مختصر الامثل فی تفسیر کتاب الله المنزل

اشارة

عنوان و نام پديدآور : مختصر الامثل فی تفسیر کتاب الله المنزل/ناصر مکارم شیرازی

مشخصات نشر : قم: مدرسه الامام علی بن ابی طالب علیه السلام، 1428

مشخصات ظاهری : ج

وضعیت فهرست نویسی : در انتظار فهرستنویسی

شماره کتابشناسی ملی : 1148393

الجزء الاول

اشارة

مقدمّة:

إنّ القرآن الكريم يمثّل أعظم رأسمال في حياتنا نحن المسلمين ففي هذا الكتاب السماوي كل شي ء يتصل بحياة الإنسان الدنيوية والأخروية من معارف، وأحكام، ومنهج حياة، وسياسة إسلامية، وطريقة معنوية في حركة الفرد نحو مقام القرب الإلهي وغير ذلك.

على هذا الأساس فإنّ وظيفة كل مسلم تكمن في التعرف أكثر فأكثر على مضامين هذا الكتاب الإلهي، هذا من جهة ...

ومن جهة أخرى فإنّ صوت الإسلام- بعد الصحوة الإسلامية التي يشهدها المسلمون وخاصة بعد الثورة الإسلامية في ايران- قد ملأ آفاق العالم، وأثار فضول غير المسلمين ورغبتهم في الإطلاع أكثر على أسرار ومعارف هذا السفر السماوي. ولهذا السبب ترتفع من كل مكان أصوات تطالب بترجمة وتفسير القرآن الكريم بمختلف اللغات الحيّة في العالم، وبالرغم من قصور حركة الاستجابة لهذه المطالبات على مستوى الواقع، إلّاأننا يجب علينا السعي بجدّية لنكون على مستوى الأمل والطموح في عملية الاستجابة وتحقيق هذه المطالبات.

ولحسن الحظ فإنّ حضور القرآن الكريم في حركة حياة المسلمين الفردية والاجتماعية في العالم، وخاصة في أجواء بلدنا ايران، يزداد ويشتد يوماً بعد آخر، وعدد القرّاء الكبار والحافظين الأجلاء والمفسّرين العارفين في مجتمعنا والحمد اللَّه، ليس بالقليل، وقد صار فرع التفسير في الحوزة العلمية في قم أحد الفروع التخصصية المهمّة في الدراسات العلمية في الحوزة التي تحظى باستقبال واسع من قبل الطلّاب وصار درس التفسير من الدروس الرسمية في الحوزة وأحد موارد الامتحان فيها، ومن هنا جاء «التفسير الأمثل» لعبّر

عن استجابة طبيعية لهذه المرحلة، وهي تفسير يتميّز بالوضوح والمرونة والسهولة وفي ذات الوقت عميق المضامين دقيق المحتويات وناظر في معارفه لما يعيشه المسلمون من مسائل وتحديات يفرضها الواقع الاجتماعي والحضاري في حركة الحياة. ولعل من عوامل استقبال الناس الواسع لهذا التفسير هو ما تقدم من توجّه الناس في العصر الحاضر للقرآن الكريم.

وبالرغم من أنّ جهوداً كبيرة بذلت ولمدّة خمسة عشر سنة، لإخراج هذا التفسير إلى حيز الوجود وبمشاركة مجموعة من الفضلاء الأعزاء في الحوزة العلمية في قم وهم حجج الإسلام السادة: محمد رضا الآشتياني، محمد جعفر الإمامي، داود الالهامي، أسد اللَّه الإيماني، عبدالرسول الحسني، السيد حسن الشجاعي، السيد نور اللَّه الطباطبائي، محمود عبداللهي، محسن قراءتي،

مختصر الامثل، ج 1، ص: 6

محمد محمدي الاشتهاردي، ومساهمة الاخوة الأفاضل الاستاذ محمد علي آذرشب، الشيخ محمد رضا آل صادق، الاستاذ خالد توفيق عيسى السيد محمّد الهاشمي، الاستاد قصي هاشم فاخر، الاستاذ أسد مولوي، الشيخ مهدي الأنصاري، والسيد أحمد القبانچي، والشيخ هاشم الصالحي في تنقيح هذا السفر الجليل.

ولكن الاستقبال الواسع، الذي حظى به هذا التفسير من قبل مختلف شرائح المجتمع الإسلامي بما فيهم خواننا أهل السنّة، قد أزال جميع الاتعاب المذكورة وغرس في قلوب الأعزاء الأمل بأن يقع هذا العمل مورد قبول ورضا اللَّه تبارك وتعالى.

*** وبعد طبع ونشر «التفسير الأمثل» طلب الكثير من الناس العمل على نشر خلاصة لهذا التفسير القيّم، ولرغبتهم في التعرف على مضمون إجمالي للآيات الكريمة وبنفقات أقل وفي ذات الوقت يستفاد من هذه الخلاصة بعنوان متن دراسي في عملية التفسير.

هذا الطلب المتكرر دعانا للتفكير في القيام بتخليص جميع هذه الدورة التفسيرية المكوّنة من 15 جزءاً في خمسة أجزاء، ولكن هذا العمل لم يكن باليسير وقد استغرق التحضير

ودراسة جميع تفاصيله مدّة من الزمان حتى أخذ حجّة الإسلام الشيخ الفاضل أحمد علي بابائي- دامت تأييداته- على عهدته إنجاز هذا المشروع المهم.

وبدوري فقد كنت أقوم بعملية الاشراف ومطالعة ما كتب فضيلته باستمرار وأبدي ملاحظاتي بالمقدار اللازم في الموارد التي تحتاج إلى إلفات نظر وتذكير، وبالجملة فأنا اعتقد أنّ هذا العمل- وبحمد اللَّه- هو عمل قيّم ومثمر ويتضمّن شرحاً وافياً للآيات الشريفة من جهة، وتفسيراً مختصراً لمن يروم قراءة تفسيرية سريعة للقرآن الكريم، وقد سمّي «مختصر الأمثل».

وإذا أتقدم بالشكر والتقدير للجهود التي بذلها فضيلة الشيخ في هذ السبيل، فكلّي أمل في أن يقع هذه الخلاصة، التي تتضمّن مقتطفات مهمّة وحسّاسة من التفسير الكبير، مورد قبول أصحاب الخبرة وعامّة الناس من أهل القرآن ويكون هذا الجهد ذخيرتنا جميعاً يوم القيامة.

ونسأل اللَّه سبحانه أنّ يوفّق كل العاملين على إعلاء راية القرآن في العالم ويسدّد خطاهم وينصرهم على أعدائهم.

ونسأله جلّ وعلا أن يوفّق العلماء والمفكّرين الواعين الملتزمين إلى قيادة هذا التحرك الإسلامي المتصاعد في كل أرجاء العالم الإسلامي، قيادة أصلية قائمة على هدى القرآن الكريم والسنّة الشريفة، إنّه تعالى سميع مجيب.

قم- الحوزة العلمية

ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الامثل، ج 1، ص: 7

1. سورة الفاتحة

خصائص السورة: لهذه السورة مكانة متميزة بين سائر سور القرآن الكريم، وتتميز بالخصائص التالية:

1- سياق السورة: تختلف سورة الحمد عن سائر سور القرآن في لحنها وسياقها، شاء اللَّه في هذه السورة أن يعلّم عباده طريقة خطابهم له ومناجاتهم إيّاه.

تبدأ هذه السورة بحمد اللَّه والثناء عليه، وتستمر في إقرار الإيمان بالمبدأ والمعاد «باللَّه ويوم القيامة»، وتنتهي بالتّضرع والطلب.

2- سورة الحمد أساس القرآن: في تفسير العياشي أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال لجابر بن عبد اللَّه الأنصاري: «يا

جابر! ألا اعلّمك أفضل سورة أنزلها اللَّه في كتابه»؟ فقال له جابر: بلى بأبي أنت وامّي يا رسول اللَّه، علّمنيها. فعلّمه الحمد ام الكتاب. ثم قال: «يا جابر ألا اخبرك عنها»؟ قال:

بلى بأبي أنت وامي، فأخبرني فقال: «هى شفاء من كل داء، إلّاالسّام، والسّام الموت».

وفي تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «والذي نفسي بيده ما أنزل اللَّه في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها، هى ام الكتاب وهي السبع المثاني، وهي مقسومة بين اللَّه وبين عبده ولعبده ما سأل».

«الام»: يعني هنا الأساس والجذر، ولعل ابن عباس ينطلق من هذا الفهم إذ يقول:

مختصر الامثل، ج 1، ص: 8

«إنّ لكل شي ء أساساً ... وأساس القرآن الفاتحة» «1».

وفي تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «أيّما مسلم قرأ فاتحة الكتاب اعطي من الأجر كأنّما قرأ ثلثي القرآن واعطي من الأجر كأنّما تصدّق على كل مؤمن ومؤمنة».

3- سورة الحمد شرف النبي صلى الله عليه و آله: يتحدّث القرآن الكريم عن سورة الحمد باعتبارها هبة إلهية لرسوله الكريم، ويقرنها بكل القرآن إذ يقول: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِى وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ» «2».

4- التأكيد على تلاوة هذه السورة: تلاوة هذه السورة تبعث الروح والإيمان والصفاء في النفوس، وتقرّب العبد من اللَّه، وتبعده عن ارتكاب الذنوب والانحرافات، ولذلك كانت ام الكتاب صاعقة على رأس (إبليس) كما ورد في تفسير نور الثقلين عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام: «رنّ إبليس أربع رنّات، أوّلهن يوم لعن، وحين اهبط إلى الأرض، وحين بعث محمّد- صلّى اللَّه عليه وآله- على حين فترة من الرسل، وحين انزلت ام الكتاب».

محتوى السورة: يمكن

تقسيم هذه السورة، من جهة أخرى إلى قسمين: قسم يختص بحمد اللَّه والثناء عليه، وقسم يتضمن حاجات العبد. وإلى هذا التقسيم يشير الحديث الشريف في عيون الأخبار عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال:

«قال اللَّه عزّ وجلّ: قسّمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي، فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل.

إذا قال العبد: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ». قال اللَّه جلّ جلاله: بَدأ عبدي باسمي وحق عليّ أن اتمّم له اموره وابارك له في أحواله.

فإذا قال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ العَالَمِينَ». قال اللَّه جلّ جلاله: حمدني عبدي وعلم أنّ النعم التي له من عندي، وأنّ البلايا التي دفعت عنه فبتطوّلي، اشهدكم أنّي اضيف له إلى نعم الدنيا نعم الآخرة وأدفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا.

وإذا قال: «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ». قال اللَّه جلّ جلاله: شهد لي عبدي أنّي الرّحمن الرّحيم، اشهدكم لِاوفّرنّ من رحمتي حظّه ولُاجزلنّ من عطائي نصيبه.

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان، بداية سورة الحمد.

(2) سيأتي تفسير «سبعاً من المثاني» في ذيل الآية (87) من سورة الحجر.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 9

فإذا قال: «مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ». قال اللَّه تعالى: اشهدكم كما اعترف بأنّي أنا مالك يوم الدّين لُاسهّلنّ يوم الحساب حسابه، ولأتقبّلنّ حسناته، ولأتجاوزنّ عن سيّئاته.

فإذا قال العبد: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ». قال اللَّه عزّ وجلّ: صدق عبدي، إيّاي يعبد اشهدكم لُاثيبنّه على عبادته ثواباً يغبطه كل من خالفه في عبادته لي.

فإذا قال: «وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ». قال اللّه تعالى: بي استعان عبدي، وإليّ إلتجأ، اشهدكم لُاعيننّه على أمره، ولُاغيثنّه في شدائده ولآخذنّ بيده يوم نوائبه.

فإذا قال: «اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ». إلى آخر السورة، قال اللَّه عزّ وجلّ: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل وقد استجبت لعبدي وأعطيته ما أمّل وآمنته ممّا

منه وجل».

لماذا سمّيت فاتحة الكتاب؟ «فاتحة الكتاب» اسم اتّخذته هذه السورة في عصر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كما يبدو من الأخبار والأحاديث المنقولة عن النبي الأعظم صلى الله عليه و آله.

وهذه المسألة تفتح نافذة على مسألة مهمة من المسائل الإسلامية، وتلقي الضوء على قضية جمع القرآن، وتوضّح أنّ القرآن جُمع بالشكل الذي عليه الآن في زمن الرسول صلى الله عليه و آله، خلافاً لما قيل بشأن جمع القرآن في عصر الخلفاء، فسورة الحمد ليست أوّل سورة في ترتيب النّزول حتى تسمى بهذا الإسم، ولا يوجد دليل آخر لذلك، وتسميتها بفاتحة الكتاب يرشدنا إلى أنّ القرآن قد جمع في زمن الرسول صلى الله عليه و آله بهذا الترتيب الذي هو عليه الآن.

وثمّة أدلة اخرى تؤيّد حقيقة جمع القرآن بالترتيب الذي بأيدينا اليوم في عصر الرسول صلى الله عليه و آله وبأمره.

روى علي بن إبراهيم القمي في تفسيره عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال لعليّ: يا علي! القرآن خلف فراشي في الصحف والحرير والقراطيس، فخذوه واجمعوه ولا تضيّعوه كما ضيّعت اليهود التوراة فانطلق عليّ فجمعه في ثوب أصفر ثم ختم عليه في بيته وقال: لا أرتدي حتى أجمعه».

وهنا يثار سؤال حول المشهور بين بعض العلماء بشأن جمع القرآن بعد عصر النبي صلى الله عليه و آله، وفي الجواب نقول: إنّ ما روي بشأن جمع القرآن على يد الإمام علي عليه السلام بعد عصر الرسول، لم يكن جمعاً للقرآن وحده، بل هو مجموعة تتضمن القرآن وتفسيره وأسباب نزول الآيات وما شابه ذلك ممّا يحتاجه الفرد لفهم كلام اللَّه العزيز.

كما يؤكد (حديث الثقلين) المروي في المصادر الشيعية

والسنية، حيث أوصى رسول

مختصر الامثل، ج 1، ص: 10

اللَّه صلى الله عليه و آله بوديعته: كتاب اللَّه وعترته، أنّ القرآن كان قد جمع في مجموعة واحدة في عصر الرسول الأعظم.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ (7) دأبت الأمم والشعوب على أن تبدأ كل عمل مهم ذي قيمة بإسم كبير من رجالها أي أنّ أصحاب المؤسسة يبدأون العمل باسم تلك الشخصية، ولكن أليس من الأفضل أن يبدأ العمل في اطروحة اريد لها البقاء والخلود باسم وجود خالد قائم لا يعتريه الفناء؟

فصفة الخلود والأبدية يختص بها اللَّه تعالى من بين سائر الوجودات، ومن هنا ينبغي أن يبدأ كل شي ء باسمه وتحت ظله وبالإستمداد منه ولذلك كانت البسملة أوّل آية في القرآن الكريم.

والبسملة لا ينبغى أن تنحصر في اللفظ والصورة، بل لابدّ أن تتعدّى ذلك إلى الإرتباط الواقعى بمعناها، وهذا الإرتباط يخلق الإتجاه الصحيح ويصون من الإنحراف، ويؤدي حتماً إلى نتيجة مطلوبة مباركة، لذلك جاء في الحديث النبوي الشريف: «كل أمر ذي بال لم يذكر فيه اسم اللَّه فهو أبتر» «1».

وفي تفسير الميزان عن الإمام محمّد بن علي الباقر عليه السلام قال: «... وينبغي الإتيان به عند افتتاح كل أمر عظيم أو صغير ليبارك به».

وبعبارة موجزة: فإنّ بقاء العمل وخلوده يتوقف على إرتباطه باللَّه.

من هنا كانت الآية الاولى التي أنزلها اللَّه على نبيّه الكريم تحمل أمراً لصاحب الرسالة أن يبدأ مهمّته الكبرى باسم اللَّه: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ» «2».

ولذلك أيضاً فإنّ نوحاً عليه السلام حينما أراد أن يركب

السفينة في ذلك الطوفان العجيب، ويمخر عباب الأمواج الهادرة، ويواجه ألوان الأخطار على طريق تحقيق هدفه يطلب من أتباعه

______________________________

(1) بحار الأنوار 73/ 305.

(2) سورة العلق/ 1.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 11

أن يردّدوا البسملة في حركات السفينة وسكناتها: «وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَيهَا وَمُرْسَيهَا» «1».

وسليمان عليه السلام يبدأ رسالته إلى ملكة سبأ بالبسملة: «إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمنَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «2».

وانطلاقاً من هذا المبدأ تبدأ كل سور القرآن بالبسملة، كي يتحقق هدفها، وهوالأصل المتمثل بهداية البشرية نحو السعادة، ويحالفها التوفيق من البداية إلى ختام المسيرة. وتنفرد سورة التوبة بعدم بدئها بالبسملة، لأنّها تبدأ بإعلان الحرب على مشركي مكة وناكثي الإيمان، وإعلان الحرب لا ينسجم مع وصف اللَّه بالرّحمن الرّحيم.

وطبيعي أنّ البدء باسم اللَّه الذي تفوق قدرته كل قدرة، يبعث فينا القوة، والعزم، والثقة، والإندفاع، والصمود والأمل أمام الصعاب والمشاكل، والإخلاص والنزاهة في الحركة.

والإمام الصّادق عليه السلام قال: «ولربّما ترك في افتتاح أمر بعض شيعتنا بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم فيمتحنه اللَّه بمكروه وينبّهه على شكر اللَّه تعالى والثناء عليه ويمحو فيه عنه وصمة تقصيره عند تركه قول بسم اللَّه» «3».

بحوث

1- هل البسملة جزء من السورة؟ أجمع علماء الشيعة على أنّ البسملة جزء من سورة الحمد وكل سور القرآن، وكتابتها في مطالع السور أفضل شاهد على ذلك، لأنّنا نعلم أن النصّ القرآني مصون عن أية إضافة، وذكر البسملة معمول به منذ زمن النبي صلى الله عليه و آله.

أضف إلى ذلك، أنّ سيرة المسلمين جرت دوماً على قراءة البسملة في مطالع السور لدى تلاوة القرآن، وثبت بالتواتر قراءة النبي لها، وكيف يمكن أن تكون أجنبية عن القرآن والنبي والمسلمون يواظبون على قراءتها لدى تلاوتهم القرآن.

والمسألة واضحة

إلى درجة كبيرة حتى روى صاحب السنن الكبرى: صلّى معاوية بالمدينة صلاة فلم يقرأ البسملة، فلما سلم ناداه من شهد ذلك من المهاجرين من كل مكان، يا معاوية! أسرقتَ أم نَسيتَ؟

2- لفظ الجلالة جامع لصفاته تعالى: إنّ كلمة «اسم» هي أوّل ما تطالعنا في البسملة من

______________________________

(1) سورة هود/ 41.

(2) سورة النمل/ 30.

(3) بحار الأنوار 73/ 305.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 12

كلمات، وهو في رأي علماء اللغة من «السموّ» على وزن «العُلوّ»، ومعناه الإرتفاع.

وبعد كلمة الإسم نلتقي بكلمة «اللَّه» وهي أشمل أسماء ربّ العالمين، فكل إسم ورد للَّه في القرآن الكريم وسائر المصادر الإسلامية يشير إلى جانب معين من صفات اللَّه، والإسم الوحيد الجامع لكل الصفات والكمالات الإلهيّة أو الجامع لكل صفات الجلال والجمال هو «اللَّه».

ولذلك اعتبرت بقية الإسماء صفات لكلمة «اللَّه» مثل: «الغفور» و «الرّحيم» و «السميع» و «العليم» و «البصير» و «الرزّاق» و «ذوالقوّة» و «المتين» و «الخالق» و «الباري» و «المصوّر».

فكلمة «اللَّه» هي وحدها الجامعة، ومن هنا اتخذت هذه الكلمة صفات عديدة في آية كريمة واحدة، حيث يقول تعالى: «هُوَ اللَّهُ الَّذِى لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبّرُ» «1».

وأحد شواهد جامعية هذا الاسم أنّ الإيمان والتوحيد لا يمكن إعلانه إلّابعبارة «لا إله إلّا اللَّه»، وعبارة (لا إله إلّاالقادر ... أو إلّاالخالق ... أو إلّاالرزّاق) لا تفي بالغرض.

3- الرحمة الإلهية الخاصة والعامة: المشهور بين جماعة من المفسرين أنّ صفة «الرّحمن» تشير إلى الرحمة الإلهيّة العامة، وهي تشمل الأولياء والأعداء، والمؤمنين والكافرين، والمحسنين والمسيئين، فرحمته تعمّ المخلوقات، وخوان فضله ممدود أمام جميع الموجودات.

وصفة «الرّحيم» إشارة إلى رحمته الخاصة بعباده الصالحين المطيعين، قد استحقوها بإيمانهم وعملهم الصالح، وحُرم منها المنحرفون والمجرمون.

لذلك فإنّ

صفة «الرّحمن» ذكرت بصورة مطلقة في القرآن الكريم ممّا يدل على عموميتها، لكن صفة «الرّحيم» ذكرت أحياناً مقيدة، لدلالتها الخاصّة، كقوله تعالى: «وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَّحِيمًا» «2». وأحياناً اخرى مطلقة كما في هذه السورة.

وفي الكافي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام قال: «واللَّه إله كل شي ء الرّحمن بجميع خلقه، والرّحيم بالمؤمنين خاصة». لِم لَم تَرد بقية صفات اللَّه في البسملة؟ في البسملة ذكرت صفتان للَّه فقط هما:

الرحمانية والرحيمية، فما هو السبب؟

______________________________

(1) سورة الحشر/ 23.

(2) سورة الأحزاب/ 43.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 13

الجواب يتضح لو عرفنا أنّ كل عمل ينبغي أن يبدأ بالإستمداد من صفة تعم آثارها جميع الكون وتشمل كل الموجودات، وتنقذ المستغيثين في اللحظات الحساسة.

هذه حقيقة يوضحها القرآن في الآية (156) من سورة الأعراف إذ يقول: «وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْ ءٍ».

ومن جانب آخر نرى الأنبياء وأتباعهم يتوسلون برحمة اللَّه في المواقف الشديدة الحاسمة. فقوم موسى تضرعوا إلى اللَّه أن ينقذهم من تجبّر فرعون وظلمه، وتوسلوا إليه برحمته فقالوا: «وَنَجّنَا بِرَحْمَتِكَ» «1».

وبشأن هود وقومه، يقول القرآن: «فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحمَةٍ مِنَّا» «2».

فإنّ أفعال اللَّه تقوم أساساً على الرحمة، والعقاب له طابع استثنائي لا ينزل إلّافي ظروف خاصة، كما نقرأ في دعاء الجوشن الكبير المروية عن آل بيت رسول اللَّه: «يا من سبقت رحمتُه غضبَه».

فالمجموعة البشرية السائرة على طريق اللَّه ينبغي أن تقيم نظام حياتها على هذا الأساس أيضاً، وأن تقرن مواقفها بالرحمة والمحبة، وأن تترك العنف إلى المواضع الضرورية.

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) العالم مغمور في رحمته تعالى: بعد البسملة، يأتي أول واجبات العباد وهو أن يستحضر دوماً مبدأ عالم الوجود، ونعمه اللامتناهية، هذه النعم التي تحيطنا وتغمر وجودنا، وتهدينا إلى معرفة اللَّه من جهة، وتدفعنا على

طريق العبودية من جهة اخرى.

وعندما نقول أنّ النعم تشكّل دافعاً ومحرّكاً على طريق العبودية، لأنّ الإنسان مفطور على البحث عن صاحب النعمة حينما تصله النعمة، ومفطور على أن يشكر المنعم على إنعامه.

من هنا فإنّ علماء الكلام (علماء العقائد) يتطرقون في بحوثهم الأولية لهذا العلم إلى «وجوب شكر المنعم» باعتباره أمراً فطرياً وعقلياً دافعاً إلى معرفة اللَّه سبحانه.

وإنّما قلنا إنّ النعم تهدينا إلى معرفة اللَّه، لأنّ أفضل طريق وأشمل سبيل لمعرفته سبحانه، دراسة أسرار الخليقة، وخاصة ما يرتبط بوجود النعم في حياة الإنسان.

______________________________

(1) سورة يونس/ 86.

(2) سورة الأعراف/ 72.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 14

وممّا تقدم نفهم لماذا ابتدأت سورة الحمد بعبارة: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ».

«الحمد» في اللغة: الثناء على عمل أو صفة طيبة مكتسبة عن اختيار، أي حينما يؤدّي شخص عملًا طيّباً عن وعي، أو يكتسب عن اختيار صفة تؤهله لأعمال الخير فإنّنا نحمده ونثني عليه. ولو علمنا أنّ الألف واللام في (الحمد) هي لاستغراق الجنس، لعلمنا أنّ كل حمد وثناء يختص باللَّه سبحانه دون سواه.

فثناؤنا على الآخرين ينطلق من ثنائنا عليه تعالى، لأنّ مواهب الواهبين كالأنبياء في هدايتهم للبشر، والمعلمين في تعليمهم، والكرماء في بذلهم وعطائهم، والأطباء في علاجهم للمرضى وتطبيبهم للمصابين، إنّما هي في الأصل من ذاته المقدسة.

وهكذا الشمس حين تغدق علينا بأشعتها، والسحب بأمطارها، والأرض ببركاتها، كل ذلك منه سبحانه، ولذلك فكل الحمد له.

جدير بالذكر أنّ الحمد ليس بداية كل عمل فحسب، بل هو نهاية كل عمل أيضاً كما يعلمنا القرآن. يقول سبحانه في الآية (10) من سورة يونس عن أهل الجنة: «دَعْوَيهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلمٌ وَءَاخِرُ دَعْوَيهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ».

أمّا كلمة «ربّ»: فهي في الأصل بمعنى مالك وصاحب

الشي ء الذي يهتم بتربيته واصلاحه. وكلمة «عالمين»: جمع «عالم» والعالم: مجموعة من الموجودات المختلفة وحين تجمع بصيغة «عالمين» فيقصد منها كل مجموعات هذا العالم.

وفي تفسير نور الثقلين عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في تفسير «ربّ العالمين» قال:

«ربّ العالمين وهم الجماعات من كل مخلوق من الجمادات والحيوانات».

الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) إنّ صفتي «الرّحمن» و «الرّحيم» تتكرران في البسملة والحمد، «والملتزمون» بذكر البسملة في السورة يكررون هاتين الصفتين في صلواتهم اليومية الواجبة ثلاثين مرّة، وكذلك في الحمد وبذلك يصفون اللَّه برحمته ستين مرّة يومياً. وهذا في الواقع درس لكل جماعة بشرية سائرة على طريق اللَّه، وتواقة للتخلق بأخلاق اللَّه، أنّه درس يبعد البشرية عن تلك الحالات التي شهدها تاريخ الرق في ظل القياصرة والأكاسرة والفراعنة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 15

مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) الإيمان بيوم القيامة: في هذه السورة تلفت الأنظار إلى أصل مهم آخر من اصول الإسلام، هو يوم القيامة: «مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ» وبذلك يكتمل محور المبدأ والمعاد، الذي يعتبر أساس كل إصلاح أخلاقي واجتماعي في وجود الإنسان.

إنّ تعبير «مالك» يوحي بسيطرة اللَّه التامة وهيمنته المستحكمة على كل شي ء وعلى كل فرد في ذلك اليوم، حيث تحضر البشرية في تلك المحكمة الكبرى للحساب، وتقف أمام مالكها الحقيقي للحساب، وترى كل ما فعلته وقالته، بل وحتى ما فكرت به، حاضراً، فلا يضيع أي شي ء- مهما صغر- ولا ينسى، والإنسان- وحده- يحمل أعباء نتائج أعماله، بل نتائج كل سنّة استنّها في الأرض أو مشروع أقامه.

ومالكية اللَّه في ذلك اليوم دون شك ليست ملكية اعتبارية، نظير ملكيتنا للأشياء في هذا العالم، فملكيتنا هذه عقد يبرم بموجب تعامل ووثائق، وينفسخ بموجب تعامل آخر ووثائق اخرى، لكن ملكية اللَّه لعالم

الكون ملكية حقيقية. وبعبارة اخرى: مالكية اللَّه نتيجة خالقيته وربوبيته، فالذي خلق الموجودات ورعاها وربّاها، وأفاض عليها الوجود لحظة بلحظة، هو المالك الحقيقي للموجودات.

وقد يسأل سائل فيقول: لماذا وصفنا اللَّه بأنّه «مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ» بينما هو مالك الكون كله؟ والجواب هو أنّ اللَّه مالك لعالم الدنيا والآخرة، لكن مالكيته ليوم القيامة أبرز وأظهر، لأنّ الإرتباطات المادية والملكيات الاعتبارية تتلاشى كلها في ذلك اليوم، وحتى الشفاعة لا تتم يومئذ إلّابأمر اللَّه: «يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ» «1».

إنّ الإيمان بيوم القيامة، وبتلك المحكمة الإلهيّة الكبرى التي يخضع فيها كل شي ء للإحصاء الدقيق، له الأثر الكبير في ضبط الإنسان أمام الزلّات، ووقايته من السقوط في المنحدرات، وأحد أسباب قدرة الصلاة على النهي عن الفحشاء والمنكر هو أنّها تذكّر الإنسان بالمبدأ المطلع على حركاته وسكناته وتذكره أيضاً بمحكمة العدل الإلهي الكبرى.

وفي تفسير نور الثقلين عن علىّ بن إبراهيم: كان عليّ بن الحسين عليه السلام: «إذا قرأ «مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ» يكرّرها حتى يكاد أن يموت».

______________________________

(1) سورة الانفطار/ 19.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 16

أمّا تعبير «يَوْمِ الدّينِ» فحيثما ورد في القرآن فهو يعني يوم القيامة، وتكرر ذلك في أكثر من عشرة مواضع من كتاب اللَّه العزيز، وفي الآيات (17 إلى 19) من سورة الإنفطار ورد هذا المعنى بصراحة.

وأمّا سبب تسمية هذا اليوم بيوم الدين، فلأنّ يوم القيامة يوم الجزاء، و «الدين» في اللغة: «الجزاء»، والجزاء أبرز مظاهر القيامة، ففي ذلك اليوم تُكشف السرائر ويُحاسب الناس عمّا فعلوه بدقة، ويرى كل فرد جزاء ما عمله صالحاً أم طالحاً.

وفي تفسير مجمع البيان عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام: «ملك يوم الدّين يعني يوم الحساب». و «الدين» استناداً إلى

هذه الرواية يعني (الحساب).

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) الإنسان بين يدي اللَّه: في هذه الآية يستشعر الإنسان- بعد رسوخ أساس العقيدة ومعرفة اللَّه في نفسه- حضوره بين يدي اللَّه ... يخاطبه ويناجيه، يتحدث إليه أوّلًا عن تعبده، ثم يستمد العون منه وحده دون سواه: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ».

فالآيات السابقة تحدثت عن توحيد الذات والصفات، وهذه الآية تتحدّث عن توحيد العبادة وتوحيد الأفعال.

فتوحيد العبادة: يعني الإعتراف بأنّ اللَّه سبحانه هو وحده اللائق بالعبادة والطاعة والخضوع، وبالتشريع دون سواه، كما يعني تجنب أيّ نوع من العبودية والتسليم لغير ذاته المقدسة.

وتوحيد الأفعال: هو الإيمان بأنّ اللَّه هو المؤثّر الحقيقي في العالم (لا مؤثّر في الوجود إلّا اللَّه). وهذا لا يعني إنكار عالم الأسباب، وتجاهل المسببات، بل يعني الإيمان بأنّ تأثير الأسباب، إنّما كان بأمر اللَّه.

وثمرة هذا الاعتقاد أنّ الإنسان يصبح معتمداً على «اللَّه» دون سواه، ويرى أنّ اللَّه هو القادر العظيم فقط، ويرى ما سواه شبحاً لا حول له ولا قوّة، وهو وحده سبحانه اللائق بالإتكال والاعتماد عليه في كل الامور. وهذا التفكير يحرر الإنسان من الإنشداد إلى أيّ موجود من الموجودات، ويربطه باللَّه وحده. إنّ كلمة «نعبد» و «نستعين» بصيغة الجمع تشير إلى أنّ العبادة- خاصة الصّلاة- تقوم

مختصر الامثل، ج 1، ص: 17

على أساس الجمع والجماعة، وعلى العبد أن يستشعر وجوده ضمن الجمع والجماعة، حتّى حين يقف متضرّعاً بين يدي اللَّه، فما بالك في المجالات الاخرى.

وهذا الاتجاه في العبادة يعني رفض الإسلام لكل ألوان الفردية والإنعزال.

الاستعانة به تعالى في كل الامور: يواجه الإنسان في مسيرته التكاملية قوى مضادة داخلية (في نفسه)، وخارجية (في مجتمعه)، ويحتاج في مقاومة هذه القوى المضادة إلى العون والمساعدة، ومن هنا يلزم

على الإنسان عندما ينهض صباحاً أن يكرر عبارة «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» ليعترف بعبوديته للَّه سبحانه، وليستمد العون منه في مسيرته الطويلة الشاقة، وعندما يجنّ عليه الليل لا يستسلم للرقاد إلّابعد تكرار هذه العبارة أيضاً، والإنسان المستعين حقّاً، هو الذي تتضاءل أمام عينيه كل القوى المتجبّرة المتغطرسة، وكل الجواذب المادية الخادعة، وذلك ما لا يكون إلّاحينما يرتفع الإنسان إلى مستوى القول:

«إِنَّ صَلَاتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ» «1».

السير على الصراط المستقيم: بعد أن يقّر الإنسان بالتسليم لربّ العالمين، ويرتفع إلى مستوى العبودية للَّه والإستعانة به تعالى، يتقدم هذا العبد بأوّل طلب من بارئه، وهو الهداية إلى الطريق المستقيم، طريق الطّهر والخير، طريق العدل والإحسان، طريق الإيمان والعمل الصالح، ليهبه اللَّه نعمة الهداية كما وهبه جميع النعم الاخرى.

فالإنسان في هذه المرحلة مؤمن طبعاً وعارف بربّه، لكنه معرّض دوماً بسبب العوامل المضادة إلى سلب هذه النعمة والانحراف عن الصراط المستقيم.

ثمّة سؤال يتبادر إلى الإذهان عن سبب طلبنا من اللَّه الهداية إلى الصراط المستقيم، تُرى هل نحن ضالون كي نحتاج إلى هذه الهداية؟ وكيف يصدر مثل هذا الأمر عن المعصومين وهم نموذج الإنسان الكامل؟

وفي الجواب نقول: أوّلًا: إنّ الإنسان معرض في كل لحظة إلى خطر التعثر والانحراف عن مسير الهداية ولهذا كان على الإنسان تفويض أمره إلى اللَّه، والإستمداد منه في تثبيت قدمه

______________________________

(1) سورة الأنعام/ 162.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 18

على الصراط المستقيم. ثانياً: إنّ الهداية هي السير على طريق التكامل، حيث يقطع فيه الإنسان تدريجياً مراحل النقصان ليصل إلى المراحل العليا.

وممّا تقدم نفهم سبب تضرع حتى الأنبياء والأئمة عليهم السلام للَّه تعالى ليهديهم «الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ» فالكمال المطلق للَّه تعالى، وجميع ما سواه يسيرون على طريق التكامل، فما الغرابة في أن

يطلب المعصومون من ربّهم درجات عليا.

ولمزيد من التوضيح نذكر الحديث التالى:

في معاني الأخبار عن الإمام جعفر بن محمّد الصّادق عليه السلام قال في تفسير «إِهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ»: «يعني أرشدنا للزوم الطّريق المؤدّي إلى محبّتك، والمبلّغ إلى جنّتك، والمانع من أن نتّبع أهواءنا فنعطب، أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك».

ما هو الصراط المستقيم؟ هذا الصراط كما يبدو من تفحص آيات الذكر الحكيم هو دين التوحيد والالتزام بأوامر اللَّه، ولكنه ورد في القرآن بتعابير مختلفة.

فهو الدين القيّم ونهج إبراهيم عليه السلام ونفي كل أشكال الشرك كما جاء في الآية (161) من سورة الأنعام: «قُلْ إِنَّنِى هَدَينِى رَبّى إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ». فهذه الآية الشريفة عرّفت الصراط المستقيم من ناحية ايديولوجية.

إنّ «الراغب» يقول في مفرداته في معنى الصراط: إنّه الطريق المستقيم، فكلمة الصراط تتضمن معنى الاستقامة ووصفه بالمستقيم كذلك تأكيد على هذه الصفة.

خطّان منحرفان: إنّ هذه الآية تفسير واضح للصراط المستقيم المذكور في الآية السابقة، إنّه صراط المشمولين بأنواع النعم (مثل نعمة الهداية، ونعمة التوفيق، ونعمة القيادة الصالحة، ونعمة العلم والعمل والجهاد والشهادة) لا المشمولين بالغضب الإلهي بسبب سوء فعالهم وزيغ قلوبهم، ولا الضائعين التائهين عن جادة الحق والهدى.

بحثان

1- من هم «الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ»؟ الذين أنعم اللَّه عليهم، تبيّنهم الآية (69) من سورة النساء إذ يقول: «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقًا».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 19

نحن- إذن- في سورة الحمد نطلب من اللَّه- صباحاً ومساءاً- أن يجعلنا في خط هذه المجاميع الأربعة: خط الأنبياء، وخط الصديقين، وخط الشهداء، وخط الصالحين، ومن الواضح أنّ علينا أن ننهض في كل

مرحلة زمنيّة بمسؤوليتنا ونؤدّي رسالتنا.

2- من هم «الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ»، ومن هم «الضَّالّينَ»؟ يستفاد من استعمال التعبيرين في القرآن أنّ «المغضوب عليهم» أسوأ وأحطّ من «الضالين» أي إنّ الضالين هم التائهون عن الجادة، والمغضوب عليهم هم المنحرفون المعاندون، أو المنافقون، ولذلك استحقوا لعن اللَّه وغضبه.

في الآية (6) من سورة الفتح يقول تعالى: «وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ».

«الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ». إذن يسلكون- إضافة إلى كفرهم- طريق اللجاج والعناد ومعاداة الحق، ولا يألون جهداً في توجيه ألوان التنكيل والتعذيب لقادة الدعوة الإلهيّة.

«نهاية تفسير سورة الحمد»

مختصر الامثل، ج 1، ص: 21

2. سورة البقرة

محتوى السورة: هذه السورة تتميز بشمولها لمبادى ء العقيدة ولكثير من الأحكام العملية (العبادية، والاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية). ففي هذه السورة:

1- موضوعات حول التوحيد ومعرفة الخالق، عن طريق استنطاق أسرار الكون.

2- جولات في عالم المعاد والبعث والنشور مقرونة بأمثلة حسيّة، مثل قصّة إبراهيم عليه السلام وإحياء الطير، وقصّة عُزير عليه السلام.

3- آيات ترتبط بإعجاز القرآن وأهمية كتاب اللَّه العزيز.

4- سرد مطوّل حول وضع اليهود والمنافقين ومواقفهم المعادية للقرآن والإسلام وشدّة ضررهم في هذا المجال.

5- استعراض لتاريخ الأنبياء وخاصة إبراهيم وموسى عليهما السلام.

6- بيان لأحكام إسلامية مختلفة مثل: الصلاة، والصوم، والجهاد، والحج، والقبلة، والزواج والطلاق، والتجارة والدّين، والربا، والإنفاق، والقصاص، وتحريم بعض الأطعمة والأشربة، والقمار، وذكر نبذة من أحكام الوصية وأمثالها.

وأمّا تسميتها بالبقرة، فمأخوذة من قصّة بقرة بني إسرائيل، التي سيأتي شرحها في الآيات (73- 67) إن شاء اللَّه.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 22

فضيلة السورة: في تفسير مجمع البيان: سئل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيّ سور القرآن أفضل؟ قال:

«البقرة». قيل: أيّ آية البقرة أفضل؟ قال: «آية الكرسي».

من

اللازم هنا أن نعيد التأكيد على هذه الحقيقة، وهي أنّ ما ذكر من ثواب وفضيلة وجزاء لتلاوة بعض السور والآيات الخاصة، لا يعني- إطلاقاً- قراءتها بشكل أوراد، ولا الإكتفاء بترديد ألفاظها، بل التلاوة للفهم، والفهم من أجل التفكير، والتفكير لغرض العمل.

صحيح أنّ قراءة القرآن عمل مثاب عليه في أي حال من الأحوال، لكن الثواب الأساس يترتب على التلاوة المقرونة بالتفكير والعمل.

الم (1) ذلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) تحقيق في الحروف المقطعة في القرآن: تسع وعشرون سورة من سور القرآن تبدأ بحروف مقطعة، وهذه الحروف من أسرار القرآن، وذكر المفسرون لها تفاسير عديدة.

جدير بالذكر أنّ التاريخ لم يحدثنا أنّ عرب الجاهلية والمشركين عابوا على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وجود هذه الحروف المقطعة في القرآن، ولم يتخذوا منها وسيلة للطعن والإستهزاء، وهذا يشير إلى أنّهم لم يكونوا جاهلين تماماً بأسرار وجود الحروف المقطعة.

اخترنا عدداً من التفاسير باعتبار مسنديتها وانسجامها مع آخر الدراسات في هذا المجال، وسنذكر هذه التفاسير بالتدريج في بداية هذه السّورة، وسورة آل عمران، وسورة الأعراف، إن شاء اللَّه. ونبدأ الآن بأهمّها:

هذه الحروف إشارة إلى أنّ هذا الكتاب السماوي، بعظمته وأهميته التي حيّرت فصحاء العرب وغير العرب، وتحدّت الجن والإنس في عصر الرسالة وكل العصور، يتكون من نفس الحروف المتيسرة في متناول الجميع.

ومع أنّ القرآن يتكون من هذه الحروف الهجائية والكلمات المتداولة، فإنّ ما فيه من جمال العبارة وعمق المعنى يجعله ينفذ إلى القلب والروح، ويملأ النفس بالرضا والإعجاب، ويفرض احترامه على الأفكار والعقول.

وكما أنّ اللَّه تعالى خلق من التراب موجودات، كالإنسان بما فيه من أجهزة معقّدة محيّرة، وكأنواع الطيور الجميلة الرائقة، والأحياء المتنوعة، والنباتات والزهور المختلفة، وكما أنّنا

مختصر

الامثل، ج 1، ص: 23

ننتج من هذا التراب نفسه ألوان المصنوعات، كذلك اللَّه سبحانه خلق من هذه الحروف الهجائية المتداولة، موضوعات ومعان سامية، في قوالب لفظية جميلة، وعبارات موزونة، وأسلوب خاص، وهذه الحروف الهجائية موجودة تحت تصرف الإنسان، لكنه عاجز عن صنع جمل وعبارات شبيهة بالقرآن.

الأدب في العصر الجاهلي: من المهم أن نذكر هنا أنّ العصر الجاهلي كان عصراً ذهبياً للأدب العربي. فالوثائق المتوفرة بأيدينا تشير إلى أنّ العرب الحفاة الجفاة الجاهليين، كانوا يتمتعون بذوق أدبي رفيع. وكان للأدب سوق رائجة تدلّ على اهتمام العرب بلغتهم وآدابهم، و (سوق عكاظ) وأمثالها من الأسواق الأدبية تعكس هذا الإهتمام بوضوح.

والسوق المذكور كان يشهد- إضافة إلى المعاملات الاقتصادية والقضايا الاجتماعية- حركة أدبية تعرض خلالها أفضل مقطوعات الشعر والنثر، ويتم فيها انتخاب أفضل ما قيل من النظم خلال العام، وكانت القصيدة الفائزة تعدّ فخراً كبيراً للشاعر ولقبيلته.

في مثل هذا العصر من الإنتعاش الأدبي، يتحدى القرآن الناس أن يأتوا بمثله، ولكنهم عجزوا.

الشاهد الناطق على هذا المنحى من تفسير الحروف المقطعة، حديث في تفسير البرهان عن الإمام علىّ بن الحسين عليه السلام حيث يقول: «كذّبت قريش واليهود بالقرآن وقالوا هذا سحر مبين، تقوّله، فقال اللَّه: «الم* ذلِكَ الْكِتَابُ» أي يا محمّد، هذا الكتاب الّذي أنزلته عليك هو الحروف المقطّعة التي منها الف ولام وميم، وهو بلغتكم وحروف هجائكم فأتوا بمثله إن كنتم صادقين واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم».

بعد البسملة وذكر الآية الاولى من سورة البقرة يقول تعالى: «ذلِكَ الْكِتَابُ لَارَيْبَ فِيهِ».

وقوله: «لَارَيْبَ فِيهِ» ليس إدعاء، بل تقرير لحقيقة قرآنية مشهودة، وهي أنّ القرآن يشهد بذاته على حقانيته.

ومن المشهود أنّ مرّ العصور وكرّ الدهور لم يقلل من طراوة القرآن، بل إنّ حقائق القرآن،

ازدادت وضوحاً بتطور العلوم وبانكشاف أسرار الكائنات، وكلما إزداد العلم تكاملًا إزدادت آيات القرآن جلاء وسطوعاً.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 24

بحثان

1- ما هي الهداية؟ كلمة «الهداية» لها عدّة معاني في القرآن الكريم، وكلها تعود أساساً إلى معنيين:

أ) الهداية التكوينية: وهي قيادة ربّ العالمين لموجودات الكون، وتتجلى هذه الهداية في نظام الخليقة والقوانين الطبيعية المتحكمة في الوجود.

ب) الهداية التشريعية: وهي التي تتم عن طريق الأنبياء والكتب السماوية، وعن طريقها يرتفع الإنسان في مدارج الكمال.

2- لماذا اختصت هداية القرآن بالمتقين؟ واضح أنّ القرآن هداية للبشرية جمعاء، فلماذا خصّت الآية الكريمة المتقين بهذه الهداية؟

السبب هو أنّ الإنسان لا يتقبل هداية الكتب السماوية ودعوة الأنبياء، ما لم يصل إلى مرحلة معينة من التقوى (مرحلة التسليم أمام الحق وقبول ما ينطبق مع العقل والفطرة).

الأرض السبخة لا تثمر وإن هطل عليها المطر آلاف المرات، وساحة الوجود الإنساني لا تتقبل بذر الهداية ما لم يتم تطهيرها من اللجاج والتعصب والعناد، ولذلك قال سبحانه في كتابه العزيز أنّه: «هُدًى لِلْمُتَّقِينَ».

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) آثار التقوى في روح الإنسان وبدنه: في بداية هذه السورة قسم القرآن الناس حسب إرتباطهم بخط الإسلام على ثلاثة أقسام:

1- المتقون: وهم الذين تقبلوا الإسلام في جميع أبعاده.

2- الكافرون: ويقعون في النقطة المقابلة للمتقين، ويعترفون بكفرهم، ولا يأبون أن يظهروا عداءهم للإسلام في القول والعمل.

3- المنافقون: ولهم وجهان، فهم مسلمون ظاهراً أمام المسلمين، وكفار أمام أعداء الدين، وشخصيتهم الأصلية هي الكفر طبعاً وإن تظاهروا بالإسلام.

مختصر الامثل، ج 1،

ص: 25

المجموعة الثالثة تضر بالإسلام- دون شك- أكثر من المجموعة الثانية، ولذلك فإنّ القرآن يقابلهم بشدة أكثر كما سنرى.

الآيات المذكورة تدور حول المجموعة الاولى، وتطرح خصائصهم في خمسة عناوين هي:

1- الإيمان بالغيب: «الغيب والشهود» نقطتان متقابلتان، عالم الشهود هو عالم المحسوسات، وعالم الغيب هو ما وراء الحس. لأنّ «الغيب» في الأصل يعني ما بطن وخفي، وقيل عن عالم ماوراء المحسوسات «غيب» لخفائه عن حواسنا.

الإيمان بالغيب هو بالضبط النقطة الفاصلة الاولى بين المؤمنين بالأديان السماوية، وبين منكري الخالق والوحي والقيامة، ومن هنا كان الإيمان بالغيب أوّل سمة ذكرت للمتقين.

«المؤمنين بالغيب» يعتقدون أنّ خالق عالم الوجود غير متناه في العلم والقدرة والإدراك، وأنّه أزلي وأبدي.

وأنّ الموت ليس بمعنى العدم والفناء، بل هو نافذة تطل على عالم أوسع وأكبر.

بينما الإنسان المادي يعتقد أنّ عالم الوجود محدود بما نلمسه ونراه، وأنّ العالم وليد مجموعة من القوانين الطبيعية العمياء الخالية من أي هدف أو تخطيط أو عقل أو شعور، والإنسان جزء من الطبيعة ينتهي وجوده بموته.

ما أكبر الهوّة التي تفصل بين هاتين الرؤيتين للكون والحياة.

الرؤية الاولى تربّي صاحبها على أن ينشد الحق والعدل والخير ومساعدة الآخرين، والثانية، لا تقدم لصاحبها أي مبرر على ممارسة الامور.

من هنا يسود في حياة المؤمنين الحقيقيين التفاهم والإخاء والطهر والتعاون، بينما تهيمن على حياة الماديين روح الاستعمار والاستغلال وسفك الدماء والنهب والسلب، وهذه الرؤية المادية تقمصت في عصرنا الصفات العلمية والتقدمية والتطورية. ولهذا السبب نرى القرآن يتخذ من «الإيمان بالغيب» نقطة البداية في التقوى.

2- الإرتباط باللَّه: الصفة الاخرى للمتقين هي أنّهم: «يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ».

«الصّلاة» باعتبارها رمز الإرتباط باللَّه، تجعل المؤمنين المنفتحين على عالم ماوراء الطبيعة على إرتباط دائم بالخالق العظيم، فهم لا يحنون رؤوسهم إلّاأمام اللَّه، ولا

يستسلمون إلّالربّ السماوات والأرض.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 26

مثل هذا الإنسان يشعر أنّه أسمى من جميع المخلوقات الاخرى، إذ أنّه منح لياقة الحديث مع ربّ العالمين، وهذا الإحساس الوجداني أكبر عامل في تربية الموجود البشري.

3- الإرتباط بالناس: المتقون- إضافة إلى إرتباطهم الدائم بالخالق- لهم إرتباط وثيق ومستمر بالمخلوقين، ومن هنا كانت الصفة الثالثة التي يبيّنها لهم القرآن أنّهم «وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ».

يلاحظ أنّ القرآن لا يقول: ومن أموالهم ينفقون، بل يقول: «وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ» وبذلك وسّع نطاق الإنفاق ليشمل المواهب المادية والمعنوية.

فالمتقون لا ينفقون أموالهم فحسب، بل ينفقون من علمهم ومواهبهم العقلية وطاقاتهم الجسميّة ومكانتهم الاجتماعية، وبعبارة اخرى ينفقون من جميع إمكاناتهم لمن له حاجة إلى ذلك دون توقع الجزاء منه.

4- الإيمان بالأنبياء عليهم السلام: الخاصة الرابعة للمتقين الإيمان بجميع الأنبياء وبرسالاتهم الإلهيّة، «وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ». وفي هذا التعبير القرآني إشارة إلى أنّ المتقين يؤمنون بأنّ الأديان الإلهيّة ليست وسيلة للتفرقة والنفاق، بل على العكس وسيلة للإرتباط وعامل للشدّ بين أبناء البشر.

5- الإيمان بيوم القيامة: آخر صفة في هذه السلسلة من الصفات التي قررها القرآن للمتقين: «وَبِالْأَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ».

إنّهم يوقنون بأنّ الإنسان لم يخلق هملًا وعبثاً. فالخليقة عيّنت للكائن البشري مسيرة تكاملية لا تنتهي إطلاقاً بموته.

المتقون يقرّون بأنّ عدالة اللَّه المطلقة تنتظر الجميع، ولا شي ء من أعمال البشر في هذه الدنيا يبقى بدون جزاء.

الإيمان بيوم القيامة له أثر عميق في تربية الإنسان، يهبه الشجاعة والشهامة، لأنّ أسمى وسام يتقلده الإنسان في هذا العالم هو وسام «الشهادة» على طريق هدف مقدس إلهي، والشهادة أحبّ شي ء للإنسان المؤمن، وبداية لسعادته الأبدية.

الإيمان بيوم القيامة يصون الإنسان من ارتكاب الذنوب. فكلما قوي الإيمان قلت الذنوب.

آخر

آية في هذا البحث تشير إلى النتيجة التي يتلقاها المؤمنون المتصفون بالصفات

مختصر الامثل، ج 1، ص: 27

الخمس المذكورة. تقول: «أُوْلئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».

وقد ضمن ربّ العالمين لهؤلاء هدايتهم وفلاحهم.

واستعمال حرف (على) في عبارة «عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ» يوحي بأنّ الهداية الإلهيّة مثل سفينة يركبها هؤلاء المتّقون لتوصلهم إلى السعادة والفلاح.

واستعمال كلمة «هدًى» في حالة نكرة يشير إلى عظمة الهداية التي شملهم اللَّه بها.

وجملة «هُمُ الْمُفْلِحُونَ» يفيد الإنحصار كما يذكر علماء البلاغة، أي إنّ الطريق الوحيد للفلاح هو طريق هؤلاء المفلحين.

ما هي حقيقة التقوى؟ التقوى من الوقاية، أي الحفظ والصيانة، وهي بعبارة اخرى جهاز الكبح الداخلي الذي يصون الإنسان أمام طغيان الشهوات.

إنّ حالة التقوى والضبط المعنوي من أوضح آثار الإيمان باللَّه واليوم الآخر، ومعيار فضيلة الإنسان وافتخاره، ومقياس شخصيته في الإسلام، حتى أضحت الآية الكريمة: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَيكُمْ» «1» شعاراً إسلامياً خالداً.

جدير بالذكر أنّ التقوى ذات شعب وفروع، منها التقوى المالية والاقتصادية، والتقوى الاجتماعية والسياسية والتقوى الجنسية ....

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَ عَلَى سَمْعِهِمْ وَ عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) المجموعة الثانية: الكفار المعاندون: هذه المجموعة تقف في النقطة المقابلة تماماً للمتقين، والآيتان المذكورتان بيّنتا باختصار صفات هؤلاء. الآية الاولى تقول: إنّ الإنذار لا يجدي نفعاً مع هؤلاء، فهم متعنّتون في كفرهم «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ». بعكس الطائفة الاولى المستعدّة لقبول الحق لدى أوّل ومضة.

هذه المجموعة غارقة في ضلالها وترفض الإنصياع للحق حتى لو اتضح لديها، لأنّهم يفتقدون الأرضية اللازمة لقبول الحق والاستسلام له.

الآية الثانية تشير إلى

سبب هذا اللجاج والتعصب وتقول: «خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى

______________________________

(1) سورة الحجرات/ 13.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 28

سَمْعِهِمْ وَعَلَى أبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ» ولذلك استحقوا أن يكون «وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ».

الإنسان قابل للهداية طبعاً- إن لم يصل إلى هذه المرحلة- مهما بلغ به الضلال، أمّا حينما يبلغ في درجة يفقد معها حسّ التشخيص «فلات حين نجاة» لأنّه افتقد أدوات الوعي والفهم، ومن الطبيعي أن يكون في إنتظاره عذاب عظيم.

بحوث

1- سلب قدرة التشخيص ومسألة الجبر: أوّل سؤال يطرح في هذا المجال يدور حول مسألة الجبر، التي قد تتبادر إلى الأذهان من قوله تعالى: «خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ». فهذا الختم يفيد بقاء هؤلاء في الكفر إجباراً، دون أن يكون لهم اختيار في الخروج من حالتهم هذه، أليس هذا بجبر؟

القرآن الكريم يجيب على هذه التساؤل ويقول: إنّ هذا الختم وهذا الحجاب هما نتيجة إصرار هؤلاء ولجاجهم وتعنّتهم أمام الحق، واستمرارهم في الظلم والطغيان والكفر، يقول تعالى: «بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ» «1».

هذه الحالة التي تصيب الإنسان، هي ردّ فعل لأعمال الإنسان نفسه.

من المظاهر الطبيعية في الموجود البشري، أنّ الإنسان لو تعوّد على انحراف واستأنس به، يتخذ في المرحلة الاولى ماهية ال «حالة» ثم يتحول إلى «عادة» وبعدها يصبح «ملكة» وجزء من تكوين الإنسان حتى يبلغ أحياناً درجة لا يستطيع الإنسان أن يتخلّى عنها أبداً.

لكن الإنسان إختار طريق الانحراف هذا عن علم ووعي، ومن هنا كان هو المسؤول عن عواقب أعماله، دون أن يكون في المسألة جبر، تماماً مثل شخص فقأ عينيه وسدّ أذنيه عمداً، كى لا يسمع ولا يرى.

ولو رأينا أنّ الآيات تنسب الختم وإسدال الغشاوة إلى اللَّه، فذلك لأنّ اللَّه هو الذي منح الانحراف

مثل هذه الخاصية. (تأمّل بدقّة).

2- الختم على القلوب: في الآيات المذكورة وآيات اخرى عبّر القرآن عن عملية سلب حسّ التشخيص والإدراك الواقعي للأفراد بالفعل «ختم» وأحياناً بالفعل «طبع» و «ران».

في اللغة «خَتَمَ» الإناء بمعنى سدّه بالطين أو غيره، وأصلها من وضع الختم على الكتب

______________________________

(1) سورة النّساء/ 155.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 29

والأبواب كي لا تُفتح، والختم اليوم مستعمل في الإستيثاق من الشّي ء والمنع منه كختم سندات الأملاك والرسائل السرّية الهامة. و «طبع» بمعنى ختم أيضاً.

أمّا «ران» فمن «الرين» وهو صدأ يعلو الشي ء الجليّ، واستعمل القرآن هذه الكلمة في حديثه عن قلوب الغارقين في أوحال الفساد والرّذيلة: «كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» «1».

المهم أنّ الإنسان ينبغي أن يكون حذراً لدى صدور الذنب منه، فيسارع إلى غسله بماء التوبة والعمل الصالح، كي لا يتحول إلى صفة ثابتة مختوم عليها في القلب.

3- المقصود من «القلب» في القرآن: لماذا نسب إدراك الحقائق في القرآن إلى القلب، بينما القلب ليس بمركز للإدراك بل مضخة لدفع الدم إلى البدن؟

أنّ القلب في القرآن له معان متعددة منها:

1- بمعنى العقل والإدراك كقوله تعالى: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ» «2».

2- بمعنى الروح والنفس كقوله سبحانه: «وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ» «3».

3- بمعنى مركز العواطف كقوله: «سَأُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ» «4».

لمزيد من التوضيح نقول: في وجود الإنسان مركزان قويان هما:

أ) مركز الإدراك، ويتكون من الدماغ وجهاز الأعصاب.

ب) مركز العواطف، وهو عبارة عن هذا القلب الصنوبري الواقع في الجانب الأيسر من الصدر، والمسائل العاطفية تؤثر أوّل ما تؤثر على هذا المركز.

حينما نواجه مصيبة فإنّنا نحسّ بثقلها على هذا القلب الصنوبري، وحينما يغمرنا الفرح فإنّنا نحسّ بالسرور والإنشراح

في هذا المركز (لاحظ بدقّة).

صحيح أنّ المركز الأصلى للإدراك والعواطف هو الروح والنفس الإنسانية، لكن المظاهر

______________________________

(1) سورة المطفّفين/ 14.

(2) سورة ق/ 37.

(3) سورة الأحزاب/ 10.

(4) سورة الأنفال/ 12.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 30

وردود الفعل الجسمية لها مختلفة. ردود فعل الفهم و الإدراك تظهر أوّلًا في جهاز الدماغ، بينما ردود فعل القضايا العاطفية كالحب والبغض والخوف والسكينة والفرح والهمّ تظهر في القلب بشكل واضح، ويحسّها الإنسان في هذا الموضوع من الجسم.

ممّا تقدم نفهم سبب إرتباط المسائل العاطفية في القرآن بالقلب (العضو الصنوبري المخصوص)، وإرتباط المسائل العقلية بالقلب (أي: العقل أو الدماغ).

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ مَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ مَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَ نُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَ لكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَ إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَ إِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَ مَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) المجموعة الثالثة: المنافقون: الإسلام واجه في عصر انبثاق الرسالة مجموعة لم تكن تملك الإخلاص اللازم للإيمان، ولا القدرة اللازمة للمعارضة. هذه المجموعة المذبذبة المصابة بازدواج الشخصية كان تشخيصهم صعباً لأنّهم متظاهرون بالإسلام، غير أنّ القرآن بيّن بدقّة مواصفاتهم

وأعطى للمسلمين في كل القرون والأعصار معايير حيّة لمعرفتهم. الآيات المذكورة قبلها بينت في مطلعها الخط العام للنفاق والمنافقين «1»: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْأَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ».

______________________________

(1) «المنافق»: مشتقة من «النفق» و هو الطريق النافذ فى الأرض المحفور فيها للإستتار أو الفرار.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 31

هؤلاء يعتبرون عملهم المذبذب هذا نوعاً من الشطارة والدهاء «يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا». بينما لا يشعر هؤلاء أنّهم يسيئون بعملهم هذا إلى أنفسهم، ويبدّدون بانحرافهم هذا طاقاتهم، ولا يجنون من ذلك إلّاالخسران والعذاب الإلهي. «وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّاأَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ».

في الآية التالية يبيّن القرآن أنّ النفاق في حقيقته نوع من المرض، فإنّ الإنسان السالم له وجه واحد فقط، وفي ذاته انسجام تام بين الروح والجسد، لأنّ الظاهر والباطن، والروح والجسم، يكمل أحدهما الآخر. إذا كان الفرد مؤمناً فالإيمان يتجلّى في كل وجوده، وإذا كان منحرفاً فظاهره وباطنه يدلان على انحرافه.

وازدواجية الجسم والروح مرض آخر وعلّة إضافية. إنّه نوع من التضاد والانفصال في الشخصية الإنسانية: «فِى قُلُوبِهِم مَرَضٌ».

وبما أنّ سنّة اللَّه في الكون اقتضت أن يتيسّر الطريق لكل سالك، وأن تتوفر سبل التقدم لكل من يجهد في وضع قدمه على الطريق. فقد أضاف القرآن قوله: «فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا».

وبما أنّ الكذب رأس مال المنافقين، يبررون به ما في حياتهم من متناقضات، ولهذا أشار القرآن في ختام الآية إلى هذه الحقيقة: «وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ».

ثم تستعرض الآيات خصائص المنافقين، وتذكر أوّلًا أنّهم يتشدّقون بالإصلاح، بينما هم يتحركون على خط التخريب والفساد: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَاتُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ* أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِن لَّايَشْعُرُونَ».

ذكرنا سابقاً أنّ الإنسان، لو تمادى في الغيّ والضلال، يفقد قدرة التشخيص،

بل تنقلب لديه الموازين، ويصبح الذنب والإثم جزءً من طبيعته. والمنافقون أيضاً بإصرارهم على انحرافهم يتطبّعون بخط النفاق، وتتراءى لهم أعمالهم بالتدريج وكأنّهم أعمال إصلاحية، وتغدو بصورة طبيعة ثانية لهم.

علامتهم الاخرى: إعتدادهم بأنفسهم واعتقادهم أنّهم ذووا عقل وتدبير، وأنّ المؤمنين سفهاء وبسطاء: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُوا كَمَا ءَامَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا ءَامَنَ السُّفَهَاءُ».

وهكذا تنقلب المعايير لدى هؤلاء المنحرفين، فيرون الإنصياع للحق وإتّباع الدعوة الإلهيّة سفاهة، بينما يرون شيطنتهم وتذبذبهم تعقلًا ودراية! غير أنّ الحقيقة عكس ما يرون: «أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلكِن لَّايَعْلَمُونَ». أليس من السفاهة أن يضيّع الإنسان

مختصر الامثل، ج 1، ص: 32

وحدة شخصيته، ويتّجه نحو إزدواجية الشخصية وتعدد الشخصيات في ذاته، ويهدر بذلك طاقاته على طريق التذبذب والتآمر والتخريب، وهو مع ذلك يعتقد برجاحة عقله؟! العلامة الثالثة لهؤلاء، هي تلونهم بألوان معينة تبعاً لما تفرضه عليهم مصالحهم، فهم انتهازيون يظهرون الولاء للمؤمنين ولأعدائهم من الشياطين: «وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهزِءُونَ».

وبلهجة قوية حاسمة يرد القرآن الكريم على هؤلاء ويقول: «اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ» «1».

الآية الأخيرة توضّح المصير الأسود المظلم لهؤلاء المنافقين، وخسارتهم في سيرتهم الحياتية الضّالة: «أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّللَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ».

إنّ إزدواجية الشخصية، والتضاد بين المحتوى الداخلي والسلوك الخارجي في وجود المنافقين، يفرز ظواهر عديدة بارزة مشهودة في أعمالهم وأقوالهم وسلوكهم الفردي والاجتماعي.

سعة معنى النفاق: النفاق في مفهومه الخاص صفة اولئك الذين يظهرون الإسلام، ويبطنون الكفر، لكن النفاق له معنىً عام واسع يشمل كل ازدواجية بين الظاهر والباطن، وكل افتراق بين القول والعمل، من هنا قد يوجد في قلب المؤمن بعض ما نسميه

«خيوط النفاق».

ففي الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «ثلاث من كنّ فيه كان منافقاً وإن صام وصلّى وزعم أنّه مسلم: من إذا ائتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف» «2».

الحديث لا يدور هنا طبعاً عن المنافق بالمعنى الخاص، بل عن الذي في قلبه خيوط من النفاق، تظهر على سلوكه بأشكال مختلفة، وخاصة بشكل رياء، كما جاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: «الرّياء شجرة لا تُثمر إلّاالشّرك الخفيّ وأصلها النّفاق» «3».

______________________________

(1) «يعمهون»: من «العَمَه» أي التردّد في الأمر، وأيضاً بمعنى عمى القلب والبصيرة بسبب التحيّر.

(2) بحار الأنوار 69/ 108/ 8.

(3) بحار الأنوار 69/ 300/ 37.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 33

خداع الضمير: الآية المذكورة تشير بوضوح إلى حقيقة خداع الضمير والوجدان، وأنّ الإنسان المنحرف الملوّث كثيراً ما يعمد إلى خداع نفسه ووجدانه للتخلص من تأنيب الضمير، ويصبح بالتدريج مقتنعاً بأنّ قبائحه ليست عملًا انحرافياً، بل هي أعمال إصلاحية «إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ». وبذلك يخدعون أنفسهم ويستمرون في غيّهم.

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَ اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَ إِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (20) مثالان رائعان لوصف حالة المنافقين: بعد أن بيّن القرآن صفات المنافقين وخصائصهم، يقدّم مثالين متحركين لتجسيم وضعهم:

1- «مَثَلُهُمْ» المنافقين «كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَارًا» في ليلة مظلمة، كي يهتدي

بها في الطريق ويبلغ مقصده، «فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِى ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ».

لقد ظن هؤلاء أنّهم قادرون على أن يحققوا أهدافهم بما لديهم من إمكانات إنارة محدودة، ولكن نارهم سرعان ما انطفأت بسبب عوامل جوّية، أو بسبب نفاد الوقود، وظلوا حائرين لا يهتدون سبيلًا.

ثم تضيف الآية الكريمة أنّ هؤلاء فقدوا كل وسيلة لدرك الحقائق: «صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ».

هذا النور الضعيف المؤقّت، إمّا أن يكون إشارة إلى الضمير والفطرة التوحيدية، أو إشارة إلى الإيمان الأوّلي لهؤلاء المنافقين حيث اسدلت عليه ستائر مظلمة على أثر التقليد الأعمى والتعصب المقيت واللجاج والعداء، فتحولت ساحة حياتهم لا إلى ظلمة، بل إلى

مختصر الامثل، ج 1، ص: 34

«ظلمات» في التعبير القرآني.

هذا التشبيه يوضّح واحدة من حقائق النفاق، وهي أنّ عمر النفاق والتذبذب لا يدوم طويلًا، قد يستطيع المنافقون لمدّة قصيرة أن يتمتعوا بمصونية الإسلام والإيمان، وبصداقة الكفار سرّاً، لكن هذه الحالة مثل شعلة ضعيفة معرضة لألوان العواصف، سرعان ما تنطفى، ويظهر الوجه الحقيقي للمنافقين. 2- في المثال الثاني صوّر القرآن حياة المنافقين بشكل ليلة ظلماء مخوفة خطرة، يهطل فيها مطر غزير، وينطلق من كل ناحية منها نور يكاد يخطف الأبصار، ويملأ الجوّ صوت مهيب مرعب يكاد يمزّق الآذان، وفي هذا المناخ القلق ضلّ مسافرٌ طريقه، وبقي في بلقع فسيح لا ملجأ فيه ولا ملاذ، لا يستطيع أن يحتمي من المطر الغزير، ولا من الرعد والبرق، ولا يهتدي إلى طريق لشدّة الظلام. هذه الصورة يرسمها القرآن على النحو التالي: «أوْ كَصَيّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أصَابِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ* يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أضَاءَ لَهُم مَّشَوْا

فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا».

هؤلاء يحسّون كل لحظة بخطر، لأنّهم يطؤون صحراء لا جبال فيها ولا أشجار تحميهم من خطر الرعد والبرق والصواعق.

نعم، هؤلاء حيارى مضطربون، لا يجدون طريقاً يسلكونه، ولا دليلًا يهتدون به، خطر صوت الرعد يهدّد أسماعهم، ونور البرق يكاد يذهب بأبصارهم «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

هذه الآيات- وإن كانت تتحدث عن المنافقين في عصر نزول الوحي- تمتد لتشمل كل المنافقين في التاريخ، لأنّ خطّ النفاق يقف دوماً بوجه الخط الثوري الصادق الصحيح، ونحن نرى بأعيننا اليوم مدى انطباق ما يقوله القرآن على منافقي عصرنا بدقّة. نرى حيرتهم وخوفهم واضطرابهم، ونرى تعاستهم وبؤسهم وانفضاحهم تماماً مثل تلك المجموعة المسافرة الهائمة في صحراء مقفرة وفي ليلة ظلماء موحشة.

أمّا بشأن الفرق بين المثالين: إنّ قوله تعالى: «مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى ...» يصور حالة المنافقين الذين انخرطوا في صفوف المؤمنين عن اعتقاد حقيقي، ثم تزعزعوا واتّجهوا نحو النفاق. أمّا قوله: «كَصَيّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ ...» فيمثل حالة المنافقين الذين كانوا منذ البداية في صف النفاق، ولم يؤمنوا باللَّه قط.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 35

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَ السَّمَاءَ بِنَاءً وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) فيما سبق من آيات كتاب اللَّه سبحانه تبيّن ثلاث مجموعات هي: مجموعة المتّقين، ومجموعة الكافرين، ومجموعة المنافقين. أمّا الآيات المذكورة فدعت الناس إلى انتخاب طريق المجموعة الاولى وإلى عبادة اللَّه الواحد الأحد. يقول اللَّه تعالى: «يَا أيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ».

1- قوله

تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ» تكرر في القرآن عشرين مرّة تقريباً، وهو نداء عام شامل يشير إلى أنّ القرآن لا يختص بعنصر أو قبيلة أو طائفة أو فئة خاصة، بل يوجّه دعوته إلى البشرية عامة لعبادة اللَّه، وللثورة على كل ألوان الشرك والانحراف عن طريق التوحيد.

2- يركّز القرآن، في دعوته إلى عبادة اللَّه وإلى شكر اللَّه، على نعمة خلق البشر، وهى نعمة تتجلى فيها قدرة اللَّه كما يتجلى فيها علم اللَّه و حكمته.

3- نتيجة هذه العبادة هي التقوى: «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» فعباداتنا لا تزيد اللَّه عظمة وجلالًا، كما أنّ إعراضنا عن العبادة لا ينقص من عظمة اللَّه شيئاً، هذه العبادات مدرسة لتعليم التقوى.

4- عبارة «الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ» لعلّها ردّ على استدلال المشركين الذين برروا عبادتهم للأصنام بتمسكهم بسنة آبائهم والآية الكريمة تشير بهذه العبارة إلى أنّ اللَّه الواحد الأحد، خالق البشر وخالق آبائهم، وكل شرك يعتري المسيرة البشرية في حاضرها وسالفها هو انحراف عن الخط الصحيح.

نِعَم الأرض والسماء: الآية التالية استعرضت قسماً آخر من النعم الإلهيّة التي تستحق الشكر، ذكرت أوّلًا خلق الأرض: «الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا».

إنّ تعبير «فراش» يصوّر بشكل رائع مفهوم الاستقرار والاستراحة.

في تفسير نور الثقلين هذه الحقيقة يعبّر عنها الإمام علىّ بن الحسين عليه السلام مفسراً هذه

مختصر الامثل، ج 1، ص: 36

الآية إذ يقول: «جعلها ملائمةً بطبائعكم، موافقةً لِأجسادكم ولم يجعلها شديدة الحماء والحرارة فتحرقكم ولا شديدة البرودة فتجمدكم ولا شديد طيب الريح فتصدع هاماتكم ولا شديد النّتن فتعطبكم ولا شديدة اللّين كالماء فتغرقكم ولا شديدة الصّلّابة فتمتنع عليكم في دوركم وأبنيتكم وقبور موتاكم ... فلذلك جعل الأرض فراشاً لكم». ثم تتعرض الآية إلى نعمة السماء فتقول: «وَالسَّمَاءَ بِنَاءً».

كلمة «سماء» وردت في القرآن

بمعان مختلفة، وكلها تشير إلى العلو، وأحد معاني السماء «جوّ الأرض» وهو المقصود في الآية الكريمة، وجوّ الأرض هو الطبقة الهوائية الكثيفة المحيطة بالكرة الأرضية، ويبلغ سمكها عدّة مئات من الكيلومترات.

هذه الطبقة الهوائية مثل سقف شفاف يحيط بكرتنا الأرضية من كل جانب، ولو لم يكن هذا السقف لتعرضت الأرض دوماً إلى رشق الشهب والنيازك السماوية المتناثرة، ولما كان للبشر أمان ولا استقرار على ظهر هذا الكوكب.

بعد ذلك تطرقت الآية إلى نعمة المطر: «وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً». ماءً يحي الأرض ويخرج منها الثمرات.

ثم تشير الآية إلى نعمة الثمرات التي تخرج من بركة الأمطار لتكون رزقاً لبني البشر «فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ».

وإخراج الثمرات مدعاة للشكر على رحمة ربّ العالمين لعباده، ومدعاة للإذعان بقدرة ربّ العالمين في إخراج ثمر مختلف ألوانه، من ماء عديم اللون، ليكون قوتاً للإنسان والحيوان، لذلك عطف عليها قوله تعالى: «فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ».

«الأنداد»: جمع «نِد» على وزن ضدّ، وهو الشبيه والشريك. وبعبارة أدق: ندّ الشي ء ونديده مشاركة في جوهره، وذلك ضرب من المماثلة، أي المماثلة في جوهر الذات.

الشّرك في أشكال مختلفة: إنّ الشّرك باللَّه لا ينحصر باتّخاذ الأوثان الحجرية والخشبية آلهة من دون اللَّه كما يفعل الوثنيون، بل إنّ للشرك معنى أوسع، وبشكل عام كل اعتقاد بوجود أشياء لها نفس تأثير اللَّه في الحياة هو نوع من الشرك. وهذا ما يعبّر عنه ابن عبّاس إذ يقول: «الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: واللَّه وحياتك يا فلان وحياتي. ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة، ولولا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 37

البط في الدار لأتى اللصوص. وقول الرجل لصاحبه: ما شاء اللَّه

وشئت! وقول الرجل: لولا اللَّه وفلان ... هذا كله به شرك» «1».

مثل هذه التعابير التي يشمّ منها رائحة الشرك رائجة- مع الأسف- بين سواد المسلمين وغير لائقة بالشخص الموحّد، كقولهم: اعتمادي على اللَّه وعليك!

وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) القرآن معجزة خالدة: ظاهرة الكفر والنفاق، تنشأ أحياناً عن عدم فهم محتوى النبوّة ومعجزة الرسول صلى الله عليه و آله، والآيات التي نحن بصددها تعالج هذه المسألة، وتركز على المعجزة القرآنية الخالدة كي تزيل كل شك وترديد في رسالة نبيّ الخاتم صلى الله عليه و آله. تقول الآية: «وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ».

وبهذا الشكل تحدى القرآن كل المنكرين أن يأتوا بسورة من مثله، كي يكون عجزهم دليلًا واضحاً على أصالة هذا الوحي السماوي وعلى الجانب الإلهي للرسالة والدعوة.

ولأجل أن يؤكد هذا التحدي دعاهم أن لا يقوموا بهذا العمل منفردين، بل «وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».

كلمة «شهداء» تشير إلى الفئة التي كانت تساعدهم في رفض رسالة النبي صلى الله عليه و آله وعبارة «مِّن دُونِ اللَّهِ» إشارة إلى عجز جميع البشر عن الإتيان بسورة قرآنية ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، وإلى قدرة اللَّه وحده على ذلك.

وعبارة «إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ» تستهدف حثّهم على قبول هذا التحدي، ومفهومها: لو عجزتم عن هذا العمل فذلك دليل كذبكم، فانهضوا إذن لإثبات ادعائكم.

من هنا فسياق الآيات التالية، يركز على عنصر الإثارة ويقول: «فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ

الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ». وهذه النار ليست حديث مستقبل، بل هي واقع قائم: «أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ».

______________________________

(1) تفسير في ظلال القرآن 1/ 53.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 38

جمع من المفسرين قالوا: إنّ المقصود بالحجارة: الأصنام الحجرية، واستشهدوا لذلك بالآية (98) من سورة الأنبياء: «إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ».

ويبدو من ظاهر الآيات المذكورة، أنّ نار جهنم تستعر من داخل الناس والحجارة، ولا يصعب فهم هذه المسألة لو علمنا أنّ العلم الحديث أثبت أنّ كل أجسام العالم تنطوي في أعماقها على نار عظيمة.

وفي الآيتي (6 و 7) من سورة الهمزة يقول تعالى: «نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ* الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفِدَةِ». خلافاً لنيران هذا العالم التي تنفذ من الخارج إلى الداخل.

بحثان

1- لماذا يحتاج الأنبياء إلى المعجزة؟ «المعجزة»- كما هو واضح من لفظها- عمل خارق يأتي به النبي ويعجز عن الإتيان به الآخرون.

على النبي صاحب المعجزة أن يتحدى الناس بمعجزته، وأن يعلن لهم أنّ معجزته دليل على صدق دعواه.

2- القرآن معجزة نبيّ الأكرم الخالدة: القرآن كتاب يسمو على أفكار البشر، هذا الكتاب الكريم يعتبر- بين معاجز النبي صلى الله عليه و آله- أقوى سند حي على نبوّة الرسول الخاتم، لأنّه معجزة «ناطقة» و «خالدة» و «عالمية» و «معنوية».

أما أنّه معجزة «ناطقة» فإنّ معاجز الأنبياء السابقين لم تكن كذلك، أي أنّها كانت بحاجة إلى وجود النبي لكي يتحدث للناس عن معجزته ويتحداهم بها، ومعاجز النبي الخاتم- عدا القرآن- هي من هذا اللون، أمّا القرآن فمعجزة ناطقة، لا يحتاج إلى تعريف، يدعو لنفسه بنفسه، يتحدى بنفسه المعارضين ويدينهم ويخرج منتصراً من ساحة التحدي، وهو يتحدى اليوم جميع البشر كما كان يتحداهم في عصر الرسالة، أنّه دين ومعجزة، أنّه قانون، ووثيقة تثبت

إلهيّة القانون.

أمّا الخلود والعالمية: فإنّ القرآن حطّم سدود «الزمان والمكان» فهو يطلع علينا اليوم كما طلع على عرب الجاهلية قبل قرون، وما لا يرتبط بزمان أو مكان فإنّه يحوي عناصر الدوام والخلود وسعة دائرته العالمية، وبديهي أنّ الدين العالمي الخالد بحاجة إلى مثل هذه الوثيقة العالمية الخالدة.

أمّا الصّفة «المعنوية» للقرآن فنفهمها حين ننظر إلى معاجز الأنبياء السابقين، ونرى أنّها

مختصر الامثل، ج 1، ص: 39

كانت غالباً «جسمية» مثل: شفاء الأمراض الجسمية المستعصية، وتحدث الطفل في المهد ...

وكانت تتجه نحو تسخير الأعضاء البدنية. أمّا القرآن، فيسخر القلوب والنفوس، ويبعث فيها الإعجاب والإكبار، إنّه يتعامل مع الأرواح والأفكار والعقول البشرية، وواضح امتياز مثل هذه المعجزة على المعاجز الجسمية.

وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَ أُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَ لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) خصائص نِعَم الجنة: آخر آية في بحثنا السابق تحدثت عن مصير الكافرين، وهذه الآية تتحدث عن مصير المؤمنين، كي تتضح الحقيقة أكثر بالمقارنة بين الصورتين، على الطريقة القرآنية في التوضيح. في المقطع الأوّل تقول الآية: «وَبَشّرِ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ».

نعلم أنّ البساتين التي تفتقد الماء الدائم، وتسقى بين حين وحين ليس لها حظ كبير من النظارة، فالنظارة تطفح على البساتين التي تمتلك ماء سقي دائم مستمر لا ينقطع أبداً، ومثل هذه البساتين لا يعتريها جفاف ولا تهددها شحة ماء. وهذه هي بساتين الجنة.

وبعد الإشارة إلى ثمار الجنة المتنوعة تقول الآية: «كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُوا هذَا الَّذِى رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ».

ثم تقول الآية: «وَأُتُوا

بِهِ مُتَشَابِهًا». أي متشابهاً في الجودة والجمال، فهذه الثمار بأجمعها فاخرة بحيث لا يمكن ترجيح إحداها على الاخرى.

وآخر نعمة تذكرها الآية هي: «أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ» من كل أدران الروح والقلب والجسد.

أحد منغّصات نعم الدنيا زوالها، ومن هنا فلا تكون هذه النعم عادة باعثة على السعادة والإطمئنان، أمّا نِعم الجنة ففيها السعادة والطمأنينة لأنّها خالدة لا يعتريها الزوال والفناء، وإلى هذه الحقيقة تشير الآية في خاتمتها وتقول: «وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».

بحثان

1- الأزواج المطهرة: مما يلفت النظر في هذه الآية أنّ الوصف الوحيد الذي استعمله

مختصر الامثل، ج 1، ص: 40

القرآن لمدح الأزواج في جنات النعيم هو أنّها «مطهرة»، وهي إشارة إلى أول شرط في الزوجة هو «الطهر»، وكل ما سواه من الشروط والأوصاف ثانوي. في حديث عن الإمام الصادق عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «قال للناس: إياكم وخضراء الدّمن.

قيل: يا رسول اللَّه! وما خضراء الدّمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء» «1».

2- النعم المادية والمعنوية في الجنة: ذكر القرآن الكريم أنواع النعم المادية في الجنة، ولكنه ذكر إلى جانب هذه النعم المادية نعماً أهم منها هي النعم المعنوية كقوله تعالى في الآية (72) من سورة التوبة: «وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ العَظِيمُ».

إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَا ذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)

سبب النّزول

ذكر الطبرسي في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس أنّ اللَّه

لما ضرب المثلين قبل هذه الآية للمنافقين، يعني قوله «مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَارًا» وقوله «أَوْ كَصَيّبٍ مِنَ السَّمَاءِ» قال المنافقون: اللَّه أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال. فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.

قال آخرون: عند نزول الآيات التي تضرب الأمثال بالذباب والعنكبوت، بدأ المشركون ينتقدون ويسخرون، فقال اللَّه تعالى: يا محمّد إنّ اللَّه لا يستحى أن يضرب مثلًا.

التّفسير

هل اللَّه يضرب المثل؟ الفقرة الاولى من الآية تقول: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا».

المثال وسيلة لتجسيد الحقيقة حين يقصد المتحدث بيان ضعف المدعي وتحقيره فإنّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة 14/ 19.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 41

بلاغة الحديث تستوجب انتخاب موجود ضعيف للتمثيل به، كيما يتضح ضعف اولئك. في الآية (73) من سورة الحج، مثلًا يقول سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَايَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ».

وما المقصود من «فَمَا فَوْقَهَا»؟ للمفسرين في هذه رأيان:

الأوّل: «فوقها» في الصغر، لأنّ المقام مقام بيان صغر المثال، وهذا مستعمل في الحوار اليومي، نسمع مثلًا رجل يقول لآخر: ألا تستحي أن تبذل كل هذا الجهد من أجل دينار واحد؟ فيجيب الآخر: لا، بل أكثر من ذلك أنا مستعد لأبذل هذا الجهد من أجل نصف دينار! فالزيادة هنا في الصغر.

الثّاني: «فوقها» في الكبر. أي: إنّ اللَّه يضرب الأمثال بالصغير وبالكبير، حسب مقتضى الحال.

لكن الرأي الأوّل يبدو أنسب.

ثم تقول الآية: «فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ». فهؤلاء، بإيمانهم وتقواهم، بعيدون عن اللجاجة والعناد والحقد للحقيقة.

«وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِى بِهِ كَثِيرًا».

فيجيبهم اللَّه بعبارة قصيرة تحسم الموقف وتقول: «وَمَا يُضِلُّ

بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ».

هداية اللَّه وإضلاله: الهداية والضلالة- في المفهوم القرآني- لا يعنيان الإجبار على انتخاب الطريق الصحيح أو الخاطى ء، بل إنّ الهداية- المفهومة من الآيات المتعدّدة- تعني توفّر سبل السعادة، والإضلال: يعني زوال الأرضيّة المساعدة للهداية، دون أن يكون هناك إجبار في المسألة.

توفّر السبل (الذي نسميه التوفيق)، وزوال هذه السبل (الذي نسميه سلب التوفيق)، هما نتيجة أعمال الإنسان نفسه. فلو منح اللَّه فرداً توفيق الهداية، أو سلب من أحد هذا التوفيق، فإنّما ذلك نتيجة الأعمال المباشرة لهذا الفرد أو ذاك.

الفاسقون: هم المنحرفون عن طريق العبودية، لأنّ الفسق في اللغة إخراج النوى من التمر، ثم انتقل إلى الخروج عن طريق اللَّه.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 42

الخاسرون الحقيقيون: هذه الآية الكريمة توضح مواصفات الفاسقين بعد أن تحدثت الآية السابقة عن ضلال هذه الفئة، وتذكر لهم ثلاث صفات:

1- إنّهم «يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ».

هؤلاء لهم مع اللَّه عهود ومواثيق، مثل عهد التوحيد، وعهد الرّبوبية، وعهد عدم اتّباع الشيطان وهوى النفس. لكنهم نقضوا كل هذه العهود، وتمرّدوا على أوامر اللَّه، واتّبعوا أهواءهم وما أراده الشيطان لهم.

طبيعة هذا العهد: كل موهبة يمنحها اللَّه للإنسان يصحبها عهد طبيعي بين اللَّه والإنسان، موهبة العين يصحبها عهد يفرض على الإنسان أى يرى الحقائق، وموهبة الاذن تنطوي على عهد مدوّن في ذات الخلقة يفرض الاستماع إلى نداء الحق ... وبهذا يكون الإنسان قد نقض العهد متى ما غفل عن استثمار القوى الفطرية المودعة في نفسه، أو استخدم الطاقات الموهوبة له في مسير منحرف.

الفاسقون: ينقضون بعض هذه العهود الفطرية الإلهيّة، أو جميعها.

2- الصفة الاخرى لهؤلاء الفاسقين هي أنّهم: «يَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ».

الآية تتحدث عن قطع الفاسقين لِكلّ إرتباط أمر اللَّه به أن

يوصل، بما في ذلك رابطة الرحم، رابطة الصداقة، والروابط الاجتماعية، والرابطة بهداة البشرية إلى اللَّه، والإرتباط باللَّه.

3- علامة الفاسقين الثالثة هي الفساد: «وَيُفْسِدُونَ فِى الْأَرْضِ».

وتؤكد الآية في الخاتمة أنّ «أُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ».

وأيّ خسران أكبر من تبديد كل القوى المادية والمعنوية المودعة في الإنسان الرّاميّة لإسعاده، وإهدارها على طريق الشقاوة والتعاسة والانحراف؟

أهمية صلة الرحم في الإسلام: الآية المذكورة أعلاه، وإن تحدثت عن كل إرتباط أمر اللَّه به أن يوصل، إلّاأنّ الإرتباط الرحمي دون شك أحد مصاديقها البارزة.

لقد أعار الإسلام اهتماماً بالغاً بصلة الرحم وبالتودد إلى الأهل والأقارب، ونهى بشدة عن قطع الإرتباط بالرحم.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 43

رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يصور أهمية صلة الرحم بقوله: «صلة الرحم تعمر الديار وتزيد في الأعمار وإن كان أهلها غير أخيار» «1».

الإسلام مارس هذه العملية على النحو الأكمل في بناء المجتمع الإسلامي القوي الشامخ، وأمر بإصلاح الوحدات الاجتماعية، والكائن الإنساني لا يأبى عادة أن ينصاع إلى مثل هذه الأوامر اللازمة لتقوية إرتباط أفراد الاسرة، لاشتراك هؤلاء الأفراد في الرحم والدم.

وواضح أنّ المجتمع يزداد قوّة وعظمة كلما ازداد التماسك والتعاون والتعاضد في الوحدات الاجتماعية الصغيرة المتمثلة بالاسرة، وإلى هذه الحقيقة قد يشير الحديث الشريف: «صلة الرحم تعمر الديار».

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (29) نعمة الحياة: القرآن في الآيتين يكمل الأدلة التي أوردها في الآيتين (21 و 22) من هذه السورة حول معرفة اللَّه. القرآن يبدأ في أدلته من نقطة لا تقبل الإنكار، ويركز على مسألة (الحياة) بكل ما

فيها من تعقيد وغموض، ويقول: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ».

وفي هذه العبارة تذكير للإنسان بما كان عليه قبل الحياة ... لقد كان ميتاً تماماً مثل الأحجار والأخشاب ولم يكن فيه أي أثر للحياة، لكنه الآن يتمتع بنعمة الحياة، وبنعمة الشعور والإدراك.

إنّ لغز الحياة لم ينحل حتى اليوم على الرغم من كل ما حققه البشر من تقدم هائل في حقل العلم والمعرفة. لكن السؤال يبقى قائماً بحاله: كيف يكفر الإنسان باللَّه وينسب هذه الحياة بتعقيداتها وغموضها وأسرارها إلى صنع الطبيعة العمياء الصّماء الفاقدة لكل شعور وإدراك؟

من هنا نقول إنّ ظاهرة الحياة في عالم الطبيعة أعظم سند لإثبات وجود اللَّه تعالى،

______________________________

(1) بحار الأنوار 71/ 94.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 44

والقرآن يركّز في الآية المذكورة على هذه المسألة بالذات. بعد التذكير بهذه النعمة، تؤكد الآية على دليل واضح آخر وهو «الموت» «ثُمَّ يُمِيتُكُمْ».

نعم ... إنّ خالق الحياة هو خالق الموت أيضاً، وإلى ذلك تشير الآية (2) من سورة الملك:

«الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا».

بعد أن ذكرت الآية هذين الدليلين الواضحين على وجود اللَّه، تناولت المعاد والحياة بعد الموت: «ثُمَّ يُحْيِيكُمْ».

وفي نهاية الآية يقول تعالى: «ثُمَّ إِلَيْهِ تُرجَعُونَ». والمقصود بالرجوع هو الرجوع إلى نعم اللَّه تعالى يوم القيامة.

بعد ذكر نعمة الحياة والإشارة إلى مسألة المبدأ والمعاد، تشير الآية إلى واحدة اخرى من النعمّ الإلهيّة السابقة وتقول: «هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا».

وبهذا تعين الآية قيمة الإنسان في هذه الأرض، وسيادته على ما فيها من موجودات.

وفي القرآن آيات اخرى تؤكد على مكانة الإنسان السامية، وتوضح أنّ هذا الكائن هو الهدف النهائي من خلق كل موجودات الكون.

وتعود الآية إلى ذكر أدلة التوحيد وتقول: «ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ

فَسَوَّيهُنَّ سَبْعَ سَموَاتٍ وَهُوَ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ».

الفعل «استوى»: من «الإستواء» وهو التسلط والإحاطة الكاملة والقدرة على الخلق والتدبير.

السماوات السبع: الأصح في رأينا أنّ المقصود بالسماوات السبع، هو وجود سبع سماوات بهذا العدد. ويستفاد من آيات اخرى أنّ كل الكرات والسيارات المشهودة هي جزء من السماء الاولى، وثمة ستة عوالم اخرى خارجة عن نطاق رؤيتنا ووسائلنا العلمية اليوم، وهذه العوالم السبعة هي التي عبّر عنها القرآن بالسماوات السبع.

في الآية (12) من سورة فصّلت، يقول تعالى: «وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ».

وفي الآية (6) من سورة الصّافات، يقول أيضاً: «إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ».

ويتضح من هاتين الآيتين أنّ ما نراه وما يتكون منه عالم الأفلاك هو جزء من السماء الاولى، وما وراء هذه السماء ست سماوات اخرى ليس لدينا اليوم معلومات عن تفاصيلها.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 45

وَ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَ تَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَ يَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) الإنسان خليفة اللَّه في الأرض: الآيات السابقة ذكرت أنّ اللَّه سبحانه خلق ما في الأرض جميعاً للإنسان، وفي الآيات (30- 39) تركيز على ثلاث مسائل أساسية هي:

1- إخبار اللَّه ملائكته بشأن خلافة الإنسان في الأرض.

2- أمر اللَّه تعالى ملائكته بإكرام

وتعظيم الإنسان الأول.

3- شرح وضع آدم وحياته في الجنة، والحوادث التي أدّت إلى خروجه من الفردوس، ثم توبة آدم، وحياته هو وذريته في الأرض.

الآيات المذكورة تتحدث عن المرحلة الاولى، حين شاء اللَّه أن يخلق على ظهر الأرض موجوداً، يكون فيها خليفته، ويحمل أشعة من صفاته، وتسمو مكانته على مكانة الملائكة.

وبهذه المناسبة تقول الآية الاولى: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلِكَةِ إِنّى جَاعِلٌ فِى الْأَرْضِ خَلِيفَةً».

والخليفة: هو النائب عن الغير، أمّا هذا الغير الذي ينوب الإنسان عنه هو خليفة اللَّه ونائبه على ظهر الأرض، كما ذهب إلى ذلك كثير من المحققين. لأنّ سؤال الملائكة بشأن هذا الموجود الذي قد يفسد في الأرض ويسفك الدماء يتناسب مع هذا المعنى، لأنّ نيابة اللَّه في الأرض لا تتناسب مع الفساد وسفك الدماء.

ثم تذكر الآية سؤال الملائكة الذي وجّهوه لرب العالمين مستفسرين لا معترضين:

«قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ».

اللَّه سبحانه أجاب الملائكة جواباً مغلقاً اتضح في المراحل التالية: «قَالَ إِنّى أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 46

الملائكة يعلمون أنّ الهدف من الخلقة هو العبودية والطاعة، وكانوا يرون في أنفسهم مصداقاً كاملًا لذلك، فهم في العبادة غارقون. ولذلك فهم- أكثر من غيرهم- للخلافة لائقون، غير عالمين أنّ بين عبادة الإنسان الملي ء بألوان الشهوات، والمحاط بأشكال الوساوس الشيطانية، والمغريات الدنيوية وبين عبادتهم- وهم خالون من كل هذه المؤثرات- بون شاسع. فأين عبادة هذا الموجود الغارق وسط الأمواج العاتية، من عبادة تلك الموجودات التي تعيش على ساحل آمن؟!

ماذا تعرف الملائكة من ابناء آدم أمثال محمّد صلى الله عليه و آله وابراهيم ونوح وموسى وعيسى والأئمة من أهل البيت عليهم السلام وعباد اللَّه الصالحين والشهداء والمضحون من الرجال

والنساء الذين قدموا وجودهم على مذبح العشق الإلهي، والذين تساوي ساعة من تفكرهم سنوات متمادية من عبادة الملائكة؟

الملائكة في بودقة الإختبار: كان آدم يملك- بفضل اللَّه- قابلية خارقة لفهم الحقائق.

وشاء اللَّه أن ينقل هذه القابلية من مرحلة القوة إلى مرحلة الفعل، وهذا ما عبر عنه القرآن بقوله: «وَعَلَّمَ ءَادَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا».

هذا العلم بالكون وبأسرار الموجودات وخواصها، كان مفخرة كبيرة لآدم طبعاً.

في تفسير العياشي عن أبي العباس عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: سألته عن قول اللَّه «وعلّم آدم الأسماء كلّها» ماذا علّمه؟ قال: «الأرضين والجبال والشعاب والأودية ثم نظر إلى بساط تحته فقال: وهذا البساط ممّا علّمه».

كما منح اللَّه آدم قابلية التسمية، ليستطيع أن يضع للأشياء أسماء، وبذلك يتحدث عن هذه الأشياء بذكر اسمها لا بإحضار عينها، وهذه نعمة كبرى.

«ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلِكَةِ فَقَالَ أَنْبُونِى بِأَسْمَاءِ هؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ». وأمام هذا الاختبار تراجع الملائكة لأنّهم لم يملكوا هذه القدرة العلمية التي منحها اللَّه لآدم، «قَالُوا سُبْحَانَكَ لَاعِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ».

وحان الدور لآدم كي يشرح أسماء الموجودات وأسرارها أمام الملائكة: «قَالَ يَا ءَادَمُ أَنْبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنّى أَعْلَمُ غَيْبَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ».

وهنا اتضح للملائكة أنّ هذا الموجود هو وحده اللائق لاستخلاف الأرض.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 47

جواب على سؤالين: ويبقى سؤالان في هذا المجال، الأوّل يدور حول تعليم اللَّه لآدم، كيف تم ذلك؟ ولو قُدر أن يكون هذا التعليم من نصيب الملائكة لنالوا نفس فضيلة آدم، فهل هناك مفخرة يمتلكها آدم ولا تمتلكها الملائكة؟

أمّا بشأن كيفية التعليم فالجواب هو أنّ هذا التعليم تكويني، أي إنّ اللَّه أودع هذا العلم

في وجود آدم بالقوة، ودفعه خلال مدة قصيرة إلى المرحلة الفعلية.

إطلاق كلمة «تعليم» في القرآن على «التعليم التكويني» ورد في موضع آخر من القرآن، كقوله تعالى: «عَلَّمَهُ الْبَيَانَ» «1». وواضح أنّ اللَّه سبحانه علّم الإنسان البيان في مدرسة الخلقة، أي منحه الكفاءة والخصائص الفطرية اللازمة للبيان والكلام.

أما الشطر الآخر من هذا السؤال فيتبين جوابه لو علمنا أنّ الملائكة كانت لهم خلقة خاصة، ما كانت تؤهلهم لتلقي كل هذه العلوم. إنّهم مخلوقون لهدف آخر، لا لهذا الهدف، وهذه الحقيقة فهمها الملائكة وتقبلوها بعد أن مروا بتلك التجربة المذكورة في الآية. ولعلهم اعتقدوا في البداية أنّهم يحملون الكفاءة اللازمة لهذا الهدف، لكن اللَّه بيّن لهم الفرق بين كفاءتهم وكفاءة آدم بتجربة تعليم الأسماء.

وَ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَ اسْتَكْبَرَ وَ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَ قُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَ كُلَا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَ لَا تَقْرَبَا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَ قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) آدم عليه السلام في الجنة: ينتقل القرآن إلى فصل آخر من موضوع عظمة الإنسان ويقول:

«وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلِكَةِ اسْجُدُوا لِأَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ».

لو أمعنّا النظر في آيات القرآن الكريم لألفينا أنّ موضوع السجود لآدم جاء بعد اكتمال خلقة الإنسان مباشرة، وقبل امتحان الملائكة.

إنّ الآية المذكورة تقرير قرآني واضح صريح لشرف الإنسان وعظمة مكانته، فكل الملائكة يؤمرون بالسجود له بعد اكتمال خلقته.

______________________________

(1) سورة الرّحمن/ 4.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 48

حقاً، إنّ هذا الموجود، اللائق لخلافة اللَّه على الأرض، والمؤهل

لهذا الشوط الكبير من التكامل وتربية أبناء عظام كالأنبياء وخاصة النبي الخاتم صلى الله عليه و آله يستحق كل احترام.

نحن نشعر بالتعظيم والتكريم لمن حوى بعض العلوم وعلم شيئاً من القوانين والمعادلات العلمية، فكيف حال الانسان الأوّل مع كل تلك العلوم والمعارف الزاخرة عن عالم الوجود؟

بحثان

1- لماذا أبى إبليس؟ «الشيطان» اسم جنس شامل للشيطان الأوّل ولجميع الشياطين. أما «إبليس» فاسم علم للشيطان الذي وسوس لآدم. وإبليس- كما صرح القرآن- ما كان من جنس الملائكة وإن كان في صفوفهم، بل كان من طائفة الجن، وهي مخلوقات مادية.

باعثه على الإمتناع عن السجود كبر وغرور وتعصب خاص استولى عليه حيث اعتقد أنّه أفضل من آدم، ولا ينبغي أن يصدر له أمر بالسجود لآدم.

كفر إبليس كان يعود إلى نفس السبب أيضاً، فقد اعتقد بعدم صواب الأمر الإلهي، وبذلك لم يعص فحسب، بل انحرف عقائدياً. وهكذا ذهبت أدراج الرياح كل عباداته وطاعاته نتيجة كبره وغروره. وهكذا تكون دوماً نتيجة الكبر والغرور.

وعبارة «كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ» تشير إلى أنّ إبليس كان قبل صدور الأمر الإلهى إليه بالسجود، قد انفصل عن مسير الملائكة وطاعة اللَّه، وأسرّ في نفسه الإستكبار والجحود.

2- هل كان السّجود للَّه أم لآدم؟ لا شك أنّ السجود يعني «العبادة» للَّه، إذ لا معبود غير اللَّه، وتوحيد العبادة يعني أن لا نعبد إلّااللَّه. من هنا فإنّ الملائكة لم يؤدوا لآدم يعني «سجدة عبادة» قطعاً، بل كان السجود للَّه من أجل خلق هذا الموجود العجيب. أو كان سجود الملائكة لآدم سجود «خضوع» لا عبادة.

جاء في عيون الأخبار عن الإمام عليّ بن موسى الرّضا عليه السلام حديث طويل وفيه: «إنّ اللَّه تبارك وتعالى خلق آدم فأودعنا صلبه وأمر الملائكة بالسجود له تعظيماً لنا وإكراماً

وكان سجودهم للَّه تعالى عبودية، ولآدم إكراماً وطاعة لكوننا في صلبه».

بعد هذا المشهد ومشهد اختبار الملائكة، امر آدم وزوجه أن يسكنا الجنة، كما جاء في قوله تعالى: «وَقُلْنَا يَا ءَادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 49

هذِهِ الشَّجَرَةَ» «1».

يستفاد من آيات القرآن أنّ آدم خُلق للعيش على هذه الأرض، لكن اللَّه شاء أن يسكنه قبل ذلك الجنة، وهي روضة خضراء موفورة النعمة في هذا العالم.

لعل مرحلة مكوث آدم في الجنة كانت مرحلة تحضيرية لعدم ممارسة آدم للحياة على الأرض وصعوبة تحمل المشاكل الدنيوية بدون مقدمة، ومن أجل تأهيل آدم لتحمل مسؤوليات المستقبل، ولتفهيمه أهمية حمل هذه المسؤوليات والتكاليف الإلهيّة في تحقيق سعادته، ولإعطائه صورة عن الشقاء الذي يستتبع اهمال هذه التكاليف، ولتنبيهه بالمحظورات التي سيواجهها على ظهر الأرض.

ينبغي أن ينضج آدم عليه السلام في هذا الجو إلى حد معين، وأن يعرف أصدقاءه وأعداءه، ويتعلم كيف يعيش على ظهر الأرض، نعم، كانت هذه مجموعة من التعاليم الضرورية التي تؤهله للحياة على ظهر الأرض.

وهنا رأى «آدم» نفسه أمام أمر إلهي يقضي بعدم الاقتراب من الشجرة، لكن الشيطان أبى إلّاأن ينفذ بقسمه في إغواء آدم وذريته. تقول الآية بعد ذلك: «فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ».

نعم. اخرجا من الجنة حيث الراحة والهدوء وعدم الألم والتعب والعناء، على أثر وسوسة الشيطان.

وصدر لهما الأمر الإلهي بالهبوط: «وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوُّ وَلَكُمْ فِى الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ».

وهنا، فهم آدم أنّه ظلم نفسه، وأخرج من الجوّ الهادي الملي بنعم الجنة بسبب استسلامه لوسوسة الشيطان، وهبط في جوّ مفعم بالتعب والمشقة والعناء، مع أنّ آدم كان نبياً ومعصوماً، فإنّ اللَّه يؤاخذ الأنبياء بترك

الأولى- كما سنرى- كما يؤاخذ باقي الأفراد على ذنوبهم، وهو عقاب شديد تلقاه آدم جرّاء عصيانه.

بحوث

1- ما هي جنة آدم؟ يبدو أنّ الجنة التي مكث فيها آدم قبل هبوطه إلى الأرض، لم تكن

______________________________

(1) «الرغد»: على وزن الصمد يعني الكثير والواسع والهني ء؛ وعبارة «حيث شئتما» تعني: من أي مكان شئتما في الجنة، أو من أي نوع شئتم من فاكهة الجنة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 50

مختصر الامثل ج 1 99

الجنة التي وعد بها المتقون، بل كانت من جنان الدنيا، وصقعاً منعّماً خلّاباً من أصقاع الأرض. ودليلنا على ذلك: أوّلًا: الجنة الموعودة في القيامة نعمة خالدة، والقرآن ذكر مراراً خلودها، فلا يمكن إذن الخروج منها.

ثانياً: إبليس الملعون ليس له طريق للجنة، وليس لوسوسته مكان هناك.

ثالثاً: وردت عن أهل البيت عليهم السلام روايات تصرح بذلك.

في الكافي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام أنّه سئل عن جنة آدم، فقال: «جنة من جنات الدنيا، يطلع فيها الشمس والقمر، ولو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها أبداً».

من هذا يتضح أنّ هبوط آدم ونزوله إلى الأرض لم يكن مكانياً بل مقامياً، أي أنّه هبط من مكانته السامية ومن تلك الجنة المزدانة.

2- المقصود من الشيطان في القرآن: كلمة الشيطان من مادة «شطن» و «الشاطن» هو الخبيث والوضيع، والشيطان تطلق على الموجود المتمرد العاصي، إنساناً كان أو غير إنسان، وتعني أيضاً الروح الشريرة البعيدة عن الحق. وبين كل هذه المعاني قدر مشترك.

والشيطان اسم جنس عام، وإبليس اسم علم خاص، وبعبارة اخرى، الشيطان كل موجود مؤذٍ مغوٍ طاغ متمرد، إنساناً كان أم غير إنسان، وإبليس اسم الشيطان الذي أغوى آدم ويتربّص هو وجنده الدوائر بأبناء آدم دوماً.

من مواضع استعمال هذه الكلمة

في القرآن يفهم أنّ كلمة الشيطان تطلق على الموجود المؤذي المضر المنحرف الذي يسعى إلى بثّ الفرقة والفساد والاختلاف، مثل قوله تعالى:

«إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ» «1».

والاستعمال القرآني لكلمة شيطان يشمل حتى أفراد البشر المفسدين المعادين للدعوة الإلهيّة، كقوله تعالى: «وَكَذلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنّ» «2».

كلمة الشيطان اطلقت على إبليس أيضاً بسبب فساده وإنحرافه.

3- لماذا خُلق الشيطان؟ يثار أحياناً سؤال عن سبب خلق هذا الموجود المضل المغوي، وفي الجواب نقول:

______________________________

(1) سورة المائدة/ 91.

(2) سورة الأنعام/ 112.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 51

أوّلًا: لم يخلق اللَّه الشيطان، شيطاناً، والدليل على ذلك وجوده بين ملائكة اللَّه وعلى الفطرة الطاهرة، لكنه بعد تحرره أساء التصرف، وعزم على الطغيان والتمرد، إنّه إذن خلق طاهراً، وسلك طريق الانحراف مختاراً.

ثانياً: وجود الشيطان لا يسبب ضرراً للأفراد المؤمنين، ولطلاب طريق الحق، في منظار نظام الخليقة، بل إنّه وسيلة لتقدمهم وتكاملهم، إذ إنّ التطور والتقدم يتم من خلال صراع الأضداد.

فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) عودة آدم عليه السلام إلى اللَّه: بعد حادثة وسوسة إبليس، وصدور الأمر الإلهي لآدم بالخروج من الجنة، فهم آدم أنّه ظلم نفسه، وهنا أخذ آدم يفكر في تلافي خطئه، فاتجه بكل وجوده إلى بارئه وهو نادم أشد الندم، وأدركته رحمة اللَّه في هذه اللحظات كما تقول الآية:

«فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».

«التوبة» في اللغة بمعنى «العودة» وهي في التعبير القرآني، بمعنى

العودة عن الذنب، إن نُسبت إلى المذنب، وإن نسبت كلمة التوبة إلى اللَّه فتعني عودته سبحانه إلى الرحمة التي كانت مسلوبة عن العبد المذنب. ولذلك فهو تعالى «توّاب» في التعبير القرآني.

على أي حال، لقد حدث ما لا ينبغي أن يحدث- أو ما ينبغي أن يحدث- وقُبلت توبة آدم. لكن الأثر الوضعي للهبوط في الأرض لم يتغير، كما يذكر القرآن: «قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِّنّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَاىَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بَايَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».

الكلمات التي تلقاها آدم: تعددت الآراء في تفسير «الكلمات» التي تلقاها آدم عليه السلام من ربّه. المعروف أنّها الكلمات المذكورة في الآية (23) من سورة الأعراف: «قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّم تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ».

وقال آخرون أنّ المقصود من الكلمات هذا الدعاء:

مختصر الامثل، ج 1، ص: 52

«اللّهمّ لا إله إلّاأنت سبحانك وبحمدك، ربّ إنّي ظلمت نفسي، فاغفر لي إنّك خير الغافرين».

«اللّهمّ لا إله إلّاأنت سبحانك وبحمدك، ربّ إنّي ظلمت نفسي، فارحمني إنّك خير الراحمين».

«اللّهمّ لا إله إلّاأنت سبحانك وبحمدك، ربّ إنّي ظلمت نفسي، فَتُب عليّ إنّك أنت التّوّاب الرّحيم».

وفي روايات وردت عن طرق أهل البيت عليهم السلام أنّ المقصود من «الكلمات» أسماء أفضل مخلوقات اللَّه وهم: محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين- عليهم أفضل الصلاة والسّلام- وآدم توسّل بهذه الكلمات ليطلب العفو من ربّ العالمين فعفا عنه.

هذه التفاسير الثلاثة لا تتعارض مع بعضها.

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) ذكر النِعم الإلهيّة: لما كانت قصّة بني إسرائيل ابتداء من تحررهم من السيطرة الفرعونية واستخلافهم في الأرض، ومروراً بنسيان العهد

الإلهي، وانتهاء بسقوطهم في حضيض الانحراف والعذاب والمشقة، تشبه إلى حدّ كبير قصّة آدم. يوجه القرآن خطابه إلى بني إسرائيل ويقول: «يَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيىَ فَارْهَبُونِ».

الأوامر الثلاثة التي تذكرها الآية الكريمة وهي: تذكّر النعم الإلهية، والوفاء بالعهد، والخوف من اللَّه، تشكل المنهج الإلهى الكامل للبشرية.

ميثاق بني إسرائيل: ميثاق بني إسرائيل الإلهي يتكون من اثني عشر بنداً، عشر منها ذكرت في آيتى (83 و 84) من هذه السورة، وبندان ذكرا في الآية الكريمة: «وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَى عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنّى مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَوةَ وَءَاتَيْتُمُ الزَّكَوةَ وَءَامَنْتُمْ بِرُسُلِى وَعَزَّرْتُمُوهُمْ» «1».

وهما: الإيمان بالأنبياء ومؤازرتهم.

______________________________

(1) سورة المائدة/ 12.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 53

جملة «إِيىَ فَارْهَبُونِ» تأكيد على كسر كل حواجز الخوف القائمة في طريق الوفاء بالعهد الإلهى، وعلى الخوف من اللَّه وحده دون سواه، وهذا الحصر يتضح من تقديم ضمير النصب المنفصل «إيّاى» على جملة «فارهبون».

وَ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَ لَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَ لَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَ لَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَ تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَ آتُوا الزَّكَاةَ وَ ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن الإمام محمّد بن علي الباقر عليه السلام أنّه قال: «كان حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف وآخرون من اليهود، لهم مأكلة على اليهود في كل سنة، فكرهوا بطلانها بأمر النّبي صلى الله عليه و آله فحرّفوا لذلك آيات من التوراة فيها صفته وذكره فذلك الثّمن الّذي اريد في الآية».

التّفسير

جشع اليهود: الآيات المذكورة أعلاه تتطرق إلى تسعة

من بنود العهد الذي أخذه اللَّه على بني إسرائيل. يقول تعالى: «وَءَامِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدّقًا لِمَا مَعَكُم». فالقرآن مصدق لما مع اليهود من كتاب، أي أنّ البشائر التي زفّتها التوراة والكتب السماوية الاخرى بشأن النبي الخاتم، والأوصاف التي ذكرتها لهذا النبي والكتاب السماوي تنطبق على محمّد صلى الله عليه و آله وعلى القرآن المنزل عليه. فلماذا لا تؤمنون به؟!

ثم يقول سبحانه: «وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ». أي:- لا عجب أن يكون المشركون والوثنيون في مكّة- كفّاراً بالرسالة، بل العجب في كفركم، لأنّكم أهل الكتاب، وكتابكم يحمل بشائر ظهور هذا النبي، وكنتم لذلك تترقبون ظهوره.

المقطع الثالث من الآية يقول: «وَلَا تَشْتَرُوا بَايَاتِى ثَمَنًا قَلِيلًا».

في المقطع الرابع تقول الآية: «وَإِيىَ فَاتَّقُونِ». والخطاب موجّه إلى زعماء اليهود الّذين يخشون أن ينقطع رزقهم، وأن يثور المتعصبون اليهود ضدّهم، وتطلب منهم أن يخشوا اللَّه وحده، أي أن يخشوا عصيان أوامره سبحانه.

في البند الخامس من هذه الأوامر ينهى اللَّه سبحانه عن خلط الحق بالباطل: «وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 54

وفي البند السادس ينهى عن كتمان الحق: «وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ».

البند السابع والثامن والتاسع من هذه الأوامر يبيّنه قوله تعالى: «وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَءَاتُوا الزَّكَوةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ».

إنّ الآية لم تقل «أدّوا الصلاة» بل قالت: «أَقِيمُوا الصَّلَوةَ». وهذا الحث يحمّل الفرد مسؤولية خلق المجتمع المصلي ومسؤولية جذب الآخرين نحو الصلاة.

إنّ تعبير «أقيموا» إشارة إلى إقامة الصلاة كاملة، وعدم الاكتفاء بالأذكار والأوراد، وأهم أركان كمال الصلاة حضور القلب والفكر لدى اللَّه سبحانه، وتأثير الصلاة على المحتوى الداخلى للإنسان.

هذه الأوامر الأخيرة تتضمن: أوّلًا بيان إرتباط الفرد بخالقه (الصلاة)، ثم إرتباطه بالمخلوق (الزكاة)، وبعد ذلك إرتباط المجموعة البشرية مع بعضها على طريق اللَّه.

أَ تَأْمُرُونَ

النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَ فَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلَاةِ وَ إِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) الآية الاولى من الآيات التي يدور حولها بحثنا خطاب لعلماء اليهود، وبّخهم اللَّه تعالى على ما كانوا يفعلون من أمر الناس بالإيمان بمحمّد صلى الله عليه و آله وترك أنفسهم في ذلك. لذلك كانت الآية تحمل توبيخاً لهذا العمل: «أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرّ وَتَنْسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ».

منهج الدعاة إلى اللَّه يقوم على أساس العمل أوّلًا ثم القول، فالداعية إلى اللَّه يبلّغ بعمله قبل قوله، كما جاء عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام: «كونوا دعاة الناس بأعمالكم ولا تكونوا دعاةً بألسنتكم» «1».

علماء اليهود كانوا يخشون من انهيار مراكز قدرتهم وتفرق عامة الناس عنهم، إن اعترفوا برسالة خاتم الأنبياء ولذلك حرفوا ما ورد بشأن صفات نبي الخاتم في التوراة.

والقرآن يحث على الاستعانة بالصبر والصلاة للتغلب على الأهواء الشخصية والميول

______________________________

(1) بحار الأنوار 5/ 198.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 55

النفسية، فيقول في الآية التالية: «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَوةِ». ثم يؤكد أنّ هذه الاستعانة ثقيلة لا ينهض بعبئها إلّاالخاشعون: «وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ».

وفي الآية الأخيرة من هذه المجموعة وصف للخاشعين: «الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلقُوا رَبّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ».

«يظنّون»: من مادة «ظنّ» وقد تأتى بمعنى اليقين. وفي هذا الموضع تعني الإيمان واليقين القطعي. لأنّ الإيمان بلقاء اللَّه والرجوع إليه، يحيى في قلب الإنسان حالة الخشوع والخشية والإحساس بالمسؤولية، وهذا أحد آثار تربية الإنسان على الإيمان بالمعاد، حيث تجعل هذه التربية الفرد ماثلًا دوماً أمام مشهد المحكمة الكبرى، وتدفعه إلى النهوض بالمسؤولية وإلى

الحق والعدل.

بحثان

1- ما هو لقاء اللَّه؟ عبارة «لقاء اللَّه» وردت مراراً في القرآن الكريم، وتعني بأجمعها الحضور على مسرح القيامة، من البديهي أنّ المقصود بلقاء اللَّه ليس هو اللقاء الحسي، كلقاء أفراد البشر مع بعضهم، لأنّ اللَّه ليس بجسم، ولا يحده مكان، ولا يُرى بالعين، بل المقصود مشاهدة آثار قدرة اللَّه وجزائه وعقابه ونعمه وعذابه على ساحة القيامة.

أو إنّ المقصود الشهود الباطني والقلبي، لأنّ الإنسان يصل درجة كأنّه يرى اللَّه ببصيرته أمامه، بحيث لا يبقى في نفسه أي شك وترديد.

هذه الحالة قد تحصل للأفراد نتيجة الطّهر والتقوى والعبادة وتهذيب النفس في هذه الدنيا.

هذا الشهود الباطني ينجلي للجميع يوم القيامة، ولا يبقى أحد إلّاوقد آمن إيماناً قاطعاً، لوضوح آثار عظمة اللَّه وقدرته في ذلك اليوم.

2- سبيل التغلب على الصعاب: ثمة منطلقان أساسيان للتغلب على الصعاب والمشاكل، أحدهما داخلي، والآخر خارجي.

أشارت الآية إلى هذين المنطلقين بعبارة «الصبر» و «الصلاة». فالصبر هو حالة الصمود والاستقامة والثبات في مواجهة المشاكل، والصلاة هي وسيلة الإرتباط باللَّه حيث السند القوي المكين.

روى الطبرسي في تفسير مجمع البيان في تفسير هذه الآية: وكان النبي صلى الله عليه و آله إذا حزنه أمر استعان بالصلاة والصوم.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 56

وروى أيضاً عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام أنّه قال: «ما يمنع أحدكم إذا دخل عليه غمّ من غموم الدنيا أن يتوضأ ثم يدخل المسجد فيركع ركعتين يدعو اللَّه فيها، أما سمعت اللَّه تعالى يقول: واستعينوا بالصّبر والصّلوة».

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَ اتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَ لَا

هُمْ يُنْصَرُونَ (48) أوهام اليهود: في هذه الآيات خطاب آخر إلى بني إسرائيل فيه تذكير بنعم اللَّه: «يَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ». هذه النعم سابغة واسعة النطاق، ابتداءً من الهداية والإيمان، وانتهاءً بالنجاة من فرعون ونيل العظمة والاستقلال.

ثم تشير الآية من بين كل هذه النعم إلى نعمة التفضيل على بقية البشر، وهي نعمة مركبة من نعم مختلفة، وتقول: «وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ».

الآية التالية ترفض أوهام اليهود، التي كانوا يتصورون بموجبها أنّ الأنبياء من أسلافها سوف يشفعون لهم، أو أنّهم قادرون على دفع فدية وبدل عن ذنوبهم، كدفعهم الرشوة في هذه الحياة الدنيا. القرآن يخاطبهم ويقول: «وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّاتَجْزِى نَّفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ».

الحاكم أو القاضي في تلك المحكمة الإلهيّة، لا يقبل سوى العمل الصالح، كما في الآيتي (88 و 89) من سورة الشعراء يقول تعالى: «يَوْمَ لَايَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ».

إنّ الآية المذكورة من سورة البقرة، تشير في الواقع إلى ما يجري من محاولات في هذه الحياة الدنيا لإنقاذ المذنب من العقاب.

ففي الحياة الدنيا قد يتقدم إنسان لدفع غرامة عن إنسان مذنب لانقاذه من العقاب، أمّا في الآخرة فإنّه: «لَّاتَجْزِى نَفْسٌ عَنْ نَّفْسٍ».

وربّما يلجأ المذنب في هذه الحياة إلى الشفعاء لينقذوه ممّا ينتظره من الجزاء ويوم القيامة «... لَايُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 57

وإذا لم توجد الشفاعة، يتقدم الإنسان في الحياة الدنيا بدفع (العدل) وهوبدل الشي ء من جنسه، أما في الآخرة ف «لَايُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ».

وإذا لم تنفع الوسائل المذكورة كلها، يستصرخ أصحابه لينصروه ويخلصوه من الجزاء، وفي الآخرة لا يقوم بإنقاذهم أحد «وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ».

القرآن الكريم

يؤكد أنّ الاصول الحاكمة على قوانين الجزاء يوم القيامة تختلف كلياً عما هو السائد في هذه الحياة، فالسبيل الوحيد للنجاة يوم القيامة، هو الإيمان والتقوى والاستعانة بلطف الباري تعالى.

تاريخ الشرك وتاريخ المنحرفين من أهل الكتاب، ملي ء بأفكار خرافية تدور حول محور التوسل بمثل الأمور التي ذكرتها الآية الكريمة للفرار من العقاب الاخروي.

ذكر صاحب تفسير المنار بعض العادات المصرية التي لا تزال يعمل بها باسم الدين وهي من إرث قدماء الوثنيين، كاعطائهم لغاسل الميت شيئاً من النقد يسمونه «اجرة المعدية» أي اجرة نقله إلى الجنة.

ثم ذكر المكفرات التي يعتقدها اليهود كقربان الإثم وقربان الخطيئة وقربان السلامة والمحرقة والإكتفاء ممن لم يجد القربان بحمامتين يكفر بهما عن ذنبه.

القرآن ومسألة الشفاعة: «1» العقاب الإلهي في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة، لا ينزل بساحة الإنسان دون شك من أجل الانتقام، بل إنّ العقوبات الإلهيّة تشكل عنصر الضمان في تنفيذ القوانين، وتؤدي في النتيجة إلى تقدم الإنسان وتكامله، من هنا يجب الإحتراز عن أي شي ء يضعف من قوة عنصر الضمان هذا، كي لاتنتشر بين الناس الجرأة على ارتكاب المعاصي والذنوب.

من جهة اخرى، لا يجوز غلق باب العودة والإصلاح بشكل كامل في وجه المذنبين، بل يجب فسح المجال لإصلاح أنفسهم وللعودة إلى اللَّه وإلى الطهر والتقوى.

«الشفاعة» بمعناها الصحيح تستهدف حفظ هذا التعادل. إنّها وسيلة لعودة المذنبين والملوثين بالخطايا، وبمعناها الخاطئ تشجع على ارتكاب الذنوب.

اولئك الذين لم يفرقوا بين المعنى الصحيح والخاطي ء لمسألة الشفاعة، أنكروا هذه

______________________________

(1) «الشفاعة»: من «الشفع» بمعنى «الزوج» و «ضم الشي ء إلى مثله» يقابلها «الوتر» بمعنى «الفرد» ثم اطلقت على انضمام الفرد الأقوى والأشرف إلى الفرد الأضعف لمساعدة هذا الضعيف.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 58

المسألة بشكل كامل، واعتبروها شبيهة بالوساطات

التي تقدم إلى السلاطين والحكام الظالمين. وثمة مجموعة كالوهابيين استندوا إلى الآية الكريمة: «لَايُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ». فأنكروا الشفاعة تماماً، دون الإلتفات إلى سائر الآيات في هذا المجال.

الشّروط المختلفة للشفاعة: آيات الشفاعة تصرح أنّ مسألة الشفاعة في مفهوم الإسلام مقيدة بشروط، هذه الشروط تحدد تارة الخطيئة التي يستشفع المذنب لها، وتحدّد تارة اخرى الشخص المشفوع له، كما تقيد من جهة اخرى الشفيع، وهذه الشروط بمجموعها تكشف عن المفهوم الحقيقي للشفاعة وعن فلسفتها.

ثمّة ذنوب كالظلم مثلًا خارجة عن دائرة الشفاعة حيث يقول القرآن: «مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ» «1».

كما أنّ الشفاعة- وطبقاً للآية (28) من سورة الأنبياء- لا تشمل إلّاأولئك المرتقين إلى درجة «الإرتضاء» وإلى درجة الالتزام بالعهد الإلهي حيث يقول القرآن: «لَايَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمنِ عَهْدًا» «2».

الإرتضاء، واتخاذ العهد، يعنيان على المستوى اللغوي (وكذلك ما ورد من الروايات في تفسير هذه الآيات): الإيمان باللَّه والحساب والميزان والثواب والعقاب، والإعتراف بالحسنات والسيئات، وبما أنزل اللَّه، إيماناً عميقاً في الفكر، ظاهراً في العمل ... إيماناً يبعد صاحبه عن صفات الظالمين الذين لا يؤمنون بأية قيمة إنسانية، ويدفعه إلى إعادة النظر في منهج حياته.

وبشأن الشفعاء ذكر القرآن لهم شرطاً في قوله تعالى: «إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقّ» «3». من هنا فالمشفوع له أيضاً ينبغي أن يسلك طريق الحق في القول والعمل، كي يكون له إرتباط بالشفيع، وهذا الإرتباط الضروري بين الشفيع والمشفوع له يعتبر بدوره عاملًا بنّاءاً في تعبئة الطاقات على طريق الحق.

______________________________

(1) سورة غافر/ 18.

(2) سورة مريم/ 87.

(3) سورة الزخرف/ 86.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 59

وَ إِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ

عَظِيمٌ (49) نعمة الحرية: في هذه الآية إشارة إلى نعمة كبيرة اخرى، منّ بها اللَّه سبحانه على بني إسرائيل، وهي نعمة تحريرهم من براثن الظالمين: «وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِى ذلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ».

القرآن عبّر بكلمة «البلاء» عمّا كان ينزل ببني إسرائيل من عذاب يتمثل في قتل الذكور واستخدام الإناث لخدمة آل فرعون.

و «البلاء»: يعني الإمتحان، فالحوادث والمصائب التي نزلت ببني إسرائيل كانت بمثابة الامتحان لهم، كما قد يأتي البلاء بمعنى العقاب، لأنّ بني إسرائيل سبق لهم أن كفروا بنعمة ربّهم، فكان ما أصابهم من آل فرعون عقاباً على كفرانهم.

من الملفت للنظر أنّ القرآن يسمي ذبح الأبناء واستحياء النساء عذاباً، ولو عرفنا أنّ استحياء النساء يعني استبقائهن، وتركهن أحياء، لاتضح لنا أنّ القرآن يشير إلى أنّ مثل هذا الاستبقاء المذل هو عذاب أيضاً مثل عذاب القتل، وهذا المعنى يشير إليه الإمام أميرالمؤمنين علي عليه السلام إذ يقول: «فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين» «1».

عملية الإماتة كانت شاملة للذكور والإناث مع اختلاف في ممارسة هذه العملية، وفي عالمنا المعاصر يمارس طواغيت الأرض عملية الإماتة أيضاً بأساليب اخرى، وذلك عن طريق قتل روح الرجولة في الذكور، ودفع الإناث إلى مستنقع إشباع الشهوات. وَ إِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَ أَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)

النجاة من آل فرعون: الآية السابقة أشارت إلى نجاة بني إسرائيل من براثن الفرعونيين، وهذه الآية توضح طريقة النجاة: «وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ».

قضية غرق آل فرعون في البحر ونجاة بني إسرائيل وردت في سور عديدة مثل سورة الأعراف الآية (126)، وسورة الأنفال الآية (54)، وسورة

الإسراء الآية (103)، وسورة

______________________________

(1) نهج البلاغة، الخطبة 51.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 60

الشعراء الآية (63 و 66)، وسورة الزخرف الآية (55)، والدخان الآية (17) وما بعدها.

في هذه السور ذكرت كل تفاصيل الحادث، أمّا هذه الآية فاكتفت بالإشارة إلى هذه النعمة الإلهية في معرض دعوة بني إسرائيل إلى قبول الرسالة الخاتمة.

الهدف من تذكير بني إسرائيل بهذا الحدث الذي بدأ بخوف شديد وانتهى بانتصار ساحق، هو دفعهم للشكر وللسير على طريق الرسالة الإلهيّة المتمثلة في دين النبي الخاتم.

كما أنّه تذكير للبشرية بالامداد الإلهي الّذي يشمل كل امّة سائرة بجدٍ وإخلاص على طريق اللَّه.

وَ إِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَ إِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَ الْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَ إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) أكبر إنحرافات بني إسرائيل: في هذه الآيات الأربع، تأكيد على مقطع آخر من تاريخ بني إسرائيل، وعلى أكبر انحراف اصيبوا به في تاريخهم الطويل، وهو الانحراف عن مبدأ التوحيد، والإتجاه إلى عبادة العجل، وهذا التأكيد تذكير لهم بما لحقهم من زيغ نتيجة إغواء الغاوين، وتحذير لهم من تكرر هذه التجربة في مواجهة الدين الخاتم: «وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» وهي ليالي افتراق موسى عن قومه، «ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ».

شرح هذا المقطع من تاريخ بني إسرائيل سيأتي في سورة الأعراف الآية (142) وما بعدها، وفي سورة طه الآية (36) وما بعدها.

في الآية التالية يقول سبحانه: «ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذلِكَ

لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

وبعد إشارة إلى ما جاء بني إسرائيل من هداية تشريعية: «وَإِذْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ».

ثم يشير القرآن إلى طريقة التوبة المطروحة على بني إسرائيل: «وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 61

قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».

«البارئ»: هو الخالق، وفي الكلمة إشارة إلى أنّ هذا الأمر الإلهي بالتوبة الشديدة صادر عمّن خلقكم، وعمّن هو أعرف بما يضرّكم وينفعكم.

ذنب عظيم وتوبة فريدة: لا شك أنّ عبادة عجل السامري لم تكن مسألة هينة، لأنّ بني إسرائيل شاهدوا ما شاهدوا من آيات اللَّه ومعجزات نبيهم موسى عليه السلام ثم نسوا ذلك دفعة، وخلال فترة قصيرة من غياب النبي إنحرفوا تماماً عن مبدأ التوحيد وعن الدين الإلهي. ومن هنا كانت الأوامر الإلهية بالتوبة شديدة وتقضي هذه الأوامر أن تقترن التوبة بإعدام جماعي لعدد كبير من المذنبين، على أيديهم أنفسهم.

طريقة تنفيذ هذا الإعدام لا تقل شدة عن الإعدام نفسه، فقد صدرت الأوامر الإلهية أن يقتل المذنبون بعضهم بعضاً، وفي ذلك عذابان للمذنب: عذاب قتل الأصدقاء والمعارف على يديه، وما ينزل به- هو نفسه- من عذاب القتل.

وجاء في الأخبار أنّ موسى أمر في ليلة ظلماء كل الجانحين إلى عبادة العجل، أن يغتسلوا ويرتدوا الأكفان ويعملوا السيف بعضهم في البعض الآخر.

ولعلك تسأل عن السبب في قساوة هذه التوبة ولماذا لم يقبل اللَّه تعالى منهم التوبة دون إراقة للدماء؟

الجواب: إنّ السبب في شدّة هذا الحكم يعود إلى عظمة الذنب الذي إرتكبوه بعد كل ما شاهدوه من آيات ومعاجز، وإلى أنّ هذا الذنب يهدّد وجود الدعوة ومستقبلها لأنّ اصول ومبادئ جميع الأديان السماوية يمكن

اختزالها في التوحيد، فلو تزلزل هذا الأصل فإنّ ذلك يعني انهيار جميع اللبنات الفوقية والمباني الحضارية للدين، فلو تساهل موسى عليه السلام مع ظاهرة عبادة العجل، لأمكن أن تبقى سُنّة في الأجيال القادمة، خاصة وأنّ بني إسرائيل كانوا على مرّ التاريخ قوماً متعنتين لجوجين. ولابدّ إذن من عقاب صارم يبقى رادعاً للأجيال التالية عن السقوط في هاوية الشرك.

وَ إِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 62

طلب عجيب: هاتان الآيتان تذكّران بني إسرائيل بنعمة إلهيّة اخرى، كما توضحان في الوقت نفسه روح اللجاج والعناد في هؤلاء القوم، وتبيان ما نزل بهم من عقاب إلهي، وما شملهم اللَّه به من رحمة بعد ذلك العقاب. تقول الآية الاولى «وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً».

هذا الطلب قد ينم عن جهل بني إسرائيل، لأنّ إدراك الإنسان الجاهل لا يتعدّى حواسه، ولذلك يرمي إلى أن يرى اللَّه بعينه.

أو قد يحكي هذا الطلب عن ظاهرة لجاج القوم وعنادهم التي يتميزون بها دوماً.

عندئذٍ شاء اللَّه سبحانه أن يرى هؤلاء ظاهرة من خلقه لا يطيقون رؤيتها، ليفهموا أنّ عينهم الظاهرة هذه لا تطيق رؤية كثير من مخلوقات اللَّه، فما بالك برؤية اللَّه سبحانة نزلت الصاعقة على الجبل وصحبها برق شديد ورعد مهيب وزلزال مروع، فتركهم، على الأرض صرعى من شدّة الخوف: «فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ».

اغتم موسى لما حدث بشدة، لأنّ هلاك سبعين نفراً من كبار بني إسرائيل، قد يوفّر الفرصة للمغامرين من أبناء القوم أن يثيروا ضجّة بوجه نبيهم، لذلك تضرع موسى إلى اللَّه أن يعيدهم إلى الحياة،

فقبل طلبه وعادوا إلى الحياة: «ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

هذه الآية تشير ضمناً إلى إمكان «الرجعة»، أي الرجوع إلى هذه الحياة الدنيا بعد الموت، لأنّ وقوعها في مورد يدل على إمكان الوقوع في موارد اخرى.

وَ ظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَ مَا ظَلَمُونَا وَ لكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) النعم المتنوعة: بعد أن نجا بنو إسرائيل من الفرعونيين، تذكر الآيات (23- 29) من سورة المائدة، أنّ بني إسرائيل امروا لأن يتجهوا إلى أرض فلسطين المقدسة، لكن هؤلاء عصوا هذا الأمر، وأصروا على عدم الذهاب مادام فيها قوم جبارون (العمالقة)، وأكثر من ذلك تركوا أمر مواجهة هؤلاء الظالمين لموسى وحده قائلين له: «فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا ههُنَا قَاعِدُونَ» «1».

______________________________

(1) سورة المائده/ 24.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 63

تألّم موسى لهذا الموقف ودعا ربّه: «قَالَ رَبّ إِنّى لَاأَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِى وَأَخِى فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ» «1». فكتب عليهم التيه أربعين عاماً في صحراء سيناء.

مجموعة من التائهين ندمت على ما فعلته أشد الندم، وتضرعت إلى اللَّه، فشمل اللَّه سبحانه بني إسرائيل ثانية برحمته، وأنزل عليهم نعمه التي تشير الآية إلى بعضها: «وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ».

والظّل له أهمّيّة كبرى لمن يطوي الصحراء طيلة النهار وتحت حرارة الشمس اللّافحة، خاصة أنّ مثل هذا الظّل لا يضيّق الفضاء على الإنسان ولا يمنع عنه هبوب النسيم.

وإضافة إلى الظّل فإنّ اللَّه سبحانه وفّر لبني إسرائيل بعد تيههم الطعام الذي كانوا في أمسّ الحاجة إليه خلال أربعين عاماً خلت من ضياعهم: «وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ».

لكن هؤلاء عادوا إلى الكفران: «وَمَا ظَلَمُونَا وَلكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ».

بحوث

1- المن والسلوى: «المنّ»

شي ء كالطلّ فيه حلاوة يسقط من الشجر و «السلوى» يعني التسلّي، وقال بعض اللغويين وجمع من المفسرين إنّه «طائر».

احتمل بعض المفسرين أن يكون «المنّ» نوعاً من العسل الطبيعي حصل عليه بنو إسرائيل في الجبال والمرتفعات المحيطة بصحراء التيه. وهذا التفسير يؤيد ما ورد من شروح على العهدين (التوراة والإنجيل) حيث جاء: «الأراضي المقدسة معروفة بكثرة أنواع الأوراد والأزهار، ومن هنا فإنّ مجاميع النحل تبني خلاياها في أخاديد الصخور وعلى أغصان الأشجار وثنايا بيوت الناس، بحيث يستطيع أفقر الناس أن يتناول العسل» «2».

بشأن «السلوى» قال بعض المفسرين إنّه العسل، وأجمع الباقون على أنّه نوع من الطير، كان يأتي على شكل أسراب كبيرة إلى تلك الأرض، وكان بنو إسرائيل يتغذون من لحومها.

في النصوص المسيحية تأييد لهذا الرأي حيث ورد في تفسير على العهدين ما يلي: «إعلم أنّ السلوى تتحرك بمجموعات كبيرة من أفريقيا، فتتجه إلى الشمال، وفي جزيرة كابري

______________________________

(1) سورة المائدة/ 25.

(2) قاموس الكتاب المقدس/ 612.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 64

وحدها يصطاد من هذا الطائر 16 ألفاً في الفصل الواحد ... هذا الطائر يجتاز طريق بحر القلزم، وخليج العقبة والسويس، ويدخل شبه جزيرة سيناء. وبعد دخوله لا يستطيع أن يطير في إرتفاعات شاهقة لشدة ما لاقاه من تعب وعناء في الطريق، فيطير على إرتفاع منخفض ولذلك يمكن اصطياده بسهولة» «1». يستفاد من هذا النص أنّ المقصود بالسلوى طير خاص سمين يشبه الحمام معروف في تلك الأرض.

2- لماذا قالت الآية «أنزلنا»؟ عبرت الآية الكريمة عن نعمة تقديم المن والسلوى بالإنزال، وليس الإنزال دائماً إرسال الشي ء من مكان عال، كقوله تعالى: «وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ» «2».

واضح أنّ الأنعام لم تهبط من السماء، من هنا فالإنزال في مثل

هذه المواضع:

إمّا أن يكون «نزولًا مقامياً»، أي نزولًا من مقام أسمى إلى مقام أدنى.

أو أن يكون من «الإنزال» بمعنى الضيافة، يقال أنزلت فلاناً: أي أضفته، والنزل (على وزن رُسُل) ما يعدّ للنازل من الزاد، ومنه قوله تعالى: «فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ» «3». وقوله سبحانه:

«خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِن عِندِ اللَّهِ» «4».

وتعبير «الإنزال» للمن والسلوى، قد يشير إلى أنّ بني إسرائيل كانوا ضيوف اللَّه في الأرض، فاستضافهم بالمن والسلوى.

3- ما هو الغمام؟ قيل: الغمام والسحاب بمعنى واحد، وقيل الغمام هو السحاب الأبيض، وذكروا في وصفه أنّه أبرد من السحاب وأرق، والغمام في الأصل من الغم وهو تغطية الشي ء، وسمي الغمام بهذا الاسم لأنّه يغطي صفحة السماء، وسمي الهمّ غماً بهذا الاسم لأنّه يحجب القلب «5».

______________________________

(1) قاموس الكتاب المقدس/ 483.

(2) سورة الزمر/ 6.

(3) سورة الواقعة/ 93.

(4) سورة آل عمران/ 198.

(5) تفسير روح المعاني 1/ 263؛ والمفردات للراغب، مادة «غمّ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 65

وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) عناد بني إسرائيل: وهنا نصل إلى مقطع جديد من حياة بني إسرائيل، يرتبط بورودهم الأرض المقدسة. تقول الآية الاولى: «وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ».

«القرية»: كل مكان يعيش فيه جمع من الناس، ويشمل ذلك المدن الكبيرة والصغيرة، خلافاً لمعناها الرائج المعاصر. والمقصود بالقرية هنا بيت المقدس.

ثم تقول الآية: «فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ». أي:

حطّ عنّا خطايانا، «نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ».

«حطّة»: في اللغة، تأتي بمعنى التناثر والمراد منها في

هذه الآية الشريفة، إلهنا نطلب منك أن تحطّ ذنوبنا وأوزارنا.

والآية تنتهي بعبارة: «وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ». أي: إنّ المحسنين سينالون المزيد من الأجر إضافة إلى غفران الخطايا.

والقرآن يحدثنا عن عناد مجموعة من بني إسرائيل حتى في ترتيل عبارة الاستغفار، فهؤلاء لم يرددوا العبارة بل بدلوها بعبارة اخرى فيها معنى السخرية والاستهزاء، والقرآن يقول عن هؤلاء المعاندين: «فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِى قِيلَ لَهُمْ». وكانت نتيجة هذا العناد ما يحدثنا عنه كتاب اللَّه حيث يقول: «فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ».

«الرجز»: أصله الاضطراب ومنه قيل رجز البعير إذا اضطرب مشيه لضعفه.

وفي مجمع البيان: إنّ الرجز يعني العذاب عند أهل الحجاز ويروي عن الرّسول صلى الله عليه و آله قوله بشأن مرض الطاعون: «إنّه رجز عذّب به بعض الامم قبلكم».

ومن هنا يتضح سبب تفسير «الرجز» في بعض الروايات أنّه نوع من الطاعون فشا بسرعة بين بني إسرائيل وأهلك جمعاً منهم.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 66

يلفت النظر أنّ من عوارض الطاعون اضطراباً في المشي والكلام، وهذا يتناسب مع أصل معنى «الرجز» تماماً. ومن الملفت للنظر أيضاً أنّ القرآن يؤكد أنّ هذا العذاب نزل «عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» فقط، ولم يشمل جميع بني إسرائيل.

والآية الكريمة بعد ذلك تبين بشكل غير مباشر سنة من سنن اللَّه تعالى، هي أنّ الذنب حينما يتعمق في المجتمع ويصبح عادة اجتماعية، عند ذاك يقترب احتمال نزول العذاب الإلهى.

وَ إِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَ اشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَ لَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) انفجار العيون في الصحراء: تذكير آخر بنعمة اخرى من نعم اللَّه على بني إسرائيل:

وهذا التذكير تشير إليه كلمة «إذ» المقصود منها (واذكروا إذ)، وهذه النعمة أغدقها اللَّه عليهم، حين كان بنو إسرائيل في أمسّ الحاجة إلى الماء وهم في وسط صحراء قاحلة، فطلب موسى عليه السلام من اللَّه عزّ وجلّ الماء: «وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ» فتقبل اللَّه طلبه، وأمر نبيّه أن يضرب الحجر بعصاه: «فَقُلْنَا اضْرِبْ بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا» بعدد قبائل بني إسرائيل.

وكل عين جرت نحو قبيلة بحيث أنّ كل قبيلة كانت تعرف العين التي تخصّها «قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ».

كثرت الأقوال في طبيعة الحجر الذي انفجرت منه العيون.

قال بعض المفسرين: إنّ هذا الحجر كان في ثنايا الجبال المطلة على الصحراء وتدل جملة «انبجست» الواردة في الآية (160) من سورة الأعراف على أنّ المياه جرت قليلة أوّلًا، ثم كثرت حتى ارتوى منها كل قبائل بني إسرائيل مع مواشيهم ودوابهم.

ظاهرة انفجار المياه من الصخور طبيعية لكن الحادثة هنا مقرونة بالإعجاز.

لقد منّ اللَّه على بني إسرائيل بإنزال المن والسلوى، وفي هذه المرة يمنّ عليهم بالماء الذي يعز في تلك الصحراء القاحلة، ثم يقول سبحانه لهم: «كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِّزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِى الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 67

وفي هذه العبارة حثّ لهم على ترك العناد وإيذاء الأنبياء، وأن يكون هذا أقل شكرهم للَّه على هذه النعم.

الفرق بين العثو والإفساد: نهى اللَّه سبحانه بني إسرائيل عن الفساد بفعل «لَاتَعْثَوْا» من العثي وهو شدة الفساد. وبهذا يكون معنى «لا تعثوا» هو معنى «المفسدين» ولكنه مع تأكيد أشد.

وقد تشير عبارة النهي بأجمعها إلى حقيقة بدء الفساد من نقطة صغيرة، واتساعها واشتدادها بعد ذلك. أي تبدأ بالفساد وتنتهي بالعثي في الأرض وهو شدة الفساد واتساعه.

وَ إِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى

لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَ قِثَّائِهَا وَ فُومِهَا وَ عَدَسِهَا وَ بَصَلِهَا قَالَ أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ وَ بَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَ كَانُوا يَعْتَدُونَ (61) المطالبة بالأطعمة المتنوعة: بعد أن شرحت الآيات السابقة نعم اللَّه على بني إسرائيل، ذكرت هذه الآية صورة من عنادهم وكفرانهم بهذه النعم الكبرى. تتحدث الآية أوّلًا عن مطالبة بني إسرائيل نبيّهم بأطمعة متنوعة بدل الطعام الواحد (المن والسلوى): «وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا».

فخاطبهم موسى «قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ».

ويضيف القرآن: «وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُو بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بَايَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ ذلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ».

إنّ المقصود من كلمة «مصر» في الآية الكريمة هو المفهوم العام للمدينة، وقوله سبحانه:

«اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ». أي: إنّكم الآن تعيشون في هذه الصحراء ضمن إطار

مختصر الامثل، ج 1، ص: 68

منهج للاختبار وبناء الذات، وليس هذا مكان الأطعمة المتنوعة، إذهبوا إلى المدن حيث التنوع في المأكولات، ولكن لا يوجد فيها المنهج المذكور. التنوع وطبيعة الإنسان: التنوع هو- دون شك- من متطلبات البشر، فلم إذن توجه اللوم والتقريع إلى بني إسرائيل حين طلبوا الخضروات والخيار والفوم والعدس والبصل ليتخلصوا من الطعام الواحد؟!

