجرّد الإباحة، كما في مسألة بيع الإنسان مال غيره لنفسه أو شرائه بمال الغير لنفسه بمجرّد إذن الغير له في بيع ماله لنفسه، أو الشراء بماله لنفسه.

و وجه نهوض وجوه المنع في تلك المسألة دون مسألة المعاطاة مع اشتراكهما في الإذن و قصد الإباحة: أنّ صحّة المعاطاة و لو قصد بها مجرّد الإباحة


1- المكاسب: 89- 90.
2- التذكرة 1: 462.

ص: 374

لما كان ثابتا بالسيرة و الشهرة و العمومات المذكورة، مضافا إلى الأشباه و النظائر الكثيرة كان الالتزام بترتّب جميع التصرفات المالكية عليه و تقدير الملك القهريّ لأجلها ممّا لا بدّ منه، حذرا عن التخصيص و التقييد في دليل الصحّة، بخلاف مسألة بيع مال الغير لنفسه فإنّه لمّا لم يكن دليل شرعيّ من السيرة و لا من غيرها على صحّة انتقال المعوّض إلى غير صاحب العوض، بل و لا نظير له شرعا لم يكن مسرح لتقدير الملك القهريّ فيه، فإنّ تقديره إنّما هو فرع إحراز الصحّة احترازا عن التخصيص في دليل الصحّة، و مع عدم إحراز الصحّة و عدم الدليل عليه كيف يتعقّل الاحتراز عن تخصيصه بتقدير الملك.

و وجه عدم الدليل على صحّتها: أنّ صحّتها متوقّف على أحد أمرين، كلاهما مفقودان فيها حسب ما في المتن (1) تفصيله، فارجع إليه.

و بالجملة: لا ينبغي الإشكال في عدم الدليل على صحّة مسألة البيع أو الشراء لنفسه من مال الغير بمجرّد توكيل الغير إيّاه في ذلك، فإنّه أشبه شي ء بتوكيله في وطء جاريته في عدم صحّته بمجرّد التوكيل.

نعم، لو فهم من توكيله توكيله في تمليك الثمن قبل الشراء، أو المثمن بعد الشراء صحّ الشراء به لنفسه و دخل في ملكه. فالكلام إذا في مقامين:

الأوّل: في أنّ توكيل الغير في البيع أو الشراء لنفسه من مالك على تقدير تصريحه بهذا النحو من التوكيل و عدم الرضا بنحو آخر هل هو نافذ شرعا و ناقل الثمن أو المثمن إلى الوكيل، أو باطل و غير نافذ، كتوكيله في وطء الجارية؟

وجهان، أقواهما الثاني؛ لما عرفت.

الثاني: في أنّه لو لم يصرّح بهذا النحو من التوكيل المقيّد بعدم الرضا بغيره، بأن قال: «وكّلتك بأن تبيع مالي لنفسك» أو «تشتري بمالي لنفسك» من غير


1- المكاسب: 89.

ص: 375

تصريحه بعدم الرضا بانتقال الثمن قبل الشراء، أو المثمن بعد الشراء إلى نفسه فهل يحمل على إرادة صورة صحّة التوكيل، و هو التوكيل في انتقال المال قبل الشراء أو بعده إلى نفسه، أم يحمل على ظاهر اللفظ من إرادة التوكيل في خصوص الشراء من ماله لنفسك من غير توكيل في انتقال المال إلى نفسك؟ وجهان، أقواهما الثاني أيضا؛ نظرا إلى حكومة ظهور اللفظ في الفساد على أصالة الصحّة في التوكيل.

و ممّا ذكرنا في مسألة توكيل الغير في بيع مالك لنفسه يظهر لك: أنّ الحال في مسألة إعطائك الغاصب الثمن أو المثمن بإزاء تناول المغصوب منه كذلك لا يوجب إباحة جميع التصرفات؛ حتّى المتوقّفة على الملك؛ لأنّ المقصود من الإعطاء إن كان إباحة المعطى له فقد عرفت أنّه إنّما ينفذ فيما يثبت جوازه بالإباحة من الخارج، لا فيما لم يثبت جوازه كالوطء و العتق. و إن كان المقصود منه التمليك فالمفروض أنّ سببه البيع، و هو لا يتحقّق إلّا بين عوضين، و رفع يد الغاصب عن المغصوب ليس عوضا البتة، و على ذلك فيجوز رجوع المعطي فيما أعطى الغاصب ما دام عينه باقية في يده. و أمّا فيما لم تكن العين باقية فهو و إن ثبت شرعا عدم رجوعه إلّا أنّه لا يدلّ على سبق إباحة تصرّف الغاصب بالتصرفات المالكية، و تقدير الملك القهريّ كتقديره في المأخوذ بالمعاطاة؛ لاحتمال أن يكون حكم الشارع بعدم رجوعه إلى الغاصب في ما أعطاه مع علمه بالغصب لأجل التأديب، و حكمته الردع عن إعطاء المال للغاصب و أخذ المغصوب منه؛ ليرتدع الغاصب و ينسدّ عليه باب الاستنفاع بالغصب و الاستطماع فيه.

و كذا يظهر لك أنّ الحال في مسألة ما لو صرّح بإباحة جميع التصرفات على غيره كذلك لم يستباح للغير التصرّفات المالكيّة المتوقّفة على الملك بواسطة

ص: 376

تقدير الملك القهريّ؛ لما عرفت من أنّ تقديره فرع إحراز صحّة تلك التصرفات المالكيّة من الخارج بمجرّد الإباحة، و لمّا لم يثبت من الخارج إباحتها بمجرّد الإباحة سيّما إذا قيّدت بزمان خاصّ فإنّ الالتزام بتقدير الملك لأجل إباحة التصرفات المالكية في ذلك الزمان بعيد، و الالتزام بترتيب آثار الملك في غير ذلك الزمان على تقديره في ذلك الزمان أبعد، فلا جرم يقتصر على التصرفات الجائزة شرعا لغير المالك.

بل و كذا الحال في مسألة أكل الطعام في الضيافات، فإنّه لو لا قيام السيرة على عدم جواز الرجوع في قيمة المأكول لم نقدّر الملك القهري قبل الأكل آنا ما، بل أمكن الالتزام بجواز الرجوع إلى الأكل في قيمة المأكول؛ لأنّ الإذن في الأكل أعمّ من الأكل مجّانا، أو مع ضمان القيمة، فيندرج أكله بمجرّد الإذن فيه تحت عموم «من أتلف مال غيره فهو له ضامن». و توهّم انصراف عمومه إلى التلف الغير المأذون فيه مدفوع نقضا برجوع الآذن للغير في الأكل إلى قيمة المأكول إذا لم يكن في الضيافة و نحوه من الموارد الّتي يعلم من شاهد الحال فيها أنّ المراد من الإذن: الإذن مجّانا، لا الإذن بعوض.

و حلّا بعدم وجود شي ء من سببي الانصراف فيه.

بل و كذا الحال على الأحوط بل الأقوى في مسألة المال المأخوذ بالمعاطاة المقصود بها الإباحة، فإنّ في جريان السيرة حتّى إلى صورة قصد الإباحة من المعاطاة، و كذا في نهوض العمومات من «طيب النفس» (1) و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (2) و «تسليط الناس» (3)، حتّى إلى تلك الصورة محلّ للتأمّل و مجال للمناقشة، و إن استظهرنا في الأوّل دفع جميعها بأبلغ وجه إلّا أنّ الاحتياط مع ذلك سبيل النجاة و لا ينبغي تركه.


1- انظر الهوامش (2 و 3) ص: 369 و هامش (1) ص: 370.
2- انظر الهوامش (2 و 3) ص: 369 و هامش (1) ص: 370.
3- انظر الهوامش (2 و 3) ص: 369 و هامش (1) ص: 370.

ص: 377

قوله: «أمكن الجمع بينهما بالقول بتحصيل الملك القهريّ آنا ما. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ الالتزام بالملك القهريّ المخالف للأصل ليس بأولى من تعميم الملك من قوله: «لا عتق إلّا في ملك» (1) للأعمّ من ملك العين، أو ملك التصرّف، بل و لا من تخصيص عموم «لا عتق إلّا في ملك» بتحكّم تعميم سلطنة الناس على أموالهم، و تعميم أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ (2)، و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ و «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفسه»، خصوصا على القول بانتزاع المالكية، كسائر الأحكام الوضعيّة من الأحكام الشرعية.

قوله: «لا يوجب جواز التصرّفات المتوقّفة على الملك. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى منع جوازه؛ لدخوله في عموم لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ* (3)، إلّا إذا فرض تمليك ثمن المغصوب مجّانا أو عوضا عن رفع اليد العارية، لا تملّك المغصوب، و الفرض الأوّل غير حاصل، و الثاني داخل في عموم الباطل.

[الخامس في حكم جريان المعاطاة في غير البيع من العقود]

قوله: «الخامس: في حكم جريان المعاطاة في غير البيع من العقود».

أقول: الوجوه، بل الأقوال في حكم المسألة أربعة:

أحدهما: جريان المعاطاة في جميع العقود، بل و في الإيقاعات أيضا، إلّا ما خرج، كالنكاح و الطلاق.

ثانيها: عدم جريانه في غير البيع مطلقا.

ثالثها: التفصيل بين جريانها في الإجارة و الهبة دون غيرهما؛ نظرا إلى أكثريّة تداول السيرة بالمعاطاة فيهما من السيرة في غيرهما.

رابعا: التفصيل بين جريانها في ما عدا المبنى ذاته في الشريعة على اللزوم


1- عوالي اللئالي 2: 299 ح 4.
2- البقرة: 275.
3- النساء: 29.

ص: 378

من العقود، و عدم جريانها في المبنى ذاته شرعا عليه كالرهن.

فإن قلت: إنّ جريانها في ما عدا البيع من العقود ينافي حرصهم على ضبط الصيغ الموجبة لانعقاد سائر العقود و تميّزها عمّا لا يوجب انعقادها به، فضبطهم في كلّ باب من أبواب العقود و الإيقاعات للصيغ الموجبة لانعقاد ذلك الباب، و تخصيص انعقاد العقود بالصيغ الخاصّة بكلّ واحد منها دليل عدم جريان المعاطاة فيها.

قلت: أمّا ضبطهم صيغ العقود اللازمة فلعلّه لأجل بيان توقّف لزوم ذلك العقد عليها دون توقّف أصل الصحّة عليها، كما هو المتعيّن في ضبطهم صيغة البيع مع اتّفاقهم ظاهرا على صحّته بالمعاطاة.

و أمّا ضبطهم صيغ العقود الغير اللازمة مع حصولها بمجرّد المعاطاة و عدم توقّف حصولها على الصيغة فلعلّه لأجل الفرق بين ما يحصل بالصيغة، و ما لا يحصل بها في صراحة دلالة الألفاظ على القصود، و عدم احتياجها إلى ضمّ شي ء من القرائن الكاشفة عن المراد، و قصور دلالة الأفعال عن تلك الصراحة فتحتاج إلى ضمّ ما يصرّح كشفها عن المراد من القرائن الحاليّة أو المقاليّة. أو لعلّه لأجل أنّ بتلك الصيغ من الآثار و الأحكام المختصّة ما ليس لمجرّد المعاطاة و الإذن منها، كما لا يخفى على المتتبّع الخبير.

و بالجملة: فضبط الصيغ للعقود الجائزة لا يدلّ على انحصار انعقادها في الصيغ، بل يجوز اشتراك المعاطاة معها في الجواز.

ثمّ إنّ الدليل على جواز تعدّي المعاطاة إلى سائر العقود، بل و إلى الإيقاعات يمكن أن يكون وجوها، أقواها ما عن الشيخ صاحب كشف الغطاء:

من دعوى جريان السيرة المستمرّة خلفا عن سلف في كلّ من العقود على المعاطاة فيها، حتّى في الرهن و الوقف. بل و كذا سيرتهم في الإيقاعات- كالنذور و العهود- أيضا جارية على الاكتفاء بمجرّد النيّة، أو المقاولة بما عدا الألفاظ

ص: 379

الخاصّة بها شرعا. و إذا علمنا باستمرار سيرتهم و جريان طريقتهم على ذلك من أزمنة المعصومين عليه السّلام و عدم استحداثها في الأزمنة المتأخّرة فلا إشكال في كشفها عن رضا المعصوم و تقريره إيّاهم، و هو قويّ في النظر؛ لأنّ المنع من كشفها عن التقرير منحصر في أمور لا تتأتّى في المقام:

منها: منع أصل جريان السيرة في غير البيع، و لا مجال لمنعه، لشهادة العيان على ثبوت السيرة من قديم الزمان في إجازة الحمّاصيّ و السفن و الدوابّ و المرابط و المساكن المعدّة للمتطرّقين. و كذا في سائر العقود على التعاطي.

و منها: منع استمرار هذه السيرة في زمن المعصومين و دعوى حدوثها في الأزمنة المتأخّرة، و لا مجال لمنعه أيضا؛ لأنّه خلاف قضاء العادة، ضرورة قضاء العادة بأنّه لو كانت سيرة زمن المعصوم على خلاف سيرة أهل زماننا لوصل إلينا الخبر، و إذ ليس فليس.

و منها: منع اطّلاع المعصوم من الطرق البشريّة بتلك السيرة المستمرّة في زمانه، حتّى يستكشف من عدم ردعه تقريره و رضاه بها، و هو بعيد عادة في طول زمان حضورهم فيما بين الناس بما يقرب من ثلاثمائة سنة.

و منها: منع تقرير المعصوم إيّاهم، و هو أبعد من سوابقه، لأنّ عدم ردع المعصوم عمّا جرت عليه سيرتهم مع تمكّنه في طول ذلك الزمان عن ردعهم و وجوب ردعه عن الباطل مهما أمكن من باب اللطف الّذي هو منصبه كاشف قطعيّ عن تقريره إيّاهم و رضاه.

و منها: منع تمكّنه من الردع و هو بعيد جدّا في طول ذلك الزمان، مع عدم مانع من تقيّة و لا من غيرها.

و منها: عدم ردعهم عن السيرة، و هو أبعد من سوابقه أيضا؛ لقضاء العادة بأنّه لو ردع لوصل إلينا الرادع، لتوفّر الدواعي عليه.

ص: 380

و احتمال إحالته عليه السّلام الردع إلى الأصول و العمومات أيضا بعيد جدّا، فمن منصبه الردع بقاعدة وجوب اللطف في مثل ما جرت عليه سيرة الناس، فقضاء اللطف و العادة في الردع عمّا جرت عليه السيرة ينبغي أن يبلغ في الكثرة و الشدّة مبلغ الردع عن القياس في عدم الاكتفاء بالحوالة إلى الأصول و عمومات (1) حرمة العمل بالظنّ؛ لقضاء اللطف أن يكون الردع عن كلّ شي ء بحسبه.

و من هنا يعلم إحياء دلالة أكثر سيرات المسلمين على تقرير المعصوم و كشفها عنه بعد تحقّق أصل السيرة، و دفع احتمال نشؤها عن عدم المبالاة ما لم يقم على بطلانها ما هو مقاوم لها من الأدلّة؛ لانحصار بطلانها في منع أصل موضوعها، و إلّا فبعد تسليم أصل موضوعها تكون بمنزلة أصل أصيل في الكشف عن التقرير ما لم يقم على خلافها الدليل؛ لبعد ما ذكر من سائر موانع كشفها عن التقرير بعد فرض تحقّقها و اطّلاع المعصوم بها.

فتلخّص ممّا ذكر: قوّة القول بتعدّي المعاطاة عن البيع إلى جميع العقود، حتّى الرهن و الوقف، إلّا ما خرج بالدليل، كالنكاح و الطلاق.

و أمّا استشكال الماتن (2) قدس سرّه تبعا لجامع المقاصد (3) في جريان المعاطاة في الرهن بأنّها في البيع: إمّا مفيدة للإباحة، أو الملكية الجائزة على الخلاف، و الأوّل غير متصوّر في الرهن. و أمّا الجواز فكذلك؛ لأنّه ينافي الوثوق الّذي به قوام مفهوم الرهن، خصوصا بملاحظة أنّه لا يتصوّر في الرهن ما يوجب رجوعها إلى اللزوم ليحصل به الوثيقة في بعض الأحيان فمدفوع: إمّا على تقدير إفادتها الإباحة- كما هو المختار- فلأنّ الإباحة الغير المتصوّرة في الرهن إنّما هي الإباحة المتصوّرة في البيع، أعني الإباحة من الطرفين. و أمّا الإباحة من طرف


1- يونس: 36، الحجرات: 12.
2- المكاسب: 90.
3- جامع المقاصد 5: 45.

ص: 381

المرتهن فهي متصوّرة قطعا. مضافا إلى أنّ عدم تصوّرها من طرف الراهن إنّما هو لدليل خاصّ، و هو عموم حرمة الربا (1) أو غيره، و إلّا فلا مانع من تصوّرها من طرفه أيضا.

و إمّا على تقدير إفادتها الملك الجائز فلأنّ منافاة الجواز إنّما هو للوثوق التامّ الملزم شرعا. و أمّا الوثوق في الجملة فلا ينافيه الجواز البتّة.

و قوله: لا يتصوّر في الرهن ما يوجب رجوع الجواز إلى اللزوم ليحصل به الوثيقة في بعض الأحيان (2) ممنوع؛ لتصوّر رجوعه إلى اللزوم بواسطة النذر، أو العهد، أو الحلف، أو التصرّف و لو من طرف الراهن في الدين فإنّه كاف في الملزميّة من الطرفين، كما أنّه كاف في ملزميّة البيع من الطرفين على ما سيجي ء في بيان الملزمات، و بيان أنّ الملزم للمعاطاة فيما تجري فيه من العقود الأخر هو الملزم في باب البيع، كما اعترف به الماتن قدس سرّه أيضا.

ثمّ إنّ من جملة ما استدلّ به على تعدّي المعاطاة إلى سائر العقود: ما استظهره الماتن (3) من التذكرة: من عدم القول بالفصل بين البيع و غيره، حيث قال في باب الرهن من التذكرة (4): إنّ الخلاف في الاكتفاء فيه بالمعاطاة و الاستيجاب و الإيجاب عليه المذكورة في البيع بجملتها آت هنا. انتهى.

و لكنّ عبارته المنقولة ظاهرة في عدم قوله بالفصل، لا عدم قول بالفصل، لا منه و لا من غيره.

و من جملتها: إطلاق أدلّة كلّ باب من أبواب العقود.

و فيه: أنّه لا إطلاق لكلّ باب من أبواب العقود حتّى يفي به على تعدّي المعاطاة إليه؛ و ذلك لعدم إطلاق في بعضها أصلا، و ورود إطلاق بعض ماله


1- البقرة: 275.
2- المكاسب: 90.
3- المكاسب: 90.
4- التذكرة 2: 12.

ص: 382

إطلاق مورد بيان حكم آخر، كإطلاق ما في باب الرهن من قوله تعالى فَرِهٰانٌ مَقْبُوضَةٌ (1)، فلم يبق إطلاق سليم عن الانصراف يصحّ التمسّك به على صحّة ذلك الباب بالمعاطاة، إلّا قليل: كإطلاق قوله عليه السّلام في باب الصلح: «الصلح جائز» (2)، و في باب الإجازة: «الإجارة نافذة» (3)، و في باب البيع أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ (4).

و من جملتها: التمسّك بصحّة إطلاق موضوع كلّ عقد من العقود و أساميها على المعاطاة فيه- مثلا- يصحّ عرفا إطلاق لفظ «الإجارة» على الإجارة بالمعاطاة، فيشملها حكم الإجارة.

و فيه: أنّ مرجعه إلى إطلاق أدلّة العقود الّذي عرفت عدم اشتمال كلّ العقود عليه، و إلّا فالحكم لا يتبع صدق اسم الموضوع ما لم يحرز فيه الإطلاق، بل قد ينفكّ الكبرى و الحكم عن الصغرى، و الموضوع عند عدم كلّية الكبرى و إطلاق الحكم، فإثبات الحكم و الكبرى على الموضوع و الصغرى في الجملة لا يستلزم إثباته دائما. كما أنّ إثبات الحكم على الطبيعة لا يستلزم إثباته على جميع الأفراد إلّا على العموم السريانيّ الّذي ارتضاه صاحب القوانين (5).

و لكنّا تعرّضنا لدفعه في محلّه نقضا: بأنّ القول بالعموم السرياني- أعني سراية حكم الطبيعة إلى أفراده- يستلزم سدّ باب انصراف المطلقات إلى الأفراد الشائعة، و عدم الفرق بين الشائعة و الأندرة، فضلا عن النادرة، و هو بمكان من


1- البقرة: 283.
2- الوسائل 13: 164 ب «3» من أبواب أحكام الصلح.
3- لم نظفر عليه بهذا اللفظ، و ورد بلفظ: «فالإجارة جائزة»، انظر مستدرك الوسائل 14:
4- البقرة: 275.
5- قوانين الأصول 1: 217- 218.

ص: 383

الندور.

و حلّا: بأنّ حكم الطبيعة لا يستلزم السراية إلى شي ء من الأفراد، بل يجوز أن يحكم على الطبيعة بحكم لا يتأتّى في شي ء من أفراد تلك الطبيعة، بأن يقال مثلا: إنّ طبيعة الرّمان لها كذا من الخواصّ، لكنّ في كلّ واحد من أفراده خصوصيّة مانعة عن تلك الخاصّيّة، فإذا كان للطبيعة من حيث هي خاصّيّة أمكن مانعيّة خصوصيّة كلّ واحد من أفرادها عن تلك الخاصيّة، فلا دليل على سراية خاصيّة الطبيعة إلى شي ء من أفراده، سوى لزوم اللغويّة في كلام الحكيم من إثبات الخاصيّة للطبيعة عند انفكاكها عن جميع الأفراد المفروضة له. و معلوم أن الاحتراز عن لزوم اللغويّة و ارتفاع ملازمة الهذريّة لا يقتضي بأزيد من التعدّي إلى فرد واحد من أفراد تلك الطبيعة إلّا بالرجوع إلى دليل الحكمة، أعني: ضميمة أصالة عدم الإجمال في كلام الحكيم، و عدم المرجّح- لتعيين ذلك الفرد المسري إليه حكم الطبيعة من بين سائر الأفراد الشائعة الّذي يقتضي تعدّي حكم الطبيعة إلى الأفراد الشائعة.

فتبيّن أنّ ثبوت الحكم على طبيعة أحد العقود لا يقتضي سرايته إلى كلّ ما صدق اسم ذلك العقد عليه بقاعدة العموم السرياني، إلّا بالرجوع إلى العموم الحكمتيّ المتوقّف على إحراز إطلاق الحكم الّذي قد عرفت خلوّ كثير من أبواب العقود عن ذلك الإطلاق، فلا يتمّ التمسّك به في تعدّي المعاطاة إلى جميع العقود.

قوله: «و فيه: أنّ معنى جريان المعاطاة في الإجارة .. إلخ».

أقول: و يندفع هذا الإيراد عن المحقّق الثاني (1) أوّلا: بمنع كون معنى جريان المعاطاة في الإجارة عنده هو إفادة الملكية، و ذلك لأنّ التزام المحقّق بإفادة المعاطاة الملكيّة في البيع لا يستلزم التزامه بإفادتها الملكية في غير البيع،


1- جامع المقاصد 4: 59.

ص: 384

بل قد صرّح بإفادتها الإباحة في القرض على ما حكى الأستاذ (1) عنه في صيغ العقود.

و ثانيا: سلّمنا أن يكون معنى جريان المعاطاة في الإجارة هو إفادة الملكيّة لكنّ الإيراد عليه بقوله: «لم نجد من صرّح به»، و بقوله: إن توقّف الملك في الهبة على الإيجاب و القبول كاد أن يكون متّفقا عليه مشترك الورود بين البيع و غيره»، فبعد التزامه بإفادة المعاطاة الملكية في البيع مع عدم وجدان من صرّح به، بل و مع ظهور الاتّفاق على خلافه حسب ما تقدّم كيف يستوحشه الالتزام بمثله في غير البيع بمجرّد عدم وجدان من صرّح به و مجرّد استقراب الاتّفاق على خلافه في الهبة؟!

قوله: «موضوع نظر؛ لأنّ فساد المعاملة يوجب منعه عن العمل .. إلخ».

[أقول:] و فيه منع النظر، إذ من الظاهر أنّ مقصود الفقيه المستدلّ على جريان المعاطاة في الإجارة و الهبة بقوله: «لو كان هذه إجارة فاسدة لم يستحقّ اجرة مع علمه بالفساد (2) .. إلخ» هو عدم جواز العمل له، و عدم استحقاقه الأجرة عليه من حيث الإجارة، و من جهة تلك المعاملة الخاصّة، لا عدمها مطلقا، أعني:

من جميع الحيثيّات و الجهات حتّى يرد عليه ما أورده الماتن قدس سرّه من المنع.

قوله: «و الجواز غير معروف في الموقف من الشارع، فتأمّل» (3).

[أقول:] إشارة أوّلا: إلى المنع من عدم معروفيّة جوازه لفتوى الذكرى (4) في وقف المساجد، بل و للسيرة القطعية في وقف الآبار و الأنهار و القناطر و المقابر و المنابر، و سائر الأوقاف العامّة دون الخاصّة بنوع أو صنف.


1- رسائل المحقّق الكركي 1: 187.
2- جامع المقاصد 4: 59.
3- المكاسب: 90.
4- ذكري الشيعة: 157.

ص: 385

و ثانيا: لو سلّم عدم معروفيّة جوازه فلعلّه من جهة لزومه بمحض الإعطاء و التصرّف الوقفيّ بنيّة القربة الملزمة للصدقات، أو لإعراض المخرج عن الملكيّة.

و ثالثا: عدم معروفيّة الجواز لا يمنع من جوازه بالأصل.

[الأمر السادس في ملزمات المعاطاة]

قوله: «الأمر السادس: في ملزمات المعاطاة .. إلخ».

أقول: أصل ما يمكن أن يكون ملزما للمعاطاة أمور من التصرفات:

منها: التلف، و ينقسم إلى تلف العوضين كلاهما، أو أحدهما، أو بعض كلّ منهما، أو بعض أحدهما. و على كلّ منهما ينقسم الملزم إلى ما يحكم به العقل، كإدخال العوضين في ملك المتعاوضين، و إلى ما يحكم به الشرع تعبّدا، كإدخال العوضين في حكم مال المتعاوضين و إن كان كلّ منهما باقيا على ملك المالك الأوّل، و على كلّ منهما: إمّا أن يفيد المعاطاة الإباحة، أو الملكيّة.

و منها: الخلط و المزج، و ينقسم إلى امتزاج الأحسن بالأدون، أو بالأعلى منه، أو بالمساوي له.

و منها: التصبيغ و التلوين، و ينقسم إلى ما يكون الصبغ مزيدا لقيمة المصبوغ، أو منقصا له، أو لا مزيدا و لا منقصا.

رابعها: تغيير الصورة بغير الصبغ، كطحن الحنطة، و فصل الثوب المنقسم أيضا إلى ما يزيد في القيمة أو ينقص، أو لا يزيد و لا ينقص.

خامسها: النموّ بالنماء المتّصل بالعوص من حين التعاطي، أو المنفصل المتجدّد فيه بعد التعاطي، إلى غير ذلك من أنواع التصرّفات المختلفة المتشتّتة بأنواع متكثّرة. و الكلام في ملزميّة هذه التصرفات و عدم ملزميّتها: تارة من حيث الأصل لو شككنا في ملزميّتها، و تارة من حيث مقتضى الدليل في ملزميّتها.

أمّا الكلام في تأسيس الأصل ففي اقتضاء الأصل ملزميّتها مطلقا، أو عدم

ص: 386

ملزميّتها مطلقا، أو التفصيل بين الالتزام بملزميّتها على تقدير إفادة المعاطاة الملكية، و عدم ملزميّتها على تقدير إفادتها الإباحة، أو التفصيل بالعكس، أعني:

ملزميّتها على تقدير الإباحة و عدم ملزميّتها على تقدير الملكية وجوه أربعة، بل ربّما قيل: أقوال أربعة، و تشخيص الأصل الأصيل منها يتوقّف على تشخيص مقدّمة، أعني: تشخيص كون الرجوع و جوازه هل هو من عوارض العوضين و صدق الترادّ حتّى يمتنع بارتفاع مورد الترادّ كما ارتضاه الماتن (1)، أم من خواصّ ترادّ العين و بقاء أحد العوضين و لو تلف الآخر، كما عن شرح القواعد اختياره حتّى لا يمتنع إلّا بتلف كلّ العوضين، لا بتلف أحدهما فقط، أم هو من عوارض العقد و لو كان العقد فعليا كما فيما نحن فيه، كخيار الفسخ، لا من عوارض بقاء العوضين حتى يكون الرجوع فسخا فيما نحن فيه، فيستصحب جوازه حتّى بعد تلف العوضين، كجواز الفسخ بعد تلف العوضين، كما عن الجواهر (2) اختياره، و مرضيّ أستاذنا العلّامة؟ وجوه.

أمّا كونه من عوارض العوضين و الترادّ المتفرّع عليه امتناع جواز الرجوع بعد تلف العينين فهو و إن كان هو مقتضى الاقتصار على القدر المتيقّن من جواز الرجوع إلّا أنّه يستلزم جواز الرجوع إلى العوضين مع بقاء العقد و العهد المعهود بين المتعاوضين، و مرجعه إلى الالتزام بجواز الرجوع إلى العوضين تعبّدا مع بقائهما على مال المتعاوضين، و هو مستلزم بتخصيص عموم «من أتلف مال غيره فهو له ضامن» (3)، و عموم «الناس مسلّطون على أموالهم» (4)، و عموم


1- المكاسب: 91.
2- الجواهر 22: 235.
3- لم نجده بهذا اللفظ، و ورد مضمونه في أحاديث، انظر الوسائل 18: 239 ب (11) من أبواب الشهادات ح 2 و 3.
4- انظر هامش (1) ص: 370.

ص: 387

لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ* (1)، و عموم «لا يحلّ مال امرئ مسلم» (2)، بخلاف كونه من عوارض العقد المترتّب عليه جواز الرجوع حتّى بعد التلف، فإنّه و إن كان مخالفا لمقتضى استصحاب بقاء الملكية أو الإباحة الثابتتين قبل الرجوع إلّا أنّه غير مخصّص للعمومات المذكورة حتّى يوجب تخصيصها به.

و من البيّن أنّه متى دار الأمر بين الالتزام بمخالفة العموم و بين الالتزام بمخالفة الاستصحاب كان المرجع إلى العموم و رفع اليد عن الاستصحاب. و لهذا قيل: إنّ الأصل دليل حيث لا دليل، و لا شكّ أنّ العموم دليل، كما يشخّص حكم معلوم الفرديّة بأصالة عدم التخصيص كذلك يشخّص فرديّة معلوم الحكميّة بأصالة عدم التخصيص. ألا ترى أنّ «أكرم العلماء» كما يقتضي إكرام معلوم العالميّة من الأفراد المشكوك حكمها كذلك يقتضي عالميّة معلوم الإكرام من الأفراد المشكوك عالميّتها بأصالة عدم التخصيص، فكذلك عموم «من أتلف مال غيره فهو له ضامن»، و عموم تسليط الناس على أموالهم، و عموم لٰا تَأْكُلُوا*، و «لا يحلّ مال امرئ مسلم» يقتضي أن يكون جواز الرجوع إلى العوضين من عوارض فسخ العقد، لا من عوارض بقاء العوضين؟! و لو كان العقد المعهود فيما بين المتعاوضين باقيا على مقتضاه- و هو دخول كلّ من العوضين تحت مال من هو في يده- فحكم الشارع بجواز الرجوع إلى العوض، و جواز إتلافه مع بقائه تحت سلطنة ذي اليد، و عدم رضائه بالرجوع موجب تخصيص عموم «تسليط الناس على أموالهم»، و عموم «من أتلف مال غيره فهو له ضامن»، و عموم «لا يحلّ»، و لٰا تَأْكُلُوا*، بخلاف كونه من عوارض العقد، فإنّ جواز الرجوع إلى العوض و جواز إتلافه على هذا التقدير متفرّع على فسخ العقد، و خروج العوض عن تحت يد ذي اليد، و دخوله تحت مال المفسخ، فلا يلزم عليه تخصيصا ممّا


1- انظر هامش (2 و 3) ص: 369.
2- انظر هامش (2 و 3) ص: 369.

ص: 388

يلزم على التقدير الأوّل.

فإن قلت: على تقدير كون الرجوع إلى العوض من عوارض العوضين نلتزم بالملك التقدير بجعله تعالى حتّى لا يلزم عليه تخصيص العمومات المذكورة.

قلت: مضافا إلى كون الالتزام بالملك التقدير في المرجوع إليه مخالف للاتّفاق ظاهرا و متفرّع على خصوص ما لو لم يكن للملك الاختياري فيه سبيل- كما في انعتاق العمودين على المشتري- لا شكّ أنّ الالتزام به أشبه شي ء بالأكل من القضاء، ضرورة أنّ الالتزام بكون الرجوع مفسخ للعقد و العهد و موجب لرجوع المرجوع إليه إلى مال الراجع و الفسخ أسهل بمراتب من الالتزام ببقاء العوضين تحت يد المتعاوضين، و استناد جواز الرجوع مع ذلك إلى تقدير ملك تقديريّ قهريّ مخلوق بجعله تعالى و إن لم يرض به صاحب المال.

هذا كلّه مضافا إلى كون الرجوع من مقتضيات فسخ العقد لا العوضين من الأمور المذكورة في طباع الناس السليمة عن شوائب الأوهام جبلّة، و لهذا تراهم يستندون في جواز الرجوع إلى العوض إلى الندامة، و فكّ العقد و العهد المقرّر بينهم على المعاملة، لا إلى بقاء العوضين و صدق الترادّ، و به الكفاية شاهدا على المطلق.

و بالجملة: فأوّلا: نستظهر الإجماع و الاتّفاق على كون الجواز من عوارض العقد، لا العوضين من أمور:

أحدها: من جواز فسخ المعاملة و العقد عند عدم قصد الترادّ؛ لعدم القدرة عليه، أو لعدم إرادته، أو للإغماض عنه، فإنّ جواز فسخ العقد و المعاملة- سيّما من الطرفين مع بقاء العوضين- إجماعيّ، و هو دليل إثبات كون الرجوع من عوارض العقد، لا الترادّ.

ص: 389

ثانيها: من الأولويّة القطعيّة، فإنّ كون جواز الرجوع في العقد اللازم و المعاملة مع الصيغة من عوارض العقد و آثار الفسخ يقتضي كونه من عوارض العقد و آثار الفسخ في العقد الجائز، و المعاملة المعاطاتيّة بالطريق الأولى، و إلّا لزم أن تكون العقود الجائزة و المعاملة المعاطاتية أشدّ و أوثق من المعاملة اللازمة و العقد بالصيغة.

و ثالثها: من قولهم: «الأفعال قاصرة عن الدلالة بخلاف الألفاظ اتّفاقا».

فإنّه كالصريح في الاتّفاق على قابلية المعاملات الفعلية للفسخ و الخيار الّذي هو من عوارض العقد لا العوضين.

رابعا: من قولهم: «تلف العوضين ملزم للمعاطاة إجماعا»، فإنّه كالصريح أيضا في اتّفاقهم على كون المعاطاة معاملة جائزة، و كلّ ما كان جائزا فالرجوع فيه من عوارض العقد، لا العوضين، إلى غير ذلك من الأمور الدالّة الكاشفة عن اتّفاقهم على جواز كون المعاطاة معاملة جائزة، و كون الرجوع فيه من عوارض العقد و فسخه، و مقتضاه جواز الرجوع و أصالة عدم ملزميّة شي ء من الملزمات المذكورة باستصحاب عدمها إلى أن يثبت الملزميّة من إجماع و نحوها. كما أنّ مقتضى القول بلزوم المعاطاة و عدم خروجها عن تحت أصالة اللزوم بالإجماعات المتقدّمة على خروجها هو استصحاب الملزميّة إلى أن يثبت من الخارج مخرج.

و ثانيا: لو تمشّينا و تنزّلنا لقلنا: إنّ معنى الترادّ لا يخلو: إمّا جواز رجوع كلّ من المتعاوضين إلى عوضه تعبّدا من الشارع على قهر المتعاوض الآخر و بقاء العوض على ماله. و إمّا جواز الرجوع إلى عوضه مع رجوع العوض إلى ماله بالفسخ و حلّ العقد. و هذا يتصوّر على وجهين:

أحدهما: أن يكون بقاء العوضين جزءا من موضوع جواز الرجوع و هو الفسخ.

ص: 390

و ثانيهما: أن يكون بقاؤهما شرطا و قيدا للحكم بجواز الرجوع.

أمّا الترادّ بالمعنى الأوّل فقد عرفت أنّه مخصّص لعموم سلطنة الناس على أموالهم، و عموم أدلّة ضمان المتلف مال غيره، و عموم سائر المطلقات المتقدّمة، مع أنّ تجويز الشارع الرجوع إلى العوض مع بقائه على مال الغير و إلغائه رضاه على رغم أنفه بعيد بالغاية، و فضيح إلى النهاية، و ليس له نظير سوى حقّ المارّة على القول به مع الكراهة، بخلاف تقدير فسخ العقد فإنّه مخصّص لتلك العمومات بالتقريب المتقدّم. و لو سلّمنا أنّ كلّا منهما مخصّص فلا أقلّ من دوران الأمر بين تخصيصين، و لا ترجيح لأحدهما على الآخر، فلا بدّ من الرجوع إلى الخارج في الترجيح.

لا يقال بمرجوحيّة تخصيصها بفسخ العقد، نظرا إلى أنّ الآثار المترتّبة على فسخ العقد أكثر من الآثار المترتّبة على الترادّ، ضرورة أنّ الترادّ فرع بقاء العوضين، بخلاف الفسخ.

لأنّا نقول: أكثريّة آثار أحد التخصيصين لا يصيّره أكثر من تخصيص واحد حتّى يرجّح عليه التخصيص الآخر، و ليست النسبة بين التخصيصين من قبيل النسبة بين الأقلّ و الأكثر حتّى يأخذ بالأقلّ أيضا، بل النسبة بينهما من قبيل النسبة بين المتباينين و الشكّ في الحادث، فالمرجع إلى الخارج.

و أمّا الترادّ بالمعنى الثاني فهو على تقدير تعقّله و عدم رجوعه إلى المعنى الثالث لا دليل على ثبوته، و احتماله غير قادح في جواز استصحاب حكم الموضوع مطلقا، حتّى عند انتفاء ما يحتمل اعتبار بقائه جزءا في الموضوع، بناء على ما هو المشهور المنصور من المسامحة في موضوع الاستصحاب، لا المداقّة.

و أمّا الترادّ بالمعنى الثالث فلا دليل على ثبوته و إن تعقّل ثبوته، و احتماله

ص: 391

غير قادح في مجرى استصحاب الحكم مطلقا، حتّى عند انتفاء ما يحتمل اعتبار بقائه شرطا في الحكم، أعني: في حكم جواز الرجوع إلى العوضين في مفروض الجواز من المعاملات.

فتلخّص ممّا ذكرنا: أنّ المعاطاة مبنيّة على الجواز، لا اللزوم، و أنّ الرجوع فيها من عوارض العقد، لا العوضين، و مقتضاه جواز الرجوع فيها مطلقا، آخذا باستصحاب جواز الرجوع، و عموم تسليط الناس على أموالهم، سواء قلنا بإفادة المعاطاة الإباحة أو الملكية، و سواء أتلف العوضان أم لم يتلفا.

لا يقال: إنّه على تقدير تلف العوضين لا مجرى لاستصحاب جواز الرجوع قبل التلف، لتبدّل موضوع الاستصحاب، و لا نهوض لعموم تسليط الناس على أموالهم بعدم بقاء صدق المالية بعد تلف المال.

لأنّا نقول: رفع قدرة المتلف عن إرجاع المتلوف إلى صاحبه لا يوجب انعدامه، بل إنّما يوجب انتقاله من عالم القدرة على إرجاعه إلى عالم عدم القدرة عليه، و بمجرّد ذلك لا يخرج عن صدق المالية، بل غايته أنّه ينقلب التكليف بإرجاعه إلى التكليف بإرجاع مثله، أو قيمته، و لهذا ترى المتداول في ألسنة المدّعين مطالبة المتلف أموالهم المتلوفة مع علمهم بإتلافها من غير نكير لهم، فتدبّر.

لا يقال: إنّ أصالة بقاء سلطنة مالك العين الموجودة المقتضية جواز الرجوع بعد التلف معارضة بأصالة براءة ذمّته عن مثل التالف أو قيمته.

لأنّا نمنع المعارضة، لكن لا لورود عموم «على اليد ما أخذت» (1) على استصحاب عدم الضمان السابق هنا حتّى يندفع بأنّ هذه اليد قبل تلف العين لم تكن يد ضمان، بل و لا بعده إذا بنى مالك العين الموجودة على إمضاء المعاطاة


1- المستدرك 17: 88 ب «1» من أبواب كتاب الغصب ح 4.

ص: 392

و لم يرجع، بل إنّما هو لحكومة أصالة بقاء السلطنة على أصالة عدم الضمان بالمثل أو القيمة إن لم نقل بورودها عليه، نظرا إلى رجوعها إلى الأصل اللفظي، و هو عموم تسليط الناس على أموالهم.

فتلخّص ممّا ذكرنا: أنّ الأصيل الأصيل هو جواز الرجوع إلى العوضين بعد تلفهما، و إذا ثبت جواز الرجوع بعد تلفهما بالأصل الأصيل ثبت جوازه بعد سائر التصرّفات الغير المتلفة، أو المتلفة من طرف دون طرف، أو بعضا دون بعض بالطريق الأولى. هذا كلّه في مقتضى الأصل.

و أمّا مقتضى الدليل ففيما إذا تلف العوضين كلاهما أو أحدهما: هو عدم جواز الرجوع و ملزميّة التلف للمعاطاة، لظهور الإجماع عليه المصرّح به في المتن (1) و غيره.

و لو سلّمنا عدم الإجماع على ملزميّة التلف خصوصا في تلف أحد العوضين دون الآخر، بل في مطلق التلف، نظرا إلى ما نقله الماتن (2) عن بعض مشايخه (3) و معاصريه تبعا للمسالك (4) من القول بعدم اللزوم في تلف العوضين على القول بالإباحة في المعاطاة إلّا أنّه لا أقلّ من الشهرة الكافية في الحكم بالملزميّة. مضافا إلى أنّ عموم قاعدة «لا ضرر» أيضا قاض بالملزميّة، و عدم جواز الرجوع فيما يلزم من الرجوع فيه الضرر على المتلف بضمان القيمة أو المثل.

لا يقال: إنّ مدلول القاعدة هو نفي الضرر الناشئ عن قصور النفس و عدم اختيار دفعه، دون نفي الضرر الناشئ عن تقصير نفسه بواسطة عدم توثيقه المعاملة و شدّها و أحكامها بالصيغة.


1- المكاسب: 91.
2- المكاسب: 91.
3- المناهل: 269- 270.
4- مسالك الأفهام 3: 149.

ص: 393

و بعبارة أخرى: معنى «لا ضرر»: هو عدم جعله تعالى في الشريعة حكما مضرّا بالمكلّفين، فلا يشمل نفي الضرر الناشئ عن قبل نفس المكلّف كما في ما نحن فيه.

لأنّا نقول: بعد الإجماع على إباحة المعاطاة لا يعدّ ارتكابه تقصيرا و الإضرار الناشئ عنه إضرارا ناشئا عن التقصير. نعم، لو لم يكن مباحا كان الضرر الناشئ ناشئا عن قبل نفسه فلا يكون الضرر المترتّب عليه منفيّا بقاعدة «لا ضرر».

لا يقال: لو بنينا على عموم قاعدة نفي الضرر لزم عدم جواز الرجوع حتّى في بعض صور عدم تلف شي ء من العوضين لو لزم الضرر من الرجوع، كما في رجوع المكري للدابّة أو السفينة في أثناء الطريق الّذي يتعسّر فيه الإكراء، أو تعلو فيه قيمة الكراء بأضعاف القيمة الأولى، فإنّ الرجوع في أمثال ذلك أيضا يستلزم إدخال الضرر على من يرجع إليه مع جوازه قطعا. مضافا إلى أنّه قد يلزم الضرر من عدم الرجوع فيما لو فرض تصاعد قيمة المبيع و الإجارة بأضعاف قيمته الأولى.

لأنّا نقول: نمنع الملازمة بعدم التعدّي في عموم نفي الضرر عن الموارد المجبورة بموافقة فتوى الأصحاب الّتي منها ما نحن فيه، فإنّ التمسّك بنفي الضرر فيما لو تلف العوضان كلاهما أو بعضهما أو بعض أحدهما مجبور بفتوى الأصحاب فيها بعدم الرجوع، فإنّه و إن لم يبلغ فتواهم حدّ الاتّفاق سيّما فيما عدا الصورة الاولى من صور التلف إلّا أنّ فتوى الجماعة من الأصحاب كاف في جبران و هن عموم القاعدة بعد فرض عمومها البتّة.