الجواب يتضح لو علمنا أنّ الحياة الإنسانية تقوم

على أساس حقائق هامة لا يمكن التخلّي عنها، هي الإيمان والطهر والتقوى والتحرّر، وقد تمر الجماعة البشرية بمرحلة يتعارض فيها هذا الأساس الهام مع متطلبات الإنسان من الطعام والشراب واللذائذ الاخرى، وهنا تصبح الجماعة أمام خيارين، إمّا أن تنغمس في اللذات وتترك قيمها وشرفها، أو تضحي بلذاتها من أجل إنسانيتها وكرامتها.

بنو إسرائيل كانوا يعيشون أمام هذين الخيارين.

ولابد من الإشارة إلى أنّ حقيقة حب التنويع استغلها الطامعون والمستعمرون دوماً، ليدفعوا الشعوب إلى هاوية حياة استهلاكية شهوانية هابطة، يعيش الأفراد فيها بين المعلف والمضجع، ناسين شخصيتهم الإنسانية، وغافلين عن النير الذي يطوق أعناقهم.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هَادُوا وَ النَّصَارَى وَ الصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) القانون العام للنجاة: بعد عرض لمقاطع من تاريخ بني إسرائيل، تطرح هذه الآية الكريمة مبدأ عاماً في التقييم وفق المعايير الإلهية، وهذا المبدأ ينص على أنّ الإيمان والعمل الصالح هما أساس تقييم الأفراد، وليس للتظاهر والتصنّع قيمة في ميزان اللَّه: «إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» «1».

______________________________

(1) «الصابئين»: كانوا في الأصل أتباع أحد الأنبياء وإن اختلف المحققون في تعيين نبيّهم، وعدد هؤلاء قليل وهم في حالة إنقراض.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 69

تساؤل هام: بعض المضللين اتخذوا من الآية الكريمة التي نحن بصددها وسيلة لبثّ شبهة مفادها أنّ العمل بأي دين من الأديان الإلهيّة له أجر عنداللَّه، وليس من اللازم أن يعتنق اليهودي أو النصراني الإسلام، بل يكفي أن يؤمن باللَّه واليوم الآخر ويعمل صالحاً.

الجواب: نعلم أنّ

القرآن يفسر بعضه بعضاً، والكتاب العزيز يقول: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإسْلمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ» «1».

كما أنّ القرآن ملي ء بالآيات التي تدعو أهل الكتاب إلى اعتناق الدين الجديد، وتلك الشبهة تتعارض مع هذه الآيات. من هنا يلزمنا أن نفهم المعنى الحقيقي للآية الكريمة. ونذكر تفسيرين لها من أوضح وأنسب ما ذكره المفسرون:

1- لو عمل اليهود والنصارى وغيرهم من أتباع الأديان السماوية بما جاء في كتبهم، لآمنوا حتماً بالنبي صلى الله عليه و آله لأنّ بشارات الظهور وعلائم النبي وصفاته مذكورة في هذه الكتب السماوية.

2- هذه الآية تجيب على سؤال عرض لكثير من المسلمين في بداية ظهور الإسلام، يدور حول مصير آبائهم وأجدادهم الذين لم يدركوا عصر الإسلام، تُرى، هل سيؤاخذون على عدم إسلامهم وإيمانهم؟

الآية المذكورة نزلت لتقول إنّ كل امة عملت في عصرها بما جاء به نبيّها من تعاليم السماء وعملت صالحاً؛ فإنّها ناجية، ولا خوف على أفراد تلك الامة ولا هم يحزنون.

فاليهود المؤمنون العاملون ناجون قبل ظهور المسيح، والمسيحيون المؤمنون العاملون ناجون قبل ظهور نبي الإسلام.

وَ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَ رَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) الإلتزام بالميثاق: هاتان الآيتان تطرحان مسألة أخذ ميثاق بني إسرائيل بشأن العمل بالتوراة، ثم نقضهم للميثاق: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ». والطور جبل

______________________________

(1) سورة آل عمران/ 85.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 70

وسيأتي ذكره. وقلنا لكم: «خُذُوا مَا ءَاتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ». واجعلوا التوراة دوماً نصب أعينكم:

«وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ». لكنكم نقضتم الميثاق وجعلتموه وراء ظهوركم: «ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ

وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ».

هذا الميثاق عبارة عن: توحيد اللَّه، والإحسان إلى الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين، والقول الصالح، وإقامة الصلاة، وأداء الزكاة، واجتناب سفك الدماء، هذه المواد وردت في التوراة كذلك. من الآية (12) لسورة المائدة يتضح أيضاً أنّ اللَّه أخذ ميثاق بني إسرائيل أن يؤمنوا بجميع الأنبياء ويساندوهم، وأن ينفقوا في سبيل اللَّه. وفي هذه الآية ضمان للقوم بدخول الجنة إن عملوا بهذا الميثاق.

بحوث

1- رفع جبل الطور: أمّا بشأن كيفية رفع جبل الطور في قوله تعالى: «وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ». يقول الطبرسي عن أبي زيد: حدث هذا حين رجع موسى من الطور، فأتى بالألواح، فقال لقومه: جئتكم بالألواح وفيها التوراة والحلال والحرام فاعملوا بها. قالوا:

ومن يقبل قولك؟! فأرسل اللَّه عزّ وجلّ الملائكة حتى نتقوا (رفعوا) الجبل فوق رؤوسهم، فقال موسى عليه السلام: إن قبلتم ما آتيتكم به وإلّا أرسلوا الجبل عليكم، فأخذوا التوراة وسجدوا للَّه تعالى ملاحظين الجبل (أي وهم ينظرون إلى الجبل من طرف خفي)، فمن ثم يسجد اليهود على أحد شِقّي وجوههم.

الطبرسي- كما ذكرنا- وجمع من المفسرين، يذهبون إلى أنّ جبل الطور رفع فوق رؤوس بني إسرائيل بأمر اللَّه لايجاد الظل عليهم.

ويحتمل أيضاً أن تكون قد انفصلت من الجبل صخرة عظيمة بأمر اللَّه على أثر زلزال شديد أو صاعقة، ومرّت فوق رؤوسهم في لحظات، فرأوها وتصوروا أنها ستسقط عليهم.

2- الإلتزام والإرهاب: مسألة رفع الجبل فوق بني إسرائيل لتهديدهم عند أخذ الميثاق تثير سؤالًا بشأن إمكان تحقيق الالتزام عن طريق التخويف والإرهاب.

هناك من قال: إنّ رفع الجبل فوقهم لا ينطوي على إرهاب وتخويف أو إكراه، لأن أخذ الميثاق بالإكراه لا قيمة له.

الأصح أن نقول: لا مانع من إرغام الأفراد المعاندين المتمردين على الرضوخ للحق

مختصر الامثل، ج 1، ص: 71

بالقوّة. وهذا الإرغام مؤقت هدفه كسر أنفتهم وعنادهم وغرورهم، ومن ثم دفعهم للفكر الصحيح، كي يؤدّوا واجباتهم بعد ذلك عن إرادة واختيار.

على أي حال، هذا الميثاق يرتبط بالمسائل العملية، لا بالجانب الاعتقادي، فالمعتقدات لا يمكن تغييرها بالإكراه.

3- خذوا تعاليم السماء بقوة: خاطب اللَّه سبحانه بني إسرائيل فقال: «خُذُوا مَا ءَاتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ». وعن هذه الآية سئل الإمام جعفر بن محمّد الصّادق عليه السلام عن المقصود من القوة في هذه الآية: أبقوة بالأبدان أم بقوة في القلوب؟ قال: «بهما جميعاً».

وهذا الأمر الإلهي يتجه إلى كل أتباع الأديان الإلهية في كل زمان ومكان، ويطلب منهم أن يتجهزوا بالقوى المادية والقوى المعنوية معاً، لصيانة خط التوحيد وإقامة حاكمية اللَّه في الأرض.

وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَ مَا خَلْفَهَا وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) عصاة يوم السبت: هاتان الآيتان الكريمتان تتحدثان- كالآيات السابقة- عن روح العصيان والتمرد المتغلغلة في اليهود، والتصاقهم الشديد بالمسائل المادية: «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِى السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِينَ» «1».

«فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا». أي: جعلناها عبرة لتلك الامة ولأمم تليها «وَمَوعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ».

ملخص الحادثة التي تشير إليها الآية: «أنّ اللَّه سبحانه أمر اليهود أن يسبتوا- أي أن يقطعوا أعمالهم- يوم السبت، وهذا الأمر شمل طبعاً أولئك القاطنين قرب البحر الذين يعيشون على صيد الأسماك، وشاء اللَّه أن يختبر هؤلاء، فكثرت الأسماك يوم السبت قرب الساحل بينما ندرت في بقية الأيّام. طفق هؤلاء يتحايلون لصيد الأسماك يوم السبت.

فعاقبهم اللَّه على عصيانهم ومسخهم على هيئة حيوان» «2».

______________________________

(1) «خسأ»: طرد وزجر، ويستعمل لطرد الكلب، وللطرد المقرون بالإستهانة

يقال: إخْسأه.

(2) راجع التفاصيل لدى توضيح الآيات (163- 166) من سورة الأعراف.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 72

وَ إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَ تَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَ لَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَ إِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَ لَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَ مَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَ اللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَ يُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَ إِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَ إِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَ إِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَ مَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) قصة بقرة بني إسرائيل: هذه الآيات تتحدث بالتفصيل عن حادثة اخرى من حوادث تاريخ بني إسرائيل، هذا التفصيل لم نألفه في الآيات السابقة.

الحادثة (كما يبيّنها القرآن وكتب التّفسير) على النحو التالي: قتل شخص من بني إسرائيل بشكل غامض، ولم يعرف القاتل. حدث بين قبائل بني إسرائيل نزاع بشأن هذه الحادثة، كل قبيلة تتهم الاخرى بالقتل، توجّهوا إلى موسى ليقضي

بينهم، فما كانت الأساليب الاعتيادية ممكنة في هذا القضاء، وما كان بالإمكان إهمال هذه المسألة لما سيترتب عليها من فتنة بين بني إسرائيل. لجأ موسى- بإذن اللَّه- إلى طريقة إعجازية لحلّ هذه المسألة كما ستوضحها الآيات الكريمة. يقول سبحانه في هذه الآيات: «وَإِذْ قَالَ مُوسى

مختصر الامثل، ج 1، ص: 73

لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا».

«قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ». أي: إنّ الإستهزاء من عمل الجاهلين، وأنبياء اللَّه مبرّؤون من ذلك.

بعد أن أيقنوا جديّة المسألة، «قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنْ لَنَا مَا هِىَ». وعبارة «ربّك» تتكرر في خطاب بني إسرائيل لموسى، وتنطوي على نوع من إساءة الأدب والسخرية، وكأنّ ربّ موسى غير ربّهم!

موسى عليه السلام أجابهم: «قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَافَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلِكَ». أي: إنّها لا كبيرة هرمة ولا صغيرة، بل متوسطة بين الحالتين: «فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ».

لكن بني إسرائيل لم يكفوا عن لجاجتهم: «قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا».

أجابهم موسى: «قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ». أي: إنّها حسنة الصفرة لا يشوبها لون آخر.

ولم يكتف بنو إسرائيل بهذا، بل أصروا على لجاجهم، وضيقوا دائرة انتخاب البقرة على أنفسهم. عادوا و «قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنْ لَّنَا مَا هِىَ». طالبين بذلك مزيداً من التوضيح، متذرعين بالقول: «إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ».

أجابهم موسى: «قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَاذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِى الْحَرْثَ». أي:

ليست من النوع المذلل لحرث الأرض وسقيها.

«مُسَلَّمَةٌ» من العيوب كلها.

«لَّا شِيَةَ فِيهَا». أي: لا لون فيها من غيرها.

حينئذ: «قَالُوا النَ جِئْتَ بِالْحَقِّ». «فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ». أي: أنّهم بعد أن وجدوا بقرة بهذه السمات

ذبحوها بالرغم من عدم رغبتهم بذلك.

بعد أن ذكر القرآن تفاصيل القصّة، عاد فلخص الحادث بآيتين: «وَإذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَءْتُمْ فِيهَا». أي: فاختلفتم في القتل وتدافعتم فيه. «وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ».

«فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا». أي: اضربوا المقتول ببعض أجزاء البقرة، كي يحيى ويخبركم بقاتله. «كَذلِكَ يُحْىِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ».

وبعد هذه الآيات البينات، لم تلن قلوب بني إسرائيل، بل بقيت على قسوتها وغلظتها وجفافها. «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً».

إنّها أشد قسوة من الحجارة، لأنّ بعض الحجارة تتفجر منها الأنهار، أو تنبع منها المياه أو

مختصر الامثل، ج 1، ص: 74

تسقط من خوف اللَّه: «وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ». لكن قلوب بني إسرائيل أشد قسوة من الحجارة، فلا تنفجر منها عاطفة ولا علم، ولا تنبع منها قطرة حب، ولا تخفف من خوف اللَّه.

واللَّه عالم بما تنطوي عليه القلوب وما تفعله الأيدي: «وَمَا اللَّهُ بَغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ».

العِبر في هذه القصة: هذه القصة لها دلالات على قدرة اللَّه اللامتناهية، وكذلك على مسألة المعاد.

إضافة إلى ما سبق، هذه القصة تعلمنا أنّنا ينبغي أن لا نتزمت ولا نتشدد في الامور كي لا يتشدد اللَّه معنا.

ولعل انتخاب البقرة للذبح يستهدف غسل أدمغة هؤلاء القوم من فكرة عبادة العجل. أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَ قَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَ إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَ إِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَ فَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَ

وَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَ مَا يُعْلِنُونَ (77)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان روي عن الإمام أبي جعفر محمّد بن علي الباقر عليه السلام أنّه قال: «كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتوطئين، إذا لقوا المسلمين حدّثوهم بما في التوراة من صفة محمّد، فنهاهم كبراؤهم عن ذلك، وقالوا: لا تخبروهم بما في التوراة من صفة محمّد فيحاجّوكم به عند ربّكم فنزلت هذه الآية».

التّفسير

لا أمل في هؤلاء: كان سياق الآيات السابقة يتجه نحو سرد تاريخ بني إسرائيل، وفي هاتين الآيتين يتجه الخطاب نحو المسلمين ويقول لهم: لا تعقدوا الآمال على هداية هؤلاء اليهود، فهم مصّرون على تحريف الحقائق ونكران ما عقلوه «أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ

مختصر الامثل، ج 1، ص: 75

كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحْرّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ».

وهذه عظة للمسلمين، ودفع لما قد يعتريهم من يأس نتيجة عدم استطاعتهم إقناع اليهود وجذبهم إلى الدين الجديد.

الآية التالية تلقي الضوء على حقيقة مرّة اخرى بشأن هذه الزمرة المنافقة وتقول: «وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ».

ويتضح من الآية أنّ إيمان هذه الفئة المنافقة من اليهود، كان ضعيفاً إلى درجة أنّهم تصوروا اللَّه مثل إنسان عادي، وظنوا أنهم إذا أخفوا شيئاً عن المسلمين فسيخفى عن اللَّه أيضاً. لذلك تقول الآية التالية بصراحة: «أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ».

وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ

أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: عمد جمع من علماء اليهود إلى تغيير صفات نبيّ الخاتم في التوراة من أجل صيانة مصالحهم، واستمرار الأموال التي كانت تتدفق عليهم سنوياً من جَهَلَة اليهود. فعند ظهور النبي صلى الله عليه و آله غيّروا ما ذكر من صفاته في التوراة وأبدلوها بصفات اخرى على العكس منها، كي يموّهوا الأمر على الاميين الّذين كانوا قد سمعوا من قبل بصفات النبي في التوراة، فمتى ما سألوا علماءهم عن هذا النبي الجديد قرؤوا لهم الآيات المحرفة من التوراة لإقناعهم بهذه الطريقة.

التّفسير

خطّة اليهود في استغلال الجهلة: بعد الحديث عن إنحرافات اليهود في الآيات السابقة قسّمت هاتان الآيتان اليهود إلى مجموعتين: اميين وعلماء ماكرين. عن المجموعة الاولى يقول تعالى: «وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لَايَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِىَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 76

«الاميّون»: جمع امّيّ، والامّيّ غير الدارس، وسمّوا بذلك لأنّهم في معلوماتهم كما ولدتهم امهاتهم، أو لشدّة تعلق امّهاتهم بهم، صعب عليهنّ فراقهم جهلًا، ومنعنهم من الذهاب إلى المدرسة. والأماني جمع امنية، ولعل الآية تشير هنا إلى الإمتيازات الموهومة التي كان ينسبها اليهود لأنفسهم، كقولهم: «نَحْنُ أَبْنؤُا اللَّهِ وَأَحِبؤُهُ» «1».

ومن المحتمل أيضاً أن يكون المقصود من الأماني، الآيات المحرفة التي كان علماء اليهود يشيعونها بين الاميين من الناس.

ثمة مجموعة اخرى من العلماء كانت تحرف الحقائق لتحقيق مصالحها، وإلى هؤلاء يشير القرآن: «فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا».

«فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ».

«وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ».

وقد أورد بعض المفسرين حديثاً عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية وفيه ملاحظات هامة:

قال رجل للصادق عليه السلام: إذا كان هؤلاء

العوام من اليهود لا يعرفون الكتاب إلّابما يسمعونه من علمائهم، فكيف ذمّهم بتقليدهم والقبول من علمائهم؟ وهل عوام اليهود إلّا كعوامنا، يقلّدون علماءهم- إلى أن قال- فقال عليه السلام: «بين عوامنا وعوام اليهود فرق من جهة، وتسوية من جهة، أمّا من حيث الاستواء فإنّ اللَّه ذمّ عوامنا بتقليدهم علماءهم، كما ذمّ عوامهم، وأمّا من حيث افترقوا فإنّ عوام اليهود كانوا قدعرفوا علماءهم بالكذب الصّراح، وأكل الحرام، والرشاء وتغيير الأحكام، واضطرّوا بقلوبهم إلى أنّ من فعل ذلك فهو فاسق، لايجوز أن يصدّق على اللَّه، ولا على الوسائط بين الخلق وبين اللَّه، فلذلك ذمّهم، وكذلك عوامنا إذا عرفوا من علمائهم الفسق الظاهر، والعصبيّة الشديدة، والتكالب على الدنيا وحرامها، فمن قلّد مثل هؤلاء فهو مثل اليهود الذين ذمّهم اللَّه بالتقليد لفسقة علمائهم، فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه، وذلك لا يكون إلّابعض فقهاء الشيعة لا كلّهم، فإنّ من ركب من القبائح والفواحش مراكب علماء العامّة، فلا تقبلوا منهم عنّا شيئاً، ولا كرامة، وإنمّا كثر التخليط فيما يتحمّل عنّا أهل البيت لذلك، لأنّ الفسقة يتحمّلون عنّا

______________________________

(1) سورة المائدة/ 18.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 77

فيحرّفونه بأسره لجهلهم، ويضعون الأشياء على غير وجهها لقلّة معرفتهم وآخرون يتعمّدون الكذب علينا» «1».

وَ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) غرور وادعاء فارغ: يشير القرآن الكريم هنا إلى واحدة من إدعاءات اليهود الدالة على غرورهم، هذا الغرور الذي يشكل الأساس لكثير من

انحرافات هؤلاء القوم: «وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً». ثم تجيبهم الآية بأسلوب مُفحِم: «قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَاتَعْلَمُونَ».

اعتقاد اليهود بأنّهم شعب اللَّه المختار، وأنّ عنصرهم متفوق على سائر الأجناس البشرية، وأنّ مذنبيهم لن يدخلوا جهنم سوى أيّام قليلة.

إدّعاء اليهود المذكور في الآية الكريمة لا ينسجم مع أي منطق.

الآية الكريمة تدحض مزاعمهم بدليل منطقي، وتفهمهم أنّ مزاعمهم هذه إمّا أن تكون قائمة على أساس عهد لهم اتخذوه عند اللَّه، ولا يوجد مثل هذا العهد، أو أن تكون من افترائهم الكذب على اللَّه.

ثم تبيّن الآية التالية قانوناً عاماً يقوم على أساس المنطق وتقول: «بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».

وهذا القانون عام يشمل المذنبين من كل فئة وقوم.

وبشأن المؤمنين الأتقياء، فهناك قانون عام شامل تبيّنه الآية التالية: «وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».

بحوث

1- كسب السيّئة: الكسب والإكتساب: الحصول على الشي ء عن إرادة واختيار، من هنا

______________________________

(1) وسائل الشيعة 18/ 94 (كتاب القضاء، باب عدم جواز تقليد غير المعصوم).

مختصر الامثل، ج 1، ص: 78

عبارة «بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيَةً» إشارة إلى اولئك الذين يرتكبون الذنوب عن علم وانتخاب، وتعبير الآية بكلمة «كَسَبَ» قد يكون إشارة إلى المحاسبة الخاطئة العاجلة التي يرتكب المذنب على أساسها ذنبه ظاناً أنّه يكسب بارتكاب الذنب نفعاً، ويتحمل بتركه خسارة. 2- إحاطة الخطيئة: الخطيئة تستعمل غالباً في الذنوب التي لا يرتكبها صاحبها عن عمد، لكنها وردت في هذه الآية بمعنى الذنوب الكبيرة أو بمعنى آثار الذنب في قلب الإنسان وروحه.

مفهوم إحاطة الخطيئة يعني إنغماس الفرد في الذنب إلى درجة يصبح ذلك الفرد سجين ذنبه.

3-

عنصرية اليهود: نفهم من الآيات الكريمة أنّ روح التمييز العنصري لدى اليهود، التي هي مبعث كثير من مشاكل الساحة العالمية اليوم، كانت راسخة لدى اليهود منذ تلك الأيام، وكانوا يعتقدون بوجود تفوق وامتياز لعنصر بني إسرائيل على سائر الأجناس البشرية الاخرى، ولا زالت هذه الذهنية سائدة لدى هؤلاء القوم بعد مرور آلاف السنين على أسلافهم الذين يتحدث عنهم القرآن الكريم، وهذا التعصب العنصري هو الأساس الذي تقوم عليه الدولة الصهيونية الغاصبة اليوم.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 79

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) وَ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَ ذِي الْقُرْبَى وَ الْيَتَامَى وَ الْمَسَاكِينِ وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَ آتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَ لَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوَانِ وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَ مَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَ لَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) الناكثون: تقدم ذكر ميثاق بني إسرائيل، والقرآن يندد في هذه الآيات بشدة باليهود لنقضهم هذه العهود، ويتوعدهم نتيجة لهذا النقض بالخزي في الحياة الدنيا والعذاب في الآخرة. بنود هذا العهد الذي أقرّ به بنو إسرائيل:

1- التوحيد

وإخلاص العبودية للَّه «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ لَاتَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ».

2- الإحسان إلى الوالدين: «وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا».

3- الإحسان إلى الأقارب واليتامى والفقراء: «وَذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ».

4- التعامل الصحيح مع الآخرين: «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا».

5- إقامة الصلاة: «وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ».

6- إيتاء الزكاة: «وَءَاتُوا الزَّكَوةَ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 80

ثم تذكر الآية الكريمة نقض القوم للميثاق وعدم وفائهم بالعهد: «ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُمْ مُّعْرِضُونَ».

7- عدم سفك الدماء: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَاتَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ».

8- عدم إخراج بني جلدتكم من ديارهم: «وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ».

9- إفداء الأسرى، أي بذل المال لتحريرهم من الأسر (وهذا البند نفهمه من عبارة «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ» وسيأتي ذكرها).

ثم تذكر الآية إقرار القوم بالميثاق: «ثُمَّ أقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ».

ثم يتعرض القرآن إلى نقض بني إسرائيل للميثاق، بقتل بعضهم وتشريد بعضهم الآخر:

«ثُمَّ أَنتُمْ هؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ». ويشير القرآن إلى تعاون بعضهم ضد البعض الآخر: «تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ».

ثم يشير إلى تناقض هؤلاء في مواقفهم، إذ يحاربون بني جلدتهم ويخرجونهم من ديارهم، ثم يفدونهم إن وقعوا في الأسر: «وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ».

فهم يفادونهم استناداً إلى أوامر التوراة، بينما يشردونهم ويقتلونهم خلافاً لما أخذ اللَّه عليهم من ميثاق: «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ».

ومن الطبيعي أن يكون هذا الانحراف سبباً لانحطاط الإنسان في الدنيا والآخرة: «فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْىٌ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيمَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدّ الْعَذَابِ».

وإنحرافات أية امة من الامم لابد أن تعود عليها بالنتائج الوخيمة، ذلك لأنّ اللَّه سبحانه وتعالى أحصاها عليهم بدقة: «وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ».

الآية الأخيرة تشير إلى تخبط بني إسرائيل وتناقضهم في مواقفهم، والمصير الطبيعي الذي ينتظرهم نتيجة لذلك: «أُولئِكَ

الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَوةَ الدُّنْيَا بِالْأَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ».

بحثان

1- إشارة تاريخية: في الآيات إشارة لتناقض بني إسرائيل في مواقف بعضهم من البعض الآخر. قيل في ذلك: «كان بنو إسرائيل إذا استضعف قوم قوماً أخرجوهم من ديارهم، وقد اخذ عليهم الميثاق أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، واخذ عليهم

مختصر الامثل، ج 1، ص: 81

الميثاق إن أسر بعضهم بعضاً أن يفادوهم، فأخرجوهم من ديارهم ثم فادوهم، فآمنوا بالفداء ففدوا وكفروا بالإخراج من الديار فأخرجوهم».

وفي تفسير مجمع البيان روي في المعنيّ بهذه الآية عن ابن عباس: «أنّ قريظة والنضير كانا أخوين كالأوس والخزرج فافترقوا فكانت النضير مع الخزرج وكانت قريظة مع الأوس، فإذا اقتتلوا عاونت كل فرقة حلفاءها، فإذا وضعت الحرب أوزارها فدوا اسراها تصديقاً لما في التوراة، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان لا يعرفون جنة ولا ناراً ولا قيامة ولا كتاباً، فأنبأ اللَّه تعالى اليهود بما فعلوه».

وهكذا سقط اليهود وغيرهم من أهل العناد في مثل هذه التناقضات في حياتهم لانحرافهم عن خط العبودية التامة للَّه تعالى.

2- منهج البقاء وعوامل السقوط: الآيات الكريمة في معرض حديثها عن بني إسرائيل تطرح سنناً كونية في بقاء الشعوب وانحطاطها.

أهم عامل لبقاء الامّة ورفعتها وعزتها في المنظار القرآني، اعتماد الامة على قوة اللَّه وقدرته الأبدية وخضوعها له وحده دون سواه وخشيته وحده دون غيره: «لَاتَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ».

ومن عوامل البقاء أيضاً التلاحم الاجتماعي بين أفراد الامة، وهذا ما يعبر عنه القرآن بالإحسان إلى الوالدين باعتبارهما أقرب أفراد المجتمع إلى الإنسان، ثم الإحسان إلى ذي القربى، ثم بعد ذلك إلى عامّة أفراد المجتمع من الفقراء والمساكين وغيرهم من الناس.

إزالة التمييز الطبقي ورفع الهوّة السحيقة الفاصلة بين الأغنياء

والفقراء في المجتمع، عن طريق إيتاء الزكاة، ومن عوامل بقاء المجتمع أيضاً ورفعته.

أمّا عوامل السقوط فهي عبارة عن تفكك البنية الاجتماعية، ونشوب النزاعات والحروب الداخلية بين أفراد المجتمع، واستضعاف بعضهم بعضاً. «لَاتَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ ...».

ثم الإزدواجية في الالتزام بأحكام اللَّه تعالى عامل هام من عوامل السقوط، يدفع بالأفراد لأن يتحركوا حول محور مصالحهم الآنيّة الذاتية الضيقة، فيلتزموا بالقوانين التي تحفظ لهم منافعهم الشخصية، ويتركوا القوانين النافعة للمجتمع «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 82

هذه هي الأسباب والعلل في تكامل وانحطاط الامم والحضارات في منظور القرآن.

وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَ قَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَ آتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَ أَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَ فَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وَ قَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) القلوب المغلفة: الحديث في هاتين الآيتين عن بني إسرائيل، وإن كانت المفاهيم والمعايير التي تطرحها الآيتان عامة وشاملة. تقول الآية الاولى: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ». ثم تذكر بعثة الأنبياء بعد موسى مثل داود وسليمان ويوشع وزكريا ويحيى ...

«وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ». وتشير إلى بعثة عيسى: «وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيّنَاتِ وَأَيَّدْنهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ». لكن تعامل بني إسرائيل كان مع كل هؤلاء الأنبياء قائماً على أساس نزعات هوى النفس: «أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَاتَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ».

وكان موقفهم إمّا اغتيال شخصية النبي أو شخص النبي: «فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ». لو كان اغتيال الشخصية كافياً لتحقيق أهدافهم الدنيئة اكتفوا بذلك، وإن لم يكن كافياً سفكوا دمه!

الآية التالية تذكر ما كانوا يقولونه باستهزاء مقابل دعوة الأنبياء لهم أو دعوة النبي الخاتم صلى

الله عليه و آله: «وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ». و «الغلف»: جمع «أغلف» أي مغلّف.

نعم، إنّها كذلك مغلفة وبعيدة عن نفوذ النور الإلهي إليها، لأنّ أصحابها لعنوا بعد التمادي في الكفر: «بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ».

الآية تبين حقيقة هامة هي: إنّ الإنغماس في الأهواء يبعد الفرد عن اللَّه، ويسدل الحجب على قلبه، فلا تكاد الحقيقة تجد لها طريقاً إلى نفسه.

بحثان

1- ما هو روح القدس؟ للمفسرين آراء مختلفة في معنى روح القدس:

أ) قالوا إنّه جبرائيل، فيكون معنى الآية على هذا إنّ اللَّه أيد عيسى بجبرائيل.

ووجه تسمية جبرائيل بروح القدس، هو أنّ جبرائيل ملك، والجانب الروحي في

مختصر الامثل، ج 1، ص: 83

الملائكة أمر واضح، وإطلاق كلمة «الروح» عليهم متناسب مع طبيعتهم، وإضافة الروح إلى «القدس» إشارة إلى طهر هذا الملك وقداسته الفائقة.

ب) وقيل: إنّ «روح القدس» هو القوة الغيبية التي أيدت عيسى عليه السلام وبهذه القوة الخفية الإلهيّة كان عيسى يحيي الموتى.

هذه القوة الغيبية موجودة طبعاً بشكل أضعف في جميع المؤمنين على اختلاف درجة إيمانهم، وهذا الإمداد الإلهي هو الذي يعين الإنسان في أداء الطاعات وتحمل الصعاب، ويقيه من السقوط في الذنوب والزلات.

2- قلوب غافلة محجوبة: كان اليهود في المدينة يقفون بوجه الدعوة، ويمتنعون عن قبولها، ويتذرعون لذلك بمختلف الحجج، والآية التي نحن بصددها تشير إلى واحدة من ذرائعهم.

«وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلفٌ» ولا ينفذ إليها قول!

كانوا يقولون ذلك عن استهزاء، غير أنّ القرآن أيد مقالتهم، فبكفرهم ونفاقهم اسدل على قلوبهم حجب من الظلمات والذنوب، وابتعدوا عن رحمة اللَّه، «فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ».

وهذه مسألة تطرحها في الآية (155) من سورة النساء حيث يقول تعالى: «وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا».

وَ لَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ

مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَ كَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَ لِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)

سبب النّزول

روي العياشي في تفسيره عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «كانت اليهود تجد في كتبها أنّ مهاجر (مكان هجرة) محمّد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ما بين (جبلي) عَيْر واحد، فخرجوا يطلبون الموضع، فمرّوا بجبل يقال له حداد، فقالوا: حداد واحد سواء، فتفرّقوا عنده. فنزل بعضهم بتيماء وبعضهم

مختصر الامثل، ج 1، ص: 84

بفدك وبعضهم بخيبر، فاشتاق الذين بتيماء إلى بعض إخوانهم، فمرّ بهم أعرابي من قيس فتكاروا منه (أي استأجروا إبله) وقال لهم: أمرّ بكم ما بين عَير واحد، (فعلموا أنّهم أصابوا ضالّتهم) فقالوا له: إذا مررت بهما فآذنّا (أخبرنا) بهما، فلمّا توسط بهم أرض المدينة، قال: ذلك عَير، وهذا احد، فنزلوا عن ظهر إبله، وقالوا له: قد أصبنا بغيتنا فلا حاجة بنا إلى إبلك، فاذهب حيث شئت. وكتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك وخيبر: إنّا قد أصبنا الموضع فهلمّوا إلينا. فكتبوا إليهم إنّا قد استقرت بنا الدار واتّخذنا بها الأموال، وما أقربنا منكم، فإذا كان ذلك فما أسرعنا إليكم، واتخذوا بأرض المدينة أموالًا. فلما كثرت أموالهم بلغ ذلك تُبّعاً فغزاهم، فتحصنوا منه، فحاصرهم ثم أمنهم، فنزلوا عليه. فقال لهم: إنّي قد استطبت بلادكم، ولا أراني إلّامقيماً فيكم.

فقالوا له: ليس ذلك لك، إنّها مهاجر نبي، وليس ذلك لأحد حتى يكون ذلك. فقال لهم: فإنّي مخلف فيكم من اسرتي

من إذا كان ذلك ساعده ونصره، فخلف حين تراهم الأوس والخزرج. فلمّا كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود، فكانت اليهود تقول لهم: أما لو بعث محمّد لنخرجنّكم من ديارنا وأموالنا. فلما بعث اللَّه محمّداً صلى الله عليه و آله آمنت الأنصار وكفرت به اليهود، وهو قوله تعالى: «وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا» إلى آخر الآية».

التّفسير

كفروا بما دعوا الناس اليه: هذه الآيات تتحدث أيضاً عن اليهود ومواقفهم، هؤلاء هاجروا ليتخذوا من يثرب سكناً بعد أن وجدوا فيها ما يشير إلى أنّها أرض الرّسول المرتقب، وبقوا فيها ينتظرون بفارغ الصبر النبي الذي بشّرت به التوراة، كما كانوا ينتظرون الفتح والنصر على الذين كفروا تحت لواء هذا النبي، لكنهم مع كل ذلك أعرضوا عن الرسول وعن الرسالة: «وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ».

وهكذا تستطيع الأهواء والمصالح الشخصية أن تقف بوجه طالب الحقيقة، مهما كان الفرد عاشقاً لهذه الحقيقة وتوّاقاً للوصول إليها فيتركها ويعرض عنها، بل تستطيع الأهواء أيضاً أن تحول هذا الفرد إلى عدو لدود لهذه الحقيقة.

ما أشد خسارة هؤلاء اليهود، تركوا أوطانهم وهاموا في الأرض بحثاً عن علامات أرض الرسالة، ثم ها هم خسروا كل شي ء، وباعوا أنفسهم بأسوأ ثمن: «بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أنفُسَهُمْ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 85

لقد ضيعوا كل شي ء وكأنّهم أرادوا أن يكون النبي الموعود من بني إسرائيل، ولهذا تألموا من نزول القرآن على غيرهم، بل ممن شاءه اللَّه: «أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ».

ولذلك شملهم غضب اللَّه المتوالي: «فَبَاءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ

وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ».

«باءو»: بمعنى رجعوا- وأقاموا في المكان- وهنا تعني استحقاقهم لعذاب اللَّه، فكأنّهم عادوا وهم محملون بهذا الغضب الإلهى، أو كأنّهم اتخذوا موقفاً يغضب اللَّه.

هؤلاء القوم كانوا يعيشون على أمل ظهور النبي المنقذ، قبل دعوة موسى وقبل دعوة النبي الخاتم صلى الله عليه و آله وكان موقفهم من الرسولين الكريمين واحداً، هو النكول والإعراض، واستحقوا غضب اللَّه وسخطه مرة بعد اخرى.

وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَ يَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَ لَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَ رَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَ عَصَيْنَا وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) العصبية القومية لدى اليهود: يشير القرآن مرة اخرى إلى عصبية اليهود القومية ويقول: «وَإذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ».

فهم لم يؤمنوا بالإنجيل ولا بالقرآن، بل إنّهم يدورون حول محور العنصرية والمصلحية، فيجرأون على رفض الدعوة التي جاءت تصديقاً لما معهم في التوراة: «وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدّقًا لِّمَا مَعَهُمْ». ويكشف القرآن زيف ادّعائهم مرة اخرى حين يقول لهم: «قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ». هؤلاء يدّعون أنّهم يؤمنون بما أنزل عليهم، فهل التوراة تبيح لهم قتل الأنبياء؟

مختصر الامثل، ج 1، ص: 86

ويعرض القرآن وثيقة اخرى لإدانة اليهود ولكشف زيف إدعائهم فيقول: «وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُّوسَى بِالبَيّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ».

ما هذا

الانحراف نحو عبادة العجل بعد أن جاءتكم البينات إن كنتم في إيمانكم صادقين!

في الآية الثالثة يطرح القرآن وثيقة إدانة اخرى، فيشير إلى مسألة ميثاق جبل الطور ويقول: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا ءَاتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا».

وما كان عصيانهم إلّاعن انغماس في حب الدنيا الذي تمثل في حب عجل السامري الذهبي: «وَأُشْرِبُوا فِى قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهمْ» ولذا نسوا اللَّه عزّ وجلّ؟ كيف يجتمع الإيمان باللَّه مع قتل انبيائه وعبادة العجل ونقض العهود والمواثيق الإلهيّة المؤكدة؟ أجل «قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ».

قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَ لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَ مَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) فئة مغرورة: يبدو من تاريخ اليهود- مضافاً لما أخبر القرآن عنه- أنّ هؤلاء القوم كانوا يعتبرون أنفسهم فئة متميزة في العنصر، ومتفوقة على سائر الأجناس البشرية، وكانوا يعتقدون أنّ الجنة خلقت لهم لا لسواهم، وأنّ نار جهنم لن تمسّهم، وأنّهم أبناء اللَّه وخاصته، وأنّهم يحملون جميع الفضائل والمحاسن.

والقرآن الكريم يجيب هؤلاء القوم جواباً دامغاً إذ يقول: «قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْأَخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُم صَادِقِينَ».

لقد كان اليهود يهدفون من كلامهم هذا وأنّ الجنة خالصة لنا دون سائر الناس: أو أنّ النار لا تمسّنا إلّاأيّاماً معدودات- إلى توهين إيمان المسلمين وتخدير عقائدهم.

في الآية التالية تأكيد على ما سبق بشأن ابتعاد القوم

عن الموت: «وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 87

قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيْمٌ بِالظَّالِمِينَ».

هؤلاء يعلمون ما في ملفّ أعمالهم من وثاق سوداء ومن صحائف إدانة، واللَّه عليم بكل ذلك، ولذلك فهم لا يتمنون الموت، لأنّه بداية حياة يحاسبون فيها على كل أعمالهم.

الآية الأخيرة تذكر انشداد هؤلاء بالأرض وحرصهم الشديد على المال والمتاع:

«وَلَتَجِدَنَّهُمْ أحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَوةٍ». وتذكر الآية أنّ حرصهم هذا يفوق حرص الذين أشركوا: «وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا».

المشركون ينبغي أن يكونوا أحرص من غيرهم على جمع المال والمتاع، لكن هؤلاء من أصحاب الإدعاءات الفارغة، بلغوا من الحرص ما لم يبلغه المشركون.

وبلغ شغفهم بالدنيا أنّه «يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ» لجمع مزيد من متاع الدنيا، أو خوفاً من عقاب الآخرة! لكن هذا العمر الذي يتمناه كل واحد منهم لا يبعده عن العذاب، ولا يغير من مصيره شيئاً «وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ». إذ كل شي ء محصى لدى اللَّه، ولا يعزب عن عمله شي ء «وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ».

بحوث

1- ما هو المراد من الأعوام الألف: المقصود من الأعوام الألف في قوله تعالى: «يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ ألْفَ سَنَةٍ». ليس هذا العدد المعروف، والعرب لم تكن تعرف أنذاك عدداً أكبر من الألف، ولم يكن لما يزيد على الألف اسم عندالعرب، ولذلك كان أبلغ تعبير عن الكثرة.

2- علة ورود كلمة «الحياة» نكرة في الآية: تنكير الحياة في تعبير الآية «وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَوةٍ» تفيد الإستهانة والتحقير. أي إنّ هؤلاء حريصون حتّى على أتفه حياة وأرخصها وأشقاها، ويفضلونها على الآخرة.

3- إفرازات العنصرية: كان التعصب العنصري وراء كثير من الحروب والمآسي التي حدثت على الساحة البشرية خلال جميع عصور التاريخ، واليهود يحتلون دون شك مكان الصدارة بين العنصريين

المتعصبين على مر التاريخ.

لقد دفعتهم عنصريتهم لأن يحتكروا حتى تعاليم موسى، ويزيلوا عنصر الدعوة من دينهم، كي لا يعتنق تعاليمهم أحد غيرهم.

التعصب العنصري شعبة من الشرك، ولذلك حاربه الإسلام بشدة، مؤكداً أنّ كل أبناء البشر من أب واحد وام واحدة، ولا تمايز إلّابالتقوى والعمل الصالح.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 88

4- عوامل الخوف من الموت: أكثر الناس يخافون من الموت، وخوفهم هذا يعود إلى عاملين:

أ) الخوف من الفناء والعدم، فالذين لا يؤمنون بالآخرة لا يرون بعد هذه الحياة استمرارًا لحياتهم، ومن الطبيعي أن يخاف الإنسان من الفناء، وهذا الخوف يلاحق هؤلاء حتى في أسعد لحظات حياتهم فيحوّلها إلى علقم في أفواههم.

ب) الخوف من العقاب، ومثل هذا الخوف يلاحق المذنبين المؤمنين بالآخرة، فيخافون أن يحين حينهم وهم مثقلون بالآثام والأوزار، فينالوا جزاءهم، ولذلك يودّون أن تتأخر ساعة انتقالهم إلى العالم الآخر.

الأنبياء العظام أحيوا في القلوب الإيمان باليوم الآخر، وبذلك أبعدوا شبح الفناء والإنعدام من الأذهان، وبيّنوا أنّ الموت انتقال إلى حياة أبدية خالدة منعّمة.

من جهة اخرى دعا الأنبياء إلى العمل الصالح، كي يبتعد الإنسان عن الخوف من العقاب، ولكي يزول عن القلوب والأذهان كل خوف من الموت.

قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدًى وَ بُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَ مَلَائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)

سبب النّزول

جاء في تفسير مجمع البيان: قال ابن عباس: كان سبب نزول هذه الآية ما روي أنّ ابن صوريا وجماعة من يهود أهل فدك، لمّا قدم النبي صلى الله عليه و آله المدينة، سألوه فقالوا: يا محمّد! كيف نومك فقد اخبرنا عن نوم النبي

الذي يأتي في آخر الزمان؟ فقال: «تنام عيناي وقلبي يقظان». قالوا: صدقت يا محمّد ... قالوا: فأخبرنا عن ربّك ما هو؟ فأنزل اللَّه سبحانه «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» إلى آخر السورة. فقال له ابن صوريا: خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك واتبعتك: أيّ ملك يأتيك بما يُنزل اللَّه عليك؟ قال: «جبريل». قال ابن صوريا: ذاك عدونا ينزل بالقتال والشدة والحرب، وميكائيل ينزل باليسر والرخاء، فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك لآمنّا بك.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 89

التّفسير

قوم جدلون: سبب نزول الآية الكريمة يبين طبيعة العناد واللجاج والجدل في اليهود، إبتداء من زمان موسى عليه السلام ومروراً بعصر خاتم الأنبياء وحتى يومنا هذا. حجتهم في هذا الموضع المذكور في الآية ثقل التكاليف التي يأتي بها جبرائيل، والقرآن الكريم يصرح- في الآية (6) من سورة التحريم- بأنّ الملائكة ينفّذون أوامر اللَّه ولا ينحرفون عن طاعته: «لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ».

القرآن يجيب عن ذريعة هؤلاء: «قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ». وما جاء به جبرائيل يصدّق ما نزل في الكتب السماوية السابقة: «مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ». وهو إضافة إلى كل هذا: «وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ».

الآية التالية تؤكد نفس هذا الموضوع تأكيداً مقروناً بالتهديد وتقول: «مَن كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكلَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ».

مشيرة بذلك إلى أنّ موقف الإنسان من اللَّه وملائكته ورسله ومن جبرائيل وميكائيل، لا يقبل التفكيك، وأنّ الموقف المعادي من أحدهم هو معاداة للآخرين.

جبريل وميكال: ورد اسم جبريل ثلاث مرات، واسم ميكال مرة واحدة في القرآن الكريم «1» ويستفاد من الآيات أنّهما ملكان مقربان من ملائكة اللَّه تعالى.

وهناك أحاديث تدور حول ظهور جبرائيل بصور متعددة لدى نزوله على النبي، وكان

في المدينة ينزل على صورة (دحية الكلبي) وهو رجل جميل الطلعة.

يستفاد من سورة النجم أنّ النبي صلى الله عليه و آله شاهد جبرائيل مرتين على هيئته الأصلية «2».

وَ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَ مَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَ وَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَ لَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)

______________________________

(1). اسم «جبريل» ورد مرتين فى هذه آلايات و مرة فى سورة التحريم الآية (4) و اسم «ميكال» لم يرد إلا فى هذا الموضع من القرآن.

(2). أعلام القرآن/ 277.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 90

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس: إنّ ابن صوريا قال لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله: يا محمّد! ما جئتنا بشي ء نعرفه، وما أنزل اللَّه عليك من آية بيّنة فنتبعك لها. فأنزل اللَّه هذه الآية.

التّفسير

الناكثون من اليهود: الآية الاولى تشير إلى الآيات والعلامات والدلائل الكافية الواضحة التي توفرت لدى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وتؤكد أنّ المعرضين عن هذه الآيات البينات أدركوا في الواقع حقانية الدعوة، لكنهم هبّوا للمعارضة مدفوعين بأغراضهم الشخصية:

«وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ءَايَاتٍ بَيّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ».

ثم يتطرق القرآن إلى صفة مجموعة من اليهود، وهي صفة النكول ونقض العهود والمواثيق، وكأنّها صفة تاريخية تلازمهم على مر العصور: «أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَايُؤْمِنُونَ».

لقد أخذ اللَّه ميثاقهم في جانب الطور أن يعملوا بالتوراة لكنهم نقضوا الميثاق، وأخذ منهم الميثاق أن يؤمنوا بالنّبي الخاتم المذكور عندهم في التوراة فلم يؤمنوا به.

الآية الأخيرة تؤكد بصراحة أكثر

على هذا الموضوع: «وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَايَعْلَمُونَ».

كان أحبار اليهود يبشرون الناس قبل البعثة النبوية بالرسول الموعود ويذكرون لهم علاماته وصفاته، فلما بعث نبي الإسلام، أعرضوا عما جاء في كتابهم، وكأنّهم لم يروا ولم يقرأوا ما ذكرته التوراة في هذا المجال.

بحثان

1- واضح أنّ تعبير «النزول» أو «الإنزال» بشأن القرآن الكريم لا يعني الإنتقال المكاني من الأعلى إلى الاسفل وأنّ اللَّه مثلًا في السماء وأنزل القرآن إلى الأرض، بل التعبير يشير إلى علو مكانة رب العالمين.

2- القرآن في حديثه عن اليهود لا يوبّخ الجميع بسبب ذنوب الأكثرية، بل يستعمل كلمات مثل «فريق» «أكثر» ليصون حق الأقلية المؤمنة المتقية، وطريقة القرآن هذه في حديثه عن الامم درس لنا كي لا نحيد في أحاديثنا ومواقفنا عن الحق والحقيقة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 91

وَ اتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَ مَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَ لكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَ مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَ مَارُوتَ وَ مَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ مَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَ يَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَ لَا يَنْفَعُهُمْ وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَ لَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) سليمان وسحرة بابل: يفهم من الأحاديث أنّ مجموعة من الناس مارست السحر في عصر النبي سليمان عليه السلام

فأمر سليمان بجمع كل أوراقهم وكتاباتهم، واحتفظ بها في مكان خاص. بعد وفاة سليمان عمدت جماعة إلى إخراج هذه الكتابات، وبدأوا بنشر السحر وتعليمه، واستغلت فئة هذه الفرصة فأشاعت أنّ سليمان لم يكن نبياً أصلًا.

مجموعة من بني إسرائيل سارت مع هذه الموجة ولجأت إلى السحر، وتركت التوراة.

عندما ظهر النبي الخاتم صلى الله عليه و آله وجاءت آيات القرآن مؤيدة لنبوة سليمان، قال بعض أحبار اليهود: ألا تعجبون من محمّد يقول: سليمان نبي وهو ساحر!

وجاءت الآية ترد على مزاعم هؤلاء وتنفي هذه التهمة الكبرى عن سليمان عليه السلام «1».

الآية الاولى إذن تكشف فضيحة اخرى من فضائح اليهود وهي إتهامهم لنبي اللَّه بالسحر والشعوذة، تقول الآية عن هؤلاء القوم: «وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمنَ».

المقصود بكلمة «الشياطين» قد يكون الطغاة من البشر أو من الجن أو من كليهما.

ثم تؤكد الآية على نفي الكفر عن سليمان: «وَمَا كَفَرَ سُلَيْمنُ».

______________________________

(1) سيرة ابن هشام 2/ 192؛ وتفسير مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 92

فسليمان عليه السلام لم يلجأ إلى السحر، ولم يحقق أهدافه عن طريق الشعوذة: «وَلكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلّمُونَ النَّاسَ السّحْرَ» «1». هؤلاء اليهود لم يستغلّوا ما تعلموه من سحر الشياطين فحسب، بل أساؤوا الاستفادة أيضاً من تعليمات هاروت وماروت: «وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هرُوتَ وَمرُوتَ».

هاروت وماروت ملكان إلهيّان جاءا إلى الناس في وقت راج السحر بينهم وابتلوا بالسحرة والمشعوذين، وكان هدفهما تعليم الناس سبل إبطال السحر، وكما أنّ إحباط مفعول القنبلة يحتاج إلى فهم لطريقة فعل القنبلة، كذلك كانت عملية إحباط السحر تتطلب تعليم الناس اصول السحر، ولكنهما كانا يقرنان هذا التعليم بالتحذير من السقوط في الفتنة بعد تعلم السحر: «وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ

أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ».

وسقط اولئك اليهود في الفتنة، وتوغلوا في انحرافهم، فزعموا أنّ قدرة سليمان لم تكن من النبوّة، بل من السحر والسحرة، وهذا هو دأب المنحرفين دائماً، يحاولون تبرير انحرافاتهم بإتهام العظماء بالانحراف.

هؤلاء القوم لم ينجحوا في هذا الاختبار الإلهي، فأخذوا العلم من الملكين واستغلّوه على طريق الإفساد لا الإصلاح، لكن قدرة اللَّه فوق قدرتهم وفوق قدرة ما تعلموه: «فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ».

لقد تهافتوا على إقتناء هذا المتاع الدنيوي وهم عالمون بأنّه يصادر آخرتهم «وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَيهُ مَا لَهُ فِى الْأَخِرَةِ مِنْ خَلقٍ» «2». لقد باعوا شخصيتهم الإنسانية بهذا المتاع الرخيص «وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ».

لقد أضاعوا سعادتهم وسعادة مجتمعهم عن علم ووعي، وغرقوا في مستنقع الكفر والإنحراف «وَلَوْ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ».

بحثان

1

- قصّة هاروت وماروت: شاع السحر في أرض بابل وأدّى إلى إحراج الناس

______________________________

(1) «السحر»: نوع من الأعمال الخارقة للعادة، تؤثر في وجود الإنسان، و هو أحياناً نوع من المهارة والخفة في الحركة وإيهام للأنظار كما إنّه أحيانا ذو طابع نفسي خيالي.

(2) «الخلاق»: يعني الخُلُق، وقد يعني الحظّ والنصيب وهذا هو معنى الكلمة في الآية.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 93

وازعاجهم، فبعث اللَّه ملكين بصورة البشر، وأمرهما أن يعلما الناس طريقة إحباط مفعول السحر، ليتخلصوا من شر السحرة. كان الملكان مضطرين لتعليم الناس اصول السحر، باعتبارها مقدمة لتعليم طريقة إحباط السحر، واستغلت مجموعة هذه الاصول، فانخرطت في زمرة الساحرين، وأصبحت مصدر أذى للناس. الملكان حذرا الناس- حين التعليم- من الوقوع

في الفتنة، ومن السقوط في حضيض الكفر بعد التعلم، لكن هذا التحذير لم يؤثر في مجموعة منهم «1».

2- لا قدرة لأحد على عمل دون إذن اللَّه: نفهم من قول اللَّه في هذه الآيات أنّ السحرة ما كانوا قادرين على إنزال الضّر بأحد دون إذن اللَّه سبحانه، وليس في الأمر «جبر» ولا إرغام، بل إنّ هذا المعنى يشير إلى مبدأ أساس في التوحيد، وهو أنّ كل القوى في هذا الكون تنطلق من قدرة اللَّه تعالى، النار إذ تحرق إنّما تحرق بإذن اللَّه، والسكين إذ تقطع إنما تقطع بأمر اللَّه، لا يمكن للساحر أن يتدخل في عالم الخليقة خلافاً لإرادة اللَّه.

كل ما نراه من آثار وخواص إنّما هي آثار وخواص جعلها اللَّه سبحانه للموجودات المخلتفة، ومن هذه الموجودات من يحسن الاستفادة من هذه الهبة الإلهيّة ومنهم من يسي ء الاستفادة منها. و «الاختيار» الذي منحه اللَّه للإنسان إنّما هو وسيلة لإختباره وتكامله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَ قُولُوا انْظُرْنَا وَ اسْمَعُوا وَ لِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَ لَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ اللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: لمّا قدّم سبحانه نهي اليهود عن السحر، عقبه بالنهي عن إطلاق هذه اللفظة فقال سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَقُولُوا رَاعِنَا» كان المسلمون يقولون: يا رسول اللَّه! راعنا. أي استمع منّا. فحرّفت اليهود هذه اللفظة، فقالوا: يا محمّد! راعنا. وهم يلحدون إلى الرعونة يريدون به النقيصة والوقيعة فلما عوتبوا قالوا: نقول كما يقول

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث؛ وسائل الشيعة 12/ 106.

مختصر الامثل،

ج 1، ص: 94

المسلمون، فنهى اللَّه عن ذلك «لَاتَقُولُوا رَاعِنَا» «وَقُولُوا انْظُرْنَا».

التّفسير

لا توفّروا للأعداء فرصة الطعن: الآية الكريمة تخاطب المسلمين قائلة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

ممّا سبق من سبب نزول هذه الآية الكريمة نستنتج أنّ على المسلمين أن لا يوفروا للأعداء فرصة الطعن بهم، وأن لا يتيحوا لهم بفعل أو قول ذريعة يسيئون بها إلى الجماعة المسلمة.

حين يشدد الإسلام إلى هذا الحد في هذه المسألة البسيطة، فإنّ تكليف المسلمين في المسائل الكبرى واضح، عليهم في مواقفهم من المسائل العالمية أن يسدوا الطريق أمام طعن الأعداء، وأن لا يفتحوا ثغرة ينفذ منها المفسدون من الداخل والخارج للإساءة إلى سمعة الإسلام والمسلمين.

الآية التالية تكشف عن حقيقة ما يكنّه مجموعة من أهل الكتاب والمشركين من حقد وعداء للجماعة المؤمنة: «مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِنْ رَّبّكُمْ»، وسواء ودّ هؤلاء أم لم يودّوا فرحمة اللَّه لها سنّة إلهيّة ولا تخضع للميول والأهواء: «وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ».

الحاقدون لم يطيقوا أن يروا ما شمل اللَّه المسلمين من فضل ونعمة، وما منّ عليهم من رسالة عظيمة، ولكن فضل اللَّه عظيم.

مغزى قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا»: أكثر من ثمانين موضعاً خاطب اللَّه المسلمين في كتابه الكريم بهذه العبارة، وكل هذه المواضع من القرآن الكريم نزلت في المدينة، ولا وجود لهذه العبارة في الآيات المكية، ولعلّ ذلك يعود إلى تشكل الجماعة المسلمة في المدينة، وإلى ظهور المجتمع الإسلامي بعد الهجرة. ولذلك خاطب اللَّه الجماعة المؤمنة بعبارة «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا»، وهذا الخطاب يتضمن إشارة إلى ميثاق التسليم الذي عقدته الجماعة المسلمة مع ربّهابعد

الإيمان به، وهذا الميثاق يفرض على الجماعة الطاعة والإنصياع لأوامر ربّ العالمين، والإستجابة لما يأتي بعد هذه العبارة من أحكام.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 95

مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (106) أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لَا نَصِيرٍ (107) الغرض من النسخ: الآية الاولى تشير أيضاً إلى بعد آخر من أبعاد حملة التشكيك اليهودية ضد المسلمين. كان هؤلاء القوم يخاطبون المسلمين أحياناً قائلين لهم إنّ الدين دين اليهود وأنّ القبلة قبلة اليهود، ولذلك فإنّ نبيّكم يصلي تجاه قبلتنا (بيت المقدس)، وحينما نزلت الآية (144) من هذه السورة وتغيرت بذلك جهة القبلة، من بيت المقدس إلى مكة، غيّر اليهود طريقة تشكيكهم، وقالوا: لو كانت القبلة الاولى هي الصحيحة، فلم هذا التغيير؟

وإذا كانت القبلة الثانية هي الصحيحة، فكل أعمالكم السابقة- إذن- باطلة.

القرآن الكريم في هذه الآية يرد على هذه المزاعم وينير قلوب المؤمنين، ويقول: «مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا» «1». وليس مثل هذا التغيير على اللَّه بعسير «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

الآية التالية تؤكد مفهوم قدرة اللَّه سبحانه وتعالى وحاكميته في السماوات والأرض وفي الأحكام، فهو البصير بمصالح عباده: «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ». وفي هذه العبارة من الآية أيضاً تثبيت لقلوب المؤمنين، كي لا تتزلزل أمام حملات التشكيك هذه، وتستمر الآية في تعميق هذا التثبيت، مؤكدة أنّ المجموعة المؤمنة ينبغي أن تعتمد على اللَّه وحده، وتستند إلى قوته وقدرته دون سواه، فليس في هذا الكون سند حقيقي

سوى اللَّه سبحانه: «وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِىّ وَلَا نَصِيرٍ».

أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)

سبب النّزول

روي عن ابن عباس أنّه قال: إنّ رافع بن حرملة، ووهب بن زيد قالا لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

______________________________

(1) «النسخ»: في اللغة الإزالة، وفي الاصطلاح تغيير حكم شرعي واحلال حكم آخر محله.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 96

إئتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه وفجّر لنا أنهاراً نتبعك ونصدقك. فأنزل اللَّه هذه الآية.

التّفسير

حجج واهية: هذا الآية الكريمة، وإن كانت تخاطب مجموعة من المسلمين ضعاف الإيمان أو المشركين إلّاأنّها ترتبط أيضاً بمواقف اليهود.

لعل هذا السؤال وجه إلى الرسول بعد تغيير القبلة، وبعد حملات التشكيك التي شنها اليهود بين المسلمين وغير المسلمين، واللَّه سبحانه في هذه الآية الكريمة نهى عن توجيه مثل هذه الأسئلة السخيفة: «أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ».

مثل هذا العمل إعراض عن الإيمان واتجاه نحو الكفر، ولذلك قالت الآية: «وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ».

الإسلام طبعاً لا يمنع طرح الأسئلة العلمية والمنطقية، ولا يحول دون طلب المعجزة من أجل إثبات صحة الدعوة، لأنّ مثل هذه الأسئلة والطلبات هي طريق الإدراك والفهم والإيمان.

القرآن الكريم ينبه في هذه الآية بأنّ المجموعة البشرية التي لا تسلك طريق العقل والمنطق في اسئلتها ومطالبتها، سينزل بها ما نزل بقوم موسى.

وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (109) وَ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَ آتُوا الزَّكَاةَ وَ

مَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) حسد وعناد: كثير من أهل الكتاب وخاصة اليهود لم يكتفوا بإعراضهم عن الدين المبين، بل كانوا يودّون أن يرتد المسلمون عن دينهم، ولم يكن ذلك إلّاعن حسد يستعر في أنفسهم، تقول الآية: «وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِمْ مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 97

وأمام هذه المواقف الدنيئة والنظرات الضيّقة والآمال التافهة والنوايا الخبيثة التي تحملها الفئة الكافرة، يحدد الإسلام موقف الجماعة المسلمة، على أساس من رحابة الصدر وسعة الافق وبعد النظرة «فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ». إنّ «أمر اللَّه» في هذه الآية يعني «أمر الجهاد» ولعل الجماعة المسلمة لم تكن على استعداد شامل لخوض معركة دامية حين نزلت هذه الآية.

الآية التالية تأمر المسلمين بحكمين هامين: إقامة الصلاة باعتبارها رمز إرتباط الإنسان باللَّه، وإيتاء الزكاة وهي أيضاً رمز التكافل بين أبناء الامة المسلمة، وكلاهما ضروريان لتحقيق الانتصار على العدو: «وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَءَاتُوا الزَّكَوةَ».

ثم تؤكد الآية على خلود العمل الصالح وبقائه: «وَمَا تُقَدّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ». واللَّه سبحانه عالم بالسرائر، ويعلم دوافع الأعمال، ولا يضيع عنده أجر العاملين «إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».

بحثان

1- «اصفحوا»: من «صفح» وصفح الشي ء عرضه وجانبه كصفحة الوجه وصفحة السيف وصفحة الحجر، والأمر بالصفح هو الأمر بالإعراض، لكن عطفها على «فاعفوا» يفهم أنّه أمر بالإعراض لا عن جفاء بل عفو وسماح.

2- عبارة «إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ» قد تشير إلى أنّ اللَّه قادر أن ينصر المسلمين على أعدائهم بطرق غيبيه، ولكن طبيعة حياة البشر

والكون قائمة على أنّ الأعمال لا تتم إلّا بالتدريج وبعد توفّر المقدمات.

وَ قَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) احتكار الجنة: القرآن في هاتين الآيتين يشير إلى ادعاء آخر من الادعاءات الفارغة لمجموعة من اليهود والنصارى: «وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى . ثم يجيبهم جواباً رادعاً قائلًا: «تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 98

ثم تخاطب الآية رسول اللَّه وتقول: «قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».

بعد التأكيد على أنّ إدعاء هؤلاء فارغ لا قيمة له، وأنّه مجرد امنية تخامر أذهانهم، يطرح القرآن المعيار الأساس لدخول الجنة على شكل قانون عام: «بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبّهِ». ومن هنا فالمشمولون بهذا القانون هم في ظلال رحمة اللَّه «وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ».

ذكر عبارة «وَهُوَ مُحْسِنٌ» بعد طرح مسألة التسليم، إشارة إلى أنّ صفة الإحسان ليست طارئة في نفوس المؤمنين، بل هي خصلة نافذة في أعماق هؤلاء.

ونفي الخوف والحزن عن أتباع خط التوحيد سببه واضح، لأنّ هؤلاء يخافون اللَّه دون سواه، بينما المشركون يخشون من كل ما يهدد مصالحهم الدنيوية التافهة، بل يخشون أموراً خرافية موهومة تقلقهم وتقضّ مضاجعهم.

وَ قَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْ ءٍ وَ قَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْ ءٍ وَ هُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قال ابن عبّاس: إنّه لمّا قدم وفد

نجران من النصارى على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أتتهم أحبار اليهود فتنازعوا عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال رافع بن حرملة: ما أنتم على شي ء، وجحد نبوّة عيسى وكفر بالإنجيل. فقال رجل من أهل نجران: ليست اليهود على شي ء، وجحد نبوّة موسى وكفر بالتوراة، فأنزل اللَّه هذه الآية.

التّفسير

تعصّب وتناقض: فيما مرّ بنا من آيات رأينا جانباً من الادّعاءات الفارغة التي أطلقها جمع من اليهود والنصارى، ورأينا أنّ هذه الادّعاءات الفارغة تستتبعها روح احتكارية ضيّقة، ثم وقوع في التناقضات. تقول الآية: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَىْ ءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَىْ ءٍ».

ثم تضيف الآية: «وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ». أي: إنّ هؤلاء لديهم الكتاب الذي يستطيع أن ينير لهم الطريق في هذه المسائل، ومع ذلك ينطلقون في أحكامهم من التعصب واللجاج والعناد.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 99

ثم تقول الآية: «كَذلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَايَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ». ثم اختتمت الآية بالتأكيد على أنّ الحقائق إن خفيت في هذه الدنيا، فهي لا تخفى في الآخرة حيث تنكشف كل الأوراق:

«فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ».

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَ سَعَى فِي خَرَابِهَا أُولئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)

سبب النّزول

روي في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ الآية نزلت في قريش حين منعوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله دخول مكة والمسجد الحرام.

التّفسير

أظلم الناس: سبب النّزول توضّح أنّ الآية تتحدث عن اليهود والنصارى والمشركين.

القرآن يقول لهؤلاء جميعاً ولكل من يسلك طريقاً مشابهاً لهؤلاء: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ

أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِى خَرَابِهَا». ثم تقول الآية: «أُولئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ». أي: إنّ المسلمين والموحدين ينبغي أن يكونوا على درجة من القوة والمقاومة بحيث لا يستطيع الظلمة أن يمدوا أيديهم إلى هذه الأماكن المقدسة.

والآية تبين بعد ذلك العقاب الذي ينتظر هؤلاء الظلمة ممن يريد أن يفصل بين اللَّه وعباده: «لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى الْأَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ».

وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)

سبب النّزول

روي في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس: إنّ اليهود أنكروا تحويل القبلة إلى الكعبة عن بيت المقدس فنزلت الآية ردّاً عليهم.

التّفسير

الآية السابقة تحدثت عن الظالمين الذين يمنعون مساجد اللَّه أن يذكر فيها اسمه ويسعون في خرابها، وهذه الآية تواصل موضوع الآية السابقة، فتقول: «وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ

مختصر الامثل، ج 1، ص: 100

مختصر الامثل ج 1 149

فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ». تؤكد هذه الآية أنّ منع الناس عن إحياء المساجد لا يقطع الطريق أمام عبودية اللَّه، فشرق هذا العالم وغربه للَّه سبحانه، فاللَّه سبحانه وتعالى لا يحده مكان، ولذلك تقول الآية بعد ذلك: «إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ».

فلسفة القبلة: اللَّه موجود في كل جهة ومكان، فلماذا وجب الإتجاه نحو القبلة في الصلاة؟

واضح أنّ الإتجاه نحو القبلة لا يعني تحديد ذات الباري تعالى في مكان وفي جهة، بل إنّ الإنسان موجود مادي، ولابد أن يصلي باتجاه معين، ثم إنّ ضرورة الوحدة والتنسيق في صفوف المسلمين تفرض اتجاههم في الصلاة نحو قبلة واحدة، وإلّا ساد الهرج والفوضى، وتفرقت الصفوف وتشتتت.

أضف إلى ذلك أنّ الكعبة التي جعلت قبلة للمسلمين بقعة مقدسة ومن أقدم قواعد التوحيد، والإتجاه نحوها يوقظ في النفوس

ذكريات المسيرة التوحيدية.

وَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) خرافات اليهود والنصارى والمشركين: المسيحيون وجمع من اليهود والمشركون تبنّوا عقيدة تافهة بشأن اتخاذ اللَّه ابناً. الآية الكريمة التي نحن بصددها ذكرت هذا المعتقد المنحرف تقول: «وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا». ثم تجيب عليهم أوّلًا بتنزيه اللَّه عن هذه النسبة:

«سُبْحَانَهُ». فما حاجة اللَّه إلى الولد؟ هل هو محتاج إلى المساعدة أو إلى بقاء النسل؟ نعم، لا يمكن نسبة أي إحتياج إلى اللَّه «بَل لَّهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ»، وجميع الكون خاضع له «كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ».

وليس هو مالك جميع موجودات الكون فحسب، بل هو خالقها ... بل مبدعها أي موجدها دون إحتياج إلى مادة أولية في هذا الإيجاد: «بَدِيعُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

ما حاجة اللَّه إلى الولد وهو النافذ الإرادة في جميع الموجودات؟ «وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ».

والمراد من عبارة «كُنْ فَيَكُونُ» هي الإرادة التكوينية للَّه تعالى وحاكميته في الخليقة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 101

دلائل نفي الولد: نسبة الولد إلى اللَّه سبحانه، هي دون شك وليدة سذاجة فكرية، قائمة على أساس مقارنة كل شي ء بالوجود البشري المحدود. الإنسان يحتاج إلى الولد لأسباب عديدة: فهو من جانب ذو عمر محدود يحتاج إلى توليد المثل لاستمرار نسله.

ومن جهة اخرى هو ذو قوة محدودة تضعف بالتدريج، ويحتاج لذلك- وخاصة في فترة الشيخوخة- إلى من يساعده في أعماله.

وهو أيضاً ينطوي على عواطف وحبّ للأنيس، وذلك يتطلب وجود فرد أنيس في حياة الإنسان، والولد يلبي هذه الحاجة.

واضح أنّ كل هذه الامور لا يمكن أن تجد لها مفهوماً بشأن اللَّه سبحانه،

وهو خالق عالم الوجود والقادر على كل شي ء، وهوالأزلي الأبدي.

أضف إلى ذلك، الولد يستلزم أن يكون الوالد جسماً واللَّه منزّه عن ذلك.

وَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْ لَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) حجج اخرى: بمناسبة ذكر حجج اليهود في الآيات السابقة، تتحدث الآية عن حجج مجموعة اخرى من المعاندين ويبدو أنّهم المشركون العرب فتقول: «وَقَالَ الَّذِينَ لَايَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا ءَايَةٌ».

والقرآن يجيب على هذه الطلبات التافهة قائلًا: «كَذلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْأَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ».

لو أنّ هؤلاء يستهدفون حقاً إدراك الحقيقة، ففي هذه الآيات النازلة على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله دلالة واضحة بينة على صدق أقواله، فما الداعي إلى نزول آية مستقلة على كل واحد من الأفراد؟! وما معنى الإصرار على أن يكلمهم اللَّه مباشرة؟!

الآية التالية تخاطب النبي صلى الله عليه و آله وتبين موقفه من الطلبات المذكورة وتقول: «إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا».

فمسؤولية الرّسول بيان الأحكام الإلهيّة، وتقديم المعاجز، وتوضيح الحقائق، وهذه الدعوة ينبغي أن تقترن بتبشير المهتدين وإنذار العاصين وهذه مسؤوليتك أيّها الرسول،

مختصر الامثل، ج 1، ص: 102

وأمّا الفئة التي لا تذعن للحق بعد كل هذه الآيات فانت غير مسؤول عنها: «وَلَا تُسَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ».

وَ لَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ

يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)

أسباب النّزول

في تفسير الدرّ المنثور عن ابن عباس أنّ يهود المدينة ونصارى نجران، كانوا يرجون أن يصلّى النبي صلى الله عليه و آله إلى قبلتهم، فلمّا صرف اللَّه القبلة إلى الكعبة شقّ ذلك عليهم وآيسو أن يوافقهم على دينهم فأنزل اللَّه «وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى الآية لتعلن للنبي أنّه لا يرضي كل فرقة منهم إلّاأن يتبع ملّتهم أي: قبلتهم.

وبشأن نزول الآية الثانية وردت روايات مختلفة، ففي تفسير مجمع البيان عن ابن عباس:

نزلت في أهل السفينة الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة وكانوا أربعين رجلًا، إثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من رهبان الشام، منهم بحيرا. وقيل: هم من آمن من اليهود كعبد اللَّه بن سلام، وشعبة بن عمرو، وتمام بن يهودا، وأسد واسيد إبني كعب وابن يامين.

التّفسير

إرضاء هذه المجموعة محال: الآية السابقة رفعت المسؤولية عن النبي صلى الله عليه و آله إزاء الضالين المعاندين. والآية أعلاه تواصل الموضوع السابق وتخاطب الرسول بأن لا يحاول عبثاً في كسب رضا اليهود والنصارى لأنّه: «وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ».

واجبك أن تقول لهم: «إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى . هدى اللَّه هو الهدى البعيد عن الخرافات وعن الأفكار التافهة التي تفرزها عقول الجهّال.

ثم تقول الآية: «وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِى جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِىّ وَلَا نَصِيرٍ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 103

وبعد أن ذمّ القرآن الفئة المذكورة من اليهود والنصارى، أشاد باولئك الذين آمنوا من أهل الكتاب وانضموا تحت راية الرسالة الخاتمة: «الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ [أي: بالتفكر والتدبر ثم العمل به

أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ». أي: يؤمنون بالرسول الكريم صلى الله عليه و آله «وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ».

بحوث

1- سؤال عن عصمة الأنبياء: العبارة القرآنية: «وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أهوَاءَهُمْ» قد تثير سؤالًا بشأن عصمة الأنبياء، فهل يمكن للنبي صلى الله عليه و آله- وهو معصوم- أن يتبع أهواء المنحرفين من اليهود والنصارى؟

في الجواب نقول: مثل هذه التعبيرات تكررت في القرآن الكريم، ولا تتعارض مع مقام عصمة الأنبياء لأنّها- من جهة- جملة شرطية والجملة الشرطية لا تدل على تحقق الشرط.

ومن جهة اخرى، عصمة الأنبياء لا تجعل الذنب على الأنبياء محالًا، بل المعصوم له قدرة على إرتكاب الذنب، ولم يسلب منه الإختيار، ومع ذلك لم يتلوث بالذنوب.

من جهة ثالثة، هذا الخطاب وإن اتّجه إلى النبي صلى الله عليه و آله ولكن قد يكون موجهاً إلى الناس جميعاً.

2- للإسترضاء حدود: صحيح أنّ الإنسان الرّسالي يجب أن يسعى بأخلاقه إلى جذب الأعداء إلى صفوف الدعوة، لكن مثل هذا الموقف يجب أن يكون تجاه المخالفين الذين يتحركون في مخالفتهم من موقع الغفلة والمرونة، أمّا الموقف تجاه المعاندين المتصلبين فينبغي أن يكون غير ذلك، ولا يجوز إهدار الوقت مع هؤلاء، بل لابدّ من الإعراض عنهم وتركهم.

3- حق التلاوة: عبّر القرآن عن الفئة المهتدية من أهل الكتاب بأنّهم «يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ»، وهو تعبير عميق.

في تفسير الميزان عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية: «يرتّلون آياته، ويتفقّهون به، ويعملون بأحكامه، ويرجون وعده، ويخافون وعيده، ويعتبرون بقصصه، ويأتمرون بأوامره، وينتهون بنواهيه، ما هو واللَّه حفظ آياته ودرس حروفه، وتلاوة سوره ودرس أعشاره وأخماسه «1»، حفظوا حروفه وأضاعوا حدوده، وإنّما هو تدبّر آياته والعمل بأحكامه، قال اللَّه تعالى: «كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ

مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا ءَايَاتِهِ»

______________________________

(1) المقصود من الأعشار والأخماس تقسيمات القرآن.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 104

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَ اتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَ لَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَ لَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) مرّة اخرى يتّجه الخطاب الإلهي إلى بني إسرائيل ليذكرهم بالنعم التي احيطوا بها، فتقول الآية: «يَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ». أي: على كل من كان يعيش في ذلك الزمان.

كل نعمة تقترن بمسؤولية، وتقترن بالتزام وتكليف إلهي جديد، ولذلك قال سبحانه في الآية التالية: «وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّاتَجْزِى نَفْسٌ عَنْ نَّفْسٍ شَيًا». «وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ». أي:

غرامة أو فدية، «وَلَا تَنْفَعُهَا شَفعَةٌ» إلّابإذن اللَّه، ولا يستطيع أحد غير اللَّه أن يساعد أحداً «وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ».

وَ إِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) الإمامة قمة مفاخر إبراهيم عليه السلام: هذه الآية وما بعدها تتحدث عن بطل التوحيد نبيّ اللَّه الكبير إبراهيم عليه السلام وعن بناء الكعبة وأهمّية هذه القاعدة التوحيدية العبادية.

والهدف من هذه الآيات- وعددها ثماني عشرة آية- ثلاثة امور:

أوّلًا: أن تكون مقدمة لمسألة تغيير القبلة التي ستطرح بعد ذلك.

ثانياً: لفضح إدّعاءات اليهود والنصارى بشأن انتسابهم لإبراهيم.

ثالثاً: لتفهيم مشركي العرب أيضاً ببعدهم عن منهج النبي الكبير محطم الأصنام، والرّد على ما كانوا يتصوّرونه من إرتباط بينهم وبين إبراهيم.

الآية الكريمة تقول أوّلًا: «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ». وبعد أن اجتاز هذه الاختبارات بنجاح استحق أن يمنحه اللَّه الوسام الكبير: «قَالَ إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا».

وهنا تمنّى إبراهيم عليه السلام

أن يستمر خط الإمامة من بعده، وأن لا يبقى محصوراً بشخصه «قَالَ وَمِنْ ذُرّيَّتِى». لكنّ اللَّه أجابه: «قَالَ لَايَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 105

وقد استجيب طلب إبراهيم عليه السلام في استمرار خط الإمامة في ذريّته، لكن هذا المقام لا يناله إلّاالطاهرون المعصومون من ذرّيّته لا غيرهم.

بحوث

1- المقصود من «الكلمات»: من دراسة آيات القرآن الكريم بشأن إبراهيم عليه السلام نفهم أنّ المقصود من الكلمات هو مجموعة المسؤوليات والمهام الثقيلة الصعبة التي وضعها اللَّه على عاتق إبراهيم عليه السلام وهي عبارة عن:

أخذ ولده إلى المذبح والاستعداد التام لذبحه، إطاعة لأمر اللَّه سبحانه.

إسكان الزوج والولد في واد غير ذي زرع بمكة، حيث لم يسكن فيه إنسان.

النهوض بوجه عَبَدة الأصنام وتحطيم الأصنام، والوقوف ببطولة في تلك المحاكمة التاريخية، ثم إلقاؤه في وسط النيران، وثباته ورباطة جأشه في كل هذه المراحل.

الهجرة من أرض عبدة الأصنام والإبتعاد عن الوطن، والإتجاه نحو أصقاع نائية لأداء رسالته ... وأمثالها «1».

كان كل واحد من هذه الاختبارات ثقيلًا وصعباً حقّاً، لكنّه بقوّة إيمانه نجح فيها جميعاً، وأثبت لياقته لمقام «الإمامة».

2- من هو الإمام؟ يتبيّن من الآية الكريمة التي نحن بصددها، أنّ منزلة الإمامة الممنوحة لإبراهيم عليه السلام بعد كل هذه الاختبارات، تفوق منزلة النبوّة والرسالة.

روي في الكافي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام يقول: «إنّ اللَّه تبارك وتعالى اتّخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبيّاً، وإنّ اللَّه اتّخذه نبيّاً قبل أن يتخذه رسولًا، وإنّ اللَّه اتّخذه رسولًا قبل أن يتخذه خليلًا، وإنّ اللَّه اتّخذه خليلًا قبل أن يجعله إماماً، فلما جمع له الأشياء، قال: «إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا» قال: فمن عظمها في عين إبراهيم قال: «وَمِنْ ذُرّيَّتِى قَالَ لَايَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ»

قال: لا يكون السفيه إمام التقي».

3- الفرق بين النبوة والإمامة والرسالة: يفهم من الآيات الكريمة والمأثور عن المعصومين، أنّ حملة المهمات من قبل اللَّه تعالى لهم منازل مختلفة:

______________________________

(1) روى عن ابن عباس أنه استخرج اختبارات إبراهيم من أربع سور قرآنية فكانت ثلاثين موضعاً (تفسير المنار، ذيل الآية مورد البحث)، وخلاصتها ما ذكرناه.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 106

أ) منزلة النبوة: أي إستلام الوحي من اللَّه، فالنبي هو الذي ينزل عليه الوحي، ومايستلمه من الوحي يعطيه للناس إن طلبوا منه ذلك.

ب) منزلة الرسالة: وهي منزلة إبلاغ الوحي، ونشر أحكام اللَّه، وتربية الأفراد عن طريق التعليم والتوعية. فالرّسول إذن هو المكلف بالسعي في دائرة مهمته لدعوة الناس إلى اللَّه وتبليغ رسالته، وبذل الجهد لتغيير فكري عقائدي في مجتمعه.

ج) منزلة الإمامة: وهي منزلة قيادة البشرية، فالإمام يسعى إلى تطبيق أحكام اللَّه عملياً عن طريق إقامة حكومة إلهية وإستلام مقاليد الأمور اللازمة.

بعبارة اخرى، مهمة الإمام تنفيذ الأوامر الإلهية، بينما تقتصر مهمة الرسول على تبليغ هذه الأوامر.

4- مَن الظالم؟ المقصود من «الظلم» في التعبير القرآني: «لَايَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ» لا يقتصر على ظلم الآخرين، بل الظلم (مقابل العدل)، وقد استعمل هنا بالمعنى الواسع للكلمة، ويقع في النقطة المقابلة للعدل: وهو وضع الشي ء في محله.

فالظلم إذن وضع الشخص أو العمل أو الشي ء في غير مكانه المناسب.

ولمّا كانت منزلة الإمامة والقيادة الظاهرية والباطنية للبشرية منزلة ذات مسؤوليات جسيمة هائلة عظيمة، فإنّ لحظة من الذنب والمعصية خلال العمر تسبب سلب لياقة هذه المنزلة عن الشخص. لذلك نرى أئمّة آل البيت عليهم السلام يثبتون بهذه الآية تعيّن الخلافة بعد النبي مباشرة لعلي عليه السلام وإنحصارها به، مشيرين إلى أنّ الآخرين عبدوا الأصنام في الجاهلية، وعلي عليه السلام

وحده لم يسجد لصنم. وأيّ ظلم أكبر من عبادة الأصنام؟ ألم يقل لقمان لابنه: «يَا بُنَىَّ لَاتُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» «1».

5- تعيين الإمام من قبل اللَّه: من الآية مورد البحث نفهم ضمنياً أنّ الإمام (القائد المعصوم لكل جوانب المجتمع) يجب أن يكون معيناً من قبل اللَّه سبحانه، لما يلي:

أوّلًا: الإمامة ميثاق إلهي، وطبيعي أن يكون التعيين من قبل اللَّه، لأنّه طرف هذا الميثاق.

ثانياً: الأفراد الذين تلبسوا بعنوان الظلم، ومارسوا في حياتهم لحظة ظلم بحق أنفسهم أو بحق الآخرين، كأن تكون لحظة شرك مثلًا، لا يليقون للإمامة، فالإمام يجب أن يكون طيلة عمره معصوماً.

______________________________

(1) سورة لقمان/ 13.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 107

وهل يعلم ذلك في نفوس الأفراد إلّااللَّه؟

ولو أردنا بهذا المعيار أن نعيّن خليفة لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله فلا يمكن أن يكون غير علي عليه السلام.

وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَ عَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْعَاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) عظمة بيت اللَّه: بعد الإشارة إلى مكانة إبراهيم عليه السلام في الآية السابقة، تناولت هذه الآية موضوع عظمة الكعبة التي وضع قواعدها إبراهيم عليه السلام فهي تبدأ بالتذكير بعبارة «وَإذ» أي:

اذكروا: «وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا».

«المثابة»: من الثوب، أي عودة الشي ء إلى حالته الاولى، ولما كانت الكعبة مركزاً يتجه إليه الموحدون كل عام، فهي محل لعودة جسمية وروحية إلى التوحيد والفطرة الاولى، ومن هنا كانت مثابة.

الكعبة- طبقاً للآية أعلاه- ملاذ وبيت آمن، والإسلام وضع الأحكام المشددة بشأن إبعاد هذه الأرض المقدسة عن كل نزاع واشتباك وحرب وإراقة دماء، وليس أفراد البشر آمنين هناك فحسب، بل الحيوانات

والطيور آمنة أيضاً في هذه البقعة، ولا يحق لأحد أن يمصها بسوء.

وهذه الصفة للبيت هي استجابة لأحد مطاليب إبراهيم عليه السلام من ربّه.

ثم تضيف الآية: «وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرهِيمَ مُصَلًّى».

ثم تشير الآية إلى المسؤولية المعهودة إلى إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام بشأن تطهير البيت للطائفين والمجاورين والمصلين: «وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرهِيمَ وَإِسْمعِيلَ أَنْ طَهّرَا بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ».

والتطهير: تعني تطهير هذا البيت ظاهرياً ومعنوياً من كل تلويث.

بيت اللَّه: وصفت الكعبة بأنّها بيت اللَّه، وعبّرت الآية عن الكعبة ب «بيتى»، وواضح أنّ اللَّه ليس بجسم، ولا يحده بيت، ولا يحتاج إلى ذلك، وهذه الإضافة هي «إضافة تشريفية» تبين قدسية الشي ء الذي ينسب إلى اللَّه، ولذلك كان شهر رمضان «شهر اللَّه» وكانت الكعبة «بيت اللَّه».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 108

وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذَا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (126) إبراهيم يدعو ربّه: في هذه الآية توجه إبراهيم إلى ربّه بطلبين هامين لسكنة هذه الأرض المقدسة، أشرنا إلى أحدهما في الآية السابقة. القرآن يذكّر بما قاله إبراهيم: «وَإِذْ قَالَ إِبْرهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هذَا بَلَدًا ءَامِنًا».

والطلب الآخر هو: «وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ».

وهكذا يطلب إبراهيم «الأمن» أوّلًا، ثم «المواهب الاقتصادية»، إشارة إلى أنّ الاقتصاد السالم لا يتحقق إلّابعد الأمن الكامل.

واللَّه سبحانه استجاب لإبراهيم طلبه الثاني أيضاً، ولكنّه «قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَليِلًا» في الدّنيا، «ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» في الحياة الآخرة.

وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

(127) رَبَّنَا وَ اجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَ تُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) إبراهيم يبني الكعبة: نفهم بوضوح من خلال آيات الذكر الحكيم أنّ بيت الكعبة كان موجوداً قبل إبراهيم، وكان قائماً منذ زمن آدم. وهذه الآية تدلّ على أنّ بيت الكعبة كان له نوع من الوجود حين جاء إبراهيم مع زوجه وابنه الرضيع إلى مكّة. وتقول الآية 96 من سورة آل عمران: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا». ومن المؤكّد أنّ عبادة اللَّه وإقامة أماكن العبادة لم تبدأ في زمن إبراهيم، بل كانتا منذ أن خلق الإنسان على ظهر هذه الأرض.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 109

عبارة الآية الاولى من الآيات محل البحث تؤكد هذا المعنى، إذ تقول: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».

فإبراهيم وإسماعيل قد رفعا قواعد البيت التي كانت موجودة.

في الآيتين التاليتين يتضرع إبراهيم وإسماعيل إلى ربّ العالمين بخمسة طلبات هامة.

قالا أوّلًا: «رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ».

ثم أضافا: «وَمِنْ ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ».

وطلبا تفهم طريق العبادة: «وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا»، ليعبدا اللَّه حق عبادته.

ثم طلبا التوبة: «وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».

الآية الأخيرة تضمنت الطلب الخامس، وهو هداية الذريّة: «رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَاتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

ولعل التفاوت بين «الكتاب» و «الحكمة» في أنّ الكتاب يعني الكتب السماوية، والحكمة تعني العلوم والأسرار والعلل والنتائج الموجودة في الأحكام، وهي التي يعلمها النبي أيضاً.

بحوث

1- هدف بعثة الأنبياء: في الآيات أعلاه،

بعد أن يطلب إبراهيم وإسماعيل من اللَّه ظهور نبي الإسلام، يذكران ثلاثة أهداف لبعثة:

الأوّل: تلاوة آيات اللَّه على الناس، أى إيقاظ الأفكار والأرواح في ظل الآيات الإلهية المبشرة والمنذرة.

«يتلو» من تلا، أي اتبع الشي ء بالشي ء، وسميت «التلاوة» كذلك لأنّها قراءة وفق تتبع ونظم. هي مقدمة لليقظة والإعداد والتعليم والتربية.

الثاني: «تعليم الكتاب والحكمة» ولا تتحقق التربية إلّابالتعليم.

ولعل التفاوت بين «الكتاب» و «الحكمة» في أنّ الكتاب يعني الكتب السماوية، والحكمة تعني العلوم والأسرار والعلل والنتائج الموجودة في الأحكام، وهي التي يعلمها النبي أيضاً.

الثالث: «التزكية» وهو الهدف الأخير.

«التزكية»: في اللغة هي الإنماء، وهي التطهير أيضاً.

وبذلك يتلخص الهدف النهائي من بعثة الأنبياء في دفع الإنسان على مسيرة التكامل «العلمي» و «العملي».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 110

2- هل «التعليم» مقدم أم «التربية»؟ في أربعة مواضع ذكر القرآن مسألة التربية والتعليم باعتبارهما هدف الأنبياء، وفي ثلاثة مواضع منها قُدمت «التربية» على «التعليم» (البقرة، 151- آل عمران، 164- الجمعة، 2). وفي موضع واحد تقدم التعليم على التربية (آية بحثنا). ونعلم أنّ التربية لا تتم إلّابالتعليم. لذلك حين يتقدم التعليم على التربية في الآية فإنّما ذلك بيان للتسلسل المنطقي الطبيعي لهما، وفي المواضع التي تقدمت فيها التربية، فقد يكون ذلك إشارة إلى أنّها الهدف، لأنّ الهدف الأصلي هو التربية، وما عداها مقدمة لها.

3- النبي من الناس: تعبير «منهم» في الآية «وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ» يشير إلى أنّ القادة البشرية ينبغي أن يكونوا بشراً بنفس صفات البشر الغريزية، كي يكونوا القدوة اللائقة في الجوانب العملية، ومن الطبيعي أنّهم- لو كانوا من غير البشر- ما استطاعوا إدراك حاجات الناس والمشكلات العويصة الكامنة لهم في حياتهم، ولا أمكنهم أن يكونوا قدوة واسوة لهم.

وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ

إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَ لَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَ وَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) إبراهيم الإنسان النموذج: الآيات السابقة ألقت الضوء على جوانب من شخصية إبراهيم عليه السلام فتحدثت عن بعض خدماته وطلباته الشاملة للجوانب المادية والمعنوية. من مجموع ما مر نفهم أنّ اللَّه سبحانه شاء أن يكون هذا النبي، شيخ الموحدين وقدوة الرساليين، على مر العصور. لذلك تقول الآية الاولى من آيات بحثنا هذا: «وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ». أليس من السفاهة أن يعرض الإنسان عن مدرسة الطهر والنقاء والفطرة والعقل وسعادة الدنيا والآخرة، ويتجه إلى طريق الشرك والكفر والفساد وضياع العقل والانحراف عن الفطرة وفقدان الدين والدنيا؟

ثم تضيف الآية: «وَلَقَدِ اصْطَفَيْنهُ فِى الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الْأَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ».

الآية التالية تؤكد على صفة اخرى من صفات إبراهيم التي هي في الواقع أساس بقية

مختصر الامثل، ج 1، ص: 111

صفاته العظيمة وتقول: «إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ».

ووصية إبراهيم بنيه في أواخر أيام حياته تجسيد آخر لهذه الحياة الشامخة: «وَوَصَّى بِهَا إِبْرهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ». فكل من إبراهيم ويعقوب وصّيا أبناءهما بالقول: «يَا بَنِىَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ».

لعل القرآن الكريم، بنقله وصية إبراهيم، يريد أن يقول للإنسان إنّه مسؤول عن مستقبل أبنائه، عليه أن يهتم بمستقبلهم المعنوي قبل أن يهتم بمستقبلهم المادي.

أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبَائِكَ

إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ إِلهاً وَاحِداً وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَ لَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)

سبب النّزول

في تفسير الصافي: إنّ اليهود قالوا لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله: ألست تعلم أنّ يعقوب أوصى بنيه باليهودية يوم مات؟ فنزلت.

التّفسير

كما رأينا في سبب النزول، وظاهر الآية يدل على ذلك أيضاً، كان جمع من منكري الإسلام ينسبون ما لا ينبغي نسبته إلى النبي يعقوب، والقرآن يردّ عليهم بالقول: «أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ». هذا الذي نسبوه إليه ليس بصحيح، بل الذي حدث آنذاك «إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى».

في الجواب: «قَالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ ءَابَائِكَ إِبْرهِيمَ وَإِسْمعِيلَ وَإِسْحقَ إِلهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ».

آخر آية في بحثنا، تجيب على توهّم آخر من توهمات اليهود، فكثير من هؤلاء كانوا يستندون إلى مفاخر الآباء والأجداد وقرب منزلة أسلافهم من اللَّه تعالى، فلا يرون بأساً في انحرافهم هم ظانين أنّهم ناجون بوسيلة اولئك الأسلاف. يقول القرآن: «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 112

وبذلك أرادت الآية أن توجه أنظار هؤلاء إلى أعمالهم وسلوكهم وأفكارهم، وتصرفهم عن الإنغماس في الإفتخار بالماضين.

وَ قَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَ مَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَ مَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْبَاطِ وَ مَا أُوتِيَ مُوسَى وَ عِيسَى وَ مَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ

مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس: إنّ عبد اللَّه بن صوريا وكعب بن الأشرف ومالك بن الضيف وجماعة من اليهود ونصارى أهل نجران خاصموا أهل الإسلام. كل فرقة تزعم أحق بدين اللَّه من غيرها، فقالت اليهود: نبيّنا موسى أفضل الأنبياء، وكتابنا التوراة أفضل الكتب. وقالت النصارى: نبيّنا عيسى أفضل الأنبياء، وكتابنا أفضل الكتب، وكل فريق منهما قال للمؤمنين: كونوا على ديننا، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.

التّفسير

نحن على حق لا غيرنا: التمحور والإنغماس في الذاتية يؤدي إلى أن يحتكر الإنسان الحق لنفسه، ويعتبر الآخرين على باطل، ويسعى إلى أن يجرهم إلى معتقداته. الآية الاولى تتحدث عن مجموعة من أهل الكتاب يحملون مثل هذه النظرة الضيقة، ونقلت عنهم القول:

«وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا». فيرد عليهم القرآن مؤكداً أنّ الأديان المحرفة لا تستطيع إطلاقاً أن تهدي الإنسان: «قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ».

الآية التالية تأمر المسلمين أن «قُولُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرهِيمَ وَإِسْمعِيلَ وَإِسْحقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِىَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبّهِمْ لَا نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ».

لا يجوز أن ننطلق من محور الذاتية في الحكم على هذا النبي أو ذاك، بل يجب أن ننظر إلى

مختصر الامثل، ج 1، ص: 113

الأنبياء بمنظار رسالي، ونعتبرهم جميعاً رسل ربّ العالمين ومعلمي البشرية، قد أدى كل منهم دوره في مرحلة تاريخية معينة، وكان هدفهم واحداً، وهو هداية الناس في ظل التوحيد الخالص والحق والعدالة.

ثم يضيف القرآن قائلًا: «فَإِنْ ءَامَنُوا بِمِثْلِ مَا ءَامَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَّإِن

تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ».

ولو تخلى هؤلاء عن عنصرية وذاتياتهم، وآمنوا بجميع أنبياء اللَّه فقد اهتدوا أيضاً، وإلّا فقد ضلوا سواء السبيل.

ثم تثبت الآية على قلوب المؤمنين وتبعث فيهم الثقة والطمأنينة بالقول: «فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ» لأقوالهم «الْعَلِيمُ» بمؤامراتهم.

صِبْغَةَ اللَّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَ نَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَ تُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَ هُوَ رَبُّنَا وَ رَبُّكُمْ وَ لَنَا أَعْمَالُنَا وَ لَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَ مَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَ لَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141) التخلي عن غير صبغة اللَّه: بعد الدعوة التي وجهتها الآيات السابقة لإتباع الأديان بشأن إنتهاج طريق جميع الأنبياء، أول آية في بحثنا تأمرهم جميعاً بترك كل صبغة، أي دين، غير «صِبْغَةَ اللَّهِ». ثم تضيف الآية: «وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً». أي: لا أحسن من اللَّه صبغة، «وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ» في إتباع ملة إبراهيم التي هي صبغة اللَّه.

ذكر المفسرون أنّ النصارى دأبوا على غسل أبنائهم بعد ولادتهم في ماء أصفر اللون، ويسمونه غسل التعميد، ويجعلون ذلك تطهيراً للمولود من الذنب الذاتي الموروث من آدم!

القرآن يرفض هذا المنطق الخاوي ويقول: من الأفضل أن تتركوا هذه الصبغات الظاهرية الخرافية المفرقة وتصطبغوا بصبغة اللَّه لتطهر روحكم.

كان اليهود وغيرهم يحاجّون المسلمين بصور شتى، كانوا يقولون: إنّ جميع الأنبياء

مختصر الامثل، ج 1، ص: 114

مبعوثون منا، وإنّ ديننا أقدم الأديان، وكتابنا أعرق الكتب السماوية. القرآن

يردّ على كل هذه الأقاويل ويقول: «قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِى اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ».

واعلموا أيضاً أن لا امتياز لأحد على غيره إلّابالأعمال، وكل شخص رهن أعماله «وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ».

مع فارق، هو إنّ كثيراً منكم يشركون في توحيدهم: «وَنَحْنُ لَهْ مُخْلِصُونَ».

الآية التالية تجيب على واحد آخر من هذه الإدعاءات الفارغة وتقول: «أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرهِيمَ وَإِسْمعِيلَ وَإِسْحقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى .

ثم تجيب الآية عن هذا الإدعاء بشكل رائع فتقول: «قُلْ ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ».

فاللَّه أعلم أنّهم ما كانوا يهوداً ولا نصارى.

وقد تعلمون أنتم وإن كنتم لا تعلمون فاطلاق مثل هذه الأقوال بدون علم وتثبيت تهمة وذنب، وكتمان للحقيقة «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ».

اعلموا أنّه «وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْلَمُونَ».

في آخر آية من الآيات التي نحن بصددها يقول سبحانه لهؤلاء القوم العنودين الجدليين:

افترضوا أنّ إدعاءاتكم صحيحة، فهذا لا يعود عليكم بالنفع لأنّه «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

تغيير القبلة: هذه الآية وآيات تالية تتحدث عن حادث مهم من حوادث التاريخ الإسلامي، كان له آثاره الكبيرة في المجتمع آنذاك. رسول الإسلام صلى الله عليه و آله صلّى صوب (بيت المقدس) بأمر ربّه مدة ثلاثة عشر عاماً بعد البعثة في مكة، وبضعة أشهر في المدينة بعد الهجرة. ثم تغيّرت القبلة، وأمر اللَّه المسلمين أن يصلّوا تجاه (الكعبة).

لم يكفّ اليهود بعد هذا التغيير عن اعتراضاتهم، بل واصلوا حربهم الإعلامية بشكل آخر، بدأوا يلقون التشكيكات بشأن هذا التغيير، والقرآن الكريم يتحدث عن هذه الإعتراضات: «سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا» «1».

______________________________

(1) «السفهاء»: جمع «سفيه» أطلقت في الأصل على من خفّت حركة

جسمه، وقيل: زمام سفيه، أي كثير الإضطراب خفيف الوزن. ثم استعملت الكلمة في خفة النفس لنقصان العقل في الامور الدينية والدنيوية.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 115

بدأوا يرددون: لو كانت القبلة الاولى هي الصحيحة فلِمَ هذا التغيير؟

اللَّه سبحانه يجيب على هذا الإعتراض، فأمر رسوله أن «قُلْ لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِى مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ».

فليس للمكان قداسة ذاتية، إنّما يكتسب قداسته بإذن اللَّه، وكل مكان ملك للَّه، والمهم هو الطاعة والإستسلام لربّ العالمين. تغيير القبلة في الواقع مرحلة من مراحل الاختبار الإلهي، وكل مرحلة خطوة على الصراط المستقيم نحو الهداية الإلهيّة.

وَ كَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَ مَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) الامة الوسط: هذه الآية تشير إلى جانب من أسباب تغيير القبلة، تقول أوّلًا: «وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا». أي كما جعلنا القبلة وسطا، كذلك جعلناكم امة في حالة اعتدال.

أما سبب كون قبلة المسلمين قبلة وسطاً، فلأنّ النصارى- الذين يعيش معظمهم في غرب الكرة الأرضية- يولون وجوههم صوب الشرق تقريباً حين يتجهون إلى قبلتهم في بيت المقدس حيث مسقط رأس السيد المسيح، واليهود- الذين يتواجدون غالباً في الشامات وبابل- يتجهون نحو الغرب تقريباً حين يقفون تجاه بيت المقدس.

أمّا «الكعبة» فكانت بالنسبة للمسلمين في المدينة تجاه الجنوب، وبين المشرق والمغرب، وفي خط وسط.

والهدف من ذلك: «لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا».

و «شهادة» الامّة المسلمة على الناس، و «شهادة» النبي على المسلمين، قد تكون إشارة إلى الاسوة والقُدوَة،

لأنّ الشاهد ينتخب من بين أزكى الناس وأمثلهم.

فيكون معنى هذا التعبير القرآني أنّ الامة المسلمة نموذجية بما عندها من عقيدة ومنهج، كما أنّ النبي صلى الله عليه و آله فرد نموذجي بين أبناء الامّة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 116

ثم تشير الآية إلى سرّ آخر من أسرار تغيير القبلة فتقول: «وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ».

ثم تضيف الآية: «وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ».

لولا الهداية الإلهيّة، لما وجدت في نفس الإنسان روح التسليم المطلق أمام أوامر اللَّه.

وأمام وسوسة الأعداء المضللين والأصدقاء الجاهلين، الذين راحوا يشككون في صحة ما سبق من العبادات قبل تغيير القبلة، تقول الآية: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ».

أسرار تغيير القبلة: لما كانت الكعبة في بداية البعثة المباركة بيتاً لأصنام المشركين، فقد امر المسلمون مؤقتاً بالصلاة تجاه بيت المقدس، ليتحقق الإنفصال التام بين الجبهة الإسلامية وجبهة المشركين.

وبعد الهجرة وإقامة الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي، حدث الإنفصال الكامل بين الجبهتين، ولم تعد هناك ضرورة لاستمرار وضع القبلة، حينئذ عاد المسلمون إلى الكعبة أقدم قاعدة توحيدية، وأعرق مركز للأنبياء.

ومن الطبيعي أن يستثقل الصلاة نحو بيت المقدس اولئك الذين كانوا يعتبرون الكعبة الرصيد المعنوي لقوميتهم، وأن يستثقلوا أيضاً العودة إلى الكعبة بعد أن اعتادوا على قبلتهم الاولى (بيت المقدس).

المسلمون بهذا التحول وُضعوا في بوتقة الاختبار، لتخليصهم مما علق في نفوسهم من آثار الشرك، ولتنقطع كل انشداداتهم بماضيهم المشرك، ولتنمو في وجودهم روح التسليم المطلق أمام أوامر اللَّه سبحانه.

قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ

الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ مَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) كل الوجوه شطر الكعبة: هذه الآية تشير إلى الأمر الإلهي بتغيير القبلة وتقول: «قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَاءِ فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَيهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 117

ذكرت الرواية أنّ هذا الأمر الإلهي نزل في لحظة حساسة ملفتة للأنظار، حين كان الرسول والمسلمون يؤدون صلاة الظهر. فأخذ جبرائيل بذراع الرسول صلى الله عليه و آله وأدار وجهه نحو الكعبة. وتذكر الرواية أنّ صفوف المسلمين تغيرت على أثر ذلك، وترك النساء مكانهن للرجال وبالعكس.

إنّ تغيير القبلة من علامات نبيّ الخاتم المذكورة في الكتب السابقة، فقد كان أهل الكتاب على علم بأنّ النبي المبعوث «يصلّي إلى القبلتين». لذلك تضيف الآية: «وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ».

ثم تقول الآية: «وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ». فهؤلاء الذين يكتمون ما جاء في كتبهم بشأن تغيير قبلة نبيّ الخاتم، ويستغلون هذه الحادثة لإثارة ضجة بوجه المسلمين، بدل أن يتخذوها دليلًا على صدق دعوى النبي، سيلاقون جزاء أعمالهم، واللَّه ليس بغافل عن أعمالهم ونياتهم.

إنّ ضرورة إتجاه المسلمين شطر المسجدالحرام كان باعثاً على تطور علم الهيئة وعلم الجغرافيا والفلك عند المسلمين بسرعة مدهشة خلال العصور الإسلامية الاولى، لأنّ معرفة جهة القبلة في مختلف بقاع الأرض ما كانت متيسرة من دون معرفة بهذه العلوم.

وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَ مَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَ مَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) لا يرضون بأي ثمن: مر بنا في تفسير الآية السابقة أنّ تغيير

القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة لا يمكن أن يثير شبهة حول النبي، بل إنّه من دلائل صحة دعواه، فأهل الكتاب قد قرأوا عن صلاة النبي الموعود إلى قبلتين، لكن تعصبهم منعهم من قبول الحق. لذلك تقول الآية: «وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلّ ءَايَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ».

ثم تضيف الآية: «وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ». أي: إنّ هؤلاء لا يستطيعون مهما افتعلوا من ضجيج، أن يغيروا مرة اخرى قبلة المسلمين، فهذه هي القبلة الثابتة النهائية.

ثم تقول الآية: «وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ».

لا النصارى بتابعين قبلة اليهود، ولا اليهود بتابعين قبلة النصارى.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 118

ولمزيد من التأكيد والحسم ينذر القرآن النبي ويقول: «وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ».

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) يعرفون حق المعرفة ولكن ...: استمراراً لحديث القرآن عن تعصب مجموعة من أهل الكتاب ولجاجهم، تقول الآية: «الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ».

إنّهم يعرفون النبي صلى الله عليه و آله واسمه وعلاماته من خلال كتبهم الدينية، «وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ».

وهناك طبعاً فريق سارع لاعتناق الإسلام بعد أن رأى هذه الصفات والعلامات في نبيّ الأكرم، مثل عبداللَّه بن سلام وهو من علماء اليهود، ونقل عنه بعد إسلامه قوله «أنا أعلم به منّي بابني».

ثم تؤكد الآية ما سبق أن طرحته بشأن تغيير القبلة، أو بشأن أحكام الإسلام بشكل عام: «الْحَقُّ مِن رَّبّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ». أي المترددين.

وبهذه العبارة تثبّت الآية فؤاد النبي، وتنهاه عن أي ترديد أمام افتراءات الأعداء بشأن تغيير القبلة وغيرها، وإن

جنّد هؤلاء الأعداء كل طاقاتهم للمحاربة.

المخاطب في الآية وإن كان شخص النبي صلى الله عليه و آله ولكن الهدف هو تربية البشرية كما ذكرنا من قبل، فمن المؤكد أنّ النبي المتصل بالوحي الإلهي لا يعتريه تردد، لأنّ الوحي بالنسبة له ذو جانب حسي وعين اليقين.

لكل امة قبلة: هذه الآية الكريمة تردّ على الضجة التي أثارها اليهود حول تغيير القبلة وتقول: «وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيهَا».

كان للأنبياء على مرّ التاريخ وجهات عديدة يولّونها، وليست القبلة كاصول الدين لا تقبل التغيير، فلا تطيلوا الحديث في أمر القبلة، وبدل ذلك «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ» لأنّ معيار القيمة الوجودية للإنسان هي أعمال البرّ والخير.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 119

ثم تتغير لهجة الآية إلى نوع من التحذير والتهديد لُاولئك المفترين، والتشجيع للمحسنين فتقول: «أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا» في تلك المحكمة الكبرى حيث يتلقى كل جزاء عمله.

وقد يخال بعض أنّ جمع الناس لمثل هذا اليوم عجيب، فكيف تجتمع ذرات التراب المتناثرة لترتدي ثانية حلّة الحياة؟! لذلك تجيب الآية بالقول: «إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ مَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِي وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) الخوف من اللَّه فقط: هذه الآيات تتابع الحديث عن مسألة تغيير القبلة ونتائجها. الآية الاولى تأمر النبي عليه السلام وتقول: «وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ» من أية مدينة، وأية ديار «فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ».

ولمزيد من التأكيد تقول الآية: «وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَّبّكَ».

وتنتهي

الآية بتهديد المتآمرين: «وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ».

الآية التالية كررت الحكم العام بشأن التوجه إلى المسجد الحرام في أي مكان: «وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ».

صحيح أنّ هذه العبارة القرآنية تخاطب النبي صلى الله عليه و آله لكنّها تقصد دون شك مخاطبة عامة المسلمين، ولمزيد من التأكيد تخاطب الجملة التالية المسلمين وتقول: «وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ».

ثم تشير الآية إلى ثلاث مسائل هامة:

1- إلجام المعارضين- تقول الآية: «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ».

قبل تغيير القبلة كانت ألسنة المعارضين من اليهود والمشركين تقذف المسلمين بالتهم

مختصر الامثل، ج 1، ص: 120

والحجج، اليهود يعترضون قائلين: إنّ النبي الموعود يصلي إلى قبلتين، وهذه العلامة غير متوفرة في محمّد صلى الله عليه و آله والمشركون يعترضون على النبي قائلين: كيف ترك محمّد الكعبة وهو يدعي أنّه بعث لإحياء ملة إبراهيم. هذا التغيير أنهى كل هذه الإعتراضات. لكن هذا لا يمنع الأفراد اللجوجين المعاندين أن يصروا على مواقفهم، وأن يرفضوا كل منطق، لذلك تقول الآية: «إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ».

2- عندما وصفت الآية هؤلاء المعاندين أنّهم ظالمون، فقد يثير هذا الوصف خوفاً في نفوس البعض لذلك قالت الآية: «فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِى».

وهذه الفقرة من الآية تطرح أصلًا عاماً أساسياً من اصول التربية التوحيدية الإسلامية، هو عدم الخوف من أي شي ء سوى اللَّه.

3- وآخر هدف ذكر لتغيير القبلة هو إتمام النعمة: «وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ».

كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَ يُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لَا تَكْفُرُونِ (152) مهمة رسول اللَّه: ذكرت الفقرة الأخيرة من الآية السابقة أنّ أحد أسباب تغيير القبلة هو إتمام

النعمة على الناس وهدايتهم، والآية أعلاه ابتدأت بكلمة «كما» إشارة إلى أنّ تغيير القبلة ليس هو النعمة الوحيدة التي أنعمها اللَّه عليكم، بل منّ عليكم بنعم كثيرة «كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ».

وكلمة «منكم» قد تعني أنّ الرسول بشر مثلكم، والإنسان وحده هو القادر على أن يكون مربي البشر وقدوتهم وأن يتحسس آمالهم وآلامهم، وتلك نعمة كبرى أن يكون الرسول بشراً «منكم».

بعد ذكر هذه النعمة يشير القرآن إلى أربع نِعَم عادت على المسلمين ببركة هذا النبي صلى الله عليه و آله:

1- «يَتْلُوا عَلَيْكُمْ ءَايَاتِنَا». «يتلو»: من «التلاوة» أي من إتيان الشي ء متوالياً، والإتيان بالعبارات المتوالية (وبنظام صحيح) هي التلاوة. النبي صلى الله عليه و آله إذن يقرأ عليكم آيات

مختصر الامثل، ج 1، ص: 121

اللَّه متتالية، لتنفذ إلى قلوبكم، ولإعداد أنفسكم إلى التعليم والتربية.

2- «وَيُزَكّيكُمْ». «التزكية»: هو الزيادة والإنماء، أي إنّ النبي بفضل آيات اللَّه يزيدكم كمالًا مادياً ومعنوياً، ويزيل ألوان الرذائل التي كانت تغمر مجتمعكم في الجاهلية.

3- «وَيُعَلّمُكُمُ الْكِتَابَ والْحِكْمَةَ». التعليم طبعاً مقدم بشكل طبيعي على التربية، ولكنّ القرآن- كما ذكرنا- يقدم التربية في مواضع تأكيداً على أنّها هي الهدف النهائي.

انّ الكتاب إشارة إلى آيات القرآن والوحى الإلهى النازل على النبى بشكل إعجازي والحكمة لها معنى واسع يشمل الكتاب والسنة معاً، أمّا استعمالها القرآني مقابل «الكتاب» (كما في هذه الآية) فيشير إلى أنّها «السنّة» لا غير.

4- «وَيُعَلّمُكُمْ مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ». وهذا الموضوع طرحته الفقرات السابقة من الآية، حيث دار الحديث عن تعليم الكتاب والحكمة لكن القرآن عاد فأكد ذلك في فقرة مستقلة تنبيهاً على أنّ الأنبياء لم يكونوا قادة أخلاقيين واجتماعيين فحسب، بل كانوا هداة طريق العلم والمعرفة، وبدون هدايتهم لم يكتب النضج للعلوم الإنسانية.

بعد

استعراض جانب من النعم الإلهيّة في الآية، تذكر الآية التالية أنّ هذه النعم تستدعي الشكر، وبالاستفادة الصحيحة من هذه النعم يؤدي الإنسان حق شكر الباري تعالى:

«فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِى وَلَا تَكْفُرُونِ».

واضح أنّ عبارة «فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ» تشير إلى أصل تربوي وتكويني، أي اذكروني ...

اذكروا الذات المقدسة التي هي معدن الخيرات والحسنات والمبرات ولتطهر أرواحكم وأنفسكم.

كذلك المقصود من «الشكر وعدم الكفران» استثمار كل نعمة في محلها وعلى طريق نفس الهدف الذي خلقت له، كي يؤدّي ذلك إلى زيادة الرحمة الإلهيّة.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَ لَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَ لكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)

سبب النّزول

روي في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس بشأن نزول الآية الثانية أنّها نزلت في قتلى

مختصر الامثل، ج 1، ص: 122

بدر، وقتل من المسلمين يومئذ أربعة عشر رجلًا، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار، وكانوا يقولون: مات فلان. فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.

التّفسير

الشهداء أحياء: الآيات السابقة عرضت مفاهيم التعليم والتربية والذكر والشكر، وفي الآية الاولى من آيتي بحثنا دار الحديث حول الصبر الذي لا تتحقق المفاهيم السابقة بدونه.

تقول الآية أوّلًا: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَوةِ».

واجهوا المشاكل والصعاب بهاتين القوتين فالنصر حليفكم: «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ».

خلافاً لما يتصور بعض الناس «الصبر» لا يعني تحمل الشقاء وقبول الذلة والإستسلام للعوامل الخارجية، بل الصبر يعني المقاومة والثبات أمام جميع المشاكل والحوادث.

الموضوع الآخر الذي أكدت عليه الآية أعلاه باعتباره السند الهام إلى جانب الصبر هو «الصلاة». في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «كان عليّ عليه السلام إذا هاله شي ء فزع إلى الصّلاة ثم تلا هذه الآية «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ

وَالصَّلَوةِ»».

فالآية أعلاه تطرح مبدأين هامين: الأول الاعتماد على اللَّه، ومظهره الصلاة؛ والآخر الاعتماد على النفس، وهو الذي عبرت عنه الآية بالصبر.

وبعد ذكر الصبر والاستقامة تتحدث الآية التالية عن خلود الشهداء، الذين يجسدون أروع نماذج الصابرين على طريق اللَّه. تقول الآية: «وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ». ثم تؤكّد هذا المفهوم ثانية بالإستدراك. «بَلْ أَحْيَاءٌ وَلكِن لَّاتَشْعُرُونَ».

في كل حركة- أساساً- تنزوي مجموعة محبة للعافية، وتبتعد عن الامة الثائرة، ولا تكتفي هي بالتقاعس والتكاسل، بل تسعى إلى تثبيط عزائم الآخرين وبثّ الرخوة والتماهل في المجتمع.

القرآن الكريم يتحدث عن مثل هذه الفئة كراراً ويؤنبهم بشدة.

هذه الآية تثبت بوضوح بقاء الروح والحياة البرزخية للبشر (الحياة بعد الموت وقبل البعث). سنفصل الحديث في هذا الموضوع عند تناولنا الآية (169) من سورة آل عمران.

وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَرَاتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 123

الدنيا دار اختبار إلهي: بعد ذكر مسألة الشهادة في سبيل اللَّه، والحياة الخالدة للشهداء، تعرضت هذه الآية للاختبار الإلهي العام، ولمظاهره المختلفة، باعتباره سنّة كونية لا تقبل التغيير «وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَىْ ءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْضٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ».

ولما كان الإنتصار في هذه الاختبارات، لا يتحقق إلّافي ظل الثبات والمقاومة، قالت الآية بعد ذلك: «وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ». فالصابرون هم الذين يستطيعون أن يخرجوا منتصرين من هذه الامتحانات، لا غيرهم.

الآية التالية تعرّف الصابرين وتقول: «الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ».

الإقرار التام بالعبودية المطلقة للَّه، يعلمنا أن لا نحزن على

ما فاتنا، لأنّه سبحانه مالكنا ومالك جميع ما لدينا من مواهب، إن شاء منحنا إيّاها، وإن استوجبت المصلحة أخذها منّا، وفي المنحة والمحنة مصلحة لنا.

والإلتفات المستمر إلى حقيقة عودتنا إلى اللَّه سبحانه، يشعرنا بزوال هذه الحياة، وبأنّ نقص المواهب المادية ووفورها عرض زائل، ووسيلة لإرتقاء الإنسان على سلم تكامله، فاستشعار العبودية والعودة في عبارة «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ» له الأثر الكبير في تعميق روح المقاومة والاستقامة والصبر في النفس.

وآخر آية في بحثنا هذا، تتحدث عن الألطاف الإلهيّة الكبرى، التي تشمل الصابرين الصامدين المتخرجين بنجاح من هذه الامتحانات الإلهيّة: «أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبّهِمْ وَرَحْمَةٌ».

هذه الصلوات والرحمة تجعل هؤلاء على بصيرة من أمرهم، في مسيرتهم الحياتية المحفوفة بالمزالق والأخطار، لذلك تقول الآية: «وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ».

بحوث

1- لماذا الإختبار الإلهي؟ أوّل ما يتبادر للذهن في هذا المجال هو سبب هذا الاختبار، فنحن نختبر الأفراد لنفهم ما نجهله عنهم. فهل أنّ اللَّه سبحانه وتعالى بحاجة إلى مثل هذا الاختبار لعباده، وهو العالم بكل الخفايا والأسرار؟ وهل هناك شي ء خفي عنه حتى يظهر له بهذا الإمتحان؟

والجواب أنّ مفهوم الاختبار الإلهي يختلف عن الاختبار البشري.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 124

اختباراتنا البشرية تستهدف رفع الإبهام والجهل، والاختبار الإلهي قصده «التربية». في أكثر من عشرين موضعاً تحدث القرآن عن الاختبار الإلهى، باعتباره سنّة كونية لا تنقص من أجل تفجير الطاقات الكامنة ونقلها من القوة إلى الفعل وبالتالي فالاختبار الإلهي من أجل تربية العباد. يقول سبحانه في الآية (154) من سورة آل عمران: «وَلِيَبْتَلِىَ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ».

ويقول أمير المؤمنين علي عليه السلام في بيان سبب الاختبارات الإلهيّة: «... وإن كان سبحانه أعلم بهم من

أنفسهم، ولكن لتظهر الأفعال الّتي بها يستحقّ الثواب والعقاب» «1».

أي: أنّ الصفات الكامنة لا يمكن أن تكون وحدها معياراً للثواب والعقاب، فلابد أن تظهر من خلال أعمال الإنسان، واللَّه يختبر عباده ليتجلى ما يضمرونه في أعمالهم، ولكي تنتقل قابلياتهم من القوة إلى الفعل، وبذلك يستحقون الثواب أو العقاب.

2- الإختبار الإلهي عام: نظام الحياة في الكون نظام تكامل وتربية، وكل الموجودات الحية تطوي مسيرة تكاملها، حتى الأشجار تعبر عن قابلياتها الكامنة بالأثمار، من هنا فإنّ كل البشر، حتى الأنبياء، مشمولون بقانون الاختبار الإلهي كي تنجلي قدراتهم.

الإمتحانات تشمل الجميع ولا يجرى عن طريق الحوادث الصعبة القاسية فحسب، بل قد يمتحن اللَّه عبده بالخير وبوفور النعمة.

3- عوامل النجاح في الإمتحان: هنا يتعرض الإنسان لاستفهام آخر، وهو أنّه إذا كان القرار أن يتعرض جميع أفراد البشر للامتحان الإلهي، فما هو السبيل لاحراز النجاح والتوفيق في هذا الامتحان؟ القرآن يعرض هذه السبل في القسم الأخير من آية بحثنا وفي آيات اخرى:

أ) أهمّ عامل للانتصار أشارت إليه الآية بعبارة: «وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ». فالآية تبشّر بالنجاح اولئك الصابرين المقاومين، ومؤكدة أنّ الصبر رمز الإنتصار.

ب) الإلتفات إلى أنّ نكبات الحياة ومشاكلها مهما كانت شديدة وقاسية فهي مؤقّتة وعابرة وهذا الإدراك يجعل كل المشاكل والصعاب عرضاً عابراً وسحابة صيف، وهذا المعنى تضمنته عبارة: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ».

______________________________

(1) نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 93.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 125

إِنَّ الصَّفَا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)

سبب النّزول

جاء في تفسير مجمع البيان أنّ المشركين كانوا يسعون بين الصفا والمروة، وقد وضعوا على الصفا صنماً يقال له «أساف»

وعلى المروة صنماً يقال له «نائلة» وكان المشركون إذا طافوا بهما مسحوهما فتحرّج المسلمون عن الطواف بهما لأجل الصنمين. فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.

التّفسير

أعمال الجهلة لا توجب تعطيل الشعائر: هذه الآية الكريمة تستهدف إزالة ما علق في ذهن المسلمين ونفوسهم من رواسب بشأن الصفا والمروة كما مرّ في سبب النزول، وتقول للمسلمين: «إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ».

ومن هذه المقدمة تخرج الآية بنتيجة هي: «فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا». لا ينبغي أن تكون أعمال المشركين الجاهليين عاملًا على إيقاف العمل بهذه الشعيرة، وعلى تقليل شأن وقدسية هذين المكانين.

ثم تقول الآية أخيراً: «وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ».

فاللَّه يشكر عباده المتطوعين للخير بأن يجازيهم خيراً، وهو سبحانه عالم بسرائرهم، يعلم من تعلق قلبه بهذه الأصنام ومن تبرأ منها.

بحثان

1- الصفا والمروة: الصفا والمروة اسمان لجبلين صغيرين في مكة، يقعان اليوم بعد توسيع المسجد الحرام، في الضلع الشرقي للمسجد، في الجهة التي يقع فيها الحجر الأسود ومقام إبراهيم.

«الشعائر»: جمع شعيرة أي العلامة، وشعائر اللَّه أي العلامات التي تذكر الإنسان باللَّه، وتعيد إلى الأذهان ذكريات مقدسة.

«اعتمر»: أي أدى العمرة، والعمرة في الأصل الملحقات الإضافية في البناء، وفي الشريعة تطلق على الأعمال الخاصة، التي يؤديها المسلم إلى جانب أعمال الحج، أو يؤديها لوحدها في العمرة المفردة، وبينها وبين أعمال الحج أوجه اشتراك وافتراق.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 126

2- من أسرار السعي بين الصفا والمروة: إبراهيم عليه السلام بلغه الكبر ولم يُرزق ولداً، فدعى ربّه أن لا يتركه فرداً، فاستجاب له، ورزقه من جاريته هاجر ولداً سماه «إسماعيل».

لم تستطع «سارة» زوجته الاولى أن تطيق الحالة الجديدة، وقد رزق إبراهيم ولداً من غيرها، فأمر اللَّه

إبراهيم أن يهاجر بالطفل والأم إلى مكة حيث الأرض القاحلة المجدبة آنذاك، ويسكنهما هناك.

امتثل إبراهيم أمر ربّه، وذهب بهما إلى صحراء مكة وأسكنهما في تلك الأرض، وهمّ بالرجوع، فضجّت زوجته بالبكاء، إذ كيف تستطيع أن تعيش امرأة وحيدة مع طفل رضيع في مثل هذه الأرض؟

بكاء هاجر ومعه بكاء الطفل الرضيع هزّ إبراهيم من الأعماق، لكنه لم يزد على أن ناجى ربّه قائلًا: «رَّبَّنَا إِنّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَوةَ فَاجْعَلْ أَفِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» «1». ثم ودّع زوجه وطفله بحزن وألم عميقين.

لم يمض وقت طويل حتى نفذ طعام الام وماؤها، وجفّ لبنها، بكاء الطفل أضرم في نفس الأم ناراً، ودفعها لأن تبحث بقلق واضطراب عن الماء، اتجهت أولًا إلى جبل «الصفا» فلم تجد للماء أثراً، لَفت نظرها بريق ماء عند جبل «المروة» فأسرعت إليه فوجدته سراباً، ثم رأت عند المروة بريقاً لدى الصفا أسرعت إليه فما وجدت شيئاً، وهكذا جالت سبع مرات بين الصفا والمروة بحثاً عن الماء، وفي النهاية، وبعد أن أشرف الطفل على الموت، انفجرت عند رجله فجأة عين زمزم، فشرب الطفل وامه ونجيا من الموت المحقق.

في الصفا والمروة درس في التضحية بكل غال ونفيس، حتى بالطفل الرضيع، من أجل المبدأ والعقيدة.

السعي بينهما يعلمنا أن نعيش دائماً أمل النجاح والانتصار.

السعي بين الصفا والمروة يقول لنا: اعرفوا قدر نعمة هذا الدين وهذا المركز التوحيدي، فثمة أفراد حفظوا الشريعة وشعائرها لنا بدمائهم على مرّ التاريخ.

من أجل إحياء كل تلك الأحاسيس والمشاعر في النفوس، أمر اللَّه الحجيج أن يسعوا سبع مرات بين الصفا والمروة.

______________________________

(1) سورة إبراهيم/ 37.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 127

أضف إلى ما

تقدم أنّ السعي يقضي على كبر الإنسان وغروره، فلا أثر للتبختر والتصنع في السعي، بل لابد من قطع هذه المسافة ذهاباً ومجيئاً مع كافة الناس، وبنفس لباس الناس، وبهرولة أحياناً! ولذلك ورد في الروايات أنّ السعي إيقاظ للمتكبرين.

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَ الْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)

سبب النّزول

في الدر المنثور عن ابن عباس قال: سأل «معاذ بن جبل» و «سعد بن معاذ» و «خارجة بن زيد» نفراً من أحبار يهود عن بعض ما في التوراة (قد ترتبط بظهور النبي الخاتم) فكتموهم إيّاه وأبوا أن يخبروهم فأنزل اللَّه فيهم «إنّ الذين يكتمون ما أنزلنا» الآية.

التّفسير

حرمة كتمان الحق: الآية- وإن خاطبت كما في سبب النزول، علماء اليهود- غير محدودة بمخاطبيها، بل تبين حكماً عاماً بشأن كاتمي الحق. الآية الكريمة تتحدث عن هؤلاء بشدة وتقول: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنهُ لِلنَّاسِ فِى الْكِتَابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللعِنُونَ».

كتمان الحقائق لا ينحصر دون شك في كتمان علامات النبوّة والبشائر بالنبي الخاتم صلى الله عليه و آله بل يشمل كتمان كل حقيقة تستطيع أن تدفع الناس إلى الفهم الصحيح بالمعنى الواسع لهذه الكلمة.

ولما كان القرآن كتاب هداية، فإنّه لا يغلق منافذ الأمل والتوبة أمام الأفراد، ولا يقطع أملهم في العودة مهما ارتكسوا في الذنوب، لذلك تبين الآية التالية طريق النجاة من هذا الذنب الكبير وتقول: «إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».

ومن الملفت للنظر، أنّ اللَّه لم يقل أنّه يقبل

التوبة ممن تاب، بل يقول: من تاب فأنا أيضاً أتوب عليه، وهذه دالة على كثرة محبة اللَّه وسبق عطفه على عباده التائبين.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 128

كتمان الحق في الأحاديث: حملت الأحاديث بشدة أيضاً على كاتمي الحق، فروي في المجمع عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «من سُئل عن علم يعلمه فكتمه الجم يوم القيامة بلجام من نار».

ونعيد هنا القول أنّ ابتلاء الناس بمسألة والحاجة إلى بيانها يحل محل السؤال، وبيان الحقائق في هذه الحالة واجب.

وذكر الطبرسي في الاحتجاج: قيل لأمير المؤمنين عليه السلام: من خير خلق اللَّه بعد ائمة الهدى ومصابيح الدجى؟ قال: «العلماء إذا صلحوا». قيل: فمن شرّ خلق اللَّه بعد إبليس وفرعون و ...؟ قال: «العلماء إذا فسدوا، هم المظهرون للأباطيل، الكاتمون للحقائق، وفيهم قال اللَّه عزّ وجلّ: «أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللعِنُونَ».

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ مَاتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلَائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَ لَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) الذين ماتوا وهم كفار: تحدثت الآيات السابقة عن نتيجة كتمان الحقائق، وهذه الآيات تكمل الموضوع السابق، وتتناول جزاء الذين يواصلون طريق الكفر والكتمان والعناد إلى آخر عمرهم. تقول الآية: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».

هؤلاء أيضاً مثل كاتمي الحق، مستحقون للعنة اللَّه والملائكة وجميع الناس، مع اختلاف هو أنّ هؤلاء المصرّين على الكفر حتى نهاية حياتهم لا رجعة لهم طبعاً ولا توبة.

ثم تقول الآية التالية إنّ هؤلاء الكفار المصرّين على كفرهم حتى اللحظات الأخيرة من حياتهم: «خَالِدِينَ فِيهَا لَايُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ

وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ».

ولما كان التوحيد ينهي كل هذه المصائب، فالآية الثالثة تطرح هذا الأصل وتقول:

«وَإِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ».

ثم تؤكد هذا الأصل وتقول: «لَّاإِلهَ إِلَّا هُوَ».

بعد ذلك تصف الآية اللَّه بأنّه: «الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ». لتقول إنّ اللَّه الذي يسع كل الموجودات، برحمته العامة والمؤمنين برحمته الخاصة، هو اللائق بالعبودية لا الموجودات المحتاجة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 129

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَ بَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَ السَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) مظاهر عظمة اللَّه في الكون: آخر آية في المبحث الماضي دارت حول توحيد اللَّه، وهذه الآية تقدم الدليل على وجود اللَّه ووحدانيته.

قبل أن ندخل في تفسير الآية، لابد من مقدمة موجزة. حيثما كان «النظم والإنسجام» فهو دليل على وجود العلم والمعرفة، وأينما كان «التنسيق» فهو دليل على الوحدة، من هنا، حينما نشاهد مظاهر النظم والإنسجام في الكون من جهة، والتنسيق ووحدة العمل فيه من جهة اخرى، نفهم وجود مبدأ واحد للعلم والقدرة صدرت منه كل هذه المظاهر.

بعد هذه المقدمة نعود إلى تفسير الآية، هذه الآية الكريمة تشير إلى ستة أقسام من آثار النظم الموجود في عالم الكون، وكل واحد منها آية تدل على وحدانية المبدأ الأكبر.

1- «إِنَّ فِى خَلْقِ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

يقول العلم لنا اليوم: إنّ في السماء آلافاً مؤلفة من المجرات، ومنظومتنا الشمسية جزء من واحدة من المجرات، وفي مجرتنا وحدها مئات الملايين من الشموس والنجوم الساطعة، وحسب دراسات العلماء يوجد بين هذه الكواكب مليون كوكب مسكون بمليارات الموجودات الحية.

حقاً ما

أعظم هذا الكون! وما أعظم قدرة خالقه!

2- «وَاخْتِلفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ».

من الدلائل الاخرى على ذاته المقدسة وصفاته المباركة تعاقب الليل والنهار، والظلمة والنور بنظام خاص، فينقص أحدهما بالتدريج ليزيد في الآخر، وما يتبع ذلك من تعاقب الفصول الأربعة، وتكامل النباتات وسائر الأحياء في ظل هذا التكامل.

3- «وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ».

الإنسان يمخر عباب البحار والمحيطات بالسفن الكبيرة والصغيرة، مستخدماً هذه السفن للسفر ولنقل المتاع.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 130

4- «وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلّ دَابَّةٍ».

من مظاهر قدرة اللَّه وعظمته المطر الذي يحيي الأرض، فتهتز ببركته وتنمو فيها النباتات وتحيا الدواب بحياة هذه النباتات، وكل هذه الحياة تنتشر على ظهر الأرض من قطرات ماء لا حياة فيها.

5- «وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ» لا على سطح البحار والمحيطات لحركة السفن فحسب، بل على الجبال والهضاب والسهول أيضاً لتلقيح النباتات فتخرج لنا ثمارها اليانعة.

6- «وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ والْأَرْضِ». والسحب المتراكمة في أعالي الجو، المحمّلة بمليارات الأطنان من المياه خلافاً لقانون الجاذبية، والمتحركة من نقطة إلى اخرى دون ايجاد خطر، من مظاهر عظمة اللَّه سبحانه.

وكل تلك العلامات والمظاهر «لَأَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» لا للغافلين الصم البكم العمي.

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَ لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَ رَأَوُا الْعَذَابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَ قَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَ مَا هُمْ بِخَارِجِينَ

مِنَ النَّارِ (167) أئمة الكفر يتبرأون من أتباعهم: تناولت الآيات السابقة دلائل وجود اللَّه سبحانه وإثبات وحدانيته، عن طريق عرض مظاهر لنظام الكون. وهذه الآيات تتحدث عن أولئك الذين أعرضوا عن كل تلك الدلائل الواضحة، وساروا على طريق الشرك والوثنية وتعدد الآلهة ... عن اولئك الذين يحنون رؤوسهم تعظيماً أمام الآلهة المزيفة، ويتعشقونها ويشغفون بها حباً لا يليق إلّاباللَّه سبحانه مصدر كل الكمالات وواهب جميع النعم. تقول الآية: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا» «1».

______________________________

(1) «الأنداد»: جمع «ند» وهو (المثل)، وقال جمع من علماء اللغة، هو المثل المشابه في الجوهر، أي إنّ المشركين كانوا يعتقدون بأنّ هذه الأنداد تحمل الصفات الإلهيّة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 131

ولم يتخذ المشركون هؤلاء الأنداد للعبادة فحسب، بل «يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ اللَّهِ».

«وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ». لأنّهم أصحاب عقل وإدراك، فلا يستوي من يحب عن عقل وبصيرة، ومن يحب عن جهل وخرافة وتخيل.

حب المؤمنين ثابت عميق لا يتزلزل، وحب المشركين سطحي تافه لا بقاء له ولا استمرار. لذلك تقول الآية: «وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ». لرأوا سوء فعلهم وسوء عاقبتهم.

في هذه اللحظات تزول حجب الجهل والغرور والغفلة من أمام أعينهم، وحين يرون أنفسهم دون ملجأ أو ملاذ، يتجهون إلى قادتهم ومعبوديهم، ولات حين ملاذ بغير اللَّه «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ».

واضح أنّ المعبودين هنا ليسوا الأصنام الحجرية أو الخشبية، بل الطغاة الجبابرة الذين استعبدوا الناس، فقدم لهم المشركون فروض الولاء والطاعة.

هؤلاء الغافلون المغفّلون حين يرون ما حلّ بهم يمنون أنفسهم: «وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا» لكنها

امنية لا تتحقق.

ثم تقول الآية: «كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ».

لكنها حسرة غير نافعة ... فاليوم يوم الجزاء وليس يوم تلافي الأخطاء.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّباً وَ لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَ الْفَحْشَاءِ وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس أنّها نزلت في ثقيف وخزاعة وبني عامر بن صعصعة وبني مدلج لما حرّموا على أنفسهم من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة والوصيلة، فنهاهم اللَّه عن ذلك.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 132

التّفسير

خطوات الشيطان: ذمّت الآيات السابقة الشرك والمشركين، وأحد أنواع الشرك إيكال أمر التقنين والتشريع وتقرير الحلال والحرام إلى غير اللَّه. الآية أعلاه اعتبرت هذا العمل شيطانياً وقالت: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِى الْأَرْضِ حَللًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ».

تكرر في القرآن طلب الإستفادة من الأطعمة، وورد الطلب عادة مقيداً بالحلال وبالطيب. و «الحلال»: ما أبيح تناوله والطيب ما طاب ووافق الطبع السليم، و يقابله «الخبيث» الذي يشمأز منه الإنسان.

و «الخطوات»: جمع «خطوة» وهي المرحلة التي يقطعها الشيطان للوصول إلى هدفه وللتعزير بالناس.

عبارة «لَاتَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطنِ» تكررت خمس مرات في القرآن الكريم، وكانت في موضعين بشأن الإستفادة من الأطعمة والرزق الإلهي، وهي تحذير من استهلاك هذه النعم الإلهية في غير موضعها، وحثّ على الاستفادة منها على طريق العبودية والطاعة لا الفساد والطغيان في الأرض.

عبارة «إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ» تكررت في القرآن الكريم عشر مرات بعد الحديث عن الشيطان، كي تحفّز الإنسان، وتجعله متأهباً لمجابهة هذا العدو اللدود الظاهر.

الآية التالية تؤكد على عداء الشيطان، وعلى هدفه المتمثل

في شقاء الإنسان، وتقول:

«إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَاتَعْلَمُونَ».

منهج الشيطان يتلخص في ثلاثة أبعاد هي: السوء والفحشاء والتقول على اللَّه.

«الفحشاء»: من «الفحش» وهو كل عمل خارج عن حد الإعتدال ويشمل كل المنكرات والقبائح المبطنة والعلنية.

الإنحرافات التدريجية: عبارة «خُطُوَاتِ الشَّيْطنِ» قد تشير إلى مسألة تربوية دقيقة، وهي أنّ الإنحرافات تدخل ساحة الإنسان بشكل تدريجي. وساوس الشيطان تدفع بالفرد على هذه الصورة التدريجية نحو هاوية السقوط، وليست هذه طريقة الشيطان الأصلي فحسب، بل كل الأجهزة الشيطانية تنفذ خططها المشؤومة على شكل «خطوات» لذلك يحذر القرآن كثيراً من اتخاذ الخطوة الاولى على طريق الإنزلاق.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 133

وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَ وَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لَا يَهْتَدُونَ (170) وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَ نِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) التقليد الأعمى: تشير الآية إلى منطق المشركين الواهي في تحريم ما أحل اللَّه، أو عبادة الأوثان وتقول: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا».

ويدين القرآن هذا المنطق الخرافي، القائم على أساس التقليد الأعمى لعادات الآباء والأجداد، فيقول: «أَوَ لَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لَايَعْقِلُونَ شَيًا وَلَا يَهْتَدُونَ». أي: إنّ إتّباع الآباء صحيح لو أنّهم كانوا على طريق العقل والهداية.

أما أسلاف هؤلاء فلم يكونوا يعلمون، ولم يكونوا قد اهتدوا بمن يعلم وهذا اللون من التقليد الأعمى هو السبب في تخلف البشرية لأنّه تقليد الجاهل للجاهل.

الآية التالية تبين سبب تعصب هؤلاء وإعراضهم عن الإنصياع لقول الحق تقول:

«وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ بِمَا لَايَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً

وَنِدَاءً». تقول الآية: إنّ مثلك في دعوة هؤلاء المشركين إلى الإيمان ونبذ الخرافات والتقليد الأعمى كمن يصيح بقطيع الغنم (لإنقاذهم من الخطر) ولكن الأغنام لاتدرك منه سوى أصوات غير مفهومة.

ثم تضيف الآية لمزيد من التأكيد والتوضيح أنّ هؤلاء «صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لَايَعْقِلُونَ».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَ اشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَ لَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) الطيبات والخبائث: القرآن ينهج اسلوب التأكيد والتكرار بأشكال مختلفة في معالجته للإنحرافات المزمنة، وفي هذه الآيات عودة إلى مسألة تحريم المشركين في الجاهلية لبعض الأطعمة دونما دليل، مع فارق هو أنّ الخطاب يتجه في هذه الآيات إلى المؤمنين، بينما خاطبت الآيات السابقة جميع الناس. تقول الآية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُلُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 134

رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ». هذه النعم الطيّبة المحلّلة المتناسبة مع الفطرة الإنسانية السليمة قد خلقت لكم، فلم لا تستفيدون منها؟ الآية التالية تبين بعض ألوان الأطعمة المحرمة، وتقول: «إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ».

ولما كانت بعض الضرورات تدفع الإنسان إلى تناول الأطعمة المحرمة حفظاً لحياته، فقد استثنت الآية هذه الحالة وقالت: «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ».

ومن أجل أن تقطع الآية الطريق أمام من يتذرع بالإضطرار، أكدت على كون المضطر «غير باغ» و «لا عاد». و «الباغي»: هو الطالب، والمراد هنا طالب اللذة و «العادي»: هو المتجاوز للحد، أي المتجاوز حد الضرورة، فالرخصة هنا إذن لمن لا

يريد اللذة في تناول هذه الأطعمة، ولا يتجاوز حد الضرورة اللازمة لنجاته من الموت.

وفي الختام تقول الآية: «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ». فإنّ اللَّه الذي حرّم تلك الأطعمة أباح تناولها في موارد الضرورة برحمته الخاصة.

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ لَا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَ الْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)

سبب النّزول

المعنى في هذه الآية أهل الكتاب بإجماع المفسرين؛ إلّاأنّها متوجهة على قول كثير منهم إلى جماعة قليلة من اليهود وهم علماؤهم ككعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وكعب بن أسد. وكانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا ويرجون كون النبي منهم. فلما بعث من غيرهم خافوا زوال مأكلتهم فغيّروا صفته فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.

التّفسير

إدانة كتمان الحق مرة اخرى: هذه الآيات تأكيد على ما مرّ في الآية (159) بشأن كتمان

مختصر الامثل، ج 1، ص: 135

الحق. الآية الاولى تقول: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ».

هذه الهدايا والعطايا التي ينالونها من هذا الطريق نيران محرقة تدخل بطونهم.

ثم تتعرض الآية إلى عقاب معنوي سينال هؤلاء أشد من العقاب المادي، وتقول: «وَلَا يُكَلّمُهُمُ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيمَةِ وَلَا يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

يستفاد من هذه الآية والآية التالية أنّ واحدة من أعظم المواهب الإلهيّة في الآخرة أن يكلّم اللَّه المؤمنين تلطفاً بهم. أي: إنّ المؤمنين سينالون في الآخرة نفس المنزلة التي نالها أنبياء

اللَّه في الدنيا وأية لذة أعظم من هذه اللذة!

بديهي أنّ تكليم اللَّه عباده بمعني إنّه بقدرته الواسعة يخلق في الفضاء أمواجاً صوتية خاصة قابلة للسمع والإدراك، (كما كلّم اللَّه موسى عند جبل الطور)، أو أنّه يتكلم مع خاصة عباده بلسان القلب عن طريق الإلهام.

وقد يسأل سائل عن تكليم اللَّه المجرمين يوم القيامة، استناداً إلى ما ورد في الآيات كقوله تعالى: «قَالَ اخْسُوا فِيهَا وَلَا تُكَلّمُونِ» «1».

والجواب: أنّ المقصود من التكليم في آيات بحثنا، هو تكليم عن لطف وحب واحترام، لا عن تحقير وطرد وعقوبة فذلك من أشد الجزاء.

الآية التالية تحدد وضع هذه المجموعة وتبين نتيجة صفقتها الخاسرة وتقول: «أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّللَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ». فهؤلاء خاسرون من ناحيتين: من ناحية تركهم الهداية واختيار الضلالة، ومن ناحية حرمانهم من رحمة اللَّه واستحقاقهم بدل ذلك العقاب الإلهي، وهذه مبادلة لا يقدم عليها إنسان عاقل. لذلك تتحدث الآية عن هؤلاء بلغة التعجب وتقول: «فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ».

آخر آية في بحثنا تقول إنّ ذلك التهديد والوعيد بالعذاب لكاتمي الحق، يعود إلى أنّ اللَّه أنزل القرآن بالدلائل الواضحة، حتى لم تبق شبهة لأحد: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ».

مع ذلك فإنّ زمرة محرفة تعمد إلى كتمان الحقائق صيانة لمصالحها، وتثير الإختلاف في الكتاب السماوي لتتصيد في الماء العكر.

______________________________

(1) سورة المؤمنون/ 108.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 136

مثل هؤلاء الذين يثيرون الإختلاف في الكتاب السماوي بعيدون عن الحقيقة: «وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتلَفُوا فِى الْكِتَابِ لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ».

لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلَائِكَةِ وَ الْكِتَابِ وَ النَّبِيِّينَ وَ آتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَ الْيَتَامَى وَ الْمَسَاكِينَ وَ ابْنَ

السَّبِيلِ وَ السَّائِلِينَ وَ فِي الرِّقَابِ وَ أَقَامَ الصَّلَاةَ وَ آتَى الزَّكَاةَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: لما حولت القبلة وكثر الخوض في نسخها وصار كأنّه لا يراعى بطاعة اللَّه إلّاالتوجه للصلاة وأكثر اليهود والنصارى ذكرها، أنزل اللَّه سبحانه هذه الآية.

التّفسير

أساس البرّ: مرّ بنا الحديث عن الضجة التي أثيرت بين اعداء الإسلام والمسلمين الجدد بشأن تغيير القبلة. الآية أعلاه تخاطب هؤلاء وتقول: «لَّيْسَ الْبِرَّ أن تُوَلُّوا وَجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ».

ثم يبين القرآن أهم أصول البّر والإحسان وهي ستة، فيقول: «وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ وَالْمَلِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيّينَ».

ثم تذكر الآية الإنفاق بعد الإيمان وتقول: «وَءَاتَى الْمَالَ عَلَى حُبّهِ ذَوِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِى الرّقَابِ».

إنفاق المال ليس بالعمل اليسير على الجميع، لأنّ حب المال موجود بدرجات متفاوتة في كل القلوب، وعبارة «عَلَى حُبّهِ» إشارة إلى هذه الحقيقة. هؤلاء يندفعون للإنفاق رغم هذا الحب للمال من أجل رضا اللَّه سبحانه.

والأصل الثالث من أصول البرّ إقامة الصلاة: «وَأَقَامَ الصَّلَوةَ». والصلاة إن أدّاها الفرد بشروطها وحدودها وباخلاص وخضوع تصده عن كل ذنب وتدفعه نحو كل سعادة وخير.