و بالجملة: فمقتضى الأصل الأصيل و إن كان هو جواز الرجوع و عدم ملزميّة التلف فضلا عن ملزميّة سائر أنواع التصرّف إلّا أنّ مقتضى الدليل الوارد

ص: 394

عليه من الشهرة إن لم يكن إجماعا و من عموم نفي الضرر المجبور ضعفه بفتوى الأصحاب هو ملزميّة التلف بجميع أنحائه و أنواعه، و عدم جواز الرجوع بعده و عدم ضمان كلّ منهما مال صاحبه بعد التلف، سواء أتلف العينان أو أحدهما أو بعض كلّ واحدة منهما، أم تلف النماء المتّصل أو المتجدّد بعد التعاطي فإنّ تلف النماء مطلقا كتلف الأصل مطلقا في الملزميّة، و سواء قلنا بإفادة المعاطاة الملكيّة أو الإباحة، غايته أنّ الملزميّة على تقدير الإباحة تستدعي الالتزام بتقدير الملكيّة قبل التلف آنا ما، تحرّزا عن انفكاك اللازم عن الملزوم لو قلنا بأنّ الملزميّة من اللوازم المختصّة بالملك، و لا نابي من الالتزام به على هذا القول، كما لم نأب عن الالتزام به في كلّ إباحة ثبت الدليل على ترتّب آثار الملكيّة عليها.

و توهّم جريان قاعدة الضمان باليد على تقدير إفادة المعاطاة الإباحة لتضمّن كلّ من المتلفين مال صاحبه بعد تلف ما أبيح لهما بالمعاطاة مندفع: بأنّ هذه اليد قبل تلف العينين لم تكن يد ضمان، بل و لا بعده إذا بنى مالك العين الموجودة على إمضاء المعاطاة و لم يرد الرجوع.

ثمّ إنّ هذا كلّه في بيان أحكام أنواع التلف من الحكم عليها بالملزميّة، و الخروج عن تحت الأصل الأصيل، و استصحاب جواز الرجوع و بقاء السلطنة.

و يلحق بحكم التلف: البيع بعقد لازم، و العتق و الوطء في الملزميّة و الخروج عن تحت الأصل المذكور بما اخرج التلف عن تحته. و أمّا سائر أنواع التصرفات من الخلط، و المزج، و الصبغ، و القصر، و التفصيل و الخياطة و اللبس، و تجدّد النماء من دون تلف، و تغيير الصورة، و الهبة، و بيع الفضولي، و المعاطاة، و لو كان أحد العوضين دينا في ذمّة أحد المتعاطيين ففي ملزميّتها و الخروج عن تحت الأصل الأصيل لم يثبت الدليل و إن لم يتضيّق في بعضها السبيل، حسب ما في المتن التفصيل، و إليه المرجع و التحويل.

ص: 395

ثمّ إنّ ملزميّة التلف للمعاطاة و غيره من الملزمات هل يقتضي تقدير الملك القهريّ بجعله تعالى أم لا؟ وجهان، أقواهما الأوّل، لأنّه لو لم يقدر الملك القهريّ و لو لم يكشف الملزم عن سبق حصوله قهرا لكان لزوم المعاطاة بالملزم مخصّصا لعموم «من أتلف مال غيره فهو له ضامن»، و عموم تسليط الناس على أموالهم، و الأصل عدم التخصيص. و لأنّ وجه عدم إمضاء الشارع التمليك و اللزوم بمجرّد المعاطاة إنّما هو قصور دلالة الأفعال بمجرّدها عن القصود و الصراحة، فبعد وصولها إلى حدّ الصراحة بضميمة حصول الملزم لها لا وجه لتبعيض الإمضاء، أعني: إمضاء ترتّب آثار التمليك دون نفس التمليك المؤثّر لها، لعدم المانع من الإمضاء المطلق بعد ارتفاع مانعية قصور دلالة الفعل بانقلابها إلى الصراحة بضميمة حصول الملزم إليها. و لأنّه لا فرق بين الملزميّة و حصول الملك، سوى ما يمكن أن يفرض الملزميّة من مسبّبات الملكيّة، و من عادته تعالى في الغالب عدم جريان المسبّبات بدون أسبابها، كما في النصّ: «أبى اللّٰه أن يجري الأشياء إلّا بأسبابها» (1)، فتفكيكه بين إمضاء المسبّب دون سببه المؤثّر له من جملة خرق العادات المخالفة للغالب.

فتلخّص من هذه الوجوه: قوّة استكشاف الملزم للمعاطاة عن سبق الملك القهريّ فيها.

قوله: «المثل و القيمة، فتدبّر».

[أقول:] إشارة إلى أنّه لو قيل بتقديم البدل الجعليّ في التبادل قلنا:

المفروض على القول بإفادته الإباحة إلغاء جعله بدلا شرعيّا، فيتعيّن بدله الفعلي، و هو المثل و القيمة.

قوله: «و الظاهر أنّه في حكم التلف، لأنّ الساقط لا يعود».


1- الكافي 1: 183 ح 7.

ص: 396

أقول: عدم عود الساقط إنّما يسلم لو كان تعاطي المتعاطيين بقصد استيفاء الدين و إيفائه، فإنّ سقوط الدين عن ذمّة المديون في هذا الفرض بمنزلة الإبراء غير قابل للعود بالإقالة و الفسخ.

و لعلّ مقصود الشهيد في الدروس (1) من الجزم بعدم عود الساقط من الدين الثابت في ذمّة أحد المتعاطيين أيضا هو التعاطي بقصد استيفاء الدين من طرف الآخذ، و إيفاؤه من طرف المعطي. و أمّا إذا كان إعطاء المديون العوض للديّان بقصد البيع و التمليك و أخذ الديّان إيّاه بقصد الشراء و التملّك و لو بعوض الدين- كما هو الغالب في قصد التعاطي- فلا وجه للجزم بعدم عود الساقط و تضعيف احتمال عوده، سواء أقلنا بإفادة المعاطاة الملك أم الإباحة، لاحتمال أن يكون سقوطه سقوطا مراعى فيعود بالعود، و سقوطا منجّزا فلا يعود، و لا مرجّح لأحد الاحتمالين على الآخر على كلّ من تقديري الملك و الإباحة.

قوله: «و كذا على القول بالإباحة، لأنّ التصرف الناقل يكشف عن سبق الملك للمتصرّف فيرجع بالفسخ إلى ملك الثاني فلا دليل على زواله .. إلخ».

[أقول:] و فيه: أنّ كشف البيع لنفسه عن سبق الملك لنفسه إنّما يبتنى على القول بأنّ إذن المالك للغير ببيع ماله لنفسه يمضي شرعا، كما عن جماعة منهم:

الشهيد (2) و قطب الدين (3).

و أمّا على القول بعدم إمضائه شرعا- كما هو الأحوط إن لم يكن أقوى وفاقا للعلّامة- فلا يكشف عن سبق الملك للبائع حتّى يرجع بالفسخ إلى ملك الثاني.

قوله: «و لو باع العين ثالث فضولا .. إلخ».


1- الدروس الشرعيّة 3: 192.
2- لم نعثر عليه.
3- فقه القرآن 2: 44.

ص: 397

أقول: و صور هذه المسألة: أنّه: إمّا أن يجيز البيع الفضوليّ كلاهما، أو لم يجيزاه كلاهما، أو يجيزه أحدهما دون الآخر مع سكوته عن الإجازة، أو منعه عنها بالردّ أو باللفظ قبل إجازة الآخر أو بعده.

و على الأوّل: إمّا أن يتّفق إجازة كلّ منهما مقارنا لإجارة الآخر، أم متأخّرا عن إجازة الآخر، و على كلّ من هذه الصور: إمّا أن نقول بإفادة المعاطاة الإباحة أو الملك، و حكم كلّ واحد من الصور المذكورة ظاهر بالتأمّل في مراجعة المتن، فتدبّر.

[السابع أن الشهيد الثاني في المسالك ذكر وجهين في صيرورة المعاطاة بيعا بعد التلف أو معاوضة مستقلة]

قوله: «يقول بالإباحة اللازمة، فافهم».

[أقول:] إشارة إلى الفرق بين الإباحة اللازمة و سائر العقود اللازمة، من حيث إنّ وصف الإباحة باللزوم وصف لحال متعلّقه، و هو المباح لا الإباحة، بخلاف وصف البيع و سائر العقود اللازمة به.

[الثامن لا إشكال في تحقق المعاطاة المصطلحة التي هي معركة الآراء بين الخاصة و العامة بما إذا تحقق إنشاء التمليك أو الإباحة بالفعل]

قوله: «الثامن لا إشكال. إلخ».

أقول: الكلام في إلحاق البيع الواقع بالصيغة الفاسدة الخالية عن شرائط الصحّة بالمعاطاة في الحكم و عدمه. و قبل الخوض في تنقيح حكم المسألة يقع الكلام في مقدّمات.

الأوّلي: في بيان أقسام الإذن و تشخيص أحكامها، فنقول: الإذن و رضا المالك بالتصرّف في ماله: تارة يحصل من شاهد الحال، كشهادة حال الرجل من سخاوته و إسلامه و حسن خلقه و كرامة طبعه على الإذن، و الرضا بشرب ماء منه، و التوّضؤ من مائه، و نحوهما من الأمور اليسيرة الضرر أو ممّا لا ضرر فيه أصلا.

و تارة يحصل من فحوى الخطاب. و في شمول فحوى الخطاب لما عدا الأولويّة من الصور المساوية للمنطوق به، كما عليه صاحب الجواهر غير بعيد.

ص: 398

و تارة يحصل من التصريح بما يدلّ على الرضا مطابقة أو تضمّنا أو التزاما بأقسامه الثلاثة، كدلالة الإذن في الشي ء على الإذن في لوازمه و مقدّماته.

و تارة رابعة يحصل من كتابة أو إشارة، و هذا القسم من جملة قرائنه الفعلية، لا الحالية كالقسم الأوّل، و لا اللفظية كالقسمين الآخرين.

أمّا الإذن الحاصل من شاهد الحال أو شي ء من الأفعال فيعتبر في اعتباره العلم بحصوله، و دورانه مدار وجود العلم، بخلاف الحاصل من الأخيرين فإنّه يكفي في اعتباره الظنّ الفعليّ أو الشأنيّ على الخلاف في أنّ اعتبار ظواهر الألفاظ من باب الظنّ الفعليّ أو الشأني. و في إلحاق الدلالة الالتزامية الغير اللفظيّة بشاهد الحال في اعتبار العلم وجه غير بعيد.

ثمّ إنّ كلّ واحد من أنواع الإذن: إمّا غير معارض، أو معارض.

أمّا الأوّل: فإمّا مفرد و أقسامه صريح أو شاهد حال أو فحوى، و إمّا مركّب من الأوّل و الثاني، أو الأوّل و الثالث، أو من الثاني و الثالث، أو من الثلاثة جميعا.

فأقسام الإذن الغير المعارض سبعة.

و لا إشكال في ترتّب الحكم التكليفيّ من الإباحة و الجواز عليها، إنّما الإشكال في ترتّب الحكم الوضعيّ، و هو الملكيّة عليها. و الأقوى أنّ مجرّد الرضا و طيب النفس و إن ترتّب عليه الحكم التكليفيّ- و هو الإباحة- إلّا أنّه لا يستلزم ترتّب الحكم الوضعيّ من اللزوم و الملكيّة عليه، بل يستتبع مفاد دليل ذلك الحكم الوضعيّ في الاحتياج إلى ضميمة الإنشاء إلى الرضا و عدمه.

و أمّا الإذن المعارض من أنواع الإذن الثلاثة: فإمّا معارض بمثله و أقسامه ثلاثة، أو بغيره فكذلك.

و على كلّ من الأقسام الستّة: إمّا أن يكون المناط في الإذن و المنع المعارض له منقّح في كلّ من طرفي التعارض، أو في طرف الإذن دون المنع، أو

ص: 399

العكس. أو غير منقّح في شي ء من الطرفين أصلا. فبلغ الأقسام إلى أربع و عشرين صورة، و على كلّ من صور تنقيح المناط البالغة إلى ثماني عشرة صورة: إمّا أن يعلم المأذون بتحقيق المناط أيضا، أعني: تحقيق اندراجه تحت المناط المنقّح أو خروجه عن تحته، و إمّا أن يشكّ في الاندراج و الخروج.

مثلا: إذا علم بتنقيح كون المناط في الإذن هو العدالة، و في المنع هو الفسق: فإمّا أن يعلم بكونه عادلا ليندرج في مناط الإذن، أو بكونه فاسقا ليندرج في مناط المنع. و إمّا أن يشكّ في عدالة نفسه و فسقه، فبلغ أقسام العلم بتنقيح المناط الثماني عشرة بعد ضربها في أقسام تحقيق المناط إلى أربع و خمسين صورة، و إذا انضمّ إليها صور عدم العلم بتنقيح المناط الستّ بلغت ستّين صورة.

و التفصيل في حكمها أن يقال: أمّا المتعارضان على وجه التباين أو العموم من وجه فلا إشكال في سقوطهما و الرجوع إلى الأصول الخارجة و إن تعاضد أحدهما بمرجّح ظنّيّ، لأنّ الظنّ المطلق غير حجّة في تشخيص الموضوعات الصرفة، و إن كان حجّة في الأحكام فلا يرجّح به هنا إلّا إذا رجع إلى مفاد الألفاظ العرفية.

و أمّا المتعارضان على وجه العموم المطلق فيعلم حكمهما في ضمن مقدّمتين:

إحداهما: أنّ صلوح الشي ء المكتنف باللفظ للقرينيّة الصارفة هل تصرف اللفظ عن ظهوره كما عليه صاحب المناهج (1) و العوائد (2)، أما لا تصرفه عن ظهوره كما عليه المشهور، و هو المقبول كما قرّر في غير موضع من الأصول، و لهذا ذهب المشهور إلى عدم رجوع الاستثناء المتعقّب للجمل المتعدّدة إلى ما


1- المناهج: 14.
2- لم نعثر عليه.

ص: 400

عدا الأخير منها بمجرّد صلوحه و احتمال رجوعه إلى كلّها، فإنّ أصالة الظهور و الحقيقة و عدم المجاز كما هو محكم عند وجود القرينة و الصرف كذلك محكم عند الشكّ في قرينيّة الموجود المكتنف باللفظ، سواء ارتبط ذلك بالأحكام الكلّية أم الموضوعات الصرفة.

نعم، لو بلغ صلوح الشي ء للقرينيّة إلى مثابة لا يبقى معه الظنّ و الظهور الحاصل من أصالة الحقيقة و عدم المجاز توقّف في صرفه الظاهر عن ظهوره، و عدم صرفه عنه، كما في المجاز المشهور على المشهور.

و من هنا يعلم: أنّ كلّ ما يكتنف بالإذن أو المنع ممّا يصلح أن يكون قرينة صرفة عن الظهور و إناطة الإذن أو المنع به لا يصرف الظاهر عن ظهوره، بل يبنى على إطلاق الإذن و المنع و عمومهما، إلى أن يثبت التقييد و التخصيص بمعلوم القرينة و الصرف، لا بمحتملهما. فإذا أبيح لك التصرّف في مال على وجه اكتنف الإذن بما يصلح أن يكون قرينة إناطتهما بوصف أو شرط من الأوصاف و الشروط المقصودة فيك- كالعدالة و القرابة و الفقر و الديانة و نحوها- جاز لك التصرّف فيه على مذهب المشهور، و لم يجز على مذهب صاحب العوائد.

و ثانيتهما: أنّ التخصيص مقدّم على سائر المجازات من الإضمار و التقدير في كلّ ما تعارض المتعارضان على وجه العموم و الخصوص، سواء أعلمنا بعلّتي العموم و الخصوص و بعدم إبائهما عن التخصيص بالمخصّص، أم لم نعلم من الصور المذكورة.

و أمّا إذا علمنا بالعلّة لكنّها آبية عن التخصيص: فإن كان كلّ منهما آب عن التخصيص كان تعارضهما في حكم تعارض المتباينين في السقوط و الرجوع إلى الأصل. و إن كان الآبي عن التخصيص أحدهما فقط فهو في حكم النصّ بالنسبة إلى غير الآبي عنه في صرفه عن ظهوره.

ص: 401

المقدّمة الثانية: أنّ المشهور المنصور عندنا- وفاقا لأكثر المحقّقين- هو إدراك العقل الحسن و القبح، و حجّية مدركاته، و الملازمة بينه و بين حكم الشارع، و يتفرّع على هذه المقدّمة: أنّ العقل بعد حجّيته و إدراكه رضا المالك بالتصرّف في ماله و لو رضا شأنيّا مركوزا في خزانة الخاطر لا يقصر عن الفعل و اللفظ الدالّين على الرضا في إفادة الإباحة و سائر الأحكام.

نعم، لو قلنا بمقالة الأشاعرة: من عدم إدراك العقل الحسن و القبح أو عدم حجّيّة ما يدركه قصر دلالة العقل على الرضا عن دلالة الفعل و اللفظ عليه في الإفادة. و على ذلك لو منع أحد التصرّف في ماله صريحا و علم الممنوع من شاهد حال المانع الرضا بالتصرّف لو علم أنّه من هو؟ و أنّه متّصف بوصف من القرابة أو الديانة أو الصيانة لو تفطّن المانع له لرضا، و أنّ منعه من جهة الجهل به أو بوصفه جاز للممنوع التصرّف في مال المانع، و إن صرّح بمنعه و عدم رضاه، لأنّ الرضا الشأنيّ المركوز في خزانة الخاطر بعد استفادته العقل من حال المانع كاف في الإباحة و إن لم يكن المانع متفطّنا له.

و لهذا قيل بوجوب مقدّمة الواجب و مطلوبيّته مع عدم تفطّن الموجب لذي المقدّمة لها غالبا بالتفطّن التفصيليّ للاكتفاء في وجوبها بالتفطّن الإجماليّ المركوز في نفس الموجب، و كذا العكس، فإنّ من أذن لشخص التصرّف في ماله أو إعطاء أعطاه شيئا من ماله بزعم أنّه فقير أو متّصف بشي ء من الصفات المفقودة في المأذون له بحيث لو كان الآذن عالما بفقده فيه لم يأذن له لا يجوز له التصرّف و أخذ المعطى اعتمادا على ظاهر الإذن، إلّا إذا كان الوصف المفقود داعيا لإذن الآذن، لا عنوانا له كما هو لو كان الإذن و الإعطاء و عنوانه شخص المأذون و إن كان داعي الإذن و الإعطاء هو وصفه المفقود فيه دون العكس، و هو: ما إذا كان الوصف عنوان الإذن و الإعطاء.

ص: 402

المقدّمة الثالثة: في تشخيص محلّ النزاع في المسألة، فنقول و باللّٰه الاستعانة: لا إشكال في تحقّق المعاطاة المصطلحة الّتي هي معركة الآراء بين الخاصّة و العامّة بما إذا تحقّق إنشاء التمليك أو الإباحة بالفعل، و هو قبض العين، و لا فيما إذا تحقّقت بالقول الفاقد لشرائط اللزوم بناء على القول بعدم اشتراط اللزوم بشي ء زائد على الإنشاء اللفظي.

كما لا إشكال في عدم تحقّقها بالقول و لا بالفعل مع اختلال شرائط المتعاقدين من العقل و الرشد و الاختيار و القصد، أو شرائط العوضين من المعلوميّة و الطلقيّة و المقدوريّة على التسليم و القابلية للتمليك.

إنّما الإشكال و الخلاف في تحقّقها بالقول عند اختلال شروط ذلك القول و الصيغة الخاصة، من دون اختلال سائر الشروط المعتبرة في المتعاقدين و العوضين، كما لا يخفى.

بل و لا إشكال في تحقّقها بالصيغة الفاقدة للشرائط إذا فرض وقوع تقابضهما بإنشاء جديد غير الإنشاء الحاصل في ضمن الصيغة الفاقدة للشرائط.

كما لا إشكال في عدم تحقّقها بتلك الصيغة لو فرض أنّ تقابضهما و رضاهما بالمعاوضة مقيّد بتأثّر الصيغة الفاقدة للشرائط لتلك الآثار اعتقادا أو تشريعا، بحيث تكون صحّة المعاملة من جهة الصيغة و تأثيرها جهة تقييديّة مأخوذة في الرضا بالمعاملة و التقابض، ضرورة انتفاء المقيّد- و هو الرضا بالمعاملة- بانتفاء قيده، و هو صحّة الصيغة و تأثيرها ذلك.

و إنّما الإشكال و الخلاف فيما لو قصد البيع و وقوع المعاوضة بتلك الصيغة الفاقدة للشرائط من غير تقييد الرضا بخصوص تأثير الصيغة له، و لا بخصوص تأثير التقابض له بأن كان مقصودهما وقوع البيع و المعاملة بينهما بأيّ وجه اتّفق، سواء صحّت الصيغة أو فسدت.

ص: 403

و إذ قد عرفت أنّ محلّ النزاع في ذلك الفرض فالأقوى ما اختاره المشهور من إلحاقها بالمعاطاة في الصحّة و سائر الأحكام المترتّبة على المعاطاة من غير إشكال و لا دغدغة. و لعلّ هذا الحكم إجماعيّ، و أنّ الخلاف ناشئ عن عدم تشخيص موضوعه، و اشتباه فرضه بالفرض المقيّد فيه الرضا بصحّة الصيغة و تأثيرها.

كما لا إشكال في صحّة كلّ ما اقترن فعله بما يصلح و ما لا يصلح لتحصيله إذا قصد الفاعل تحصيله بأيّهما حصل و لم يتقيّد بتحصيله من خصوص ما لا يصلح لتحصيله، و لهذا يحكم بإجزاء صلاة من ذكر في ركوعه أو سجوده الذكر مرّتين: أحدهما بلحن، و الآخر بتصحيح إذا قصد الاجتزاء بأيّهما حصل الاجتزاء به و أثّر الصالح للاجتزاء أثره، سواء اتّفق وقوعه قبل الفاسد أو بعده.

و من هنا يعلم اندفاع تمسّك القائلين بفساد الفرض و عدم إلحاقه بالمعاطاة، بأنّ ما قصد لم يقع، و ما وقع لم يقصد، فإنّ ذلك إنّما ينهض حجّة على فساد الفرض المتقدّم الخارج عن محلّ النزاع، أعني: فرض تقييد الرضا و التقابض بتأثير الصيغة، لا على فساد ما نحن فيه من فرض عدم تقييد الرضا بتأثير الصيغة، فإنّ ما قصد في هذا الفرض وقع، و ما و مع قصد، لا أنّ ما قصد لم يقع و ما وقع لم يقصد كما توهّم.

و كذا يعلم عدم توقّف إدخال الفرض المذكور في المعاطاة على كفاية الرضا الشأنيّ في المعاطاة، لما عرفت من عدم خلوّ الفرض عن بقاء نوع من الرضا الفعليّ فيه، مضافا إلى عدم استبعاد كفاية الشأنيّ أيضا على تقدير التوقّف، و لا على كفاية وصول كلّ من العوضين إلى المالك الآخر في المعاطاة من غير اشتراط إنشاء الإباحة أو التمليك بالقبض، لما عرفت من عدم خلوّ الفرض المقرّر فيه النزاع عن بقاء نوع من الإنشاء الدالّ عليهما الصيغة في ضمن التقابض

ص: 404

الدالّ عليه التقابض، كما هو قضيّة عدم تقييد الرضا و الإنشاء الدالّ عليها الصيغة بتأثير الصيغة، مضافا إلى عدم استبعاد كفاية مجرّد الوصول حسب ما زعمه الماتن، كما لا يخفى.

نعم، إنّما يتمّ توقّف دخول محلّ النزاع في المعاطاة على الأمرين المذكورين لو كان النزاع في فرض ما إذا كان الرضا مقيّدا بتأثير الصيغة الفاسدة البيع زعما منهما التأثير على وجه لو لا زعمهما التأثير لم يقيّد إرضائهما بتأثير الصيغة، و لا يبعد دخول هذا الفرض في محلّ النزاع أيضا، إلّا أنّ الأقوى عدم إلحاقه بالمعاطاة و إن قيل بإلحاقه كما أنّ الأقوى في الفرض السابق إلحاقه بالمعاطاة و إن قيل بعدم إلحاقه.

فتلخّص ممّا ذكرنا: أنّه لا نزاع في إلحاق الفرض الأوّل بالمعاطاة، أعني:

فرض ما إذا تعدّد الإنشاء في ضمن كلّ من الصيغة الفاسدة و التقابض كما لا نزاع في عدم إلحاق الفرض الثاني بها، أعني: فرض ما إذا اتّحد الإنشاء و الرضا المقيّدان بتأثير الصيغة الفاسدة حقيقة، و أنّ النزاع إنّما هو في كلّ من الفرضين الأخيرين، أعني: فرضي عدم تقييد الرضا بتأثير الصيغة، أو تقييده بتأثيرها الناشئ عن زعم التأثير على وجه لو لا الزعم لم يقيّد به. و إن كان الأقوى في أوّلهما الإلحاق بالمتعدّد في دخوله في المعاطاة، و في آخر هما الإلحاق بالمتّحد المقيّد فيه الرضا بالتأثير حقيقة في عدم الإلحاق و عدم الدخول في المعاطاة لتوقّف إلحاقه و دخوله في المعاطاة على الأمرين المذكورين، أعني: كفاية مجرّد الرضا الشأني، و مجرّد الوصول من غير إنشاء في المعاطاة، و هو محلّ تأمّل، فإنّ غاية ما يفيده الرضا الشأنيّ و الوصول من غير إنشاء إنّما هو الإباحة المجّانية من الطرفين ما دام العلم باقيا بالرضا، و هذا ليس من المعاطاة في شي ء، و لا يترتّب عليه أثر المعاطاة من اللزوم بتلف أحد العينين، أو جواز التصرّف إلى حين العلم

ص: 405

بالرجوع و إن لم يبعد الإلحاق أيضا حسب ما في المتن، فتدبّر جدّا فإنّ الإلحاق لا يخلو من إطلاق.

[مقدّمة في خصوص ألفاظ عقد البيع]

[اعتبار اللفظ في عقد البيع]

قال الماتن قدس سرّه: «مقدّمة في خصوص ألفاظ عقد البيع .. إلخ».

أقول: و قبل الخوض في تحقيق ما يعتبر من الخصوصيّات في ألفاظ صيغ العقود ينبغي تأسيس الأصل الأصيل الّذي يصحّ عليه التعويل عند فرض الدليل، فنقول و باللّٰه التوفيق:

إن الأصل الأوّليّ في العقود- أعني الأصل العمليّ- هو الفساد، استصحابا لعدم النقل و الانتقال، و إبقاء لكلّ من العوضين في ملك مالكه الأوّل.

و أمّا الأصل الثانوي- أعني القاعدة المستفادة من الشرع الواردة على الأصل الأوليّ العمليّ- ففي وجوده و عدم وجوده في مسألة المعاملات وجهان مبنيّان على تشخيص كون المراد من العقود المحكوم عليها بالصحة و اللزوم في ضمن قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1) هل هي العقود العرفيّة و ما يعدّ في العرف عقدا، أو هي العقود المعتبرة في نظر الشارع المعلومة عنده لا عند العرف؟

وجهان، بل قولان:

من أنّ سائر الألفاظ- سيّما ألفاظ المعاملات- موضوعة للمعاني الواقعيّة الراجع واقعها إلى العرف لا الشرع، فيحمل ألفاظ العقود عليها إلحاقا للمشكوك بالأعمّ الأغلب.

و من أنّه لو كان المراد من العقود هو العقود العرفيّة و ما يعدّ في نظر العرف عقدا لزم التخصيص بالأكثر في الآية، و إخراج أكثر العقود الفاسدة بواسطة اختلال شي ء من شروط المتعاوضين، أو العوضين، أو الصيغة، فلم يبق بعد إخراج العقود الفاسدة عن تحتها إلّا أقلّ قليل، فظاهر المشهور النافين لتوقيفيّة


1- المائدة: 1.

ص: 406

ألفاظ العقود هو القول الأوّل، و ظاهر المحكيّ عن الإيضاح (1) و المسالك (2) و كنز العرفان (3) المثبتين بتوقيفيّتها هو القول الثاني، و الظاهر و الأقوى هو القول الأوّل، لكن لا لمجرّد شهرته حتّى يناقش في حجّيّتها، و لا لمجرّد استلزام القول الثاني لإجمال الآية المخالف لأصالة عدم الإجمال و ندوره، بل و عدمه في الأحكام الشرعيّة الفرعيّة حتّى يدفعه المعارضة باستلزام القول الأوّل للتخصيص بالأكثر المستهجن عرفا، مضافا إلى أنّ الإجمال اللازم على القول الثاني إجمال الآية من جهة الإطلاق فقط، نظير إجمال المطلقات الواردة مورد حكم آخر، لا إجمالها من جميع الجهات النادر جدّا، بل إنّما هو لما أسلفنا تحقيقه في المرحلة الثالثة من مراحل تفسير الآية الّتي عقدناها لدفع لزوم التخصيص بالأكثر و غيره من موهمات إجمال الآية الشريفة بأبلغ وجه و أبسط. و من شاء راجع، فلا نطيل بالإعادة.

و على ذلك فالأصل الأصيل الّذي يصحّ عليه التعويل ما لم يقم على خلافه دليل هو أصالة الصحّة و اللزوم في كلّ ما شكّ في صحّته من العقود بعد إحراز كونه عقدا عرفيا يصدق عليه لفظ «العقد» عرفا.

كما أنّ الأصل الأوّليّ العمليّ قبل إحراز صدق اسم العقد عليه هو الفساد و عدم اللزوم، استصحابا لعدم النقل و الانتقال، و بقاء كلّ من العوضين تحت ملك مالكه الأوّل.

و من تأسيس هذا الأصل الأصيل يعلم: أنّ الأصل عدم قيام الإشارة من الأخرس مقام اللفظ عند تمكّنه من التوكيل لو لا الشهرة، و إطلاق فحوى ما ورد من عدم اعتبار اللفظ في طلاق الأخرس، لأنّ الشكّ في أصل صدق اسم العقد


1- إيضاح الفوائد 3: 12.
2- مسالك الأفهام 7: 86.
3- كنز العرفان 2: 146.

ص: 407

عرفا على إشارته، لا في صحّته بعد إحراز صدق الاسم عليه عرفا حتّى يقتضي الأصل الثانويّ- و هو إطلاق الآية- الصحّة، إلّا أنّ للشهرة- سيّما مع عدم الخلاف و إطلاق فحوى النصّ- ورودا على أصالة عدم كفاية الإشارة منه عند إمكانه من التوكيل. و كذلك الأصل اعتبار كلّ ما يشكّ مدخليّته في صدق العقد عرفا: من الصراحة و العربية و الهيئة و الترتيب و الموالاة ما لم يقم على خلافه دليل.

قوله: «و إليه ذهب الحلّيّ هناك، أي في الطلاق».

أقول: و لعلّه لأجل أنّ الكتابة و إن كانت أبعد عن الإنشاء من الإشارة إلّا أنّها أقرب من الإشارة إلى الامتياز بين ما يقع الطلاق به من لفظ «أنت طالق».

و بين ما لا يقع الطلاق به من سائر الألفاظ، كانت بريّة أو خليّة، و اللّٰه العالم بالحقيقة.

قال الماتن قدس سرّه: «فالمشهور عدم وقوع العقد بالكنايات».

أقول: بل الظاهر إجماعهم على اشتراط التصريح في انعقاد العقود اللازمة، و عدم كفاية الكناية في انعقادها. و أنّه إن كان خلاف و اشتباه فهو في الصغرى، أعني: في امتياز الصراحة عن الكناية و اشتباه أحدهما بالآخر، و إلّا فالظاهر من فتاوى الخاصّة و العامّة هو الاتّفاق في الكبرى، أعني: في اشتراطه الصراحة و عدم كفاية الكناية، بل ظاهر بعضها- على ما سنتعرّض لتفصيلها- هو اعتبار التوقيف في ألفاظ العقود و الاقتصار على الألفاظ المتلقّاة من الشارع و إن كان يضعّفه إطلاق «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ».

ثمّ إنّ الكناية باتّفاق أهل البيان و الأصول: هو لفظ أريد به لازم معناه، مع جواز إرادته معه و إن اختلف الأصوليّون مع البيانيّين في كونها قسيما للمجاز، كما أنّها قسيم للحقيقة، أم أعمّ من المجاز ليكون المجاز قسما، لا قسيما لها؟

فذهب الأصوليّون إلى الثاني، و البيانيون إلى الأوّل، و منشأ اختلافهم هو

ص: 408

الاختلاف في استلزام المجاز للقرينة المانعة عن إرادة الحقيقة و عدم استلزامها، و الخطب سهل، لرجوع نزاعهم إلى الاختلاف في الاصطلاح، و لا مشاحّة فيه.

مضافا إلى أنّ وجه تثليث أقسام الدلالة بالنسبة إلى علم البيان تعلّق القصد فيه ببيان مطلق الدلالة، و تثنيتهما بالنسبة إلى علم الأصول عدم تعلّق القصد فيه بمطلق الدلالة.

و كيف كان فإرادة الجود من مثل «كثير الرماد»: تارة يحصل باستعمال لفظه في نفس الملزوم و هو كثرة الرماد، لينتقل منه إلى لازمة و هو الجود.

و تارة باستعمال لفظه في نفس اللازم من غير واسطة، و هو تارة مع نصب قرينة معاندة لإرادة الملزوم معه، و تارة مع عدم نصب قرينة معاندة لإرادة الملزوم معه.

و تارة يحصل باستعمال اللفظ في اللازم و الملزوم معا.

أمّا الوجه الأوّل- و هو استعمال اللفظ في الملزوم لينتقل منه إلى لازمة- فإن كان الملزوم فيه معنى حقيقيا للّفظ كان استعماله حقيقة. و إن كان معنى مجازيا كان مجازا.

فقولنا: «زيد كثير الرماد» جملة خبريّة إن استعملت في معناها الحقيقيّ بأن قصد بها الإخبار عن كثرة الرماد حقيقة لينتقل منه إلى لازم معناه- أعني:

كونه جوادا- كان اللفظ حقيقة لا محالة، لأنّه لم يستعمل حينئذ إلّا في ما وضع له و قصد الانتقال منه إلى لازمة غير مخلّ بذلك.

و إن استعملت في صورة معناها بأن قصد بها صورة الإخبار عن كثرة رماده لينتقل منه إلى لازمة لزم التجوّز في الإسناد، لأنّه لم يوضع لصورة الإخبار، بل لحقيقته، فيكون اللفظ باعتباره مجازا. و على التقديرين تكون الكناية في المركّب.

ص: 409

و يمكن أن يجعل المحمول حقيقة في المثال المذكور هو الجود المدلول عليه بذكر ملزومه. و لفظ «كثير الرماد» و إن كان محمولا عليه بحسب الظاهر لكن إنّما جي ء به لينتقل منه إلى المحمول الحقيقي- أعني الجواد- فيحمل عليه، فتكون الكناية في المفرد، أعني المحمول.

و على التقادير يكون اللفظ مستعملا في الملزوم للانتقال إلى اللازم، فكلّ منهما مراد منه، لكن أحدهما بلا واسطة، و الآخر بواسطة. و أمّا لو استعمل كثير الرماد في الجود نظرا إلى علاقة الملزوم كان مجازا مرسلا قطعا، كما مرّ.

و أمّا الوجه الثاني- و هو استعمال اللفظ في نفس اللازم مع نصب القرينة المعاندة لإرادة الحقيقة- فهو داخل في المجاز و الكناية على اصطلاح الأصوليّين، و في المجاز دون الكناية على اصطلاح البيانيّين. هذا إذا كان استعمال اللفظ في لازم معناه بقرينة جليّة.

و أمّا إذا كان استعماله فيه بقرينة خفيّة و أمارة ضعيفة في موارد يتسامح فيها في الدلالة و يكتفى فيها بمجرّد الإبهام و الإشارة، بحيث يمكن للمستعمل إنكار إرادة اللازم و منع السامع من التسامح في تنزيل كلامه عليه لو دعت الحاجة إلى الإنكار و المنع فيمكن اندراجه حينئذ في الكناية على اصطلاح البيانيّين أيضا، لإمكان الفرق بينها و بين المجاز في اصطلاحهم باشتراط الصراحة في قرينته، و الظهور المعتدّ به.

و أمّا الوجه الثالث- و هو استعمال اللفظ في اللازم مع عدم نصب القرينة المعاندة لإرادة الحقيقة- فهو داخل في الكناية على كلا الاصطلاحين.

كما أنّ الوجه الرابع كذلك بناء على القول بجواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد.

و إذ قد عرفت معنى الكناية و المجاز و أقسامهما في الجملة فاعلم: أنّ

ص: 410

المراد ممّا انعقد عليه الإجماع- و هو اشتراط التصريح في انعقاد العقود و عدم كفاية الكناية في انعقادها- ليس اشتراط أن يكون انعقادها بالألفاظ المتلقّاة من الشارع خاصّة، أعني: المستعملة في عنوان ذلك العقد في الكتاب أو السنّة، لا غير، كما يوهمه ظاهر المحكيّ عن غير واحد ممّا سيأتي، لأنّه مناف لإطلاق «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»، و لتصريح المشهور بكفاية كثير من الألفاظ الغير المتلقّاة من الشارع، و لتفسيرهم اشتراط التصريح بعدم اكتفاء الكناية. و لا اشتراط أن يكون بلفظ أمر الشارع إيقاع العقد به، لا غير، كما يوهمه بناء بعض الوساوسة على تكرار عقد النكاح لجميع ما يصلح له من الموادّ و الهيئات و أنحائها المختلفة، فإنّ هذا الاحتمال أبعد من سابقه، لأنّه مضافا إلى أنّه ينافي ما ينافيه الاحتمال السابق يستلزم اشتراط صحّة العقود بما هو مفقود.

و كذا ليس المراد من اشتراط الصراحة و عدم كفاية الكناية اشتراط الحقيقة في الصيغة و عدم كفاية المجازات كما يوهمه تصريح بعضهم، فإنّه أيضا مناف لإطلاق الآية، و تصريح المشهور بخلافه.

نعم، لو قلنا بإجمال الآية و عدم جواز التمسّك بعمومها كان المرجع هو الاقتصار على القدر المتيقّن من الصيغ. و لكن قد عرفت ضعف هذا القول في محلّه، و تأسيس عموم الآية و إفادتها أصالة الصحّة و اللزوم إلّا ما أخرجه الدليل.

و بعد تأسيس ذلك الأصل لا مسرح للاقتصار على القدر المتيقّن، بل المراد من اشتراط التصريح إنّما هو اشتراط أن يكون اللفظ مفيدا عنوان ذلك العقد بغير طريق الكناية، سواء أفاده بالوضع اللغوي، أم الشرعي، أم بالمجازات المحفوفة بالقرائن الجليّة الغير القابلة للإنكار، دون الخفيّة القابلة لإنكار التعويل عليها إذا دعت الحاجة إلى الإنكار.

فالمراد من الكناية في معقد الإجماع أو الشهرة على عدم كفاية الكنايات

ص: 411

ليس ما يعدّ مجازا أو كناية في اصطلاح الأصوليّين خاصّة، و لا ما يعدّ كناية في اصطلاح البيانيّين خاصّة، و لا ما يعدّ كناية في كلا الاصطلاحين، كما يوهمه انصراف الكناية من كلّ ذي اصطلاح إلى مصطلحه، بل المراد من الكناية على ما يظهر من الفتاوى: هو ما أفاد لازم ذلك العقد بحسب الوضع، كما كان المراد من الصراحة هو ما أفاد نفس ذلك العقد من دون توسّط اللازم. و الكناية بهذا المعنى و إن لم توافق الكناية بالمعنى الاصطلاحي- و هو اللفظ المراد به لازم معناه مع جواز إرادته معه، بل كان النسبة بينهما عموما من وجه- إلّا أنّه توافق الكناية بالمعنى اللغوي، و هو التستّر، نظرا إلى أنّ المفيد لازم العقد دون عنوانه، باعتبار أنّ اللازم من حيث إنّه لازم أعمّ من ملزومه، و العامّ لا يدلّ على الخاصّ يكون الملزوم مستورا فيه غير مصرّح به. و إن انضمّ إلى ذلك اللفظ المفيد لازم العقد بحسب الوضع القرائن الخارجية الدالّة على إرادة نفس العقد، سواء أ كانت قرائن مقالية أم حالية، و ذلك لأنّ أقصى ما تقتضيه القرائن المنضمّة إلى لفظ اللازم، المعيّنة لإرادة الملزوم منه هو الكشف عن إرادة الملزوم و هو نفس العقد دون الكشف عن تعلّق الإنشاء بالملزوم مع تعلّقه في الظاهر بنفس لازمة. و من المعلوم أنّ التصريح بإرادة العقد غير محقّق للعقد فضلا عن تحقّقه بمجرّد الكاشف عن إرادته، و ذلك لأنّ الإنشاء محقّق للعقد، و هو يستتبع مفاد آلته بحسب الوضع، فإن كان مفاد آلته بحسب الوضع هو اللازم كان الإنشاء متعلّقا به و إن حفّت بقرينة إرادة الملزوم منه ضرورة عدم المنافاة بين تعلّق الإنشاء بمفاد ظاهر اللفظ- و هو لازم العقد من الإذن و الإباحة و تجويز التصرّفات- و بين إرادة الملزوم، و هو نفس العقد منه.

و وجه عدم منافاته: إمّا من الغافل أو الجاهل أعمّيّة لازم العقد من نفس العقد فواضح، كما في أكثر العوامّ الزاعمين في معاملاتهم مساواة إباحة التصرّف

ص: 412

و الإذن فيه، و غيرهما من لوازم العقود لملزوماتها و هو نفس العقد، و لهذا ترى كثيرا ما يكتفون في عقودهم حتّى في مثل النكاح بمجرّد إنشاء المراضاة و إباحة التصرفات و الإذن و غيرهما من لوازم العقد، دون إنشاء نفس العقد، زعما منهم مساواة تلك اللوازم لملزوماتها، و جهلا أو غفلة عن أعمّيّة تلك اللوازم من ملزوماتها.

و إمّا من العالم بأعمّيّة اللازم من ملزومه و انتفائه بالأعمّيّة حين الإنشاء فلإمكان أن يريد تعلّق إنشائه باللازم أصالة ليحصل منه إنشاء الملزوم تبعا، نظير ما هو المراد من أحد أقسام الكناية من إرادة المعنى الحقيقيّ من اللفظ أصالة لينتقل منه إلى المعنى المجازي تبعا.

نعم، لو فرض المنضمّ إليه من القرائن الدالّة على تعيين كون المنشأ بإنشاء اللازم هو نفس العقد و أنّ المراد من إنشاء اللازم هو إنشاء نفس الملزوم خرج الفرض عن باب العقد بالكناية، و دخل في باب العقد بالمجاز، فيلحقه ما يلحق بابه من الحكم بالانعقاد، و عدمه. و قد عرفت أنّ الأصل الأصيل عندنا الانعقاد بالمجاز المكتنف بقرينة جليّة لا تقبل الإنكار لو دعت الحاجة إلى الإنكار، بناء على ما هو المقرّر عندنا- معاشر المشهور من عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و دلالته على أصالة الصحّة و اللزوم في كلّ عقد عرفيّ بعد إحراز صدق العقد عليه عرفا، خلافا لمن زعم عدم الانعقاد بالمجاز مطلقا، توهّما منه إجمال الآية و عدم عمومها المقتضي للاقتصار على القدر المتيقّن من الانعقاد. و لمن فصل- كالمحقّق (1) رحمه اللّٰه- بين المجازات البعيدة و القريبة، جمعا بين كلماتهم بحمل المجازات الممنوعة على المجازات البعيدة، كمتّعتك منفعة داري بكذا مثلا، و المجازات الغير الممنوعة على المجازات القريبة، كبعتك منفعتها بكذا مثلا.


1- جامع المقاصد 4: 207- 208، و حكاه عنه الأنصاريّ في المكاسب: 94.

ص: 413

و إذا تبيّن لك أنّ لازم العقد من حيث إنّه لازم أعمّ من ملزومه، و أنّ العامّ لا يدلّ على الخاصّ، و أنّ انضمام القرائن الدالّة على إرادة الملزم لا يستلزم تعلّق الإنشاء بالملزوم، بل هو أعمّ منه و من إرادة تعلّقه باللازم علمت و عرفت من هنا أنّ الكناية- و هو اللفظ المفيد لازم العقد وضعا- لا يلحق بالصريح بواسطة ضمّ القرائن المعيّنة لإرادة نفس العقد منها، إلّا إذا دلّت على تعلّق الإنشاء بنفس العقد، لا على مجرّد إرادته من تعلّق الإنشاء بلازمه، و أنّ وجهه كون المخاطب لا يدري بم خوطب؟ و المراد من عدم دراية ما خوطب به ليس عدم دراية المراد منه حتّى يندفع إطلاقه بأنّ القرائن لو انضمّت إليه تعيّنه، بل المراد: عدم دراية أنّ المنشأ بإنشاء اللازم هو لازم العقد ليترتّب عليه آثار اللازم، أو نفس العقد ليترتّب عليه آثار نفس العقد، من جهة أنّ تعلّق الإنشاء باللازم مع ضمّ القرائن الدالّة على إرادة نفس العقد أعمّ من كون الغرض تعلّقه باللازم حقيقة و أصالة. و إن كان الغرض منه الانتقال إلى إرادة الملزوم، و من كون الغرض تعلّقه به صورة من باب التوطئة و التوسّط لتعلّقه بنفس الملزوم. و من المعلوم أنّ العام لا يدلّ على الخاصّ إلّا بضمّ القرينة الدالّة على الخصوصيّة.

فتلخّص ممّا ذكرنا: أنّ المحتمل من اشتراط الصراحة في العقود و عدم كفاية الكناية وجوه:

أحدها: اشتراط الانعقاد بالألفاظ المتلقّاة من الشارع، أعني المستعملة في عنوان ذلك العقد في الكتاب أو السنّة، كما يوهمه ظاهر بعض فتاويهم الآتية، حملا لألفاظ العقود على التوقيف تعبّدا، كحمل ألفاظ العبادات عليه تعبّدا.

ثانيها: احتمال اشتراط كونه بلفظ أمر الشارع بإيقاع العقد به، لا غير كما يوهمه عمل بعض الوساوسة على تكرار عقد النكاح بجميع ما يحتمل فيه من الألفاظ و أنحائها.

ص: 414

و ثالثها: احتمال اشتراط الحقيقة في الصيغة، و عدم الانعقاد بالمجازات رأسا، كما أوهمه تصريح بعضهم، أو تفصيلا بين نوعي المجازات القريبة و البعيدة، كما عن المحقّق.

و رابعها: احتمال اشتراط انعقاده بما يفيد نفس العقد من الألفاظ، سواء أ كان بلفظ حقيقيّ أم مجازي، و سواء أ كان متلقّيا من الشارع أم لا.

و خامسها: احتمال اشتراط الانعقاد بما له من الألفاظ ظهور عرفيّ معتدّ به في المعنى المقصود، سواء أ كان بلفظ الحقيقة أم المجاز أم الكناية، كما استظهره الماتن من النصوص المتفرّقة حملا لما يعتبر في ألفاظ العقود على ما يعتبر في سائر ألفاظ الأقارير و المحاورات العرفية.

و تلخّص لك أيضا: أنّ المراد من اشتراط الصراحة ليس هو الوجه الأوّل، لمنافاته إطلاق الآية، و تصريحاتهم و تفسيراتهم المذكورة. و لا الوجه الثاني، لأنّه أبعد من الأوّل. و لا الوجه الثالث، لمنافاته إطلاق الآية و عمومها، فتعيّن أن يكون المراد هو الوجه الرابع.

و أمّا الخامس فهو و إن استظهره الماتن قدس سرّه من نصوصهم المتفرّقة في أبواب العقود، و من الفتاوى المتعرّضة لصيغها، و من دعوى تنقيح المناط القطعيّ، و هو عدم تعقّل الفرق في الوضوح الّذي هو مناط الصراحة بين إفادة لفظ للمطلب بحكم الوضع، أو إفادته له بضميمة لفظ آخر يدلّ بالوضع على إرادة المطلب من ذلك اللفظ إلّا أنّ في ظهور ما استظهره من كلّ واحد من الوجوه الثلاثة نظر، بل منع.

أمّا نصوصهم المتفرّقة و فتاويهم المتعرّضة لصيغ العقود الّتي أشار إليها بقوله: «و حكي عن المحقّق (1): أنّ عقد البيع لا يلزم فيه لفظ مخصوص»،


1- حكاه عنه الفاضل الآبي في كشف الرموز 1: 445- 446.

ص: 415

و «حكي عن الشهيد (1) رحمه اللّٰه من جواز البيع بكلّ لفظ دلّ عليه، مثل: أسلمت إليك، و عاوضتك»، و «عن العلّامة (2) و الفخر (3) من: أنّ الإيجاب هو اللفظ الدالّ على النقل، مثل: بعتك، أو ملّكتك، أو ما يقوم مقامهما» إلى غير ذلك من إطلاقاتهم المتفرّقة و تمثيلاتهم المتعرّضة لصيغ العقود الّتي استظهر منها الماتن- طاب ثراه- عدم اشتراط التصريح و الاكتفاء بالكنايات فلعدم ظهور شي ء من تلك النصوص و الفتاوى فيما استظهره من مخالفة المشهور و الاكتفاء بالكنايات في العقود.

أمّا نصوصهم المتفرّقة على جواز البيع بكلّ لفظ دلّ عليه و عدم لزوم لفظ مخصوص و غيرهما من سائر المطلقات فلاحتمال ورود إطلاقها مورد بيان رفع احتمال ما عدا الوجه الرابع من سائر الوجوه المتقدّمة عليه، كرفع احتمال اشتراط التلقّي من الشارع بأحد معنييه، أو رفع احتمال اشتراط الحقيقة في صيغ العقود دون ورود إطلاقها مورد بيان رفع اشتراط الصراحة و الاكتفاء بالكناية، و مع هذا الاحتمال، بل و رجحانه بالشهرة كيف يبقى ظهور لإطلاق تلك النصوص في ما استظهره من كون إطلاقها في صدد مخالفة المشهور، و بيان الاكتفاء في انعقاد العقود بكلّ لفظ له ظهور عرفيّ معتدّ به في المعنى المقصود و لو كان بالكناية؟

و أمّا تمثيلاتهم المتعرّضة لصيغ العقود و تجويزهم البيع بالألفاظ المختلفة فلعدم ظهور شي ء منها أيضا في مخالفة المشهور، و جواز الاكتفاء بالكناية.

أمّا التمثيل لجواز البيع بمثل «ملّكتك هذا بهذا» أو بمثل «نقلته إلى ملكك بكذا»، أو «جعلته ملكا لك بكذا» فلأنّ تلك الأمثلة من الألفاظ الحقيقيّة المفيدة


1- حكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة 4: 150.
2- تحرير الأحكام 1: 164.
3- حكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة 4: 150.

ص: 416

لنفس العقد صريحا، سيّما بملاحظة القرائن المقامية لو انضمّت إليه، لا من المجازات، و لا من الكنايات المفيدة لازم العقد أصالة حتّى يستظهر منها اكتفاؤهم في الانعقاد بكلّ لفظ.

و كذا تمثيل الشهيد (1)- رحمه اللّٰه- لجواز البيع بمثل «عاوضتك» فإنّه أيضا من الألفاظ الحقيقية المفيدة نفس البيع صريحا كما مرّ في تعريفهم البيع «بمبادلة مال بمال»، و «معاوضة شي ء بشي ء»، فليس دلالة المعاوضة على البيع من دلالة المجازات و الكنايات في شي ء حتّى يستظهر منها ما استظهر، بل هو لفظ حقيقيّ دالّ على البيع صريحا، سيّما بملاحظة ضمّ القرائن المقامية إليه.

و لو سلّمنا كونه من الكنايات فحمل تمثيل الممثّل به على تجويزه الكناية في الانعقاد، و على مخالفته المشهور في الكبرى ليس بأولى من الحمل على مخالفته معهم في الصغرى، أعني في زعمه الكناية صريحا.

و أمّا التمثيل لجواز البيع بمثل «أسلمت إليك، أو «أسلفتك بكذا» فلأنّ السلم و السلف و إن كان معناهما الحقيقيّ المتلقّى من الشارع هو بيع مقيّد خاصّ، و دلالتهما على البيع المطلق مجاز بعلاقة الخصوص و العموم إلّا أنّ تجويز البيع المطلق بهما مع ذلك لا يدلّ على تجويزه البيع بسائر المجازات الغير المتلقّاة من الشارع، أو المتلقّاة الغير المستعملة بعلاقة الخصوص و العموم، فضلا عن دلالته عليه تجويز البيع بالكنايات.

و كذا تمثيل بعضهم في بيع التولية بقوله: «ولّيتك العقد» أو «ولّيتك السلعة»، و التشريك في البيع بمثل «شرّكتك»، و في مسألة التقبيل بلفظ التقبيل فإنّها أيضا من الألفاظ الحقيقة المتلقّاة من الشارع المفيدة نفس عنوان ذلك العقد المعقود منها صريحا، سيّما بملاحظة ضمّ القرائن الحالية إليها.


1- و لكن فيما حكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة «4: 150»: قارضتك.

ص: 417

و لو سلّمنا كونها من المجازات فلا يدلّ تمثيل الممثّل بها على تجويزه انعقاد العقود بغيرها من سائر المجازات الغير المتلقّاة من الشرع، فضلا عن الدلالة على تجويزه بالكنايات.

بل لو سلّمنا كونها من الكنايات فحمل تجويز المجوّز للعقد بها على مخالفته المشهور في الكبرى- أعني في اعتبار الصراحة- ليس بأولى من حمل تجويزه بها على اشتباهه في الصغرى، أعني في زعمه الكناية صريحا.

و أمّا التمثيل من بعضهم لانعقاد القرض بمثل «تصرّف فيه»، أو «انتفع به و عليك ردّ عوضه» أو «خذها بمثله» و «أسلفتك» فلعلّه لأجل صراحتها و لو بضمّ القرائن إليها، أو لزعم صراحتها عند المكتفي بها، أو لبنائه على كون القرض من العقود الجائزة من الطرفين، كما صرّح في الروضة (1) باستناد الاكتفاء بتلك الألفاظ في القرض إلى كونها من العقود الجائزة، لا اللازمة. أو لأجل تغليب جانب الجواز فيها من طرف المقترض على جانب اللزوم فيها من طرف المقرض على القول بلزومها من طرفه، و أنّه يملك القرض بمجرّد القبض، و ليس للمقرض جبره على ردّ العين و لو كان موجودا بعد، بل للمقترض ردّ مثله و إن كره المقرض حينئذ.

كما احتمل استناد الاكتفاء بها إلى هذا الوجه شيخنا العلّامة.

و مع وجود هذه الاحتمالات القريبة المتكاثرة في مستند الاكتفاء بتلك الألفاظ في القرض كيف يستظهر من الاكتفاء بها عدم اشتراط المكتفي بها الصراحة في العقود و اكتفائه فيها بالكنايات؟

و أمّا التمثيل من بعضهم لجواز الرهن بمثل: «هذه وثيقة عندك» أو «خذه على مالك» أو «أمسكه بمالك» أو «حتّى أعطيك مالك» فلعلّه أيضا لأجل


1- الروضة البهيّة 4: 12.

ص: 418

صراحة تلك الألفاظ و لو بضمّ القرائن، أو لأجل زعم صراحتها عند المكتفي بها، أو لأنّه جائز من طرف المرتهن، الّذي هو المقصود الذاتيّ منه فغلّب جانب الجواز مطلقا، كما صرّح باستناد الاكتفاء بها في الروضة (1) إلى هذا الوجه.

و أمّا التمثيل من بعضهم لجواز إيجاب الضمان بمثل «تعهّدت المال» أو «تقلّدته» و المزارعة بلفظ «ازرع» و الإجارة بلفظ «العارية» أو بلفظ «بيع المنفعة» فلصراحتها و لو بضمّ القرائن، أو لزعم صراحتها عند المكتفي، لا للاكتفاء بالكنايات، كما زعمه الماتن (2).

و أمّا التمثيل من بعضهم لجواز الوقف بمثل «حرّمت» و «تصدّقت» مع القرينة الدالّة على إرادة الوقف مثل «أن لا يباع و لا يورث» فلصراحتها و لو بضمّ القرائن، أو لزعم صراحتها عند مجوّزها، أو لأنّ الوقف معاملة مع اللّٰه تعالى و هو عالم بالسرائر، لا معاملة مع من لا يدري بم خوطب به؟ حتّى يحتاج إلى الصراحة.

و لهذا استظهر في الروضة عن الأكثر: أنّه لو نوى الوقف في ما يفتقر إلى القرينة وقع باطنا، و دين بنيّته لو ادّعاه أو ادّعى غيره (3).

و أمّا التمثيل من جماعة لوقوع العقد الدائم بلفظ «التمتّع» فلعلّه مقيّد بما إذا بلغ حدّ الصراحة بضمّ القرائن الحاليّة و المقامية إليه، أو لزعم صراحته عند مجوّزة.

هذا تمام الفتاوى المتعرّضة لصيغ العقود و الأمثلة المختلفة الّتي استظهر الماتن من كلّ واحد منها مخالفة المشهور، و عدم اشتراط الصراحة و الاكتفاء بالكناية. و قد عرفت ممّا ذكرنا عدم ظهور شي ء منها في ما استظهره منها بأبلغ


1- الروضة البهيّة 4: 54.
2- المكاسب: 94.
3- الروضة البهيّة 3: 164.

ص: 419

وجه و أبسط.

و أمّا استظهاره مدّعاه و هو الاكتفاء بالكنايات بتنقيح المناط الّذي أشار إليه بقوله: «إذ لا يعقل الفرق في الوضوح الّذي هو مناط الصراحة بين إفادة لفظ للمطلب بحكم الوضع أو إفادته بضميمة لفظ آخر يدلّ بالوضع على إرادة المطلب من ذلك اللفظ» ففيه: منع عدم تعقّل الفرق بينهما بالمعارضة، و أنّه لو لم يتعقّل الفرق بينهما لجاز انعقاد العقد باللفظ الدالّ على إرادته بمعونة القرائن الحالية، بل لجاز بالمعاطاة المسبوق بمقال أو المقترن بحال يدلّ على إرادة البيع جزما، و اللازم باطل، فالملزوم مثله.

وجه الملازمة عدم الفرق في الوضوح الّذي جعله مناط الصراحة بين القرائن اللفظيّة و الحاليّة، بل و لا بين انضمام القرائن إلى اللفظ أو الفعل. فإنّه إن أراد من الوضوح الّذي جعله مناط الصراحة مطلق الوضوح كان دعوى الفرق بين الوضوح الناشئ عن الأقوال و بين الناشئ عن الأفعال و الأحوال رجوع عمّا بني عليه المناط.

و إن أراد منه الوضوح الخاصّ باللفظ احتمل بعد اعتبار أصل اللفظ في الوضوح اعتبار خصوصية أخرى من خصوصيّات الألفاظ فيه، أعني اعتبار ما عدا الكناية و المجاز فيه، إذ لعلّ ما يكون المعتبر في نظر الشارع لانعقاد العقود هو الصراحة اللفظيّة البالغة في الكشف عن إنشاء العقد إلى مرتبة لا يمكن الرجوع بعده بإنكار إرادته لو دعت الحاجة إلى الإنكار، قطعا لمادّة الخصومة، و سدّا لباب النزاع.

و لمّا لم يكن المجازات بتلك المثابة في الصراحة و قطع مادّة الخصومة من رأس و سدّ باب النزاع و الإنكار سيّما الكنايات و لو بلغت من الاقتران بالقرائن ما بلغت- لإمكان إنكار الاعتماد عليها لو دعت الحاجة إلى الإنكار- احتمل أن

ص: 420

يرى الشارع المصلحة في عدم اكتفائه بالمجازات و الكنايات، و لو بلغت من الاقتران بالقرائن المصرّحة للمراد ما بلغت. و مع وجود هذا الاحتمال- أعني اعتبار الشارع خصوصيّة ما عدا المجازات في العقود- يكون إلحاق المجازات بغيرها قياس مستنبط العلّة.

و دعوى إمكان رفع احتمال اعتبار الخصوصيّة بعموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1) و أصالة الصحّة و اللزوم المستفادان منه، مضافا إلى عدم جريانه في مطلق المجازات، فضلا عن جريانه في الكنايات، لتوقّف مجرى عموم الوفاء على إحراز كون الواقع عقدا عرفيا الغير المحرز في الكنايات و المجازات البعيدة و الخفي قراءتها، رجوع عمّا بنى عليه الاكتفاء بالمجازات و الكنايات من دعوى تنقيح المناط بعدم تعقّل الفرق.

فتلخّص ممّا ذكرنا عدم ظهور شي ء من الوجوه الّتي استظهر الماتن منها الاكتفاء بالمجازات و الكنايات، و أنّ استظهاره منها عجيب! و الأعجب منه أنّه لم يكتف بذلك حتّى تكلّف بتطبيقه على مدّعاه سائر العبارات الظاهرة، بل الصريحة في توقيفيّة ألفاظ العقود و الاقتصار فيها الصيغ المأثورة منها في كلام الشارع، كالعبارة المحكيّة عن الفخر في الإيضاح من أنّ كلّ عقد لازم وضع الشارع له صيغة مخصوصة بالاستقراء (2) فلا بدّ من الاقتصار على المتيقّن.

و عن المسالك (3) من أنّه يجب الاقتصار في العقود اللازمة على الألفاظ المنقولة شرعا، المعهودة لغة.

و العبارة المحكيّة عن كنز العرفان في باب النكاح من أنّه حكم شرعيّ حادث فلا بدّ له من دليل يدلّ على حصوله، و هو العقد اللفظيّ المتلقّى من


1- المائدة: 1.
2- إيضاح الفوائد 3: 12.
3- مسالك الأفهام 3: 147، و ج 7: 86.

ص: 421

النصّ (1). ثمّ ذكر لإيجاب النكاح ألفاظ ثلاثة، و علّلها بورودها في القرآن!.

بل الأعجب من ذلك كلّه أنّه لم يكتف بتطبيقه على مدّعاه مثل تلك العبائر الظاهرة، بل الصريحة في خلاف مدّعاه حتّى استأيد لمدّعاه و استرشد إليه بتلك العبائر و الفتاوى الصريحة في خلافه، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ هذا كلّه في بيان حكم صيغ العقود و امتياز ما ينعقد به العقد عمّا لا ينعقد من حيث الكبرى. و أمّا بيان حكم الصيغ من حيث الصغرى تفصيلا فيتوقّف على التعرّض لخصوص كلّ واحد من ألفاظ الإيجاب و القبول على وجه الجزئيّة، و هي كثيرة:

فمنها: لفظ «بعت» و «شريت»، و في انعقاد كلّ من الإيجاب و القبول أو أحدهما بكلّ من اللفظين، أو عدم انعقاد شي ء من الطرفين بشي ء من اللفظين، أو التفصيل بين انضمام القرائن المعيّنة و بين عدم الانضمام وجوه مبنيّة على ما تقدّم من احتمال توقيفيّة ألفاظ العقود بالمعنى الأخصّ، و من احتمال اعتبار الوضع الحقيقيّ في صيغها، و عدم ثبوت النقل الحقيقيّ في تلك الصيغ، و من احتمال الاكتفاء بالصراحة مطلقا، سواء في ذلك الحقائق و المجازات. و قد عرفت الحقّ مع الأخير منها بأبلغ تقرير و تحرير.

كما أنّ في الاكتفاء بمجرّد انضمام قصد الإيجاب و القبول إليه على تقدير احتياجه إلى الضميمة، أو الاكتفاء بمجرّد انضمام القرائن الحاليّة إليه، أو بمجرّد انضمام أصالة صحّة المعاملة إليه، أو الاكتفاء بمجرّد انضمام إحدى الغلبتين من الاستعمال و الوجود إليه، أو الاحتياج إلى خصوص انضمام القرائن اللفظيّة الّتي منها التعدية إلى المفعولين المميّزة لصيغة الإيجاب عن القبول عند اشتراك الصيغة و اتّحاده بينهما وجوه مبنيّة على قرينيّة ما عدا الأخير منها، كالأخير، و عدمه.


1- كنز العرفان 2: 147.

ص: 422

و الظاهر أنّه لا ريب في عدم قرينيّة مجرّد القصد، و عدم احتمال قرينيّته في كلام أحد.

كما لا خلاف في قرينيّة الوجه الآخر. و لا ريب في قرينيّة الأحوال المنضمّة إليه، و لا في قرينيّة غلبة الاستعمال، بل و لا في قرينيّة غلبة الوجود على إشكال ما، و لا في عدم قرينيّة أصالة صحّة المعاملة، سواء أقلنا بأنّ مأخذها الغلبة في أفعال المسلمين، أم التعبّد الصرف، لكن لا لعدم مجرى أصالة صحّة المعاملة في ما يصحّ من المعاملات بغير اللفظ، كبيع المعاطاة و نحوه، حتّى يندفع بتخصيص مجراها بما لا يصحّ بغير اللفظ و الصيغة، كالنكاح و نحوه. بل إنّما هو لأجل أنّ المراد من أصالة الصحّة إن كان إطلاق آية أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1) فقد عرفت اختصاص مجراه بما إذا أحرز فيه صدق العقد عرفا من الصيغ، و المفروض كون الشكّ في الصحّة ناشئا عن الشكّ في تحقّق موضوع العقد عرفا، لا في اعتبار أمر زائد على تحقّق الموضوع العرفيّ بتلك الصيغة. و إن كان المراد منه أصالة الصحّة في أفعال المسلمين فمن البيّن اختصاص مجراها بما إذا كان الشكّ في الصحّة ناشئا عن الشكّ في إيقاع العقد بأي من صيغتي الصحيح و الفاسد، و المفروض أنّ الشكّ في ما نحن فيه ناشئ عن الشكّ في أصل صحّة الصيغة، و عدمه بعد إحراز كون الإيقاع به لا بغيره.

و بعبارة أخرى: أنّ الشكّ في ما نحن فيه ليس ناشئا عن دوران الأمر في الواقع بين وقوع العقد بإحدى الصيغتين المفروض صحّة إحداهما و فساد الأخرى حتّى يجري فيه أصالة الصحّة في أفعال المسلمين، بل إنّما هو ناشئ عن دوران الأمر بين صحّة اللفظ المخصوص المعلوم وقوع العقد به، و عدم صحّته، و لا أصل في البين.


1- المائدة: 1.

ص: 423

هذا كلّه في بيان صحّة الإيجاب و القبول بلفظ «بعت» و «شريت» على وجه من الإجمال، و تفصيله من جميع الوجوه أنّه لا خلاف فتوى و لا نصّا في وقوع الإيجاب بأيّ واحد من لفظي «بعت» و «شريت».

أمّا لفظ «شريت» فلأنّه و إن قلّ استعماله عرفا في الإيجاب، بل لم ينقل الإيجاب به في الأخبار، و لا في كلام القدماء. إلّا أنّ الظاهر عن اللغويّين هو وضعه للبيع (1)، بل قيل: لم يستعمل في القرآن الكريم إلّا في البيع. و بذلك الكفاية في وضوحه الّذي هو مناط الصراحة المعتبرة في صيغ العقود.

و أمّا لفظ «بعت» فلأنّه و إن كان من الأضداد بالنسبة إلى البيع و الشراء إلّا أنّ كثرة استعماله في البيع وصلت إلى حدّ تغنيها عن القرينة.

كما لا خلاف نصّا (2) و لا فتوى في صحّة القبول بلفظ «شريت» أيضا، بل الأقوى صحّته بلفظ «بعت» أيضا، لأنّ البيع و إن كان قليل الاستعمال عرفا في القبول إلّا أنّ القرائن المكتنفة به- الّتي منها التأخير، بناء على وجوب تقديم الإيجاب على القبول، أو غلبته- موضّحة إرادة القبول منه بالوضوح الّذي هو مناط الصراحة الكافية في الصحّة عندنا- معاشر المشهور- بأصالة الصحّة، و إطلاق الآية (3).

فتلخّص ممّا ذكرنا: صحّة وقوع الإيجاب و القبول بأيّ من لفظي «بعت» و «شريت»، سواء اتّحد لفظي الإيجاب و القبول بتكرير لفظ «بعت» أو «شريت»، أو اختلف لفظهما.

و على كلّ من الوجوه الأربعة سواء اقترنت الصيغة بالقرينة اللفظية المميّزة


1- انظر لسان العرب 14: 427.
2- لم نظفر عليه. نعم، ورد القبول بلفظ: «اشتريت» انظر الوسائل 12: 272 ب «19» من أبواب عقد البيع و شروطه.
3- المائدة: 1.

ص: 424

للإيجاب عن القبول الّتي منها التعدية إلى المفعولين، أم اقترنت بالقرينة الحاليّة المميّزة له الّتي منها التقديم و التأخير، بناء على وجوب تقديم الإيجاب أو غلبته و إن عدم صحّة الإيجاب، و القبول إنّما يختصّ بما إذا فرض اشتراك اللفظ بين الإيجاب و القبول، و تجرّد في مقام قصد المعاملة عمّا عدا القصد من جميع القرائن الحاليّة و المقاليّة الكاشفة عن أصل القصد، و المميّزة لقصد الإيجاب عن القبول، و هو طن لم يكن مجرّد فرض لا وقوع له أصلا في المعاملة بلفظ «البيع» و «الشراء» فلا أقل من كونه نادر الوقوع جدّا بحسب العادة، كما لا يخفى، على أنّه لا يبعد القول بأنّ الصراحة المعتبرة في العقود مختصّة بصراحة اللفظ من حيث دلالته على خصوص العقد، و تميّزه عمّا عداه من العقود.

و أمّا تميّز إيجاب عقد معيّن عن قبوله الراجع إلى تميّز البائع عن المشتري فلا يعتبر فيه الصراحة، بل يكفي استفادة المراد و لو بقرينة المقام، أو غلبته.

و من جملة ألفاظ الإيجاب و القبول: لفظ «ملّكت» بالتشديد. و في انعقاد البيع به في كلّ من طرفي الإيجاب و القبول مطلقا، أو عدم انعقاده به مطلقا، أو التفصيل بين ما يكون المنضمّ إليه من القرائن الحاليّة أو اللفظيّة، كسبق مقاولة البيع بينهما و نحوه، أو التفصيل في القرائن اللفظيّة بين سبق مقاولة البيع بينهما على التمليك و بين التصريح بمثل «ملّكتك» بيعا، أو التفصيل بين انعقاد الإيجاب به دون القبول وجوه.

كما أنّ في استناد انعقاد البيع به على القول به إلى أصالة البيع في المعاملات و غلبته، أو إلى إطلاق أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1) أو إلى صراحة لفظ «الملك» في البيع وجوه.

و كما أنّ في استناد عدم انعقاد البيع به على القول به إلى توقيفيّة ألفاظ


1- المائدة: 1.

ص: 425

العقود بأحد معنييه، أو إلى مجازيّة التمليك في البيع، أو إلى كناية عنه و كونه من لوازمه الأعمّ أيضا وجوه.

و الأقوى من بين وجوه انعقاد البيع ب «ملّكت»، و عدمه هو الانعقاد به مطلقا، للشهرة المنقولة في المتن إن لم تكن محصّلة، بل و للإجماع المنقول عن نكت الإرشاد (1) و غيره إن لم يكن محصّلا، مضافا إلى أغلبيّة البيع من سائر المعاملات، و إطلاق أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، و إلى صراحة لفظ «الملك» المقارن بذكر العوض، أو غيره من القرائن الحاليّة و المقاليّة في البيع بمقتضى الوضع التركيبي، فإنّ مادّة التمليك و إن كانت مشتركة معنى بين ما يتضمّن المقابلة و بين المجرّد عنها إلّا أنّها إن اتّصلت بذكر العوض أو غيره من القرائن أفاد المجموع المركّب بمقتضى الوضع التركيبي البيع، و إن تجرّدت عن ذكر العوض و سائر القرائن اقتضى تجريده الملكيّة المجّانيّة.

و من هنا يعلم إمكان وجه آخر في المسألة، و هو فرض النزاع فيها لفظيّا، لإمكان الجمع بحمل ما قيل من أنّ التمليك يستعمل في الهبة بحيث لا يتبادر عند الإطلاق غيرها على التمليك المجرّد عن ذكر العوض، و حمل ما قيل من انعقاد البيع به على التمليك المقترن بذكر العوض، أو بحمل الأوّل على صورة التجرّد عن جميع القرائن المكتنفة المعيّنة لإرادة البيع، و حمل القول الآخر على صورة الاقتران بشي ء منها و لو من القرائن الحاليّة.

و أمّا لفظ «أدخلته في ملكك» فالحال فيه هو الحال في لفظ «ملّكتك» من حيث الوجوه و الوجاهة.

و أمّا لفظ «جعلته لك» فهو و إن نهض إليه بعض وجوه التمليك إلّا أنّ الأوجه فيه التفصيل بين القول بظهور اللام في التمليك، فيفيد البيع بما كان يفيده


1- لم نجده فيه، راجع غاية المراد في شرح نكت الإرشاد: 80- 81.

ص: 426

التمليك من الاقتران بذكر العوض أو غيره من القرائن المصرّحة بإرادة البيع، و بين القول بظهوره في الاختصاص، أو عدم اقترانه بشي ء من القرائن المصرّحة بإرادة البيع فلا يفيد البيع، لإلحاقه بالكنايات على هذا الفرض.

فتلخّص ممّا ذكرنا قوّة انعقاد الإيجاب بكلّ ما دلّ عليه من الألفاظ الصريحة، سواء كان من المتلقّاة من الشارع أو غيرها، و سواء كان من الألفاظ الحقيقيّة أو المجازيّة، بل و سواء دلّ بمعونة القرائن المقاميّة أو الحاليّة.

و كذا الكلام في انعقاد القبول على الأقوى و الأظهر و الأشهر، فالكلام فيه من حيث الإجمال و الكلّية هو انعقاد القبول بكلّ ما ينعقد به الإيجاب من الألفاظ الصريحة، سواء كانت متلقّاة من الشارع أم لا، و سواء كانت من الألفاظ الحقيقيّة أم لا، و سواء كان دلالته على القبول بمعونة القرائن المقاليّة أو الحاليّة.

و استشكال الماتن (1) في الاعتماد على القرائن الغير اللفظيّة في تعيين المراد من ألفاظ العقود قد عرفت اندفاعه بإطلاق الآية (2)، و الشهرة و الإجماع المنقولين إن لم يكونا محصّلين. و أمّا من حيث التفصيل و الجزئيّة فهو انعقاد القبول بلفظ «قبلت» و «شريت» و «اشتريت» و «بعت» و «ابتعت» و «ملّكت» و «تملّكت» بالتشديد، و «ملكت» بالتخفيف، و «رضيت» و «ارتضيت» و إن كان الأصل في القبول «قبلت» و غيره بدل عنه، إلى غير ذلك من الألفاظ الصريحة في القبول بنفسها، أو بما يكتنف بها من القرائن و لو قرينة تأخيره الدالّ على كونه قبولا، بناء على لزوم تقديم الإيجاب على القبول، أو غلبة ذلك، لإطلاق أَوْفُوا بِالْعُقُودِ بعد إحراز صدق اسم العقد عرفا على العقد بتلك الألفاظ، و للشهرة، بل الإجماع المنقولين، بل المحصّلين من إطلاق عبارة الأكثر.


1- المكاسب: 95.
2- المائدة: 1.

ص: 427

و يشترط في العقد الإيجاب و القبول من دون التعرّض للفظ خاصّ، بل و من عبارة كلّ من عطف على «بعت» و «ملّكت» و شبههما، أو ما يقوم مقامهما، فإنّ إرادة خصوص لفظ «شريت» من المعطوف بعيد جدّا. كما أنّ إرادة إيرادهم الإطلاق مورد بيان حكم آخر خلاف الظاهر و الغالب، و اللّٰه العالم بحقّ المطالب.

[مسألة في اعتبار العربيّة في العقد]

قال الماتن قدس سرّه: «المحكيّ عن جماعة منهم: السيّد عميد الدين (1)، و الفاضل المقداد (2)، و المحقّق (3) و الشهيد (4) الثانيان اعتبار العربيّة في العقد».

أقول: قبل الخوض في وجه المسألة ينبغي أوّلا تحرير محلّ النزاع، ثمّ تأسيس الأصل، ثمّ الشروع في دليل المسألة.

أمّا الكلام في تحرير محلّ النزاع فتفصيله: أنّ النزاع في اعتبار العربيّة و عدمه في العقد إنّما هو في المتمكّن من مباشرة العربيّة بنفسه، أو بالتوكيل. و أمّا غير المتمكّن من العربيّة بشي ء من الوجهين فلا نزاع في عدم اعتبارها في حقّه و جواز غيرها من سائر اللغات بالنسبة إليه، كما هو ظاهر الروضة (5)، و صريح غيره. بل و كذا العاجز المتمكّن منها بالتوكيل، فإنّه و إن احتمل في حقّه اعتبار العربيّة بالتوكيل بعض أخذا بأصالة عدم النقل و الانتقال بغيرها إلّا أنّ الأقوى و الأشهر عدم اعتبارها في حقّه أيضا.

بل عن مفتاح الكرامة (6) أنّه لا احتاط به أحد. و المراد من العجز ما يشمل المشقّة الكثيرة في التعلّم، أو فوات بعض الأغراض المقصودة من إخفاء العقد و نحوه المنافية للتوكيل.


1- لم نجده في كنز الفوائد للسيّد عميد الدين.
2- لم نجد تصريحا له بذلك، و إنّما مثّل لصيغة البيع بالعربيّة، راجع التنقيح الرائع 2: 24.
3- جامع المقاصد 4: 59- 60.
4- الروضة البهيّة 3: 225.
5- الروضة البهيّة 3: 225.
6- مفتاح الكرامة 4: 164.

ص: 428

ثمّ إنّه بعد العجز عن العربيّة هل يستوي سائر اللغات من العجميّ و التركيّ و الهنديّ و الزنجيّ و غيرها من أنواع اللغات و أصنافها المتشتّتة في الاجتزاء، أم لبعضها على بعض تقدّم في الرتبة بالنسبة إلى العاجز؟

وجهان، أقواهما الاستواء، للأصل، و عدم ما يصلح للفرق بينها.

و أمّا الكلام في تأسيس الأصل فقد مرّ غير مرّة أنّ الأصل العمليّ الّذي هو عبارة عن استصحاب بقاء الملك و عدم النقل و الانتقال بغير العربيّة- الّذي هو من استصحاب الأعدام الأزليّة المجمع على حجّيّة الاستصحاب فيها- يقتضي اعتبار العربيّة، و أنّ الأصل اللفظيّ- و هو إطلاق أَوْفُوا بِالْعُقُودِ عندنا معاشر المشهور القائلين بإطلاق الآية، و عدم إجمالها، و منع لزوم التخصيص بالأكثر من إطلاقها حسب ما قرّر في صدر المعاطاة بأبلغ وجه و أبسط- يقتضي العكس، و هو عدم اعتبار العربيّة، و الاجتزاء بغيرها من أيّ لغة كانت.

و أمّا الكلام في دليل اعتبار العربيّة فيمكن أن يكون وجوها:

منها: الأصل العمليّ، و استصحاب بقاء الملك، و عدم النقل و الانتقال بغير العربيّة.

و فيه: أنّ الاستدلال بالأصل العمليّ مبنيّ على القول بإجمال الآية، و إلّا فالأصل دليل حيث لا دليل، و إطلاق الآية دليل وارد على كلّ أصل أصيل.

و منها: لزوم الاقتصار على القدر المتيقّن من أسباب النقل، كما اعتمد عليه الشرائع (1) في باب النكاح، و احتمل الماتن الاعتماد عليه عليه مطلقا.

و فيه: أنّ التمسّك به أيضا مبنيّ على القول بإجمال الآية الممنوع إجمالها في محلّه بأبلغ وجه عندنا معاشر المشهور.


1- شرائع الإسلام 2: 321.

ص: 429

و منها: الإجماع المنقول عن المبسوط (1) و التذكرة (2) و غيرهما على اعتبار العربيّة في عقد النكاح، بناء على تنقيح اتّحاد المناط في سائر العقود، أو على أنّ اعتبار العربيّة في عقد النكاح يقتضي أولويّة اعتباره في سائر العقود، نظرا إلى أنّه قد تسامح الشارع في عقد النكاح بما لم يتسامح به في سائر العقود، ممّا يمكن الاستشكاف به عن تسهيل الشارع انعقاد النكاح من بين سائر العقود تكثيرا للنسل، أو غيره من المصالح، كالاكتفاء فيه بالسكوت من البكر، و بإهمال ذكر المهر، و بإسقاطه من المفوّضة بعضها بلا عوض، و بدون تعيين وصف المعقودة من جهة البكارة، و سائر الأوصاف الطبيعيّة و الخلقيّة، إلى غير ذلك ممّا لا يكتفى به في سائر العقود، كما لا يخفى على المتتبّع الخبير.

و فيه: أنّ الإجماع على اعتبار العربيّة في عقد النكاح على تقدير تسليمه و عدم الاعتناء بتجويز ابن حمزة (3) و غيره النكاح بغير العربيّة مع القدرة عليها لا يتعدّى عن النكاح إلى سائر العقود، لمنع تنقيح المناط، و منع الأولويّة، لأنّ القطعيّ منهما مفقود، و الظنّيّ منهما ملحق بالقياس، مضافا إلى أنّ مجرّد المسامحة في باب النكاح ببعض ما لا يتسامح به في سائر العقود معارض بالمسامحة في سائر العقود بالمعاطاة و غيرها ممّا لا يتسامح به في باب النكاح، إجماعا، و إلى ما في الآثار و الأخبار من أنّ الاحتياط في باب النكاح آكد من الاحتياط في سائر الأبواب، و أنّ اهتمام الشارع في أمر الفروج آكد من اهتمامه في سائر الأمور، كما لا يخفى على المتتبّع الخبير.

و منها: ما حكاه في المتن عن جماعة (4) من الاستدلال على اعتبار العربيّة


1- المبسوط 4: 194.
2- تذكرة الفقهاء 2: 582.
3- الوسيلة: 291- 292.
4- جامع المقاصد 4: 59- 60.

ص: 430

بالتأسّي بالنبيّ صلى اللّٰه عليه و آله المأمور به في قوله تعالى لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّٰهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (1).

و يندفع، لكن لا بما توهّم من استحباب التأسّي تفصّيا عن انتقاض وجوبه بالخصائص حتّى يندفع بخروج الخصائص بمخصّص خارجي، و أنّ العامّ المخصّص حقيقة في الباقي، بل الصواب الجواب بأنّ وجوب التأسّي به إنّما يجب في الأمور الغير العاديّة، لا في الأمور العاديّة من الحركات و السكنات، و إلّا لوجب التأسّي به في مجاورة الحجاز، و تعلّم لسان أهل الحجاز، و التكلّم بنهجهم، و التلبّس بلباسهم، و التزوّج من نسائهم، و الأكل من طعامهم، و الشرب من مياههم، إلى غير ذلك من الأمور العاديّة للنبيّ.

نعم، لو تردّد فعله عليه السلام بين الجبلي و الشرعيّ فهو يحمل على الجبليّ، لأصالة عدم التشريع، أو على الشرعي، لأنّه عليه السّلام بعث لبيان الشرعيّات، و قد وقع ذلك في مواضع، منها: جلسة الاستراحة، و منها: دخوله من ثنية كذا و خروجه من ثنية كذا، حيث يحتمل أن يكون لمصادفة طريقه، أو لأنّه سنّة.

قال الشهيد في قواعده: الصحيح حمل ذلك كلّه على الشرعيّ (2).

و منها: استناد اعتبار العربي إلى أنّ عدم صحّته بالعربيّ الغير الماضي يستلزم عدم صحّته بغير العربيّ بطريق أولى.

و فيه: أنّ عدم صحّته بالعربي الغير الماضي على تقدير تسليمه إنّما هو لأجل التحفّظ من الاشتهار المشبه للإباحة، كما صرّح به الشرائع في باب النكاح (3)، فلا يحمل عليه ما لا يحتمل الاشتهار من الألفاظ الصريحة الّتي هي من قبيل المترادف للعربي من سائر اللغات، لاستلزامه القياس مع الفارق.


1- الأحزاب: 21.
2- القواعد و الفوائد 1: 211- 212 قاعدة «61».
3- شرائع الإسلام 2: 321.

ص: 431

و بعبارة اخرى: أنّ عدم صحّته بالعربيّ الغير الماضي على تقدير تسليمه إنّما هو لأجل عدم وضع الغير الماضي للإنشاء الصريح في لغة العرب، فلا يحمل عليه ما وضع للإنشاء الصريح من سائر اللغات.

و منها: صحّة سلب اسم العقد عن العقد بغير اللغة العربيّة.

و فيه: منع صحّته، ضرورة كون العقد لغة و عرفا هو العهد الواقع بين الاثنين على وجه الاستحكام من أيّ لغة كانت، فيشمله عموم الوفاء إلّا على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة في خصوص لفظ العقد بالنسبة إلى العقد باللفظ العربيّ من بين سائر ألفاظ المعاملات، أو القول بوضع ألفاظ المعاملات للصحيح المشكوك إطلاقه على العقد بغير العربيّ، و في إثبات كلّ منهما في ألفاظ العبادات ألف كلام، فضلا عن إثبات شي ء منهما في ألفاظ المعاملات.

و منها: ما عن الجواهر (1): من استناده اعتبار العربيّة إلى مقايسة ألفاظ العقود بألفاظ الصلاة و القرآن و الأدعية المأثورة في عدم اجتزاء الترجمة عنها بشي ء من سائر اللغات لغير العاجز عن العربيّة.

و فيه مضافا إلى القياس أنّه مع الفارق، و هو ورود التعبّد بخصوص العربيّة في ألفاظ الصلاة و القرآن و الأدعية المأثورة في الأخبار و الآثار، دون وروده في ألفاظ العقود، و به الكفاية فارقا بينهما، فلا تقاس ألفاظ العقود الغير الثابت فيها التعبّد بألفاظ الصلاة و القرآن و الأدعية المأثورة الثابت فيها التعبّد في عدم الاجتزاء بغير العربيّ. كما لا تقاس الأدعية الغير المأثورة بالأدعية المأثورة في ذلك، و لهذا يجوز الدعاء الغير المأثور بأيّ لغة من اللغات، بل و كذا الدعاء المأثور لا بقصد المأثور يجوز بأيّ لغة من اللغات.

و منها: ما في الروضة من التمسّك بانصراف إطلاق العقد عن غير العربيّ


1- الجواهر 22: 250.

ص: 432

إلى العربيّ من بين اللغات، معلّلا للانصراف إلى العربيّ بقوله: «لأنّ ذلك هو المعهود من صاحب الشرع» (1)، فينصرف إليه إطلاقه، كما ينصرف إطلاق كلّ مطلق وارد مورد العهد و الغلبة إلى المعهود و الغالب.

و يمكن المناقشة بأنّه إن أريد من معهوديّة العربيّ من صاحب الشرع معهوديّة تكلّمه بالعربيّ، فهو إنّما يجدي إلحاق المشكوك كونه عربيّا من تكلّماته بالعربيّ، لا إلحاق المشكوك إرادة العربيّ منه من التكلّم المعلوم عربيّته بالعربيّ، كما في ما نحن فيه، فإنّ شكّنا ليس في عربيّة لفظ «العقود» حتّى يلحق بالمعهود الغالب من تلفّظات الشرع، و إنّما الشكّ في عربيّة المراد من لفظه المعلوم عربيّته، و من المعلوم عدم معهوديّة العربيّ في مرادات الشرع حتّى يلحق به المشكوك من مراداته.

و إن أريد من معهوديّة العربيّ من صاحب الشرع معهوديّة العقود العربيّة ذكرا ففيه: أنّ شرط انصراف إطلاق المطلق و عموم العامّ إلى المعهود الذكريّ عرفا هو سبق ذكر ذلك المعهود بلفظ التنكير و تعقّبه بلفظ الفاء، كما في مثل:

أَرْسَلْنٰا إِلىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولًا. فَعَصىٰ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ (2)، و في مثل «جاءني رجال فأكرمت الرجال». و من الواضح عدم وجود شي ء من شرطي هذا الانصراف في ما نحن فيه، و هو قوله تعالى يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (3).

و إن أريد من معهوديّة العربيّ من صاحب الشرع غلبة استعمال العقود العربيّة في لسانه فمن الواضح عدم أصل استعمال العقود في القرآن في أكثر من موضع أو موضعين، فضلا عن كون المستعمل فيه عربيّا.


1- الروضة البهيّة 5: 111.
2- المزّمّل: 15 و 16.
3- المائدة: 1.

ص: 433

و إن أريد من معهوديّته غلبة إيجاد العقود العربيّة من صاحب الشرع فمن الواضح على المتتبّع الخبير عدم إيجاده شيئا من العقود العربيّة سوى عقد مولاتنا فاطمة عليها السلام لمولانا عليّ عليه السلام، كما في الأخبار (1) و آثار المزار من أنّه عليه السلام زوّج في السماء بسيّدة النساء، و كان شهودها الملائكة الأصفياء.

و إن أريد من معهوديّة العربيّ منه غلبة وجود العقود العربيّة على العقود الغير العربيّة في ما بين الناس ففيه: أنّ من الواضح المنع، بل العكس.

هذا، و لكن يمكن توجيه الاستدلال بالانصراف بأنّ المراد من معهوديّة العربيّ ليس شيئا من المعاني المذكورة، و إنّما المراد منه كون الحاضرين محفل خطاب الشرع المخاطبين بإطلاق أَوْفُوا بِالْعُقُودِ واجدين للعربيّ، فينصرف إليه إطلاق الخطاب المتوجّه إليهم، بناء على ما هو المشهور المنصور من اختصاص خطاب المشافهة بالحاضرين محفلة، و لا يجوز للغائب التمسّك بإطلاق ذلك الخطاب عند مخالفته مع الحاضر في الصنف، نظرا إلى أنّ التكليف المشروط مطلق بالنسبة إلى الواجدين للشرط.

و إيراد صاحب القوانين (2) عليه: بأنّ اعتبار الاتّحاد في الصنف لا يحدّه قلم، و لا يحيط ببيانه رقم، فاحتمال مدخليّة كونهم في عصر النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله، أو أنّ صلاتهم كانت خلفه، و أمثال ذلك في الأحكام الشرعيّة، و حصول التفاوت بذلك، و عدم الحكم باشتراك الغائبين معهم من جهة هذه المخالفة و التفاوت ممّا يهدم أساس الشريعة و يسدّ باب الأحكام مدفوع: بأنّ المراد اعتبار الاتّحاد حيث لا يقوم دليل على عدم اعتباره، و الاتحاد في الكون في زمان النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله و نحوه ممّا قام الإجماع، بل الضرورة على عدم اعتباره في معظم الأحكام، فلا يلزم على


1- أمالي الصدوق: 223 ح 2.
2- قوانين الأصول: 233- 234.