والأصل الرابع: أداء الزكاة والحقوق المالية الواجبة: «وَءَاتَى الزَّكَوةَ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 137

فالآية سبق أن ذكرت الإنفاق المستحب، وهنا تذكر الإنفاق الواجب. بعض الناس يكثر من المستحبات في الإنفاق ويتساهل في الواجب، وبعضهم يلتزم بالواجب فقط ولا ينفق درهماً في إيثار. والمحسنون الحقيقيون هم الذين ينفقون في المجالين معاً.

الخامس من الاصول: الوفاء بالعهد: «وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا»، فالثقة المتبادلة رأس مال الحياة الاجتماعية، وترك الوفاء بالعهد من

الذنوب التي تزلزل الثقة وتوهن عرى العلاقات الاجتماعية.

في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «ثلاث لم يجعل اللَّه عزّ وجلّ لأحد فيهنّ رخصة: أداء الأمانة إلى البرّ والفاجر والوفاء بالعهد للبرّ والفاجر وبرّ الوالدين برّين كانا أو فاجرين».

الأساس السادس والأخير من اسس البرّ في نظر الإسلام: الصبر «وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَاءِ حال الفقر والمسكنة وَالضَّرَّاءِ حال المرض وَحِينَ الْبَأْسِ حال القتال مع الأعداء» «1».

ثم تؤكد الآية على أهمية الاسس الستة وعلى عظمة من يتحلّى بها، فتقول: «أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ».

صدقهم يتجلى في انطباق أعمالهم وسلوكهم مع إيمانهم ومعتقداتهم، وتتجلى تقواهم في إلتزامهم بواجبهم تجاه اللَّه وتجاه المحتاجين والمحرومين وكل المجتمع الإنساني.

والملفت للنظر أنّ الصفات الست المذكورة تشمل الاصول الإعتقادية والأخلاقية والمناهج العملية.

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت هذه الآية في حيّين من العرب لأحدهما طَوْل على الآخر وكانوا يتزوجون نساءهم بغير مهور وأقسموا لنقتلن بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا

______________________________

(1) «البأساء»: من البؤس وهو الفقر؛ و «الضّرّاء»: تعني الألم والمرض؛ و «حين البأس»: أي حين الحرب.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 138

الرجل منهم، وبالرجل منا الرجلين منهم وجعلوا جراحاتهم على الضعف من جراح أولئك حتى جاء الإسلام، فأنزل اللَّه هذه الآية.

التّفسير

في القصاص حياة: الآيات السابقة طرحت المنهج الإسلامي في «البر»، وهنا يقدم القرآن الكريم- وهكذا في الآيات التالية- مجموعة من الأحكام الإسلامية، إكمالًا لبيان المنهج الإسلامي في الحياة. تبدأ هذه الأحكام من مسألة حفظ حرمة الدماء، وهي مسألة هامة في الحياة الاجتماعية، فتنفي العادات والتقاليد الجاهلية، وتقول للمؤمنين: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِى الْقَتْلَى .

«القصاص»: من «قصّ» يقال قصّ أثره: أي تلاه شيئاً بعد شي ء، ومنه القصاص لأنّه يتلو أصل الجناية

ويتبعه، وقيل هو أن يفعل بالثاني مثل ما فعله هو بالأول، مع مراعاة المماثلة، ومنه أخذ القصص كأنّه يتبع آثارهم شيئاً بعد شي ء.

الآية كما ذكرنا تستهدف بيان الموقف الصحيح من المجرم، ولفظ القصاص يدل على إنزال عقوبة بالمجرم مماثلة لما إرتكبه هو، لكن الآية لا تكتفي بذلك، بل بينت التفاصيل فقالت:

«الْحُرُّ بِالْحُرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى .

ثم تبين الآية أنّ القصاص، حق لأولياء المقتول، وليس حكماً إلزامياً، فإن شاؤوا أن يعفوا ويأخذوا الدية، وإن شاؤوا ترك الدية فلهم ذلك، وتقول: «فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْ ءٌ». فبعد تبدل حكم القصاص عند عفو أولياء المقتول إلى دية «فَاتّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ».

أي: فعل العافي إتّباع بالمعروف، وهو أن لا يُشدد في طلب الدية وينظر من عليه الدية «وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحسَانٍ». أي: على المعفو عنه أن يبادر إلى دفع الدية عند الإمكان وأن لا يماطل.

ثم تؤكد الآية على ضرورة الالتزام بحدود ما أقره اللَّه، وعدم تجاوز هذه الحدود: «ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

وهذا الأمر بالقصاص وبالعفو يشكل تركيباً انسانياً منطقياً، فهو من جهة يدين التقاليد السائدة في الجاهلية الاولى والجاهليات التالية إلى يومنا هذا القاضية بالإنتقام للمقتول الواحد بقتل الآلاف.

ومن جهة اخرى، يفتح باب العفو أمام المذنب، مع الحفاظ على احترام الدم وردع القاتلين.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 139

ومن جهة ثالثة، لا يحق للطرفين بعد العفو وأخذ الدية التعدي، خلافاً للجاهليين الذين كانوا يقتلون القاتل أحياناً حتى بعد العفو وأخذ الدية.

الآية التالية قصيرة العبارة وافرة المعنى، تجيب على كثير من الأسئلة المطروحة في حقل القصاص، ويقول: «وَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيَوةٌ يَا أُولِى الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ».

هذه الآية تبين أنّ القصاص ليس انتقاماً، بل السبيل إلى

ضمان حياة الناس.

هل انتقص قانون القصاص المرأة؟ قد يظن البعض أنّ قانون القصاص الإسلامي قد انتقص المرأة حين قرر أنّ «الرجل» لا يقتل «بالمرأة»، أي إنّ الرجل- قاتل المرأة- لا يقتص منه.

وليس الأمر كذلك، ومفهوم الآية لا يعني عدم جواز قتل الرجل بالمرأة، بل يجوز لأولياء المقتولة أن يطلبوا القصاص من الرجل القاتل، بشرط أن يدفعوا نصف ديته.

ولمزيد من التوضيح نقول: الرجال يتحملون غالباً مسؤوليات إعالة الاسرة، ويؤمنون نفقاتها الاقتصادية، ولا يخفى الفرق بين أثر غياب الرجل وغياب المرأة على العائلة اقتصادياً، ولو لم يراع هذا الفرق لُاصيبت عائلة المقتص منه بأضرار مالية، ولوقعت في حرج اقتصادي، ودفع نصف الدية يحول دون تزلزل تلك العائلة اقتصادياً.

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) الوصية بالمعروف: الآيات السابقة ذكرت تشريع القصاص، وهذه الآيات تذكر تشريع الوصية، باعتباره جزءاً من النظام المالي، وتذكر باسلوب الحكم الإلزامي فتقول:

«كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ».

ثم تضيف الآية أنّ هذه الوصية كتبت «حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ».

جاء في الآية الكريمة بشأن كتابة الوصية كونها «حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ» من هنا قيل إنّها مستحبة استحباباً مؤكداً، ولو كانت واجبة لقالت الآية «حقّاً على المؤمنين».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 140

يلفت النظر أنّ الآية الكريمة عبرت عن المال بكلمة «خير» فقالت: «إِن تَرَكَ خَيْرًا».

وهذا يعني أنّ الإسلام يعتبر الثروة المستحصلة عن طريق مشروع، والمستخدمة على طريق تحقيق منافع المجتمع

ومصالحه خيراً وبركة.

هذا التعبير يشير ضمنياً إلى مشروعية الثروة، لأنّ الأموال غير المشروعة ليست خيراً بل شرّاً وبالًا.

تقييد الوصية «بِالْمَعْرُوفِ» إشارة إلى أنّ الوصية ينبغي أن تكون موافقة للعقل من كل جهة، لأنّ «المعروف» هو المعروف بالحُسْنِ لدى العقل. يجب أن تكون الوصية متعقلة في مقدارها وفي نسبة توزيعها، دون أن يكون فيها تمييز، ودون أن تؤدّي إلى نزاع وإنحراف عن اصول الحق والعدالة.

حين تكون الوصية جامعة للخصائص المذكورة فهي محترمة ومقدسة، وكل تبديل وتغيير فيها محظور وحرام. لذلك تقول الآية التالية: «فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدّلُونَهُ».

ولا يظنن المحرفون المتلاعبون أنّ اللَّه غافل عما يفعلون، كلّا «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».

ولعل هذه الآية تشير إلى أن تلاعب «الوصي» (وهو المسؤول عن تنفيذ الوصية) لا يصادر أجر الموصي. فالموصي ينال أجره، والإثم على الوصي المحرّف في كمية الوصية أو كيفيتها أو في أصلها.

بيّن القرآن فيما سبق الأحكام العامة للوصية، وأكد على حرمة كل تبديل فيها، ولكن في كل قانون استثناء، و الآية الثالثة من آيات بحثنا هذا تبين هذا الاستثناء وتقول: «فَمَنْ خَافَ مِنْ مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

الإستثناء يرتبط بالوصية المدونة بشكل غير صحيح، وهنا يحق للوصي أن ينبه الموصي على خطئه إن كان حياً، وأن يعدّل الوصية إن كان ميتاً.

عبرت الآية «بالجنف» عن الانحرافات التي تصيب الموصي في وصيته عن سهو، و «بالإثم» عن الانحرفات العمدية.

عبارة «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» تشير إلى ما قد يقع فيه الوصي من خطأ غير عمدي

مختصر الامثل، ج 1، ص: 141

عندما يعدّل الوصية المنحرفة وتقول: إنّ اللَّه يعفو عن مثل هذا الخطأ.

بحثان

1- فلسفة الوصية: الإرث يوزع

حسب القانون الإسلامي بنسب معينة على عدد محدود من الأقارب، وقد يكون بين الأقارب والأصدقاء والمعارف من له حاجة ماسة إلى المال، ولكن لا سهم له في قانون الإرث، وقد يكون بين الورثة من له حاجة أكبر إلى المال من بقية الورثة.

من هنا وضع الإسلام قانون الوصية إلى جانب قانون الإرث، وأجاز للمسلم أن يتصرف في ثلث أمواله (بعد الوفاة) بالشكل الذي يرشد لمل ء هذا الفراغ.

أضف إلى ما سبق، قد يرغب إنسان أن يعمل بعد مماته الخيرات التي ما اتيح له أن يعملها في حياته، ومنطق العقل يفرض أن لا يحرم هذا الشخص من مثل هذا العمل الخيري.

النصوص الإسلامية أكدت على ضرورة الوصية كثيراً، من ذلك ما روي عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «ما ينبغي لِامرى مسلم أن يبيت ليلة إلّاووصيته تحت رأسه» «1».

والمقصود بوضع الوصية تحت الرأس إعدادها وتهيئتها طبعاً.

وفي رواية اخرى: «من مات بغير وصية مات ميتة جاهليّة» «2».

2- العدالة في الوصية: في الروايات الإسلامية تأكيد وافر على «عدم الجور» و «عدم الضرار» في الوصية، يستفاد منها جميعاً أنّ تعدي الحدود الشرعية المنطقية في الوصية عمل مذموم ومن كبائر الذنوب.

روي عن الإمام الباقر عليه السلام: «من عدل في وصيته كان كمن تصدق بها في حياته ومن جار في وصيته لقي اللَّه عزّ وجلّ يوم القيامة وهو عنه معرض» «3».

والجور في الوصية هو الوصية بأكثر من الثلث، وحرمان الورثة من حقهم المشروع، أو التمييز بين الورثة بسبب عواطف شخصية سطحية.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 13/ 352.

(2) وسائل الشيعة 13/ 352.

(3) وسائل الشيعة 13/ 359.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 142

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)

أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَ الْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) الصوم مدرسة التقوى: في سياق طرح مجموعة من الأحكام الإسلامية، تناولت هذه الآيات أحكام واحدة من أهم العبادات، وهي عبادة الصوم، وبلهجة مفعمة بالتأكيد قالت الآية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ».

ثم تذكر الآية مباشرة فلسفة هذه العبادة التربوية، في عبارة قليلة الألفاظ، عميقة المحتوى، وتقول: «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ».

الآية التالية تتجه أيضاً إلى التخفيف من تعب الصوم وتقول: «أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ» فالفريضة لا تحتل إلّامساحة صغيرة من أيّام السنة.

ثم تقول: «فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ». فالمريض والمسافر معفوان من الصوم، وعليهما أن يقضيا صومهما في أيام اخرى.

ثم تصدر الآية عفواً عن الطاعنين في السنّ، وعن المرضى الذين لا يرجى شفاؤهم، وترفع عنهم فريضة الصوم ليدفعوا بدلها كفارة، فتقول: «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ» «1».

______________________________

(1) «يطيقونه»: من «الطوق» وهو الحلقة التي تلقى على العنق، أو توجد عليه بشكل طبيعي (كطوق الحمام) ثم أطلقت الكلمة على نهاية الجهد والطاقة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 143

ثم يقول الآية: «فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ». أي من تطوع للإطعام أكثر من ذلك

فهو خير له.

وأخيراً تبين الآية حقيقة هي: «وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ».

والآية يدل على تأكيد آخر على فلسفة الصوم، وعلى أنّ هذه العبادة- كسائر العبادات- لا تزيد اللَّه عظمة أو جلالًا، بل تعود كل فوائدها على الناس.

آخر آية في بحثنا تتحدث عن زمان الصوم وبعض أحكامه ومعطياته تقول: «شَهْرُ رَمَضَانَ» هو الشهر الذي فرض فيه الصيام.

وهو «الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ». أي: معيار معرفة الحق والباطل.

ثم تؤكد ثانية حكم المسافر والمريض وتقول: «فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ».

والقرآن بهذا التكرار يفهم المسلمين أنّ الصوم في حالة السلام والحضر حكم إلهي والإفطار في حال السفر والمرض حكم إلهي أيضاً لا تجوز مخالفته.

وفي آخر الآية إشارة اخرى إلى فلسفة تشريع الصوم، تقول: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ». فالصوم- وإن كان على الظاهر نوعاً من التضييق والتحديد- مؤدّاه راحة الإنسان ونفعه على الصعيدين المادي والمعنوى.

ثم تقول الآية: «وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ». أي: يلزم على كل إنسان سليم أن يصوم شهراً، فذلك ضروري لتربية جسمه ونفسه، لذلك وجب على المريض والمسافر أن يقضي ما فاته من شهر رمضان ليكمل العدة، وحتى الحائض- التي اعفيت من قضاء الصلاة- غير معفوّة عن قضاء الصوم.

والعبارة الأخيرة من الآية تقول: «وَلِتُكَبّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَيكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

لتكبروه على ما وفّر لكم من سبل الهداية، ولتشكروه على ما أنعم عليكم.

بحوث

1- الآثار التربوية والإجتماعية والصحية للصوم: من فوائد الصوم الهامة «تلطيف» روح الإنسان و «تقوية» إرادته و «تعديل» غرائزه.

على الصائم أن يكف عن الطعام والشراب على الرغم من جوعه وعطشه وهكذا عليه أن يكف عن ممارسة العمل

الجنسي، ليثبت عملياً أنّه ليس بالحيوان الأسير بين المعلف

مختصر الامثل، ج 1، ص: 144

والمضجع، وأنّه يستطيع أن يسيطر على نفسه الجامحة وعلى أهوائه وشهواته. الأثر الروحي والمعنوي للصوم يشكّل أعظم جانب من فلسفة هذه العبادة.

والصوم يرفع الإنسان من عالم البهيمة إلى عالم الملائكة وعبارة «لَعَلَّكُم تَتَّقُون» تشير إلى هذه الحقايق.

وهكذا الحديث المعروف: «الصوم جنّة من النار» «1» يشير إلى هذه الحقايق.

وروي عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «إنّ للجنة باباً يدّعى الرّيّان لا يدخل فيها إلّاالصّائمون» «2».

الأثر الإجتماعى للصوم لا يخفى على أحد. فالصوم درس المساواة بين أفراد المجتمع.

سأل الإمام الصادق عليه السلام عن علة الصيام، فقال: «إنّما فرض اللَّه الصّيام ليستوي به الغنيّ والفقير؛ وذلك أنّ الغنيّ لم يكن ليجد مسّ الجوع فيرحم الفقير لأنّ الغنيّ كلّما أراد شيئاً قدر عليه فأراد اللَّه تعالى أن يسوّى بين خلقه وأن يذيق الغنيّ مسّ الجوع والألم ليرقّ على الضّعيف ويرحم الجائع» «3».

الآثار الصحية للصوم: أهمية «الإمساك» في علاج الأمراض ثابتة في الطب القديم والحديث. لأنّ العامل في كثير من الأمراض الإسراف في تناول الأطعمة المختلفة. المواد الغذائيه الزائدة تتراكم في الجسم على شكل مواد دهنية وتدخل هي والمواد السكرية في الدم، وهذه المواد الزائدة وسط صالح لتكاثر أنواع الميكروبات والأمراض، وفي هذه الحالة يكون الإمساك أفضل طريق لمكافحة هذه الأمراض، وللقضاء على هذه المزابل المتراكمة في الجسم.

الصوم يحرق الفضلات والقمامات المتراكمة في الجسم، وهو في الواقع عملية تطهير شاملة للبدن، اضافة إلى أنّه استراحة مناسبة لجهاز الهضم وتنظيف له.

عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «صوموا تصحّوا» «4».

وعنه صلى الله عليه و آله أيضاً «المعدة بيت كل داء والحمية رأس كل دواء»

«5».

2- الصوم في الامم السابقة: يظهر من النصوص الموجودة في التوراة والإنجيل، أنّ

______________________________

(1) بحار الأنوار 93/ 256.

(2) بحار الأنوار 93/ 252.

(3) وسائل الشيعة 7/ 3 (أوّل كتاب الصوم).

(4) بحار الأنوار 93/ 255.

(5) بحار الأنوار 59/ 290.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 145

الصوم كان موجوداً بين اليهود والنصارى، وكانت الامم الاخرى تصوم في أحزانها ومآسيها.

ويظهر من التوراة أنّ موسى عليه السلام صام أربعين يوماً، و كان اليهود يصومون لدى التوبة والتضرع إلى اللَّه. السيد المسيح عليه السلام صام أيضاً أربعين يوماً كما يظهر من «الإنجيل».

بهذا نستطيع أن نجد في نصوص الكتب الدينية القديمة (حتى بعد تحريفها) شواهد على ما جاء في القرآن الكريم: «كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ».

3- امتياز شهر رمضان: هذا الشهر- إنّما اختير شهراً للصوم- لأنّه يمتاز عن بقية الشهور. والقرآن الكريم بيّن مزية هذا الشهر في الآية الكريمة بأنّه «الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ».

وفي الروايات الإسلامية أنّ كل الكتب السماوية: «التوراة» و «الإنجيل» و «الزبور» و «الصحف» و «القرآن» نزلت في هذا الشهر، فهو إذن شهر تربية وتعليم.

4- قاعدة «لا حرج»: آيات بحثنا فيها إشارة إلى أنّ اللَّه يريد بالناس اليسر ولا يريد بهم العسر، وهذه الإشارة تدور طبعاً هنا حول موضوع الصوم وفوائده وحكم المسافر والمريض، لكن اسلوبها العام يجعلها قاعدة تشمل كل الأحكام الإسلامية، ويصيّر منها سنداً لقاعدة «لا حرج» المعروفة.

هذه القاعدة تقول: لا تقوم قوانين الإسلام على المشقة، وإن أدّى حكم إسلامي إلى حرج ومشقة، فإنّه يرفع عنه مؤقتاً، ولذلك أجاز الفقهاء التيمم لمن يشق عليه الوضوء، والصلاة جلوساً لمن يشق عليه الوقوف.

وَ إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ

(186)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: إنّ سائلًا سأل النبي صلى الله عليه و آله أقريب ربّنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزلت الآية.

التّفسير

سلاح اسمه الدعاء: بعد أن ذكرت الآيات السابقة مجموعة هامة من الأحكام الإسلامية،

مختصر الامثل، ج 1، ص: 146

تناولت هذه الآية موضوع الدعاء باعتباره أحد وسائل الإرتباط بين العباد والمعبود سبحانه. هذه الآية تخاطب النبي صلى الله عليه و آله وتقول: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنّى فَإِنّى قَرِيبٌ».

إنّه أقرب مما تتصورون، أقرب منكم إليكم، بل «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» «1».

ثم تقول الآية: «أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ». إذن «فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ».

ويلفت النظر في الآية، أنّ اللَّه سبحانه أشار إلى ذاته المقدسة سبع مرات، وأشار إلى عباده سبعاً! مجسداً بذلك غاية لطفه وقربه وإرتباطه بعباده.

الدعاء نوع من العبادة والخضوع والطاعة، والإنسان- عن طريق الدعاء- يزداد إرتباطاً باللَّه تعالى، وكما أنّ كل العبادات ذات أثر تربوي كذلك الدعاء له مثل هذا الأثر.

والقائلون أنّ الدعاء تدخّل في أمر اللَّه وأنّ اللَّه يفعل ما يشاء، لا يفهمون أنّ المواهب الإلهية تغدق على الإنسان حسب استعداده وكفاءته ولياقته، وكلما ازداد استعداده ازداد ما يناله من مواهب.

في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّ عند اللَّه عزّ وجلّ منزلة لا تنال إلّابمسألة».

ويقول أحد العلماء: «حينما ندعو فإنّنا نربط أنفسنا بقوّة لا متناهية تربط جميع الكائنات مع بعضها» «2».

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ ابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا

الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَ لَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)

______________________________

(1) سورة ق/ 16.

(2) آئين زندگي (فارسي)/ 156.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 147

سبب النّزول

روي في تفسير مجمع البيان أنّ الأكل كان محرّماً في شهر رمضان بالليل بعد النوم، وكان النكاح حراماً بالليل والنهار في شهر رمضان، وكان رجل من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقال له مطعم بن جيبر ... شيخاً ضعيفاً، وكان صائماً، فأبطأت عليه أهله بالطعام فنام قبل أن يفطر، فلمّا انتبه قال لأهله: قد حُرّم عليّ الأكل في هذه الليلة. فلمّا أصبح حضر حفر الخندق فاغمي عليه، فرآه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فرقّ له.

وكان قوم من الشباب ينكحون بالليل سرّاً في شهر رمضان، فأنزل اللَّه هذه الآية فأحلّ النكاح بالليل في شهر رمضان، والأكل بعد النوم إلى طلوع الفجر.

التّفسير

رخصة في أحكام الصوم: مر بنا في سبب نزول الآية أنّ النكاح كان محرماً في ليالي شهر رمضان إضافة إلى نهاره، وأنّ الأكل والشرب كانا محرمين في الليل أيضاً بعد النوم، ولعل ذلك كان اختباراً للجيل الإسلامي الأول وإعداداً له كي يتقبل أحكام الصوم الثابتة. الآية الكريمة تتضمن أربعة أحكام إسلامية في حقل الصوم والإعتكاف. تقول أوّلًا: «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ» «1».

ثم تذكر الآية سبب الحكم فتقول: «هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ».

واللباس يحفظ الجسم من الحر والبرد وأنواع الأخطار من جهة، ويستر عيوب الجسم من جهة اخرى، أضف إلى أنّه زينة للإنسان، وتشبيه الزوج باللباس يشمل كل هذه الجوانب.

ثم يبين القرآن سبب تغيير هذا القانون الإلهي ويقول: «عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ

تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ». فاللَّه سبحانه وسّع عليكم الأمر وخففه، وجعل فيه رخصة بلطفه ورحمته، كي لا تتلوثوا بالذنوب.

«فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ».

ثم تبين الآية الحكم الثاني وتقول: «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ».

وتبين الآية الحكم الثالث: «ثُمَّ أَتِمُّوا الصّيَامَ إِلَى الَّيلِ».

______________________________

(1) «الرفث»: هو الحديث المكشوف عن المسائل الجنسية، واستعير لمعنى الجماع كما في الآية.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 148

هذه الجملة تأكيد على حظر الأكل والشرب والنكاح في أيام شهر رمضان للصائمين، وتشير إلى أنّ الحظر يبدأ من طلوع الفجر وينتهي عند الليل.

تطرح الآية بعد ذلك الحكم الرابع وتقول: «وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِى الْمَسَاجِدِ». هذا الحكم يرتبط بالاعتكاف، وهو شبيه بالاستثناء من الحكم السابق، ففي الاعتكاف الذي لا تقلّ مدته عن ثلاثة أيام، لا يحق للمعتكف الصائم أن يباشر زوجته لا في الليل ولا في النهار.

في ختام الآية عبارة تشير إلى كل ما ورد فيها من أحكام تقول: «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا». لأنّ الإقتراب من الحدود يبعث على الوسوسة، وقد يدفع الإنسان إلى تجاوز الحدود والوقوع في الذنب.

نعم، «كَذلِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ ءَايَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ».

التقوى هي الأوّل والآخر: في أول آية ترتبط بأحكام الصوم ورد ذكر التقوى على أنّها الهدف النهائي للصوم، وفي آخر آية أيضاً وردت عبارة «لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» وهذا يؤكد أنّ كل مناهج الإسلام وسيلة لتربية الروح والتقوى والفضيلة والإرادة والإحساس بالمسؤولية.

وَ لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) المبادي ء الأوّلية للإقتصاد الإسلامي: هذه الآية الكريمة تشير إلى أحد الاصول المهمة والكلية للاقتصاد الإسلامي الحاكمة على مجمل المسائل الاقتصادية،

بل يمكن القول إنّ جميع أبواب الفقه الإسلامي في دائرة الاقتصاد تدخل تحت هذه القاعدة وهو قوله تعالى: مختصر الامثل ج 1 169

«وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ».

إنّ مفهوم الآية عام يستوعب كل تصرف في أموال الآخرين من غير الطريق المشروع مشمولًا لهذا النهي الإلهي، وكذلك فإنّ جميع المعاملات التي لا تتضمن هدفاً سليماً ولا ترتكز على أساس عقلائي فهي مشمولة لهذه الآية.

والملفت للنظر أنّ بعض المفسرين قالوا: إنّ جعل هذه الآية مورد البحث بعد آيات الصوم (آيات 182- 187) علامة على وجود نوع من الإرتباط بينهما، فهناك نهي عن الأكل والشرب من أجل أداء عبادة إلهيّة، وهنا نهي عن أكل أموال الناس بالباطل الذي يعتبر أيضاً نوع من الصوم ورياضة للنفوس، فهما في الواقع فرعان لأصل التقوى. تلك

مختصر الامثل، ج 1، ص: 149

التقوى التي وردت في الآية بعنوان الهدف النهائي للصوم «1».

إنّ التعبير ب (الأكل) يعطي معنىً واسعاً حيث يشمل كل أنواع التصرفات، أي أنّه تعبير كنائي عن أنواع التصرّفات، و (الأكل) هو أحد المصاديق البارزة له.

ثم يشير في ذيل الآية إلى نموذج بارز لأكل المال بالباطل والذي يتصور بعض الناس أنّه حق وصحيح لأنّهم أخذوه بحكم الحاكم فيقول: «وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ».

وباء الرشوة: من الأوبئة الاجتماعية التي ابتلي بها البشر منذ أقدم العصور وباء الإرتشاء، وكانت هذه الظاهرة المرضيّة دوماً من موانع إقامة العدالة الاجتماعية ومن عوامل جرّ القوانين لصالح الطبقات المقتدرة، بينما سُنت القوانين لصيانة مصالح الفئات الضعيفة من تطاول الفئات القوية عليهم.

ولهذا شدد الإسلام على مسألة الرشوة وأدانها وقبّحها واعتبرها من الكبائر.

جدير بالذكر أنّ قبح الرشوة قد يدفع بالراشين إلى أن يغطّوا رشوتهم بقناع

من الأسماء الاخرى كالهدية ونظائرها، ولكن هذه التغطية لا تغيّر من ماهية العمل شيئاً، والأموال المستحصلة عن هذا الطريق محرمة غير مشروعة.

وهذا «الأشعث بن قيس» يتوسل بهذه الطريقة، فيبعث حلوى لذيذة إلى بيت أمير المؤمنين علي عليه السلام أملًا في أن يستعطف الإمام تجاه قضيةٍ رفعها إليه، ويسمي ما قدّمه هدية، فيأتيه جواب الإمام صارماً قاطعاً، قال عليه السلام: «هبلتك الهبول، أعن دين اللَّه أتيتني لتخدعني؟ ... واللَّه لو اعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي اللَّه في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته وإنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها ما لعليّ ولنعيم يفنى ولذة لا تبقى «2».

ذم الإسلام الرشوة حتى أنّ أحد الولاة تسلم بعنوان هدية فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «هلا جلست في دارك لتأتيك هدية»؟ «3»

أين المسلمين اليوم من هذه التعاليم الدقيقة الصارمة الهادفة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية بشكل حقيقي عملي في الحياة؟!

______________________________

(1) تفسير في ظلال القرآن 1/ 252.

(2) نهج البلاغة، الخطبة 224.

(3) الإمام علي عليه السلام صوت العدالة الإنسانية 1/ 184.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 150

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَ الْحَجِّ وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)

سبب النّزول

روي في تفسير مجمع البيان أنّ معاذ بن جبل قال: يا رسول اللَّه! إنّ اليهود يكثرون مسألتنا عن الأهلّة. فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية، لتقول إنّ للأهلّة فوائد مادية ومعنوية في نظام الحياة الإنسانية.

التّفسير

كما اتضح من سبب نزول هذه الآية الشريفة من أنّ جماعة سألوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن

الهلال وما يحصل عليه من تغييرات متدرجة وعن أسبابها ونتائجها، فيجيب القرآن الكريم على سؤالهم بقوله: «يَسَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ». «أهلّة»: جمع «هلال» ويعني القمر في الليلة الاولى والثانية من الشهر.

ثم تقول الآية: «قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجّ».

فما يحصل عليها من تغييرات منتظمة تدريجية، يجعل منها تقويماً طبيعياً يساعد الناس على تنظيم امورهم الحَيَويّة القائمة على التوقيت وتحديد الزمن، وكذلك على تنظيم امور عباداتهم المحددة بزمان معين كالحج والصوم، والهلال هو المرجع في تعيين هذا الزمان، وبالاستهلال ينظّم الناس امور عبادتهم وشؤون دنياهم.

من امتيازات قوانين الإسلام أنّ أحكامه قائمة عادةً على المقاييس الطبيعية لأنّ هذه المقاييس متوفرة لدى جميع الناس، ولا يؤثر عليها مرور الزمان شيئاً.

ثم إنّ القرآن أشار في ذيل هذه الآية وبمناسبة الحديث عن الحج وتعيين موسمه بواسطة الهلال الذي ورد في أول الآية، إلى إحدى عادات الجاهليين الخرافية في مورد الحج ونهت الآية الناس عن ذلك، حيث تقول: «وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».

وهذه الآية لها معنىً أوسع وأشمل، وذلك أنّ الإنسان عندما يقدم على أي عمل من

مختصر الامثل، ج 1، ص: 151

الأعمال سواء كان دينياً أو دنيوياً لابد له من أن يرده من طريق صحيح لا من الطرق المنحرفة، فالعبادة في الحج أيضاً لابد أن يبتدأ الإنسان بها في الوقت المقرر وتعيينه بواسطة الهلال.

جملة «وَلَيْسَ الْبِرُّ» يمكنها أن تكون إشارة إلى نكتة لطيفة اخرى أيضاً وهي أنّ سؤالكم عن الأهلّة بدل سؤالكم عن المعارف الدينية بمثابة مَن يترك الدخول إلى داره من الباب الأصلي ثم يرده من ظهر البيت فهو عمل مستقبح ومستهجن.

أسئلة مختلفة من رسول اللَّه صلى الله

عليه و آله: وردت في (15) مورد من الآيات القرآنية جملة «يسئلونك» وهذه علامة على أنّ الناس يسألون من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مسائل مختلفة كراراً ومراراً، والملفت للنظر أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مضافاً إلى أنّه لا ينزعج من هذه الأسئلة، فإنّه يستقبلهم بصدر رحب، ويجيب على أسئلتهم من خلال الآيات القرآنية.

إنّ السؤال هو أحد حقوق الناس في مقابل القادة، وهذا الحق مشروع حتى للأعداء أيضاً، فبإمكانهم طرح اسئلتهم بشكل معقول. فالسؤال مفتاح حل المشكلات. والسؤال بوّابة العلوم. والسؤال وسيلة انتقال المعارف المختلفة.

وأساساً فإنّ طرح الأسئلة المختلفة في كل مجتمع علامة على التحرك الفكري والحضاري والثقافي للناس، ووجود كل هذه الأسئلة في عصر النبي صلى الله عليه و آله هو علامة على تحرك أفكار الناس في ذلك المحيط ضمن تعليمات القرآن الكريم والدين الإسلامي.

وَ قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَ لَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَ لَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَ قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: هذه أوّل آية نزلت في القتال، فلمّا نزلت كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقاتل من قاتله ويكفّ عمّن كفّ عنه حتى نزلت «اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم» الذي أجاز جهاد وقتال جميع المشركين.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 152

التّفسير

القرآن أمر في هذه الآية الكريمة بمقاتلة الذين يشهرون السلاح بوجه

المسلمين. تقول الآية: «وَقَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم».

عبارة «فِى سَبِيلِ اللَّهِ» توضّح الهدف الأساسي من الحرب في المفهوم الإسلامي، فالحرب ليست للإنتقام ولا للعلو في الأرض والتزعم، ولا للاستيلاء على الأراضي، ولا للحصول على الغنائم، وهذا الهدف المقدس يضع بصماته على جميع أبعاد الحرب في الإسلام ويصبغ كيفيّة الحرب وكميّتها ونوع السلاح والتعامل مع الأسرى وأمثال ذلك بصبغة «في سبيل اللَّه».

ثم توصي الآية الشريفة بضرورة رعاية العدالة حتى في ميدان القتال وفي مقابل الأعداء وتقول: «وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ».

أجل، فالحرب في الإسلام للَّه وفي سبيل اللَّه، ولا يجوز أن يكون في سبيل اللَّه اعتداء ولا عدوان، لذلك يوصي الإسلام برعاية كثير من الاصول الخلقية في الحرب، وهو ما تفتقر إليه حروب عصرنا أشد الإفتقار.

الإمام عليّ عليه السلام يقول لأفراد جيشه وذلك قبل شروع القتال في صفين: «لا تقاتلوهم حتى يبدؤوكم فإنّكم بحمد اللَّه على حجة، وترككم إياهم حتى يبدؤوكم حجة اخرى لكم عليهم. فإذا كانت الهزيمة بإذن اللَّه فلا تقتلوا مدبراً ولا تُصيبوا مُعوراً ولا تجهزوا على جريح، ولا تهيجوا النّساء بأذًى وإن شتمن أعراضكم وسببن امراءكم» «1».

في الآية التالية التي تعتبر مكملة للأمر الصادر في الآية السابقة تتحدث هذه الآية بصراحة أكثر وتقول: إنّ هؤلاء المشركين هم الذين أخرجوا المؤمنين من ديارهم وصبّوا عليهم ألوان الأذى والعذاب، فيجب على المسلمين أن يقتلوهم أينما وجدوهم، وأنّ هذا الحكم هو بمثابة دفاع عادل ومقابلة بالمثل، لأنّهم قاتلوكم وأخرجوكم من مكة «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ».

ثم يضيف اللَّه تعالى: «وَالفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ».

«الفتنة»: من «فَتْن» تعني وضع الذهب في النار للكشف عن درجة جودته وإصالته،

______________________________

(1) نهج البلاغة، الرسالة 14.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 153

فلهذا

استعملت في كل مورد يكون فيه نوع من الشدة، مثل الامتحان الذي يقترن عادةً بالشدة ويتزامن مع المشكلات، والعذاب أيضاً نوع آخر من الشدة، وكذلك المكر والخديعة التي تُتّخذ عادةً بسبب أنواع الضغوط والشدائد، وكذلك الشرك وإيجاد المانع في طريق إيمان الناس حيث يتضمن كل ذلك نوع من الشدة والضغط.

وأنّ عبادة الأوثان وما يتولد منها من أنواع الفساد الفردي والاجتماعي كانت سائدة في أرض مكة المكرمة حيث لوّثت بذلك الحرم الإلهي الآمن، فكان فسادها أشد من القتل فلذلك تقول هذه الآية مورد البحث مخاطبةً المسلمين: لا ينبغي لكم ترك قتال المشركين خوفاً من سفك الدماء فإنّ عبادة الأوثان أشد من القتل.

ثم تشير الآية إلى مسألة اخرى في هذا الصدد فتقول: إنّ على المسلمين أن يحترموا المسجد الحرام دائماً وأبداً، ولذلك لا ينبغي قتال الكفار عند المسجد الحرام، إلّاأن يبدؤكم بالقتال «وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ».

«فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ». لأنّهم عندما كسروا حرمة هذا الحرم الإلهي الآمن فلا معنى للسكوت حينئذ ويجب مقابلتهم بشدة لكي لا يسيئوا الاستفادة من قداسة الحرم وإحترامه.

ولكن بما أنّ الإسلام في منهجه التربوي للناس يقرن دائماً الإنذار بالبشارة معاً، والثواب والعقاب كذلك، لكي يؤثر في المسلمين تأثيراً سليماً، فلذلك فسح المجال في الآية التالية للعودة والتوبة فقال: «فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

الآية التالية تشير إلى هدف الجهاد في الإسلام وتقول: «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَاتَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ لِلَّهِ».

ثم تضيف: فإن ترك هؤلاء المشركون عقائدهم الباطلة وأعمالهم الفاسدة فلا تتعرضوا لهم «فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ».

وحسب الظاهر ذُكر في هذه الآية ثلاثة أهداف للجهاد وهي:

1- إزالة الفتنة.

2- محو الشرك وعبادة الأوثان.

3- التصدّي للظلم والعدوان.

مسألة الجهاد

في الإسلام: إنّ الحكّام الطواغيت والفراعنة وأمثالهم من النمروديين

مختصر الامثل، ج 1، ص: 154

والقارونيين الذين يعترضون دائماً على دعوة الأنبياء الإصلاحية ويقفون بوجهها ولا يرضون إلّابإزالة الدين الإلهي من الوجود يتضح أنّ على المؤمنين والمتدينين في الوقت الّذي يعتمدون على العقل والمنطق والأخلاق في تفاعلهم الإجتماعي مع الآخرين عليهم أن يتصدّوا لهؤلاء الظالمين والطّواغيت ويشقّوا طريقهم بالجهاد وتحطيم هذه الموانع والعوائق التي يقيمها حكّام الجور في طريقهم. وأساساً فإنّ الجهاد هو قانون عام في عالم الأحياء، فجميع الكائنات الحية تجاهد عوامل الفناء من أجل بقائها.

وإنّ من افتخاراتنا نحن المسلمين أنّ ديننا يقرن المسائل الدينية بالحكومة ويعتمد على الجهاد كأحد أركان المنظومة العقائدية لهذا الدين، غاية الأمر يجب ملاحظة أهداف هذا الجهاد الإسلامي، وهذا هو الذي يفصل بيننا وبين الآخرين.

وكما تقدم في الآيات أعلاه أنّ الجهاد في الإسلام يتعقب عدة أهداف مباحة:

1- الجهاد من أجل إطفاء الفتن: وبعبارة اخرى الجهاد الابتدائي من أجل التحرير، فنحن نعلم أنّ اللَّه عزّ وجلّ قد أنزل على البشرية شرائع وبرامج لسعادة البشر وتحريرهم وتكاملهم وإيصالهم إلى السعادة والرفاه، وأوجب على الأنبياء عليهم السلام أن يبلّغوا هذه الشرائع والإرشادات إلى الناس، فلو تصور أحد الأفراد أو طائفة من الناس أنّ إبلاغ هذه الشرائع للناس سوف يعيقه عن نيل منافعه الشخصية وسعى لإيجاد الموانع ووضع العصي في عجلات الدعوة الإلهية، فللأنبياء الحق في إزالة هذه الموانع بطريقة المسالمة أوّلًا وإلّا فعليهم استخدام القوة في إزالة هذه الموانع عن طريق الدعوة لنيل الحرية في التبليغ وليحرر الناس من قيود الأسر والعبودية الفكرية والاجتماعية.

2- الجهاد الدفاعي: إنّ جميع القوانين السماوية والبشرية تبيح للفرد أو الجماعة الدفاع عن النفس والاستفادة مما وسعهم من قوة في

هذا السبيل، ويسمى مثل هذا الجهاد ب (الجهاد الدفاعي) ومن ذلك غزوة الأحزاب واحد ومؤتة وتبوك وحنين ونظائرها من الحروب الإسلامية التي لها جنبة دفاعية.

3- الجهاد لحماية المظلومين: إنّ حماية المظلومين في مقابل عدوان الظالمين هو أصل في الإسلام يجب مراعاته، حتى لو أدّى الأمر إلى الجهاد واستخدام القوة، فالإسلام لا يرضى للمسلمين الوقوف متفرجين على ما يرد على المظلومين في العالم، وهذا الأمر من الأوامر المهمة في الشريعة الإسلامية المقدسة التي تحكي عن حقانية هذا الدين.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 155

4- الجهاد من أجل دحر الشرك وعبادة الأوثان: الإسلام يدعوا البشرية إلى اعتناق الدين الخاتم الأكمل وهو يحترم مع ذلك حرية العقيدة، وبذلك يُعطي أهل الكتاب الفرصة الكافية للتفكير في أمر إعتناق الرسالة الخاتمة، فإن لم يقبلوا بذلك فإنّه يعاملهم معاملة الأقلية المعاهدة (أهل الذمة) ويتعايش معهم تعايشاً سلميّاً ضمن شروط خاصة بسيطة وميسورة، لكن الشرك والوثنية ليسا بدين ولا عقيدة ولا يستحقان الإحترام، بل هما نوع من الخرافة والحمق والانحراف ونوع من المرض الفكري والأخلاقي الذي ينبغي أن يستأصل مهما كلّف الثمن.

ومما تقدم من ذكر أهداف الجهاد يتضح أنّ الإسلام أقام الجهاد على اسس منطقية وعقلية، ولكننا نعلم أنّ أعداء الإسلام وخاصة القائمون على الكنيسة والمستشرقين المغرضين سعوا كثيراً لتحريف الحقائق ضد مسألة الجهاد الإسلامي، واتّهموا الإسلام باستعمال الشدة والقوة والسيف من أجل تحميل الإيمان به وتهجمّوا كثيراً على هذا القانون الإسلامي.

والظاهر أنّ خوفهم وهلعهم إنّما هو من تقدم الإسلام المضطرد في العالم بسبب معارفه السّامية وبرنامجه السليم، ولهذا سعوا لإعطاء الإسلام صبغة موحشة كيما يتمكنوا من الوقوف أمام انتشار الإسلام.

الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَ الْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا

اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) احترام الأشهر الحُرم والمقابلة بالمثل: كان المشركون على علم بأنّ الإسلام يحضر الحرب في الأشهر الحرم (ذي القعدة وذي الحجة ومحرم ورجب) لذلك أرادوا أن يشنّوا هجوماً مباغتاً على المسلمين في هذه الأشهر الحُرم متجاهلين حرمتها ظانين أنّ المسلمين ممنوعون من المواجهة. الآية الكريمة تكشف مؤامرة المشركين وتحمّل المسلمين مسؤولية مواجهة العدوان حتى في الأشهر الحُرم فتقول الآية: «الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ». أي:

أنّ الأعداء لو كسروا حرمة واحترام هذه الأشهر الحُرم وقاتلوكم فيها فلكم الحق أيضاً في المقابلة بالمثل، لأنّ «وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 156

«حُرُمات»: جمع «حُرمة» وتعني الشي ء الذي يجب حفظه واحترامه، وقيل للحرم: حرم لأنّه مكان محترم ولا يجوز هتكه، ويقال الأعمال الممنوعة والقبيحة حرام لهذا السبب، كي لا تخامر أذهان المشركين فكرة انتهاك حرمة هذه الشهور.

ثم تشرّع الآية حكماً عاماً يشمل ما نحن فيه وتقول: «فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ».

فالإسلام- وخلافاً للمسيحية الحالية التي تقول (إذا لطمك شخص على خدّك الأيمن فأدِر له الأيسر) «1»- لا يقول بمثل هذا الحكم المنحرف الذي يبعث على جرأة المعتدي وتطاول الظالم، وحتّى المسيحيين في هذا الزمان لا يلتزمون مطلقاً بهذا الحكم أيضاً، ويردون على كل عدوان مهما كان قليلًا بعدوان أشد، وهذا أيضاً مخالف لدستور الإسلام في الرّد، فالإسلام يقول: يجب التصدّي للظالم والمعتدي، ويُعطي الحق للمظلوم والمُعتدى عليه المقابلة بالمثل، فالاستسلام في منطق الإسلام يعني الموت، والمقاومة والتصدّي هي الحياة.

وقوله تعالى «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» إشارة إلى أنّ اللَّه لا يهمل المتقي في خِضمّ المشكلات، بل يعينه ويرعاه.

وَ أَنْفِقُوا

فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) هذه الآية تكمّل ما مرّ من آيات الجهاد فكما أنّ الجهاد بحاجة إلى الرجال المخلصين والمجرّبين كذلك بحاجة إلى المال والثروة أي بحاجة إلى الاستعداد البدني والمعنوي والمعدّات الحربية، صحيح أنّ العامل الحاسم في تقرير مصير الحرب هو الرجال بالدرجة الاولى، ولكن الجندي بحاجة إلى أدوات الحرب (أعم من السلاح والأدوات ووسائل النقل والغذاء والوسائل الصحية) فإنّه بدونها لا يمكنه أن يفعل شيئاً. من هنا أوجب الإسلام تأمين وسائل الجهاد مع الأعداء، ومن ذلك ما ورد في الآية أعلاه حيث تأمر بصراحة: «وَأَنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ».

وهذا المعنى يتأكد خاصة في عصر نزول هذه الآيات حيث كان المسلمون في شوق شديد إلى الجهاد كما يحدّثنا القرآن عن اولئك الّذين أتوا النبي يطلبون منه السلاح ليشاركوا

______________________________

(1) انجيل متّى الباب 5، الرقم 39- 42.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 157

في ساحة الجهاد وإذ لم يجدوا ذلك عادوا مهمومين محزونين «تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ» «1».

فعبارة «وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» بالرغم من أنّها واردة في ترك الإنفاق في الجهاد الإسلامي، ولكن مفهومها واسع يشمل موارد اخرى كثيرة، منها أنّ الإنسان ليس له الحق في اتخاذ الطرق الخطرة للسفر (سواء من الناحية الأمنية أو بسبب العوامل الجوية أو غير ذلك) دون أن يتخذ لنفسه الاحتياطات اللازمة لذلك، كما لا يجوز له تناول الغذاء الذي يحتمل قوياً أن يكون مسموماً وحتى أن يرد ميدان القتال والجهاد دون تخطيط مدروس، ففي جميع هذه الموارد الإنسان مسؤول عن نفسه فيما لو ألقى بها في الخطر بدون عذر مقبول.

وتصور

بعض الجهلاء من أنّ كل ألوان الجهاد الابتدائي هو إلقاء النفس في التهلكة وحتى أنّهم أحياناً يعتبرون قيام سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء مصداق لهذه الآية، وهذا ناشى ء من الجهل المطبق وعدم درك مفهوم الآية الشريفة، لأنّ إلقاء النفس بالتهلكة يتعلق بالموارد التي لا يكون فيها الهدف أثمن من النفس وإلّا فلابد من التضحية بالنفس حفاظاً على ذلك الهدف المقدس كما صنع الإمام الحسين عليه السلام وجميع الشهداء في سبيل اللَّه كذلك.

وفي آخر الآية أمر بالإحسان ويقول: «وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ».

أمّا ما هو المراد بالإحسان هنا؟ فهناك عدة احتمالات في كلمات المفسرين، منها: أنّ المراد هو حسن الظن باللَّه (فلا تظنّوا أنّ إنفاقكم هذا يؤدي إلى الاختلال في معاشكم)، والآخر هو الاقتصاد والاعتدال في مسألة الإنفاق، واحتمال ثالث هو دمج الإنفاق مع حسن الخلق للمحتاجين بحيث يتزامن مع البشاشة وإظهار المحبة وتجنّب أي لون من ألوان المنة والأذى للشخص المحتاج، ولا مانع من أن يكون المراد في مفهوم الآية جميع هذه المعاني الثلاث.

الإنفاق مانع عن انهيار المجتمع: إنّ هذه الآية بالرغم من أنّها وردت في ذيل آيات الجهاد، ولكنها تبين حقيقة كلية واجتماعية، وهي أنّ الإنفاق بشكل عام سبب لنزاهة المجتمع من المفاسد المدمّرة، لأنّه حينما يترك أفراد المجتمع الإنفاق وتتراكم الثروة في أحد أقطاب

______________________________

(1) سورة التوبة/ 92.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 158

المجتمع تنشأ طبقة محرومة بائسة، ولا يلبث أن يحدث انفجار عظيم فيه يحرق الأثرياء وثروتهم ويتضح من ذلك إرتباط الإنفاق بابعاد التهلكة. ومن هنا فالإنفاق يعود بالخير على الأثرياء قبل أن يصيب خيره المحرومين، لأنّ تعديل الثروة يصون الثروة كما قال الإمام علي عليه السلام: «حصّنوا أموالكم بالزّكاة» «1».

وَ

أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَ لَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) بعض أحكام الحج المهمة: في هذه الآية ذُكرت أحكام كثيرة:

1- في مطلع الآية تأكيداً على أنّ أعمال العمرة والحج ينبغي أن تكون للَّه وطلب مرضاته فقط «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالعُمْرَةَ لِلَّهِ». من هنا لا ينبغي أن يشوب أعمال الحج نيّة اخرى غير الدافع الإلهي وكذلك الإتيان بالعمل العبادي هذا كاملًا وتاماً بمقتضى جملة «وَأَتِمُّوا».

2- ثم إنّ الآية تشير إلى الأشخاص الذين لا يحالفهم التوفيق لأداء مناسك الحج والعمرة بعد لبس ثياب الإحرام بسبب المرض الشديد أو خوف العدو وأمثال ذلك، فتقول:

«فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ». فمثل هذا الشخص عليه أن يذبح ما تيّسر له من الهدي ويخرج بذلك من إحرامه.

3- ثم إنّ الآية الشريفة تشير إلى أمر آخر من مناسك الحج فتقول: «وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُم حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ».

4- ثم تقول الآية: «فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ».

«نُسُك»: في الأصل جمع «نسيكة» بمعنى حيوان مذبوح، وهذه المفردة جاءت بمعنى

______________________________

(1) نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 146.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 159

العبادة أيضاً. هذا الاصطلاح يأتي في أعمال الحج و «نسيكة» بمعنى «ذبيحة».

إنّ مثل هذا الشخص مخيّراً بين ثلاث

امور (الصوم والصدقة أو ذبح شاة).

5- ثم تضيف الآية: «فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ».

وهذه إشارة إلى أنّه يجب الذبح في حج التمتع ولا فرق في هذا الهدي بين أن يكون من الإبل أو من البقر أو من الضّأن دون أن يخرج من الإحرام.

6- ثم إنّ الآية تبيّن حكم الأشخاص غير القادرين على ذبح الهدي في حج التمتع فتقول:

«فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلثَةِ أَيَّامٍ فِى الْحَجّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ». فعلى هذا فلو لم يجد الإنسان أضحيةً أو أنّ وضعه المالي لا يطيق ذلك فيجب عليه جبران ذلك بصيام عشرة أيام.

إنّ التعبير بكلمة (كاملة) إشارة إلى أنّ صوم الأيام العشرة يحلّ محل الهدي بشكل كامل، ولهذا ينبغي للحجاج أن يطمأنّوا لذلك وأنّ جميع ما يترتب على الأضحية من ثواب وبركة سوف يكون من نصيبهم أيضاً.

7- ثم إنّ الآية الشريفة تتعرض إلى بيان حكم آخر وتقول: «ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ». فعلى هذا لا يكون لأهل مكة أو الساكنين في أطرافها حج التمتع، فوظيفته حج القِران أو الإفراد (وتفصيل هذا الموضوع مذكور في الكتب الفقهية).

وبعد بيان هذه الأحكام السبعة تأمر الآية في ختامها بالتقوى وتقول: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ». ولعل هذا التأكيد يعود إلى أنّ الحج عبادة إسلامية هامة ولا ينبغي للمسلمين التساهل في أداء مناسكه وأنّ ذلك سيؤدّي إلى اضرار كثيرة، وأحياناً يسبّب فساد الحج وزوال بركاته المهمة.

بحثان

1- أهمية الحج بين الواجبات الإسلامية: يُعتبر الحج من أهم العبادات التي شُرّعت في الإسلام ولها آثار وبركات كثيرة جدّاً، فهو مصدر عظمة الإسلام وقوّة الدين واتحاد المسلمين، والحج هو الشعيرة العبادية التي ترعب

الأعداء وتضخ في كل عام دماً جديداً في شرايين المسلمين.

والحج هو تلك العبادة التي أسماها أمير المؤمنين عليه السلام ب (علم الإسلام وشعاره) وقال عنها في وصيته في الساعات الأخيرة من حياته: «اللَّه اللَّه في بيت ربّكم لا تُخَلّوه ما بقيتم فإنّه إن

مختصر الامثل، ج 1، ص: 160

تُرك لم تُناظَروا» «1». أي أنّ البلاء الإلهي سيشملكم دون إمهال. 2- أقسام الحج: لقد قسّم الفقهاء العظام وبإلهام من الآيات والأحاديث الشريفة عن النبي وآله: الحج إلى ثلاثة أقسام: حج التمتع، حج القِران، وحج الإفراد.

أمّا حج التمتع فيختص بمن كان على مسافة 48 ميلًا فصاعداً من مكة (16 فرسخ وما يعادل 96 كيلومتر تقريباً)، وأمّا حج القِران والإفراد فيتعلقان بمن كان أدنى من هذه الفاصلة. ففي حج التمتع يأتي الحاج بالعمرة أوّلًا، ثم يحلّ من إحرامه وبعد ذلك يأتي بمراسم الحج في أيامه المخصوصة، ولكن في حج القِران والإفراد يبدأ أوّلًا بأداء مراسم الحج، ثم بعد الانتهاء منها يشرع بمناسك العمرة مع تفاوت أنّ الحاج في حج القِران يأتي ومعه هديه، أمّا في حج الإفراد فلا هدي فيه.

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَ لَا فُسُوقَ وَ لَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَ مَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَ اتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَ اذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) تواصل هذه الآيات الشريفة بيان أحكام الحج وزيارة بيت اللَّه الحرام

وتقرر طائفة من التشريعات الجديدة:

1- تقول الآية: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ».

والمراد بهذه الأشهر: هي شوال، ذي القعدة، ذي الحجة.

2- ثم تأمر الآية الكريمة فيمن أحرم إلى الحج وشرع بأداء مناسك الحج وتقول: «فَمَن فَرَضَ فِيْهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِى الْحَجّ».

______________________________

(1) نهج البلاغة، الرسالة 47، (وصيّة الإمام لابنيه الحسن والحسين عليهما السلام).

مختصر الامثل، ج 1، ص: 161

«رفث»: بالأصل بمعنى الكلام والحديث المتضمن ذكر بعض الامور القبيحة أعم من الامور الجنسية أو مقدماتها، ثم بات كناية عن الجماع.

«فسوق»: بمعنى الذنب والخروج من طاعة اللَّه.

و «جدال»: تأتي بمعنى المكالمة المقرونة بالنزاع، وهي في الأصل بمعنى شدّ الحبل ولفّه، ومن هنا استعملت في الجدال بين اثنين، لأنّ كلّاً منهما يشدّ الكلام ويحاول إثبات صحة رأيه ونظره.

وهكذا ينبغي أن تكون أجواء الحج طاهرة من التمتعات الجنسية وكذلك من الذنوب والجدال العقيم وأمثال ذلك، لأنّها أجواء عبادية تتطلّب الإخلاص وترك اللذائذ المادية وتقتبس روح الإنسان من ذلك المحيط الطاهر قوة جديدة تسوقها إلى عالم آخر بعيداً عن عالم المادة، وفي نفس الوقت تقوي الالفة والإتحاد والإتفاق والاخوة بين المسلمين باجتناب كل ما ينافي هذه الامور.

3- بعد ذلك تعقب الآية وتبين المسائل المعنوية للحج وما يتعلق بالإخلاص وتقول:

«وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ».

وهذا أوّل لطف إلهي يناله الصالحون، فالمرحلة الاولى من لذّة الإنسان المؤمن هي إحساسه بأنّ ما يعمله في سبيل اللَّه إنّما هو بعين اللَّه، ويا لها لذة.

وتضيف الآية: «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى .

والعبارة تنطوي على توعية المسلمين بالنسبة لعطاء الحج المعنوي وتفتّح أبصارهم على ما في ساحة الحج من معان عميقة تشدّ الإنسان بتاريخ الرسل والأنبياء وبمشاهد تضحية إبراهيم بطل التوحيد، وبمظاهر عظمة اللَّه سبحانه ممّا لا

يوجد في مكان آخر، ولابد للحاج أن يستلهم من هذه الساحه زاداً يعينه على مواصلة مسيرته نحو اللَّه فيما بقي من عمره.

«وَاتَّقُونِ يَا أُولِى الْأَلْبَابِ».

الآية التالية ترفع بعض الإشتباهات في مسألة الحج وتقول: «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبّكُمْ».

لقد كان التعامل الاقتصادي بكافة ألوانه محضوراً في موسم الحج عند الجاهليين، وكانوا يعتقدون ببطلان الحج إذا اقترن بالنشاط الاقتصادي، فالآية مورد البحث تعلن بطلان هذا الحكم الجاهلي وتؤكد أنّه لا مانع من التعامل الاقتصادي والتجاري في موسم الحج،

مختصر الامثل، ج 1، ص: 162

وتسمح بابتغاء فضل اللَّه في هذا الموسم عن طريق العمل والكد. وهذا مضافاً إلى أنّ سفر المسلمين من كل فجّ عميق إلى بيت اللَّه الحرام لعقد مؤتمر الحج العظيم يستطيع أن يكون منطلقاً لتحرك اقتصادي عام في المجتمعات الإسلامية.

ثم تعطف الآية الشريفة على ما تقدم من مناسك الحج وتقول: «فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَيكُمْ وَإِن كُنتُم مِّنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالّينَ».

ثم تقول الآية في حديثها هذا: «ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ». فهذا المقطع يتضمّن أمراً بالإفاضة أي بالإندفاع والحركة من المشعر الحرام إلى أرض مِنى.

ففي نهاية الآية تُعطي أمراً بالاستغفار والتوبة وتقول: «وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

ففي هذا المقطع من الآيات إشارة إلى ثلاث مواقف من مواقف الحج (عرفات) وهي صحراء وتقع على بعد 20 كيلومتراً تقريباً من مكّة، ثم الوقوف ب (المشعر الحرام أو المزدلفة) والثالث أرض (منى وهي محل ذبح الأضاحي ورمي الجمرات وحلّ الإحرام وأداء مناسك العيد.

بحثان

1- أوّل موقف للحجيج: تقدم أنّ حجاج بيت اللَّه الحرام يتجهون بعد أداء مناسك العمرة نحو أداء مناسك الحج، وأوّل موقف يقفون فيه هو في

«عرفات»، وفي سبب تسمية هذه الأرض بهذا الاسم هي أنّ هذه الأرض المشرفة التي تبدأ منها اولى مراحل الحج محيط مناسب جدّاً لمعرفة اللَّه تعالى. والحاج في هذا الموقف يشعر حقّاً بانشداد روحي ومعنوي لا يمكن التعبير عنه بالكلمات.

الحجيج في هذه الأرض القاحلة متجمعون بشكل واحد وبزيّ واحد، قد هربوا من بريق الحياة وزخرفها وصخبها وضجيجها ولاذوا بهذه الأرض المشرفة المفعمة بذكريات الرسالات السماوية، حيث يحمل نسيمها نداء جبرائيل وصوت الخليل ودعوة النبي الخاتم صلى الله عليه و آله وصحبه المجاهدين، وتنطق أرضها بصور الجهاد والتضحية والإنقطاع إلى اللَّه على مرّ التاريخ، كأنّ هذه الأرض نافذة تشرف على عالم ما وراء الطبيعة، يرتوي فيها الإنسان من منهل العرفان، وينساق مع تسبيح الخليقة العام، بل يعود أيضاً إلى ذاته التي انفصل عنها زمناً طويلًا فيعرف نفسه، نعم إنّها «عرفات» وما أجمل هذا الاسم!

2- درس الوحدة والاتحاد: جاء في بعض الروايات الشريفة أنّ قبائل قريش كانت

مختصر الامثل، ج 1، ص: 163

ترى لنفسها مكانة دينية خاصة بين العرب، ومن هنا فإنّهم تركوا الوقوف في عرفات لأنّها خارج الحرم المكي.

الآية الكريمة تبطل كل هذه الأوهام وتأمر بوقوف الحجاج جميعاً في عرفات، ثم التحرك منها نحو المشعر الحرام.

والأمر بالاستغفار في ختام الآية حثّ على ترك تلك الأوهام والأفكار الجاهلية، والإتجاه نحو تعلّم دروس الحج في المساواة.

فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان روى عن الإمام الباقر عليه السلام: إنّ الجاهليين كانوا إذا فرغوا من الحج، يجتمعون هناك، ويعدّون مفاخر آبائهم ومآثرهم ويذكرون أيّامهم القديمة وأياديهم الجسمية، فأمرهم سبحانه أن يذكروه مكان ذكرهم آباءهم في هذا الموضع.

التّفسير

هذه الآيات تواصل الأبحاث المتعلقة بالحج في الآيات السابقة. الآية الاولى من الآيات محل البحث تقول: «فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا».

وليس المراد من هذه العبارة أنّكم اذكروا أسلافكم وأذكروا اللَّه كذلك، بل هو إشارة إلى هذه الحقيقة بأنّكم تذكرون أسلافكم من أجل بعض الخصال والمواهب الحميدة، فلماذا لا تذكرون اللَّه تعالى ربّ السماوات والأرض والرازق والواهب لجميع هذه النعم في العالم وهو منبع ومصدر جميع الكمالات وصفات الجلال والجمال.

«ذكر اللَّه» في هذه الآية يشمل جميع الأذكار الإلهية بعد أداء مناسك الحج.

بعد ذلك يوضّح القرآن طبيعة مجموعتين من الناس وطريقة تفكيرهم ... مجموعة لا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 164

تفكر إلّابمصالحها المادية ولا تتجّه في الدعاء إلى اللَّه إلّامن هذه المنطلقات المادية فتقول:

«فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى الْأَخِرَةِ مِنْ خَلقٍ». والمجموعة الثانية تتحدث عنهم الآية بقولها: «وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الْأَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ».

وهذه الفقرات من الآيات محل البحث تشير إلى هاتين الطائفتين وأنّ الناس في هذه العبادة العظيمة على نوعين.

أمّا ما المراد من «الحسنة»؟ فقد ورد في تفسير مجمع البيان عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال:

«من اوتي قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً وزوجة مؤمنة تعينه على أمر دنياه واخراه فقد اوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ووُقي عذاب النار».

وواضح أنّ الحسنة هذا له مفهوم واسع بحيث يشمل جميع المواهب

المادية والمعنوية، وما ورد في الرواية أعلاه فهو بيان لأبرز المصاديق لا حصر الحسنة بهذه المصاديق.

وفي آخر آية إشارة إلى الطائفة الثانية (الذين طلبوا من اللَّه الحسنة في الدنيا والآخرة) فتقول: «أُوَلئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ».

وفي الحقيقة هذه الآية تقع في النقطة المقابلة للجملة الأخيرة من الآية السابقة «وَمَا لَه فِى الْأخِرَةِ مِن خَلقٍ».

وَ اذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) هذه الآية آخر آية وردت في بيان مناسك الحج وإبطال السنن الجاهلية في المفاخرات الموهومة بالنسبة للأسلاف فتوصي المسلمين (بعد مراسم العيد) أن يذكروا اللَّه تعالى:

«وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ».

أمّا المراد من «أذكار» فقد ورد في الأحاديث الإسلامية أنّها تعني تلاوة التكبيرات التالية بعد خمسة عشرة صلاة في هذه الأيام (ابتداء من صلاة الظهر من يوم العيد حتى صلاة الصبح من اليوم الثالث العشر) وهي «اللَّه أكبر اللَّه أكبر لا إله إلّااللَّه واللَّه أكبر اللَّه أكبر وللَّه

مختصر الامثل، ج 1، ص: 165

الحمد، اللَّه أكبر على ما هدانا، اللَّه أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام».

ثم تشير الآية إلى هذا الحكم الشرعي: «فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى . وهذا التعبير إشارة إلى نوع من التخيير في أداء ذكر اللَّه بين يومين أو ثلاثة أيام.

وفي نهاية الآية نلاحظ أمراً كليّاً بالتقوى حيث تقول الآية: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ».

يمكن أن تكون هذه الجملة إشارة إلى أنّ المناسك الروحانية في الحج تطهّر الإنسان من الذنوب السابقة كيوم ولدته امّه، ولكن عليكم تقوى

اللَّه والحذر من الوقوع في الذنب مرة اخرى.

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ يُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَ إِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ وَ اللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَ إِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَ لَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)

سبب النّزول

في تفسير روح المعاني: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي: أقبل إلى النبي صلى الله عليه و آله في المدينة فأظهر له الإسلام وأعجب النبي صلى الله عليه و آله ذلك منه وقال: إنّما جئت أريد الإسلام واللَّه تعالى يعلم إنّي لصادق. ثم خرج من عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فمر بزرع من المسلمين وحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر (وبهذا أظهر ما في باطنه من النفاق).

التّفسير

الآية الاولى تشير إلى بعض المنافقين حيث تقول: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ».

«ألد»: تأتي بمعنى ذو العداوة الشديدة؛ و «خصام»: لها معنىً مصدري وهو الخصومة والعداوة.

ثم تضيف الآية التالية بعض العلامات الباطنية لعداوة مثل هذا الإنسان وهي: «وَإِذَا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 166

تَوَلَّى سَعَى فِى الْأَرْضِ لِيُفسِدَ فِيهَا وَيُهلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَايُحِبُّ الْفَسَادَ». أجل لأنّ هؤلاء لو كانوا صادقين في إيمانهم وإظهارهم المحبة لما أفسدوا في الأرض مطلقاً، فبالرغم من أنّ ظاهرهم المحبة الخالصة إلّاأنّهم في الباطن أشد الناس قساوة ووحشية.

«حرث»: بمعنى الزراعة؛ «نسل»: بمعنى الأولاد وتُطلق أيضاً على أولاد الإنسان وغير الإنسان.

إنّ التعبير «يُهْلِكُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ» كلام مختصر وجامع لكل المصاديق حيث يشمل الإفساد والتخريب بالنسبة للأموال والنفوس في المجتمع البشري.

والآية

الاخرى تضيف: «وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ» «1». فتشتعل في قلبه نيران التعصب واللجاج وتجرّه إلى المعصية والإثم.

فمثل هذا الشخص لا يستمع إلى نصيحة الناصحين ولا يهتم للإنذارات الإلهية، بل يستمر على عناده وإرتكابه للآثام والمنكرات مغروراً، فلا يكون جزاؤه إلّاالنار، ولذلك يقول في نهاية الآية: «فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ».

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَ اللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)

سبب النّزول

روى الثعلبيّ في تفسيره: لمّا أراد النّبي صلى الله عليه و آله الهجرة إلى الغار خلّف عليّاً عليه السلام لقضاء ديونه وردّ الودائع التي كانت عنده، وأمره ليلة خروج إلى الغار وقد أحاط المشركون بالدار وقال له: «يا عليّ! اتّشح ببردي الحضرمي ثم نم على فراشي فإنّه لا يخلص إليك منهم مكروه إن شاء اللَّه تعالى». ففعل ما أمره، فأوحى عزّ وجلّ إلى جبرئيل وميكائيل: أنّي قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر فأيّكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كل منهما الحياة فأوحى اللَّه عزّ وجلّ إليهما: ألا كنتما مثل عليّ بن أبي طالب آخيت بينه وبين محمّد فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه. فنزلا فكان

______________________________

(1) «العزّة»: في مقابل الذلّة في الأصل، ولكن هنا ورد بمعنى الغرور والنخوة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 167

جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبرئيل يقول: بخّ بخّ مَن مثلك يا بن أبي طالب؟ يُباهي اللَّه تبارك وتعالى بك ملائكته. فأنزل اللَّه عزّ وجلّ على رسوله وهو متوجّه إلى المدينة في شأن علي بن أبي طالب عليه السلام: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ» الآية. (ولهذا سُمّيت هذه الليلة التاريخية بليلة المبيت).

ويقول (أبو جعفر الإسكافي) كما جاء

في شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المجلد 3 الصفحة 270: «إنّ حديث الفراش قد ثبت بالتواتر فلا يجحده إلّامجنون أو غير مخالط لأهل الملّة».

التّفسير

بالرغم من أنّ الآية محل البحث تتعلق كما ورد في سبب النزول بحادثة هجرة النبي صلى الله عليه و آله وتضحية الإمام علي عليه السلام ومبيته على فراش النّبي، ولكنّ مفهومها ومحتواها الكلي- كما في سائر الآيات القرآنية- عام وشامل، وأنّها تقع في النقطة المقابلة للآيات السابقة التي تتحدّث عن المنافقين. تقول الآية: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ».

إنّ جملة «وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ» قد تكون إشارة إلى أنّ اللَّه عزّ وجلّ في الوقت الذي هو رحيم ورؤوف بالعباد هو الّذي يشري الأنفس بأغلى الأثمان وهو رضوان اللَّه تعالى عن الإنسان.

ومما يستلفت النظر أنّ البائع هو الإنسان، والمشتري هو اللَّه تعالى، والبضاعة هي النفس، وثمنها هو رضوان اللَّه تعالى، في حين نرى في موارد اخرى أنّ ثمن مثل هذه المعاملات هو الجنة الخالدة والنجاة من النار.

فهذه الآية ومع الإلتفات إلى سبب النزول المذكور آنفاً تُعد أعظم الفضائل للإمام علي عليه السلام الواردة في اكثر المصادر الإسلامية.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَ لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) بعد الإشارة إلى الطائفتين (المؤمنين المخلصين والمنافقين المفسدين) في الآيات السابقة

مختصر الامثل، ج 1، ص: 168

تدعو هذه الآيات الكريمة كل المؤمنين إلى السّلم والصلح وتقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ادْخُلُوا فِى السّلْمِ كَافَّةً». يستفاد من مفهوم هذه الآية أنّ السلام لا يتحقق إلّافي ظل الإيمان.

واضح أنّ الاطر المادية الأرضية (من اللغة والعنصر و

...) هي عوامل تفرقة بين أفراد البشر وبحاجة إلى حلقة إتصال محكمة تربط بين قلوب الناس.

ويسلّموا لجميع ثم تضيف الآية: «وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ».

«خطوات»: جمع «خطوة» وهنا تكررت هذه الحقيقة من أنّ الانحراف عن الصلح والعدالة، والتسليم لإرادة الأعداء ودوافع العداوة والحرب وسفك الدماء يبدأ من مراحل بسيطة وينتهي بمراتب حادة وخطرة.

وتتضمن جملة «إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ» برهاناً ودليلًا حيّاً حيث تقول أنّ عداء الشيطان للإنسان ليس بأمر خفي مستتر، فهو منذ بداية خلق آدم أقسم أن يبذل جهده لإغواء جميع البشر إلّاالمخلصين الّذين لا ينالهم مكر الشيطان، فمع هذا الحال كيف يمكن التغافل عن وسوسة الشيطان.

الآية التالية إنذار لجميع المؤمنين حيث تقول: «فَإن زَلَلْتُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ». فلو انحرفتم وسرتم مع وساوس الشيطان على خلاف مسار الصلح والسلام فإنّكم لا تستطيعون بذلك الفرار من العدالة الإلهية.

المنهج بيّن والطريق بيّن والهدف بيّن، ومعلوم من هنا لا عذر لمن يزل عن الطريق، فلو انحرفتم فأنتم المقصرون، فاعلموا أنّ اللَّه قادر حكيم لا يستطيع أحد أن يفرّ من عدالته.

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَ الْمَلَائِكَةُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) قد يبدو للوهلة الاولى أنّ في هذه الآية الكريمة نوعاً من الإبهام والتعقيد، لكن ذلك يزول عند إمعان النظر بتعبيراتها. الآية تخاطب الرسول صلى الله عليه و آله وتقول: «هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن

مختصر الامثل، ج 1، ص: 169

يَأتِيَهُمُ اللَّهُ فِى ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلِكَةُ وَقُضِىَ الْأَمْرُ» «1».

والمراد من جملة «قضي الأمر» الوارد في الآية هى نزول العذاب الإلهي على الكفار المعاندين لأنّ ظاهر الآية يتعلق بهذه الحياة

الدنيا.

وفي نهاية الآية تقول: «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» الامور المتعلقة بإرسال الأنبياء ونزول الكتب السماوية وتبيين حقائق يوم القيامة والحساب والجزاء والثواب والعقاب وكلها تعود إليه.

استحالة رؤية اللَّه: لا شك أنّ الرؤية الحسية لا تكون إلّاللأجسام التي لها لون ومكان وتأخذ حيّز من الفراغ، فعلى هذا لا معنى لرؤية اللَّه تعالى الذي هو فوق الزمان والمكان.

إنّ الذات المقدسة يستحيل رؤيتها بهذه العين لا في الدنيا ولا في الآخرة، والأدلة العقلية على هذه المسألة واضحة إلى درجة أنّه لا حاجة لشرحها وبيانها.

وطبعاً لا شك في إمكانية رؤية اللَّه تعالى بعين القلب، سواء في هذه الدنيا أو في عالم آخر، ومن المسلم أنّ ذاته المقدسة في يوم القيامة لها ظهور أقوى وأشد من ظهورها في هذا العالم مما يستدعي أن تكون المشاهدة أقوى.

سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) تشير هذه الآية إلى أحد مصاديق الآيات السابقة، لأنّ الحديث في الآيات السابقة كان يدور حول المؤمنين والكافرين والمنافقين، وأنّ الكافرين كانوا يتجاهلون آيات اللَّه وبراهينه الواضحة ويتذرعون بمختلف الحجج والمعاذير، وبني إسرائيل مصداق واضح لهذا المعنى، وتقول الآية: «سَلْ بَنِى إِسْرَاءِيلَ كَمْ ءَاتَيْنَاهُمْ مِّنْ ءَايَةٍ بَيّنَةٍ».

ولكنهم تجاهلوا وتغافلوا عن هذه الآيات والعلائم الواضحة وأنفقوا المواهب الإلهية والنعم الربانية في موارد مذمومة ومنحرفة، ثم تقول الآية: «وَمَن يُبَدّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا

______________________________

(1) «ظُلل»: جمع «ظلة» يقال لكل شي ء يصنع ظلًا، و «غمام»: بمعنى السحاب.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 170

مختصر الامثل ج 1 200

جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ».

والمراد من «تبديل النعمة» هو استخدام الإمكانات والطّاقات والمصادر المادية والمعنوية الموهوبة على طريق تخريبي انحرافي

وممارسة الظلم والطغيان.

ولا تنحصر مسألة تبديل النعمة والمصير المؤلم لها ببني إسرائيل.

فالعالم المتطور صناعيّاً يعاني اليوم من هذه المأساة الكبرى، فمع وفور النعم والطاقات لدى الإنسان المعاصر وفوراً لم يسبق له مثيل في التاريخ نجد صوراً شتّى من تبديل النعم وتسخيرها بشكل فضيع في طريق الإبادة والفناء بسبب ابتعادهم عن التعاليم الإلهية للأنبياء، حيث حوّروا هذه النعم إلى أسلحة مدمّرة من أجل بسط سيطرتهم الظالمة واستعمارهم للبلدان الاخرى، وبذلك جعلوا من الدنيا مكاناً غير آمن، وجعلوا الحياة الدنيا غير آمنة من كل ناحية.

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَ يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)

سبب النّزول

روى في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس قال: نزلت الآية في أبي جهل وغيره من رؤساء قريش، بسطت لهم الدنيا وكانوا يسخرون من قوم من المؤمنين، فقراء، مثل عبد اللَّه بن مسعود، وعمّار وبلال وخباب ويقولون: لو كان محمّد نبيّاً لاتبعه أشرافنا.

التّفسير

الكافرون عبيد الدنيا: نزول الآية طبقاً للرواية المذكورة بشأن رؤساء قريش لا يمنع أن تكون مكملة لموضوع الآية السابقة بشأن اليهود وأن نستنتج منها قاعدة كلية. تقول الآية:

«زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا». ولذلك أفقدهم الغرور والتكبر شعورهم.

«وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا» في حين أنّ المؤمنين والمتقين في أعلى علّيين في الجنة، وهؤلاء في دركات الجحيم «وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ».

لأنّ المقامات المعنوية تتّخذ صور عينية في ذلك العالم، ويكتسب المؤمنون درجات أسمى من هؤلاء، وكأنّ هؤلاء يسيرون في أعماق الأرض بينما يحلّق الصالحون في أعالي السماء، وليس ذلك بعجيب «وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ».

وهذه بشارة للمؤمنين الفقراء وإنذار وتهديد للأغنياء والأثرياء المغرورين.

وكون ذلك الرزق الإلهي بدون

حساب للمؤمنين إشارة إلى أنّ الثواب والمواهب الإلهية

مختصر الامثل، ج 1، ص: 171

ليست بمقدار أعمالنا إطلاقاً، بل هي مطابقة لكرمه ولطفه، ونعلم أنّ كرمه ولطفه ليس لهما حدود ونهاية.

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) بعد بيان حال المؤمنين والمنافقين والكفار في الآيات السابقة شرع القرآن الكريم في هذه الآية في بحث اصولي جامع بالنسبة لظهور الدّين وأهدافه والمراحل المختلفة التي مر بها. في البداية تقول الآية: «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً».

فتبدأ هذه الآية ببيان مراحل الحياة البشرية وكيفية ظهور الدين لإصلاح المجتمع بواسطة الأنبياء وذلك على مراحل:

المرحلة الاولى: مرحلة حياة الإنسان الابتدائية حيث لم يكن للإنسان قد ألف الحياة الاجتماعية، ولم تبرز في حياته التناقضات والاختلافات، وكان يعبد اللَّه تعالى استجابةً لنداء الفطرة ويؤدي له فرائظ البسيطة، وهذه المرحلة يحتمل أن تكون في الفترة الفاصلة بين آدم ونوح عليهما السلام.

المرحلة الثانية: وفيها اتخذت حياة الإنسان شكلًا اجتماعياً، ولابد أن يحدث ذلك لأنّه مفطور على التكامل، وهذا لا يتحقق إلّافي الحياة الاجتماعية.

المرحلة الثالثة: هي مرحلة التناقضات والاصطدامات الحتمية بين أفراد المجتمع البشري بعد استحكام وظهور الحياة الاجتماعية، وهذه الاختلافات سواء كانت من حيث الإيمان والعقيدة، أو من حيث العمل وتعيين حقوق الأفراد والجماعات تحتّم وجود قوانين لرعاية وحلّ هذه الاختلافات، ومن هنا نشأت الحاجة الماسّة إلى تعاليم الأنبياء وهدايتهم.

المرحلة الرابعة: وتتميز ببعث اللَّه تعالى الأنبياء لإنقاذ الناس، حيث تقول الآية:

«فَبَعَثَ

اللَّهُ النَّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 172

فمع الإلتفات إلى تبشير الأنبياء وإنذارهم يتوجه الإنسان إلى المبدأ والمعاد ويشعر أنّ وراءه جزاءً على أعماله فيحسّ أنّ مصيره مرتبط مباشرةً بتعاليم الأنبياء وما ورد في الكتب السماوية من الأحكام والقوانين الإلهيّة لحلّ التناقضات والنّزاعات المختلفة بين أفراد البشر، لذلك تقول الآية: «وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ».

المرحلة الخامسة: هي التمسك بتعاليم الأنبياء وما ورد في كتبهم السماوية لإطفاء نار الخلافات والنزاعات المتنوعة (الاختلافات الفكرية والعقائدية والاجتماعية والأخلاقية).

المرحلة السادسة: واستمر الوضع على هذا الحال حتى نفذت فيهم الوساوس الشيطانية وتحرّكت في أنفسهم الأهواء النفسانية، وبهذا تقول الآية بعد ذلك: «وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ».

المرحلة السابعة: الآية الكريمة بعد ذلك تُقسّم الناس إلى قسمين، القسم الأوّل المؤمنون الذين ينتهجون طريق الحق والهداية ويتغلبون على كل الاختلافات بالاستنارة بالكتب السماوية وتعليم الأنبياء، فتقول الآية: «فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقّ بِإِذْنِهِ». في حين أنّ الفاسقين والمعاندين ماكثون في الضلالة والاختلاف.

وختام الآية تقول: «وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ». وهذه الفقرة إشارة إلى حقيقة إرتباط مشيئة اللَّه تعالى بأعمال الأفراد، فجميع الأفراد الراغبون في الوصول إلى الحقيقة يهديهم اللَّه تعالى إلى صراط مستقيم ويزيد في وعيهم وهدايتهم وتوفيقهم في الخلاص من الاختلافات والمشاجرات الدنيوية مع الكفار وأهل الدنيا ويرزقهم السكينة والاطمئنان، ويبين لهم طريق النجاة والاستقامة.

يستفاد من الآية أعلاه أنّ بداية انثباق الدين بمعناه الحقيقي كانت مقترنة مع ظهور المجتمع البشري بمعناه الحقيقي، من هنا نفهم سبب كون نوح أوّل انبياء اولوا العزم وأوّل أصحاب الشريعة والرسالة لا آدم.

يَسْأَلُونَكَ مَا ذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا

أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ وَ الْيَتَامَى وَ الْمَسَاكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ وَ مَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: إنّ الآية نزلت يوم الخندق لما اشتدت المخافة وحوصِر المسلمون

مختصر الامثل، ج 1، ص: 173

في المدينة فدعاهم اللَّه إلى الصبر ووعدهم بالنصر.

التّفسير

يبدو من الآية الكريمة أنّ جماعة من المسلمين كانت ترى أنّ إظهار الإيمان باللَّه وحده كاف لدخولهم الجنة، ولذلك لم يوطّنوا أنفسهم على تحمل الصعاب والمشاقّ ظانين أنّه سبحانه هو الكفيل بإصلاح امورهم ودفع شرّ الأعداء عنهم.

الآية تردّ على هذا الفهم الخاطى ء فتقول: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ».

وبما أنّهم كانوا في غاية الإستقامة والصبر مقابل تلك الحوادث والمصائب، وكانوا في غاية التوكل وتفويض الأمر إلى اللطف الإلهي، فلذلك تعقب الآية: «أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ».

إنّ الآية أعلاه تحكي إحدى السنن الالهية في الأقوام البشرية جميعاً، وتنذر المؤمنين في جميع الأزمنة والأعصار أنّهم ينبغي عليهم لنيل النصر والتوفيق والمواهب الاخروية أن يتقبّلوا الصعوبات والمشاكل ويبذلوا التضحيات في هذا السبيل، وإنّ هذه المشاكل والصعوبات ما هي إلّاامتحان وتربية للمؤمنين ولتمييز المؤمن الحقيقي عن المتظاهر بالإيمان.

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَ عَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس قال: أنّ الآية نزلت في عمرو بن الجموح وكان شيخاً كبيراً ذا مال كثير، فقال يا رسول اللَّه! بماذا أتصدق؟ وعلى مَن أتصدق؟ فأنزل اللَّه سبحانه هذه الآية.

التّفسير

يتعرّض القرآن الكريم في آيات عديدة

إلى الإنفاق والبذل في سبيل اللَّه، وحثّ المسلمين بطرق عديدة على الإنفاق والأخذ بيد الضعفاء، وهذه الآية تتناول مسألة الإنفاق من جانب آخر، فثمة سائل عن نوع المال الذي ينفقه، ولذلك جاء تعبير الآية بهذا الشكل: «يَسَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 174

وفي الجواب بيّنت الآية نوع الإنفاق، ثم تطرّقت أيضاً إلى الأشخاص المستحقين للنفقة.

بشأن المسألة الاولى: ذكرت الآية كلمة «خير» لتبين بشكل جامع شامل ما ينبغي أن ينفقه الإنسان، وهو كل عمل ورأسمال وموضوع يشتمل على الخير والفائدة للناس، وبذلك يشمل كل رأسمال مادي ومعنوي مفيد. وبالنسبة للمسألة الثانية:- أي موارد الإنفاق- فتذكر الآية أوّلًا الأقربين وتخصّ الوالدين بالذكر، ثم اليتامى ثم المساكين، ثم أبناء السبيل، ومن الواضح أنّ الإنفاق للأقربين- إضافة إلى ما يتركه من آثار تترتب على كل إنفاق- يوطّد عرى القرابة بين الأفراد.

«وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ». لعل في هذه العبارة من الآية إشارة إلى أنّه يحسن بالمنفقين أن لا يصرّوا على اطلاع الناس على أعمالهم، ومن الأفضل أن يسرّوا انفاقهم تأكيداً لإخلاصهم في العمل، لأنّ الذي يجازي على الاحسان عليم بكل شي ء، ولا يضيع عنده سبحانه عمل عامل من البشر.

الآية السابقة تناولت مسألة الإنفاق بالأموال، وهذه الآية تدور حول التضحية بالدم والنفس في سبيل اللَّه، فالآيتان يقترن موضوعهما في ميدان التضحية والفداء، فتقول الآية:

«كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ».

التعبير بكلمة «كُتِب» إشارة إلى حتمية هذا الأمر الإلهي ومقطوعيته.

«كُره» وإن كان مصدراً إلّاأنّه استعمل هنا باسم المفعول يعني مكروه، فالمراد من هذه الجملة أنّ الحرب مع الأعداء في سبيل اللَّه أمر مكروه وشديد على الناس العاديين، لأنّ الحرب تقترن بتلف الأموال والنفوس وأنواع المشقات والمصائب، وأما بالنسبة لعشاق

الشهادة في سبيل الحق ومن له قدم راسخ في المعركة فالحرب مع أعداء الحق بمثابة الشراب العذب للعطشان، ولا شك في أنّ حساب هؤلاء يختلف عن سائر الناس وخاصة في بداية الإسلام.

ثم تشير هذه الآية الكريمة إلى مبدأ أساس حاكم في القوانين التكوينية والتشريعية الإلهية وتقول: «وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 175

وعلى العكس من تجنّب الحرب وطلب العافية وهو الأمر المحبوب لكم ظاهراً، إلّاأنّه «وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ».

ثم تضيف الآية وفي الختام: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ». فهنا يؤكد الخالق جلّ وعلا بشكل حاسم أنّه لا ينبغي لأفراد البشر أن يحكموا أذواقهم ومعارفهم في الامور المتعلقة بمصيرهم، لأنّ علمهم محدود من كل جانب ومعلوماتهم بالنسبة إلى مجهولاتهم كقطرة في مقابل البحر.

فهؤلاء الناس لا يحق لهم مع الإلتفات إلى علمهم المحدود أن يتعرضوا على علم اللَّه اللّامحدود ويعترضوا على أحكامه الإلهيّة، بل يجب أن يعلموا يقيناً أنّ اللَّه الرّحمن الرّحيم حينما يُشرّع لهم الجهاد والزكاة والصوم والحج فكل ذلك لما فيه خيرهم وصلاحهم.

ثم إنّ هذه الحقيقة تعمّق في الإنسان روح الانضباط والتسليم أمام القوانين الإلهية وتؤدي إلى توسعة آفاق إدراكه إلى أبعد من دائرة محيطه المحدود وتربطه بالعالم اللّامحدود يعني علم اللَّه تعالى.

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ كُفْرٌ بِهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَ إِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَ الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَ لَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كَافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ وَ أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

(217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هَاجَرُوا وَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قال المفسرون: بعث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله سريّة من المسلمين وأمّر عليهم عبداللَّه بن جحش الأسدي- وهو ابن عمّة النّبي- وذلك قبل بدر بشهرين، على رأس سبعة عشر شهراً من مقدمه المدينة، فانطلقوا حتى هبطوا نخلة- وهي أرض بين مكة

مختصر الامثل، ج 1، ص: 176

والطائف- فوجدوا بها عمرو بن الحضرمي في عير تجارة لقريش في آخر يوم من جمادي الآخرة، وكانوا يرون أنّه من جمادي، وهو رجب- من الأشهر الحرم- فاختصم المسلمون فقال قائل منهم: هذه غرة من عدو وغُنْم رزقتموه ولا ندري أمن الشهر الحرام هذا اليوم أم لا. وقال قائل منهم: لا نعلم هذا اليوم إلا من الشهر الحرام ولا نرى أن تستحلوه لطمع أشفيتم عليه. فغلب على الأمر الذي يريدون عرض الحياة الدنيا، فشدوا على ابن الحضرمي فقتلوه وغنموا عيره فبلغ ذلك كفار قريش. وكان ابن الحضرمي أوّل قتيل قتل بين المشركين والمسلمين وذلك أوّل في ء أصابه المسلمون فركب وفد كفار قريش حتى قدموا على النبي صلى الله عليه و آله فقالوا: أيحلّ القتال في الشهر الحرام؟ فأنزل اللَّه سبحانه هذه الآية.

نزلت الآية الثانية في قصّة عبداللَّه بن جحش وأصحابه لما قاتلوا في رجب، وقتل واقد السهمي ابن الحضرمي فظنّ قوم أنّهم إن أسلموا من الإثم فليس لهم أجر، فأنزل اللَّه سبحانه الآية فيهم بالوعد.

التّفسير

الآية الاولى تتصدّى للجواب عن الأسئلة المرتبطة بالجهاد والاستثناءات في هذا الحكم الإلهي فتقول الآية: «يَسَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ». ثم تُعلن الآية حرمة القتال وأنّه من الكبائر «قُلْ

قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ». أي إثم كبير.

وبهذا يُمضي القرآن الكريم بجديّة السنّة الحسنة التي كانت موجودة منذ قديم الأزمان بين العرب الجاهليّين بالنسبة إلى تحريم القتال في الأشهر الحرم (رجب، ذي القعدة، ذي الحجة، محرم).

ثم تضيف الآية أنّ هذا القانون لا يخلو من الاستثناءات، فلا ينبغي السّماح لبعض المجموعات الفاسدة لاستغلال هذا القانون في إشاعة الظلم والفساد، فعلى الرغم من أنّ الجهاد حرام في هذه الأشهر الحرم، ولكن الصد عن سبيل اللَّه والكفر به وهتك المسجد الحرام وإخراج الساكنين فيه وأمثال ذلك أعظم إثماً وجرماً عنداللَّه «وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ».

ثم تضيف الآية بأنّ إيجاد الفتنة والسعي في إضلال الناس وحرفهم عن سبيل اللَّه ودينه أعظم من القتل «وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ» لأنّ القتل ما هو إلّاجناية على جسم الإنسان،

مختصر الامثل، ج 1، ص: 177

والفتنة جناية على روح الإنسان وإيمانه «1».

ثم إنّ الآية تحذر المسلمين أن لا يقعوا تحت تأثير الإعلان الجاهلي للمشركين، لأنّهم لا يقنعون منكم إلّابترككم لدينكم إن استطاعوا «وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا». فينبغي على هذا الأساس أن تقفوا أمامهم بحزم وقوة ولا تعتنوا بوسوساتهم وأراجيفهم حول الأشهر الحرم.

ثم تنذر الآية المسلمين وتحذرهم من الإرتداد عن دين اللَّه: «وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِى الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».

فما أشد عقاب المرتد عن الإسلام، لأنّ ذلك يُبطل كلما قدّمه الفرد من عمل صالح ويستحق بذلك العذاب الإلهي الأبدي.

الآية التالية تشير إلى النقطة المقابلة لهذه الطائفة، وهم المؤمنون المجاهدون وتقول: «إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ

رَّحِيمٌ».

أجل، فهذه الطائفة التي يتحلّى أفرادها بهذه الصفات الثلاث المهمة (الإيمان والهجرة والجهاد) قد يرتكبون خطأً بسبب جهلهم وعدم اطلاعهم (كما صدر ذلك من عبداللَّه بن جحش الوارد في سبب النزول) إلّاأنّ اللَّه تعالى يغفر لهم زلّتهم بلطفه ورحمته.

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَ يَسْأَلُونَكَ مَا ذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ وَ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)

سبب النّزول

نزلت في جماعة من الصحابة أتوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالوا: أفتنا في الخمر والميسر، فإنّها

______________________________

(1) قدمنا بحثاً مفصلًا عن معنى «الفتنة» في ذيل الآية (191) من هذه السورة المبحوثة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 178

مذهبة للعقل مسلبة للمال. وعن سبب نزول الآية الثانية فقد ورد في تفسير القمي عن الإمام الصادق عليه السلام وفي تفسير مجمع البيان قال ابن عباس: لمّا أنزل اللَّه «وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ» «1». و «إِنَّ الَّذِين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلُونَ سَعِيرًا» «2». إنطلق كل من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه واشتدّ ذلك عليهم فسألوا عنه، فنزلت هذه الآية.

التّفسير

الآية الاولى تُجيب عن سؤالين حول الخمر والقمار «يَسَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ».

«الخمر»: بمعنى كل مايع مسكر، سواء اخذ من العنب أو الزبيب أو التمر أو شي ء آخر، بالرغم من أنّ الوارد في اللغة أسماء مختلفة لكل واحد من أنواع المشروبات الكحولية.

«الميسر»: من مادة

(اليُسر) وإنّما سمي بذلك لأنّ المُقامر يستهدف الحصول على ثروة بيسر ودون عناء.

ثم تقول الآية في الجواب: «قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا».

وبناء على ذلك، فكل إنسان عاقل لا يقدم على الإضرار بنفسه كثيراً من أجل نفع ضئيل.

السؤال الثالث المذكور في الآية محل البحث هو السؤال عن الإنفاق فتقول الآية:

«وَيَسَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ».

«العفو» يُطلق على مصاديق مختلفة منها: المغفرة والصفح وإزالة الأثر، الحد الوسط بين شيئين، المقدار الإضافي لشي ء، وأفضل جزء من الثروة.

ويمكن أن يكون العفو في الآية هو المعنى الأوّل، أي الصفح عن أخطاء الآخرين، وبذلك يكون معنى الآية الكريمة: أنفقوا الصفح والمغفرة فهو أفضل الإنفاق.

ولا يبعد هذا الاحتمال لو أخذنا بنظر الاعتبار أوضاع شبه الجزيرة العربية عامة وخاصة مكة والمدينة محل نزول القرآن من حيث هيمنة روح التنافر والعداء والحقد بين الناس، والجواب بهذا المعنى لا يتنافي مع سؤالهم بشأن الإنفاق المالي، لأنّهم قد يسألون عن

______________________________

(1) سورة الإسراء/ 34.

(2) سورة النّساء/ 10.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 179

موضوع كان ينبغي أن يسألوا عن أهم منه، والقرآن يستثمر فرصة سؤالهم المعبر عن استعدادهم للسّماع والقبول ليجيبهم بما هو أهم وألزم، وهذا من شؤون الفصاحة والبلاغة حيث يترك سؤالهم ليتناول موضوعاً أهم.

وأخيراً يقول تعالى في ختام الآية: «كَذلِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْأَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ».

ويذكر بدون فصل في الآية التالية المحور الأصلي للتفكر ويقول: «فِى الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ».

إنّ الإنسان إضافة إلى وجوب التسليم أمام أوامر اللَّه يجب أن يُطيع هذه الأوامر عن تفكر وتعقل لا عن اتّباع أعمى، وبعبارة اخرى أنّ الإنسان يجب عليه بموازاة الطاعة العملية أن يسعى إلى فهم أسرار وروح الأحكام الإلهية.

ثم تذكر الآية السؤال الرابع وجوابه وتقول: «وَيَسَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى

قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ». وعلى هذا الأساس فالقرآن يوصي المسلمين بعدم إهمال اليتامى، فإنّ الإعراض عن تحمل مسؤوليتهم وتركهم وشأنهم أمر مذموم.

ثم تضيف الآية: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ». أجل، إنّ اللَّه مطلّع على نياتكم ويعلم من يقصد السوء بالاستفادة من أموال اليتامى ليحيف عليهم ومن هو مخلص لهم.

والفقرة الأخيرة من الآية تؤكد بأنّ اللَّه تعالى قادر على أن يُضيّق ويشدّد عليكم برعاية اليتامى مع فصل أموالهم عن أموالكم، لكن اللَّه لا يفعل ذلك أبداً، لأنّه عزيز وحكيم، ولا داعي لأن يُضيّق على عباده «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».

وَ لَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَ لَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَ اللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَ الْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَ يُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)

سبب النّزول

في تفسير القرطبي: نزلت هذه الآية في أبي مِرثَد الغَنَويّ، بعثه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مكة سرّاً ليُخرج رجلًا من أصحابه؛ وكانت له بمكة امرأةٌ يحبّها في الجاهلية يقال لها (عَناق) فجاءته؛ فقال لها: إنّ الإسلام حرّم ما كان في الجاهلية؛ قالت: فتزوّجني؛ قال: حتى أستأذن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأتى النبي صلى الله عليه و آله فاستأذنه فنهاه عن التزوج بها؛ لأنّه كان مسلماً وهي مشركة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 180

التّفسير

هذه الآية وطبقاً لسبب النزول المذكور أعلاه بمثابة جواب عن سؤال آخر حول الزواج مع المشركين فتقول: «وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ». ثم تضيف مقايسة وجدانيّة فتقول: «وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ».

لأنّ الهدف

من الزواج ليس هو اللّذة الجنسية فقط، فالمرأة شريكة عمر الإنسان ومربية لأطفاله وتشكّل قسماً مهماً من شخصيته، فعلى هذا الأساس كيف يصحّ استقبال الشرك وعواقبه المشؤومة لاقترانه بجمال ظاهري ومقدار من الأموال والثروة.

ثم إنّ الآية الشريفة تقرّر حكماً آخر وتقول: «وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ».

وبهذا الترتيب منع الإسلام من زواج المرأة المؤمنة مع الرجل المشرك كما منع نكاح الرجل المؤمن من المرأة المشركة حتى أنّ الآية رجّحت العبد المؤمن أيضاً على الرجال المشركين من أصحاب النفوذ والثروة والجمال الظاهري، لأنّ هذا المورد أهم بكثير من المورد الأوّل وأكثر خطورة، فتأثير الزوج على الزوجة أكثر عادةً من تأثير الزوجة على زوجها.

وفي ختام الآية تذكر دليل هذا الحكم الإلهي لزيادة التفكر والتدبر في الأحكام وتقول:

«أُوَلئِكَ [أي المشركين يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ».

ثم تضيف الآية: «وَيُبَيّنُ ءَايَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ».

أشار في «تفسير في ظلال القرآن» إلى نكتة ظريفة، وهي أنّ هذه الآية و (21) آية اخرى تأتي بعدها تُبيّن الأحكام المتعلقة بتشكيل الاسرة في أبعادها المختلفة، وفي هذه الآيات بيّن القرآن الكريم اثني عشر حكماً شرعياً:

1- يتضمن النهي عن زواج المسلم بمشركة، 2- يتعلق بالنهي عن مباشرة النساء في المحيض، 3- حكم الأيمان بصفة عامة- تمهيداً للحديث عن الإيلاء والطلاق- ويربط حكم الأيمان باللَّه وتقواه، 4- حكم الإيلاء ويتبعه حكم الطلاق، 5- حكم عدّة المطلّقة، 6- حكم عدد الطلقات، 7- حكم الإمساك بمعروف أو تسريح باحسان بعد الطلاق، 8- حكم الرضاعة والاسترضاع والأجر، 9- الحكم بعدّة المتوفى عنها زوجها، 10- حكم التعريض بخطبة النساء في أثناء العدّة، 11- حكم المطلّقة قبل الدخول في حالة ما إذا

فرض لها مهر وفي

مختصر الامثل، ج 1، ص: 181

حالة ما إذا لم يفرض، 12- حكم المتعة للمتوفى عنها زوجها وللمطلّقة.

وهذه الأحكام مع مجمل الإرشادات الأخلاقية في هذه الآيات تبين أنّ مسأله تشكيل الاسرة هو نوع من العبادة للَّه تعالى ويجب أن يكون مقروناً بالتفكر والتدبر.

وَ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)

سبب النّزول

ذكر في تفسير ابن كثير ذيل الآية مورد البحث: إنّ اليهود كانت إذا حاضت المرأة منهم لم يواكلوها ولم يجامعوها في البيوت فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه و آله فأنزل اللَّه عزّ وجل «وَيَسَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ...».

وذكر قطب الدين الراوندي في فقه القرآن: قيل: كانوا في الجاهلية يجتنبون مؤاكلة الحائض ومشاربتها حتى كانوا لا يجالسونها في بيت واحد فسألوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن ذلك واستعلموا ذلك أواجب هو أم لا؟ فنزلت الآية.

التّفسير

أحكام النساء في العادة الشهرية: في الآية الاولى نلاحظ سؤال آخر عن العادة الشهرية للنساء، فتقول الآية: «وَيَسَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى». وتضيف بلافاصلة:

«فَاعْتَزِلُوا النّسَاءَ فِى الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ».

لأنّ الجماع في أيام الحيض، فهو إضافة إلى ما فيه من اشمئزاز، ينطوي على أذى وضرر ثبت لدى الطب الحديث، ومن ذلك احتمال تسبيب عقم الرجل والمرأة، وإيجاد محيط مناسب لتكاثر جراثيم الأمراض الجنسية مثل السفلس والتهابات الأعضاء التناسلية للرجل والمرأة، ودخول مواد الحيض المليئة بمكروبات الجسم في عضو الرجل، وغير ذلك

من الأضرار المذكورة في كتب الطب، لذلك ينصح الأطباء باجتناب الجماع في هذه الحالة.

جملة «يَطْهُرْنَ» بمعنى طهارة النساء من دم الحيض وأمّا جملة «فَإِذَا تَطَهَّرْنَ» تعني

مختصر الامثل، ج 1، ص: 182

الغُسل من الحيض. فعلى هذا الأساس وطبقاً للجملة الاولى تكون المقاربة الجنسية بعد انتهاء دم الحيض جائزة حتى لو لم تغتسل وأمّا الجملة الثانية فتعني أنّها ما لم تغتسل فلا يجوز مقاربتها. وعلى هذا فالآية لا تخلو من إبهام ولكن مع الإلتفات إلى أنّ الجملة الثانية تفسير للجملة الاولى ونتيجة لها (ولهذا اعطفت بفاء التفريع) فالظاهر أنّ (تَطَهَّرْنَ) أيضاً بمعنى الطهارة من دم الحيض وبذلك تجوز المقاربة الجنسية بمجرد الطهارة من العادة الشهرية وهذا هو ما ذهب إليه الفقهاء العظام في الفقه وأفتوا بحلية المقاربة الجنسية بعد الطهارة من الحيض حتى قبل الغسل ولكن لا شك في أنّ الأفضل أن تكون بعد الغسل.

الفقرة الثانية من الآية تقول: «فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ». أي: أن يكون الجماع من حيث أمر اللَّه وقد تكون هذه الفقرة تأكيداً لما قبلها، أي آتوا نساءكم في حالة النقاء والطّهر فقط لا في غير هذه الحالة.

الآية الثانية إشارة لطيفة إلى الغاية النهائية من العملية الجنسية فتقول: «نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ».

في هذه الآية الكريمة شبّهت النساء بالمزرعة وقد يثقل هذا التشبيه على بعض، ويتساءل لماذا شبّه اللَّه نصف النوع البشري بهذا الشكل؟

ولو أمعنا النظر في قوله سبحانه لوجدنا فيه إشارة رائعة لبيان ضرورة وجود المرأة في المجتمع الإنساني، فالمرأة بموجب هذا التعبير ليست وسيلة لإطفاء الشهوة، بل وسيلة لحفظ حياة النوع البشري.

«وَقَدّمُوا لِأَنفُسِكُمْ». هذا الأمر القرآني يشير إلى أنّ الهدف النهائي من الجماع ليس هو الاستمتاع باللذة الجنسية، فالمؤمنون

يجب أن يستثمروه على طريق تربية أبناء صالحين، وأن يقدّموا هذه الخدمة التربوية المقدسة ذخيرة لُاخراهم، وبذلك يؤكد القرآن على رعاية الدقة في انتخاب الزوجة كي تكون ثمرة الزواج إنجاب أبناء صالحين وتقديم هذه الذخيرة الاجتماعية الإنسانية الكبرى.

وفي ختام هذه الآية تأمر بالتقوى وتقول: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلقُوهُ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 183

وَ لَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت في عبد اللَّه بن رواحة حين حلف أن يدخل على ختنه ولا يكلمه، ولا يصلح بينه وبين امرأته فكان يقول إنّي حلفت بهذا فلا يحل لي أن أفعله، فنزلت الآية.

التّفسير

لا ينبغي القسم قدر المستطاع: كما قرأنا في سبب النزول أنّ الآيتين أعلاه ناظرتان إلى سوء الاستفادة من القسم، فكانت هذه مقدمة إلى الأبحاث التالية في الآيات الكريمة عن الإيلاء والقسم وترك المقاربة الجنسية. في الآية الاولى يقول تعالى: «وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لّاَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».

وفي الآية التالية نلاحظ تكملة لهذا الموضوع وأنّ القسم لا ينبغي أن يكون مانعاً من أعمال الخير فتقول: «لَّايُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ وَلكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ». أي عن إرادة وإختيار.

في هذه الآية يشير اللَّه تعالى إلى نوعين من القسم:

الأوّل: القسم اللغو الذي لا أثر له، ولا يُعبأ به، هذا النوع من القسم يتردد على ألسن بعض الناس دون التفات، ويكررونه في كلامهم عن عادة لهم، فإنّ العمل بهذا القسم غير واجب ولا كفارة عليه، لأنّه لم

يكن عن عزم وإرادة.

النوع الثاني: القَسم الصادر عن إرادة وعزم، أو بالتعبير القرآني هو القَسم الداخل في إطار كسب القلب، ومثل هذا القَسم معتبر ويجب الالتزام به ومخالفته ذنب موجب للكفارة.

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَ إِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 184

القَسَم على ترك وطء الزوجة أو الإيلاء «1» تقليد جاهلي كان شائعاً بين العرب، واستمرّ معمولًا به عند المسلمين الجدد قبل نزول حكم الطلاق.

كان الرجل في الجاهلية- حين يغضب على زوجته- يقسِم على عدم وطئها، فيشدّد عليها بهذه الطريقة الفضّة، لا هو يطلق سراحها بالطلاق لتتزوج من رجل آخر، ولا يعود إليها بعد هذا القَسم ليصالحها ويعايشها وطبعاً لا يواجه الرجل غالباً صعوبة في ذلك لأنّه يتمتع بعدة زوجات.

الآية الكريمة وضعت لهذه القضية حدّاً، فذكرت أنّ الرجل يستطيع خلال مدة أقصاها أربعة أشهر أن يتخذ قراراً بشأن زوجته: إمّا أن يعود عن قَسمه ويعيش معها، أو يطلّقها ويخلّي سبيلها. «لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ».

والغاية من الامهال أربعة أشهر هو إعطاء الفرصة للزوج ليفكر في أمره مع زوجته وينقذها من هذا الحال. ثم تضيف: «فَإِن فَاءُو فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ». أي إن عادوا وجدوا اللَّه غفوراً رحيماً، والعبارة تدل أيضاً أنّ العودة عن هذا القَسم ليس ذنباً، بالرغم من ترتب الكفارة عليه.

«وَإِن عَزَمُوا الطَّلقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ». أي فلا مانع من ذلك مع توفّر الشروط اللازمة.

وفيما لو أهمل الزوج كلا الطريقين ولم يختر أحدهما، فلم يرجع إلى الحياة الزوجية السليمة، ولم يطلّق، ففي هذه الصورة يتدخّل حاكم الشرع ويأمر بالقاء الزوج في السجن، ويشدد عليه حتى يختار

أحدهما، وينقذ الزوجة من حالتها المعلّقة.

وَ الْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَ لَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحاً وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) كان الكلام في الآية السابقة عن الطلاق، وهنا تذكر الآية بعض أحكام الطلاق وما يتعلق به حيث ذكرت خمسة أحكام له في هذه الآية. في البداية ذكرت الآية عدّة الطلاق:

______________________________

(1) «ايلاء»: من مادة «الو» بمعنى القدرة والعزم، وبما أنّ القسم نموذج من هذا المعنى ولذا اطلق على الطلاق.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 185

«وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلثَةَ قُرُوءٍ».

وبما أنّ الطلاق يشترط فيه أن تكون المرأة في حالة الطهر الذي لم يجامعها زوجها فيه فيُحسب ذلك الطّهر مرة واحدة، وبعد أن ترى المرأة دم الحيض مرة وتطهر منه حينئذ تتم عدّتها بمجرد أن ينتهي الطّهر الثالث وتشرع ولو للحظة في العادة، فيجوز لها حينئذ الزواج.

الحكم الثاني المستفاد من هذه الآية هو قوله تعالى: «وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ».

الإسلام قرّر أن تكون المرأة بنفسها هي المرجع في معرفة بداية العدّة ونهايتها حيث إنّ المرأة نفسها أعلم بذلك من الآخرين.

الحكم الثالث المستفاد من الآية هو أنّ للزوج حق الرجوع إلى زوجته في عدّة الطلاق الرجعي، فتقول الآية: «وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِى ذلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلحًا». وبهذا يستطيع الزوج استئناف علاقته الزوجية بدون تشريفات خاصة إذا كانت المرأة في عدّة الطلاق الرجعي، فإذا قصد الرجوع يتحصل بمجرد كلمة أو عمل يصدر منه بهذا القصد.

ثم تبين الآية حكماً

رابعاً وتقول: «وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ». وعلى هذا كما أنّ للرجال حقوقاً على النساء، فكذلك للنساء حقوق على الرجال أيضاً، فيجب عليهم مراعاتها، لأنّ الإسلام اهتمّ بالحقوق بصورة متعادلة ومتقابلة.

وكلمة «بالمعروف» التي تأتي بمعنى الأعمال الحسنة المعقولة والمنطقية تكررت في هذه السلسلة من الآيات اثنا عشر مرّة (من الآية مورد البحث إلى الآية 241) كيما تحذّر النساء والرجال من عاقبة سوء الاستفادة من حقوق الطّرف المقابل وعليهم إحترام هذه الحقوق والاستفادة منها في تحكيم العلاقة الزوجية وتحصيل رضا اللَّه تعالى.

يوجد الاختلافات الكبيرة بين الجنسين على صعيد القوى الجسمية والروحية، ولهذا السبب كانت إدارة الاسرة بعهدة الرجل ومقام المعاونة بعهدة المرأة، وعلى أي حال فلا يكون هذا التفاوت مانعاً من تفوّق بعض النساء من الجهات المعنوية والعلمية والتقوائية على كثير من الرجال.

وأخيراً تقول الآية: «وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» وهذا إشارة إلى أنّ الحكمة الإلهية والتدبير الرباني يستوجبان أن يكون لكل شخص في المجتمع وظائف وحقوق معينة من قبل قانون الخلقة ويتناسب مع قدراته وقابلياته الجسمية والروحية، وبذلك فإنّ الحكمة الإلهية

مختصر الامثل، ج 1، ص: 186

تستوجب أن تكون للمرأة في مقابل الوظائف والمسؤوليّات الملقاة على عاتقها حقوقاً مسلّمة كيما يكون هناك تعادل بين الوظيفة والحق.

الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)

سبب النّزول

في تفسير المجمع البيان: جاءت إمرأة إلى إحدى زوجات النبي فشكت أنّ زوجها يطلّقها ويسترجعها، يضارّها بذلك. وكان الرجل في الجهالية

إذا طلّق امرأته، ثم راجعها قبل أن تنقضي عدّتها كان له ذلك، وإن طلّقها ألف مرة؛ لم يكن للطلاق عندهم حدّ، فذكرت ذلك لرسول اللَّه، فنزلت الطلاق مرتان.

التّفسير

ذكرنا في تفسير الآية السابقة إنّ الإسلام قرّر قانون (العدّة) و (الرجوع) لإصلاح وضع الاسرة ومنع تشتتها وتمزّقها، لكن بعض المسلمين الجدد استغلّوا هذا القانون كما كانوا عليه في الجاهلية، وعمدوا إلى التضييق على الزوجة بتطليقها المرة بعد الاخرى والرجوع إليها قبل انتهاء العدة، وبهذه الوسيلة ضيّقوا الخناق على النساء.

هذه الآية تحول بين هذا السلوك المنحط وتقرّر أنّ الطلاق والرجوع مشروعان لمرتين، أمّا إذا تكرر الطلاق للمرة الثالثة فلا رجوع، والطلاق الأخير هو الثالث، والمراد من عبارة «الطَّلقُ مَرَّتَانِ» هو أنّ الطلاق الذي يمكن معه الرجوع مرتان والطلاق الثالث لا رجوع بعده. وتضيف الآية: «فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ».

فعلى هذا يكون الطلاق الثالث هو الأخير لا رجعة فيه. وبعبارة اخرى: أنّ المحبة والحنان المتقابل بين الزوجين يمكن إعادتهما في المرتين السابقتين وتعود المياه إلى مجاريها، وفي غير هذه الصورة إذا تكرر منه الطلاق في المرة الثالثة فلا يحق له الرجوع إلّابشرائط معينة تأتي في الآية التالية.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 187

إنّ المراد من التسريح بإحسان أن يؤدّي للمرأة حقوقها بعد الانفصال النهائي، ولا يسعى الإضرار بها عملًا وقولًا بأن يعيبها في غيابها أو يتّهمها بكلمات رخيصة ويُسقط شخصيتها وسمعتها أمام الناس، وبذلك يحرمها من إمكانية الزواج المجدد، فكما أنّ الصلح والرجوع إلى الزوجة يجب أن يكون بالمعروف والإحسان والمودّة، فكذلك الانفصال النهائي يجب أن يكون مشفوعاً بالإحسان أيضاً، ولهذا تضيف الآية الشريفة: «وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيًا».

فعلى هذا الأساس لا يستطيع الزوج عند الانفصال النهائي أن

يأخذ ما أعطاها من مهرها شيئاً، وهذا المعنى أحد مصاديق التسريح بإحسان.

وتستطرق الآية إلى ذكر مسألة «طلاق الخلع» وتقرّر أنّه في حالة واحدة تجوز استعادة المهر وذلك عند رغبة المرأة نفسها بالطلاق حيث تقول الآية: «إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ». ثم تضيف: «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ». أي الفدية أو التعويض الذي تدفعه المرأة للتّخلص من الرابطة الزوجية، هذه الحالة تختلف عن الاولى في أنّ الطالب للفرقة هي المرأة نفسها ويجب عليها دفع الغرامة والتعويض للرجل الذي يريد ويطلب بقاء العُلقة الزوجية، وبذلك يتمكن الزوج بهذه الغرامة والفدية أن يتزوج مرة اخرى ويختار له زوجة ثانية.

وفي ختام الآية تشير إلى مُجمل الأحكام الواردة فيها وتقول: «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ».

فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان، وتفسير روح المعاني أيضاً: جاءت امرأة رفاعة بن وهب القُرظيّ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالت: إنّي كنت عند رفاعة فطلّقني فبتّ طلاقي فتزوجني عبد الرحمن بن الزبير وما معه الأمثل هُدبة الثوب (وإنّه طلّقني قبل أن يمسّني) فتبسم النبي صلى الله عليه و آله فقال:

«أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى يذوق عُسَيلَتَك، وتذوقي عُسَيلَتَه».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 188

التّفسير

جاء في الآية السابقة إجمالًا أنّ للمرأة وللرجل بعد الطلاق الثاني أحد أمرين: إمّا أن يتصالحا ويرجعا إلى الحياة الزوجية، وإمّا أن ينفصلا إنفصالًا نهائياً. هذه الآية حكمها حكم الفقرة التابعة

لمادة قانونية. فهذه الآية تقول إنّ حكم الإنفصال حكم دائمي، إلّاإذا اتخذت المرأة زوجاً آخر، وطلّقها بعد الدخول بها، فعندئذ لها أن ترجع إلى زوجها الأوّل إذا رأيا أنّهما قادران على أن يعيشا معاً ضمن حدود اللَّه.

ويستفاد من الرّوايات عن أئمة الدين أنّ لهذا الزواج الثاني شرطين، أوّلًا: أن يكون هذا الزواج دائمياً، والثاني: أن يتبع عقد الزواج الإتصال الجنسي.

وَ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ لَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَ لَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ مَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَ الْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (231) تستمر هذه الآية في تبيان الأحكام التي أقرّها الإسلام للطلاق، لكي لا تهمل حقوق المرأة وحرمتها. تقول الآية: ما دامت العدّة لم تنته وحتى في آخر يوم من أيامها، فإنّ للرجل أن يصالح زوجته ويعيدها إليه في حياة زوجية حميمة: «فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ».

وإذا لم تتحسّن الظروف بينهما فيطلق سراحها «أَوْ سَرّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ».

ولكن كل رجوع أو تسريح يجب أن يكون في جوّ من الإحسان والمعروف وأن لا يخالطه شي ء من روح الإنتقام.

ثم تشير الآية إلى المفهوم المقابل لذلك وتقول: «وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ».

هذه الجملة تفسير لكلمة «معروف» أي أنّ الرجوع يجب أن يكون على أساس من الصفاء والوئام، وذلك لأنّ الجاهليين كانوا يتخذون من الطلاق والرجوع وسيلة للإنتقام، ولهذا يقول القرآن بلهجة قاطعة: إنّ استرجاع الزوجة يجب أن لا يكون رغبة في الإيذاء والإعتداء، إذ أنّ ذلك- فضلًا عن كونه ظلماً للزوجة- ظلم للزوج أيضاً.

مختصر الامثل، ج 1،

ص: 189

ثم يحذّر القرآن الجميع: «وَلَا تَتَّخِذُوا ءَايَاتِ اللَّهِ هُزُوًا».

هذا التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى حال الأشخاص الذين يستغلّون الأحكام الشرعية لتبرير مخالفاتهم ويتمسكون بالظواهر من أجل بعض الحيل الشرعية، فالقرآن يعتبر هذا العمل نوع من الاستهزاء بآيات اللَّه، ومن ذلك نفس مسألة الزواج والطلاق والرجوع في زمان العدّة بنيّة الإنتقام وإلحاق الضرر بالمرأة والتظاهر بأنّه يستفيد من حقه القانوني.

فعلى هذا لا ينبغي الإغماض عن روح الأحكام الإلهية والتمسك فقط بالظواهر الجامدة لها، فلا ينبغي إتخاذ آيات اللَّه ملعبة بيد هؤلاء، فإنّه يُعتبر ذنب عظيم ويترتب عليه عقوبة أليمة.

ثم تضيف الآية: «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ».

هذه تحذيرات من أجل أن تعلموا: أوّلًا: أنّ اللَّه تعالى عدّ تلك التصرفات من خرافات وتقاليد الجاهلية الشنيعة بالنسبة إلى الزواج والطلاق وغير ذلك، فأنقذكم منها وأرشدكم إلى أحكام الإسلام الحياتية، فينبغي أن تعرفوا قدر هذه النعمة العظيمة وتؤدّوا حقها، و ثانياً: بالنسبة إلى حقوق المرأة ينبغي أن لا تسيئوا إليها بالاستفاده من موقعيتكم، ويجب أن تعلموا أنّ اللَّه تعالى مطلع حتى على نياتكم.

وَ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَ أَطْهَرُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت في معقل بن يسار عضل اخته جملاء أن ترجع إلى الزواج الأوّل وهو عاصم بن عدي فإنّه كان طلّقها وخرجت من العدّة ثم أراد أن يجتمعا بعقد آخر، فمنعها من ذلك، فنزلت الآية.

مختصر الامثل، ج 1، ص:

190

التّفسير

فصم قيد آخر من قيود أسر النساء: ذكرنا في البحوث السابقة كيف كانت النسوة يعشن في أسر العادات الجاهلية، وكيف كنّ تحت سيطرة الرجال دون أن يعنى أحد برغبتهن ورأيهن. واختيار الزوج كان واحداً من قيود ذلك الأسر، إذ أنّ رغبة المرأة وإرادتها لم يكن لها أي تأثير في الأمر، فحتّى من كانت تتزوج زواجاً رسمياً ثم تطلّق لم يكن لها حق الرجوع ثانية بمحض إرادتها، بل كان ذلك منوطاً برغبة وليّها أو أوليائها، وكانت ثمة حالات يرغب فيها الزوجان بالعودة إلى الحياة الزوجية بينهما، ولكن أولياء المرأة كانوا يحولون دون ذلك تبعاً لمصالحهم أو لتخيلاتهم وأوهامهم.

إلّا أنّ القرآن أدان هذه العادة، ورفض أن يكون للأولياء مثل هذا الحق، إذ إنّ الزوجين- وهما ركنا الزواج الأصليان، إذا توصّلا إلى إتفاق بالعودة بعد الانفصال- يستطيعان ذلك دون أن يكون لأحد حق الإعتراض عليهما. تقول الآية: «وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ».

ويتبين من هذه الآية أنّ الثيّبات- أي اللّواتي سبق لهنّ الزواج ثم طلّقن أو مات أزواجهن- إذا شئن الزواج ثانية فلا يلزمهن موافقة أوليائهن أبداً.

ثم تضيف الآية وتحذّر ثانية وتقول: «ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ». ثم من أجل التأكيد أكثر تقول: «ذلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ».

يشير هذا المقطع من الآية إلى أنّ هذه الأحكام قد شُرّعت لمصلحتكم غاية الأمر أنّ الأشخاص الذين ينتفعون بها هم الذين لهم أساس عقائدي من الإيمان باللَّه والمعاد ولا يتبعون أهواءهم.

وَ الْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا

لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَ لَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَ عَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَ تَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَ إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 191

أحكام الرضاع السبعة: هذه الآية في الواقع استمرار للأبحاث المتعلقة بمسائل الزواج والحياة الزوجية، وتبحث مسألة مهمة هي مسألة (الرضاع)، وتذكر بعبارات مقتضبة، وفي نفس الوقت ذات معنىً عميق، الجزئيات المتعلقة بالرضاع المختلفة، فهناك على العموم سبعة أحكام في هذا الباب:

1- تقول الآية في أوّلها: «وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ».

«والدات»: جمع (والدة) وهي في اللغة بمعنى الام، ولكن كلمة الام لها معنىً أوسع وهي قد تُطلق على الوالدة وعلى الجدة أي والدة الوالدة، وقد تعني أصل الشي ء وأساسه.

وفي هذا المقطع من الآية نلاحظ أنّ حق الإرضاع خلال سنتي الرضاعة يعود للُام، فهي التي لها أن ترضع مولودها خلال هذه المدة وأن تعتني به، وعلى الرغم من أنّ (الولاية) على الأطفال الصغار قد اعطيت للأب، فإنّ تخصيصها بحق الحضانة والرعاية والرضاعة يعتبر حقاً ذا جانبين، فهو يرعى حال الطفل كما يرعى حال الام.

2- ليس من الضروري أن تكون مدة رضاعة الطفل سنتين حتماً، إنّما السنتان لمن يريد أن يقضي دورة رضاعة كاملة «لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ». ولكن للُام أن تقلل من هذه الفترة حسب مقتضيات صحة الطفل وسلامته.

3- نفقة الام في الطعام واللباس، حتى عند الطلاق أثناء فترة الرضاعة تكون على والد الطفل، لكي تتمكن الام من الإنصراف إلى العناية بطفلها وإرضاعه مرتاحة البال وبدون قلق. «وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ».

هنا

تعبير «المولود له» بدلًا من «الأب» يستلفت الإنتباه، ولعله جاء لاستثارة عواطف الابوة فيه في سبيل حثّه على أداء واجبه. أي أنّه إذا كان قد وضع على عاتقه الإنفاق على الوليد وامّه خلال هذه الفترة فذلك لأنّ الطفل ابنه وثمرة فؤاده وليس غريباً عنه.

إنّ الإتيان بقيد «المعروف» يشير إلى أنّ طعام الام ولباسها ينبغي أن يكونا من اللائق بها والمتعارف عليه، فلا يجوز التقتير ولا الإسراف.

ولرفع كل غموض محتمل تشير الآية إلى أنّ على كل أب أن يؤدّي واجبه على قدر طاقته «لَاتُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا».

4- لا يحق لأيّ من الوالدين أن يجعلا من مستقبل وليدهما ومصيره أمراً مرتبطاً بما قد يكون بينهما من اختلافات، حيث لا يؤمن معه أن تتعرض روحية الوليد بضربة لا يمكن تفادي آثارها. «لَاتُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ». على الأب أن يحذر انتزاع الوليد

مختصر الامثل، ج 1، ص: 192

من أحضان امه خلال فترة الرضاعة فيعتدي بذلك على حق الام في حضانة وليدها، كما أنّ على الام التي اعطيت هذا الحق أن لا تستغله وأن لا تتذرّع بمختلف الأعذار الموهومة للتنصّل من إرضاع وليدها، أو أن تحرم الأب من رؤية طفله. 5- ثم تبين الآية حكماً آخر يتعلق بما بعد وفاة الأب فتقول: «وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ».

يعني أنّ الورثة يجب عليهم تأمين احتياجات الام في مرحلة الرضاعة للطفل.

6- وتتحدث الآية أيضاً عن مسألة فطام الطفل عن الرضاعة وتجعله بعهدة كل من الأبوين على الرغم مما جاء في الآيات السابقة من تحديد فترة الرضاعة، إلّاأنّ للأبوين أن يفطما الطّفل وقت ما يشاءان حسب ما تقتضيه صحة الطفل وسلامته الجسمية، وتقول الآية: «فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا».

7- أحياناً

تمتنع الام من حضانة الطفل وممارسة حقها في إرضاعه ورعايته أو أنّه يوجد هناك مانع حقيقي لذلك، ففي هذه الصورة يجب التفكير في حلّ هذه المسألة ولهذا تقول الآية: «وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلدَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا ءَاتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ».

وعلى هذا الأساس لا مانع من اختيار مرضعة بدل الام بعد توافق الطرفين بشرط أنّ هذا الأمر لا يسبّب إهدار حقوق الام بالنسبة إلى المدة الفائتة من الرضاعة.

وفي الختام تحذّر الآية الجميع وتقول: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».

فلا ينبغي للاختلافات التي تحصل بين الزوجين أن تؤدي إلى إيقاد روح الإنتقام فيهما حيث يعرّض مستقبلهما ومستقبل الطفل إلى الخطر، فلابد أن يعلم الجميع بأنّ اللَّه تعالى يراقب أعمالهم بدقة.

وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَ لكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً وَ لَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 193

خرافات تبعث على تعاسة المرأة: إنّ واحدة من المشاكل الرئيسية في حياة المرأة هي الزواج بعد موت زوجها. إنّ احترام الحياة الزوجية بعد موت أحد الزوجين أمر فطري، بحيث نجد في مختلف القبائل تقاليداً وطقوساً خاصة بهذا الموضوع على الرغم من أنّ بعض هذه العادات كانت تبلغ حدّ الإفراط الذي يقيّد المرأة بقيود ثقيلة تبلغ حدّ القضاء على

حياتها احتراماً لذكرى زوجها الراحل، كقيام بعض القبائل بحرق المرأة بعد موت زوجها، أو بدفنها حيّة معه في قبره، وبعض آخر كانوا يحرمون المرأة من الزواج بعد زوجها مدى الحياة، وفي بعض القبائل كان على المرأة أن تقضي بعض الوقت بجانب قبر زوجها تحت خيمه سوداء قذرة وفي ملابس رثّة بعيدة عن كل نظافة أو زينة أو اغتسال. إلّاأنّ الآية المذكورة تلغي كل هذه الخرافات، ولكنّها تحافظ على احترام الحياة الزوجية بإقرار العدة.

«وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ».

وبما أنّ أولياء وأقرباء المرأة يتدخّلون أحياناً في أمرها أو يأخذون بمصالحهم بنظر الاعتبار في زواجها المجدد تقول الآية في ختامها: «وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ». وسيجازي كل شخص بما عمله من أعمال سيئة أو حسنة.

وحسب ما وصلنا من أئمة المسلمين فإنّ على الأرامل في هذه الفترة أن يحافظن على مظاهر الحزن، أي ليس لهنّ أن يتزينّ مطلقاً، بل ينبغي التجرد من كل زينة، ولا شك أنّ فلسفة المحافظة على هذه العدة توجب ذلك أيضاً.

وإنّه مما يلفت النظر أنّ الأحكام الإسلامية بشأن العدة تأمر المرأة بالتزام العدة حتى وإن لم يكن هناك أي احتمال بأن تكون حاملًا.

الآية الثانية تشير إلى أحد الأحكام المهمة للنساء في العدة (بمناسبة البحث عن عدة الوفاة في الآيات السابقة) فتقول: «وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِن لَّاتُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَن تَقُولُوا قَوْلًا مَّعْرُوفًا».

فهذه الآية تبيح للرجال أن يخطبوا النساء اللواتي في عدة الوفاة بالكناية أو الإضمار في النفس «أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ» وهذا الحكم في الواقع من

أجل الحفاظ على حريم الزواج السابق من جهة، وكذلك لا يحرم الأرملة من حقها في تعيين مصيرها من جهة اخرى.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 194

ومن الطبيعي أن تفكر المرأة في مصيرها بعد وفاة زوجها، وكذلك يفكّر بعض الرجال بالزواج بهنّ للشروط اليسيرة السهلة في الزواج بالأرامل.

ثم تضيف الآية: «وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ». فمن المسلّم أنّ الشخص إذا عقد على المرأة في عدتها يقع العقد باطلًا، بل إنّه إذا أقدم على هذا العمل عالماً بالحرمة فإنّ هذه المرأة ستحرم عليها أبداً.

وبعد ذلك تعقّب الآية: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ».

لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَ لَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) في هاتين الآيتين نلاحظ أحكاماً اخرى للطلاق استمراراً للأبحاث السابقة. تقول الآية في البداية: «لَّاجُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً» «1». وهذا يعني جواز طلاق النساء قبل المقاربة الجنسية وقبل تعيين المهر، وهذا في صورة ما إذا علم الرجل أو كلا الزوجين بعد العقد وقبل المواقعة أنّهما لا يستطيعان استمرار الحياة الزوجية هذه، فمن الأفضل أن يتفارقا في هذا الوقت بالذات، لأنّ الطلاق في المراحل اللّاحقة سيكون أصعب.

ثم تبين الآية حكماً آخراً في هذا المجال وتقول: «وَمَتّعُوهُنَّ». أي: يجب أن تمنح المرأة هديّة

تناسب شؤونها فيما لو جرى الطلاق قبل المضاجعة وقبل تعيين المهر، ولكن يجب أن يؤخذ بنظر الاعتبار قدرة الزوج المالية في هذه الهديّة، ولذلك تعقّب الآية الشريفة بالقول:

«عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ». أي: أنّ الهديّة

______________________________

(1) «مس»: بمعنى الملامسة وهنا كناية عن الجماع؛ و «فريضة»: بمعنى الواجب وهنا جاءت بمعنى المهر.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 195

لابد أن تكون بشكل لائق وبعيدة عن الإسراف والبخل، ومناسبة لحال المُهدي والمُهدى إليه.

ولما كان لهذه الهديّة أثر كبير للقضاء على روح الإنتقام وفي الحيلولة دون إصابة المرأة بعُقد نفسية بسبب فسخ عقد الزواج، فإنّ الآية تعتبر هذا العمل من باب الإحسان «حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ». أي أن يكون ممزوجاً بروح الإحسان واللطف.

الملاحظة الاخرى في هذه الآية هي أنّ القرآن يعبّر عن الهدية التي يجب أن يعطيها الرجل للمرأة باسم (متاع) فالمتاع في اللغة هو كل ما يستمتع به المرء وينتفع به، ويطلق غالباً على غير النقود، لأنّ الأموال لا يمكن التمتع بها مباشرةً، بل لابد أوّلًا من تبديلها إلى متاع، ولهذا كان تعبير القرآن عن الهديّة بالمتاع.

ولهذا العمل أثر نفسي خاص، فكثيراً ما يحدث أن تكون الهدية من المأكل أو الملبس ونظائرهما مهما كانت زهيدة الثمن أثر بالغ في نفوس المُهدى إليهم لا يبلغه أبداً أثر الهديّة النقدية، لذلك نجد أنّ الروايات الواصلة إلينا عن أئمة الأطهار: تذكر هذه الهدايا بصورة مأكل أو ملبس أو أرض زراعية.

وتتحدث الآية التالية عن حالة الطلاق الذي لم يسبقه المضاجعة ولكن بعد تعيين المهر فتُبين أنّ الحكم في هذا اللون من الطلاق الذي يكون قبل المضاجعة وبعد تعيين المهر يوجب على الزوج دفع نصف المهر المعين «وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ

أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ».

وهذا هو الحكم القانوني لهذه المسألة، فيجب دفع نصف المهر إلى المرأة بدون أيّة نقيصة ولكن الآية تتناول الجوانب الأخلاقية والعاطفية وتقول: «إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النّكَاحِ».

أجل، فإنّ الآية في الجملة التالية تقول: «وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».

جملة «وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى تبين جانباً آخر من واجبات الزوج الإنسانية وهو أن يظهر الزوج التنازل والكرم فلا يسترجع شيئاً من المهر إن كان قد دفعه وإن لم يكن دفعه بعد فمن الأفضل دفعه كاملًا متنازلًا عن النصف الذي هو من حقه، وذلك لأنّ المرأة التي تنفصل عن زوجها بعد العقد تواجه صدمة نفسية شديدة ولا شك أنّ تنازل الرجل عن

مختصر الامثل، ج 1، ص: 196

حقّه من المهر لها يكون بمثابة البلسم لجرحها.

ونلاحظ تأكيداً في سياق الآية الشريفة على أصل (المعروف) و (الإحسان) فحتى بالنسبة إلى الطلاق والانفصال لا ينبغي أن يكون مقترناً بروح الإنتقام والعداوة، بل ينبغي أن يتم على أساس السماحة والإحسان بين الرجل والمرأة.

حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَ قُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان (وفي الدر المنثور أيضاً) عن زيد بن ثابت: إنّ النبي صلى الله عليه و آله كان يصلّي بالهاجرة «1» وكانت أثقل الصلوات على أصحابه، فلا يكون وراءه إلّاالصف أو الصفان، فقال: «لقد هممت أن أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة بيوتهم». فنزلت هذه الآية.

التّفسير

أهمية الصلاة وخاصة الوسطى: بما أنّ الصلاة أفضل وسيلة مؤثرة تربط بين الإنسان وخالقه، لذلك ورد

التأكيد في آيات القرآن الكريم عليها، ومن ذلك ما ورد في الآية محل البحث حيث تقول: «حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَوةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ».

المراد من «الصَّلَوةِ الْوُسْطَى هي صلاة الظهر والتأكيد على هذه الصلاة كان بسبب حرارة الجو في الصيف، أو بسبب انشغال الناس في امور الدنيا والكسب فلذلك كانوا لا يعيرون لها أهمية.

وفي الآية الثانية تؤكد على أنّ المسلم لا ينبغي له ترك الصلاة حتى في أصعب الظروف والشرائط كما في ميدان القتال، غاية الأمر أنّ الكثير من شرائط الصلاة في هذا الحال تكون غير لازمة كالإتجاه نحو القبلة وأداء الركوع والسجود بالشكل الطبيعي، ولذا تقول الآية:

«فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا».

سواءً كان الخوف في حال الحرب أو من خطر آخر، فإنّ الصلاة يجب أداءها بالإيماء والإشارة للركوع والسجود، سواءً كنتم مشاة أو راكبين.

______________________________

(1) الهاجرة: نصف النهار عند اشتداد الحرّ.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 197

«فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ». ففي هذه الصورة، أي في حالة الأمان يجب عليكم أداء الصلاة بالصورة الطبيعية مع جميع آدابها وشرائطها.

ومن الواضح أنّ أداء الشكر لهذا التعليم الإلهي للصلاة في حالة الأمن والخوف هو العمل على وفق هذه التعليمات.

فالآية توضّح أنّ إقامة الصلاة والإرتباط بين العبد وخالقه يجب أن يتحقق في جميع الظروف والحالات، وبهذا تتحصل نقطة ارتكاز للإنسان واعتماده على اللَّه.

وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَ لِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) تعود هذه الآيات لتذكر بعض مسائل الزواج والطلاق

والامور المتعلقة بها وفي البداية تتحدّث عن الأزواج الذين يتوسّدون فراش الاحتضار ولهم زوجات فتقول: «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ». أي أنّ الأشخاص من المسلمين إذا حانت ساعة وفاتهم وبقيت زوجاتهم على قيد الحياة فينبغي أن يوصوا بأزواجهم في النفقة والسكن في ذلك البيت لمدّة سنة كاملة، وهذا طبعاً في صورة ما إذا بقيت الزوجة في بيت زوجها ولم تخرج خارج البيت، ولهذا تضيف الآية: «فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِى مَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَّعْرُوفٍ». كأن يخترن زوجاً جديداً، فلا مانع من ذلك ولا إثم عليكم ولكن يسقط حقها في النفقة والسكنى.

وفي ختام الآية تشير إلى أنّه لا ينبغي التخوّف من عاقبة خروج النسوة، فتقول بأنّ اللَّه قادر على فتح أبواب اخرى أمامهنّ بعد وفاة الأزواج فلو حدثت مشكلة في البيت ولحقت بها مصيبة فإنّ ذلك سيكون لحكمة حتماً لأنّ اللَّه تعالى عزيز حكيم: «وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».

فلو أغلق باباً بحكمته فسوف يفتح اخرى بلطفه.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 198

يعتقد الكثير من المفسرين أنّ هذه الآية قد نسخت بالآية (234) من هذه السورة التي سبق بيانها وفيها ورد أنّ عدّة الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيام وعلى الرغم من أنّ تلك الآية تأتي قبل هذه الآية من حيث الترتيب ولكننا نعلم أنّ الآيات في السورة لم ترتّب بحسب نزولها بل قد نجد آيات متأخرة في النزول وضعت متقدمة في الترتيب.

في الآية الثانية يبين القرآن الكريم حكماً آخر من أحكام الطلاق ويقول: «وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ». أي أنّ المتقين يجب عليهم تقديم هديّة لائقة للنساء المطلقات.

وبالرغم من أنّ ظاهر الآية يشمل جميع النساء المطلقات، ولكن بقرينة الآية (236)

السابقة نفهم أنّ هذا الحكم يختص بمورد النسوة التي لم يقرّر لهنّ مهر بعد وقوع الطلاق قبل الوطى ء.

إنّ هذه الهدية- وطبق الروايات الواردة من الأئمة المعصومين عليهم السلام- تُعطى إلى المرأة بعد تمام العدة والإفتراق الكامل لا في عدة الطلاق الرجعي. وبعبارة اخرى: أنّ هذه الهدية ليست وسيلة للعودة، بل للوداع النهائي.

وفي آخر آية من الآيات مورد البحث والتي هي آخر آية من الآيات المتعلقة بالطلاق تقول: «كَذلِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ».

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت في أهل داوردان قرية قُبُلَ واسط، وقع فيهم طاعون فخرجوا هاربين فأماتهم اللَّه. قيل: إنّ ملكاً من ملوك بني اسرائيل أمرهم أن يخرجوا إلى قتال عدوهم فخرجوا فعسكروا. ثم جنبوا وكرهوا الموت، فاعتلوا وقالوا: إنّ الأرض التي نأتيها بها الوباء فلا نأتيها حتى ينقطع منها الوباء! فأرسل اللَّه عليهم الموت، فلمّا رأوا أنّ الموت كثر فيهم خرجوا من ديارهم فراراً من الموت. فلمّا رأى الملك ذلك قال: اللّهمّ ربّ

مختصر الامثل، ج 1، ص: 199

يعقوب وإله موسى، قد ترى معصية عبادك فأرهم آية من أنفسهم حتى يعلموا أنّهم لا يستطيعون الفرار منك! فأماتهم اللَّه جميعاً وأمات دوابهم وأتى عليهم ثمانية أيّام حتى انتفخت وأروحت أجسادهم.

قالوا: وأتى على ذلك مدّة حتى بليت أجسادهم وعريت عظامهم وتقطعت أوصالهم فمرّ عليهم حزقيل «1» وجعل يتفكر فيهم متعجباً منهم. فأوحى اللَّه إليه: يا حزقيل تريد أن أريك آية وأريك كيف احيي الموتى؟ قال: نعم. فأحياهم اللَّه تعالى.

التّفسير

هذه الآية تشير

إشارة عابرة ولكنها معبّرة عن قصة أحد الأقوام السالفة التي انتشر بين أفرادها مرض خطير وموحش بحيث هرب الآلاف منهم من ذلك المكان فتقول الآية: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ».

ثم إنّ الآية أشارت إلى عاقبتهم فقالت: «فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ» لتكون قصّة موتهم وحياتهم مرّة اخرى عبرة للآخرين.

ومن الواضح أنّ المراد من «مُوتُوا» هو أمر اللَّه التكويني الحاكم على كل حيّ في عالم الوجود. أي إنّ اللَّه تعالى أوجد أسباب هلاكهم فماتوا جميعاً في وقت قصير، وهذه أشبه بالأمر الذي ورد في الآية (82) من سورة يس: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ».

وجملة «ثُمَّ أَحْيَاهُمْ» إشارة إلى عودتهم إلى الحياة بعد موتهم إستجابة لدعاء (حزقيل النّبي عليه السلام) كما ذكرنا في سبب نزول الآية، ولمّا كانت عودتهم إلى الحياة مرّة اخرى من النعم الإلهية البينة (نعمة لهم ونعمة لبقية الناس للعبرة) ففي ختام الآية تقول: «إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَشْكُرُونَ». فليست نعمة اللَّه وألطافه وعنايته تنحصر بهؤلاء، بل لجميع الناس.

العالم الشيعي المعروف ب «الصدوق» استدلّ بهذه الآية على القول بالرجعة وقال: (إنّ من معتقداتنا الرجعة) أي رجوع طائفة من الناس الذين ماتوا في الأزمنة الغابرة إلى هذه الدنيا مرّة اخرى، ويمكن كذلك أن تكون هذه الآية دليلًا على المعاد وإحياء الموتى يوم القيامة.

______________________________

(1) قيل: إنّ حزقيل هو ثالث خلفاء بني إسرائيل بعد موسى (تفسير مجمع البيان).

مختصر الامثل، ج 1، ص: 200

وَ قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَ اللَّهُ يَقْبِضُ وَ يَبْسُطُ وَ

إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان في سبب نزول الآية الثانية: إنّ النبي صلى الله عليه و آله قال: «من تصدّق بصدقة فله مثلها في الجنة». فقال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول اللَّه إنّ لي حديقتين إن تصدقت بإحداهما فإنّ لي مثليها في الجنة؟ قال: «نعم». قال: وامّ الدحداح معي؟ قال: «نعم». قال:

والصبية معي؟ قال: «نعم». فتصدّق بأفضل حديقتيه فدفعها إلى رسول اللَّه. فنزلت الآية، فضاعف اللَّه له صدقته ألفي ألف وذلك قوله: «أَضْعَافًا كَثِيرَةً».

التّفسير

هذه الآيات تشرع في حديثها عن الجهاد. في البداية تقول الآية: «وَقَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ». يسمع أحاديثكم ويعلم نيّاتكم ودوافعكم النفسية في الجهاد.

ثم يضيف القرآن في الآية التالية: «مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً». أي: ينفق من الأموال التي رزقه اللَّه تعالى إيّاها في طريق الجهاد وحماية المستضعفين والمعوزين. فعلى هذا يكون إقراض اللَّه تعالى بمعنى المصارف التي ينفقها الإنسان في طريق الجهاد.

وفي ختام الآية يقول: «وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ».

وتشير الآية إلى أنّه لا تتصوروا إنّ الإنفاق والبذل سوف يؤدّي إلى قلة أموالكم، لأنّ سعة وضيق ارزاقكم بيد اللَّه.

لماذا ورد التعبير بالقرض؟ لقد ورد التعبير بالقرض في مورد الإنفاق في عدّة آيات قرآنية، وهذا من جهة يحكي عظيم لطف اللَّه بالنسبة لعباده، وأهمية مسألة الإنفاق من جهة اخرى.

يقول الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة الخطبة (183): «واستقرضكم وله خزائن السماوات والأرض وهو الغنيّ الحميد وإنّما أراد أن يبلوكم أيّكم أحسن عملًا».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 201

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ

هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَنْ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَ مَا لَنَا أَنْ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ قَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَ أَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَ قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَ زَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ وَ اللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَ قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَ آلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَ جُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَ لَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَ جُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَ ثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَ انْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ قَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَ لَوْ لَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَ لكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)

مختصر الامثل، ج 1،

ص: 202

مختصر الامثل ج 1 239

اليهود الذين كانوا قد استضعفوا تحت سلطة الفراعنة استطاعوا أن ينجوا من وضعهم المأساوي بقيادة موسى عليه السلام الحكيمة حتى بلغوا القوّة والعظمة. لقد أنعم اللَّه على اليهود ببركة نبيّهم الكثير من النِعم بما فيها «صندوق العهد»، إلّاأنّ تلك النِعم والانتصارات أثارت في اليهود الغرور شيئاً فشيئاً، وأخذوا بمخالفة القوانين، وأخيراً اندحروا على أيدي الفلسطينيين وخسروا قوّتهم ونفوذهم بخسارتهم صندوق العهد.

استمرّت حالهم على هذا سنوات طوالًا، إلى أن أرسل إليهم اللَّه نبيّاً اسمه «اشموئيل» لإنقاذهم وهدايتهم، فتجمّع حوله اليهود الذين كانوا قد ضاقوا ذرعاً بالظلم وكانوا يبحثون عن ملجأ يأوون إليه، وطلبوا منه أن يختار لهم قائداً وأميراً لكي يتوحّدوا تحت لوائه، ويحاربوا العدوّ متّحدين يداً ورأياً، لإستعادة عزّتهم الضائعة.

فتوجّه اشموئيل إلى اللَّه يعرض عليه ما يطلبه القوم فأوحى إليه: أن اخترنا «طالوت» ملكاً عليهم.

التّفسير

في أوّل آية يخاطب اللَّه تعالى نبيّه الكريم ويقول: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِى إِسْرَاءِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِىّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلَكًا نُّقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ».

«الملأ»: هم الجماعة يجتمعون على رأي فيملأون العيون رواءً ومنظراً والنفوس بهاءً وجلالًا ولذلك يقال لأشراف كل قوم (الملأ) لأنّهم بما لهم من مقام ومنزلة يملأون العين.