ص: 434

تقدير اعتباره ما ذكره من الانهدام و الانسداد، و بأنّ المراد من كون التكليف المشروط مطلقا بالنسبة إلى الواجدين للشرط إنّما هو في ما يستمرّ الشرط دون ما ينقطع، كالكون في زمان النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله و نحوه.

و من هنا ظهر وجاهة استدلالنا بظاهر آية الجمعة (1) على وجوب صلاة الجمعة في زماننا، لأنّ احتمال اشتراط حضور السلطان العادل أو نائبه الخاصّ منفيّ بالأصل لو لا توهّم قيام إجماع أو نحوه من الأدلّة الخارجيّة على خلاف الأصل.

كما أنّ توهّم كون الحاضرين واجدين للشرط و حضور السلطان العادل أيضا مدفوع: بعدم استدامة وجدانهم الشرط في أسفارهم و إحضارهم، و ضعف استدلالنا بظاهر أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (2)، لأنّ احتمال اشتراط العربيّة في العقد غير منفيّ بالأصل، لكون الحاضرين محفل الخطاب به واجدين له استدامة، و التكليف المشروط مطلق بالنسبة إلى الواجدين للشرط المستمرّ في الغالب، و إطلاقه وارد مورد الغالب.

فتلخّص ممّا ذكرنا: الرجوع بالأخرة عن إطلاق الآية (3)، و ضعف تمسّك من تمسّك لعدم اشتراط العربيّ في العقد، بأنّ غير العربيّ من اللغات من قبيل الترادف يصحّ أن يقام مقامه، و بأنّ الغرض إيصال المعاني المقصودة إلى فهم المتعاقدين، فيتأدّى بأيّ لفظ اتّفق، لأنّهما ممنوعان بعد الرجوع عن إطلاق الآية (4) بوروده مورد الغالب، أعني غلبة كون الحاضرين للخطاب واجدين للشرط و هو العربيّة، فلا حاجة إلى التقييد بها، مضافا إلى الإجماع المنقول الوارد على إطلاقها في باب النكاح. بل لا يبعد استظهار الشهرة الواردة على إطلاقها


1- الجمعة: 9.
2- المائدة: 1.
3- المائدة: 1.
4- المائدة: 1.

ص: 435

أيضا في سائر أبواب العقود و إن كان كلام أكثر القدماء و المتأخّرين خال عن التصريح باعتبار العربيّة في ما عدا النكاح، إذ لعلّه من جهة الإشكال على وضوح اعتبارها.

كما أنّ عدم تصريحهم باعتبارها في القرآن و الصلاة و الأدعية المأثورة من تلك الجهة أيضا، إلّا أنّ ما بينهما بون بعيد قد عرفت وجهه، فيبعد اتّحاد جهتيهما من تلك الجهة جدّا.

ثمّ إنّه على تقدير اعتبار العربيّة هل يعتبر عدم لحنها من حيث المادّة و الهيئة، أم لا يعتبر مطلقا، أم التفصيل بين اللحن من حيث المادّة فيعتبر عدمه و بين اللحن من حيث الهيئة فلا؟ وجوه، الأقوى الأوّل، لأنّ اللحن في العربيّ مخرج إيّاه عن العربيّ مطلقا، فيلحقه ما يلحق الخارج عن العربيّ إلى سائر اللغات من الاجتزاء بها و عدمه، و لأنّ الحاضرين كما أنّهم واجدين لشرط العربيّة استدامة كذلك واجدين لشرط صحّتها أيضا من الحيثيّتين استدامة، فيكون إطلاق الآية (1) واردا مورد الغالب من جهة الصحّة أيضا.

و توجيه الماتن (2) فرق المفترق بين ما لو قال: «بعتك»- بفتح الباء- و بين ما لو قال: «جوّزتك» بدل «زوّجتك» في تصحيحه الأوّل دون الثاني بقوله: «لعلّه لعدم معنى صحيح في الأوّل إلّا البيع، بخلاف التجويز فإنّ له معنى آخر، فاستعماله في التزويج غير جائز» فيه: أنّه إن أغمض عن القرائن المكتنفة بكلّ منهما كان لكلّ منهما معنى آخر، و إن لم يغمض عنها لم يكن لشي ء منهما معنى آخر، فاختصاص أحدها بمعنى آخر دون الآخر في محلّ النظر. فتدبّر.

[المشهور اشتراط الماضويّة في عقد البيع]

قال الماتن قدس سرّه: «المشهور- كما عن غير واحد- اشتراط الماضويّة .. إلخ».


1- المائدة: 1.
2- المكاسب: 96.

ص: 436

أقول: تفصيل الكلام في المرام يقع في مقامات: الأوّل: في تأسيس الأصل، و تفصيله: هو أنّ الأصل العمليّ قد عرفت غيرة مرّة أنّه مع اشتراط كلّ ما يشكّ في اشتراطه في صحّة المعاملة لاستصحاب بقاء الملكيّة و عدم حصول النقل و الانتقال بما عدا المتيقّن حصوله به.

و أمّا الأصل اللفظيّ فوارد على مقتضى الأصل الأوّلي، و ناف لاشتراط الماضويّة، و هو غير منحصر في لفظ «البيع» من قوله تعالى وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ حتّى يضعّف بورود إطلاقه مورد بيان حكم آخر، أعني: بيان حلّية البيع في الجملة في مقابل القائلين إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبٰا (1)، فردّهم بقوله وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا (2)، معناه: أنّ البيع ليس كالربا. كما أنّ قوله تعالى:

فَكُلُوا مِمّٰا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ (3) في مقابل رفع توهّم كونه كالميتة، معناه: حلّيّة ما يمسكه الكلب المعلّم في الجملة، و بيان أنّه ليس كالميتة، فالتمسّك بإطلاق البيع على عدم اشتراط الماضويّة في عقده كالتمسّك بإطلاق فَكُلُوا مِمّٰا أَمْسَكْنَ على حلّيّة موضع العضّ من دون غسله، و لا في لفظ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (4) حتّى يقال فيه ما قيل في لفظ «البيع» من منع الإطلاق.

بل إنّما المراد من الأصل اللفظيّ هو عموم العقود من آية أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، فإنّه و إن قيل فيه أيضا ما قيل من منع عمومه بالحمل على العقود المتعارفة أو المعهودة عرفا تفصّيا عن زعم استلزام عمومه التخصيص بالأكثر، إلّا أنّك قد عرفت منع الملازمة، و ردّ ذلك كلّه بالنقض و الحلّ في محلّه، فراجعه إن شئت.

فتلخّص ممّا ذكرنا: أنّ مقتضى عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ الوارد على


1- البقرة: 275.
2- البقرة: 275.
3- المائدة: 4.
4- النساء: 29.

ص: 437

أصالة عدم حصول النقل و الانتقال بما عدا المتيقّن هو عدم اشتراط الماضويّة في الصيغة بعد حصول الصراحة المعتبرة في العقود.

نعم، يمكن أن يقال: بأنّ الغالب في العقود تداولها بالصيغ الماضويّة، فيصرف الإطلاق إليها، كما هو الحال في كلّ ما ورد مورد الغالب من المطلقات.

و لكن يندفع أوّلا: بأنّ ما في العقود عموم لا الإطلاق، و الانصراف إلى الأفراد الغالبة من خصائص الإطلاق، لا العموم.

و ثانيا: بأنّه إن أريد غلبة استعمال العقود في العقود بالصيغ الماضويّة فهو ممنوع جدّا. و إن أريد غلبة وجود العقود بالصيغ الماضويّة فهو على تقدير تسليمه لا يوجب الانصراف بمجرّده، كما لا يخفى.

فتبيّن: أنّ أصالة عدم اشتراط الماضويّة بعموم العقود أصل أصيل عليه التعويل ما لم يقم على الخلاف دليل.

المقام الثاني: في تحرير محلّ النزاع في اشتراط الماضويّة، و عدمه:

و تفصيله: أنّ محلّ النزاع إنّما هو في العقود اللازمة. و أمّا العقود الجائزة فلا نزاع ظاهرا في عدم اشتراط الماضويّة و الاكتفاء في انعقادها بغير الصيغة الماضويّة من الطرفين، بل و بغير القول من طرف القائل، بل و من طرف المجيب أيضا، كما لو أوقعاه بالفعل و المعاطاة، أو نحوها من إيماء أو كتابة أو إشارة.

و كذا لا نزاع ظاهرا في صدق العقد على الواقع منها بالقول من الطرفين، و لا في عدم صدقه على الواقع منها بالفعل، و المعاطاة من الطرفين أو من طرف المجيب فقط، و إنّما النزاع في صدق العقد على الواقع منها بالفعل، و المعاطاة من طرف القابل فقط.

فعن البعض منع الصدق عليه، و إثباته غير بعيد، بل استظهره الأستاذ دام ظلّه.

ص: 438

و أمّا ذات الجانبين- كالرهن من العقود- فهل يرجّح فيها جانب الجواز في عدم اشتراط الماضويّة، أو جانب اللزوم في اشتراطها وجهان أقربهما الثاني، لأصالة عدم حصول النقل و الانتقال بما عدا المتيقّن، خرجت العقود الجائزة من الطرفين بالإجماع، و بقي الباقي.

لا يقال: نرجّح جانب الجواز فيها بعموم العقود الوارد على أصالة عدم النقل و الانتقال.

لأنّا نقول: هذا خروج عن محلّ الفرض، لأنّ الإشكال في إلحاق ذات الجانبين من العقود بالجائزة أو اللازمة منها مبنيّ على فرض قصور لفظ «العقود» عن العموم بأحد الموهمات المتقدّمة، و فرض مخالفة العقود الجائزة اللازمة في اشتراط الماضويّة، و إلّا فبعد تسليم عموم لفظ العقود لم يبق بين الجائزة و اللازمة فرق من جهة عدم اشتراط الماضويّة حتّى يبقى للإشكال في إلحاق ذات الجهتين بأيّهما مسرح.

و الحاصل: أنّ ذات الجهتين من العقود إنّما يلحق بالعقود اللازمة دون الجائزة في اشتراط الماضويّة فيها من جهة أنّ دليل اعتبار الماضويّة في العقود اللازمة و هو أصالة عدم حصول النقل و الانتقال بما عدا المتيقّن من الصيغ دليل جار في ذات الجانبين أيضا، لأنّ الخارج عن تحت الأصل المذكور على هذا التقدير ليس إلّا العقود الجائزة من الطرفين بالإجماع، و هو دليل لبّيّ يقتصر فيه على القدر المتيقّن.

و بعبارة اخرى: أنّ لسان الدليل المخرج للعقود الجائزة عن تحت أصالة اشتراط الماضويّة ساكت عن إخراج ذات الجانبين، فيقدّم عليه لسان أصالة اشتراطها، لكونه كالناطق.

و بتقرير آخر: أنّ ترجيح جانب اللزوم على جانب الجواز في اشتراط

ص: 439

الماضويّة فيه على تقدير اشتراطه في العقود اللازمة إنّما هو من جهة أنّ جانب الجواز مقتضاه السكوت عن حال الاشتراط، و عدم الاشتراط، بخلاف جانب اللزوم فإنّ مقتضاه النطق باشتراطها، فيقدّم على جانب الجواز، و ذلك لأنّ جانب الجواز ليس مقتضاه اشتراط، عدم الماضويّة، بل هو كالساكت عن حال الاشتراط، و عدمه، بخلاف جانب اللزوم.

المقام الثالث: في تحقيق الحقّ في المسألة:

و تفصيله: هو أنّهم اختلفوا في اعتبار الماضويّة في العقود و عدمه على أقوال، ثالثها: التفصيل بين عقد النكاح و غيره.

أمّا وجه الاشتراط مطلقا فهو الأصل العملي، أعني استصحاب عدم حصول النقل و الانتقال بما عدا المتيقّن، و للشهرة المحقّقة، و الإجماع المنقول عن العلّامة في التذكرة (1)، و للاشتهار المشبه للإباحة، أعني لكون الغير الماضي أشبه بالاستدعاء و الاستعلام على ما تمسّك به في الشرائع (2)، و لكن في إطلاقه منع.

و أمّا وجه عدم اشتراطها فلعلّه لإطلاق البيع، و التجارة، و عموم العقود، و فحوى ما دلّ عليه في النكاح (3)، و ما دلّ في بيع الآبق (4)، و اللبن في الضرع (5) من الإيجاب بلفظ المضارع في بعض الروايات، و ما في باب المزارعة من قيام الشهرة على جوازها بصيغة الأمر ك «ازرع» هذه الأرض، استنادا إلى رواية (6).

و ما في باب المساقاة من تجويزه العلّامة في التذكرة (7) بلفظ الأمر ك «تعهّد


1- تذكرة الفقهاء 1: 462.
2- شرائع الإسلام 2: 12.
3- الوسائل 14: 466 ب «18» من أبواب المتعة.
4- الوسائل 12: 262 ب (11) من أبواب عقد البيع و شروطه، و ص: 259 ب (8).
5- الوسائل 12: 262 ب (11) من أبواب عقد البيع و شروطه، و ص: 259 ب (8).
6- الوسائل 13: 200 ب (8) من أبواب المزارعة ح 5 و 10.
7- تذكرة الفقهاء 2: 342.

ص: 440

نخلي»، أو «اعمل فيه»، مع عدم نصّ مخرج لها عن نظائرها من العقود اللازمة.

و ما في باب الهبة و القرض و الرهن من قيام الإجماع ظاهرا على عدم اشتراط الماضويّة فيها، مع أنّ المعوّضة و ما للأرحام من الهبات من العقود اللازمة، و كذا القرض من جانب المقرض، و الرهن من جانب الراهن.

و أمّا وجه التفصيل فلاختلاف باب البيع و الإجارة بالنسبة إلى اشتراط الماضويّة لسائر أبواب العقود اللازمة من حيث الفتوى و النصّ (1).

هذا، و لكنّ الأقرب بالقواعد هو اشتراط الماضويّة مطلقا، إلّا في ما أخرجه الدليل من أبواب العقود، لكن لا لمجرّد أصالة اشتراطها و استصحاب عدم النقل و الانتقال بما دونها حتّى يدفعه ورود الأصل اللفظيّ عليه. و لا لمجرّد ورود إطلاق البيع و التجارة مورد بيان حكم آخر حتّى يدفعه الاكتفاء ببقاء عموم «العقود» على الجواز من الأصول اللفظيّة، و لا لما قيل من أنّ الغير الماضي أشبه بالاستدعاء و الاستعلام حتّى يدفعه بأنّ الكلام في ما احتفّ بالقرائن المصرّحة، لا في مطلق غير الماضي، بل إنّما هو لأجل الشهرة، و الإجماع المنقول على اشتراط الماضويّة في صيغ العقود، إلّا ما خرج بالدليل عن موضوع العقود اللازمة، أو عن حكمها، و لا ريب في حجّيّة مثل تلك الشهرة العظيمة. و الإجماع المنقول و إن لم نقل بحجّيّة مطلق الشهرة و الإجماع المنقول و قلنا بعموم العقود أيضا.

و ممّا ذكرنا يعلم: أنّ اختلاف كلمة الأصحاب و عدم اشتراطهم الماضويّة في ذكر من الأبواب لا يوجب و هن شهرتهم على اشتراطها، و لا تقريب عدم اشترطها، بل إنّما يوجب خروج ما لم يشترطوا فيه الماضويّة عن تحت أصالة اشتراطها في العقود اللازمة، خروجا موضوعيّا، أو حكميّا بواسطة مخرج نصّيّ


1- الوسائل 13: 249 ب (8) من أبواب أحكام الإجارة.

ص: 441

أو فتوائي، كما هو القاعدة العرفيّة المقرّرة في الجمع بين كلّ عامّ و خاصّ، و مطلق و مقيّد من الكلمات الموهمة للاختلاف و التناقض في بادئ الرأي.

و تفصيل ما ذكرنا: هو أن يقال: أمّا عقد النكاح فهو و إن كان من العقود اللازمة إلّا أنّ خروجها عن حكم نظائرها على القول به إنّما هو للنصّ الخاصّ به.

و دعوى التعدّي إلى غيره بالفحوى نظرا إلى أنّها إذا لم تعتبر في النكاح مع أنّ الاحتياط في أمر الفروج أشدّ و آكد شرعا لم يعتبر في غيره بطريق الأولى، مدفوعة بمنع الأولويّة القطعيّة، لما مرّ (1) من أنّ أشدّيّة الاحتياط في أمر الفروج إنّما هو من جهة خاصّة، كالتحفّظ من اختلاط الأنساب، لا من جميع الجهات، ألا ترى أسهليّة عقد النكاح من سائر العقود من جهة الانعقاد، حيث يكتفى من البكر بالسكوت، و يصحّ من دون تعيين المهر و لا الأجل؟ إلى غير ذلك ممّا لا يكتفى به في ما عدا النكاح من سائر العقود، و يكشف عن كون الشارع كأنّه اكتفى في انعقاد علقة الزوجيّة بأدنى سبب تكثيرا للنسل، و مع ذلك كيف يبقى مسرح للقطع بأولويّة عدم اشتراط الماضويّة في سائر العقود من مجرّد عدم اشتراطها في عقد النكاح؟ و أمّا الأولويّة الظنّية فملحقة بالقياس في عدم الحجّية.

هذا كلّه مضافا إلى إمكان منع الحكم بعدم الاشتراط في المقيس عليه و هو النكاح، لاستناده إلى أخبار قاصرة السند أو الدلالة.

و أمّا وجه عدم اشتراطهم الماضويّة في القرض فلخروجه: إمّا عن حكم العقود اللازمة و لو لم يكن المخرج له سوى مجرّد الشهرة، و إمّا عن موضوع العقود اللازمة، كما هو مقتضى ظاهر اتّفاقهم على جوازه، فإنّ ظاهر اتّفاقهم على جوازه هو جوازه من الطرفين، فيدخل في موضوع العقود الجائزة، و كما هو


1- في ص: 429.

ص: 442

مقتضى تصريح الشيخ (1) بأنّ للمقرض الرجوع إلى العين مع بقائها و إن كره المقترض، محتجّا بأنّه عقد يجوز الرجوع فيه كالهبة، إذ ليس لجوازه معنى سوى الانفساخ بمجرّد الفسخ، و رجوع العين بمجرّد الرجوع إليه كالعارية و بيع الخيار.

كما لا معنى للزومه سوى عدم الانفساخ و رجوع العين إلّا بالإقالة من الطرفين.

و قد وجّه [في] المسالك (2) أيضا القول بجواز القرض و جواز رجوع المقرض إلى العين بأبلغ توجيه، من شاء راجعه.

إلّا أنّ هذا القول يستلزم تخصيص كلام المشهور القائلين بعدم رجوع المقرض إلى العين، بل للمقترض ردّ مثله و إن كره المقرض بصورة ما إذا كان رجوع الراجع من باب استيفاء الوفاء بالقرض، لا من باب انفساخ أصل القرض.

كما أنّ قول المشهور أيضا يستلزم تخصيص الاتّفاق على جواز عقد القرض بمعنى آخر غير معنى جواز استرداد العين.

و أمّا وجه عدم اشتراط الماضويّة في الهبة المعوّضة و ذات الأرحام مع أنّها لازمة فلأنّها و إن ألحقت بالعقود اللازمة بالعرض- أعني بواسطة أخذ العوض في المعوّضة، و بواسطة كون الرجوع إلى الأرحام في ذات الأرحام يورث النشوز و العقوق- إلّا أنّها بالذات لمّا كانت من العقود الجائزة غلب فيها جانب الجواز في عدم اشتراط الماضويّة في صيغها، و إن أبيت فبالشهرة الكفاية في خروجها عن حكم العقود اللازمة و إن كانت منها.

و كذا الوجه في عدم اشتراطها في عقد الرهن، كما صرّح به الروضة (3) أيضا.

و أمّا المزارعة بصيغة الأمر ك «ازرع هذه الأرض» فممنوع الصحّة و إن


1- المبسوط 2: 161.
2- مسالك الأفهام 3: 439.
3- الروضة البهيّة 4: 54.

ص: 443

نسب إلى المشهور، لاستناد شهرتهم على تقدير تحقّقها إلى رواية (1) قاصرة الدلالة، باحتمال إرادة المقاولة من صيغة الأمر، لا المعاقدة به، و لو سلّم فإنّما هو للنصّ الخاصّ، فلا وجه للتعدّي.

و أمّا صحّة المساقاة بصيغة الأمر فإنّه و إن نسب إلى العلّامة في التذكرة (2) إلّا أنّها أشدّ منعا من المزارعة، لخلوّها عن النصّ، و عن الشهرة.

و أمّا صحّة بيع الآبق و اللبن في الضرع فإنّه و إن نسب إلى صاحب الحدائق (3) إلّا أنّها أيضا ممنوعة، لاستنادها إلى ما يقصر سندا أو دلالة، باحتمال إرادة المقاولة منها بين المتعاقدين، لا المعاقدة، و على تقدير التسليم فالفارق النصّ.

هذا كلّه ما يقتضيه القواعد في الجمع بين حجّية الشهرة و الإجماع المنقول على اشتراط الماضويّة في صيغ العقود، و بين الموارد المختلفة فيها كلمات الأصحاب في سائر أبواب العقود المذكورة. و ختم المصنّف المسألة بقوله «فتأمّل» إشارة إلى ما ذكر.

نعم، المانع من حجّيّة الشهرة و الإجماع المنقول لم يحتج إلى الجمع بين كلماتهم بالقواعد و الأصول، بل منع من اشتراط الماضويّة مطلقا، مؤيّدا بمنع الأصحاب عن اشتراطه في بعض الموارد المخصوصة المتقدّمة، و هو غير بعيد بعد اعتبار الصراحة و عموم العقود، و لكنّ الاحتياط سبيل النجاة.

[الأشهر لزوم تقديم الإيجاب على القبول]

قال الماتن قدس سرّه: «مسألة: الأشهر- كما قيل- لزوم تقديم الإيجاب على القبول .. إلخ».

أقول: أمّا الأصل في المسألة فهو الأصل المؤسّس في سائر المسائل


1- تقدّم ذكر مصدره في هامش (6) ص: 439.
2- تذكرة الفقهاء 2: 342.
3- الحدائق الناضرة 18: 434- 435، و ص: 487.

ص: 444

المتقدّمة: من كون العمليّ منه مع اشتراط كلّ ما يشكّ في اشتراطه في صحّة العقد استصحابا، لعدم النقل و الانتقال بما عدا المتيقّن. و من كون اللفظي منه مع عدم اشتراط ما يشكّ في اشتراطه فيه آخذا بعموم العقود.

و الخدشة بحمل الآية (1) على العقود المتعارفة في زمان النبيّ صلى اللّٰه عليه و آله صنفا فلا يشمل المشكوك صنفه في ذلك الزمان و إن علم تعارف نوعه كالبيع الفضوليّ مثلا، حيث إنّه متعارف نوعه و هو البيع دون صنفه و هو الفضوليّة، أو بحملها على العقود المتعارفة شخصا- أعني المتداولة بكيفيّاتها المخصوصة لئلّا يشمل المشكوك تداول شخصه- و إن علم تداول نوعه و صنفه كالبيع المتقدّم قبوله على إيجابه مع تداول نوعه و هو البيع مثلا، و تداول شخصه من عربيّة الصيغة و ماضويّتها و غيرهما من كيفيّاتها المخصوصة. مدفوعة بما مرّ في مقدّمة الكتاب عند التعرّض لتفسير الآية (2) من أنّ الجميع المحلّى باللام حقيقة في العموم، فيشمل مطلق العقود المتداولة نوعها في ذلك الزمان، كالبيع و الإجارة و غيرهما من العقود المضبوطة الآن في كتب فقهائنا، لا خصوص المتداول صنفه أو شخصه و كيفيّاته المخصوصة، لعدم المخصّص، و عدم ما يوهم التخصيص سوى توهّم الانصراف الخاصّ بالمطلقات، لا العمومات.

و إذا كان المراد من العقود هو مطلق العقود المتعارفة بالنوع، فلا يخرج عن تحت عمومه سوى ما لم يعلم تعارف نوعه، كالمعارضة بمثل قولك: «عارضت»، أو «عاوضت فرسي بفرسك» ممّا لم يعلم دخول نوعه في أحد أنواع العقود المضبوطة في كتب الفقهاء، مضافا إلى عدم دخول صنفه و لا شخصه فيها.

هذا كلّه في بيان تأسيس الأصل الأصيل قبل التعرّض للدليل.

و أمّا تشخيص محلّ النزاع في جواز تقديم القبول على الإيجاب فيتوقّف-


1- المائدة: 1.
2- المائدة: 1.

ص: 445

أوّلا- على تشخيص كون المائز بين القبول و الإيجاب اللّذين هما من الموضوعات الصرفة لا المستنبطة- كالبيع و الشراء- هل هو في البادئ و المستتبع؟ يعني: أنّ البادئ بالصيغة و الإعطاء و الدفع هو الموجب، و تابعه فيه هو القابل.

أو في قصد الدفع و الأخذ، يعني أنّ القاصد بالأصالة دفع ماله هو الموجب، و القاصد بالأصالة تناول المدفوع إليه هو القابل ..

أو في قصد الفعل و الانفعال، يعني أنّ القاصد بصيغته إنشاء الفعل هو الموجب، و القاصد بصيغته الانفعال و التأثّر بأثر إنشاء المنشئ هو القابل.

أو موكول إلى العرف، يعني أنّ ما يعدّ في العرف من الألفاظ صريحا في الإيجاب فصاحبه الموجب، و ما يعدّ في العرف منها صريحا في القبول فصاحبه القابل؟

وجوه، أوجهها الأخير دون الأوّل، ضرورة أنّ جعل المائز في البادئ بالصيغة و المستتبع لم يبق معه مسرح لتعقّل النزاع في تقديم القبول على الإيجاب مع كونه نزاع قديم بين السلف و الخلف.

اللّٰهمّ إلّا أن يراد من كون البادئ موجبا من كان من شأنه البدو، لا البادئ فعلا، و دون الثاني، و لا الثالث، لانتقاض كلّ منهما طردا أو عكسا فتعيّن الوجه الآخر، أعني: كون المراد من الموجب في محلّ النزاع هو المتلفّظ بما يعدّ في العرف من الصيغ صريحا في الإيجاب، ك «بعت» و «آجرت». و من القابل هو المتلفّظ بما يعدّ في العرف صريحا في القبول، ك «قبلت» و «ابتعت» و نحوهما من الصيغ الصريحة عرفا في القبول.

و إذا تشخّص لك محلّ النزاع فاعلم أيضا: أنّ النزاع في صحّة تقديم القبول على الإيجاب مبنيّ على المذهب المشهور من عدم كفاية مطلق الكلام في لزوم

ص: 446

المعاملة. و أمّا على المذهب المتقدّم نقله عن السيّد الكركيّ (1) في المعاطاة من كفاية مطلق الكلام فيه، استنادا إلى رواية: «إنّما يحلّل الكلام و يحرّم الكلام»، فلا يتوجّه عليه النزاع فيه اعتبار تأخير القبول، كما لا يتوجّه عليه اعتبار العربيّة و الماضويّة و غيرها من الشرائط إلّا ما خرج بالدليل.

ثمّ هل النزاع في المسألة عقليّ راجع إلى النزاع في إمكان صحّة تقديم القبول على الإيجاب عقلا و امتناعه، أم عرفيّ راجع إلى النزاع في صحّة إطلاق العقد على ما يتقدّم فيه القبول على الإيجاب و عدم إطلاقه؟ وجهان: من استدلال بعضهم على منع صحّة تقديم القبول بأنّ القبول الّذي هو أحد ركني عقد المعاوضة فرع الإيجاب، فلا يعقل تقدّمه عليه. و من استدلال بعضهم الآخر عليه بالشهرة، و بأنّ تقديم القبول خلاف المتعارف عرفا، فلا يشمله عموم العقود.

و الأوجه حينئذ تعميم النزاع في المسألة من جهتي العقل و العرف رعيا للمطابقة بينها و بين كلّ واحد من أدلّتها.

و إذ قد عرفت تشخيص محلّ النزاع و مبناه و جهته فاعلم: أنّهم اختلفوا في صحّة تقديم القبول على الإيجاب بوجوه:

ثالثها: التفصيل بين عقد النكاح فيصحّ فيه التقديم، و بين سائر العقود فلا.

و رابعها: التفصيل بين تقديم القبول بطريق الأمر و الاستيجاب فيصحّ، و بين تقديمه بغيره فلا.

و خامسها: التفصيل المستفاد من المتن بين التقديم بلفظ «قبلت» و «رضيت» فلا يصحّ، و بين التقديم بلفظ «اشتريت» و «ابتعت» و نحوهما فيصحّ.

و التحقيق: أنّ مفاد أدلّة منع صحّة تقديم القبول من حيث اقتضاء المنع عموما أو خصوصا مختلف.


1- انظر مسالك الأفهام 3: 147، و الهامش (2) هناك.

ص: 447

أمّا مفاد استدلالهم على المنع بأنّ تقديم القبول خلاف المتعارف فمقتضاه على تقدير التسليم أنّه: إن قلنا بانصراف عموم العقود إلى العقود المتعارفة لزمنا منع صحّة التقديم عموما، كما يلزم منه اعتبار كلّ ما يشكّ اعتباره في صحّة العقد من العربيّة و الماضويّة و غيرهما من سائر الشروط، رجوعا إلى استصحاب عدم النقل و الانتقال بما عدا المتيقّن.

و لكن فيه- مضافا إلى إمكان منع كون التقديم خلاف المتعارف- ما مرّ غير مرّة من منع انصراف العقود إلى العقود المتعارفة شخصا أو صنفا بأبلغ وجه من النقض و الحلّ.

و أمّا اعتبارهم الموالاة بين الإيجاب و القبول فليس لمجرّد أنّ الفاقد للموالاة العرفيّ من العقود غير متعارف شخصا أو صنفا حتّى ينافي ما ذكرنا، و إن استندوا أيضا في اعتبارها إلى عدم تعارف الفاقد لها، بل إنّما هو- على ما سيأتي- لأجل عدم تعارف الفاقد لها نوعا، أعني: عدم دخوله في نوع من أنواع العقود المتداولة المضبوطة في كتب الفقهاء.

فالمراد من عدم تعارف الفاقد للموالاة عدم صحّة إطلاق العقد عرفا عليه، و صحّة سلب اسم كلّ نوع من أنواعه المتداولة عن عرفا، لا مجرّد عدم تعارفه صنفا أو شخصا و إن صدق عليه اسم نوع من أنواعه المتداولة عرفا حتّى ينافي منعنا انصراف العقود إلى العقود المتعارفة.

و أمّا مفاد استدلالهم على منع تقديم القبول بالشهرة و الإجماع المنقول فالمتيقّن من معقدهما على تقدير تسليمهما و تسليم حجّيّتهما- كما هو الأقرب عندنا- إنّما هو لفظ «قبلت» و «رضيت»، دون سائر ألفاظ القبول من لفظ «ابتعت» و «اشتريت».

ص: 448

و أمّا مفاد استدلالهم على منع تقديم القبول: «بأنّ القبول الّذي هو أحد ركني عقد المعاوضة فرع الإيجاب فلا يعقل تقدّمه عليه» (1) إلى آخر تقريبه الّذي في المتن، فغاية اقتضائه هو تفصيل الماتن قدّس سرّه في ألفاظ القبول باعتبار دلالتها عرفا: بين ما دلّ عرفا على المطاوعة و الانفعال بإيجاب الموجب و التأثير بأثر إيجابه، كلفظ «قبلت» و «رضيت»، أو على الالتزام بمثل التزام الموجب له، كقبول المصالحة بلفظ «صالحت» في إزاء الإيجاب بمثله فلا يجوز التقديم. و بين ما دلّ عرفا على مجرّد الرضا بإيجاب الموجب، كالوكالة و العارية و شبههما، أو على الالتزام المغاير لالتزام الموجب، كالقبول بلفظ «اشتريت» المغاير للإيجاب بلفظ «بعت» بالتغاير الاعتباريّ العرفي، حيث إنّهما و إن اشترك كلّ منهما مع الآخر في تمليك ماله بإزاء مال غيره و تملّك مال غيره بإزاء ماله إلّا أنّهما يتغايران من حيث دلالة البيع على التمليك بالأصالة، و التملّك بالتبع، و دلالة الاشتراء عليهما بالعكس، فلا يجوز التقديم حسب ما أشار الماتن إلى توضيح كون القبول فرع الإيجاب، فلا يتعقّل تقدّمه على الإيجاب، و إلى دلالته على التفصيل المذكور في ألفاظ القبول باعتبار دلالتها عرفا.

هذا، و لكن لنا أن نورد عليه أوّلا: بأنّ عدم معقوليّة تقدّم القبول الدالّ على المطاوعة و الانفعال على الإيجاب مبنيّ على أن يكون مطاوعة القابل للموجب في العقود و انفعاله بفعل الإيجاب مطاوعة حقيقيّة حسيّة، كمطاوعة المنكسر لكاسره، و المنفصل لفاصله، فإنّ هذا النحو من التأثير هو غير معقول تقدّمه على تأثّر المؤثّر. و من المعلوم الواضح أنّ المطاوعة و الانفعال الممكن تحقّقه في القابل هو المطاوعة و الانفعال التنزيلي، لا الحسّيّ الحقيقي. و المراد من الانفعال التنزيلي تنزيل القابل نفسه منزلة المتأثّر بإيجاب الموجب. و من الواضح أنّه لا


1- المكاسب: 96.

ص: 449

فرق في إمكان تعقّل حصول هذا الانفعال التنزيليّ بين تقدّمه على الإيجاب أو تأخّره عنه، سوى كونه عند التقدّم معلّقا على لحقوق الإيجاب به، و عند التأخّر منجّزا، لسبق الإيجاب عليه، و هو غير فارق أيضا، لأنّ تعليق تأثير القابل في صورة التقدّم على لحوق الإيجاب له لا يزيد على تعليق تأثير إيجاب الموجب في صورة التأخير على لحقوق القبول له، فكما أنّ التعليق من طرف الموجب الّذي لا مناصّ منه في صورة تأخير القبول غير قادح في صحّة العقد، كذلك ينبغي أن يكون التعليق من طرف القابل غير قادح في صحّة العقد أيضا.

و أمّا ما سيأتي (1) من الإجماع على اعتبار التنجيز في العقود و عدم صحّة التعليق فيها فالمراد منه على تقدير تسليمه عدم صحّة التعليق بالأمور الخارجة عن القبول و الإيجاب. و أمّا تعليق تأثير الإيجاب على لحوق القبول له أو العكس فممّا لا مناصّ للعقود منه قطعا.

و ثانيا: سلّمنا استحالة تقدّم ما يدلّ على المطاوعة من ألفاظ القبول، إلّا أنّ ذلك قرينة انسلاخه عن معنى المطاوعة عند التقدّم، كما أنّ استحالة كون الرجل أسدا حقيقيّا في قولك: «زيد أسد» قرينة إرادة الشجاعة من الأسد. إلّا أن يقال:

بأنّ استعمال الدالّ على المطاوعة من لفظ «قبلت» و «رضيت» في إنشاء النقل و الرضا بإنشاء الموجب من غير مطاوعة يعدّ من المجازات المستهجنة المستبشعة الخارجة عن عموم العقود.

و ثالثا: سلّمنا لغويّة المطاوعة قبل الإيجاب، إلّا أنّ مدلول القبول لا ينحصر في مطاوعة أثر الإيجاب حتّى ينعدم بانعدامه، بل إنشاء القبول في العقود متضمّن على شيئين: أحدهما: مطاوعة أثر الإيجاب و هو تملّك مال الموجب، و الآخر: تمليك ماله للموجب، و عدم تعقّل المطاوعة قبل الإيجاب على تقدير


1- في ص: 459.

ص: 450

تسليمه يقتضي إلغاء أثره، و هو تملّك مال الموجب خاصّة. و أمّا تمليك ماله للموجب فهو باق، و لعلّ ببقائه الكفاية في خروج الملك عن مال مملّكة و دخوله في ملك المملّك له، كما في عقد الوقف و العتق و النذر بمال معيّن، فإنّ مجرّد إنشاء التمليك فيها كاف في خروج الملك عن مال مملّكة و دخوله في ملك المملّك له و إن توقّف على القبض في خصوص الوقف إلّا أنّه لم يتوقّف في شي ء منها على التملّك و قبول التمليك.

و أمّا إجماعهم المدّعى على اشتراط الإيجاب و القبول معا فيما عدا الوقف و النذر من سائر العقود فالمتيقّن منه كون المراد اعتبار توقّف العقد على تمليك كلّ من المتعاقدين ماله للآخر بلفظ صريح بإزاء تمليكه الآخر ماله، كما هو مقتضى الاثنينيّة المعتبرة في مدلول العقود و لو تركّب من إيجابين، لأجل إخراج الإيقاعات الغير المعتبر في تحقّقها الاثنينيّة.

و أمّا إرادة اعتبار توقّف العقد على المركّب من إيجاب و قبول و تمليك و تملّك لأجل إخراج المركّب من الإيجابين فغير معلوم الاعتبار، و ما لم يعلم اعتباره في العقود ينفي اعتباره بعموم العقود. و ربما يؤيّد اكتفاء مجرّد التمليك في صلوح إخراج مال المملّك إلى المملّك له و عدم توقّفه على التملّك و المطاوعة و الانفعال قول بعضهم: بأنّ عقد الفضولي مملّك سواء ألحقه الإجازة أم لم يلحقه، غاية الأمر تعلّق ضمان القيمة أو المثل بذمّة العاقد فضولة عند عدم لحوق الإجازة له تنزيلا للفضولي منزلة الإتلاف.

و رابعا: لو تنزّلنا عن ذلك كلّه إلّا أنّ التفرقة بين البيع و بين الوكالة و العارية في منعه التقديم في الأوّل دون الثاني بعد التفرقة في ألفاظ القبول ممّا لا يرجع إلى محصّل، لأنّه إن أراد استناد التفرقة بينهما إلى التفرقة بين لفظي القبول فيهما فمن البيّن اشتراكهما في لفظ القبول، فكما أنّ قبول البيع قد يكون بلفظ المطاوعة

ص: 451

ك «قبلت» و «رضيت» و قد يكون بغير المطاوعة ك «اشتريت» و «ابتعت»، كذلك قبول الوكالة و العارية أيضا قد يكون بلفظ المطاوعة ك «قبلت التوكيل» أو «رضيت به» أو «توكّلت» و قد يكون بغير المطاوعة ك «أنا وكيلك» أو «قابل لوكالتك»، فإن جاز تقديم القبول في البيع بأيّ من اللفظين جاز في الوكالة بأيّهما و إن لم يجز لم يجز مطلقا.

و إن أراد استناد التفرقة بينهما إلى التفرقة بين مادّة عقد الوكالة و مادّة عقد البيع ففيه- مضافا إلى خروجه عن فرض التفصيل بين ألفاظ القبول- أنّ كلّ ما يعتبر في مادة عقد البيع من الاكتفاء في قبوله بمجرّد الرضا أو عدمه يعتبر في مادّة عقد الوكالة. و أمّا الاكتفاء في الوكالة بمجرّد الرضا و الإذن- و لو من باب المعاطاة- فلا يكتفي في دخوله في باب العقود، كما أنّ الاكتفاء بمثله في البيع أيضا لا يكتفي في دخوله في باب العقود و صدق اسم العقد عليه و إن صدق عليه البيع.

و ممّا ذكرنا يظهر لك ما في تفرقته بين البيع و المصالحة المعوضة من التأمّل و المنع.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّه لو لا الشهرة و الإجماع المنقول لم يكن وجه للمنع من تقديم القبول و لا للتفصيل بين ألفاظ القبول باعتبار الدلالة عرفا على المطاوعة و غيرها، و لا بين البيع و الوكالة بوجه من الوجه، بل كان التعويل لا محالة على الأصل الأصيل، و هو إطلاق العقود ما لم يقم على خلافه دليل. و قد عرفت أنّ المتيقّن من مورد الشهرة و الإجماع المنقول على تقدير حجّيتهما هو المنع من تقديم «قبلت» و «رضيت» في خصوص البيع و الإجارة. و أمّا غيرهما أو في غيرهما فلا يبعد الأخذ بعموم العقود، و هو قويّ.

ثمّ إنّ هذا كلّه في بيان اعتبار الترتيب و عدمه بين الإيجاب و القبول. و أمّا

ص: 452

الموالاة بينهما فلا إشكال في اعتبارها في الجملة لصحّة سلب اسم العقد عرفا عن الفاقد للموالاة العرفي إنّما الكلام في تشخيص ما يخلّ بالموالاة العرفي، و ما لا يخلّ من الفواصل الواقعة في البين.

فنقول في تشخيصه: إنّ الفاصل بين الإيجاب و القبول تارة يكون بالسكوت، و تارة بالنطق. و على الثاني إمّا أن يكون بردّ الإيجاب، أو بذكر شرط، أو بذكر كلام أجنبي في البين كذكر حمد أو خطبة أو غيرهما، و الكلام في تشخيص المخلّ عن غير المخلّ من هذه الفواصل الأربعة تارة من حيث الأصل، و تارة أخرى من حيث الدليل.

أمّا من حيث الأصل فالأصل الأصيل عند الشكّ في مخلية أيّ واحد من الفواصل الأربعة هو فساد العقد استصحابا لعدم النقل و الانتقال، سواء كان الشكّ في مخلية الموجود من تلك الفواصل أو في وجود المخلّ منها، و ذلك لرجوع الشكّ في كلّ من الفرضين إلى الشكّ في صدق اسم العقد و الأصل عدم النقل و الانتقال بالمشكوك صدق اسم العقد عليه.

أمّا في الفرض الأوّل فلأنّ الشكّ في مخلية الموجود شكّ في الحادث لا الحدوث، فلا مجرى لاستصحاب عدم مخليته. مضافا إلى أنّه مثبت.

و أمّا في الفرض الثاني فلأنّ الشكّ في وجود المخلّ و إن كان شكّا في الحدوث و يجري فيه استصحاب عدم وجوده إلّا أنّ المترتّب عليه أثر غير شرعيّ، و هو صدق العقد، فهو من الأصول المثبتة الغير الثابت حجّيتها عندنا.

نعم، لو أثبتنا لأدلّة المسألة ك أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ عموم وراء عموم العقود. و قلنا بأصالة اللزوم في كلّ بيع و لو لم يصدق عليه اسم العقد كان المرجع للشاكّ في مخلية ذلك الفاصل إليه، سواء كان الشكّ في مخلية ذلك الفاصل أم في وجود ذلك المخلّ، لإناطة الملك و اللزوم في المعاملة على

ص: 453

هذا التقدير بصدق البيع و التجارة، لا بصدق العقد حتّى يضرّه عدم صدقه، و لكنّه تقدير في تقدير. هذا كلّه في مقتضى الأصل عند الشكّ في مخلية شي ء من الفواصل.

و أمّا مقتضى الدليل فلا ريب في أنّ الفصل بالسكوت الطويل مخلّ دون السكوت اليسير، و المرجع في انضباطه إنّما يكون إلى العرف و هو في كلّ أمر بحسبه، فيجوز الفصل بين الكلمات بما لا يجوز بين الحروف، كما في الأذان و القراءة.

و أمّا الفصل بالأجنبي كقول القابل بعد الإيجاب: «الحمد للّٰه قبلت» أو بشرط من الشروط كقوله: «إن كان كذا- مثلا- فقبلت» فلم يعلم جوازه، فالمرجع فيه إلى أصالة عدم جوازه و عدم النقل و الانتقال إلّا بدونه. ثمّ البحث في الفصل بالتعليق بين الإيجاب و القبول من حيث الفصل لا ينافي البحث الآتي في جواز التعليق في العقود و عدمه من حيث هو تعليق، فإنّ النسبة بين الحيثيتين عموم من وجه.

و أمّا الفصل بردّ الإيجاب فالظاهر من تتبّع كلماتهم الاتّفاق على إخلال العقد به، و يعاضد ذلك ما نقله شيخنا العلّامة عن شيخه صاحب الجواهر مشافهة من دعوى الاتّفاق في باب الفضولي على لزوم استمرار جميع شروط العقد و شروط المتعاقدين و العوضين في صحّة الفضولي من أوّل العقد إلى زمان لحوق الإجازة. فلو أخلّ بين الزمانين بشي ء من شروط العقد- كالتعليق و نحوه- أو بشي ء من شروط المتعاقدين- كما لو حدث لأحدهما في الأثناء جنون أو إغماء آنا ما ثمّ زال فورا- أو بشي ء من شروط العوضين- كما لو انقلب المبيع بما لا يصحّ بيعه آنا ما ثمّ رجع إلى أصله- بطل العقد بذلك التخلّل و لو آنا ما.