وعلى الرغم من أنّ الجماعة المذكورة كانت تريد أن تدفع العدو المعتدي الذي أخرجهم من أرضهم ويعيدوا ما اخذ منهم، فقد وُصفت تلك الحرب بأنّها في سبيل اللَّه، وبهذا يتبين أنّ ما يساعد على تحرر الناس وخلاصهم من الأسر ورفع الظلم والعدوان يعتبر في سبيل اللَّه.

ولما كان نبيهم يعرف فيهم الضعف والخوف قال لهم: يمكن أن يصدر إليكم الأمر للجهاد فلا تطيعون «قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا

تُقَاتِلُوا».

ولكنهم قالوا: كيف يمكن أن نتملّص من محاربة العدو الذي أجلانا عن أوطاننا وفرّق

مختصر الامثل، ج 1، ص: 203

بيننا وبين أبنائنا «قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا» وبذلك أعلنوا وفاءهم وتمسكهم بالعهد.

ومع ذلك فإنّ هذا الجمع من بني إسرائيل لم يمنعهم اسم اللَّه ولا أمره ولا الحفاظ على استقلالهم والدفاع عن وجودهم ولا تحرير أبنائهم من نقض العهد، ولذلك يقول القرآن مباشرة بعد ذلك: «فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ».

وذكر صاحب تفسير روح المعاني (والتفسير الكبير أيضاً) أنّ عدّة من بقي مع طالوت (313 نفر) بعدد جيش الإسلام يوم بدر.

وعلى كل حال فإنّ نبيّهم أجابهم على طلبهم التزاماً منه بواجبه وجعل عليهم طالوت ملكاً بأمر من اللَّه تعالى: «وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا».

يظهر من كلمة «ملكاً» أنّ طالوت لم يكن قائداً للجيش فحسب، بل كان ملكاً على ذلك المجتمع.

ومن هنا بدأت المخالفات والاعتراضات وقال بعضهم: «قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ».

وهذا هو أوّل اعترضاً ونقض في العهد من قِبل بني إسرائيل لنبيّهم مع أنّه قد صرح لهم أنّ اللَّه هو اختار طالوت، وفي الواقع أنّهم اعترضوا على اللَّه تعالى.

غير أنّ القرآن الكريم يشير إلى الجواب القاطع على هذا الاعتراض إذ يقول: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِى الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ».

وهذا يعني أوّلًا: أنّ هذا الاختيار هو اختيار اللَّه تعالى؛ وثانياً: إنّكم على خطأ كبير في تشخيص شرائط القيادة، لأنّ النسب الرفيع والثروة الكبيرة ليستا امتيازين للقائد إطلاقاً لأنّهما من الامتيازات الاعتبارية الخارجيّة، أمّا العلم والمعرفة وكذلك القوة الجسمية فهما

امتيازان واقعيان ذاتيان حيث يلعبان دوراً مهماً في شخصية القائد.

ثم تضيف الآية: «وَاللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ».

هذه الجملة يمكن أن تكون إشارة إلى شرط ثالث للقائد، وهو توفير اللَّه تعالى الإمكانيات وآليات القيادة ووسائل الحكم.

الآية التالية تبين أنّ بني إسرائيل لم يكونوا قد اطمأنوا كل الاطمئنان إلى أنّ طالوت مبعوث من اللَّه تعالى لقيادتهم على الرغم من أنّ نبيهم صرح بذلك لهم ولهذا طلبوا منه

مختصر الامثل، ج 1، ص: 204

الدليل، فكان جوابه أنّ الدليل سيكون مجي ء التابوت أو صندوق العهد إليهم: «وَقَالَ لَهُمُ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ءَايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ».

إنّ التابوت هو الصندوق الذي وضعت فيه ام موسى ابنها موسى وألقته في اليم، وبعد أن انتشل أتباع فرعون الصندوق من البحر وأتوا به إليه وأخرجوا موسى منه، ظل الصندوق في بيت فرعون ثم وقع بأيدي بني إسرائيل، فكانوا يحترمونه ويتبركون به.

موسى عليه السلام وضع فيه الألواح المقدسة- التي تحمل على ظهرها أحكام اللَّه- ودرعه وأشياء اخرى تخصّه وأودع كل ذلك في أواخر عمره لدى وصيه يوشع ابن نون.

وبهذا ازدادت أهمية هذا الصندوق عند بني إسرائيل، فكانوا يحملونه معهم كلما نشبت حرب بينهم وبين الأعداء، ليصعّد معنوياتهم.

ولكن بعد هبوط التزاماتهم الدينية وغلبة الأعداء عليهم سلب منهم الصندوق.

واشموئيل- كما تذكر الآية- وعدهم بإعادة الصندوق باعتباره دليلًا على صدق قوله.

«فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَى وَءَالُ هرُونَ».

هذه الفقرة من الآية تبين أنّ الصندوق كما قلنا كان يحتوي على أشياء تضفي السكينة على بني إسرائيل وترفع معنوياتهم في الحوادث المختلفة.

«تَحْمِلُهُ الْمَلِكَةُ».

كيف جاء الملائكة بصندوق العهد؟ جاء في التاريخ أنّه عندما وقع صندوق العهد بيد عبدة الأصنام في فلسطين وأخذوه إلى حيث يعبدون فيه

أصنامهم، أصابتهم على أثر ذلك مصائب كثيرة، فقال بعضهم: ما هذه المصائب إلّابسبب هذا الصندوق، فعزموا على إبعاده عن مدينتهم وديارهم، ولمّا لم يرض أحد بالقيام بالمهمة اضطّروا إلى ربط الصندوق ببقرتين وأطلقوهما في الصحراء، واتفق هذا في الوقت الذي تمّ فيه نصب طالوت ملكاً على بني إسرائيل. وأمر اللَّه الملائكة أن يسوقوا الحيوانين نحو مدينة اشموئيل. وعندما رأى بنو إسرائيل الصندوق بينهم، اعتبروه إشارة من اللَّه على اختيار طالوت ملكاً عليهم.

وعليه نسب حمل الصندوق إلى الملائكة، لأنّهم هم الذين ساقوا البقرتين إلى بني إسرائيل.

ويستفاد مما تقدم أنّه بالرغم من ثبوت مسألة القيادة الإلهية لطالوت بالأدلة والمعاجز الإلهيّة، فهناك بعض الأفراد لضعف إيمانهم لم يسلّموا إلى هذا الحق، وقد ظهرت هذه الحقيقة

مختصر الامثل، ج 1، ص: 205

على أعمالهم العبادية، ومن ذلك تشير الجملة الأخيرة في هذه الآية: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ».

ثم إنّ بني إسرائيل رضخوا لقيادة طالوت فصنع منهم جيوشاً كثيرة وساروا إلى القتال، وهنا تعرض بني إسرائيل لاختبار عجيب ومن الأفضل أن نجمع تلك الأحداث ومجريات الامور من القرآن نفسه حيث يقول: «فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّى وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ» «1».

ويتضح في هذه الموارد الإمتحان الكبير الذي تعرض له بنو إسرائيل وهو المقاومة الشديدة للعطش وكان هذا الامتحان ضرورياً لجيش طالوت وخاصة مع سوابق هذا الجيش السيئة في بعض الحروب السابقة لأنّ الانتصار يتوقف على مقدار الانضباط وقدرة الإيمان والاستقامة في مقابل الأعداء والطاعة لأوامر القيادة.

وشرب الأكثرية كما قلنا في سرد الحكاية وكما جاء بإيجاز في الآية.

وهكذا جرت التصفية الثانية في جيش طالوت، وكانت التصفية

الاولى عندما نادى المنادي للاستعداد للحرب وطلب الجميع بالاشتراك في الجهاد إلّاالذين كانت لهم التزامات تجارية أو عمرانية أو نظائرها.

«فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَاطَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ».

تفيد هذه الآية أنّ تلك القلة التي نجحت في الامتحان هي وحدها التي تحرّكت معه، ولكن عندما خطر لهؤلاء القلة أنّهم مقدمون على مواجهة جيش جرّار وقوي، ارتفعت أصواتهم بالتباكي على قلة عددهم، وهكذا بدأت المرحلة الثالثة في التصفية.

«قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُّلقُوا اللَّهِ كَمْ مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ». إنّ «يظنّون» هنا تعني يعلمون، أي أنّهم على يقين من قيام يوم القيامة.

في الآية التالية يذكر القرآن الكريم موضوع المواجهة الحاسمة بين الجيشين ويقول: «وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ».

«برزوا»: من مادة «بروز» بمعنى الظهور، فعندما يستعد المحارب للقتال ويتّجه إلى

______________________________

(1) «جنود»: جمع «جند» في الأصل بمعنى الأرض الكثيره الأحجار والمتراكمة الصخور ثم اطلقت على كل شي ء متراكم وعادةً تأتي بمعنى الجيش الكبير.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 206

الميدان يقال أنّه برز للقتال، وإذا طلب القتال من الأعداء يقال أنّه طلب مبارزاً. انّ طالوت وجنوده طلبوا من اللَّه العلي القدير ثلاثة امور، الأوّل: الصبر والاستقامة، الثاني: أن يثبّت أقدامهم حتى لا يُرجّح الفرار على القرار، الثالث: من الامور التي طلبها جيش طالوت هو «وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ» وهو في الواقع الهدف الأصلي من الجهاد ويُنفّذ النتيجة النهائية للصبر والإستقامة وثبات الأقدام.

ومن المسلّم أنّ اللَّه تعالى سوف لا يترك عبادة هؤلاء لوحدهم أمام الأعداء مع قلة عددهم وكثرة جيش العدو، ولذلك تقول الآية التالية: «فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ».

وكان داود في

ذلك الوقت شابّاً صغير السن وشجاعاً في جيش طالوت. أنّ داود كان ماهراً في قذف الحجارة بالقلّاب حيث وضع في قلّابه حجراً أو اثنين ورماه بقوة وبمهارة نحو جالوت، فأصاب الحجر جبهته بشدة فصرعه في الوقت، فتسّرب الخوف إلى جميع أفراد جيشه، فانهزموا بسرعة أمام جيش طالوت، وكأنّ اللَّه تعالى أراد أن يظهر قدرته في هذا المورد وأنّ الملك العظيم والجيش الجرّار لا يستطيع الوقوف أمام شاب مراهق مسلح بسلاح ابتدائي لا قيمة له.

تضيف الآية: «وَءَاتَيهُ اللَّهُ المُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ». وعلى الرّغم من أنّ الآية لا تقول أنّ داود هذا هو داود النبي والد سليمان عليهما السلام ولكن جملة «وَءَاتَيهُ اللَّهُ المُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ» تدلّ على أنّه وصل إلى مقام النبوة.

وفي ختام الآية إشارة إلى قانون كلي فتقول: «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ».

وهذه الآيات بشارة للمؤمنين الذين يقفون في مواقع أمامية من مواجهة الطواغيت والجبابرة فينتظرون نصرة اللَّه لهم.

و آخر آية في هذا البحث تقول: «تِلْكَ ءَايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ».

تشير هذه الآية إلى القصص الكثيرة التي وردت في القرآن بشأن بني إسرائيل وأنّ كلّا منها دليل على قدرة اللَّه وعظمته ومنزهة عن كل خرافة واسطورة (بالحق) حيث نزلت على نبي الأكرم صلى الله عليه و آله وكانت إحدى دلائل صدق نبوته وأقواله.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 207

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَ آتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَ أَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ

آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَ لكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) دور الأنبياء في حياة البشر: هذه الآية تشير إلى درجات الأنبياء ومراتبهم وجانباً من دورهم في حياة المجتمعات البشرية، تقول الآية: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ».

«مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ». هذه إشارة إلى بعض فضائل الأنبياء، وواضح أنّ المقصود بالآية موسى عليه السلام المعروف باسم «كليم اللَّه».

ثم تضيف الآية: «وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ». ومع الإلتفات إلّاأنّ الآية أشارت إلى التفاضل بين الأنبياء بالدرجات والمراتب، فيمكن أن يكون المراد في هذا التكرار إشارة إلى أنبياء معينين وعلى رأسهم نبي الإسلام الكريم لأنّ دينه آخر الأديان وأكملها.

أو أنّ المقصود من بعض الأنبياء السابقين، مثل إبراهيم إذ يقول سبحانه في الآية التالية:

«وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم». أي: لو شاء اللَّه ما أخذت امم هؤلاء الأنبياء تتقاتل فيما بينها بعد رحيل أنبيائها.

«وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيّنَاتِ وَأَيَّدْنهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ». أي أنّنا وهبنا عيسى عليه السلام براهين واضحة مثل شفاء المرضى المزمنين وإحياء الموتى والمعارف الدينية السامية.

أمّا المراد من (روح القدس) هو جبرائيل حامل الوحي الإلهي.

وتشير الآية كذلك إلى وضع الامم والأقوام السالفة بعد الأنبياء والاختلافات التي جرت بينهم فتقول: «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيّنَاتُ».

فمقام الأنبياء وعظمتهم لن يمنعا من حصول الاختلافات والإقتتال والحرب بين أتباعهم لأنّها سنّة إلهية أن جعل اللَّه الإنسان حرّاً ولكنه أساء الاستفادة من هذه الحرية: «وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ».

ثم تؤكد الآية أنّ اللَّه تعالى قادر على منع الاختلافات بين الناس بالإرادة التكوينية وبالجبر، ولكنه يفعل ما يريد وفق الحكمة المنسجمة مع تكامل الإنسان

ولذلك تركه مختاراً

مختصر الامثل، ج 1، ص: 208

«وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ».

ولا شك في أنّ بعض الناس أساء استخدام هذه الحرية، ولكن وجود الحرية في المجموع يُعتبر ضرورياً لتكامل الإنسان لأنّ التكامل الإجباري لا يُعدّ تكاملًا.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَ لَا خُلَّةٌ وَ لَا شَفَاعَةٌ وَ الْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) الإنفاق من أهمّ أسباب النجاة يوم القيامة: بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن الامم الماضية وجهاد حكوماتها الإلهيّة والاختلافات التي حدثت بعد الأنبياء عليهم السلام تخاطب هذه الآية المسلمين وتشير إلى أحد الواجبات المهمة عليهم التي تسبّب في تقوية بنيتهم الدّفاعيّة وتوحّد كلمتهم فتقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم».

جملة «مِمَّا رَزَقْنَاكُم» لها مفهوم واسع حيث يشمل الإنفاق الواجب والمستحب وكذلك الإنفاق المعنوي كالتعليم وأمثال ذلك، ولكن مع الإلتفات إلى التهديد الوارد في ذيل الآية لا يبعد أن يكون المراد به الإنفاق الواجب يعني الزكاة وأمثالها، مضافاً إلى أنّ الإنفاق الواجب هو الّذي يعزّز بيت المال ويقوّم كيان الحكومة.

ثم تضيف الآية: «مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لَّابَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ» «1».

«وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ». لأنّهم بتركهم الإنفاق والزكاة يظلمون أنفسهم ويظلمون الناس.

إنّ الكفر في الآية يعني التمرد والعصيان والتخلف عن إطاعة أمر اللَّه.

اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ لَا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَ هُوَ الْعَلِيُّ

الْعَظِيمُ (255)

______________________________

(1) «خُلّة»: مأخوذة من مادة «خلل» بمعنى الفاصلة بين شيئين وبما أنّ المحبّة والصداقة تحل في وجود الإنسان وروحه وتملأ الفواصل لذا اطلقت هذه المفردة على الصداقة العميقة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 209

آيةالكرسي من أهم آيات القرآن: يكفي لبيان أهمية وفضيلة هذه الآية ما جاء في تفسير مجمع البيان عن ابي بن كعب قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «يا أبا المنذر! أيّ آية في كتاب اللَّه أعظم؟» قلت: اللَّه لا إله إلّا هو الحي القيوم. قال: فضرب في صدري، ثم قال: «لِيَهْنِئْكَ العلم. والذي نفس محمّد بيده! إنّ لهذه الآية للساناً وشفتين، تقدس الملك عند ساق العرش».

وفي حديث آخر في المجمع عن عليّ عليه السلام قال سمعت رسول اللَّه يقول: «... سيّد القرآن البقرة وسيّد البقرة آية الكرسي. يا علي! إنّ فيها لخمسين كلمة في كل كلمة خمسون بركة».

وروى في المجمع عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «من قرأ آية الكرسي مرّة، صرف اللَّه عنه ألف مكروه من مكاره الدنيا وألف مكروه من مكاره الآخرة، أيسر مكروه الدنيا الفقر وأيسر مكروه الآخرة عذاب القبر».

وعن في المجمع أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «إنّ لكل شي ء ذروة وذروة القرآن آية الكرسي».

تبدأ الآية بذكر الذات المقدسة ومسألة التوحيد في الأسماء الحسنى والصفات العُليا للَّه عزّ وجلّ فتقول: «اللَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ».

«اللَّه»: يعني الذات الواحدة الجامعة لصفات الكمال، إنّه خالق عالم الوجود.

«الحي»: من كانت فيه حياة، وهذه الصفة المشبّهة كمثيلاتها تدلّ على الدوام والاستمرار، وحياة اللَّه حياة حقيقية لأنّ حياته عين ذاته وليس عارضة عليه مأخوذة من غيره، في الآية (58) من سورة الفرقان يقول: «وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَىّ الَّذِى لَايَمُوتُ».

«القيوم»: صيغة مبالغة من القيام.

لذلك فالكلمة تدلّ على الموجود الذي قيامه بذاته، وقيام كل الكائنات بوجوده.

ويتضح من هذا أنّ «قيّوم» هي في الواقع أساس كل صفات الفعل، وعليه فإنّ صفات الخالق والرازق والهادي والمحيي وأمثالها تتجمع كلها في «القيّوم».

وفي الحقيقة أنّ (الحي) يشمل جميع الصّفات الإلهية كالعلم والقدرة والسميع والبصير وأمثال ذلك، و (القيوم) تتحدث عن احتياج جميع المخلوقات إليه، ولذا قيل أنّ الاسم الأعظم الإلهي هو مجموع هاتين الصفتين.

ثم تضيف الآية: «لَاتَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ». «سنة»: عبارة عن النوم العارض للعين ولكن عندما يتوغّل كثيراً في الإنسان ويتعمّق ويعرض على العقل فيقال له (نوم).

وتشير هذه الآية إلى حقيقة استمرار فيض اللطف الإلهي وديمومته وعدم انقطاعه عن وجوده لحظة واحدة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 210

«لَّهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ». لا يكون هناك قيام بشؤون العالم بغير ملكية السماوات والأرض وما فيها، لذلك فهذه الآية- بعد ذكر قيومية اللَّه- تشير إلى حقيقة كون العالم كله ملك خاص للَّه، وأنّ كل تصرف يحدث فيه فبأمر منه.

من الواضح أنّ التقيد بهذا يعتبر في الواقع عاملًا مهماً من عوامل التربية، إذا اعتقد الإنسان أنّه ليس المالك الحقيقي لما يملك وإنّما هو يتصرف به لفترة قصيرة من الزمن، فسيمتنع- دون شكّ- عن الإعتداء على حقوق الآخرين وعن الحرص والطمع والاحتكار والبخل وأمثالها مما يتولد في الإنسان نتيجة التصاقه بالدنيا، فيكون ذلك مدعاةً لتربيته تربية تجعله قانعاً بحقوقه المشروعة.

«مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ». وهذا ردّ على ادعاء المشركين الذين يقولون إننا نعبد الأوثان لتكون شفعاءنا عند اللَّه كما ورد في الآية (3) من سورة الزمر: «مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى .

وهذه الآية من نوع الاستفهام الاستنكاري، أي ما من أحد

يتقدم بشفاعة إليه إلّابإذنه.

هذه الآية تكمل معنى قيومية اللَّه ومالكيته المطلقة لجميع ما في عالم الوجود.

«يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ». بعد الإشارة إلى الشفاعة في الآية السابقة، وإلى أنّ هذه الشفاعة لا تكون إلّابإذن اللَّه، تأتي هذه الجملة لبيان سبب ذلك فتقول إنّ اللَّه عالم بماضي الشفعاء ومستقبلهم، وبما خفي عليهم أيضاً.

وعلى هذا فأنّ اللَّه محيط بكلّ أبعاد الزمان والمكان فكل عمل حتى الشفاعة يجب أن تكون بإذنه.

وفي ثامن صفة مقدسة تقول الآية: «وَلَا يُحِيطُونَ بِشَىْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ».

ومن هذه الفقرة من الآية يستفاد أمرين:

الأوّل: أنّه لا أحد يعلم شيئاً بذاته، فجميع العلوم والمعارف البشرية إنّما هي من اللَّه تعالى.

والآخر: هو أنّ اللَّه تعالى قد يضع بعض العلوم الغيبية في متناول من يشاء من عباده فيطلعهم على ما يشاء من أسرار الغيب.

وفي تاسع وعاشر صفة إلهية تقول الآية: «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يُودُهُ حِفْظُهُمَا».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 211

وفي الصفة الحادية عشر والثانية عشر تقول الآية: «وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ».

وعلى هذا أنّ العرش حكومة اللَّه وقدرته يهيمن على السموات والأرض جميعاً وأنّ كرسىّ علمه يحيط بكل هذه العوالم، وما من شي ء يخرج عن نطاق حكمه ونفوذ علمه. أي أنّ اللَّه الذي هو أرفع وأعلى من كل شبيه وشريك، ومنزه عن كل نقص وعيب، وهو العظيم اللّامحدود، لا يصعب عليه أي عمل ولا يتعبه حفظ عالم الوجود وتدبيره، ولا يغفل عنه أبداً، وعلمه محيط بكل شي ء.

بل يستفاد من بعض الروايات أنّ الكرسي أوسع بكثير من السماوات والأرض. فقد جاء في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: «ما السماوات والأرض عند الكرسي إلّا كحلقة خاتم في فلاة، وما الكرسي عند العرش إلّاكحلقة

في فلاة».

لم يتوصّل العلم البشري بَعد لمعرفته وكشف الستار عن هذا المعنى.

إنّ جميع الروايات التي اوردت فضيلة آية الكرسي وعبّرت عنها بآية الكرسي تدلّ على أنّها آية واحدة لا أكثر.

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت في رجل من الأنصار يدعى أبا الحصين. وكان له ابنان، فقدم تجّار الشام إلى المدينة، يحملون الزيت. فلمّا أرادوا الرجوع من المدينة أتاهم ابنا أبي الحصين، فدعوهما إلى النصرانية، فتنصّرا ومضيا إلى الشام. فأخبر أبو الحصين رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فأنزل اللَّه تعالى «لَاإِكْرَاهَ فِى الدّينِ».

التّفسير

إنّ آية الكرسي هي مجموعة من توحيد اللَّه تعالى وصفاته الجمالية والجلالية التي تشكّل أساس الدين، وبما أنّها قابلة للأستدلال العقلي في جميع المراحل وليست هناك حاجة للإجبار والإكراه تقول هذه الآية: «لَاإِكْرَاهَ فِى الدّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَىّ».

«الرشد»: لغوياً تعني الهداية للوصول إلى الحقيقة، بعكس (الغيّ) التي تعني الانحراف عن الحقيقة والإبتعاد عن الواقع.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 212

وهذه الآية ردّ حاسم على الذين يتهمّون الإسلام بأنّه توسل أحياناً بالقوة وبحدّ السيف والقدرة العسكرية في تقدمه وإنتشاره.

ثم إنّ الآية الشريفة تقول كنتيجة لما تقدم: «فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَاانْفِصَامَ لَهَا».

«الطاغوت»: صيغة مبالغة من طغيان، بمعنى الإعتداء وتجاوز الحدود، ويطلق على كل ما يتجاوز الحد، لذلك فالطاغوت هو الشيطان والصنم والمعتدي والحاكم الجبار والمتكبر، وكل معبود غير اللَّه، وكل طريق لا ينتهي إلى اللَّه.

والمقصود بالطاغوت هو كل متعدّ للحدود وكل مذهب منحرف ضال.

«وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ». الإشارة في نهاية الآية إلى الحقيقة

القائلة إنّ الكفر والإيمان ليسا من الامور الظاهرية، لأنّ اللَّه عالم بما يقوله الناس علانية- وفي الخفاء- وكذلك هو عالم بما يكنّه الناس في ضمائرهم وقلوبهم.

اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) بعد أن أشير في الآيات السابقة إلى مسألة الإيمان والكفر وإتضاح الحق من الباطل والطريق المستقيم عن الطريق المنحرف توضّح هذه الآية الكريمة إستكمالًا للموضوع أنّ لكل من المؤمن والكافر قائداً وهادياً فتقول: «اللَّهُ وَلِىُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا». فهم يسيرون في ظل هذه الولاية من الظلمات إلى النور: «يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ».

ثم تضيف الآية إنّ أولياء الكفار هم الطاغوت (الأوثان والشيطان والحاكم الجائر وأمثال ذلك) فهؤلاء يسوقونهم من النور إلى الظلمات: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ» ولهذا السبب «أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَ اللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 213

تعقيباً على الآية السابقة التي تناولت هداية المؤمنين بواسطة نور الولاية والهداية الإلهيّة، وضلال الكافرين لإتّباعهم الطاغوت، يذكر اللَّه تعالى في هذه الآية: عدة شواهد لذلك، وأحدها ما ورد في الآية أعلاه وهي تتحدث عن الحوار الذي دار بين إبراهيم عليه السلام وأحد الجبارين في زمانه ويدعى (نمرود) فتقول: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْرهِيمَ فِى رَبّهِ».

وتعقّب الآية بجملة اخرى تشير فيها إلى الدافع الأساس لها

وتقول: إنّ ذلك الجبار تملّكه الغرور والكبر وأسكره الملك «أَن ءَاتَيهُ اللَّهُ المُلْكَ».

وما أكثر الأشخاص الذين نجدهم في الحالات الطبيعية أفراد معتدلين ومؤمنين، ولكن عندما يصلون إلى مقام أو ينالون ثروةً فإنّهم ينسون كل شي ء ويسحقون كل المقدسات.

وتضيف الآية أنّ ذلك الجبار سأل إبراهيم عن ربّه: من هو الإله الذي تدعوني إليه؟ «إِذْ قَالَ إِبْرهِيمُ رَبّىَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ».

الواقع أنّ أعظم قضية في العالم هي قضية الخلقة، يعني قانون الحياة والموت الذي هو أوضح آية على علم اللَّه وقدرته.

ولكن نمرود الجبار إتّخذ طريق المجادلة والسفسطة وتزييّف الحقائق لإغفال الناس والملأ من حوله فقال: إنّ قانون الحياة والموت بيدي «قَالَ أَنَا أُحْىِ وَأُمِيتُ».

ومن أجل إثبات هذه الدعوى الكاذبة استخدم حيلة كما ورد في الرواية المعروفة حيث أمر بإحضار سجينين أطلق سراح أحدهما وأمر بقتل الآخر، ثم قال لإبراهيم والحضّار:

أرأيتم كيف أحيي واميت.

ولكن إبراهيم قدّم دليلًا آخر لإحباط هذه الحيلة وكشف زيف المدعي بحيث لا يمكنه بعد ذلك من إغفال الناس فقال: «قَالَ إِبْرهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ» وهنا ألقم هذا المعاند حجراً «فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ وَاللَّهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».

وبهذا اسقط في يدي العدوّ المغرور، وعجز عن الكلام أمام منطق إبراهيم عليه السلام الحي، وهذا أفضل طريق لاسكات كل عدوّ عنيد.

ويتضح ضمناً من جملة «وَاللَّهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» أنّ الهداية والضلالة بالرغم من أنّهما من أفعال اللَّه تعالى، إلّاأنّ مقدماتهما بيد العباد، فارتكاب الآثام من قبيل الظلم والجور والمعاصي المختلفة تشكّل على القلب والبصيرة حُجُباً مظلمة تمنع من ادراك الحقائق على حقيقتها.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 214

أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَ هِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ

مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَ شَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَ انْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (259) هذه الآية تقصّ حكاية أحد الأنبياء القدامى، وهي من الشواهد الحيّة على مسألة البعث. الآية تشير إلى حكاية رجل سافر على حماره ومعه طعام وشراب، فمرّ بقرية قد تهدّمت وتحوّلت إلى أنقاض تتخلّلها عظام أهاليها النخرة، وإذ رأى هذا المشهد المروع قال:

كيف يقدر اللَّه على إحياء هؤلاء الأموات؟

عند ذلك أماته اللَّه مدة مائة سنة، ثم أحياه مرّة اخرى وسأله: كم تظنّ أنّك بقيت في هذه الصحراء؟ فقال وهو يحسب أنّه بقي سويعات: يوماً أو أقل، فخاطبه اللَّه بقوله: بل بقيت هنا مائة سنة، انظر كيف أنّ طعامك وشرابك طوال هذه المدة لم يصبه أي تغيّر بإذن اللَّه. ولكن لكي تؤمن بأنّك قد أمضيت مائة سنة كاملة هنا انظر إلى حمارك الذي تلاشى ولم يبق منه شي ء بموجب نواميس الطبيعة، بخلاف طعامك وشرابك، ثم انظر كيف إننا نجمع أعضاءه ونحييه مرّة اخرى، فعندما رأى كل هذه الامور أمامه قال: «أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ». أي: إنّني الآن على يقين بعد أن رأيت البعث بصورة مجسمة أمامي.

ومَن هذا النبي الذي تحدثت عنه هذه الآية؟ جاء في تفسير مجمع البيان: إنّ أشهر الأقوال: إنّه «العزير» ويؤيده حديث عن الإمام الصادق عليه السلام.

نعود إلى تفسير الآية: «أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْىِ هذِهِ اللَّهُ

بَعْدَ مَوْتِهَا».

هذه الآية تكملة للآية السابقة التي دارت حول التوحيد، هذه الآية والآيات التالية تجسّد مسألة المعاد.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 215

«عروش»: جمع عرش وهنا تعني السقف؛ و «خاوية»: في الأصل بمعنى خالية ولكنها هنا كناية عن الخراب والدمار وعليه فإنّ قوله «وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا» تعني أنّ دور تلك القرية كانت كلها خربة، فقد هوت سقوفها ثم انهارت الجدران عليها وهذا هو الخراب التام.

«فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ». إنّ ظاهر الآية يدل على أنّ النبي قد فارق الحياة، وبعد مائة سنة استأنف الحياة مرة اخرى، ولا شك أنّ موتاً وحياة كهذين هما من خوارق العادات، وإن لم يكن مستحيلًا، وعلى كل حال فإنّ الحوادث الخارقة للعادة في القرآن ليست منحصرة بهذه الحادثة بحيث نعمد إلى تأويلها.

«قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ». يسأل اللَّه نبيه في هذه الآية عن المدّة التي قضاها في النوم، فيتردد في الجواب بين قضائه يوماً كاملًا أو جزءاً من اليوم، ويستفاد من هذا التردّد أنّ الساعة التي أماته اللَّه فيها تختلف عن الساعة التي أحياه فيها من ساعات النهار، كأن تكون إماتته قد حدثت مثلًا قبل الظهر، واعيد إلى الحياة بعد الظهر، لذلك انتابه الشكّ إن كان قد نام يوماً كاملًا بليله ونهاره، أم أنّه لم ينم سوى بضع ساعات من النهار، ولهذا بعد أن قال إنّه قضى يوماً، راوده الشك فقال: «أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ». ولكنّه ما لبث أن سمع اللَّه يقول له: «بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ».

ثم أنّ اللَّه تعالى أمر نبيّه بأن ينظر إلى طعامه الذي كان معه من جهة، وينظر إلى مركوبه من جهة اخرى ليطمئن إلى واقعية الأمر فالأوّل بقي سالماً تماماً، أمّا الثاني

فتلاشى وأصبح رميماً، ليعلم قدرة اللَّه على حفظ الأشياء القابلة للفساد خلال هذه الأعوام ويدرك من جهة اخرى مرور الزمان على وفاته: «فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ». أي أنّ اللَّه القادر على إبقاء ما يسرع إليه التفسّخ والفساد كالطعام والشراب، قادر أيضاً على إحياء الموتى بيسر، فإبقاء الطعام والشراب نوع من إدامة الحياة لهذه المواد السريعة التفسّخ وعملية الإبقاء هذه ليست بأيسر من إحياء الموتى.

«وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ». إنّ الآيات التالية تشير إلى أنّ حماره قد تلاشى تماماً بمضيّ الزمان ولولا ذلك لما كان هناك ما يشير إلى انقضاء مائة سنة.

«وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِّلنَّاسِ». أي أنّ حكايتك هذه ليست آية لك وحدك، بل هي كذلك للناس جميعاً.

«وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا». واضح أنّ العظام المقصودة هي

مختصر الامثل، ج 1، ص: 216

عظام حماره المتلاشي، لا عظام أهل القرية لما في ذلك من انسجام مع الآيات السابقة.

«فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ». عندما اتّضحت كل هذه المسائل للنبيّ المذكور قال إنّه يعلم أنّ اللَّه قادر على كل شي ء.

وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) تجلّ آخر للمعاد في هذه الدنيا: يذكر القرآن الكريم حول مسألة المعاد بعد قصّة عزير قصّة اخرى عن إبراهيم عليه السلام ليكتمل البحث، ويذكر معظم المفسرين والمؤرخين في تفسير هذه الآية الرواية التالية:

روى في الكافي (وفي تفسير العياشي أيضاً) عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام أنّه

قال: لمّا رأى إبراهيم عليه السلام ملكوت السماوات والأرض التفت ... فرأى جيفة على ساحل البحر بعضها في الماء وبعضها في البرّ تجي ء سباع البحر فتأكل ما في الماء ثم ترجع فيشتمل على بعض فيأكل بعضها بعضاً وتجي ء سباع البرّ فتأكل منها فيشتمل بعضها على بعض فيأكل بعضها بعضاً فعند ذلك تعجّب إبراهيم عليه السلام ممّا رأى وقال: يا ربّ أرني كيف تحيي الموتى؟

هذه أمم يأكل بعضها بعضاً. قال: أوَلم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئنّ قلبي. يعني حتى أرى هذا كما رأيت الأشياء كلها. قال: خذ أربعة من الطير فقطّعنّ وأخلطهنّ كما اختلطت هذه الجيفة في هذه السباع التي أكل بعضها بعضاً فخلط ثم اجعل على كل جبل منهنّ جزءاً ثم ادعهنّ يأتينك سعياً فلمّا دعاهنّ أجبنه وكانت الجبال عشرة، قال: وكانت الطيور: الديك، والحمامة، والطاووس والغراب.

«وَإِذْ قَالَ إِبْرهِيمُ رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الْمَوْتَى .

سبق أن قلنا إنّ هذه الآية تكملة للآية السابقة في موضوع البعث، يفيد تعبير «أَرِنِى كَيْفَ ...» أنّه طلب الرؤية والشهود عياناً لكيفية حصول البعث لا البعث نفسه.

«قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى».

كان من الممكن أن يتصور بعضهم أنّ طلب إبراهيم عليه السلام هذا إنّما يدل على تزلزل إيمان

مختصر الامثل، ج 1، ص: 217

إبراهيم عليه السلام ولإزالة هذا التوهم أوحى إليه السؤال: «أوَلم تؤمن؟» لكي يأتي جوابه موضحاً الأمر، ومزيلًا كل التباس قديقع فيه البعض في تلك الحادثة، لذلك أجاب إبراهيم عليه السلام: «بَلَى وَلكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلبِى».

«قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا».

«صرهنّ»: من «الصَوْر» أي التقطيع، أو الميل، أو النداء، ومعنى التقطيع أنسب. أربعة من الطير واذبحهنّ وقطّعهنّ واخلطهنّ.

لقد كان

المقصود أن يشاهد إبراهيم عليه السلام نموذجاً من البعث وعودة الأموات إلى الحياة بعد أن تلاشت أجسادها.

وبذلك قام إبراهيم بهذا العمل وعندما دعاهنّ تجمّعت أجزائهنّ المتناثرة وتركبت من جديد وعادت إلى الحياة، وهذا الأمر أوضح لإبراهيم عليه السلام أنّ المعاد يوم القيامة سيكون كذلك على شكل واسع وبمقياس كبير جداً.

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) تعتبر مسألة الإنفاق إحدى أهمّ المسائل التي أكدّ عليها الإسلام والقرآن الكريم، والآية أعلاه هي أوّل آية في مجموعة الآيات الكريمة من سورة البقرة التي تتحدث عن الإنفاق، ولعل ذكرها بعد الآيات المتعلقة بالمعاد من جهة أنّ أحد الأسباب المهمة للنجاة في الآخرة هو الإنفاق في سبيل اللَّه. تقول الآية الشريفة: «مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِى كُلّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ». فيكون المجموع المتحصّل من حبّة واحدة سبعمائة حبّة، وتضيف الآية بأنّ ثواب هؤلاء لاينحصر بذلك: «وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ».

وذلك بإختلاف النيّات ومقدار الإخلاص في العمل وفي كيفيته وكميته. ولا عجب في هذا الثواب الجزيل لأنّ رحمة اللَّه تعالى واسعة وقدرته شاملة وهو مطلع على كل شي ء «وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ».

الإنفاق ومشكلة الفوارق الطبقية: بالتدقيق في آيات القرآن الكريم يتضح أنّ واحداً من الأهداف التي يسعى لها الإسلام هو إزالة هذه الفوارق غير العادلة الناشئة من الظلم

مختصر الامثل، ج 1، ص: 218

الاجتماعي بين الطبقتين الغنية والفقيرة، ورفع مستوى معيشة الذين لا يستطيعون رفع حاجاتهم الحَيَوية ولا توفير حدّ أدنى من متطلباتهم اليومية دون مساعدة الآخرين.

وللوصول إلى هذا الهدف وضع الإسلام برنامجاً واسعاً يتمثّل

بتحريم الربا مطلقاً، وبوجوب دفع الضرائب الإسلامية كالزكاة والخمس، والحثّ على الإنفاق، والقرض الحسن، والمساعدات المالية المختلفة، وأهمّ من هذا كله هو إحياء روح الأخوة الإنسانية في الناس.

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَ لَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) الإنفاق المقبول: الآية السابقة بيّنت أهمية الإنفاق في سبيل اللَّه بشكل عام، ولكن هذه الآية بينت بعض شرائط هذا الإنفاق (ويستفاد ضمناً من عبارات هذه الآية أنّ الإنفاق هنا لا يختص بالإنفاق في الجهاد). تقول الآية: «الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا ... وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» «1».

يستفاد بوضوح من هذه الآية أنّ الإنفاق في سبيل اللَّه لا يكون مقبولًا عند اللَّه تعالى إذا تبعته المنة وما يوجب الأذى والألم للمعوزين والمحتاجين، وعليه فإنّ من ينفق ماله في سبيل اللَّه ولكنه يمنّ به على من ينفق عليه، أو ينفقه بشكل يوجب الأذى للآخرين فإنّه يحبط ثوابه وأجره بعمله هذا.

بل لعل المنة التي يمنّ بها عليه ونظرة التحقير التي ينظر بها إليه ذات أضرار باهضة يفوق ثمنها ما أنفقه من مال.

«لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ». تُطمئن هذه الآية المنفقين أنّ أجرهم محفوظ عند اللَّه لكي يواصلوا هذا الطريق بثقة ويقين، فما كان عند اللَّه باق ولا ينقص منه شي ء، بل أنّ عبارة (ربّهم) قد تشير إلى أنّ اللَّه تعالى سيزيد في أجرهم وثوابهم.

في تفسير البرهان، ذيل الآية مورد البحث، عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «من أسدى إلى مؤمن معروفاً ثم آذاه بالكلام أو منّ عليه فقد أبطل صدقته».

______________________________

(1) «منّ»: بمعنى حجر الميزان المعروف ثم

اطلقت على النعم المهمة التي يلاحظ فيها الجانب العملي «ومنن اللَّه تعالى من هذا القبيل» وإن كان الملحوظ فيها الجانب اللفظي كانت قبيحة جدّاً وفي الآية أعلاه وردت بهذا المعنى الثاني.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 219

قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَ مَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَ اللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) هذه الآية تكمّل ما بحثته الآية السابقة في مجال ترك المنّة والأذى عند الإنفاق والتصدّق فتقول: إنّ الكلمة الطيبة للسائلين والمحتاجين والصفح عن أذاهم أفضل من الصدقة التي يتبعها الأذى: «قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى».

ويجب أن يكون معلوماً أنّ ما تنفقوه في سبيل اللَّه فهو في الواقع ذخيرةٌ لكم لإنقاذكم ونجاتكم لأنّ اللَّه تعالى غير محتاج إليكم وإلى أموالكم وحليم في مقابل جهالاتكم «وَاللَّهُ غَنِىٌّ حَلِيمٌ».

روي في تفسير مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث، عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إذا سأل السائل فلا تقطعوا عليه مسألته حتى يفرغ منها، ثم ردّوا عليه بوقار ولين إمّا ببذل يسير أو ردّ جميل، فإنّه قد يأتيكم من ليس بإنسٍ ولا جانٍ ينظرونكم كيف صنيعكم فيما خوّلكم اللَّه تعالى».

في هذا الحديث يبيّن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله جانباً من آداب الإنفاق. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْ ءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَ اللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَ اللَّهُ

بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) دوافع الإنفاق ونتائجه: في هاتين الآيتين نهي للمؤمنين عن المنّ والأذى عند إنفاقهم في سبيل اللَّه، لأنّ ذلك يحبط أعمالهم، ثم يضرب القرآن مثلًا للإنفاق المقترن بالمنّ والأذى، ومثلًا آخر للإنفاق المنطلق من الإخلاص والعواطف الإنسانية.

يقول تعالى في المثال الأوّل: «فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ ...» «1».

______________________________

(1) قيل: إنّ حزقيل هو ثالث خلفاء بني إسرائيل بعد موسى (تفسير مجمع البيان).

مختصر الامثل، ج 1، ص: 220

تصوّر قطعة حجر صلد تغطّيه طبقة خفيفة من التراب، وقد وضعت في هذا التراب بذور سليمة، ثم عرّض الجميع للهواء الطلق وأشعة الشمس، فإذا سقط المطر المبارك على هذا التراب لا يفعل شيئاً سوى اكتساح التراب والبذور وبعثرتها، ليظهر سطح الحجر بخشونته وصلابته التي لا تنفذ فيها الجذور، وهذا ليس لأنّ أشعة الشمس والهواء الطلق والمطر كان لها تأثير سي ء، بل لأنّ البذر لم يزرع في المكان المناسب، ظاهر حسن وباطن خشن لا يسمح بالنفوذ إليه، قشرة خارجية من التربة لا تعين على نموّ النبات الذي يتطلّب الوصول إلى الأعماق لتتغذّى الجذور.

ويشبّه القرآن الإنفاق الذي يصاحبه الرياء والمنة والأذى بتلك الطبقة الخفيفة من التربة التي تغطّي الصخرة الصلدة والتي لا نفع فيها، بل أنّها بمظهرها تخدع الزارع وتذهب بأتعابه أدراج الرياح، هذا هو المثل الذي ضربه القرآن في الآية الاولى للإنفاق المرائي الذي يتبعه المنّ والأذى.

وفي نهاية الآية يقول تعالى: «وَاللَّهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ». وهو إشارة إلى أنّ اللَّه تعالى سوف يسلبهم التوفيق والهداية، لأنّهم أقدموا على الرياء والمنّة والأذى بأقدامهم، واختاروا طريق الكفر باختيارهم ومثل هذا الشخص لا يليق بالهداية.

في الآية التالية نقرأ مثالًا جميلًا آخر يقع في النقطة المقابلة لهذه الطائفة من المنفقين، وهؤلاء هم الذين ينفقون

أموالهم في سبيل اللَّه بدافع من الإيمان والإخلاص فتقول الآية:

«وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ».

تصوّر هذه الآية مزرعة خضراء يانعة تقع على أرض مرتفعة خصبة تستقبل الهواء الطلق وأشعة الشمس الوافرة والمطر الكثير النافع، وإذا لم يهطل المطر الوابل ينزل الطلّ وهو المطر الخفيف وذرات الهباب ليحافظ على طراوة المزرعة ولطافتها، فتكون النتيجة أنّ مزرعة كهذه تعطي ضعف ما تعطي المزارع الاخرى، فهذه الأرض فضلًا عن كونها خصبة بحيث يكفيها الطلّ والمطر الخفيف ناهيك عن المطر الغزير لإيناع حاصلها، وفضلًا عن كونها تستفيد كثيراً من الهواء الطلق وإشعة الشمس وتلفت الأنظار لجمالها، فإنّها لوقوعها على مرتفع تكون في مأمن من السيول.

فالآية الشريفة تريد أن تقول: إنّ الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللَّه لتمكّن الإيمان واليقين في قلوبهم وأرواحهم هم أشبه بتلك المزرعة ذات الحاصل الوافر المفيد والثمين.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 221

وفي ختام الآية تقول: «وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ». فهو سبحانه يعلم ما إذا كان الدافع على هذا الإنفاق إلهيّاً مقترناً بالمحبة والإحترام، أو للرياء المشفوع بالمنّة والأذى.

أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَ أَصَابَهُ الْكِبَرُ وَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) هنا يضرب القرآن مثلًا آخر يبين حاجة الإنسان الشديدة إلى الأعمال الصالحات يوم القيامة، وكيف أنّ الرياء والمن والأذى تؤثّر على الأعمال الصالحات فتزيل بركتها.

يتجسّد هذا التمثيل في صاحب مزرعة مخضرة ذات أشجار متنوعة كالنخيل والأعناب، وتجري فيها المياه بحيث لا تتطلّب السقي، لكن السنون نالت من صاحبها وتحلّق حوله أبناؤه الضعفاء، وليس ثمة ما يقيم أودهم سوى

هذه المزرعة، فإذا جفّت فلن يقدر هو ولا أبناؤه على إحيائها، وفجأةً تهبّ عاصفة محرقة فتحرقها وتبيدها، في هذه الحالة ترى كيف يكون حال هذا العجوز الهرم الذي لا يقوى على الإرتزاق وتأمين معيشته ومعيشة أبنائه الضعفاء؟ وما أعظم أحزانه وحسراته!

«أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ» «1».

إنّ حال اولئك الذين يعملون عملًا صالحاً ثم يحبطونه بالرياء والمن والأذى أشبه بحال من تعب وعانى كثيراً حتى إذا حان وقت اقتطاف النتيجة ذهب كل شي ء ولم يبق سوى الحسرات والآهات. وتضيف الآية: «كَذلِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْأَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ».

لما كان منشأ كل تعاسة وشقاء- وعلى الأخص كل عمل أحمق كالمن على الناس- هو عدم إعمال العقل والتفكير في الامور، فإنّ اللَّه في ختام الآية يحثّ الناس على التعمق في التفكير في آياته: «كَذلِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْأَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ».

______________________________

(1) «الإعصار»: ريح تثير الغبار و هى تهب من اتجاهين مختلفين بحيث إنها تتجه من الأرض عمودياً إلى السماء.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 222

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَ مِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ لَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)

سبب النّزول

روى في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام أنّها نزلت في أقوام لهم أموال من ربا في الجاهلية، وكانوا يتصدّقون منها فنهاهم اللَّه عن ذلك وأمر بالصدقة من الطيّب الحلال.

التّفسير

الأموال التي يمكن إنفاقها: هذه الآية تبين نوعية الأموال التي يمكن أن تنفق في سبيل اللَّه. في بداية

الآية يأمر اللَّه المؤمنين أن ينفقوا من (طيبات) أموالهم. أي الأموال الجيدة النافعة والتي لا شبهة فيها من حيث حليتها. «وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ».

تقول هذه الآية: إننا وضعنا مصادر الثروة هذه تحت تصرفكم، لذلك ينبغي أن لا تمتنعوا عن إنفاق خير ما عندكم في سبيل اللَّه.

«وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بَاخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ» «1».

اعتاد معظم الناس أن ينفقوا من فضول أموالهم التي لا قيمة لها أو الساقطة التي لم تعد تنفعهم في شي ء، إنّ هذا النوع من الإنفاق لا هو يربّي روح المنفق، ولا هو يرتق فتقاً لمحتاج، بل لعلّه إهانة له وتحقير، فجاءت هذه الآية تنهى بصراحة عن هذا.

الآية تشير إلى فكرة عميقة وهي أنّ للإنفاق في سبيل اللَّه طرفين، فالمحتاجون في طرف، واللَّه في طرف آخر، فإذا اختير المال المنفق من زهيد الأشياء ففي ذلك إهانة لمقام اللَّه العزيز الذي لم يجده المنفق جديراً بطيبات ما عنده كما هو إهانة للذين يحتاجونه، وهم ربما يكونون من ذوي الدرجات الإيمانية السامية، وعندئذ يسبّب لهم هذا المال الردي ء الألم والعذاب النفسي.

وفي ختام الآية يقول: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌ». أي لا تنسوا أنّ اللَّه لا حاجة به

______________________________

(1) «تيمّم»: في الأصل بمعنى القصد أي شي ء وجاءت هنا بهذا المعنى واطلقت هذه الكلمة على التيمم لأنّ الإنسان يقصد الاستفادة من التراب الطاهر كما يقول القرآن: «فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيّبًا» (سورة النساء/ 43).

مختصر الامثل، ج 1، ص: 223

لإنفاقكم فهو غنيّ من كل جهة، بل أنّ جميع المواهب والنعم تحت أمره وفي دائرة قدرته، ولذلك فهو حميد ومستحق للثناء والحمد، لأنّه وضع كل هذه النعم بين أيديكم.

الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَ اللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً

مِنْهُ وَ فَضْلًا وَ اللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) مكافحة موانع الإنفاق: تشير الآية هنا وتعقيباً على آيات الإنفاق إلى أحد الموانع المهمة للإنفاق، وهو الوساوس الشيطانية، فتقول الآية في هذا الصدد: «الشَّيْطنُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ».

ويقول لكم: لا تنسوا مستقبل أطفالكم وتدبروا في غدكم، وأمثال هذه الوساوس المضلة، ومضافاً إلى ذلك يدعوكم إلى الإثم وإرتكاب المعصية: «وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ».

«الفحشاء»: تعني كل عمل قبيح وشنيع، ويكون المراد به في سياق معنى الآية البخل وترك الإنفاق في كثير من الموارد حيث يكون نوع من المعصية والإثم، لأنّ الإنفاق وإن بدأ في الظاهر أنّه أخذ، ولكنه في الواقع عطاء لرؤوس أموالهم مادياً ومعنوياً.

جاء في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «أنّ في الإنفاق شيئين من اللَّه وشيئين من الشيطان، فاللذان من اللَّه هما غفران الذنوب والسعة في المال، واللذان من الشيطان هما الفقر والأمر بالفحشاء».

«وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا». وعليه فإنّ المقصود بالمغفرة هو غفران الذنوب، والمقصود بالفضل هو إزدياد رؤوس الأموال بالإنفاق.

«وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ». في هذا إشارة إلى أنّ للَّه قدرة واسعة وعلماً غير محدود، فهو قادر على أن يفي بما يعد، ولا شك أنّ المرء يطمئن إلى هذا الوعد، لا كالوعد الذي يعده الشيطان المخادع الضعيف الذي يجرّ المرء إلى العصيان، فالشيطان ضعيف وجاهل بالمستقبل، ولذلك ليس وعده سوى الضلال والتحريض على الإثم.

يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَ مَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) مع الإلتفات إلى ما تقدم في الآية السابقة التي تحدثت عن تخويف الشيطان من الفقر ووعد الرحمن بالمغفرة والفضل الإلهي، ففي هذه الآية مورد البحث دار الحديث عن الحكمة

مختصر الامثل، ج 1، ص: 224

والمعرفة والعلم لأنّ الحكمة

فقط هي التي يمكنها التفريق والتمييز بين هذين الدافعين الرحماني والشيطاني وتدعوا الإنسان إلى ساحل المغفرة والرحمة الإلهية وترك الوساوس الشيطانية وعدم الإعتناء بالتخويف من الفقر. فتقول الآية: «يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ». وقد ذكر لكلمة «الحكمة» معان كثيرة منها (المعرفة والعلم بأسرار العالم) ومنها (العلم بحقائق القرآن) و (الوصول إلى الحق بالقول والعمل) و (معرفة اللَّه تعالى) و (أنّها النور الإلهي الذي يميّز بين وساوس الشيطان وإلهامات الرحمان).

والظاهر هو أنّ الحكمة تأتي بالمعنى الواسع حيث تشمل جميع هذه الامور بما فيها النبوّة التي هي نوع من العلم والإطلاع والإدراك.

«وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا».

رغم أنّ واهب الحكمة هو اللَّه فإنّ اسمه لم يرد في هذه الآية وإنّما بني الفعل للمجهول «وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ».

«وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبَابِ».

«التذكّر»: هو حفظ العلوم والمعارف في داخل الروح، والألباب جمع لب وهو قلب كل شي ء ومركزه، ولهذا قيل العقل اللّب.

تقول هذه الفقرة من الآية إنّ أصحاب العقول هم الذين يحفظون هذه الحقائق ويتذكرونها، رغم أنّ جميع الناس ذو عقل- عدا المجانين- فلا يوصفون جميعاً باولي الألباب، بل هؤلاء هم الذين يستخدمون عقولهم فيشقّون طريقهم على ضوء نورها الساطع.

وَ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَ إِنْ تُخْفُوهَا وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) تحدثت الآيات السابقة عن الإنفاق وبذل المال في سبيل اللَّه، وأن ينفق الشخص ذلك المال من الطيّب دون الخبيث، وأن يكون مشفوعاً بالمحبة والإخلاص وحسن الخلق، أمّا في

مختصر الامثل، ج 1، ص: 225

هاتين الآيتين أعلاه فيدور الحديث عن

كيفية الإنفاق وعلم اللَّه تعالى بذلك. فيقول اللَّه تعالى في الآية الاولى: «وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ».

تقول الآية: إنّ كل ما تنفقونه في سبيل اللَّه سواءً كان قليلًا أو كثيراً، جيداً أم رديئاً، من حلال إكتسب أم من حرام، مخلصاً كان في نيّته أم مرائياً، إتّبعه المنّ والأذى أم لم يتبعه، أكان الإنفاق ممّا أوجب اللَّه تعالى عليه أم ممّا أوجبه الإنسان على نفسه بنذر وشبهه، فإنّ اللَّه تعالى يعلم تفاصيله ويثيب عليه أو يعاقب.

وفي الختام تقول الآية: «وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ».

«الظالمين»: هنا إشارة إلى المحتكرين والبخلاء والمرائين والذين ينفقون بالمن والأذى، فإنّ اللَّه تعالى لا ينصرهم، وسوف لا ينفعهم ما أنفقوا لا في الدنيا ولا في الآخرة.

أجل فهؤلاء ليس لهم ناصر في الدنيا ولا شفيع في الآخرة، وهذه النتيجة من الخصائص المترتبة على الظلم والجور بأيّ صورة كان.

ويستفاد من هذه الآية ضمناً مشروعية النذر ووجوب العمل بمؤدّاه.

في الآية الثانية إشارة إلى كيفية الإنفاق من حيث السرّ والعلن فتقول: «إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِىَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ».

وسوف يعفو اللَّه عنكم بذلك: «وَيُكَفّرُ عَنكُم مِّن سَيَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ».

وقد جاء في بعض الأحاديث أنّ الإنفاق الواجب يفضّل فيه الإظهار، والمستحب يفضّل فيه الإخفاء.

هنالك أحاديث كثيرة بشأن غفران الذنوب بالإنفاق وردت عن أهل البيت عليهم السلام وفي كتب أهل السنة. من ذلك ما روى في تفسير مجمع البيان: «صدقة السرّ تطفي ء غضب الربّ وتطفي ء الخطيئة كما يطفي ء الماء النار».

يستفاد من جملة «وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» هو أنّ اللَّه عالم بما تنفقون سواء أكان علانية أم سرّاً كما أنّه عالم بنياتكم وأغراضكم من إعلان إنفاقكم ومن إخفائه.

لَيْسَ

عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَ مَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَ مَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَ مَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 226

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس: كان المسلمون يمتنعون عن الصدقة على غير أهل دينهم، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.

التّفسير

تحدثت الآيات السابقة عن مسألة الإنفاق في سبيل اللَّه بشكل عام، ولكن في هذه الآية الحديث عن جواز الإنفاق على غير المسلمين، بمعنى أنّه لا ينبغي ترك الإنفاق على المساكين والمحتاجين من غير المسلمين حتى تشتدّ بهم الأزمة والحاجة فيعتنقوا الإسلام بسبب ذلك.

تقول الآية: «لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَيهُمْ». فلا يصحّ أن تجبرهم على الإيمان وترك الإنفاق عليهم نوع من الإجبار على دخولهم إلى الإسلام وهذا الاسلوب مرفوض ورغم أنّ المخاطب في هذه الآية الشريفة هو النبي الأكرم صلى الله عليه و آله إلّاأنّه في الواقع يستوعب كل المسلمين.

ثم تضيف الآية: «وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاءُ» ومن تكون له اللياقة للهداية.

فبعد هذا التذكر تستمر الآية في بحث فوائد الإنفاق في سبيل اللَّه فتقول: «وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ».

وفي آخر عبارة من هذه الآية الكريمة نلاحظ تأكيداً أكثر على مقدار الإنفاق وكيفيته حيث تقول الآية: «وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَاتُظْلَمُونَ».

يعني أنّكم لا ينبغي أن تتصوروا أنّ إنفاقكم سيعود عليكم بربح قليل، بل إنّ جميع ما أنفقتم وتنفقون سيعود إليكم كاملًا، وذلك في اليوم الذي تحتاجون إليه بشدة، فعلى هذا لا تترددوا في الإنفاق أبداً.

ولكن لا ينبغي أن يتصور أنّ نتائج الإنفاق اخروية فحسب، بل إنّ له منافع في هذه الدنيا أيضاً

مادية ومعنوية.

لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَ مَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «نزلت الآية في أصحاب الصفّة وهم

مختصر الامثل، ج 1، ص: 227

نحو أربعمائة رجل لم يكن لهم مساكن بالمدينة ولا عشائر يأوون إليهم، فجعلوا أنفسهم في المسجد، وقالوا: نخرج في كل سرية يبعثها رسول اللَّه فحثّ الناس عليهم، وكان الرجل إذا أكل وعنده فضل، أتاهم به إذا أمسى».

التّفسير

خير مواضع الإنفاق: يبيّن اللَّه في هذه الآية أفضل مواضع الإنفاق وهي التي تتّصف بالصفات التالية:

1- «لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ». أي الذين شغلتهم الأعمال الهامّة كالجهاد ومحاربة العدو، وتعليم فنون الحرب، وتحصيل العلوم الاخرى عن العمل في سبيل الحصول على لقمة العيش كأصحاب الصفّة الذين كانوا خير مصداق لهذا الوصف «1».

ثم للتأكيد تضيف الآية: «لَايَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الْأَرْضِ». أي الذين لا يقدرون على الترحال لكسب العيش بالسفر إلى القرى والمدن الاخرى حيث تتوفر نِعم اللَّه تعالى، وعليه فإنّ القادرين على كسب معيشتهم يجب أن يتحمّلوا عناء السفر في سبيل ذلك وأن لا يستفيدوا من ثمار أتعاب الآخرين إلّاإذا كانوا منشغلين بعمل أهمّ من كسب العيش كالجهاد في سبيل اللَّه.

2- الذين «يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ». هؤلاء الذين لا يعرف الآخرون شيئاً عن بواطن امورهم ولكنهم- لما فيهم من عفة النفس والكرامة- يظنّون أنّهم من الأغنياء.

ولكن هذا لا يعني أنّهم غير معروفين. لذا تضيف الآية: «تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ». فإنّ على وجوههم علامات تنطق بما يعانون يدركها العارفون، فلون وجناتهم ينبي ء عما خفي من أسرارهم.

3- والثالث

من صفات هؤلاء أنهم لايصرّون في الطلب والسؤال: «لَايَسَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا» «2». أي أنّهم لا يشبهون الفقراء الشحّاذين الذين يلحّون في الطلب من الناس، فهم يمتنعون عن السؤال فضلًا عن الإلحاف، فالإلحاح في السؤال شيمة ذوي الحاجات العاديين وهؤلاء ليسوا عاديين.

______________________________

(1) «حصر»: بمعنى الحبس والمنع والتضييق و جاءت هنا بمعنى جميع الامور التى تمنع الإنسان من تأمين معاشه.

(2) «الحاف»: من مادة «لحاف» بمعنى الغطاء المعروف، واطلق على الاصرار فى السؤال لانه يغطى قلب الشخص المقابل.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 228

«وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ». في هذه الآية حثّ على الإنفاق وعلى الأخص الإنفاق على ذوي النفوس العزيزة الأبية، لأنّ المنفقين إذا علموا أنّ اللَّه عالم بما ينفقون حتى وإن كان سرّاً وأنّه سوف يثيبهم على ذلك، فستزداد رغبتهم في هذا العمل الكبير.

الاستجداء بدون حاجة حرام: إنّ أحد الذنوب الكبيرة هو السؤال والاستجداء والطلب من الناس من دون حاجة، لذلك وقد ورد في روايات متعددة النهي عن هذا العمل بشدة، ففي الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: «إنّ الصّدقة لا تَحلّ لِغنىّ».

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهَارِ سِرّاً وَ عَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)

سبب النّزول

جاء في تفسير العياشي عن أبي اسحاق، قال: كان لعليّ بن أبي طالب عليه السلام أربعة دراهم لم يملك غيرها، فتصدّق بدرهم ليلًا وبدرهم نهاراً وبدرهم سرّاً وبدرهم علانيةً فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و آله فقال: «يا علي ما حملك على ما صنعت؟» قال: «إنجاز موعود اللَّه». فأنزل اللَّه «الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّيلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً» الآية «1».

التّفسير

في هذه الآية يدور الحديث أيضاً عن

مسألة اخرى مما يرتبط بالإنفاق في سبيل اللَّه وهي الكيفيات المتنوعة والمختلفة للإنفاق، فتقول الآية: «الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّيلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ».

ومن الواضح أنّ إنتخاب أحد هذه الطرق المختلفة يتمّ مع رعاية الشرائط الأفضل للإنفاق، يعني أنّ المنفق يجب عليه مراعاة الجوانب الأخلاقية والاجتماعية في إنفاقه الليلي أو النهاري العلني أو السرّي.

ويمكن أن يكون تقديم الليل على النهار والسرّ على العلانية في الآية مورد البحث إشارة

______________________________

(1) ورد مضمون هذا الحديث في كتب تفسير أهل السنّة أيضاً، وينقله صاحب (الدرّ المنثور) عن ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن عساكر ومجاهد. ويرى البعض أنّ علماء الشيعة بالاتّفاق وأكثر علماء السنّة ذهبوا إلى أنّ هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام وفي علماء السنّة: الواحدي، الثّعلبي، مجاهد، السّدي، الكلبي، أبي صالح، علي بن حرب الطائي، القشيري، الثّمالي، الماوَردي، ابن أبي الحديد وغيرهم.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 229

إلى أنّ صدقة السرّ أفضل إلّاأن يكون هناك موجب لإظهاره رغم أنّه لا ينبغي نسيان الإنفاق على كل حال.

ومن المسلّم أنّ الشي ء الذي يكون عند اللَّه (وخاصة بالنظر إلى صفة الربوبية الناظرة إلى التكامل والنمو) لا يكون شيئاً قليلًا وغير ذا قيمة، بل يكون متناسباً مع ألطاف اللَّه تعالى وعناياته التي تتضمن بركات الدنيا وكذلك حسنات الآخرة والقرب إلى اللَّه تعالى.

ثم تضيف الآية: «وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ». لأنّهم يعلمون أنّهم بإزاء ما أنفقوه سوف ينالون أضعافه من فضل اللَّه وبركات إنفاقهم الفردية والاجتماعية والأخلاقية في الدنيا والآخرة.

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ

جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَ مَنْ عَادَ فَأُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَ يُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَ اللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَ آتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) في الآيات التي مضت كان الكلام على الإنفاق وبذل المال لمساعدة المحتاجين وفي سبيل رفاه المجتمع، وفي هذه الآيات يدور الكلام على الربا الذي يقف في الجهة المضادّة للإنفاق.

يقول تعالى: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبَوا لَايَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطنُ مِنَ الْمَسّ» «1».

فالآية تشبّه المرابي بالمصروع أو المجنون الذي لا يستطيع الإحتفاظ بتوازنه عند السير، فيتخبّط في خطواته. أي أنّ الذين يقومون في الدنيا قياماً غير متعقّل وغير متوازن يخالطه اكتناز جنوني للثروة سسيحشرون يوم القيامة كالمجانين.

______________________________

(1) «يتخبّطه»: من مادة «الخبط» هو فقدان توازن الجسم عند المشي أو القيام.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 230

«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَوا». هذه الآية تبين منطق المرابين فهم يقولون: ما الفرق بين التجارة والربا؟ ويقصدون أنّ كليهما يمثّلان معاملة تبادل بتراضي الطرفين واختيارهما.

يقول القرآن جواباً على ذلك: «وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَوا» ولم يزد في ذلك شرحاً وتفصيلًا، ربما لوضوح الإختلاف.

«فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مّن رَبّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ».

تقول الآية إنّ من بلغته نصيحة اللَّه بتحريم الربا واتّعظ فله الأرباح التي أخذها من قبل «أي أنّ القانون ليس رجعياً» لأنّ القوانين الرجعية تولد الكثير من المشاكل والاضطرابات في حياة الناس، ولذلك فإنّ القوانين تنفّذ عادةً من تاريخ سنّها.

وهذا لا يعني بالطبع أنّ للمرابين أن

يتقاضوا أكثر من رؤوس أموالهم من المدينين بعد نزول الآية، بل المقصود إباحة ما جنوه من أرباح قبل نزول الآية.

ثم يقول: «وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ». أي أنّ النظر إلى أعمال هؤلاء يوم القيامة يعود إلى اللَّه، وإن كان ظاهر الآية يدلّ على أنّ مستقبل هؤلاء من حيث معاقبتهم أو العفو عنهم غير واضح، ولكن بالتوجّه إلى الآية السابقة نفهم أنّ القصد هو العفو، ويظهر من هذا أنّ إثم الربا من الكبر بحيث إنّ حكم العفو عن الذين كانوا يتعاطونه قبل نزول الآية لا يذكر صراحة.

«وَمَنْ عَادَ فَأُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ». أي أنّ من يواصل تعاطي الربا على الرغم من كل تلك التحذيرات، فعليه أن ينتظر عذاباً أليماً في النار دائماً.

إنّ العذاب الخالد لا يكون نصيب من آمن باللَّه، لكن الآية تعد المصرّين على الربا بالخلود في النار، ذلك لأنّهم بإصرارهم هذا يحاربون قوانين اللَّه، ويلجّون في ارتكاب الإثم، وهذا دليل على عدم صحّة إيمانهم، وبالتالي فهم يستحقون الخلود في النار.

ثم إنّ الآية التالية تبين الفرق بين الربا والصدقة وتقول: «يَمْحَقُ اللَّهُ الرّبَوا وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ».

ثم يضيف: «وَاللَّهُ لَايُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ». يعني الذين تركوا ما في الصدقات من منافع طيبة والتمسوا طريق الربا الذي يوصلهم إلى نار جهنم.

«المحق»: النقصان التدريجي؛ و «الربا»: هو النمو التدريجي.

فالقرآن يقول إنّ اللَّه يسوق رؤوس الأموال الربوية إلى الفناء.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 231

وبالمقابل، فالأشخاص الذين يتقدمون إلى المجتمع بقلوب مليئة بالعواطف الإنسانية وينفقون من رؤوس أموالهم وثرواتهم يقضون بها حاجات المحتاجين من الناس يحظون بمحبة الناس وعواطفهم عموماً، وأموال هؤلاء فضلًا عن عدم تعرضها لأي خطر تنمو بالتعاون العام نموّاً طبيعياً، وهذا ما يعنيه القرآن بقوله: «وَيُربِى الصَّدَقَاتِ».

«الكفار»: من الكفور، بوزن

فجور، وهو المغرق في نكران الجميل والكفر بالنعمة، و «الأثيم»: هو الموغل في ارتكاب الآثام.

هذه الفقرة من الآية تشير إلى أنّ المرابين بتركهم الإنفاق والإقراض والبذل في سبيل رفع الحاجات العامة يكفرون بما أغدق اللَّه عليهم من النِعم، بل أكثر من ذلك يسخّرون هذه النِعم على طريق الإثم والظلم والفساد، ومن الطبيعي أنّ اللَّه لا يحب أمثال هؤلاء.

«إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ وَءَاتَوُا الزَّكَوةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ».

مقابل المرابين الآثمين الكافرين بأنعم اللَّه، هناك اناس من المؤمنين تركوا حبّ الذات، وأحيوا عواطفهم الفطرية، وارتبطوا باللَّه بإقامة الصلاة، وأسرعوا لمعونة المحتاجين بدفع الزكاة، وبذلك يحولون دون تراكم الثروة وظهور الاختلاف الطبقي المؤدّي إلى الكثير من الجرائم. هؤلاء ثوابهم محفوظ عند اللَّه ويرون نتائج أعمالهم في الدنيا والآخرة.

ثم إنّ هؤلاء لا يعرفون القلق والحزن، ولا يهدّدهم الخطر الذي يتوجّه إلى المرابين من قبل ضحاياهم في المجتمع.

وأخيراً فإنّهم يعيشون في اطمئنان تام «وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 232

سبب النّزول

في تفسير القمي: كان سبب نزولها أنّه لما أنزل اللَّه تعالى (الذين يأكلون الربا) فقام خالد بن الوليد إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: يا رسول اللَّه! ربا أبي في ثقيف، وقد أوصاني عند موته بأخذه فأنزل اللَّه تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ».

التّفسير

في الآية الاولى يخاطب اللَّه المؤمنين ويأمرهم بالتقوى ثم يأمرهم أن يتنازلوا عما بقي لهم في ذمّة الناس من فوائد ربوية «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِىَ مِنَ الرّبَوا إِن كُنتُم مُّوْمِنِينَ».

يلاحظ أنّ الآية بدأت بذكر الإيمان باللَّه واختتمت بذكره، ممّا يدلّ بوضوح على عدم انسجام الربا مع الإيمان باللَّه.

«فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا

بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ».

تتغيّر في هذه الآية لهجة السياق القرآني، فبعد أن كانت الآيات السابقة تنصح وتعظ، تهاجم هذه الآية المرابين بكل شدة، وتنذرهم بلهجة صارمة أنّهم إذا واصلوا عملهم الربوي ولم يستسلموا لأوامر اللَّه في الحق والعدل واستمرّوا في امتصاص دماء الكادحين المحرومين فلا يسع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلّاأن يتوسل بالقوة لإيقافهم عند حدّهم وإخضاعهم للحق، وهذا بمثابة إعلان الحرب عليهم، وهي الحرب التي تنطلق من قانون: «قَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِى ءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ» «1».

يستفاد من هذه الآية أنّ للحكومة الإسلامية أن تتوسل بالقوة لمكافحة الربا.

«وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَاتَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ».

أمّا إذا تبتم ورجعتم عن غيّكم وتركتم تعاطي الربا فلكم أن تتسلّموا من الناس المدينين لكم رؤوس أموالكم فقط «بغير ربح». وهذا قانون عادل تماماً لأنّه يحول دون أن تظلموا الناس ودون أن يصيبكم ظلم.

إنّ تعبير «لَاتَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ» وإن كان قد جاء بشأن المرابين ولكنه شعار إسلامي

______________________________

(1) سورة الحجرات/ 9.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 233

واسع وعميق. يعني أنّ المسلمين بقدر ما يجب عليهم تجنّب الظلم، يجب عليهم كذلك أن لا يستسلموا للظلم ولو قلّ الذين يتحمّلون الظلم لقلّ الظالمون أيضاً.

«وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ».

استكمالًا لبيان حق الدائن في الحصول على رأسماله «بدون ربح» تبين الآية هنا حقّاً من حقوق المدين إذا كان عاجزاً عن الدفع، ففضلًا عن عدم جواز الضغط عليه وفرض فائدة جديدة عليه كما كانت الحال في الجاهلية، فهو حقيق بأن يمهل مزيداً من الوقت لتسديد أصل الدَين عند القدرة والإستطاعة.

«وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ». وهذه في الواقع خطوة أبعد من المسائل الحقوقية، أي أنّها مسألة أخلاقية وإنسانية تكمل البحث

الحقوقي المتقدم، تقول الآية للدائنين أنّ الأفضل من كل ما سبق بشأن المدين العاجز عن الدفع هو أن يخطو الدائن خطوة إنسانية كبيرة فيتنازل للمدين عما بقي له بذمّته، فهذا خير عمل إنساني يقوم به، وكل من يدرك منافع هذا الأمر يؤمن بهذه الحقيقة.

من المألوف في القرآن أنّه بعد بيان تفاصيل الأحكام وجزئيات الشريعة الإسلامية يطرح تذكيراً عاماً شاملًا يؤكد به ما سبق قوله، لكي تنفذ الأحكام السابقة نفوذاً جيداً في العقل والنفس.

لذلك فإنّه في هذه الآية يذكّر الناس بيوم القيامة ويوم الحساب والجزاء، ويحذّرهم من اليوم الذي ينتظرهم حيث يوضع أمام كل امرى ء جميع أعماله دون زيادة ولا نقصان، وكل ما حفظ في ملفّ عالم الوجود يسلّم إليه دفعة واحدة، عندئذ تهوله النتائج التي تنتظره، ولكن ذلك حصيلة ما زرعه بنفسه وما ظلمه فيه أحد، إنّما هو نفسه ظلم نفسه «وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ».

ومما يلفت النظر أنّ تفسير «الدرّ المنثور» ينقل بطرق عديدة أنّ هذه الآية هي آخر آية نزلت على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولا يُستبعد هذا إذا أخذنا مضمونها بنظر الاعتبار.

إنّ للربا أثراً أخلاقياً سيئاً جدّاً في نفسيّة المدين ويثير في قلبه الكره والضغينة، ويفصم عرى التعاون الاجتماعي بين الأفراد والملل.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 234

في الأحاديث الإسلامية إشارة إلى آثار الربا الأخلاقية السيئة وردت في جملة قصيرة عن علة تحريم الربا عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّما حرّم اللَّه عزّ وجلّ الربا لكي لا يمتنع الناس من اصطناع المعروف» «1».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَ لَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَ لْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ

الْحَقُّ وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَ لَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَ لَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَ لَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَ أَدْنَى أَنْ تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَكْتُبُوهَا وَ أَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَ لَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَ لَا شَهِيدٌ وَ إِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (282) تدوين الأوراق التجارية: بعد أن شنّ القرآن على الربا والاحتكار والبخل حرباً شعواء، وضع تعليمات دقيقة لتنظيم الروابط التجارية والاقتصادية، لكي تنمو رؤوس الأموال نموّاً طبيعياً دون أن تعتريها عوائق أو تنتابها خلافات ومنازعات.

تضع هذه الآية التي هي أطول آيات القرآن تسعة عشر بنداً من التعليمات التي تنظّم الشؤون المالية، نذكرها على التوالي:

1- إذا أقرض شخص شخصاً أو عقد صفقة، بحيث كان أحدهما مديناً، فلكي لا يقع أيّ

______________________________

(1) وسائل الشيعة 12/ 423/ 4 (الباب 1 من أبواب الربا).

مختصر الامثل، ج 1، ص: 235

سوء تفاهم واختلاف في المستقبل، يجب أن يكتب بينهما العقد بتفاصيله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ». هذه الآية تشمل جميع المعاملات التي فيها دَين يبقى في ذمّة المدين، بما في ذلك القرض.

2- لكي يطمئن الطرفان على صحة العقد ويأمنا احتمال تدخّل أحدهما فيه، فيجب أن يكون الكاتب شخصاً ثالثاً:

«وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ».

3- على كاتب العقد أن يقف إلى جانب الحق وأن يكتب الحقيقة الواقعة «بِالْعَدْلِ».

4- يجب على كاتب العقد، الذي وهبه اللَّه علماً بأحكام كتابة العقود وشروط التعامل، أن لا يمتنع عن كتابة العقد، بل عليه أن يساعد طرفي المعاملة في هذا الأمر الاجتماعي: «وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ».

5- على أحد الطرفين أن يملي تفاصيل العقد على الكاتب ولكن أيّ الطرفين؟ تقول الآية: المدين الذي عليه الحق: «وَلْيُمْلِلِ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ».

6- على المدين عند الإملاء أن يضع اللَّه نصب عينيه، فلا يترك شيئاً إلّاقاله ليكتبه الكاتب: «وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيًا».

7- إذا كان المدين واحداً ممّن تنطبق عليه صفة «السفيه» وهو الخفيف العقل الذي يعجز عن إدارة أمواله ولا يميّز بين ضرره ومنفعته، أو «الضعيف» القاصر في فكره والضعيف في عقله المجنون، أو «الأبكم والأصم» الذي لا يقدر على النطق، فإنّ لوليّه أن يملي العقد فيكتب الكاتب بموجب إملائه: «فَإِن كَانَ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَايَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ».

8- على «الولي» في الإملاء والاعتراف بالدَين، أن يلتزم العدل وأن يحافظ على مصلحة موكّله وأن يتجنّب الإبتعاد عن الحق: «فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ».

9- بالإضافة إلى كتابة العقد، على الطرفين أن يستشهدا بشاهدين: «وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ» «1».

10 و 11- يجب أن يكون الشاهدان بالغين ومسلمين وهذا يستفاد من عبارة «مِن رِّجَالِكُمْ». أي ممّن هم على دينكم.

______________________________

(1) قال بعض إنّ التفاوت بين «شاهد» و «شهيد»: هو أنّ الشاهد يقال لمن حضر الواقعة حتى يمكنه أن يشهد عليها، والشهيد هو الذي يؤدّي الشهادة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 236

12- يجوز اختيار شاهدتين من النساء وشاهد من الرجال: «فإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ

فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ».

13- لابدّ أن يكون الشاهدان موضع ثقة: «مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ». يتبين من هذه الآية أنّ الشهود يجب أن يكونوا ممّن يُطمأنّ إليهم من جميع الوجوه، وهذه هي «العدالة» التي وردت في الأخبار أيضاً.

14- وإذا كان الشاهدان من الرجال، فلكل منهما أن يشهد منفرداً، أمّا إذا كانوا رجلًا واحداً وامرأتين، فعلى المرأتين أن تدليا بشهادتهما معاً لكي تذكّر إحداهما الاخرى إذا نسيت شيئاً أو أخطأت فيه.

أمّا سبب اعتبار شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل واحد، فهو لأنّ المرأة كائن عاطفي وقد تقع تحت مؤثرات خارجية، لذلك فوجود امرأة اخرى معها يحول بينها وبين التأثير العاطفي وغيره: «أَن تَضِلَّ إِحْدَيهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَيهُمَا الْأُخْرَى .

15- ويجب على الشهود إذا دُعوا إلى الشهادة أن يحضروا من غير تأخير ولا تهاون كما قال: «وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا».

وهذا من أهم الأحكام الإسلامية ولا يقوم القسط والعدل إلّابه.

16- تجب كتابة الدين سواء أكان الدَين صغيراً أو كبيراً، لأنّ الإسلام يريد أن لا يقع أيّ نزاع في الشؤون التجارية، حتى في العقود الصغيرة التي قد تجرّ إلى مشاكل كبيرة: «وَلَا تَسَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ». والسأم هو الملل من أمر لكثرة لبثه.

وتشير الآية هنا إلى فلسفة هذه الأحكام، فتقول إنّ الدقة في تنظيم العقود والمستندات تضمن من جهة تحقيق العدالة، كما أنّها تطمئن الشهود من جهة اخرى عند أداء الشهادة، وتحول من جهة ثالثة دون ظهور سوء الظن بين أفراد المجتمع: «ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا».

17- إذا كان التعاقد نقداً فلا ضرورة للكتابة: «إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا».

18- في المعاملات النقدية وإن لم تحتج إلى كتابة

عقد، لابدّ من شهود: «وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ».

19- وآخر حكم تذكره الآية هو أنّه ينبغي ألّا يصيب كاتب العقد ولا الشهود أيّ ضرر

مختصر الامثل، ج 1، ص: 237

بسبب تأييدهم الحق والعدالة: «وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ».

ثم تقول الآية إنّه إذا آذى أحد شاهداً أو كاتباً لقوله الحق فهو إثم وفسوق يخرج المرء من مسيرة العبادة للَّه: «وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ».

وفي الختام، وبعد كل تلك الأحكام، تدعو الآية الناس إلى التقوى وإمتثال أمر اللَّه:

«وَاتَّقُوا اللَّهَ». ثم تقول إنّ اللَّه يعلّمكم كل ما تحتاجونه في حياتكم المادية والمعنوية:

«وَيُعَلّمُكُمُ اللَّهُ». وهو يعلم كل مصالح الناس ومفاسدهم ويقرّر ما هو الصالح لهم: «وَاللَّهُ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ».

إنّ جملة «وَاتَّقُوا اللَّهَ» وجملة «وَيُعَلّمُكُمُ اللَّهُ» رغم أنّهما ذكرتا في الآية بصورة مستقلّة وقد عطفت إحداهما على الاخرى، ولكن إقترانهما معاً إشارة إلى الإرتباط الوثيق بينهما، ومفهوم ذلك هو أنّ التقوى والورع وخشية اللَّه لها أثر عميق في معرفة الإنسان وزيادة علمه وإطلاعه.

وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَ لَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) هذه الآية تكمل البحث في الآية السابقة وتشتمل على أحكام اخرى:

1- عند التعامل إذا لم يكن هناك من يكتب لكم عقودكم، كأن يقع ذلك في سفر، عندئذ على المدين أن يضع شيئاً عند الدائن بإسم الرهن لكي يطمئن الدائن: «وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ».

قد يبدو من ظاهر الآية لأوّل وهلة أنّ تشريع «قانون الرهن» يختص بالسفر، ولكن بالنظر إلى الجملة التالية وهي «وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا» يتبين أنّ القصد هو

بيان نموذج لحالة لا يمكن الوصول فيها إلى كاتب وعليه فللطرفين أن يكتفيا بالرهن حتى في موطنهما.

2- يجب أن يبقى الرهن عند الدائن حتى يطمئن «فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ».

3- جميع هذه الأحكام- من كتابة العقد واستشهاد الشهود وأخذ الرهن- تكون في حالة عدم وجود ثقة تامة بين الجانبين وإلّا فلا حاجة إلى كتابة عقد وعلى المدين أن يحترم ثقة الدائن به، فيسدّد دَينه في الوقت المعين وأن لا ينسى تقوى اللَّه: «فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 238

فَلْيُؤَدّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ». 4- على الذين لهم علم بما للآخرين من حقوق في المعاملات أو في غيرها، إذا دعوا للإدلاء بشهادتهم أن لا يكتموها لأنّ كتمان الشهادة من الذنوب الكبيرة «وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ».

طبيعي أنّ الشهادة تجب علينا إذا لم يستطع الآخرون إثبات الحق بشهادتهم، أمّا إذا ثبت الحق فيسقط وجوب الإدلاء بالشهادة عن الآخرين، أي أنّ أداء الشهادة واجب كفائي.

وبما أنّ كتمان الشهادة والإمتناع عن الإدلاء بها يكون من أعمال القلب، فقد نسب هذا الإثم إلى القلب، فقال: «فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ» ومرّة اخرى يؤكد في ختام الآية ضرورة ملاحظة الأمانة وحقوق الآخرين: «وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ».

لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (284) هذه تكملة للجملة الأخيرة في الآية السابقة وتقول: «لِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ». ولهذا السبب فهو يعلم جميع أفعال الإنسان الظاهرية منها والباطنية «وَإِن تُبْدُوا مَا فِى أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ».

يعني لا ينبغي لكم أن تتصوروا أنّ أعمالكم

الباطنية مثل كتمان الشهادة والذنوب القلبية الاخرى سوف تخفى على اللَّه تعالى الحاكم على الكون بأجمعه والمالك للسموات والأرض، فإنّه لا يخفى عليه شي ء، فلا عجب إذا قيل أنّ اللَّه تعالى يحاسبكم على ذنوبكم القلبية ويجازيكم عليها: «فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذّبُ مَن يَشَاءُ».

في ختام الآية تقول: «وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ». فهو عالم بكل شي ء يجري في هذا العالم، وقادر أيضاً على تشخيص اللّياقات والملكات، وقادر أيضاً على مجازات المتخلفين.

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلَائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قَالُوا سَمِعْنَا وَ أَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 239

علائم الإيمان وطريقه: لقد شرعت سورة البقرة ببيان بعض المعارف الإسلامية والاعتقادات الحقّة واختتمت بهذه المواضيع أيضاً كما في الآية أعلاه والآية التي بعدها، وبهذا تكون بدايتها ونهايتها متوافقة ومنسجمة.

وقد ذكر بعض المفسرين في تفسير بحر المحيط في سبب نزول هذه الآية أنّه لما نزل «وَإِن تُبْدُوا مَا فِى أَنفُسِكُمْ» الآية، أشفقوا منها ما تقرر الأمر على أن قالوا سمعنا وأطعنا فرجعوا إلى التضرع والاستكانة فمدحهم اللَّه وأثنى عليهم وقدّم ذلك بين يدى رفقه بهم وكشفه لذلك الكرب الذي أوجبه تأولهم فجمع لهم تعالى التشريف بالمدح والثناء ورفع المشقة في أمر الخواطر وهذه ثمرة الطاعة والإنقطاع إلى اللَّه تعالى كما جرى لبني إسرائيل ضد ذلك من ذمهم وتحميلهم المشقات من الذلة والمسكنة والجلاء إذ قالوا سمعنا وعصينا وهذه ثمرة العصيان والتمرد على اللَّه أعاذنا اللَّه تعالى من نقمه.

في البداية تقول: «ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ». فهذا المعنى وهذه الخصيصة تعتبر من إمتيازات الأنبياء الإلهيين جميعاً بأنّهم

مؤمنون بما جاءوا به إيماناً قاطعاً، فلا شك ولا شبهة في قلوبهم عن معتقداتهم، فقد آمنوا بها قبل الآخرين واستقاموا وصبروا عليها قبل الآخرين.

ثم تضيف الآية الكريمة: «وَالمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَانُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ». وهذه الجملة الأخيرة من كلام المؤمنين أنفسهم، حيث يؤمنون بجميع الأنبياء والمرسلين وشرائعهم.

ثم تضيف الآية أنّ المؤمنين مضافاً إلى إيمانهم الراسخ والجامع فإنّهم في مقام العمل أيضاً كذلك: «وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ».

وبهذا يتناغم الإيمان بالمبدأ والمعاد مع الالتزام العملي بجميع الأحكام الشرعية والدساتير الإلهية.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 240

مختصر الامثل ج 1 279

لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَ عَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَ لَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَ لَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَ اعْفُ عَنَّا وَ اغْفِرْ لَنَا وَ ارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) كما تقدم في تفسير الآية السابقة أنّ هاتين الآيتين تتعلقان بالأشخاص الذين استوحشوا من تعبير الآية السابقة في أنّ اللَّه تعالى مطلع على نياتهم وسيحاسبهم ويجازيهم عليها فقالوا: لا أحد منا يصفو قلبه عن الوسوسة والخاطرات القلبية. فالآية الحاضرة تقول: «لَايُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا».

إنّ كل الأحكام يمكن تقييدها وتفسيرها بهذه الآية حيث تتحدّد في إطار قدرة الإنسان.

ثم تضيف الآية: «لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ».

فالآية تنبّه الناس إلى مسؤولياتهم وعواقب أعمالهم، وتفنّد الأساطير التي تبري ء بعض الناس من عواقب أعمالهم، أو تجعلهم مسؤولين عن أعمال الآخرين دون دليل.

«رَبَّنَا لَاتُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا».

لما كان المؤمنون يعرفون أنّ مصيرهم يتحدّد بما كسبت أيديهم من أعمال

صالحة أو سيئة بموجب قانون «لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت» لذلك يتضرعون ويخاطبون اللَّه بلفظ «الرب» الذي يوحي بمعاني اللطف في النشأة والتربية قائلين: إذا كنا قد أذنبنا بسبب النسيان أو الخطأ، فاغفر لنا ذنوبنا برحمتك الواسعة وجنّبنا العقاب.

وعليه فإنّ النسيان الناشي ء عن التساهل يوجب العقاب.

فالخطأ يقال عادة في الامور التي تقع لغفلة من الإنسان وعدم إنتباه منه، أمّا النسيان فهو أن يتّجه الإنسان للقيام بعمل ما ولكنه ينسى كيف يقوم بذلك.

«رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا». «الإصر»: عقد الشي ء

مختصر الامثل، ج 1، ص: 241

وحبسه. وتطلق على الحمل الثقيل الذي يمنع المرء من الحركة.

وفي هذا المقطع من الآية يطلب المؤمنون من اللَّه تعالى طلبين: الأوّل أن يرفع عنهم الفروض الثقيلة التي قد تمنع الإنسان من إطاعة اللَّه، وهذا هو ما ورد (في الكافي) على لسان النبي صلى الله عليه و آله بشأن التعاليم الإسلامية، إذ قال: «بعثني (اللَّه تعالى) بالحنيفيّة السّهلة السّمحة».

وفي الطلب الثاني يريدون منه أن يعفيهم من الإمتحانات الصعبة والعقوبات التي لا تطاق «وَلَا تُحَمّلْنَا مَا لَاطَاقَةَ لَنَا بِهِ».

إنّ المؤمنين طلبوا من اللَّه أن يزيل الآثار التكوينية والطبيعية لزللهم عن أرواحهم ونفوسهم. وفي المرحلة الثالثة يطلبون «رحمته الواسعة» التي تشمل كل شي ء.

«أَنتَ مَوْلنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ».

وفي آخر دعواهم يخاطبون اللَّه على أنّه مولاهم الذي يتعهّدهم بالرعاية والتربية ويطلبون منه أنّ يمنحهم الفوز والانتصار على الأعداء.

«نهاية تفسير سورة البقرة»

مختصر الامثل، ج 1، ص: 243

3. سورة آل عمران

محتوى السورة:

1- إنّ قسماً مهمّاً من هذه السورة يرتبط بمسألة التوحيد وصفات اللَّه والمعاد والمعارف الإسلامية الاخرى.

2- وقسم آخر منها يتعلق بمسألة الجهاد وأحكامه المهمة والدقيقة، وكذلك الدروس المستفادة من غزوتي بدر واحد.

3- وفي قسم

من هذه السورة يدور الحديث حول سلسلة من الأحكام الإسلامية في ضرورة وحدة صفوف المسلمين وفريضة الحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتولي والتبري ومسألة الأمانة والإنفاق في سبيل اللَّه وترك الكذب وضرورة الاستقامة والصبر في مقابل الأعداء والمشكلات والامتحانات الإلهية المختلفة وذكر اللَّه على كل حال.

4- وتطرّقت هذه السورة إلى تكملة للأبحاث التي تتحدث عن تاريخ الأنبياء عليهم السلام وقصة مريم وكرامتها ومنزلتها عند اللَّه وكذلك المؤامرات التي كان يحوكها أتباع الديانة اليهودية والمسيحية ضدّ الإسلام والمسلمين.

فضيلة تلاوة هذه السورة: روى في تفسير مجمع البيان عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «من قرأ سورة آل عمران اعطى بكلّ آية منها أماناً على جِسر جهنّم».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 244

وفي تفسير نور الثقلين عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ البقرة وآل عمران جائا يوم القيامة يظلّانه على رأسه مثل الغمامتين أو مثل الغيابتين».

الم (1) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَ الْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَ أَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت أوائل السورة إلى نيف وثمانين آية في وفد نجران «1»، وكانوا ستين راكباً، قدموا على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وفيهم أربعة عشر رجلًا من أشرافهم وفي الأربعة عشر ثلاثة نفر يؤول إليهم أمرهم: العاقب أمير القوم، وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلّاعن رأيه واسمه عبد المسيح والسيد ثمالهم، وصاحب رحلهم، واسمه الأيهم وأبو حارثة بن علقمة أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم. وكان قد شرف فيهم،

ودرس كتبهم، وكانت ملوك الروم قد شرّفوه ومَوّلوه وبنو له الكنائس، لعلمه واجتهاده.

فقدموا على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله المدينة ودخلوا مسجده حين صلّى العصر، عليهم ثياب الحِبَرات، جُبَبٌ وأردية في جمال رجال بَلحَرِث بن كعب، يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: ما رأينا وفداً مثلهم وقد حانت صلاتهم فأقبلوا يضربون بالناقوس وقاموا فصلّوا في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالت الصحابة: يا رسول اللَّه! هذا في مسجدك؟ فقال رسول اللَّه: «دعوهم فصلوا إلى المشرق». فتكلم السيد والعاقب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقال لهما رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «أسلما». قالا: قد أسلمنا قبلك. قال: «كذبتما يمنعكما من الإسلام دعاؤكما للَّه ولداً، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير». قالا: إن لم يكن ولد اللَّه فمن أبوه؟ وخاصموه جميعاً في عيسى. فقال لهما النبي صلى الله عليه و آله: «ألستم تعلمون أنّه لا يكون ولد إلّا ويشبه أباه»؟ قالوا: بلى. قال: «ألستم تعلمون أنّ ربّنا حيّ لا يموت، وأنّ عيسى يأتي عليه

______________________________

(1) «نجران»: منطقة في جبال اليمن الشمالية على بعد نحو عشرة منازل من صنعاء، وتسكنها قبائل همدان التي كان لها في الجاهلية صنم باسم «يعوق».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 245

الفناء»؟ قالوا: بلى. قال: «ألستم تعلمون أنّ ربّنا قيّم على كل شي ء ويحفظه ويرزقه»؟ قالوا:

بلى. قال: «فهل يملك عيسى من ذلك شيئاً»؟ قالوا: لا. قال: «ألستم تعلمون أنّ اللَّه لا يخفى عليه شي ء في الأرض ولا في السماء»؟ قالوا: بلى. قال: «فهل يعلم عيسى من ذلك إلّاما علم»؟ قالوا:

لا. قال: «فإنّ ربّنا صَوّر عيسى في الرحم كيف شاء وربّنا لا يأكل ولا

يشرب ولا يُحدث». قالوا:

بلى. قال: «ألستم تعلمون أنّ عيسى حملته امّه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غُذِي كما يُغذى الصبي، ثم كان يطعم ويشرب ويحدث»؟ قالوا: بلى. قال: «فكيف يكون هذا كما زعمتم»؟ فسكتوا، فأنزل اللَّه فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية.

التّفسير

فيما يتعلق بالحروف المقطعة في القرآن، سبق الحديث عنها في بداية سورة البقرة فلا موجب لتكرار ذلك. في الآية الثانية يقول تعالى: «اللَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ».

سبق أنّ شرحنا هذه الآية في الآية (255) من سورة البقرة.

الآية التي تليها تخاطب نبي الإسلام صلى الله عليه و آله وتقول: إنّ اللَّه تعالى قد أنزل عليك القرآن الذي فيه دلائل الحق والحقيقة، وهو يتطابق تماماً مع ما جاء به الأنبياء والكتب السابقة (التوراة والإنجيل) التي بشّرت به وقد أنزلها اللَّه تعالى أيضاً لهداية البشر: «نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَيةَ وَالْإِنجِيلَ» «1».

ثم تضيف الآية: «مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ».

وبعد إتمام الحجة بنزول الآيات الكريمة من اللَّه تعالى وشهادة الفطرة والعقل على صدق دعوة الأنبياء، فلا سبيل للمخالفين سوى العقوبة، ولذلك تقول الآية محل البحث بعد ذكر حقانية الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله والقرآن المجيد: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَايَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ».

ومن أجل أن لا يتوهّم أحد أو يشك في قدرة اللَّه تعالى على تنفيذ تهديداته تضيف الآية: «وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ».

«عزيز»: في اللغة بمعنى كل شي ء صعب وغير قابل للنفوذ، ولذلك يقال للأرض الصعبة العبور (عزاز) وكذلك يطلق على كل أمر يصعب الحصول عليه لقلّته وندرته (عزيز) وكذلك تطلق هذه الكلمة على الشخص القوي والمقتدر الذي يصعب التغلّب عليه

أو

______________________________

(1) «الحق»: هو الموضوع الثابت المكين الذي لا باطل فيه.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 246

يستحيل التغلّب عليه، وكلما أطلقت كلمة (عزيز) على اللَّه تعالى يراد بها هذا المعنى، أي أنّه لا أحد يقدر على التغلّب عليه، وأنّ كل المخلوقات خاضعة لمشيئته وإرادته.

إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي الْأَرْضِ وَ لَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) علم اللَّه وقدرته المطلقة: هاتان الآيتان تكمّلان الآيات السابقة. في البداية تقول الآية الشريفة: «إِنَّ اللَّهَ لَايَخْفَى عَلَيْهِ شَىْ ءٌ فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى السَّمَاءِ».

فكيف يمكن أن يختفي عن أنظاره شي ء من الأشياء في حين أنّه حاضر وناظر في كل مكان، فلا يخلو منه مكان؟! وبما أنّ وجوده غيرمحدود، فلا يخلو منه مكان معين، ولهذا فهو أقرب إلينا من كل شي ء حتى من أنفسنا، وفي نفس الوقت الذي يتنزّه فيه اللَّه تعالى عن المكان والمحل، فإنّه محيط بكلّ شي ء.

ثم تبين الآية التالية واحدة من علم وقدرة اللَّه تعالى الرائعة، بل هي إحدى روائع عالم الخلقة ومظهر بارز لعلم اللَّه وقدرته المطلقة حيث تقول الآية: «هُوَ الَّذِى يُصَوّرُكُمْ فِى الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ». ثم تضيف: «لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

إنّه لأمر عجيب ومحيّر حقّاً أن يصوّر اللَّه الإنسان وهو في رحم امّه صوراً جميلة ومتنوعة في أشكالها ومواهبها وصفاتها وغرائزها.

وهذه الآية تؤكد أنّ المعبود الحقيقي ليس سوى اللَّه القادر الحكيم الذي يستحق العبادة، فلماذا إذن يختارون مخلوقات كالمسيح عليه السلام ويعبدونها؟!

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَ أُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَ مَا يَعْلَمُ

تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَ مَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)

سبب النّزول

جاء في تفسير نور الثقلين نقلًا عن كتاب «معاني الأخبار» حديث عن الإمام الباقر عليه السلام ما مضمونه: أنّ نفراً من اليهود ومعهم «حيي بن أخطب» وأخوه، جاءوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله

مختصر الامثل، ج 1، ص: 247

واحتجّوا بالحروف المقطعة «الم» وقالوا: بموجب حساب الحروف الأبجدية، فإنّ الألف في الحساب الأبجدي تساوي الواحد، واللّام تساوي 30، والميم تساوي 40، وبهذه فإنّ فترة بقاء امّتك لا تزيد على إحدى وسبعين سنة! ومن أجل أن يلجمهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تساءل وقال ما معناه: لماذا حسبتم «ألم» وحدها؟ ألم تروا أنّ في القرآن «المص» و «الر» ونظائرها من الحروف المقطعة، فإذا كانت هذه الحروف تدلّ على مدة بقاء امتي، فلماذا لا تحسبونها كلها؟ (مع أنّ القصد من هذه الحروف أمر آخر) وعندئذ نزلت هذه الآية.

التّفسير

المحكم والمتشابه في القرآن: تقدم في الآيات السابقة الحديث عن نزول القرآن بعنوان أحد الدلائل الواضحة والمعجزات البيّنة لنبوة الرسول صلى الله عليه و آله ففي هذه الآية تذكر أحد مختصّات القرآن وكيفية بيان هذا الكتاب السماوي العظيم للمواضيع والمطالب فيقول في البداية: «هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ». أي: آيات صريحة وواضحة والتي تعتبر الأساس والأصل لهذا الكتاب السماوي «هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ». ثم إنّ هناك آيات اخرى غامضة بسبب علوّ مفاهيمها وعمق معارفها أو لجهات اخرى «وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ».

هذه الآيات المتشابهة إنّما ذكرت لاختبار العلماء الحقيقيين وتميزهم عن الأشخاص المعاندين اللجوجين الذين يطلبون الفتنة، فلذلك تضيف الآية: «فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ

مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ» «1». فيفسّرون هذه الآيات المتشابهة وفقاً لأهواءهم كيما يضلّوا الناس ويشبّهوا عليهم.

«وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ».

ثم تضيف الآية: أنّ هؤلاء أي الراسخون في العلم بسبب دركهم الصحيح لمعنى المحكمات والمتشابهات «يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبّنَا». أجل «وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبَابِ».

من هذه الآية نستنتج أنّ آيات القرآن قسمان: قسم معانيها واضحة جدّاً بحيث لا يمكن إنكارها ولا إساءة تأويلها وتفسيرها، وهذه هي الآيات «المحكمات» وقسم آخر مواضيعها رفيعة المستوى أو أنّها تدور حول عوالم بعيدة عن متناول أيدينا، كعلم الغيب، وعالم يوم القيامة، وصفات اللَّه، بحيث إنّ معرفة معانيها النهائية وإدراك كنه أسرارها

______________________________

(1) «زيغ»: في الأصل بمعنى الانحراف عن الخط المستقيم والتمايل إلى جهة، والزيغ في القلب بمعنى الانحراف العقائدي عن صراط المستقيم.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 248

يستلزم مستوىً عالياً من العلم، وهذه هي الآيات «المتشابهات».

المنحرفون والشواذ من الناس يسعون لاستخدام إبهام هذه الآيات لتفسيرها بحسب أهوائهم وبخلاف الحق، لكي يثيروا الفتنة بين الناس ويضلّوهم عن الطريق المستقيم، بيدَ أنّ اللَّه والراسخين في العلم يعرفون أسرار هذه الآيات ويشرحونها للناس.

رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَ هَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) النجاة من الزيغ: بالنظر لاحتمال أن تكون الآيات المتشابهات وأسرارها موضع زلل الناس، فإنّ الراسخين في العلم المؤمنين يلجأون إلى ربّهم إضافة إلى استعمال رأسمالهم العلمي في إدراك حقيقة الآيات. وهذا ما تبيّنه هاتان الآيتان على لسان الراسخين في العلم، وتقولان إنّ الراسخين في العلم والمفكّرين من ذوي البصيرة لا يفتأون يراقبون أرواحهم وقلوبهم لئلّا

ينحرفوا نحو الطرق الملتوية، فيطلبون لذلك العون من اللَّه، فالغرور العلمي يخرج بعض العلماء عن مسيرهم إلى متاهات الضلال، لأنّهم لا يلتفتون إلى عظمة الخلق والخالق وتفاهة ما عندهم من علم، فيحرمون من هداية اللَّه، أمّا العلماء المؤمنون فيقولون:

«رَبَّنَا لَاتُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ».

وليس أشدّ تأثيراً في السيطرة على الميول والأفكار من الاعتقاد بيوم القيامة والمعاد، إنّ الراسخين في العلم يصحّحون أفكارهم عن طريق الإعتقاد بالمبدأ والمعاد، ويحولون دون التأثّر بالميول والأحاسيس المتطرّفة التي تؤدّي إلى الزلل، ونتيجة لذلك يستقيمون على الصراط المستقيم بأفكار سليمة ودون عائق، نعم هؤلاء هم القادرون على الاستفادة من آيات اللَّه كل الاستفادة. «رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَّارَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَايُخْلِفُ الْمِيعَادَ».

في الحقيقة تشير الآية الاولى إلى إيمان هؤلاء الكامل «بالمبدأ»، وتشير الآية الثانية إلى إيمانهم الراسخ «بالمعاد».

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَ لَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 249

بعد بيان مواقف الكفار والمنافقين والمؤمنين من الآيات «المحكمات» و «المتشابهات» في الآيات السابقة، تقول هذه الآية: إذا كان الكفار المعاندون يحسبون أنّهم بثرواتهم وأبنائهم قادرون على الدفاع عن أنفسهم في الآخرة فهم على خطأ كبير، فهذه الوسائل قد يكون لها تأثيرها المؤقت في هذه الدنيا، ولكنها عند اللَّه لن يكون لها أي تأثير، لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة، لذلك ينبغي ألّا يغترّ الإنسان بهذه الامور فتحمله على إرتكاب الإثم، وإلّا فإنّه يصلى ناراً سيكون هو حطبها. «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِىَ

عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلدُهُم مّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ».

يفيد هذا التعبير أنّ نار الجحيم مستعرة بوجود المذنبين، وهؤلاء المذنبون هم الذين يديمون أوارها ولهيبها.

ثم تشير الآية إلى نموذج من الامم السالفة التي كانت قد اوتيت الثروة الإنسانية والمادية الكثيرة، ولم تستطيع هذه الثروة أن تكون مانع من هلاكهم. «كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بَايَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ».

هذا في الواقع إنذار للكافرين المعاندين على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لكي يعتبروا بمصير الفراعنة والأقوام السالفة، ويصحّحوا أعمالهم.

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمِهَادُ (12)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت في اليهود لما قتل الكفار ببدر وهزموا، قالت اليهود: إنّه النبي الامي الذي بشرنا به موسى، ونجده في كتابنا بنعته وصفته، وأنّه لا تُردّ له راية. ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتى تنظروا إلى وقعة اخرى.

فلما كان يوم احد ونكّب أصحاب رسول اللَّه، شكوا وقالوا: لا واللَّه ما هو به. فغلب عليهم الشقاء فلم يسلموا. وقد كان بينهم وبين رسول اللَّه عهد إلى مدة لم تنقض، فنقضوا ذلك العهد قبل أجله، وانطلق كعب بن الأشرف إلى مكة في ستين راكباً، فوافقوهم وأجمعوا أمرهم على رسول اللَّه لتكونن كلمتنا واحدة، ثم رجعوا إلى المدينة. فأنزل اللَّه فيهم هذه الآية.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 250

التّفسير

مع ما تقدم في سبب النزول يتضح أنّ الكفار المغرورين بأموالهم وأولادهم، وعددهم وعدّتهم يتوقعون هزيمة الإسلام، ولكن القرآن الكريم يصرح في هذه الآية بأنّهم سيُغلبون، ويخاطب النبي صلى الله عليه و آله بأن يخبرهم بذلك وأنّ عاقبتهم في الدنيا والآخرة ليست سوى الهزيمة والذلّ والعذاب الأليم: «قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا

سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ» «1».

هناك أخبار غيبية كثيرة في القرآن الكريم تعتبر من أدلة عظمته وإعجازه والآية أعلاه واحدة من هذه الأخبار الغيبية.

وفي هذه الآية يبشّر اللَّه نبيه صلى الله عليه و آله بالانتصار على جميع الأعداء.

ولم تمض فترة طويلة حتى تحققت نبوءة الآية وهُزم يهود المدينة «بنو قريضة وبنو النضير» وفي خيبر- أهم معقل من معاقلهم- اندحروا وتلاشت قواهم كما هُزم المشركون في فتح مكة هزيمة نكراء.

قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ أُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَ اللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت هذه الآية في قصّة بدر، وكان المسلمون 313 رجلًا على عدّة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر؛ 77 رجلًا من المهاجرين و 236 رجلًا من الأنصار، وكان صاحب لواء رسول اللَّه والمهاجرين عليّ بن أبي طالب عليه السلام وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة. وكانت الإبل في جيش رسول اللَّه 70 بعيراً، و الخيل فرسين: فرس للمقداد بن أسود وفرس لمرثد بن أبي مرثد وكان معهم من السلاح ستة أدرع، وثمانية سيوف، خاضوا بها تلك الحرب الكبيرة، في وجه عدوّ يزيد عدده على الألف، وكانت خيلهم مائة فرس، وجميع من استشهد يومئذ 14 رجلًا من المهاجرين و 8 من الأنصار في مقابل 70 قتيلًا و 70 أسيراً من الأعداء وعادوا إلى المدينة تزيّنهم أكاليل النصر.

______________________________

(1) «مهاد»: بمعنى المكان المهيأ، كما يقول الراغب، وهي في الأصل من مادة (مَهْد) وهو محل استراحة الطفل.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 251

التّفسير

تعقيباً على الآيات السابقة التي حذّر القرآن فيها الكافرين من الإغترار بالمال والأبناء

والأتباع، جاءت هذه الآية شاهداً حيّاً على هذا الأمر، فتدعوهم إلى الاعتبار بما جرى في معركة بدر التاريخية. «قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ فِى فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا». كيف لا تكون لهم عبرة وهم يرون أنّ جيشاً صغيراً لا يملك شيئاً من العدّة سوى الإيمان الراسخ ينتصر على جيش يفوقه أضعافاً في العدد والعدّة.

«يَرَوْنَهُم مّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ». تقول الآية: إنّ الكفار كانوا يرون جند المسلمين ضعف عددهم، أي أنّهم إذا كانوا 313 شخصاً كان الكفار يرونهم أكثر من 600 شخص، ليزيد من خوفهم، وكان هذا أحد أسباب هزيمة الكفار.

«وَاللَّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ». تشير الآية إلى حقيقة أنّ اللَّه ينصر من يشاء.

«إِنَّ فِى ذلِكَ لَعِبْرَةً لّاُولِى الْأَبْصَارِ» «1». في ختام الآية يؤكّد سبحانه أنّ الذين وهبوا البصيرة بحيث يرون الحقائق كما هي، يعتبرون بهذا الانتصار الذي أحرزه اناس مؤمنون، ويدركون أنّ أساس هذا الانتصار هو الإيمان ... الإيمان وحده.

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعَامِ وَ الْحَرْثِ ذلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) تعقيباً على الآيات السابقة التي اعتبرت الإيمان رأس المال الحقيقي للإنسان- لا المال والبنين والأنصار- تشير هذه الآية إلى حقيقة أنّ الزوجة والأبناء والأموال إنّما هي ثروات تنفع في الحياة المادية هذه، ولكنها لا يمكن أن تشكّل هدف الإنسان الأصيل، صحيح أنّه بغير هذه الوسائل لا يمكن السير في طريق السعادة والتكامل المعنوي، إلّاأنّ الاستفادة منها في هذا السبيل شي ء وحبّها وعبادتها- بغير أن تكون مجرد وسيلة يستفاد منها- شي ء آخر.

______________________________

(1) «عبرة»: فى الأصل من مادة «عبور» بمعنى الإنتقال من مرحلة إلى اخرى أو من مكان إلى آخر،

ويقال لدمع العين «عبرة» على وزن «حسرة» لانه يعبر من العين، ويقال للكلمات التى تمر من خلال اللسان و الاذن «عبارات» أيضاً، و كذلك يقال للحوادث «عبرة» لأجل أن الإنسان عند ما يراها يعلم بمخلفاتها من الحقائق.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 252

«زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ ...» «1». إنّ التفسير الذي يبدو صحيحاً هو أنّ اللَّه هو الذي زيّن للناس ذلك عن طريق الخلق والفطرة والطبيعة الإنسانية.

إنّ اللَّه هو الذي جعل حبّ الأبناء والثروة في جبلّة الإنسان لكي يختبره ويسير به في طريق التربية والتكامل كما- في الآية (7) من سورة الكهف- يقول القرآن: «إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا».

قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَ أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ رِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَ قِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَ الصَّادِقِينَ وَ الْقَانِتِينَ وَ الْمُنْفِقِينَ وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) هذه الآية توضّح الخط البياني الصاعد لتكامل الحياة الإنسانية الذي اشير إليه في الآية السابقة، تقول الآية: هل اخبركم بحياة أرفع وأسمى من هذه الحياة المادية المحدودة في الدنيا، تلك الحياة فيها كل ما في هذه الحياة من النِعم لكنها صورتها الكاملة الخالية من أيّ نقص وعيب خاصة بالمتقين. «قُلْ أَؤُنَبّئُكُم بِخَيْرٍ مّن ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبّهِمْ جَنَّاتٌ».

بساتينها، لا كبساتين الدنيا، لا ينقطع الماء عن الجريان بجوار أشجارها: «تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ».

ونِعمها دائمة أبدية، لا كنِعم الدنيا السريعة الزوال: «خَالِدِينَ فِيهَا».

نساؤها خلافاً لكثير من غواني هذه الدنيا، ليس في أجسامهن ولا أرواحهن نقطة ظلام وخبث: «وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ».

كل هذا بإنتظار

المتقين. وأسمى من ذلك كله، النِعم المعنوية التي تفوق كل تصور وهي:

«رِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ».

وتخبر الآية المؤمنين أنّهم إذا امتنعوا عن اللذائذ غير المشروعة والأهواء الطاغية

______________________________

(1) «الشهوات»: جمع شهوة، أي حبّ شي ء من الأشياء حبّاً شديداً، ولكنّها في هذه الآية بمعنى المشتهيات.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 253

الممزوجة بالمعصية، فإنّهم سيفوزون في الآخرة بلذائذ مشابهة ولكن بمستوى أرفع وخالية من كل نقص وعيب إلّاأنّ هذا لا يعني حرمان النفس من لذائذ الحياة الدنيا التي لهم أن يتمتعوا بها بصورة مشروعة.

«الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءَامَنَّا».

في هذه الآية والآية التي بعدها نتعرّف على المتقين الذين كانوا في الآية السابقة مشمولين بنِعم اللَّه العظيمة في العالم الآخر، فتعددان ستّ صفات من صفاتهم الممتازة:

1- إنّهم يتوجّهون إلى اللَّه بكل جوارحهم والإيمان يضي ء قلوبهم ولذلك يحسّون بمسؤولية كبيرة في كل أعمالهم ويخشون عقاب أعمالهم خشية شديدة فيطلبون مغفرته والنجاة من النار: «فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ».

2- مثابرون صابرون ذوو همّة، ومقاومون عند مواجهتهم الحوادث في مسيرة إطاعتهم للَّه وتجنّبهم المعاصي، وعند ابتلائهم بالشدائد الفردية والاجتماعية «الصَّابِرِينَ».

3- صادقون ومستقيمون وما يعتقدون به في الباطن يعملون به في الظاهر ويتجنّبون النفاق والكذب والخيانة والتلوّث «وَالصَّادِقِينَ».

4- في طريق العبودية للَّه خاضعون ومتواضعون ومواظبون على ذلك «وَالْقَانِتِينَ» «1».

5- لا ينفقون من أموالهم فحسب، بل ينفقون من جميع ما لديهم من النِعم المادّية والمعنوية في سبيل اللَّه، فيعالجون بذلك أدواء المجتمع «وَالْمُنْفِقِينَ».

6- في أواخر الليل وعند السحر، أي عندما يسود الهدوء والصفاء وحين يغطّ الغافلون في نوم عميق وتهدأ ضوضاء العالم المادّي، يقوم ذوو القلوب الحيّة اليقظة، ويذكرون اللَّه ويطلبون المغفرة منه وهم ذائبون في نور اللَّه وجلاله، وتلهج كل ذرّة من وجودهم بتوحيده سبحانه «وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ».

روي في

تفسير البرهان عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال: «من قال في آخر الوتر في السحر: استغفر اللَّه وأتوب إليه، سبعين مرّة، ودام على ذلك سنة كتبه اللَّه من المستغفرين بالأسحار».

______________________________

(1) «قانتين»: من مادة «قنوت» بمعنى الخضوع أمام اللَّه وأيضاً بمعنى المداومة على الطاعة والعبودية.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 254

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ الْمَلَائِكَةُ وَ أُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) تعقيباً على البحث في الآيات السابقة حول المؤمنين الحقيقيين، تشير هذه الآية إلى بعض أدلة التوحيد ومعرفة اللَّه فتقول بأنّ اللَّه تعالى يشهد بوحدانيته (من خلال إيجاد النظام الكوني العجيب)، كما تشهد الملائكة، ويشهد بعد ذلك العلماء والذين ينظرون إلى حقائق العالم بنور العلم والمعرفة: «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ».

هذه الآية من الآيات التي كانت موضع اهتمام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله دائماً وكان يردّدها في مواضع مختلفة.

إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) «الدين»: في الأصل بمعنى الجزاء والثواب، ويطلق على «الطاعة» والإنقياد للأوامر، و «الدين» في الاصطلاح: مجموعة العقائد والقواعد والآداب التي يستطيع الإنسان بها بلوغ السعادة في الدنيا، وأن يخطو في المسير الصحيح من حيث التربية والأخلاق الفردية والجماعية.

«الإسلام»: يعني التسليم وهو هنا التسليم للَّه وعلى ذلك، فإنّ معنى «إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلمُ»: إنّ الدين الحقيقي عند اللَّه هو التسليم لأوامره وللحقيقة، في الواقع لم تكن روح الدين في كل الأزمنة سوى الخضوع والتسليم للحقيقة.

وإنّما أطلق اسم الإسلام على الدين الذي

جاء به الرسول الأكرم لأنّه أرفع الأديان.

ثم إنّ الآية تذكر علة الاختلاف الديني على الرغم من الوحدة الحقيقية للدين الإلهي وتقول: «وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ».

فعلى هذا إنّ الاختلاف ظهر أوّلًا: بعد العلم والإطلاع على الحقائق، وثانياً: كانت الدوافع لذلك هي الظلم والطغيان والحسد.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 255

فالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله مثلًا- بالإضافة إلى أنّ المعجزات والدلائل الواضحة في نصوص دينه تؤكد صدقه- وردت أوصافه وعلاماته في الكتب السماوية السابقة التي بقي قسم منها في أيدي اليهود والنصارى، ولذلك بشّر علماؤهم بظهوره قبل ظهوره، ولكنهم بعد أن بُعث رأوا مصالحهم في خطر، فأنكروا كل ذلك، يحدوهم الظلم والحسد والطغيان.

«وَمَنْ يَكْفُرْ بَايَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ».

هذا بيان لمصير أمثال هؤلاء الذين لا يعترفون بآيات اللَّه، إنّهم سوف يتلقّون نتائج عملهم هذا، فاللَّه سريع في تدقيق حساباتهم.

المراد من «آيات اللَّه» في هذه الآية ما يشمل جميع آياته وبراهينه وكتبه السماوية، ولعلها تشمل أيضاً الآيات التكوينية في عالم الوجود.

فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَ مَنِ اتَّبَعَنِ وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَ الْأُمِّيِّينَ أَ أَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) «المحاجّة»: أن يسعى كل واحد في ردّ الآخر عن حجّته ومحجّته دفاعاً عن عقيدته.

من الطبيعي أن يقوم أتباع كل دين بالدفاع عن دينهم، ويرون أنّ الحق بجانبهم، لذلك يخاطب القرآن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قائلًا: قد يحاورك أهل الكتاب (اليهود والنصارى ...) فيقولون إنّهم قد أسلموا بمعنى أنّهم قد استسلموا للحق، وربّما هم يصرّون على ذلك، كما فعل مسيحيّو نجران مع رسول

اللَّه صلى الله عليه و آله.

فالآية لا تطلب من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن يتجنّب محاورتهم ومحاججتهم، بل تأمره أن يسلك سبيلًا آخر وذلك عندما يبلغ الحوار منتهاه فعليه لكي يهديهم ويقطع الجدل والخصام أن يقول لهم: إنّني وأتباعي قد أسلمنا للَّه واتّبعنا الحق «فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ».

ثم يسأل أهل الكتاب والمشركين إن كانوا هم أيضاً قد أسلموا للَّه واتّبعوا الحق فعليهم أن يخضعوا للمنطق: «وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمّيّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا».

فإذا لم يستسلموا للحقيقة المعروضة أمامهم، فإنّهم لا يكونون قد أسلموا للَّه. عندئذ لا تمضي

مختصر الامثل، ج 1، ص: 256

في مجادلتهم، لأنّ الكلام في هذه الحالة لا تأثير له وما عليك إلّاأن تبلّغ الرسالة لا غير:

«وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلغُ». ومن الواضح أنّ المراد ليس هو التسليم اللّساني والادعائي، بل التسليم الحقيقي والعملي في مقابل الحق. وفي الختام يقول: «وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ». فهو سبحانه يعلم المدعي من الصادق وكذلك اغراض ودوافع المتحاجّين، ويرى أعمالهم الحسنة والقبيحة ويجازي كل شخص بعمله.

يتّضح من هذه الآية بكل جلاء أنّ اسلوب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لم يكن اسلوب فرض الفكرة والعقيدة، بل كان اسلوبه السعي إلى توضيح الحقائق أمام الناس ثم يتركهم وشأنهم لكي يتخذوا قرارهم في اتّباع الحق بأنفسهم.

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ يَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ وَ مَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) تعقيباً للآية السابقة التي تضمّنت أنّ اليهود والنصارى والمشركين كانوا يجادلون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولا يستسلمون للحق، ففي الآية

الاولى إشارة إلى بعض علامات هذا الأمر حيث تقول الآية: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بَايَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ».

وتشير هذه الآية في البداية إلى ثلاث ذنوب كبيرة وهي الكفر بآيات اللَّه وقتل الأنبياء بغير الحق وقتل الذين يدعون إلى العدالة ويدافعون عن أهداف الأنبياء، وكل واحد من هذه الذنوب يكفي لوحده لجعل الإنسان معانداً ومتصلّباً بكفره وعدم تسليمه للحق، بل يسعى لخنق كل صوت يدعو إلى الحق.

ثم إنّ الآية تشير إلى ثلاثة عقوبات مترتّبة على إرتكاب هذه الذنوب، ففي البداية تشير الآية: «فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ».

ثم تقول: «أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِى الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ» فلو فرض أنّهم عملوا بعض الأعمال الصالحة فإنّها ستمحى وتزول بسبب الذنوب الكبيرة التي يرتكبونها.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 257

والثالث أنّ الآية تقول: «وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ» فلا أحد يحميهم من العقوبات الإلهيّة التي تنتظرهم ولا أحد يشفع لهم في ذلك اليوم.

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ وَ غَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَ هُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس أنّ رجلًا وامرأة من أهل خيبر زنيا وكانا ذوي شرف فيهم، وكان في كتابهم الرجم، فكرهوا رجمهما لشرفهما، ورجوا أن يكون عند رسول اللَّه رخصة في أمرهما، فعرفوا أمرهما إلى رسول اللَّه، فحكم عليهما بالرجم، فقال له النعمان بن أوفى، وبحرّي بن عمرو: جُرْتَ عليهما يا محمّد، ليس عليهما الرجم

فقال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«بيني وبينكم التوراة». قالوا: أنصفتنا. قال: «فمن أعلمكم بالتوراة»؟ قالوا: رجل أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا. فأرسلوا إليه فقدم المدينة، وكان جبرائيل قد وصفه لرسول اللَّه، فقال له رسول اللَّه: «أنت ابن صوريا»؟ قال: نعم. قال: «أنت أعلم اليهود»؟ قال:

كذلك يزعمون. قال: فدعا رسول اللَّه بشي ء من التوراة فيها الرجم مكتوب، فقال له:

«إقرأ». فلما أتى على آية الرجم، وضع كفه عليها وقرأ ما بعدها. فقال ابن سلام: يا رسول اللَّه! قد جاوزها. وقام إلى ابن صوريا، ورفع كفه عنها، ثم قرأ على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعلى اليهود، بأنّ المحصن والمحصنة إذا زنيا، وقامت عليهما البيّنة رجما، وإن كانت المرأة حبلى، انتظر بها حتى تضع ما في بطنها. فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله باليهودين فرجما. فغضب اليهود لذلك.

فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية «1».

______________________________

(1) في التوراة الموجودة حاليّاً، في سفر اللاويّين في الفصل العشرين، الجملة العاشرة، نقرأ ما يلي: «إذا زنا أحد بامرأة غيره، أي بامرأة جاره (مثلًا) يجب قتل الزاني والزانية». على الرغم من أنّ الرجم نفسه لم يرد، فقد ورد العقاب بالموت، وربما يكون التصريح بالرجم قد ورد في النسخة التي كانت موجودة على عهد رسول اللَّه.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 258

التّفسير

هذه الآيات تصرّح ببعض تحريفات أهل الكتاب الذين كانوا يتوسّلون بالتبريرات والأسباب الواهية لتفادي إجراء حدود اللَّه، مع أنّ كتابهم كان صريحاً في بيان حكم اللَّه بغير إبهام، وقد دُعوا للخضوع للحكم الموجود في كتابهم: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ».

ولكن عصيانهم كان ظاهراً ومصحوباً بالإعراض والطغيان واتخاذ موقف المعارض

لأحكام اللَّه: «ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ».

يمكن الاستنتاج من «أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ» أنّ ما كان بين أيدي اليهود والنصارى من التوراة والإنجيل لم يكن كاملًا، بل كان قسم منهما بين أيديهم، بينما كان القسم الأعظم من هذين الكتابين السماويين قد ضاع أو حُرّف.

وفي الآية الثانية شرح سبب عصيانهم وتمرّدهم، وهو أنّهم كانوا يحملون فكرة خاطئة عن كونهم من عنصر ممتاز، وهم اليوم أيضاً يحملون هذه الفكرة الباطلة الواضحة في كتاباتهم الدالة على الاستعلاء العنصري.

كانوا يظنّون أنّ لهم علاقة خاصة باللَّه سبحانه، حتى أنّهم سمّوا أنفسهم «أبناء اللَّه» كما ينقل القرآن ذلك على لسان اليهود والنصارى في الآية (18) من سورة المائدة قولهم: «نَحْنُ أَبْنؤُا اللَّهِ وَأَحِبؤُهُ». وبناءاً على ذلك كانوا يرون لأنفسهم حصانة تجاه العقوبات الربانية، وكانوا ينسبون ذلك إلى اللَّه نفسه. لذلك كانوا يعتقدون أنّهم لن يعاقَبوا على ذنوبهم يوم القيامة إلّالأيّام معدودات: «قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ».

هذه الإمتيازات الكاذبة المصطنعة، التي أسبغوها على أنفسهم ونسبوها إلى اللَّه، صارت شيئاً فشيئاً جزءاً من معتقداتهم بحيث إنّهم اغترّوا بها وراحوا يخالفون أحكام اللَّه ويخرقون قوانينه مجترئين عليها جرأةً لا مزيد عليها «وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 259

وتدحض الآية الثالثة كل هذه الخيالات الباطلة وتقول: لا شك أنّ هؤلاء سوف يلاقون يوماً يجتمع فيه البشر أمام محكمة العدل الإلهي فيتسلّم كل فرد قائمة أعماله، ويحصدون ناتج ما زرعوه، ومهما يكن عقابهم فهم لا يُظلمون لأنّ ذلك هو حاصل أعمالهم «فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَّارَيْبَ فِيهِ وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَايُظْلَمُونَ».

قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ

وَ تُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَ تُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَ تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس: لمّا فتح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مكة ووعد امّته ملك فارس والروم، قال المنافقون واليهود: هيهات من أين لمحمّد ملك فارس والروم؟ ألم يكفه المدينة ومكة حتى طمع في الروم وفارس؟ ونزلت هذه الآية.

التّفسير

دار الكلام في الآيات السابقة حول المشركين وأهل الكتاب الذين كانوا يخصّون أنفسهم بالعزة وبالملك، وكيف أنّهم كانوا يرون أنفسهم في غنى عن الإسلام. فنزلت هاتان الآيتان تفنّدان مزاعمهم الباطلة. يقول تعالى: «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ».

إنّ المالك الحقيقي للأشياء هو خالقها، وهو الذي يعطي لمن يشاء الملك والسلطان، أو يسلبهما ممّن يشاء، فهو الذي يعز، وهو الذي يذل، وهو القادر على كل هذه الامور: «وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

ولا حاجة للقول بأنّ مشيئة اللَّه في هذه الآيات لا تعني أنّه يعطي بدون حساب ولا موجب، أو يأخذ بدون حساب ولا موجب، بل إنّ مشيئته مبنية على الحكمة والنظام ومصلحة عالم الخلق وعالم الإنسانية عموماً، وبناءاً على ذلك فإنّ أي عمل يقوم به إنّما هو خير عمل وأصحّه.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 260

إنّ مشيئة اللَّه هي نفسها عالم الأسباب، إنّما الاختلاف في كيفية استفادتنا من عالم الأسباب هذا. في الآية التالية ولتأكيد حاكمية اللَّه المطلقة على جميع الكائنات تضيف الآية:

1- «تُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ».

وبهذا تذكر

الآية بعض المصاديق البارزة على قدرة اللَّه تعالى، ومنها مسألة التغيير التدريجي لليل والنهار، بمعنى أنّ الليل يقصر مدّته في النصف من السنة وهو ما عُبّر عنه بدخوله في النهار بينما يطول الليل ويقصر النهار في النصف الثاني من السنة وهو دخول وولوج النهار في الليل وكذلك اخراج الموجودات الحية من الميتة وبالعكس وكذلك الرزق الكثير الذي يكون من نصيب بعض الأشخاص دون بعض كلها من علائم قدرته المطلقة.

«الولوج»: بمعنى الدخول والقصد من الآية هو هذا التغيير التدريجي الذي نراه بين الليل والنهار طوال السنة، هذا التغيير ناشى ء عن انحراف محور الأرض عن مدارها بنحو 23 درجة واختلاف زاوية سقوط أشعة الشمس عليها.

إنّ للتدرّج في تغيير الليل والنهار آثاراً مفيدة في حياة الإنسان والكائنات الاخرى على الأرض لأنّ نموّ النباتات وكثير من الحيوانات يتمّ في إطار نور الشمس وحرارتها التدريجية.

2- «وَتُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيّتَ مِنَ الْحَىِّ».

إنّ معنى خروج «الحي» من «الميت» هو ظهور الحياة من كائنات عديمة الحياة، فنحن نعلم أنّه في اليوم الذي استعدّت فيه الأرض لاستقبال الحياة، ظهرت كائنات حية من كائنات عديمة الحياة، أضف إلى ذلك أنّ مواد لا حياة فيها تصبح بإستمرار أجزاءً من خلايانا الحية وخلايا جميع الكائنات الحية في العالم، وتتبدل إلى مواد حية.

أمّا خروج «الميت» من «الحي» فهو دائم الحدوث أمام أنظارنا.

إنّ الآية- في الواقع- إشارة إلى قانون التبادل الدائم بين الحياة والموت، وهو أعمّ القوانين التي تحكمنا وأعقدها، كما أنّه أروعها في الوقت نفسه.

3- «وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ».

هذه الآية تعتبر من باب ذكر «العام» بعد «الخاص» إذ الآيات السابقة قد ذكرت نماذج

مختصر الامثل، ج 1، ص: 261

من الرزق الإلهى، أمّا هنا فالآية تشير إلى

جميع النِعم على وجه العموم، أي أنّ العزة والحكم والحياة والموت ليست هي وحدها بيد اللَّه بل بيده كل أنواع الرزق والنعم أيضاً.

وتعبير «بِغَيْرِ حِسَابٍ» يشير إلى أنّ بحر النعم الإلهية من السعة والكبر بحيث إنّه مهما اعطى منه فلن ينقص منه شي ء ولا حاجة به لضبط الحسابات.

لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْ ءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) ذكرت الآيات السابقة أنّ العزة والذلة وجميع الخيرات بيد اللَّه تعالى. وبهذه المناسبة فإنّ هذه الآية تحذّر المؤمنين من مصادقة الكافرين وتنهاهم بشدة من موالاة الكفار، لأنّه إذا كانت هذه الصداقة والولاء من أجل العزة والقدرة والثروة، فإنّها جميعاً بيد اللَّه عزّ وجلّ ولذلك تقول الآية: «لَّايَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ». ولو إرتكب أحد المؤمنين ذلك فإنّه يقطع إرتباطه مع اللَّه تماماً: «وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِى شَىْ ءٍ». وقد نزلت هذه الآية في وقت كانت هناك روابط بين المسلمين والمشركين مع اليهود والنصارى.

وهذه الآية درس سياسي واجتماعي مهم للمسلمين فتحذّرهم من إتّخاذ الأجنبي صديقاً أو حامياً أو عوناً ورفيقاً في أيّ عمل من أعمالهم ومن الإنخداع بكلامه المعسول وعروضه الجذّابة وتظاهره بالمحبة الحميمة، لأنّ التاريخ قد أثبت بأنّ أقسى الضربات التي تلقّاها المؤمنون جاءت من هذا الطريق.

قوله تعالى «مِنْ دُونِ الْمُؤمِنِينَ» إشارة إلى أنّ الناس في حياتهم الاجتماعية لابد لهم من إتّخاذ الأولياء والأصدقاء فعلى المؤمنين أن يختاروا أولياءهم من بين المؤمنين لا من بين الكافرين.

«فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِى شَىْ ءٍ».

تقول الآية: إنّ الذين يعقدون أواصر صداقتهم وولاءهم مع أعداء اللَّه، ليسوا من اللَّه

في أيّ شي ء من الأشياء، أي إنّهم يكونون قد تخلّوا عن إطاعة أوامر اللَّه وقطعوا علاقتهم

مختصر الامثل، ج 1، ص: 262

بالجماعة المؤمنة الموحدة، وانقطعت إرتباطاتهم من جميع الجهات. «إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَيةً». هذا استثناء من الحكم المذكور وهو أنّه إذا اقتضت الظروف- التقية- فللمسلمين أن يظهروا الصداقة لغير المؤمنين الذين يخشون منهم على حياتهم، ولكن الآية تعود في الختام لتؤكّد الحكم الأوّل فتقول: «يُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ». فاللَّه ينذر الناس أوّلًا بغضب منه وبعقاب شديد، ثم إنّ مرجع الناس جميعاً إلى اللَّه وإن تولّوا أعداء اللَّه نالوا عاجلًا نتيجة أعمالهم.

إنّ التقية في موضعها حكم عقلي قاطع ويتّفق مع الفطرة الإنسانية.

قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (29) نهت الآية السابقة عن الصداقة والتعاون مع الكافرين والاعتماد عليهم نهياً شديداً، واستثنت من ذلك حالة «التقية». إلّاأنّ بعضهم قد يتخذ من «التقية» في غير محلها ذريعة لمدّ يد الصداقة إلى الكفار أو الخضوع لولايتهم وسيطرتهم. وبعبارة اخرى أنّهم قد يستغلّون «التقية» ويتخذونها مبرّراً لعقد أواصر العلاقات مع أعداء الإسلام، فهذه الآية تحذّر أمثال هؤلاء وتأمرهم أن يضعوا نصب أعينهم علم اللَّه المحيط بأسرار القلوب والعالم بما ظهر وما خفي وتقول: «قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ». ولا يقتصر علم اللَّه الواسع على ذلك، بل: «وَيَعْلَمُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ».

في الواقع أنّ هذه الآية لكي تنبّه الناس إلى إحاطة اللَّه بأسرارهم الخفية، تشير إلى أنّ معرفة اللَّه بأسرارهم إنّما هي جانب صغير من مدى علمه اللامحدود الذي يسع السماوات والأرض، وهو

إضافة إلى علمه الواسع قادر على معاقبة المذنبين: «وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَ اللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) تشير هذه الآية إلى حضور الأعمال الصالحة والسيئة يوم القيامة، فيرى كل امري ء ما عمل من خير وما عمل من شرّ حاضراً أمامه، فالذين يشاهدون أعمالهم الصالحة يفرحون

مختصر الامثل، ج 1، ص: 263

ويستبشرون، والذين يشاهدون أعمالهم السى ئة يستولي عليهم الرعب ويتمنّون لو أنّهم استطاعوا أن يبتعدوا عنها: «تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا». فالآية لم تقل أنّه يتمنّى فناء عمله وسيئاته، لأنّه يعلم أنّ كل شي ء في العالم لا يفنى فلذلك يتمنّى أن يبتعد عنه كثيراً.

«وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ».

في الجزء الأوّل من هذه العبارة يحذّر اللَّه الناس من عصيان أوامره وفي الجزء الثاني يذكّرهم برأفته، ويبدو أنّ هذين الجزءين هما- على عادة القرآن- مزيج من الوعد والوعيد.

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)

سبب النّزول

في تفسير المنار: قيل: أنّ الآية نزلت كالجواب لقوم ادّعوا أمام الرسول صلى الله عليه و آله إنّهم يحبّون ربّهم.

وفي تفسير مجمع البيان: نزلت الآيتان في وفد نجران من النصارى لمّا قالوا: إنّا نعظّم المسيح حبّاً للَّه.

التّفسير

تقول الآية الاولى إنّ الحبّ ليس بالعلاقة القلبية فحسب، بل يجب أن تظهر آثاره في عمل الإنسان، إنّ من يدّعي حبّ اللَّه، فعليه أوّلًا اتّباع رسوله: «قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى».

في الواقع أنّ من

آثار الحب الطبيعية إنجذاب المحب نحو المحبوب والاستجابة له.

هذه الآية لا تقتصر في ردّها على مسيحيي نجران والذين ادّعوا حبّ اللَّه على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بل هذا الرد أصيل وعام في منطق الإسلام موجّه إلى جميع العصور والقرون، إنّ الذين لا يفتأون- ليلَ نهار- يتحدّثون عن حبّهم للَّه ولأئمة الإسلام وللمجاهدين في سبيل اللَّه وللصالحين والأخيار، ولكنهم لا يشبهون اولئك في العمل، هم كاذبون.

«يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ». إذا كنتم تحبّون اللَّه، وبدت آثار ذلك في أعمالكم وحياتكم، فإنّ اللَّه سيحبّكم أيضاً، وسوف تظهر آثار حبّه أنّه سيغفر لكم ذنوبكم، ويشملكم برحمته.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 264

«قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ». هذه الآية تتابع حديث الآية السابقة وتقول: ما دمتم تدّعون الحب للَّه، إذاً اتّبعوا أمر اللَّه ورسوله، وإن لم تفعلوا فلستم تحبون اللَّه، واللَّه لا يحب هؤلاء «فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ الْكَافِرِينَ».

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْرَاهِيمَ وَ آلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) في مبتدأ هذه الآية يشرع القرآن بسرد حكاية مريم وأجدادها ومقامهم، فهم النموذج الكامل لحبّ اللَّه الحقيقي وظهور آثار هذا الحب في مقام العمل والذي أشارت إليه الآيات السابقة.

«اصطفى»: من الصفو وهو خلوص الشي من الشوائب ومنه «الصفا» للحجارة الصافية وعليه فالاصطفاء هو تناول صفو الشي ء.

تقول الآية: إنّ اللَّه إختار آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران من بين الناس جميعاً، هذا الاختيار قد يكون «تكوينياً» وقد يكون «تشريعياً» أي أنّ اللَّه قد خلق هؤلاء منذ البدء خلقاً متميزاً، وإن لم يكن في هذا الإمتياز ما يجبرهم على اختيار طريق الحق، بل إنّهم بمل ء

اختيارهم وحرّية إرادتهم إختاروه، غير أنّ ذلك التميّز أعدّهم للقيام بهداية البشر ثم على أثر إطاعتهم أوامر اللَّه، والتقوى والسعي في سبيل هداية الناس نالوا نوعاً من التميّز الإكتسابي، الذي إمتزج بتميزهم الذاتي، فكانوا من المصطفين.

«ذُرّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ» «1».

تشير هذه الآية إلى أنّ هؤلاء المصطفين كانوا- من حيث الإسلام والطهارة والتقوى والجهاد في سبيل هداية البشر- متشابهين، بمثل تشابه نسخ عدّة من كتاب واحد، يقتبس كل من الآخر: «بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ».

«وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ». في النهاية تشير الآية إلى حقيقة أنّ اللَّه كان يراقب مساعيهم ونشاطهم، ويسمع أقوالهم، ويعلم أعمالهم. وفي هذا إشارة أيضاً إلى مسؤوليات المصطفين الثقيلة نحو اللَّه ومخلوقات اللَّه.

______________________________

(1) «الذرّيّة»: أصلها الصغار من الأولاد، وقد يشمل الأبناء الصغار والكبار أيضاً بلا واسطة أو مع الواسطة، والكلمة من «الذرء» بمعنى الخلق والإيجاد.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 265

في هذه الآية إشارة إلى جميع الأنبياء من اولي العزم، فبعد نوح الذي صرّح بإسمه، يأتي آل إبراهيم الذين يضمّون نوحاً نفسه وموسى وعيسى ونبي الأكرم.

إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَ إِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَ إِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَ ذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) تعقيباً على ما جاء في الآية السابقة من إشارة إلى آل عمران، تشرع هاتان الآيتان بالكلام على مريم بنت عمران وكيفية ولادتها وتربيتها وما جرى لهذه السيدة العظيمة.

ورد في الأحاديث أنّ اللَّه قد أوحى إلى «عمران» أنّه سيهبه ولداً مباركاً يشفي المرضى الميؤوس من شفائهم، ويحيي الموتى بإذن اللَّه، وسوف يرسله نبيّاً إلى بني

إسرائيل، فأخبر عمران زوجته «حنة» بذلك، لذلك عندما حملت ظنّت أنّ ما تحمله في بطنها هو الابن الموعود، دون أن تعلم أنّ ما في بطنها ام الابن الموعود «مريم» فنذرت ما في بطنها للخدمة في بيت اللَّه «بيت المقدس» ولكنها إذ رأتها انثى إرتبكت ولم تدر ما تعمل إذ إنّ الخدمة في بيت اللَّه كانت مقصورة على الذكور ولم يسبق أن خدمت فيه انثى.

والآن نباشر بالتفسير من خلاله نتعرف على تتمة الأحداث:

«إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبّ إِنّى نَذَرْتُ لَكَ مَا فِى بَطْنِى مُحَرَّرًا». هذه إشارة إلى النذر الذي نذرته امرأة عمران وهي حامل بأنّها تهب ابنها خادماً في بيت المقدس، لأنّها كانت تظنّه ذكراً بموجب البشارة التي أتاها بها زوجها ولذلك قالت «محرّراً» ولم تقل «محرّرة» ودعت اللَّه أن يتقبل نذرها: «فَتَقَبَّلْ مِنّى إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».

«فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أُنثَى .

هذه الآية تشرح حال ام مريم بعد ولادتها، فقد أزعجها أن تلد انثى، وراحت تخاطب اللَّه قائلة: إنّها انثى وأنت تعلم أنّ الذكر ليس كالانثى في تحقيق النذر، فالانثى لا تستطيع أن تؤدّي واجبها في الخدمة كما يفعل الذكر فالبنت بعد البلوغ لها عادة شهرية ولا يمكنها

مختصر الامثل، ج 1، ص: 266

دخول المسجد، مضافاً إلى أن قواها البدنية ضعيفة، وكذلك المسائل المربوطة بالحجاب والحمل وغير ذلك: «وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَى . «وَإِنّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ».

يتّضح من هذه الجملة أنّ ام مريم هي التي سمّتها بهذا الإسم عند ولادتها و «مريم» بلغتها تعني «العابدة» وفي هذا يظهر منتهى إشتياق هذه الام الطاهرة لوقف وليدها على خدمة اللَّه لذلك طلبت من اللَّه- بعد أن سمّتها- أن يحفظها ونسلها من وسوسة الشياطين وأن يرعاهم بحمايته ولطفه: «وَإِنّى أُعِيذُهَا

بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطنِ الرَّجِيمِ».

فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَ كَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) تواصل هذه الآية سرد حكاية مريم. لقد أشرنا من قبل أنّ ام مريم لم تكن تصدّق إمكان قبول الانثى خادمة في بيت اللَّه، لذلك كانت تتمنّى أن تلد مولوداً ذكراً، إذ لم يسبق أن اختيرت انثى لهذا العمل. ولكن الآية تقول إنّ اللَّه قد قبل قيام هذه الانثى الطاهرة بهذه الخدمة الروحية والمعنوية، لأوّل مرّة.

وكلمة «أنبتها» إشارة إلى تكامل مريم أخلاقياً وروحياً، كما أنّه يتضمن نكتة لطيفة هي أنّ عمل اللَّه هو «الإنبات» والإنماء. أي كما أنّ بذور النباتات تنطوي على استعدادات كامنة تظهر وتنمو عندما يتعهّدها المزارع، كذلك توجد في الإنسان كل أنواع الاستعدادات السامية الإنسانية التي تنمو وتتكامل بسرعة إن خضعت لمنهج المربّين الإلهيين ولمزارعي بستان الإنسانية الكبير، ويتحقق الإنبات بمعناه الحقيقي.

«وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا». في هذه الآية يقول القرآن: إختار اللَّه زكريا كي يتكفل مريم، إذ إنّ أباها عمران قد ودّع الحياة قبل ولادتها، فجاءت بها امها إلى بيت المقدس وقدّمتها لعلماء اليهود وقالت: هذه البنت هدية لبيت المقدس، فليتعهّدها أحدكم، فكثر الكلام بين علماء اليهود، وكان كل منهم يريد أن يحظى بهذا الفخر، وفي احتفال خاص- سيأتي شرحه في تفسير الآية (44) من هذه السورة- اختير زكريا ليكفلها.

وكلّما شبّت وتقدّم بها العمر ظهرت آثار العظمة والجلال عليها أكثر إلى حدّ يقول القرآن

مختصر الامثل، ج 1، ص: 267

عنها: «كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا».

كَبُرت مريم تحت رعاية زكريا، وكانت غارقة

في العبادة والتعبد. بحيث إنّها- كما يقول ابن عباس- عندما بلغت التاسعة من عمرها كانت تصوم النهار وتقوم الليل بالعبادة، وكانت على درجة كبيرة من التقوى ومعرفة اللَّه حتى أنّها فاقت الأحبار والعلماء في زمانها، وعندما كان زكريا يزورها في المحراب يجد عندها طعاماً خاصاً، فيأخذه العجب من ذلك، سألها يوماً: «يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذَا». فقالت: «هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ».

الآية لا تذكر شيئاً عن ماهية هذا الطعام ومن أين جاء، لكن بعض الأحاديث تفيد أنّه كان فاكهة من الجنة في غير فصلها تحضر بأمر اللَّه إلى المحراب، وليس ما يدعو إلى العجب في أن يستضيف اللَّه عبداً تقيّاً.

هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَ هُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَ قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَ امْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قلنا إنّ زوجة زكريا وام مريم كانتا اختين، وكانتا عاقرين، وعندما رزقت ام مريم بلطف من اللَّه هذه الذرّية الصالحة، ورأى زكريا خصائصها العجيبة، تمنّى أن يرزق هو أيضاً ذرّية صالحة وطاهرة وتقيّة مثل مريم، بحيث تكون آية على عظمة اللَّه وتوحيده، وعلى الرغم من كبر سن زكريا وزوجته، وبُعدهما من الناحية الطبيعية عن أن يرزقا طفلًا، فإنّ حبّ اللَّه ومشاهدة الفواكه الطرية في غير وقتها في محراب عبادة مريم، أترعا قلبه أملًا بإمكان حصوله في فصل شيخوخته على ثمرة الابوّة، لذلك راح يتضرع إلى اللَّه: «هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا

رَبَّهُ قَالَ رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ».

لم يمض وقت طويل حتى أجاب اللَّه دعاء زكريا: «فَنَادَتْهُ الْمَلِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّى فِى الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى .

مختصر الامثل، ج 1، ص: 268

وفيما كان يعبد اللَّه في محرابه، نادته ملائكة اللَّه وقالت له: إنّ اللَّه يبشّرك بمولود اسمه يحيى بل إنّهم لم يكتفوا بهذه البشارة حتى ذكروا للمولود خمس صفات: الأوّلًا: سوف يؤمن بالمسيح ويشدّ أزره بهذا الإيمان: «مُصَدّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ».

ثانياً وثالثاً: سيكون من حيث العلم والعمل قائداً للناس «وَسَيّدًا». كما أنّه سيحفظ نفسه عن الشهوات الجامحة وعن التلوّث بحبّ الدنيا «وَحَصُورًا». «الحصور» من الحصر، أي الذي يضع نفسه موضع المحاصرة.

ورابعاً وخامساً: من مميّزاته أيضاً أنّه سيكون «نَبِيًّا» وأنّه «مّنَ الصَّالِحِينَ».

فلما سمع زكريا بهذه البشارة غرق فرحاً وسروراً، ولم يمتلك نفسه في إخفاء تعجبه من ذلك فقال: «رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلمٌ وَقَدْ بَلَغَنِىَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ». فأجابه اللَّه تعالى:

«قَالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ». فلما سمع زكريا هذا الجواب الموجز الذي يشير إلى نفوذ إرادته تعالى ومشيئته، قنع بذلك.

قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَنْ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَ اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكَارِ (41) هنا يطلب زكريا من اللَّه إمارة على بشارته بمجي ء يحيى، إنّ إظهار دهشته- كما قلنا- وكذلك طلب علامة من اللَّه، لا يعنيان أبداً أنّه لا يثق بوعد اللَّه، خاصة وأنّ ذلك الوعد قد توكّد بقوله: «كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ». إنّما كان يريد زكريا أن يتحوّل إيمانه بهذا إيماناً شهودياً، كان يريد أن يمتلي ء قلبه بالاطمئنان، كما كان إبراهيم يبحث عن اطمئنان القلب والهدوء الناشئين عن الشهود الحسي.

«قَالَ

رَبّ اجْعَل لِى ءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلّمَ النَّاسَ ثَلثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا».

أجاب اللَّه طلب زكريا هذا أيضاً، وعيّن له علامة، وهي أنّ لسانه كفّ عن الكلام مدة ثلاثة أيام بغير أيّ نقص طبيعي، فلم يكن قادراً على المحادثة العادية، ولكن لسانه كان ينطلق إذا ما شرع يسبّح اللَّه ويذكره، هذه الحالة العجيبة كانت علامة على قدرة اللَّه على كل شي ء، فاللَّه القادر على فكّ لجام اللسان عند المباشرة بذكره، قادر على أن يفكّ عقم رحم امرأة فيخرج منه ولداً مؤمناً هو مظهر ذكر اللَّه، وهكذا تتّضح العلاقة بين هذه العلامة وما كان يريده زكريا.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 269

«وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبّحْ بِالْعَشِىّ وَالْإِبْكَارِ». «العشي»: تطلق عادة على أوائل ساعات الليل كما يقال «الإبكار» للساعات الأولى من النهار. وقيل إنّ «العشي» هو من زوال الشمس حتى غروبها و «الإبكار» من طلوع الفجر حتى الظهر.

وفي الآية يأمر اللَّه زكريا بالتسبيح. إنّ هذا التسبيح والذكر على لسان لا ينطق موقتاً دليل على قدرة اللَّه على فتح المغلق، وكذلك هو أداء لفريضة الشكر للَّه الذي أنعم عليه بهذه النعمة الكبرى.

وَ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) بعد الإشارات العابرة إلى مريم في الآيات السابقة التي دارت حول عمران وزوجته، هذه الآية تتحدّث بالتفصيل عن مريم. تقول الآية إنّ الملائكة كانوا يكلّمون مريم: «وَإِذْ قَالَتِ الْمَلِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ».

ما أعظم هذا الإفتخار بأن يتحدّث الإنسان مع الملائكة ويحدثونه، وخاصة إذا كانت المحادثة بالبشارة من اللَّه تعالى باختياره وتفضيله، كما في مورد مريم

بنت عمران، فقد بشرتها الملائكة بأنّ اللَّه تعالى قد إختارها من بين جميع نساء العالم وطهّرها وفضلها بسبب تقواها وإيمانها وعبادتها.

«يَا مَرْيَمُ اقْنُتِى لِرَبّكِ وَاسْجُدِى وَارْكَعِى مَعَ الرَّاكِعِينَ».

هذه الآية تكملة لكلام الملائكة مع مريم، فبعد أن بشّرها بأنّ اللَّه قد اصطفاها، قالوا لها:

الآن اشكري اللَّه بالركوع والسجود والخضوع له اعترافاً بهذه النعمة العظمى.

ذلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ مَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ مَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) هذه الآية تشير إلى جانب آخر من قصة مريم عليها السلام وتقول بأنّ ما تقدّم من قصة مريم وزكريا إنّما هو من أخبار الغيب: «ذلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ». لأنّ هذه القصة بشكلها الصحيح والخالي من شوائب الخرافة لا توجد في أيّ من الكتب السابقة، مضافاً إلى أنّ سند هذه القصة هو وحي السماء.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 270

ثم تضيف الآية: «وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ». أي إنّك لم تكن حاضراً حينذاك، بل جاءك الخبر عن طريق الوحي.

يستفاد من هذه الآية والآيات الاخرى الخاصة بيونس في سورة الصافات أنّ من الممكن اللجوء إلى القرعة لحلّ النزاع والخصام الذي يصل إلى طريق مسدود بحيث لا يكون هناك أيّ حلّ مقبول من أطراف النزاع.

قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) هذه الآية تبين حادث ولادة المسيح الذي يبدأ بتقديم الملائكة البشارة لمريم عليها السلام بأمر من اللَّه قائلين لها إنّ اللَّه سوف يهب لك ولداً اسمه المسيح عيسى بن مريم، وسيكون له مقام مرموق في

الدنيا والآخرة، وهو مقرّب عند اللَّه. «إِذْ قَالَتِ الْمَلِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِى الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ».

تشير الآية التي بعدها إلى إحدى فضائل ومعاجز عيسى عليه السلام وهي تكلّمه في المهد:

«وَيُكَلّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ». فقد جاء في سورة مريم أنّه لدفع التهمة عن امه تكلم في المهد كلاماً فصيحاً أعرب فيه عن عبوديته للَّه وعن كونه نبياً.

ولما لم يكن من الممكن أن يولد نبي في رحم غير طاهرة، فإنّه يؤكد بهذا الإعجاز طهارة امه.

والظاهر من آيات سورة مريم أنّه عليه السلام تكلم منذ بداية تولده مما يستحيل على كل طفل أن يقوم به في هذا العمر عادة وبهذا كان كلامه في المهد معجزة كبيرة ولكن الكلام في مرحلة الكهولة «1» أمر عادي ولعل ذكره في الآية أعلاه مقارناً للحديث في المهد إشارة إلى أنّ كلامه في المهد مثل كلامه في الكهولة والكمال لم يجانب الصواب والحق والحكم.

______________________________

(1) «الكهولة»: هي متوسط العمر، وقيل إنّها الفترة ما بين السنة الرابعة والثلاثين حتّى الحادية والخمسين، وماقبلها «شاب» وما بعدها «شيخ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 271

إنّنا نعلم أنّ هذه الدنيا هي دنيا العلل والأسباب، وأنّ اللَّه قد دبّر أمر الخلق بحيث إنّ خلق كل كائن يتمّ ضمن سلسلة من العوامل، فلِكي يولد إنسان قرّر اللَّه أن يكون ذلك عن طريق الإتصال الجنسي، ونفوذ الحيمن في البويضة، لذلك حق لمريم أن تصيبها الدهشة وأن تتقدّم بسؤالها: كيف يمكن أن تحمل وتلد ويكون لها ولد بغير أن يكون لها أيّ اتصال جنسي مع أيّ بشر؟ «قَالَتْ رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ».

فجاءتها الملائكة بأمر ربّها تخبرها بأنّ اللَّه

يخلق ما يشاء وكيفما يشاء، فنظام الطبيعة هذا من خلق اللَّه وهو يأتمر بأمره، واللَّه قادر على تغيير هذا النظام وقتمايشاء، فيخلق وفق أسباب وعوامل اخرى غير عادية ما يشاء: «كَذلِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ».

ثم لتوكيد هذا الأمر وإنهائه يقول: «إِذَا قَضَى أَمرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ».

إنّ تعبير «كن فيكون» إشارة إلى سرعة الخلق.

وَ يُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْرَاةَ وَ الْإِنْجِيلَ (48) وَ رَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَ أُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَ مَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) بعد أن ذكرت الآيات السابقة أربع صفات للمسيح عليه السلام (وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد، ومن الصالحين) شرعت هاتان الآيتان بذكر صفتين اخريين من صفات هذا النبي العظيم، فالاولى تقول: «وَيُعَلّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَيةَ وَالْإِنجِيلَ». ففي البداية تشير إلى تعليمه الحكمة والعلم بشكل عام ثم تبين مصداقين من مصاديق الكتاب والحكمة وهماالتوراة والإنجيل.

في الآية الاولى كان الكلام عن علم المسيح وكتبه السماوية وفي الآية الثانية إشارة إلى معجزاته العديدة ثم تبين الهدف من كل ذلك وهو هداية بني إسرائيل المنحرفين: «وَرَسُولًا إِلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ».

ثم تضيف الآية: «أَنِّى قَدْ جِئْتُكُم بَايَةٍ مِّن رَّبّكُمْ». وليست آية واحدة، بل آيات عديدة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 272

ولما كانت دعوة الأنبياء في الحقيقة دعوة إلى حياة حقيقية، فإنّ هذه الآية- عند بيان معجزات السيد المسيح عليه السلام- تبدأ بذكر بثّ الحياة في الأموات بإذن اللَّه، وتقول على لسان المسيح: «أَنّى

أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطّينِ كَهَيَةِ الطَّيرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ».

ثم تشير إلى معالجة الأمراض الصعبة العلاج أو التي لا علاج لها وتقول على لسانه:

«وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْىِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ» «1». لا شكّ أنّ القيام بكلّ هذه الأعمال وخاصة لدى علماء الطب في ذلك الزمان كان من المعجزات التي لا يمكن إنكارها.

بعد ذلك تشير إلى إخباره عن أسرار الناس الخافية، فلكل امرى ء في حياته بعض الأسرار التي لا يعرف الآخرون شيئاً عنها، فإذا جاء من يخبرهم بما أكلوه، أو ما ادّخروه، فهذا يعني أنّه يستقي معلوماته من مصدر غيبي: «وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ». وأخيراً يقول: إنّ هذه كلها دلائل صادقة للذين يؤمنون منكم «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ».

تفيد هذه الآية وآيات اخرى أنّ رسل اللَّه وأولياءه يستطيعون بإذن منه وبأمره- إذا اقتضى الأمر- أن يتدخّلوا في عالم الخلق والتكوين وأن يحدثوا ما يعتبر خارقاً للقوانين الطبيعية.

وهذا مقام أرفع من مقام الولاية التشريعية، أي إدارة الناس وحكمهم ونشر قوانين الشريعة بينهم ودعوتهم إلى اللَّه وهدايتهم إلى الصراط المستقيم.

وَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) هذه الآية جاءت على لسان المسيح عليه السلام ولبيان بعض اهداف النبوّة حيث يقول: جئت اؤكّد لكم التوراة واثبت اصولها ومبادئها «وَمُصَدّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَيةِ». كما جئت لأرفع الحظر الذي فرض عليكم بالنسبة لبعض الأشياء في دين موسى عليه السلام بسبب

______________________________

(1) «اكمه»: قيل إنّه يعني أعمى وذهب بعض إلى أنّه العشو الليلي، ولكن أغلب

المفسّرين وأرباب اللغة ذهبواإلى أنّه يعني الأعمى منذ الولادة، وبعض ذهب إلى أكثر من ذلك بأنّ المراد هو عدم وجود أصل العين.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 273

عصيانكم- مثل منع لحم الأباعر وبعض شحوم الحيوانات وبعض الطيور والأسماك- «وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِى حُرّمَ عَلَيْكُمْ».

ثم مرّة اخرى تتكرّر الجملة التي قرأناها على لسان المسيح في الآية السابقة: «وَجِئْتُكُم بَايَةٍ مِّن رَّبّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ».

وفي الآية الثانية تؤكد على لسان السيد المسيح عليه السلام عبودية المسيح لرفع كل إبهام وريب قد ينشأ من كيفية ولادته التي قد يتشبث بها البعض لإثبات الوهيته وتقول: «إِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ». يتضح من هذه الآية ومن آيات اخرى أنّ السيد المسيح لكي يزيل كل إبهام وخطأ فيما يتعلّق بولادته الخارقة للعادة ولكي لا يتخذونها ذريعة لتأليهه كثيراً ما يكرر القول: «إِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ» و «إِنّى عَبْدُ اللَّهِ ءَاتنِىَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيًّا» «1». بخلاف ما نراه في الأناجيل المحرّفة الموجودة التي تنقل عن المسيح أنّه كان يستعمل «الأب» في كلامه عن اللَّه، إنّ القرآن يذكر «الرب» بدلًا من ذلك: «إِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ». وهذا أكثر ما يمكن أن يقوم به المسيح في محاربة من يدّعي الوهيّته، بل لكي يكون التوكيد على ذلك أقوى يقول للناس: «فَاعْبُدُوهُ». أي اعبدوا اللَّه ولا تعبُدوني.

ولذلك نجد أنّه لم يكن أحد من الناس يتجرأ في حياة السيّد المسيح أن يدعي الوهيته أو أنّه أحد الآلهة وحتى بعد عروجه بقرنين من الزمان لم تخالط تعليماته في التوحيد شوائب الشرك، إلّاأنّ التثليث باعتراف أرباب الكنيسة ظهر في القرن الثالث للميلاد (وسيأتي تفصيل ذلك في ذيل الآية 171 من سورة النساء).

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ

أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ اشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَ اتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) كان اليهود ينتظرون مجي ء المسيح عليه السلام بموجب ما بشّرهم به موسى عليه السلام قبل أن يولد ولكنه عندما ظهر وتعرّضت مصالح جمع من الظالمين والمنحرفين من بني إسرائيل للخطر لم

______________________________

(1) سورة مريم/ 30.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 274

يبق معه إلّانفر قليل، بينما تركه الذين احتملوا أن يؤدّي قبولهم دعوة المسيح والتقيّد بالقوانين الإلهية إلى ضياع مصالحهم. بعد أن أعلن عيسى دعوته وأثبتها بالأدلة الكافية، أدرك أنّ جمعاً من بني إسرائيل يصرّون على المعارضة والعصيان ولا يتركون المعاندة والانحراف: «فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ». فنادى في أصحابه و «قَالَ مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ» «1». فاستجاب لندائه نفر قليل، كانوا أطهاراً سمّاهم القرآن ب «الحواريين» لبّوا نداء المسيح ولم يبخلوا بشي ء في سبيل نشر أهدافه المقدسة.

أعلن الحواريون استعدادهم لتقديم كل عون للمسيح عليه السلام وقالوا: «نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ».

لاحظ أنّ الحواريين قالوا: نحن أنصار اللَّه ننصر دينه. بل لكي يعربوا عن منتهى إيمانهم بالتوحيد وليؤكّدوا إخلاصهم ولم يقولوا: نحن أنصارك.

وبعد أن قبل الحواريون دعوة المسيح إلى التعاون معه واتخاذه شاهداً عليهم في إيمانهم، اتّجهوا إلى اللَّه يعرضون عليه إيمانهم قائلين: «رَبَّنَا ءَامَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ». ولكن لما كانت دعوى الإيمان لا تكفي وحدها، فقد اتّبعوا ذلك بقيامهم بتنفيذ أوامر اللَّه واتّباع رسوله المسيح وقالوا مؤكّدين: «وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ».

عندما يتغلغل الإيمان في روح الإنسان لابدّ أن ينعكس ذلك على عمله، فبدون العمل يكون إدّعاؤه الإيمان تقوّلًا، لا إيماناً حقيقياً.

بعد

ذلك طلبوا من اللَّه قائلين «فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ». والشاهدون هم اولئك الذين لهم صفة قيادة الامم، ويوم القيامة يشهدون على أعمال الناس الحسنة والسيئة.

وبعد أن إنتهى الحواريون من شرح إيمانهم، أشاروا إلى خطط اليهود الشيطانية، وقالوا:

إنّ هؤلاء- لكي يقضوا على المسيح عليه السلام وعلى دعوته ويصدّوا انتشار دينه- وضعوا الخطط الماكرة، إلّاأنّ ما رسمه اللَّه من مكر فاق مكرهم وكان أشدّ تأثيراً: «وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ».

______________________________

(1) التعبير ب «أحسّ» مع أنّ الكفر أمر باطني لا يدرك بالحواس قد يكون أنّ إصرارهم على الكفر بلغ مرتبة من الشدّة وكأنّه أصبح محسوساً (الميزان في تفسير القرآن، ذيل الآية مورد البحث).

مختصر الامثل، ج 1، ص: 275

أمّا سبب تسمية تلامذة المسيح بالحواريين فقد ذكرت له احتمالات كثيرة ولكن الأقرب إلى الذهن وهو الوارد في أحاديث أئمة الدين، هو لأنّهم فضلًا عن طهارة قلوبهم وصفاء أرواحهم، كانوا دائبي السعي في تطهير الناس وتنوير أفكارهم وغسلهم من أدران الذنوب.

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رَافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ جَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) قلنا إنّ اليهود- بالتعاون مع بعض المسيحيين الخونة- قرّروا قتل السيد المسيح، فأحبط اللَّه مكرهم ونجى نبيّه منهم، في هذه الآية يذكر اللَّه نعمته على المسيح قبل وقوع الحادثة، قائلًا: «إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنّى مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ».

من المعروف عند المفسرين، بالإستناد إلى الآية (157) من سورة النساء، أنّ المسيح لم يُقتل وأنّ اللَّه رفعه إلى السماء.

ثم تضيف الآية: «وَمُطَهّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا». هذا جانب آخر من خطاب اللَّه إلى المسيح، والقصد من التطهير هنا هو إنقاذه

من الكفار الخبثاء البعيدين عن الحق والحقيقة الذين كانوا يوجّهون إليه التهم الباطلة، ويحوكون حوله المؤامرات ساعين إلى تلويث سمعته فنصر اللَّه دينه وطهّره من تلك التهم.

«وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ القِيمَةِ».

وهذه بشارة يبشّر بها اللَّه المسيح وأتباعه لتشجيعهم على المضيّ في الطريق الذي اختاروه، والواقع أنّ هذه واحدة من آيات الإعجاز ومن تنبّؤات القرآن الغيبية التي تقول إنّ أتباع المسيح سوف يسيطرون دائماً على اليهود الذين عادوا المسيح.

وفي ختام الآية يقول تعالى: «ثُمَّ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ».

ويعني أنّ ما تقدم من الانتصارات والبشائر يتعلق بالحياة الدنيا أمّا المحكمة النهائية ونيل الجزاء الكامل فسيكون في الآخرة.

فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ وَ مَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ اللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 276

الآية الاولى والثانية تتابعان الخطاب للسيد المسيح وحال أتباعه وأعدائه بينما الآية الثالثة خاطب نبي الخاتم صلى الله عليه و آله.

وبعد ذكر رجوع الناس إلى اللَّه ومحاكمتهم- في الآية السابقة- يأتي في هذه الآية ذكر نتيجة تلك المحاكمة، فالكافرون والمعارضون للحق والعدالة سيُلاقون في الآخرة من العذاب الأليم مثل ما يُلاقون في الدنيا ولن يكون لأيّ منهم حامٍ ولا نصير: «فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِى الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ».

ومن الإشارة في هذه الآية إلى عذاب الدنيا نفهم أنّ الكافرين- وهم هنا اليهود- لا ينجون من العذاب، وهذا ما يؤكده تاريخ اليهود، ومن ذلك تفوّق الآخرين عليهم كما جاء في الآيات السابقة.

ثم أشار القرآن الكريم إلى الفئة

الثانية وقال: «وَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ». ثم يؤكد القول: «وَاللَّهُ لَايُحِبُّ الظَّالِمِينَ».

ومن الواضح أنّ اللَّه لا يحبّ الظالمين ولا يقدم على ظلم عباده بل يوفيهم اجورهم بالكامل.

وبعد ذكر تاريخ المسيح وبعض ما جرى له، يتّجه الخطاب إلى رسول الأعظم صلى الله عليه و آله فيقول: كل هذا الذي سردناه عليك دلائل صدق لدعوتك ورسالتك وكان تذكيراً حكيماً جاء بصورة آيات قرآنية نزلت عليك، تبين الحقائق في بيان محكم وخالٍ من كل هزل وباطل وخرافة. «ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْأَيَاتِ وَالذّكْرِ الْحَكِيمِ».

إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَ أَبْنَاءَكُمْ وَ نِسَاءَنَا وَ نِسَاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنَا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: نزلت الآيات في وفد نجران: العاقب والسيد ومن معهما، قالوا لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله: هل رأيت ولداً من غير ذكر؟ فنزل: «إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 277

الآيات. فقرأها عليهم، فلما دعاهم رسول اللَّه إلى المباهلة «1» استنظروه إلى صبيحة غد من يومهم ذلك ...

فلمّا كان الغد جاء النبي صلى الله عليه و آله آخذاً بيد علي بن أبي طالب والحسن والحسين عليهم السلام بين يديه يمشيان وفاطمة عليها السلام تمشي خلفه وخرج النصارى يقدمهم أسقفهم ...

روي أنّ الأسقف قال لهم: إنّي لأرى وجوهاً لو سألوا اللَّه أن يزيل جبلًا من مكانه لأزاله، فلا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم

القيامة.

التّفسير

الآية الاولى تورد استدلالًا قصيراً وواضحاً في الرد على مسيحيي نجران بشأن ألوهية المسيح: إنّ ولادة المسيح من غير أب لا يمكن أن تكون دليلًا على أنّه ابن اللَّه أو أنّه اللَّه بعينه، لأنّ هذه الولادة قد جرت لآدم بصورة أعجب فهو قد ولد من غير أب ولا ام، وعليه، فكما أنّ خلق آدم من تراب لا يستدعي التعجب، لأنّ اللَّه قادر على كل شي ء، ولأنّ «فعله» و «إرادته» متناسقان فإذا أراد شيئاً يقول له: كن فيكون، كذلك ولادة عيسى من ام وبغير أب، ليست مستحيلة «إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ».

«الْحَقُّ مِن رَّبّكَ فَلَا تَكُنْ مِّنَ الْمُمْتَرِينَ». هذه الآية تؤكد الموضوع وتقول: إنّ ما أنزلنا عليك بشأن المسيح أمر حقيقي من اللَّه ولا يعتوره الشك، فلا تتردّد في قبوله.

بعد الآيات التي استدلّ فيها على بطلان القول بالوهية عيسى بن مريم، يأمر اللَّه نبيّه بالمباهلة إذا جاءه من يجادله من بعد ما جاء من العلم والمعرفة، وأمره أن يقول لهم: إنّي سأدعو أبنائي، وأنتم ادعوا أبناءكم، وأدعو نسائي، وأنتم ادعوا نساءكم، وأدعو نفسي، وتدعون أنتم أنفسكم، وعندئذ ندعو اللَّه أن ينزل لعنته على الكاذب منّا: «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ».

إِنَّ هذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَ مَا مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)

______________________________

(1) بمعنى الملاعنة بين الشخصين، ولذا يجتمع أفراد للحوار حول مسألة دينية مهمّة في مكان واحدويتضرعون اللَّه أن يفضح الكاذب ويعاقبه.

مختصر الامثل، ج 1،

ص: 278

تقول الآية- بعد شرح حياة المسيح عليه السلام- إنّ ما قصصناه عليك من قصة عيسى حقيقة أنزلها اللَّه عليك وعليه، فإنّ المزاعم الباطلة القائلة بالوهية المسيح، أو اعتباره ابن اللَّه، أو بعكس ذلك اعتباره لقيطاً، كلها خرافات باطلة «إِنَّ هذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ».

ثم تضيف للتوكيد: إنّ الذي يليق للعبادة هو اللَّه «وَمَا مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ» وحده، وأنّ اتخاذ معبود آخر دونه عمل بعيد عن الحق والحقيقة «وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» فهو قادر على أن يخلق ولداً بدون أب، وذلك على اللَّه يسير.

الآية الثانية تهدد من لم يستسلم من هؤلاء للحق بعد الاستدلالات المنطقية في القرآن بشأن المسيح عليه السلام وكذلك إذا لم يخضعوا للمباهلة واستمرّوا في عنادهم وتعصبهم، لأنّ ذلك دليل على أنّهم ليسوا طلاب حق، بل هم مقيدون بأغلال تعصبهم المجحف، وأهوائهم الجامحة، وتقاليدهم المتحجرة، وبذلك يكونون من المفسدين في المجتمع: «فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ».

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمْ أَنْ نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَ لَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) الدعوة إلى الإتحاد: في الآيات السابقة كانت الدعوة إلى الإسلام (بكل تفاصيله) ولكن الدعوة هذه المرّة تتّجه إلى النقاط المشتركة بين الإسلام وأهل الكتاب، وبهذا يعلّمنا القرآن درساً، مفاده: أنّكم إذا لم توفّقوا في حمل الآخرين على التعاون معكم في جميع أهدافكم، فلا ينبغي أن يقعد بكم اليأس عن العمل، بل إسعوا لإقناعهم بالتعاون معكم في تحقيق الأهداف المشتركة بينكم، كقاعدة للإنطلاق إلى تحقيق سائر أهدافكم المقدسة «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ

إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيًا».

«فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ».

لو أنّهم- بعد دعوتهم دعوة منطقية إلى نقطة التوحيد المشتركة- أصرّوا على الإعراض، فلابد أن يقال لهم: اشهدوا أنّنا قد أسلمنا للحق، ولم تسلموا، وبعبارة اخرى: فاعلموا أنّ من يطلب الحق، ومن يتعصّب ويعاند. ثم قولوا لهم: «اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ». فلا تأثير لعنادكم وعصيانكم وابتعادكم عن الحق في أنفسنا، وإنّا ما زلنا على طريقنا- طريق الإسلام- سائرون، لا نعبد إلّااللَّه، ولا نلتزم إلّاشريعة الإسلام، ولا وجود لعبادة البشر بيننا.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 279

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَ مَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَ الْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَ فَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَ لَا نَصْرَانِيّاً وَ لكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ مَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: إنّ أحبار اليهود ونصارى اجتمعوا عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فتنازعوا في إبراهيم، فقالت اليهود: ما كان إلّايهودياً، وقالت النصارى: ما كان إلّانصرانياً. فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.

التّفسير

«يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِى إِبْرهِيمَ». هذه الآية تردّ على مزاعم اليهود والنصارى، وتقول: إنّ جدلكم بشأن إبراهيم النبي المجاهد في سبيل اللَّه جدل عقيم لأنّه كان قبل موسى والمسيح بسنوات كثيرة والتوراة والإنجيل نزلا بعده بسنوات كثيرة «وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَيةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ». أيعقل أن يدين نبي سابق بدين لاحق؟ «أَفَلَا تَعْقِلُونَ».

«هَا أَنتُمْ هؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم

بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ».

هنا يوبّخهم اللَّه قائلًا إنّكم قد بحثتم فيما يتعلق بدينكم الذي تعرفونه (وشاهدتم كيف أنّكم حتى في بحث ما تعرفونه قد وقعتم في أخطاء كبيرة وكم بعدتم عن الحقيقة، فقد كان علمكم، في الواقع، جهلًا مركباً)، فكيف تريدون أن تجادلوا في أمر لا علم لكم به، ثم تدّعون ما لا يتفق مع أيّ تاريخ؟

وفي نهاية الآية يقول: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ». توكيداً للموضوع السابق وتمهيداً لبحث الآية التالية.

أجل، إنّه يعلم متى بعث إبراهيم عليه السلام بالرسالة لا أنتم الذين جئتم بعد ذلك بزمن طويل وتحكمون في هذه المسألة بدون دليل.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 280

مختصر الامثل ج 1 319

«مَا كَانَ إِبْرهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا». وهذا ردّ صريح على هذه المزاعم يقول إنّ إبراهيم لم يكن من اليهود ولا من المسيحيين، وإنّما كان موحّداً طاهراً مخلصاً أسلم للَّه ولم يشرك به أبداً.

«الحنيف»: من الحنف، وهو الميل من شي ء إلى شي ء، وهو في لغة القرآن ميل عن الضلال إلى الإستقامة.

يصف القرآن إبراهيم أنّه كان حنيفاً لأنّه شقّ حجب التعصب والتقليد الأعمى، وفي عصر كان غارقاً في عبادة الأصنام، نبذ هو عبادة الأصنام ولم يطأطى ء لها رأساً.

إنّ القرآن بعد أن وصف إبراهيم بأنّه كان «حَنِيفًا» أضاف «مُّسْلِمًا» ثم أردف ذلك بقوله «وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» لإبعاد إحتمال آخر.

ومما تقدم يتّضح أنّ إبراهيم عليه السلام لم يكن تابعاً لهذه الأديان، ولكن كيف يمكننا إتّباع هذا النبي العظيم الذي يفتخر باتّباعه جميع أتباع الأديان السماوية؟

آخر آية من الآيات مورد البحث توضح هذا المطلب وتقول: «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ...». وعليه، إذا كان أهل الكتاب بعقائدهم المشركة قد انحرفوا عن أهم مبدأ

من مبادى ء دعوة إبراهيم، فقد بقي رسول الإسلام صلى الله عليه و آله والمسلمون- بالاستناد إلى هذا المبدأ نفسه وتعميمه على جميع اصول الإسلام وفروعه- من أوفى الأوفياء له، فلابدّ أن نعترف بأنّ هؤلاء هم الأقربون إلى إبراهيم، لا اولئك.

وفي ختام الآية يبشر اللَّه تعالى الذين يتبعون رسالة الأنبياء حقيقة ويقول: «وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُؤْمِنِينَ».

وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَ مَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ مَا يَشْعُرُونَ (69)

سبب النّزول

في تفسير القرطبي: نزلت في معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وعمّار بن ياسر حين دعاهم اليهود من بني النضير وقريظة وبني قينقاع إلى دينهم.

التّفسير

هذه الآية تكشف خطّة الأعداء، وتنذرهم بالكفّ عن محاولاتهم العقيمة استناداً إلى التربية التي نشأ عليها هذا الفريق من المسلمين في مدرسة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بحيث لا يمكن أن

مختصر الامثل، ج 1، ص: 281

يكون هناك أيّ احتمال لارتدادهم. إنّ هؤلاء قد إعتنقوا الإسلام بكل وجودهم، ولذلك فإنّهم يعشقون هذه المدرسة الإنسانية بمجامع قلوبهم ويؤمنون بها، وبناء على ذلك لا سبيل للأعداء إلى تضليلهم، بل إنّهم إنّما يضلّون أنفسهم.

«وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ» وذلك لأنّهم بإلقاء الشبهات حول الإسلام وعلى رسول الإسلام واتّهامهما بشتّى التهم، إنّما يربّون في أنفسهم روح سوء الظن.

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَ تَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) تعقيباً للحديث عن الأعمال التخريبية لأهل الكتاب الواردة في الآية السابقة، توجّه هاتان الآيتان الخطاب لأهل الكتاب وتلومهم على كتمانهم للحقائق وعدم التسليم لها، فتقول: «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بَايَاتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ».

السؤال هنا أيضاً موجه إلى أهل الكتاب عمّا

يدعوهم إلى العناد واللجاجة والإصرار عليهما بعد أن قرأوا علامات نبي الخاتم في التوراة والإنجيل ويعلمون ما فيهما، فلماذا ينكرونها؟

«يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ». مرّة اخرى يستنكر القرآن قيامهم بالخلط بين الحق والباطل، وإخفاءهم الحق مع علمهم به، فهم على علمهم بالأمارات الواردة في التوراة والإنجيل عن رسول الأكرم صلى الله عليه و آله يخفونها.

وَ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَ اكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَ لَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: تواطأ إثنا عشر رجلًا من أحبار اليهود خيبر وقرى عرينة، وقال

مختصر الامثل، ج 1، ص: 282

بعضهم لبعض: أدخلوا في دين محمّد أوّل النهار باللسان دون الإعتقاد واكفروا به آخر النهار. وقولوا: إنّا نظرنا في كتبنا، وشاورنا علماءنا، فوجدا محمّداً ليس بذلك، وظهر لنا كذبه، وبطلان دينه. فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينه، وقالوا: إنّهم أهل الكتاب وهم أعلم به منّا. فيرجعون عن دينهم إلى دينكم.

التّفسير

تكشف هذه الآية عن خطّة هدّامة اخرى من خطط اليهود، وتقول إنّ هؤلاء لكي يزلزلوا بُنية الإيمان الإسلامي توسّلوا بكل وسيلة ممكنة، من ذلك أنّ «وَقَالَتْ طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ» اتفقوا أن يؤمنوا بما أنزل على المسلمين في أول النهار ويرتدّوا عنه في آخره «ءَامِنُوا بِالَّذِى أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا ءَاخِرَهُ».

لا شك أنّ مثل هذه المؤامرة كانت ستؤثّر في نفوس ضعفاء

الإيمان، خاصة وأنّ اولئك اليهود كانوا من الأحبار العلماء، وكان الجميع يعرفون عنهم أنّهم عالمون بالكتب السماوية وبعلائم خاتم الأنبياء، فإيمانهم ثم كفرهم كان قادراً على أن يزلزل إيمان المسلمين الجديد، لذلك كانوا يعتمدون كثيراً على خطّتهم الماهرة هذه، وقوله: «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» دليل على أملهم هذا.

وكانت خطّتهم تقضي أن يكون إيمانهم بالإسلام ظاهرياً، وأن يبقى إرتباطهم القلبي بدينهم. «وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ».

«قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ». هذه جملة معترضة جاءت ضمن كلام على لسان اليهود في ما قبلها وما بعدها من الآيات.

«أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ».

هذه الآية استمرار لأقوال اليهود، بتقدير عبارة (ولا تصدّقوا) قبلها.

وعلى ذلك يصبح معنى الآية هكذا: «لا تصدّقوا أن ينال أحد ما نلتم من الفخر وما نزل عليكم من الكتب السماوية وكذلك لا تصدّقوا أن يستطيع أحد أن يجادلكم يوم القيامة أمام اللَّه ويدينكم لأنّكم خير عنصر وقوم في العالم، وأنتم أصحاب النبوة والعقل والعلم والمنطق والاستدلال».

بهذا المنطق الواهي كان اليهود يسعون لنيل ميزة يتميّزون بها من حيث علاقتهم باللَّه ومن حيث العلم والمنطق والاستدلال على الأقوام الاخرى، لذلك يردّهم اللَّه في الآية

مختصر الامثل، ج 1، ص: 283

التالية بقوله: «قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ». أي: قل لهم إنّ المواهب والنعم، سواء أكانت النبوّة والإستدلالات العقلية المنطقية، أم المفاخر الاخرى، هي جميعاً من اللَّه، يسبغها على من يشاء من المؤهّلين اللّائقين الجديرين بها.

«يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ».

هذا توكيد لما سبق أيضاً: إنّ اللَّه يخصّ من عباده من يراه جديراً برحمته- بما في ذلك مقام النبوّة والقيادة- دون أن يستطيع أحد تحديده فهو صاحب الأفضال والنِعم العظيمة.

ويستفاد ضمناً

من هذه الآية الكريمة أن الفضل الإلهي إذا شمل بعض الناس دون بعض، فليس ذلك لمحدودية الفضل الإلهي، بل بسبب تفاوت القابليات فيهم.

خطط قديمة: تعتبر هذه الآيات، في الواقع، من آيات إعجاز القرآن، لأنّها تكشف أسرار اليهود وأعداء الإسلام وتفضح خططهم لزعزعة مسلمي الصدر الأوّل، فتيقّظ المسلمون ببركتها ووعوا وساوس الأعداء المغرية، ولكنّنا لو دقّقنا النظر لأدركنا أنّ تلك الخطط تجري في عصرنا الحاضر أيضاً بطرق مختلفة، إنّ وسائل إعلام الأعداء القوية المتطورة مستخدمة الآن للغرض نفسه، فهم يحاولون هدم أركان العقيدة الإسلامية في عقول المسلمين، وبخاصة الجيل الشاب، وهم في هذا السبيل لا يتورّعون عن كل فرية، ويلجأون إلى كل السبل ويتلبسون بلبوس العالم والمستشرق والمؤرخ وعالم الطبيعيات والصحفي، بل حتى الممثّل السينمائي.

إنّهم يصرّحون أنّ هدفهم ليس التبشير بالمسيحية وحمل المسلمين على اعتناقها، ولا إعتناق اليهودية، بل هدفهم هو هدم اسس المعتقدات الإسلامية في أفكار الشباب، وجعلهم غير مهتمّين بدينهم وتراثهم، إنّ القرآن اليوم يحذّر المسلمين من هذه الخطط كما حذّرهم في القديم.

وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَ اتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 284

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس قال: يعنى بقوله «مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ» عبد اللَّه بن سلام، أودعه رجل 1200 أوقية «1» من ذهب، فأدّاه إليه، فمدحه اللَّه سبحانه.

ويعنى بقوله «مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَّايُؤَدّهِ إِلَيْكَ» فنحاص بن عازوراء وذلك أنّ رجلًا

من قريش استودعه ديناراً، فخانه. واللَّه يذمّه في هذه الآية لخيانته الأمانة.

التّفسير

ترسم الآية ملامح اخرى لأهل الكتاب، كان جمع من اليهود يعتقدون أنّهم لا يكونون مسؤولين عن حفظ أمانات الناس، بل لهم الحق في تملّك أماناتهم! كانوا يقولون: إنّنا أهل الكتاب، وأنّ النبي والكتاب السماوي نزلا بين ظهرانينا، لذلك فأموال الآخرين غير محترمة عندنا. لقد تغلغلت فيهم هذه الفكرة بحيث غدت عقيدة دينية راسخة، وهذا ما يعبّر عنه القرآن بقوله «يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» قال اليهود: إنّ لنا حق التصرف بأموال العرب واغتصابها لأنّهم مشركون ولا يتّبعون دين موسى.

من الجدير بالذكر أنّ هذه الآية تعلن أنّ أهل الكتاب لم يكونوا جميعاً ينهجون هذا الطراز من التفكير غير الإنساني، بل كان فيهم جماعة ترى أنّ من واجبها أن تؤدي حق الآخرين. ولذلك فإنّ القرآن لم يدنهم جميعاً ولم يلق تبعة أخطاء بعضهم على الجميع ولذلك يقول: «وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَّايُؤَدّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا».

إنّ الحوادث التي جرت في الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة أثبتت بما لا يدع مجالًا للشك أنّ القرارات الدولية والرأي العام العالمي، وقضايا الحق والعدالة وأمثالها، لا قيمة لها في نظر الصهاينة ولا معنى، وما من شي ء يحملهم على الخضوع للحق سوى القوة، وهذه من المسائل التي تنبّأ بها القرآن.

«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الْأُمّيّينَ سَبِيلٌ». هذه الآية تبين منطقهم في أكل أموال الناس، وهو قولهم بأنّ «لأهل الكتاب» أفضلية على «الاميين» أي على المشركين والعرب الذين كانوا اميين غالباً أو أنّ المقصود كل من ليس له نصيب من قراءة التوراة والإنجيل، لذلك يحق لهم أن يستولوا على أموال

الآخرين، وليس لأحد الحق أن يؤاخذهم على ذلك، حتى أنّهم ينسبون إلى اللَّه تقرير التفوق الكاذب.

______________________________

(1) «الأوقية»: تساوي 1/ 12 من الرطل ويساوي 7 مثاقيل، جمعها: أواق.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 285

لا شك أنّ هذا المنطق كان أخطر بكثير من مجرد خيانة الأمانة، لأنّهم كانوا يرون هذا حقّاً من حقوقهم، فيشير القرآن إلى هذا قائلًا: «وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ».

هؤلاء يعلمون أنّه ليس في كتبهم السماوية أيّ شي ء من هذا القبيل بحيث يجيز لهم خيانة الناس في أموالهم، ولكنهم لتسويغ أعمالهم القبيحة راحوا يختلقون الأكاذيب وينسبونها إلى اللَّه.

الآية التالية تنفي مقولة اليهود: «لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الْأُمّيّينَ سَبِيلٌ» التي قرّروا فيها لأنفسهم حرية العمل، فاستندوا إلى هذا الزعم المزيّف للإعتداء على حقوق الآخرين بدون حق، حيث يتلاعبون بمصائر شعوب العالم، ولا يتورّعون عن إرتكاب كل إعتداء على حقوق الإنسان، ويرون القوانين مجرد العوبة بيدهم لتحقيق مصالحهم، فتقول: «بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ».

تقرر هذه الآية أنّ مقياس الشخصية والقيمة الإنسانية ومحبة اللَّه يتمثّل في الوفاء بالعهد وفي عدم خيانة الأمانة خاصة، وفي التقوى بشكل عام.

إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ أَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَ لَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ لَا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت في جماعة من أحبار اليهود أبي رافع، وكنانة بن أبي الحقيق، وحيي بن الأخطب، وكعب بن الأشرف، كتموا ما في التوراة من أمر محمّد وكتبوا بأيديهم غيره، وحلفوا أنّه من عند اللَّه، لئلا تفوتهم الرياسة وما كان لهم على أتباعهم.

التّفسير

تشير الآية إلى جانب آخر من آثام اليهود وأهل الكتاب، ولكونها

وردت بصيغة عامة، فإنّها تشمل كل من تنطبق عليه هذه الصفات. تقول الآية: «إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا». أي الذين يجعلون عهودهم مع اللَّه والقسم باسمه المقدس موضع بيع وشراء لقاء مبالغ مادية، سيكون جزاءهم خمس عقوبات:

مختصر الامثل، ج 1، ص: 286

1- انّهم سوف يُحرمون من نِعم اللَّه التي لا نهاية لها في الآخرة «أُولئِكَ لَاخَلقَ لَهُمْ» «1».

2- إنّ اللَّه يوم القيامة يكلم المؤمنين ولكنه لا يكلم أمثال هؤلاء «وَلَا يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ».

3- إنّ اللَّه سوف لا ينظر إليهم بنظر الرحمة واللطف يوم القيامة «وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ».

4- ولا يطهّرهم من ذنوبهم «وَلَا يُزَكّيهِمْ».

5- وأخيراً سيعذبهم عذاباً شديداً «وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

بديهي أنّ كلام اللَّه ليس نطق اللسان لأنّ اللَّه منزه عن التجسّد، إنّما الكلام عن طريق الإلهام القلبي، أو عن طريق إحداث أمواج صوتية في الفضاء كالكلام الذي سمعه موسى عليه السلام من شجرة الطور. وكذلك النظر إليهم فهو إشارة إلى العناية الخاصة بهم وليس المقصود النظر الجسماني.

وَ إِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَ مَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ مَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (78) هذه الآية التي تؤكد ما بحثته الآيات السابقة بشأن خيانة بعض علماء أهل الكتاب وتقول: إنّ فريقاً من هؤلاء يلوون ألسنتهم عند تلاوتهم الكتاب، وهذا كناية عن تحريفهم كلام اللَّه. وتضيف: إنّهم في تحريفهم هذا من المهارة بحيث إنّكم تحسبون ما يقرأونه آيات أنزلها اللَّه، وهو ليس كذلك «لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ».

ولكنهم لا يقنعون بذلك، بل يشهدون علانية بأنّه من كتاب اللَّه، وهو ليس كذلك «وَيَقُولُونَ هُوَ

مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ».

مرّة اخرى يقول القرآن: إنّهم في عملهم هذا ليسوا ضحية خطأ، بل هم يكذبون على اللَّه بوعي وبتقصّد، وينسبون إليه هذه التهم الكبيرة وهم عالمون بما يفعلون «وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ».

______________________________

(1) «خلاق»: من مادة «خُلُق» بمعنى النصيب والفائدة. وذلك لأنّ الإنسان يحصل عليها بواسطة اخلاقه (وهو إشارة إلى أنّهم يفتقدون الأخلاق الحميدة التي تؤهلهم للانتفاع في ذلك اليوم).

مختصر الامثل، ج 1، ص: 287

مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَ بِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَ لَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَ النَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: إنّ رجلًا قال: يا رسول اللَّه! يسلّم عليك كما يسلّم بعضنا على بعض، أفلا نسجد لك؟ قال: «لا ينبغي أن يُسجد لأحد من دون اللَّه، ولكن اكرموا نبيّكم، واعرفوا الحق لأهله». فأنزل اللَّه تعالى الآية.

التّفسير

سبق أن قلنا إنّ واحدة من عادات أهل الكتاب القبيحة- اليهود والنصارى- كانت تزييف الحقائق، من ذلك قولهم بالوهية عيسى، زاعمين أنّه هو الذي أمرهم بذلك، وكان هذا ما يريد بعضهم أن يحققه بشأن رسول الأكرم أيضاً، للأسباب التي ذكرناها في نزول الآية.

إنّ الآية ردّ حاسم على جميع الذين كانوا يقترحون عبادة الأنبياء. تقول الآية: ليس لكم أن تعبدوا نبي الخاتم ولا أيّ نبي آخر ولا الملائكة، ويخطى ء من يقول إنّ عيسى قد دعاهم إلى عبادته. «مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّى مِن دُونِ اللَّهِ».

الآية تنفي

نفياً مطلقاً هذا الأمر، أي أنّ الذين أرسلهم اللَّه وآتاهم العلم والحكمة لا يمكن- في أيّة مرحلة من المراحل- أن يتعدّوا حدود العبودية للَّه، بل إنّ رسل اللَّه هم أسرع خضوعاً له من سائر الناس، لذلك فهم لا يمكن أن يخرجوا عن طريق العبودية والتوحيد ويجرّوا الناس إلى هوة الشرك.

«وَلكِن كُونُوا رَبَّانِيّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ».

«الربّاني»: هو الذي أحكم إرتباطه باللَّه، ولمّا كانت الكلمة مشتقة من «ربّ» فهي تطلق أيضاً على من يقوم بتربية الآخرين وتدبير امورهم وإصلاحهم. وعلى هذا يكون المراد من

مختصر الامثل، ج 1، ص: 288

هذه الآية: إنّ هذا العمل (دعوة الأنبياء الناس إلى عبادتهم) لا يليق بهم، إنّ ما يليق بهم هو أن يجعلوا الناس علماء إلهيين في ضوء تعليم آيات اللَّه وتدريس حقائق الدين، ويصيّروا منهم أفراداً لا يعبدون غير اللَّه ولا يدعون إلّاإلى العلم والمعرفة. «وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا الْمَلِكَةَ وَالنَّبِيّينَ أَرْبَابًا».

هذه تكملة لما بحث في الآية السابقة، فكما أنّ الأنبياء لا يدعون الناس إلى عبادتهم، فإنّهم كذلك لا يدعونهم إلى عبادة الملائكة وسائر الأنبياء. وفي هذا جواب لمشركي العرب الذين كانوا يعتقدون أنّ الملائكة هم بنات اللَّه، وبذلك يسبغون عليهم نوعاً من الالوهية، ومع ذلك كانوا يعتبرون أنفسهم من أتباع دين إبراهيم، كذلك هو جواب للصابئة الذين يقولون إنّهم أتباع «يحيى» وكانوا يرفعون مقام الملائكة إلى حدّ عبادتهم، وهو أيضاً ردّ على اليهود الذين قالوا إنّ «عزيراً» ابن اللَّه، أو النصارى الذين قالوا إنّ «المسيح» ابن اللَّه، وأضفوا عليه طابعاً من الربوبية، فالآية تردّ هؤلاء جميعاً وتقول إنّه لا يليق بالأنبياء أن يدعوا الناس إلى عبادة غير اللَّه.

وفي الختام تقول الآية: «أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُمْ

مُّسْلِمُونَ».

أيمكن أن يدعوكم النبي إلى الكفر بعد أن اخترتم الإسلام ديناً؟ أي: كيف يمكن لنبي أن يدعوا الناس أوّلًا إلى الإيمان والتوحيد، ثم يدلّهم على طريق الشرك؟

تنوّه الآية ضمنياً بعصمة الأنبياء وعدم انحرافهم عن مسير إطاعة اللَّه.

وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلَى ذلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى وجود علائم لنبي الخاتم صلى الله عليه و آله في كتب الأنبياء السابقين، أشارت هذه الآية إلى مبدأ عام، وهو أنّ الأنبياء السابقين وأتباعهم قد أبرموا مع اللَّه ميثاقاً بالتسليم للأنبياء الذين يأتون بعدهم، وبالإضافة إلى الإيمان بهم، لا يبخلون عليهم بشي ء في مساعدتهم على تحقيق أهدافهم. تقول الآية: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّينَ لَمَا ءَاتَيْتُكُم مّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُونَّهُ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 289

وفي القرآن إشارات كثيرة على وحدة الهدف عند أنبياء اللَّه، وهذه الآية نموذج حيّ على ذلك.

ثم لتوكيد هذا الموضوع جاءت الآية: «قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذلِكُمْ إِصْرِى» «1».

هل اعترفتم بهذا الميثاق وقبلتم عهدي وأخذتم من أتباعكم عهداً بهذا الموضوع؟

وجواباً على ذلك: «قَالُوا أَقْرَرْنَا».

ثم لتوكيد هذا الأمر المهمّ وتثبيته يقول اللَّه: كونوا شهداء على هذا الأمر وأنا شاهد عليكم وعلى أتباعكم «قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ».

وفي الآية الأخيرة يذم ويهدد القرآن الكريم ناقضي العهود ويقول: «فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ».

فلو أنّ أحداً بعد كل هذا التأكيد على أخذ المواثيق والعهود المؤكّدة- أعرض

عن الإيمان بنبيّ كنبي الخاتم الذي بشرت به الكتب القديمة وذكرت علائمه، فهو فاسق وخارج على أمر اللَّه تعالى، ونعلم أنّ اللَّه لايهدي الفاسقين المعاندين، كما مرّ في الآية (80) من سورة التوبة:

«وَاللَّهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ». ومن لا يكون له نصيب من الهداية الإلهية فإنّ مصيره إلى النار.

أَ فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ مَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَ مَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْبَاطِ وَ مَا أُوتِيَ مُوسَى وَ عِيسَى وَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) مرّت بنا حتى الآن بحوث مسهبة في الآيات السابقة عن الأديان الماضية، وابتداءاً من هذه الآية يدور البحث حول الإسلام وفيها إلفات لأنظار أهل الكتاب وأتباع الأديان السابقة إلى الإسلام. تبدأ الآية بالتساؤل: «أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ».

______________________________

(1) «الإصر»: العهد المؤكّد الذي يستوجب نقضه العقاب الشديد.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 290

أيريد هؤلاء ديناً غير دين اللَّه؟ وما دين اللَّه سوى التسليم للشرائع الإلهية، هي كلها قد جمعت بصورتها الكاملة الشاملة في دين نبي الخاتم صلى الله عليه و آله. فإذا كان هؤلاء يبحثون عن الدين الحقيقي فعليهم أن يسلموا. «وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

يبدأ القرآن بتفسير الإسلام بمعناه الأوسع، فيقول: كل من في السماوات والأرض، أو جميع الكائنات في السماوات والأرض، مسلمون خاضعون لأوامره «طَوْعًا وَكَرْهًا».

هذا الإستسلام والخضوع يكون «طوعاً» أو اختيارياً أحياناً، إزاء «القوانين التشريعية» ويكون «كرهاً» أو إجبارياً أحياناً اخرى، إزاء

«القوانين التكوينية».

«قُلْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا». في هذه الآية يأمر اللَّه النبي والمسلمين بأنّهم، فضلًا عن إيمانهم بما انزل على رسول الإسلام، عليهم أن يظهروا إيمانهم بكل الآيات والتعليمات التي نزلت على الأنبياء السابقين، وأن يقولوا: إنّنا لا نفرّق بينهم من حيث صدقهم وعلاقتهم باللَّه، إنّنا نعترف بالجميع، فهم جميعاً كانوا قادة إلهيين، وهم جميعاً بُعثوا لهداية الناس، إنّا نسلم بأمر اللَّه من جميع النواحي، وبذلك نقطع أيدي المفرّقين.

«وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ». «يبتغ»: من «الإبتغاء» بمعنى الطلب والسعي، ويكون في الامور المحمودة وفي الامور المذمومة.

تقول الآية: أنّه لا يقبل من أحد سوى الإسلام مع الأخذ بنظر الاعتبار احترام سائر الشرايع الإلهية المقدسة. وأمّا الذين يتخذون غير هذه الحقيقة ديناً، فلن يقبل منهم هذا أبداً، ولهم على ذلك عقاب شديد «وَهُوَ فِى الْأَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ».

في تفسير القرطبي (وفي تفسير روح الجنان أيضاً): نزلت هذه الآية في الحارث بن سويد أخو الجُلاس بن سويد وكان من الأنصار، إرتدّ عن الإسلام هو واثنا عشر معه ولحقوا بمكة كفاراً، فنزلت هذه الآية.

كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَ جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَ اللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَ الْمَلَائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَ لَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 291

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: نزلت الآيات في رجل من الأنصار يقال له: حارث بن سويد بن الصامت. وكان قتل المحذر بن زياد البلوي غدراً، وهرب وارتد عن الإسلام، ولحق

بمكة ثم ندم، فأرسل إلى قومه أن يسألوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: هل لي من توبة؟ فسألوا.

فنزلت الآية إلى قوله «إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا» فحملها إليه رجل من قومه، فقال: إنّى لأعلم أنّك لصدوق، ورسول اللَّه أصدق منك، وأنّ اللَّه أصدق الثلاثة. ورجع إلى المدينة وتاب وحسن إسلامه.

التّفسير

كان الكلام في الآيات السابقة عن أنّ الدين الوحيد المقبول عند اللَّه هو الإسلام، وفي هذه الآيات يدور الحديث حول من قبلوا الإسلام ثم رفضوه وتركوه، ويسمى مثل هذا الشخص «مرتد». تقول الآية: «كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيّنَاتُ».

فالآية تقول: إنّ اللَّه لا يعين أمثال هؤلاء الأشخاص على الإهتداء، لماذا؟ لأنّ هؤلاء قد عرفوا النبي بدلائل واضحة وقبلوا رسالته، فبعدولهم عن الإسلام أصبحوا من الظالمين والشخص الذي يظلم عن علم واطلاع مسبق غير لائق للهداية الإلهية: «وَاللَّهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».

المراد من «البينات» في هذه الآية، القرآن الكريم وسائر معاجز النبي الأكرم صلى الله عليه و آله والمراد من «الظالم» هو من يظلم نفسه بالمرتبة الأولى ويرتد عن الإسلام وفي المرتبة الثانية يكون سبباً في إضلال الآخرين.

ثم تضيف الآية: «أُولئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».

عقاب أمثال هؤلاء الأشخاص الذين يعدلون عن الحق بعد معرفتهم له، كما هو مبيّن في الآية، أن تلعنهم الملائكة وأن يلعنهم الناس.

«خَالِدِينَ فِيهَا لَايُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ».

تضيف الآية هنا أنّهم فضلًا عن كونهم موضع لعن عام، فإنّهم سيبقون في هذا اللعن إلى الأبد، فهم في الواقع كالشيطان الخالد في اللعن الأبدي.

ولا شكّ أنّ نتيجة ذلك هو أن يكونوا في عذاب شديد ودائم بغير تخفيف ولا إمهال.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 292

وفي آخر

آية تفتح طريق العودة أمام هؤلاء الأفراد، وتدعوهم للتوبة، لأنّ هدف القرآن هو الإصلاح والتربية، ومن أهم الطرق لذلك هو فتح باب العودة للمذنبين والملوثين كيما تتاح لهم الفرصة لجبران ما فرط منهم، فتقول: «إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

يستفاد من هذه الآية أنّ الذنب عبارة عن نقص في الإيمان، وأنّه بعد التوبة يقوم الشخص التائب بتجديد الإيمان ليتطهر من هذا النقص.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ مَاتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ ءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَ لَوِ افْتَدَى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَ مَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) كان الكلام في الآيات السابقة يدور حول الذين يندمون حقّاً على إنحرافهم عن طريق الحق فيتوبون توبة صادقة، في هذه الآية يدور الكلام على الذين لن تُقبل توبتهم، وهم الذين آمنوا أوّلًا، ثم إرتدّوا وكفروا، وأصرّوا على كفرهم. إنّ اللَّه لن يقبل توبة هؤلاء، لأنّهم لن يتخذوا باختيارهم خطوة في سبيل اللَّه، بل هم مجبرون على إظهار الندم والتوبة بعد رؤيتهم انتصار المسلمين، لذلك فتوبتهم ظاهرية ولن تُقبل.

وفي الآية الثانية يقول تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْ ءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ».

تخصّ الآية اولئك الذين يقضون أعمارهم كافرين في هذه الدنيا، ثم يموتون وهم على تلك الحال، يقول القرآن، بعد أن اتّضح لهؤلاء طريق الحقّ، يسيرون في طريق الطغيان والعصيان، وهم ليسوا مسلمين، ولن يُقبل منهم كل ما ينفقونه، وليس أمامهم أيّ طريق للخلاص، حتى وإن أنفقوا مل ء الأرض ذهباً في سبيل اللَّه.

من الواضح أنّ القصد من القول

بإنفاق هذا القدر الكبير من الذهب إنّما هو إشارة إلى بطلان إنفاقهم مهما كثر، لأنّه مقرون بتلوّث القلب والروح بالعداء للَّه، وإلّا فمن الواضح أنّ مل ء الأرض ذهباً يوم القيامة لا يختلف عن ملئها تراباً، إنّما قصد الآية هو الكناية عن أهمية الموضوع.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 293

أمّا بشأن مكان هذا الإنفاق، أفي الدنيا أم في الآخرة؟ فقد ذكر المفسرون لذلك احتمالين إثنين، ولكن ظاهر الآية يدل على العالم الآخر، أي كانوا كافرين «وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ». فلو كانوا يملكون مل ء الأرض ذهباً، وظنّوا أنّهم بالاستفادة من هذا المال، كما هي الحال في الدنيا، يستطيعون أن يدرأوا العقاب عن أنفسهم، فهم على خطأ فاحش، وفي الواقع فإنّ مضمون هذه الآية يشبه قوله تعالى في الآية (15) من سورة الحديد: «فَالْيَوْمَ لَايُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا».

وفي الختام يشير إلى نكتة اخرى في المقام ويقول: «أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ».

لا شك في أنّهم سينالون عقاباً شديداً مؤلماً، ولن يكون بإستطاعة أحد أن ينتصر أو يشفع لهم، لأنّ الشفاعة لها شرائط، وأهمها الإيمان باللَّه، ولهذا السبب فلو أن جميع الشفعاء اجتمعوا لإنقاذ أحد الكفار من عذاب النار لم تقبل شفاعتهم. وأساساً، بما أنّ الشفاعة بإذن اللَّه، فإنّ الشفعاء لا يشفعون أبداً لمثل هؤلاء الأفراد غير اللائقين للشفاعة، لأنّ الشفاعة تحتاج إلى قابلية المحل، والإذن الإلهي لا يشمل الأفراد غير اللائقين.

لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَ مَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) من علائم الإيمان: بعد أن تحدثت الآية السابقة عن حال الكفار حينما يواجهون الواقع يوم القيامة، ويودون لو أنفقوا مل ء الأرض ذهباً ليفتدوا به، جاءت هذه الآية لتعطي درساً

مهماً في «الإنفاق» بالمناسبة، فقد قال سبحانه وتعالى في هذه الآية: «لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ».

إنّ لكلمة «البر» معنى واسعاً يشمل كل أنواع الخير إيماناً كان أو أعمالًا صالحة، كما أنّ المستفاد من الآية (177) من سورة البقرة هو إعتبار «الإيمان باللَّه واليوم الآخر، والأنبياء، وإعانة المحتاجين، والصّلاة، والصيام، والوفاء، والإستقامة في البأساء والضراء» جميعها من شعب البر ومصاديقه. وعلى هذا فإنّ للوصول إلى مراتب الأبرار الحقيقيين شروطاً عديدة، منها: الإنفاق مما يحبه الإنسان من الأموال.

وحتى يطمئن المنفقون إلى أنّ أي شي ء مما ينفقونه لن يعزب عن اللَّه سبحانه ولن يضيع، عقب اللَّه على حثه للناس على الإنفاق مما يحبون بقوله: «وَمَا تُنفِقُوا مِن شَىْ ءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ

مختصر الامثل، ج 1، ص: 294

عَلِيمٌ». إنّه يعلم بما تنفقونه صغيراً أم كبيراً، تحبونه أو لا تحبونه. تأثير القرآن في قلوب المسلمين: لقد كان لآيات الكتاب العزيز تأثير بالغ ونفوذ سريع في أفئدة المسلمين الأوائل، فما أن سمعوا آيات جديدة النزول، إلّاوظهر هذا التأثير على سلوكهم ومواقفهم وتصرفاتهم، ونذكر من باب المثال ما نقرأه في كتب التفسير والتاريخ الإسلامي مما ورد في مجال هذه الآية بالذات.

1- الشيخ ابو الفتوح الرازي في تفسيره (روح الجنان): أنّ رجلًا من الصحابة كان اسمه أبو طلحة وكان له في المدينة من النخيل ما لم يكن لأحد غيره وكان له نخيل في تجاه مسجد الرسول صلى الله عليه و آله في غاية النّضارة والعمارة، وكان كثير الغلّة، وكان فيها عين ماء، والرسول صلى الله عليه و آله كان يأتي إليها ويشرب من مائها ويتوضّأ منها، فلما نزل قوله تعالى: «لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» أتى أبو طلحة وقال: يا

رسول اللَّه! إنّ اللَّه تعالى يعلم أنّ أحبّ المال إليّ وأكرمه عليّ هذه النخيلات، تصدّقت بها رجاء البرّ غداً لتكون لي ذخيرة، يا رسول اللَّه فضعها في موضع ترى فيه الصّلاح، فقال الرسول صلى الله عليه و آله: «بخّ بخّ ذلك مال رابح لك».

2- في تفسير (روح الجنان): كان لزبيدة زوجة هارون الرشيد مصحف ثمين جدّاً، قد طلت غلافه بالذهب ورصعته بأنواع المجوهرات النفيسة وبينما كانت تتلوا القرآن ذات يوم بلغت الآية الكريمة: «لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» فتأملت فيه فقالت في نفسها:

«إنّه ليس شي ء ما هو أحبّ إلي من هذا المصحف» فأرسلت إلى باعة الجواهر وباعت جواهره ثم أنفقت ثمنه في بركة ما زالت تنسب إليها حتى يومنا هذا.

كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَ مَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)

سبب النّزول

المستفاد من الروايات الواردة حول هذه الآيات وما ينقله المفسرون هو: أنّ اليهود طرحوا إشكالين آخرين على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ضمن جدالهم له، أحدهما: أنكر اليهود تحليل النبي لحوم الإبل فقال: كل ذلك كان حلًّا لإبراهيم. فقالت اليهود: كل شي ء تحرمه فإنّه محرم

مختصر الامثل، ج 1، ص: 295

على نوح وإبراهيم، وهلمّ جرّا حتى إنتهى إلينا. فنزلت الآية.

والآخر: صلاته باتّجاه الكعبة فكانوا يقولون: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة لأنّه مهاجر الأنبياء والأرض المقدسة. وقال المسلمون بل الكعبة أفضل.

فجاءت الآيات الثلاثة تردّ على إنكارهم للأمر الأوّل وتفند زعمهم، بينما تكفلت

الآيات القادمة الردّ على اعتراضهم الأخير.

التّفسير

صرحت الآية الاولى من هذه الآيات الثلاث بتفنيد كل المزاعم اليهودية حول تحريم بعض أنواع الطعام الطيب (مثل لحوم الإبل وألبانها) وردت على هذه الكذبة بقولها: «كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَاءِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَيةُ» «1».

إنّ المستفاد من الروايات الإسلامية هو أنّ يعقوب أخذه وجع العرق الذي يقال له عرق النسا «2» فنذر إن شفاه اللَّه أن يحرم العروق، ولحم الإبل، وهو أحبّ الطعام إليه. فاقتدى به أتباعه في هذا، حتى اشتبه الأمر على من أتوا من خلفهم فيما بعد فتصور بعض أنّه تحريم إلهي، فنزلت الآية وتصرّح بأنّ نسبة هذا التحريم إلى اللَّه سبحانه محض إختلاق.

وتأكيداً لهذه الحقيقة أمر اللَّه نبيّه في هذه الآية أن يطلب من اليهود بأن يأتوا بالتوراة الموجودة عندهم ويقرأوها ليتبين كذب ما ادعوه، وصدق ما أخبر به اللَّه حول حلية الطعام الطيب كله إذ قال: «قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَيةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».

ولكنهم أعرضوا عن تلبية هذا الطلب لعلمهم بخلو التوراة عن التحريم الذي إدعوه.

والآن بعد أن تبين كذبهم وافتراؤهم على اللَّه لعدم استجابتهم لطلب النبي بإحضار التوراة، فإنّ عليهم أن يعرفوا بأنّ كل من افترى على اللَّه الكذب إستحق وصف الظلم، لأنّه بهذا الإفتراء ظلم نفسه بتعريضها للعذاب الإلهي، وظلم غيره بتحريفه وإضلاله بما افترى، وهذا هو ما يعنيه قوله سبحانه في ختام هذه الآية: «فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ».

______________________________

(1) «إسرائيل»: هو الاسم الآخر ليعقوب.

(2) «عرق النسا»: ألم عصبي يمتد على مسار العصب الوركي من الالية إلى معصم القدم ويشتد هذا الألم جدّاًإذا ما ثنيت الساق الممتدة عند مفصل الحوض

(الموسوعة العربية الميسرة).

مختصر الامثل، ج 1، ص: 296

إنّ اليهود كانوا يحرمون الإبل وكل ما شق ظلفاً من البهائم، ولكن ذلك لا يدل على أنّها كانت محرمة في شريعة نوح وإبراهيم أيضاً، إذ يمكن أن يكون هذا التحريم مختصاً باليهود عقاباً لهم وتنكيلًا. فإذا لم يكن لليهود حجة على زعمهم، وإذا تبين لهم صدق الرسول الكريم صلى الله عليه و آله في دعوته، واتضح لهم أنّه على ملة إبراهيم، ودينه الحنيف حقاً يوجب عليهم أن يتبعوه «قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ». اتبعوا ملة إبراهيم الذي كان حنيفاً مستقيماً لا يميل إلى شي ء من الأديان الباطلة، والأهواء الفاسدة، بل يسير في الطريق المستقيم، فلم يكن في دينه أي حكم منحرف مائل عن الحق وحتى في ال أطعمة الطيبة الطاهرة لم يكن يحرم شيئاً بدون مبرر أو سبب وجيه للتحريم ... إنّه لم يكن مشركاً.

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَ هُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَ مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) لقد أنكرت اليهود على النبي صلى الله عليه و آله أمرين وقد ردّ القرآن على الأمر الأوّل في الآيات الثلاث المتقدمة، وها هو يرد على الأمر الثاني، وهو: إنكارهم على النبي اتخاذه الكعبة قبلة، وتفضيله لها على بيت المقدس بينما كانوا يفضلونه على الكعبة. يقول سبحانه: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا». فلا عجب إذن أن تكون الكعبة قبلة للمسلمين، فهي أوّل مركز للتوحيد.

إنّ المصادر الإسلامية والتاريخية تحدثنا بأنّ الكعبة تأسست على يدي «آدم عليه السلام»

ثم تهدمت بسبب الطوفان الذي وقع في عهد النبي «نوح عليه السلام» ثم جدد بناءها النبي العظيم «إبراهيم الخليل عليه السلام» فهي إذن عريقة عراقة التاريخ البشري.

إنّ «الكعبة» والتي تسمى في تسمية واخرى ب «بيت اللَّه» وصفت في هذه الآية بأنّها «بيت للناس» وهذا التعبير يكشف عن حقيقة هامّة وهي: أنّ كل ما يكون بإسم اللَّه ويكون له، يجب أن يكون في خدمة الناس من عباده، وأنّ كل ما يكون لخدمة الناس وخير العباد فهو للَّه سبحانه.

لقد ذكرت في هاتين الآيتين أربع مزايا اخرى هي:

مختصر الامثل، ج 1، ص: 297

1- مُبَارَكاً: «المبارك» يعني كثير الخير والبركة، وإنّما كانت الكعبة المعظمة مباركة لأنّها تعتبر بحق واحدة من أكثر نقاط الأرض بركة وخيراً، سواء الخير المادي، أو المعنوي.

2- هُدًى لِلْعَالَمِينَ: أجل، إنّ الكعبة هدى للعالمين فهي تجتذب الملايين من الناس الذين يقطعون إليها البحار والوهاد، ويقصدونها من كل فج عميق ليجتمعوا في هذا الملتقى العبادي العظيم وهم بذلك يقيمون هذه الفريضة فريضة الحج التي لم تزل تؤدّي بجلال عظيم منذ عهد إبراهيم الخليل عليه السلام.

3- فِيهِ ءَايَاتٌ بَيّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرهِيمَ: إنّ في هذا البيت معالم واضحة وعلائم ساطعة لعبادة اللَّه وتوحيده، وفي تلك النقطة المباركة من الآثار المعنوية ما يبهر العيون ويأخذ بمجامع القلوب وإنّ بقاء هذه الآثار والمعالم رغم كيد الكائدين وإفساد المفسدين الذين كانوا يسعون إلى إزالتها ومحوها لَمن تلك الآيات التي يتحدث عنها القرآن في هذا الكلام العلوي.

4- وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا: لقد طلب إبراهيم عليه السلام من ربّه بعد الانتهاء من بناء الكعبة، أن يجعل بلد مكة آمناً إذ قال: «رَبّ اجْعَلْ هذَا الْبَلَدَ ءَامِنًا» «1». فاستجاب اللَّه له وجعل مكة بلداً آمناً.

وبعد أن استعرض

القرآن الكريم فضائل هذا البيت وعدد مزاياه، أمر الناس بأن يحجّوا إليه- دون استثناء- وعبر عن ذلك بلفظ مشعر بأنّ مثل هذا الحج هو دَين للَّه على الناس، فيتوجب عليهم أن يؤدّوه ويفرغوا ذممهم منه إذ قال: «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ».

وتعني لفظة «الحج» أصلًا القصد، أمّا وجه تسمية هذه الزيارة وهذه المناسك الخاصة بالحج فلأن قاصد الحج إنّما يخرج وهو «يقصد زيارة بيت اللَّه» ولهذا أضيفت لفظة الحج إلى البيت فقال تعالى: «حِجُّ الْبَيْتِ».

إنّ الحج يجب على كل إنسان مستطيع، في العمر مرّة واحدة، ولا يستفاد من الآية المبحوثة هنا أكثر من ذلك، لأنّ الحكم فيها مطلق، وهو يحصل بالإمتثال مرّة واحدة.

إنّ الشرط الوحيد الذي ذكرته الآية الحاضرة لوجوب الحج واستقراره هو «الاستطاعة» المعبر عنها بقوله سبحانه: «مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا».

ثم إنّه يستفاد من هذه الآية أنّ هذا القانون- مثل بقية القوانين الإسلامية- لا يختص

______________________________

(1) سورة إبراهيم/ 35.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 298

بالمسلمين، فعلى الجميع أن يقوموا بفريضة الحج مسلمين وغير مسلمين. وللتأكيد على أهمية الحج قال سبحانه في ذيل الآية الحاضرة: «وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ». أي أنّ الذين يتجاهلون هذا النداء، ويتنكرون لهذه الفريضة، ويخالفونها لا يضرون بذلك إلّاأنفسهم لأنّ اللَّه غني عن العالمين، فلا يصيبه شي ء بسبب إعراضهم ونكرانهم وتركهم لهذه الفريضة.

ويستفاد من هذه الآية أمران:

الأول: الأهمية الفائقة لفريضة الحج، إلى درجة انّ القرآن عبر عن تركها بالكفر، ويؤيد ذلك ما رواه الصدوق في كتاب «من لا يحضره الفقيه» من أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال لعلي عليه السلام: «يا علي! تارك الحج وهو مستطيع كافر يقول اللَّه تبارك وتعالى: «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ

سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ»؛ يا علي! من سوف الحج حتى يموت بعثه اللَّه يوم القيامة يهودياً أو نصرانياً».

الثاني: إنّ هذه الفريضة الإلهية المهمة- مثل بقية الفرائض والأحكام الدينية الاخرى- شرعت لصلاح الناس، وفرضت لفرض تربيتهم، وإصلاح أمرهم وبالهم أنفسهم فلا يعود شي ء منها إلى اللَّه سبحانه أبداً فهو الغني عنهم جميعاً.

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَ مَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَ فِيكُمْ رَسُولُهُ وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)

سبب النّزول

ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية: مرّ شماس بن قيس وكان شيخاً قد عسا في الجاهلية عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم، على نفر من أصحاب

مختصر الامثل، ج 1، ص: 299

النبي صلى الله عليه و آله من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فعاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، واللَّه ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شاباً معه من يهود فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم ثم ذكرهم يوم بعاث وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار. وكان يوم بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس

على الخزرج.

ففعل، فتكلّم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين، على الركب- أوس بن يقظي أحد بني حارثة من الأوس. وهبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج- فتقاولا، ثم أحدهما لصاحبه: إن شئتم واللَّه رددناها الآن وغضب الفريقان جميعاً وقالوا قد فعلنا السلاح السلاح موعدكم الظاهرة- والظاهرة الحرة- فخرجوا إليها وانضمت الأوس بعضها إلى بعض والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية. فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال: «يا معشر المسلمين اللَّه اللَّه، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم اللَّه إلى الإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألّف به بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً؟» فعرف القوم أنّها نزغة من الشيطان وكيد لهم من عدوّهم، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق الرجال بعضهم بعضاً ثم انصرفوا مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله سامعين مطيعين قد أطفأ اللَّه عنهم كيد عدوّ اللَّه تعالى شماس، وأنزل اللَّه تعالى في شأن شماس وما صنع «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ» إلى قوله سبحانه «وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» وأنزل في أوس بن يقظي وهبار ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تُطِيعُوا» الآية «1».

التّفسير

مفرقو الصفوف ومثيرو الخلاف: بعد أن فعل بعض العناصر اليهودية الحاقدة فعلتها وكادت أن تشعل نيران العداوة بين المسلمين نزل قوله تعالى: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بَايَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ». والمخاطب في هذه الآية هم أهل الكتاب

______________________________

(1) تفسير روح

المعاني 4/ 14، ذيل الآية مورد البحث.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 300

ويقصد منهم هنا اليهود، فاللَّه سبحانه يأمر نبيّه في هذه الآية أن يسألهم معاتباً عن علة كفرهم بآيات اللَّه في حين أنّ اللَّه يعلم بأعمالهم. والمراد من آيات اللَّه المذكورة في هذا المقام إمّا الآيات الواردة في التوراة حول النبي الخاتم صلى الله عليه و آله وعلائم نبوّته، أو مجموعة الآيات والمعجزات التي نزلت على نبي الأكرم، وتحققت على يديه، وكشفت عن حقانيته، وصدق دعوته، وصحة نبوّته.

ثم جاءت الآية الثانية تلومهم قائلة: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ». أي قل يا رسول اللَّه لهم لائماً ومندداً: إذا كنتم غير مستعدين للقبول بالحق، فلماذا تصرون على صرف الآخرين عنه، وصدهم عن سبيل اللَّه، وإظهار هذا الطريق المستقيم في صورة السبيل الأعوج بما تدخلون من الشبه على الناس؟

في حين ينبغي- بل يتعين- أن تكونوا أوّل جماعة تبادر إلى تلبية هذا النداء الإلهي، لما وجدتموه من البشائر بظهور هذا النبي في كتبكم وتشهدون عليه.

هل تتصورون أنّ كل ما تفعلونه سيخفى علينا؟ كلّا ... «وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ».

إنّه تهديد بعد تنديد وإنّه إنذار بعد لوم شديد.

وبعد أن ينتهي هذا التقريع والتنديد والإنذار والتهديد لمشعلي الفتن، الصادّين عن سبيل اللَّه القويم، المستفيدين من غفلة بعض المسلمين يتوجه سبحانه بالخطاب إلى هؤلاء المخدوعين من المسلمين، يحذرهم من مغبة الإنخداع بوساوس الأعداء، والوقوع تحت تأثيرهم والسماح لعناصرهم بالتسلل إلى جماعتهم وترتيب الأثر على تحريكاتهم وتسويلاتهم وأنّ نتيجة كل ذلك هو الإبتعاد عن الإيمان والوقوع في أحضان الكفر، إذ يقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ

إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ».

من هذا البيان اتضح أنّ المراد من الرجوع إلى الكفر- في الآية- هو «الكفر الحقيقي والإنفصال الكامل عن الإسلام» كما ويمكن أن يكون المراد من ذلك هي تلك العداوات الجاهلية التي تعتبر- في حد ذاتها- شعبة من شعب الكفر وعلامة من علائمه وأثراً من آثاره لأنّ الإيمان لا يصدر منه إلّاالمحبة والمودة والتآلف، وأمّا الكفر فلا يصدر منه إلّاالتقاتل والعداوة والتنافر.

ثم يتساءل- في عجب واستغراب-: «وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ ءَايَاتُ اللَّهِ

مختصر الامثل، ج 1، ص: 301

وَفِيكُمْ رَسُولُهُ». أي: كيف يمكن أن تسلكوا سبيل الكفر، وترجعوا كفاراً والنبي صلى الله عليه و آله بين ظهرانيكم، وآيات اللَّه البينات تقرأ على أسماعكم، وتشع أنوار الوحي على قلوبكم وتهطل عليكم أمطاره المثيرة للحياة؟

إنّ هذه العبارة ما هي إلّاالإشارة إلى أنّه لا عجب إذا ضل الآخرون وانحرفوا، ولكن العجب ممّن يلازمون الرسول ويرونه فيما بينهم، ولهم مع عالم الوحي إتصال دائم ... ومع آياته صحبة دائمة، إنّ العجب إنّما هو من هؤلاء كيف يضلون وكيف ينحرفون؟

ثم في ختام هذه الآيات يوصي القرآن الكريم المسلمين- إن أرادوا الخلاص من وساوس الأعداء وأرادوا الإهتداء إلى الصراط المستقيم- أن يعتصموا باللَّه ويلوذوا بلطفه ويتمسكوا بهداياته وآياته، ويقول لهم بصراحة تامة: «وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَ لَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لَا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَ كُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: افتخر رجلان من

الأوس والخزرج: ثعلبة بن غنم من الأوس وأسعد بن زرارة من الخزرج فقال الأوسي: منّا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، ومنّا حنظلة غسيل الملائكة ومنّا عاصم بن ثابت بن أفلح حمي الدين، ومنّا سعد بن معاذ الذي اهتزّ عرش الرحمن له، ورضي اللَّه بحكمه في بني قريظة. وقال الخزرجي: منّا أربعة أحكموا القرآن:

ابي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد ومنّا سعد بن عبادة، خطيب الأنصار ورئيسهم. فجرى الحديث بينهما فغضبا وتفاخرا وناديا. فجاء الأوس إلى الأوسي، والخزرج إلى الخزرجي ومعهم السلاح. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و آله فركب حماراً وأتاهم. فأنزل اللَّه سبحانه وتعالى هذه الآيات فقرأها عليهم فاصطلحوا.

التّفسير

الدعوة إلى التقوى: في الآية الاولى من هاتين الآيتين دعوة إلى التقوى لتكون التقوى

مختصر الامثل، ج 1، ص: 302

مقدمة للإتحاد والتآخي. وفي الحقيقة أنّ الدعوة إلى الإتحاد دون أن تستعين هذه الدعوة وتنبع من الجذور الخلقية والاعتقادية، دعوة قليلة الأثر، إن لم تكن عديمة الأثر بالمرّة، ولهذا يركز الاهتمام في هذه الآية على معالجة جذور الاختلاف، وإضعاف العوامل المسببة للتنازع في ضوء الإيمان والتقوى ولهذا توجه القرآن بالخطاب إلى المؤمنين فقال: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ». إنّ «حق التقوى» يعد من أسمى درجات التقوى وأفضلها لأنّه يشمل اجتناب كل إثم ومعصية، وكل تجاوز وعدوان، وإنحراف عن الحقّ.

ثم إنّه بعد أن أوصى جميع المؤمنين بملازمة أعلى درجات التقوى إنتهت الآية بما يعتبر تحذيراً- في حقيقته- للأوس والخزرج وغيرهم من المسلمين في العالم، تحذيراً مفاده: أنّ مجرد إعتناق الإسلام والانضمام إلى هذا الدين لا يكفي، إنّما المهم أن يحافظ المرء على إسلامه وإيمانه واعتقاده إلى اللحظة الأخيرة من عمره وحياته،

ولهذا قال سبحانه: «وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ».

الدعوة إلى الإتحاد: بعد أن أوصت الآية السابقة كل المؤمنين بملازمة أعلى درجات التقوى ومهدت بذلك النفوس وهيّأتها، جاءت الآية الثانية تدعوهم بصراحة إلى مسألة الإتحاد، والوقوف في وجه كل ممارسات التجزئة وإيجاد الفرقة، فقال سبحانه في هذه الآية:

«وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا».

إنّ المقصود من «حبل اللَّه» هو كل وسيلة للإرتباط باللَّه تعالى سواء كانت هذه الوسيلة هي الإسلام، أم القرآن الكريم، أم النبي وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام.

ثم إنّ القرآن بعد كل هذا يعطي مثالًا حيّاً من واقع الامة الإسلامية لأثر الإرتباط باللَّه وهو يذكر- في نفس الوقت- بنعمة الإتحاد والاخوة- تلك النعمة الكبرى- ويدعو المسلمين إلى مراجعة الماضي المؤسف، ومقارنة ذلك الاختلاف والتمزق بهذه الوحدة القوية الصلبة ويقول: «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا».

والملفت للنظر هو أنّ اللَّه نسب تأليف قلوب المؤمنين إلى نفسه فقال: «فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ». أي إنّ اللَّه ألف بين قلوبكم، وبهذا التعبير يشير القرآن الكريم إلى معجزة اجتماعية عظيمة للإسلام، لأنّنا لو لاحظنا ما كان عليه العرب والمجتمع الجاهلي من عداوات

مختصر الامثل، ج 1، ص: 303

واختلافات وما كان يكمن في القلوب من أحقاد طويلة عميقة وما تراكم فيها من ضغائن مستحكمة، وكيف أن أقل شرارة صغيرة أو مسألة جزئية كانت تكفي لتفجير الحروب، وإندلاع القتال في ذلك المجتمع المشحون بالأحقاد.

تلك المعجزة التي أثبتت أنّ تحقيق مثل هذه الوحدة وتأليف تلك القلوب المتنافرة المتباغضة، وإيجاد امة واحدة متآخية من ذلك الشعب الممزق الجاهل ما كان ليتيسر في سنوات قليلة بالطرق والوسائل العادية.

لقد كان وضع العرب سيئاً إلى أبعد الحدود حتى أنّ القرآن يصف تلك الحالة

بأنّهم كانوا على حافة الإنهيار والسقوط إذ يقول: «وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا».

«شفا»: في اللغة حافة الهاوية وطرف الحفرة أو الخندق وما شابه ذلك، ومن ذلك «الشفة» كما وتستعمل لفظة «شفا» هذه في البُرء من المرض لأنّ الإنسان بسببه يكون على حافة السلامة والعافية.

ويريد سبحانه من قوله هذا: أنّكم كنتم على حافة السقوط والإنهيار في الهاوية، ولكن اللَّه نجاكم من ذلك السقوط المرتقب، وأبدلكم بعد الخوف أمناً.

و النار في هذه الآية كناية عن نيران الحروب والمنازعات التي كانت تتأجج كل لحظة بين العرب في العهد الجاهلي بحجج واهية، ولأسباب طفيفة.

ولمزيد من التأكيد على ضرورة الإعتصام بحبل اللَّه مع الاعتبار بالماضي والحاضر، يختم سبحانه الآية بقوله: «كَذلِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُم تَهْتَدُونَ».

إذن فالهدف الأساسي هو خلاصكم ونجاتكم وهدايتكم إلى سبل الأمن والسلام، وحيث إنّ في ذلك مصلحتكم فإنّ عليكم أن تعيروا ما بيّناه لكم مزيداً من الاهتمام، ومزيداً من العناية.

وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَ لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) الدعوة إلى الحق ومكافحة الفساد: بعد الآيات السابقة التي حثّت على الاخوة والإتحاد

مختصر الامثل، ج 1، ص: 304

جاءت الإشارة- في الآية الاولى من الآيتين الحاضرتين- إلى مسألة «الأمر بالمعروف» و «النهي عن المنكر» اللذين هما بمثابة غطاء وقائي اجتماعي لحماية الجماعة وصيانتها، إذ تقول: «وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ». وهذه الآية تتضمن دستوراً أكيداً للُامة الإسلامية بأن تقوم بهاتين الفريضتين دائماً، وأن تكون امة آمرة بالمعروف ناهية عن

المنكر أبداً لأنّ فلاحها رهن بذلك: «وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».

في مسند عبد اللَّه ابن المبارك عن نعمان بن بشير قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: «إنّ قوماً ركبوا البحر في سفينة فاقتسموها فأصاب كل رجل مكاناً فأخذ رجل منهم الفاس فبقر مكانه فقالوا ما يصنع قال هو إنّي أصنع فيه ما شئت فإن أخذوا على يديه نجوا ونجا وإن تركوه غرق وغرقوا فخذوا على أيدي سفهائكم قبل أن يهلكوا».

ولقد جسد النبي الأكرم صلى الله عليه و آله- بهذا المثال الرائع- موضوعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومنطقية هاتين الفريضتين بغض النظر عن أمر الشارع بهما، وبذلك قرر حق الفرد في النظارة على المجتمع على أساس أنّه حق طبيعي ناشى ء من اتحاد المصائر في المجتمع وارتباط بعضها ببعض.

تقتضي أهمية الوحدة أن يركز القرآن الكريم ويؤكد عليها مرة بعد اخرى ولذا يذّكر بأهمية الإتحاد، ويحذر من تبعات الفرقة والنفاق وآثارها المشؤومة، بقوله: «وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيّنَاتُ».

إنّ هذه الآية تحذر المسلمين من أن يتبعوا- كالأقوام السابقة مثل اليهود والنصارى- سبيل الفرقة والاختلاف بعد أن جاءتهم البينات وتوحدت صفوفهم عليها، فيكسبوا بذلك العذاب الأليم.

«وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ».

إنّه ليس من شك في أنّ نتيجة الاختلاف والفرقة لن تكون سوى الذلة والإنكسار، فذلك هو سر سقوط الامم وذلتها، إنّه الاختلاف والتشتت والنفاق والتدابر.

إنّ المجتمع الذي تحطمت وحدته بسبب الفرقة، وتفتّت تماسكه بسبب الاختلاف سيتعرض- لا محالة- لغزو الطامعين وستكون حياته عرضة لأطماع المستعمرين، بل

مختصر الامثل، ج 1، ص: 305

ومسرحاً لتجاوزاتهم، وما أشد هذا العذاب، وما أقسى هذه العاقبة؟ أجل تلك هي عاقبة النفاق والاختلاف في الدنيا.

وأمّا عذاب الآخرة فهو- كما وصفه اللَّه

تعالى في القرآن الكريم- أشد وأخزى.

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَ أَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) الوجوه المبيضّة والوجوه المسودّة: في تعقيب التحذيرات القوية التي تضمنتها الآيات السابقة بشأن التفرقة والنفاق والعودة إلى عادات الكفر ونعرات الجاهلية، جاءت الآيتان الحاضرتان تشيران إلى النتائج النهائية لهذا الإرتداد المشؤوم إلى خُلُق الجاهلية وعاداتها، وتصرّحان بأنّ الكفر والنفاق والتنازع والعودة إلى الجاهلية توجب سواد الوجه، فيما يوجب الثبات على طريق الإيمان والإتحاد، والمحبة والتآلف، بياض الوجوه فتقول: «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ». ففي يوم القيامة تجد بعض الناس وجوههم مظلمة سوداء والبعض الآخر وجوههم نقية بيضاء ونورانية: «فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ». فلماذا اخترتم طريق النفاق والفرقة والجاهلية على الإتحاد في ظل الإسلام، فذوقوا جزاءكم العادل، وأمّا المؤمنون فغارقون في رحمة اللَّه:

«وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».

إنّ هاتين الآيتين تصرّحان بأنّ المنافقين والمتفرقين بعد ما جاءتهم البينات هم المسودة وجوههم الذائقون للعذاب الأليم بسبب كفرهم، وأمّا المؤمنون المتآلفون المتحابون المتحدون فهم في رحمة اللَّه ورضوانه مبيضة وجوههم.

تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ (108) وَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) هذه الآية إشارة إلى ما تعرضت الآيات السابقة له حول الإيمان والكفر والإتحاد والاختلاف والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وآثارها وعواقبها، إذ تقول: «تِلْكَ ءَايَاتُ

مختصر الامثل، ج 1، ص: 306

اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ». فكل هذه الآيات تحذيرات

عن تلك العواقب السيئة التي تترتب على أفعال الناس أنفسهم «وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ» وإنّما هي آثار سيئة يجنيها الناس بأيديهم. ويدلّ على ذلك أنّ اللَّه لا يحتاج إلى ظلم أحد، كيف وهو القوي المالك لكل شي ء وإنّما يحتاج إلى الظلم الضعيف، وإلى هذا يشير قوله سبحانه: «وَلِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ».

فالآية تشتمل على دليلين على عدم صدور الظلم منه سبحانه:

الأوّل: إنّ اللَّه مالك الوجود كله فله ما في السماوات وما في الأرض، فلا معنى للظلم ولا موجب له عنده، وإنّما يظلم الآخرين ويعتدي عليهم من يفقد شيئاً، وإلى هذا يشير المقطع الأوّل من الآية وهو قوله تعالى: «وَلِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ».

الثاني: إنّ الظلم يمكن صدوره ممن تقع الامور دون إرادته ورضاه، أمّا من ترجع إليه الامور جميعاً، وليس لأحد أن يعمل شيئاً بدون إذنه فلا يمكن صدور الظلم منه، وإلى هذا يشير قوله سبحانه: «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ».

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) مكافحة الفساد والدعوة إلى الحق أيضاً: في هذه الآية تطرح مرّة اخرى مسألة «الأمر بالمعروف» و «النهي عن المنكر». فالآية السابقة تشير إلى القسم الخاصّ، وهذه الآية تشير إلى القسم العام من هاتين الفريضتين. «كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ».

والجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم يصف المسلمين- في هذه الآية- بأنّهم خير امة هُيئت وعُبئت لخدمة المجتمع الإنساني، والدليل على أنّ هذه الامة خير امة رشحت لهذه المهمة الكبرى هو «قيامها بالأمر بالمعروف والنهي

عن المنكر وإيمانها باللَّه» وهذا يفيد أنّ إصلاح المجتمع البشري لا يمكن بدون الإيمان باللَّه والدعوة إلى الحق، ومكافحة الفساد.

أمّا هذه الامة خير الأمم، لأنّها تختص بآخر الأديان الإلهية والشرائع السماوية، ولا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 307

شك أنّ هذا يقتضي أن يكون أكمل الشرائع وأتمها في سلّم الأديان.

ثم إنّ الآية تشير إلى أنّ ديناً بمثل هذا الوضوح، وتشريعاً بمثل هذه العظمة، وتعاليم تنطوي على مثل هذه الفوائد التي لا تنكر، ينبغي أن يؤمن به أهل الكتاب من اليهود والنصارى لأنّ في ذلك صلاحهم، وخيرهم إذ يقول سبحانه: «وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم».

ولكن- وللأسف- لم يؤمن به إلّاقلة ممن نبذ التعصب الأعمى، واعتنق الإسلام برغبة صادقة، واستقبل هذا الدين برحابة صدر، فيما أعرض الأكثرون منهم، وفضلوا البقاء على ما هم عليه من الكفر والعصبية على إتباع هذا الأمر الإلهي، متجاهلين حتى تلك البشائر التي نطقت بها كتبهم حول هذا الدين وإلى هذا يشير سبحانه بقوله: «مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ». الخارجون عن هذا الأمر الإلهي.

لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَ إِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَ حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَ بَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَ كَانُوا يَعْتَدُونَ (112)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: إنّ رؤوس اليهود مثل كعب وأبي رافع وأبي ياسر وكنانة وابن صوريا، عمدوا إلى مؤمنيهم كعبد اللَّه بن سلام وأصحابه فأنّبوهم لإسلامهم، فنزلت الآية.

التّفسير

تبشر الآية الاولى المسلمين الذين يواجهون ضغوطاً شديدة وتهديدات أحياناً من جانب قومهم الكافرين بسبب اعتناق الإسلام، تبشرهم وتعدهم بأنّهم منصورون،

وأنّ أهل الكتاب لا يقدرون عليهم ولا تنالهم من جهتهم مضرة، وأنّ ما سيلحقهم من الأذى من جانبهم لن يكون إلّاطفيفاً وعابراً: «لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ».

إنّ هاتين الآيتين تحتويان على عدّة أخبار غيبية، وبشائر مهمة للمسلمين قد تحقق

مختصر الامثل، ج 1، ص: 308

جميعها في زمن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وحياته الشريفة وهي: 1- إنّ أهل الكتاب لا يقدرون على إلحاق أي ضرر مهم بالمسلمين، وأنّ ما يلحقونه بهم لن يكون إلّاأضراراً بسيطة، وعابرة «لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى».

2- إنّهم لن يثبتوا- في القتال- أمام المسلمين، بل ينهزمون ويكون الظفر للمسلمين، ولا يجدون ناصراً ولا معيناً: «وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَايُنصَرُونَ».

3- إنّهم لن يستطيعوا الوقوف على أقدامهم ولن يتمكنوا من العيش مستقلين، بل سيبقون أذلاء دائماً، إلّاأن يعيدوا النظر في سلوكهم، ويسلكوا طريق اللَّه، أو أن يعتمدوا على الآخرين ويستعينوا بقوتهم إلى حين: «ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ».

ولم يمض على هذه الوعود الإلهية والبشائر السماوية زمن حتى تحققت برمّتها في حياة الرسول صلى الله عليه و آله.

وعلى هذا إنّ على اليهود أن يعيدوا النظر في برنامج حياتهم، ويعودوا إلى اللَّه، أو أن يستمروا في حياتهم النكدة المزيجة بالنفاق. فأمّا الإيمان باللَّه والدخول تحت مظلته وفي حصنه الحصين، وأمّا الاعتماد على معونة الناس الواهية والاستمرار في الحياة التعسة.

لقد كان أمام اليهود طريقان: إمّا أن يعودوا إلى منهج اللَّه، وإمّا أن يبقوا على سلوكهم فيعيشوا أذلّاء ما داموا، ولكنهم إختاروا الثاني ولهذا لزمتهم الذلة «وَبَاءُو بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ».

وعلى هذا أنّ اليهود بسبب إقامتهم على المعاصي وتماديهم في

الذنوب اصيبوا بأمرين:

أوّلًا: طردوا من جانب المجتمع وحل عليهم غضب اللَّه سبحانه، و ثانياً: إنّ هذه الحالة «أي الذلة» أصبحت تدريجاً صفة ذاتية لازمة لهم حتى أنّهم رغم كل ما يملكون من إمكانيات وقدرات مالية وسياسية، يشعرون بحقارة ذاتية، وصغار باطني.

وهذا هو ما يشير إليه قوله سبحانه إذ يقول: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بَايَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقّ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ». وبذلك يشير سبحانه إلى علة هذا المصير الأسود الذي يلازم اليهود، ولا يفارقهم.

إنّهم لم يصابوا بما أصيبوا به من ذلة ومسكنة، وحقارة وصغار لأسباب قومية عنصرية أو ما شابه ذلك، بل لما كانوا يرتكبونه من الأعمال فهم:

مختصر الامثل، ج 1، ص: 309

أوّلًا: كانوا ينكرون آيات اللَّه ويكذبون بها.

ثانياً: يصرون على قتل الأنبياء الهداة الذين ما كانوا يريدون سوى إنقاذ الناس من الجهل والخرافة، وتخليصهم من الشقاء والعناء.

ثالثاً: إنّهم كانوا يرتكبون كل فعل قبيح، ويقترفون كل جريمة نكراء، ويمارسون كل ظلم فظيع، وتجاوز على حقوق الآخرين، ولا شك أنّ أي قوم يرتكبون مثل هذه الامور يصابون بمثل ما أصيب به اليهود، ويستحقون ما استحقوه من العذاب الأليم والمصير الأسود.

لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَ أُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَ مَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: أنّه لمّا أسلم عبد اللَّه بن سلام وجماعة، قالت أحبار اليهود: ما آمن بمحمّد إلّاشرارنا. فأنزل اللَّه «لَيْسُوا سَوَاءً» إلى قوله «مِنَ الصَّالِحِينَ».

التّفسير

الإسلام وخصيصة البحث عن الحق: بعد كل ذلك الذم

لليهود، الذي تضمنته الآيات السابقة بسبب مواقفهم المشينة وأفعالهم الذميمة نجد القرآن- كما هو شأنه دائماً- يراعي جانب العدل والإنصاف، فيحترم كل من تنزه عن ذلك السلوك الذميم الذي سار عليه اليهود، ويعلن بصراحة أنّه لا يعمم ذلك الحكم، وأنّه لا يمكن النظر إلى الجميع بنظرة واحدة دون التفريق بين من أقام على تلك الفعال، وبين من غادرها وطلب الحق، ولهذا يقول:

«لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ ءَايَاتِ اللَّهِ ءَانَاءَ الَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ».

ثم إنّه سبحانه يقول: «يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ».

وبهذا يتورع القرآن الكريم عن إدانة العنصر اليهودي كافة، بل يركز على أفعالهم وأعمالهم وممارساتهم، ويحترم ويمدح كل من انفصل عن أكثريتهم الفاسدة، وخضع للحق

مختصر الامثل، ج 1، ص: 310

والإيمان، وهذا هو اسلوب الإسلام الذي لا يعادي أحداً على أساس اللون والعنصر، بل يعاديه على أساس اعتقادي محض، ويكافحه إذا كانت أعماله لا تنطبق مع الحق والعدل والخير. ثم إنّه سبحانه قال: «وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ». معقباً بذلك على العبارات السابقة ومكملًا للآية ويعني بقوله أنّ هؤلاء الذين أسلموا واتخذوا مواقعهم في صفوف المتقين لن يضيع اللَّه لهم عملًا، وإن كانوا قد إرتكبوا في سابق حالهم ما ارتكبوه من الآثام، وما إقترفوه من المعاصي، ذلك لأنّهم قد أعادوا النظر في سلوكهم وأصلحوا مسارهم، وغيروا موقفهم.

كيف «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ» وكأنّ هذه العبارة التي يختم بها سبحانه الآية الحاضرة تشير إلى حقيقة من الحقائق الهامة وهي: أنّ المتقين وإن كانوا قلة قليلة في الأغلب، وخاصة في جماعة اليهود الذين عاصروا النبي صلى الله عليه و آله حيث كان المسلمون المهتدون منهم قلة ضعيفة،

ومن شأن ذلك أن لا تلفت كميتهم النظر، ولكنهم مع ذلك يعلّمهم اللَّه بعلمه الذي لا يعزب عنه شي ء، فلا موجب للقلق، ولا داعي للاضطراب ما دام سبحانه يعلم بالمتقين على قلتهم، ويعلم بأعمالهم، فلا يضيعها أبداً قليلة كانت أو كثيرة.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَ لَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَ مَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَ لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) في مقابل العناصر التي تبحث عن الحقّ، وتؤمن به من الذين وصفتهم الآية السابقة، هناك عناصر كافرة ظالمة وصفهم اللَّه سبحانه في هاتين الآيتين بقوله: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلدُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيًا» لأنّه لا ينفع في الآخرة سوى العمل الصالح والإيمان الخالص لا الإمتيازات المادية، في هذه الحياة: «يَوْمَ لَايَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَىَ اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» «1».

إنّ القرآن ينادي بصراحة بأنّ الإمتيازات المالية والقدرة البشرية الجماعية لا تعد

______________________________

(1) سورة الشعراء/ 88 و 89.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 311

إمتيازاً في ميزان اللَّه، وأنّ الاعتماد عليها وحدها هو الخطأ الجسيم إلّاإذا قرنت بالإيمان والعمل الصالح، واستخدمت في سبيلهما، وإلّا فستؤول بأصحابها إلى الجحيم وعذابها الخالد. «أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».

ولما كان الكلام عن الثروة والمال كان لابدّ من الإشارة إلى مسألة الإنفاق فيقول سبحانه: «مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِى هذِهِ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ».

وهذا هو حال غير المؤمن في إنفاقه، فإنّه لا ينفق ماله بدافع صحيح، بل ينفقه رياءاً وسمعة وأهواء وأهداف شريرة، وبذلك يكون

كالريح العاتية، اللّافحة أو الباردة، تأتي على كل ما أنفقه كما تأتي على الزرع، فتصيبه بالجفاف والفناء، والدمار والهلاك.

إنّ مثل هذا الإنفاق لا يعالج أية مشكلة اجتماعية (لأنّه صرف للمال في غير محله في الأغلب) كما لا ينطوي على أي أثر أخلاقي ونفسي للمنفق الباذل.

ثم إنّه سبحانه يعقب على ما قال بشأن إنفاق الكفّار الذي لا يعود عليهم إلّابالوبال والويل بقوله: «وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَ مَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَ لَا يُحِبُّونَكُمْ وَ تُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَ إِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَ إِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس أنّ هذه الآيات نزلت في رجال من المسلمين، كانوا يواصلون رجالًا من اليهود لما كان بينهم من الصداقة والقرابة والجوار والحلف والرضاع.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 312

التّفسير

لا تتخذوا الأعداء بطانة: هذه الآية التي جاءت بعد الآيات السابقة التي تعرضت لمسألة العلاقات بين المسلمين والكفّار، تشير إلى قضايا حساسة بالغة الأهمية، وتحذر المؤمنين- ضمن تمثيل لطيف- بأن لا يتخذوا من الذين يفارقونهم في الدين والمسلك أصدقاء يسرون إليهم ويخبرونهم بأسرارهم، وأن لا يطلعوا الأجانب على ما تحتفظ به صدورهم وما خفي من نواياهم وأفكارهم الخاصة بهم، قال سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا

لَاتَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ». وهذا يعني أنّ الكفار لا يصلحون لمواصلة المسلمين ومصادقتهم، كما لا يصلحون بأن يكونوا أصحاب سر لهم، وذلك لأنّهم لا يتورعون عن الكيد والإيقاع بهم ما استطاعوا: «لَايَأْلُونَكُمْ خَبَالًا» «1».

فليست الصداقات والعلاقات بقادرة على أن تمنع اولئك الكفار- بسبب ما يفارقون به المسلمين في العقيدة والمسلك- من إضمار الشر للمسلمين، وتمني الشقاء والعناء لهم «وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ». أي أحبوا في ضمائرهم ودخائل نفوسهم لو أصابكم العنت والعناء.

إنّهم- لإخفاء ما يضمرونه تجاهكم- يحاولون دائماً أن يراقبوا تصرفاتهم، وأحاديثهم كيلا يظهر ما يبطنونه من شر وبغض لكم، بيد أنّ آثار ذلك العداء والبغض تظهر أحياناً في أحاديثهم وكلماتهم، عندما تقفز منهم كلمة أو اخرى تكشف عن الحقد الدفين والحنق المستكن في صدورهم: «قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ».

وقد أوضح اللَّه سبحانه في هذه الآية إحدى سبل التعرف على بواطن الأعداء ودخائل نفوسهم، ثم إنّه سبحانه يقول: «وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ». أي أنّ ما يبدو من أفواههم ما هي إلّاشرارة تحكي عن تلك النار القوية الكامنة في صدورهم.

ثم إنّه تعالى يضيف قائلًا: «قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْأَيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ». أي أنّ ما ذكرناه من الوسيلة للتعرف على العدو أمر في غاية الأهمية لو كنتم تتدبرون فيه، فهو يوقفكم على وسيلة جداً فعالة لمعرفة ما يكنّه الآخرون ويضمرونه تجاهكم، وهو أمر في غاية الخطورة بالنسبة لأمنكم وحياتكم وبرامجكم.

______________________________

(1) «الخبال»: في الأصل بمعنى ذهاب شي ء وهي تطلق في الأغلب على الأضرار التي تؤثر على عقل الإنسان وتلحق به الضرر.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 313

يحسب بعض المسلمين أنّ في مقدورهم أن يكسبوا حبّ الأعداء والأجانب إذا أعطوهم حبهم وودهم، وهو خطأ فظيع، وتصور باطل، يقول سبحانه: «هَا أَنتُمْ أُولَاءِ

تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلّهِ».

إنّه سبحانه يخاطب هذا الفريق من المسلمين ويقول لهم: إنّكم تحبّون من يفارقكم في الدين لما بينكم من الصداقة أو القرابة أو الجوار، وتظهرون لهم المودّة والمحبّة، والحال أنّهم لا يحبّونكم أبداً، وتؤمنون بكتبهم وكتابكم المنزل من السماء- على السواء- في حين أنّهم لا يؤمنون بكتابكم ولا يعترفون بأنّه منزل من السماء.

إنّ هذا الفريق من أهل الكتاب ينافقون ويخادعون «وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ».

ولا شكّ أنّ هذا الغيظ لن يضر المسلمين في الواقع، إذن فقل لهم يا رسول اللَّه: «قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ». واستمروا على هذا الحنق فإنّه لن يفارقكم حتى تموتوا.

هذه هي حقيقة الكفّار التي غفلتم عنها ولم يغفل عنها سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ».

ثم إنّ اللَّه يذكر علامة اخرى من علائم العداوة الكامنة في صدور الكفّار إذ يقول: «إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا».

ولكن هل تضر هذه العداوة وما يلحقها من ممارسات ومحاولات شريرة بالمسلمين؟

هذا ما يجيب عنه ذيل الآية الحاضرة حيث يقول سبحانه: «وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ».

وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَ اللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) من هنا تبدأ الآيات التي نزلت حول واحدة من أهم الأحداث الإسلامية ألا وهي معركة احد. في البدء تشير الآية الاولى إلى خروج النبي صلى الله عليه و آله من المدينة لاختيار المحل الذي يعسكر فيه عند «احد» وتقول: «وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ». أي

مختصر الامثل، ج 1، ص: 314

واذكر عندما خرجت

غدوة من المدينة تهيى ء للمؤمنين مواطن للقتال لغزوة احد. ثم إنّ الآية الثانية تشير إلى زاوية اخرى من هذا الحدث إذ تقول: «وَإِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ».

والطائفتان كما يذكر المؤرخون هما بنو سلمة من الأوس وبنو حارثة من الخزرج.

فقد صممت هاتان الطائفتان على التساهل في أمر هذه المعركة والرجوع إلى المدينة، وهمتا بذلك.

وقد كان سبب هذا الموقف المتخاذل هو أنّهما كانتا ممن يؤيد فكرة البقاء في المدينة ومقاتلة الأعداء داخلها بدل الخروج منها والقتال خارجها، وقد خالف النّبي هذا الرأي، مضافاً إلى أنّ عبداللَّه بن أبي سلول الذي التحق بالمسلمين على رأس ثلاثمائة من اليهود عاد هو وجماعته إلى المدينة، لأنّ النبي صلى الله عليه و آله عارض بقاءهم في عسكر المسلمين، وقد تسبب هذا في أن تتراجع الطائفتان المذكورتان عن الخروج مع النبي وتعزما على العودة إلى المدينة من منتصف الطريق.

ولكن يستفاد من ذيل الآية أنّ هاتين الطائفتين عدلتا عن هذا القرار، واستمرتا في التعاون مع بقية المسلمين، ولهذا قال سبحانه: «وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ».

يعني أنّ اللَّه ناصرهما فليس لهما أن تفشلا إذا كانتا تتوكلان على اللَّه بالإضافة إلى تأييده سبحانه للمؤمنين.

غزوة احد: يستفاد من الروايات والنصوص التاريخية الإسلامية، أنّ قريشاً لما رجعت من بدر إلى مكة وقد أصابهم ما أصابهم من القتل والأسر، لأنّه قُتل منهم سبعون واسر سبعون، قال أبو سفيان: يا معشر قريش لا تدعوا نساءكم يبكين على قتلاكم فإنّ الدمعة إذا خرجت أذهبت الحزن والعداوة لمحمّد. وأخذ أبو سفيان على نفسه العهد على أن لا يقرب فراش زوجته ما لم ينتقم لقتلى بدر.

وفي السنة الثالثة للهجرة عزمت قريش على غزو النبي

وخرجوا من مكة في ثلاثة آلاف فارس وألفي راجل، مجهزين بكل ما يحتاجه القتال الحاسم، وأخرجوا معهم النساء والأطفال والأصنام، ليثبتوا في ساحات القتال.

العباس يرفع تقريراً إلى النبي: لم يكن العباس عمّ النبي قد أسلم إلى تلك الساعة، بل

مختصر الامثل، ج 1، ص: 315

كان باقياً على دين قريش، ولكنه كان يحب ابن أخيه غاية الحب، ولهذا فإنّه عندما عرف بتعبئة قريش وعزمهم الأكيد على غزو المدينة ومقاتلة النبي، بادر إلى إخبار النبي، محمّلًا غفارياً (من بني غفار) رسالة عاجلة يذكر فيها الموقف في مكة وعزم قريش، وكان الغفاري يسرع نحو المدينة، حتى أبلغ النبي رسالة عمه العباس، ولما عرف صلى الله عليه و آله بالخبر إلتقى سعد بن أبي وأخبره بما ذكره له عمه، وطلب منه أن يكتم ذلك بعض الوقت.

النّبي يشاور المسلمين: عمد النبي- بعد أن بلغته رسالة عمه العباس- إلى بعث رجلين من المسلمين إلى طرق مكة والمدينة للتجسس على قريش، وتحصيل المعلومات الممكنة عن تحركاتها.

ولم يمض وقت طويل حتى عاد الرجلان وأخبرا النبي بما حصلا عليه حول قوات قريش وأنّ هذه القوات الكبيرة يقودها أبو سفيان.

وبعد أيّام استدعى النّبي صلى الله عليه و آله جميع أصحابه وأهل المدينة لدراسة الموقف، وما يمكن أو يجب إتخاذه للدفاع، وبحث معهم في أمر البقاء في المدينة ومحاربة الأعداء الغزاة في داخلها، أو الخروج منها ومقاتلتهم خارجها، فاقترح جماعة قائلين: «لا نخرج من المدينة حتى نقاتل في أزقتها فيقاتل الرجل الضعيف والمرأة والعبد والأمة على أفواه السكك وعلى السطوح، فما أرادنا قوم قط فظفروا بنا ونحن في حصوننا ودروبنا وما خرجنا إلى عدو لنا قط إلّاكان الظفر لهم علينا». وكان هذا هو ما قاله عبد اللَّه

بن أبي.

وقد كان النبي صلى الله عليه و آله يميل إلى هذا الرأي نظراً لوضع المدينة يومذاك، فقد كان صلى الله عليه و آله يرغب في البقاء في المدينة ومقاتلة العدو في داخلها، إلّاأنّ فريقاً من الشباب الأحداث الذين رغبوا في الشهادة وأحبّوا لقاء العدو، خالفوا هذا الرأي. فوافقهم النبي صلى الله عليه و آله- رغم أنّه كان يميل إلى البقاء في المدينة- احتراماً لمشورتهم، ثم خرج مع أحد أصحابه ليرتب مواضع استقرار المقاتلين المسلمين خارج المدينة وإختار الشعب من جبل احد لإستقرار الجيش الإسلامي باعتباره أفضل مكان من الناحية العسكرية والدفاعية.

لقد استشار النبي أصحابه في هذه المسألة يوم الجمعة، ولذلك فإنّه بعد انتهاء المشاورة قام يخطب لصلاة الجمعة وقال بعد حمد اللَّه والثناء عليه:

«انظروا ما أمرتكم به فاتبعوه، امضوا على اسم اللَّه فلكم النصر ما صبرتم».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 316

ثم تولى صلى الله عليه و آله بنفسه قيادة المقاتلين وكان يستعرض جيشه طوال الطريق، ويرتب صفوفهم.

يقول المؤرخ المعروف الحلبي في سيرته: وسار إلى أن وصل «رأس الثنية» وعندها وجد كتيبة كبيرة فقال صلى الله عليه و آله: «ما هذا؟» قالوا: هؤلاء خلفاء عبد اللَّه بن أبي اليهودي فقال صلى الله عليه و آله:

«أسلموا؟» فقيل: لا. فقال صلى الله عليه و آله: «إنّا لا ننتصر بأهل الكفر على أهل الشرك». فردهم، ورجع عبد اللَّه بن ابي اليهودي ومن معه من أهل النفاق وهم ثلاثمائة رجل.

والنبي صلى الله عليه و آله بعد أن أجرى التصفية اللازمة في صفوف جيشه واستغنى عن بعض أهل الريب والشك والنفاق استقر عند الشعب من «احد» في عدوة الوادي إلى الجبل وجعل «احداً» خلف ظهره واستقبل المدينة.

وبعد أن صلّى بالمسلمين الصبح

صف صفوفهم وتعبأ للقتال.

فأمّر على الرماة «عبد اللَّه بن جبير» والرماة خمسون رجلًا جعلهم صلى الله عليه و آله على الجبل خلف المسلمين وأوعز إليهم قائلًا:

«إن رأيتمونا قد هزمناهم حتى أدخلناهم مكة فلا تبرحوا من هذا المكان، وإن رأيتموهم قد هزمونا حتى أدخلونا المدينة فلا تبرحوا وألزموا مراكزكم».

ومن جانب آخر، وضع أبو سفيان «خالد بن الوليد» في مأتي فارس كميناً يتحينون الفرصة للتسلل من ذلك الشعب ومباغتة المسلمين من ورائهم وقالوا: «إذا رأيتمونا قد اختلطنا فاخرجوا عليهم من هذا الشعب حتى تكونوا وراءهم».

ثم اصطف الجيشان للحرب، ها هي تكبيرات المسلمين ونداءات «اللَّه أكبر، اللَّه أكبر» تدوي في جنبات ذلك المكان، وتملأ شعاب «احد» وسهولها، بينما تحرض هند والنسوة اللاتي معها من نساء قريش وبناتها الرجال ويضربن بالدفوف ويقرأن الأشعار المثيرة.

وبدأ القتال وحمل المسلمون على المشركين حملة شديدة هزمتهم شر هزيمة، وألجأتهم إلى الفرار وراح المسلمون يتعقبونهم ويلاحقون فلولهم.

هذه الهزيمة النكراء التي لحقت بالمشركين دفعت ببعض المسلمين الجديدي العهد بالإسلام إلى التفكر في جمع الغنائم والانصراف عن الحرب، بظن أنّ المشركين هزموا هزيمة كاملة، حتى أنّ بعض الرماة تركوا مواقعهم في الجبل متجاهلين تذكير قائدهم «عبداللَّه بن

مختصر الامثل، ج 1، ص: 317

جبير» إيّاهم بما أوصاهم به النبي صلى الله عليه و آله ولم يبق معه إلّاقليل ظلوا يحافظون على تلك الثغرة الخطرة في الجبل محافظة على المسلمين.

فتنبه «خالد بن الوليد» إلى قلة الرماة في ذلك المكان، فحملوا على الرماة وقتلوهم بأجمعهم، ثم هجموا على المسلمين من خلفهم.

وفجأة وجد المسلمون أنفسهم وقد أحاط بهم العدو بسيوفهم. في هذه الكرة «حمزة» سيد الشهداء وطائفة من أصحاب النبي الشجعان، وفر بعضهم خوفاً، ولم يبق حول النبي سوى نفر قليل

جداً يدافعون عنه ويردون عنه عادية الأعداء، وكان أكثرهم دفاعاً عن النبي صلى الله عليه و آله ورداً لهجمات العدو، وفداء بنفسه هو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام الذي كان يذب عن النبي الطاهر ببسالة منقطعة النظير، حتى أنّه تكسر سيفه فأعطاه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله سيفه المسمى بذي الفقار، ثم تترس النبي بمكان، وبقي علي عليه السلام يدفع عنه فلم يزل عليّ عليه السلام يقاتلهم حتى أصابه في رأسه ووجهه، ويديه وبطنه ورجليه سبعون جراحة. فقال جبرائيل: «إنّ هذه لهي المواساة يا محمّد». فقال محمّد: «إنّه منّي وأنا منه». فقال جبرائيل: «وأنا منكما».

قال الإمام الصادق عليه السلام: «نظر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى جبرائيل بين السماء والأرض على كرسي من ذهب، وهو يقول: لا سيف إلّا ذوالفقار ولا فتى إلّاعليّ».

وفي هذه اللحظة صاح صائح: قتل محمّد.

يذهب بعض المؤرخين إلى أنّ «ابن قمئة» الذي قتل الجندي الإسلامي البطل «مصعب بن عمير» وهو يظن أنّه النبي، هو الذي صاح «واللات والعزى: لقد قتل محمّد».

وهذه الشائعة كانت في صالح الإسلام والمسلمين لأنّها جعلت العدو يترك ساحة القتال ويتجه إلى مكة بظنّه أنّ النبي قد قتل وانتهى الأمر، ولولا ذلك لكان جيش قريش الفاتح الغالب لا يترك المسلمين حتى يقتلوا رسول اللَّه لأنّهم لم يجيئوا إلى «احد» إلّالهذه الغاية.

إلّا أنّ شائعة مقتل النبي أوجدت زلزالًا كبيراً في نفوس بعض المسلمين، ولذلك فر هؤلاء من ساحة المعركة.

وأمّا من بقي من المسلمين في الساحة فقد عمدوا- بهدف الحفاظ على البقية من التفرق وإزالة الخوف والرعب عنهم- إلى أخذ النبي صلى الله عليه و آله إلى الشعب من «احد» ليطلع المسلمون على وجوده

الشريف ويطمئنّوا إلى حياته، وهكذا كان، فإنّهم لما عرفوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عاد الفارون وآب المنهزمون واجتمعوا حول الرسول ولامهم النبي صلى الله عليه و آله على فرارهم في تلك

مختصر الامثل، ج 1، ص: 318

الساعة الخطيرة، فقالوا: يا رسول اللَّه أتانا الخبر بأنّك قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين. وهكذا لحقت بالمسلمين- في معركة أحد- خسائر كبيرة في الأموال والنفوس، فقد قتل منهم في هذه الموقعة اثنان وسبعون من المسلمين في ميدان القتال، كما جرح جماعة كبيرة، ولكنهم أخذوا من هذه الهزيمة والنكسة درساً كبيراً ضمن انتصاراتهم في المعارك القادمة.

وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) فقد بدأت هذه الآيات بتذكير المسلمين بما تحقق لهم من نصر ساحق بتأييد اللَّه لهم في «بدر» «1» إذ قال سبحانه: «وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ».

وقد كان الهدف من هذا التذكير هو شد عزائم المسلمين وزرع الثقة في نفوسهم والإطمئنان إلى قدراتهم، والأمل بالمستقبل، فقد نصرهم اللَّه وهم على درجة كبيرة من الضعف، وقلة العدد وضآلة العدة (حيث كان عددهم 313 مع إمكانيات بسيطة قليلة، وكان عدد المشركين يفوق ألف مقاتل مع إمكانيات كبيرة).

فإذا كان الأمر كذلك فليتقوا اللَّه وليجتنبوا مخالفة أوامر النبي صلى الله

عليه و آله ليكونوا بذلك قد أدوا شكر المواهب الإلهية: «فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

ثم تتعرض الآية اللاحقة لذكر بعض التفاصيل حول ما جرى في بدر، إذ قالت: «إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلثَةِ ءَالفٍ مِّنَ الْمَلِكَةِ مُنْزَلِينَ». أي: اذكروا واذكر أيّها النبي يوم كنت تقول للمسلمين الضعفاء آنذاك اخرجوا وسيمدكم اللَّه بالملائكة ألا

______________________________

(1) «بدر»: سميت بدر لأنّ الماء كان لرجل من جهينة اسمه بدر (مجمع البحرين).

وبدر من حيث اللغة يعني الممتلى الكامل. ولهذا سمي القمر إذا امتلأ: بدراً.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 319

يكفيكم ذلك لتحقيق النصر الساحق على جحافل المشركين المدججين بالسلاح؟

نعم، أيّها المسلمون لقد تحقق لكم ذلك في بدر نتيجة صبركم واستقامتكم، واليوم يتحقق لكم ذلك أيضاً إذا أطعتم أوامر النبي، وسرتم وفق تعليماته وصبرتم: «بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ ءَالفٍ مِّنَ الْمَلِكَةِ مُسَوّمِينَ» «1».

على أنّ نزول الملائكة هذا لن يكون هو العامل الأساسي لتحقيق هذا الإنتصار لكم بل النصر من عند اللَّه، وليس نزول الملائكة إلّالتطمئن قلوبكم «وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» فهو العالم بسبل النصر ومفاتيح الظفر، وهو القادر على تحقيقه.

ثم إنّه سبحانه عقب هذه الآيات بقوله: «لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ».

لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وقع بين المفسرين في تفسير هذه الآية كلام كثير، إلّاأنّ ما هو مسلّم تقريباً هو أنّ الآية الحاضرة نزلت بعد معركة احد وهي ترتبط بأحداث تلك المعركة، والآيات السابقة تؤيد هذه الحقيقة أيضاً.

يكون معنى الآية كالتالي: ليس لك حول مصيرهم شي ء، فإنّهم قد استحقوا

العذاب بما فعلوه، بل ذلك إلى اللَّه، يعفو عنهم إن شاء أو يأخذهم بظلمهم.

ولقد نقلت في تفسير الدر المنثور: إنّ هذه الآية أنزلت على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوم أحد وقد جرح في وجهه وأصيب بعض رباعيته وفوق حاجبه فقال- وسالم مولى أبي حذيفة يغسل الدم عن وجهه-: «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيّهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربّهم». فأنزل اللَّه الآية وأخبره تعالى فيها أنّه ليس إليه إلّاما امر به من تبليغ الرسالة ودعائهم إلى الهدى، فهو ليس مسؤولًا عن هدايتهم إن لم يهتدوا ولم يستجيبوا لندائه.

وَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)

______________________________

(1) «الفور»: السرعة التي تقلب المعادلات كما يفور القدر وتتقلب محتوياتها بسرعة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 320

مختصر الامثل ج 1 349

هذه الآية تأكيد لمفاد الآية السابقة، فيكون المعنى هو: أنّ العفو أو المجازاة ليس بيد النبي، بل هو للَّه الذي بيده كل ما في السماوات وكل ما في الأرض، فهو الحاكم المطلق لأنّه هو الخالق، فله الملك وله التدبير، وعلى هذا الأساس فإنّ له أن يغفر لمن يشاء من المذنبين، أو يعذّب، حسب ما تقتضيه الحكمة، لأنّ مشيئته تطابق الحكمة. ثم إنّه سبحانه يختم الآية بقوله: «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ». تنبيهاً إلى أنّه وإن كان شديد العذاب، إلّاأنّ رحمته سبقت غضبه، فهو غفور رحيم قبل أن يكون شديد العقاب والعذاب.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَ اتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) هذه الآيات الثلاث، والآيات الست اللاحقة بها تحتوي

على سلسلة من البرامج الاقتصادية، والاجتماعية، والتربوية، ثم يستأنف القرآن بعد هذه الآيات التسع، حديثه حول معركة «احد» ووقائعها.

إنّنا نعلم أيضاً أنّ المجتمع العربي في العهد الجاهلي كان مصاباً- بشدة- بداء الربا، حيث كانت الساحة العربية (وخاصة مكة) مسرحاً للمرابين، وقد كان هذا الأمر مبعثاً للكثير من المآسي الاجتماعية، ولهذا استخدم القرآن في تحريم هذه الفعلة النكراء اسلوب المراحل، فحرم الربا في مراحل أربع:

1- يكتفي في الآية (39) من سورة الروم بتوجيه نصح أخلاقي حول الربا.

2- يشير في الآية (161) من سورة النساء- ضمن إنتقاد عادات اليهود وتقاليدهم الخاطئة الفاسدة- إلى الربا كعادة سيئة من تلك العادات.

3- يذكر في الآية الحاضرة حكم التحريم بصراحة، ولكنّه يشير إلى نوع واحد من أنواع الربا، وهو النوع الشديد والفاحش منه فقط.

4- وأخيراً أعلن في الآيات (275- 279) من سورة البقرة عن المنع الشامل والشديد عن جميع أنواع الربا، واعتباره بمنزلة إعلان الحرب على اللَّه سبحانه.

قلنا إنّ الآية الحاضرة إشارة إلى الربا الفاحش معبرة عن ذلك بقوله: «أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 321

والمراد من «الربا الفاحش» هو أن تكون الزيادة الربوية تصاعدية، بمعنى أن تُضم الزيادة المفروضة أوّلًا على رأس المال ثم يصبح المجموع مورداً للربا، بمعنى أنّ الزيادة ثانياً تقاس بمجموع المبلغ، ثم تضم الزيادة المفروضة ثانياً إلى ذلك المبلغ، وتفرض زيادة ثالثة بالنسبة إلى المجموع. ولهذا قال القرآن الكريم: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَأْكُلُوا الرّبَوا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً».

ولا شكّ أنّ مثل هذا الفعل يدر على أصحاب الأموال مبالغ ضخمة دون عناء، فلا يمكن الإرتداع عنه الإّ بتقوى اللَّه، ولهذا عقب سبحانه نهيه عن مثل هذا الربا الظالم بقوله:

«وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».

ولكن هل يكفي الأمر بتقوى اللَّه والترغيب في

الفلاح في صورة ترك الربا؟ أم لابدّ من التلويح بالعذاب الأخروي للمرابين؟ ولهذا قال سبحانه في الآية الثانية: «وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ». فهذه الآية تأكيد لحكم التقوى الذي مرّ في الآية السابقة.

ثم إنّه سبحانه يمزج ذلك التهديد بشي ء من التشجيع والترغيب للمطيعين والممتثلين لأوامره تعالى إذ يقول: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ».

وَ سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَ الْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَ الَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) السباق في مضمار السعادة: بعد أن هددت الآيات السابقة العصاة وتوعدتهم بالعذاب والجحيم، وبشّرت الأبرار المطيعين بالرحمة الإلهيّة وشوقتهم إليها جاءت الآية الاولى من هذه الآيات تشبّه سعي المطيعين واجتهادهم بالسباق، والمسابقة المعنوية التي تهدف الوصول إلى الرحمة الإلهية والنعم والعطايا الربانية الخالدة: «وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن

مختصر الامثل، ج 1، ص: 322

رَّبّكُمْ». فلأنّ الوصول إلى أي مقام معنوي لا يتأتى بدون المغفرة والتطهر من أدران الذنوب، فلابد إذن من تطهير النفس من الذنوب أوّلًا، ثم الدخول في رحاب القرب الإلهي، ونيل الزلفى لديه. هذا هو الهدف الأوّل.

وأمّا الهدف الثاني لهذا السباق المعنوي العظيم فهو «الجنة» التي يصرح القرآن الكريم أنّ سعتها سعة السماوات والأرض: «وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّموَاتُ وَالْأَرْضُ».

ثم إنّه سبحانه يختم الآية الحاضرة بقوله: «أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ». فهذه الجنة العظيمة الموصوفة بتلك السعة قد أعدّت

للذين يتقون اللَّه ويخشونه ويجتنبون معاصيه ويمتثلون أوامره.

وينبغي أن نعلم أنّ المراد بالعرض هنا ليس هو الطول والعرض الهندسي بل المراد- كما عليه أهل اللغة- هو السعة.

لما صرح في الآية السابقة بأنّ الجنة اعدت للمتقين، تعرضت الآية التالية لذكر مواصفات المتقين فذكرت خمساً من صفاتهم الإنسانية السامية هي:

1- إنّهم ينفقون أموالهم في جميع الأحوال، في الشدة والرخاء، في السراء والضراء «الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ».

إنّ أوّل صفة ذكرت للمتقين هنا هو «الإنفاق» لأنّ هذه الآيات تذكر ما يقابل الصفات التي ذكرت للمرابين والمستغلّين في الآيات السابقة. هذا مضافاً إلى أنّ غض النظر عن المال والثروة في السراء والضراء من أبرز علائم التقوى.

2- إنّهم قادرون على السيطرة على غضبهم: «وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ».

«الكظم»: تعني في اللغة شدّ رأس القربة عند ملئها، فيقول كظمت القربة إذا ملأتها ماء ثم شددت رأسها، وقد استعملت كناية عمن يمتلى ء غضباً ولكنّه لا ينتقم. و «الغيظ»: بمعنى شدة الغضب والتوتر والهيجان الروحي الشديد الحاصل للإنسان عندما يرى ما يكره.

في الكافي عن الإمام الصّادق عليه السلام قال: «من كظم غيظاً ولو شاء أن يُمضيه أمضاه، أملأ اللَّه قلبه يوم القيامة رضاه».

3- إنّهم يصفحون عمن ظلمهم «وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ».

إنّ كظم الغيظ أمر حسن جدّاً، إلّاأنّه غير كاف لوحده، إذ من الممكن أن لا يقلع ذلك جذور العداء من قلب المرء، فلابد للتخلص من هذه الجذور والرواسب أن يقرن «كظم

مختصر الامثل، ج 1، ص: 323

الغيظ» بخطوة اخرى وهي «العفو والصفح» ولهذا أردفت صفة «الكظم للغيظ» التي هي بدورها من أنبل الصفات بمسألة العفو.

4- إنّهم محسنون: «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ».

وهنا إشارة إلى مرحلة أعلى من «العفو والصفح» وبهذا يرتقي المتقون من درجة إلى أعلى في سلّم التكامل المعنوي.

وهذه

السلسلة التكاملية هي أن لا يكتفي الإنسان تجاه الإساءة إليه بكظم الغيظ ولا يكتفى أيضاً بأن يعفو ويصفح عن المسى ء ليغسل بذلك آثار العداء عن قلبه، بل يعمد إلى القضاء على جذور العداء في فؤاد خصمه المسي ء إليه أيضاً، وذلك بالإحسان إليه، وبذلك يكسب وده وحبّه، ويمنع من تكرار الإساءة إليه في مستقبل الزمان.

5- إنّهم لا يصرّون على ذنب: «وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ».

«الفاحشة»: مشتقة أصلًا من الفحش، وهو كل ما اشتد قبحه من الذنوب، ولا يختص بالزنا خاصة، لأنّ الفحش يعني «تجاوز الحد» الذي يشمل كل ذنب.

يستفاد من هذه الآية أنّ الإنسان لا يذنب مادام يتذكر اللَّه، فهو إنّما يذنب إذا نسي اللَّه تماماً واعترته الغفلة، ولكن لا يلبث هذا النسيان وهذه الغفلة- لدى المتقين- حتى تزول عنهم سريعاً ويذكرون اللَّه، فيتداركون ما فات منهم، ويصلحون ما أفسدوه.

إنّ المتقين يحسّون إحساساً عميقاً بأنّه لا ملجأ لهم إلّااللَّه، فلابد أن يطلبوا منه المغفرة لذنوبهم دون سواه «وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ».

ثم إنّه سبحانه تأكيداً لهذه الصفة قال: «وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ».

والآن جاء الدور ليذكر القرآن الكريم ما ينتظر هذا الفريق من الثواب والجزاء اللائق.

وكان ذلك إذ قال سبحانه: «أُولئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا».

لقد ذكر في هذه الآية جزاء المتقين الذين تعرضت الآيات السابقة لذكر أوصافهم وأبرز صفاتهم، وهذا الجزاء عبارة عن: مغفرة ربانية، وجنات خالدات تجري من تحتها الأنهار بدون إنقطاع أبداً.

ثم إنّه سبحانه يعقب ما قال عن الجزاء بقوله: «وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ». أي: ما أروع هذا الجزاء الذي يُعطى للعاملين لا للكسالى، الذين يتهرّبون من مسؤولياتهم، ويتملّصون من

التزاماتهم.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 324

قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَ هُدًى وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) النظر في تاريخ الماضين وآثارهم: يعتبر القرآن الكريم ربط الماضي بالحاضر والحاضر بالماضي أمراً ضرورياً لفهم الحقائق، لأنّ الإرتباط بين هذين الزمانين (الماضي والحاضر) يكشف عن مسؤولية الأجيال القادمة، ويوقفها على واجبها، ولهذا قال سبحانه:

«قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ».

وهذا يعني أنّ للَّه في الامم سنناً لا تختص بهم، بل هي قوانين وسنن عامة في الحياة تجري على الحاضرين كما جرت على الماضين سواء بسواء، وهي سنن للتقدم والبقاء وسنن للتدهور والإندحار، التقدم للمؤمنين المجاهدين المتحدين الواعين، والتدهور والإندحار للُامم المتفرقة المتشتتة الكافرة الغارقة في الذنوب والآثام.

ولهذا نجد القرآن الكريم يدعو المسلمين إلى السير في الأرض والنظر بإمعان وتدبر في آثار الامم والشعوب التي سادت ثم بادت إذ يقول: «فَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ».

ولما كان التعليم الإلهي العظيم- رغم كونه موجهاً إلى عامة المخاطبين- لا ينتفع به ولا يستلهمه إلّاالمتقون قال سبحانه تعقيباً على الآية السابقة: «هذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ».

أجل، إنّ المتقين الهادفين هم الذين يتعظون بهذه الامور لأنّهم يبحثون عن كل ما يعمق روح التقوى في نفوسهم، ويزيد بصيرتهم بالحق.

وَ لَا تَهِنُوا وَ لَا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَ اللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَ لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ

الصَّابِرِينَ (142) وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 325

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: نزلت الآية تسلية للمؤمنين، لما نالهم يوم احد من القتل والجراح.

وفي تفسير القرطبي عن ابن عباس قال: انهزم أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوم احد فبيناهم كذلك إذ أقبل خالد بن وليد بخيل من المشركين، يريد أن يعلوا عليهم الجبل؛ فقال النبي صلى الله عليه و آله: «اللهم لا يَعلُنّ علينا اللهم لا قوّة لنا إلّابك اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر». فأنزل اللَّه هذه الآيات.

التّفسير

دراسة نتائج غزوة أحد: في الآية الاولى من هذه الآيات حذر القرآن المسلمين من أن يعتريهم اليأس والفتور بسبب النكسة في معركة واحدة، وأن يتملكهم الحزن وييأسوا من النصر النهائي، قال سبحانه: «وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ».

والوهن المذكور في الآية هو كل ضعف يصيب الجسم أو الروح أو يصيب الإرادة والإيمان. تعني أنّ هزيمتكم إنّما كانت بسبب فقدانكم لروح الإيمان وآثارها، فلو أنّكم لم تتجاهلوا أوامر اللَّه سبحانه لم يصبكم ما أصابكم، ولم يلحقكم ما لحقكم، ولكن لا تحزنوا مع ذلك، فإنّكم إذا ثبتم على طريق الإيمان كان النصر النهائي حليفكم، والهزيمة في معركة واحدة لا تعني الهزيمة النهائية.

ثم إنّه سبحانه يقول: «إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ». وبذلك يعطي للمسلمين درساً آخر للوصول إلى النصر النهائي.

و «القرح» جرح يصيب البدن بسبب اصطدامه بشي ء خارجي.

«وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ» «1».

ففي هذا القسم يشير سبحانه إلى واحدة من السنن الإلهية وهي أنّه قد تحدث في حياة

البشر حوادث حلوة أو مرّة ولكنها غير باقية ولا ثابتة مطلقاً، فالانتصارات والهزائم، والغالبية والمغلوبية، والقوة والضعف كل ذلك يتغير ويتحول، وكل ذلك يزول ويتبدل، فلا ثبات ولا دوام لشي ء منها.

______________________________

(1) «الأيام»: جمع يوم يعبر به عن وقت طلوع شمس إلى غروبها، وقد يطلق على فترات الإنتصارات الكبرى فى حياة الشعوب، و «نداولها»: من المداولة بمعنى إذا صار الشى ء من بعض القوم إلى البعض الآخر.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 326

ثم إنّه سبحانه يشير إلى نتيجة هذه الحوادث المؤلمة فيقول: «وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا».

أي أنّ ذلك إنّما هو لأجل أن يتميز المؤمنون حقاً عن أدعياء الإيمان.

ثم إنّه في قوله: «وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ» يشير إلى إحدى نتائج هذه الهزيمة المؤلمة وهي تقديم المسلمين بعض الشهداء في هذه المعركة، فيجب أن تعلموا أنّ هذا الدين لم يصل إليكم بالهيّن، فلا يفلت منكم كذلك في المستقبل.

ثم إنّه تعالى يختم هذا الإستعراض للسنن والدروس والنتائج بقوله: «وَاللَّهُ لَايُحِبُّ الظَّالِمِينَ». فهو لا ينصرهم ولا يدافع عنهم، ولا يمكّنهم من المؤمنين الصالحين العاملين بتعاليم السماء الآخذين بسنن اللَّه في الكون والحياة.

أجل، إنّ لمعركة «احد» وما لحق بالمسلمين فيها من هزيمة نتائج وآثاراً، ومن نتائجها وآثارها الطبيعية أنّها كشفت عن نقاط الضعف في الجماعة والثغرات الموجودة في كيانها، وهي وسيلة فعالة ومفيدة لغسل تلك العيوب والتخلّص من تلك النواقص والثغرات، ولهذا قال سبحانه: «وَلِيُمَحّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا» «1». أي أنّ اللَّه أراد- في هذه الواقعة- أن يتخلص المؤمنون من العيوب ويريهم ما هم مبتلون به من نقاط الضعف.

وأمّا نتيجة هذه التربية والصياغة التي يتلقاها المؤمنون في خضم المحن والمصائب وآتون الحوادث المرّة فهو حصول القدرة الكافية لدحر الشرك والكفر دحراً ساحقاً وكاملًا، وإلى هذا

أشار بقوله: «وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ» «2».

ثم إنّه يفيدنا القرآن درساً من واقعة «احد» في تصحيح خطأ فكري وقع فيه المسلمون فيقول: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ».

أي هل تظنون أنّكم تنالون أوج السعادة المعنوية بمجرد اختياركم لإسم المسلم، أو بمجرد أنّكم حملتم العقيدة الإسلامية في الفكر دون أن تطبقوا ما يتبعها من التعاليم؟

لو كان الأمر كذلك لكان هيناً جدّاً، ولكن ليس كذلك حتماً، فإنّه ما لم تطبق التعاليم التي تتبع تلك المعتقدات، في واقع الحياة العملية لم ينل أحد من تلك السعادة العظمى شيئاً.

وهنا بالذات يجب أن تتميز الصفوف، ويعرف المجاهدون الصابرون عن غيرهم.

ثم إنّه كان هناك جماعة من المسلمين- بعد معركة «بدر» واستشهاد فريق من أبطال

______________________________

(1) «المحيص» والمحص أصله: تخليص الشي ء ممّا فيه من عيب.

(2) «المحق»: النقصان ومنه المحاق لآخر الشهر إذا انمحق الهلال وامتحق وقل ضياؤه.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 327

الإسلام- يتمنون الموت في أحاديثهم ومجالسهم ويقولون: ليتنا نلنا الشهادة في «بدر»، ومن الطبيعي أن يكون بعض تلك الجماعة صادقين في تمنيهم والبعض الآخرون كاذبين يتظاهرون بهذه الأمنية، أو يجهلون حقيقة أنفسهم، ولكن لم يلبث هذا الوضع طويلًا، فسرعان ما وقعت معركة احد الرهيبة المؤلمة، فقاتل المجاهدون الصادقون بشهامة وبسالة وصدق وكرعوا كؤوس الشهادة، وحققوا أمانيهم، ولكن الذين كانوا يتمنونها كذباً وتظاهراً ما إن رأوا علائم الهزيمة التي لحقت بالجيش الإسلامي في تلك الواقعة حتى فروا خوفاً وجبناً، وضناً بنفوسهم وأرواحهم، تاركين الساحة للعدو الغاشم، فنزلت هذه الآية توبّخهم وتعاتبهم إذ تقول: «وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ». فلماذا فررتم وهربتم من الشي ء الذي كنتم تتمنونه طويلًا وكيف يفر المرء من

محبوبه، وهو يراه وينظر إليه؟

وَ مَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَ مَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلًا وَ مَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَ مَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَ سَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قال أهل التفسير: سبب نزول هذه الآية أنّه لما ارجف بأنّ النبي صلى الله عليه و آله قد قتل يوم احد واشيع ذلك، قال اناس: لو كان نبياً لما قتل. وقال آخرون: نقاتل على ما قاتل عليه، حتى نلحق به وارتد بعضهم وانهزم بعضهم. وكان سبب انهزامهم وتضعضعهم، إخلال الرماة لمكانهم من الشعب. وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله نهاهم عن الإخلال به وأمّر عبد اللَّه بن جبير وهو أخو خوّات بن جبير، على الرماة وهم خمسون رجلًا وقال: «لا تبرحوا مكانكم، فإنّا لا نزال غالبين ما ثبتم بمكانكم».

التّفسير

لا لعبادة الشخصية وتقديس الفرد: تعلّم الآية الاولى من هاتين الآيتين حقيقة اخرى للمسلمين استلهاماً من أحداث معركة «احد» إذ تقول: «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن

مختصر الامثل، ج 1، ص: 328

قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِين مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ». وهذه الحقيقة هي أنّ الإسلام ليس دين عبادة الشخصية حتى إذا قتل النبي صلى الله عليه و آله ونال الشهادة في هذه المعركة. إنّ عبادة الشخصية وتقديس الفرد من أخطر ما يصيب أية حركة جهادية ويهددها بالسقوط والانتهاء، فإنّ إرتباط الحركة أو الدين بشخص معين حتى لو كان ذلك هو النبي الخاتم صلى الله

عليه و آله معناه توقف كل الفعاليات وكل تقدم بفقدانه وغيابه عن الساحة، وهذا النوع من الإرتباط هو أحد علائم النقص في الرشد الاجتماعي.

ثم إنّه سبحانه يقول: «وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرُّ اللَّهَ شَيًا». يعني أنّ العودة إلى الكفر والوثنية تضرّكم أنتم دون اللَّه سبحانه، لأنّ أمثال هذا التراجع لا يعني سوى توقفكم في طريق الخير والسعي نحو السعادة الكاملة، بل فقدان كل ما حصلتموه من العزة والكرامة والمجد بسرعة.

ثم إنّه لما كان هناك- في معركة احد- أقلية استمرت على جهادها رغم الصعوبات، وإنتشار الخبر المفجع عن مقتل الرسول صلى الله عليه و آله كان من الطبيعي أن ينال صمودهم هذا وثباتهم التقدير اللائق، ولهذا قال سبحانه: «وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ». وبذلك مدح القرآن الكريم استقامتهم وصمودهم، ووصفهم بالشاكرين لأنّهم أحسنوا الاستفادة والإنتفاع بالنعم في سبيل اللَّه، وهذا أفضل مصاديق الشكر.

ثم إنّ جماعة كثيرة من المسلمين ارعبوا وزلزلوا لشائعة مقتل النبي في احد- كما أسلفنا- إلى درجة أنّهم تركوا ساحة المعركة، وفروا بأنفسهم من الموت وحتى أنّ بعضهم فكر في الردة عن الإسلام، فكان قوله سبحانه: «وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذِنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا». وهو يكرر توبيخهم، وتنبيههم إلى أنّ الموت بيد اللَّه، والفرار لا ينفع في الخلاص من الأجل الإلهي.

ومن ناحية اخرى أنّ الفرار من المعركة لا يدفع الأجل كما أنّ مواصلة القتال والبقاء في المعركة لا يقرب هو الآخر أجلًا.

وبعد عرض هذه الحقائق يعقب سبحانه على ما قال بقوله: «وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْأَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا». أي إنّ ما عمله الإنسان لا يضيع أبداً، فإن كان هدفه دنيوياً مادياً كما كان عليه بعض المقاتلين في «احد»

فإنّه سيحصل على ما يسعى إليه ويناله. وأمّا إذا كان هدفه أسمى من ذلك، وصب جهوده في سبيل الحصول على الحياة

مختصر الامثل، ج 1، ص: 329

الخالدة والفضائل الإنسانية بلغ إلى هدفه حتماً وأوتي ثواب الآخرة الذي هو أعظم من كل ثواب وأسمى من كل نتيجة، فلماذا إذن لا يصرف الإنسان جهوده، ويوظف ما أوتي من طاقات معنوية ومادية في الطريق الثاني وهو الطريق الخالد السامي؟

وتأكيداً لهذه الحقيقة قال سبحانه مرة اخرى: «وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ».

وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ مَا ضَعُفُوا وَ مَا اسْتَكَانُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَ مَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَ إِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَ ثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَ انْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَ حُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) المجاهدون السابقون: بعد استعراض حوادث معركة احد في الآيات السابقة، جاءت الآيات الحاضرة لتحث المسلمين على التضحية والثبات وتشجعهم وتثبّتهم بذكر تضحيات من سبقوهم من أصحاب الرسل الماضين وأتباعهم المؤمنين الصادقين الأبطال، وتوبّخ ضمناً اولئك الذين فرّوا في «احد» وحدّثوا أنفسهم بما حدّثوا إذ يقول سبحانه في الآية الاولى من هذه الآيات: «وَكَأَيّن مّن نَّبِىّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ» «1». فأنصار الأنبياء إذا واجهوا المصاعب والجراحات والشدائد في قتالهم الأعداء لم يشعروا بالضعف والهوان أبداً، ولم يخضعوا للعدو أو يستسلموا له، ومن البديهي أنّ اللَّه تعالى يحب مثل هؤلاء الأشخاص الذين يثبتون ويصبرون في القتال: «وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ».

فهؤلاء عندما كانوا يواجهون المشاكل بسبب بعض الأخطاء أو العثرات وعدم الإنضباط لم

يفكروا في الإستسلام للأمر الواقع، أو يحدثوا أنفسهم بالفرار أو الإرتداد عن الدين والعقيدة بل كانوا يتضرعون إلى اللَّه يطلبون منه الصبر والثبات، والعون والمدد ويقولون: «رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ».