ص: 454

و أمّا ما قاله الشهيد (1) و غيره بل عن الدروس (2) نسبته إلى المشهور من أنّه لو ردّ الموصى له الوصيّة في حياة الموصي جاز القبول بعد وفاته، فلا ينافي ما استظهرنا من الاتّفاق على مخلية الفصل بالردّ، لكن لا من جهة أنّ الوصيّة من العقود الجائزة و محلّ النزاع العقود اللازمة حتّى يمنع بأنّ الظاهر من استدلالهم على اعتبار الموالاة بصحّة سلب اسم العقد عن الفاقد لها تعميم النزاع من جهة اللزوم و الجواز، كما أنّ الظاهر من أدلّة اعتبار الترتيب أيضا التعميم من تلك الجهة، بل إنّما هو من جهة أنّ الظاهر من تعليل جواز قبول الوصيّة بعد الردّ في حياة الموصي بقولهم، إذ لا اعتبار بردّه السابق حيث إنّ الملك لا يمكن تحقّقه حال الحياة و المتأخّر لم يقع، بل و من تصريح الشهيد في الروضة (3) هو ابتناء جواز القبول بعد الردّ في حياة الموصي على مذهب من يعتبر تأخير القبول عن الحياة. و أمّا على تقدير جواز تقديمه في حال الحياة فينبغي تأثير الردّ حالتها أيضا، كما صرّح به الروضة (4)، حتّى قال: بل يمكن القول بعدم جواز القبول بعد الردّ مطلقا لإبطاله الإيجاب السابق و لم يحصل بعد ذلك ما يقتضيها، إلى آخر كلامه.

قوله: «و للتأمّل في هذه الفروع و في صحّة تفريعها على الأصل المذكور مجال».

[أقول:] وجه ذلك أنّ الاتّصال المعتبر بين المستثنى و المستثنى منه كالاتّصال المعتبر بين الموصوف و الصفة و التابع و المتبوع و الشرط و المشروط إنّما هو لتحصيل صدق الكلام و التحذّر عن كذبه، كما أنّ عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة للتحذّر عن الإغراء بالجهل، و كذا متابعة المأموم للإمام في الجمعة


1- اللمعة الدمشقيّة: 104.
2- الدروس الشرعيّة 2: 296.
3- الروضة البهيّة 5: 15.
4- الروضة البهيّة 5: 15.

ص: 455

و الجماعة و استتابة المرتدّ، كتوبة كلّ مذنب، و تضيّق وقت الجمعة إلى ساعة الزوال، و الكسوفين إلى الانجلاء، و الموالاة بين أعضاء الوضوء، إلى غير ذلك من المضيّقات إنّما هو لفوريّة الحكم الشرعيّ لا لصدق الموضوع العرفي، كما فيما نحن فيه من اعتبار الارتباط العرفي بين الإيجاب و القبول في صدق موضوع العقد عرفا، و كذا في سنة التعريف و اليوم إلى الليل و ثلاثة الحيض، و في أثناء القراءة و بين كلماتها و حروفها، و بين السلام و جوابه لصدق موضوعهما.

[و من جملة شروط العقد الموالاة بين إيجابه و قبوله]

قوله: «هذا موهن آخر للرواية (1). فافهم».

[أقول:] إشارة إلى أنّ الإخلال بالموالاة أشدّ و هنا من الإخلال بالترتيب، لصحّة سلب اسم العقد و موضوعه به دونه، إلّا أنّ عمل الأصحاب بالرواية كما هو جابر لموهن الإخلال في الترتيب كذلك جابر لموهن الإخلال بموالاته بذلك المقدار، المقدر إمّا من جهة عدم بلوغه حدّ صحّة سلب اسم العقد، و إمّا من جهة عدم إناطة صحّة النكاح بصدق العقد المركّب من الإيجاب و القبول، بل يكفي بالإيجاب المضرّ و خصوصا ممّن له الولاية الكلّية الإلهيّة الّتي هي أولى بالمؤمنين من أنفسهم و أموالهم، كتزويجه تعالى حوّاء من آدم و فاطمة من علي، و قوله تعالى فَلَمّٰا قَضىٰ زَيْدٌ مِنْهٰا وَطَراً زَوَّجْنٰاكَهٰا (2)، و قوله تعالى أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ (3)، كما يكتفى بالبكر بالسكوت.

[و من جملة الشرائط الّتي ذكرها جماعة التنجيز في العقد]

قال: «و من جملة الشرائط الّتي ذكرها جماعة التنجيز في العقد .. إلخ».

أقول: عمدة الكلام في المسألة بعد تفصيل صور التعليق و أقسامه هو تشخيص كون الأصل في المسألة هل هو جواز التعليق ليحتاج الكلام في إثبات المنع إلى بيان المخرج الخارجي أوّلا و إلى بيان مقدار منعه ثانيا، أو هو عدم


1- الوسائل 15: 3 ب «2» من أبواب المهور ح 1.
2- الأحزاب: 37.
3- القصص: 27.

ص: 456

جوازه لئلّا يحتاج المنع في هذا التقدير إلى شي ء ممّا احتيج إليه في التقدير الأوّل و تشخيص هذا الأصل موقوف على تشخيص كون الإنشاء قابلا للتعليق أم لا؟

و فيه وجهان.

فالّذي جزم به الفصول (1) في مقدّمة مقدّمة الواجب هو قابليّة الإنشاء للتعليق، و عدّ منه كلّ واجب مطلق توقّف وجوده على مقدّمات مقدورة غير حاصلة.

و الّذي جزم به القوانين (2) في صدر قانون أمر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه و في قانون الخطاب الشفاهي هو عدم قابلية الإنشاء للتعليق، و عدّ الواجبات المعلّقة المقرونة بأداة الشرط من الإخبار و الإعلام بكون وجوبها سيتحقّق عند تحقّق شروطها، لا من الإنشاء الفعلي.

و الّذي تمسّك الفصول (3) به على الأوّل هو استظهار الفرق بين قول المولى:

«إذا دخل وقت كذا فافعل كذا» و بين قوله: «افعل كذا في وقت كذا» في كون الظاهر من الأوّل إنشاء طلب مشروط حصوله بمجي ء وقت كذا، و من الثاني إنشاء طلب حالي و المطلوب فعل مقيّد بكونه في وقت كذا، و فساد ما يزعمه المانع مانعا من هذا الظهور الحامل له على تأويله بالإخبار و الإعلام، كالمثال الأوّل حسب ما سيأتي.

و أمّا التمسّك بمجرّد ما في المتن (4) من وضوح كون التعليق في الإنشاء أمرا مقصورا واقعا في العرف و الشرع كثيرا في الأوامر و المعاملات من العقود و الإيقاعات فللمانع منع هذا الوضوح و تأويل جميع ما يدعي ظهوره فيه من الأمثلة إلى الإخبار و الإعلام، أو كون التعليق في المنشئ لا الإنشاء، و في


1- الفصول الغرويّة: 80.
2- قوانين الأصول 1: 124، 233- 234.
3- الفصول الغرويّة: 80.
4- المكاسب: 100.

ص: 457

الوجوب لا الإيجاب، و في المطلوب لا الطلب.

و الّذي يمكن التمسّك به للثاني وجهان:

أحدهما: ظهور تسميته بالواجب المعلّق في كون الوجوب معلّقا على حصول المعلّق عليه لا بالفعل كظهور الواجب المشروط في مثله أيضا.

و يمكن دفعه: بأنّ التسمية غير مطّردة مع المسمّى كالحدود اللفظيّة. ألا ترى اختلاف القوم في كون الحروف موضوعة بالوضع العامّ و الموضوع له العامّ، أو بالوضع العامّ و الموضوع له الخاصّ مع اتّفاق الفريقين على تسمية من بالابتداء و إلى بالانتهاء.

و ثانيهما: أنّه إذا توقّف فعل الواجب على شي ء غير مقدور له امتنع وجوبه قبله، و إلّا لزم أحد الأمرين من عدم توقّفه عليه حيث وجب بدونه، أو التكليف بالمحال حيث ألزم المكلّف بالفعل في زمن يتعذّر فيه حصول ما يتوقّف عليه.

و يدفعه: أنّ المراد من وجوب الفعل قبل حصول ما يتوقّف عليه ليس كون الزمان المتقدّم ظرفا للوجوب و الفعل معا، بل المراد أنّه يجب على المكلّف في الزمان السابق أن يأتي بالفعل في الزمان اللاحق، كما يجب على المكلّف الممنوع من العبادة فيه مثلا أن يأتي بها خارجه في الزمان ظرف للوجوب فقط و الزمن اللاحق ظرف لهما معا، كالمكان الخارج عن المكان الممنوع من العبادة فيه بالنسبة إلى المكلّف الموجود فيه من غير فرق.

فإن قلت: إذا وجب الفعل قبل حصول ما يتوقّف عليه من الأمر الغير المقدور فوجوبه إمّا أن يكون مشروطا ببلوغ المكلّف إلى الوقت الّذي يصحّ وقوعه فيه، أولا، فإن كان الأوّل لزم أن لا يكون وجوب قبل البلوغ إليه كما هو قضيّة الاشتراط، و إن كان الثاني لزم التكليف بالمحال، فإنّ الفعل المشروط بكونه في ذلك الوقت على تقدير عدم البلوغ إليه ممتنع.

ص: 458

قلنا: إن أردت بالبلوغ نفسه اخترنا الشقّ الثاني، و نمنع لزوم التكليف بالمحال على تقديره، لأنّه إنّما يلزم إذا وجب عليه إيجاد الفعل المقيّد بالزمن اللاحق على تقدير عدم بلوغه إليه، و هو غير لازم من عدم اشتراطه بنفس البلوغ.

و إن أردت بالبلوغ ما يتناول بعض الاعتبارات اللاحقة بالقياس إليه ككونه ممّن يبلغ الزمن اللاحق منعنا توقّف الوجوب على سبق البلوغ أو مقارنته له، بل يكفي مجرّد حصوله و لو في الزمن اللاحق. فيرجع الحاصل إلى أنّ المكلّف يجب عليه الفعل قبل البلوغ إلى وقته على تقدير بلوغه إليه، فيكون البلوغ كاشفا عن سبق الوجوب واقعا، و عدمه كاشفا عن عدمه كذلك، لا أن يكون سببا.

و الفرق بين كاشفيّة البلوغ عن سبق الوجوب و بين سببيّته له أمر متعقّل لا يرتاب في تعقّله ذو عقل، بل و لا في وقوعه، و تحقّقه في العرف و الشرع كثير في الأوامر و المعاملات من العقود و الإيقاعات، كالوصيّة، و العقود الفضوليّة، و التوكيل، و النذر، و الظهار، و المكاتبة، و التدبير، و غير ذلك ممّا اتّفقوا على صحّة التعليق فيه.

و دعوى أنّها مخرجة عن الإنشاء إلى الإخبار و الإعلام بها يبعده أنّها إن كانت إخبارا عن تحقّق الإنشاء في السابق فخلاف المفروض، و إن كانت إخبارا عن تحقّقه في اللاحق فمضافا إلى أنّه أيضا خلاف المفروض هو مجرّد و عد يحتمل البداء و فسخ العزم، فكيف يؤثّر أثر الإنشاء فعلا من اللزوم و الالتزام؟! و الحاصل: أنّ استحالة تعقّل التعليق في الإنشاء ممنوعة.

بما يرجع حلّا: إلى الوجدان المعتضد بأصالة الإمكان و ظهور الأمر المعلّق في الإنشاء لا الإخبار.

و نقضا: إلى أنّه لو كان التكليف المشروط من باب الإعلام و الإخبار عن

ص: 459

حصول الطلب عند حصول الشرط لا من باب إنشاء الطلب المشروط لاحتمل الصدق و الكذب و من البيّن عدمه، و لاحتمل البداء و فسخ العزم بوفاء الوعد بحصول الطلب عند حصول الشرط المستلزم لعدم الذّم و العقاب على تركه و من البيّن بطلان اللازم.

فإن قلت: إنّ البيع المعلّق على حصول شي ء متراخ لو لم يرجع إلى الإخبار و الإعلام بالبيع عند حصول المعلّق عليه لزم إمّا انتقال المبيع إلى المشتري من حين العقد، و إمّا بقاءه تحت ملك البائع في مدّة الانتظار، و إمّا صيرورته ملكا لكلّ منهما في مدّة الانتظار.

أمّا الأوّل فهو من آثار العقد المنجّز بالوفاق فلا يترتّب على المعلّق، و أمّا الثالث فيستلزم اجتماع الضدّين، فتعيّن الثاني، و هو المطلوب.

قلت: نختار الشقّ الثالث، و نمنع لزوم اجتماع الضدّين منه، لأنّ اجتماعه إنّما يلزم من اجتماع الملكين المنجّزين. و أمّا الملك المنجّز لأحد فيجوز اجتماعه مع الملك المعلّق لآخر من غير اجتماع الضدّين البتّة.

فتلخّص ممّا ذكرنا: تأسيس كون الأصل الأصيل في المسألة هو جواز التعليق، آخذا بعموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1) بل و بعموم أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ (2) و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (3) على وجه إلّا ما خرج بالدليل، و تشخيص كون النزاع في المسألة نزاع شرعيّ لا عقليّ، أعني: نزاع في ثبوت الدليل المخرج عن تحت الأصل و العمومات و عدمه شرعا لا نزاع في تعقّل التعليق في الإنشاء و عدمه عقلا، لما عرفت من أنّ التحقيق تعقّله، كما حقّقه الأستاذ، تبعا لاستاذيه


1- المائدة: 1.
2- البقرة: 275.
3- النساء: 29.

ص: 460

المصنّف (1) و الفصول (2)، و لكنّ الحقّ تعقّله، كما عرفت.

و إذ قد عرفت ذلك فاعلم أنّ التعليق يتصوّر على ثمانية عشر صورة أو أزيد، و محلّ النزاع منها و إن كان بالنظر إلى إطلاق بعض فتاويهم يشمل جميع صور التعليق سوى الملحق بالتيمّن و التبرّك ك «إن شاء اللّٰه» إلّا أنّ عمدة الدليل على منع التعليق في المسألة لمّا كان منحصرا في الشهرة و الإجماعات المنقولة- كما في المتن (3)- و في أصالة الفساد- كما في تعليلاتهم الأخر بالتوقيف و عدم تعقّل التعليق في الإنشاء- كان المتيقّن دخوله في معقدهما من أقسام التعليق قسمان:

أحدهما: ما كان التعليق فيه منافيا للجزم بالإنشاء، كتعليق الإنشاء على ما هو مشكوك الحصول، و ليس صحّة العقد معلّقة عليه في الواقع، كقدوم الحاجّ مثلا.

ثانيهما: ما كان التعليق فيه موجبا لتفكيك أثر العقد عن نفس العقد المؤثّر له، كتعليق العقد على أمر معلوم الحصول في المستقبل المعبّر عنه بالصحّة، كقول الواقف: «إذا جاء رأس الشهر فقد وقفته»، بل لا يبعد انحصار معقد المنع في القسم الأوّل.

و لكنّ الّذي استظهره الماتن قدس سرّه (4) تبعا لغير واحد هو دخول القسم الثاني أيضا في معقد المنع، و حينئذ فالممنوع من التعليق هو ما كان من أحد هذين القسمين على سبيل منع الخلوّ دون سائر أقسام التعليق ممّا كان معلوم الحصول ك «إن كان لي فقد بعته»، أو كان صحّة العقد معلّقة عليه ك «إن كنت عاقلا أو مختارا فقد بعته»، فإنّ الظاهر المصرّح به في كلام غير واحد عدم دخول شي ء


1- المكاسب: 100.
2- تقدّم ذكره في هامش (1) ص: 456.
3- المكاسب: 99.
4- المكاسب: 99.

ص: 461

منها في محلّ المنع.

أمّا وجه التعليق المنافي للجزم بالإنشاء في معقد الشهرة و الإجماعات المنقولة على المنع فلما صرّح به غير واحد منهم من أنّ هذا النحو من التعليق بعرضه عدم الحصول فينافي الجزم المعتبر في الإنشاء.

و أمّا وجه دخول التعليق الموجب لتفكيك أثر العقد عن نفس العقد المؤثّر على تقدير تسليم دخوله فلمنافاته لتأثير العقد الأثر، الّذي رتّبه الشارع على نفسه بواسطة مداخلة حصول المعلّق عليه في تأثيره أثره المترتّب على نفسه، فيخرج بواسطة تلك الواسطة في تأثيره عن العقود الشرعيّة إلى العقود المخترعة الّتي لا يشملها عموم (1): «الوفاء بالعقود».

و أمّا وجه عدم دخول سائر أقسام التعليق فلما في المتن (2) من: «أنّ تعليق العقد بما هو معلّق عليه في الواقع ليس تعليقا في الحقيقة في كلام المتكلّم» إلى آخر كلامه.

ثمّ إنّه قد علم ممّا ذكرنا أنّ الجزم المعتبر في صحّة المعاملات ليس كالجزم المعتبر في صحّة العبادات، فإنّ الجزم المعتبر في صحّة العبادة جزمان:

أحدهما: الجزم بمحبوبيّة تلك العبادة و مقربيّته، فلو تردّد في تأثرها القرب و عدم تأثّرها بواسطة اشتمالها على بعض ما يحتمل المانعيّة أو فقدها لبعض ما يحتمل الجزئيّة أو الشرطيّة بطلت.

ثانيهما: الجزم في فعلها و إيقاعها، فلو أوقعها على وجه الترديد بين فعلها أو قطعها بطلت أيضا، و الجزم المعتبر في صحّة العقود و المعاملات هو الجزم الثاني لا الأوّل، أعني: الجزم في إنشاء العقد لا الجزم في تأثيره المنشئ، فلو


1- المائدة: 1.
2- المكاسب: 100.

ص: 462

أنشأ العقد على وجه الترديد في إنشائه و عدم إنشائه بطل، بخلاف ما لو أنشأه جزما على وجه الترديد في تأثيره المنشئ و عدم تأثيره فإنّه لم يبطل، كما لو باع شيئا مع التردّد في كونه ممّا يملك أو لا يملك، أو في أنّ مالكه يجيز أو لا يجيز، أو في اجتماع شروط المتعاقدين من البلوغ و العقل و الرشد و الاختيار و عدمه، فإنّ الترديد في شي ء من ذلك لا يقدح في صحّة العقد إذا لم يرجع إلى الترديد في أصل الإنشاء، سيّما إذا أطلق العقد لفظا و لم يصرّح بتعليقه على شي ء من ذلك، فإنّ الظاهر الاتّفاق على صحّة المطلق إنشائه لفظا، و إن كان في المعنى معلّقا على تقدير اجتماع ما يتردّد العاقد في اجتماعه من شروط العقد أو المعقود عليه أو المتعاقدين، و إن استظهر الماتن (1) من الشهيد في القواعد (2) خلافه، و هو الجزم بالبطلان، أو الدخول في محلّ النزاع.

و من هنا يظهر أنّ تكرار العقد الواحد بالصيغ المكرّرة من الفارسيّ و العربيّ و غيرهما من الخصوصيّات و الكيفيّات المحتملة من المتردّد في صحّة أيّهما غير قادح في الصحّة و إن كان إنشاء كلّ منها معلّقا في المعنى على صحّته بالخصوص و عدم تأثير السابق و اللاحق شيئا.

و ذلك إمّا لاختصاص النزاع في المسألة بالتعليق اللفظي دون المعنويّ.

و إمّا لاختصاصه بالتعليق المتسبّب لارتفاع أصل قصد الإنشاء دون الغير المتسبّب لارتفاع قصد الإنشاء، كما فيما نحن فيه.

لا يقال: إنّ التعليق في المنشئ متسبّب لارتفاع قصد الإنشاء في العقد لا محالة «و العقود تابعة للقصود» فما لم يشتمل على قصد ليس بعقد.

لأنّا نقول: كما أنّ الجزم بالطلب لا يتسبّب لارتفاعه القطع بعدم حصول


1- المكاسب: 99.
2- القواعد و الفوائد 2: 237- 238 قاعدة 238.

ص: 463

المطلوب له فضلا عن الترديد في حصوله له، كذلك الجزم بالإنشاء لا يتسبّب، لارتفاعه القطع بعدم حصول المنشأ له، و عدم تأثير إنشائه المنشأ شرعا، فضلا عن الترديد في تأثيره المنشئ شرعا حتّى يرجع إليه، كما لا يخفى.

و من هنا يعلم أيضا أنّ المنشئ لو أنشأ عقدا على وجه الجزم قاطعا بعدم اجتماع شروط العقد أو المعقود عليه أو العوضين أو المتعاقدين صحّ عقده لو بان اجتماعه لذلك الشرط، فضلا عمّا لو أنشأه على وجه الجزم متردّدا في اجتماعه للشروط المذكورة ثمّ بان اجتماعه لها، إلّا أن يتسبّب الترديد في تأثّره الإنشاء، لارتفاع القصد عن أصل الإنشاء. و لعلّ إلى ذلك ينظر جزم الشهيد في القواعد (1) بالبطلان فيما لو زوّج امرأة يشكّ في أنّها محرّمة عليه فظهر حلّها، أو خالع امرأة أو طلّقها و هو شاكّ في زوجيتها، أو ولّى نائب الإمام عليه السّلام قاضيا لا يعلم أهليّته و إن ظهر أهلا مع جزمه فيها بالإخراج عن ذلك بيع مال مورّثه لظنّه حياته فبان ميّتا، أو تزويج أمة أبيه فظهر ميّتا. فإنّ التفرقة بين الفروع المذكورة في حكمه بالبطلان في بعضها و بالصحّة في بعضها الآخر مع كون الكلّ من باب واحد لا وجه له سوى ما ذكرنا من رجوع الترديد في تأثير الإنشاء تارة إلى الترديد في أصل الإنشاء، و عدم رجوعه إليه تارة أخرى، فيبطل في الراجع، و يصحّ في غيره (2).

قوله: «بل جعل الشرط هو الجزم. إلخ».

[أقول:] الفرق بين التنجيز و الجزم أنّ التنجيز و التعليق من مقولة اللفظ، و الجزم الترديد من مقولة المعنى، و الأوّل من أوصاف العقود، و الثاني من أوصاف


1- تقدّم ذكر مصدره في هامش (1) ص: 462.
2- من قوله: «في بعضها» الى قوله: «و يصحّ في غيره»- بزيادة (و اللّٰه العالم بحقائق أحكامه) في آخره- قد تكرر في نسخة الأصل بعد إتمام التعليقة على قوله: و فيه اشكال. و قبل التعليقة على قوله: و من جملة الشروط في العقد .. إلخ. و الظاهر انّ التكرار حصل نتيجة إلحاق بعض التعليقات في الأثناء.

ص: 464

القصود.

و من هنا يعلم أنّ محلّ النزاع في التعليق على الأمر المتوقّع لا الواقع، و في الإنشاء لا المنشئ، و في الإيجاب لا الوجوب، و في الطلب لا المطلوب، و أنّ المدرك في هذه المسألة هو المدرك فيما تقدّم، فالدليل الدليل، و الأصل العملي هو الأصل العملي من أصالة الفساد و عدم النقل و الانتقال، و الأصل اللفظي هو الأصل اللفظي من إطلاق العقد و البيع و التجارة على المنجّز، و صحّة سلبها عن التعليق في الإنشاء دون المنشئ، و في الإيجاب دون الوجوب، و في الطلب دون المطلوب.

قوله: «العمدة في المسألة هو الإجماع .. إلخ».

[أقول:] فيه: أنّ الظاهر و إن كان ذلك إلّا أنّ تعليل المجمعين اشتراط التنجيز بمنافاة التعليق و الترديد للجزم في إنشاء العقد و صدقه أظهر في تعيّن الدليل في التعويل على التعليل و الأصل الأصيل، و هو إطلاق العقد في الإنشاء المنجّز، و أصالة الفساد في المعلّق دون كون المدرك الشهرة و الإجماع، كما هو الأظهر أيضا من سائر أدلّة المسألة و تعليلاتهم الآتية، و من المعلوم تقديم الأظهر على الظاهر.

قوله: «فالتعليق غير متصوّر فيه .. إلخ».

[أقول:] فيه: ما عرفت من أنّ تعليلهم نفي التعليق في الإنشاء بمنافاته الجزم المعتبر في صدق العقد دليل كون النفي بانتفاء الموضوع لا المحمول الغير المعقود كنفيهم حجّية مفهوم الوصف و اللقب من باب السالبة بانتفاء الموضوع أيضا.

قوله: «فلا ريب في أنّه أمر متصوّر واقع في العرف و الشرع كثيرا في الأوامر و المعاملات».

ص: 465

أقول: أمّا في الأوامر فكقوله تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا .. فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا* (1) فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (2) أي غدا.

و أمّا في العقود فكقولهم: «بعتك كذا بشرط كذا» أو «بعتك منفعة الدار أو الآبار و الأشجار بعد العام المستأجرة»، أي بعد العام المسبوق بإجارة الغير.

و أمّا في الإيقاع فكقولهم: «أنت حرّ بعد وفاتي» و «لك الثلث بعد وفاتي» و «عليّ كذا إن فعلت كذا» أو «لك كذا إن فعلت كذا» إلى غير ذلك من التعليق و الشروط الواقعة في العقود و العهود الصحيحة الصريحة في العرف و الشرع في الكتاب (3) و السنّة (4).

و لكن قد عرفت الجواب عنها بأنّ صحّة التعليق في أمثال ذلك إنّما هو في المنشئ لا الإنشاء، و في الوجوب لا الإيجاب، و في المطلوب لا الطلب، و في المعهود لا العهد، و في المنذور لا النذر. و تظهر الثمرة في وجوب مقدّمات الواجب المعلّق قبل دخول وقته و حصول شرطه، و وجوب إيجاد المقدّمات قبل وقت ذي المقدّمة كوجوب الطهارة للصوم بمجرّد الرؤية، و المحافظة على الاستطاعة و مقدّمات الحجّ بمجرّد الاستطاعة و لو قبل عام الحجّ بسنين، و وجوب المحافظة على المنذور و المعهود و المشروط على الناذر و العاهد و الشارط قبل حصول الشروط المتوقّعة، و في كون النماء المتخلّل بين المشروط و شروطها المتوقّعة في زمن التوقّع من الناقل على تقدير التعليق في النقل و من المنقول له و إليه على تقدير التعليق في المنقول لا هو المعمول.

قوله: «و الظاهر الفرق بين مثال الطلاق و طرفيه بإمكان الجزم فيهما،


1- المائدة: 6.
2- البقرة: 185.
3- المائدة: 1، الأسراء: 34.
4- الوسائل 12: 352 ب (6) من أبواب الخيار.

ص: 466

دون مثال الطلاق. فافهم».

[أقول:] إشارة إلى توجيه الفرق بأنّ طلاق الأجنبيّة بزعم المطلّق تحصيل للحاصل المحال، بخلاف تزويج المحرّمة عليه.

أو إلى أنّ الفرق غير فارق، لأنّ المحال تحصيل الحاصل الواقعي، لا الزعمي الغير الحاصل في الواقع.

[و من جملة شروط العقد التطابق بين الإيجاب و القبول]

قوله: «لا يبعد الجواز».

[أقول:] و ذلك بناء على إرادة البائع بيع كلّ من نصفي المثمّن بنصف من الثمن، لا بيع المبيع منهما على وجه الاشتراك المطلق بكلّ الثمن على وجه يكون له الرجوع فيه إلى كلّ منهما على وجه الانفراد و الاجتماع.

قوله: «و فيه إشكال».

[أقول:] وجه الإشكال: احتمال إرادة البائع خلاف ما أراده المشتري من تعدّد الشراء و توزيع الثمن عليها.

[و من جملة الشروط في العقد أن يقع كلّ من إيجابه و قبوله في حال يجوز لكلّ واحد منهما الإنشاء]

قال: «و من جملة الشروط في العقد أن يقع كلّ من إيجابه و قبوله في حال يجوز [لكلّ واحد] منهما الإنشاء».

أقول: الكلام في اعتبار هذا الشرط يقع تارة في بيان المراد، و اخرى في صحّة ما أراد.

أمّا الكلام في المقام الأوّل: فالظاهر من مجموع كلامه أنّ المراد من اعتبار هذا الشرط هو توقّف صحّة العقد على استمرار جميع شروط العقد و المتعاقدين و العوضين من أوّل زمان العقد إلى آخر زمان تمام السبب الناقل، و هو القبول في عقد البيع و الإجازة في عتق الفضوليّ و القبض في الوقف، و المركّب من الأوّلين في بيع الفضوليّ، و من الأخيرين في الوقف الفضوليّ، و من الأوّل و الثالث في عقد الهبة، و من المجموع الثلاثة في الهبة الفضولية، فيبلغ الحاصل من اعتبار كلّ من

ص: 467

الشروط الثلاثة: شروط العقد و العوضين و المتعاقدين في كلّ من المواضع الثلاثة الأوّل و الآخر و الوسط إلى اعتبار تسعة شروط، فلو أخلّ بشي ء منها بطل العقد.

و مثال الإخلال بشروط العقد هو إنشاء العقد أوّلا من غير رضا، ثمّ إلحاق الرضاء له قبل تمام السبب، أو إنشائه مع الرضاء ثمّ عرض البداء له قبل تمام السبب، سواء استمرّ عروضه أم زال قبل تمامه.

و مثال الإخلال بشي ء من شروط العوضين هو عدم قابليتهما للملك حين العقد، ثمّ عرض لهما القابليّة قبل تمام السبب كانقلاب ما هو خمر، أو مال للغير حين العقد إلى الخلّ، أو إلى مال نفسه بإرث و نحوه قبل تمام السبب أو العكس، أعني قابليّتهما للملك حين العقد ثمّ عرض لهما عدم القابليّة بانقلاب الخلّ خمرا، أو انتقال مال نفسه إلى وارثه بارتداد و نحوه قبل تمام السبب، سواء استمرّ عدم القابليّة أو زال قبل تمام السبب أيضا.

و مثال الإخلال بشي ء من شروط المتعاقدين هو عدم كمالهما بالبلوغ و العقل و الرشد حين العقد، ثمّ عرض لهما الكمال قبل تمام السبب أو العكس، أعني كمالهما حين العقد، ثمّ عرض لهما الحجر بسفه أو فلس أو إغماء أو جنون قبل تمام السبب، سواء استمرّ ذلك العارض أم زال قبل تمام السبب. فمقتضى إطلاق اعتبار هذا الشرط هو بطلان العقد بالإخلال به في جميع شقوق الإخلال المذكورة، حتّى في صورة ما لو أنشأ العقد مع اجتماع جميع الشروط ثمّ عرض لأحدهما قبل تمام السبب جنون ما أو إغماء أو انقلب الخلّ خمرا آنا ما ثمّ زال العارض من حينه قبل تمام السبب، هذا هو ظاهر المراد.

و أمّا الكلام في صحّة ما أراد فتفصيله: أنّ اعتبار هذا الشرط في العقود- مضافا إلى تخلّفه في الوصيّة حيث يجوز التخلّل بين إيجابه و قبوله بالردّ قبل الموت على المشهور، و في عقد المكره، حيث صرّحوا بجواز لحقوق الرضا له،

ص: 468

و في تزويج المالك أمته بجعل المهر عتقها، حيث اتّفقوا على جوازه مع عدم تسلّطها على البضع حين العقد- لا دليل على صحّة إطلاق اعتباره في جميع الشقوق المذكورة، إذ لا إجماع و لا شهرة من محصّل و لا منقول و لا غيرهما سوى ما ذكره الماتن قدس سرّه من عدم تحقّق معنى المعاقدة و المعاهدة عرفا عند الإخلال به، و هو لا ينهض دليلا على صحّة إطلاق اعتبار استمرار جميع الشروط من أوّل العقد إلى زمان تمام السبب، بحيث لو تخلّل فيما بين العقد و السبب المتمّم له إغماء أو جنون ما ثمّ زال من حينه بطل العقد، إذ من البيّن عدم قدح هذا النحو من الإخلال العارض في صدق التعاقد و التعاهد عرفا إذا زال من حينه قبل تمام السبب، فهل ترى من نفسك إخلال صدق التعاقد و التعاهد عرفا بمجرّد انقلاب الخلّ خمرا بعد إنشاء العقد آنا ما ثمّ عاد إلى أصله قبل تمام القبول؟! و توهّم دلالة إطلاق أدلّة اعتبار شروط العقد و المتعاقدين و العوضين على استمرار اعتبارها من أوّل العقد إلى زمان تمام السبب مدفوع بأنّ إطلاقها وارد مورد بيان حكم آخر، أعني: بيان فساد العقد الفاقد بشي ء منها رأسا كبيان فساد بيع الخمر و بيع الصبي و المجنون و نحوه من العقود الفاقدة للشروط من حين العقد إلى آخر تمام السبب.

و أمّا الجامعة لجميع الشروط حين العقد و حين القبول الفاقدة لها فيما بينهما آنا ما بواسطة عروض عارض زال من حينه فلا دليل على فسادها، لأنّ إطلاق أدلّة اعتبار الشروط المذكورة واردة مورد بيان حكم غير هذه الصورة قطعا، و عدم الدليل على فسادها دليل عدم فسادها، ضرورة صدق التعاقد و التعاهد، فيشملها عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1).

نعم، غاية ما يسلّم من عدم صدق التعاقد و التعاهد هو عدم صدقهما على


1- المائدة: 1.

ص: 469

صورة ما إذا كان عدم قابليّة المتعاقدين للإيجاب و القبول بموت أو جنون أو إغماء أو إكراه مستمرّ من أوّل العقد إلى آخر تمام السبب، دون ما إذا كان عدم قابليّتهما بواسطة عدم بلوغ فبلغ قبل تمام السبب، أو بواسطة سفه أو فلس فزال قبل تمام السبب، سيّما إذا عرض المانع من إغماء أو تنعّس بعد الإيجاب و زال قبل تمام السبب، فإنّ بقاء صدق التعاقد و التعاهد سيّما في الفرض الأخير ممّا لا ينبغي الإشكال فيه و إن قلنا بوضع ألفاظ المعاملات شرعا للصحيح، كما لا يخفى.

فتبيّن من ذلك أنّه لا دليل على صحّة إطلاق اعتبار الشرط المذكور في العقود سوى الاحتياط، بل لا تعرّض له في كلام أحد من القدماء و لا المتأخّرين، و إنّما هو من استنباطات متأخّر المتأخّرين الّتي استنبطها ظاهرا من إطلاق أدلّة اعتبار الشروط الواردة مورد بيان حكم آخر، كما عرفت.

و أمّا الإجماع الّذي نقل ادّعاءه شيخنا العلّامة عن شيخه صاحب الجواهر مشافهة فيما تقدّم (1) فمضافا إلى احتمال ورود إطلاق دعواه مورد بيان حكم آخر أيضا و كون الإجماع من اللبّيات الّتي لا إطلاق لها أصلا أنّ الإطلاق في دعواه على تقدير ثبوته موهون جدّا، لكن لا لمجرّد عدم حجّية الإجماع المنقول، بل لعدم اجتماعه لشرائط الحجّية على القول بالحجيّة.

[فرع لو اختلف المتعاقدان اجتهادا و تقليدا في شروط الصيغة]

قوله: «أردؤها أخيرها».

[أقول:] وجه رداءته: أنّ عدم القائل بسببيّة العقد المركّب منهما في النقل لا يستلزم عدم سببيّته في الواقع حتّى يجب استثناءه عن جواز اختلاف المتعاقدين، هكذا وجّه الرداءة شيخنا العلّامة.


1- تقدّم في ص: 453.

ص: 470

و لكنّه غير وجيه، أمّا على القول بوجوب اللطف الّذي هو طريقة الشيخ (1) فلوضوح منع عدم الملازمة بين عدم القائل بالسببيّة و عدم السببيّة، و أمّا على القول بعدم وجوبه فلأنّ مجرّد عدم القائل بسببيّته و إن لم يستلزم عدم السببيّة بالقطع إلّا أنّه يستلزمه بالظنّ لا محالة، و به الكفاية في حسن التحرّز عنه و استثناء فرضه عن الجواز و لو لم نقل بحجّية مثل ذلك الظنّ.

و على ذلك لم يكن التفصيل في القول بالصحّة أردأ الوجوه، بل كان أحسنها جميعا إن صحّ مبنى القول بالصحّة، و أحسن من خصوص القول بإطلاق الصحّة إن لم يصحّ.

و أمّا تحقيق صحّة هذا المبنى و عدمه- أعني: تشخيص كون الأحكام الظاهريّة المجتهد فيها- هل هي بمنزلة الواقعيّة الاضطراريّة ليكون الإيجاب بالفارسيّة من القائل بصحّته عند من يراه باطلا بمنزلة إشارة الأخرس و إيجاب العاجز عن العربيّة و كصلاة المتيمّم بالنسبة إلى واجد الماء، أم هي أحكام عذريّة لا يعذر فيها إلّا من اجتهد أو قلّد؟ فالمتكفّل له تفصيلا أواخر مبحث الإجزاء من أساسنا في الأصول و الصحّة غير بعيدة، و عليها من فحول المتأخّرين صاحب الضوابط (2) و القوانين (3). و مرجعها إلى دعوى مقدّمتين:

إحداهما: أنّ الشارع لم يجعل طريقا مخترعا إلى أحكامه الواقعيّة وراء إمضاء الطرق المنجعلة عند العقلاء في الوصول إلى مطالبهم و مقاصدهم.

و ثانيهما: أنّ سيرة العقلاء من الموالي بالنسبة إلى عبيدهم و من السلاطين بالنسبة إلى رعاياهم و من التجّار بالنسبة إلى عمّالهم على الاكتفاء بالأمارات، الّتي أمروا بها من جهة غلبة إيصالها إلى الواقع، على وجه تكون الوقائع النادرة


1- عدّة الأصول: 602.
2- ضوابط الأصول: 184.
3- قوانين الأصول 1: 130.

ص: 471

المتخلّفة عن مصادفة الواقع في نظرهم خالية عن الواقع، فيكون مطلوبيّة الواقع في أنظارهم مقصورا على الوقائع الغالبة المصادفة لا غير.

و مرجع ذلك إلى القناعة عن الواقع بمقدار مؤدّى الإمارة من المطابقة له غالبا عن المقدار الزائد، و هو المطابقة له دائما، لا إلى رفع اليد عن الواقع دائما و جعل الطريق موضوعا صرفا حتّى يبعده الوجدان و البرهان.

قوله: «إذا اعتقد اعتبار الموالاة، فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ استدراك هذه الصورة مستدرك و استثناء منقطع، لأنّ الكلام فيما لو اختلف المتعاقدان في صحّة العقد كالبيع في وقت النداء أو بغير العربيّة و الماضويّة ممّن يجوّزه أحدهما دون الآخر، لا فيما إذا اعتقد كلّ منهما بطلان الصيغة من طرف مقابله لا من طرفه، كإخلال أحدهما بترتيب ما لا يسوّغه الآخر، و الآخر بموالاة ما لا يسوّغه الأوّل، فإنّه باطل، لأنّ العقد المركّب من الصحيح و الباطل باطل و إن كان بطلانه من الطرف الآخر.

[مسألة لو قبض ما ابتاعه بالعقد الفاسد]
[لم يملكه و كان مضمونا عليه]
اشارة

قوله: «و يدلّ عليه النبويّ» (1).

[أقول:] أمّا الخدشة في سنده بأنّه عامّي مدفوعة بانجباره بالشهرة، و أيّ شهرة بحيث لم يلف فقيها إلّا و تمسّك به في فقهه.

و أمّا الخدشة في دلالته بما عن العوائد (2) من دعوى إجماله بواسطة دوران معناه بين تقدير استقرار الضمان «على اليد» أو وجوب الحفظ عليه أو ظهوره في وجوب الحفظ دون استقرار الضمان- نظرا إلى أنّ كلمة «على» ظاهرة في الحكم التكليفي فلا يدلّ على الضمان- فأيضا ضعيفة:

أوّلا: بفهم المشهور الضمان منه خلفا عن سلف قرينة معيّنة لدلالته عليه، بناء على جابريّة الشهرة الدلالة.


1- عوالي اللئالي 1: 389 ح 22.
2- عوائد الأيّام: ص 316- 318.

ص: 472

و ثانيا: بأنّ من الواضح على كلّ من له أدنى خبرة بمحاورات العرف عدم إجمال مثل هذه العبارة، بل ظهورها في الضمان ممّا يكاد أن يلحق بالنصوص، كما في أشباه هذه العبارة و أنظارها من أيّ لغة كانت. ألا ترى قول العرب الأخذ عليه أو برقبته و قول الفرس: «دست دست را ميشناسد و هر كه برده بپاى أو است»، كالنصّ (1) الصريح في الدلالة على الضمان، فكيف بقول من أبلغ الكائنات و لغته الّتي هي أفصح اللغات؟

هذا، مع أنّ الأصل و الغالب عدم الإجمال و ندوره جدّا في المحاورات، سيّما من الشارع الّذي معناه البيان و شأنه التبيان، و سيّما في الأحكام.

و بالجملة فقوله الشريف صلى اللّٰه عليه و آله: «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» (2) كالنصّ الصريح في أنّ تقديره على صاحب اليد عهدة ما أخذ أو دركه أو ضمانه أو ما يؤدّي مؤدّاها حتّى يؤدّي، لا واجب عليه حفظ ما أخذ.

أمّا تقدير الاستقرار دون الوجوب فلأنّ الظرف فيما نحن فيه مستند إلى عين من الأعيان، فهو ظاهر في الحكم الوضعي ك «عليه مال» أو «دار»، لا أنّه مستند إلى فعل من أفعال المكلّفين ك «عليه أكل» أو «شرب» أو نحوهما من الأفعال حتّى يكون ظاهرا في الحكم التكليفي. مضافا إلى أنّ الأحكام الوضعيّة عندنا أيضا منتزعة عن الأحكام التكليفيّة، و ليست بأمور مستقلّة حتّى ينافيها الأحكام التكليفيّة.

و أمّا تقدير الضمان دون الحفظ فلرجوعه إلى التقدير الأوّل و هو تقدير الاستقرار لا إلى تقدير آخر وراءه، بخلاف الحفظ فإنّ تقديره يستلزم تعدّد المقدّر، و الأصل عدمه. و أمّا عدم تقدير الأداء أو الردّ عوض الحفظ فلأنّه مضافا


1- تقدّم ذكره في ص: 471.
2- عوالي اللئالي 1: 389 ح 22.

ص: 473

إلى منافاتهما الأصل أيضا منافيان للغاية بقوله: «حتى يؤدّي».

فتلخّص من ذلك: أنّ دلالة «على اليد ما أخذت» على الضمان إمّا من جهة ظهور كلمة «على» في الحكم الوضعي لا التكليفي بواسطة إسناده إلى العين لا الفعل.

و إمّا من جهة ضميمة القرائن الخارجيّة، من فهم المشهور، و ملاحظة الأشباه و النظائر العرفيّة، و أصالة عدم الإجماع، و غير ذلك، معينة بتقدير الضمان.

إلّا أنّه على التقدير الأوّل لا تقدير للضمان، و إنّما هو منتزع من نفس تعلّق الظرف بالاستقرار فلا يقدّر بتقدير آخر وراء تقدير الاستقرار، بل تقدير الاستقرار مغني عن تقديره، بخلافه على التقدير الثاني و يعضد قاعدة اليد قوله عليه السلام (1) في الأمة المبتاعة: «إذا وجدت مسروقة» إلى آخر قول المصنّف: «فهو كالتالف لا المتلف.

فافهم» (2). فتأمّل.

إشارة إلى أنّ ضمان المتلف على تقدير كونه من باب «من أتلف مال غيره فهو له ضامن» ظاهر في الإتلاف الفعليّ لا الشأنيّ و التنزيليّ، بخلاف ضمان اليد فإنّه يعمّ حتّى المنافع الناشئة من المالك بحبس ملكه من الاستنفاع و الاستخدام به مدّة الحبس و المنع.

ثمّ إنّ هذا كلّه في بيان أصل دلالة الحديث الشريف على الضمان في الجملة في مقابل السلب الكلّي.

و أمّا بيان مقدار الدلالة و كميّته فتفصيله: أنّ المراد من «اليد» المضمّن هل هو اليد المستقلّ على المال، أو الأعمّ منه و من المشترك فيه؟ وجهان، بل قولان، استظهر الأوّل شيخنا العلّامة دام ظلّه، و الثاني عن صاحب الجواهر (3).


1- الوسائل 14: 592 ب «88» من أبواب نكاح العبيد و الإماء ح 3.
2- المكاسب: 101.
3- جواهر الكلام 22: 257.

ص: 474

فكلّ من الأيادي المشتركة في المال المضمون عليه ضامن على الأوّل بالاستقلال لكلّ المال، و على الثاني بنسبته مع الشركاء، فإن كانت الشركة بين اثنين فكلّ منهما ضامن للنصف، أو بين ثلاثة فللثلث، أو بين أربعة فللربع، و هكذا، فلا يجوز لصاحب المال مطالبة كلّ من الأيادي المشتركة في ماله المضمون عليه للقدر الزائد عن مقدار شراكة اليد فيه، لأنّ الأيادي المشتركة مجموعها يد واحد في الضمان، لا كلّ واحدة منها يد مستقلّة، فالمتعلّق بالمجموع ضمان واحد لا ضمانات متعدّدة على حسب تعدّدهم، و يشهد على ذلك نسبة العرف المال إلى مجموع الأيادي المشتركة لا إلى كلّ واحد منهم إذا سئلوا عن كون المال في يد من.

و أمّا الأيادي المتعاقبة بالاستقلال فالظاهر من إطلاق «على اليد» و عمومه الحكمي هو تعلّق الضمان بكلّ منها على وجه الاستقلال فيختار المالك بين مؤاخذة المال من الجميع و بين مؤاخذته من كلّ من شاء منهم على وجه الاستقلال، لكن بأداء الواحد يسقط عن الباقين، كما يسقط الدين عن ذمّة المديون بأداء الغير عنه.

ثمّ المراد من «اليد» المضمّن هل هو يد الاستيلاء و لو لم تجتمع مع الجارحة، أم يد الجارحة و لو لم تجتمع مع الاستيلاء، أم كلاهما معا؟ وجوه، أوجهها الأوّل، و على ذلك فمجرّد استيلاء المستولي مضمّن للمستولى عليه و إن كان تحت جارحة الغير، و مجرّد يد الجارحة غير مضمّن ما لم يكن على وجه الاستيلاء.

ثمّ اليد المزاحمة ليد المالك في ملكه على وجه الإشاعة هل هي كاليد المزاحمة له عل وجه التعيين في موجبيّة الضمان بقدر حصّة اشتراكها إن نصفا فبالنصف و إن ثلثا فبالثلث و هكذا، أم لا يوجب الضمان بالبعض كما لا يوجبه

ص: 475

بالكلّ؟ وجهان، من انّ اليد المشتركة في المال على وجه الإشاعة يد تامّ بالنسبة إلى حصّة الشراكة كاليد المشتركة فيه على وجه التعيين فيلحقها ما يلحقها من الضمان بقدر حصّة الاشتراك، و من أنّ اليد المشتركة في المال المشاع يد ناقص بالنسبة إلى كلّ جزء من أجزاء المشاع، كما أنّه كذلك بالنسبة إلى كلّ المال المشاع بينهما و المضمن من اليد ظاهرا هو اليد التامّ لا الناقص، فلا يلحق الناقص ما يلحق التام من الضمان.

و بعبارة اخرى: أنّ نسبة اليد إلى كلّ جزء من أجزاء المشاع هو نسبته إلى كلّ المال المشاع، فكما أنّه لا يضمن الكلّ من جهة نقصان اليد بالنسبة إلى الكلّ كذلك لا يضمن البعض من جهة نقصان اليد بالنسبة إلى البعض أيضا.

ثمّ إنّ حبس الحرّ و منعه عن المنافع العائدة إليه بحرفة أو صنعة هل هو كحبس العبد و منعه عن المنافع العائدة إلى موالاة بحرفة أو صنعة في موجبيّة ضمان تلك المنافع، أم لا؟ وجهان، أظهرهما الثاني، لأنّ منافع كلّ شي ء تابعة لأصله، فمنافع الحرّ تابعة للحرّ، فكما أنّ الحرّ لا يصدق اليد عليه بمجرّد الاستيلاء عرفا فكذا منافعه الفائتة منه بالاستيلاء المانع منها، بخلاف العبد فإنّه لمّا صدق عليه اليد عرفا بالاستيلاء استتبعه منافعه فمنافع الحرّ تابعة للحرّ، فكما أنّ الحرّ لا يضمن بالاستيلاء فكذا منافعه لا تضمن به، إلّا أن تضمن بقاعدة «لا ضرر»، و هو على تقدير نهوضه إلى التضمين خارج عمّا نحن فيه من إثبات التضمين بقاعدة اليد.

ثمّ الأوقاف هل هي كالأملاك في تعلّق الضمان بأخذها للمأخوذ منه؟

وجهان، أوجههما أنّه إن كان الأخذ داخلا في الموقوف عليهم و شريكا معهم فلا ضمان عليه و إن ارتكب المعصية في منع المأخوذ منه حقّ الأولويّة الثابتة له بالسبق، و إلّا فعليه الضمان، كما لا يخفى على المتأمّل.

ص: 476

[القول في بيان قاعدة الضمان و عكسها]

قوله: «المراد من «العقد» (1) أعمّ من الجائز و اللازم. إلخ».

أقول: محصّل الكلام في معنى قولهم: «كلّ عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده»، و كذا العكس أن يقال، أمّا المراد من العقد فأعمّ من الجائز و اللازم، بل و ممّا كان فيه شائبة الإيقاع، أو كان أقرب إليه، فيشمل الجعالة و الخلع، لكن حكما لا اسما، فالجاعل يضمن بالعقد الفاسد للمجعول له، كما أنّه يضمن له بالعقد الصحيح، و الخالع زوجته بإزاء مال يضمن لها ذلك المال بالخلع الفاسد، كما يضمن لها قطع العلقة الزوجيّة بالخلع الصحيح. و أمّا سائر الإيقاعات فلا يشمله حكما، كما لا يشمله اسما، بل و في شمول الجعالة و الخلع حكما تأمّل أيضا سيأتي وجه في عداد المستثنيات.

و أمّا المراد من عموم (2) العقود فليس باعتبار خصوص الأنواع، بل أعمّ منه و من الأصناف، أخذا بعموم العقود حسب ما في المتن (3). و أمّا بحسب الأشخاص فلا يتعقّل لخصوص شخص العقد من حيث هو شخص صحيح و فاسد بالفعل حتّى يندرج تحت عموم القاعدة.

و أمّا المراد من الضمان فهو و إن احتمل له معان عديدة:

أحدها: كون تلفه في ملكه لا ملك غيره، نظرا إلى أنّ تلف المال مملوكا للتالف فيه نوع من دخول الضرر و النقصان على نفسه في ماله، ليس فيه ذلك الضرر و النقصان لو تلف مملوكا للغير، فإنّ الأكل شيئا من مال نفسه يدخل عليه ضررا و نقصانا لا يدخل عليه ذلك الضرر و النقصان لو أكله من مال غيره بضيافة أو إباحة، و لكن هذا معنى مجازي لا يطلق عليه الضمان حقيقة، فلا يقال: إنّ الإنسان ضامن لأمواله.


1- في المكاسب: «بالعقد».
2- المائدة: 1.
3- المكاسب: 102.

ص: 477

ثانيهما: كون دركه و خسارته في ماله الأصلي، فيكون ضمان الشي ء بمعنى أنّ له ما بإزاء و عوض في ماله الأصلي في مقابل المجانيّات و اللاعوض الصرف، و الضمان بهذا المعنى تارة يكون بإزاء عوضه الجعلي، و تارة يكون بإزاء عوضه الواقعي و هو المثل و القيمة، و تارة ثالثة بإزاء أقلّ الأمرين من الجعلي و الواقعي، و إذا انضمّ إلى هذه المعاني الأربعة للضمان احتمال تفكيك معناه في الجملتين و عدم تفكيكه تبلغ الاحتمالات ثمانية.

إلّا أنّ الظاهر الواضح من ظاهر الضمان و حقيقته- مضافا إلى معونة الخارج أيضا- هو إرادة الضمان المقابل للمجان في الجملتين من غير تفكيك، دون إرادة ما عداه من سائر الاحتمالات السبعة، كما يظهر للمتأمّل بأدنى تأمّل.

و أمّا المراد من الفاسد فأعمّ ممّا يكون فساده بواسطة فقد شي ء من شروط العقد أو المتعاقدين أو العوضين.

و أمّا المراد من اقتضاء الصحيح الضمان فهو اقتضائه له بنفسه، فلو اقتضاه الشرط المتحقّق في ضمن العقد الصحيح ففي الضمان بالفاسد من هذا الفرد المشروط فيه الضمان تمسّكا بهذه القاعدة إشكال حسب ما في المتن (1).

و أمّا المراد من الصحّة فهو الصحّة الشرعيّة لا الجعليّة ليكون الموضوع هو العقد الّذي وجد له بالفعل صحيح و فاسد، لا ما يفرض تارة صحيحا و اخرى فاسدا، إلى آخر ما في المتن.

ثمّ إنّ هذا كلّه في بيان معنى القاعدة: و أمّا المدرك لها فما يصلح للمدركيّة لها و لو في الجملة وجوه:

منها: الإجماع المنقول عن الجواهر (2) استظهاره على كلّ من طرفي


1- المكاسب: 102.
2- انظر جواهر الكلام 22: 258 و ج 25: 227.

ص: 478

القاعدة أصلا و عكسا.

و منها: الإقدام على ما يظهر من الشيخ (1) في كلّ من طرفي القاعدة أصلا و عكسا أيضا.

و منها: قاعدة اليد، كما صرّح به الشهيد (2) في طرف الأصل دون العكس.

و منها: قاعدة نفي الضرر و حرمة مال المسلم على ما احتمله الماتن قدس سرّه (3) في طرف الأصل دون العكس أيضا.

كما أنّ منها قاعدة الأولويّة الّتي تمسّك بها الشيخ (4) في طرف العكس دون الأصل.

فمجموع ما يحصل ما يصلح مدركا للقاعدة خمسة وجوه، و المشترك صلوحه لكلّ من طرفي القاعدة الإجماع و قاعدة الإقدام، و المختصّ بطرف الأصل قاعدتي اليد و نفي الضرر، و بطرف العكس الأولويّة، فالحاصل لطرف الأصل أربعة مدارك و لطرف العكس ثلاثة، و يحصل للقاعدة من ملاحظة ضمّ كلّ من مدارك أصلها الأربعة إلى كلّ من مدارك عكسها الثلاثة اثنتي عشر صورة، يتّحد مدرك الطرفين في بعضها، و يختلف في بعضها الآخر.

أمّا مدركيّة الإجماع المنقول استظهاره على كلّ من طرفي القاعدة ففيه: أنّ مسلّميّة كلّ من طرفي القاعدة في الجملة و إن كان ضروريّا بحيث لا يرتاب فيه جاهل فضلا عن عالم إلّا أنّ من المعلوم عدم انعقاد الإجماع على أصل القاعدة، لعدم وجودها في كلام من تقدّم على العلّامة، بل الإجماع إن كان فهو على مدرك القاعدة لا على نفس القاعدة.


1- انظر المبسوط 2: 149.
2- الظاهر أنّ مقصوده الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 4: 56.
3- المكاسب: 103.
4- لم نعثر عليه في مظانّه.

ص: 479

و أمّا الإقدام فهو و إن سلم مدركيّته لأصل القاعدة و عكسها في الجملة إلّا أنّ الماتن أورد على الإقدام.

أوّلا: بعدم تحصيل دليل له.

و ثانيا: بانتقاضه طردا و عكسا، و لكن لا ورود لشي ء من إيراديه، و يعلم ذلك من التعرّض أوّلا: لبيان معنى الإقدام. و ثانيا: لبيان دليله. و ثالثا: لبيان دفع موارد نقضه و مستثنياته.

فنقول: أمّا الإقدام في المقام فعبارة عن التواطي و التراضي الّذي يوقعه الشخص لشخص آخر على شي ء.

و أمّا الدليل على صحّة القيام بمقتضاه فمضافا إلى عموم «الناس مسلّطون على أموالهم» (1) و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ (2) و «طيب النفس» (3) قيام السيرة القطعيّة من لدن زمان المعصوم عليه السلام إلى يومنا هذا على مجرّد التواطي و التراضي في أكثر معاملاتهم، من غير اجتماع شروط العقد و لا المتعاقدين و لا العوضين بحيث يعدّون القيام بمقتضاه من الأمور الصحيحة الواقعيّة من غير نكير و لا شبهة تعرض لهم في صحّته، و ما هو إلّا من جهة تقرير المعصومين عليه السلام و إمضائهم، فإنّ عدم ردع المعصوم عن العمل المتداول في زمانه بما يقرب من تسعمائة سنة مع اطلاعهم به عادة و تمكّنهم من الردع دليل قطعي على إمضائه و تقريره إيّاهم، و إلّا لردعوا، و لو ردعوا لشاع و ذاع حتّى قرع الأسماع، مثل شياع الردع عن القمار و الربا و نحوهما، و إذ ليس فليس، بل الواجب على المعصوم عليه السّلام عدم الاكتفاء في الردع، سيّما عن الفعل المتداول عموم البلوى به بالحوالة إلى أصالة الحرمة، و القناعة عن التصريح بعموم و نحوه، بل لا بدّ له من المبالغة في الردع تصريحا


1- عوالي اللئالي 1: 222 ح 99.
2- النساء: 29.
3- الوسائل 3: 424 ب «3» من أبواب مكان المصلّي ح 1.

ص: 480

و تنصيصا في المحافل و المساجد و المجامع و المنابر حتّى يملئ الأسماع و يكثر الاطّلاع، حسما لمادّة العذر، و إتماما للحجّة الواجبة عليه من باب اللطف و التقريب إلى الطاعة و التبعيد عن المعصية لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيىٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ (1)، كما كان دأبهم و سجيّتهم على هذا المنوال في بيان أحكام الحرام و الحلال.

و ممّا ذكر ظهر الدليل للإقدام و قوّة ما حكاه شيخنا العلّامة دام ظلّه عن مفتاح الكرامة (2) من صحّة جميع ما يتواطؤ و يتراضى عليه الناس فيما بينهم من المعاملات و إن لم تجتمع لشي ء من شروط العقد كالإيجاب و القبول و العربيّة و الصراحة و التنجيز و الترتيب و الموالاة، و لا لشي ء من شروط العوضين كالتعيين و قابليّة المبيع للتمليك و غير ذلك، و لا لشي ء من شروط المتعاقدين كالبلوغ و العقل و الاختيار إلّا ما أخرجه الدليل من التواطي كما في القمار و الربا و النكاح.

لا نقول: بكفاية مجرّد الرضا في تحقّق عنوان العقد و ترتيب آثاره الخاصّة بعنوان العقد حتّى ينافيه فقد الشروط المقرّرة لكلّ من العقود المتداولة، بل إنّما نقول بكفاية مجرّد الرضا في إباحة ما تراضوا عليه المتراضيان، و إن لم يندرج تحت أحد عناوين العقود المضبوطة في كتب الفقهاء، و لم يترتّب عليه شي ء من الآثار الخاصّة بشي ء من تلك العناوين المضبوطة للعقود، بل كان معاملة مستقلّة بمقتضى أصالة عدم ترتّب شي ء من الآثار الخاصّة بعنوان أحد العقود، فإنّ ضبط العقود في عدد معيّن من جهة بيان الآثار الخاصّة بها شرعا، لا من جهة بيان انحصار الصحّة و الإباحة في الاندراج تحت شي ء منها.


1- الأنفال: 42.
2- مفتاح الكرامة 4: 159.

ص: 481

و كذا لا نقول: بكفاية رضا الصبي و المجنون في صحّة المعاملة مطلقا و لو لم يكن مميّزا، بل إنّما نقول بكفاية رضائه و إقدامه في موارد رضا العقلاء و رضا نفسه لو كان عاقلا بالغا، أو في مورد إحراز رضا الوليّ فيه من شاهد حال الناس و نحوه.

لا يقال: قد لا يكون للصبي و المجنون وليّ.

لأنّا نقول: لا يخلوان عن الوليّ، إذ لا أقل من وجود حاكم شرع إذا لم يكن لهما أب و لا جدّ و لا وصيّ، أو عدول المؤمنين إذا لم يكن مع ذلك حاكم شرع أو الإمام عليه السلام إذا لم [يكن] غيره.

و من هنا يظهر أيضا دفع وسوسة بعض الوسواسيين في معاملة الصبيان مطلقا حتّى في الأمور الحقيرة و لو كان الصبي مراهقا للبلوغ و أعقل من ابن سينا، و في مباشرة ما يتعلّق بالصبيان حتّى في مثل الدخول في دارهم و الجلوس هنيئة على فراشهم و لو لأجل التعزية و الفاتحة لأبيهم أو العيادة لأنفسهم، مع أنّه من موارد رضا العقلاء و رضا أنفسهم أيضا لو كانوا عقلاء، بل ربّما يكون في الاجتناب عن مثل قبول ضيافتهم و هديّاتهم اللائقة بحالهم فضلا عن مثل الدخول في دارهم أو الجلوس على فراشهم لأجل تعزيتهم أو عيادتهم أو إصلاح شأنهم نوع من الجفاء بحقّهم، المؤدّي إلى ترك المواصلة و المواجهة و الإفادة و الاستفادة المخالف لسيرة الناس و رضا العقلاء، الكاشفة عن تقرير المعصوم و رضائه بعد اطلاعه و عدم ردعه، فكما أنّ أكل أموال اليتامى ظلما و عدوانا حرام موبق عند الشرع و العقلاء كذلك الاجتناب التامّ عن كلّ ما يتعلّق بهم حتّى اللائق بحالهم بذله في تعزية أو ضيافة أو إصلاح شأن ربّما يعدّ جفاء و إهانة بحقّهم عند الشرع و العقلاء، سيّما إذا كانوا من ذوي الشئون و البيوت الّذين ينخفض شأنهم و ينكسر اعتبارهم بسدّ ذلك الباب عليهم.

ص: 482

و بالجملة: لا ينبغي للمكلّف التفريط في الاحتياط من جهة المؤدّي إلى خلاف الاحتياط من جهات، كما لا ينبغي الإفراط في مساهلة أمر الدين المؤدّي إلى عدم المبالاة باليقين، بل خير الأمور أوسطها.

و بالجملة: قد علم ممّا ذكرنا اندفاع ما أورده الماتن (1) على مدركية الاقدام لقاعدة الضمان بأن دليل الاقدام مطلب يحتاج الى دليل لم نحصله، لما عرفت (2) سبيل تحصيله من عموم الآيات و الأخبار و السيرة القطعيّة بأسهل ما يكون، و يزيد على سهولة تحصيل دليل الإقدام من تلك السبل ملاحظة انحصار سبيل تحصيل أدلّة سائر القواعد المقرّرة عند المتشرّعة في تلك السبل أيضا.

و إذا انجرّ إلى ها هنا الكلام فلا بأس في التعرّض لقاعدة الإعراض و إن كان خارجا عن المقام، لكونه كالضدّ للإقدام، إلّا أنّ الأشياء كما قد تعرف بأنظارها قد تعرف بأضدادها.

فنقول: الإعراض في المقام هو خلع علقة القلب عن المال، و عن أنوار الفقاهة تفسيره بإقالة الملك مع المالك الحقيقي، و لعلّه أضبط من حيث الطرد و العكس. و تمام الكلام في المرام يتمّ في ضمن التفصيل:

أوّلا: بتأسيس الأصل في بقاء ملكيّة المال المعرض عنه بعد تحقّق الإعراض و عدم بقائه.

و ثانيا: ببيان وجوب الدليل على خروج المعرض عنه عن ملك المعرض و عدمه.

و ثالثا: بتشخيص لحقوق المعرض عنه بالإباحات المالكيّة بعد الإعراض أو الشرعيّة.


1- المكاسب: 103.
2- في ص: 479- 480.

ص: 483

و رابعا: بتشخيص مبدأ خروج المعرض عنه عن ملك المعرض، و منتهى ملكيّة عن المعرض عنه على تقدير الخروج.

فالكلام إذن في مراحل:

أمّا المرحلة الاولى: فتفصيل الكلام في خروج المعرض عنه عن ملك مالكه بمجرّد الإعراض و عدمه راجع إلى الشكّ في مقدار قابليّة ملكيّة المالك للملك و استعداده، و أن ملكيّة المالك ملكه ملكيّة دائمة أو ما دام لم يحصل الإعراض، فإذا حصل خرج عن ملكه و دخل في المباحات الشرعيّة، فالمورد إذن من موارد استصحاب الكلّي المردّد بين ما هو باق جزما و ما هو مرتفع كذلك، المعبّر عنه في الأصول بالشكّ في الاستعداد، و الممثّل له باستصحاب كلّي الحيوان الدائر بين البقّ و الفيل إلى أطول زمان يمكن عيش الفيل فيه.

فالفاضل القميّ (1) قدس سرّه على منع صحّة استصحاب الكلّي المشكوك في استعداده، لبنائه على انحصار دليل حجّية الاستصحاب في الظنّ الحاصل من الغلبة، و انصراف أخبارها أيضا إلى موارد الظنّ و الغلبة، و من المعلوم عدم الظنّ و الغلبة في بقاء المشكوك المردّد بين ما هو باق جزما و ما هو مرتفع كذلك.

و من عداه كصاحب الفصول (2) و الماتن (3) قدس سرّه على الصحّة في أصولهما، اعتمادا في حجّية الاستصحاب على عموم أخبار «لا تنقض اليقين بالشكّ»، و منع انصرافها إلى موارد الظنّ و الغلبة، كما هو الأقرب إلى الظاهر.

و أمّا المرحلة الثانية: فتفصيل الكلام فيها: أنّ الإعراض إمّا أن يكون معلوم التحقّق بتصريح المعرض و نحوه، أو معلوم العدم كذلك، أو ظاهرا من حال المعرض أو من طرحه و الانصراف عنه أو مشكوكا. أمّا الإعراض المشكوك


1- قوانين الأصول 2: 70 و 73.
2- الفصول الغرويّة: 379.
3- فرائد الأصول: 371.

ص: 484

تحقّقه فكالمعلوم عدم تحقّقه بأصالة العدم. و أمّا المعلوم تحقّقه بتصريح و نحوه بل و كذا الظاهر من شاهد حال و نحوه فلا ريب في خروج المعرض عنه معه عن ملك المعرض و رجوعه إلى المباحات الّتي تتملّك بمجرّد الحيازة و القصد، و ذلك لقيام السيرة القطعيّة المستمرّة من زمن المعصوم إلى يومنا هذا على تملّك المسلمين المعرض عنه بمجرّد الحيازة و القصد و ترتيب آثار الملكيّة عليه، مستندين في ذلك إلى خروجه عن ملك المعرض و لحوقه بالمباحات، الّتي يكون الناس فيها شرع من غير نكير و لا شبهة منع، و هو كاشف قطعي عن تقريره عليه السّلام و رضائه، إذ لو لم يرض لردع، و لو ردع لشاع و ذاع حتّى قرع الأسماع، و إذ ليس فليس.

أمّا ملازمة عدم رضائه للردع فللزوم تبليغ الأحكام من باب اللطف و التقريب إلى الطاعة و التبعيد عن المعصية، و هو إن كان مشروطا باطلاع المعصوم من الطرق البشريّة و تمكّنه من الردع إلّا أنّهما محرزان فيما نحن فيه، لقضاء العادة باطلاع المعصومين عليه السلام على الأمر المتداول فعله و عموم البلوى به فيما يقرب من تسعمائة سنة. و أمّا تمكّنه فمضافا إلى أصالة عدم المانع منه معلوم العدم لعدم تقيّة و لا غيرها من الموانع، سيّما المانع المستوعب جميع ذلك الزمان الطويل، فإنّه أيضا من المحالات العاديّة المعلوم عدمه بقضاء العادة.

و أمّا ملازمة الردع للوصول إلينا فلتوفّر الدواعي و قضاء العادة به أيضا، و إذا كان الواجب عليه الردع عن كلّ ما لا يرضى به و لم نقف على صدور ردع منهم عليه السلام عمّا كان متداولا بين الناس مع تحقّق اطلاعهم عليه السلام به و تمكّنهم عليه السلام من الردع عنه كان ذلك كاشفا قطعيّا عن رضائهم به و إمضائهم إيّاه، سيّما فيما نحن فيه، فإنّه من أوضح موارد كاشفيّة السيرة عن تقرير المعصوم و رضائه، إلّا أن ينكر كاشفيّة السيرة رأسا في شي ء من موارد الفقه، كما لا يبعد عن دأب

ص: 485

الوساوسة، و إلّا ففي أيّ مورد من موارد الفقه إذا سلم فيه كاشفيّة السيرة فما نحن فيه أوضح منه.

و ممّا ذكرنا يعلم أنّ الأصل في كلّ سيرة هو الكاشفيّة عن الرضا و التقرير إلّا ما ثبت عند الردع القاطع للعذر، كما في التعرّض لإعراض الناس في غيابهم، و السبّ و السخرية و الاستهزاء في حضورهم، إلى غير ذلك من السيرات المعلوم ردع المعصومين عليه السلام عنها بأبلغ وجوه الردع، و استنادها إلى مجرّد المسامحة و عدم المبالاة في الدين، حتّى لو سئلوا الناس عن وجه سيرتهم لاعترفوا بتقصيرهم أو اعتذروا بما ليس عذرا، بخلاف ما لو سئلوا عن وجه سيرتهم على العمل الغير الثابت فيه ردع فإنّهم يجيبون بإصابتهم، و به الكفاية فارقا بين السيرتين، و مبطلا لمقايسة أحدهما بالآخر.

هذا كلّه مضافا إلى النصوص الدالّة أيضا على خروج المال عن ملك مالكه بالإعراض.

فمن النصوص ما وقفنا عليه في باب النوادر في باب القضاء و الأحكام من السرائر: و روى الحسين بن علي بن يقطين، عن أميّة بن عمر، عن الشعيري «قال:

سئل أبو عبد اللّٰه عليه السلام عن سفينة انكسرت في البحر فاخرج بعضه بالغوص و أخرج البحر بعض ما غرق فيها، فقال: أمّا ما أخرجه البحر فهو لأهله اللّٰه أخرجه، و أمّا ما اخرج بالغوص فهو له و هو أحقّ به» (1).

أقول: و لعلّ وجه الفرق عدم تحقّق الإعراض المخرج عن الملك فيما أخرجه البحر فهو لأصحابه، بخلاف ما تركه أصحابه آيسين منه، فإنّ الظاهر من شواهد الحال تحقّق إعراضهم عنه فهو لمن وجده و غاص عليه، لأنّه صار بمنزلة المباحات.


1- السرائر 2: 195.

ص: 486

و مثل هذا الخبر خبر آخر في السرائر أيضا «فيمن ترك بعيره من جهد في غير كلإ و ماء فهو لمن أخذه، لأنّه خلّاه آيسا منه و رفع يده عنه، فصار مباحا. ثمّ قال ابن إدريس: و ليس هذا يعني التعدّي عن مورد الخبرين قياسا، لأنّ مذهبنا ترك القياس، و إنّما هذا- يعني ذكر الغوص و البعير في مورد الخبرين- على جهة المثال، و المرجع فيه- يعني في التعدّي- إلى الإجماع و تواتر النصوص دون القياس و الاجتهاد. ثمّ قال: و على الخبرين إجماع أصحابنا منعقد» (1)، انتهى كلام السرائر، مشتملا على ما فيه كفاية و غنية للمستدلّ من دعوى الإجماع و تواتر النصوص.

هذا، مع ما يظهر للمتتبّع في سائر مطاوي كلماتهم و فتاويهم من كون خروج المعرض عنه عن ملك المعرض من المسلّمات الّتي لا نزاع لهم فيه، و أنّه إن كان لهم نزاع فهو في تشخيص الصغرى و هو تحقّق الإعراض ببعض شواهد الحال و عدمه، أو في تشخيص كون المعرض عنه بعد إباحته بالإعراض باقيا في ملك المعرض، ليكون من الإباحات المالكيّة المتقدّرة بقدر رضا المالك من التصرّف و أنواع التصرّف، أو خارجا عن أصل ملكه ليكون من الإباحات الشرعيّة المترتّب عليها جواز جميع التصرّفات المالكيّة، دون التقدير بقدر و لا التخصيص بنوع.

فلاحظ كلام العلّامة في باب المساقاة من التذكرة (2): فرع لو باع أحد شجرة واقعة في أرض مشاع بينه و بين غيره فقطع المشتري الشجرة و قطع أصوله و بقي بعض العروق الصغار الغير المعتنى به و نبت منها دوي و جاء آخر فربّاه حتّى صارت شجرة فهل هو من المشتري، أو من المحيز، أو من جميع الشركاء في


1- السرائر 2: 195.
2- تذكرة الفقهاء 2: 341.

ص: 487

الملك، أو من البائع الأوّل؟ الأظهر إن كان المحيز يسقي تلك العروق قبل نبات الدوي فهو مال المحيز إذا علم إعراض المشتري- كما هو ظاهر الحال- و إن ربّاها بعد نباته و صيرورته شيئا له ماليّة فهو مال المشتري، إلّا إذا علم منه الإعراض بعد النبات فمال المحيز، و أمّا الشركاء فلا حقّ لهم، لانقطاع الحقّ به.

و قال أيضا في باب المزارعة: «إذا زارع أحد في أرضه فسقط من حبّه شي ء و نبت في ملك صاحب الأرض عاما آخر فهو لصاحب الأرض عند علمائنا، و قال الشافعي: لأنّه عين ماله كما لو بذره قصدا، و قال أحمد: يكون لصاحب الأرض، لأنّ صاحب البذر قد أسقط حقّه بحكم العرف و زال ملكه عنه، لأنّ العادة ترك ذلك لمن حازه، و لهذا أبيح التقاطه و زرعه، و لا خلاف في إباحة التقاط ما رماه الحصاد من سنبل و حبّ، فجرى ذلك مجرى نبذه على سبيل الترك فصار كالشي ء التافه يسقط منه كالتمرة و اللقمة و النوى، و لا شكّ أنّه لو التقط النوى و غرسه كان له دون من سقط، و ليس بجيّد، لأنّ الحقّ و الملك يزولان بالإعراض، بل به و بالاستيلاء، فإذا لم يحصل الثاني و نبت الحبّ لم يكن من جملة ما تمثّل به» (1) انتهى.

و لكنّك قد عرفت من الأدلّة المتقدّمة كالسيرة و النصوص و الإجماع و التواتر المنقولين عن السرائر (2) ظهور كون الإباحة في المعرض عنه إباحة شرعيّة صادرة عن قبل الشارع على مجرّد تحقّق الأعراض، لا إباحة مالكيّة حتّى تقدّر بقدر رضا المالك من التصرّف و نوعه، و كون مبدأ تلك الإباحة الشرعيّة و منتهى ملكيّة المعرض عن المعرض عنه هو من حين تحقّق الإعراض و خلع علقة القلب عن المال، لا من حين استيلاء يد المتصرّف عليه بالتصرّفات


1- تذكرة الفقهاء 2: 340.
2- تقدّم ذكر مصدره في ص: 486.

ص: 488

المالكية و كون الإعراض الظاهر من شاهد الحال بمنزلة الإعراض المعلوم بتصريح و نحوه في الآثار و الأحكام. فراجع، فلا نطيل بإعادة الكلام، و أفراد كلّ بمقام. هذا كلّه في بيان دليل الإقدام و تقريب تحصيله، دفعا لما زعمه الماتن قدس سرّه (1) من عدم تحصيل دليله.

بقي الكلام في زعمه الآخر، و هو موارد نقضه و مستثنياته.

فمن جملة ما زعمه قدس سرّه من مستثنياته و موارد نقضه ما أشار إليه بقوله: «إذ قد يكون الإقدام موجودا و لا ضمان كما قبل القبض» (2).

و فيه أوّلا: منع وجود إقدام المشتري على ضمان المبيع و لو تلف قبل القبض حتّى يكون ذلك من موارد انفكاك الإقدام عن الضمان، بل الموجود إنّما هو إقدامه على ضمانه لو تلف بعد القبض لا مطلقا، و لهذا لو صرّح المشتري بضمان المبيع مطلقا ضمنه مطلقا و لو تلف قبل قبضه.

و ثانيا: سلّمنا دلالة نفس الشراء على اقدام المشتري على ضمان المبيع مطلقا، إلّا أنّ عدم ضمانه مع ذلك لو تلف قبل القبض إنّما هو للنصّ الخاصّ به، و لهذا لا يتعدّى عنه إلى عقد النكاح حيث إنّ الزوج يضمن صداق الزوجة و لو تلفت قبل تمكين نفسها منه، الّذي هو بمنزلة القبض.

و منها: ما أشار إليه بقوله: «و قد لا يكون إقدام في العقد الفاسد مع تحقّق الضمان، كما إذا شرط في عقد البيع ضمان المبيع على البائع إذا تلف في يد المشتري».

و فيه ما تقدّم في معنى قاعدة «كلّ عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» من أنّ ظاهر العبارة كون الموضوع هو العقد الّذي وجد له صحيح و فاسد بالفعل، لا


1- المكاسب: 103.
2- المكاسب: 102.

ص: 489

ما يفرض تارة صحيحا و اخرى فاسدا، فتخلّف الضمان عن الإقدام في المثال المذكور لا يوجب كون المثال من مستثنيات قاعدة «كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده»، لأنّ خروج المثال عن تحت القاعدة خروج موضوعي لا حكمي، و لا كونه من مستثنيات مضمنيّة الإقدام، لأنّ مضمنيّة الإقدام لا ينتقض عمومه بمضمنيّة غير الإقدام أيضا من اليد و الإتلاف و التسبيب، و كذلك تمثيله الآخر لتفكيك الضمان عن الإقدام بما إذا قال: «بعتك بلا ثمن» أو «أجرتك بلا ثمن» لا يعدّ من مستثنيات قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده». لأنّه إن أريد من البيع بلا ثمن البيع الحقيقي فهو و إن أوجب الضمان مع عدم الإقدام عليه إلّا أنّ خروجه عن القاعدة خروج اسمي لا حكمي، لعدم كونه ممّا له صحيح و فاسد بالفعل، بل هو فاسد فقط لتنافي ظاهر البيع لنفي الثمن. و إن أريد منه الإعارة مجازا بناء على قرينيّة نفي الثمن لصرف البيع إلى الإعارة فليس فيه ضمان حتّى يصلح مثالا لما مثّل به، لأنّ صحيح العارية لا يضمن فكيف فاسدها؟! و لعلّ تقوية الشهيد (1) عدم الضمان فيه ناظر إلى انصراف المثال إلى العارية، و إلّا فالضمان متوجّه لولاه بقاعدة اليد.

و من جملة ما يحتمل توهّم كونه من مستثنيات مضمنيّة الإقدام و موارد نقضه هو بيع الصبي و إقباضه المبيع حيث لا يضمن الصبي.

و يندفع هذا الوهم أيضا: بمنع عدم ضمان الصبي إذا كان مميّزا، و منع تحقّق إقدامه على الضمان إذا كان غير مميّز، ففيما يتحقّق إقدامه على الضمان لا ينفكّ عن الضمان، فيما ينفكّ عن الضمان لم يتحقّق فيه إقدامه عليه.

و من جملة ما يحتمل توهّم كونه من المستثنيات أيضا: هو صورة علم الدافع بفساد البيع مع جهل القابض حيث يزعم أنّ الدافع في هذه الصورة هو الّذي


1- تقدّم ذكر مصدره في هامش (2) ص: 478.

ص: 490

سلّطه عليه، و المفروض أنّ القابض جاهل، فيكون مغرورا فلا يضمن.

و يدفعه أيضا: أنّ دليل رجوع الغار على من غرّ إن لم يشمل المغرور بواسطة الجهل في الحكم- كما في الفرض- فلم ينفكّ الضمان عن الإقدام فيه، و إن كان يشمله كان عدم الضمان في المقام بواسطة حكومة قاعدة الغرر على قاعدة الإقدام، و من المعلوم أنّ تخريج بعض الموارد عن تحت القاعدة بواسطة حكومة دليل آخر لا يوجب انتقاض أصل القاعدة رأسا، كما أنّ تخريج بعض أفراد العامّ عن تحته لا يوجب سقوطه عن الحجّية في الباقي.

و لكنّ التحقيق اختصاص دليل رجوع المغرور إلى من غر بمن نشأ غروره عن الجهل بالموضوع دون الناشئ غروره عن الجهل بالحكم- كما فيما نحن فيه- إمّا من جهة عدم معذوريّة الجاهل بالحكم. و إمّا من جهة عدم صدق المغرور على الناشئ جهله من الجهل بالحكم الشرعي. و إمّا من جهة أنّ العبارة المذكورة- أعني: رجوع الغار إلى من غرّ- ليست برواية مسندة و لا مرفوعة، و إنّما هي معقد الإجماع، فيقتصر فيها على المتيقّن، و ليس لنا في قاعدة رجوع الغار إلى من غر سوى وقوع هذه العبارة معقد الإجماع، الكاشف عن وجود مدرك له رواية أخرى و لا حديث آخر إلّا قوله عليه السلام: «لا غرر في البيع» (1). و لعلّ هذا هو الوجه في عدم رجوع المغرور بأمنيّة الطريق المتلف للأموال مثلا إلى من غرّه.

و توضيح هذا بأزيد من ذلك يظهر من التعرّض لتفصيل الكلام أوّلا: في معنى الغرر، و ثانيا: في مدركه، و ثالثا: في تأسيس الأصل المعوّل عليه في موارد الشكّ و أفراده الخفيّة.

فنقول: أمّا معنى الغرر لغة فهو الخدعة، و في عرف المتشرّعة هو التسبيب


1- الوسائل 12: 330 ب «40» من أبواب آداب التجارة ح 3.

ص: 491

لغرامة شخص مال الغير أو لخسارته مال نفسه بإباحة مال عليه ليأكله أو بذل جارية ليطأها أو مركوب ليركبه، بزعم أنّه من مال المبيح ثمّ يستبان بعد الأكل و الوطء و الركوب أنّه من مال نفسه أو من مال ثالث فيغرمه، ثمّ يرجع في الخسارة و الغرامة إلى من غرّه.

ثمّ المعتبر في رجوع المغرور إلى الغار بل في صدق الغرور عرفا جهله بالغرر، و أن يكون جهله به مستندا إلى الجهل في الموضوع، كالجهل بكون المباح له مالا للمبيح. و أمّا إذا استند إلى الجهل في الحكم الشرعي- كالجهل بكون المقبوض بالبيع الفاسد ممّا يضمن القابض شرعا- أو الجهل بكون العقد بالفارسي مثلا فاسدا موجبا للضمان القابض به فلا يرجع المغرور إلى الغار، إمّا لعدم صدق الغرر حينئذ عرفا، أو للشكّ في صدقه عرفا فيرجع إلى أصالة عدم ضمان الغار شرعا، أو لعدم معذوريّة الجاهل في الأحكام شرعا، أو لعدم إطلاق دليل رجوع المغرور إلى الغار في هذا الفرض لكونه دليلا لبيّا يجب الاقتصار فيه على المتيقّن.

ثمّ و هل يعتبر في ضمان الغار قصده إدخال الخسارة و الغرامة على المغرور، أم لا يعتبر قصده ذلك بل يكفي في ضمانه مجرّد استناد الخسارة و الغرامة إليه و لو لم يقصده كما لو أباح له وطء جارية بظنّ أنّها له فبانت للغير؟

وجهان أظهرهما الثاني، لإطلاق الغرر على ما من شأنه الضرر و الغرامة و إن لم يقصده الغار.

نعم، يعتبر في رجوع المغرور إليه أن تكون الخسارة و الغرامة الداخلة عليه مستندة في العرف أو العادة إلى نفس الغرر، لا إلى سبب أقوى كالمباشرة و نحوه، و تشخيص الاستناد إليه عرفا و عدمه أمر يختلف باختلاف الموارد و الخصوصيّات، ففي بعضها الاستناد إلى نفس الغرر معلوم، كما في مثل إباحة

ص: 492

الجارية حيث يكون استناد الوطء عرفا و عادة إلى التغرية بإباحتها معلوم من العرف و العادة، بخلاف مثل الإخبار عن أمنيّة الطريق المخوف بوجود القطّاع فيه حيث إنّ استناد تلف مال المغرور بسلوك ذلك الطريق إلى نفس الغار عرفا و عادة، مع أنّ مباشرة السالك أقوى مشكوك، بل معلوم العدم، ففيما علم من العرف و العادة استناد الخسارة أو الغرامة إلى نفس الغرر لا إشكال في الرجوع إلى الغار، و فيما علم عدمه لا إشكال في عدمه، و فيما شكّ الاستناد إليه عرفا و عادة يرجع إلى أصالة أصالة العدم، أعني: عدم ضمان الغار خسارة المغرور و الغرامة الداخلة عليه.

و ممّا ذكرنا يعلم أنّ عدم ضمان الغار أو تأمّل العلماء في ضمانه في بعض الموارد راجع إلى عدم صدق الغرر، أو الشكّ في صدقه، أو لقصور دليله عن الإطلاق، أو لمعارضته بسبب أقوى، لا أنّه راجع إلى انتقاض أصل القاعدة، كما يتوهّمه القاصر عن فهم كلمات العلماء و الجمع بينهما، بل الظاهر أنّه لا مورد لانتقاض قاعدة «رجوع المغرور إلى من غرّ»، و لا لقاعدة التسبيب إلّا مورد الطبابة المخصّصة بدليل خاصّ، و هو قوله عليه السلام: «الطبيب ضامن و لو كان حاذقا» (1)، بل في ظنّي أنّي رأيت في بعض كتب الحديث للعلّامة المجلسي بعض ما يعارضه من الأخبار الدالّة على عدم ضمان الطبيب و إن ادّعى شيخنا العلّامة الشهرة على ضمانه بطبابة و لو لم يستند خطاءه إلى تقصير أصلا، و اللّٰه أعلم.

و من جملة ما لعلّه يتوهّم كونه من موارد نقض مضمنية الإقدام أيضا مسألة ضمان الأجير على خياطة ثوب- مثلا- إذا أفسد الثوب و لو كان حاذقا من غير تفريط، و الحال أنّه غير مقدم على الضمان، و لا متصرّف بيد العدوان، بل متصرّف بالإذن، و مع ذلك يحكم عليه بالضمان.


1- انظر الوسائل 19: 194 ب «24» من أبواب موجبات الضمان ح 1.

ص: 493

و يندفع أيضا هذا النقض نقضا: بمسألة ضمان الطبيب مع إذنه في الطبابة من قبل الشارع و ولي المريض، فبما يجيب يجاب.

و حلّا: بأنّه إن فسّرنا الإحسان من قوله تعالى مٰا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ (1) بما يضمن نفع الغير من الأفعال كالأمانة و الوديعة- كما عليه جماعة من الأصحاب- كان ضمان الأخير مع عدم إقدامه على الضمان من جهة أنّ مطلق الإذن له لمّا كان أعمّ من الإذن على وجه الاستيمان و الإذن على وجه الضمان و العامّ لا يدلّ على الخاصّ لم يوجب إخراج يد الأجير عن عموم قاعدة «على اليد» و إدخاله في يد المحسنين «الّذين ليس عليهم سبيل»، كما لم يوجب إخراج الطبيب عن قاعدة التسبيب و إدخاله في المحسنين أيضا.

و إن فسّرنا الإحسان بما لا حرج فيه و إن لم يشتمل على المنافع العائدة إلى الغير- كما استظهره شيخنا العلّامة دام ظلّه من عدم تعديته ب «إلى» في الآية (2)- كان مقتضى القاعدة عدم ضمانها، لاندراجهما عند عدم التفريط و التقصير المفروض في عموم «المحسنين الّذين ليس عليهم سبيل»، كما عليه جماعة من الفقهاء (3)، إلّا أنّ القائلين بضمانهما مع ذلك إنّما يستندون إلى الدليل الخاصّ المخرج- كعموم «الطبيب ضامن» و «الأجير ضامن»- لصورتي التفريط و عدمه.

و لعلّ الحكمة في ضمانهما ملاحظة الشارع وجود المصلحة العامّة القاضية لشدّة المحافظة على أموال الناس و نفوسهم، و ترك المسامحة و المساهلة المؤدّية إلى تلف النفوس و أموال الناس، فإنّ ملاحظة هذه المصلحة العامّة و شدّة الرأفة و الرحمة الكامنة تقتضي أن يكون إضمان الطبيب و الأجير حتّى عند عدم التفريط


1- التوبة: 91.
2- التوبة: 91.
3- المبسوط 3: 242، الكافي في الفقه: 347، المراسم: 196.

ص: 494

و التقصير أبقى للنفوس و الأموال، كما في مصلحة تشريع القصاص، لكونه أبقى للحياة.

و بالجملة: فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ الإذن المسقط للضمان ليس مطلق الإذن، بل المسقط هو خصوص الإذن المقصود منه الأمان بتنصيص المالك، كما في الأمانات و الودائع، أو بحكم الشارع، كما في مقبوضات الأجير و الصانع إذا أفسدت لا بسببهما، لاندراجهما في المحسنين و الأمناء شرعا.

و أمّا إذا أفسدت بسببهما كالقصار يخرق أو يحرق و الحجّام يحني في حجامته و الختان يختن فسبق موسه الحشفة و تجاوز حدّ الختان. فلو لا النصوص (1) الخاصّة الدالّة على ضمان الصانع و لو كان حاذقا و احتاط و اجتهد لأمكن اندراجهما في المحسنين و الأمناء أيضا، إلّا أنّه لا مناص عنها، بل قد حكي الإجماع عن المرتضى رحمة اللّٰه (2) على الضمان الأجير و الصانع المألوف، لا بسببهما و إن كان الإجماع على الضمان، لا بسبب ممنوع، لأصالة البراءة، و لكون يد الأجير و الصانع يد الأمانة إذا كان التلف لا بسببهما.

بقي الكلام في بيان أنّ الإذن المتعقّب للتصرّف فيما يحرم التصرّف فيه بلا إذن هل يؤثّر أثر الإذن المقارن للتصرّف في الأحكام الشرعيّة و هو الإباحة و سقوط العقاب، و في الأحكام الوضعيّة و هو صحّة التصرّفات الماضية من البيع و نحوه و سقوط ضمان المتصرّف فيه عنه؟ قولان: حكي الأوّل عن الجواهر (3).

و التحقيق في هذا الفرع أن يفصّل بين ما إذا كان دليل المشروط بالإذن و الرضا من التصرّفات لبّيا فلا يؤثّر الإذن المتعقّب أثر الإذن المقارن، سواء كان دليل الاشتراط لبّيا أيضا أم لفظيّا، للزوم الاقتصار على القدر المتيقّن من


1- تقدّم ذكر مصدره في ص: 492.
2- الانتصار: 225.
3- جواهر الكلام 22: 285.

ص: 495

المشروط اللبّي. و بين ما إذا كان دليل المشروط لفظيّا فيتمسّك بعمومه و إطلاقه على عدم اشتراط اقتران الإذن و الرضا بالتصرّف و لو كان دليل شرطيّة الإذن و الرضا لفظيّا؛ لأنّ إطلاق شرطيّة الإذن إذا لم ينفع مقتضى إطلاق دليل المشروط و هو عدم تقييد شرطيّة الشرط بالاقتران لا يضرّه شيئا.