______________________________

(1) «ربّيّون»: جمع «ربى» وزان «على» يطلق على من اشتد إرتباطه باللَّه عزّ وجلّ، ويكون مؤمناً عالماً، صامداًمخلصاً.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 330

إنّهم بمثل هذا التفكر الصحيح والعمل الصالح كانوا يحصلون على ثوابهم دون تأخير، وهو ثواب مزدوج، أمّا في الدنيا فالنصر والفتح، وأمّا في الآخرة فما أعد اللَّه للمؤمنين المجاهدين الصادقين: «فَاتَيهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْأَخِرَةِ».

ثم إنّه سبحانه يعد هؤلاء من المحسنين إذ يقول: «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَ هُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ وَ بِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) إنّ أعداء الإسلام أخذوا- بعد معركة احد- يسعون في إلقاء الفرقة في صفوف المسلمين ببث سلسلة من الدعايات المسمومة، والمغلفة أحياناً بلباس النصيحة، والتحرّق على ما آل إليه المسلمون، وكانوا بالاستفادة من الأوضاع النفسية المتردية التي كان يمر بها جماعة من المسلمين، يحاولون زرع بذور النفور من الإسلام بينهم.

الآية الاولى من هذه الآيات تقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ». فهي تحذر المسلمين من إطاعة الكفار وتقول: إنّ إطاعة الكفار تعني العودة إلى الجاهلية بعد تلك الرحلة العظيمة في طريق التكامل المعنوي والمادي في ظل التعاليم الإسلامية.

ثم إنّه سبحانه يؤكد بأنّ لهم خير ناصر وولي وهو اللَّه: «بَلِ

اللَّهُ مَوْلكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ».

إنّه الناصر الذي لا يغلب، بل لا تساوي قدرته أية قدرة، في حين ينهزم غيره من الموالي، ويندحر غيره من الأسياد.

ثم إنّه سبحانه يشير إلى نموذج من نماذج التأييد الإلهي للمسلمين في أحرج الظروف، وأحلك المراحل إذ يقول: «سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ». أي إنّنا كما ألقينا الرعب في قلوب الكفار في أعقاب معركة «احد» ورأيتم نموذجاً منه بأم أعينكم، سنلقي مثله في قلوب الذين كفروا فيما بعد، ولهذا ينبغي أن تطمئنوا إلى المستقبل، ولا تأخذكم في اللَّه لومة

مختصر الامثل، ج 1، ص: 331

لائم، ولا تهزكم ولا تزعزعكم شماتة شامت ووسوسة موسوس.

والجدير بالذكر أنّ الآية تعلل نشأة هذا الرعب الواقع في قلوب الكفار كالتالي: «بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَانًا».

لقد ظلم هؤلاء الكافرون أنفسهم وظلموا مجتمعاتهم ف: «مَأْوَيهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ» وما أسوأه من مثوى ومآل.

وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَ تَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَ لَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَ لَا مَا أَصَابَكُمْ وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَ طَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ

الْأَمْرِ شَيْ ءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَ لِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَ لِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) الهزيمة بعد الانتصار: قاتل المسلمون في المرحلة الاولى من معركة «احد» بشجاعة خاصة، إلّاأنّ تجاهل فريق من الرماة لأوامر الرسول صلى الله عليه و آله المشددة بالبقاء عند ثغر الجبل والمحافظة عليه سبّب في أن تنقلب الآية.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 332

وعندما عاد المسلمون بعد تحمل خسائر عظيمة إلى المدينة كان يسأل أحدهم رفيقه: ألم يعدنا اللَّه سبحانه بالفتح والنصر، فلماذا هزمنا في هذه المعركة؟

فكانت الآيات الحاضرة جواباً على هذا السؤال، وتوضيحاً للعلل الحقيقية التي سببت تلك الهزيمة، وإليك فيما يلي تفسير جزئيات هذه الآيات وتفاصيلها:

قال سبحانه: «وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ» «1».

يعنى أنّ عليهم أن لا يتوهموا بأنّ الوعد بالتأييد والنصر مطلق لا قيد له ولا شرط، بل كل الوعود الإلهية بالنصر مقيدة باتباع تعاليم اللَّه بحذافيرها، والتمسك بأهدافها.

ثم إنّه سبحانه يقول بعد بيان هذه الحقيقة حول النصر الإلهي: «وَتَنَازَعْتُمْ فِى الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَيكُم مَّا تُحِبُّونَ».

ومن هذه العبارة التي هي إشارة إلى ما طرأ على وضع الرماة في جبل «عينين» يستفاد بوضوح بأنّ الرماة الذين كلفوا بحراسة الثغر قد اختلفوا فيما بينهم في ترك ذلك الثغر ومغادرة ذلك الموقع في الجبل فعصى فريق كبير منهم، (وهذا قد يستفاد من لفظة عصيتم التي تفيد أنّ الأغلبية والأكثرية من الرماة قد عصت وتجاهلت تأكيدات النّبي بالبقاء هناك).

أجل لقد اختلفتم فيما بينكم وتنازعتم في تلك اللحظات الحساسة البالغة الأهمية:

«مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْأَخِرَةَ».

وهنا

تغير مجرى الامور وانعكست القضية فبدّل اللَّه الإنتصار إلى الهزيمة ليمتحنكم وينبهّكم ويربّيكم: «ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ».

ثم إنّ سبحانه غفر لكم كل ما صدر وبدر منكم من عصيان وتجاهل لأوامر الرسول صلى الله عليه و آله وما ترتب على ذلك من التبعات في حين كنتم تستحقون العقاب وما ذلك إلّالأنّ اللَّه لا يضنّ بنعمة على المؤمنين ولا يبخل عليهم بموهبة: «وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ».

ثم إنّه سبحانه يذكّر المسلمين بموقفهم في نهاية معركة «احد» فيقول: «إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِى أُخْرَيكُمْ» «2». أي تذكروا إذ فررتم من المعركة، ورحتم

______________________________

(1) «الحس»: القتل على وجه الاستئصال، وسمي القتل حساً لأنّه يبطل الحس.

(2) «أخريكم»: بمعنى «ورائكم».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 333

تلوذون بالجبل أو تنتشرون في السهل، تاركين رسول اللَّه وحده بين المهاجمين المباغتين من المشركين وهو يدعوكم من ورائكم ويناديكم قائلًا: «إليّ عباد اللَّه- إليّ عباد اللَّه فإنّي رسول اللَّه». وأنتم لا تلتفتون إلى الوراء أبداً، ولا تلبّون نداء النبي صلى الله عليه و آله.

وفي ذلك الوقت أخذت الهموم والأحزان تترى عليكم «فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمّ» لِما أصابكم من النكسة ولفقدان مجموعة كبيرة من خيار فرسانكم وجنودكم ولِما بلغكم من شائعة قتل النبي صلى الله عليه و آله.

ولقد كان هجوم تلك الغموم عليكم من أجل أن لا تحزنوا على ما فاتكم من غنائم الحرب، وما أصابكم من الجراحات في ساحة المعركة في سبيل تحقيق الإنتصار «لِّكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَافَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ».

«وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ». فهو يعرف جيداً من ثبت منكم وأطاع وكان مجاهداً واقعياً ومن هرب وعصى.

إتسمت الليلة التي تلت معركة «احد» بالقلق والاضطراب الشديدين، فقد كان المسلمون يتوقعون أن يعود

جنود قريش الفاتحون المنتصرون إلى المدينة مرّة اخرى لاجتياح البقية الباقية من القوة الإسلامية.

بيد أنّه كان هناك بين المسلمين ثلة من المجاهدين الصادقين الذين ندموا على الفرار من الميدان في «احد» فتابوا إلى اللَّه، واطمأنوا إلى وعود النبي الكريم صلى الله عليه و آله حول المستقبل.

وإلى هذا كله يشير الكتاب العزيز في الآية الحاضرة إذ يقول: «ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ» «1».

ثم إنّ القرآن الكريم يعمد إلى بيان واستعراض طبيعة ما كان يدور بين اولئك المنافقين وضعاف الإيمان من أحاديث وحوار، وما كان يدور في خلدهم من ظنون وأفكار، إذ يقول:

«يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ».

إنّهم كانوا يظنون باللَّه ما كانوا يظنونه به أيام كانوا يعيشون في الجاهلية، وقبل أن تبزغ عليهم شمس الإسلام فقد كانوا يتصورون أنّ اللَّه سيكذبهم وعده ويظنون أنّ وعود

______________________________

(1) «الأمنة»: أي الأمن، والنعاس هو النوم الخفيف.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 334

النبي صلى الله عليه و آله غير محققة ولا صادقة وكان يقول بعضهم للآخر: «هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَىْ ءٍ».

أي هل سيصيبنا النصر ونحن في هذه الحالة من السقوط والهزيمة، والمحنة والبلية؟ إنّهم كانوا يستبعدون أن ينزل عليهم نصر من اللَّه بعد ما لقوا، أو كانوا يرون ذلك محالًا. ولكن القرآن يجيبهم قائلًا: «قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ». أي كيف تستبعدون ذلك أو ترونه محالًا والأمر كله بيد اللَّه، وهو قادر أن ينزل عليكم النصر متى وجدكم أهلًا لذلك.

على أنّهم لم يظهروا كل ما كان يدور في خلدهم من ظنون وأوهام وهواجس خوفاً من أن يُعدوا في صفوف الكفار: «يُخْفُونَ فِى أَنفُسِهِم مَّا لَايُبْدُونَ لَكَ».

وكأنّهم كانوا يتصورون أنّ الهزيمة في «احد»

من العلائم الدالة على بطلان الإسلام، ولذا كانوا يقولون: «لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَىْ ءٌ مَا قُتِلْنَا ههُنَا». أي لو كنّا على حق لكسبنا المعركة، ولم نخسر كل هذه الأرواح والنفوس.

ولكنّ اللَّه تعالى أجابهم وهو يشير في هذه الإجابة إلى مطلبين:

الأوّل: إنّ عليكم أن لا تتوهموا بأنّ الفرار من ساحة المعركة، وتجنب الصعاب يمكنه أن ينقذكم من الموت الذي هو قدر لكل إنسان ولهذا يقول سبحانه: «قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ». فإنّ الذين جاء أجلهم، وحان حين موتهم لابدّ أن يموتوا ولا محالة هم مقتولون حتى لو كانوا في مضاجعهم.

والثاني: إنّ هذه الحوادث لابد أن تقع حتى يبدي كل واحد مكنون صدره، ومكتوم قلبه، فتتشخص الصفوف، وتتميز جواهر الرجال، هذا مضافاً إلى أنّ هذه الحوادث سبب لتربية الأشخاص شيئاً فشيئاً، ولتخليص نياتهم، وتقوية إيمانهم، وتطهير قلوبهم «وَلِيَبْتَلِىَ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ».

ثم في ختام هذه الآية يقول سبحانه: «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بَذَاتِ الصُّدُورِ». ولذلك فهو لا ينظر إلى أعمال الناس بل يمتحن قلوبهم، ليطهرها من كل ما تعلق بالنفوس والأفئدة من شوائب الشرك والنفاق والشك والتردد.

الذنب ينتج ذنباً آخر: هذه الآية ناظرة أيضاً إلى وقائع معركة «احد» وتقرر حقيقة اخرى للمسلمين، وهي أنّ الذنوب والانحرافات التي تصدر من الإنسان بسبب من

مختصر الامثل، ج 1، ص: 335

وساوس الشيطان، تفرز آثاماً وذنوباً اخرى بسبب وجود القابلية الحاصلة في النفس الإنسانية نتيجة الذنوب السابقة، والتي تمهد لذنوب مماثلة وآثام اخرى، وإلّا فإنّ القلوب والنفوس التي خلت وطهرت من آثار الذنوب السالفة لا تؤثر فيها الوساوس الشيطانية، ولا تتأثر بها.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ

إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَ مَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَ اللَّهُ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) استغلال المنافقين: كانت حادثة «احد» فرصة مناسبة للمنافقين بأن يقوموا بمحاولاتهم التشويشية. فهذه الآيات تتوجه بالخطاب أوّلًا إلى المؤمنين بهدف تحطيم جهود المنافقين ومحاولاتهم التخريبية وتحذير المسلمين منهم فتقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِى الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا».

«لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ». أنّكم أيّها المؤمنون إذا وقعتم تحت تأثير هذه الكلمات المضلّة الغاوية، وكررتم نظائرها ستضعف روحيتكم أيضاً، وستمتنعون أيضاً وحينئذ سيتحقق للمنافقين ما يصبون إليه، ولكن لا تفعلوا ذلك، وتقدموا إلى سوح الجهاد ليجعل اللَّه ذلك حسرة في قلوب المنافقين المخذلين، أبداً.

ثم إنّ القرآن الكريم يرّد على خبث المنافقين وتسويلاتهم وتشويشاتهم بثلاث أجوبة منطقية هي:

1- إنّ الموت والحياة بيد اللَّه على كل حال، وأنّ الخروج والحضور في ميدان القتال لا يغير من هذا الواقع شيئاً، وأنّ اللَّه يعلم بأعمال عباده جميعها: «وَاللَّهُ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».

2- ثم إنّكم حتى إذا متم أو قتلتم، وبلغكم الموت المعجل- كما يحسب المنافقون- فإنّكم لم

مختصر الامثل، ج 1، ص: 336

تخسروا شيئاً، لأنّ رحمة اللَّه وغفرانه أعظم وأعلى من كل ما تجمعه أيديكم أو يجمعه المنافقون مع الإستمرار في الحياة من الأموال والثروات «وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ

وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ». 3- وبغضّ النظر عن كل ذلك فإنّ الموت لا يعني الفناء والعدم حتى يخشى منه هذه الخشية ويخاف منه هذا الخوف، ويستوحش منه هذا الإستيحاش، إنّه نقلة من حياة إلى حياة أوسع وأعلى وأجل وأفضل، حياة مزيجة بالخلود موصوفة بالبقاء «وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ».

إنّ الجدير بالملاحظة في هذه الآيات هو جعل الموت في اثناء السفر، في مصاف الشهادة في سبيل اللَّه، لأنّ المراد بالسفر هنا هي تلك الأسفار التي يقوم بها الإنسان في سبيل اللَّه ولأجل اللَّه كالسفر وشد الرحال إلى ميادين القتال أو للعمل التبليغي.

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) الأمر بالعفو العام: هذه الآية ترتبط بواقعة «احد» لأنّه بعد رجوع المسلمين من «احد» أحاط الأشخاص الذين فروا من المعركة برسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأظهروا له الندامة من فعلتهم وموقفهم، وطلبوا منه العفو. فأصدر اللَّه سبحانه إلى نبيّه صلى الله عليه و آله أمره بأن يعفو عنهم، ويتجاوز عن سيئتهم ويستقبل المخطئين التائبين منهم بصدر رحب. إذ قال تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ».

ولقد أشير في هذه الآية إلى واحدة من المزايا الأخلاقية لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله ألا وهي اللين مع الناس والرحمة بهم، وخلوه من الفظاظة والخشونة.

«الفظّ»:- في اللغة- هو الغليظ الجافي

الخشن الكلام و «غليظ القلب» هو قاسي الفؤاد الذي لا تلمس منه رحمة ولا يحس منه لين.

وهاتان الكلمتان وان كانتا بمعنى واحد هو الخشونة، إلّاأنّ الغالب استعمال الاولى في

مختصر الامثل، ج 1، ص: 337

الخشونة الكلامية، واستعمال الثانية في الخشونة العملية والسلوكية، وبهذا يشير سبحانه إلى ما كان يتحلى به الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله من لين ولطف تجاه المذنبين والجاهلين.

ثم إنّه سبحانه يأمر نبيّه بأن يعفو عنهم إذ يقول: «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ».

وهذا الكلام يعني أنّه سبحانه يطلب من نبيّه أن يعفو عنهم فيما بينه وبينهم، وأمّا ما بين اللَّه وبينهم فهو سبحانه يغفر لهم ذلك. وقد فعل الرسول الكريم صلى الله عليه و آله ما أمره به ربّه وعفى عنهم جميعاً.

بعد إصدار الأمر بالعفو العام يأمر اللَّه نبيّه صلى الله عليه و آله بأن يشاور المسلمين في الأمر ويقف على وجهات نظرهم، وذلك إحياءاً لشخصيتهم، ولِبث الروح الجديدة في كيانهم الفكري والروحي اللذين أصابهما الفتور بعد الذي حدث، إذ يقول: «وَشَاوِرْهُمْ فِى الْأَمْرِ».

صحيح أنّ كلمة «الأمر» في قوله تعالى «وَشَاوِرْهُمْ فِى الْأَمْرِ» ذات مفهوم واسع يشمل جميع الامور، ولكن من المسلم أيضاً أنّ النبي صلى الله عليه و آله لم يشاور الناس في الأحكام الإلهيّة مطلقاً، بل كان في هذا المجال يتبع الوحي فقط.

بقدر ما يجب على المستشير أن يتخذ جانب الرفق واللّين في المشورة مع مستشاريه يجب إتخاذ القرار الأخير بصرامة وحسم، وهذا هو ما يعبر عنه بالعزم في قوله سبحانه في هذا السياق إذ يقول: «فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ».

ثم إنّه سبحانه وتعالى يأمر المؤمنين في ختام الآية أن يتوكلوا على اللَّه فحسب لأنّه تعالى يحبّ المتوكلين إذ يقول: «إِنَّ

اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكّلِينَ».

هذا ويستفاد من هذه الآية أنّ التوكل يجب أن يكون بعد التشاور، وبعد الأخذ والاستفادة من جميع الإمكانيات المتاحة للإنسان حتماً.

بعد أن يحث الباري سبحانه وتعالى عباده على أن يتوكلوا عليه، يبين في هذه الآية- التي هي مكملة للآية السابقة- نتيجة التوكل وثمرته وفائدته العظمى فيقول: «إِن يَنْصُرُكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرْكُم مِّن بَعْدِهِ». وهو بهذا يشير إلى أنّ قدرة اللَّه فوق كل القدرات، فإذا أراد بعبد خيراً وأراد نصره وتأييده والدفاع عنه لم يكن في مقدور أية قوة في الأرض- مهما عظمت- أن تتغلب عليه.

والكلام في الآية السابقة موجه إلى شخص النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وأمر له ولكنه في هذه الآية موجه إلى جميع المؤمنين وكأنّها تقول لهم: إنّ عليهم أن يتوكلوا على اللَّه كما يفعل النبي صلى الله عليه و آله

مختصر الامثل، ج 1، ص: 338

ولهذا يختم هذه الآية بقوله: «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ».

وَ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَ هُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) الخيانة ممنوعة مطلقاً: بالنظر إلى الآية السابقة التي نزلت بعد الآيات المتعلقة بوقعة «احد» تعتبر هذه الآية ردّاً على بعض التعللات الواهية التي تمسك بها بعض المقاتلين.

فجاء القرآن يرد على زعمهم وتصورهم هذا فقال: «وَمَا كَانَ لِنَبِىّ أَن يَغُلَّ» «1». أي إنّكم تصورتم وظننتم أنّ النّبي يخونكم، والحال أنّه ليس لنبي أن يغل ويخون أحداً.

إنّ اللَّه سبحانه ينزه في هذه الآية جميع الأنبياء والرسل من الخيانة، ويقول: إنّ هذا الأمر لا يصلح- أساساً- للأنبياء، ولا يتناسب مع مقامهم العظيم.

ثم تقول: «وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا

غَلَّ يَوْمَ الْقِيمَةِ». أي أنّ كل من يخون سيأتي يوم القيامة وهو يحمل على كتفه وثيقة خيانته، أو يصحبه معه إلى المحشر، وهكذا يفتضح أمام الجميع، وتنكشف أوراقه وتعرف خيانته.

«ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَايُظْلَمُونَ». يعني أنّ الناس يجدون عين أعمالهم هناك، ولهذا فهم لا يظلمون لأنّه يصل إلى كل أحد نفس ما كسبه خيراً كان أو شراً.

أَ فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) المتخلفون عن الجهاد: تضمنت الآيات السابقة الحديث عن شتى جوانب معركة «احد» وملابساتها ونتائجها، وقد جاء الآن دور المنافقين وضعاف الإيمان من المسلمين الذين تقاعسوا عن الحضور في «احد» تبعاً للمنافقين، فنزل قوله تعالى: «أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ». ولبى نداء النبي واتبع أمره بالخروج «كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَيهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ

______________________________

(1) «الغلول»: تعني الخيانة، وأصله تدرع الشي ء وتوسطه ومنه الغلل للماء الجاري بين الشجر، وهو الماء الذي يتسلل ويتسرب فيما بين الشجر ويدخل فيه، ويطلق الغليل على ما يقاسيه الإنسان في داخله من العطش ومن شدة الوجد والغيظ، لهذا السبب.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 339

الْمَصِيرُ».

ثم يقول تعالى: «هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ». أي أنّ لكل واحد منهم درجة بنفسه ومكانة عند اللَّه.

ثم يقول سبحانه في ختام هذه الآية: «وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ». أي: أنّه سبحانه عالم بأعمالهم جميعاً فهو يعلم جيداً من يستحق أية درجة من الدرجات، بحيث تليق بنيّته وإيمانه وعلمه.

لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ

(164) النعمة الإلهية الكبرى: في هذه الآية يدور الحديث حول أكبر النعم الإلهية، ألا وهي نعمة بعثة الرسول الأكرم والنبي الخاتم صلى الله عليه و آله وهو إجابة قوية على التساؤل الذي خالج بعض الأذهان من حديثي العهد بالإسلام بعد معركة احد وهو: لماذا لحق بنا ما لحق، ولماذا أصبنا بما أصبنا به؟ فيجيبهم القرآن الكريم بقوله: «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ». أي إذا كنتم قد تحملتم كل هذه الخسائر، وأصبتم بكل هذه المصائب، فإنّ عليكم أن لا تنسوا أنّ اللَّه قد أنعم عليكم بأكبر نعمة، ألا وهي بعثه نبيّاً يقوم بهدايتكم وتربيتكم، فمهما تحملتم في سبيل الحفاظ على هذه النعمة العظمى والموهبة الكبرى، ومهما كلفكم ذلك من ثمن، فهو ضئيل إلى جانبها، وحقير بالنسبة إليها.

ثم إنّ اللَّه سبحانه يقول: «مِّنْ أَنفُسِهِمْ». إنّ إحدى مميزات هذا النبي هو أنّه من نفس الجنس والنوع البشري، وذلك لكي يدرك كل احتياجات البشر وحتى يلمس آلام إلانسان وآماله، ثم يقوم بما يجب أن يقوم به من التربية والتوجيه على ضوء هذه المعرفة.

ثم إنّ اللَّه سبحانه يقول واصفاً مهمات هذا النبي العظيم: «يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ». أي أنّه يقوم بثلاثة امور في حقّهم:

1- تلاوة آيات اللَّه على مسامعهم، وإيقافهم على هذه الآيات والكلمات الإلهية.

2- تعليمهم بمعنى إدخال هذه الحقائق في أعماق ضمائرهم وقلوبهم.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 340

3- تزكية نفوسهم، وتنمية قابلياتهم الخلقية، ومواهبهم الإنسانية. ولكن حيث إنّ الهدف الأصلي هو «التربية» لذلك قدمت على «التعليم» مع أنّ الحال- من حيث الترتيب الطبيعي- تقتضي تقديم التعليم على التربية.

إنّ أهمية هذه النعمة العظمى (البعثة النبوية) إنّما تتضح تمام الوضوح وتتجلى تمام الجلاء

عندما يقاس الوضع الذي آلوا إليه بالوضع الذي كانوا عليه، وملاحظة مدى التفاوت بينهما وهذا هو ما يعنيه قوله: «وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِى ضَللٍ مُّبِينٍ».

أَ وَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (165) دراسة اخرى لمعركة احد: إنّ بعض المسلمين كانوا يعانون من حزن عميق وقلق بالغ لنتائج احد، فذكرهم اللَّه- في هذه الآية- بثلاث نقاط هي:

1- يجب أن لا تقلقوا لنتائج معركة معينة، بل عليكم أن تحاسبوا كل قضايا المجابهة مع العدو، وتزنوا المسألة من جميع أطرافها فلو أنّه أصابتكم على أيدي أعدائكم في هذه المعركة مصيبة فإنّكم قد أصبتم أعداءكم ضعفها في معركة اخرى (معركة بدر) لأنّهم قتلوا من المسلمين في معركة «احد» سبعين ولم يأسروا أحداً بينما قتل المسلمون من المشركين في معركة «بدر» سبعين وأسروا سبعين: «أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مّثْلَيْهَا».

2- أنتم تقولون هذه المصيبة كيف أصابتنا؟ «قُلْتُمْ أَنَّى هذَا». ولكن «قل» أيّها النّبي:

«هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ». أي: هو نابع من مواقفكم في تلك المعركة، فابحثوا عن أسباب الهزيمة في أنفسكم.

3- يجب أن لا تقلقوا للمستقبل لأنّ اللَّه قادر على كل شي ء، فإذا أصلحتم أنفسكم، وأزلتم النواقص، وتخلصتم مما تعانون منه من نقاط الضعف شملكم تأييده، وأنزل عليكم نصره «إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

وَ مَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَ لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَ قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)

مختصر الامثل،

ج 1، ص: 341

لابد أن تتميز الصفوف: تنوه الآيتان الحاضرتان بحقيقة هامة هي أنّ أيّة مصيبة (كتلك التي وقعت في احد) مضافاً إلى أنّها لم تكن دون سبب وعلة، فإنّها خير وسيلة لتمييز صفوف المجاهدين الحقيقيين عن المنافقين أو ضعفاء الإيمان، ولذلك جاء في القسم الأوّل من الآية الاولى: «وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذنِ اللَّهِ». أي: أنّ ما أصابكم يوم تقاتل المسلمون والمشركون فهو بإذن اللَّه ومشيئته وإرادته لأنّ لكل ظاهرة في عالم الكون المخلوق للَّه سبحانه سبباً خاصاً وعلة معينة.

ثم يقول سبحانه في المقطع التالي من الآية: «وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا».

ثم إنّ القرآن الكريم يستعرض حواراً قد وقع بين بعض المسلمين، والمنافقين قبل المعركة بالشكل التالي: «وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا». فإنّ بعض المسلمين (وهو عبد اللَّه بن عمر بن حزام على ما نقل عن ابن عباس) عندما رأى إنسحاب عبد اللَّه بن أبي سلول وانفصالهم عن الجيش الإسلامي، وإعتزامهم العودة إلى المدينة قال: تعالوا قاتلوا في سبيل اللَّه أو ادفعوا عن حريمكم وأنفسكم إن لم تقاتلوا في سبيل اللَّه.

ولكنهم تعللوا، واعتذروا بأعذار واهية إذ قالوا: «لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ». أي إنّنا نظن أنّ الأمر ينتهي بلا قتال فلا حاجة لوجودنا معكم.

فإنّ هذه كانت مجرد إعتذارات وتعللات، لأنّ الحرب كانت حتمية الوقوع، ولأنّ المسلمين إنتصروا في بداية المعركة، وأمّا ما لحق بهم من الهزيمة والإنكسار فلم يكن إلّا بسبب أخطاء ومخالفات إرتكبوها هم أنفسهم بحيث لولاها لما وقعت بهم هزيمة، ولذا يقول اللَّه سبحانه: «هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ». أي إنّهم يكذبون.

ثم علل سبحانه ما ذكره عنهم بقوله: «يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ». أي إنّهم يظهرون خلاف

ما يضمرون، ويبدون من القول خلاف ما يكتمون من الاعتقاد والنية، فإنّهم لإصرارهم على إقتراحهم بالقتال داخل أسوار المدينة، أو رهبة من ضربات العدو، أو لعدم حبّهم للإسلام أحجموا عن الإسهام في تلك المعركة، وامتنعوا عن المضي إلى احد في صحبة المسلمين، «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ». فإنّ اللَّه يعلم جيداً ما يخفونه ويضمرونه من النوايا.

الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَ قَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 342

مزاعم المنافقين الباطلة: لم يكتف المنافقون بانصرافهم عن الإسهام مع المؤمنين في القتال، والسعي في إضعاف الروح المعنوية للآخرين، بل عمدوا إلى لوم المقاتلين المجاهدين بعد عودتهم من المعركة وبعد ما لحق بهم ما لحق قائلين: «لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا».

فيرد عليهم القرآن الكريم في الآية الحاضرة قائلًا: «الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».

لقد عبّر القرآن عن المؤمنين في هذه الآية بأنّهم إخوان للمنافقين في حين لم يكن المؤمنون إخواناً للمنافقين إطلاقاً، فما هذه الأنواع من الملامة والتوبيخ للمنافقين؟ فيكون المعنى هو: إنّكم أيّها المنافقون كنتم تعتبرون المؤمنين إخواناً لكم فكيف تركتم نصرتهم في هذه اللحظات الخطيرة؟ ولهذا أردف سبحانه هذه الكلمة «لِإِخْوَانِهِمْ» بكلمة «قَعَدُوا» أي تقاعسوا عن المشاركة في المعركة.

وَ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَنْ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ وَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الحياة الخالدة: إنّ الآيات الحاضرة نزلت في شهداء «احد» وإن

كان محتواها ومضمونها يعم حتى شهداء «بدر». فجاءت الآيات الحاضرة لتفند كل هذه التصورات، وتذكر بمكانة الشهداء السامية ومقامهم الرفيع وتقول: «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا».

والخطاب- هنا- متوجه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خاصة حتى يحسب الآخرون حسابهم.

ثم يقول سبحانه معقباً على العبارة السابقة: «بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ».

والمقصود من الحياة في الآية هي «الحياة البرزخية» في عالم ما بعد الموت، وإن لم تختص الحياة البرزخية بالشهداء فللكثير من الناس حياة برزخية أيضاً ولكن إنّ حياة الشهداء محفوفة بالنعم والمواهب المعنوية العظيمة وكأنّ حياة الآخرين من البرزخيين بما فيها لا تكاد تكون شيئاً يذكر بالنسبة إليها.

ثم إنّ الآية التالية تشير إلى بعض مزايا حياة الشهداء البرزخية، وما يكتنفها ويلازمها من عظيم البركات من خلال الإشارة إلى عظيم إبتهاجهم بما أوتوا هناك فتقول: «فَرِحِينَ

مختصر الامثل، ج 1، ص: 343

بِمَا ءَاتَيهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ».

ثم إنّ السبب الآخر لإبتهاجهم ومسرتهم هو ما يجدونه ويلقونه من عظيم الثواب ورفيع الدرجات الذي ينتظر إخوانهم المجاهدين الذين لم ينالوا شرف الشهادة في المعركة إذ يقول القرآن: «وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ».

ثم يردف هذا بقوله: «أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ». يعني أنّ الشهداء يحسّون هناك وفي ضوء ما يرونه أنّ إخوانهم المجاهدين لن يكون عليهم أي حزن على ما تركوه في الدنيا ولا أي خوف من الآخرة ووقائعها الرهيبة.

ثم إنّه سبحانه يقول: «يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ» «1».

وهذه الآية مزيد تأكيد وتوضيح حول البشائر التي يتلقاها الشهداء بعد قتلهم واستشهادهم، فهم فرحون ومسرورون من ناحيتين:

الاولى: من جهة النعم والمواهب الإلهية التي يتلقونها.

والثانية: من جهة أنّهم يرون أنّ اللَّه سبحانه وتعالى لا يضيع أجر

المؤمنين ... لا أجر الشهداء الذين نالوا شرف الشهادة، ولا أجر المجاهدين الصادقين الذين لم ينالوا ذلك الشرف رغم اشتراكهم في المعركة: «وَأَنَّ اللَّهَ لَايُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ».

الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَ قَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَ اتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) غزوة حمراء الأسد: قلنا إنّ جيش أبي سفيان المنتصر أسرع بعد إنتصاره في معركة «احد» على الجيش الإسلامي يحثّ السير في طريق العودة إلى مكة حتى إذا بلغ أرض «الروحاء» ندم على فعله، وعزم على العودة إلى المدينة للإجهاز على ما تبقى من فلول المسلمين، واستئصال جذور الإسلام حتى لا تبقى له ولهم باقية.

ولما بلغ هذا الخبر إلى النبي صلى الله عليه و آله أمر مقاتلي احد أن يستعدوا للخروج إلى معركة اخرى مع المشركين.

______________________________

(1) «الاستبشار» يعني الإبتهاج والسرور الحاصل بسبب تلقي بشارة أو مشاهدة نعمة للنفس أو للغير من الأحبّة؛ وليست بمعنى التبشير والإبشار.

إِنَّمَا ذلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَ خَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 344

فلما بلغ هذا الخبر أبا سفيان وأدرك صمود المسلمين، خاف وارعب. هذا وقد حدثت في هذا الموضع حادثة زادت من إضعاف معنوية المشركين، وهي أنّه: مرّ برسول اللَّه «معبد الخزاعي» وهو يومئذ مشرك، فلما شاهد النبي وما عليه هو وأصحابه من الحالة تحركت عواطفه وجاشت، فقال للنبي صلى الله عليه و آله: يا محمّد واللَّه لقد عزّ علينا ما أصابك في قومك

وأصحابك، ثم خرج من عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء وأجمعوا الرجعة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فلما رأى أبو سفيان معبداً قال: ما وراك يا معبد؟ قال: محمّد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قطّ يتحرقون عليكم تحرقاً. وقد اجتمع عليه من كان تخلّف عنه في يومكم، وندموا على صنيعهم، وفيه من الحنق عليكم ما لم أر مثله قط. فاهتزّ لذلك أبو سفيان ومن معه وقفل راجعاً ومنسحباً إلى مكّة بسرعة، وحتى يتوقف المسلمون عن طلبه وملاحقته ويجد فرصة كافية للإنسحاب قال لجماعة من بني عبد قيس كانوا يمرون من هناك قاصدين المدينة لشراء القمح: «اخبروا محمّداً إنّا قد أجمعنا الكرّة عليه وعلى أصحابه لنستأصل بقيتهم» ثم انصرف إلى مكة.

ولما مرّت هذه الجماعة برسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو بحمراء الأسد أخبروه بقول أبي سفيان، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «حسبنا اللَّه ونعم الوكيل». وبقي هناك ينتظر المشركين ثلاثة أيام، فلم ير لهم أثراً فانصرف إلى المدينة بعد الثالثة، والآيات الحاضرة تشير إلى هذه الحادثة وملابساتها «1».

يقول سبحانه: «الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أجْرٌ عَظِيمٌ».

ثم إنّ القرآن الكريم يبين إحدى العلائم الحيّة لِاستقامتهم وثباتهم إذ يقول: «الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ».

ثم بعد ذكر هذه الإستقامة الواضحة وهذا الإيمان البارز يذكر القرآن الكريم نتيجة عملهم إذ يقول: «فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ».

وتأكيداً لهذا الأمر يقول القرآن: «لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ». مضافاً إلى أنّهم «اتَّبَعُوا رِضْوَانَ

اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ». إنّه فضل عظيم ينتظر المؤمنين الحقيقيين، والمجاهدين الصادقين.

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ذيل الآيات مورد البحث.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 345

هذه الآية تعقيب على الآيات التي نزلت حول غزوة «حمراء الأسد». ويكون معنى هذه الآية هو: إنّ عمل نعيم بن مسعود، أو ركب عبد القيس من عمل الشيطان لكي يخوفوا به أولياء الشيطان. يعني أنّ هذه الوساوس إنّما تؤثر في أتباع الشيطان وأوليائه خاصة.

إنّ التعبير عن نعيم بن مسعود أو ركب عبد القيس ووصفهم ب «الشيطان» إمّا لكون عملهم ذلك من عمل الشيطان، وإمّا أنّ المقصود من الشيطان هم نفس هؤلاء الأشخاص، فيكون «هذا المورد» من الموارد التي يطلق فيها اسم الشيطان على المصداق الإنساني له.

ثم إنّه سبحانه يقول في ختام الآية: «وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ». يعني أنّ الإيمان باللَّه والخوف من غيره لا يجتمعان.

وعلى هذا الإساس فإن وجد في أحد الخوف من غير اللَّه كان ذلك دليلًا على نقصان إيمانه وتأثيره بالوساوس الشيطانية لأننا نعلم أنّه لا ملجأ ولا مؤثر بالذات في هذا الكون العريض سوى اللَّه الذي ليس لأحد قدرة في مقابل قدرته.

وَ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) مواساة القرآن للنبي صلى الله عليه و آله: الآية الأولى موجه إلى النبي صلى الله عليه و آله فاللَّه تعالى يعزّي نبيه في أعقاب أحداث «احد» المؤلمة قائلًا له: أيّها الرسول: «وَلَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ». وكأنّهم يتسابقون إليه «إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيًا» بل يضرّون بذلك أنفسهم.

هذا

مضافاً إلى أنّ اللَّه سوف لن ينسى مواقفهم المشينة ولن تفوته مخالفاتهم، وسيصيبهم جزاء ما يعملونه يوم القيامة: «يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِى الْأَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ».

فإنّ الآية تقول: إذا كان هؤلاء يتسابقون في الكفر فليس ذلك لأنّ اللَّه لا يقدر على كبح جماحهم، بل لأنّ اللَّه أراد أن يكونوا أحراراً في اتخاذ المواقف وسلوك الطريق الذي يريدون، ولا شك أنّ نتيجة ذلك هو الحرمان الكامل من المواهب الربانية في العالم الآخر.

ثم يقرر القرآن هذه الحقائق في الآية الثانية بشكل أكثر تفصيلًا إذ يقول: «إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيًا». يعني ليس الذين يتسابقون في طريق الكفر ويسارعون إليه هم وحدهم على هذا الحال، بل كل الذين يسلكون طريق الكفر بشكل من

مختصر الامثل، ج 1، ص: 346

الأشكال ويشترون الكفر بالإيمان، كل هؤلاء لن يضرّوا اللَّه شيئاً، وإنّما يضرّون أنفسهم.

ويختم سبحانه الآية بقوله: «وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

وَ لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) بعد تسلية خاطر النبي صلى الله عليه و آله في الآيات السابقة توجّه سبحانه إلى الأعداء في هذه الآية بالخطاب، وأخذ يحدّثهم عن المصير المشؤوم الذي ينتظرهم. يقول فيها سبحانه: «وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لِّانفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ» «1». تحذّر المشركين بأنّ عليهم أن لا يعتبروا ما أتيح لهم من إمكانات في العدة والعدد، وما يكسبونه من انتصارات في بعض الأحيان، وما يمتلكونه من حرية التصرف، دليلًا على صلاحهم، أو علامة على رضا اللَّه عنهم.

مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ

الطَّيِّبِ وَ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) المسلمون في بوتقة الاختبار والفرز: لم تكن قضية «المنافقين» مطروحة بقوة قبل حادثة معركة «احد» ولهذا لم يكن المسلمون يعرفون عدواً لهم غير الكفار، ولكن الهزيمة التي أفرزتها «احد» وما دبّ في المسلمين على أثرها من الضعف المؤقت مهّد الأرضية لنشاط المنافقين المندسين في صفوف المسلمين، وعلى أثر ذلك عرف المسلمون وأدركوا بأنّ لهم عدواً آخر أخطر يجب أن يراقبوا تحركاته ونشاطاته وهو «المنافقون» وكان هذا إحدى أهم معطيات حادثة «احد» ونتائجها الإيجابية. والآية الحاضرة التي هي آخر الآيات التي تتحدث- هنا- عن معركة «احد» وأحداثها، تبين وتستعرض هذه الحقيقة في صورة قانون عام إذ تقول: «مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيّبِ».

______________________________

(1) «نملي»: مشتقة من الإملاء، وتعني المساعدة والإعانة وتستعمل في أكثر الموارد في إطالة المدّة والإمهال الذي هو نوع من المساعدة، وقد جاءت في الآية الحاضرة بالمعنى الثاني.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 347

فلابد أن تتميز الصفوف، وتتم عملية الفرز بين الطيب الطاهر، والخبيث الرجس، وهذا قانون عام وسنّة إلهيّة، فليس كل من يدعي الإيمان، ويجد مكاناً في صفوف المسلمين يترك لشأنه، بل ستبلى سرائره وتنكشف حقيقته في الآخرة بعد الاختبارات الإلهية المتتابعة له.

وهنا يمكن أن يطرح سؤال وهو: إذا كان اللَّه عالماً بسريرة كل إنسان وأسراره فلماذا لا يخبر بها الناس- عن طريق العلم بالغيب- ويعرفهم بالمؤمن والمنافق؟

إنّ المقطع الثاني من الآية وهو قوله: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ». يجيب على هذا السؤال، أي إنّ اللَّه سبحانه لن

يوقفكم على الأسرار، لأنّ الوقوف على الأسرار لا يحلّ مشكلة، بل سيؤدي إلى الهرج والمرج وإلى تمزق العلاقات الاجتماعية.

والأهم من كل ذلك هو أنّه لابد أن تتضح قيمة الأشخاص من خلال المواقف العملية والسلوكية، ومسألة الاختبار الإلهي لاتعني سوى هذا الأمر.

ثم إنّ اللَّه سبحانه يستثني الأنبياء من هذا الحكم إذ يقول: «وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ». أي إنّه يختار في كل عصر من بين أنبيائه من يطلعهم على شي ء من تلك الغيوب ويوقفهم على بعض الأسرار بحكم احتياج القيادة الرسالية إلى ذلك.

إنّ المراد من المشيئة الإلهيّة هو «الإرادة المقرونة بالحكمة» أي إنّ اللَّه سبحانه يطلع على الغيب كل من يراه صالحاً لذلك، وتقتضي حكمته سبحانه ذلك.

ثم أنهّ تعالى يذكرهم- في ختام الآية- أن يجتهدوا لينجحوا في هذا الامتحان ويخرجوا مرفوعي الرؤوس من هذا الاختبار العظيم، إذ يقول: «فَامِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ».

وَ لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ لِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) طوق الأسر الثقيل: تبين الآية الحاضرة مصير البخلاء في يوم القيامة، اولئك الذين يبذلون غاية الجهد في جمع الثروة ثم يمتنعون عن الإنفاق في سبيل اللَّه، ولصالح عباده. والآية هذه وإن لم تتعرض صراحة لذكر الزكاة وغيرها من الحقوق والفرائض المالية، إلّاأنّ الأحاديث الواردة عن أهل البيت عليهم السلام خصصت هذه الآية وما وعد به فيها من الوعيد

مختصر الامثل، ج 1، ص: 348

بمانعي الزكاة. تقول الآية أوّلًا: «وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءَاتَيهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ». ثم

تصف مصير هؤلاء في يوم القيامة هكذا: «سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيمَةِ». أي ستكون تلك الأموال التي بخلوا بها طوقاً في أعناقهم في ذلك اليوم الرهيب. ومن هذه الجملة يستفاد أنّ الأموال التي لم يدفع صاحبها الحقوق الواجبة فيها، ولم ينتفع بها المجتمع، بل صرفت فقط في سبيل الأهواء الشخصية، وربما صرفت في ذلك السبيل بشكل جنوني، أو كدّست دون أي مبرر ولم يستفد منها أحد سيكون مصيرها مصير أعمال الإنسان، أي أنّها- طبقاً لقانون تجسّم الأعمال البشرية- ستتجسم يوم القيامة وتتمثل في شكل عذاب مؤلم يؤذي صاحبها ويخزيه.

ففي تفسير العياشي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «الذي يمنع الزكاة يُحوّل اللَّه ماله يوم القيامة شجاعاً من نار ... فيطوّقه إيّاه، ثم يقال له: الزمه كما لزمك في الدنيا. وهو قول اللَّه: «سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ» الآية».

ثم إنّ الآية تشير إلى نقطة اخرى إذ تقول: «وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

يعني أنّ الأموال سواء أنفقت في سبيل اللَّه أو لم تنفق فإنّها ستنفصل في النهاية عن أصحابها، ويرث اللَّه الأرض والسماء وما فيهما، فالأجدر بهم- والحال هذه- أن ينتفعوا من آثارها المعنوية، لا أن يتحملوا وزرها وعناءها، وحسرتها وتبعتها.

ثم تختم الآية بقوله تعالى: «وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ». أي إنّه عليم بأعمالكم، يعلم إذا بخلتم، كما يعلم إذا انفقتم ما اوتيتموه من المال في سبيل الصالح العام وخدمة المجتمع الإنساني، ويجازى كلًا على عمله بما يليق.

لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَ قَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ نَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)

سبب النّزول

في تفسير مجمع

البيان عن ابن عباس قال: كتب النبي صلى الله عليه و آله إلى يهود بني قينقاع يدعوهم

مختصر الامثل، ج 1، ص: 349

إلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا للَّه قرضاً حسناً (والمراد منه الإنفاق في سبيل اللَّه وإنّما عبّر عنه بالإقراض لتحريك المشاعر وإثارتها لدى الناس قدراً أكبر) فدخل رسول النبي إلى بيت مدارستهم (حيث يتلقى اليهود دروساً في دينهم) فوجد ناساً كثيراً منهم اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص بن عازورا فدعاهم إلى الإسلام والصلاة والزكاة، فقال فنحاص: إن كان ما تقول حقّاً فإنّ اللَّه إذن لفقير ونحن أغنياء، ولو كان غنياً لما استقرضنا أموالنا! وهو يشير إلى قوله تعالى: «مَن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا» «1». هذا مضافاً إلى أنّ «محمّداً» يعتقد أنّ اللَّه نهاكم عن أكل الربا، وهو يعدكم أن يضاعف لكم إذا انفقتم أضعافاً مضاعفة، وهو يشير إلى قوله تعالى: «يُرْبِى الصَّدَقَاتِ» «2». ولكن فنحاص أنكر أنّه قال شيئاً من هذه في ما بعد فنزلت الآيتان المذكورتان أعلاه.

التّفسير

تقول الآية الاولى: «لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ». أي لو أنّ هؤلاء استطاعوا أن يخفوا عن الناس مقالتهم هذه فإنّ اللَّه قد سمعها ويسمعها حرفاً بحرف فلا مجال لإنكارها، فهو يسمع ويدرك حتى ما عجزت أسماع الناس عن سماعها من الأصوات الخفية جدّاً أو الأصوات العالية جداً.

ثم يقول سبحانه: «سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا». أي إنّ ما قالوه لم نسمعه فحسب، بل سنكتبه جميعه.

إنّ المراد من الكتابة ليس هو ما تعارف بيننا من الكتابة والتدوين، بل المراد هو حفظ آثار العمل التي تبقى خالدة في العالم حسب قانون بقاء «الطاقة- المادة».

ثم يقول: «وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ». أي إنّنا لا نكتفي بكتابة

مقالاتهم الكافرة الباطلة فحسب، بل سنكتب موقفهم المشين جداً وهو قتلهم للأنبياء.

وأمّا تسجيل وكتابة أعمالهم فلم يكن أمراً اعتباطياً غير هادف، بل كان لأجل أن نعرضها عليهم يوم القيامة، ونقول لهم: ها هي نتيجة أعمالكم قد تجسدت في صورة عذاب محرق ونقول: «ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ».

______________________________

(1) سورة الحديد/ 11.

(2) سورة البقرة/ 276.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 350

مختصر الامثل ج 1 379

إنّ هذا العذاب الأليم الذي تذوقونه ليس سوى نتيجة أعمالكم، فأنتم- أنفسكم- قد ظلمتم أنفسكم «ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ».

ولقد نقل عن الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة أنّه قال: «وأيم اللَّه ما كان قوم قط في غض نعمة من عيش فزال عنهم إلّابذنوب اجترحوها لأنّ اللَّه ليس بظلّام للعبيد». الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَ الزُّبُرِ وَ الْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت الآية في جماعة من اليهود قالوا: يا محمّد إنّ اللَّه عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، فإن زعمت أنّ اللَّه بعثك إلينا فجئنا به نصدقك. فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.

التّفسير

مغالطات اليهود وتعللاتهم: كانت اليهود تتحجج وتجادل كثيراً بهدف التملّص من الإنضواء تحت راية الإسلام. ومن مغالطاتهم ما جاء ذكره في هذه الآية الحاضرة التي تقول:

«الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ».

يقول القرآن في مقام الردّ عليهم: «قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيّنَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ

قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ». وفي ذلك إشارة إلى زكريا ويحيى وطائفة من الأنبياء الذين قتلوا على أيدي بني اسرائيل.

ثم يعقب سبحانه على الآية السابقة بقوله: «فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ».

وفي هذه الآية يسلي اللَّه سبحانه النبي صلى الله عليه و آله ويقول: إن كذبتك هذه الجماعة فلا تقلق لذلك ولا تحزن، فذلك هو دأبهم مع أنبياء سبقوك حيث كذبوهم، وعارضوا دعوتهم بصلابة وعناد.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 351

ولم يكن هؤلاء الأنبياء غير مزوّدين بما يبرهن على صدقهم، بل «جَاءُو بِالْبَيّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ».

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَ إِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَ مَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) الموت وقانونه العام: تعقيباً على البحث حول عناد المعارضين وغير المؤمنين تشير هذه الآية- أوّلًا- إلى قانون عام يشمل جميع الأحياء في هذا الكون وتقول: «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ».

إنّ لهذه الحياة نهاية لا محالة، ولابد أن يأتي ذلك اليوم الذي يزور فيه الموت كل أحد، ولا يكون أمامه- حينئذ- إلّاأن يفارق هذه الحياة.

إنّ المراد من «النفس» في هذه الآية هو مجموعة الجسم والروح، وإن كانت النفس في القرآن تطلق أحياناً على خصوص «الروح» أيضاً.

والتعبير بالتذوق إشارة إلى الإحساس الكامل.

ثم تقول الآية بعد ذلك: «وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ». أي إنّه ستكون بعد هذه الحياة مرحلة اخرى هي مرحلة الثواب والعقاب، وبالتالي الجزاء على الأعمال، فهنا عمل ولا حساب وهناك حساب ولا عمل.

وعبارة «تُوفَّون» التي تعني إعطاء الجزاء بالكامل تكشف عن إعطاء الإنسان أجر عمله- يوم القيامة- وافياً وبدون نقيصة.

ثم قال سبحانه: «فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ».

«زحزح»: تعني محاولة الإنسان لإخراج نفسه من تحت

تأثير شي ء، وتخليصها من جاذبيته تدريجاً؛ و «فاز»: تعني في أصل اللغة النجاة من الهلكة ونيل المحبوب والمطلوب.

والجملة بمجموعها تعني أنّ الذين استطاعوا أن يحرروا أنفسهم من جاذبية النار ودخلوا الجنة فقد نجوا من الهلكة ولقوا ما يحبونه وكأنّ النار تحاول بكل طاقتها أن تجذب الأدميين نحو نفسها ... حقّاً أنّ هناك عوامل عديدة تحاول أن تجذب الإنسان إلى نفسها، وهي على درجة كبيرة من الجاذبية.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 352

أليس للشهوات العابرة، واللذات الجنسية الغير المشروعة، والمناصب، والثروات الغير المباحة مثل هذه الجاذبية القوية؟ ثم يقول سبحانه في نهاية هذه الآية: «وَمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ».

وهذه الجملة تكمل البحث السابق وكأنّها تقول: إنّ هذه الحياة مجرد لهو ومتاع تخدع الإنسان من بعيد، فإذا بلغ إليها الإنسان ونال منها ولمسها عن كثب وجدها- على الأغلب- فراغاً في فراغ وخواء في خواء، وما متاع الغرور إلّاهذا.

إنّ هذه التعابير قد تكررت في القرآن والأحاديث كثيراً، والهدف منها جميعاً شي ء واحد هو أن لا يجعل الإنسان هذه الحياة المادية ولذاتها العابرة الفانية الزائلة هدفه الأخير، وأمّا الإنتفاع بالحياة المادية ومواهبها كوسيلة للوصول إلى التكامل الإنساني والمعنوي فليس غير مذموم فقط، بل هو ضروري وواجب.

لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: عندما هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة وابتعدوا عن دورهم وديارهم، راحت أيدي المشركين تطال أموالهم وتمتدّ إلى ممتلكاتهم، وتنالها بالتصرف والسيطرة عليها، وإيذاء كل من وقعت عليه أيديهم والإيقاع فيه بالهجاء والاستهزاء.

وعندما جاءوا إلى المدينة، واجهوا أذى اليهود القاطنين

في المدينة، خاصة كعب بن الأشرف الذي كان شاعراً سليط اللسان، وكان يهجو النبي صلى الله عليه و آله والمؤمنين ويحرّض المشركين عليهم ويشبب بنساء المسلمين.

فقال صلى الله عليه و آله: «من لي بابن الأشرف»؟ فقال محمد بن سلمة: أنا يا رسول اللَّه. فخرج هو وأبو نائلة مع جماعة فقتلوه غيلة، وأتوا برأسه إلى النبي صلى الله عليه و آله آخر الليل، وهو قائم يصلي.

التّفسير

لا تتعبكم المقاومة: «لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ». أجل إنّ هذه الحياة ساحة اختبار

مختصر الامثل، ج 1، ص: 353

ودار امتحان، فلابد أن يتهيأ الإنسان لمواجهة كل الحوادث والمفاجئات الصعبة العسيرة، وهذا تحذير لجميع المسلمين بأن لا يظنوا بأنّ الحوادث العسيرة في حياتهم قد انتهت، أو أنّهم قد تخلصوا من أذى الأعداء، وسلاطة لسانهم بمجرد قتلهم لكعب بن الأشرف الشاعر السليط اللسان الذي كان يؤذي المسلمين بلسانه وشعره. ولهذا قال سبحانه: «وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا».

ثم إنّه سبحانه عقب على هذا الإنذار والتنبيه بقوله: «وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ».

وبهذا يبين القرآن وظيفة المسلمين وواجبهم في أمثال هذه الحوادث الصعبة والظروف العسيرة، ويدعوهم إلى الصبر والاستقامة والصمود و التزام التقوى في مثل هذه الحوادث معلناً بأنّ هذه الامور من الامور الواضحة النتائج، ولذلك يتعين على كل عاقل أن يتخذ موقفه منها.

وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَ اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) بعد ذكر جملة من أعمال أهل الكتاب المشينة ومخالفاتهم تشير الآية الحاضرة إلى واحدة اخرى من تلك الأعمال والمخالفات، ألا وهو كتمان الحقائق فتقول: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابِ

لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَاتَكْتُمُونَهُ». أي اذكروا إذ أخذاللَّه مثل هذا الميثاق منكم.

من هذه التعابير يستفاد أنّ اللَّه سبحانه قد أخذ بوساطة الأنبياء السابقين آكد المواثيق والعهود من أهل الكتاب ولكن خانوا تلك العهود وتجاهلوا تلك المواثيق وأخفوا ما أرادوا إخفاءه من حقائق الكتب السماوية، ولهذا قال سبحانه عنهم: «فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ».

ثم إنّه سبحانه أشار إلى حرص اليهود وجشعهم وحبّهم المفرط للدنيا إذ يقول:

«وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ».

إنّ الآية الحاضرة وإن كانت قد وردت بحق أهل الكتاب (من اليهود والنصارى) إلّاأنّها في الحقيقة تحذير وإنذار لكل علماء الدين ورجاله بأنّ عليهم أن يجتهدوا في تبليغ الحقائق وبيان الأحكام الإلهية، وتوضيحها وإظهارها بجلاء، وإنّ ذلك مما كتبه اللَّه عليهم، وأخذ منهم ميثاقاً مؤكداً وغليظاً.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 354

لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (189)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس قال: نزلت في اليهود حيث كانوا يفرحون بإجلال الناس لهم ونسبتهم إيّاهم إلى العلم.

وقيل: نزلت في أهل النفاق لأنّهم كانوا يجمعون على التخلف عن الجهاد مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فإذا رجعوا اعتذروا وأحبّوا أن يقبل منهم العذر ويحمدوا بما ليسوا عليه من الإيمان.

التّفسير

إنّ الآية الحاضرة في شأن علماء اليهود الذين يحرفون آيات الكتب السماوية تقول: «لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ». أي لا تحسبن أنّ هؤلاء يعذرون على موقفهم هذا وينجون من العذاب، إنّما النجاة لمن يستحون- على الأقل- من

أعمالهم القبيحة، ويندمون على أنّهم لم يفعلوا شيئاً من الأعمال الصالحة.

إنّ هؤلاء المعجبين بأنفسهم ليسوا فقط ضلّوا طريق النجاة وحُرموا من الخلاص، بل «وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» ينتظرهم.

ثم إنّ اللَّه سبحانه يقول في آية لاحقة: «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ». وهذا الكلام يتضمن بشرى للمؤمنين وتهديداً للكافرين.

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَ قُعُوداً وَ عَلَى جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَ كَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَ تَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَ آتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَ لَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 355

أوضح السبل لمعرفة اللَّه: آيات القرآن الكريم ليست للقراءة والتلاوة فقط، بل نزلت لكي يفهم الناس مقاصدها ويدركوا معانيها، وما التلاوة والقراءة إلّامقدمة لتحقيق هذا الهدف، أي التفكر والتدبر والفهم، ولهذا جاء القرآن في الآية الاولى من الآيات الحاضرة يشير إلى عظمة خلق السماوات والأرض، ويقول: «إِنَّ فِى خَلْقِ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلفِ الَّيلِ وَالنَّهَارِ لَأَيَاتٍ لِأُولِى الْأَلْبَابِ».

إنّ هذا النقش الساحر الآسر للقلوب، المبثوث في كل ناحية من نواحي هذا الكون العريض يشدّ إلى نفسه فؤاد كل لبيب وعقله شدّاً- يجعله يتذكر خالقه، في جميع الحالات، قائماً أو قاعداً، وحين يكون في فراشه نائماً على جنبه، ولهذا يقول سبحانه: «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ». أي إنّهم مستغرقون كامل

الإستغراق في التفكير الحيوي حول هذا الكون الرائع ونظامه البديع ومبدعه، ومبديه.

ولقد اشير- في هذه الآية- إلى الذكر أوّلًا، ثم إلى الفكر ثانياً، ويعني ذلك أنّ ذكر اللَّه وحده لا يكفي، إنّ الذكر إنّما يعطي ثماره القيّمة إذا كان مقترناً بالفكر، كما أنّ التفكر في خلق السماء والأرض هو الآخر لا يُجدي ولا يوصل إلى النتيجة المتوخاة ما لم تقترن عملية التفكر بعملية التذكر.

إنّ العقلاء يواجهون هذه الحقيقة الساطعة إلّاأن يقولوا بخشوع هذه الجملة: «رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ».

إنّ أصحاب العقول السليمة الواعية بعد أن يعترفوا بالهدفية في الخليقة يتذكرون أنفسهم فوراً ويسألون اللَّه التوفيق للقيام بها حتى يتجنّبوا عقابه ولهذا يقول: «فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ». ثم يقول: «رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ».

ويستفاد من هذه العبارات أنّ العقلاء يخافون من الخزي قبل أن يخافوا من نار جهنم، وهذا هو حال كل من يمتلك شخصية، فإنّ أشدّ عقوبات الآخرة على هؤلاء هو الخزي في محضر اللَّه وعند عباده.

على أنّ النقطة الجديرة بالاهتمام التي تنطوي عليها جملة «وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ» هي

مختصر الامثل، ج 1، ص: 356

أنّ العقلاء بعد التعرف على الأهداف التربوية المطلوبة للإنسان يقفون على هذه الحقيقة وهي أنّ الوسيلة الوحيدة لنجاح الإنسان ونجاته هي أعماله وممارساته، ولهذا لا يمكن أن يكون للظالمين أي أنصار. ثم إنّ أصحاب العقول وذوي الألباب بعد التعرف على هدف الكون والغاية من الخلق ينتبهون إلى هذه النقطة، وهي أنّ هذا الطريق الوعر يجب أن لا يسلكه أحد بدون قيادة الهداة الإلهيين، ولهذا فهم يترصدون نداء من يدعوهم إلى الإيمان بصدق وإخلاص ويستجيبون لأوّل دعوة يسمعونها منه ويسرعون إليه، ولهذا يقولون في محضر ربهم:

«رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِى

لِلْإِيمَانِ أَنْ ءَامِنُوا بِرَبّكُمْ فَامَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنَّا سَيَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ». أي ربنا الآن وقد آمنّا بكلّ وجودنا وإرادتنا، ولكننا يحيط بنا طوفان الغرائز المختلفة من كل جانب، فربّما ننزلق وربّما نزلّ ونرتكب معصية، ربنا فاغفر لنا زلتنا، واستر عثرتنا، وتوفّنا مع الأبرار الصالحين.

ثم إنّ هؤلاء العقلاء يطلبون من ربهم في نهاية المطاف، وبعد أن يسلكوا طريق الإيمان والتوحيد وإجابة دعوة الأنبياء والقيام بالواجبات الموجهة إليهم، أن يؤتيهم وعدهم على لسان الرسل فيقولون: «رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ». أي ربنا لقد وفينا بالتزاماتنا، فأتنا ما وعدتنا عن طريق أنبيائك ورسلك ولا تفضحنا ولا تلحق بنا الخزي يوم القيامة:

«وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيمَةِ إِنّكَ لَاتُخْلِفُ الْمِيعَادَ».

هذه الآيات الخمسة التي تعد من القمم القرآنية العظيمة التأثير، والتي امتزجت فيها مجموعة من معارف الدين بلحن لطيف وساحر من المناجاة والدعاء، فإذا هي نعمة سماوية تدغدغ المشاعر، وتثير الشعور، وتحرك ما غفا من العقل والضمير.

فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي وَ قَاتَلُوا وَ قُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: هذه الآية تعقيب على الآيات السابقة حول اولي الألباب

مختصر الامثل، ج 1، ص: 357

والعقول النّيرة ونتيجة أعمالهم. روي أنّ ام سلمة (وهي إحدى زوجات النبي صلى الله عليه و آله) قالت: يا رسول اللَّه! ما بال الرجال يذكرون في الهجرة دون النساء؟ فأنزل اللَّه هذه الآية.

ولكن السبب المذكور لنزول الآية لا ينافي الإرتباط الذي أشرنا إليه

بين هذه الآية والآيات السابقة.

التّفسير

النتيجة الطيّبة لموقف أولي الألباب: في الآيات الخمس الآنفة استعرض القرآن الكريم موجزاً من إيمان اولي الألباب والعقول النّيرة، وفي هذه الآية يقول سبحانه:

«فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ».

ثم يضيف قائلًا: «أَنّى لَاأُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم». دفعاً للإشتباه والتوهّم الذي قد يسبق إلى الذهن بأنّه لا إرتباط بين الفوز والنجاة، وبين أعمال الإنسان ومواقفه.

ثم إنّه سبحانه يقول: «مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ». وهذا لأجل أن لا يتصور أحد أنّ هذا الوعد الإلهي يختص بطائفة معينة، لأنّ الجميع يعودون في أصل الخلقة إلى مصدر واحد «بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ» أي تولد بعضكم من بعض، النساء من الرجال، والرجال من النساء، فلا تفاوت في هذه المسألة إذن بين الذكر أو الانثى، فلماذا يكون تفاوت في الجزاء والثواب؟

من هنا يتضح مدى ابتعاد بعض المغفلين عن الحقيقة حيث يتّهمون الإسلام أنّه دين الرجال دون النساء.

ثم إنّه سبحانه يستنتج من ذلك إذ يقول: «فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِى سَبِيلِى وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيَاتِهِمْ». أي: إنّ اللَّه سبحانه كتب على نفسه أن يغفر لهؤلاء ذنوبهم، جاعلًا من هذه المشاق والمتاعب التي نالتهم كفارة لذنوبهم، ليطهروا من أدرانها تطهيراً.

ثم يقول تعالى: «وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ». مضافاً إلى غفران ذنوبهم والتكفير عنهم.

وهذا هو الثواب الإلهي لهم على ما قاموا به من تضحية وفداء «ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ». يعنى أنّ الأجر الإلهي والمثوبات الإلهية ليست قابلة للوصف للناس بشكل كامل في هذه الحياة، بل يكفي أن يعلموا بأنّه أفضل وأعلى من أي ثواب.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 358

لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهَادُ (197)

لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت في مشركي العرب، وكانوا يتجرون ويتنعمون بها، فقال بعض المسلمين: إنّ أعداء اللَّه في العيش الرخيّ، وقد هلكنا من الجوع! فنزلت الآية.

التّفسير

سؤال مزعج: السؤال الذي مرّ ذكره في سبب نزول هذه الآيات والذي كان يطرحه بعض المسلمين في عصر النبي يعتبر سؤالًا عاماً يطرح نفسه على الناس في كل زمان ومكان. فإنّهم يرون كيف يتنعم العصاة والطغاة، والفراعنة والفساق، ويرفلون في النعيم، ويعيشون الحياة الرفاهية ويقيسونه- غالباً- بحياة الشدة والعسرة التي يعيشها جماعة من المؤمنين، ويقولون متسائلين: كيف ينعم اولئك العصاة- مع ما هم عليه من الإثم والفساد والجريمة- بمثل تلك الحياة الرغيدة، بينما يعيش هؤلاء- مع ما هم عليه من الإيمان والتقوى والصلاح- في مثل هذه الشدة والعسرة، وربّما أدى هذا الأمر ببعض ضعفاء الإيمان إلى الشك والتردد؟!

ولو أنّنا درسنا هذا السؤال وحلّلنا عوامل الأمر وأسبابه في كلا الجانبين، لظهرت أجوبة كثيرة على هذا التساؤل، وقد أشارت هذه الآيات إلى بعضها، ويمكننا الوقوف على بعضها الآخر بشي ء من التأمل والفحص. تقول الآية الاولى من هذه الآيات: «لَايَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى الْبِلدِ». والمخاطب في هذه الآية وإن كان شخص النبي الكريم صلى الله عليه و آله إلّاأنّ المراد هو عموم المسلمين.

ثم تقول: «مَتَاعٌ قَلِيلٌ». أي إنّ هذه النجاحات المادية التي يحرزها المشركون، وهذه الثروات الهائلة التي يحصلون عليها من كل سبيل ليست سوى متاع قليل ولذة عابرة.

«ثُمَّ مَأْوَيهُمُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ». فالملذات المادية تستعقب عواقب سيئة، فإنّ مسؤولية هذه الأموال والثروات ستجرّهم إلى مصير مشؤوم،

ذلك هو الجحيم الذي

مختصر الامثل، ج 1، ص: 359

ستكون محطتهم الأخيرة ومآلهم وبئس المآل.

إنّ أكثر مظاهر تفوّق هؤلاء العصاة الطّغاة الظالمين محدودة الأبعاد، كما أنّ متاعب أكثر المؤمنين ومشاكلهم ومحنهم كذلك مؤقتة، ومحدودة أيضاً. ولهذا لا يمكن (أو لا تصح) المقارنة والمقايسة بين هؤلاء وهؤلاء لأنّ النجاحات المادية التي يحرزها بعض العصاة والفاسقين إنّما هي لكونهم لا يتقيّدون في جمع الثّروة بأي قيد أو شرط، فهم يجمعون المال من كل سبيل، سواء كان مشروعاً أم غير مشروع، حراماً كان أم حلالًا، بل إنّهم يجوّزون لأنفسهم اكتناز الثروة، في حين يتقيّد المؤمنون بمبادى ء الحق والعدالة في هذا المجال، فلا يسوّغون لِأنفسهم بأن يكتسبوا المال من أي طريق كان، وأي سبيل اتفق.

ثم إنّ اللَّه سبحانه بعد أن بيّن مصير الكفار في الآية السابقة، بيّن هنا- في الآية التي تلت تلك الآية- مصير المؤمنين، إذ قال: «لكِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا». أي إنّ الذين اتبعوا موازين الحق والعدل في الوصول إلى المكاسب المادية، أو أنّهم بسبب إيمانهم تعرضوا للحصار الاقتصادي والاجتماعي ولكنهم مع ذلك بقوا ملتزمين بالتقوى، فإنّه تعالى سيعوّضهم عن كل ذلك بجنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها «نُزُلًا مّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ».

وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: اختلفوا في نزولها فقيل: نزلت في النجاشي ملك الحبشة وذلك أنّه لمّا مات نعاه جبرائيل لرسول اللَّه في اليوم الذي مات فيه، فقال رسول

اللَّه: «اخرجوا فصلّوا على أخ لكم مات بغير أرضكم». قالوا: ومن؟ قال: «النجاشي». فخرج رسول اللَّه إلى البقيع وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة، فأبصر سرير النجاشي، وصلّى عليه. فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلّي على عِلْج نصراني حبشي لم يره قطّ وليس على دينه! فأنزل اللَّه هذه الآية.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 360

التّفسير

الآية الحاضرة بعد أن وبّخت كثيراً من أهل الكتاب على كتمانهم لآيات اللَّه وطغيانهم وتمردهم في الآيات السابقة ذكرت هذه القلة المؤمنة، وبيّنت خمساً من صفاتها الممتازة هي: 1- «إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ». أي: إنّهم يؤمنون باللَّه عن طواعية وصدق.

2- «وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ». أي: يؤمنون بالقرآن.

3- «وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ». أي: إيمانهم بنبي الخاتم نابع من إيمانهم بكتبهم السماوية الواقعية التي بشّرت بهذا النبي ودعت إلى الإيمان به إذا ظهر، فهم يؤمنون بكتبهم.

4- «خَاشِعِينَ لِلَّهِ». أي: إنّهم مسلمون لأمر اللَّه وخاضعون لإرادته، وهذا التسليم والخضوع هو السبب الحقيقي لإيمانهم، وهو الذي فرّق بينهم وبين العصبيات الحمقاء، وحرّرهم من التعنت والاستكبار تجاه منطق الحق.

5- «لَايَشْتَرُونَ بَايَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا». أي: إنّهم ليسوا مثل بعض أحبار اليهود الذين يحرّفون آيات اللَّه حفاظاً على مراكزهم وإبقاءاً على حاكميتهم على أقوامهم وجماعاتهم، وصولًا إلى بعض المكاسب المادية.

وسيكون لهذه الطائفة من أهل الكتاب بسبب هذه الصفات الإنسانية العالية و هذا الموقف الواضح الحي، أجرهم عند ربّهم «أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ».

«إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ» فلا يتأخّر عن إعطاء الصالحين المؤمنين أجرهم، كما لا يبطى ء عن مجازاة المنحرفين والظالمين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَ صَابِرُوا وَ رَابِطُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) هذه الآية هي آخر الآيات من سورة آل عمران وتحتوي على برنامج يتكون

من أربع نقاط لعامة المسلمين وهي لذلك تبدأ بتوجيه الخطاب إلى المؤمنين إذ تقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا».

1- «اصْبِرُوا»: إنّ أوّل مادة في هذا البرنامج الذي يكفل عزّة المسلمين وإنتصارهم هو الاستقامة والثبات، والصبر في وجه الحوادث.

2- «وَصَابِرُوا»: وهي من المصابرة (من باب المفاعلة) بمعنى الصبر والاستقامة

مختصر الامثل، ج 1، ص: 361

والثبات في مقابل صبر الآخرين وثباتهم واستقامتهم.

فإنّ القرآن يوصي المؤمنين أوّلًا بالصبر والاستقامة (التي تشمل كل ألوان الجهاد، كجهاد النفس، والاستقامة في مواجهة مشاكل الحياة)، ثم يوصي ثانياً بالصبر والثبات والاستقامة أمام الأعداء، وهذا بنفسه يفيد أنّ الامة ما لم تتغلب وتنتصر في جهادها مع النفس، وفي إصلاح ما بها من نقاط الضعف الداخلية يستحيل إنتصارها على الأعداء، وهذا يعني أنّ أكثر هزائمها أمام أعدائها إنّما هي بسبب ما لحق بها من هزائم في جبهة الجهاد مع النفس وما أصابها من إخفاقات في إصلاح نقاط الضعف التي تعاني منها.

3- «وَرَابِطُوا»: وهذه العبارة مشتقة من مادة «الرباط» وتعني ربط شي ء في مكان (كربط الخيل في مكان) و «المرابطة» بمعنى مراقبة الثغور وحراستها لأنّ فيها يربط الجنود أفراسهم.

وهذه العبارة أمر صريح إلى المسلمين بأن يكونوا على استعداد دائم لمواجهة الأعداء، وأن يكونوا في حالة تحفّز وتيقظ ومراقبة مستمرة لثغور البلاد الإسلامية وحدودها حتى لا يفاجؤا بهجمات العدو المباغتة.

4- «وَاتَّقُوا اللَّهَ»: وهذا بمثابة المظلة الواقية لما سبقها من التعاليم أنّه حثّ على التقوى.

«لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ». وهكذا تختم الآية هذا البرنامح بذكر النتيجة التي تنتظر كل من يطبق هذا البرنامج.

«نهاية تفسير سورة آل عمران»

مختصر الامثل، ج 1، ص: 363

4. سورة النساء

هذه السورة تقع من حيث ترتيب النزول بعد سورة الممتحنة، لأنّ الترتيب الفعلي للسور القرآنية لا يطابق ترتيبها في النزول، بمعنى أنّ

كثيراً من السور التي نزلت في مكة تقع في الترتيب الحاضر في آخر القرآن الكريم وكثيراً من السور التي نزلت في المدينة تقع في أوائل القرآن.

إنّ هذه السورة تعتبر- من حيث عدد الكلمات والأحرف- أطول السور بعد سورة البقرة وتحتوي على (176) آية وتسمّى بسورة النساء نظراً لتضمنها أبحاثاً كثيرة وحديثاً مفصلًا حول أحكام «المرأة» وحقوقها.

محتوى السورة: هذه السورة نزلت في المدينة، بمعنى أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عندما كان مقبلًا على تأسيس حكومة إسلامية وتكوين مجتمع إنساني قويم، نزلت هذه السورة وهي تحمل جملة من القوانين التي لها أثر كبير في إصلاح المجتمع، وإيجاد البيئة الاجتماعية الصالحة النقية. إنّ المواضيع المختلفة التي تحدثت عنها هذه السّورة هي عبارة عن:

1- الدعوة إلى الإيمان والعدالة، وقطع العلاقات الودّية بالأعداء الألداء، والخصوم المعاندين.

2- ذكر بعض قصص الأمم الماضية لأجل التعرف على عواقب المجتمعات غير الصالحة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 364

3- العناية بالمحتاجين إلى الحماية مثل الأيتام، وبيان التعاليم اللازمة لصيانة حقوقهم.

4- قانون الإرث والتوارث بنحو طبيعي وعادل.

5- القوانين المتعلقة بالزواج والبرامج التي تصون العفاف العام.

6- القوانين العامة لحفظ الأموال العامة.

7- التعريف بأعداء المجتمع الإسلامي وتحذير المسلمين منهم.

8- الحكومة الإسلامية ووجوب طاعة قائد هذه الحكومة.

9- أهمية الهجرة ووجوبها.

فضيلة تلاوة هذه السورة: روي في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «من قرأها فكأنّما تصدّق على كل مؤمن ورث ميراثاً، واعطي من الأجر كمن اشترى محرّراً».

ومن البيّن أنّ المقصود في هذه الرواية وأمثالها ليس هو القراءة المجردة، بل تلك القراءة التي تكون مقدمة للفهم والإدراك الذي هو بدوره مقدمة لتطبيق تعاليم هذه السورة في الحياة الفردية والاجتماعية.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي

خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَ بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيراً وَ نِسَاءً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) مكافحة التمييزات والإستثناءات: الخطاب في الآية الاولى من هذه السورة موجّه إلى كافة أفراد البشر، لأنّ محتويات هذه السورة نفس الامور التي يحتاج إليها كل أفراد البشر في حياتهم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ».

ثم إنّ الآية تدعو إلى التقوى باعتبارها أساساً لأيّ برنامج إصلاحي للمجتمع، فاداء الحقوق والتقسيم العادل للثروة، وحماية الأيتام، ورعاية الحقوق العائلية، وما شابه ذلك كلها من الامور التي لا تتحقق بدون التقوى، ولهذا تفتتح هذه السورة- التي تحتوي على جميع هذه الامور- بالدعوة إلى التزام التقوى: «اتَّقُوا رَبَّكُمُ».

وللتعريف باللَّه الذي يراقب كل أعمال الإنسان وتصرفاته اشير في الآية إلى واحدة من صفاته التي تعتبر أساساً للوحدة الاجتماعية في عالم البشر: «الَّذِى خَلَقَكُم مّن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ». والمراد من «نفس واحدة» هو أوّل إنسان قد سمّاه القرآن الكريم ب «آدم» ويعتبره أبا البشر.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 365

ثم إنّ قوله تعالى: «وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا». والمراد منها هو أنّ اللَّه سبحانه خلق زوجة آدم من جنسه (أي جنس البشر).

ووفقاً لرواية منقولة عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام أنّه كذّب بشدة فكرة خلق حواء من ضلع آدم، وصرح بأنّه خلقت من فضل الطينة التي خلق منها آدم.

قال سبحانه: «وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً». هذه العبارة يستفاد منها أنّ انتشار نسل آدم، وتكاثره قد تمّ عن طريق آدم وحواء فقط، أي بدون أن يكون للموجود الثالث أي دخالة في ذلك.

إنّ أهمية التقوى، ودورها في بناء قاعدة المجتمع الصالح سببت في أن تذكر مجدداً في نهاية الآية الحاضرة، وأن يدعو سبحانه

الناس إلى التزام التقوى، غاية الأمر أنّه تعالى أضاف إليها جملة اخرى إذ قال: «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى تَسَاءَلُونَ بِهِ». أي اتقوا اللَّه الذي هو عندكم عظيم، وتذكرون اسمه عندما تطلبون حقوقكم وحوائجكم فيما بينكم.

ثم إنّه يقول: «وَالْأَرْحَامَ». ومعناها: واتقوا الأرحام ولا تقطعوا صلاتكم بهم.

إنّ ذكر هذا الموضوع هنا يدلّ على الأهمية الفائقة التي يعطيها القرآن الكريم لمسألة الرحم.

ثم يختم الآية بقوله: «إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا». أي إنّه يحصي عليكم نيّاتكم وأعمالكم، ويعلم بها ويراها جميعاً، كما أنّه هو الذي يحفظكم أمام الحوادث.

والرقيب أصله من الترقب وهو الإنتظار من مكان مرتفع، ثم استعمل بمعنى الحافظ والحارس لأنّ الحراسة من لوازم الترقب والنظارة.

وَ آتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَ لَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَ لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً (2)

سبب النّزول

في الدر المنثور: إنّ رجلًا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم، فلمّا بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه عنه فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه و آله فنزلت الآية: «وَءَاتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ».

التّفسير

لا ... للخيانة في أموال اليتامى: كثيراً ما يحدث في المجتمعات البشرية أن يفقد أطفال

مختصر الامثل، ج 1، ص: 366

صغار أباءهم بسبب الحوادث والنكبات والكوارث. وفي هذه الآية ثلاثة تعاليم بشأن أموال اليتامى: 1- «وَءَاتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ». أي يجب أن تعطوا اليتامى عند رشدهم أموالهم المودعة عندكم، ويكون تصرفكم في هذه الأموال على نحو تصرف الأمين والناظر والوكيل لا على نحو تصرف المالك.

2- «وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيّبِ». أي لا تأخذوا أموالهم الطيبة وثرواتهم الجيدة وتضعوا بدلها من أموالكم الخبيثة والمغشوشة، وهذا التعليم يهدف إلى المنع مما قد يرتكبه بعض القيّمين على أموال اليتامى من أخذ الجيد من مال اليتيم

والرفيع منه وجعل الخسيس والردى ء مكانه، بحجة أنّ هذا التبديل يضمن مصلحة اليتيم، أو لأنّه لا تفاوت بين ماله والبديل، أو لأنّ بقاء مال اليتيم يؤول إلى التلف والضياع وغير ذلك من الحجج والمعاذير.

3- «وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ». يعني لا تخلطوا أموال اليتامى مع أموالكم بحيث تكون نتيجتها تملّك الجميع، أو أنّ المراد لا تخلطوا الجيد من أموالهم بالردى ء من أموالكم بحيث تكون نتيجتها الإضرار باليتامى وضياع حقوقهم.

ثم إنّه سبحانه، لبيان أهمية هذا الموضوع والتأكيد عليه يختم الآية بقوله: «إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا». «الحوبة»: حقيقتها هي الحاجة التي تحمل صاحبها على إرتكاب الإثم وحيث إنّ العدوان على أموال اليتامى ينشأ- في الأغلب- من الحاجة، أو بحجة الحاجة استعمل القرآن الكريم مكان لفظة الإثم في هذه الآية لفظة «الحوب» للإشارة إلى هذه الحقيقة.

وَ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَ ثُلَاثَ وَ رُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذلِكَ أَدْنَى أَنْ تَعُولُوا (3)

سبب النّزول

لقد نقل لهذه الآية- في تفسير القرطبي- سبب نزول خاص. قيل: هي اليتيمة تكون في حجر وليّها تشاركه في ماله فيعجبه مالها وجمالها فيريد وليّها أن يتزوّجها من غير أن يُسقِط في صداقها فيُعطيها مثل ما يعطيها غيره فنهوا أن ينكحوهنّ إلّاأن يُسقطوا لهنّ ويبلُغوا أعلى سنّتهنّ من الصّداق وامروا أن ينكحوا ما طاب من النساء سِواهنّ.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 367

التّفسير

يقول سبحانه في هذه الآية: «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النّسَاءِ مَثْنَى وَثُلثَ وَرُبعَ». وقد جاء هذه الآية بعد ما جاء في الآية السابقة من الحث على حفظ أموال اليتامى من التلف وعدم التفريط

فيها، فجاءت هذه الآية لتنوه بحق آخر من حقوقهم، وهو هذه المرّة يتعلق باليتيمات خاصة.

يعنى إنّ عليكم أن تنصرفوا عن الزواج باليتيمات تجنباً من الجور عليهن، وأن تتزوجوا بالنساء اللاتي لا تسمح مكانتهنّ الاجتماعية والعائلية بأن تجوروا عليهن، وتظلموهن، ويجوز لكم أن تتزوجوا منهنّ بإثنتين أو ثلاث أو أربع، غاية ما في الأمر حيث إنّ الخطاب هنا موجّه إلى عامة المسلمين، عبر بالمثنى، والثلاث، والرباع فلا شك في أنّ تعدد الزوجات- بالشروط الخاصة- لا يشمل أكثر من أربع نساء.

ثم إنّه سبحانه عقّب على ذلك بقوله: «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً». أي التزوج بأكثر من زوجة إنّما يجوز إذا أمكن مراعاة العدالة الكاملة بينهن، أمّا إذا خفتم أن لا تعدلوا بينهن، فاكتفوا بالزوجة الواحدة لكي لا تجوروا على أحد.

ثم يقول: «أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ». أي: يجوز أن تقتصروا على الإماء اللّاتي تملكونهن بدل الزوجة الثانية لأنهنّ أخفّ شروطاً.

ويقول: «ذلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا». أي: أنّ هذا العمل أحرى بأن يمنع من الظلم والجور، ويحفظكم من العدوان على الآخرين.

وَ آتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4) «النّحلة»: في اللغة تعني العطية؛ و «صدقاتهن»: جمع الصداق وهي بمعنى المهر. والآية الحاضرة التي جاءت بعد البحث المطروح في الآية السابقة حول انتخاب الزوجة تتضمن إشارة إلى إحدى حقوق النساء المسلّمة وتؤكد قائلة: «وَءَاتُوا النّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً». أي:

أعطوا النساء كامل مهرهن الذي هو عطية من اللَّه لهنّ لأجل أن يكون للنساء حقوق أكثر في المجتمع وينجبر بهذا الأمر ما فيهن من ضعف جسمي نِسبي.

ثم بعد أن يأمر اللَّه سبحانه في مطلع الآية بأن تعطى للنساء مهورهن كاملة ودون نقصان حفظاً لحقوقهن، يعمد في

ذيل هذه الآية إلى بيان ما من شأنه إحترام مشاعر كلا الطرفين،

مختصر الامثل، ج 1، ص: 368

ومن شأنه تقوية أواصر الودّ والمحبة والعلاقة القلبية وكسب العواطف إذ يقول: «فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْ ءٍ مّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيًا مَّرِيًا». أي: لو تنازلت الزوجة عن شي ء من المهر ووهبته للزوج عن طيب نفسها جاز للزوج أكل الموهوب له، وإنّما أقرّ الإسلام هذا المبدأ لكيلا تكون البيئة العائلية والحياة الزوجية ميداناً لسلسلة من القوانين والمقررات الجافة، بل يكون مسرحاً للتلاقي العاطفي الإنساني، وتسود في هذه الحياة المحبة جنباً إلى جنب مع المقررات والأحكام الحقوقية المذكورة. الصّداق دعامة إجتماعية للمرأة: لما كانت المرأة- في العصر الجاهلي- لم تحظ بأية قيمة أو مكانة كان الرجل إذا تزوج امرأة ترك أمر صداقها- الذي هو حقها المسلم- إلى أوليائها، فكان أولياؤها يأخذون صداقها، ويعتبرونه حقّاً مسلماً لهم لا لها، وربّما جعلوا التزوج بامرأة صداقاً لإمرأة اخرى، مثل أن يزوج الرجل أخته بشخص على أن يزوج ذلك الشخص أخته بذلك الرجل، وكان هذا هو صداق الزوجتين.

ولقد أبطل الإسلام كل هذه التقاليد والأعراف الظالمة، واعتبر الصداق حقّاً مسلماً خاصاً بالمرأة، وأوصى الرجال مرّات عديدة وفي آيات الكتاب العزيز برعاية هذا الحق للمرأة.

وأمّا تفسير البعض لمسألة المهر بنحو خاطى ء، واعتبار الصداق أنّه من قبيل ثمن المرأة فلا يرتبط بالقوانين الإسلامية، لأنّ الإسلام لا يعطي للصداق الذي يقدمه الرجل إلى المرأة صفة الثمن كما لا يعطي المرأة صفة البضاعة القابلة للبيع والشراء، وأفضل دليل على ذلك هو صيغة عقد الزواج الذي يعتبر فيه الرجل والمرأة كركنين أساسيين في الرابطة الزوجية، في حين يقع الصداق والمهر على هامش هذا العقد، ويعتبر أمراً إضافياً، بدليل صحّة العقد إذا لم

يرد اسم المهر فيه، و ليس كذلك في صيغة البيع والشراء وغير ذلك من المعاملات المالية إذ بدون ذكر الثمن تبطل هذه المعاملات.

من كل ما قيل نستنتج أنّ المهر بمثابة جبران للخسارة اللاحقة بالمرأة، وبمثابة الدعامة القوية التي تساعد على احترام حقوق المرأة، لا أنّه ثمن المرأة، ولعل التعبير بالنّحلة التي هي بمعنى العطية في الآية إشارة إلى هذه النقطة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 369

وَ لَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَ ارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَ اكْسُوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً (5) وَ ابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَ لَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَ بِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَ مَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَ كَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) الآيات الحاضرة تكملة للأبحاث المرتبطة باليتامى، التي مرّت في الآيات السابقة. يقول اللَّه سبحانه: «وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ». بل انتظروا رشدهم ونضجهم في المسائل الاقتصادية لكي لا تتعرض أموالكم للتلف والفناء.

والمراد من السّفه في الآية الحاضرة هو عدم الرشد اللازم في الامور الإقتصادية بحيث لا يستطيع الشخص من تدبير شؤونه الاقتصادية وإصلاح ماله على الوجه الصحيح، ولا يتمكن من ضمان منافعه في المبادلات والمعاملات المالية، ويدل على هذا المعنى ما جاء في الآية الثانية إذ يقول سبحانه: «فَإِن ءَانَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ».

إنّ الآية الحاضرة وإن كانت تبحث حول اليتامى، لكنها تتضمن حكماً كلياً وقانوناً عاماً لجميع الموارد، وهو أنّه لا يجوز لأحد مطلقاً أن يعطي أموال من يتولى أمره، أو ترتبط به حياته بنوع من الإرتباط، إليه إذا كان سفيهاً غير رشيد.

ثم إنّ القرآن الكريم

يصف الأموال المذكورة في مطلع الآية الحاضرة بقوله: «الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا». هو تعبير جميل ورائع جدّاً عن الأموال والثروات، فهي قوام حياة الناس والمجتمع، وبدونها لا يمكن للمجتمع الوقوف على قدميه، فلا يصحّ إعطاؤها إلى السفهاء والمسرفين الذين لا يعرفون إصلاحها.

ومن هذا التعبير نعرف جيداً ما يوليه الإسلام من الاهتمام بالامور والشؤون الاقتصادية والمالية، وعلى العكس نقرأ في الإنجيل الحاضر: «فقال يسوع لتلاميذه: الحق أقول لكم أنّه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السماوات» «1».

______________________________

(1) إنجيل متى الإصحاح/ 19- 23.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 370

في حين يرى الإسلام أنّ الامة الفقيرة لا تستطيع أبداً الوقوف على قدميها. وأنّه لعجيب أن نرى تلك الطائفة بلغت إلى ما بلغت من المراتب في عالمنا الراهن في حقول التقدم الاقتصادي مع ما هم عليه من التعاليم الخاطئة، في حين نعاني من هذا الوضع المأسوي مع ما نملك من التعاليم الحيوية العظيمة. غير أنّه لا داعي للعجب، فهم تركوا تلك الخرافات والأضاليل فوصلوا إلى ما وصلوا، بينما تركنا نحن هذه التعاليم الراقية فوقعنا في هذه الحيرة، والتخلف.

ثم إنّ اللَّه سبحانه يأمر- في شأن اليتامى- بأمرين مهمين هما:

أوّلًا: رزق اليتامى وإكسائهم من أموالهم حتى يبلغوا سنّ الرشد إذ يقول: «وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ».

ثانياً: مخاطبة اليتامى والتكلم معهم بقول طيب ورقيق إذ قال سبحانه: «وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا». وذلك لإزالة ما يشعر به اليتامى من نقصان روحي وعُقد نفسية، ويساعدوا بذلك على ترشيدهم وبلوغهم حد الرشد العقلي، وبهذا يكون بناء شخصية اليتيم وترشيده عقلياً من وظائف الأولياء ومسؤولياتهم أيضاً.

ها هنا تعليم آخر في شأن اليتامى وأموالهم، إذ يقول سبحانه: «وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النّكَاحَ». فإذا بلغوا سنّ الرشد الذي آنستم فيه

قدرتهم على إدارة أموالهم والتصرف فيها بنحو معقول فأعطوهم أموالهم: «فَإِن ءَانَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ» «1».

ثم إنّه سبحانه قال: «وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا». وهو تأكيد آخر للأولياء بأن لا يسلموا الأموال إلى اليتامى قبل أن يكبروا بأن يحافظوا على أموال اليتامى ولا يتلفوها أبداً.

ثم إنّه تعالى يردف هذا التأكيد بقوله: «وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ». وبهذا أذن اللَّه تعالى للأولياء بأن يأخذوا لأنفسهم من أموال اليتامى لقاء ما يتحملون من أتعاب في حفظها، وحراستها، على أن يراعوا جانب العدل والإنصاف فيما يأخذونه بعنوان الاجرة، هذا إذا كان الولي فقيراً، أما إذا كان غنياً فلا يأخذ من مال اليتيم

______________________________

(1) «الإيناس»: بمعنى المشاهدة والرؤية.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 371

شيئاً أبداً.

ثم يقول سبحانه: «فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ». لكي لا يبقى أي مجال للإتهام والتنازع، وهذا هو آخر حكم في شأن الأولياء واليتامى جاء ذكره في هذه الآية.

واعلموا أنّ الحسيب الواقعي هو اللَّه تعالى، والأهم من ذلك هو أنّ حسابكم جميعاً عنده ولا يخفى عليه شي ء أبداً ولا يفوته صغير ولا كبير فإذا بدرت منكم خيانة خفيت على الشهود فإنّه سبحانه سيحصيها عليكم، وسوف يحاسبكم عليها ويؤاخذكم بها: «وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا».

لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَ الْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7)

سبب النّزول

في الدر المنثور عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات ولا الصغار الذكور حتى يدركوا فمات رجل من الأنصار يقال له أوس بن ثابت وترك ابنتين وابنا صغيراً فجاء ابنا عمّه وهما عصبته فأخذا ميراثه كله فقالت امرأته لهما تزوجا بهما وكان

بهما دمامة فأبيا فأتت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالت يا رسول اللَّه توفى أوس وترك ابنا صغيراً وابنتين فجاء ابنا عمه خالد وعرفطة فأخذا ميراثه فقلت لهما تزوجا ابنتيه فأبيا فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ما أدري ما أقول، فنزلت الآية.

التّفسير

خطوة اخرى لحفظ حقوق المرأة: هذه الآية مكملة للأبحاث التي مرّت في الآيات السابقة، لأنّ العرب الجاهليين كانوا- حسب تقاليدهم وأعرافهم الظالمة- يمنعون النساء والصغار من حق الإرث، ولا يسهمون لهم من المواريث، فأبطلت هذه الآية هذا التقليد الخاطى ء الظالم إذ قال سبحانه: «لِلرّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ».

ثم قال سبحانه في ختام هذه الآية بغية التأكيد على الموضوع: «نَصِيبًا مَّفْرُوضًا». حتى يقطع الطريق على كل تشكيك أو ترديد في هذا المجال.

وَ إِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَ الْيَتَامَى وَ الْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً (8)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 372

حكم أخلاقي: نزلت الآية الحاضرة بعد قانون تقسيم الإرث ويتضمن محتوى هذه الآية حكماً أخلاقياً إستحبابياً في شأن طبقات محجوبة عن الإرث بسبب وجود طبقات أقرب منها إلى المورث.

إنّ كلمتي «اليتامى» و «المساكين» وإن ذكرتا بنحو مطلق في هذه الآية، غير أنّ الظاهر هو أنّ المراد منهما هم اليتامى والمساكين من قربى الميت.

ثم إنّه سبحانه يختم هذه الآية بدستور أخلاقي إذ يقول: «وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا». يعني أنّه مضافاً إلى تقديم مساعدة مادية إلى هؤلاء اشفعوا ذلك بموقف أخلاقي واستفيدوا من المعين الإنساني لكسب مودتهم، وحتى لا يبقى في قلوبهم أي شعور عدائي تجاهكم، وهذا الدستور علامة اخرى ودليل آخر على أنّ الأمر بإعطاء شي ء من

الميراث إلى اليتامى والمساكين إنّما هو على نحو الندب لا الوجوب.

وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (9) دعوة إلى العطف على اليتامى: يشير القرآن الكريم- بهدف إثارة مشاعر العطف والإشفاق لدى الناس بالنسبة إلى اليتامى- إلى حقيقة يغفل عنها الناس أحياناً، وتلك الحقيقة هي: إنّ على الإنسان أن يعامل يتامى الآخرين كما يحبّ أن يعامل الناس يتاماه.

وعلى هذا يكون مفهوم قوله سبحانه: «وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ». هو أنّ الذين يخافون على مستقبل أولادهم الصغار عليهم أن يخافوا مغبة الخيانة في شؤون اليتامى ويخافوا مغبة إيذائهم.

وأساساً: إنّ القضايا الإجتماعية تنتقل في شكل سنّة من السنن- من اليوم إلى الغد، ومن الغد إلى المستقبل البعيد، فالذين يُروّجون في المجامع سنّة ظالمة مثل إيذاء اليتامى فإنّ ذلك سيكون سبباً لسريان هذه السنّة على أولادهم وأبنائهم أيضاً، وعلى هذا لا يكون مثل هذا الشخص قد آذى يتامى الآخرين وورثتهم فقط، بل فتح باب الظلم على أولاده ويتاماه أيضاً. لهذا وجب أن يتجنّب أولياء اليتامى مخالفة الأحكام الإلهية، ويتقوا اللَّه في اليتامى ويقولوا لهم قولًا عدلًا موافقاً للشرع والحق، قولًا ممزوجاً بالعواطف الإنسانية والمشاعر

مختصر الامثل، ج 1، ص: 373

الأخوية، لكي يندمل بذلك ما في قلوب اولئك من الجراح، وينجبر ما في أفئدتهم من الكسر، وإلى هذا يشير قوله سبحانه: «فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا».

إنّ هذا التعليم الإسلامي إشارة إلى ناحية نفسية في مجال تربية اليتامى وهي: إنّ حاجة الطفل اليتيم لا تنحصر في الطعام والكساء، بل- مضافاً إلى الرعاية الجسدية- أن يحظى بالرعاية الروحية والعناية العاطفية، وإلّا نشأ قاسياً مهزوماً، عديم الشخصية، بل وحاقداً

خطيراً.

إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) الوجه الحقيقي لأفعال البشر: ابتدأت هذه السورة بعبارات شديدة النكير على من يتصرف في أموال اليتامى تصرفاً غير مشروع وغير صحيح، والآية الحاضرة هي أوضح هذه العبارات. تقول هذه الآية: «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا».

ثم إنّه سبحانه يقول في بيان نتيجة أكل أموال اليتامى: «وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا».

ويستفاد من هذه الآية أنّ لأعمالنا مضافاً إلى وجهها الظاهري وجهاً واقعياً أيضاً، وجهاً مستوراً عنّا في هذه الدنيا، لا نراه بعيوننا هنا، ولكنه يظهر في العالم الآخر، وهذا الأمر هو ما يشكل مسألة تجسم الأعمال المطروحة في المعتقدات الإسلامية.

إنّ القرآن يصرح في هذه الآية بأنّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً وجوراً، وإن كان الوجه الظاهري لفعلهم هذا هو الأكل من الأطعمة اللذيذة الملونة، ولكن الوجه الواقعي لهذه الأغذية هو النار المحرقة الملتهبة، وهذا الوجه هو الذي يظهر ويتجلّى على حقيقته في عالم الآخرة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 374

يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَ إِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَ أَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) وَ لَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ

وَ لَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَ إِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن جابر بن عبداللَّه الأنصاري أنّه قال: مرضت فعادني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فاغمي عليّ، فدعا بماء فتوضأ ثم صبّه عليّ فأفقت، فقلت: يا رسول اللَّه! كيف أصنع في مالي؟ فسكت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فنزلت آية المواريث فيّ.

التّفسير

قال اللَّه تعالى في الآية الاولى من هذه الآيات: «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ». وهو بذلك يشير إلى حكم الطبقة الاولى من الورثة (وهم الأولاد والآباء والامهات).

مختصر الامثل، ج 1، ص: 375

وهذا نوع التأكيد على توريث النساء ومكافحة للعادة الجاهلية المعتدية القاضية بحرمانهن من الإرث والميراث، حرماناً كاملًا.

ثم يقول سبحانه وتعالى: «فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ». أي لو زادت بنات الميت على اثنتين فلهنّ الثلثان أي قسّم الثلثان بينهن.

ثم قال: «وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النّصْفُ». أي لو كانت البنت واحدة ورثت النصف من التركة.

لماذا يرث الرجل ضعف المرأة؟ إذا راجعنا التراث الإسلامي حيث إنّ هذا السؤال نفسه قد طرح منذ بداية الإسلام وخالج بعض الأذهان.

في الكافي: علي بن إبراهيم عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: قلت له: جعلت فداك كيف صار الرجل إذا مات وولده من القرابة سواء ترث النساء نصف

ميراث الرجال وهنّ أضعف من الرجال وأقلّ حيلة؟ فقال: «لأنّ اللَّه عز وجل فضّل الرجال على النساء بدرجة ولأنّ النساء يرجعن عيالًا على الرجال».

وأمّا ميراث الآباء والامهات الذين هم من الطبقة الاولى، وفي مصاف الأبناء أيضاً، فإنّ له كما ذكرت الآية الحاضرة ثلاث حالات هي:

الحالة الاولى: إنّ الشخص المتوفى إن كان له ولد أو أولاد، ورث كل من الأب والام السدس: «وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ».

الحالة الثانية: إن لم يكن للمتوفى ولد، وانحصر ورثته في الأب والام، ورثت الام ثلث ما ترك، يقول سبحانه: «فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمّهِ الثُّلُثُ».

الحالة الثالثة: إذا ترك الميت أباً وامّاً واخوة من أبويه أو من أبيه فقط، ولم يترك أولاداً، ففي مثل هذه الحالة ينزل سهم الام إلى السدس، وذلك لأنّ الأخوة يحجبون الام عن إرث المقدار الزائد عن السدس وإن كانوا لا يرثون، ولهذا يسمى أخوة الميت بالحاجب، وهذا ما يعنيه قول اللَّه سبحانه: «فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمّهِ السُّدُسُ».

ثم إنّ اللَّه سبحانه يقول: «مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ». فلابد من تنفيذ ما أوصى به الميت من تركته، أو أداء ما عليه من دين أوّلًا، ثم تقسيم البقية بين الورثة.

(وقد ذكرنا في باب الوصية أنّ لكل أحد أن يوصي بامور في مجال الثلث الخاص به فقط، فلا يصح أن يوصي بما زاد عن ذلك إلّاأن يأذن الورثة بذلك).

مختصر الامثل، ج 1، ص: 376

ثم قال سبحانه: «ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَاتَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا». وهذه العبارة تفيد أنّ قانون الإرث المذكور قد ارسي على أساس متين من المصالح الواقعية، وأنّ تشخيص هذه المصالح بيد اللَّه.

ولأجل أن يتأكد كل ما ذكر

من الامور ويتخذ صفة القانون الذي لا يحتمل الترديد، ولا يكون فيه للناس أي مجال نقاش، يقول سبحانه: «فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا». وبذلك يقطع الطريق على أي نقاش في مجال القوانين المتعلقة بالأسهم في الإرث.

سهم الأزواج بعضهم من بعض: في الآية السابقة أشير إلى سهم الأولاد والآباء والامهات وفي الآية التي تليها يقول اللَّه سبحانه: «وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ». ويشير سبحانه إلى كيفية إرث الزوجين بعضهما من بعض، فإنّ الزوج يرث نصف ما تتركه الزوجة هذا إذا لم يكن للزوجة ولد، فإن كان لها ولد أو أولاد (ولو من زوج آخر) ورث الزوج ربع ما تتركه فقط، وإلى هذا يشير تعالى في نفس الآية: «فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ».

على أنّ هذا التقسيم يجب أن يتمّ بعد تنفيذ وصايا المتوفاة، أو تسديد ما عليها من ديون كما يقول سبحانه: «مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ».

ويكون لها الربع إن لم يكن للزوج الميت ولد لقوله سبحانه: «وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ».

وأمّا إرث الزوجة مما يتركه الزوج، فإذا كان للزوج أولاد (وإن كانوا من زوجة اخرى) ورثت الزوجة الثمن لقوله سبحانه: «فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم».

على أنّ هذا التقسيم يجب أن يتمّ أيضاً من بعد تنفيذ وصايا الميت أو تسديد ديونه من أصل التركة: «مّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ».

ثم إنّه سبحانه بعد أن يذكر سهم الأزواج بعضهم من بعض، يعمد إلى ذكر أسهم اخوة الميت وأخواته فيقول: «وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَللَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا السُّدُسُ». أي إن مات

رجل ولم يترك إلّاأخاً أو اختاً، أو ماتت امرأة ولم تترك سوى أخ أو اخت، يورث كل منهما السدس من التركة، هذا إذا كان الوارث أخاً واحداً واختاً واحدة.

أمّا إذا كانوا أكثر من واحد ورث الجميع ثلثاً واحداً، أي قسم مجموع الثلث بينهم: «فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِى الثُّلُثِ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 377

ثم أضاف القرآن: «مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ». أي: تكون قسمة الميراث هكذا بعد أن ينفذ الورثة من التركة ما أوصى به المتوفى، أو يسددوا ما عليه من ديون، ثم قال:

«غَيْرَ مُضَارٍّ». أي: فيما إذا لم يكن ما أوصى الميت بصرفه من الميراث وكذا الدين مضرّاً بالورثة.

ثم إنّه سبحانه للتأكيد على هذا الحكم يقول: «وَصِيَّةً مّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ». أي إنّ هذا المطلب وصية من اللَّه يجب أن تحترموها، لأنّه العالم بمصلحتكم وخيركم، فهو أمركم بهذا عن حكمة، كما أنّه تعالى عالم بنيات الأوصياء، هذا مع أنّه تعالى حليم لا يعاقب العصاة فوراً، ولا يأخذهم بظلمهم بسرعة.

تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَ لَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14) قد بدأت الآية الاولى من هاتين الآيتين بالإشارة إلى قوانين الإرث التي مرّت في الآيات السابقة بلفظة «تلك» إذ قال سبحانه: «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ». أي تلك حدود اللَّه التي لا يجوز تجاوزها وتجاهلها لأحد، فإنّ من تعدى هذه الحدود كان عاصياً مذنباً.

ثم بعد الإشارة إلى هذا القسم من حدود اللَّه يقول سبحانه: «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا

الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا». وهو بذلك يشير إلى النتيجة الاخروية للالتزام بحدود اللَّه واحترامها. ثم يصف هذه النتيجة الاخروية بقوله: «وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ». ثم يذكر سبحانه ما يقابل هذا المصير في صورة المعصية، وتجاوز الحدود الإلهية إذ يقول: «وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا».

وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَ اللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَ أَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 378

الآية الاولى- من هاتين الآيتين- تشير إلى جزاء المرأة المحصنة التي تزني. فتقول:

«وَالتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مّنْكُمْ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ». وعلى هذا يكون جزاء المحصنة التي ترتكب الزنا في هذه الآية هو الحبس الأبدي.

ولكنه تعالى أردف هذا الحكم بقوله: «أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا». فإذن لابدّ أن يستمر هذا الحبس في حقهن إلى الأبد حتى يأتي أجلهن، أو يعين لهن قانون جديد من جانب اللَّه سبحانه.

ويستفاد من هذه العبارة أنّ هذا الحكم (أي: الحبس الأبدي للمحصنة الزانية) حكم مؤقت، وحكم آخر في المستقبل (وبعد أن تتهيأ الظروف والأفكار لمثل ذلك).

ثم إنّ اللَّه سبحانه يذكر بعد ذلك حكم الزنا عن غير إحصان إذ يقول: «وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَاذُوهُمَا». ويقصد أنّ الرجل غير المحصن أو المرأة غير المحصنة إن أتيا بفاحشة الزنا فجزاؤهما أن يؤذيا.

إنّ الحكم المذكور في هذه الآية (أي الإيذاء) عقوبة كلية، يمكن أن تكون الآية الثانية من سورة النور التي تذكر أنّ حد الزنا هو (100) جلدة لكل واحد من الزاني والزانية تفسيراً وتوضيحاً لهذه

الآية وتعييناً للحكم الوارد فيها.

ثم إنّ اللَّه سبحانه بعد ذكر هذا الحكم يشير إلى مسألة التوبة والعفو عن مثل هؤلاء العصاة، فيقول: «فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا».

هذا ويستفاد من هذا الحكم- أيضاً- أنّه يجب أن لا يعير العصاة الذين رجعوا إلى جادة الصواب وتابوا وأصلحوا على أفعالهم القبيحة السابقة، وأن لا يلاموا على ذنوبهم الغابرة.

إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ كَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (18)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 379

في الآية السابقة بيّن اللَّه تعالى بصراحة مسألة سقوط العقوبة عن مرتكبي الفاحشة ومعصية الزنا إذا تابوا وأصلحوا، وفي هذه الآية يشير سبحانه إلى شرائط قبول التوبة إذ يقول: «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ».

والمراد من «الجهالة» في الآية المبحوثة هنا هو طغيان الغرائز، وسيطرة الأهواء الجامحة وغلبتها على صوت العقل والإيمان، وفي هذه الصورة وإن لم يفقد المرء العلم بالمعصية، إلّاأنّه حينما يقع تحت تأثير الغرائز الجامحة، ينتفي دور العلم ويفقد مفعوله وأثره، وفقدان العلم لأثره مساو للجهل عملًا.

ثم إنّ اللَّه سبحانه يشير إلى شرط آخر من شروط قبول التوبة إذ يقول: «ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ».

ثم إنّه سبحانه- بعد ذكر شرائط التوبة- يقول: «فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا». مشيراً بذلك إلى نتيجة التوبة التي توفرت فيها الشروط المذكورة.

ثم يقول تعالى: «وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ النَ». وهو إشارة إلى

من لا تقبل توبته.

وأمّا الطائفة الثانية الذين لا تقبل توبتهم فهم الذين يموتون كفاراً، إذ يقول سبحانه:

«وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ». يعني إنّ الذين يتوبون من ذنوبهم حال العافية والإيمان ولكنهم يموتون وهم كفار لا تقبل توبتهم ولا يكون لها أي أثر.

ثم يقول سبحانه في ختام الآية: «أُولئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَ لَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ عَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19)

سبب النّزول

روي في مجمع البيان عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام: «نزلت في الرجل يحبس المرأة عنده، لا حاجة له إليها وينتظر موتها حتى يرثها». أي فيأخذ أموالها من بعد وفاتها.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 380

مختصر الامثل ج 1 419

وعن ابن عباس: نزلت في الرجل تكون تحته امرأة، يكره صحبتها، ولها عليه مهر، فيطول عليها، ويضارّها لتفتدي بالمهر، فنهوا عن ذلك.

التّفسير

الدفاع عن حقوق المرأة: في هذه الآية بالذات تشير إلى بعض العادات الجاهلية المقيتة وحذّر اللَّه سبحانه فيها المسلمين من التورّط بها، وتلك هي:

1- لقد كانت إحدى العادات الظالمة في الجاهلية أنّ الرجل كان يتزوج بالنساء الغنيات ذوات الشرف والمقام اللّاتي لم يكن يحظين بالجمال، ثم كانوا يذرونهن هكذا فلا يطلقونهن، ولا يعاملونهن كالزوجات، بانتظار أن يمتن فيرثوا أموالهن. تقول الآية الحاضرة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَايَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النّسَاءَ كَرْهًا». وبهذا استنكر الإسلام هذه العادة السيئة.

2- فقد كان من عادات الجاهليين المقيتة أيضاً أنّهم كانوا يضغطون على الزوجات بشتى الوسائل والطرق ليتخلين عن مهورهن، ويقبلن بالطلاق، وكانت هذه العادة تتبع إذا كان المهر

ثقيلًا باهظاً، فمنعت الآية الحاضرة من هذا العمل بقولها: «وَلَا تَعْضِلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ». أي: من المهر.

ولكن ثمّة استثناء لهذا الحكم قد اشير إليه في قوله تعالى في نفس الآية: «إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ». و «الفاحشة»: هي أن ترتكب الزوجة الزنا وتخون بذلك زوجها، ففي هذه الحالة يجوز للرجل أن يضغط على زوجته لتتنازل عن مهرها، وتهبه له ويطلقها عند ذلك.

والمقصود من الفاحشة المبينة كل سلوك ناشز مع الزوج.

3- عاشروهن بالمعاشرة الحسنة، وهذا هو الشي ء الذي يوصي به سبحانه الأزواج في هذه الآية بقوله: «وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ». أي: عاشروهن بالعشرة الإنسانية التي تليق بالزوجة والمرأة، ثم عقب على ذلك بقوله: «فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا». إنّ للخير الكثير في الآية الذي يبشّر به الأزواج الذين يدارون زوجاتهم مفهوماً واسعاً، ومن مصاديقه الواضحة الأولاد الصالحون والأبناء الكرام.

وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (20) وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً (21)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 381

سبب النّزول

في تفسير الصافي: كان الرجل إذا أراد جديدة بهت التي تحته بفاحشة حتى يلجأها إلى الإفتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوّج الجديدة فنهوا عن ذلك.

التّفسير

نزلت الآيتان الحاضرتان لتحميا قسماً آخر من حقوق المرأة، فقد جاءت الآية الاولى تقول: «وَإِن أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَيهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيًا».

فهي تخبر المسلمين- إذا عزموا على تطليق الزوجة واختيار زوجة اخرى- أنّه لا يحق لهم أبداً أن يبخسوا من صداق الزوجة الاولى شيئاً أو يستردوا شيئاً من الصداق إذا كانوا

قد سلّموه إلى الزوجة مهما كان مقداره كثيراً وثقيلًا.

ثم إنّ الآية تشير في مقطعها الأخير إلى الاسلوب السائد في العهد الجاهلي حيث كان الرجل يتّهم زوجته بالخيانة الزوجية لحبس الصداق عنها، إذ تقول في استفهام إنكاري:

«أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا». أي: هل تأخذون صداق الزوجة عن طريق بهتهنّ، واتهامهنّ بالفاحشة، وهو إثم واضح ومعصية بيّنة، وهذا يعني أنّ أصل حبس الصداق عن الزوجة ظلم ومعصية، والتوسل لذلك بمثل هذه الوسيلة الأثيمة معصية اخرى واضحة، وظلم آخر بيّن.

ثم أضاف سبحانه بهدف تحريك العواطف الإنسانية لدى الرجال بأنّه كيف يحق لكم ذلك، وقد عشتم مع الزوجة الاولى زمناً طويلًا، وكانت لكم معهن حياة مشتركة، واختليتم بهن واستمتع كل واحد منكما بالآخر كما لو كنتما روحاً واحدة في جسمين، أفبعد ما كانت بينكما هذه العلاقة الزوجية الحميمة يحق لكم- أيّها الأزواج- أن تبخسوا حق الزوجة الاولى؟ وقد لخصّ سبحانه كل هذه بقوله: «وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ» «1». أفيصح أن تفعلوا ذلك وكأنّكما غريبان لا رباط بينكما ولا علاقة؟

ثم إنّه سبحانه تعالى: «وَأَخَذْنَ مِنكُم مّيثَاقًا غَلِيظًا». أي: كيف تبخسون الزوجة حقها في الصداق وقد أخذت منكم- لدى عقد الزواج بينكما- ميثاقاً غليظاً وعهداً موثقاً بأن

______________________________

(1) «الإفضاء»: أصله من الفضاء، وهو السعة، وبذلك يكون معنى الإفضاء إيجاد السعة، لأنّ الإنسان بسبب الإتصال والتعايش مع شخص آخر يكون وكأنّه وسع دائرة وجوده، ولهذا استعمل الإفضاء بمعنى الملامسة والإتّصال.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 382

تؤدوا إليهن حقوقهن كاملة، فكيف تتنكرون لهذا الميثاق المقدس وهذا العهد المأخوذ منكم حالة العقد؟

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: توفي أبو قيس وكان من صالحي الأنصار، فخطب ابنه قيس امرأة أبيه، فقالت: إنّي أعدك ولداً وأنت

من صالحي قومك، ولكني آتي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأستأمره فأتته فأخبرته، فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «ارجعي إلى بيتك». فأنزل اللَّه هذه الآية.

التّفسير

هذه الآية تبطل عادة سيئة من العادات الجاهلية المقيتة فتقول: «وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُم مّنَ النّسَاءِ». أي لا تنكحوا زوجة أبيكم.

ولكن بما أنّ القانون لا يشمل ما سبق من الحالات الواقعة قبل نزول القانون عقب سبحانه على ذلك النهي بقوله: «إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ».

ثم إنّه سبحانه لتأكيد هذا النهي يستخدم ثلاث عبارات شديدة حول هذا النوع من الزواج والنكاح إذ يقول أوّلًا: «إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً». ثم يضيف قائلًا: «وَمَقْتًا». أي عملًا منفراً لا تقبله العقول، ولا تستسيغه الطباع البشرية السليمة، بل تمقته وتكرهه، ثم يختم ذلك بقوله: «وَسَاءَ سَبِيلًا». أي أنّها عادة خبيثة وسلوك شائن.

حتى أننا لنقرأ في التاريخ أنّ الناس في الجاهلية كانوا يكرهون هذا النوع من النكاح ويصفونه بالمقت، ويسمّون ما ينتج منه من ولد بالمقيت، أي الأولاد المبغوضين.

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَ بَنَاتُكُمْ وَ أَخَوَاتُكُمْ وَ عَمَّاتُكُمْ وَ خَالاتُكُمْ وَ بَنَاتُ الْأَخِ وَ بَنَاتُ الْأُخْتِ وَ أُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَ أُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَ رَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَ حَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (23)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 383

تحريم الزواج بالمحارم: في هذه الآية أشار سبحانه إلى النساء اللاتي يحرم نكاحهن والزواج بهن، ويمكن أن تنشأ هذه الحرمة من ثلاث طرق أو أسباب وهي:

1- الولادة التي يعبّر عنها بالإرتباط النسبي.

2- الزواج الذي

يعبّر عنه بالإرتباط السببي.

3- الرضاع الذي يعبّر عنه بالإرتباط الرضاعي.

وقد أشار في البداية إلى النساء المحرمات بواسطة النسب وهنّ سبع طوائف إذ يقول:

«حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ». والمراد من «الام» ليس هي التي يتولد منها الإنسان دونما واسطة فقط، بل يشمل الجدّة من ناحية الأب ومن ناحية الام وإن علون، كما أنّ المراد من البنت ليس هو البنت بلا واسطة، بل تشمل بنت البنت وبنت الابن وأولادهما وإن نزلن، وهكذا الحال في الطوائف الخمس الاخرى.

ثم يشير اللَّه سبحانه إلى المحارم الرضاعية وتقول: «وَأُمَّهَاتُكُمُ التِى أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مّنَ الرَّضَاعَةِ».

ثم إنّ اللَّه سبحانه يشير- في المرحلة الأخيرة- إلى الطائفة الثالثة من النسوة اللاتي يحرم الزواج بهن ويذكرهن ضمن عدة عناوين:

1- «وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ». يعني أنّ المرأة بمجرد أن تتزوج برجل ويجري عقد النكاح بينهما تحرم امها وام امها وإن علون على ذلك الرجل.

2- «وَرَبَائِبُكُمُ التِى فِى حُجُورِكُم مّن نِسَائِكُمُ التِى دَخَلْتُم بِهِنَّ». يعني أنّ مجرّد العقد على إمرأة لا يوجب حرمة نكاح بناتها من زوج آخر على زوجها الثاني، بل يشترط أن يدخل بها أيضاً مضافاً على العقد عليها.

ثم يضيف سبحانه لتأكيد هذا المطلب عقيب هذا القسم قائلًا: «فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ». أي: إذا لم تدخلوا بام الرّبيبة جاز لكم نكاح بناتهن.

3- «وَحَلِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلبِكُمْ» «1». والمراد من حلائل، الأبناء زوجاتهم؛ وأمّا

______________________________

(1) «الحلائل»: جمع الحليلة، وهي من مادة حل، وهي بمعنى المحللة، أي المرأة التي تحل للإنسان، أو من مادة حلول بمعنى المرأة التي تسكن مع الرجل في مكان واحد وتكون بينهما علاقة جنسية، لأنّ كل واحد منهما يحل مع الآخر في الفراش.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 384

التعبير ب

«من أصلابكم» فهو لأجل أنّ هذه الآية تبطل عادة من العادات الخاطئة في الجاهلية، حيث كان المتعارف في ذلك العهد أن يتبنى الرجل شخصاً ثم يعطي للشخص المتبني كل أحكام الولد الحقيقي، ولهذا كانوا لا يتزوجون بزوجات هذا النوع من الأبناء كما لا يتزوجون بزوجة الولد الحقيقي تماماً، والتبني والأحكام المرتبة عليها لا أساس لها في نظر الإسلام. 4- «وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ». يعني أنّه يحرم الجمع بين الاختين في العقد.

وبما إنّ الزواج باختين في وقت واحد كان عادة جارية في الجاهلية، وكان ثمّة من إرتكبوا هذا العمل فإنّ القرآن عقب على النهي المذكور بقوله: «إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ». يعني أنّ هذا الحكم كالأحكام الاخرى لا يشمل الحالات السابقة، فلا يؤاخذهم اللَّه على هذا الفعل وإن كان يجب عليهم أن يختاروا إحدى الاختين، ويفارقوا الاخرى، بعد نزول هذا الحكم.

ثم إنّ بعض المفسرين احتمل أن تعود جملة «إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ» إلى كل المحارم من النسوة اللّاتي مرّ ذكرهن في مطلع الآية فيكون المعنى: إذا كان قد أقدم أحد في الجاهلية على التزوج بإحدى النساء المحرم عليه نكاحهن لم يشمله حكم تحريم الزواج بهن هذا، وإن وجب عليهم بعد نزول هذه الآية أن يتخلوا عن تلكم النساء، ويفارقوهن.

وتناسب خاتمة هذه الآية أعني قوله سبحانه وتعالى: «إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا» هذا المعنى الأخير.

وَ الْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ أُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) هذه الآية تواصل البحث السابق حول النساء اللاتي

يحرم نكاحهن والزواج بهن

مختصر الامثل، ج 1، ص: 385

وتضيف قائلة: «وَالْمُحْصَنَاتِ مِنَ النّسَاءِ». أي: ويحرم الزواج بالنساء، اللاتي لهن أزواج.

«المحصنات»: جمع المحصنة وهي مشتقة من «الحصن» وقد اطلقت على المرأة ذات الزوج لأنّها بالزواج برجل تكون قد أحصنت فرجها من الفجور، وكذا اطلقت على النساء العفيفات النقيات الجيب، أو اللاتي يعشن في كنف رجل وتحت كفالته وبذلك يحفظن أنفسهن ويحصنها من الفجور والزنا.

نعم يستثنى من هذا الحكم فقط النساء المحصنات الكتابيات اللّاتي أسّرهن المسلمون في الحروب، فقد اعتبر الإسلام أسرهنّ بمثابة الطلاق من أزواجهن، وأذن أن يتزوج بهن المسلمون بعد انقضاء عدتهن «1» أو يتعامل معهن كالإماء كما قال سبحانه: «إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ».

ثم إنّ اللَّه سبحانه أكّد هذه الأحكام الواردة في شأن المحارم من النساء ومن شابههن حيث قال: «كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ». وعلى هذا لا يمكن تغيير هذه الأحكام أو العدول عنها أبداً.

ثم إنّه يشير سبحانه إلى حلية الزواج بغير هذه الطوائف إذ يقول: «وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ». أي إنّه يجوز لكم أن تتزوجوا بغير هذه الطوائف من النساء شريطة أن يتمّ ذلك وفق القوانين الإسلامية وأن يرافق مبادى ء الفقه والطهر ويبتعد عن جادة الفجور والفسق.

وجملة «أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم» إشارة إلى أنّ العلاقة الزوجية إمّا يجب أن تتمّ من خلال الزواج مع دفع صداق ومهر، أو من خلال تملك أمة في لقاء دفع قيمتها.

يقول سبحانه: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً». أي إنّه يجب عليهم دفع أجور النساء اللاتي تستمتعون بهن، وهذا القسم من الآية إشارة إلى مسألة الزواج المؤقت أو ما يسمّى بالمتعة، ويستفاد منها أنّ أصل تشريع الزواج المؤقت كان قطعياً ومسلماً عند المسلمين

قبل نزول هذه الآية، ولهذا يوصي المسلمون في هذه الآية بدفع أجورهن.

ثم إنّ اللَّه سبحانه قال:- بعد ذكر وجوب دفع المهر- «وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ

______________________________

(1) مقدار عدتهن حيضة واحدة أو وضع حملهن إذا كن حبالى.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 386

مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ». وهو بذلك يشير إلى أنّه لا مانع من التغيير في مقدار الصداق إذا تراضى طرفا العقد، ولا فرق في هذا الأمر بين العقد المؤقت والعقد الدائم. ثم إنّ هناك احتمالًا آخر في تفسير الآية أيضاً وهو أنّه لا مانع من أن يقدم الطرفان- بعد انعقاد الزواج المؤقت على تمديد مدة هذا الزواج وكذا التغيير في مقدار المهر برضا الطرفين، وهذا يعني أنّ مدة الزواج المؤقت قابلة للتمديد حتى عند إشرافها على الانتهاء (أي: قبيل انتهائها) بأن يتفق الزوجان أن يضيفا على المدة المتفق عليها في مطلع هذا الزواج، مدة اخرى معينة لقاء إضافة مقدار معين من المال إلى الصداق المتفق عليه أوّلًا (وقد اشير في روايات أهل البيت عليهم السلام إلى هذا التفسير أيضاً).

ثم إنّه سبحانه قال: «إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا». يريد بذلك أنّ الأحكام المذكورة في هذه الآية تتضمن خير البشرية وصلاحها وسعادتها لأنّ اللَّه عليم بمصالحهم، حكيم في ما يقرره لهم من القوانين.

الزواج المؤقت ضرورة إجتماعية: هناك قانون عام وهو أنّ الغريزة الجنسية هي إحدى أقوى الغرائز الإنسانية إلى درجة أنّ بعض المحللين النفسانيين اعتبرها الغريزة الإنسانية الأصيلة التي إليها ترجع بقية الغرائز الاخرى.

فإذا كان الأمر كذلك يُثار سؤال في المقام وهو أنّه قد يكون هناك من لا يمكنه- وفي كثير من الظروف والأحوال- أن يتزوج بالزواج الدائم في سنّ خاص، أو يكون هناك من المتزوجين من سافر

في رحلة طويلة ومهمة بعيدة عن الأهل فيواجه مشكلة الحاجة الجنسية الشديدة التي تتطلب منه التلبية والإرضاء. خاصة وأنّ هذه المسألة قد اتخذت في عصرنا الحاضر الذي أصبح فيه الزواج- بسبب طول مدة الدراسة وبعد زمن التخرج وبعض المسائل الاجتماعية المعقدة التي قلّما يستطيع معها الشباب أن يتزوجوا في سنّ مبكرة، أي في السنّ التي تعتبر فترة الفوران الجنسي لدى كل شاب- اتّخذت صفة أكثر عنفاً وضراوة.

وأنّنا نرى إنّ الزواج الدائم لم يكن لا في السابق ولا في الحاضر بقادر على أن يلبّي كل الاحتياجات الجنسية، ولا أن يحقق رغبات جميع الفئات والطبقات في الناس، فنحن لذلك أمام خيارين لاثالث لهما وهما: إمّا أن نسمح بالفحشاء والبغاء ونعترف به (كما هو الحال في المجتمعات المادية اليوم حيث سمحوا بالبغاء بصورة قانونية) أو أن نعالج المسألة عن طريق

مختصر الامثل، ج 1، ص: 387

الزواج المؤقت (المتعة) فما هو يا ترى جواب الذين يعارضون فكرة البغاء، وفكرة المتعة، على هذا السؤال الملح؟

إنّ اطروحة الزواج المؤقت (المتعة) ليست مقيدة بشرائط النكاح الدائم لكي يقال بأنّها لا تنسجم ولا تتلاءم مع عدم القدرة المالية، أو لا تتلاءم مع ظروف الدراسة، كما لا تنطوي على اضرار الفحشاء والبغاء ومفاسده وويلاته.

وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَ لَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) التزوج بالإماء: تعقيباً على الأبحاث السابقة المتعلقة

بالزواج نزلت هذه الآية تبيّن شروط التزويج بالإماء، فتقول أوّلًا: «وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ» «1». أي من لم يجد قدرة مالية على أن يتزوج بالحرائر من النساء المؤمنات، وليس لديه ما يقدر على مهرهنّ ونفقتهن، فإنّ له أن يتزوج مما ملكت أيمانكم من الإماء، فإنّ مهورهن أقل، ومؤنتهن أخفّ عادة.

على أنّ المراد من الأمة هنا هي أمة الغير.

كما أنّ التعبير ب «المؤمنات» في الآية يستفاد منه أنّه يجب أن تكون «الأمة» التي يراد نكاحها مسلمة حتى يجوز التزوج بها، وعلى هذا لا يصح التزوج بالإماء الكتابيات.

ثم إنّ اللَّه سبحانه عقّب على هذا الحكم بقوله: «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم». ويريد بذلك

______________________________

(1) «الطول»: على وزن «نوع» مأخوذ من الطول (على وزن النور) بمعنى القدرة والإمكانية المالية وما شابه ذلك.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 388

أنّكم لستم مكلفين- في تشخيص إيمان الإماء- إلّابالظاهر، وأمّا الباطن فاللَّه هو الذي يعلم ذلك، فهو وحده العالم بالسرائر، والمطلع على الضمائر.

وحيث إنّ البعض كان يكره التزوج بالإماء ويستنكف من نكاحهن قال تعالى:

«بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ». أي إنّكم جميعاً من أب واحد، وام واحدة، فإذن يجب أن لا تستنكفوا من التزوج بالإماء اللاتي لا يختلفن من الناحية الإنسانية عنكم.

نعم لابد أن يكون التزوج بالإماء بعد إذن أهلهن وإلّا كان باطلًا، وإلى هذا أشار سبحانه بقوله: «فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ». والتعبير عن المالك بالأهل إنّما هو للإشارة إلى أنّه لا يجوز التعامل مع الإماء على أنّهن متاع أو بضاعة، بل يجب أن يكون التعامل معهن على أنّهن من أعضاء العائلة، فلابد أن يكون تعاملًا إنسانياً كاملًا.

ثم إنّه سبحانه قال: «وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» ومن هذه الجملة يستفاد أنّ

الصداق الذي يعطى لهن يجب أن يكون متناسباً مع شأنهن ومكانتهن، وأن يعطى المهر لهن، يعني أنّ الأمة تكون هي المالكة للصداق.

كما يستفاد من التعبير ب «المعروف» أنّه لا يجوز أن تظلم الإماء في تعيين مقدار المهر، بل هو حقهن الطبيعي الحقيقي الذي يجب أن يعطى إليهن بالقدر المتعارف.

ثم إنّ اللَّه سبحانه ذكر شرطاً آخر من شروط هذا الزواج، وهو أن يختار الرجل للزواج العفائف الطاهرات من الإماء اللائي لم يرتكبن البغاء إذ قال: «مُحْصَنَاتٍ» سواء بصورة علنية «غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ» أو بصورة خفية «وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ». أي أصدقاء وأخلاء في السرّ.

ثم إنّ اللَّه سبحانه قال: «فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصِنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ».

وتتضمن الآية بحثاً حول عقوبة الإماء إذا خرجن عن جادة العفة والطهر، وذلك بعد أن ذكر قبل هذا بعض أحكام الزواج بالإماء، وبعض الأحكام حول حقوقهن.

والحكم المذكور في هذا المجال هو أنّ الإماء إذا زنين فجزاؤهن نصف جزاء الحرائر إذا زنين، أي خمسون جلدة. ثم قال سبحانه معقباً على الحكم السابق: «ذلِكَ لِمَنْ خَشِىَ الْعَنَتَ مِنكُمْ».

«العنت»: على وزن (سند) يقال في الأصل للعظم المجبور- بعد الكسر- إذا أصابه ألم

مختصر الامثل، ج 1، ص: 389

وكسر آخر فهضّه قد أعنته، لأنّ هذا النوع من الكسر مؤلم جدّاً، ولهذا يستعمل في المشاكل الباهظة والأعمال المؤلمة.

ويقصد الكتاب العزيز من العبارة الحاضرة إنّ الزواج بالإماء إنّما يجوز لمن يعاني من ضغط شديد بسبب شدة غلبة الغريزة الجنسية عليه ولم يكن قادراً على التزوج بالحرائر من النساء، وعلى هذا الأساس لا يجوز الزواج بالإماء لغير هذه الطائفة.

ثم عقّب سبحانه على ذلك بقوله: «وَإِن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ». أي إنّ صبركم عن التزوج بالإماء ما استطعتم وما

لم تقعوا في الزنا خير لكم ومن مصلحتكم: «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

أي: يغفر اللَّه لكم ما تقدم منكم بجهل أو غفلة فهو رحيم بكم.

يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَ خُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً (28) بعد أن بيّن اللَّه سبحانه في الآيات السابقة أحكام مختلفة في مجال الزواج، يمكن أن ينقدح سؤال في ذهن البعض وهو: ما المقصود من كل هذه القيود ولماذا الحدود القانونية؟ إنّ الآيات الحاضرة هي إجابة على هذه التساؤلات إذ يقول سبحانه: «يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ». أي إنّ اللَّه يبين لكم الحقائق بواسطة هذه القوانين ويهديكم إلى ما فيه مصالحكم، مع العلم بأنّ هذه الأحكام لا تختص بكم، فقد سار عليها من سبقكم من أهل الحق من الأمم الصالحة، هذا مضافاً إلى أنّ اللَّه تعالى يريد أن يغفر لكم ويعيد عليكم نعمه التي قطعت عنكم بسبب انحرافكم عن جادة الحق، وكل هذا إنّما يكون إذا عُدتم عن طريق الإنحراف الذي سلكتموه في عهد الجاهلية وقبل الإسلام.

«وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ». يعلم بأسرار الأحكام ويشرعها لكم عن حكمة.

ثم إنّ اللَّه سبحانه أكّد ما مرّ بقوله: «وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا». أي إنّ اللَّه يريد بتشريع هذه الأحكام لكم أن يعيد عليكم نعمه التي قطعت ومنعت عنكم بسبب ذنوبكم، وارتكابكم للشهوات، ولكن الذين

مختصر الامثل، ج 1، ص: 390

يريدون الإنسياق وراء الشهوات الغارقين في الآثام والذنوب يريدون لكم أن تنحرفوا

عن طريق السعادة، إنّهم يريدون أن تسايروهم في اتّباع الشهوات وأن تنغمسوا في الآثار انغماساً كاملًا، فهل ترون- والحال هذه- إنّ هذه القيود والحدود الكفيلة بضمان سعادتكم وخيركم ومصلحتكم أفضل لكم، أو الحرية المنفلتة المقرونة بالانحطاط الخلقي، والفساد والسقوط؟ إنّ هذه الآيات تجيب على تساؤل اولئك الأفراد الذين يعيشون في عصرنا الحاضر أيضاً والذين يعترضون على القيود والحدود المفروضة في مجال القضايا الجنسية، وتقول لهم: إنّ الحريات المطلقة المنفلتة ليست أكثر من سراب، وهي لا تنتج سوى الإنحراف الكبير عن مسير السعادة والتكامل الإنساني، وكما توجب التورط في المتاهات والمجاهل، وتستلزم العواقب الشريرة التي يتجسد بعضها في ما نراه بام أعيننا من تبعثر العوائل، ووقوع أنواع الجرائم الجنسية البشعة، وظهور الأمراض التناسلية والآلام الروحية والنفسية المقيتة، ونشوء الأولاد غير الشرعيين حيث يكثر فيهم المجرمون القساة الجناة.

ثم إنّه سبحانه يقول بعد كل هذا: «يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الْانسَانُ ضَعِيفًا».

وهذه الآية إشارة إلى أنّ النقطة التالية وهي أنّ الحكم السابق في مجال حرية التزوج بالإماء بشروط معينة ما هو إلّاتخفيف وتوسعة، ذلك لأنّ الإنسان خلق ضعيفاً، فلابد وهو يواجه طوفان الغرائز المتنوعة الجامحة التي تحاصره وتهجم عليه من كل صوب وحدب أن تطرح عليه طرق ووسائل مشروعة لإرضاء غرائزه ليتمكن من حفظ نفسه من الانحراف والسقوط.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَ لَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْوَاناً وَ ظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَ كَانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) سلامة المجتمع ترتبط بسلامة الإقتصاد: الآية الاولى من هاتين الآيتين تشكل القاعدة الأساسية للقوانين الإسلامية في مجال

المسائل المتعلقة «بالمعاملات والمبادلات المالية» إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً (31)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 391

ولهذا يستدل بها فقهاء الإسلام في جميع أبواب المعاملات والمبادلات المالية. إنّ هذه الآية تخاطب المؤمنين بقولها: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ». وعلى هذا الأساس يندرج تحت هذا العنوان الكلي كل لون من ألوان العدوان، والغش، وجميع المعاملات الربوية، والمعاملات المجهولة الخصوصيات تماماً، وتعاطي البضائع التي لا فائدة فيها بحكم العقلاء، والتجارة بأدوات اللهو والفساد والمعصية وما شاكل ذلك.

إنّ التعبير ب «الأكل» كناية عن كل تصرف، سواء تمّ بصورة الأكل المتعارف أو اللبس، أو السكنى أو غير ذلك، تعبير رائج في اللغة العربية وغير العربية.

ثم إنّ اللَّه سبحانه يقول معقباً على العبارات السابقة: «إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مّنكُمْ».

ثم إنّه تعالى ينهى في ذيل هذه الآية عن قتل الإنسان لنفسه إذ يقول: «وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ». وظاهر هذه الجملة بقرينة قوله: «إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا». النهي عن الانتحار، يعني أنّ اللَّه الرحيم كما لا يرضى بأن تقتلوا أحداً، كذلك لا يسمح لكم ولا يرضى بأن تقتلوا أنفسكم بأيديكم.

ويشير القرآن بذكر هذين الحكمين بصورة متتالية إلى نكتة اجتماعية مهمة، وهي أنّ العلاقات الاقتصادية في المجتمع إذا لم تكن قائمة على أساس صحيح، ولم يتقدم الاقتصاد الاجتماعي في الطريق السليم، ووقع الظلم والتصرف العدواني في أموال الغير أصيب المجتمع بنوع من الإنتحار، وآل الأمر إلى تصاعد حالات الانتحار الفردي مضافاً إلى الانتحار الجماعي الذي هو من آثار الانتحار الفردي ضمناً.

كما حذّر قائلًا: «وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْوَانًا وَظُلمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا» «1». أي إنّ من يعصي هذه الأحكام ويتجاهل هذا التحذير، ويأكل

أموال الآخرين بالباطل ودون استحقاق، أو ينتحر بيديه لم يصبه العذاب الأليم في الدنيا فحسب، بل ستصيبه نار الغضب الإلهي، وهذا أمر هيّن على اللَّه: «وَكَانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا».

______________________________

(1) «الصلي»: يعني في الأصل الإقتراب إلى النار، ويطلق على التدفؤ والإحتراق والإكتواء بالنار أيضاً، وقداستعملت في الآية الحاضرة في معنى الإحتراق بالنار.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 392

هذه الآية تقول بصراحة: «إِن تَجْتَنِبُوا كبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنكُمْ سَيَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا».

ومن هذا التعبير يستفاد أنّ المعاصي والذنوب على قسمين:

القسم الأول: هو ما يسمّيه القرآن الكريم بالمعصية الكبيرة.

والقسم الثاني: وهو ما يسمّيه القرآن الكريم بالسيئة.

وقد عبّر في الآية (32) من سورة النجم ب «اللمم» بدلًا عن السيئة، وفي الآية (49) من سورة الكهف ذلك لفظة «الصغيرة» في مقابل الكبيرة.

إنّ الكبيرة هي كل معصية بالغة الأهمية من وجهة نظر الإسلام، ويمكن أن تكون علامة تلك الأهمية أنّ القرآن لم يكتف بالنهي عنها فقط، بل أردف ذلك بالتهديد بعذاب جهنم، مثل قتل النفس والزنا وأكل الربا وأمثال ذلك.

والصغيرة تبقى صغيرة ما لم تتكرر، هذا مضافاً إلى كونها لا تصدر عن استكبار أو غرور وطغيان.

وَ لَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَ اسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (32)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: إنّ ام سلمة (وهي من أزواج النبي صلى الله عليه و آله) قالت: يا رسول اللَّه! يغزو الرجال ولا تغزو النساء، وإنّما لنا نصف الميراث، فليتنا رجال فنغزو ونبلغ ما يبلغ الرجال. فنزلت الآية.

التّفسير

لقد أوجب التفاوت في سهم الرجال والنساء من الإرث تساؤلًا لدى البعض، ويبدو أنّهم لم

يلتفتوا إلى أنّ هذا التفاوت إنّما هو لأجل أنّ النفقة بكاملها على الرجل، وليس على النساء شي ء من نفقات العائلة، بل نفقة المرأة هي الاخرى مفروضة على الرجل، ولهذا يكون ما تصيبه المرأة ضعف ما يصيبه الرجل من الثروة، ولهذا قال اللَّه تعالى في هذه الآية:

«وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ». لأنّ لكل نوع من أنواع هذا التفضيل

مختصر الامثل، ج 1، ص: 393

والتفاوت أسرار خفية عنكم غير ظاهرة لكم. على أنّه يجب أن لا نتصور خطأ أنّ الآية الحاضرة تشير إلى التفاوت المصطنع الذي برز نتيجة الاستعمار والاستغلال الطبقي.

ولذا عقّب اللَّه سبحانه على الجملة السابقة بقوله: «لِّلرّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنّسَاءِ نَصِيبٌ مّمَّا اكْتَسَبْنَ». أي: لكل من الرجال والنساء نصيب من سعيه وجهده ومكانته سواء كانت مكانة طبيعية (كالتفاوت والفرق بين جنسي الرجل والمرأة) أو غير طبيعية ناشئة عن التفاوت بسبب الجهود الإختيارية.

ثم يقول: «وَاسْئَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ». أي: بدل أن تتمنّوا هذا التفضيل والتفاوت اطلبوا من فضل اللَّه واسألوا من لطفه وكرمه أن يتفضل عليكم من نعمه المتنوعة وتوفيقاته ومثوباته الطيبة لتكونوا- بنتيجة ذلك- سعداء رجالًا ونساء، ومن أي عنصر كنتم، وعلى كل حال اطلبوا واسألوا ما هو خيركم وسعادتكم واقعاً.

«إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمًا». أي: يعلم ما يحتاج إليه نظام المجتمع وما يلزمه من الفروق سواء من الناحية الطبيعية أو الحقوقية، ولهذا لا وجود للظلم والحيف ولا لأي شي ء من التفاوت الظالم والتمييز غير العادل في أفعاله، كما أنّه تعالى خبير بما في بواطن الناس من الأسرار والخفايا والنوايا ويعلم من الذي يتمنّى الأماني الخاطئة في قلبه، ومن يتمنّى الأماني الإيجابية الصحيحة البنّاءة.

وَ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَ

الْأَقْرَبُونَ وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً (33) يعود القرآن مرّة اخرى إلى مسألة الإرث إذ يقول: «وَلِكُلّ جَعَلنَا مَوَالِىَ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ» «1». أي: لكل رجل أو امرأة جعلنا ورثة يرثون مما ترك الوالدان والأقربون الذي يجب أن يقسّم بينهم طبق برنامج خاص.

ثم إنّ اللَّه تعالى يضيف قائلًا: «وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ». أي ادفعوا إلى الذين عقدتم معهم عقداً نصيبهم من الإرث.

______________________________

(1) «الموالي»: جمع مولى، وهي في الأصل من مادة الولاية بمعنى الإتّصال والإرتباط، وتطلق على جميع الأفراد الذين يرتبط بعضهم ببعض بنوع من الإرتباط، غاية ما هناك أنّها تكون في بعض الموارد بمعنى إرتباط الولي مع أتباعه، وأمّا في الآية الحاضرة فتكون بمعنى الورثة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 394

من هم الذين عقد معهم الميثاق، الذين لابد أن يعطوا نصيبهم من الإرث؟

إنّ ما هو أقرب إلى مفهوم الآية هو عقد «ضمان الجريرة» الذي كان رائجاً قبل الإسلام، وهو: «أن يتعاقد شخصان فيما بينهما على أن يتعاونا فيما بينهما بشكل أخوي أن يعين أحدهما الآخر عند المشكلات، وإذا مات أحدهما قبل الآخر ورثه الباقي» ولقد أقرّ الإسلام هذا النوع من التعاقد الأخوي الودّي، ولكنه أكّد على أنّ التوارث بسبب هذا الميثاق إنّما يمكن إذا لم يكن هناك ورثة من طبقات الأقرباء.

ثم ختم سبحانه الآية بقوله: «إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ شَهِيدًا». أي إذا قصّرتم في إعطاء نصيب الورثة ولم تعطوهم حقوقهم كاملة، علم اللَّه بذلك ولم يخف عليه ما فعلتم، لأنّه على كل شي ء شهيد وبكل شي ء عليم.

الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَ بِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا

حَفِظَ اللَّهُ وَ اللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَ اضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً (34) قال اللَّه تعالى في مطلع هذه الآية إلى أنّ العائلة وحدة اجتماعية صغيرة، وهي كالاجتماع الكبير لابد لها من قائد وقائم بأمورها، لأنّ القيادة والقوامة الجماعية التي يشترك فيها الرجل والمرأة معاً، لا معنى لها ولا مفهوم، فلابد أن يستقل الرجل أو المرأة بالقوامة، ويكون «رئيساً» للعائلة، بينما يكون الآخر بمثابة «المعاون» له الذي يعمل تحت إشراف الرئيس.

إنّ القرآن يصرّح- هنا- بأنّ مقام القوامة والقيادة للعائلة لابدّ أن يعطى للرجل إذ تقول: «الرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النّسَاءِ». والمقصود من هذا التعبير هو أن تكون القيادة واحدة ومنظمة تتحمل مسؤولياتها مع أخذ مبدأ الشورى والتشاور بنظر الإعتبار.

إنّ جملة «بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أمْوَالِهِمْ» إشارة أيضاً إلى هذه الحقيقة، لأنّ القسم الأول من هذه الفقرة يقول: إنّ هذه القوامة إنّما هو لأجل التفاوت الذي أوجده اللَّه بين أفراد البشر من ناحية الخلق لمصلحة تقتضيها حياة النوع البشري، بينما يقول في القسم الثاني منها: وأيضاً لأجل أنّ الرجال كلّفوا بالقيام بتعهدات مالية تجاه الزوجات والأولاد في مجال الإنفاق والبذل.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 395

ثم إنّه سبحانه يضيف قائلًا: «فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ». وهذا يعني أنّ النساء بالنسبة إلى الوظائف المناطة إليهن في مجال العائلة على صنفين:

الطائفة الأولى: وهنّ «الصالحات» أي غير المنحرفات «القانتات» أي الخاضعات تجاه الوظائف العائلية «الحافظات للغيب» اللاتي يحفظن حقوق الأزواج وشؤونهم لا في حضورهم فحسب، بل يحفظنهم في غيبتهم، يعني أنّهن لا يرتكبن أيّة خيانة سواء في مجال المال، أو في المجال الجنسي، أو في مجال

حفظ مكانة الزوج وشأنه الاجتماعي، وأسرار العائلة في غيبته، ويقمن بمسؤولياتهن تجاه الحقوق التي فرضها اللَّه عليهن والتي عبّر عنها في الآية بقوله: «بِمَا حَفَظَ اللَّهُ» خير قيام.

ومن الطبيعي أن يكون الرجال مكلفين باحترام أمثال هذه النسوة، وحفظ حقوقهن، وعدم إضاعتها.

الطائفة الثانية: النسوة اللاتي يتخلفن عن القيام بوظائفهن وواجباتهن، وتبدو عليهن علائم النشوز واماراته فإنّ على الرجال تجاه هذه الطائفة من النساء واجبات لابد من القيام بها مرحلة فمرحلة، وهذه الوظائف هي بالترتيب:

1- الموعظة: إنّ المرحلة الاولى التي على الرجال أن يسلكوها تجاه النساء اللاتي تبدو عليهنّ علائم التمرد والنشوز والعداوة، تتمثل في وعظهن كما قال سبحانه في الآية الحاضرة:

«وَالتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ» «1».