هذا ما يقتضيه القاعدة، و لكن الإجماع قائم ظاهرا على حرمة التصرّف في مال الغير فعلا للعالم بتعقّب رضائه أو إرضائه، و على ضمان المتصرّف فيه و عدم صحّة التصرّفات الماضيّة فيه من البيع و نحوه.

ثمّ استظهار هذا الإجماع ليس من جهة توهّم استحالة تأخير الشرط عن المشروط و تأثير المتأخّر في المتقدّم حتّى يندفع بأنّ الشرط المتأخّر لا يؤثّر بنفسه في المشروط المتقدّم، بل المؤثّر في المشروط المتقدّم اعتبار لحوقه له، ككونه ممّا يتعقّبه الشرط، فالمؤثّر في المشروط المتقدّم هو كونه ممّا يتعقّبه الشرط لا نفس الشرط المتأخّر عنه حتّى يستحيله العقل، و لا ريب أنّ اتّصاف المشروط بما سيتحقّق أمر مقارن للمشروط، كاتّصافه بما قارنه من الشروط، بل استظهار الإجماع المذكور إنّما هو من مراجعة العقل المستقلّ بقبح الظلم، و كون التصرّف في مال الغير من دون رضائه ظلم و إن علم بأنّه سيحصل منه الرضا بالإرضاء أو غيره، و من مراجعة الأفهام المأنوسة بالفقه و الشرع، فإنّ من راجع وجدانه المأنوس بالفقه و الشرع قطع بحرمة وطء الزوجة المعقودة من دون الرضا و إن علم برضاها أو إرضائها فيما بعد، و كذا يقطع بحرمة أكل مال الناس، و بطلان الصلاة في ثوب الناس، أو الطهارة بماء الناس، إلى غير ذلك من الموارد الغير المقترن فيها التصرّف في أموال الناس بطيب النفس و إن علم المتصرّف بحصول الرضا و طيب النفس فيما بعد.

نعم، إن كان خلاف فهو في الاكتفاء بالرضا الشأنيّ المتقدّم فيه الكلام في

ص: 496

بعض تذنيبات المعاطاة بالتفصيل، و أمّا الرضا التعليقي المتأخّر حصوله عن التصرّف حقيقة فالظاهر الإجماع على عدم كفايته في إباحة التصرّفات المتقدّمة و صحّتها و سقوط ضمانها، بل غاية فائدة الرضا المتجدّد هو الإبراء و الصحّة و سقوط الضمان من حين التجدّد لا ممّا قبله.

فتلخّص من ذلك أنّ للإذن و الرضا و طيب النفس أقسام كثيرة و أحكام مختلفة فلا يشتبه عليك بعضها ببعض و انتظر لتمام البسط في أقسام الإذن و أحكامه إلى مسألة العقد الفضولي، فإنّ لتمام البسط فيها مجال أوسع.

و من جملة ما لعلّه يتوهّم أو توهّم كونه من مستثنيات قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده»: عقد النكاح حيث يضمن بصحيحه و لو لم يدخل و لا يضمن بفاسده إذا لم يدخل اتّفاقا، و كذا المكاتبة حيث يضمن بصحيحها و لا يضمن بفاسدها اتّفاقا، و كذا المسابقة يضمن بصحيحها و لا يضمن بفاسدها عند الشيخ (1) و المحقّق (2) و غيرهما، خلافا لآخرين.

و يندفع هذا الوهم أيضا مضافا إلى القول بأجرة السبق في المسابقة من جماعة: بأنّ المراد ممّا «يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» خصوص ما كان الضمان بصحيحه واقعا بالمطابقة في إزاء ما يعود نفعه من الغير إلى الضامن، دون ما لم يكن للضمان بصحيحه ما بإزاء أصلا كالإيقاعات، أو كان للضمان بالصحيح فيه ما بإزاء لكن لم يعد نفعه إلى الضمان كالسبق في المسابقة، أو عاد نفعه إلى الضامن لكن لم يكن من الغير كمال المكاتب- بالفتح- للمكاتب- بالكسر- حيث إنّ العوض و المعوض ملك السيّد، أو كان العائد إلى الضامن من منافع غيره لكن لم يكن الضمان واقعا بالمطابقة في إزائه، كما في عقد النكاح فإنّ ضمان الضامن


1- المبسوط 6: 302.
2- شرائع الإسلام 2: 286.

ص: 497

المهر بصحيحه ليس ناظرا إلى إزاء ما يعود إليه من منافع الزوجة، لعدم ازدياد المنافع العائدة منها إليه على المنافع العائدة منه إليها من التمتّع و غيره، بل الضمان للمهر نظره بالمطابقة إلى نوع من الهديّة و التحيّة و الإكرام، كما لا يخفى على اولي الأفهام، و لهذا لا يذكرون المهر في عقد النكاح بعنوان العوضيّة، بخلاف ثمن المبيع في عقد البيع. و أيضا لا يسترجع المهر بعد العقد لو تلفت الزوجة قبل التمكين منها، بخلاف ثمن المبيع فإنّه يسترجع إذا تلف المبيع قبل القبض:

فالفرق بين ثمن المبيع و المهر من حيث الناظريّة إلى العوضيّة و عدمه مع مشاركتهما في حصول العوضيّة لا محالة كالفرق بين دلالة الأخبار على النسبة الخارجيّة و عدم دلالة الإنشاء عليها مع مشاركتهما في ثبوت الخارج المطابق و اللامطابق لا محالة، و كالفرق بين التخصيص و الحكومة مع مشاركتهما في المفسريّة.

فتلخّص ممّا ذكرنا: أنّ جميع ما احتمل كونه من مستثنيات قاعدة الضمان و الإقدام و موارد نقضه إنّما يكون استثناء على تقدير التسليم من باب التخصّص لا التخصيص.

بقي الكلام في تحقيق الحال عن مستثنيات عكس قاعدة الضمان، أعني:

«ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده».

فمن جملة ما يزعم كونه من مستثنياته هو العين المستأجرة، حيث إنّ صحيح الإجارة لا يوجب ضمان العين المستأجرة و فاسدها يوجبه على ما عن الرياض (1) و مجمع البرهان (2).

و يندفع أيضا: بأنّ عدم ضمان العين المستأجرة بالعقد الصحيح إن كان من


1- رياض المسائل 6: 18.
2- مجمع الفائدة و البرهان 10: 68.

ص: 498

مقتضيات القاعدة- أعني: من مقتضيات التسليط على المنافع، بناء على أنّ التسليط على منافع العين تسليط على نفس العين، فالإذن فيها إذن في العين- كان ضمان العين المستأجرة بالعقد الفاسد ممنوعا، لكون المفروض أنّ الإذن في المنافع إذن في عينها، و اليد المأذونة يد محسن لا يد عدوان، بناء على أنّ الإحسان عبارة عمّا لا حرج فيه لا أنّه صفة زائدة عليه حتّى يختصّ بالأمانات و الودائع، و كانت قاعدة الضمان حينئذ غير مخصّصة و لا متخصّصة بالعين المستأجرة.

و إن كان عدم ضمان العين المستأجرة بالعقد الصحيح من مقتضيات الدليل الخارج عن القاعدة- أعني: الإجماع بناء على أنّ التسليط على منافع العين لا يقتضي التسليط على نفس العين، و الإذن فيها لا يقتضي الإذن فيه، بحيث لو لا قيام الإجماع على عدم ضمان العين المستأجرة بالعقد الصحيح لقلنا بالضمان فيه- كان ضمان العين المستأجرة بالعقد الفاسد مسلّما، إلّا أنّه خارج عن قاعدة «ما لا يضمن بالتخصّص لا التخصيص»، لأنّ المراد من المضمون مورد العقد و مورد العقد في الإجارة المنفعة، فالعين يرجع في حكمها إلى القواعد حسب ما أشار إليه المتن هذا هو الجواب.

و أمّا كون التسليط على المنفعة تسليط على عينها و عدمه فالتحقيق فيه التفصيل، و أنّه يختلف باختلاف العادة في الموارد، ففيما كانت العين المستأجرة من الأعيان الّتي يكون التسليط و الإذن فيها من لوازم التسليط و الإذن في استيفاء منافعها عادة- كالثياب و الألبسة- لم تضمن العين في فاسد الإجارة كما لم تضمن في صحيحها، و فيما كانت العين المستأجرة من الأعيان الّتي لم يكن التسليط و الإذن فيها من لوازم التسليط و الإذن في استيفاء منافعها- كما هو الغالب في استئجار السفن و دوابّ السفر- ضمن العين في صحيح الإجارة إذا أخذها بوجه

ص: 499

الإجارة لا بإذن آخر، فضلا عن الضمان في فاسدها، لكن لا لكون مجرّد الإذن لا يسقط الضمان، إلّا إذا كان على وجه الإيداع و الأمان، بل لأنّا و إن قلنا بكون مجرّد الإذن مسقط للضمان و مطلق ما لا حرج فيه داخل في الإحسان إلّا أنّ المفروض عدم حصول مجرّد الإذن أيضا في العين، نظرا إلى أنّ المفروض عدم كون الإذن في العين من لوازم الإذن في استيفاء المنفعة، و عدم حصول إذن آخر وراء دفع المؤجر العين، بناء منه على استحقاق المستأجر لها لحقّ الانتفاع فيه و المفروض عدم الاستحقاق، فيده عليه يد عدوان موجبة للضمان.

لا يقال: إنّ زعم المؤجر استحقاق المستأجر لها داعي للإذن و الرضا بأخذ العين، لا قيد للإذن و الرضا حتّى ينتفي المقيّد بانتفائه.

لأنّا نقول: زعم المؤجر استحقاق المستأجر لها لا يقتضي أزيد من الإذن المقيّد بالاستحقاق المنتفي بانتفائه، فالإذن المطلق الّذي لا ينتفي بانتفاء المقيّد يحتاج إلى مقتضى آخر و المفروض عدمه. و من التأمّل فيما ذكرنا تعرف دفع سائر المستثنيات المرقومة في المتن لقاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» أيضا، و اللّٰه العالم بحقائق أحكامه.

قوله: «يوجب ذلك تفكيكا في العبارة. فافهم».

[أقول:] إشارة إلى أنّ عدم التفكيك يستلزم استعمال الضمان في مقابل المجان، الأعمّ من تداركه بعوضه الواقعي و الجعلي كاستعمال الأمر من قوله:

«اغتسل للجمعة و الجنابة» في مطلق الطلب و لو مجازا، لئلّا يلزم التفكيك أو استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى.

قوله: «و تداركه (1) بردّ الثمن. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى ما تقدّم آنفا من أنّ تلف المبيع من بائعه و ردّ ثمنه إلى


1- في المكاسب: «و يتداركه».

ص: 500

صاحبه لا يطلق عليه الضمان و إن أطلق عليه الخسران و النقصان.

[الثاني من الأمور المتفرّعة على عدم تملّك المقبوض بالبيع الفاسد وجوب ردّه فورا إلى المالك]

قوله: «الثاني من الأمور المتفرّعة على عدم تملّك المقبوض [بالبيع الفاسد] وجوب ردّه».

أقول: بعد ما فرغ الماتن من تفريع الضمان على عدم تملّك المقبوض بالبيع الفاسد بقاعدة اليد و قاعدة الإقدام أخذ في بيان تفريع الأمر الثاني، و هو وجوب ردّه فورا، و الكلام تارة في فرعيّة وجوب الردّ فورا لعدم التملّك بالبيع الفاسد و عدم فرعيته له، و تارة أخرى في بيان أنّ مئونة الردّ على المشتري أو البائع.

أمّا الكلام في الأوّل فتفصيله: أنّهم اختلفوا في فوريّة وجوب ردّ المقبوض بالبيع الفاسد و عدمه على قولين.

و تحقيق الكلام فيه: أمّا من حيث الأصل العملي فمع عدم وجوب الردّ أخذا بأصالة البراءة لا يقال: بمعارضته بأصالة عدم وجوب المئونة على البائع و بأصالة براءة ذمّة البائع عن وجوب الاسترداد.

لأنّا نقول: مضافا إلى معارضتهما بأصالة عدم وجوبهما على المشتري لا يصلحان لمعارضة أصالة براءة ذمّة المشتري عن الردّ، و ذلك لأنّ أصالة عدم وجوب الاسترداد على البائع لا أثر له حتّى يصلح لمعارضة، ما له أثر من الأصول. و أمّا أصالة عدم وجوب المئونة عليه فلأنّه و إن كان له أثر إلّا أنّه من قبيل المحكوم و المزال بالنسبة إلى أصالة براءة ذمّة المشتري عن الردّ، فلا يصلح للمعارضة أيضا.

و أمّا من حيث الأصل اللفظي فمع وجوب الردّ على المشتري فورا للوجوه المرقومة في المتن الّتي منها عموم حذف المتعلّق المعبّر عنه بعموم المقتضي و المقتضى، لكونه من شئون دلالة الاقتضاء المستفاد من قوله: «لا يحلّ مال امرء

ص: 501

مسلم إلّا عن طيب نفسه» (1)، حيث يدلّ على تحريم جميع الأفعال المتعلّقة به الّتي منها كونه في يده.

إلّا أن يناقش أوّلا: بأنّ كونه في يده أمر عدمي ليس فعل من الأفعال.

و ثانيا: سلّمنا، لكنّه من الأفراد النادرة للأفعال المتعلّقة بمال الغير أو الأندرة منها، كالنظر إلى ماله أو تخيّل ماله فلا يشمله عموم حذف المتعلّق، كما لا يشمل النظر إلى مال الغير أو تخيّله، فإنّ عموم حذف المتعلّق كعموم التشبيه، و عموم المنزلة عموم حكمتي لا يتعدّى عن الأفراد الشائعة و الغالبة، و لكن للتأمّل في كون الكون في اليد من الأعدام لا الأفعال، بل و في كونه من الأفعال النادرة على تقدير فعليّته مجال واسع.

هذا، مضافا إلى أنّ في مجرّد الشهرة المحكيّة عن مجمع الفائدة (2) و فهم الأصحاب الكفاية في وجوب الردّ، و لا يعارضها نسبة الخلاف إلى الأصحاب في السرائر (3)، حيث قال: المقبوض بالبيع الفاسد بمنزلة المغصوب عند الأصحاب إلّا في الإمساك، لعدم ثبوت النسبة، و لاحتمال إرادة صورة الجهل بالفساد على تقدير ثبوتها أو صورة تعميم الإذن في القبض، كما يومئ إليه تعليله بذلك، و ديدنهم في التعاطي و التبادل على ذلك، بخلاف النسبة الاولى إلى الأصحاب فإنّه لا يحتمل فيها ما يحتمل في الثانية، فهي كالنصّ و الحاكم على النسبة الثانية في التقديم عليها على تقدير ثبوتها، بل لا يبعد التمسّك على وجوب الردّ أيضا ببناء العقلاء على إلزام الأخذ بردّ المأخوذ و إلزام القابض بردّ المقبوض، إلّا أنّ للتأمّل في ثبوته بل و في كشفه عن حكم العقل المستقلّ مجال واسع، بل منع واضح، لأنّ ديدن الناس و سيرتهم جارية في التعاطي و التقابض على تعميم الإذن


1- الوسائل 3: 424 ب «3» من أبواب مكان المصلّي ح 1.
2- مجمع الفائدة و البرهان 8: 193.
3- السرائر 2: 326.

ص: 502

في القبض، لا تخصيصه بصورة إمضاء الشارع له.

و أضعف من ذلك الاستدلال عليه بقوله عليه السلام: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» (1)، بناء على أنّ تقديره على اليد وجوب ردّ ما أخذت. و وجه أضعفيّته ما تقدّم من فساد مبناه و أنّ كلمة «على» إنّما تكون ظاهرة في الحكم التكليفي إذا أضيفت إلى فعل من أفعال المكلّفين، و أمّا إذا أضيفت إلى الأعيان- كما فيما نحن فيه- فهي ظاهرة في الحكم الوضعي و هو الضمان.

و أضعف من ذلك أيضا الاستدلال عليه ب «حتّى تؤدّي». ثمّ هذا كلّه في تشخيص وجوب الردّ على المشتري.

و أمّا تشخيص كون مئونة الردّ على المشتري أو البائع فممّا لا كلام و لا إشكال في تفريعه على فوريّة الردّ و عدمه، فإن قلنا بعدم فوريّة الردّ كانت المئونة على البائع، و إن قلنا بفوريّته- كما عرفت أنّه الأظهر الأشهر- كانت المئونة على المشتري، لدلالة وجوب كلّ شي ء على وجوب ما لا يتمّ إلّا به من المقدّمات و عدم وجوبه على عدم وجوبها.

لا يقال: إنّ وجوب مقدّمة الواجب خلافي، بل المشهور المنصور على عدم وجوبها.

لأنّا نقول: الخلاف إنّما هو في وجوبها الشرعي الاستقلالي، المترتّب عليه تعدّد الثواب و العقاب، و غير ذلك. و أمّا وجوبها العقلي التبعي المترتّب عليه اللابدّيّة و المطلوبيّة التبعيّة فممّا لا خلاف فيه و لا إشكال، بل هو من مستقلّات العقل.

نعم، قد يشكل في إطلاق وجوب مئونة الردّ على المشتري من جهة شمول «ما لو كان في ردّه مئونة كثيرة إلّا أن يقيّد بغيرها بأدلّة نفي الضرر»، كما


1- تقدّم ذكر في هامش (2) ص: 472.

ص: 503

قاله الماتن قدس سرّه (1)، إلّا أنّ في إطلاق التقييد بغيرها أيضا إشكال، من جهة شمول ما لو أوجب إدخال المئونة على المشتري الضرر الكثير به، فإنّ أدلّة نفي الضرر كما يقتضي نفي وجوب المئونة على المشتري إذا أوجب به الضرر كذلك يقتضي نفي وجوبها على البائع إذا أوجب به الضرر الكثير.

فالتحقيق في رفع الإشكال هو أن يقال: بوجوب مئونة الردّ على المشتري، إلّا إذا أوجب ردّه كثرة المئونة فتجب على البائع، إلّا إذا عورض بلزوم الضرر على البائع أيضا فيجب تحمّل أقلّ الضررين مع اختلافهما بالكثرة و القلّة، و مع التساوي القرعة أو الرجوع إلى المشتري، نظرا إلى أنّ أدلّة نفي الضرر عنه معارضة بأدلّة نفيه عن المشتري، فيتساقطان و يرجع إلى الأصل، و هو وجوب المئونة على المشتري من باب المقدّمة لوجوب الردّ عليه.

[الثالث أنه لو كان للعين المبتاعة منفعة استوفاها المشتري قبل الرد كان عليه عوضها]

قوله: «فنفي الضمان محتجّا بأنّ الخراج بالضمان» (2).

أقول: إنّ ما احتجّ به قاصر عن الحجّية سندا و دلالة، أمّا سندا فلكونه عاميّا مرسلا غير منجبر، و أمّا دلالة فلأنّ الباء و إن كانت للسببيّة و المقابلة إلّا أنّ الضمان فيه محتمل للضمان الجعلي و هو العوض الجعلي الّذي تراضوا به و أمضاه الشارع، كما في المضمون بالعقد الصحيح، و محتمل للضمان الواقعي و هو العوض الواقعي، أعني: المثل أو القيمة و إن لم يتراضيا عليه، و على كلّ من معنيي الضمان الجعلي و الواقعي يحتمل الضمان لضمان العين و لضمان المنافع فيحصل، لقوله عليه السلام: «الخراج بالضمان» (3) على تقدير صحّة سنده أربعة من المعاني:

أحدها: كون المنافع المستوفاة من العين بإزاء الضمان الجعلي المتعلّق بالعين، و يختصّ مجّانية المنافع بالعقد الصحيح المتعلّق بعينها ببيع و نحوه.


1- المكاسب: 104.
2- عوالي اللئالي 1: 219 ح 89.
3- عوالي اللئالي 1: 219 ح 89.

ص: 504

ثانيها: كون المنافع المستوفاة من العين بإزاء الضمان الجعلي المتعلّق بالمنافع بإجارة و نحوها، و إطلاق الضمان بهذا المعنى كثير التداول في لسان العرف فيقولون: فلان ضمن بستانا، و ضمن أرضا أو نهرا، و قلّ ما يقولون:

استأجر أرضا أو نهرا، و لا خلاف في صحّة الخراج بالضمان بكلّ من هذين المعنيين، إلّا أنّه لا ربط له بشي ء من المعنيين فيما نحن فيه.

و ثالثها: كون المنافع المستوفاة بإزاء الضمان الواقعي المتعلّق بالمنافع، و هو بهذا المعنى دليل ضمان عوض المنافع المستوفاة من العين المقبوض بالعقد الفاسد على المشتري لا دليل عدم ضمانها، كما توسّل به الوسيلة (1).

رابعها: كون المنافع المستوفاة من العين بإزاء ضمان العين بالضمان الواقعي، و هو بهذا المعنى و إن دلّ على عدم ضمان المنافع المستوفاة من العين المغصوبة فضلا عن المقبوضة بالبيع الفاسد إلّا أنّ حمله على هذا المعنى- مضافا إلى عدم ذهاب أحد من المسلمين إليه سوى أبي حنيفة (2)، و إلى ورد صحيحة أبي ولاد (3) و غيرها (4) على ردّه و طعنه- ليس بأولى من حمله على سائر المعاني الأخر، سيّما على المعنى الثالث، بل لو سلّمنا أولويّته كفى في انصرافه عنه و تعيين غيره من سائر المعاني الشهرة، بل الإجماع المحكي على ضمان المنافع المستوفاة.

قوله: «و إنّما تملّك الانتفاع الّذي عيّنه المالك. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى احتمال كون الخراج أعمّ من المنفعة و الاستنفاع، مضافا إلى ما في أصل الخبر من الضعف الغير المنجبر، و الفرق أنّ تمليك المنفعة يقبل


1- الوسيلة: 255.
2- المحلّى لابن حزم 8: 139، و الوسائل 13: 255 ب «17» من أبواب أحكام الإجارة ح 1.
3- الوسائل 13: 255 ب «17» من أبواب أحكام الإجارة ح 1.
4- الوسائل 13: 255 ب «17» من أبواب أحكام الإجارة ذيل ح 1.

ص: 505

النقل و الانتقال و التضمين و الضمان، كاستخدام الجارية و الاستمتاع منها، بخلاف الاستنفاع فإنّه لا يقبل النقل و الانتقال و التضمين و الضمان.

قوله: «و أمّا المنفعة الفائتة بغير استيفاء فالمشهور .. إلخ».

أقول: الكلام في تشخيص حكم المنفعة الفائتة من الضمان و عدمه يقع تارة في بيان أقوال المسألة و تعدادها و هي خمسة حسب ما تكفّل المتن تفصيلها، و تارة في تأسيس الأصل و هو مع القول بعدم الضمان مطلقا، و تارة ثالثة في بيان مدارك الأقوال و حججها و يتلوها بيان الترجيح و عدمه.

فنقول: أمّا حجّة القول بالضمان مطلقا فوجوه، أقواها عموم (1): «على اليد ما أخذت». و إشكال الماتن (2) في شمول الموصول للمنافع و في صدق الأخذ على حصولها في اليد بواسطة قبض العين لاستظهاره من الأخذ القبض بلا واسطة لا مع الواسطة مدفوع نقضا: بتحقّق قبض الثمن في السلم بقبض الجارية المجعول خدمتها ثمنا، و كذا الدار المجعول سكناها ثمنا، و باتّفاق الأصحاب على ضمان منافع المغصوب، فكذا منافع المقبوض بالبيع الفاسد إلّا أن يدّعي استناد تحقّق قبض الثمن بقبض الجارية المجعول خدمتها ثمنا، و استناد ضمان منافع المغصوب إلى الإجماع، لا إلى صدق الأخذ حتّى يتأتّى في منافع المقبوض بالبيع الفاسد، و لكنّه كما ترى.

و منها: إطلاق «لا يحلّ مال امرء مسلم إلّا عن طيب نفسه» (3) على إشكال الماتن، و دفعه بالنقض المتقدّم.

و منها: الشهرة على ما ادّعاها الماتن قدس سرّه، بل ادّعى شيخنا العلّامة أنّها شهرة


1- تقدّم ذكر مصدره في ص: 471.
2- المكاسب: 104.
3- تقدّم ذكر مصدره هامش (1) ص: 501.

ص: 506

عظيمة، و الإجماعان المنقولان عن العلّامة (1) و السرائر (2)، إلّا أن يدّعي بأنّ القدر المتيقّن من معقدهما ضمان المقبوض باليد الغاصبة، فلا يشمل يد المشتري فيما نحن فيه. و لكنّك خبير بأنّه خلاف ظاهر النقل، و بأنّ ضمان منافع المغصوب مستند إلى إطلاق «على اليد»، لا إلى الإجماع المخالف للقاعدة حتّى يقتصر على القدر المتيقّن من معقده.

و أمّا حجّة القول بعدم ضمانها مطلقا فهو أصل البراءة، و قد عرفت ورود الأدلّة المتقدّمة على خلافه، و كذا قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده»، و قد عرفت في معنى القاعدة أنّ مورد العقد هو العين لا المنافع و أنّ المنافع تابعة للعين في الضمان و عدمه. مضافا إلى أنّ القاعدة المذكورة ليست بإجماعيّة و لا من العناوين المنصوص بها الأخبار حتّى يتمسّك بإطلاقها، و كذا سكوت الأخبار الواردة في ضمان المنافع المستوفاة من العين المغصوبة عن المنافع الفائتة في مقام البيان. و فيه احتمال منع كون السكوت في مقام البيان، إذ لعلّه لأجل خلوّ موارد تلك الأخبار عن المنافع الفائتة، و اختصاص مواردها بالمنافع المستوفاة و لهذا سكت عن حكم غيرها.

و أمّا وجه التوقّف: فهو زعم تصادم الأدلّة، أو تصادم احتمال دلالتها لاحتمال عدم الدلالة، و قد عرفت منع تصادمها و عدم مقاومة وجوه عدم الضمان لوجوه الضمان.

و أمّا وجه التفصيل بين علم البائع بالفساد فلا يضمن و بين جهله فيضمن فلعلّه لأجل فرض علمه قرينة إطلاق إذنه في القبض، و لكن في قرينيّة مجرّد علمه لإطلاق إذنه منع إلّا بمعونة الخارج عن محلّ الفرض.


1- تذكرة الفقهاء 1: 495.
2- السرائر 2: 326.

ص: 507

فتلخّص من جميع ما ذكر: قوّة القول بالضمان المطلق لقوّة أدلّته، و اللّٰه أعلم.

[الرابع إذا تلف المبيع فإن كان مثليّا وجب مثله]

قوله: «الرابع: «إذا تلف المبيع فإن كان مثليّا وجب مثله .. إلخ».

أقول: تفصيل الكلام في المسألة يقع تارة في بيان مدرك تعيين المثل في المثليّ و القيمة في القيميّ، و تارة في تشخيص الضابط للمثليّ و القيميّ، و تارة ثالثة في تأسيس الأصل المعوّل عليه في الموارد المشكوك كونها مثليّة أو قيميّة.

أمّا الكلام في المرحلة الاولى فتفصيله: أنّه و إن لم يكن في النصوص حكم يتعلّق بعنوان المثليّ إلّا أنّه يكفي في اعتباره في المثليّات الشهرة و عدم نسبة الخلاف في اعتباره إلّا إلى الإسكافي (1). مضافا إلى الاستدلال في المبسوط (2) و المختلف (3) على ضمان المثليّ بالمثل و القيميّ بالقيمة بقوله تعالى:

فَمَنِ اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ (4).

بتقريب: أنّ مماثل ما اعتدى هو المثل في المثليّ و القيمة في القيميّ، و المناقشة بأنّ مدلولها اعتبار المماثلة في مقدار الاعتداء لا في المعتدي به- أعني: المماثلة في الكمّ لا الكيف- مدفوع: بعموم التشبيه و المنزلة، و عموم حذف المتعلّق المعبّر عنه بعموم المقتضى و المقتضي المفهوم بدلالة الاقتضاء. كما أنّ توهّم اختصاص حكم الآية بالمتلف عدوانا مدفوع بضميمة عدم القول بالفصل، على أنّه يمكن الاستدلال على ضمان المثل في المثلي و القيمة في


1- نقله عنه في مختلف الشيعة: 458.
2- المبسوط 3: 60.
3- كذا في النسخة الخطّيّة، و الظاهر أنّها الخلاف كما هو كذلك في المكاسب صريحا، و لأنّه لم نعثر على استدلاله بالآية في المختلف. المكاسب: 106، و انظر مختلف الشيعة: 458، الخلاف 3: 402.
4- البقرة: 194.

ص: 508

القيمي بالقاعدة المستفادة من بناء العقلاء، على أنّه متى تعذّر الشي ء المطلق قام مقامه الأقرب إليه فالأقرب. و من البيّن أنّ المثل أقرب من حيث الماليّة و الصفات إلى المثليّ بعد تعذّره بالتلف، ثم قيمة التالف من النقدين و شبههما أقرب من حيث الماليّة، لأنّ ما عداهما يلاحظ مساواته للتالف بعد إرجاعه إليهما، و لأجل الاتّكال على بناء العقلاء لا تكاد تظفر على مورد واحد من هذه الموارد على كثرتها قد نصّ الشارع فيه على ذكر المضمون به، بل كلّها إلّا ما شذّ و ندر قد أطلق فيها الضمان، فلو لا الاعتماد على ما هو المتعارف لم يحسن من الشارع إهماله في موارد البيان.

ثمّ إنّ مقتضى الاستدلال على ضمان المثل في المثليّ ببناء العقلاء كون المثليّ و القيميّ من الموضوعات الصرفة فلا يكفي في تشخيصها مطلق الظنّ حتّى عند الانسداديين. كما أنّ مقتضى الاستدلال عليه بالآية (1) هو كون المثليّ من الموضوعات المستنبطة المكتفي في تشخيصها مطلق الظنّ حتّى عند الانفتاحيين، بل و في الاكتفاء بالشهرة و الإجماع المنقول بعد البناء على حجّيتهما في عدّة من الموضوعات المستنبطة وجه قويّ.

و أمّا المرحلة الثانية: و هو تشخيص الضابط للمثليّ، فتفصيل الكلام فيه:

أنّه ليس المراد من المثليّ معناه اللغوي، إذ المراد بالمثل لغة المماثل، فإن أريد من جميع الجهات فغير منعكس، و إلّا فغير مطّرد، و ليس للمثليّ أيضا حقيقة شرعيّة كما هو واضح، و لا حقيقة متشرّعة، لاختلاف المتشرّعين في تعريفه بالمتساوي الأجزاء في الحقيقة النوعيّة، كما عن غاية المراد (2)، و في القيمة كما عن المشهور، و بزيادة عطف المنافع على الأجزاء كما عن الروضة (3)، أو بزيادة


1- البقرة: 194.
2- غاية المراد: 135.
3- الروضة البهية 7: 36.

ص: 509

عطف الصفات على المنافع كما عن السرائر (1)، أو تعريفه بما قدر بالكيل أو الوزن كما عن العامّة (2)، أو بزيادة جواز بيع بعضه ببعض كما عن آخر منهم، أو بزيادة جواز بيعه سلما، كما عن ثالث منهم، و المراد باجزائه ما يصدق عليه اسم الحقيقة، و بالمتساوي من حيث القيمة تساويها بالنسبة، بمعنى كون قيمة كلّ بعض بالنسبة إلى قيمة البعض الآخر كنسبة نفس البعضين من حيث المقدار إن نصفا فبالنصف، و إن ثلثا فبالثلث، و إن ربعا فبالربع، و هكذا يعني بالمتساوي الأجزاء في القيمة ما يتوزّع قيمة كلّه على قيمة كلّ واحد من أجزائه بنسبة ذلك الجزء إلى كلّه، بأن يكون قيمة الكلّ ليس بإزاء الهيئة المجموعة من الكلّ كالثوب، بل بإزاء كلّ واحد من أجزائه بالنسبة كالماء و الحنطة و الشعير دون الثوب و الأرض و البعير. هذا كلّه في بيان المراد من التعريف.

و أمّا صحّة ما أراد فمضافا إلى عدم اطّراد شي ء من التعاريف المذكورة و عدم انعكاسها حسب ما أشار إليه المتن لما يشتمل شي ء منها على تعريف المثليّ بذاتيّاته كالجنس و الفصل ليعدّ من الحدود في اصطلاح أهل الميزان، و لا بإعراضه الخاصّة الملازمة له كتعريف الإنسان بالضاحك ليعدّ من الرسوم، و لا بتبديل لفظ بلفظ أشهر ليعدّ من التعريف باللفظي عندهم، و إنّما هي من قبيل تعريف الشي ء ببعض لوازمه الخفيّة البعيدة، مع عدم الخلوّ عن العموم من وجه و الخصوص من وجه آخر، و المعذّر عنها أنّها تعريفات تقريبيّة لا تحقيقيّة كتعريف الشي ء بدفع بعض أضداده كتعريفك الإنسان بغير الصاهل أو بغير الناهق.

و كيف كان فالأقرب من جميع تلك التعاريف من حيث الجمع و المنع و الوضوح، بل و هو المظنون إرادته من كلّ التعاريف- وفاقا لما استظهره شيخنا


1- السرائر 2: 485.
2- روضة الطالبين 4: 108.

ص: 510

العلّامة منها- هو تعريف المثليّ بالمبذول أمثاله و أشباهه و إنظاره المتقاربة إليه في المنافع و الصفات المتفاوت بها الرغبات. و أمّا الصفات الغير المتفاوت بها الرغبات فالتفاوت بها غير قادح في مثليّة المثليّ و القيميّ بغير المبذول أمثاله و أشباهه المتقاربة إليه في المنافع و الصفات المذكورة كالثوب و الجارية و نحوهما، و ابتذال الأمثال و الأشباه المتقاربة للشي ء في الصفات المذكورة تارة يكون بجري عادته عليه تعالى كما في أكثر مصنوعاته و مخلوقاته تعالى من الماء و الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب و أمثالها، و تارة يكون بصنعة المخلوق الماهر في صناعته كما في كثير من مصنوعات أهل الصنائع الحادثة في أعصارنا كالكتب المبصومة ببصمة واحدة، إذ قلّ ما يتّفق بينها من التفاوت المختلف به الرغبات، و كذا الطوس و أمثاله المصوغة بقالب واحد و استاد واحد و كرخانة (1) واحدة، و لا فرق في الحكم بمثليّة المثليّ بين استناد ابتذال الأمثال إلى صنعة الخالق أو المخلوق، لإطلاق المثليّ و إن كان المتيقّن هو الأوّل.

قوله: «إلّا أنّ انطباق التعريف على الجنس بهذا الاعتبار بعيد جدّا».

[أقول:] وجه بعده: تسامحهم في الإطلاق بالمجاز و الحذف و الإضمار بما لا يتسامح به في التعريف و الانطباق المبنيّ على الاطّراد و الانعكاس و الجامع و المانع فقد يطلق المثليّ على الجنس باعتبار أنواعه و أصنافه ك «زيد عالم» أي أبوه، و «عصى آدم» أي بنية، بخلاف التعريف.

ثمّ و يساعد ما استظهرناه من كون المثليّ هو المبذول أمثاله و أشباهه المتقاربة في الصفات المذكورة فهم العرف من المثليّ ذلك، و بناء العرف و العقلاء في الضمان عليه و قضاء الحكمة الثابتة بالاستقراء و التتبّع في بناء الشارع على التسهيل و السهولة لا التضييق و المشقّة و الصعوبة له.


1- كذا في النسخة الخطيّة.

ص: 511

و من البيّن المقرّر في محلّه كفاية مطلق الظنّ في إثبات الموضوعات المستنبطة الّتي منها المثليّ فيما نحن فيه. فتدبّر.

و على ذلك و إن قل موارد الشكّ للمثليّ و القيميّ إلّا أنّه مع ذلك لا يخلو عن موارد الشكّ رأسا، بل له أيضا موارد شكّ اختلفت فيها آراء الأصحاب، كالرطب و العنب و سائر الفواكه و الذهب و الفضّة و الحديد و الرصاص و النحاس، بل و الثياب.

فإنّ مقتضى ما استظهرناه و استقر بناه في ضابط المثليّ و القيميّ و إن كان هو مثليّة كلّ ما ابتذل أمثاله و أشباهه في الصفات الغير المتفاوت بها الرغبات من الأمثلة المذكورة المختلف فيها آراء الأصحاب، إلّا أنّه مع ذلك ربما يشكّ في مثليّة بعض أفراد صنف من أصناف الفواكه أو الذهب أو الفضّة أو النحاس أو الحديد أو الرصاص أو الثياب بالنسبة إلى سائر أفراده الأخر المندرجة كلّها في صنف واحد، بواسطة اختلاف أوصاف تلك الأفراد بالوصف المتفاوت به الرغبات و إن اندرجت في صنف واحد، بل ربما يشكّ في مثليّة بعض أفراد صنف واحد من أصناف الحنطة أو الشعير أو الماء، لاختلافها ببعض ما يتفاوت به الرغبات في الصفات و لو باختلاف الزمان و المكان، مع اتّفاقهم على أنّ كلّ صنف من أصناف نوع واحد من أنواع الشعير و الحنطة و الماء، بل كلّ نوع من أنواع جنس واحد من الأجناس الثلاثة مثليّ بالنسبة إلى سائر أفراد ذلك الصنف أو النوع، و كذا قد يشكّ في قيميّة بعض أفراد الجواري و الثياب و الدوابّ بالنسبة إلى سائر أفرادها الأخر المندرجة كلّها في نوع واحد أو صنف واحد، بواسطة عدم تفاوتها أو عدم تفاوت الرغبة بتفاوتها من شدّة المماثلة و الاتّحاد، مع اتّفاقهم على قيميّة الجواري و الدوابّ، بل و الثياب.

إذا عرفت ذلك فلا بدّ من بيان المرجع لموارد الشكّ في المثليّة و القيميّة،

ص: 512

و هو المرحلة الثالثة الموعود عليها.

فنقول في تفصيلها: إنّه إن تمّ الاستدلال بالآية (1) المذكورة على ضمان المثل في المثليّ كان المرجع في موارد الشكّ في المثليّة إلى عموم الآية، بناء على ما هو الحقّ المحقّق في محلّه من أنّ العامّ المخصّص بالمجمل المفهوميّ المردّد بين الأقلّ و الأكثر لا يخرج عن الحجيّة بالنسبة إلى موارد الشكّ.

و إن لم يتمّ الاستدلال بالآية عليه بأن انحصر الاستدلال عليه في الشهرة و الإجماع المنقول أو بناء العقلاء، أو تمّ الاستدلال بها لكن لم نقل بعموم العامّ المخصّص بالمجمل، ففي كون المرجع في موارد الشكّ إلى براءة ذمّة الضامن عن تعيين المثلي عليه، أو إلى أصالة اشتغال ذمّته بما يرضى به المالك، أو إلى تخيير الضامن أو الحاكم بالتخيير الاجتهادي نظرا إلى إطلاق أدلّة الضمان، أو الفقاهتي نظرا إلى دوران الأمر بين المحذورين. وجوه، أوجهها الاشتغال لحكومته على البراءة، لدوران المضمون به فيما نحن فيه بين المتبائنين لا بين الأقلّ و الأكثر، كما هو واضح، و على التخيير، لأنّ الاجتهادي منه مفقود لعدم إطلاق لأدلّة الضمان، و الفقاهتي منه محكوم لأدلّة الاشتغال، و لعلّ هذا هو وجه تأمّل المصنّف (2) في التخيير بعد توجيهه.

نعم، يمكن أن يقال: إنّ الأصل في المضمونات القيمة إلّا ما خرج بالدليل، لأنّ القيمة أقرب إلى الضبط و الانضباط من المثل، و هي الّتي توازي و تقابل ماليّة العين و ماليّة كلّ وصف من أوصافها، و من ديدن الشارع جعل المدار في أحكامه على الأضبط فالأضبط، كما هو واضح على المتتبع الخبير، و لكن في أضبطيّة القيمة، بل و في تقديم مراعاة الانضباط على مراعاة حقوق الناس الموافق للعقل


1- البقرة: 194.
2- المكاسب: 106.

ص: 513

و الاحتياط مجال للتأمّل و الانبساط.

و يمكن أن يقال أيضا: إن الأصل في المضمونات القيمة إلّا ما خرج بالدليل من جهة أخرى، أعني: من جهة أنّ الغالب تعلّق الضمان بإتلاف الماليّات دون المثليّات. ألا ترى أنّ إتلاف أعراض الناس بالاغتياب أو الاتّهام أو الاستهزاء أو الشتم لا يوجب الضمان بالمثل؟ مع أنّ لكلّ من الاغتياب و الاتّهام و الاستهزاء و الشتم مثل مثيل، و كذا الفجور بالناس بوطء أو لمس أو تقبيل أو نظر لا يوجب الضمان بالمثل و إن كان له بإزائه مثل مثيل، و ليس ذلك إلّا من جهة عدم تعلّق الضمان بالماليّات، و إن لم يكن لها مثل فاعتبار المثليّة في الضمان أمر زائد يحتاج إلى دليل خارج، ففيما ثبت أخذ به، و فيما لم يثبت كان المرجع إلى الأصل، و هو غلبة تعلّق الضمان بالمال، و لكن في مرجعيّة تلك الغلبة و حجّيتها مجال للمقال على تقدير تسليم أصلها بلا إشكال، و اللّٰه أعلم بحقيقة الحال.

قوله: «مع الاختلاف الحق بالقيميّ، فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى منعه بأنّ مقتضى أقربيّة المثل إلى التالف إلحاقه بالمثليّ مطلقا و مقتضى عموم (1) اليد و قاعدة «الاشتغال تخيير المالك مطلقا»، فلا وجه لإلحاقه بالقيميّ.

[الخامس ذكر في القواعد أنّه لو لم يوجد المثليّ إلّا بأكثر من ثمن المثل ففي وجوب الشراء تردّد]

قال طاب ثراه: «الخامس: ذكر في القواعد (2) أنّه لو لم يوجد المثليّ (3) إلّا بأكثر من ثمن المثل، ففي وجوب الشراء تردّد».

أقول: الكلام تارة في تصوير صور الترديد، و تارة في تشخيص السديد منها عن غير السديد.

فنقول: أمّا صور الترديد المحتملة عقلا من القريب و البعيد فيجمعها


1- تقدّم ذكر مصدره في ص: 479.
2- قواعد الأحكام 1: 204.
3- في المكاسب: «المثل».

ص: 514

احتمال كون المستقرّ في الذمّة هو عين المتلوف، أو مثله، أو قيمته. و على الأخير احتمال كون المستقرّ في الذمّة هو قيمة يوم القبض، أو يوم تلف المقبوض، أو يوم الإعواز، أو يوم مطالبته، أو يوم دفعه و أدائه، أو أعلى قيمتي يومي القبض و التلف، أو يومي القبض و الإعواز، أو يومي القبض و المطالبة، أو يومي القبض و الدفع، أو يومي التلف و الإعواز، أو يومي التلف و المطالبة. هذا مجموع صور الترديد و إن خلا بعضها عن قائل و مريد و لكلّ وجه جديد، سيأتي عن قريب لا بعيد، فيمتاز السديد منها عن غير السديد.

[السادس لو تعذّر المثل في المثليّ]
اشارة

قال طاب ثراه: «لو تعذّر المثل في المثليّ .. إلخ».

أقول: تفصيل الكلام في المسألة ينبغي أن يقع أوّلا: في محلّ النزاع.

و ثانيا: في بيان الصور المحتملة و الأقوال المختلفة فيها. و ثالثا: في بيان وجوه الصور و الأقوال، ثمّ بيان حقيقة الحال. و رابعا: في بيان ضابط التعذّر و عدم التعذّر.

فنقول: أمّا تحرير محلّ النزاع فتفصيل الكلام فيه: أنّ الظاهر عدم النزاع في تعيين وجوب قيمة المتعذّر مثله من المثليّات في صورة مطالبة المالك، لأنّ منع المالك ظلم و إلزام الضامن بالمثل منفيّ بالتعذّر، فوجب القيمة، جمعا بين الحقّين. و إنّما النزاع في أمرين آخرين:

أحدهما: في أنّه في صورة عدم مطالبة المالك هل يجوز للضامن دفع قيمة المتعذّر إلى المالك تخليصا لذمّته عن ربقة الدين و لو استدعى المالك انتظار وجود المثل فيمهله حتّى يوجد المثل فيستوفي المثل منه، أم لا يجوز له دفع قيمة المتعذّر إلى المالك مع إمهاله و انتظاره أو ان وجود المثل، أم التفصيل بين المتعذّر مثله في ابتداء تلفه فينقلب بعد التلف إلى القيمة و بين المتيسّر مثله في بعض أزمنة التلف ثمّ طرأ تعذّره بعد ذلك فلا ينقلب إلى القيمة بل يبقى على صفة المثل إلى

ص: 515

زمان مطالبة المالك؟

وجوه، بل أقوال، مال إلى التفصيل شيخنا الجليل، أخذا بالأصل الأصيل، و هو براءة ذمّة الضامن عن التقبيل للتمثيل، و لعلّه عليل بأنّه ليس عن الاشتغال سبيل، لكن لا لما عن الفاضل التوني «رحمه اللّٰه» (1) من منع جريان البراءة في حقوق الناس، و لا لما عن صاحب الإشارات من منع جريان أدلّة البراءة في مضمون الخطاب المجمل، أعني: فيما كان الشكّ ناشئا من إجمال الخطاب المأمور به، بل إنّما هو لأجل دوران المضمون به فيما نحن فيه بين المتبائنين لا بين الأقلّ و الأكثر.

قوله: «عبّر بعضهم بيوم الدفع. فتأمّل (2)».

[أقول:] إشارة إلى أنّ اعتبار القيمة في المثليّ المتعذّر يوم المطالبة أو يوم الدفع لا يقتضي عدم إلزام المالك بقبول القيمة قبل المطالبة، إلّا إذا أريد من القيمة قيمة مثل المثليّ المتعذّر، و أمّا لو أريد قيمة ثمنية المتعذّر كما هو الحقّ- فيقتضي إلزام المالك بقبول القيمة مطلقا و لو لم يطالبه، كما كان يجب عليه قبول العين قبل تلفه، و المثل قبل تعذّره مطلقا و لو لم يطالبه.

و الخلاف الآخر في أنّه على تقدير تعيين دفع القيمة هل يتعيّن قيمة يوم الغصب، أو يوم الإتلاف، أو يوم الإعواز أو يوم المطالبة، أو يوم الأداء، أو أعلى القيم من يوم الغصب إلى يوم الإتلاف، أو الى يوم الإعواز، أو إلى يوم المطالبة، أو إلى يوم الأداء، أو من يوم الإتلاف إلى أحد ما يليه من سائر الأيّام الثلاثة، أو من يوم الإعواز إلى سائر ما يليه من يومي المطالبة و الأداء، أو من يوم المطالبة إلى يوم الأداء؟ وجوه، بل أقوال، و إذا ضممت إليها سائر وجوه التركيب الثلاثيّة


1- الوافية: 193.
2- في المكاسب: «فليتأمّل».

ص: 516

من يوم الغصب و الإتلاف إلى الإعواز مثلا تضاعفت الوجوه. و يظهر وجاهة الوجيه منها و عدمه من مقدّمات:

الاولى: أنّ القيمة المدفوعة إلى المالك هل هي قيمة عين المثليّ المتلوف، أم قيمة مثله المتعذّر؟ وجهان: أقواهما الأوّل، لعدم الدليل و المقتضي لحيلولة المثليّ بعد التلف إلى غير ما هو المدفوع فعلا بعوضه. و منه ينقدح ضعف اعتبار قيمة يوم إعواز المثل، و كذا ضعف التفصيل بين المتيسّر مثله في بعض أزمنة التلف فلا ينقلب إلى القيمة، و بين المتعذّر مثله من ابتداء تلفه فينقلب إلى القيمة.

قوله: «فيجب أعلى القيم منها. فافهم».

[أقول:] إشارة إلى ضعفه لرجوع الضمان بأعلى القيم إلى ضمان العين معلّق له على علوّ القيمة المحتملة للتحقّق و العدم، و قد عرفت أنّ العبرة في الضمانات على التنجيز لا التعليقات، و أن تجدّد ارتفاع قيمة المتلوف بعد الغصب و التلف لا يدخل في الضمان أيضا، إلّا على ما استظهره الفاضل التوني (1) عن قاعدة «لا ضرر و لا ضرار»، و هو بمعزل عن الظهور في المشهور.

و من ذلك أيضا ينقدح ضعف اعتبار قيمة يوم الغصب، لأنّ ضمان الشي ء يوم غصبه ضمان شأني معلّق على تقدير تلفه، إذ الواجب فعلا قبل التلف هو ردّ العين لا ضمانه حتّى يكون العبرة بحاله.

و كذا ينقدح ضعف اعتبار قيمة يوم التلف إذا لم يصادفه يوم الإعواز، لأنّ ضمان المثليّ يوم تلفه بالقيمة أيضا ضمان شأنيّ معلّق على تقدير إعواز مثله في ذلك اليوم المفروض عدمه.

نعم، ضمان القيميّ يوم تلفه ضمان فعليّ منجّز إذا قلنا بأنّ القيمي مضمون بالقيمة، و إلّا كان حاله حال المثليّ في عدم اعتبار قيمة يوم التلف.


1- الوافية: 194.

ص: 517

و كذا ينقدح أنّ العبرة في القيمة في المثليّ ليست بيوم الإعواز، لأنّ ضمان قيمة المثليّ فيه أيضا ضمان شأنيّ معلّق على تقرير المطالبة، المفروض تأخّرها عنه، و ذلك لعدم الدليل و المقتضي لحيولة المثليّ المستقرّ في الذمّة إلى القيمة بمجرّد إعواز مثله، مع كون الأصل عدمه سوى وجوب الأداء، و هو غير منحصر بحسب المكنة في القيمة حتّى ينحل إليها، للتمكّن من الاستبراء أو الاستمهال إلى زمان تيسّر المثل، و لا بقيمة يوم المطالبة، لأنّ الضمان في يوم المطالبة أيضا شأنيّ معلّق على تقدير الأداء المفروض تأخيره عنه. فتعيّن أن يكون العبرة في ضمان المثليّ المتعذّر مثله بقيمة يوم الأداء و الدفع، فإنّ انحلال المثليّ المستقرّ مثله في الذمّة إلى القيمة لا دليل عليه في شي ء من الأيّام إلّا الجري على مذهب العدليّة من قبح التكليف بما لا يطاق، و هو لا يتحقّق فعلا إلّا أن يكلّف الضامن بالمثل في يوم الأداء دون تكليفه به في ما قبله من سائر الأيّام، فإنّ قبح التكليف بما لا يطاق فيها قبح شأنيّ معلّق على تقدير الأداء المفروض عدم تحقّقه و لا ضير فيه، كما لا يخفى.

بقي الكلام في تشخيص كون المناط في انتقال المثليّ إلى القيمة هل هو تعذّر مثله كما هو المعبّر به في كلام بعضهم، أو هو التعسّر كما هو ظاهر المعبّرين بالإعواز؟ وجهان، و قضية الأخذ بالمتيقّن هو الرجوع إلى الأخصّ و هو المتعذّر، لأنّه المجمع عليه و المتيقّن منه. ثمّ المراد من التعذّر هل هو التعذّر العقليّ- كما استقربه الماتن (1) طاب ثراه- و هو أن لا يوجد المثل في العالم بحيث لو وجد في قطر من أقطاره وجب تحصيله و لو أدّى إلى صرف مئونة كثيرة كما كان يجب ردّ العين أين ما كانت و لو توقّف على صرف مئونة كثيرة؟ أو المراد من التعذّر أن لا


1- المكاسب: 108.

ص: 518

يوجد في البلد و ما حوله؟ كما عن التذكرة (1)، و زاد في المسالك (2) قوله: ممّا ينقل عادة إليه؟ كما ذكروا في انقطاع المسلم فيه، و عن جامع المقاصد (3) الرجوع فيه إلى العرف؟ و استقربه شيخنا العلّامة مستظهرا إيّاه من فتوى العلماء و من الحدس و شمّ الفقاهة، بل ربّما يونسه تفسير تعذّر الماء المجوّز للتيمّم بالتعذّر العرفي لا العقليّ و تفسير الاستطاعة في الحجّ بالعرفي، و ما ورد في بعض الأخبار (4) السلم أنّه إذا لم يقدر المسلّم إلى على إيفاء المسلّم فيه تخيّر المشتري، و من المعلوم أنّ المراد بعدم القدرة ليس التعذّر العقليّ المتوقّف على استحالة النقل من بلد آخر، بل الظاهر منه عرفا ما عن التذكرة (5)، و لكن يبعده مع ذلك عدم وقوع التعذّر فيما نحن فيه في معقد إجماع و لا نصّ، كوقوعه في سائر الموارد المذكورة حتّى يكون من الموضوعات المستنبطة الّتي يكون المرجع في تشخيصها إلى عرف الشارع لو كان له فيها عرف خاصّ، و إلّا فإلى العرف العامّ إن شخّص به، و إلّا فإلى مطلق الظنّ المشخّص له.

أقول: و على ذلك فمقتضى القاعدة المعاضدة بالاشتغال هو ما استقر به الماتن (6) طاب ثراه من حمل التعذّر على التعذّر العقليّ، و يؤيّده أيضا انحصار وجه رجوع المثليّ بعد التعذّر إلى القيمة في الدليل العقليّ، و هو استحالة التكليف بما لا يطاق، و معلوم أنّ مجرّد تعذّر المثليّ عرفا لا يخرجه عن الطاقة، فلا مخرج له عن التكليف المستقرّ، إلّا أن يقال: بأنّ في تحمّله الضرر الكثير فينفى


1- تذكرة الفقهاء 2: 383.
2- مسالك الافهام 12: 183.
3- جامع المقاصد 6: 245.
4- الوسائل 13: 54 ب (11) من أبواب السلف.
5- تذكرة الفقهاء 2: 383.
6- المكاسب: 108.

ص: 519

بقاعدة «لا ضرر»، و لعلّه الأظهر، كما هو الأشهر، وفاقا لشيخنا الأكبر، دامت علينا إفاداته في كلّ محفل و محضر.

قوله: «و فيه تأمّل».

[أقول:] وجه التأمّل: إمّا في الملازمة فلإمكان أن يكون سقوط المثل في المثليّ المتعذّر و انقلابه قيميّا مراعى بعدم الظفر بمثله أو أدائه قبل الظفر به. و إمّا في بطلان اللازم فلاستصحاب سقوطه السابق على الظفر به.

الثانية: أنّ مضمونيّة المغصوب هل هي تابعة لضمانه الفعليّ التنجيزي، أم لضمانه الشأني التعليقي؟ وجهان، أقربهما إلى الاعتبار و الآثار هو الأول لا الثاني. و منه ينقدح ضعف اعتبار جميع صور أعلى القيم من يوم الغصب إلى أحد سائر الأيّام التالية الأربعة ثنائيّة و ثلاثيّة.

قوله: «فالظاهر (1) هو الأوّل، لكن مع فرض وجوده بحيث يرغب في بيعه .. إلخ».

أقول: إن كان المدار في معنى التعذّر الموجب لرجوع المثلي إلى القيمة هو التعذّر العقلي- كما بنى عليه آنفا، و يقتضيه استصحاب الاشتغال أيضا- فلا وجه للتقييد وجود المثل بقوله: «لكن مع فرض وجوده بحيث يرغب في بيعه».

و إن كان المدار على التعذر العرفي- أخذا بأصالة البراءة، و استئناسا بشمّ الفقاهة و بسائر موارد التعذّر في الأحكام الشرعيّة، و قاعدة «لا ضرر و لا ضرار»- فلا وجه لاستظهار الوجه الأوّل، بل كان ينبغي على ذلك استظهار الوجه الثاني أو الثالث، و هو فرض الوجود المتوسّط لا أوّل زمان الوجود و لا آخره، و هو الذي ارتضاه شيخنا العلّامة، كما ارتضى في أصل التعذّر التعذّر العرفي أيضا.


1- في المكاسب: الظاهر.

ص: 520

قوله: «و فصّل الشيخ .. إلخ» (1).

أقول: تفصيل الشيخ «قدس سرّه» و إن قرب في الجملة إلى الاعتبار، لكن الظاهر عراؤه- كعراء غيره من سائر الأقوال- عن الآثار في شي ء من النصوص و الأخبار. و على ذلك فالمتعيّن مرجعيّة الأصول في المسألة، أعني البراءة المقتضية أدنى قيمتي بلد التلف و المطالبة، كما هو المرضي، وفاقا لشيخنا العلّامة في كلّ ما دار الشكّ بين الأقل و الأكثر الغير الارتباطي، لرجوعه إلى العلم التفصيلي بالمتيقّن و الشكّ البدوي في الزائد، و الأصل عدمه.

أو الاشتغال المقتضي أعلى القيمتين، كما عن الفاضل التوني (2)، إلّا إذا استلزم دخول الضّرر الفاحش على الضامن فينفى بقاعدة «لا ضرر» هذا في باب الغصب.

و أمّا القرض و السلم فالكلام فيهما و إن احتمل الحمل على الغصب إلّا أنّ الظاهر رجوع الحكم فيهما باعتبار بلد القرض و السلم، لافتراقهما عن الغصب بالاشتمال على العقد و المعاقدة المنصرف إلى بلد القرض و السلم إطلاقه، و بهذا الفرق تبيّن افتراقه.

قوله: «و حكي [نحو هذا] عن القاضي أيضا (3). فتدبّر».

[أقول:] إشارة إلى إمكان الفرق بين القرض و الغصب، بأنّ الغاصب يؤخذ بأشق الأحوال، أي و لو استلزم العسر و الضرر، لقدومه عليه بنفسه، بخلاف القرض فلا يبعد انصرافه- كالسلف- إلى قيمة يوم التلف.

أو إشارة إلى ضعف الفارق سندا و دلالة.

[فرع: لو دفع القيمة في المثلي المتعذّر مثله ثمّ تمكّن من المثل فالظاهر عدم عود المثل]

قال الماتن طاب ثراه: «فرع: لو دفع القيمة في المثلي المتعذّر مثله ثمّ


1- المبسوط 3: 76.
2- الوافية: 198.
3- المهذب 1: 350.

ص: 521

تمكّن من المثل فالظاهر عدم عود المثل».

أقول: للمسألة شقوق لعلّ الخلاف ناشئ عن عدم تنقيحها و تشقيقها، فتارة يكون دفع قيمة المثلي من الضامن و قبضه من المالك واقعا على وجه التراضي بينهما منجّزا، بحيث لا يكون تراضيهما في مكمون الخاطر معلّقا على تقدير تعذّر المثل و إن كان الداعي لتراضيهما و تواطئهما المنجّز على القيمة هو زعمهما التعذّر.

و تارة يكون الدفع و القبض واقعا بينهما على وجه التراضي المعلّق في مكمون الخاطر على تقدير تعذّر المثل.

و على كلّ من التقديرين إمّا أن يكون وجود المثل بعد دفع القيمة حاصلا بإيجاد متأخّر عن زمان دفع القيمة، بحيث يكون في زمان دفع القيمة متعذّر الوجود ثمّ حدث وجوده بعد الدفع.

و إمّا أن يكون وجوده بعد دفع القيمة حاصلا بواسطة اندفاع موانع العلم بوجوده، بحيث يكون زعم تعذّره عند دفع القيمة ناشئا عن موانع خارجيّة من ظلمة، أو بعد، أو خفاء.

أمّا صورة تراضيهما و تواطئهما على القيمة المقبوضة منجّزا فالظاهر الاتّفاق و عدم النزاع في عدم عود المثل في ذمّته و لو ظهر بعد الدفع سبق وجوده حين الدفع، لأنّ المثل كان دينا في الذمّة سقط بأداء عوضه مع التراضي فلا يعود، كما لو تراضيا بعوضه مع وجوده.

كما أنّ الظاهر الاتّفاق و عدم النزاع أيضا في عود المثل إلى الذمّة لو كان تواطؤهما و تراضيهما على القيمة معلّقا في مكمون الخاطر على تقدير تعذّره المنكشف عدمه بعد الدفع، و أنّه كان موجودا حين الدفع لكن خفي وجوده بواسطة الموانع الخارجيّة الّتي أوجبت زعم تعذّره، و ذلك لانتفاء الرضا المعلّق

ص: 522

بانتفاء التعذّر المعلّق عليه بالفرض، سواء فسّر التعذّر- الناقل للمثليّ إلى القيمة- بالتعذّر العقليّ أو العرفي، لفرض انتفاء التعذّر الواقعي حين الدفع بكلا معنييه.

فتعيّن أنّه إن كان نزاع فهو في صورة ما لو كان تراضيهما على القيمة معلّقا على تقدير تعذّر المثل و قد حدث بعد الدفع وجوده، حيث إنّها في بادئ النظر ذات وجهين فمن جهة إطلاق تعليق الرضا على التعذّر المنفي بعد الدفع يوهم عود المثل إلى الذمّة، و من جهة تحقّق التعذّر الواقعي حين الدفع بكلا معنييه، و أنّ وجوده بعد الدفع إنّما هو بوجود حادث غير الوجود الأوّل يقتضي عدم العود في هذه الصورة، كعدم العود في صورة تنجّز التراضي منهما على القيمة، سواء فرضت كون القيمة قيمة عين المثلي المتعذّر مثله، أم قيمة المثل المتعذّر، و هو الأقوى. و منه يظهر ضعف ما في المتن من الإطلاق و التفصيل. هذا الكلام كلّه في الاستدلال على ضمان المثليّ بالمثل و فروعه.

و أمّا الكلام في ضمان القيميّ بالقيمة فتفصيله ما أشار إليه الماتن طاب ثراه بقوله:

[السابع لو كان التالف المبيع فاسدا قيميّا]

«السابع: لو كان التالف المبيع فاسدا قيميّا .. إلخ».

أقول: الكلام في المسألة ينبغي في مطالب مفصّلة.

أمّا تعريف القيميّ فيعرف من المقايسة على ما تقدّم في تعريف المثليّ فبكل ما يعرّف المثليّ من الوجوه و الحدود المختلفة يعرّف القيميّ بضدّه، من دون زيادة و نقصان، فالبيان هو البيان.

و أمّا حكم القيمي إذا تلف فاختلف فيه، بأنّ المضمون في القيميّات هل هو القيمة كما هو المشهور؟ أم المثل كما عن الإسكافي (1) و الشيخ و المحقّق في الخلاف (2) و الشرائع (3) في باب القرض؟ أم التفصيل بين تعذّر المثل له فالقيمة


1- حكاه عنه في غاية المراد: 135.
2- الخلاف 3: 175 المسألة 287.
3- شرائع الإسلام 2: 84.

ص: 523

و عدم تعذّره بأن وجد لذلك القيمي مثل فالمثل، كما هو وجه لا قول؟ بل احتمل و لو من جهة إطلاق كلمات الفريقين كونه قولا ثالثا في المسألة.

و أمّا ثمرة النزاع فتظهر في تعيين ما يستحقّه المالك في المطالبة و ما يستبرأ به الضامن بالدفع.

و في كون العبرة عند تعذّر المثل أو البناء على دفع القيمة بقيمة يوم الدفع، أو بقيمة ما قبله من سائر الأيام.

و في صحّة مصالحة المضمون في الذمّة بأقلّ منه و عدم صحّته، حيث إنّه إن فرض المضمون في الذمّة مثل التالف صحّ بيعه أو صلحه بأقلّ منه أو بأكثر، و إن فرض قيمته لم يصحّ بيعه و لا صلحه بأقلّ منه و لا بأكثر، لاستلزامه الربا، إلّا فيما لو فرض تغاير الثمن و المثمن و لو بسبب التداول، بأن كان الثمن المدفوع بإزاء ما في الذمّة غير الثمن المتداول المشتغل به الذمّة.

و أمّا مدارك الوجوه، فمدرك مضمونيّة القيمي بالقيمة هو الشهرة، و الإجماع المنقول، و الاستقراء الحاصل من ملاحظة الأخبار الكثيرة المتفرقة الواردة في كثير من القيميّات، بحيث يظهر من الحكم بتضمين القيمة في كلّ واحد منها إرادة التمثيل به لا التخصيص، فيلحق بها سائر أمثلة القيميّات في التضمين بالقيمة، كما لا يخفى على المراجع إليها، و إلى كثرتها حسب ما فصّلت في المتن (1).

و أمّا مدرك مضمونية القيمي بالمثل فلعلّه دعوى بناء العقلاء على مضمونيّة التالف بالأقرب فالأقرب إليه، و من المعلوم أنّ المثل من جميع الجهات أقرب إلى التالف بعد تعذّر عينه فيتعيّن.

و أمّا مدرك التفصيل فهو التفصيل بين الأخذ بالمتيقّن من معقد الشهرة


1- المكاسب: 109.

ص: 524

و الإجماع المنقول و الأخبار المتفرّقة، و هو إرادة صورة تعذّر المثل من التضمين بالقيمة، و بين الأخذ ببناء العقلاء على تضمين الأقرب إلى التالف في صورة تيسّره.

و أمّا الترجيح في المسألة فمع القول الأوّل، لقوّة مداركه، و ضعف ما عداه، لما في كلّ من مداركه الثلاثة: الشهرة و الإجماع المنقول و الاستقراء فضلا عن مجموعها الكفاية، بل الغنية بعد ما توفّقنا لدفع جميع شبهات المشتبهين و أوهام الموهمين عدم حجّيتها بأبلغ وجه في الأصول، وفاقا لأكبر مشايخنا الفحول.

و أمّا الاستقراء فلتعلّق الظنّ الحاصل منه بالمراد من ألفاظ الشارع، لا بنفس الواقع من دون توسّط واسطة حتّى يبتني حجّيته على حجّية مطلق الظنّ.

و مما ذكرنا ظهر ضعف الأخذ بالمتيقّن من المدارك الثلاثة بالإطلاق، و ضعف الأخذ ببناء العقلاء بالمنع.

بل لا يبعد أن يكون النزاع في ضمان القيمي بالمثل نزاع صغروي مأخوذ من النزاع في كون القيمي الموجود بإزائه ما يساويه من جميع الجهات و الصفات قيميّات أم مثليّا. و على هذا التقرير لا يتعدّى النزاع إلى الحكم الكبروي الذي هو ضمان القيميّات بالقيمة و إن سلّمنا مثليّة بعض القيميّات الموجود لها مماثل من جميع الجهات، و التزمنا بتضمين المثل لها.

ثمّ إنّه على تقدير القول بتضمين القيميّ بالقيمة اختلفوا في تعيين قيمة يوم التلف، أو يوم الغصب، أو يوم الأداء، أو أعلى القيم.

أقول: مسألة تعيين قيمة القيميّ بيوم التلف أو بغيره، أمّا في الوجوه فتوافق مسألة تعيين قيمة المثلي المتعذّر مثله بيوم التلف أو بغيره، فيتأتّى فيها من الوجوه هنا ما تأتّى في تلك من الوجوه ثمّة، ككون العبرة بقيمة يوم الغصب و القبض، أو بيوم التلف و الإتلاف، أو بيوم المطالبة، أو بيوم الدفع و الأداء، أو بأعلى قيمتي

ص: 525

يومي الغصب و التلف، أو بغير ذلك من صور التركيب الثنائيّة و الثلاثيّة و الرباعيّة، إلّا فرض التعيين بيوم الإعواز لا يتأتّى هنا وجها و لا قولا و إن تأتّى ثمّة وجها و قولا.

و أمّا في مجرى الأصول فتوافق أيضا مسألة تعيين قيمة المثليّ المتعذّر مثله، من جهة أنّ الشكّ في تعيين القيمة المضمونة لكلّ من القيميّ أو المثليّ المتعذّر مثله من قبيل الشكّ بين الأقلّ و الأكثر الغير الارتباطي، الّذي هو مجرى أصالة البراءة، إلّا على ما عن الفاضل التوني (1) من منعه مجرى أدلّة البراءة في حقوق الناس، أو على ما عن صاحب الإشارات قدس سرّه من منع مجراها في مضمون الخطابات المجملة، و إلّا فعلى المشهور المنصور لا مانع من مجرى أدلّة البراءة في الشكّ في الزيادة الغير الارتباطيّة، كما فيما نحن فيه، فإنّ مجرد أداء أقلّ القيمتين يسقط عمّا في الذمّة بحسبه، و لا يرتبط إسقاط المؤدّى بحسبه بإسقاط ما بقي إن كان ما بقي، فيجري البراءة عن بقاء البقيّة بعد إسقاط المتيقّن، لرجوعه إلى الشكّ البدوي في الزيادة المنفيّة بالأصل.

و أمّا ما تقدّم عنّا من منع مجرى البراءة فإنّما هو فيما لو شكّ في أنّ المثلي المتعذّر مثله هل يسقط بأداء قيمته مع استدعاء المالك المثل من الضامن، فيما يوجد فيه المثل من الأزمنة المتأخّرة، أم لا يسقط إلّا بإرضاء المالك بالقيمة، و هذا غير ما نحن فيه، لكونه من قبيل الشكّ في المضمون به، الدائر بين المتبائنين، فيختصّ بمجرى الاشتغال، للعلم الإجمالي بالمكلّف به، و ما نحن فيه من قبيل الشكّ في الأقل و الأكثر الغير الارتباطي، فيختصّ بمجرى البراءة، لكون العلم بالتكليف فيه علم في الجملة لا علم إجمالي، فينحلّ إلى العلم التفصيليّ بالمتيقّن و الشكّ البدويّ في الزائد المختصّ بمجرى البراءة.


1- الوافية: 194.

ص: 526

و أمّا في القواعد و الأصول الغير العمليّة من الشهرة و السيرة و الاعتبار و الآثار فتخالف مسألة ضمان المثليّ المتعذّر مثله، من حيث إنّ مقتضى تضمين المثليّ بالمثل هو تعيين قيمة يوم الدفع عليه إذا تعذّر المثل، لعدم الدليل، و المقتضي على حيلولة المثليّ إلى القيمة فيما قبل الدفع حسب ما مرّ.

و مقتضى تضمين القيمي بالقيمة هو تعيين قيمة يوم تلفه عليه، إذا الواجب قبله هو ردّ العين لا ردّ القيمة إلى آخر ما أشار إليه الماتن قدس سرّه.

نعم، لو قلنا بتضمين القيمي بالمثل كالمثلي لم يبق فرق في تعيين قيمة يوم التلف إذا تعذّر المثل بين المسألتين، لا في الوجوه و الأقوال، و لا في الاعتبار و الآثار.

و أمّا على ما هو المشهور المنصور من تضمين القيميّ بالقيمة فتفترق المسألتان في الحكم المستند إلى الاعتبار و الاعتبار و الآثار المعاضدة بالقواعد و الأصول و إن اتفقتا في الوجوه و الأقوال و مجرى الأصول و الأحوال، و لهذا استقرّ مذهب مشهور المتأخّرين على اعتبار قيمة يوم الدفع في المثليّ المتعذّر مثله، و قيمة يوم التلف في القيميّ. هذا كلّه فيما يقتضيه القواعد و السواعد و الشهرة و السيرة من ضمان القيمي بقيمة يوم تلفه.

و أمّا ما يقتضيه ظاهر صحيحة أبي ولّاد (1) المعروفة ففي انطباقه على اعتبار قيمة القيمي بيوم التلف- كما عن الجواهر (2)- أو على اعتبار قيمة يوم الغصب- كما هو الأظهر وفاقا لما استظهره الماتن (3) و شيخنا العلّامة- أو على اعتبار قيمة يوم الردّ- كما هو وجه لا قول- أو على أعلى القيم من حين الغصب


1- الوسائل 13: 255 ب «17» من أبواب أحكام الإجارة ح 1.
2- جواهر الكلام 37: 102.
3- المكاسب: 109.

ص: 527

إلى التلف- كما عن الشهيد الثاني (1)- أو على خلاف القاعدة المتّفق عليها نصّا و فتوى- لتعدّ من المجملات- أو ممّا يقتصر فيه على خصوص مورده و هو البغل من بين سائر القيميات- كما عن الشيخ (2)- وجوه أقوال:

أظهرها ما استظهره الماتن طاب ثراه من أنّ الفقرة الأولى من الصحيحة و هي قوله: «نعم قيمة بغل يوم خالفته» (3) ظاهره بحسب التركيب اللغوي و المتفاهم العرفي في اعتبار قيمة يوم الغصب.

و لكن مع ذلك يمكن انطباقه على ما هو المشهور المنصور عندنا من اعتبار يوم التلف، بحمل التقييد بيوم المخالفة على الورود مورد الغالب في مثل مورد الرواية من عدم تفاوت قيمة البغل في مدّة خمسة عشر يوما لأجل السر و المؤيّدين المرقومين في المتن، و ذلك لأنّ ما احتمله جماعة منهم صاحب الجواهر في كتاب الغصب من تعلّق الظرف بقوله: «نعم» القائم مقام قوله عليه السلام:

«يلزمك»، يعني يلزمك يوم المخالفة قيمة بغل (4) بعيد لفظا و معنا، إمّا لفظا فلأنّ القيد المتعقّب للأمور العديدة ظاهر في الأخير، كالاستثناء المتعقّب للجمل المتعدّدة، و إمّا معنى فلما في المتن من استلزامه عدم انطباق الجواب على السؤال.

و دعوى أنّ عدم استدلال الأصحاب به على اعتبار قيمة يوم الغصب يشعر بعدم دلالته عليه، أو بالإعراض الموهن لدلالته على تقديرها بواسطة وقوفهم على ما لعلّه صارف ممنوعة.

أوّلا: بظهور دلالته عليه بحيث لا يدخله الوهم بالإعراض.


1- مسالك الأفهام 12: 186.
2- لم نجده في مظانّ كتب الشيخ.
3- المكاسب: 110.
4- جواهر الكلام 37: 101.

ص: 528

و ثانيا: بمنع أصل الإعراض عنه، و لو سلّم فجهة الإعراض مختلفة في المعرضين، فلا تكشف عن وهن دلالتها، إذ لعلّ إعراض بعضهم من جهة اختلاف فقرأت الصحيحة، و إعراض بعضهم الآخر من جهة ورود التقييد فيه مورد الغالب، و إعراض بعضهم الآخر من جهة ترجيح الشهرة القائمة على خلافه، و إعراض بعضهم الآخر من جهة عدم دلالته، فلم يتّحد جهة إعراض جميع المعرضين على تقدير تسليمه حتّى يوهن دلالتها كالإجماع التقييدي.

و أمّا الفقرة الثانية- و هي قوله عليه السلام في جواب السؤال عن إصابة العيب:

«عليك قيمة ما بين الصحّة و العيب يوم تردّه» (1)- فمضافا إلى ما في المتن من أنّ الظرف متعلّق ب «عليك»، لا قيد للقيمة إلى آخره (2) قد نقل عن الجواهر وقوفه على سقوط الظرف في نسخة قديمة محشّاة من نسخ التهذيب، و أنّ الموجود فيها «عليك قيمة ما بين الصحّة و العيب تردّه عليه» من دون ذكر اليوم (3).

هذا، و لكن الأصل و الغالب عدم زيادة اليوم، و كون السهو في النقص و الترك، لا فعل الزيادة، و عليه يتعيّن ضمان قيمة يوم الردّ لا غير، كما هو ظاهر «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» (4).

و أمّا اعتبار يوم المخالفة فلبيان أنّ مبدأ ضمان الكراء من يوم المخالفة لا ضمان العين به، ردّا على الحنفيّة، كما يقتضيه بلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال و إن خالف السؤال، خصوصا على فرض ظهور تقدّم يوم الكراء على يوم المخالفة لا تأخّره حتّى يحمل على يوم التلف.

قوله: «و من يعرف ذلك. فتأمّل».


1- تقدّم ذكر مصدره في هامش (1) ص: 526.
2- المكاسب: 110.
3- جواهر الكلام 37: 102.
4- عوالي اللئالي 1: 389 ح 22.

ص: 529

[أقول:] إشارة إلى «ذلك» قوله: «و فيه نظر»، لأنّ نفي الضرر لو اقتضى ضمان ارتفاع القيمة مع التلف لاقتضاه مطلقا.

قوله: «وجب غرامة أكثرها. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ ارتفاع القيم إن كان أمرا اعتباريّا لم تضمن بالمال- لا استقلالا- تبعا للعين المضمونة، و إلّا ضمنت جميع القيم لا أكثرها.

قوله: «لغلبة اتحاد زمان البيع و القبض. فافهم».

[أقول:] إشارة إلى أنّ غلبة الوجود لا يوجب انصراف المطلق، خصوصا في مقام المداقّة.

قوله: «ثمّ إنّ جميع ما ذكرنا من الخلاف إنّما هو في ارتفاع القيمة بحسب الأزمنة، و أمّا إذا كان بسبب الأمكنة .. إلخ».

أقول: ينبغي أن يكون المدار في الأمكنة على ما هو المدار في الأزمنة، فإن كان المدار في ضمان التالف بيوم التلف كان المدار أيضا في ضمانه بمكان التلف، و إن كان بيوم الغصب كان بمكان الغصب، و إن كان بيوم الدفع كان بمكان الدفع و هكذا، لاتّحاد الموجب و السبب في المسألتين.

و لمّا كان المدار في الضمان بيوم التلف، أو بيوم الدفع مبنيّا على تشخيص كون القيمي مضمونا بالقيمة، أو المثل كان المدار في الضمان بمكان التلف أو الدفع أيضا مبنيّا على تشخيص ذلك، فإن قلنا بضمان القيمي بالقيمة- كما هو المشهور المنصور- كان العبرة في ضمانه بيوم التلف فكذا بمكان التلف، لاتّحاد الموجب و المقتضي و هو تدارك الشي ء بحسب ماليّته عند اختلاف الماليّة بحسب الأزمنة و الأمكنة.

و إن قلنا بضمان القيميّ بالمثل كالمثليّ كان العبرة في ضمانه بيوم الدفع فكذا بمكان الدفع، لاتّحاد الموجب، و هو عدم الدليل على حيلولة المثليّ إلى

ص: 530

القيمة فيما قبل يوم الدفع من سائر الأيّام.

نعم، لو اعتبرنا يوم الغصب في ضمان القيميّ تعبّدا بظاهر صحيحة أبي ولّاد المتقدّمة (1) لم نعتبر في الأمكنة مكان الغصب، بل بقينا على اعتبار مكان التلف و إن خالف زمان المضمون فيه، لاختلاف الموجب على هذا التقدير، فلا يلزم الموافقة و الالتزام في الأمكنة بما التزم به في الأزمنة.

قوله: «و هو الأوفق بأصالة عدم تسلّط المالك على أزيد من إلزامه به و العين. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى معارضة أصالة عدم تسلّط المالك على ذلك بعموم تسلّط المالك، بل الضامن أيضا على استعجال الوفاء و الاستيفاء للحقّ، و عدم الإنظار و الانتظار.

قال الماتن طاب ثراه: «ثمّ إنّ المال المبذول يملكه المالك .. إلخ».

أقول: اختلفوا في أنّ المبذول في عوض الحيلولة بين المالك و ملكه هل يملكه المالك من حين الإباحة عليه ملكا لازما كما عن المشهور؟ أم ملكا متزلزلا مراعى ببقاء الحيلولة و ارتفاعها كما احتمله الشهيد الثاني (2)، و استحسنه في محكي الكفاية (3)؟ أم يباح له إباحة مطلقة، نظير الإباحة المطلقة في المعاطاة- على القول بها- و يكون دخوله في ملكه مشروطا بتلف العين كما عن المحقّق القمي في أجوبة مسائله (4)؟

و على أيّ حال اختلفوا أيضا في انتقال العين إلى ملك الضامن و عدمه على وجوه، ثالثها: حصول الملك لكلّ منهما متزلزلا مراعى ببقاء الحيلولة و ارتفاعها.


1- تقدّم في ص: 526.
2- مسالك الأفهام 12: 201.
3- كفاية الأحكام 259.
4- جامع الشتات 2: 540.

ص: 531

و ثمرة كلّ من الخلافين تظهر في ضمان ما يتجدّد لكلّ من العوض أو المعوّض من الزيادات المتّصلة و المنفصلة، و في غير ذلك من الآثار الملكيّة.

و الّذي يقتضيه الاعتبار و القواعد و الآثار هو أن يقال: أمّا العين المغصوبة فباقية على ملك مالكها ما دامت باقية و إن تملّك المبذول بعوضها، لاستصحاب بقاء ملكيّته، و لا تلازم بين خروج المبذول عن ملك باذله و دخول العين في مكانه، لأنّه غرامة لا معاوضة ليلزم الجمع بين العوض و المعوّض، فالمبذول هنا كالمبذول مع تلف العين في عدم البدل له.

و أمّا العوض المبذول بإزاء الحيلولة فمقتضى الاستصحاب أيضا بقاؤه على ملك باذله و إن تسلّط عليه المبذول له بالسلطنة المطلقة، بقضاء حقّ البدليّة عن سلطنته المنقطعة عن العين إلى أن يتصرّف فيه بشي ء من التصرّفات المتوقّفة على الملك كالعتق، فيقدّر قبله الملكيّة آنا ما، تفصّيا عن لزوم تخصيص عموم الأدلّة الدالّة على توقّف ذلك التصرّف على الملك على النهج المختار في المقبوض بالمعطاة.

فمحصّل الكلام في المسألة راجع إلى أنّ إباحة جميع التصرّفات حتّى المتوقّفة على الملك هل يستلزم الملك من حين الإباحة كما عن المشهور، أم يكفي حصوله من حين التصرّف؟ و قد تقدّم في المعاطاة بيانه، و أنّ مقتضى الاستصحاب هو الثاني و إن كانت الشهرة على الأوّل في المسألتين، بل لعلّ مراد المشهور إرادة تقييد الملك بحين التصرّف و إن كان إطلاقهم الملك يأبى عن التقييد، أو ابتناء قولهم بحصول الملك من حين الإباحة على القول بكون الأحكام الوضعيّة- الّتي منها الملكيّة- أمورا منجعلة خارجيّة لا تحتاج إلى جعل آخر وراء وجودها الخارجي، و أنّ كلام الشارع لا يؤثّر فيها أثرا سوى الكشف عن وجودها الخارجي المسبوق في علمه.

ص: 532

و على ذلك يرجع الكلام إلى أنّه إن قلنا بأنّ الملكيّة: عبارة عن نفس السلطنة المطلقة المفروض حصولها للمالك فيما بذل له بدلا عن سلطنته المنقطعة عن العين- كما هو قضيّة القول بتأصّل الأحكام الوضعيّة- كان الحقّ مع المشهور، القائلين بملكيّة المدفوع بدل الحيلولة، لعدم احتياج الملكيّة على هذا التقدير إلى ما وراء السلطنة المطلقة على جميع التصرّفات، المفروض حصولها بقضاء حقّ البدليّة و العوضيّة عن سلطنته المنقطعة عن العين.

و إن قلنا بأنّه يحتاج إلى جعل وراء وجودها الخارجي المفروض حصولها بقضاء حقّ البدليّة- كما هو قضيّة القول المجعولية الأحكام الوضعيّة و انتزاعها عن الأحكام التكليفية- كان الحقّ مع القول بالإباحة، لعدم تحقّق جعل الشارع الملكيّة فيه وراء ما يقتضيه حقّ البدليّة، إلّا أن يستكشف بالشهرة عن جعله، و لكنّه مبنيّ على حجّية تلك الشهرة المحكيّة، و على تشخيص أن يكون معقدها هو الملكيّة من حين الإباحة، لا من حين التصرّف كما احتملناه.

قوله: «أمكن سقوطه. فتأمّل».

إشارة إلى أنّ سقوطه بنفي الضرر معارض بعموم «على اليد ما أخذت» (1)، و الضامن يؤخذ بأشقّ الأحوال.

قوله: «لكن مقتضى القاعدة ضمانه، لأنّ مع التلف يتعيّن القيمة .. إلخ».

أقول: إن أراد من القاعدة المقتضية لضمانه له قاعدة الاشتغال فمن المعلوم أنّ المورد من موارد البراءة، لأنّ المفروض خروج الغارم بدفع الغرامة عن عهدة العين في الجملة، و الشكّ في طروّ ضمان جديد عليه بطروّ ارتفاع قيمة العين بعد دفع الغرامة، و الأصل عدمه و البراءة عنه.

و إن أراد من القاعدة المقتضية لضمانه تعليله الفرق بقوله: «لأنّ مع التلف


1- تقدّم ذكر مصدره في هامش (3) ص: 528.

ص: 533

يتعيّن القيمة .. إلخ» فهو عليل غير فارق بين التلف و التعذّر، بعد فرض دفع الغرامة سيّما بعد تملّكها المالك، فإنّ تعيين القيمة في التلف و التخيير بينها و بين أن يصبر المالك إلى أن يتمكّن من العين في التعذّر غير فارق، بعد فرض دفع الغارم إيّاها و قبولها المالك، ضرورة أنّ الفرق في المدفوع غرامة بين تعيينه للغرامة و عدم تعيينه- المفروض تعيّنه بالاختيار و القصد- غير فارق في الخروج عن عهدة المغروم به.

نعم، إنّما يكون فارقا لو صبر المالك إلى أن يتمكّن من العين، و لم يقبل الغرامة المدفوعة إليه، فالفرق المذكور بين التلف و التعذّر فارق شأنيّ معلّق على تقدير خارج عن محلّ الفرض. و لهذا استقرب شيخنا العلّامة عدم ضمان القيمة المرتفعة للعين بعد دفع غرامتها، تعويلا على أصل البراءة، و وفاقا لما عن الشيخ (1)، و ظاهر غيره.

و لكن الأقوى في نظري القاصر الضمان، وفاقا للماتن، و لما عن التذكرة (2) و غيره، لكن لا لمقتضى الاشتغال، و لا لما في المتن (3) من تعليله الفرق حتّى يرد عليهما ما أورد، بل لعموم «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» (4)، فإنّ مقتضى عمومه هو ضمان العين و ضمان جميع منافعه المتجدّدة ما دامت العين باقية. و لعلّ مراد الماتن من مقتضى القاعدة أيضا ذلك، لا الاشتغال و تعليله الفرق.

إلّا أن يقال: إنّ عموم «على اليد» عموم حكميّ لا ينصرف إلى المنافع المتجدّدة بعد دفع الغرامة. فتأمّل.

قوله: «ثمّ إنّه لا إشكال في أنّه إذا ارتفع تعذّر العين و صار ممكنا وجب


1- المبسوط 3: 96.
2- تذكرة الفقهاء 2: 385.
3- المكاسب: 113.
4- تقدّم ذكر مصدره في هامش (3) ص: 528.

ص: 534

ردّه».

أقول: نعم، لا إشكال في وجوب ردّ العين بعد ارتفاع تعذّره و إن دفع الغرامة إلى مالكها، لكن لا لما ذكره الماتن من عموم «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي»، لوضوح أنّ الاستدلال عليه إن كان بقوله: «حتّى تؤدّي» فمن الواضح عدم دلالته على وجوب الأداء، لأنّه نظير قولك للمسافر: «يجب عليك القصر حتّى تحضر» في عدم دلالته على وجوب الحضور. و إن كان بعموم «على اليد» فمن الواضح أنّ وجوب الردّ حكم تكليفي ليس من أفراد «على اليد» حتّى يدخل في عمومه، لظهور «على اليد» في الحكم الوضعي، و هو الضمان المفروض سقوطه بدفع الغرامة. و ذلك لما عرفت من ظهور كلمة «على» إذا أضيفت إلى الأعيان لا الأفعال في الحكم الوضعي لا التكليفي، و استعماله في كليهما استعمال للفظ في أكثر من معنى، و استعماله في الحكم الوضعي و هو الضمان لا يدلّ على المدّعي، و هو الحكم التكليفي، بعد فرض سقوط الضمان بالغرامة المدفوعة.

بل الاستدلال على وجوب ردّ العين بعد ارتفاع تعذّره إنّما هو باستصحاب بقاء وجوب الردّ الّذي كان ثابتا قبل التعذّر، و دفع الغرامة بعد طروّ التعذّر عليهما إنّما أفاد خروج الغاصب عن ضمانه لو تلف، فإذا زال تعذّره قبل تلفه وجب ردّه باستصحاب بقاء وجوب ردّه.

و بعبارة اخرى: أنّه قبل التعذّر كان مضمونا و واجب الردّ أيضا، فإذا تعذّر وجب غرامتها بالضمان و سقط وجوب الردّ للعذر العقلي، و هو التعذّر، فإذا زال التعذّر عاد وجوب الردّ استصحابا لوجوب الردّ السابق، و لا يجوز استصحاب عدم وجوب الردّ الثابت في حال التعذّر، لارتفاع موضوعه و هو التعذّر، بخلاف استصحاب وجوبه السابق.

ص: 535

و بالجملة: فالمورد من موارد استصحاب حال المخصّص- بالفتح- لا المخصّص- بالكسر- لأنّه عقليّ زائل بزوال موضوعه، فلا مسرح لاستصحابه.

قوله: «لا عوض قدرة الغاصب على تحصيلها للمالك. فتأمّل».

[أقول:] إشارة إلى أنّ كلّ من الغرامة و العين المضمونة عوض عن الآخر، كعوضيّة الثمن عن المثمن في المعاوضات، فلا حقّ لمطالبة العوض قبل المعوّض على غير وجه الترادّ و الاقتران، إلّا في عوض البضع لها المطالبة قبل الدخول للنصّ المخرج.

ثمّ إنّ أكثر ما ذكرنا مذكور في كلماتهم في باب الغصب، لكن الظاهر أنّ أكثرها بل جميعها حكم المغصوب من حيث كونه مضمونا، لا من حيث كونه مغصوبا فيشمل المقبوض بالبيع الفاسد إذا كان مضمونا أيضا، بل يشمل المقبوض بجميع الأيادي المضمونة، سواء كان بالغصب، أو بالبيع الفاسد، أو العارية، أو الاستئجار، أو بغير ذلك من الأيادي المضمونة، لعموم: «على اليد ما أخذت» و عدم خصوصيّة زائدة في الغصب سوى الإثم نعم، ربما يفترق من جهة نصّ في المغصوب مخالف لقاعدة الضمان، كما احتمل في الحكم بوجوب قيمة يوم الضمان، أو أعلى القيم من جهة صحيحة أبي ولّاد (1). و لكن قد عرفت عدم دلالته على ما يخالف قاعدة الضمان و انطباقه عليها.

كما أنّ ما اشتهر من أنّ الغاصب يؤخذ بأشقّ الأحوال لم يعرف له مأخذ واضح، و على تقدير أن يكون له مأخذ أيضا يمكن حمله على الضمان أيضا، كما لا يخفى عليك.


1- تقدّم ذكر مصدره في هامش (1) ص: 526.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.