2- الهجر في المضاجع: وتأتي هذه المرحلة إذا لم ينفع الوعظ ولم تنجع النصيحة «وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ». وبهذا الموقف والهجر وعدم المبالاة بالزوجة أظهروا عدم الرضا من الزوجة، لعل هذا الموقف الخفيف يؤثر في أنفسهن.

3- الضرب: وأمّا إذا تجاوزن في عصيانهن، والتمرد على واجباتهن ومسؤولياتهن الحد، ومضين في طريق العناد واللجاج دون أن يرتدعن بالأساليب السابقة، فلا النصيحة تفيد، ولا العظة تنفع، ولا الهجر ينجح، ولم يبق من سبيل إلّااستخدام العنف، فحينئذ يأتي دور الضرب «وَاضْرِبُوهُنَّ». لدفعهن إلى القيام بواجباتهن الزوجية لانحصار الوسيلة في هذه الحالة في استخدام شي ء من العنف، ولهذا سمح الإسلام في مثل هذه الصورة بالضغط عليهن ودفعهن إلى القيام بواجباتهن من خلال العقوبة الجسدية.

______________________________

(1) «النشوز»: من نشز (على وزن نذر) يعني الأرض المرتفعة، ويكنى به هنا عن الطغيان والترفع.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 396

ومن المسلم أنّ أحد هذه الأساليب لو أثر في المرأة الناشزة ودفعها إلى الطاعة، وعادت المرأة إلى القيام بوظائفها الزوجية لم يحق للرجل أن يتعلل على

المرأة، ويعمد إلى إيذائها، ومضايقتها حتى تعود إلى جادة الصواب واستقامت في سلوكها ولهذا عقب سبحانه على ذكر المراحل السابقة بقوله: «فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا».

ثم إنّ اللَّه سبحانه ذكّر الرجال مرّة اخرى في ختام الآية بأن لا يسيئوا استخدام مكانتهم كقيمين على العائلة فيجحفوا في حق أزواجهم، وأن يفكروا في قدرة اللَّه التي هي فوق كل قدرة «إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا».

وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) محكمة الصلح العائلية: في هذه الآية إشارة إلى مسألة ظهور الخلاف والنزاع بين الزوجين، فهي تقول: «وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا» ليتفاوضا ويقربا من أوجه النظر لدى الزوجين. ثم يقول تعالى: «إِن يُرِيدَا إِصْلحًا يُوَفّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا». أي: ينبغي أن يدخل الحكمان المندوبان عن الزوجين في التفاوض بنيّة صالحة ورغبة صادقة في الإصلاح، فإنّهما إن كانا كذلك أعانهما اللَّه ووفق بين الزوجين بسببهما.

ومن أجل تحذير (الحكمين) وحثّهما على استخدام حسن النّية، يقول سبحانه في ختام هذه الآية: «إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا».

إنّ محكمة الصلح العائلية التي أشارت إليها الآية الحاضرة، هي إحدى مبتكرات الإسلام العظيمة، فإنّ هذه المحكمة تمتاز بميزات تفتقر إليها المحاكم الاخرى، من جملتها:

1- إنّه لا يمكن- في البيئة العائلية- العمل بمقياس القوانين الجافة، فهنا يجب حل الخلافات العائلية بالطرق العاطفية حدّ الإمكان، ولهذا يأمر القرآن الكريم أن يكون الحكمان في هذه المحكمة ممن تربطهم بالزوجين رابطة النسب والقرابة ليمكنهما تحريك المشاعر والعواطف باتجاه الإصلاح بين الزوجين، ومن الطبيعي أن تكون هذه الميزة هي ميزة هذا النوع من المحاكم

خاصة دون بقية المحاكم الاخرى.

2- إنّ المدعي والمدعى عليه في المحاكم العادية القضائية مضطرين- تحت طائلة الدفاع عن النفس- أن يكشفا عن كل ما لديهما من الأسرار، ومن المسلم أنّ الزوجين لو كشفا عن

مختصر الامثل، ج 1، ص: 397

الأسرار الزوجية أمام الأجانب والغرباء لجرح كل منهما مشاعر الطرف الآخر، بحيث لو اضطر الزوجان أن يعودا- بحكم المحكمة- إلى البيت لما عادا إلى ما كانا عليه من الصفاء والمحبة السالفة.

3- إنّ الحكمين في المحاكم العادية المتعارفة لا يشعران عادة بالمسؤولية الكاملة في قضايا الخلاف والمنازعات، ولا تهمهما كيفية انتهاء القضية المرفوعة إلى المحكمة، هل يعود الزوجان إلى البيت على وفاق، أو ينفصلا مع طلاق؟

في حين أنّ الأمر في محكمة الصلح العائلية على العكس من ذلك تماماً، فإنّ الحكمين في هذه المحكمة حيث يرتبطان بالزوجين برابطة القرابة، فإنّ لافتراق أو صلح الزوجين أثراً كبيراً في حياة الحكمين من الناحية العاطفية، ومن ناحية المسؤوليات الناشئة عن ذلك، ولهذا فإنّهما يسعيان- جهد إمكانهما- أن يتحقق الصلح والسلام والوفاق والوئام بين الزوجين اللذين يمثلانهما.

4- مضافاً إلى كل ذلك فإنّ مثل هذا المحكمة لا تعاني من أية مشكلات، ولا تحتاج إلى أية ميزانيات باهظة، ولا تعاني من تلك الخسارة والضياع.

وَ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَ بِذِي الْقُرْبَى وَ الْيَتَامَى وَ الْمَسَاكِينِ وَ الْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَ الْجَارِ الْجُنُبِ وَ الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ وَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُوراً (36) الآية الحاضرة تبين سلسلة من الحقوق الإسلامية بما فيها الحقوق الإلهية وحقوق العباد وآداب العشرة مع الناس ويستفاد منها عشرة تعاليم:

1- «وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيًا». إنّ

الآية تدعو الناس قبل أي شي ء إلى عبادة اللَّه والخضوع له وحده، وترك الشرك والوثنية الذي هو أساس كل البرامج والمناهج الإسلامية. إنّ الدعوة إلى التوحيد وعبادة اللَّه وحده تطهر الروح، وتخلص النّية، وتقوي الإرادة، وتشدد من عزيمة الإنسان على الإتيان بأي برنامج مفيد. وحيث إنّ الآية الحاضرة تبيّن سلسلة من الحقوق الإسلامية لذلك فقد أشارت إلى حق اللَّه على الناس قبل أي شي ء وقبل أي حق.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 398

2- «وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا». ثم إنّها تشير إلى حق الوالدين وتوصي بالإحسان إليهما ولا شك أنّ حق الوالدين من القضايا التي يهتمّ بها القرآن الكريم كثيراً، وقلّما حظى موضوع بمثل هذا الإهتمام والعناية، فقد جاءت التوصية بالوالدين بعد الدعوة إلى التوحيد في العبادة في أربعة مواضع في القرآن الكريم.

3- «وَبِذِى الْقُرْبَى . ثم إنّها توصي بالإحسان إلى كل الأقرباء، وهذا الموضوع من المسائل التي يهتم بها القرآن الكريم إهتماماً بالغاً تارة تحت عنوان «صلة الرحم» واخرى بعنوان «الإحسان إلى القُربى».

4- «وَالْيَتَامَى . ثم أشارت إلى حقوق «اليتامى» وأوصت المؤمنين ببرهم والإحسان إليهم، لأنّه يوجد في كل مجتمع أطفال أيتام على أثر الحوادث المختلفة، لا يهدد تناسيهم وإهمالهم وضعهم الخاص فقط، بل الوضع الاجتماعي بصورة عامة، لأنّ الأطفال اليتامى لو تركوا دون ولاية أو حماية ولم ينالوا حاجتهم من المحبة واللطف يتحولون إلى أفراد منفلتين فاسدين، بل أشخاص خطرين جُناة.

وعلى هذا يكون الإحسان إلى اليتامى إحساناً إلى الفرد وإلى المجتمع معاً.

5- «وَالْمَسَاكِينِ». ثم يذكّر سبحانه- في هذه الآية- بحقوق الفقراء والمساكين، لأنّه قد يوجد حتى في المجتمع السليم الذي يسوده العدل من يعاني من نواقص وعاهات تعوقه عن الحركة والنشاط والفعالية، ولا شك أنّ تناسي هؤلاء أمر

يخالف كل الاسس والقيم الإنسانية، فلابد من تقديم العون إليهم، ومعالجة حرمانهم.

6- «وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى . ثم يوصي بالجيران من ذوي القربى، والمراد هو القرب المكاني لا القرب النسبي، لأنّ الجيران الأقربين مكاناً يستحقون احتراماً وحقوقاً أكثر من غيرهم، أو أن يكون المراد الجيران الأقربين إلى الإنسان من الناحية الدينية والاعتقادية.

7- «وَالْجَارِ الْجُنُبِ». ثم إنّها توصي بالجيران البعيدين، والمراد هو البعد المكاني. إنّ لحق الجوار في الإسلام أهمية بالغة إلى درجة أنّنا نقرأ في وصايا الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام المعروفة: «ما زال (رسول اللَّه) يوصي بهم حتى ظننّا أنّه سيورّثهم» «1». (وقد ورد هذا الحديث- في تفسير المنار؛ وتفسير القرطبي- مثل هذا المضمون عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيضاً).

وفي تفسير القرطبي عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «واللَّه لا يؤمن واللَّه لا يؤمن واللَّه لا يؤمن». قيل: يا رسول اللَّه ومَن؟ قال: «الذي لا يأمن جارُه بوائقَه».

______________________________

(1) نهج البلاغة، الرسالة 47.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 399

8- «وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ». ثم أوصت بالرفيق والصاحب، غير أنّه لابد من الإنتباه إلى أنّ ل «الصاحب بالجنب» معنى أوسع من الرفيق والصديق المتعارف، وبهذا الطريق تكون هذه الآية أمراً كلياً وجامعاً بحسن معاشرة كل من يرتبط بالمرء، سواء كان صديقاً واقعياً، أو زميلًا، أو رفيق سفر، أو مراجعاً، أو تلميذاً، أو مشاوراً، أو خادماً.

وقد فسرت لفظة الصاحب بالجنب في بعض الروايات بالزّوجة، ولكن لا يبعد أن يكون هذا من باب بيان أحد المصاديق أيضاً.

9- «وَابْنِ السَّبِيلِ». وأمّا الصنف الآخر الذي أوصت بهم الآية هنا فهم الذين تحدث لهم حاجة السفر وبلاد الغربة، فابن السبيل هو الذي ينقطع في السفر وإن كان يمكن أن يكون متمكّناً ذا

مال في بلده.

10- «وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ». وفي نهاية المطاف توصي هذه الآية بالإحسان إلى العبيد والأرقاء، وبهذا تكون الآية قد بدأت بحق اللَّه، وختمت بحقوق العبيد، لعدم انفصال هذه الحقوق بعضها عن بعض.

ثم إنّه سبحانه يقول في ختام هذه الآية: «إِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا». وهو بذلك يحذر كل من يتمرّد ويعصي أوامر اللَّه، ويتقاعس عن القيام بحقوق أقربائه ووالديه واليتامى والمساكين وابن السبيل والأصدقاء والأصحاب بدافع التكبر بأنّه سيكون معرضاً لسخط اللَّه، وسيحرم من عنايته سبحانه، ولا ريب أنّ من حرم من اللطف الإلهي والعناية الربانية حرم من كل خير وسعادة «1».

الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَ يَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً (37) وَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً (38) وَ مَا ذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَ كَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39)

______________________________

(1) «مختال»: من مادة «خيال» حيث يرى الشخص نفسه بسبب بعض المتخيلات عظيماً و كبيراً، وسمى الخيل خيلًا لأن مشيتة تشبة مشية المتكبر؛ «فخور»: من مادة «فخر» والفرق بينها و بين الاولى أن المختال إشارة إلى تخيلات الكبر فى مجالها الذهنى و الاخرى يراد بها الأعمال الصادرة عن كبر فى المجال الخارجى.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 400

الإنفاق رياءً والإنفاق قربةً: الآية الاولى من هذه الآيات الثلاث تعقيب على الآيات السابقة وإشارة إلى المتكبرين إذ تقول: «الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ». هذا مضافاً إلى أنّهم يسعون دائماً أن يخفوا عن الآخرين ما تفضل اللَّه عليهم به من الخير كيلا يتوقع المجتمع

منهم شيئاً «وَيَكْتُمُونَ مَا ءَاتهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ».

ثم يقول عن نهاية هذا الفرق من الناس وعاقبة أمرهم: «وَاعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا». ولعل السرّ في استخدام هذا التعبير في حق هذه الطائفة هو أنّ «البخل» ينبع في الغالب من الكفر، لأنّ البخلاء لا يمتلكون الإيمان الكامل بالمواهب الربانية المطلقة والوعود الإلهية العظيمة للمحسنين. إنّهم يتصورون أنّ مساعدة الآخرين وتقديم العون إليهم يجرّ إليهم التعاسة والشقاء.

وأمّا الحديث عن الخزي في عذاب هؤلاء، فلأن الجزاء المناسب للتكبر والإستكبار هو العذاب المهين.

ثم إنّ اللَّه سبحانه يذكر صفة اخرى من صفات المتكبرين إذ يقول: «وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْأَخِرِ» إنّهم ينفقون أموالهم لا في سبيل اللَّه وكسب رضاه، بل مراءاة الناس لكسب السمعة وجلب الشهرة والجاه، وبالتالي ليس هدفهم من الإنفاق هو خدمة الناس وكسب رضا اللَّه سبحانه.

إنّ هؤلاء اختاروا الشيطان رفيقاً وقريناً لهم: «وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا». إنّه لن يكون له مصير أفضل من مصير الشيطان، لأنّ منطقهم هو منطق الشيطان، وسلوكهم سلوكه سواء بسواء، إنّه هو الذي يقول لهم: إنّ الإنفاق بإخلاص يوجب الفقر «الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ» «1».

من هذه الآية يستفاد أنّ علاقة «المتكبرين» ب «الشيطان والأعمال الشيطانية» علاقة مستمرة ودائمة لا مؤقتة ولا مرحلية.

وهنا يقول سبحانه وكأنّه يتأسّف على أحوال هذه الطائفة من الناس: «وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ». أي شي ء عليهم لو تركوا هذا السلوك وعادوا إلى جادة الصواب وأنفقوا مما رزقهم اللَّه من الخير والنعمة في سبيل اللَّه، بإخلاص لا

______________________________

(1) سورة البقرة/ 268.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 401

رياء، وكسبوا بذلك رضا اللَّه، وتعرضوا للطفه وعنايته، وأحرزوا سعادة الدنيا والآخرة؟

وعلى كل حال

فإنّ اللَّه يعلم بأعمالهم ونواياهم ويجزيهم بما عملوا: «وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا».

إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) إنّ الآية الحاضرة تقول: إنّ اللَّه لا يظلم قط زنة ذرّة، بل يضاعف الحسنة إذا قام بها أحد، ويعطي من لدنه على ذلك أجراً عظيماً: «إِنَّ اللَّهَ لَايَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا».

«الذّرة»: في الأصل هي النملة الصغيرة التي لا ترى، ولكنّها اطلقت تدريجاً على كل شي ء صغير جدّاً، وتطلق الآن ويراد منها ما يتكون من الإلكترون والبروتون أيضاً. وبما أنّ «مثقال» يعني الثقل، فإنّ التعبير ب «مثقال ذرّة» يعني جسماً في غاية الدقة والصغر.

إنّ هذة الآية تقول للكافرين الذين يبخلون والذين مرّ الحديث عن أحوالهم في الآيات السابقة: إنّ العقوبات التي تصيبكم ما هي إلّاجزاء ما قمتم به من الأعمال، وأنّه لا يصيبكم أي ظلم من جانب اللَّه، بل لو أنّكم تركتم الكفر والبخل وسلكتم طريق اللَّه لنلتم المثوبات العظيمة المضاعفة.

يبقى أن نعرف لماذا لا يظلم اللَّه سبحانه؟ فإنّ السبب فيه واضح، لأنّ الظلم عادة- إمّا ناشى ء عن الجهل، وإمّا ناشى ء عن الحاجة، وإمّا ناشى ء عن نقص نفسي.

ومن كان عالماً بكل شي ء، وكان غنيّاً عن كل شي ء، ولم يكن يعاني من أي نقص، لا يمكن صدور الظلم منه، فهو لا يظلم أساساً، لا أنّه تعالى لا يقدر على الظلم، بل مع قدرته تعالى على الظلم- لا يظلم أبداً لحكمته وعلمه، فهو يضع كل شي ء في عالم الوجود موضعه، ويعامل كل أحد حسب عمله، وطبقاً لسلوكه وسيرته.

فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنَا بِكَ عَلَى هؤُلَاءِ شَهِيداً (41)

يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَ لَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 402

شهود يوم القيامة: تعقيباً على الآيات السابقة التي كانت تدور حول العقوبات والمثوبات المعدّة للعصاة والمطيعين، جاءت هذه الآية تشير إلى مسألة الشهود في يوم القيامة فتقول: «فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هؤُلَاءِ شَهِيدًا». وهكذا يكون نبي كل امّة شهيداً عليها، مضافاً إلى شهادة أعضاء الإنسان وجوارحه، وشهادة الأرض التي عليها عاش، وشهادة ملائكة اللَّه على أعماله وتصرفاته، ويكون نبيّ الإسلام صلى الله عليه و آله وهو آخر أنبياء اللَّه ورسله وأعظمهم، شاهداً على امته أيضاً، فكيف يستطيع العصاة مع هؤلاء الشهود إنكار حقيقة من الحقائق، وتخليص أنفسهم من نتائج أعمالهم.

عندئذ يندم الكفار الذين عارضوا الرسول وعصوه، أي عندما رأوا بام أعينهم تلك المحكمة الإلهية العادلة، وواجهوا الشهود الذين لا يمكن إنكار شهاداتهم، إنّهم يندمون ندماً بالغاً لدرجة أنّهم يتمنون لو أنّهم كانوا تراباً أو سوّوا بالأرض كما يقول القرآن الكريم في الآية الثانية من الآيتين الحاضرتين إذ يقول سبحانه: «يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ».

وقد ورد مثل هذا التعبير في آخر سورة النبأ إذ يقول تعالى: «وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِى كُنْتُ تُرَابًا».

إنّهم في هذه الحالة لا يمكنهم أن ينكروا أية حقيقة واقعة ولا أن يكتموا شيئاً: «وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا» لأنّه لا سبيل إلى الإنكار أو الكتمان مع كل تلكم الشهود.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَ أَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَ لَا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَى تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ

أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً (43) بعض الأحكام الفقهية: تستفاد من الآية الحاضرة عدة أحكام إسلامية هي:

1- بطلان الصلاة في حال السكر: وفلسفة ذلك واضحة، فإنّ الصلاة حديث العبد إلى ربّه ومناجاته ودعاؤه، ولابد أن يتمّ كل هذا في حالة الوعي الكامل، والسكارى أبعد ما يكونون عن هذه الحالة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَقْرَبُوا الصَّلَوةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 403

2- بطلان الصلاة في حال الجنابة: الذي أشير إليه بعبارة «وَلَا جُنُبًا». ثم استثنى سبحانه من هذا الحكم بقوله: «إِلَّا عَابِرِى سَبِيلٍ». أي إذا فقدتم الماء في السفر جاز لكم أن تقيموا الصلاة (شريطة أن تتيمموا كما يجي ء في ذيل الآية).

3- جواز الصلاة أو عبور المسجد بعد الإغتسال: هو المبين بقوله: «حَتَّى تَغْتَسِلُوا».

4- التيمم لذوي الأعذار: ثم تشير الآية إلى حكم التيمم لذوي الأعذار فتقول: «وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ». وفي هذه العبارة من الآية قد اجتمعت كل موارد التيمم، فالمورد الأوّل هو ما إذا كان في استعمال الماء ضرر على البدن، والمورد الآخر هو ما إذا تعذر على الإنسان الحصول على الماء (أم لم يمكن استعماله) وبقوله: «أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لمَسْتُمُ النّسَاءَ». إشارة إلى علل الإحتياج إلى التيمم وأسبابه، ومعناه إذا أحدثتم حدثاً أو جامعتم النساء «فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً». أي لم تقدروا على تحصيل الماء أو استعماله «فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيّبًا».

ثم إنّه سبحانه يبين طريقة التيمم بقوله: «فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ».

وفي ختام الآية يشير إلى حقيقة أنّ الحكم المذكور ضرب من التخفيف عنكم، لأنّ اللَّه كثير الصفح كثير الستر لذنوب عبادة «إِنَّ اللَّهَ كَانَ

عَفُوًّا غَفُورًا».

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَ كَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَ كَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) في هذه الآيات يخاطب اللَّه سبحانه نبيه الكريم بعبارة حاكية عن التعجب والإستغراب قائلًا: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّللَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّوا السَّبِيلَ». أي عجيب أمر هؤلاء الذين اتوا نصيباً من الكتاب السماوي، ولكنهم بدل أن يقوموا بهداية الآخرين وإرشادهم في ضوء ما أوتوا من الهدى، فإنّهم يشترون الضلالة لأنفسهم ويريدون أن تضلّوا أنتم أيضاً.

وبهذا الطريق فإنّ ما نزل لهدايتهم وهداية الآخرين تحوّل إلى وسيلة لضلالهم وإضلال الآخرين بسوء نيّتهم، لأنّهم لم يكونوا أبداً بصدد الحقيقة، بل كانوا ينظرون إلى كل شي ء بمنظار النفاق والحسد والمادية السوداء.

ثم يقول سبحانه: إنّ هؤلاء وإن تظاهروا بمظهر الأصدقاء لكم إلّاأنّهم أعداؤكم

مختصر الامثل، ج 1، ص: 404

الحقيقيون «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ». وأيّة عداوة أشدّ وأكثر من أن يكرهوا هدايتكم ويخالفوا سعادتكم، تارة باللسان وتارة عن طريق إظهار النصح، وثالثة عن طريق الذم، ويجتهدون في تحقيق أهدافهم المشؤومة في كل ظرف وزمان بنحو خاص، وشكل معين.

ولكن لا تخافوا عداوتهم أبداً ولا تستوحشوا لمواقفهم المعادية فلستم وحدكم في الميدان، فكفاكم أنّ اللَّه قائدكم ووليكم وناصركم: «وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا».

مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَ يَقُولُونَ سَمِعْنَا وَ عَصَيْنَا وَ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَ رَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي الدِّينِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَ أَطَعْنَا وَ اسْمَعْ وَ انْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) جانب آخر من أعمال اليهود: تعقيباً

على الآيات السابقة تشرح هذه الآية صفات جماعة من أعداء الإسلام، وتشير إلى جانب من أعمالهم ومواقفهم، فتقول أوّلًا: إنّ أحد أعمال هذه الجماعة هو تحريف الحقائق، وتغيير حقيقة الأوامر الإلهية: «مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ». أي أنّ جماعة من اليهود يحرّفون الكلمات عن مواضعها.

وهذا التحريف قد يكون له جانب لفظي، وقد يكون له جانب معنوي وعملي.

أمّا العبارات اللاحقة فتفيد أنّ المراد من التحريف في المقام هو التحريف اللفظي وتغيير العبارة، لأنّه تعالى يقول بعد هذه الجملة: «وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا». يعني بدل أن يقولوا «سمعنا وأطعنا» يقولون «سمعنا وعصينا».

ثم يشير إلى قسم آخر من أحاديثهم العدائية المزيجة بروح التحدي والصلافة حيث يقول: إنّهم يقولون: «وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ». وبهذا الطريق يتوسل هذا الفريق للحفاظ على جماعة من المغفلين.

جملة «رَاعِنَا» التي معناها «تفقدنا وأمهلنا» وكان المسلمون الصادقون في صدر الإسلام ومطلع الدّعوة المحمّدية يرددونها أمام النّبي صلى الله عليه و آله ليتمكنوا من سماع صوت النبي وكلامه بنحو أفضل، ولكن هذا الفريق من اليهود كانوا يتوسلون بهذه الجملة لإيذاء النبي ويسيئون استخدامها ويكررونها أمام النبي صلى الله عليه و آله وهم يقصدون منها معناها العبري الذي

مختصر الامثل، ج 1، ص: 405

هو «سمعنا غير مسمع» أو «أسمعنا لا سمعت» أو معناه العربي الآخر، وهو ما يرجع إلى الرعونة الذي يعني الحمق «1».

وقد كان هذا كله بهدف إزاحة الحقائق عن محورها الأصلي بألسنتهم والطعن في الدين الحق، والشريعة الحقة: «لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِى الدّينِ».

«وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ». أي: إنّهم إن سلكوا الطريق المستقيم وتركوا كل ذلك اللجاج والعناد، ومعاداة الحق، وسوء الأدب، والجرأة والوقاحة وقالوا: سمعنا كلام اللَّه وأطعنا، فاستمع

إلى كلامنا وأمهلنا لكي ندرك الحقائق إدراكاً كاملًا، لكان ذلك من مصلحتهم، وكان في ذلك منفعتهم، وأكثر انسجاماً وتوافقاً مع العدل والمنطق والعدل والأدب.

«وَلكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا». أي: إنّهم لن يتخلوا عن هذا السلوك الشائن بسرعة، كيف؟ وقد ابتعدوا عن رحمة اللَّه بسبب ما هم عليه من كفر وتمرد وطغيان، وماتت أفئدتهم وتحجّرت بحيث صار من المتعذّر أن تخضع للحق، وأن تحيا من رقدتها بهذه السرعة، اللّهم إلّابعضهم ممن يمتلك فؤاداً طاهراً وعقلًا يقظاً، فهؤلاء هم المستعدون للقبول بالحقائق، والاستماع إلى نداء الحق والإيمان به.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَ كَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) مصير المعاندين: تعقيباً على البحث السابق في الآية المتقدمة حول أهل الكتاب، وجه الخطاب في هذه الإية إليهم أنفسهم، إذ قال سبحانه: «يَا أيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ءَامِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدّقًا لِّمَا مَعَكُم». أي: آمنوا بالقرآن الكريم الذي تجدونه موافقاً لما جاء في كتبكم من العلامات والبشائر.

______________________________

(1) «راعنا»: إذا اخذت مشتقة من مادة الرعى تكون بمعنى فعل الطلب من المراعاة و المراقبة، و بمعنى أمهلنا، و إذا اخذت مشتقة من الرعونة تكون بمعنى «أخذناو اجعلنا حمقى عندك» يقولون ذلك على سبيل الاستهزاء و السب، و لابد من الالتفات إلى أن راعنا على الوجه الأول تكون بدون تشديد النون، و على الوجه الثانى بتشديد النون، و يستفاد من جملة من الراوايات أن اليهود كانوا يتعمدون تشديد النون فى راعنا و مد آخرها.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 406

ثم إنّ اللَّه سبحانه يهددهم بأنّ عليهم أن يخضعوا للحق ويذعنوا له

قبل أن يُصابوا بإحدى عقوبتين: الاولى: أن تنمحي صورهم كاملة، وأن تذهب عنهم جوارحهم وأعضاؤهم التي يرون ويسمعون ويدركون بها الحق، كلها ثم تقلب وجوههم إلى خلف كما يقول سبحانه: «مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا» «1».

والمراد من «الطمس وإعفاء الأثر والرّد على العقب» في الآية الحاضرة هو المحو الفكري والروحي، والتأخر المعنوي.

وأمّا العقوبة الثانية التي هددهم اللَّه بها فهي اللعن والطرد من رحمته تعالى إذ قال: «أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ» «2».

إنّ أهل الكتاب بإصرارهم على مخالفة الحق يسقطون ويتقهقرون أو يهلكون.

ثم إنّ اللَّه يختم هذه الآية بقوله: «وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا» ليؤكّد هذه التهديدات، فإنّه لا توجد قوة في الأرض تستطيع أن تقف في وجه إرادة اللَّه ومشيئته.

إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً (48) أرجى آيات القرآن: الآية الحاضرة تعلن بصراحة أنّ جميع الذنوب والمعاصي قابلة للمغفرة والعفو، إلا «الشرك» فإنّه لا يغفر أبداً، إلّاأن يكف المشرك عن شركه ويتوب ويصير موحداً. «إِنَّ اللَّهَ لَايَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَن يَشَاءُ». إنّ إرتباط هذه الآية بالآيات السابقة إنّما هو من جهة أنّ اليهود والنصارى كانوا بشكل من الاشكال مشركين، كل طائفة بشكل معين، والقرآن ينذرهم- بهذه الآية- بأن يتركوا هذه العقيدة الفاسدة التي لا يشملها العفو والغفران، ثم يبين في خاتمة الآية دليل هذا الأمر إذ يقول:

«وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا» «3».

______________________________

(1) «الطمس»: هو إزالة الأثر بالمحو، مثل أن نهدم بيتاً ثم نزيل أثره بالمرة، ولكنّه يطلق- كناية- على ما فقد أثره وخاصيّته.

(2) أصحاب السبت هم الذين ستأتي قصّتهم

في سورة الأعراف عند تفسير الآيات (163- 166).

(3) «الإفتراء»: مشتقة من مادة «فرى» على وزن (فرد) بمعنى القطع، وحيث إنّ قطع بعض أجزاء الشى ء السالم يفسد ذلك الشي ء ويخربه إستعمل في كل مخالفة، ومن جملة ذلك الشرك والكذب والتهمة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 407

وهذه الآية من الآيات التي تطمئن الموحدين إلى رحمة اللَّه ولطفه، لأنّ في هذه الآية قد بيّن سبحانه إمكان العفو عن جميع المعاصي والذنوب غير الشرك، فهي كما جاء في حديث عن أميرالمؤمنين علي عليه السلام أرجى آيات القرآن الكريم إذ قال: «ما في القرآن آية أرجى عندي من هذه الآية».

أسباب مغفرة الذنوب: إنّه يستفاد من آيات عديدة في القرآن الكريم أنّ وسائل التوصل إلى العفو والمغفرة الإلهية متعددة، ويمكن تلخيصها في خمسة امور:

1- التوبة والعودة إلى اللَّه تعالى، المقرونة بالندم على الذنوب السابقة، والعزم على الإجتناب عن الذنب والمعصية في المستقبل، وجبران وتلافي الأعمال الطالحة السالفة بالأعمال الصالحة.

2- الأعمال الصالحة المهمة جدّاً والتي تسبب العفو عن الأعمال القبيحة.

3- الشفاعة التي مرّ شرحها عند تفسير الآية (48) من سورة البقرة.

4- الإجتناب عن المعاصي الكبيرة الذي يوجب العفو عن المعاصي الصغيرة كما مرّ شرحها عند تفسير الآيتين (31 و 32) من هذه السورة.

5- العفو الإلهي الذي يشمل الأشخاص اللائقين له.

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَ لَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ كَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50)

سبب النّزول

روي أنّ اليهود والنصارى كانوا يرون لأنفسهم اموراً وامتيازات، فهم- كما نرى ذلك في آيات القرآن الكريم عند الحكاية عنهم- كانوا يقولون: «نَحْنُ أَبْنؤُا اللَّهِ».- الآية (18) من سورة المائدة- وربّما قالوا: «لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ

إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى .- الآية (111) من سورة البقرة- فنزلت هذه الآيات تبطل هذه التصورات والمزاعم.

التّفسير

تزكية النفس: قال تعالى في الآية الاولى من الآيتين الحاضرتين: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ

مختصر الامثل، ج 1، ص: 408

يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم» «1». وفي هذه إشارة إلى إحدى الصفات الذميمة التي قد يبتلى بها كثير من الأفراد والشعوب، إنّها صفة مدح الذات وتزكية النفس، وإدعاء الفضيلة لها. ثم يقول سبحانه: «بَلِ اللَّهُ يُزَكّى مَن يَشَاءُ». فهو وحده الذي يمدح الأشخاص ويزكيهم طبقاً لما يتوفر عندهم من مؤهلات وخصال حسنة دون زيادة أو نقصان، وعلى أساس من الحكمة والمشيئة البالغة، وليس اعتباطاً أو عبثاً. ولذلك فهو لا يظلم أحداً مقدار فتيل: «وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا» «2».

وفي الحقيقة أنّ الفضيلة هي ما يعتبرها اللَّه سبحانه فضيلة لا ما يدعيه الإشخاص لأنفسهم انطلاقاً من أنانيتهم، فيظلمون بذلك أنفسهم وغيرهم.

في الآية اللاحقة التفوق العنصري، ويعتبره نوعاً من الكذب على اللَّه والإفتراء عليه سبحانه، ومعصية كبرى وذنباً بيّناً إذ يقول سبحانه: «انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا». أي أنظر كيف أنّ هذه الجماعة بافتعالها لهذه الفضائل وإدعائها لنفسها من ناحية، ونسبتها إلى اللَّه من ناحية اخرى، تكذب على اللَّه، ولو لم يكن لهذه الجماعة أي ذنب إلّاهذا لكفى في عقوبتهم.

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَ مَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قيل، وهو قول أكثر المفسرين: إنّ كعب بن الأشرف خرج مع سبعين راكباً من اليهود إلى مكة، بعد وقعة احد،

ليخالفوا قريشاً على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله

______________________________

(1) «يزكّون»: من مادة «تزكية» بمعنى تطهير، وتأتي أحياناً بمعنى التربية والتنمية، ففي الحقيقة إذا كانت التزكية مقترنة بالعمل فإنّها تعتبر امراً محموداً، وإلّا لو كانت مجرّد إدّعاء وكلام فارغ فهي مذمومة.

(2) «الفتيل»: في اللغة بمعنى الخيط الدقيق الموجود بين شقي نواة التمر، ويأتي كناية عن الأشياء الصغيرة والدقيقة جداً، وأصله من مادة «فتل» بمعنى البرم.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 409

وينقضوا العهد الذي كان بينهم، وبين رسول اللَّه، فنزل كعب على أبي سفيان، فأحسن مثواه، ونزلت اليهود في دور قريش، فقال أهل مكة: إنّكم أهل كتاب ومحمّد صاحب كتاب، فلا نأمن أن يكون هذا مكراً منكم، فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما. ففعل. فذلك قوله «يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ»، ثم قال كعب: يا أهل مكة! ليجي ء منكم ثلاثون ومنّا ثلاثون فنلصق أكبادنا بالكعبة، فنعاهد ربّ البيت لنجهدنّ على قتال محمّد! ففعلوا ذلك. فلمّا فرغوا قال أبو سفيان لكعب: إنّك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن اميّون لا نعلم، فأينا أهدى طريقاً وأقرب إلى الحق، نحن أم محمّد؟

قال كعب: اعرضوا عليّ دينكم، فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجيج الكوماء «1» ونسقيهم الماء، ونقري الضيف، ونفكّ العاني «2»، ونصل الرحم، ونعمر بيت ربّنا، ونطوف به، ونحن أهل الحرم، ومحمّد فارق دين آبائه، وقاطع الرحم، وفارق الحرم، وديننا القديم، ودين محمّد الحديث. فقال كعب: أنتم واللَّه أهدى سبيلًا مما عليه محمّد. فأنزل اللَّه تعالى الآيات.

التّفسير

إنّ الآية الاولى من الآيتين الحاضرتين تعكس صفة اخرى من صفات اليهود الذميمة، وهي أنّهم لأجل الوصول إلى أهدافهم كانوا يداهنون كل جماعة من الجماعات، حتى أنّهم لكي يستقطبوا المشركين سجدوا لأصنامهم، ولهذا يقول

سبحانه في هذه الآية مستغرباً:

«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُتُوا نَصِيبًا مّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ» وهي الأصنام؟

ولكنهم لا يقتنعون بهذا، ولا يقفون عند هذا الحدّ، بل: «وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا سَبِيلًا».

ثم إنّه سبحانه بيّن- في الآية الثانية- مصير أمثال هؤلاء المداهنين قائلًا: «أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا».

إنّ اليهود- كما تقول هذه الآية- لم يحصلوا من مداهنتهم الفاضحة على نتيجة، بل انهزموا في النهاية، وتحققت نبوءة القرآن الكريم في شأنهم.

إنّ الآيات الحاضرة وإن كانت قد نزلت في شأن جماعة خاصة، ولكنها لا تختص بهم حتماً، بل تشمل كل الأشخاص المداهنين المصلحيين (الانتهازيين) الذين يضحّون

______________________________

(1) الكوماء: الناقة العظيمة السنام.

(2) العاني: الأسير.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 410

بشخصيتهم ومكانتهم، بل وإيمانهم ومعتقداتهم في سبيل الوصول إلى مآربهم السافلة وأغراضهم الدنيئة. فإنّ هؤلاء أبعد ما يكونون عن رحمة اللَّه في الدنيا والآخرة، وغالباً مايؤول أمرهم إلى الهزيمة والفشل.

أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَ كَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) في تفسير الآيتين السابقتين قلنا أنّ اليهود عمدوا- لإرضاء الوثنيين في مكة واستقطابهم- إلى الشهادة بأنّ وثنية قريش أفضل من توحيد المسلمين، بل وعمدوا عملياً إلى السجود أمام الأصنام، وفي هذه الآيات يبين سبحانه أنّ حكمهم هذا لا قيمة له لوجهين:

1- إنّ اليهود ليس لهم- من جهة المكانة الاجتماعية- تلك القيمة التي نؤهلهم للقضاء بين الناس والحكم في امورهم، ولم يفوّض الناس إليهم حق الحكم والقضاء بينهم

أبداً ليكون لهم مثل هذا العمل: «أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ».

هذا مضافاً إلى أنّهم لا يمتلكون أيّة قابلية وأهلية للحكومة المادية والمعنوية على الناس، لأنّ روح الاستئثار قد استحكم في كيانهم بقوة إلى درجة أنّهم إذا حصلوا على مثل هذه المكانة لم يعطوا لأحد حقه، بل خصّوا كل شي ء بأنفسهم دون غيرهم «فَإِذًا لَّايُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا» «1».

2- إنّ هذه الأحكام الباطلة ناشئة من حسدهم البغيض للنبي صلى الله عليه و آله وأهل بيته المكرمين، ولهذا تفقد أيّة قيمة، إنّهم إذ خسروا مقام النبوة والحكومة بظلمهم وكفرهم، ولأجل هذا يحاولون بإطلاق تلك الأحكام الباطلة وتلك المزاعم السخيفة أن يخففوا من لهيب الحسد في كيانهم: «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا ءَاتهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ».

ثم إنّ اللَّه سبحانه يقول معقباً على هذا: ولماذا تتعجبون من إعطائنا النبي صلى الله عليه و آله وبني هاشم

______________________________

(1) «النقير»: مشتقة من مادة النقر (وزن فقر) الدق في شي ء بحيث يوجد فيه ثقباً واشتق منه المنقار، وقال بعض: النقير وقبَة صغيرة جدّاً في ظهر النّواة ويضرب به المثل في الشي ء الطفيف.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 411

ذلك المنصب الجليل وذلك المقام الرفيع، وقد أعطاكم اللَّه سبحانه وأعطى ال إبراهيم الكتاب السماوي والعلم والحكمة والملك العريض (مثل ملك موسى وسليمان وداود) ولكنكم- مع الأسف- أسأتم خلافتهم ففقدتم تلكم النعم المادية والمعنوية القيمة بسبب قسوتكم وشروركم: «فَقَدْ ءَاتَيْنَا ءَالَ إِبْرهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا».

في تفسير البرهان عن أبي الصباح قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن قول اللَّه عز وجل «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ ...» فقال: «يا أبا الصباح نحن [واللَّه الناس المحسودون».

ثم قال القرآن الكريم في الآية اللاحقة: «فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ

عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا». أي إنّ من الناس آنذاك من آمن بالكتاب الذي نزل على آل إبراهيم، ومنهم من لم يكتف بعدم الإيمان بذلك الكتاب، بل صدّ الآخرين عن الإيمان وحال دون انتشاره، اولئك كفاهم نار جهنم المشتعلة عذاباً وعقوبة. وسينتهي إلى نفس هذا المصير كل من كفر بالقرآن الكريم الذي نزل على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57) تعقيباً على الآيات السابقة شرحت هاتان الآيتان مصير المؤمنين والكافرين. فالآية الاولى تقول: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَايَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا» «1».

وعلة تبديل الجلود- على الظاهر- هي أنّه عندما تنضج الجلود يخف الإحساس بالألم لدى الإنسان، ولكي لا تتخفف عقوبتها وعذابها وليحس الإنسان بالألم إحساساً كاملًا، تبدل الجلود، وتأتي مكان الجلود الناضجة جلود جديدة، وما هذا إلّانتيجة الإصرار على تجاهل الأوامر الإلهية، ومخالفة الحق والعدل، والإعراض عن طاعة اللَّه.

______________________________

(1) «نصليهم»: من مادة «الصلى» بمعنى الإلقاء فى النار، والإشتواء بالنار، أو التدفؤ بالنار و «نضجت»: من مادة «نضج» بمعنى أدركت شيها و صارت مشوية.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 412

ثم يقول سبحانه في ختام الآية: «إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا». أي إنّه قادر بعزته أن يوقع هذه العقوبات بالعصاة، وأنّه لا يفعل ذلك اعتباطاً، بل عن حكمة وعلى أساس الجزاء على المعصية.

ثم يقول سبحانه في الآية الثانية: «وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ

جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًا ظَلِيلًا» «1».

أي: إنّنا نعد المؤمنين الذين يعملون الصالحات بأنّ ندخلهم جنات تجري من تحت أشجارها الأنهار والسواقي يعيشون فيها حياة خالدة، هذا مضافاً إلى ما يعطون من أزواج مطهرات يستريحون إليهن، ويجدون في كنفهن لذة الروح والجسد، وينعمون تحت ظلال خالدة بدل الظلال الزائلة، لا تؤذيهم الرياح اللافحة كما لا يؤذيهم الزمهرير أبداً.

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَ إِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: إنّ هذه الآية خطاب للنبي صلى الله عليه و آله بردّ مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة حين قبض منه المفتاح يوم فتح كعبة وأراد أن يدفعه إلى العباس، لتكون له الحجابة والسقاية. (والظاهر أنّ العباس أراد أن يستفيد من نفوذ ومكانة ابن أخيه الاجتماعية والسياسية لمصلحته الشخصية) ولكن النبي صلى الله عليه و آله فعل خلاف ذلك، فإنّه بعد ما طهّر الكعبة من الأصنام والأوثان، أمر علياً عليه السلام أن يردّ المفتاح إلى عثمان بن طلحة ففعل ذلك وهو يتلو الآية المبحوثة.

التّفسير

الآية الحاضرة تتضمّن حكماً عامّاً وشاملًا للجميع، فهي تقول بصراحة: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا».

إنّ للأمانة معنى وسيعاً يشمل كل شي ء مادي ومعنوي، ويجب على كل مسلم- بصريح

______________________________

(1) «الظليل»: من مادة «الظل» بمعنى الفي ء، واستعمل هنا للتأكيد، لأنّ معناه الظل المظلل أو الظل الظليل وهو كناية عن غاية الراحة والدعة والرفاه.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 413

هذه الآية- أن لا يخون أحداً في أيّة أمانة دون استثناء، سواء كان صاحب الأمانة مسلماً أو

غير مسلم، وهذا هو إحدى المواد في «الميثاق الاسلامي لحقوق الإنسان» التي يتساوى تجاهها كل أفراد البشر.

ثم إنّه سبحانه يشير- في القسم الثاني من الآية- إلى قانون مهم آخر، وهو مسألة «العدالة في الحكومة» فيقول: «وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ». أي إنّ اللَّه يوصيكم أيضاً أن تلتزموا جانب العدالة في القضاء والحكم بين الناس، فتحكموا بعدل.

ثم قال سبحانه تأكيداً لهذين التعليمين: «إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ».

ثم يقول مؤكّداً ذلك أيضاً: «إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا» فهو يراقب أعمالكم وهو يسمع أحاديثكم ويرى أفعالكم.

إنّ الأمانة لا تنحصر في الأموال التي يودعها الناس- بعضهم عند بعض- بل العلماء في المجتمع هم أيضاً مستأمنون يجب عليهم أن لا يكتموا الحقائق، بل حتى أبناء الإنسان وأولاده أمانات إلهية لدى الآباء والامهات فلا يفرطوا في تربيتهم، ولا يقصروا في تأديبهم وتعليمهم، وإلّا كان ذلك خيانة في الأمانة الإلهية التي أمر اللَّه بأدائها، بل وفوق ذلك كله الوجود الإنساني، فهو وجميع الطاقات المودوعة فيه «أمانات اللَّه» التي يجب على الإنسان أن يجتهد في المحافظة عليها، كما عليه أن يحافظ على صحّة جسمه وسلامة روحه.

في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال لأحد أصحابه: «اعلم أنّ ضارب علي بالسيف وقاتله لو ائتمنني واستنصحني واستشارني ثم قبلت ذلك منه لأدّيت إليه الأمانة».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) هذه الآية وبعض الآيات اللاحقة تبحث عن واحدة من أهم المسائل الإسلامية، ألا وهي مسألة القيادة، وتعيين القادة والمراجع الحقيقيين للمسلمين في مختلف المسائل

الدينية والاجتماعية. فهي تأمر المؤمنين- أوّلًا- بأن يطيعوا اللَّه، ومن البديهي أنّه يجب أن تنتهي جميع الطاعات- عند الفرد المؤمن- إلى طاعة اللَّه سبحانه، وكل قيادة وولاية يجب أن تنبع من ولاية اللَّه سبحانه وذاته المقدّسة تعالى وتكون حسب أمره ومشيئته، لأنّه الحاكم

مختصر الامثل، ج 1، ص: 414

والمالك التكويني لهذا العالم، وكل حاكمية ومالكية يجب أن تكون بإذنه وبأمره: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ». وفي المرحلة الثانية تأمر باتّباع النبي صلى الله عليه و آله وإطاعته، وهو النبي المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ولا ينطلق من الأنا، والنبي الذي هو خليفة اللَّه بين الناس، وكلامه كلام اللَّه، وقد أعطي هذا المقام من جانب اللَّه سبحانه.

وفي المرحلة الثالثة يأمر سبحانه بإطاعة أولي الأمر القائمين من صلب المجتمع الإسلامي، والذين يحفظون للناس أمر دينهم ودنياهم.

من هم أولوا الأمر؟ ذهب جميع مفسّري الشيعة بالإتفاق إلى أنّ المراد من «أولي الأمر» هم الأئمّة المعصومون عليهم السلام الذين انيطت إليهم قيادة الأمة الإسلامية المادية والمعنوية في جميع حقول الحياة من جانب اللَّه سبحانه والنّبي الأكرم صلى الله عليه و آله ولا تشمل غيرهم، اللّهم إلّا الذي يتقلد منصباً من قبلهم، ويتولى أمراً في إدارة المجتمع الإسلامي من جانبهم- فإنّه يجب طاعته أيضاً إذا توفرت فيه شروط معينة، ولا تجب طاعته لكونه من اولي الأمر، بل لكونه نائباً لُاولي الأمر ووكيلًا من قبلهم.

يقول سبحانه في ذيل الآية إلى مسألة التنازع والاختلاف بين المسلمين إذ قال: «فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا». والمراد من الاختلاف والتنازع في العبارة الحاضرة هو الاختلاف والتنازع في الأحكام، لا في المسائل المتعلقة

بجزئيات الحكومة والقيادة الإسلامية، لأنّه في هذه المسائل يجب إطاعة اولي الأمر (كما صرح بذلك في الجملة الاولى من الآية المبحوثة هنا).

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيداً (60)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة. فقال اليهودي أحاكم إلى محمّد؛ لأنّه علم أنّه لا يقبل الرشوة ولا يجور في الحكم. فقال المنافق: لا بل بيني وبينك كعب بن الأشرف؛ لأنّه علم أنّه يأخذ الرشوة، فنزلت الآية.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 415

التّفسير

الآية الحاضرة مكملة للآية السابقة، لأنّ الآية السابقة كانت تدعو المؤمنين إلى طاعة اللَّه والرسول واولي الأمر والتحاكم إلى الكتاب والسنّة، وهذه الآية تنهى عن التحاكم إلى الطاغوت واتّباع أمره وحكمه وتقول: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ».

ثم يضيف القرآن قائلًا: «وَيُرِيدُ الشَّيْطنُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَللًا بَعِيدًا». أي إنّ التحاكم إلى الطاغوت فخّ الشيطان ليضل المؤمنين عن الصراط المستقيم.

وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَ تَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ عِظْهُمْ وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً (63) نتائج حكم الطاغوت: في أعقاب النهي الشديد عن التحاكم إلى الطاغوت وحكام الجور الذي مرّ في الآية السابقة جاءت هذه

الآيات الثلاث تدرس نتائج أمثال هذه الأحكام والأقضية، وما يتمسك به المنافقون لتبرير تحاكمهم إلى الطواغيت وحكام الجور والباطل.

ففي الآية الاولى يقول سبحانه: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا».

إنّ الإصرار على هذا العمل يكشف عن ضعف إيمانهم وروح النفاق فيهم، وإلّا لوجب أن ينتبهوا ويثوبوا إلى رشدهم على دعوة رسول الكريم صلى الله عليه و آله لهم ويعترفوا بخطأهم.

ثم في الآية الثانية يبين هذه الحقيقة، وهي أنّ هولاء المنافقين عندما يتورطون في مصيبة كنتيجة لمواقفهم وأعمالهم، ويواجهون طريقاً مسدودة يعودون إليك عن اضطرار ويأس:

«فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ».

ويحلفون في هذه الحالة أنّ هدفهم من التحاكم إلى الآخرين لم يكن إلّاالإحسان والتوصل إلى الوفاق بين طرفي الدعوي: «يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِن أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 416

ولكن كشف سبحانه في الآية الثالثة النقاب عن وجههم، وأبطل هذه التبريرات الكاذبة وقال: «أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ». ولكنّه سبحانه يأمر نبيّه مع ذلك أن ينصرف عن مجازاتهم وعقوبتهم فيقول: «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ».

ولقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يداري المنافقين ما أمكنه لأجل تظاهرهم بالإسلام، لأنّه كان مأموراً بالتعامل معهم على حسب ظواهرهم، فلم يكن يجازيهم إلّافي بعض الموارد الاستثنائية.

ثم إنّه سبحانه يأمر النبي أن يعظهم، وأن ينفذ إلى قلوبهم بالقول البالغ، والعظة المؤثرة، يذكرهم بنتائج أعمالهم: «وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا».

وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) في الآيات السابقة شجب القرآن الكريم التحاكم إلى حكّام الجور، وفي

هذه الآية يقول سبحانه مؤكداً: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ». أي أنّنا بعثنا الأنبياء ليطاعوا بإذن اللَّه وأمره ولا يخالفهم أحد، لأنّهم كانوا رسل اللَّه وسفراءه كما كانوا رؤساء الحكومة الإلهيّة أيضاً، وعلى هذا يجب على الناس أن يطيعوهم من جهة بيان أحكام اللَّه ومن جهة طريقة تطبيقها، ولا يكتفوا بمجرد ادعاء الإيمان.

يستفاد من عبارة «بِإِذْنِ اللَّهِ» أنّ كل ما عند الأنبياء من اللَّه.

ثم إنّه سبحانه يترك باب التوبة والإنابة- عقيب تلك الآية- مفتوحاً على العصاة والمذنبين، وعلى الذين يراجعون الطواغيت ويتحاكمون إليهم أو يرتكبون معصية بنحو من الأنحاء، ويقول: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا».

إشارة إلى أنّ فائدة الطاعة لأمر اللَّه وأمر الرسول تعود إليكم أنفسكم، وإن مخالفة ذلك نوع من الظلم توقعونه على أنفسكم، لأنّها تحطّم حياتكم المادية، وتوجب تخلفكم

مختصر الامثل، ج 1، ص: 417

وانحطاطكم من الناحية المعنوية.

إنّ هذه الآية تجيب ضمناً على كل الذين يعتبرون التوسل برسول اللَّه أو بالإمام نوعاً من الشرك، لأنّ الآية تصرح بأنّ التوسل بالنبي والاستشفاع به إلى اللَّه، وطلب الاستغفار منه لمغفرة المعاصي، مؤثر وموجب لقبول التوبة وشمول الرحمة الإلهية.

فَلَا وَ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت في الزبير ورجل من الأنصار، خاصمه إلى النبي صلى الله عليه و آله في شراج من الحرة «1»، كانا يسقيان بها النخل كلاهما فقال النبي للزبير: أسق ثم أرسل إلى جارك فغضب الإنصاري وقال: يا رسول اللَّه لئن كان ابن عمّتك! فتلون وجه رسول اللَّه صلى الله عليه

و آله ثم قال للزبير: أسق يا زبير، ثم إحبس الماء، حتى يرجع إلى الجُدُر واستوف حقّك ثم أرسل إلى جارك. وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أشار إلى الزبير برأى فيه السعة له ولخصمه. فلما أحفظ رسول اللَّه، استوعب للزبير حقّه من صريح الحكم.

التّفسير

هذه الآية تكميلًا لما جاء من البحث في الآيات السابقة، ولقد أقسم اللَّه- في هذه الآية- بأنّ الأفراد لا يمكن أن يمتلكوا إيماناً واقعياً إلّاإذا تحاكموا إلى النبي وقضائه، ولم يتحاكموا إلى غيره «فَلَا وَرَبّكَ لَايُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ».

ثم يقول سبحانه: يجب عليهم، أن يتحاكموا إليك فقط، ومضافاً إلى ذلك ليرضوا بما تحكمه، سواءاً كان في صالحهم أو في ضررهم ولا يشعروا بأي حرج في نفوسهم فضلًا عن أن لا يعترضوا، وبالتالي ليسلموا تسليماً.

«ثُمَّ لَايَجِدُوا فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُوا تَسْلِيمًا».

يستفاد من الآية الحاضرة مطلبان مهمان- ضمناً:

______________________________

(1) الشراج جمع الشرجة: وهى مسيل الماء من الحرة إلى السهل. الحرة: أرض ذات حجارة نخرة سود، كأنّهااحرقت بالنار.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 418

1- إنّ الآية إحدى الأدلة على عصمة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله لأنّ الأمر بالتسليم المطلق أمام جميع أحكامه وأوامره قولًا وعملًا، دليل واضح على أنّه صلى الله عليه و آله لا يخطي ء في أحكامه وأقضيته وتعليماته، ولا يتعمّد قول ما يخالف الحق فهو معصوم عن الخطأ، كما هو معصوم عن الذنب أيضاً.

2- إنّ الآية الحاضرة تبطل كل اجتهاد في مقابل النص الوارد عن النبي صلى الله عليه و آله وتنفي شرعية كل رأي شخصي في الموارد التي وصلت إلينا فيها أحكام صريحة من جانب اللَّه تعالى ونبيه صلى الله عليه و آله.

وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنَا

عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَ إِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَ لَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (68) تكميلًا للبحث السابق حول اولئك الذين يشعرون بضيق وحرج تجاه أحكام النبي صلى الله عليه و آله وأقضيته العادلة بعض الأحيان- يشير القرآن هنا إلى بعض التكاليف والفرائض الثقيلة في الامم السالفة فيقول: «وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ». أي إنّنا لم نكلّفهم بأية فريضة شاقة لا تتحمل، ولو أنّنا كنّا نكلّفهم بمثل ما كلّفنا به الامم السابقة (مثل اليهود الذين أمروا بأن يقتل بعضهم البعض الآخر كفارة لما إرتكبوه من عبادة العجل، أو يخرجوا من وطنهم المحبب إليهم لذلك) كيف كانوا يتحملونه؟

إنّهم لم يتحملوا حكماً بسيطاً أصدره النبي في أمر سقي نخلات، ولم يسلموا لهذا القضاء العادل، فكيف ترى يمكنهم أن يقوموا بالمهمات العظيمة والمسؤوليات الجسيمة ويمرّوا بالاختبارات الصعبة بنجاح، فلو أنّنا أمرناهم بأن يقتلوا أنفسهم (أي يقتل بعضهم بعضاً) أو يخرجوا من وطنهم المحبب عندهم لما فعله إلّاقليل منهم.

ثم إنّ اللَّه سبحانه يقول: «وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا». أي لو أنّهم قبلوا نصائح النبي ومواعظه لكان ذلك من مصلحتهم، ولكان سبباً لتقوية اسس الإيمان عندهم.

إنّ اللَّه سبحانه يقول في ختام هذه الآية: «وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا». أي كلّما اجتهد الإنسان في السير في سبيل طاعة اللَّه وتنفيذ أوامره ازدادت استقامته وإزداد ثباته، وهذا يعني أنّ

مختصر الامثل، ج 1، ص: 419

إطاعة الأوامر الإلهية نوع من الرياضة الروحية التي تحصل للإنسان

إلى مرحلة لا يمكن لأية قدرة أن تغلب قدرته أو تخدعه أو تزعزعه.

ثم إنّه سبحانه يبين- في الآية الثانية- الفائدة الثالثة من فوائد التسليم لأوامر اللَّه وطاعته إذ يقول: «وَإِذًا لَّأَتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا». أي إذاً لأعطيناهم- مضافاً إلى ما ذكرناه- أجراً من عندنا عظيماً، لا يعرف منتهاه ولا يدرك مداه.

ثم في آخر آية من هذه الآيات يشير سبحانه إلى رابع نتيجة إذ يقول: «وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا». والمراد من هذه «الهداية» ليس هو الإرشاد إلى أصل الدين، بل المراد الطاف جديدة يمن بها اللَّه سبحانه على مثل هؤلاء العباد الصالحين بعنوان الثواب والهداية الثانوية.

وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَدَاءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَ كَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً (70)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت في ثوبان وكان شديد الحب لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغيّر لونه ونحل جسمه فقال صلى الله عليه و آله: «يا ثوبان! ما غيّر لونك»؟ فقال:

يا رسول اللَّه! ما بي من مرض ولا وجع غير أنّي إذا لم أرك اشتقت إليك حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة فأخاف أنّي لا أراك هناك، لأنّي عرفت أنّك ترفع مع النبيين وإنّى إن أدخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك وإن لم أدخل الجنة فذاك حتى لا أراك أبداً. فنزلت الآية.

ثم قال صلى الله عليه و آله: «والذي نفسي بيده لا يؤمننّ عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه وأبويه وأهله وولده والناس أجمعين». أي: يكون مسلماً لتعاليمي وأوامري، تسليماً كاملًا.

التّفسير

رفقاء الجنة: في هذه الآية

يبين القرآن ميزة اخرى من ميزات من يطيع أوامر اللَّه تعالى والنبي صلى الله عليه و آله ومكملة للميزات التي جاء ذكرها في الآيات السابقة، وهي صحبة الذين أتمّ اللَّه نعمه عليهم ومرافقتهم: «وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم».

وكما أسلفنا في سورة الحمد فإنّ الذين أنعم اللَّه عليهم هم الذين ساروا في الطريق

مختصر الامثل، ج 1، ص: 420

مختصر الامثل ج 1 449

المستقيم ولم يرتكبوا أي خطأ، ولم يكن فيهم أي انحراف. ثم يشير- لدى توضيح هذه الجملة وتحديد من أنعم اللَّه عليهم- إلى أربع طوائف يشكلون الأركان الأربعة لهذا الموضوع وهم:

1- الأنبياء: أي رسل اللَّه تعالى الذين كانوا طليعة السائرين في سبيل هداية الناس ودعوتهم إلى الصراط المستقيم «مِّنَ النَّبِيّينَ».

2- الصادقون: وهم الذين يصدقون في القول ويصدقون إيمانهم بالعمل الصالح، ويثبتون أنّهم ليسوا مجرد أدعياء الإيمان، بل مؤمنون بصدق بأوامر اللَّه وتعاليمه «وَالصّدّيقِينَ».

ومن هذا التعبير يتّضح أنّه ليس بعد مقام النبوة أعلى من مقام الصدق، والصدق هذا لا ينحصر في الصدق في القول فقط، بل هو الصدق في الفعل والعمل ... الصدق في الممارسات والمواقف، وهو لذلك يشمل الأمانة والإخلاص أيضاً، لأنّ الأمانة هي الصدق في العمل كما أنّ الصدق أمانة في القول.

3- الشهداء: الذين قتلوا في سبيل اللَّه وفي سبيل العقيدة الإلهية الطاهرة، أو الذين يشهدون على الناس وأعمالهم في الأخرة «وَالشُّهَدَاءِ».

4- الصالحون: وهم الذين بلغوا بأعمالهم الصالحة والمفيدة وبإتّباع الأنبياء وأوامرهم إلى مراتب عالية ومقامات رفيعة «وَالصَّالِحِينَ».

ومن الواضح البيّن أنّ مسألة مرافقة الصالحين وصحبة الرفقاء الطيبين لها من الأهمية بحيث تعتبر في الآخرة الجزء المكمل للنعم الإلهية الكبرى التي يمنّ اللَّه بها على المطيعين في الجنة، فهم علاوة

على كل ما يحصلون عليه من نعم وميزات سيحظون بمرافقة رفقاء كالأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين.

ثم يبين سبحانه في الآية اللاحقة أهمية هذا الإمتياز الكبير (أي مرافقة تلك الصفوة المختارة) إنّ هذه الهبة من جانب اللَّه، وهو عليم بأحوال عباده ونواياهم ومؤهلاتهم: «ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا». فلا يخطى ء في الإثابة والجزاء.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) الحذر الدائم: «الحذر»: يعني اليقظة والتأهب والترقب لخطر محتمل، كما يعني أحياناً

مختصر الامثل، ج 1، ص: 421

الوسيلة التي يستعان بها لدفع الخطر. أمّا كلمة «ثبات»: فتفيد معنى المجموعات المتفرقة.

والقرآن يخاطب عامة المسلمين في الآية المذكورة أعلاه، ويقدم لهم اثنتين من التعاليم اللازمة لصيانة وجود المسلمين والمجتمع الإسلامي تجاه كل خطر يهدد هذا الوجود. ففي البداية تأمر الآية المؤمنين بالتمسك باليقظة والبقاء في حالة التأهب من أجل مواجهة العدو وتحذرهم من الغفلة عن هذا الامر: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ».

ثم تأمر الآية بالاستفادة من الأساليب والتكتيكات المختلفة في مواجهة العدو، من ذلك الزحف على شكل مجموعات إن تطلب الأمر مثل هذا الأسلوب، أو على شكل جيش موحّد مترابط إن استدعت المواجهة هجوماً شاملًا منسجماً وفي كلتا الحالتين لابد من المواجهة الجماعية «فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا».

الآية الكريمة هذه تشتمل على أمر عام مطلق لجميع المسلمين في كل العصور والأزمنة، ويدعو هذا الأمر المسلمين إلى الالتزام باليقظة والاستعداد الدائم لمواجهة أي طارى ء من جانب الأعداء ولحماية أمن الامة، وذلك عن طريق التحلّي بالاستعداد المادي والمعنوي الدائمين.

وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَ لَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ

تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) بعد صدور الأمر العام إلى المسلمين بالجهاد والاستعداد لمقابلة العدوّ في الآية السابقة تبين هاتان الآيتان موقف المنافقين من الجهاد، وتفضح تذبذبهم، فهم يصرّون على الإمتناع عن المشاركة في صفوف المجاهدين في سبيل اللَّه ... «وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ» «1».

وحين يعود المجاهدون من ميدان القتال أو حين تصل أنباء معاركهم، فإن كان قد أصابهم مكروه في قتالهم يتحدث المنافقون بابتهاج بأنّ اللَّه قد أنعم عليهم نعمة كبيرة إذ لم يشاركوا المجاهدين في ذلك القتال، ويفرحون لعدم حضورهم في مشاهد الحرب الرهيبة

______________________________

(1) «ليبطّئنّ»: من «البطء» في الحركة، وهو فعل لازم ومتعد. أي أنّهم يبطّؤون في حركتهم ويدعون الآخرين إلى البطء، ولعلّ استعمال الفعل في باب التفعيل هنا يعني أنّه متعد فقط، أي إنّهم يدفعون أنفسهم إلى البطء تارةً ويدفعون الآخرين إلى ذلك تارةً اخرى.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 422

«فَإِن أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَىَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا». وحين تصل الأخبار بانتصار المسلمين المجاهدين ونيلهم المغانم، يتبدل موقف هؤلاء المنافقين فتبدو الحسرة عليهم ويظهر الندم على وجوههم، ويشرعون- وكأنّهم غرباء لا تربطهم بالمسلمين أيّة رابطة- بترديد عبارات التأسف: «وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِى كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا».

فالذي يرى الشهادة والقتل في سبيل اللَّه مصيبةً وبلاءً، ويخال النجاة من القتل أو الشهادة في هذه السبيل نعمة إلهية، لا ينظر إلى النصر والفوز إلّامن خلال منظار كسب الغنائم والمتاع المادي لا غير.

فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَ مَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً

(74) إعداد المؤمنين للجهاد: بعد أن أوضحت الآية السابقة إحجام المنافقين عن مشاركة المجاهدين في القتال تتوجه الآية (74) والتي تليها- بلغة مشجعة مشوقة- إلى المؤمنين فتدعوهم إلى الجهاد في سبيل اللَّه. وتوضح الآية في بدايتها أنّ أعباء الجهاد يجب أن تكون على عاتق اولئك النفر الذين باعوا حياتهم الدنيوية المادية الزائلة، مقابل فوزهم بالحياة الاخروية الخالدة: «فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا بِالْأَخِرَةِ». أي أنّ المجاهدون الحقيقيون هم وحدهم المستعدون للدخول في هذه الصفقة.

وتستمر الآية مبيّنة أنّ مصير المجاهدين الحقيقيين الذين باعوا الحياة الدنيا بالآخرة واضح لا يخرج عن حالتين: إمّا النصر على الاعداء، أو الشهادة في سبيل اللَّه، وهم في كلتا الحالتين ينالون الأجر والثواب العظيم من اللَّه تعالى: «وَمَن يُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا». وبديهي أنّ جنوداً كهؤلاء لا يفهمون معنى الهزيمة، فهم يرون النصر إلى جانبهم في الحالتين.

وَ مَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَ النِّسَاءِ وَ الْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَ اجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَ اجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 423

الإستعانة بالعواطف والمشاعر الإنسانية: كانت الآية السابقة تطالب المؤمنين بالجهاد معتمدة على إيمانهم باللَّه واليوم الآخر، وقد اعتمدت أيضاً قضية الربح والخسارة في سياق دعوتها إلى الجهاد، أمّا هذه الآية فتستند في دعوتها الجهادية إلى العواطف والمشاعر الإنسانية وتستثيرها في هذا الإتجاه- فهي تخاطب مشاعر المؤمنين وعواطفهم بعرض ما يتحمله الرجال والنساء والأطفال المضطهدون من عذاب وظلم بين مخالب الطغاة الجبارين، وتطالب المؤمنين- مستثيرة عواطفهم في هذا الإتجاه- عن طريق عرض المشاهد المأساوية التي يعاني

منها المستضعفون وتدعوهم إلى الجهاد في سبيل اللَّه من أجل إنقاذ هؤلاء المظلومين فتقول الآية: «وَمَا لَكُمْ لَاتُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ» «1».

ولأجل إثارة المشاعر أكثر، تنبّه الآية المؤمنين بأنّ المستضعفين المذكورين لكثرة معاناتهم من البطش والارهاب والاضطهاد قد انقطع أملهم في النجاة ويئسوا من كل عون خارجي، فأخذوا يدعون اللَّه لإخراجهم من ذلك المحيط الرهيب المشحون بأنواع البطش والرعب والظلم الفاحش: «الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا».

ويطلب المستضعفون من اللَّه- أيضاً- أن يرسل لهم من يتولى الدفاع عنهم وينجيهم من الظالمين بقولهم: «وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا».

الآية تشير إلى أنّ اللَّه قد استجاب دعاء المستضعفين، فهذه الرسالة الإنسانية الكبرى قد أوكلت إليكم أنتم أيّها المسلمون المخاطبون.

الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً (76) لقد أوضحت الآيات السابقة قضية الجهاد، وأبرزت عناصره والمخاطبين به ودوافعه، وفي هذه الآية نلاحظ أنّها تحث المجاهدين على القتال، وتبيّن أهدافهم، مؤكّدة أنّهم يقاتلون في سبيل اللَّه ولمصلحة عباد اللَّه، وأنّ الكافرين يقاتلون في سبيل الطاغوت المتجبر: «الَّذِينَ

______________________________

(1) إنّ الفرق بين المستضعف والضعيف واضح وجلي، فالضعيف هو من كان معدوم القدرة والقوّة، والمستضعف هو من أصابه الضعف بسبب ظلم وجور الآخرين، سواء كان الاستضعاف فكرياً أم ثقافياً أم كان أخلاقياً أو اقتصادياً أم سياسياً أم اجتماعياً، فالعبارة هنا جامعة شاملة تستوعب جميع أنواع الاستضعاف.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 424

ءَامَنُوا يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ الطَّاغُوتِ». أي إنّ الحياة في كل الأحوال لا تخلو من الكفاح والصراع، غير أنّ جمعاً يقاتلون

في طريق الحق، وجمعاً يقاتلون في طريق الشيطان والباطل. لذلك تطلب الآية من أنصار الحق أن ينبروا لقتال أنصار الشيطان دونما رهبة وخوف:

«فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطنِ».

كما توضح هذه الآية حقيقة مهمة، هي أنّ الطاغوت والقوى المتجبرة- مهما إمتلكت من قوة ظاهرية- ضعيفة في نفسها وجبانة في باطنها، وبهذا تطمئن الآية المؤمنين كي لا يخافوا من هؤلاء الطواغيت، ولأنّهم لا يعتمدون على منشأ القدرة الأزلية الأبدية الذي هو اللَّه العزيز القدير، بل يعتمدون على قدرة الشيطان الضعيفة الجوفاء: «إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطنِ كَانَ ضَعِيفًا».

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَ آتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَ قَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْ لَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَ لَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)

سبب النّزول

في الدر المنثور عن ابن عباس: أنّ عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له أتوا النبي صلى الله عليه و آله فقالوا: يا نبي اللَّه كنا في عز ونحن مشركون فلمّا آمنا صرنا أذلة فقال: إنّى امرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم فلما حوّله اللَّه إلى المدينة أمره اللَّه بالقتال فكفوا فأنزل اللَّه الآية.

التّفسير

قوم بضاعتهم الكلام دون العمل: تتحدث الآية بلغة التعجب من أمر نفر أظهروا رغبة شديدة في الجهاد خلال ظرف غير مناسب، وأصرّوا على السماح لهم بذلك، وقد صدرت الأوامر لهم- حينئذ- بالصبر والاحتمال، ودعوا إلى إقامة الصلاة، وأداء الزكاة، وبعد أن سنحت الفرصة وآتت الظروف للجهاد بصورة كاملة وأمروا به، استولى على هؤلاء النفر الخوف والرعب، وانبروا يعترضون على الأمر الإلهي ويتهاونون في أدائه. تقول الآية: «أَلَمْ

مختصر الامثل، ج 1، ص: 425

تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَءَاتُوا الزَّكَوةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً». فكان هؤلاء في اعتراضهم على أمر الجهاد يقولون صراحة: لماذا أسرع اللَّه في إنزال أمر الجهاد؟ ويتمنون لو أخر اللَّه هذا الأمر ولو قليلًا! أو يطلبون أن يناط أمر الجهاد للأجيال القادمة «1» «وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ».

والقرآن الكريم يردّ على هؤلاء أوّلًا من خلال عبارة: «يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً». أي أنّ هؤلاء بدل أن يخافوا اللَّه القادر القهار، أخذتهم الرّجفة واستولى عليهم الرعب من إنسان ضعيف عاجز، بل أصبح خوفهم من هذا الإنسان أكبر من خشيتهم اللَّه العلي القدير.

ثم يواجه القرآن هؤلاء بهذه الحقيقة: لو أنّهم استطاعوا بعد تركهم الجهاد أن يوفّروا لأنفسهم- فرضاً- حياة قصيرة رغيدة هانئة، فإنّهم سيخسرون هذه الحياة لأنّها زائلة لا محالة، بينما الحياة الأبدية التي وعد اللَّه بها عباده المؤمنين المجاهدين الذين يخشونه ولا يخشون سواه، هي خير من تلك الحياة الزائلة، وإن المتقين سيلقون فيها ثوابهم كاملًا غير منقوص دون أن يصيبهم أي ظلم، «قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْأَخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا».

أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَا لِهؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَ مَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَ أَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) إنّ هاتين الآيتين تقصدان

مجموعة من المنافقين تسللوا إلى صفوف المسلمين، أنّ هؤلاء قد أبدوا الخوف والقلق من المشاركة في مسؤولية الجهاد، وقد ظهر عليهم الضجر والإستياء حين نزول حكم الجهاد، فردّ عليهم القرآن الكريم- في الآية (77) من نفس السورة-

______________________________

(1) تدلّ بعض الأحاديث أنّ هذا النفر من المسلمين كان قد سمع بحديث نهضة المهدي المنتظر، فكان البعض منهم يترقب أن يؤخر الجهاد إلى زمن المهدي عليه السلام. (تفسير نور الثقلين 1/ 518).

مختصر الامثل، ج 1، ص: 426

وأنّبهم لموقفهم هذا بقوله: «قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْأَخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى . وفي هذا المقطع القرآني ردّ آخر على اولئك المنافقين، حيث بيّن أنّ الموت آتيهم يوماً لا محالة، حتى إذا تحصنوا في قلاع عالية ومنيعة بحسب ظنّهم، ومادام الموت يدرك الإنسان بهذه الصورة أليس من الخير له أن يموت على طريق مثمر وصحيح كالجهاد؟!

يشير القرآن في هاتين الآيتين إلى وهم آخر من أوهام المنافقين، حين يوضح أنّ هؤلاء إذا أحرزوا نصراً أو غنموا خيراً قالوا: إنّ اللَّه هو الذي أنعم عليهم بذلك، وزعموا أنّهم أهل لهذه النعمة: «وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ».

أمّا إذا مني هؤلاء بهزيمة أو لحقهم أذى في ميدان القتال، ألقوا اللوم على النبي صلى الله عليه و آله وافتروا عليه بقولهم إنّ ما نالهم من سوء هو من عنده، متهمين خططه العسكرية بالضعف، من ذلك ما حدث في غزوة احد. تقول الآية: «وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِندِكَ».

إنّ القرآن الكريم يردّ على هؤلاء مؤكداً إنّ الإنسان المسلم الموحد الذي يؤمن صادقاً باللَّه ويعبده ولا يعبد سواه، إنّما يعتقد بأنّ كل الوقائع والأحداث والإنتصارات والهزائم هي بيد اللَّه العليم الحكيم، فاللَّه هو الذي يهب الإنسان ما

يستحقه ويعطيه بحسب قيمته الوجودية، وفي هذا المجال تقول الآية: «قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ».

والآية- هذه- تحمل في آخرها تقريعاً وتأنيباً للمنافقين الذين لا يتفكرون ولا يمعنون في حقائق الحياة المختلفة، حيث تقول: «فَمَالِ هؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَايَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا».

وبعد هذا- في الآية التالية- يصرح القرآن بأنّ كل ما يصيب الإنسان من خيرات وفوائد وكل ما يواجهه الكائن البشري من سرور وإنتصار هو من عند اللَّه، وإنّ ما يحصل للإنسان من سوء وضرر وهزيمة أو خسارة فهو بسبب الإنسان نفسه. تقول الآية: «مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ».

وتردّ الآية في آخرها على اولئك الذين كانوا يرون وجود النبي صلى الله عليه و آله سبباً لوقوع الحوادث المؤسفة فيما بينهم فتقول: «وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا».

وحين تنسب الآية الاولى الخير والشر كله للَّه، فإنّ ذلك معناه أنّ مصادر القوة جميعها بيد اللَّه العليم القدير حتى تلك القوّة التي يساء استخدامها، ومن هذا المنطلق تنسب الخير والشر للَّه، لأنّه هو واهب القوى. والآية الثانية: تنسب «السيئات» إلى الناس إنطلاقاً من مفهوم «الجوانب السلبية» للقضية ومن الإساءة في استخدام المواهب الإلهية.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 427

مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَ مَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) وَ يَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَ اللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَ كَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81) سنّة النبي صلى الله عليه و آله بمنزلة الوحي: توضح الآية الاولى موضع النبي صلى الله عليه و آله من الناس وحسناتهم وسيئاتهم وتؤكد أوّلًا بأنّ إطاعة النبي صلى الله عليه و آله هي طاعة

للَّه: «مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ». أي لا انفصال بين طاعة اللَّه وطاعة الرسول.

ثم تبين أنّ النبي صلى الله عليه و آله ليس مسؤولًا عن الذين يتجاهلون ويخالفون أوامره، كما أنّه ليس مكلفاً بإرغام هؤلاء على ترك العصيان، بل إنّ مسؤولية النبي صلى الله عليه و آله هي الدعوة للرسالة الإلهية التي بعث بها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإرشاد الضالين والغافلين. تقول الآية: «وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا».

فعبارة «حفيظ» تعني الذي يراقب ويحافظ بصورة دائمة مستمرة، ويستدل من الآية على أنّ واجب النبي صلى الله عليه و آله هو قيادة الناس وهدايتهم وإرشادهم.

والأمر المهم الآخر في هذه الآية هو أنّها واحدة من أكثر آيات القرآن دلالة على حجّية السنّة النبوية الشريفة.

أمّا الآية الثانية ففيها إشارة إلى وضع نفر من المنافقين أو المتذبذبين من ضعاف الإيمان، الذين يتظاهرون حين يحضرون عند النبي صلى الله عليه و آله والمسلمين بأنّهم مع الجماعة، ويظهرون الطاعة للرسول صلى الله عليه و آله ليدفعوا بذلك الضرر عن أنفسهم وليحموا مصالحهم الخاصة، بدعوى الإخلاص والطاعة للنبي صلى الله عليه و آله: «وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ».

وبعد أن ينصرف الناس من عند النبي صلى الله عليه و آله ويختلي هؤلاء بأنفسهم يتجاهلون عهودهم في إطاعة النبي ويتآمرون في ندواتهم الخاصة- السرّية الليلية- على أقوال النبي: «فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِى تَقُولُ».

ولكن اللَّه يأمر نبيه بأن لا يلتفت إلى مكائد هؤلاء، وأن لا يخافهم ولا يخشى خططهم وأن يتجنب الاعتماد عليهم في مشاريعه، بل يتوكل على اللَّه الذي هو خير ناصر ومعين:

«فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 428

أَ فَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كَانَ

مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً (82) خلوّ القرآن من الإختلاف دليل حي على إعجازه: هذه الآية تخاطب المنافقين وسائر الذين يرتابون من حقيقة القرآن المجيد، وتطلب منهم- بصيغة السؤال- أن يحققوا في خصائص القرآن ليعرفوا بأنفسهم أنّ القرآن وحي منزل، ولو لم يكن كذلك لكثر فيه التناقص والاختلاف، وإذا تحقق لديهم عدم وجود الاختلاف، فعليهم أن يذعنوا أنّه وحي من اللَّه تعالى.

ونستدل من هذه الآية إنّ الناس مكلفون بالبحث والتحقيق في اصول الدين والمسائل المشابهة لها، مثل صدق دعوى النبي صلى الله عليه و آله وحقانية القرآن، وأن يتجنّبوا التقليد والمحاكاة في مثل هذه الحالات.

والقرآن قابل للفهم والإدراك للجميع ولو كان على غير هذه الصورة لما أمر اللَّه بالتدبر فيه.

وَ إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَ لَوْ لَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) نشر الإشاعات: تشير هذه الآية إلى حركة منحرفة اخرى من حركات المنافقين أو ضعاف الإيمان، تتمثل في سعيهم إلى تلقف أي نبأ عن إنتصار المسلمين أو هزيمتهم، وبثّه بين الناس في كل مكان، دون التحقيق والتدقيق في أصل هذا النبأ أو التأكد من مصدره، وكان الكثير من هذه الأنباء لا يتعدى إشاعة عمد أعداء المسلمين إلى بثّها لتحقيق أهدافهم الدنيئة وليسيؤوا إلى معنويات المسلمين ويضروا بهم، «وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمِنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ».

بينما كان من واجب هؤلاء أن يوصلوا هذه الأخبار إلى قادتهم كي يستفيدوا من معلومات هؤلاء القادة وفكرهم ولكي يتجنّبوا دفع المسلمين إلى حالة من الغرور حيال انتصارات خيالية وهمية، أو إلى

إضعاف معنوياتهم بإشاعة أنباء عن هزيمة لا حقيقة لها

مختصر الامثل، ج 1، ص: 429

«وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِى الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ».

«يستنبطونه»: من مادة «نبط» التي تعني أوّل ما يستخرج من ماء البئر أو الينبوع، والاستنباط استخراج الحقيقة من الأدلة والشواهد والوثائق، سواء كانت العملية في الفقه أو الفلسفة أو السياسة أو سائر العلوم.

وتؤكد الآية في ختامها على أنّ اللَّه قد صان المسلمين بفضله ولطفه وكرمه من آثار إشاعات المنافقين والمغرضين وضعاف الإيمان، وأنقذهم من نتائجها وعواقبها الوخيمة، ولولا الإنقاذ الإلهي ما نجى من الإنزلاق في خط الشيطان إلّاقليلًا: «وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا». أي إنّ النبي وأصحاب الرأي والعلماء المدققين هم وحدهم القادرون على أن يكونوا مصونين من وساوس الشائعات ومشيعيها، أمّا أكثرية المجتمع فلابد لها من القيادة السليمة لتسلم من عواقب اختلاق الشائعات ونشرها.

فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ اللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَ أَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: إنّ أبا سفيان لما رجع إلى مكة يوم احد، واعد رسول اللَّه موسم بدر الصغرى وهو سوق تقوم في ذي القعدة فلما بلغ النبي الميعاد قال للناس: «اخرجوا إلى الميعاد». فتثاقلوا وكرهوا ذلك كراهة شديدة أو بعضهم. فأنزل اللَّه هذه الآية، فحرّض النبي المؤمنين، فتثاقلوا عنه ولم يخرجوا. فخرج رسول اللَّه في سبعين راكباً حتى أتى موسم بدر، فكفاهم اللَّه بأس العدو، ولم يوافهم أبو سفيان ولم يكن قتال يومئذ، وانصرف رسول اللَّه بمن معه سالمين.

التّفسير

بعد ما تقدم من الآيات الكريمة حول الجهاد، تأتي هذه الآية لتعطي أمراً جديداً وخطيراً إلى الرسول الأكرم

صلى الله عليه و آله وأنّه مكلف بمواجهة الاعداء وجهادهم حتى لو بقي وحيداً ولم يرافقه أحد من المسلمين إلى ميدان القتال. لأنّه صلى الله عليه و آله مسؤول عن أداء واجبه هو، وليس عليه مسؤولية بالنسبة للآخرين سوى التشويق والتحريض والدعوة إلى الجهاد: «فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لَاتُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرّضِ الْمُؤْمِنِينَ».

الآية تشتمل على حكم اجتماعي مهم يخصّ القادة، ويدعوهم إلى التزام الرأي الحازم

مختصر الامثل، ج 1، ص: 430

والعمل الجاد في طريقهم ومسيرتهم نحو الهدف المقدس الذي يعملون ويدعون من أجله، حتى لو لم يجدوا من يستجيب لدعوتهم، لأنّ استمرار الدعوة غير مشروط باستجابة الآخرين لها، وأي قائد لا يتوفر فيه هذا الحزم فهو بلا ريب عاجز عن النهوض بمهام القيادة، فلا يستطيع أن يواصل الطريق نحو تحقيق الأهداف المرجوة خاصة القادة الإلهيون الذين يعتمدون على اللَّه ... مصدر كل قدرة وقوة في عالم الوجود، وهو سبحانه أقوى من كل ما يدبّره الأعداء من دسائس ومكائد بوجه الدعوة، لذلك تقول الآية: «عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا» «1».

مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَ كَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقِيتاً (85) عواقب التحريض على الخير أو الشر: لقد أشير في الآية السابقة إلى أنّ كل إنسان مسؤول عن عمله وعما هو مكلف بأدائه، ولا يُسأل أي إنسان عن أفعال الآخرين. أمّا هذه الآية فقد جاءت لكي تسدّ الطريق أمام كل فهم خاطى ء للآية السابقة، فبينت أنّ الإنسان إذا حرّض الغير على فعل الخير أو فعل الشر فينال نصيباً من ذلك الخير أو الشر: «مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً

يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا» «2».

وهذا بحد ذاته- حثّ على دعوة الآخرين إلى فعل الخير والتزام جانب الحق، ونهي الغير عن فعل الشر، كما تبين هذه الآية اهتمام القرآن بنشر الروح الاجتماعية لدى المسلمين، ودعوتهم إلى نبذ الأنانية أو الإنطوائية، وإلى عدم تجاهل الآخرين، وذلك من خلال التواصي بالخير والحق والتحذير من الشر والباطل.

وبناء على هذه النظرة الإسلامية، فإنّ مرتكبي الذنب ليسوا هم وحدهم مذنبين، بل يشترك في الذنب معهم كل الذين شجعوا المرتكبين على ذنبهم، عن طريق وسائل الإعلام

______________________________

(1) «البأس» و «البأساء»: بمعنى الشدّة والقهر والغلبة. «التنكيل»: من نكل في الشي ء، أي ضعف وعجز، و «النكل» قيد الدابة وحديدة اللجام لكونهما مانعين؛ و «التنكيل» أداء عمل يردع مشاهده عن الذنب وهو العقاب الذي ينزل بالظالمين فيردعهم ويردع من يتعض بمصيرهم.

(2) «الكفل»: هو عجز الحيوان ومؤخرته التي يصعب ركوبها ويشق، من هنا فكلّ ذنب وحصة رديئة كفل، والكفالة كل عمل ينطوي على تعب وعناء.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 431

المختلفة أو إعداد الأجواء المساعدة، بل حتّى عن طريق إطلاق كلمة صغيرة مشجعة وهكذا الذين يقومون بمثل هذه الأعمال على طريق الخيرات ينالون سهمهم من نتائجها. والآية- هذه- تؤكد أيضاً حقيقة ثابتة اخرى، وهي أنّ اللَّه قادر على مراقبة الإنسان وتدوين ما يقوم به من أعمال، ثم محاسبته عليها، واثابته على خيرها، ومعاقبته على شرها «وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ مُّقِيتًا».

وَ إِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ حَسِيباً (86) دعوة إلى مقابلة الودّ بالودّ: هذه الآية تأمر المسلمين بمقابلة مشاعر الحبّ بما هو أحسن منها، أو على الأقل بما يساويها أو يكون

مثلها، فتقول الآية: «وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا».

«التحية»: مشتقة من «الحياة» وتعني الدعاء لدوام حياة الآخرين، ومهما تنوعت صيغ التحية بين مختلف الأقوام تكون صيغة «السلام» المصداق الأوضح من كل تلك الأنواع، ولكن بعض الروايات والتفاسير تفيد أنّ مفهوم التحية يشمل- أيضاً- التعامل الودي العملي بين الناس.

وهكذا يتضح لنا أنّ الآية هي حكم عام يشمل الرد على كل أنواع مشاعر الودّ والمحبة سواء كانت بالقول أو بالعمل- وتبين الآية في آخرها أنّ اللَّه يعلم كل شي ء، حتى أنواع التحية والسلام والردّ المناسب لها، وأنّه لا يخفى عليه شي ء أبداً، حيث تقول: «إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ حَسِيبًا».

اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) جاءت هذه الآية مكملة لما سبقتها ومقدمة لما تليها من آيات، فالآية السابقة بعد أن أمرّت بردّ التحية قالت: «إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ حَسِيبًا». والآية موضوع البحث تشير إلى قضية غيبية مهمة هي قضية يوم البعث والحساب، حيث محكمة العدل الإلهية العامة للبشر أجمعين وتقرنها بمسألة التوحيد الذي هو ركن آخر من أركان الإيمان «اللَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 432

هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمَ الْقِيمَةِ لَارَيْبَ فِيهِ». وعبارة «لَيَجْمَعَنَّكُمْ» تدل على الشمولية لكل البشر من أوّلهم حتى آخرهم، حيث سيجمعون «كلهم» في يوم واحد هو يوم الحشر والقيامة.

وعبارة «لَارَيْبَ فِيهِ» الواردة في الآية وفي آيات اخرى، إنّما هي إشارة إلى الأدلة القطعية البديهية على وقوع يوم القيامة، مثل دليل «قانون التكامل» و «حكمة الخلق» و «قانون العدل الإلهي» المذكورة بالتفصيل في مبحث المعاد.

وتؤكد الآية في نهايتها على حقيقة أنّ اللَّه هو أصدق الصادقين: «وَمَنْ

أَصْدَقَ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا». من هنا لا يجوز أن يساور أحد الشك فيما يعد به اللَّه من بعث ونشور وغيره من الوعود.

فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَ اللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)

سبب النّزول

صاحب تفسير مجمع البيان قال: إختلفوا فيمن نزلت هذه الآية فيه. فقيل: نزلت في قوم قدموا المدينة من مكة فأظهروا للمسلمين الإسلام ثم رجعوا إلى مكة لأنّهم استوخموا المدينة فأظهروا الشرك ثم سافروا ببضائع المشركين إلى اليمامة فأراد المسلمون أن يغزوهم فاختلفوا فقال بعضهم: لا نفعل فإنّهم مؤمنون. وقال آخرون: إنّهم مشركون. فأنزل اللَّه فيهم الآية. قال: وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام.

التّفسير

هذه الآية تخاطب في البداية المسلمين وتلومهم على انقسامهم إلى فئتين، كل فئة تحكم بما يحلو لها بشأن المنافقين، حيث تقول: «فَمَا لَكُمْ فِى الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ». وتنهى المسلمين عن الإختلاف في أمر نفر أبوا أن يهاجروا معهم، وتعاونوا مع المشركين.

وتبين الآية بعد ذلك: إنّ اللَّه قد سلب من هؤلاء المنافقين كل فرصة للنجاح، وحرمهم من لطفه وعنايته بسبب ما اقترفوه وإنّ اللَّه قد قلب تصورات هؤلاء بصورة تامة فأصبحوا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 433

كمن يقف على رأسه بدل رجليه: «وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا» «1».

وفي الختام تخاطب الآية اولئك البسطاء من المسلمين الذين انقسموا على أنفسهم وأصبحوا يدافعون لسذاجتهم عن المنافقين، فتؤكد لهم أنّ هداية من حرمه اللَّه من لطفه ورحمته بسبب أفعاله الخبيثة الشنيعة أمر لا يمكن تحقيقه، لأنّ اللَّه قد كتب على هؤلاء المنافقين ما يستحقونه من عذاب وضلال وحرمان من الهداية والنجاة «أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ

لَهُ سَبِيلًا».

إذ أنّ عمل كل شخص لا ينفصل عنه ... وهذه سنة إلهية ... فكيف يؤمل في هداية أفراد امتلأت أفكارهم وقلوبهم بالنفاق، واتجهت أعمالهم إلى حماية أعداء اللَّه؟! إنّه أمل لا يقوم على دليل.

وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ لَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَ لَا نَصِيراً (89) لقد تحدثت الآية السابقة عن المنافقين الذين كانوا يحظون بحماية نفر من المسلمين البسطاء وشفاعتهم، وأوضحت أنّ هؤلاء المنافقين غرباء عن الإسلام، وهذه الآية تبين أنّ المنافقين لفرط انحرافهم وضلالتهم يعجبهم أن يجرّوا المسلمين إلى الكفر كي لا يظلّوا وحدهم كافرين: «وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً».

ولهذا السبب فإنّ المنافقين أسوأ من الكفار، لأنّ الكافر لا يحاول سلب معتقدات الآخرين، والمنافقون يفعلون هذا الشي ء ويسعون دائماً لإفساد المعتقدات، وهم بطبعهم هذا لا يليقون بصحبة المسلمين أبداً، تقول الآية الكريمة: «فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ». إلّاإذا غيروا ما في أنفسهم من شرّ، وتخلوا عن كفرهم ونفاقهم وأعمالهم التخريبية.

ولكي يثبتوا حصول هذا التغيير، ويثبتوا صدقهم فيه، عليهم أن يبادروا إلى الهجرة من

______________________________

(1) «أركسهم»: مَن ركس وهو قلب الشي ء على رأسه، وتأتي أيضاً بمعنى ردّ أوّل الشي ء إلى آخره.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 434

مركز الكفر والنفاق إلى دار الإسلام (أي يهاجروا من مكّة إلى المدينة) فتقول الآية: «حَتَّى يُهَاجِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ». أمّا إذا رفضوا الهجرة فليعلم المسلمون بأنّ هؤلاء لا يرضون لأنفسهم الخروج من حالة الكفر والنفاق، وإن تظاهرهم بالإسلام ليس إلّامن أجل تمرير مصالحهم وأهدافهم الدنيئة ومن أجل أن يسهل عليهم التآمر والتجسس على المسلمين. وفي هذه الحالة يستطيع المسلمون

أن يأسروهم حيثما وجدوهم، وأن يقتلوهم إذا استلزم الأمر، تقول الآية الكريمة: «فَإِن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ».

وتكرر هذه الآية التأكيد على المسلمين أن يتجنّبوا مصاحبة هؤلاء المنافقين وأمثالهم فتقول: «لَاتَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا».

إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)

سبب النّزول

في تفسير القمي في قوله «وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا» الآية أنّها نزلت في أشجع وبني ضمرة وهما قبيلتان وكان من خبرهم أنّه لما خرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى غزاة الحديبية مرّ قريباً من بلادهم وقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هادن بني ضمرة، وواعدهم قبل ذلك فقال أصحاب رسول اللَّه: يا رسول اللَّه! هذه بنو ضمرة قريباً منّا ونخاف أن يخالفونا إلى المدينة أو يعينوا علينا قريشاً فلو بدأنا بهم، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «كلّا، إنّهم أبر العرب بالوالدين وأوصلهم للرحم وأوفاهم بالعهد».

وكان أشجع بلادهم قريباً من بلاد بني ضمرة وهم بطن من كنانة وكانت أشجع بينهم وبين بني ضمرة حلف بالمراعاة والأمان فأجدبت بلاد أشجع وأخضبت بلاد بني ضمرة فسارت أشجع إلى بلاد بني ضمرة، فلمّا بلغ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مسيرهم إلى بني ضمرة تهيأ للمسير إلى أشجع ليغزوهم للموادعة التي كانت بينه وبين بني ضمرة فأنزل اللَّه: «وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ...» الآية. ثم استثنى بأشجع فقال: «إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ ...» وكانت أشجع محالها البيضاء والحل والمستباح وقد كانوا قربوا من

رسول اللَّه فهابوا لقربهم من رسول اللَّه أن يبعث إليهم من يغزوهم وكان رسول اللَّه قد خافهم أن يصيبوا من أطرافه شيئاً فهم بالمسير إليهم فبينما هو على ذلك إذ جاءت أشجع ورئيسها مسعود بن رجيلة وهم سبعمأة فنزلوا شعب سلع وذلك في شهر ربيع الأول سنة ستّ من الهجرة فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله اسيد

مختصر الامثل، ج 1، ص: 435

بن حصين وقال له: «اذهب في نفر من أصحابك حتى تنظر ما أقدم أشجع».

فخرج اسيد ومعه ثلاثة نفر من أصحابه فوقف عليهم فقال: ما أقدمكم؟ فقام إليه مسعود بن رجيلة وهو رئيس أشجع فسلم على اسيد وعلى أصحابه فقالوا: جئنا لنوادع محمّداً فرجع اسيد إلى رسول اللَّه فأخبره فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «خاف القوم أن أغزوهم فأرادوا الصلح بيني وبينهم». ثم بعث إليهم بعشرة أحمال تمر فقدمها أمامه ثم قال: «نعم الشي ء الهدية أمام الحاجة». ثم أتاهم فقال: «يا معشر أشجع ما أقدمكم»؟ قالوا: قربت دارنا منك وليس في قومنا أقل عدداً منّا فضقنا لحربك لقرب دارنا منك وضقنا لحرب قومنا لقلتنا فيهم فجئنا لنوادعكم فقبل النبي صلى الله عليه و آله منهم ووادعهم فأقاموا يومهم ثم رجعوا إلى بلادهم وفيهم نزلت هذه الآية «إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ» إلى قوله «فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا».

التّفسير

التّرحيب باقتراح السّلم: بعد أن أمر القرآن الكريم المسلمين في الآيات السابقة باستخدام العنف مع المنافقين الذين يتعاونون مع أعداء الإسلام، تستثني هذه الآية من الحكم المذكور طائفتين:

1- من كانت لهم عهود ومواثيق مع حلفائكم «إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مّيثَاقٌ».

2- من كانت ظروفهم لا تسمح لهم بمحاربة المسلمين، كما أنّ

قدرتهم ليست على مستوى التعاون مع المسلمين لمحاربة قبيلتهم «أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ».

ولكي لا يستولي الغرور على المسلمين ازاء كل هذه الإنتصارات الباهرة، وكي لا يعتبروا ذلك نتيجة قدرتهم العسكرية وابتكارهم، ولا تستفز مشاعرهم تجاه هذه المجموعات المحايدة، تقول الآية: «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ».

وتكرر الآية في ختامها التأكيد بأنّ اللَّه لا يسمح للمسلمين بالمساس بقوم عرضوا عليهم الصلح وتجنبوا قتالهم، وأنّ المسلمين مكلفون بأن يقبلوا دعوة الصلح هذه، ويصافحوا اليد التي امتدت إليهم وهي تريد الصلح والسلام «فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 436

سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أُولئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً (91)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس: نزلت في اناس كانوا يأتون النبي، فيسلّمون رئاء، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا قومهم، ويأمنوا نبي اللَّه، فأبى اللَّه ذلك عليهم.

التّفسير

عقاب ذي الوجهين: إنّ هذه الآية تصور لنا طائفة من الناس نقيض تلك الطائفة التي تحدثت عنها الآية السابقة وأمرت بقبول الصلح منها، والطائفة تتشكل من أفراد نفعيين إنتهازيين، همّهم الوحيد تحقيق مصالحهم والتحرك بحرية تامة لدى المسلمين، وقريش عن طريق الرياء والخيانة والخداع، والتظاهر بتأييد واتباع الجانبين والتعاون معهما، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة: «سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ».

وهؤلاء حين تسنح لهم الفرصة ينقلبون على أعقابهم وينغمسون في الفتنة والشرك نكساً على رؤوسهم «كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا».

وقد

اشترط القرآن الكريم على هذه الطائفة ثلاثة شروط من أجل أن تبقى في مأمن من إنتقام المسلمين، وهذه الشروط هي: إعتزال المسلمين، أو مصالحتهم، أو الكف عن إيذائهم حيث تقول الآية الكريمة: «فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ».

وإذا رفضت هذه الطائفة الشروط المذكورة وأصرت على العصيان والتمرد، فالمسلمون مكلفون عند ذلك بإلقاء القبض على أفرادها وقتلهم أينما وجدوا، كما تقول الآية: «فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ».

ولما كانت الحجة قد تمّت على هؤلاء، تقول الآية في الخاتمة: «وَأُولئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا». وقد يكون هذا التسلط في مجال الكلام والمنطق إذا تغلب منطق المسلمين على منطق المشركين والكافرين، وقد يكون سلطاناً مادياً ظاهرياً عليهم لأنّ الآية نزلت في وقت كان المسلمون يتمتعون فيه بقدر كاف من القوة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 437

وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ إِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَ كَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي، أخي أبي جهل لُامه، لأنّه كان أسلم، وقتل بعد إسلامه رجلًا مسلماً وهو لا يعلم إسلامه. والمقتول: الحارث بن يزيد.

التّفسير

أحكام القتل الناتج عن الخطأ: لقد أطلقت الآية السابقة أيدي المسلمين في المنافقين الذين كانوا يشكّلون خطراً كبيراً على الإسلام، وسمحت لهم حتى بقتل أمثال هؤلاء المنافقين، ولكن تفادياً لاستغلال هذا الحكم استغلالًا سيّئاً،

ولسد الطريق أمام الأغراض الشخصية التي قد تدفع صاحبها إلى قتل إنسان بتهمة أنّه منافق، وأمام أي تساهل في سفك دماء الأبرياء، بيّنت هذه الآية والتي تليها أحكام قتل الخطأ وقتل العمد، لكي يكون المسلمون على غاية الدقّة والحذر في مسألة الدماء التي تحظى باهتمام بالغ في الإسلام. تقول الآية الكريمة: «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً».

ثم تبين الآية الكريمة غرامة قتل الخطأ، وتقسمها إلى ثلاثة أنواع:

فالنوع الأوّل: هو أن يحرر القاتل عبداً مسلماً، ويدفع الديّة عن دم القتيل إلى أهله إذا كان القتيل ينتمي إلى عائلة مسلمة «وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ». فإذا وهب أهل القتيل الديّة وتصدقوا بها له فليس على القاتل أن يدفع شيئاً:

«إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 438

والنوع الثاني: من غرامة قتل الخطأ يكون في حالة ما إذا كان القتيل مسلماً ولكن من عائلة معادية للإسلام ويجب في هذه الحالة عتق عبد مسلم ولا تدفع الدية إلى أهل القتيل، لأنّ الإسلام يرفض تعزيز الحالة المالية لأعدائه، بالإضافة إلى ذلك فإنّ الإسلام قد قطع الصلة بين هذا الفرد وعائلته المعادية للإسلام فلا معنى إذن لجبران الخسارة.

أما النوع الثالث: من غرامة القتل الناتج عن الخطأ فيكون في حالة كون القتيل من عائلة غيرمسلمة لكن بينها وبين المسلمين عهداً وميثاقاً، في مثل هذه الحالة أمر بدفع دية القتيل إلى أهله، كما أمر- أيضاً- بتحرير عبد من العبيد المسلمين احتراماً للعهود والمواثيق تقول الآية: «وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ».

وظاهر الآية والروايات التي وردت في تفسيرها تدل على أنّ المقصود فيها هو القتيل «المسلم».

وتستطرد الآية في بيان الحكم

فتتطرق إلى اولئك النفر من المسلمين الذين يرتكبون القتل عن خطأ، ولا يسعهم- لفقرهم- دفع المال دية عن القتيل، كما لا يسعهم شراء عبد لتحرير رقبته غرامة عن إرتكابهم للقتل الخطأ، وتبين حكم هؤلاء، وتعلن أنّهم يجب أن يصوموا شهرين متتابعين غرامة عن القتل الخطأ الذي إرتكبوه، بدلًا من الدية وتحرير الرقبة، وقد اعتبرت ذلك نوعاً من تخفيف الجزاء على الذين لا يطيقون الغرامة المالية وتوبة منهم إلى اللَّه، علماً أنّ جميع أنواع الغرامات التي ذكرت في الآية عن القتل الخطأ، إنّما هي توبة وكفارة للذنب المرتكب في هذا المجال، واللَّه يعلم بخفايا الامور وقد أحاط علمه بكل شي ء حيث تقول الآية: «تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا».

وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً (93)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن جماعة من المفسرين: نزلت في مقيس بن صبابة الكناني، وجد أخاه هشاماً قتيلًا، في بني النجار فذكر ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأرسل معه قيس بن هلال الفهري وقال له: «قل لبني النجار إن علمتم قاتل هشام فادفعوه إلى أخيه ليقتصّ منه وإن لم تعلموا فدفعوا إليه ديته».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 439

فبلغ الفهري الرسالة فأعطوه الدية فلما انصرف ومعه الفهري وسوس إليه الشيطان فقال: ما صنعت شيئاً، أخذت دية أخيك فيكون سُبَّة «1» عليك! اقتل الذي معك لتكون نفس بنفس والدّية فضل. فرماه بصخرة فقتله، وركب بعيراً ورجع إلى مكة كافراً. فقال النبي صلى الله عليه و آله: «لا أؤمنه في حلّ ولا حرم»! فقتل يوم الفتح.

التّفسير

عقوبة القتل العمد: لقد بيّنت الآية السابقة عقوبة- أو غرامة- القتل

الناتج عن الخطأ، وجاءت الآية الأخيرة عقوبة القتل عن عمد وسبق إصرار، في حالة إذا كان القتيل من المؤمنين، وبما أنّ جريمة قتل الإنسان من أعظم وأكبر الجرائم وأخطر الذنوب، وأنّ التهاون في مكافحة مثل هذه الجريمة يهدد أمن المجتمع وسلامة أفراده، الأمن الذي يعتبر من أهم متطلبات المجتمع السليم، لذلك فإنّ القرآن الكريم قد تناول هذه القضية في آيات مختلفة بأهمية بالغة، حتى أنّه اعتبر قتل النفس الواحدة قتلًا للناس جميعاً، إلّاأن يكون القتل عقاباً لقتل مثله أو عقاباً لجريمة الإفساد في الأرض حيث يقول القرآن في الآية (32) من سورة المائدة: «مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا».

وقد قررت الآية- موضوع البحث- أربع عقوبات اخروية لمرتكب القتل العمد، وعقوبة اخرى دنيوية هي القصاص، والعقوبات الأخروية هي:

1- الخلود والبقاء الأبدي في نار جهنم، حيث تقول الآية: «وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا».

2- احاطة غضب اللَّه وسخطه بالقاتل: «وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ».

3- الحرمان من رحمة اللَّه: «وَلَعَنَهُ».

4- العذاب العظيم الذي ينتظره يوم القيامة: «وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94)

______________________________

(1) سبة (بالضم): العار.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 440

سبب النزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: نزلت في أسامة بن زيد وأصحابه بعثهم النبي صلى الله عليه و آله في سرية فلقوا رجلًا قد انحاز بغنم له إلى جبل، وكان قد أسلم، فقال لهم: السلام عليكم. لا إله إلّااللَّه محمّد رسول اللَّه فبدر

إليه اسامة فقتله، واستاقوا غنمه.

التّفسير

بعد أن وردت التأكيدات اللازمة- في الآيات السابقة- فيما يخص حماية أرواح الأبرياء، ورد في هذه الآية أمر احترازي يدعو إلى حماية أرواح الأبرياء الذين قد يعرضون إلى الإتهام من قِبل الآخرين، إذ تقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا».

وتؤكّد الآية بعد ذلك محذرة وناهية عن أن تكون نعم الدنيا الزائلة سبباً في إتهام أفراد أظهروا الإسلام، أو قتلهم على أنّهم من الأعداء والإستيلاء على أموالهم، إذ تقول الآية:

«تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا» «1». وتؤكّد على أنّ النعم الخالدة القيمة هي عند اللَّه بقوله:

«فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ».

وتشير الآية أيضاً إلى حروب الجاهلية التي كانت تنشب بدوافع مادية مثل السلب والنهب فتقول: «كَذلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ».

وتضيف- مخاطبة المسلمين- أنّهم في ظل الإسلام ولطف اللَّه وكرمه وفضله قد نجوا من ذلك الوضع السي ء مؤكدة أنّ شكر هذه النعمة الكبيرة يستلزم منهم التحقق والتثبيت من الامور، إذ تقول الآية: «فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا».

لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً وَ كَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)

______________________________

(1) «العرض»: كلمة على وزن «مرض» وتعني كل شي ء زائل لا دوام له وعلى هذا الأساس فإنّ «عرض الحيوة الدّنيا» معناه رؤوس الأموال الدنيوية التي يكون مصير جميعها إلى الزوال والفناء لا محالة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 441

تناولت الآيات السابقة الحديث عن الجهاد، والآيتان الأخيرتان تبيّنان التمايز

بين المجاهدين وغيرهم من القاعدين، فتؤكد عدم التساوي بين من يبذل المال والنفس رخيصين في سبيل الهدف الإلهي السامي، وبين من يقعده عن هذا البذل سبب آخر غير المرض الذي يحول دونه ودون المشاركة في الجهاد، «لَّايَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِى الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ».

وتكرر الآية من جديد مسألة التفاضل بشكل أوضح وأكثر صراحة، وتؤكّد في نهاية المقارنة، أنّ اللَّه وهب المجاهدين أجراً عظيماً: «فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً».

ولكن- كما أسلفنا- لما كان في الجانب المقابل لهؤلاء المجاهدين يقف اولئك الذين لم يكن الجهاد بالنسبة لهم واجباً عينياً أو لم يشاركوا في الجهاد بسبب مرض أو عجز أو علة اخرى أعجزتهم عن هذه المشاركة، فذلك ولأجل أن لا يغفل ما لهؤلاء من نيّة صالحة وإيمان وأعمال صالحة اخرى فقد وعدوا خيراً حيث تقول الآية الكريمة: «وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى .

وبما أنّ أهمية الجهاد في الإسلام بالغة جداً، لذلك تتطرق الآية مرّة اخرى للمجاهدين وتؤكّد بأنّ لهم أجراً عظيماً يفوق كثيراً أجر القاعدين عن الجهاد عن عجز، «وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا».

وتشرح الآية التالية- وهي الآية (96) من سورة النساء- نوع هذا الأجر العظيم فقول أنّه: «دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً».

فلو أنّ أفراداً من بين المجاهدين تورطوا في زلة أثناء أدائهم لواجبهم فندموا على تلك الزّلة، فقد وعدهم اللَّه بالمغفرة والعفو، حيث يقول في نهاية الآية: «وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا».

إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَ سَاءَتْ مَصِيراً (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَ النِّسَاءِ وَ الْوِلْدَانِ لَا

يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً (99)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 442

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قال أبو حمزة الثمالي: بلغنا أنّ المشركين يوم بدر، لم يخلفوا إذ خرجوا احداً، إلّاصبياً أو شيخاً كبيراً أو مريضاً. فخرج معهم ناس ممن تكلم بالإسلام فلما التقى المشركون ورسول اللَّه نظر الذين كانوا قد تكلّموا بالإسلام إلى قلّة المسلمين فارتابوا واصيبوا فيمن اصيب من المشركين، فنزلت فيهم الآية.

التّفسير

تعقيباً للبحوث الخاصة بالجهاد، تشير الآيات الثلاث الأخيرة إلى المصير الأسود الذي كان من نصيب اولئك الذين ادعوا الإسلام ولكنهم رفضوا أن يطبقوا خطة الإسلام في الهجرة. فالقرآن الكريم يذكر كيف أنّ الملائكة لدى قبضهم لأرواح هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم، يسألونهم عن حالهم في الدنيا وأنّهم لو كانوا حقاً من المسلمين، فلماذا اشتركوا في صفوف المشركين لقتال المسلمين: «إِنَّ الَّذِينَ تَوَفهُمُ الْمَلِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ». فيجيب هؤلاء بأنّهم تعرضوا في مواطنهم للضغط وأنّ ذلك أعجزهم عن تنفيذ الأمر الإلهي «قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الْأَرْضِ».

لكن عذرهم هذا لم يقبل منهم، إذ يرد الملائكة عليهم قائلين: لماذا لم تتركوا موطن الشرك وتنجوا بأنفسكم من الظلم، والكبت عن طريق الهجرة إلى أرض غير أرضكم من أرض اللَّه الواسعة، «قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا».

وفي النهاية تشير الآية إلى مصير هؤلاء، فتقول بأنّ الذين امتنعوا عن الهجرة لأسباب واهية أو لمصالحهم الشخصية، وقرروا البقاء في محيط ملوث وفضلوا الكبت والقمع على الهجرة فإنّ مكان هؤلاء سيكون في جهنم، وإنّ نهايتهم وعاقبتهم هناك ستكون سيئة لا محالة: «فَأُولئِكَ مَأْوَيهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا».

أمّا الآية الاخرى من الآيات الثلاث المذكورة، فهي تستثني

المستضعفين والعاجزين الحقيقيين لا المزيفين، فتقول: إنّ اولئك الرجال والنساء والأطفال الذين لم يجدوا لأنفسهم مخرجاً للهجرة، ولم يتمكنوا من إيجاد وسيلة للنجاة من محيطهم الملوث، فهم مستثنون من حكم العذاب، لأنّ هؤلاء معذورون في الحقيقة، وإنّ اللَّه لا يكلف نفساً ما لا تطيق، «إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَايَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا».

و الآية الأخيرة من الآيات الثلاث المذكورة تبيّن احتمال أن يشمل اللَّه بعفوه هؤلاء، إذ

مختصر الامثل، ج 1، ص: 443

تقول: «فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ للَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا».

إنّ الإتيان بكلمة «توفّى» في الآية الشريفة المارة الذكر بدلًا من ذكر كلمة «الموت» إنّما هو إشارة إلى أنّ الموت ليس هو الفناء التام، بل هو حالة تتلقى فيها الملائكة روح الإنسان، أي أنّ الملائكة يقبضون من الإنسان روحه التي هي جوهر وجوده، فتؤخذ هذه الروح إلى العالم الآخر.

وَ مَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَ سَعَةً وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَ كَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) الهجرة حكم اسلامي بنّاء: بعد أن بحثت الآيات السابقة حول الأفراد الذين يقعون فريسة الذل والمسكنة بسبب عدم إيفائهم بواجب الهجرة، تشرح الآية الأخيرة بشكل صريح وحاسم أهمّية الهجرة في قسمين:

في القسم الأوّل: تشير هذه الآية إلى نعم وبركات الهجرة في الحياة الدنيا، فتقول إنّ الذي يهاجر في سبيل اللَّه إلى أي نقطة من نقاط هذه الأرض الواسعة، سيجد الكثير من النقاط الآمنة الواسعة ليستقر فيها، ويعمل هناك بالحقّ ويرغم أنف المعارضين «وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً».

بعد ذلك تشير الآية في القسم

الثاني منها إلى الجانب المعنوي الاخروي للهجرة: «وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا». وعلى هذا الأساس فإنّ المهاجرين في كل الأحوال سينالهم نصر كبير، سواء وصلوا إلى المكان الذي يستهدفونه ليتمتعوا فيه بحرية العمل بواجباتهم، أو لم يصلوا إليه فيفقدوا حياتهم في هذا الطريق.

وَ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً (101) صلاة المسافر: بعد الآيات التي تحدثت سابقاً عن الجهاد والهجرة، تتطرق الآية (101) من سورة النساء- التي هي موضوع بحثنا الآن- إلى صلاة المسافر، فتبين أن لا مانع للمسلم من أن يقصر صلاته لدى السفر إذا خاف من خطر الكافرين الذين هم الأعداء البارزون

مختصر الامثل، ج 1، ص: 444

للمسلمين، وقد عبّرت هذه الآية عن السفر بالضرب في الأرض، لأنّ المسافر يضرب الأرض برجليه لدى السفر. وعلى أي حال، فليس هناك من شك أنّ صلاة القصر للمسافر- مع الأخذ بنظر الاعتبار الروايات المفسرة لهذه الآية- لا تقتصر على حالة الخوف، ولهذا السبب فإنّ النبي صلى الله عليه و آله كان في أسفاره حتى في موسم الحج (في أرض منى) يقصر صلاته.

وَ إِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَ لْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَ أَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ

إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً (102)

سبب النّزول

في تفسير القمي: نزلت- يعني آية صلاة الخوف- لما خرج رسول اللَّه إلى الحديبية يريد مكة فلما وقع الخبر إلى قريش بعثوا خالد بن الوليد في مائتي فارس كميناً ليستقبل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على الجبال، فلما كان في بعض الطريق وحضرت صلاة الظهر فأذن بلال فصلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالناس، فقال خالد بن الوليد: لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة لأصبناهم فإنّهم لا يقطعون صلاتهم ولكن يجي ء لهم الآن صلاة أخرى هى أحبّ إليهم من ضياء أبصارهم فإذا دخلوا في الصلاة أغرنا عليهم فنزل جبرئيل على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بصلاة الخوف بهذه الآية.

التّفسير

بعد آيات الجهاد السابقة تبيّن هذه الآية للمسلمين طريقة صلاة الخوف التي تؤدّى في ساحة الحرب، فتخاطب الآية النبي صلى الله عليه و آله قائلة: «وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَوةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ». فإذا سجدت جماعة وانقضت الركعة الاولى من

مختصر الامثل، ج 1، ص: 445

الصلاة، على النّبي أن يقف في مكانه فتؤدّي الجماعة- سريعاً- الركعة الثانية وتعود إلى ساحة القتال لمواجهة العدو. وتأتي بعد ذلك الجماعة الثانية التي لم تصل بعد، وتأخذ مكان الجماعة الاولى فتصلّي مع النبي: «فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ». وعلى الجماعة الثانية أن لا تضع أرضاً لامة حربها، بل تحتفظ بها معها: «وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ».

وتشير الآية إلى أنّ أداء الصلاة بهذا الاسلوب من أجل أن يبقى المسلمون في مأمن من أي هجوم مباغت قد يقوم به العدو عليهم، لأنّه يتحين الفرص دائماً لتنفيذ هذا الهجوم، ويتمنى لو

تخلى المسلمون وغفلوا عن أسلحتهم وأمتعتهم ليشنّ عليهم حملته الغادرة: «وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً».

ولمّا كان حمل السلاح والوسائل الدفاعية الاخرى صعباً أثناء أداء الصلاة في بعض الأحيان، تأمر الآية في الختام قائلة: «وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ».

وهذا مشروط بأن يحتفظ المسلمون بما يقيهم من وسائل الدفاع كالدروع، وأمثالها حتى في حالة وجود العذر كالضعف أو المرض، وذلك لحماية أنفسهم إذا باغتهم العدو بهجومه إلى أن تصلهم الإمدادات حيث تقول الآية: «وَخُذُوا حِذْرَكُمْ».

فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَ قُعُوداً وَ عَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً (103) أهمية فريضة الصلاة: بعد أن ذكرت الآية السابقة صلاة الخوف، وأكدت ضرورة إقامتها حتى في جبهات الحرب، تحث الآية (103) المسلمين على أن لا ينسوا ذكر اللَّه بعد أداء الصلاة، وليذكروا اللَّه حين قيامهم وقعودهم وأثناء نومهم على جنوبهم وليسألوه العون والنصر، والقصد من ذكر اللَّه في حالة القيام والقعود والنوم على الجنبين، يحتمل أن تكون في الحالات المختلفة للقتال، أي أثناء وقوف المقاتل أو جلوسه أو استلقائه على أحد جنبيه وهو يقاتل بأحد أنواع الأسلحة الحربية كالقوس والسهم مثلًا.

إنّ هذه الآية تشير إلى أمر إسلامي مهم، يدل على أنّ أداء الصلاة في أوقات معينة ليس معناه أن ينسى الإنسان ذكر اللَّه في الحالات الاخرى. وتؤكد هذه الآية أنّ حكم صلاة

مختصر الامثل، ج 1، ص: 446

الخوف هم حكم استثنائي طارى ء، وعلى المسلمين إذا ارتفعت عنهم حالة الخوف أن يؤدّوا صلاتهم بالطريقة المعتادة «فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ». وتوضح الآية في النهاية سرّ التأكيد على الصلاة

بقولها إنّ الصلاة فريضة ثابتة للمؤمنين وأنّها غير قابلة للتغيير: «إِنَّ الصَّلَوةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا».

إنّ عبارة «موقوت» من المصدر «وقت» وعلى هذا الأساس فإنّ الآية تبيّن أنّه حتى في ساحة الحرب يجب على المسلمين أداء هذه الفريضة الإسلامية، لأنّ للصلاة أوقات محددة لا يمكن تخطيها.

وَ لَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَ تَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَ كَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104)

سبب النّزول

قرع السلاح بسلاح يشابهه: في تفسير مجمع البيان: قال ابن عباس: لمّا أصاب المسلمين ما أصابهم يوم أحد وصعد النبي الجبل، قال أبو سفيان: يا محمّد لنا يوم ولكم يوم، فقال:

«أجيبوه». فقال المسلمون لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار! فقال أبو سفيان: لنا عُزّى ولا عزّى لكم. فقال النبي، قولوا: «اللَّه مولانا ولا مولى لكم!» فقال أبو سفيان: اعل هُبل.

فقال النبي صلى الله عليه و آله قولوا: «اللَّه أعلى وأجل».

فقال أبو سفيان: موعدنا وموعدكم يوم بدر الصغرى. ونام المسلمون وبهم الكلوم «1» وفيهم نزلت «إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ» وفيهم نزلت «إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ» الآية لأنّ اللَّه أمرهم على ما بهم من الجراح أن يتبعوهم، وأراد بذلك إرهاب المشركين وخرجوا إلى حمراء الأسد وبلغ المشركين ذلك، فأسرعوا حتى دخلوا مكة.

إنّ سبب النزول هذا يعلّمنا أنّ المسلمين يجب أن لا يغيب عن بالهم أنواع التكتيك الذي يستخدمه العدو، وأن يواجهوا كل أسلوب حربي يتبعه العدو، ويقابلوا سلاحهم بسلاح أمضى، وحتى شعارات الأعداء يجب أن تقابل بشعارات إسلامية ضاربة، وبغير ذلك فإنّ الرياح ستجري بما يشتهيه الأعداء.

______________________________

(1) الكلوم: الجروح.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 447

التّفسير

أعقبت الآية- موضوع البحث هذه- الآيات السابقة

التي تحدثت عن الجهاد والهجرة واستهدفت إحياء روح التضحية والفداء لدى المسلمين بقولها: «وَلَا تَهِنُوا فِى ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ». وهذا تأكيد على ضرورة أن لا يواجه المسلمون عدوهم اللدود باسلوب دفاعي، بل عليهم أن يقابلوا هذا العدو بروح هجومية دائماً.

بعد ذلك تأتي الآية باستدلال حي وواضح للحكم الذي جاءت به، فتسأل المسلمين لماذا الوهن؟ فأنتم حين يصيبكم ضرر في ساحة الجهاد فإنّ عدوكم سيصيبه هو الآخر سهم من هذا الضرر، مع فارق هو أنّ المسلمين يأملون أن يعينهم اللَّه ويشملهم برحمته الواسعة، بينما الكافرون لا يرجون ولا يتوقعون ذلك، حيث تقول الآية: «إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَايَرْجُونَ».

وفي الختام- ومن أجل إعادة التأكيد- تطلب الآية من المسلمين أن لا ينسوا علم اللَّه بجميع الامور، فهو يعلم معاناة المسلمين ومشاكلهم وآلامهم ومساعيهم وجهودهم، ويعلم أنّهم أحياناً يصابون بالتهاون والفتور، فتقول الآية: «وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا» وسيرى المسلمون نتيجة كل الحالات تلك.

إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَ لَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً (105) وَ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (106)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت في بني الابيرق وكانوا ثلاثة اخوه: بشر، وبشير، ومبشّر.

وكان بشير يكنى أبا طعمة، وكان يقول الشعر، يهجو به أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ثم يقول: قاله فلان. وكانوا أهل حاجة في الجاهلية والإسلام، فنقب أبو طعمة على عِليّة رفاعة بن زيد. وأخذ له طعاماً وسيفاً ودرعاً فشكا ذلك إلى أخيه قتادة بن النعمان، وكان قتادة بدرياً فتجسسا في الدار، وسألا أهل الدار في ذلك، فقال بنو أبيرق: واللَّه ما صاحبكم إلّا لبيد بن سهل، رجل ذو

حسب ونسب. فأصلَتَ عليهم لبيد بن سهل سيفه، وخرج إليهم وقال: يا بني أبيرق أترمونني بالسّرَق، وأنتم أولى به مني، وأنتم منافقون تهجون رسول اللَّه، وتنسبون ذلك إلى قريش! لتبيننّ ذلك، أو لأضعنّ سيفي فيكم! فداروه وأتى قتادة رسول

مختصر الامثل، ج 1، ص: 448

اللَّه، فقال: يا رسول اللَّه! إنّ أهل بيت منا، أهل بيت سوء عدوا على عمي، فخرقوا عِليّة له من ظهرها، وأصابوا له طعاماً وسلاحاً. فقال رسول اللَّه: «انظروا في شأنكم». فلمّا سمع بذلك رجل من بطنهم الذي هم منه، يقال له أسير بن عروة، جمع رجالًا من أهل الدار، ثم انطلق إلى رسول اللَّه، فقال: إنّ قتادة بن النعمان، وعمّه، عمدا إلى أهل بيت منا، لهم حسب، ونسب، وصلاح، وأبنوهم بالقبيح، وقالوا لهم ما لا ينبغي، وانصرف، فلما أتى قتادة رسول اللَّه بعد ذلك، ليكمله، جبهه رسول اللَّه جبهاً شديداً، وقال: عمدت إلى أهل بيت حسب ونسب، تأتيهم بالقبيح، وتقول لهم ما لا ينبغي؟! قال: فقام قتادة من عند رسول اللَّه، ورجع إلى عمه، وقال: يا ليتني متّ، ولم أكن كلمت رسول اللَّه، فقد قال لي ما كرهت! فقال عمّه رفاعة: اللَّه المستعان، فنزلت الآيات «إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ» إلى قوله «إِنَّ اللَّهَ لَايَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ» فبلغ بشيراً ما نزل فيه من القرآن، فهرب إلى مكة، وارتدّ كافراً.

التّفسير

منع الدفاع عن الخائنين: يعرف اللَّه سبحانه وتعالى- في بداية الآية (105) من سورة النساء- نبيّه محمّداً صلى الله عليه و آله بأنّ الهدف من إنزال الكتاب السماوي هو تحقيق مبادى ء الحق والعدالة بين الناس، إذ تقول الآية: «إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَيكَ اللَّهُ».

ثم يحذّر النبي صلى الله عليه

و آله من حماية الخائنين أبدأ بقوله: «وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا».

ومع أنّ الآية خطاب للنبي صلى الله عليه و آله ولكن ممّا لا شك فيه هو أنّ هذا الحكم حكم عام لجميع القضاة والمحكمين.

أمّا الآية الاخرى فهي تأمر النبي صلى الله عليه و آله بطلب المغفرة من اللَّه سبحانه وتعالى، إذ تقول:

«وَاسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا».

وَ لَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَ لَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَ هُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَ كَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) هَا أَنْتُمْ هؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 449

بعد الآيات التي جاءت بتحريم الدفاع عن الخائنين، تستطرد الآيات الثلاث الأخيرة في التشديد على حرمة الدفاع عن الخائنين، بالأخص اولئك الذين يخونون أنفسهم «وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا».

لقد تعرض الخائنون في الآية الاخرى إلى التوبيخ، حيث قالت إنّ هؤلاء يخجلون أن تظهر بواطن أعمالهم وسرائرهم وتنكشف إلى الناس، لكنهم لا يخجلون لذلك من اللَّه سبحانه وتعالى، إذ تقول الآية: «يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ». فلا يتورع هؤلاء من تدبير الخطط الخيانية في ظلام الليل، والتحدث بما لا يرضى اللَّه الذي يراهم ويراقب أعمالهم، أينما كانوا: «وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لَايَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا».

بعد ذلك تتوجه الآية (109) من سورة النساء بالحديث عن شخص السارق الذي تمّ الدفاع عنه، وتقول بأنّه على فرض أن يتمّ الدفاع عن هؤلاء في

الدنيا فمن يستطيع الدفاع عنهم يوم القيامة، أنّ من يقدر أن يكون لهؤلاء وكيلًا ليرتب أعمالهم ويحل مشاكلهم؟! حيث تقول الآية: «هَا أَنتُمْ هؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا». ولذلك فإنّ الدفاع عن هؤلاء الخونة في الدنيا ليس له أثر إلّاالقليل، لأنّهم سوف لا يجدون أبداً من يدافع عنهم أمام اللَّه في الحياة الآخرة الخالدة.

وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَ مَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَ كَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (112) لقد بيّنت هذه الآيات الثلاث، ثلاثة أحكام كلّية بعد أن تطرقت الآيات السابقة إلى مسائل خاصة بالخيانة والتهمة. الآية الاولى تشير إلى هذه الحقيقة وهي أنّ باب التوبة مفتوح أمام المسيئين على كل حال، فإذا ارتكب أحد ظلماً بحق نفسه أو غيره، وندم حقيقة على فعلته، أو استغفر اللَّه لذنبه، وكفّر عن خطيئته فيجد اللَّه غفوراً رحيماً، حيث تقول الآية: «وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا».

إنّ الآية الثانية من الآيات الثلاث الأخيرة، تحكي نفس الحقيقة التي وردت بصورة

مختصر الامثل، ج 1، ص: 450

مختصر الامثل ج 1 479

إجمالية في الآيات السابقة، حيث تؤكد أنّ أي ذنب يقترفه الإنسان ستكون نتيجته في النهاية على المذنب نفسه، ويكون قد أضرّ بنفسه بذنبه، إذ تقول الآية: «وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ». وفي آخر الآية تأكيد على أنّ اللَّه عالم بأعمال العباد، وهو حكيم يجازي كل إنسان بما يستحقه: «وَكَانَ

اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا».

وبالصورة المارة الذكر فإنّ الذنوب مهما اختلفت في الظاهر، فإنّ اضرارها ستلحق أحياناً بالغير وتلحق أحياناً اخرى بمرتكبها، ولكن بالتحليل النهائي، فإنّ الذنب تعود نتيجته كلها إلى الإنسان المذنب نفسه، وإنّ الآثار السيئة للذنب تظهر قبل كل شي ء في روح ونفس الشخص المذنب.

أمّا الآية الثالثة من الآيات الأخيرة، فهي تشير إلى خطورة خطيئة إتهام الناس الأبرياء، إذ تقول: «وَمَن يَكْسِبْ خَطِيَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا».

جريمة البهتان: إنّ اتهام إنسان بري ء يعتبر من أقبح الأعمال التي أدانها الإسلام بعنف.

في عيون الأخبار قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من بهت مؤمناً أو مؤمنة أو قال فيه ما ليس فيه أقامه اللَّه تعالى يوم القيامة على تلّ من نار حتى يخرج ممّا قاله فيه».

وحقيقة الأمر أنّ إشاعة مثل هذا العمل الجبان- في أي محيط إنساني كان- يؤدي في النهاية إلى إنهيار نظام العدالة الاجتماعية، واختلاط الحق بالباطل، وتورط البري ء وتبرئة المذنب، وزوال الثقة من بين الناس.

وَ لَوْ لَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَ مَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ مَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113) في هذه الآية الكريمة إشارة اخرى إلى حادثة «بني الابَيرِق» التي تحدثنا عنها لدى تطرقنا إلى سبب النزول في آيات سابقة، وهذه تؤكد أنّ اللَّه قد صان النبي صلى الله عليه و آله بفضله ورحمته- سبحانه وتعالى- من كيد بعض المنافقين الذين كانوا يأتمرون به صلى الله عليه و آله ليحرفوه عن

مختصر الامثل، ج 1، ص: 451

طريق الحق والعدل،

فكانت رحمة اللَّه أقرب إلى نبيّه فصانته من كيد المنافقين، حيث تقول الآية: «وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ».

لقد سعى اولئك المنافقون- من خلال اتهامهم لشخص بري ء وجرّ النبي وتوريطه في هذه الحادثة- إلى إلحاق ضربة بشخصية النبي صلى الله عليه و آله الاجتماعية والمعنوية أوّلًا، وتحقيق مآربهم الدنيئة بحق إنسان مسلم بري ء ثانياً، ولكن اللَّه العزيز العليم كان لهم بالمرصاد، فصان نبيّه صلى الله عليه و آله من تلك المؤامرة وأحبط عمل المنافقين.

بعد ذلك تذكر الآية أنّ هؤلاء القوم إنّما يرمون بأنفسهم في الضلالة ولا يضرّون بعملهم النّبي صلى الله عليه و آله شيئاً، إذ تقول: «وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْ ءٍ».

وأخيراً توضح الآية سبب عصمة النبي عن الخطأ والزلل والذنب، فتذكر أنّ اللَّه أنزل على نبيّه الكتاب والحكمة وعلمه ما لم يكن يعلم من قبل: «وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ». ثم تردف الآية ذلك بجملة: «وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا».

وقد ورد في آخر الآية دليل من الأدلة الأساسية لقضية العصمة بشكل مجمل، وهذا الدليل هو قوله تعالى أنّه علم نبيّه من العلوم والمعارف التي يكون النبي في ظلها مصوناً من الوقوع في أي خطأ أو زلل، ولأنّ العلم والمعرفة تكون نتيجتهما في المرحلة النهائية حفظ الإنسان من ارتكاب الخطأ.

لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) النجوى أو الهمس: لقد أشارت الآيات السابقة إلى اجتماعات سرية شيطانية كان يعقدها بعض المنافقين أو أشباههم، وقد تطرقت الآية الأخيرة إلى هذا الأمر بشي ء من

التفصيل، وكلمة «النجوى» لا تعني الهمس فقط، بل تطلق على كل اجتماع سري أيضاً.

والآية هنا تذكر أنّ أغلب الاجتماعات السرّية التي يعقدها اولئك تهدف إلى غايات شيطانية شريرة لا خير فيها ولا فائدة، إذ تقول: «لَّاخَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَيهُمْ».

ولكي لا يحصل وهم من أنّ كل نجوى أو همس أو اجتماع سرّي يعتبر عملًا مذموماً أو

مختصر الامثل، ج 1، ص: 452

حراماً جاءت الآية بأمثال كمقدمة لبيان قانون كلي، وأوضحت الموارد التي تجوز فيها النجوى، مثل أن يوصي الإنسان بصدقة أو بمعونة للآخرين أو بالقيام بعمل صالح أو أن يصلح بين الناس، فتقول الآية في هذا المجال: «إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلحٍ بَيْنَ النَّاسِ». فإذا كان هذا النوع من النجوى أو الهمس أو الاجتماعات السرّية لا يشوبه الرياء والتظاهر، بل كان مخصصاً لنيل مرضاة اللَّه، فإنّ اللَّه سيخصص لمثل هذه الأعمال ثواباً وأجراً عظيماً، حيث تقول الآية: «وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا».

وقد عرف القرآن النجوى والهمس والاجتماعات السرّية- من حيث المبدأ- بأنّها من الأعمال الشّيطانية، في قوله تعالى: «إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطنِ».

والنجوى إذا حصلت إبتداءً في جمع من الناس، أثارت لديهم سوء الظّن حيالها، حتى أنّ سوء الظن قد يبدر من الأصدقاء حيال النجوى التي تحصل بينهم، وعلى هذا الأساس فإنّ الأفضل أن لا يبادر الإنسان إلى النجوى إلّاإذا اقتضت الضرورة ذلك، وهذه هي فلسفة هذا الحكم الوارد في القرآن.

وَ مَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ سَاءَتْ مَصِيراً (115)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: نزلت في شأن ابن أبي ابَيْرِق، سارق الدرع ولما

أنزل اللَّه في تقريعه وتقريع قومه الآيات، كفر وارتدّ، ولحق بالمشركين من أهل مكة، ثم نقب حائطاً للسرقة، فوقع عليه الحائط فقتله.

التّفسير

حين يرتكب الإنسان خطأ ويدرك هذا الخطأ، فليس أمامه سوى طريقين:

أحدهما: طريق العودة والتوبة التي أشارت الآيات السابقة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 453

والطريق الثاني: هو أن يسلك الإنسان سبيل العناد، وقد أشارت الآية الأخيرة إلى الآثار والعواقب السيئة لهذا الطريق، حيث أعلنت أنّ من يواجه النبي صلى الله عليه و آله بالعناد والمخالفة بعد وضوح الحق له، ويسير في طريق غير طريق المؤمنين فإنّ اللَّه سوف لن يهديه إلى غير هذا الطريق، وسيرسله اللَّه في يوم القيامة إلى جهنم، وما أسوأ هذا المكان الذي ينتظره! فتقول الآية: «وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا».

إنّ عبارة «يُشَاقِقِ» مأخوذة من مادة «شقاق» بمعنى المخالفة الصريحة المقرونة بالحقد والضغينة.

وجملة «نُوَلّهِ مَا تَوَلّى فهو إشارة إلى حرمان هؤلاء من التوفيق المعنوي، لتمييز الحقّ، ومواصلتهم السير في طريق الضلالة.

وجملة «نُصْلِهِ جَهَنَّمَ» فهي تشير إلى مصير هؤلاء يوم القيامة.

إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيداً (116) الشرك ذنب لا يغتفر: تشير هذه الآية مرة اخرى إلى خطورة جريمة الشرك الذي يعتبر ذنباً لا يغتفر ولا يتصور وجود ذنب أعظم منه، ويأتي هذا البحث بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن المنافقين والمرتدين الذين ينساقون بعد إسلامهم إلى الكفر. ولقد مرّ ما يشابه مضمون هذه الآية في نفس سورة النساء في الآية (48) ولكن تتمة الآيتين تختلف في إحداهما عن الأخرى اختلافاً طفيفاً، حيث تقول

الآية الأخيرة: «وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَللًا بَعِيدًا» بينما يقول في مورد سابق «وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا».

إنّ الآية السابقة تشير إلى الفساد العظيم الذي ينطوي عليه الشرك فيما يخص الجانب الإلهي ومعرفة اللَّه، أمّا الآية الأخيرة فقد بيّنت الأضرار التي يلحقها الشرك بنفس الإنسان والتي لا يمكن تلافيها.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 454

إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَ قَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَ مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ مَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَ لَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً (121) مكائد الشيطان: إنّ الآية الاولى تشرح أوضاع المشركين الذين أشارت إليهم الآية السابقة لهذه الأخيرة وهذه الآية إنّما تبيّن سبب ضلال المشركين، فتذكر أنّهم يعانون من ضيق شديد في أفق تفكيرهم، إذ يتركون عبادة اللَّه خالق ومنشى ء عالم الوجود الوسيع، ويخضعون أمام المخلوقات التي لا تملك أقل أثر إيجابي في الوجود، بل هي- أحياناً- مضللة كالشيطان: «إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَّرِيدًا».

إنّ هذه الآية تحصر أصنام المشركين بنوعين من المخلوقات هما «إناث» و «شيطان مريد».

«إناث»: تعني المخلوق الرقيق اللطيف والمرن. أي أنّ المشركين يعبدون مخلوقات ضعيفة ومطاوعة بين يدي الإنسان، وأنّ وجود هذه المخلوقات بكاملها قابل للتأثر والانحناء أمام الأحداث، وبعبارة أوضح: أنّها موجودات لا تملك الإرادة والاختيار ولا تنفع ولا تضرّ شيئاً أبداً.

و «مريد»: مأخوذة من مادة «مرد» بمعنى سقوط أوراق وأغصان الشجر ولهذا سمّي

الشاب اليافع الذي لم ينبت الشعر في وجهه بالأمرد، وعلى هذا فإنّ الشيطان المريد يعني ذلك الشيطان الذي سقطت منه جميع صفات الفضيلة ولم يبق في وجوده شي ء من مصادر القوّة.

إنّ القرآن قسم أصنام هؤلاء المشركين إلى نوعين: بعضها ضعيف الإرادة مطلقاً والبعض الآخر طاغ متكبر متجبر، لكي يبيّن أنّ الذي يسلم قياده ويخضع لمثل هذه الأصنام إنّما يعيش في ضلال واضح مبين.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 455

بعد ذلك كله تشير الآية إلى صفات الشيطان وأهدافه وعدائه الخاص لأبناء آدم وتتناول بالشرح بعضاً من خططه الدنيئة، وقبل كل شي ء تؤكد أنّ اللَّه قد أبعد الشيطان عن رحمته «لَعَنَهُ اللَّهُ».

وفي الحقيقة فإنّ أساس شقاء وتعاسة الشيطان هو البعد عن رحمة اللَّه، التي أصابته بسبب غروره وتكبره المفرطين.

ثم تذكر الآية التالية أنّ الشيطان قد أقسم على أن ينفذ بعضاً من خططه:

أوّلها: أن يأخذ من عباد اللَّه نصيباً معيناً، حيث تقول الآية حاكية قول الشيطان: «وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا». فالشيطان يعلم بعجزه عن اغواء جميع عباد اللَّه، لأنّ من يستسلم لإرادة الشيطان ويخضع له هم فقط اولئك المنجرفون وراء الأهواء والنزوات والذين لا إيمان لهم، أو ضعاف الإيمان.

والثانية: خطط الشيطان تلخصها الآية بعبارة: «وَلَأُضِلَّنَّهُمْ».

والثالثة: اشغلهم بالامنيات العريضة وطول الأمل: «وَلَأُمَنّيَنَّهُمْ» «1».

أمّا الخطة الرابعة: ففيها يدعو الشيطان أتباعه إلى القيام بأعمال خرافية، مثل قطع أو خرق أذان الحيوانات كما جاء في الآية: «وَلَأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءَاذَانَ الْأَنْعَامِ».

وهذه إشارة لواحد من أقبح الأعمال التي كان يرتكبها الجاهليون المشركون، حيث كانوا يقطعون أو يخرقون أذان بعض المواشي، وكانوا يحرمون على أنفسهم ركوبها بل يحرمون أي نوع من أنواع الإنتفاع بهذه الحيوانات.

وخامس: الخطط التي أقسم الشيطان أن ينفذها ضد الإنسان، هي ما

ورد على لسانه في الآية إذ تقول: «وَلَأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ».

وهذه الجملة تشير إلى أنّ اللَّه قد أوجد في فطرة الإنسان منذ خلقة إياه- النزعة إلى التوحيد وعبادة الواحد الأحد، بالإضافة إلى بقية الصفات والخصال الحميدة الأخرى.

وهذا الضرر الذي لا يمكن التعويض عنه، يلحقه الشيطان بأساس سعادة الإنسان، لأنّه يعكس له الحقائق والوقائع ويستبدلها بمجموعة من الأوهام والخرافات والوساوس التي

______________________________

(1) إنّ عبارة «ولُامنينّهم»: تعود إلى المصدر «منى» على وزن «منع» وتعني قياس الشي ء أو تقييمه، ولكنّها ترد في أغلب الأحيان لتعني القياس والتقييم والآمال الوهمية والخيالية أمّا النطفة التي تسمّى ب «مني» فمعناها أنّ قياس تركيب أولى الموجودات الحسية قد تمّ فيها.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 456

تؤدّي إلى تغيير السعادة بالشقاء للناس، وقد أكّدت الآية في آخرها مبدأ كلياً، وهو أنّ أي إنسان يعبد الشيطان ويجعله لنفسه ولياً من دون اللَّه، فقد ارتكب إثماً وذنباً واضحاً إذ تقول الآية: «وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا». والآية التي تلت هذه الآية جاءت ببعض النقاط بمثابة الدليل على ما جاءت به الآية السابقة حيث ذكرت أنّ الشيطان يستمر في إعطائه الوعود الكاذبة لأولئك ويمنيهم الأمنيات الطوال العراض، ولكنّه لا يفعل شيئاً بالنسبة لهؤلاء غير الإغواء والخداع:

«يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطنُ إِلَّا غُرُورًا» «1».

وبيّنت آخر آية من الآيات الخمس الأخيرة مصير أتباع الشيطان، بأنّهم ستكون نتيجتهم السكنى في جهنم التي لا يجدون منها مفراً أبداً، فتقول الآية: «أُولئِكَ مَأْوَيهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا» «2».

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) لقد بيّنت الآيات السابقة

أنّ الذين يتخذون الشيطان وليّاً لهم، إنّما ينالهم ضرر واضح ومبين، وأنّ الشيطان يعدهم زيفاً وخداعاً ويلهيهم بالامنيات الواهية الخيالية الطويلة العريضة، وإن وعد الشيطان مكر وخداع لا غير. أمّا في هذه الآية الأخيرة- التي هي موضوع بحثنا الآن- فقد بيّنت مقابل اولئك في النهاية أعمال المؤمنين والثواب الذي سينالونه يوم القيامة، من جنّات وبساتين وأنهار تجري فيها، حيث تقول الآية: «وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ».

وإنّ هذه النعمة العظيمة دائمة أبداً، وليست كنعم الدنيا الزائلة، فالمؤمنون في الجنة يتمتعون بما اوتوه من خير دائماً أبداً، تؤكد هذه بعبارة «خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا».

______________________________

(1) «الغرور»: يعني في الأصل الأثر الواضح للشي ء، ولكنّه يطلق في الغالب على الآثار التي لها ظاهر خادع وباطن كريه، ويطلق على كل شي ء يخدع الإنسان مثل المال والجاه والسلطان التي تبعد الإنسان عن الحق وعن جادة الصواب على أنّه مادة للغرور.

(2) «المحيص»: من «المحص» ويعني العدول والانصراف عن الشي ء، وعلى هذا الأساس فإنّ المحيص هو وسيلة الانصراف والفرار.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 457

وإنّ هذا الوعد وعد صادق وليس كوعود الشيطان الزّائفة، حيت تقول الآية: «وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا».

وبديهي أنّ أي فرد لا يستطيع- أبداً- أن يكون أصدق قولًا من اللَّه العزيز القدير في وعوده وفي كلامه، كما تقول الآية: «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا». وطبيعي أنّ عدم الوفاء بالوعد ناتج إمّا عن العجز وإمّا الجهل والحاجة، واللَّه سبحانه منزّه عن هذه الصفات.

لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَ لَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَ لَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَ لَا نَصِيراً (123) وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ

لَا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: تفاخر المسلمون وأهل الكتاب، فقال أهل الكتاب: نبيّنا قبل نبيّكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أولى باللَّه منكم! فقال المسلمون: نبيّنا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على الكتب وديننا الإسلام. فنزلت الآية، فقال أهل الكتاب: نحن وأنتم سواء. فأنزل اللَّه الآية التي بعدها «وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ» الآية.

التّفسير

امتيازات حقيقية واخرى زائفة: لقد بيّنت هذه الآية واحداً من أهم أعمدة أو أركان الإسلام، هو أنّ القيمة الوجودية لأي إنسان وما يناله من ثواب أو عقاب، لا تمت بصلة إلى دعاوى وامنيات هذا الإنسان مطلقاً، بل إنّ تلك القيمة ترتبط بشكل وثيق بعمل الإنسان وإيمانه وإنّ هذا مبدأ ثابت، وسنّة غير قابلة للتغيير، وقانون تتساوى الامم جميعها أمامه، ولذلك تقول الآية في بدايتها: «لَيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ وَلَا أَمَانِىّ أَهْلَ الْكِتَابِ». وتستطرد فتقول:

«مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا».

وكذلك الذين يعملون الخير ويتمتعون بالإيمان- سواء أكانوا من الرجال أو النساء- فإنّهم يدخلون الجنة ولا يصيبهم أقل ظلم أبداً، حيث تقول الآية: «وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 458

وبهذه الصورة يعمد القرآن إلى نبذ كل العصبيات بكل بساطة، معتبراً الاعتبارات والإرتباطات المصطنعة الخيالية والاجتماعية والعرقية وأمثالها خاوية من كل قيمة إذا قيست برسالة دينية، ويعتبر الإيمان بمبادي ء الرسالة والعمل بأحكامها هو الأساس.

وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ وَ اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ كَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ

مُحِيطاً (126) لقد تحدثت الآيات السابقة عن أثر الإيمان والعمل، كما بيّنت أنّ إتّباع أي مذهب أو شريعة غير شرع اللَّه لا يغني عن الإنسان شيئاً، والآية الحاضرة تداركت كل وهم قد يطرأ على الذهن من سياق الآيات السابقة، فأوضحت أفضيلة شريعة الإسلام وتفوقها على سائر الشرائع الموجودة، حيث قالت: «وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرهِيمَ حَنِيفًا».

لقد بيّنت الآية- موضوع البحث- اموراً ثلاثة تكون مقياساً للتفاضل بين الشرائع وبياناً لخيرها:

1- الإستسلام والخضوع المطلق للَّه العزيز القدير، حيث تقول الآية: «أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ».

2- فعل الخير، كما تقول الآية: «وَهُوَ مُحْسِنٌ». والمقصود بفعل الخير- هنا- كل خير يفعله الإنسان بقلبه أو لسانه أو عمله.

3- إتّباع شريعة إبراهيم النقية الخالصة، كما في الآية: «وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرهِيمَ حَنِيفًا» «1».

ودليل الإعتماد على شريعة إبراهيم ما ذكرته الآية نفسها في آخرها، إذ تقول: «وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرهِيمَ خَلِيلًا».

بعد ذلك تتحدث الآية التالية بملكية اللَّه والمطلقة وإحاطته بجميع الأشياء، حيث تقول:

______________________________

(1) «ملّة»: تعني «الشريعة أو الدين» والفرق بين الملّة والدين أنّ الاولى لا تنسب إلى اللَّه، أى لا يقال «ملّة اللَّه» ويمكن أن تضاف إلى النّبي بينما كلمة الدين أو الشريعة يمكن أي يضافا إلى لفظ الجلالة فيقال: «دين اللَّه» أو «شريعة اللَّه» كما يمكن إضافتهما إلى النّبي أيضاً. و «حنيف»: تعني الشخص الذي يترك الأديان الباطلة ويتبع دين الحق.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 459

«وَلِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَىْ ءٍ مُّحِيطًا». وهذه إشارة إلى أنّ اللَّه حين انتخب إبراهيم عليه السلام خليلًا له، ليس من أجل الحاجة إلى إبراهيم فاللَّه منزّه عن الاحتياج لأحد، بل إنّ هذا الاختيار قد تمّ لما لإبراهيم من صفات

وخصال وسجايا طيّبة بارزة لم توجد في غيره.

وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَ مَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً (127) عود على حقوق المرأة: تجيب الآية الأخيرة هذه على أسئلة وردت حول النساء من قبل المسلمين (وبالأخص حول اليتامى منهنّ) فتخاطب النبي صلى الله عليه و آله وتبين له أنّ اللَّه هو الذي يفتي في الأسئلة التي وجهت إليك يا محمّد حول الأحكام الخاصة بحقوق النساء، فتقول:

«وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ».

وتضيف الآية إنّ ما ورد في القرآن الكريم حول الفتيات اليتامى اللواتي كنتم تتصرفون في أموالهن، ولم تكونوا لتتزوّجوا بهن، ولم تدفعوا أموالهن إليهن لكي يتزوجن من آخرين، فإنّه يجيب على قسم آخر من اسئلتكم ويبيّن لكم قبح ما كنتم تعملون من ظلم بحق هؤلاء النسوة: «وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ فِى يَتَامَى النّسَاءِ التِى لَاتُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنْكِحُوهُنَّ».

ثم توصي الآية الكريمة بالأولاد الذكور الصغار الذين كانوا يحرمون من الإرث وفق التقاليد الجاهلية، فتؤكد ضرورة رعاية حقوقهم، حيث تقول: «وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ».

كما تعود الآية فتكرّر التأكيد على حقوق اليتامى، فتذكّر أنّ اللَّه يوصيكم في أن تراعوا العدالة في تعاملكم مع اليتامى: «وَأَن تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ».

وفي الختام تجلب الآية الإنتباه إلى أنّ أي عمل خير يصدر منكم وبالأخص إذا كان في حق اليتامى والمستضعفين- فإنّه لا يخفى على اللَّه- وإنّكم ستنالون أجر ذلك في النهاية، حيث تقول الآية: «وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا».

مختصر الامثل،

ج 1، ص: 460

إنّ عبارة «يَسْتَفْتُونَكَ» مشتقة من المصدر «فتوى» أو «فتيا» ومعناها الإجابة على كل سؤال معضل.

وَ إِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ وَ أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: كانت بنت محمد بن سلمة، عند رافع بن خديج، وكانت قد دخلت في السن وكانت عنده امرأة شابة سواها فطلّقها تطليقة حتى إذا بقي من أجلها يسير.

قال: إن شئتِ راجعتكِ وصبرتِ على الأثَرة «1» وإن شئتِ تركتكِ! قالت: بل راجعني وأصبر على الأثرة. فراجعها، فذلك الصلح الذي بلغنا أنّ اللَّه تعالى أنزل فيه هذه الآية.

التّفسير

الصلح خير: وقد بيّنت الآيات السابقة حكم نشوز المرأة، وفي هذه الآية إشارة لنشوز الرجل فالآية تتحدث عن المرأة إذا أحست من زوجها التكبر والإعراض عنها، وتبيّن أن لا مانع من أن تتنازل عن بعض حقوقها، وتتصالح مع زوجها، من أجل حماية العلاقة الزوجية من التصدع، فتقول: «وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا».

بعد ذلك تؤكّد الآية على أنّ الصلح خير وأحسن، حيث تقول: «وَالصُّلْحُ خَيْرٌ». وهذه الجملة الصغيرة مع أنّها جاءت في مجال الخلافات العائلية، لكنها تبين قانوناً كلياً، وتؤكّد أنّ الصلح هو المبدأ الأوّل في كل المجالات، وأنّ الخلاف والنزاع والصراع والفراق ليس له وجود في الطبع والفطرة الإنسانية السليمة، ولذلك فلا تسوّغ هذه الفطرة التوسل بالنزاع وما يجري مجراه إلّافي الحالات الاستثنائية الطارئة.

وتشير الآية بعد ذلك مباشرة إلى أنّ الإنسان بسبب غريزة حبّ الذات التي يمتلكها تحيط به أمواج البخل، بحيث إنّ كل إنسان

يسعى إلى نيل حقوقه دون التنازل عن أقل شي ء منها، وهذا هو سبب ومنبع النزاع والصراع، تقول الآية: «وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ».

______________________________

(1) الأثرة: الإختيار: أي اختياري للمرأة الشابة وتقديمي إيّاها عليك.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 461

ولكي لا يسي ء الرجال استغلال هذا الحكم الوارد في الآية، وجه الخطاب إليهم في نهايتها ودعوا إلى فعل الخير والتزام التقوى، ونبهوا إلى أنّ اللَّه يراقب أعمالهم دائماً فليحذروا الإنحراف عن جادة الحق والصواب، تقول الآية في هذا المجال: «وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا».

وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَ إِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَ كَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً (130) العدالة شرط في تعدد الزوجات: نستنتج من الجملة التي وردت في نهاية الآية السابقة- التي تمّ البحث عنها والتي دعت الرجال إلى فعل الخير والتزام التقوى- إنّها تعتبر نوعاً من التهديد للأزواج من الرجال، بأن يراقبوا حالهم ولا ينحرفوا قيد شعرة عن جادة الحق والعدالة لدى التعامل مع زوجاتهم. وقد يرد إعتراض وهو: إنّ تحقيق العدالة في مجال الحب والعلاقات القلبية أمر بعيد المنال، فكيف يمكن إذن والحالة هذه اتباع العدل مع الزوجات؟

وردّاً على الإعتراض المذكور توضح الآية (129) من سورة النساء، بأنّ تحقيق العدالة في مجال الحب بين الزوجات أمر غير ممكن، مهما بذل الإنسان من سعي في هذا المجال، فتقول الآية: «وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ».

ولكي لا يسي ء الرجال استغلال هذا الحكم، طالبت الآية الرجال بأن لا يظهروا الميل الكامل لإحدى الزوجات إذا تعسر عليهم تحقيق المساواة في حبهم

لهن جميعاً، كي لا يضيع حق الاخريات ولا يحرن في أمرهن ماذا يفعلن! حيث تقول الآية: «فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ».

وتحذر الآية في آخرها اولئك الذين يجحفون في حق زوجاتهم، وتطالبهم بأن يتبعوا طريق الإصلاح والتقوى، ويعرضوا عمّا فات في الماضي، كي يشملهم اللَّه برحمته وعفوه، فتقول الآية: «وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا».

أمّا الآية الثانية من الآيتين الأخيرتين، فهي تشير إلى هذه الحقيقة، وهي أنّه لو استحال مواصلة الحياة الزوجية للطرفين- الزوج والزوجة- واستحال الإصلاح بينهما، فإنّهما-

مختصر الامثل، ج 1، ص: 462

والحالة هذه- غير مرغمين على الإستمرار في مثل هذه الحياة المُرّة الكريهة، بل يستطيعان أن ينفصلا عن بعضهما وعليهما اتخاذ موقف شجاع وحاسم في هذا المجال دون خوف أو رهبة من المستقبل، لأنّهما لو انفصلا في مثل تلك الحالة فإنّ اللَّه العليم الحكيم سيغنيهما من فضله ورحمته، فلا يعدمان الأمل في حياة مستقبلية أفضل، فتقول الآية الكريمة في هذا المجال: «وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا».

وَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ إِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ كَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً (131) وَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ كَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ وَ كَانَ اللَّهُ عَلَى ذلِكَ قَدِيراً (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ وَ كَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) لقد أوضحت الآية السابقة أن إذا اقتضت الضرورة لزوجين أن ينفصلا عن بعضهما دون أن

يجدا حلًا بديلًا عن الانفصال فلا مانع من ذلك، وليس عليهما أن يخافا من حياة المستقبل، لأنّ اللَّه سيشملهما بكرمه وفضله، ويزيل احتياجهما برحمته وبركته. أمّا في الآية- موضوع البحث- فإنّ اللَّه يؤكّد قدرته على إزالة ورفع تلك الاحتياجات، لأنّه مالك ما في السماوات وما في الأرض «وَلِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ». وإنّ من يملك ملكاً لا نهاية له كهذا الملك، ويملك قدرة لا نفاد لها أبداً، لن يكون عاجزاً- مطلقاً- عن رفع احتياجات خلقه وعباده.

ولكي تؤكد الآية ضرورة التقوى في هذا المجال وفي أي مجال آخر، تشير الآية إلى أنّ اليهود والنصارى وكل من كان له كتاب سماوي قبل المسلمين قد طلب منهم جميعاً كما طلب منكم مراعاة التقوى: «وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ».

بعد ذلك تتوجه الآية إلى مخاطبة المسلمين، فتؤكّد لهم أنّ الالتزام بحكم التقوى سيجلب النفع لهم، وأن ليس للَّه بتقواهم حاجة، كما تؤكد أنّهم إذا عصوا وبغوا، فإنّ ذلك لا يضرّ اللَّه أبداً، لأنّ اللَّه هو مالك ما في السماوات وما في الارض، فهو غير محتاج إلى أحد أبداً، ومن

مختصر الامثل، ج 1، ص: 463

حقّه أن يشكره عباده دائماً وأبداً: «وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا».

وفي الآية التالية جرى التأكيد- وللمرة الثالثة- على أنّ كل ما في السماوات وما في الأرض هو ملك للَّه، وأنّ اللَّه هو الحافظ والمدبر والمدير لكل الموجودات «وَلِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا».

ثم يبيّن- عزّ من قائل- أنّه لا يأبه في أن يزيل قوماً عن الوجود، ليأتي مكانهم بقوم آخرين أكثر استعداداً وعزماً وأكثر دأباً في طاعة

اللَّه وعبادته، واللَّه قادر على هذا الأمر «إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بَاخِرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذلِكَ قَدِيرًا».

و الآية الأخيرة من الآيات الأربع الماضية، ورد الحديث فيها عن اناس يزعمون أنّهم مسلمون، ويشاركون في ميادين الجهاد، ويطبقون أحكام الإسلام، دون أن يكون لهم هدف إلهي، بل يهدفون لنيل مكاسب مادية مثل غنائم الحرب فتنبه الآية إلى أنّ الذين يطلبون الأجر الدنيوي يتوهمون في طلبهم هذا، لأنّ اللَّه عنده ثواب الدنيا والآخرة معاً «مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ».

فلماذا لا يطلب- ولا يرجو- هؤلاء، التوّابون معاً؟ واللَّه يعلم بنوايا الجميع ويسمع كل صوت ويرى كل مشهد ويعرف أعمال المنافقين وأشباههم: «وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا» يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَ لَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) العدالة الإجتماعية: على غرار الأحكام التي وردت في الآيات السابقة حول تطبيق العدالة مع الأيتام والزوجات تذكر الآية الأخيرة- موضوع البحث- مبدأ أساسياً وقانوناً كلياً في مجال تطبيق العدالة في جميع الشؤون والموارد بدون استثناء، وتأمر جميع المؤمنين بإقامة العدالة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ».

والمراد من التعبير بالقيام في الآية يكون تأكيداً لضرورة تحقيق العدالة دون أقل انحراف إلى أي جهة كانت.

ولتأكيد الموضوع جاءت الآية بكلمة «الشهادة» فشددت على ضرورة التخلي عن كل

مختصر الامثل، ج 1، ص: 464

الملاحظات والمجاملات أثناء أداء الشهادة، وأن يكون هدف الشهادة بالحق هو كسب مرضاة اللَّه فقط، حتى لو أصبحت النتيجة في ضرر الشاهد أو أبيه أو أمه

أو أقاربه: «شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ». وتشير الآية بعد ذلك إلى عوامل الانحراف عن مبدأ العدالة، فتبيّن أنّ ثروة الأغنياء يجب أن لا تحول دون الإدلاء بالشهادة العادلة، كما أنّ العواطف والمشاعر التي تتحرك لدى الإنسان من أجل الفقراء، يجب أن تكون سبباً في الإمتناع عن الادلاء بالشهادة العادلة حتّى ولو كانت نتيجتها لغير صالح الفقراء، لأنّ اللَّه أعلم من غيره بحال هؤلاء الذين تكون نتيجة الشهادة العادلة ضدهم، فلا يستطيع صاحب الجاه والسلطان أن يضرّ بشاهد عادل يتمتع بحماية اللَّه، ولا الفقير سيبيت جوعاناً بسبب تحقيق العدالة، تقول الآية في هذا المجال:

«إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا».

وللتأكيد أكثر تحكم الآية بتجنّب إتّباع الهوى، لكي لا يبقى مانع أمام سير العدالة وتحقيقها إذ تقول الآية: «فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا» «1».

ويتّضح من هذه الجملة أنّ مصدر الظلم والجور كلّه، هو إتّباع الهوى، فالمجتمع الذي لا تسوده الأهواء يكون بمأمن من الظلم والجور.

ولأهمية موضوع تحقيق العدالة، يؤكد القرآن هذا الحكم مرّة اخرى، فيبين أنّ اللَّه ناظر وعالم بأعمال العباد- فهو يشهد ويرى كل من يحاول منع صاحب الحق عن حقه، أو تحريف الحق، أو الإعراض عن الحق بعد وضوحه، فتقول الآية: «وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا» «2».

وتثبت الآية اهتمام الإسلام المفرط بقضية العدالة الاجتماعية، وإنّ مواطن التأكيد المتكررة في هذه الآية تبيّن مدى هذا الإهتمام الذي يوليه الإسلام لمثل هذه القضية

______________________________

(1) يمكن أن تكون عبارة «تعدلوا» اشتقاقاً إمّا من مادة «العدالة» أو من مادة «العدول» فإن كانت من مادة «العدالة» يكون معنى الجملة القرآنية هكذا: فلا تتبعوا الهوى لأن تعدلوا أي لكي تستطيعوا تحقيق العدل،

وأما إذا كانت من مادة «العدول» يكون المعنى هكذا: فلا تتّبعوا الهوى في أن تعدلوا أي لا تتّبعوا الهوى في سبيل الانحراف عن الحق.

(2) «تلووا»: مشتقة من المصدر «لي» وتعني المنع والإعاقة وقد وردت في الأصل بمعنى اللّي والبرم.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 465

الانسانية الاجتماعية الحساسة، وممّا يُؤسف له كثيراً أن نرى الفارق الكبير بين عمل المسلمين وهذا الحكم الإسلامي السامي، وإنّ هذا هو سرّ تخلف المسلمين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ الْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَ مَلَائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيداً (136)

سبب النّزول

روي في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس أنّه قال: إنّ الآية نزلت في مؤمني أهل الكتاب، عبد اللَّه بن سلام، وأسد وأسيد، إبني كعب، وثعلبة بن قيس وابن اخت عبد اللَّه بن سلام ويامين بن يامين وهؤلاء من كبار أهل الكتاب، قالوا: نؤمن بك وبكتابك وبموسى وبالتوراة وعزير، ونكفر بما سواه من الكتب وبمن سواهم من الرسل. فقيل لهم: بل آمنوا باللَّه ورسوله الآية.

التّفسير

يتبيّن من سبب النزول أنّ الكلام في الآية موجه إلى جمع من مؤمني أهل الكتاب الذين قبلوا الإسلام، ولكنهم لعصبيات خاصة أبوا أن يؤمنوا بما جاء قبل الإسلام من أنبياء وكتب سماوية غير الدين الذي كانوا عليه، فجاءت الآية توصيهم بضرورة الإيمان والإقرار والإعتراف بجميع الأنبياء والمرسلين والكتب السماوية، لأنّ هؤلاء جميعاً يسيرون نحو هدف واحد، وهم مبعوثون من مبدأ واحد. ولذلك فلا معنى لقبول البعض وإنكار البعض الآخر من هؤلاء الأنبياء والرسل، فالحقيقة الواحدة لا يمكن التفريق بين أجزائها، وأنّ العصبيات ليس بإمكانها الوقوف أمام الحقائق،

لذلك تقول الآية الكريمة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ءَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِى نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِى أَنزَلَ مِن قَبْلُ».

وقد بيّنت الآية- في آخرها- مصير الذين يجهلون هذه الحقائق، حيث قالت: «وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَللًا بَعِيدًا».

وفي هذه الآية اعتبر الإيمان واجباً وضرورياً بخمسة مبادى ء، فبالإضافة إلى ضرورة الإيمان بالمبدأ والمعاد، فإنّ الإيمان لازم وضروري بالنسبة إلى الكتب السماوية والأنبياء والملائكة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 466

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) مصير المنافقين المعاندين: تماشياً مع البحث الذي ورد في الآية السابقة والذي تناول وضع الكفار وضلالهم البعيد، تشير هذه الآيات الأخيرة إلى وضع مجموعة من الكفار الذين يتلوّنون في كل يوم تلون الحرباء، فالآية الاولى من الآيات الثلاثة الأخيرة تتحدث عن مصير أفراد كهؤلاء، فتؤكّد بأنّ اللَّه لن يغفر لهم أبداً، ولن يرشدهم إلى طريق الصواب:

«إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا».

ثم تؤكد الآية التالية نوع العذاب الذي يستحقه هؤلاء فتقول: «بَشّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا».

وقد أشارت الآية الأخيرة إلى المنافقين بأنّهم يتخذون الكفّار أصدقاءاً وأحباءاً لهم بدلًا من المؤمنين، بقولها: «الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ».

ثم يأتي التساؤل في الآية عن هدف هؤلاء المنافقين من صحبة الكافرين، وهل أنّهم يريدون حقّاً أن يكتسبوا الشرف والفخر عبر هذه الصحبة؟ تقول الآية: «أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ».

بينما العزة والشرف كلها للَّه «فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا». لأنّها تنبع من العلم والقدرة، وأنّ الكفار لا يمتلكون من القوة والعلم شيئاً، ولذلك فإنّ علمهم لا شي ء أيضاً، ولا يستطيعون إنجاز شي ء لكي يصبحوا مصدراً للعزة والشرف.

إنّ هذه الآية تحذير للمسلمين بأن لا يلتمسوا الفخر والعزة في شؤونهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية عن طريق إنشاء علاقات الود والصداقة مع أعداء الإسلام لأنّهم متى ما اقتضت مصالحهم الشخصية تخلّوا عن أقرب حلفائهم وركضوا وراء مصالحهم، وكأنّهم لم يكونوا ليعرفوا هؤلاء الحلفاء مسبقاً، والتاريخ المعاصر خير دليل على هذا السلوك النفعي الإنتهازي.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 467

وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَ يُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَ الْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140)

سبب النّزول

نقل في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس: كان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود، فيسخرون من القرآن، فنهاهم اللَّه تعالى عن ذلك.

التّفسير

النهي عن المشاركة في مجالس يعصى اللَّه فيها: لقد ورد في الآية (68) من سورة الأنعام أمر صريح إلى النبي صلى الله عليه و آله في أن يعرض عن اناس يستهزئون بآيات القرآن ويتكلمون بما لا يليق، والآية هذه تكرر الحكم المذكور مرة اخرى، وتحذّر المسلمين مذكرة إيّاهم بحكم سابق في القرآن نهى فيه المسلمون عن المشاركة في مجالس يستهزأ فيها ويكفر بالقرآن الكريم، حتى يكفّ أهل هذه المجالس عن الاستهزاء ويدخلوا في حديث آخر، تقول الآية: «وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ».

بعد ذلك تبين الآية لنا

نتيجة هذا العمل، وتؤكّد أنّ من يشارك في مجالس الاستهزاء بالقرآن فهو مثل بقية المشاركين وسيكون مصيره نفس مصير اولئك المستهزئين. تقول الآية: «إِنَّكُمْ إِذًا مّثْلُهُمْ».

ثم تكرر الآية التأكيد على أنّ المشاركة في المجالس المذكورة تدل على الروحية النفاقية التي يحملها المشاركون، وإنّ اللَّه يجمع المنافقين والكافرين في جهنم حيث العذاب الأليم، تقول الآية: «إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعًا».

الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَ إِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 468

صفات المنافقين: تبيّن هذه الآية- وآيات اخرى تالية- قسماً آخر من صفات المنافقين وأفكارهم المضطربة، فتؤكّد أنّ المنافقين يسعون دائماً لاستغلال أي حدث لصالحهم، فلو انتصر المسلمون حاول المنافقون أن يحشروا أنفسهم بين صفوف المؤمنين، زاعمين بأنّهم شاركوا المؤمنين في تحقيق النصر وأدعوا بأنّهم قدموا دعماً مؤثراً للمؤمنين في هذا المجال، مطالبين بعد ذلك بمشاركة المؤمنين في الثمار المعنوية والمادية للنصر حيث تقول الآية في حقهم: «الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ».

وهؤلاء المنافقون ينقلبون على أعقابهم حين يكون النصر الظاهري من نصيب أعداء الإسلام فيتقربون إلى هؤلاء الأعداء، ويعلنون لهم الرضى والموافقة بقولهم أنّهم هم الذين شجعوهم على قتال المسلمين وعدم الإستسلام لهم، ويدعون بأنّهم شركاء في النصر الذي حققه أعداء الإسلام تقول الآية: «وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعَكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ».

وعلى هذا المنوال تحاول هذه الفئة المنافقة أن تكون تارة رفاق الطريق مع الكفار وتارة شركاءهم في الجريمة

وهكذا يمضون حياتهم بالتلون والنفاق واللعب على الحبال المختلفة.

ولكن القرآن الكريم يوضح بعبارة واحدة مصير هؤلاء ونهايتهم السوداء، ويبين أنّهم- لا محالة- سيلاقون ذلك اليوم الذي تكشف فيه الحجب عن جرائمهم ويرفع النقاب عن وجوههم الكريهة، وعند ذلك- أي في ذلك اليوم، وهو يوم القيامة- سيحكم اللَّه بينهم وهو أحكم الحاكمين، فتقول الآية في هذا المجال: «فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ».

ولكي يطمئن القرآن المؤمنين الحقيقيين من خطر هؤلاء، تؤكد هذه الآية- في آخرها- بأنّ اللَّه لن يجعل للكافرين مجالًا للانتصار أو التسلط على المسلمين، وذلك حيث تقول الآية: «وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا».

إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خَادِعُهُمْ وَ إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لَا إِلَى هؤُلَاءِ وَ لَا إِلَى هؤُلَاءِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 469

لقد وردت في هذه الآية خمس صفات للمنافقين، وهي:

1- إنّ هؤلاء- لأجل تحقيق أهدافهم الدنيئة- يتوسلون بالخدعة والحيلة، حتى أنّهم يريدون على حسب ظنهم أن يخدعوا اللَّه تعالى أيضاً، ولكنّهم يقعون في نفس الوقت ومن حيث لا يشعرون في حبال خدعتهم ومكرهم، إذ هم- لأجل اكتساب ثروات مادية تافهة- يخسرون الثروات الكبيرة الكامنة في وجودهم، تقول الآية في هذا المجال: «إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ».

2- إنّ المنافقين بعيدون عن رحمة اللَّه، ولذلك فهم لا يتلذذون بعبادة اللَّه والتقرب إليه، ويدل على ذلك أنّهم حين يريدون أداء الصّلاة يقومون إليها وهم كسالى خائرو القوى، تقول الآية في هذا الأمر: «وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَوةِ قَامُوا كُسَالَى .

3- ولما كان المنافقون لا يؤمنون باللَّه وبوعوده، فهم حين يقومون

بأداء عبادة معينة، إنّما يفعلون ذلك رياءاً ونفاقاً وليس من أجل مرضاة اللَّه، تقول الآية: «يُرَاءُنَ النَّاسَ».

4- ولو نطقت ألسن هؤلاء المنافقين بشي ء من ذكر اللَّه، فإنّ هذا الذكر لا يتجاوز حدود الألسن، لأنّه ليس من قلوبهم، ولا هو نابع من وعيهم ويقظتهم، وحتى لو حصل هذا الأمر فهو نادر وقليل. تقول الآية: «وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا».

5- إنّ المنافقين يعيشون في حيرة دائمة ودون أي هدف أو خطّة معيّنة لطريقة الحياة ولهذا فهم يعيشون حالة من التردد والتذبذب، فلا هم مع المؤمنين حقّاً ولا هم يقفون إلى جانب الكفار ظاهراً، وفي هذا تقول الآية الكريمة: «مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لَاإِلَى هؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هؤُلَاءِ».

وتبيّن الآية في الختام مصير هؤلاء المنافقين، وتوضح أنّهم اناس قد سلب اللَّه عنهم حمايته نتيجة لأعمالهم وتركهم يتيهون في الطريق المنحرف الذي سلكوه بأنفسهم، فهم لن يهتدوا أبداً إلى طريق النجاة، لأنّ اللَّه كتب عليهم التيه والضلالة عقاباً لهم على أعمالهم.

تقول الآية الكريمة في ذلك: «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَ سَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 470

لقد أشارت الآيات السابقة إلى قسم من صفات المنافقين، والآيات التالية- هذه- تحذر المؤمنين وتأمرهم أن لا يعتمدوا على المنافقين والكفار بدل الإعتماد على المؤمنين، وأن لا يطلبوا النصرة منهم «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ».

وتبيّن أنّ

الاعتماد على الكفار يعتبر جريمة وخرقاً صارخاً للقانون الإلهي وشركاً باللَّه، ونظراً لقانون العدل الإلهي فإنّ هذه الجريمة تستحق عقاباً شديداً، حيث تؤكد الآية:

«أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا».

وفي الآية الثانية من الآيات الأخيرة بيان لأحوال المنافقين، الذين اتخذهم بعض الغافلين من المؤمنين اصدقاء لأنفسهم، حيث توضح الآية أنّ المنافقين يستقرون في القيامة في أحط وأسفل دركة من دركات جهنم، ولن يستطيع أحد أن ينصرهم أو ينقذهم من هذا المصير أبداً، تقول الآية: «إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا».

ويتبيّن من هذه الآية أنّ النفاق في نظر الإسلام أشد أنواع الكفر، وأنّ المنافقين أبعد الخلق من اللَّه.

وقد أوضحت الآية الثالثة من الآيات الأخيرة، أنّ المجال مفتوح حتى لأكثر الناس تلوثاً للتوبة من أعمالهم وإصلاح شأنهم، والسعي للتعويض بالخير عن ماضيهم المشين، والعودة إلى رحمة اللَّه والتمسك بحبله والإخلاص للَّه بالإيمان به تقول الآية: «إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ».

فالتائبون هؤلاء سيكونون أهلًا للنجاة في النهاية ويستحقون صحبة المؤمنين، تقول الآية: «فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ».

وإنّ اللَّه سيهب ثواباً وأجراً عظيماً لكل المؤمنين «وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا».

مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ وَ كَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً (147) العقاب الإلهي ليس دافعه الإنتقام: هذه الآية تشير إلى حقيقة ثابتة وهي أنّ العقاب الإلهي الموجه للبشر العاصين ليس بدافع الإنتقام ولا هو بدافع التظاهر بالقوة، كما أنّه ليس تعويضاً عن الخسائر الناجمة عن تلك المعاصي، فهذه الامور إنّما تحصل ممن في طبيعته النقص والحاجة، واللَّه سبحانه وتعالى منزّه من كل نقص ولا يحتاج أبداً إلى شي ء. إذن فالعقاب الذي يلحق الإنسان لما يرتكبه من معاص، إنّما هو انعكاس

للنتائج السيئة التي

مختصر الامثل، ج 1، ص: 471

ترتبت على تلك المعاصي.

ولتأكيد هذا الأمر تضيف الآية مبيّنة أنّ اللَّه عالم بأعمال ونوايا عباده، وهو يشكر ويثيب كل من يفعل الخير من العباد لوجه اللَّه. فتقول الآية: «وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا».

وقد قدمت هذه الآية مسألة الشكر على الإيمان لأجل بيان هذه الحقيقة، وهي أنّ الإنسان ما لم يدرك نعم اللَّه وهباته العظيمة ويشكره على هذه النعم فلن يستطيع التوصل إلى معرفة اللَّه والإيمان به، لأن أنعمه سبحانه وتعالى إنّما هي وسائل لمعرفته.

لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَ كَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً (149) في هذه الآية إشارتان إلى التكاليف الأخلاقية الإسلامية:

الاولى تبيّن أنّ اللَّه لا يحبّ التجاهر بالكلام البذى ء، ولا يرضى بما يصدر من كلام عن عيوب الناس وفضائح أعمالهم، فتقول الآية: «لَايُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ».

إنّ عدم الرضى من نشر فضائح أعمال الناس، نابع من حقيقة أنّ اللَّه هو ستار العيوب، فلا يجب أن يقوم عباده بكشف سيئات الآخرين من أمثالهم أو الإساءة إلى سمعتهم، إلّاأنّ الآية الكريمة لم تحرّم (القول بالسّوء) تحريماً مطلقاً، فقد استثنت حالة يمكن فيها أن يصار إلى الكشف والفضح، وهذه الحالة هي إذا وقع الإنسان مظلوماً حين قالت الآية: «إِلَّا مَن ظُلِمَ». وبهذا الدليل يستطيع المظلوم- في مقام الدفاع عن نفسه- أن يكشف فضائح الظالم، سواء عن طريق الشكوى أو فضح مساوى ء الظالم أو توجيه النقد له، أو استغابته، ولا يسكت على الظلم حتى استعادة حقوقه من الظالم.

ولكي تسد الآية الطريق على كل انتهازي كاذب يريد إساءة استغلال هذا الحكم بدعوى

وقوع الظلم عليه أكدّت على أنّ اللَّه يراقب أعمال البشر ويعلم ويسمع بكلّ ما يصدر عنهم من أفعال حيث تقول الآية: «وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا».

وفي الآية التالية يشير القرآن الكريم إلى النقطة المواجهة لهذا الحكم، حيث يبيح التحدث عن محاسن الأفراد أو كتمانها (على عكس المساوى ء التي يجب أن تكتم إلّافي حالة استثنائية) كما تبيح- أو بالأحرى تحثّ- الفرد على إصدار العفو على من إرتكب السوء بحقه، لأنّ العفو عند المقدرة من صفات اللَّه العزيز القدير الذي يعفو عن عباده مع إمتلاكه

مختصر الامثل، ج 1، ص: 472

القدرة على الإنتقام بأي صورة شاء، فتقول الآية في هذا المجال: «إِن تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا».

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا (150) أُولئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً (151) وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ كَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) لا تمييز بين الأنبياء: تحدثت الآيات الأخيرة عن مواقف طائفة من الكافرين، ومواقف اخرى لطائفة من المؤمنين، كما ذكرت هذه الآيات نهاية كل من الطائفتين، وهي بهذا تأتي مكملة للآيات السابقة التي تحدثت بشأن المنافقين.

وتشير الآية الاولى إلى طائفة فرقوا بين الأنبياء، فاعتبروا بعضهم على حق والبعض الآخر على باطل، فتؤكد أنّ هذا النفر من الناس كفار حقيقيون.

والواقع أنّ هذه الآية توضح موقف اليهود والنصارى، فاليهود كانوا يرفضون الإيمان بالنبي عيسى نبي النصارى، واليهود والنصارى معاً كانوا يرفضون الإذعان لنبوّة نبي الخاتم صلى الله

عليه و آله في حين أنّ كتابيهم السماويين قد أثبتا نبوة هؤلاء الأنبياء.

وعلى هذا الأساس فإنّ ما يتظاهرون به من إيمان لا حقيقة ولا قيمة له مطلقاً، لأنّه لا ينبع من روح طلب الحقيقة. والقرآن الكريم يهدد هؤلاء- وأمثالهم- بأنّهم يلقون الذل والهوان، حيث تقول الآية: «وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا».

وقد يكون وصف العذاب في هذه الآية ب «المهين» سببه أنّ هؤلاء بقبولهم بعض الأنبياء ورفضهم الإيمان بالبعض الآخر منهم، إنّما يوجّهون الإهانة بحق عدد من الأنبياء، لذلك يجب أن ينال هؤلاء عذاباً مهيناً يتناسب واهانتهم تلك.

وقد تطرقت الآية الأخيرة إلى موقف المؤمنين الذين آمنوا باللَّه وبجميع أنبيائه ورسله ولم يفرقوا بين أي من الأنبياء والرسل واخلصوا للحق، وكافحوا كل أنواع العصبيات الباطلة، وبيّنت أنّ اللَّه سيوفّي هؤلاء المؤمنين أجرهم وثوابهم في القريب العاجل، فتقول الآية:

مختصر الامثل، ج 1، ص: 473

«وَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ».

وقد أكّدت الآية في الختام أنّ اللَّه سيغفر للمؤمنين الذين إرتكبوا اخطاء بالإنجرار وراء العصبيات وممارسة التفرقة بين الأنبياء إن أخلص هؤلاء المؤمنون في إيمانهم وعادوا إلى اللَّه، أي تابوا إليه من أخطائهم السابقة، حيث تقول الآية: «وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا».

يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذلِكَ وَ آتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً (153) وَ رَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَ قُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَ قُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَ أَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً (154)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: روي أنّ كعب بن الأشرف وجماعة من

اليهود، قالوا: يا محمّد! إن كنت نبيّاً فأتنا بكتاب من السماء جملة: أى كما موسى بالتوراة جملة، فنزلت الآية.

التّفسير

هدف اليهود من اختلاق الأعذار: تشير الآية الاولى إلى طلب أهل الكتاب (اليهود) من النبي محمّد صلى الله عليه و آله بأن ينزل عليهم كتاباً من السماء كاملًا وفي دفعة واحدة، فتقول: «يَسَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ».

ولا شك أنّ هؤلاء لم يكونوا صادقين في نواياهم مع النبي صلى الله عليه و آله لأنّ الهدف من نزول الكتاب السماوي هو الإرشاد والهداية والتربية، وقد يتحقق هذا الهدف أحياناً عن طريق نزول كتاب كامل من السماء دفعة واحدة، وأحياناً اخرى يتحقق الهدف عن طريق نزول الكتاب السماوي على دفعات وبصورة تدريجية.

ولهذا السبب فضح اللَّه نواياهم السيئة بعد طلبهم هذا وأوضح للنبي صلى الله عليه و آله بأنّ هذا العمل هو ديدن اليهود، وأنّهم معروفون بصلفهم وعنادهم واختلاقهم الأعذار مع نبيّهم الكبير موسى بن عمران عليه السلام فقد طلب هؤلاء من نبيّهم ما هو أكبر وأعجب إذ سألوه أن يريهم اللَّه جهاراً وعلناً. تقول الآية: «فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 474

وما مصدر هذا الطلب العجيب الغريب البعيد عن المنطق غير الصلف والعناد، فهم بطلبهم هذا قد تبنّوا عقيدة المشركين الوثنيين في تجسيد اللَّه وتحديده، وقد أدّى عنادهم هذا إلى نزول عذاب اللَّه عليهم، صاعقة من السماء أحاطت بهم لما إرتكبوه من ظلم كبير. تقول الآية: «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ». ثم تشير الآية إلى عمل قبيح آخر ارتكبه اليهود، وذلك حين لجؤوا إلى عبادة العجل بعد أن شاهدوا بأعينهم المعجزات الكثيرة والدلائل الواضحة، فتقول: «ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا

جَاءَتْهُمُ الْبَيّنَاتُ».

ومع كل هذا الصلف والعناد والشرك، يريهم اللَّه لطفه ورحمته ويغفر لهم لعلهم يرتدعوا عن غيّهم، ويهب لنبيهم موسى عليه السلام ملكاً بارزاً وسلطاناً مبيناً، ويفضح السامري صاحب العجل ويخمد فتنته وفي هذا تقول الآية: «فَعَفَوْنَا عَن ذلِكَ وَءَاتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا».

لكن اليهود بسبب ما انطوت عليه سريرتهم من شرّ- لم يستيقظوا من غفلتهم، ولم يخرجوا من ضلالتهم، ولم يتخلوا عن صلفهم وغرورهم، فرفع اللَّه جبل الطور لينزله على رؤوسهم، حتى أخذ منهم العهد والميثاق وأمرهم أن يدخلوا خاضعين خاشعين- من باب بيت المقدس- دليلًا على توبتهم وندمهم، وأكّد عليهم أن يكفوا عن أي عمل في أيام السبت، وأن لا يسلكوا سبيل العدوان، وأن لا يأكلوا السمك الذي حرم صيده عليهم في ذلك اليوم، وفوق كل ذلك أخذ اللَّه منهم ميثاقاً غليظاً مؤكداً، ولكنهم لم يثبتوا- مطلقاً- وفاءهم لأي من هذه المواثيق والعهود يقول القرآن الكريم في هذا المجال: «وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَاتَعْدُوا فِى السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مّيثَاقًا غَلِيظًا».

فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَ كُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَ قَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَ بِكُفْرِهِمْ وَ قَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً (156) وَ قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَ مَا قَتَلُوهُ وَ مَا صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَ مَا قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَ كَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 475

نماذج اخرى من ممارسات اليهود العدوانية: تشير هذه الآيات إلى

نماذج اخرى من انتهاكات بني إسرائيل وممارساتهم العدوانية التي واجهوا بها أنبياء اللَّه. فالآية الاولى تشير إلى قيام اليهود بنقض العهود، وإلى إرتداد بعضهم وكفرهم بآيات اللَّه وقتلهم للأنبياء، بحيث استوجبوا غضب اللَّه والحرمان من رحمته وحرمانهم من قسم من نعم اللَّه الطاهرة.

فقد أنكر هؤلاء آيات اللَّه وكفروا بها بعد نقضهم للعهد واتّبعوا بذلك سبيل الضلال ولم يكتفوا بهذا الحدّ، بل تمادوا في غيّهم، فارتكبت أياديهم الآثمة جريمة كبرى، إذ عمدوا إلى قتل الهداة والقادة إلى طريق الحق من أنبياء اللَّه، إيغالًا منهم في إتّباع طريق الباطل والإبتعاد عن طريق الحق.

لقد كان هؤلاء اليهود بدرجة من العناد والصلف والوقاحة، بحيث كانوا يواجهون كلام الأنبياء بالسخرية والاستهزاء، ووصل بهم الأمر إلى أن يقولوا بكل صراحة أنّ قلوبهم تغطيها حجب عن سماع وقبول قول الأنبياء! تقول الآية الاولى من الآيات الأربع الأخيرة:

«فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَايَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ».

وهنا يؤكد القرآن الكريم أنّ قلوب هؤلاء مختومة حقاً، بحيث لا ينفذ إليها أي حق، وسبب ذلك هو كفرهم وانعدام الإيمان لديهم، فهم لا يؤمنون لعنادهم وصلفهم إلّاالقليل منهم.

وقد تجاوز هؤلاء المجرمون الحدّ، فألصقوا بمريم العذراء الطاهرة تهمة شنيعة وبهتاناً عظيماً، هي امّ لأحد أنبياء اللَّه الكبار، وذلك لأنّها حملت به بإذن اللَّه دون أن يمسّها رجل.

تقول الآية في هذا المجال: «وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا».

وقد تباهى هؤلاء الجناة وافتخروا بقتلهم الأنبياء، وزعموا أنّهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم رسول اللَّه، تقول الآية: «وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ». وقد كذبوا بدعواهم هذه في قتل المسيح، فهم لم يقتلوه ولم يصلبوه، بل صلبوا شخصاً شبيهاً بعيسى المسيح عليه السلام وإلى

هذه الواقعة تشير الآية بقولها: «وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلكِن شُبّهَ لَهُمْ».

وأكّدت الآية أنّ الذين اختلفوا في أمر المسيح عليه السلام كانوا- هم أنفسهم- في شك من أمرهم، فلم يكن أحدهم يؤمن ويعتقد بما يقول، بل كانوا يتبعون الأوهام والظن. تقول الآية: «وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِى شَكّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتّبَاعَ الظَّنّ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 476

ويأتي القرآن ليؤكّد هنا بأنّ هؤلاء لم يقتلوا المسيح أبداً، بل رفعه اللَّه إليه، واللَّه هو القادر على كل شي ء، وهو الحكيم لدى فعل أيّ شي ء، تقول الآية: «وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا* بَل رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا». وحين تلاحظ أنّ القرآن يؤكد على قضية عدم صلب المسيح عليه السلام مع أنّ هذه القضية تظهر للعيان وكأنّها مسألة اعتيادية بسيطة، من أجل دحض عقيدة الفداء الخرافية بشدة، لمنع المسيحيين من الإيغال في هذا الاعتقاد الفاسد، ولكي يؤمنوا بأنّ طريق الخلاص والنجاة إنّما هو في أعمالهم هم أنفسهم وليس في ظل الصليب.

وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) هنالك احتمالان في تفسير هذه الآية وكل واحد منهما جدير بالملاحظة من جوانب متعددة:

1- إنّ الآية تؤكد أنّ أي إنسان يمكن أن لا يعتبر من أهل الكتاب ما لم يؤمن قبل موته بالمسيح عليه السلام حيث تقول: «وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ». وأنّ هذا الأمر يتمّ حين يشرف الإنسان على الموت وتضعف صلته بهذه الدنيا، وتقوى هذه الصلة بعالم ما بعد الموت، وفي هذه اللحظة يرى المسيح بعين بصيرته ويؤمن به، فالذين أنكروا نبوته يؤمنون به، والذين وصفوه بالالوهية يدركون في تلك اللحظة

خطأهم وإنحرافهم.

وبديهي أنّ مثل هذا الإيمان لا ينفع صاحبه.

2- قد يكون المقصود في الآية هو أنّ جميع أهل الكتاب يؤمنون بعيسى المسيح قبل موته، فاليهود يؤمنون بنبوته والمسيحيون يتخلون عن الاعتقاد بربوبية المسيح عليه السلام ويحدث هذا- طبقاً للروايات الإسلامية- حين ينزل المسيح عليه السلام من السماء لدى ظهور المهدي المنتظر عجل اللَّه تعالى فرجه، وواضح أنّ عيسى المسيح سيعلن في مثل هذا اليوم انضواءه تحت راية الإسلام لأنّ الشريعة السماوية التي جاء بها إنّما نزلت قبل الإسلام ولذلك فهي منسوخة به.

وتقول الآية في الختام: «وَيَوْمَ الْقِيمَةِ يِكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا». أي: شهادة المسيح عليه السلام على قومه بأنّه قد بلّغهم رسالة اللَّه ولم يدعهم لإتّخاذه إلهاً من دون اللَّه، بل دعاهم إلى الإقرار بربوبية اللَّه الواحد القهار.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 477

فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (161) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ الْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَ الْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَ الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) مصير الصالحين والطالحين من اليهود: لقد أشارت الآيات السابقة إلى نماذج من انتهاكات اليهود، أمّا الآيات الأخيرة فإنّما ذكرت نماذج اخرى من تلك الإنتهاكات، وبيّنت العقوبات التي استحقها اليهود بسبب تمردهم وعصيانهم، والعذاب الذي لا قوه وسيلاقوه نتيجة لذلك في الدنيا والآخرة. فالآية الاولى من الآيات الأخيرة تبيّن أنّ اللَّه قد حرّم بعضاً من الأشياء الطاهرة على اليهود بسبب ممارستهم الظلم والجور، وتصديهم للسائرين في طريق اللَّه،

حيث تقول الآية: «فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا». كما عاقبهم اللَّه بالحرمان من تلك الطيّبات لتعاملهم بالربا على الرغم من منعهم من ممارسة المعاملات الربوية ولإستيلائهم على أموال الآخرين بطرق غير مشروعة، فتقول الآية في هذا المجال: «وَأَخْذِهِمُ الرّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ».

وتؤكد الآية أنّ عذاب اليهود لمعاصيهم تلك لا يقتصر على العقاب الدنيوي، بل سيذيقهم اللَّه- أيضاً- عقاب وعذاب الآخرة الأليم الذي يشمل الكافرين من اليهود. تقول الآية الكريمة: «وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا».

وقد أشارت الآية الثالثة من الآيات الأخيرة إلى حقيقة مهمة اعتمدها القرآن الكريم مراراً في آيات متعددة، وهي أنّ ذمّ اليهود وانتقادهم في القرآن لا يقومان على أساس عنصري أو طائفي على الإطلاق، لأنّ الإسلام لم يذم ابناء أي طائفة أو عنصر لإنتمائهم الطائفي أو العرقي، بل وجه الذم والإنتقاد للمنحرفين والضالين منهم فقط، لذلك استثنت هذه الآية المؤمنين الأتقياء من اليهود ومدحتهم وبشّرتهم بنيل أجر عظيم، حيث تقول الآية الكريمة: «لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ

مختصر الامثل، ج 1، ص: 478

مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَوةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا». وقد آمن جمع من كبار الطائفة اليهودية بالإسلام حين بعث النبي محمد صلى الله عليه و آله وحين شاهدوا على يديه الكريمتين دلائل أحقّية الإسلام، ودافع هؤلاء بأرواحهم وأموالهم عن الإسلام، وكانوا موضع احترام وتقدير النبي وسائر المسلمين.

إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْبَاطِ وَ عِيسَى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هَارُونَ

وَ سُلَيْمَانَ وَ آتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً (163) وَ رُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَ كَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ الْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) لقد تناولت الآيات السابقة مسألة التمييز الذي مارسه اليهود بشأن الأنبياء، حيث كانوا يؤمنون ويصدقون ببعض أنبياء اللَّه تعالى ويكفرون بالبعض الآخر منهم. أمّا الآيات أعلاه فهي ترد على اليهود، وتؤكد أنّ اللَّه أوحى إلى نبيه محمّداً صلى الله عليه و آله كما أنزل الوحي على أنبيائه نوح والنبيين الذين جاؤوا من بعد نوح، وكما أوحى إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وأنزل الوحي على الأنبياء من أبناء يعقوب، وعلى عيسى وأيّوب ويونس وهارون وسليمان عليهم السلام وكما أنزل اللَّه على داود كتاب الزبور حيث تقول الآية: «إِنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرهِيمَ وَإِسْمعِيلَ وَإِسْحقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهرُونَ وَسُلَيْمنَ وَءَاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا».

ثم تبيّن الآية أنّ الوحي لم يقتصر نزوله على هؤلاء الأنبياء، بل نزل على أنبياء آخرين حكى اللَّه قصصهم للنبي محمّد صلى الله عليه و آله من قبل، وأنبياء لم يذكر اللَّه قصصهم، وكل هؤلاء الأنبياء أرسلهم اللَّه إلى خلقه وأنزل عليهم الوحي من عنده، تقول الآية: «وَرُسُلًا قَدْ

مختصر الامثل، ج 1، ص: 479

قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ».

وتبيّن هذه الآية في آخرها قضية مهمّة جدّاً، وهي أنّ اللَّه قد كلّم موسى بدل أن ينزل عليه الوحي، فتقول: «وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا».

وعلى هذا الأساس فإنّ

صلة الوحي ظلت باقية بين البشر، ولم يكن من عدل اللَّه أن يترك البشر دون مرشد أو قائد، أو أن يتركهم دون أن يعين لهم واجباتهم وتكاليفهم، وهو الذي بعث الأنبياء والرسل للبشر مبشرين ومنذرين، لكي يبشروا الناس برحمته وثوابه، ويُنذرونهم من عذابه وعقابه لكي يتمّ الحجة عليهم فلا يبقى لهم عذر أو حجة. تقول الآية:

«رُّسُلًا مُبَشّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ».

فقد أحكم اللَّه العزيز القدير خطّة إرسال الأنبياء ونفّذها بكل دقة، وبهذا تؤكد الآية:

«وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا». فحكمته توجب تحقيق هذا العمل، وقدرته تمهد السبيل إلى تنفيذه.

أمّا الآية الاخرى فهي تطمئن النبي صلى الله عليه و آله وتوضح له أنّ المهم هو أنّ اللَّه قد شهد بما أنزل عليه من كتاب، وليس المهم أن يؤمن نفر من هؤلاء بهذا الكتاب أو يكفروا به- فتؤكّد الآية في هذا المجال-: «لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ».

ولم يكن اختيار اللَّه لمحمّد صلى الله عليه و آله لمنصب النبوة أمراً عبثاً- والعياذ باللَّه- بل كان هذا الاختيار نابعاً من علم اللَّه بما كان يتمتع به النبي من لياقة وكفاءة لهذا المنصب العظيم، ولنزول آيات اللَّه عليه- حيث تقول الآية: «أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ».

والقرآن الكريم يؤكد أن ليس اللَّه وحده الذي يشهد بأنّ دعوة محمّد صلى الله عليه و آله هي الحق، بل يشهد معه ملائكته بأحقّية هذه الدعوة، مع أنّ شهادة اللَّه كافية وحدها في هذا المجال. تقول الآية الكريمة: «وَالْمَلِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا».

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ

فِيهَا أَبَداً وَ كَانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) جرى البحث في الآيات السابقة حول المؤمنين وغير المؤمنين، أمّا الآيات الثلاثة الأخيرة فهي تشير إلى مجموعة اختارت أقبح أنواع الكفر، فهؤلاء- بالإضافة- إلى انحرافهم وضلالهم سعوا إلى تحريف وإضلال الأخرين، وقد ظلموا أنفسهم بفعلهم هذا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 480

مختصر الامثل ج 1 499

وظلموا الآخرين معهم لأنّهم لم يسيروا في طريق الحق ولم يسمحوا للآخرين- أيضاً- باتّباع هذا السبيل، والآية الكريمة تصف هؤلاء بأنّهم في ضلال بعيد وذلك بقولها: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَللًا بَعِيدًا». أمّا الآية الاخرى فتشير إلى الذين كفروا وظلموا، إذ ظلموا الحق أوّلًا لعدم التزامهم بالصواب، كما ظلموا أنفسهم بذلك- أيضاً- إذ حرموها من السعادة وسقطوا في هوّة الضلالة، وظلموا الآخرين حين منعوهم من التوجه إلى طريق الحق والصواب، فهؤلاء لن يشملهم أبداً عفو اللَّه، وإنّ اللَّه لا يهديهم أبداً إلّاإلى طريق جهنم، تقول الآية: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا* إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ».

فهؤلاء باقون وخالدون في جهنم دائماً وأبداً، كما تقول الآية: «خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا».

وعلى هؤلاء أن يعلموا أنّ وعد اللَّه حق، وأنّ تهديده يتحقق لا محالة، فليس ذلك على اللَّه بالأمر الصعب تقول الآية: «وَكَانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا».

يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ كَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) لقد أوضحت الآيات السابقة نهاية وعاقبة الناس الذين انعدم لديهم عنصر الإيمان، أمّا الآية الأخيرة فهي تدعو إلى الإيمان وتبيّن نتيجة هذا الإيمان، وتستخدم في ترغيب الناس إلى هذا الهدف السامي عبارات

واصطلاحات تثير عند الأفراد الرغبة والإندفاع نحو الإيمان. وهذه الآية تشير في البداية إلى أنّ النبي المرسل هو ذلك الذي كان ينتظر الناس ظهوره، والذي أشارت إليه الكتب السماوية السابقة، وهو يحمل إليهم شريعة الحق والعدالة فتقول الآية في هذا المجال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقّ».

ثم تردف الآية بأنّ هذا النبي قد جاء إلى الناس من اللَّه الذي تعهد تربية الخلق أجمعين، وذلك من خلال العبارة القرآنية الواردة في هذه الآية، وهي عبارة: «مِن رَّبّكُمْ».

وبعد ذلك تؤكد الآية- على أنّ إيمان الأفراد إنّما تعود فائدته ويعود نفعه عليهم أنفسهم، أي أنّ الإنسان إذا آمن إنما يخدم نفسه بهذا الإيمان قبل أن يخدم به غيره. تقول الآية:

«فَامِنُوا خَيْرًا لَّكُمْ».

كما تؤكّد الآية في النهاية على أنّ من يتخذ الكفر سبيلًا لنفسه فلن يضرّ اللَّه بعمله هذا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 481

أبداً، لأنّ اللَّه يملك كل ما في السماوات وما في الأرض، فهو بهذا لا يحتاج إلى أي شي ء من الآخرين، تقول الآية في هذا الصدد: «وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

وتبيّن الآية في النهاية أنّ أحكام اللَّه وأوامره كلها لمصلحة البشر، لأنّها نابعة من حكمة اللَّه وعلمه وهي قائمة على أساس تحقيق مصالح الناس، ومنافعهم الخيّرة، فتقول الآية:

«وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا».

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ كَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) اسطورة التثليث

الوهمية: تتطرق هذه الآية والآية التي تليها إلى واحد من أهم انحرافات الطائفة المسيحية، وهذا الانحراف هو اعتقاد المسيحيين بالتثليث، أي وجود آلهة ثلاثة ويأتي التطرق إلى هذا البحث في سياق البحوث القرآنية التي وردت في الآيات السابقة عن أهل الكتاب والكفار. فهذه الآية تحذر في البداية أهل الكتاب من المغالاة والتطرف في دينهم، وتدعوهم أن لا يقولوا على اللَّه غير الحق، حيث تقول: «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَاتَغْلُوا فِى دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ».

لقد كانت قضية الغلوّ في حق القادة السابقين إحدى أخطر منابع الانحراف في الأديان السماوية، ولهذا السبب فقد عامل الإسلام الغلاة أو المغالين بعنف وشدّة، إذ عرفت كتب الفقه والعقائد هذه الفئة من الناس بأنّهم أشد كفراً من الآخرين.

بعد ذلك تشير الآية الكريمة إلى عدة نقاط، يعتبر كل واحد منها في حدّ ذاته دليلًا على بطلان قضية التثليث وعدم صحة الوهية المسيح عليه السلام وهذه النقاط هي:

1- لقد حصرت الآية بنوة السيد المسيح عليه السلام بمريم عليها السلام: «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ». وإشارة البنوة- هذه الواردة في ستة عشر مكاناً من القرآن الكريم- إنّما تؤكد أنّ المسيح عليه السلام هو إنسان كسائر الناس، خلق في بطن امّه، ومرّ بدور الجنين في ذلك الرحم،

مختصر الامثل، ج 1، ص: 482

وفتح عينيه على الدنيا حين ولد من بطن مريم عليها السلام كما يولد أفراد البشر من بطون امهاتهم ومرّ بفترة الرضاعة وتربى في حجر امّه، ممّا يثبت بأنّه امتلك كل صفات البشر فكيف يمكن- وحالة المسيح عليه السلام هذه- أن يكون إلهاً أزلياً أبدياً، وهو في وجوده محكوم بالظواهر والقوانين المادية الطبيعية ويتأثر بالتحولات الجارية في عالم الوجود؟! 2- تؤكد الآية الكريمة أنّ

المسيح عليه السلام هو رسول اللَّه ومبعوث إلى البشر من قبله سبحانه وتعالى وإنّ هذه المنزلة- أي منزلة النبوة- لا تتناسب ومقام الألوهية.

3- تبيّن الآية أنّ عيسى المسيح عليه السلام هو كلمة اللَّه التي ألقاها إلى مريم عليها السلام حيث تقول:

«وَكَلِمَتُهُ أَلْقهَا إِلَى مَرْيَمَ».

4- تشير الآية إلى أنّ عيسى المسيح عليه السلام هو روح مخلوقة من قبل اللَّه، حيث تقول:

«وَرُوحٌ مِّنْهُ». وهذه العبارة التي وردت في شأن خلق آدم- أو بعبارة اخرى خلق البشر أجمعين- في القرآن الكريم، إنّما تدل على عظمة تلك الروح التي خلقها اللَّه تعالى وأودعها في أفراد البشر بصورة عامة، وفي المسيح عليه السلام وسائر الأنبياء بصورة خاصة.

بعد ذلك تؤكد الآية على ضرورة الإيمان باللَّه الواحد الأحد وبأنبيائه، ونبذ عقيدة التثليث، مبشرة المؤمنين بأنّهم إن نبذوا هذه العقيدة فسيكون ذلك خيراً لهم حيث قالت الآية: «فَامِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ».

وتعيد الآية التأكيد على وحدانية اللَّه قائلة: «إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ وَاحِدٌ». وهي تخاطب المسيحيين لأنّهم حين يدعون التثليث يقبلون- أيضاً- بوحدانية اللَّه، فلو كان للَّه ولد لوجب أن يكون شبيهه، وهذه حالة تناقض أساس الوحدانية.

فكيف- إذن- يمكن أن يكون للَّه ولد، وهو منزه من نقص الحاجة إلى زوجة أو ولد، كما هو منزه من نقائص التجسيم وأعراضه. تقول الآية: «سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ». واللَّه هو مالك كل ما في السماوات وما في الأرض والموجودات كلها مخلوقاته وهو خالقها جميعاً، والمسيح عليه السلام- أيضاً- واحد من خلق اللَّه، فكيف يمكن الإدعاء بهذا الاستثناء فيه. وهل يمكن المملوك والمخلوق أن يكون ابناً للمالك والخالق، حيث تؤكد الآية: «لَّهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ». واللَّه هو المدبر والحافظ والرازق والراعي لمخلوقاته،

تقول الآية: «وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا».

والحقيقة هي أنّ اللَّه الأزلي الأبدي الذي يرعى جميع الموجودات منذ الأزل إلى الأبد لا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 483

يحتاج مطلقاً إلى ولد، فهل هو كسائر الناس لكي يحتاج إلى ولد يخلفه من بعد الموت.

لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ أَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَ اسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَ لَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَ لَا نَصِيراً (173)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: روي أنّ وفد نجران، قالوا لنبينا: يا محمّد لِمَ تعيب صاحبنا؟ قال:

«ومن صاحبكم»؟ قالوا: عيسى عليه السلام. قال: «وأىّ شي ء أقول فيه»؟ قالوا: تقول: إنّه عبد اللَّه ورسوله. فنزلت الآية.

التّفسير

المسيح هو عبد اللَّه: على الرغم من أنّ هاتين الآيتين لهما سبب نزول خاص بهما، إلّا أنّهما جاءتا في سياق الآيات السابقة التي تحدثت في نفي الالوهية عن المسيح عليه السلام وعلاقتهما بالآيات السابقة في دحض قضية التثليث واضحة وجلية.

في البداية تشير الآية الاولى إلى دليل آخر لدحض دعوى الوهية المسيح، فتقول مخاطبة المسيحيين: كيف تعتقدون بالوهية عيسى عليه السلام في حين أنّ المسيح لم يستنكف عن عبادة اللَّه والخضوع بالعبودية له سبحانه، كما لم يستنكف الملائكة المقربون من هذه العبادة.

حيث قالت الآية: «لَن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ».

وبديهي أنّ من يكون عبداً لا يمكن أن يصبح معبوداً في آن واحد.

بعد ذلك تشير الآية إلى أنّ الذين يمتنعون عن عبادة اللَّه والخضوع له بالعبودية، يكون امتناعهم هذا ناشئاً عن التكبر والأنانية وإنّ اللَّه سيحضر هؤلاء

الناس في يوم القيامة ويجازي كل واحد منهم بالعقاب الذي يناسبه، فتقول الآية: «وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا».

وإنّ اللَّه العزيز القدير سيكافى ء في يوم القيامة اولئك الذين آمنوا وعملوا الصالحات

مختصر الامثل، ج 1، ص: 484

وقاموا بالأعمال الخيرة، ويعطيهم ثوابهم كاملًا غير منقوص ويجزل لهم الثواب والنعم، أمّا الذين تكبروا وامتنعوا عن عبادة اللَّه، فإنهم سينالون منه عذاباً أليماً شديداً، ولن يجدوا في يوم القيامة لأنفسهم وليّاً أو حامياً من دون اللَّه، حيث تقول الآية: «فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا».

يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ اعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَ فَضْلٍ وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (175) النور المبين: بعد أن تناولت الآيات السابقة بعضاً من انحرافات أهل الكتاب بالنسبة لمبدأ التوحيد ومبادى ء وتعاليم الأنبياء، جاءت الآيتان الأخيرتان لتختما القول في بيان سبيل النجاة والخلاص من تلك الانحرافات. لقد توجّه الخطاب أوّلًا إلى عامة الناس، مبيناً أنّ اللَّه قد بعث من جانبه نبياً يحمل معه الدلائل والبراهين الواضحة، وبعث معه النور المبين المتجسد في القرآن الكريم الذي يهدي الناس إلى طريق السعادة الأبدية، حيث تقول الآية الاولى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا».

والمقصود بالبرهان هو شخص نبي الخاتم صلى الله عليه و آله وأنّ المقصود بالنور هو القرآن المجيد الذي عبّرت عنه آيات اخرى بالنور أيضاً.

وتوضح الآية الثانية عاقبة اتّباع هذا البرهان وهذا النور، فتؤكّد على أنّ الذين آمنوا باللَّه وتمسكوا

بهذا الكتاب السماوي، سيدخلهم اللَّه عاجلًا في رحمته الواسعة، ويجزل لهم الثواب من فضله ورحمته، ويهديهم إلى الطريق المستقيم. تقول الآية: «فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا».

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَ إِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَ نِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (176)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 485

سبب النّزول

روي- في تفسير مجمع البيان- عن جابر بن عبد اللَّه، أنّه قال: اشتكيت وعندي تسع أخوات لي- أو سبع- فدخل عليّ النبي فنفخ في وجهي، فأفقت، فقلت: يا رسول اللَّه! ألا أوصي لأخواتي بثلثين؟ قال: «أحسن». قلت الشطر. قال: «أحسن». ثم خرج وتركني، ورجع إليّ، فقال: «يا جابر! إنّي لا أراك ميتاً من وجعك هذا، وإنّ اللَّه تعالى قد أنزل في الذي لأخواتك فجعل لهن الثلثين». قالوا: وكان جابر يقول انزلت هذه الآية في.

التّفسير

تبيّن الآية الواردة أعلاه والتي تسمّى- أيضاً- ب «آية الفرائض»، كمية الإرث للُاخوة والأخوات، وقد بيّنا عند تفسير الآية (12) من سورة النساء إنّ القرآن اشتمل على آيتين توضحان مسألة الإرث للُاخوة والأخوات وإنّ إحدى هاتين الآيتين هي الآية (12) من سورة النساء والثانية هي الآية الأخيرة موضوع بحثنا هذا وهي آخر آية من سورة النساء.

فالآية الاولى تخصّ الاخوة والأخوات غير الأشقاء، أي الذين هم من ام واحدة وآباء متعددين. أمّا الآية الثانية أي الأخيرة، فهي تتناول الإرث بالنسبة للأخوة الأشقاء، أي الذين هم من ام

واحدة وأب واحد، أو من امهات متعددات وأب واحد.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الآية جاءت لتفصل إرث الكلالة أي إرث الأخوة والأخوات فتقول الآية: «يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَللَةِ». أي يسألونك فخبرهم بأنّ اللَّه هو الذي يعين حكم «الكلالة» (أي الأخوة والأخوات).

بعد ذلك تشير الآية إلى عدد من الأحكام، وهي:

1- إذا مات رجل ولم يكن له ولد وكانت له أخت واحدة، فإنّ هذه الاخت ترث نصف ميراثه تقول الآية الكريمة: «إِنِ امْرُؤٌا هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ».

2- وإذا ماتت امرأة ولم يكن لها ولد، وكان لها أخ واحد- شقيق من أبيها وحده أو من أبيها وامّها معاً- فإنّ أخاها الوحيد يرثها، تقول الآية: «وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ».

3- وإذا مات شخص وكانت له أختان فقط، فإنّهما ترثان ثلثي ما تركه من الميراث، تقول الآية الكريمة: «فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ».

4- وإذا كان ورثة الشخص المتوفى عدداً من الاخوة والأخوات أكثر من اثنين، فإنّ ميراثه يقسم جميعه بينهم، بحيث تكون حصّة الأخ من الميراث ضعف حصّة الاخت

مختصر الامثل، ج 1، ص: 486

الواحدة منه. تقول الآية الكريمة: «وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رّجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الْأُنثَيَيْنِ».

وفي الختام تؤكد الآية أنّ اللَّه يبين للناس هذه الحقائق لكي يصونهم من الانحراف والضلالة، ويدلهم على طريق الصواب والسعادة (وحقيق أن يكون الطريق الذي يرسمه اللَّه للناس ويهديهم إليه هو الطريق الصحيح) واللَّه هو العالم العارف بكلّ شي ء، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة: «يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ».

إنّ الآية إنّما تبين إرث الأخوة والأخوات في حالة عدم وجود ولد الشخص المتوفى، ولكن بناء على الآيات الواردة

في بداية سورة النساء- فإنّ الأب والام يأتون في مصاف الأبناء في الطبقة الاولى من الوارثين ولذلك يتوضح أنّ المقصود من الآية الأخيرة هي حالة عدم وجود أبناء وعدم وجود أبوين للشخص المتوفى.

«نهاية تفسير سورة النساء»

مختصر الامثل، ج 1، ص: 487

5. سورة المائدة

محتوى السورة: تشتمل هذه السورة على مجموعة من المعارف والعقائد الإسلامية بالإضافة إلى سلسلة من الأحكام والواجبات الدينية.

وقد وردت في القسم الأول منها الإشارة إلى قضية الخلاف بعد النبي صلى الله عليه و آله وقضايا اخرى مثل: عقيدة التثليث المسيحية ومواضيع خاصة بيوم القيامة والحشر واستجواب الأنبياء حول اممهم.

أمّا القسم الثاني فقد اشتمل على قضية الوفاء بالعهود والمواثيق، وقضايا العدالة الاجتماعية، والشهادة العادلة، وتحريم قتل النفس (من خلال ذكر قضية إبني آدم، وقتل قابيل لأخيه هابيل) بالإضافة إلى بيان أقسام من الأغذية المحرمة والمحللة وأقسام من أحكام الوضوء والتيمم.

أمّا وجه تسمية السورة ب «سورة المائدة» فهو لورود قصة نزول المائدة السماوية على حواري المسيح عليه السلام في الآية (114) منها.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 488

الإلزام بالوفاء بالعهد والميثاق: تدل الروايات الإسلامية وأقوال المفسرين على أنّ هذه السورة هي آخر سورة أو من السور الأخيرة التي نزلت على النبي صلى الله عليه و آله. لقد تمّ التأكيد في هذه السورة- لما تمتاز به من موقع خاص- على مجموعة من المفاهيم الإسلامية، وعلى آخر البرامج والمشاريع الدينية، وقضية قيادة الامّة وخلافة النبي صلى الله عليه و آله وقد يكون هذا هو السبب في استهلال سورة المائدة بقضية الإلزام بالوفاء بالعهد والميثاق، حيث تقول

الآية في أوّل جملة لها: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ». وذلك لكي تلزم المؤمنين بالوفاء بعهودهم التي عقدوها في الماضي مع اللَّه أو تلك التي أشارت إليها هذه السورة. فإنّ الآية تعتبر دليلًا على وجوب الوفاء بجميع العهود التي تعقد بين أفراد البشر بعضهم مع البعض الآخر، أو تلك العهود التي تعقد مع اللَّه سبحانه وتعالى عقداً محكماً.

إنّ مفهوم هذه الآية- لسعته- يشمل حتى تلك العقود والعهود التي يقيمها المسلمون مع غير المسلمين.

وبعد أن تطرقت الآية إلى حكم الوفاء بالعهد والميثاق- سواء كان إلهياً أو إنسانياً محضاً- أردفت ببيان مجموعة اخرى من الأحكام الإسلامية، كان الأوّل منها حلية لحوم بعض الحيوانات، فبيّنت أنّ المواشي واجنّتها تحل لحومهما على المسلمين، حيث تقول الآية:

«أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ».

«الأنعام»: صيغة جمع من «نِعم» وتعني الإبل والبقر والأغنام.

«بهيمة»: مشتقة من المصدر «بهمة» وتعني في الأصل الحجر الصلب، ويقال لكل ما يعسر دركه «مبهماً» وجميع الحيوانات التي لا تمتلك القدرة على النطق تسمى «بهيمة» لأنّ أصواتها تكون مبهمة للبشر، وقد جرت العادة على إطلاق كلمة «بهيمة» على المواشي من الحيوانات فقط، فأصبحت لا تشمل الحيوانات الوحشية والطيور.

والظاهر من الآية أنّها تشمل معنىً واسعاً، أي تبين حلية هذه الحيوانات بالإضافة إلى حلية لحوم أجنتها أيضاً.

ويتبيّن لنا ممّا تقدم أنّ علاقة الجملة الأخيرة وحكمها بالأصل الكلي- الذي هو لزوم الوفاء بالعهد- هي التأكيد على كون الأحكام الإلهية نوعاً من العهد بين اللَّه وعباده- حيث تعتبر حلية لحوم بعض الحيوانات وحرمة لحوم البعض الآخر منها قسماً من تلك الأحكام.

وفي الختام تبين الآية موردين تستثنيهما من حكم حلية لحوم المواشي، وأحد هذين

مختصر الامثل، ج 1، ص: 489

الموردين هو اللحوم التي سيتم بيان حرمتها فيما

بعد، حيث تقول الآية: «إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ». والمورد الثاني هو أن يكون الإنسان في حالة إحرام للحج أو العمرة، حيث يحرم عليه الصيد في هذه الحالة، فتقول الآية: «غَيْرَ مُحِلّى الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ».

وفي آخر الآية يأتي التأكيد على أنّ اللَّه إذا أراد شيئاً أو حكماً انجزه أو أصدره، لأنّه عالم بكل شي ء، وهو مالك الأشياء كلها، وإذا رأى أنّ صدور حكم تكون فيه مصلحة عباده وتقتضي الحكمة صدوره، أصدر هذا الحكم وشرعه، حيث تقول الآية في هذا المجال: «إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَ لَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَ لَا الْهَدْيَ وَ لَا الْقَلَائِدَ وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْوَاناً وَ إِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَ تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوَى وَ لَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوَانِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) ثمانية احكام في آية واحدة: لقد بيّنت هذه الآية عدداً من الأحكام الإلهية الإسلامية المهمة، وهي من الأحكام الأواخر التي نزلت على النّبي صلى الله عليه و آله وكلّها أو أغلبها تتعلق بحج بيت اللَّه، وهي على الوجه التالي:

1- الطلب من المؤمنين بعدم انتهاك شعائر اللَّه، ونهيهم عن المساس بحرمة هذه الشعائر المقدسة، كما تقول الآية الكريمة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ». والمراد بكلمة «الشعائر»: هي مناسك الحج التي كلّف المسلمون باحترامها كلها.

2- دعت الآية إلى احترام الأشهر الحرم وهي شهور من السنة القمرية، كما نهت عن الدخول في حرب في هذه الشهور، حيث قالت: «وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ».

3- حرمت الآية المساس بالقرابين المخصصة للذبح

في شعائر الحج سواء ما كان منها ذا علامة وهو المسمّى ب «الهدي» أو تلك الخالية من العاملات والتي تسمّى ب «القلائد» أي نهت عن ذبحها وأكل لحومها حتى تصل إلى محل القربان للحج وتذبح فيه، فقالت الآية:

مختصر الامثل، ج 1، ص: 490

«وَلَا الْهَدْىَ وَلَا الْقَلِدَ» «1». 4- أوجبت الآية توفير الحرية التامة لحجاج بيت اللَّه الحرام أثناء موسم الحج، الذي تزول خلاله كل الفوارق القبلية والعرقية واللغوية والطبقية، ونهت عن مضايقة المتوجهين إلى زيارة بيت اللَّه الحرام ابتغاء لمرضاته، أو حتى الذين توجهوا إلى هذه الزيارة وهم يحملون معهم أهدافاً اخرى كالتجارة والكسب الحلال لا فرق فيهم بين صديق أو غريم، فما داموا كلهم مسلمين وقصدهم زيارة بيت اللَّه، فهم يتمتعون بالحصانة كما تقول الآية الكريمة: «وَلَا ءَامّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبّهِمْ وَرِضْوَانًا».

5- لقد خصصت هذه الآية حكم حرمة الصيد بوقت الإحرام فقط، وأعلنت أنّ الخروج من حالة الإحرام إيذان بجواز الصيد للمسلمين- حيث تقول الآية الكريمة: «وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا».

6- منعت هذه الآية الكريمة المسلمين من مضايقة اولئك النفر من المسلمين الذين كانوا قبل إسلامهم يضايقون المسلمين الأوائل في زيارة بيت اللَّه الحرام ويمنعونهم من أداء مناسك الحج، وكان هذا في واقعة الحديبية، فمنع المسلمون من تجديد الأحقاد ومضايقة اولئك النفر في زمن الحج بعد أن أسلموا وقبلوا الإسلام لهم ديناً، تقول الآية الكريمة: «وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا».

7- تؤكد الآية- جرياً على سياق البحث الذي تناولته وبهدف إكماله- على أنّ المسلمين بدلًا من أن يتحدوا للإنتقام من خصومهم السابقين الذين أسلموا- وأصبحوا بحكم إسلامهم أصدقاء- عليهم جميعاً أن يتحدوا في سبيل فعل الخيرات والتزام التقوى، وأن

لا يتعاونوا- في سبيل الشر والعدوان تقول الآية: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانَ».

8- ولكي تعزز الآية الأحكام السابقة وتؤكدها تدعو المسلمين في الختام إلى اتّباع التقوى وتجنّب معصية اللَّه، محذرة من عذاب اللَّه الشديد، فتقول: «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ».

______________________________

(1) «الهدى»: جمع «هدية» وهو يعني هنا المواشي التي تهدى لتكون قرابين إلى بيت اللَّه الحرام. و «القلائد»: جمع «قلادة» وهي الشي ء الذي يوضع حول رقبة الإنسان أو الحيوان، وتعني هنا المواشي التي تعلم بالقلائد لذبحها في مراسم الحج.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 491

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ مَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَ مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) لقد تمّت الإشارة في بداية السورة إلى الحلال من لحوم المواشي، وورد- أيضاً- أنّ هناك استثناءات تحرم فيها لحوم المواشي، حيث ذكرتها الآية الأخيرة- موضوع البحث- في أحد عشر مورداً تكرر ذكر بعضها في آيات قرآنية اخرى على سبيل التأكيد. والمحرمات التي وردت في هذه الآية، بحسب الترتيب الذي جاءت عليه كما يلي:

أوّلًا: «الْمَيْتَةُ».

ثانياً: «وَالدَّمُ».

ثالثاً: «وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ».

رابعاً: الحيوانات التي تذبح باسم الأصنام، أو باسم غير اسم اللَّه، كما كان يفعل الجاهليّون: «وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ».

خامساً: الحيوانات المخنوقة، سواء كان الخنق بسبب الفخ الذي تقع فيه أو بواسطة الإنسان أو بنفسها، وكان الجاهليون يخنقون

الحيوانات أحياناً للإنتفاع بلحومها وقد أشارت الآية إلى هذا النوع باسم «الْمُنْخَنِقَةُ».

سادساً: الحيوانات التي تموت نتيجة تعرضها للضرب والتعذيب، أو التي تموت عن مرض وسمّيت في الآية ب «الْمَوْقُوذَةُ» «1».

سابعاً: الحيوان الذي يموت نتيجة السقوط من مكان مرتفع، وقد سمي هذا النوع في الآية ب «الْمُتَرَدّيَةُ».

______________________________

(1) «الموقوذة»: من مادة «وقذ» يعني المضروبة بعنف حتّى الموت.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 492

ثامناً: الحيوان الذي يموت جراء نطحه من قبل حيوان آخر، وقد سمت الآية هذا النوع من الحيوانات ب «النَّطِيحَةُ».

تاسعاً: الحيوان الذي يقتل نتيجة هجوم حيوان متوحش عليه، وسمي هذا النوع في الآية ب «مَا أَكَلَ السَّبُعُ».

لقد ذكرت الآية شرطاً واحداً لو تحقق لأصبحت لحوم الحيوانات المذكورة حلالًا، وهذا الشرط هو أن يذبح الحيوان قبل موته وفق الآداب والتقاليد الإسلامية، ليخرج الدم منه بالقدر الكافي فيحل بذلك لحمه، ولذلك جاءت عبارة «إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ» بعد موارد التحريم مباشرة.

عاشراً: كان الوثنيون في العصر الجاهلي ينصبون صخوراً حول الكعبة ليست على أشكال أو هيئات معينة، وكانوا يسمون هذه الصخور ب «النصب» حيث كانوا يذبحون قرابينهم أمامها ويمسحون الصخور تلك بدم القربان.

والفرق بين النصب والأصنام هو أنّ النصب ليست لها أشكال وصور بخلاف الأصنام، وقد حرّم الإسلام لحوم القرابين التي كانت تذبح على تلك النصب، فجاء حكم التحريم في الآية بقوله تعالى: «وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ».

وواضح أنّ تحريم هذا النوع من اللحوم إنّما يحمل طابعاً معنوياً وليس مادياً.

أحد عشر: وهناك نوع آخر من اللحوم المحرمة، وهو اللحوم التي تذبح وتوزع بطريقة القمار، وتوضيح ذلك هو أنّ عشرة من الأشخاص يتراهنون فيما بينهم فيشترون حيواناً ويذبحونه، ثم يأتون بعشرة سهام كتب على سبعة منها عبارة «فائز» وعلى الثلاثة الاخرى كتبت عبارة «خاسر»

فتوضع في كيس وتسحب واحدة واحدة باسم كل من الأشخاص العشرة على طريقة الإقتراع، فالأشخاص الذين تخرج النبال السبعة الفائزة بأسمائهم يأخذون قسماً من اللحم دون أن يدفعوا ثمناً لما أخذوه من اللحم، أمّا الأشخاص الثلاثة الآخرون الذين تخرج النبال الخاسرة بأسمائهم فيتحملون ثمن الحيوان بالتساوي، فيدفع كل واحد منهم ثلث قيمة الحيوان دون أن يناله شي ء من لحمه.

وقد سمى الجاهليون هذه النبال ب «الأزلام» وهي صيغة جمع من «زلم» وقد حرم الإسلام هذا النوع من اللحوم، لا بمعنى وجود تأصل الحرمة في اللحم، بل لأنّ الحيوان كان يذبح في عمل هو أشبه بالقمار، ويجب القول هنا أنّ تحريم القمار وأمثاله لا ينحصر في اللحوم فقط، بل إنّ القمار محرم في كل شي ء وبأيّ صورة كان.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 493

ولكي تؤكد الآية موضوع التحريم وتشدد على حرمة تلك الأنواع من اللحوم تقول في الختام: «ذلِكُمْ فِسْقٌ».

الإعتدال في تناول اللحوم: إنّ الذي نستنتجه من البحث المار الذكر ومن المصادر الإسلامية الاخرى، هو أنّ الإسلام اتّبع في قضية تناول اللحوم اسلوباً معتدلًا تمام الإعتدال جرياً على طريقته الخاصّة في أحكامه الاخرى.

ويختلف اسلوبه هذا اختلافاً كبيراً مع ما سار عليه الجاهليون في أكل لحم النصب والميتة والدم وأشباه ذلك، وما يسير عليه الكثير من الغربيين في الوقت الحاضر في أكل حتى الديدان والسلاحف والضفادع وغيرها.

ويختلف مع الطريقة التي سار عليها الهنود في تحريم كل أنواع اللحوم على أنفسهم.

فقد أباح الإسلام لحوم الحيوانات التي تتغذى على الأشياء الطاهرة التي لا تعافها النفس البشرية، وألغى الأساليب التي فيها طابع الإفراط أو التفريط.

وقد عيّن الإسلام شروطاً أبان من خلالها أنواع اللحوم التي يحلّ للإنسان الإستفادة منها.

بعد أنّ بيّنت الآية الأحكام التي

مرّ ذكرها أوردت جملتين تحتويان معنى عميقاً، الاولى منهما تقول: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ».

والثانية هي: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلمَ دِينًا».

متى أكمل اللَّه الدين للمسلمين؟ إنّ أهمّ بحث تطرحه هاتان الفقرتان القرآنيتان يتركز في كنهه وحقيقته كلمة «اليوم» الواردة فيهما.

إنّ ما ذكره جميع مفسّري الشيعة في تفاسيرهم وأيدوه كما دعمته روايات كثيرة، وهذا الاحتمال يتناسب تماماً مع محتوى الآية حيث يعتبر «يوم عذير خم» أي اليوم الذي نصب النبي صلى الله عليه و آله عليّاً أمير المؤمنين عليه السلام بصورة رسمية وعلنية خليفة له، حيث غشى الكفار في هذا اليوم سيل من اليأس، وقد كانوا يتوهمون أنّ دين الإسلام سينتهي بوفاة النبي صلى الله عليه و آله وأنّ الأوضاع ستعود إلى سابق عهد الجاهلية، لكنهم حين شاهدوا أنّ النبي أوصى بالخلافة بعده لرجل كان فريداً بين المسلمين في علمه وتقواه وقوته وعدالته، وهو علي بن أبي طالب عليه السلام ورأوا النبي وهو يأخذ البيعة لعليّ عليه السلام أحاط بهم اليأس من كل جانب وفقدوا الأمل فيما توقعوه من شرّ لمستقبل الإسلام وأدركوا أنّ هذا الدين باق راسخ.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 494

ففي يوم غدير خم أصبح الدين كاملًا، إذ لو لم يتمّ تعيين خليفة للنبي صلى الله عليه و آله ولو لم يتمّ تعيين وضع مستقبل الامة الإسلامية، لم تكن لتكتمل الشريعة بدون ذلك ولم يكن ليكتمل الدين.

وقد وردت في الآية (55) من سورة النور نقطة مهمة جديرة بالإنتباه- فالآية تقول:

«وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا».

واللَّه

سبحانه وتعالى يقطع في هذه الآية وعداً على نفسه بأن يرسخ دعائم الدين، الذي ارتضاه للمؤمنين في الأرض.

ولمّا كان نزول سورة النور قبل نزول سورة المائدة، ونظراً إلى جملة «وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلمَ دِينًا» الواردة في الآية الأخيرة- موضوع البحث- والتي نزلت في حق علي بن أبي طالب عليه السلام لذلك كلّه نستنتج أنّ حكم الإسلام يتعزز ويترسخ في الأرض إذا اقترن بالولاية، لأنّ الإسلام هو الدين الذي ارتضاه اللَّه ووعد بترسيخ دعائمه وتعزيزه، وبعبارة أوضح أنّ الإسلام إذا اريد له أن يعم العالم كله يجب عدم فصله عن ولاية أهل البيت عليهم السلام.

أمّا الأمر الثاني الذي نستنتجه من ضمن الآية الواردة في سورة النور إلى الآية التي هي موضوع بحثنا الآن، فهو أنّ الآية الاولى قد أعطت للمؤمنين وعودا ثلاثة:

أوّلها: الخلافة على الأرض.

والثاني: تحقق الأمن والإستقرار لكي تكون العبادة للَّه وحده.

والثالث: استقرار الدين الذي يرضاه اللَّه في الأرض.

ولقد تحققت هذه الوعود الثلاثة في «يوم غدير خم» بنزول آية: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» فمثال الإنسان المؤمن الصالح هو علي عليه السلام الذي نصب وصيّاً للنّبي صلى الله عليه و آله ودلّت عبارة «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ» على أنّ الأمن قد تحقق بصورة نسبية لدى المؤمنين، كما بيّنت عبارة: «وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلمَ دِينًا» إنّ اللَّه قد اختار الدين الذي يرتضيه، وأقرّه بين عباده المسلمين.

لقد أعادت الآية- في نهايتها- الكرة في التحدث عن اللحوم المحرمة فبيّنت حكم الاضطرار في حالة المعاناة من الجوع إذ أجازت تناول اللحم المحرم بشرط أن لا يكون هدف الشخص ارتكاب المعصية من تناول ذلك، مشيرة إلى غفران اللَّه ورحمته في عدم

مختصر الامثل، ج 1، ص: 495

إلجاء عباده عند الاضطرار إلى تحمل المعاناة

والمشقة، وعدم معاقبتهم في مثل هذه الحالات.

قالت الآية الكريمة: «فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

والمراد بالمخمصة هنا الجوع الشديد الذي يؤدّي إلى انخماص البطن، سواء كان بسبب حالة المجاعة العامّة، أو كان ناتجاً عن الحرمان الخاص.

يَسْأَلُونَكَ مَا ذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَ مَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)

سبب النّزول

في تفسير القرطبي: نزلت بسبب عديّ بن حاتم وزيد بن مهلهل وهو زيد الخيل الذي سمّاه رسول اللَّه زيد الخير؛ قالا: يا رسول اللَّه! إنّا قوم نصيد بالكلاب والبُزاة وإنّ الكلاب تأخذ البقر والحُمُر والظّباء فمنه ما ندرك ذكاته ومنه ما تقتله فلا نُدرك ذكاته، وقد حرّم اللَّه الميتة فماذا يَحلّ لنا؟ فنزلت الآية.

التّفسير

الحلال من الصيد: أعقبت الآية الأخيرة آيتين سبق وأن تناولتا أحكاماً عن الحلال والحرام عن اللحوم وقد بيّنت هذه الآية نوعاً آخر من اللحوم أو الحيوانات التي يحل للإنسان تناولها وجاءت على صيغة جواب لسؤال ذكرته الآية نفسها بقولها: «يَسَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ».

فتأمر الآية النبي صلى الله عليه و آله- أوّلًا- بأن يخبرهم إنّ كل ما كان طيباً وطاهراً فهو حلال لهم، حيث تقول: «قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ» دالة على أنّ كل ما حرمه الإسلام يعتبر من الخبائث غير الطاهرة، وإنّ القوانين الإلهية لا تحرم- مطلقاً- الموجودات الطاهرة التي خلقها اللَّه لينتفع بها البشر.

ثم تبيّن الآية أنواع الصيد الحلال، فتشير إلى الصيد الذي تجلبه أو تصيده الحيوانات المدربة على الصيد، فتؤكد بأنّه حلال، بقولها: «وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ تُعَلّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ».

مختصر الامثل، ج 1،

ص: 496

«جوارح»: مشتقة من المصدر «جرح» الذي يعني أحياناً «الكسب» وتارة يعني «الجرح» الذي يصاب به البدن ولذلك يطلق على الحيوانات المدرّبة على الصيد، سواء كانت من الطيور أو من غيرها، اسم «جارحة» وجمعها «جوارح» أي الحيوان الذي يجرح صيده، أو بالمعنى الآخر الحيوان الذي يكسب لصاحبه.

وبديهي أنّ الصيد الذي تجلبه حيوانات مدرّبة اخرى، يعتبر حلالًا في حالة جلبه حيّاً وذبحه وفق الطريقة الشرعية.

وبديهي أنّ الحيوان الذي تصيده كلاب الصيد، يجب أن يذبح وفق الطريقة الشرعية إن جلب حيّاً، وإن مات الحيوان قبل دركه فلحمه حلال وإن لم يذبح.

وأخيراً أشارت الآية الكريمة إلى شرطين آخرين من شروط تحليل مثل هذا النوع من الصيد:

أوّلهما: أن لا يأكل كلب الصيد من صيده شيئاً، حيث قالت الآية: «فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ». وعلى هذا الأساس فإنّ الكلاب لو أكلت من الصيد شيئاً قبل إيصاله إلى صاحبها، وتركت قسماً آخر منه، فلا يحل لحم مثل هذا الصيد ومثل هذا الكلب الذي يأكل الصيد لا يعتبر كلباً مدرباً، كما لا يعتبر ما تركه من الصيد مصداقاً لعبارة «مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ» لأنّه في هذه الحالة يكون (أي الكلب) قد صاد لنفسه.

والأمر الثاني: هو ضرورة ذكر اسم اللَّه على الصيد بعد أن يتركه الكلب، حيث قالت الآية: «وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ».

ولكي تضمن الآية رعاية الأحكام الإلهية- هذه- كلها، أكّدت في الختام قائلة:

«وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ». داعية إلى الخوف من اللَّه العزيز القدير ومن حسابه السريع.

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَ طَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَ الْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَ الْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَ لَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ

وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 497

حكم طعام أهل الكتاب وحكم الزواج معهم: تناولت هذه الآية، التي جاءت مكملة للآيات السابقة، نوعاً آخر من الغذاء الحلال، فبيّنت أنّ كل غذاء طاهر حلال، وإنّ غذاء أهل الكتاب حلال للمسلمين، وغذاء المسلمين حلال لأهل الكتاب، وحيث قالت الآية:

«الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ».

والمقصود ب «طعام أهل الكتاب» هو غير اللحوم المذبوحة بأيدي أهل الكتاب. فقد جاء في تفسير علي بن إبراهيم القمي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال في هذه الآية: «عني بطعامهم الحبوب والفاكهة غير الذبائح التي يذبحونها، فإنّهم لا يذكرون اسم اللَّه على ذبائحهم».

حكم الزواج بغير المسلمات: بعد أن بيّنت هذه الآية حلية طعام أهل الكتاب تحدثت عن الزواج بالنساء المحصنات من المسلمات ومن أهل الكتاب، فقالت بأنّ المسلمين يستطيعون الزواج بالنساء المحصنات من المسلمات ومن أهل الكتاب، شرط أن يدفعوا لهن مهورهن، حيث تقول الآية: «وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتِ مِنَ الَّذِينَ أُتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ». على أن يكون التواصل بوسيلة الزّواج المشروع وليس عن طريق الزنا الصريح، ولا عن طريق المعاشرة الخفية، حيث تقول الآية:

«مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ».

وهذا الجزء من الآية الكريمة يقلل الحدود التي كانت مفروضة على الزواج بين المسلمين وغيرهم، ويبيّن جواز زواج المسلم بالمرأة الكتابية ضمن شروط خاصة.

ولا يخفى علينا ما شاع في عالم اليوم من تقاليد الجاهلية بصورة مختلفة، ومن ذلك إنتخاب الرجل أو المرأة خليلًا من الجنس الآخر وبصورة علنية، وقد تمادى إنسان عالم اليوم أكثر من نظيره الجاهلي في التحلل والخلاعة والمجون الجنسي، ففي

حين كان الإنسان الجاهلي ينتخب الأَخلاء سرّاً وفي الخفاء، أصبح إنسان اليوم لا يرى بأساً من إعلان هذا الأمر والتباهي به بكل صلف ووقاحة، ويعتبر هذا التقليد المشين نوعاً صريحاً ومفضوحاً من الفحشاء وهدية مشؤومة انتقلت من الغرب إلى الشرق وأصبحت مصدراً للكثير من النكبات والكوارث.

ولكي تسد الآية طريق إساءة استغلال موضوع التقارب والمعاشرة مع أهل الكتاب والزواج من المرأة الكتابية على البعض من ضعاف النفوس، وتحول دون الانحراف إلى هذا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 498

الأمر بعلم أو بدون علم، حذّرت المسلمين في جزئها الأخير فقالت: «وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى الْأَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ». وهذه إشارة إلى أنّ التسهيلات الواردة في الآية بالإضافة إلى كونها تؤدّي إلى السعة ورفع الحرج عن حياة المسلمين، يجب أن تكون- أيضاً- سبباً لتغلغل الإسلام إلى نفوس الأجانب، لا أن يقع المسلمون تحت نفوذ وتأثير الغير فيتركوا دينهم، وحيث سيؤدّي بهم هذا الأمر إلى نيل العقاب الإلهي الصارم الشديد.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) تطهير الجسم والروح: لقد تناولت الآيات السابقة بحوثاً متعددة عن الطيبات الجسمانية والنعم المادية، أمّا الآية الأخيرة فهي تتحدث عن الطيبات الروحية وما يكون سبباً لطهارة الروح و النفس الإنسانية، فقد بيّنت هذه الآية أحكاماً مثل الوضوء والغسل والتيمم،

التي تكون سبباً في صفاء وطهارة الروح الإنسانية- فخاطبت المؤمنين في البداية موضحة أحكام الوضوء بقولها: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ».

وقد شرحت الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام اسلوب الغسل وفق سنّة النبي صلى الله عليه و آله وهو غسل اليدين من المرفق حتى أطراف الأصابع.

بعد ذلك كله بيّنت الآية حكم الغسل عن جنابة حيث قالت: «وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا». والواضح أنّ المراد من جملة «فاطّهروا» هو غسل جميع الجسم، لأنّه لو كان المراد جزءاً خاصاً منه لأقتضى ذكر ذلك الجزء.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 499

إنّ كلمة «جُنُباً»- وكما أوضحنا لدى تفسير الآية (43) من سورة النساء- تعني في الأصل «المتباعد» أو «البعيد» وسبب إطلاق هذا اللفظ على الإنسان المجنب لأنّ هذا الإنسان يجب عليه أن يبتعد عن الصلاة والتوقف في المساجد وأمثالها.

ويمكن أن يستدل من الآية التي تدعو المجنب إلى الإغتسال قبل الصلاة على أنّ غسل الجنابة يجزي ء، وينوب عن الوضوء أيضاً.

ومن ثم بادرت الآية إلى بيان حكم التيمم حيث قالت: «وَإِن كُنتُم مَّرضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ أَوْ لمَسْتُمُ النّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيّبًا».

لقد بيّنت الآية- بعد ذلك- اسلوب التيمم بصورة إجمالية فقالت: «فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ».

وقد أوضحت الآية- في آخرها- أنّ الأوامر الإلهية ليس فيها ما يحرج الإنسان أو يوجد العسر له، بل إنّها أوامر شرعت لتحقق فوائد ومنافع معينة للناس، فقالت الآية «مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

وتؤكد هذه العبارات القرآنية الأخيرة أنّ جميع الأحكام والأوامر الشرعية الإلهية والضوابط الإسلامية هي لمصلحة

الناس ولحماية منافعهم، وليس فيها أيّ هدف آخر، وإنّ اللَّه يريد بالأحكام الأخيرة الواردة في الآية- موضوع البحث- أن يحقق للإنسان طهارته الجسمانية والروحية معاً.

إنّ جملة «مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ» تبيّن قانوناً عامّاً معناه أنّ أحكام اللَّه ليست تكاليف شاقّة أبداً، ولو كان في أيّ حكم شرعي العسر والحرج لأي فرد لسقط التكليف عن هذا الفرد بناء على الاستثناء الوارد في الجملة القرآنية الأخيرة من الآية موضوع البحث، ولهذا لو كان الصوم يشكل مشقة وعناء على أيّ فرد بسبب مرض أو شيخوخة أمّا ما شابه ذلك، لسقط أداؤه عن هذا الفرد وارتفع التكليف عنه، بناء على هذا الدليل نفسه.

وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ مِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَ أَطَعْنَا وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 500

مختصر الامثل ج 1 539

العهود الربانية: تناولت الآية السابقة مجموعة من الأحكام الإسلامية بالإضافة إلى موضوع إكمال النعمة الإلهية على المسلمين، وجاءت الآية الأخيرة لتكمل السياق الموضوعي لما سبق من آيات، فاستقطبت انتباه المسلمين إلى أهمية وعظمة النعم الإلهية التي أعظمها وأهمّها نعمة الإيمان والهداية والإسلام، تقول الآية: «وَاذْكُرُوا نِعمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ». فأيّ نعمة أعظم من أن ينال الإنسان- في ظل الإسلام- كل الهبات الإلهية والمفاخر والإمكانيات الدنيوية، بعد أن كان الناس يعانون في الجاهلية من التشتت والجهل والضلال ويسود بينهم قانون الغاب، وكان الفساد والظلم يعم مجتمعهم آنذاك، وقد تحولوا بفضل الإسلام إلى مجتمع يسوده الإتحاد والتماسك والعلم، ويرفل بالنعم والإمكانيات المادية والمعنوية الزّاخرة.

بعد هذا تعيد الآية إلى الأذهان ذلك العهد الذي بين البشر وبين اللَّه، فتقول: «وَمِيثَاقَهُ الَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا».

والمراد بلفظة

«العهد» في هذه الآية إشارة إلى جميع العهود والمواثيق التكوينية والتشريعية التي أخذها اللَّه أو النبي صلى الله عليه و آله من المسلمين بمقتضى فطرتهم في مراحل مختلفة.

وفي النهاية تؤكد الآية على ضرورة التزام التقوى، محذّرة أنّ اللَّه محيط بأسرار البشر، وعالم بما يختلج في صدورهم، بقولها: «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) دعوة مؤكّدة إلى العدالة: إنّ الآية الاولى من الآيات الثلاث أعلاه تدعو إلى تحقيق العدالة، وهي شبيهة بتلك الدعوة الواردة في الآية (135) من سورة النساء، التي مضى ذكرها مع اختلاف طفيف، فتخاطب هذه الآية أوّلًا المؤمنين قائلة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ».

ثم تشير إلى أحد أسباب الانحراف عن العدالة وتحذّر المسلمين من هذا الانحراف مؤكّدة

مختصر الامثل، ج 1، ص: 501

أنّ الأحقاد والعداوات القبلية والثارات الشخصية، يجب أن لا تحول دون تحقيق العدل، ويجب أن لا تكون سبباً للإعتداء على حقوق الآخرين، لأنّ العدالة أرفع وأسمى من كل شي ء، فتقول الآية الكريمة: «وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا». وتكرر الآية التأكيد لبيان ما للعدل من أهمية قصوى فتقول: «اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى . وبما أنّ العدالة تعتبر أهم أركان التقوى تؤكد الآية مرّة ثالثة قائلة: «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ».

بعد التأكيد الشديد الذي حملته الآية الكريمة حول قضية العدالة وضرورة تطبيقها بادرت الآية

التالية وتمشياً مع الاسلوب القرآني، فأعادت إلى الأذهان ما أعده اللَّه للمؤمنين العاملين بالخير من غفرانه ونعمه العظيمة، حيث تقول الآية: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ».

كما ذكرت الآية في المقابل جزاء الكافرين الذين يكذبون بآيات اللَّه، فقالت: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بَايَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ».

وممّا يلفت النظر أنّ الآية جعلت المغفرة والأجر العظيم في إطار «وعد اللَّه» بينما ذكرت عقاب جهنم بأنّه نتيجة للكفر وللتكذيب بآيات اللَّه، وما هذا إلّاإشارة إلى فضل اللَّه ورحمته لعباده فيما يخص نعم وهبات الآخرة التي لا يمكن لأعمال الإنسان مهما كبرت وعظمت أن تباريها أو تعادلها مطلقاً، كما أنّها إشارة- أيضاً- إلى أنّ عقاب الآخرة ليس فيه طابع انتقامي أبداً، بل هو نتيجة عادلة لما إرتكبه الإنسان من أعمال سيئة في حياته.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) لقد ذكرت الآيات السابقة بعضاً من النعم الإلهية، وجاءت الآية الأخيرة تخاطب المسلمين وتذكر لهم أنواعاً من النعم التي أنعم اللَّه بها عليهم، لكي يؤدّوا شكرها عن طريق طاعة اللَّه والسعي لتحقيق مبادى ء العدالة، فتقول الآية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ».

والآية تلفت إنتباه المسلمين إلى الأخطار التي تعرضوا لها، وكان يحتمل أن تدفع

مختصر الامثل، ج 1، ص: 502

بالوجود الإسلامي إلى الفناء والزوال وإلى الأبد، ولكن فضل اللَّه ونعمته شملتهم وأنقذت الإسلام والمسلمين من تلك الأخطار. كما تحذر الآية المسلمين وتنبههم إلى ضرورة التزام التقوى والإعتماد على اللَّه كدليل على شكر ذلك الفضل وتلك النعمة،

وليعلموا بأنّهم بتقواهم سيضمنون لأنفسهم الدعم والسند والحماية من اللَّه في حياتهم الدنيوية هذه، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ».

وَ لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ بَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَ آتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ وَ أَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) لقد أشارت هذه الآية أوّلًا إلى قضية الوفاء بالعهد، وقد تكررت هذه الإشارة في مناسبات مختلفة في آيات قرآنية عديدة، وربّما كانت إحدى فلسفات هذا التأكيد المتكرر على أهمية الوفاء بالعهد وذم نقضه، هي إعطاء أهميّة قصوى لقضية ميثاق الغدير الذي سيرد في الآية (67) من هذه السورة. والآية في بدايتها تشير إلى العهد الذي أخذه اللَّه من بني إسرائيل على أن يعملوا بأحكامه وإرساله إليهم بعد هذا العهد اثني عشر زعيماً وقائداً ليكون كل واحد منهم زعيماً لطائفة واحدة من طوائف بني إسرائيل الإثنتي عشر- حيث تقول الآية الكريمة: «وَلَقَد أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَىْ عَشَرَ نَقِيبًا».

والأصل في كلمة «نقيب» إنّها تعني الثقب الكبير الواسع، وتطلق بالأخص على الطرق المحفورة تحت الأرض، وسبب استخدام كلمة نقيب للدلالة على الزعامة، لأنّ زعيم كل جماعة يكون عليماً بأسرار قومه، وكأنّه قد صنع ثقباً كبيراً يطلع من خلاله على أسرارهم.

وتشير الآية بعد ذلك إلى وعد اللَّه لبني إسرائيل حيث تقول: «وَقَالَ اللَّهُ إِنّى مَعَكُمْ».

وإنّ هذا الوعد سيتحقق إذا التزم بنو إسرائيل بالشروط التالية:

1- أن يلتزموا بإقامة الصلاة كما تقول الآية: «لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَوةَ».

2- وأن يدفعوا

زكاة أموالهم: «وَءَاتَيْتُمُ الزَّكَوةَ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 503

3- أن يؤمنوا بالرسل الذين بعثهم اللَّه ويحترموا وينصروا هؤلاء الرسل، حيث تقول الآية: «وَءَامَنتُم بِرُسُلِى وَعَزَّرْتُمُوهُمْ» «1».

4- وبالإضافة إلى الشروط الثلاثة المذكورة أعلاه، أن لا يمتنع بنو إسرائيل عن القيام ببعض أعمال الإنفاق المستحب التي تعتبر نوعاً من معاملات القرض الحسن مع اللَّه سبحانه وتعالى حيث تقول الآية: «وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا».

ثم أردفت الآية الكريمة ببيان نتائج الوفاء بالشروط المذكورة بقوله تعالى: «لَّأُكَفّرَنَّ عَنكُمْ سَيَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ».

كما بيّنت الآية مصير الذين يكفرون ولا يلتزمون بما أمر اللَّه حيث تقول: «فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ».

فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَ جَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَ نَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَ لَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) إنّ هذه الآية الكريمة جاءت تشير إلى نقض بني إسرائيل للعهد الذي أخذه اللَّه عليهم والذي ذكرته الآية السابقة. كما ذكرت هذه الآية نتائج وعواقب هذا النقض حيث تقول:

«فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً» «2».

والحقيقة هي أنّ هؤلاء عوقبوا بهذين الجزاءين بسبب نقضهم لميثاقهم، فقد حرموا من رحمة اللَّه، وتحجرت أفكارهم وقلوبهم فلم تعد تبدي أي مرونة أمام الحقائق.

وتشرح الآية آثار هذا التحجّر فتقول: «يُحَرّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ» و «وَنَسُوا حَظًّا مّمَّا ذُكّرُوا بِهِ».

______________________________

(1) «عزّرتموهم»: مشتقة من مادة «تعزير» أي المنع أو العون، أمّا حين تسمّى بعض العقوبات الإسلامية بالتعزير فذلك لأنّ هذه العقوبات تكون عوناً للمذنب لكي يرتدع عن مواصلة الذنب وهذا دليل على أنّ العقوبات الإسلامية لا تتسم بطابع الإنتقام بل تحمل طابعاً تربوياً لذلك سمّيت

بالتعزير.

(2) «لعن»: تعني في اللغة «الطرد والإبعاد» وحين ينسب اللعن إلى اللَّه فإنّه يعني الحرمان من رحمته، أمّا كلمة «قاسية»: فهي في الأصل مشتقة من المصدر «قساوة» وتطلق على الأخص على الحجر الصلد، ولذلك أطلقت على الذين لا يبدون أي مرونة من جانبهم أمام الحقائق التي تتكشف لهم.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 504

ولا يستبعد أن تكون علامات وآثار نبي الأكرم محمّد صلى الله عليه و آله والتي اشير إليها في آيات قرآنية اخرى، جزءاً من الامور التي نسيها بنو إسرائيل- كما يحتمل أن تكون هذه الجملة القرآنية إشارة إلى ما حرفه أو نسيه جمع من علماء اليهود أثناء تدوينهم للتوراة من جديد بعد أن فقدت التوراة الأصلية، وإنّ ما وصل إلى هؤلاء من كتاب موسى الحقيقي كان جزءاً من ذلك الكتاب وقد اختلط بالكثير من الخرافات، وقد نسي هؤلاء حتى هذا الجزء الباقي من كتاب موسى عليه السلام.

ثم تتطرق الآية إلى ظاهرة خبيثة طالما برزت لدى اليهود- بصورة عامّة- إلّاما ندر منهم، وهي الخيانة التي كانت تتكشف للمسلمين بين فترة واخرى. تقول الآية الكريمة في هذا المجال: «وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ».

وفي الختام تطلب الآية من النّبي صلى الله عليه و آله أن يعفو عن هؤلاء ويصفح عنهم، مؤكّدة أنّ اللَّه يحب المحسنين، وذلك في قوله تعالى: «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ».

إنّ العفو والصفح المطلوبان في الآية يشملان- فقط- تلك الحالات التي كان اليهود يوجهون فيها أذاهم وتحرشاتهم واستفزازاتهم إلى النبي صلى الله عليه و آله ولا يشملان أخطاء اليهود وجرائمهم بحق الأهداف والمبادى ء الإسلامية، حيث لا معنى للعفو في هذا المجال.

وَ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا

حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَ الْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَ سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) العداء الأبدي: لقد تناولت الآية السابقة ظاهرة نقض بني إسرائيل للعهد الذي أخذه اللَّه منهم، أمّا الآية الأخيرة- هذه- فهي تتحدث عن نقض العهد عند النصارى الذين نسوا قسماً من أوامر اللَّه التي كلّفوا بها- فتقول الآية في هذا المجال: «وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مّمَّا ذُكّرُوا بِهِ». فهذه الآية تدل بوضوح على أنّ النصارى- أيضاً- كانوا قد عقدوا مع اللَّه عهداً على أن لا ينحرفوا عن حقيقة التوحيد، وأن لا ينسوا أوامر وأحكام اللَّه، وأن لا يكتموا علائم خاتم النبيين لكنهم تورطوا بنفس ما تورط به اليهود.

أمّا كلمة «نصارى» التي وردت في الآية فهي صيغة جمع نصراني، ويحتمل أن يكون وجه التسمية ناشئاً عن قول المسيح عليه السلام كما تحكيه الآية (14) من سورة الصّف عنه إذ تقول:

مختصر الامثل، ج 1، ص: 505

«كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلحَوَارِيّينَ مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ».

فسمّي المسيحيون لذلك بالنصارى.

ولما كان جمع من النصارى يقولون ما لا يفعلون، ويزعمون أنّهم من أنصار المسيح عليه السلام يقول القرآن في هذه الآية: «وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى . وهم لم يكونوا صادقين في دعواهم هذه، لذلك تستطرد الآية الكريمة فتبيّن نتيجة هذا الإدعاء الكاذب، وهو انتشار عداء أبدي فيما بينهم حتى يوم القيامة، كما تقول الآية: «فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيمَةِ».

كما ذكرت الآية نوعاً آخر من الجزاء والعقاب لهذه الطائفة النصرانية، وهو أنّهم سوف يعلمون نتيجة أعمالهم وسيرونها بأعينهم حيث تقول الآية: «وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ».

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ

جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَ يَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن نقض اليهود والنصارى لميثاقهم، جاءت الآية الأخيرة لتخاطب أهل الكتاب بصورة عامة وتدعوهم إلى الإسلام. وتبين الآية- في البداية- أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله المبعوث إليهم جاء ليظهر الكثير من الحقائق الخاصة بالكتب السماوية التي أخفوها هم (أهل الكتاب) وكتموها عن الناس، وأنّ هذا الرسول يتغاضى عن كثير من تلك الحقائق التي انتفت الحاجة إليها وزال تأثيرها بزوال العصور التي نزلت لها، فتقول الآية في هذا المجال: «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ».

وتشير الآية الكريمة- أيضاً- إلى أهمّية وعظمة القرآن المجيد وآثاره العميقة في هداية وإرشاد وتربية البشرية، فتقول: «قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ». النور الذي يهدي به اللَّه كل من يبتغي كسب مرضاته إلى سبل السلام، كما تقول الآية الاخرى: «يَهْدِى بِهِ

مختصر الامثل، ج 1، ص: 506

اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلمِ» وينقذهم من أنواع الظلمات (كظلمة الشرك وظلمة الجهل وظلمة التفرقة والنفاق وغيرها ...) ويهديهم إلى نور التوحيد والعلم والإتحاد، حيث تقول الآية: «وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ». وإضافة إلى ذلك كله يرشدهم إلى الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج ولا انحراف في جانبيه العقائدي والعملي أبداً، كما تقول الآية: «وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ».

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ

اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (17) كيف يمكن للمسيح أن يكون هو اللَّه؟ جاءت هذه الآية الكريمة لتكمل بحثاً تطرقت إليه آيات سابقة، فحملت بعنف على دعوى ربوبية المسيح عليه السلام وبيّنت أنّ هذه الدعوى ما هي إلّاالكفر الصريح، حيث قالت: «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ».

ولكي يتّضح لنا مفهوم هذه الجملة، يجب أن نعرف أنّ للمسيحيين عدّة دعاوي باطلة بالنسبة إلى اللَّه سبحانه وتعالى:

فهم أوّلًا: يعتقدون بالآلهة الثلاث (أي الثالوث) وقد أشارت الآية (171) من سورة النساء إلى هذا الأمر.

وثانياً: إنّهم يقولون: إنّ خالق الكون والوجود هو واحد من هؤلاء الآلهة الثلاث ويسمونه بالإله الأب والقرآن الكريم يبطل هذا الاعتقاد- أيضاً- في الآية (73) من سورة المائدة حيث يقول: «لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلثَةٍ وَمَا مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ وَاحِدٌ».

وثالثاً: إنّ المسيحيين يقولون: إنّ الآلهة الثلاث مع تعددهم الحقيقي هم واحد، حيث يعبرون عن ذلك أحياناً ب «الوحدة في التثليث» وهذا الأمر أشارت إليه الآية الأخيرة حيث قالت حكاية عن دعوى المسيحيين: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ». وقالوا: إنّ المسيح ابن مريم هو اللَّه! وإنّ هذين الإثنين يشكّلان مع روح القدس حقيقة واحدة في ثلاثة متعددة!

مختصر الامثل، ج 1، ص: 507

بعد ذلك ولكي تبطل الآية الكريمة عقيدة الوهية المسيح عليه السلام تقول: «قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا».

وهذه إشارة إلى أنّه لو كان المسيح عليه السلام

إلهاً لإستحال على خالق الكون أن يهلكه وتكون نتيجة ذلك أن تتحدد قدرة هذا الخالق ومن كانت قدرته محدودة لا يمكن أن يكون إلهاً، لأنّ قدرة اللَّه كذاته لا تحدّها حدود مطلقاً (تدبّر جيداً).

وفي الختام ترد الآية الكريمة على أقوال اولئك الذين اعتبروا ولادة المسيح من غير أب دليلًا على الوهيته فتقول: «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ». فاللَّه قادر على أن يخلق إنساناً من غير أب ومن غير ام كما خلق آدم عليه السلام وهو قادر أيضاً على أن يخلق إنساناً من غير أب كما خلق عيسى المسيح عليه السلام وقدرة اللَّه هذه كقدرته في خلق البشر من آبائهم وامهاتهم، وهذا التنوع في الخلق دليل على قدرته، وليس دليلًا على أيّ شي ء آخر سوى هذه القدرة.

وَ قَالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) استكمالًا للبحوث السابقة التي تناولت بعض إنحرافات اليهود والنصارى، تشير الآية الأخيرة إلى أحد الدعاوى الباطلة التي تمسك بها هؤلاء، فتقول: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنؤُا اللَّهِ وَأَحِبؤُهُ».

إنّ القرآن الكريم حارب كل هذه الإمتيازات والدعاوى الوهمية، فهو لا يرى للإنسان امتيازاً إلّابالإيمان والعمل الصالح والتقوى، ولذلك تقول الآية الأخيرة في تفنيد وإبطال الإدّعاء الأخير: «قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم». فهؤلاء- بحسب اعترافهم أنفسهم- يشملهم العذاب الإلهي حيث قالوا بأنّ العذاب يمسّهم لأيّام معدودة، فكيف يتلاءم ذلك الإدعاء وهذا الإعتراف؟ وكيف يمكن أن يشمل عذاب اللَّه أبناءه وأحباءه؟! ومن هنا يثبت أن لا أساس

ولا صحة لهذا الإدعاء، وقد شهد تاريخ هؤلاء على أنّهم حتى في هذه الدنيا ابتلوا بسلسلة من العقوبات الإلهية، ويعتبر هذا دليلًا آخر على زيف وبطلان دعواهم تلك.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 508

ولكي تؤكد الآية الكريمة زيف وبطلان الدعوى المذكورة استطردت تقول: «بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مّمَّنْ خَلَقَ». والقانون الإلهي عام، فإن اللَّه «يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذّبُ مَن يَشَاءُ». وبالإضافة إلى ذلك فإنّ كل البشر هم من خلق اللَّه، وهم عباده وأرقاؤه، وعلى هذا الأساس ليس من المنطق إطلاق اسم «ابن اللَّه» على أي منهم، حيث تقول الآية: «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا».

وفي النهاية تعود المخلوقات كلها إلى اللَّه، حيث تؤكد الآية هنا بقولها: «وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ».

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَ لَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ وَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (19) تكرر هذه الآية الخطاب إلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فتبيّن لهم أنّ النبي المرسل إليهم مرسل من عند اللَّه، أرسله في عصر ظلت البشرية قبله فترة دون أن يكون لها نبيّ، فبيّن لهم هذا النّبي الحقائق، لكي لا يقولوا بعد هذا إنّ اللَّه لم يرسل إليهم من يهديهم إلى الصراط السوي ويبشرهم بلطف اللَّه ورحمته ويحذّرهم من الانحراف والإعوجاج، وينذرهم بعذاب اللَّه، حيث تقول الآية: «يَا أَهلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ».

«فترة»: تعني في الأصل الهدوء والسكينة كما تطلق على الفاصلة الزمنية بين حركتين أو جهدين أو نهضتين أو ثورتين.

وقد شهدت الفاصلة الزمنية بين موسى وعيسى عليهما السلام عدداً من الأنبياء والرسل، بينما لم

يكن الأمر كذلك في الفاصلة الزمنية بين عيسى عليه السلام والنّبي محمّد صلى الله عليه و آله ولذلك أطلق القرآن الكريم على هذه الفاصلة الأخيرة اصطلاح «فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ». والمعروف أنّ هذه الفترة دامت ستمائة عام تقريباً.

وفي الختام تؤكد الآية على شمولية قدرة اللَّه عزّ وجلّ فتقول: «وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ». وهذا بيان بأنّ إرسال الأنبياء والرسل وتعيين أوصيائهم أمر يسير بالنسبة لقدرة اللَّه العزيز المطلقة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 509

وَ إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَ آتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَ لَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَ عَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) بنو إسرائيل والأرض المقدسة: جاءت هذه الآيات لتثير لدى اليهود دافع التوجه إلى الحق والسعي لمعرفته أوّلًا، وإيقاظ ضمائرهم حيال الأخطاء والآثام التي إرتكبوها ثانياً، ولكي تحفزهم إلى السعي لتلافي اخطائهم والتعويض عنها، ويذكرهم القرآن في الآية الاولى بما قاله النبي موسى عليه السلام لأصحابه حيث تقول: «وَإِذْ

قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ».

وفي ظل هذه النعمة (نعمة وجود الأنبياء) نجا اليهود من هاوية الشرك والوثنية وعبادة العجل وتخلصوا من مختلف أنواع الخرافات والأوهام والقبائح والخبائث.

بعد هذا تشير الآية إلى أكبر نعمة مادية وهبها اللَّه لليهود فتقول: «وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا» وتعتبر هذه النعمة- أيضاً- مقدمة للنعم المعنوية، فقد عانى بنو إسرائيل لسنين طويلة من ذل العبودية في ظل الحكم الفرعوني، فلم يكونوا ليمتلكوا في تلك الفترة أي نوع من حرية الإرادة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 510

وتشير هذه الآية في آخرها إلى أنّ اللَّه قد وهب بني إسرائيل في ذلك الزمان نعماً لم ينعم بها على أحد من أفراد البشر في ذلك الحين فتقول: «وَءَاتكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ».

وكانت هذه النعم الوافرة كثيرة الأنواع، فمنها نجاة بني إسرائيل من مخالب الفراعنة الطغاة وإنفلاق البحر لهم ونزول غذاء خاص عليهم مثل «المنّ والسلوى».

و الآية التالية تبيّن واقعة دخول بني إسرائيل إلى الأرض المقدّسة نقلًا عن لسان نبيّهم موسى عليه السلام فتقول: «يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ».

والمراد بعبارة «الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ» الواردة في الآية، كل أرض الشام التي تشمل جميع الاحتمالات الواردة، لأنّ هذه الأرض- كما يشهد التاريخ- تعتبر مهداً للأنبياء، ومهبطاً للوحي، ومحلًا لظهور الأديان السماوية الكبرى، كما أنّها كانت لفترت طوال من التاريخ مركزاً للتوحيد وعبادة اللَّه الواحد الأحد ونشر تعاليم الأنبياء.

وقد واجه بنو إسرائيل دعوة موسى عليه السلام للدخول إلى الأرض المقدسة مواجهة الضعفاء الجبناء الجهلاء، الذين يتمنون أن تتحقق لهم الانتصارات في ظل الصدف والمعاجز دون أن يبادروا بأنفسهم إلى بذل جهد في هذا المجال، وردّ هؤلاء على طلب موسى

عليه السلام بقولهم كما تنقله الآية: «قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ» «1».

ويدل جواب بني إسرائيل هذا على الأثر المشؤوم الذي خلّفه الحكم الفرعوني على نفوس هؤلاء.

والمراد من عبارة «قَوْمًا جَبَّارِينَ» فهم كما تدل عليه التواريخ قوم «العمالقة» «2» الذين

______________________________

(1) «جبّار»: مأخوذةً أو مشتقة من الأصل «جبر» أي إصلاح الشي ء بالقسر والإرغام، ولذلك سمّي إصلاح العظم المكسور «تجبيراً» فهذه الكلمة تطلق من جهة على كل نوع من التجبير والإصلاح، ومن جهة اخرى تطلق على كل أنواع التسلط القسري، وحين تطلق كلمة «جبّار» على اللَّه سبحانه وتعالى فذلك إمّا لتسلطه على كل شي ء، أو لأنّه هو المصلح لكل موجود محتاج إلى الإصلاح.

(2) «العمالقة»: قوم من العنصر السامي يعيشون في شمال شبه جزيرة العرب بالقرب من صحراء سيناء، وقدهاجموا مصر واستولوا عليها لفترات طويلة ودامت حكومتهم حوالي 500 عام منذ عام 2213 قبل الميلاد حتى عام 1703 قبل الميلاد (دائرة المعارف لفريد وجدي 60/ 232).

مختصر الامثل، ج 1، ص: 511

كانوا يمتلكون أجساماً ضخمة، وكانت لهم أطوال خارقة.

بعد هذا الحديث يشير القرآن الكريم إلى رجلين أنعم اللَّه عليهما بالإيمان والتقوى والورع وشملهما بنعمه الكبيرة، فجمعا صفات الشجاعة والشهامة والمقاومة مع الدرك الاجتماعي والعسكري ممّا دفعهما إلى الدفاع عن اقتراح النبي موسى عليه السلام فواجها بني إسرائيل بقولهما: ادخلوا عليهم من باب المدينة، وحين تدخلون عليهم سيواجهون الأمر الواقع فتكونون أنتم المنتصرون، تقول الآية الكريمة في هذا المجال: «قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ».

وتؤكد الآية- بعد ذلك على ضرورة الإعتماد على اللَّه في كل خطوة من الخطوات والاستمداد

من روح الإيمان بقوله تعالى: «وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ».

وما ذكره أغلب المفسّرين حول هوية هذين الرجلين هو أنّهما «يوشع بن نون» و «كالب بن يوحنا» وهما من النقباء الإثني عشر في بني إسرائيل.

والذي حصل حقيقة هو أنّ بني إسرائيل لم يقتنعوا بأي من الإقتراحات المذكورة، فهم بسبب الضعف والجبن المتأصلين في نفوسهم خاطبوا موسى عليه السلام وأخبروه صراحة بأنّهم لن يدخلوا تلك الأرض مادام العمالقة موجودين فيها، وطالبوا موسى أن يذهب هو وربه لمحاربة العمالقة وسألوه أن يخبرهم عن إنتصاره حيث هم قاعدون، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة: «قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا ههُنَا قَاعِدُونَ».

ثم نقرأ في الآية التالية أنّ موسى أصابه اليأس والقنوط من القوم، ورفع يديه للدعاء مناجياً ربّه قائلًا: إنّه لا يملك حرية التصرف إلّاعلى نفسه وأخيه، وطلب من اللَّه أن يفصل بينهما وبين القوم الفاسقين العصاة، لكي يلقى هؤلاء جزاء أعمالهم ويبادروا إلى إصلاح أنفسهم، حيث تقول الآية الكريمة في هذا المجال: «قَالَ رَبّ إِنّى لَاأَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِى وَأَخِى فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ».

وبديهي إنّ رفض بني إسرائيل القاطع لأمر نبيهم كان بمثابة الكفر.

وكانت نتيجة صلف وعناد بني إسرائيل أنّهم لاقوا عقابهم، إذ استجاب اللَّه دعاء نبيه موسى عليه السلام فحرم عليهم دخول الأرض المقدسة، المليئة بالخيرات مدّة أربعين عاماً، وفي هذا المجال تقول الآية القرآنية الكريمة: «قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً».

وزادهم عذاباً إذ كتب عليهم التيه والضياع في البراري والقفار طيلة تلك الفترة، حيث تقول الآية في ذلك: «يَتِيهُونَ فِى الْأَرْضِ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 512

بعد ذلك تذكر الآية أنّ ما نال بني إسرائيل من عذاب في

تلك المدّة، كان مناسباً لما فعلوه، وتطلب من موسى عليه السلام أن لا يحزن على المصير الذي لا قوه حيث تقول الآية الكريمة:

«فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ».

وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَ ذلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) أوّل حادثة قتل على الأرض: لقد تناولت هذه الآيات الثلاث الأخيرة قصة ولدي آدم عليه السلام وكيف قتل أحدهما أخاه، ولعل وجه الصلة بين هذه الآيات والآيات التي سبقتها في شأن بني إسرائيل، هو غريزة «الحسد» التي كانت دائماً أساساً للكثير من مخالفات وانتهاكات بني إسرائيل حيث يحذرهم اللَّه في هذه الآيات من مغبة وعاقبة الحسد الوخيمة القاتلة، التي تؤدّي أحياناً إلى أن يعمد أخ إلى قتل أخيه! والآية تقول في هذا المجال لنبيّ اللَّه أن يتلو على قومه قصّة ولدي آدم: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَىْ ءَادَمَ بِالْحَقّ».

ولعلّ استخدام كلمة «بالحقّ» في هذه الآية جاء للإشارة إلى أنّ القصّة المذكورة قد أضيفت لها خرافات مختلفة، ولبيان أنّ القرآن الكريم جاء بالقصة الحقيقية التي حصلت بين ولدي آدم عليه السلام.

وتواصل الآية سرد القصّة فتقول: «إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْأَخِرِ». وقد أدت هذه الواقعة إلى أن يهدد الأخ- الذي لم يتقبل اللَّه القربان منه- أخاه بالقتل ويقسم أنّه قاتله لا محالة، كما جاء في قوله تعالى في الآية: «قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ».

أمّا الأخ الآخر فقد نصح أخاه مشيراً

إلى أنّ عدم قبول القربان منه إنّما نتج عن علّة في عمله، وأنّه ليس لأخيه أي ذنب في رفض القربان، مؤكّداً أنّ اللَّه يقبل أعمال المتقين فقط حيث تقول الآية: «قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ».

وأكد له أنّه لو نفذ تهديده وعمد إلى قتله، فإنّه- أي الأخ الذي تقبل اللَّه منه القربان- لن

مختصر الامثل، ج 1، ص: 513

يمد يده لقتل أخيه، فهو يخاف اللَّه ويخشاه، ولن يرتكب أو يلوث يده بمثل هذا الإثم، حيث تقول الآية: «لَئِنْ بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدَىَّ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ».

وأضاف هذا الأخ الصالح- مخاطباً أخاه الذي أراد أن يقتله- أنّه لا يريد أن يتحمل آثام الآخرين، قائلًا له: «إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوأَ بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ» «1». (أي لأنّك إن نفذت تهديدك فستتحمل ذنوبي السابقة أيضاً، لأنّك سلبت مني حق الحياة وعليك التعويض عن ذلك، ولما كنت لا تمتلك عملًا صالحاً لتعوض به، فما عليك إلّاأن تتحمل إثمي أيضاً، وبديهي أنّك لو قبلت هذه المسؤولية الخطيرة فستكون حتماً من أهل النار، لأنّ النار هي جزاء الظالمين) كما تقول الآية: «فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزَاؤُا الظَّالِمِينَ».

فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) التّستر على الجريمة: تواصل هاتان الآيتان بقية الواقعة التي حصلت بين إبني آدم عليه السلام فتبيّن الآية الاولى منهما أنّ نفس قابيل هي التي دفعته إلى قتل أخيه فقتله، حيث تقول:

«فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ».

«طوع»: تأتي في الأصل من «الطاعة» لذلك

يستدل من هذه العبارة على أنّ قلب «قابيل» بعد أن تقبل اللَّه قربان أخيه هابيل أخذت تعصف به الأحاسيس والمشاعر المتناقضة، فمن جانب استعرت فيه نار الحسد وكانت تدفعه إلى الإنتقام من أخيه «هابيل» ومن جانب آخر كانت عواطفه الإنسانية وشعوره الفطري بقبح الذنب والظلم والجور وقتل النفس، يحولان دون قيامه بارتكاب الجريمة، لكن نفسه الأمارة بالسوء تغلبت رويداً رويداً على مشاعره الرادعة فطوّعت ضميره الحي وكبلته بقيودها واعدته لقتل أخيه.

وتشير الآية- في آخرها- إلى نتيجة عمل «قابيل» فتقول: «فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ».

فأيّ ضرر أكبر من أن يشتري الإنسان لنفسه عذاباً سيلازمه إلى يوم القيامة ويشمل

______________________________

(1) «تبوء»: مشتقة من المصدر «بواء» أي «العودة».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 514

عذاب الضمير وعقاب اللَّه والعار الأبدي! وتفيد بعض الروايات المنقولة عن الإمام الصّادق عليه السلام أنّ قابيل حين قتل أخاه ترك جثته في العراء حائراً لا يدري ما يفعل بها، فلم يمض وقت حتّى حملت الوحوش المفترسة على جثة «هابيل» فاضطر «قابيل» (ربّما نتيجة لضغط وجداني شديد) إلى حمل جثة أخيه مدّة من الزمن لإنقاذها من فتك الوحوش، لكن الطيور الجارحة أحاطت به وهي تنتظر أن يضعها على الأرض للهجوم عليها ثانية وفي تلك الأثناء بعث اللَّه غراباً (كما تصرّح الآية) فأخذ يحفر الأرض ويزيح التراب ليدفن جسد غراب ميت آخر، أو ليخفي جزءاً من طعامه- كما هي عادة الغربان- وليدل بذلك «قابيل» كيف يدفن جثة أخيه، حيث تقول الآية الكريمة: «فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِى الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوءَةَ أَخِيهِ» «1».

ثم تشير الآية الكريمة إلى أنّ قابيل استاء من غفلته وجهله، فأخذ يؤنّب نفسه كيف أصبح أضعف من الغراب فلا يستطيع دفن أخيه مثله، فتقول الآية: «قَالَ

يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِىَ سَوْءَةَ أَخِى».

وكانت العاقبة أن ندم قابيل على فعلته الشنيعة كما تقول الآية: «فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ».

في تفسير في ظلال القرآن، ذيل الآية مورد البحث، عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «لا تقتل نفس ظلماً إلّاكان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها لأنّه كان أوّل من سن القتل».

مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَ لَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) وحدة الإنسانية وكرامتها: إنّ هذه الآية تقوم باستخلاص نتيجة إنسانية كلّية بعد الآيات التي تطرقت إلى قصّة ولدي آدم عليه السلام. ففي البداية تشير الآية إلى حقيقة اجتماعية

______________________________

(1) جاء في تفسير مجمع البيان أنّ كلمة «يبحث»: معناها في الأصل هو البحث عن شى ء في التراب ثم استعملت في مختلف أنواع البحوث. أمّا كلمة «سوءة»: فهي تعني كل شي ء يستاء الإنسان من رؤيته ولذلك تطلق أحياناً على جسد الميت وعلى عورة الإنسان.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 515

تربوية مهمّة، وهي أنّ قتل أيّ إنسان، إن لم يكن قصاصاً لقتل إنسان آخر، أو لم يكن بسبب جريمة الإفساد في الأرض، فهو بمثابة قتل الجنس البشري بأجمعه، كما أنّ إنقاذ أيّ إنسان من الموت، يعد بمثابة إنقاذ الإنسانية كلّها من الفناء، حيث تقول الآية الكريمة: «مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا» «1».

ويرد هنا سؤال وهو: كيف يكون قتل إنسان

واحد مساوياً لقتل الناس جميعاً، وكيف يكون إنقاذ إنسان من الموت بمثابة إنقاذ الإنسانية جمعاء من الفناء؟

ولقد وردت أجوبة عديدة من قبل المفسّرين على هذا السّؤال ....

وكما قلنا في بداية تفسير هذه الآية، فإنّها تتحدث عن حقيقة اجتماعية تربوية، لانّه:

أوّلًا: إنّ من يقتل إنساناً بريئاً ويلطخ يده بدم بري ء يكون مستعداً لقتل أناس آخرين يساوونه في الإنسانيه والبراءة، فهو إنسان قاتل، وضحيته إنسان آخر بري ء، ومعلوم أنّه لا فرق بين الأبرياء من الناس من هذه الزاوية.

كما أنّ أي إنسان يقوم- بدافع حب النوع الإنساني- بإنقاذ إنسان آخر من الموت، يكون مستعداً للقيام بعملية الإنقاذ الإنسانية هذه بشأن أيّ إنسان آخر.

ونظراً لكلمة «فكأنّما» التي يستخدمها القرآن في هذا المجال، فإنّنا نستدل بأنّ موت وحياة إنسان واحد مع أنّه لا يساوي موت وحياة المجتمع إلّاأنّه يكون شبيهاً بذلك.

وثانياً: إنّ المجتمع يشكل كياناً واحداً، واعضاؤه أشبه بأعضاء الجسد الواحد وأنّ أي ضرر يصيب أحد اعضائه يكون أثره واضحاً- بصورة أو بأُخرى في سائر الأعضاء.

ومن جانب آخر فإنّ إحياء فرد من أفراد المجتمع يكون- لنفس السبب الذي ذكرناه- بمثابة إحياء وإنقاذ جميع أفراد المجتمع.

وتبيّن هذه الآية بجلاء أهمّية حياة وموت الإنسان في نظر القرآن الكريم، وتتجلى عظمة هذه الآية أكثر حين نعلم أنّها نزلت في محيط لم يكن يعير أي أهمية لدماء أفراد الإنسانية.

جاء في تفسير نور الثقلين: سأل شخص الإمام الصادق عليه السلام عن هذه الآية فأجابه قائلًا:

______________________________

(1) «أجل»: على وزن «نخل» تعني في الأصل الجريمة، وقد شاع استعمالها فيما بعد في كل عمل له عاقبة سيئة، ثم استعملت لكل عمل ذي عاقبة، وهي الآية تستخدم للتعليل أو بيان علّة الشي ء.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 516

«من حرق أو غرق»-

ثم سكت- ثم قال: «تأويلها الأعظم أن دعاها فاستجاب له». وفحوى قول الإمام الصادق عليه السلام في هذه الرواية هو الإنقاذ من الحريق أو الغرق ثم يستطرد الإمام- بعد سكوت- فيبين أنّ التأويل الأعظم لهذه الآية هو دعوة الغير إلى طريق الحق والخير أو الباطل والشر، وتحقق القبول من الجانب الآخر المخاطب بهذه الدعوة.

وتشيرالآية- في آخرها- إلى انتهاكات بني إسرائيل، فتؤكّد أنّ هذه الطائفة على الرغم من ظهور الأنبياء بينهم يحملون الدلائل الواضحة لإرشادهم، إلّاأنّ الكثير منهم قد نقضوا وانتهكوا القوانين الإلهيّة واتبعوا سبيل الإسراف في حياتهم، حيث تقول الآية: «وَلَقَد جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذلِكَ فِى الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ».

إنّ كلمة «إسراف» لها معان واسعة، تشمل كل تجاوز أو تعدّ عن الحدود ولو أنّها تستخدم في الغالب في مجال الهبات والنفقات.

إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)

سبب النّزول

في تفسير القرطبي عن أنس بن مالك: أنّ قوماً من عُكْل «1»- أو قال من عُرَينَة- قدموا على رسول اللَّه فاجتَوَوا «2» المدينة؛ فأمر لهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بلِقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا فلما صحّوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه و آله واستاقوا النَّعَم؛ فبلغ النبي صلى الله عليه و آله خبرهم من أوّل النهار فأرسل في آثارهم؛ فما ارتفع النهار حتى جي ء بهم؛ فأمر بهم فقطعت

______________________________

(1) عكل (بضم

العين المهملة وسكون الكاف): قبيلة مشهورة.

(2) أي أصابهم الجوى وهو المرض وداء الجوف إذا تطاول، ذلك إذا لم يوافقهم هواؤها واستوخموا.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 517

أيديهم وأرجلهم وسَمَر «1» أعينهم وألقوا في الحرة «2» يستسقون فلا يُسقَون.

قيل: فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا اللَّه ورسوله. وفي رواية: فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم وقطع أيديهم وأرجلهم وما حسمهم؛ وفي رواية فبعث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في طلبهم قافة فاتي بهم؛ قال: فأنزل اللَّه تبارك وتعالى في ذلك الآية.

التّفسير

جزاء مرتكب العدوان: تكمّل الآية الاولى- من الآيتين الأخيرتين- البحث الذي تناولته الآيات السابقة حول قتل النفس، وتبيّن جزاء وعقاب من يشهر السلاح بوجه المسلمين، وينهب أموالهم عن طريق التهديد بالقتل أو بإرتكاب القتل، فتقول: «إِنَّمَا جَزَاؤُا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلفٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ لْأَرْضِ».

ومعنى قطع الأيدي والأرجل من خلاف هو أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى.

والذي يلفت الإنتباه في هذه الآية هو أنّها اعتبرت العدوان الممارس ضد البشر بمثابة إعلان الحرب وممارسة العدوان ضد اللَّه ورسوله، وهذه النقطة تبيّن بل تثبت مدى اهتمام الإسلام العظيم بحقوق البشر ورعاية أمنهم وسلامتهم.

وفي الختام تشير الآية إلى أنّ هذه العقوبات هي لفضح المجرمين في الدنيا، وسوف لا يتوقف الأمر على هذه العقوبات، بل سينالون يوم القيامة عقاباً أشد وأقسى حيث تقول الآية: «ذلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الْأَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ».

ويستدل من هذه الجملة القرآنية على أنّ العقوبات الإسلامية الدنيوية التي تنفذ في المجرمين لن تكون حائلًا دون نيلهم لعقاب الآخرة، ولكن طريق العودة والتوبة لا يغلق حتى بوجه مجرمين خطيرين كالذين ذكرتهم

الآية إن هم عادوا إلى رشدهم وبادروا إلى إصلاح أنفسهم، ولكي يبقى مجال التعويض عن الأخطاء مفتوحاً تقول الآية الثانية: «إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

وبديهي أنّ توبة هؤلاء في مثل هذه الجرائم لها تأثير في ما يخص اللَّه فقط، أمّا حق الناس فلا يسقط بالتوبة ما لم يرض صاحب الحق.

______________________________

(1) سمر عين فلان: سملها (فقأها).

(2) الحرة (بفتح الحاء و تشديد الراء): أرض خارج المدينة ذات حجارة سود.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 518

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَ جَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) حقيقة التوسل إلى اللَّه: توجه هذه الآية الخطاب إلى الأفراد المؤمنين، تتضمّن تكاليف ثلاثة يؤدّي الالتزام بها وتطبيقها إلى نيل الفلاح، وهذه التكاليف هي:

1- إتّباع الحيطة والتقوى، كما تقول الآية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ».

2- إختيار وسيلة للتقرب إلى اللَّه سبحانه وتعالى، حيث تقول الآية: «وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ».

3- الجهاد في سبيل اللَّه، إذ تقول الآية: «وَجَاهِدُوا فِى سَبِيلِهِ».

وستكون نتيجة الإلتزام بهذه التكاليف الإلهية وتطبيقها نيل الفلاح، بشرط تحقق الإسلام والإيمان فتقول الآية الكريمة في هذا المجال: «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».

«الوسيلة»: في الأصل بمعنى نشدان التقرب وعلى هذا الأساس فإنّ كلمة «الوسيلة» الواردة في هذه الآية لها معان كثيرة واسعة، فهي تشمل كل عمل أو شي ء يؤدّي إلى التقرب إلى اللَّه سبحانه وتعالى، وأهم الوسائل في هذا المجال، كما يقول الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في خطبة (110) في نهج البلاغة منها: «إنّ أفضل ما توسّل به المتوسّلون إلى اللَّه سبحانه وتعالى، الإيمان به وبرسوله والجهاد في سبيله فإنّه ذِروة الإسلام وكلمة الإخلاص فإنّها الفطرة، وإقام الصلاة فإنّها الملّة

«1» وإيتاء الزكاة فإنّها فريضة واجبة وصوم شهر رمضان فإنّه جنّة من العقاب وحجّ البيت واعتماره فإنّهما ينفيان الفقر ويرحضان «2» الذنب وصلة الرحم فإنّها مثراة «3» في المال ومنسأة «4» في الأجل وصدقة السّرّ فإنّها تُكفّر الخطيئة وصدقة العلانية فإنّها تدفع ميتة السّوء وصنائع المعروف فإنّها تقي مصارع الهوان».

كما أنّ شفاعة الأنبياء والأئمة والأولياء الصالحين تقرّب- أيضاً- إلى اللَّه وفق ما نص عليه القرآن الكريم، وهي داخلة في المفهوم الواسع لكلمة «الوسيلة».

______________________________

(1) الملّة: شريعة الإسلام.

(2) يرحضان: يطهران أو يغسلان.

(3) مثراة: مكثرة.

(4) منساة: مطيلة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 519

والجدير بالذكر هنا هو أنّ المراد من التوسل لا يعني- أبداً- طلب شي ء من شخص النبي أو الإمام، بل معناه أن يبادر الإنسان المؤمن- عن طريق الأعمال الصالحة والسير على نهج النّبي والإمام- بطلب الشفاعة منهم إلى اللَّه، أو أن يقسم بجاههم وبدينهم (وهذا يعتبر نوعاً من الإحترام لمنزلتهم وهو نوع من العبادة) ويطلب من اللَّه بذلك حاجته، وليس في هذا المعنى أيّ أثر للشرك، كما لا يخالف الآيات القرآنية الاخرى، ولا يخرج عن عموم الآية الأخيرة موضوع البحث «فتدبر».

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَ مَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَ لَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) تعقيباً على الآية السابقة التي كلّفت المؤمنين بالتقوى والجهاد وإعداد الوسيلة، جاءت الآيتان الأخيرتان وهما تشيران إلى مصير الكافرين وتؤكدان أنّهم مهما بذلوا- حتى لو كان كل ما في الأرض أو ضعفه- في سبيل إنقاذ أنفسهم من عذاب يوم القيامة، فلن يقبل منهم ذلك- وأنّهم سينالون العذاب

الشديد، فتقول الآية الكريمة في هذا المجال: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيمَةِ مَا تُقُبّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

بعد ذلك تشير الآية التالية إلى استمرار عذاب اللَّه، وتوضح أنّ الكافرين مهما سعوا للخروج من نار جهنم فلن يقدروا على ذلك، وأنّ عذابهم ثابت وباق لا يتغير، كما تقول الآية: «يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ».

وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (40)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 520

عقوبة السرقة: لقد بيّنت آيات سابقة عقاب وحكم المحارب الذي يتعرض لأرواح وأموال ونواميس الناس عن طريق التهديد بالسلاح، أمّا الآيات الثلاث الأخيرة فهي تبيّن حكم السارق والسارقة أي الفرد الذي يسرق خلسة أموال وممتلكات الناس، فتقول الآية أوّلًا: «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا».

وقد قدمت هذه الآية الرجل السارق على المرأة السارقة، بينما الآية التي ذكرت حد وعقوبة الزنا قد قدمت المرأة الزانية على الرجل الزاني، ولعلّ هذا التفاوت ناشى ء عن حقيقة أنّ السرقة غالباً ما تصدر عن الرجال، بينما النساء الخليعات المستهترات يشكّلن في الغالب العامل والعنصر المحفّز للزنا!

بعد ذلك تبيّن الآية أنّ العقوبة المذكورة هي جزاء من اللَّه لجريمة السرقة المرتكبة من قبل الرجل أو المرأة، حيث تقول: «جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكلًا مِّنَ اللَّهِ».

ولكي لا يتوهم الناس وجود الإجحاف في هذه العقوبة،

تؤكد الآية- في آخرها- على أنّ اللَّه عزيز، أي قادر على كل شي ء، فلا حاجة له للإنتقام من الأفراد، وهو حكيم- أيضاً- ولا يمكن أن يعاقب الأفراد دون وجود مبرر أو حساب لذلك، حيث تقول الآية: «وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».

أمّا الآية الثانية فهي تفتح لمن إرتكب هذه المعصية باب العودة والتوبة، فتقول: «فَمَنْ تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

والسؤال الوارد هنا هو: هل أنّ التوبة وحدها تكفي لغفران الذنب فقط، أم أنّها تسقط عنه حد أو عقوبة السرقة أيضاً؟

إنّ المعروف لدى فقهاء الشيعة أنّ مرتكب السرقة إن تاب قبل أن تثبت سرقته في محكمة إسلامية يسقط عنه حدّ السرقة أيضاً، أمّا إذا شهد عادلان على سرقته فإنّ التوبه لا تسقط عنه الحد.

ثم توجّه الآية الاخرى الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله فتقول: «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 521

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذَا فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)

سبب

النّزول

في تفسير مجمع البيان عن الإمام الباقر عليه السلام قال: إنّ إمراة من خيبر ذات شرف بينهم، زنت مع رجل من أشرافهم، وهما محصنان، فكرهوا رجمهما فأرسلوا إلى يهود المدينة، وكتبوا إليهم، أن يسألوا النبي عن ذلك، طمعاً في أن يأتي لهم برخصة، فانطلق قوم منهم: كعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، وشعبة بن عمرو، ومالك بن الصيف، وكنانة بن أبي الحقيق، وغيرهم فقالوا: يا محمّد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدّهما؟ فقال: «وهل ترضون بقضائي في ذلك؟» قالوا: نعم. فنزل جبرائيل بالرجم، فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به، فقال جبرائيل: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا، ووصفه له. فقال النبي صلى الله عليه و آله: «هل تعرفون شاباً أمرد، أبيض، أعور، يسكن فدكاً يقال له ابن صوريا؟» قالوا: نعم. قال: «فأيّ رجل هو فيكم؟» قالوا: أعلم يهوديّ بقي على ظهر الأرض بما أنزل اللَّه على موسى. قال: «فأرسلوا إليه». ففعلوا فأتاهم عبد اللَّه بن صوريا، فقال له النبي صلى الله عليه و آله: «إنّي أنشدك اللَّه الذي لا إله إلّاهو، الذي أنزل التوراة على موسى، وفلق لكم البحر، وأنجاكم، وأغرق آل فرعون، وظلّل عليكم الغمام، وأنزل عليكم المنّ والسلوى، هل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن؟» قال ابن

مختصر الامثل، ج 1، ص: 522

صوريا: نعم. والذي ذكرتني به، لولا خشية أن يحرقني ربّ التوراة إن كذبت أو غيّرت، ما اعترفت لك ولكن أخبرني كيف هي في كتابك يا محمّد؟ قال: «إذا شهد أربعة رهط عدول، أنّه قد أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة، وجب عليه الرجم.» قال ابن صوريا: هكذا أنزل اللَّه في التوراة على موسى. فقال له النبي: «فماذا كان

أوّل ما ترخصتم به أمر اللَّه؟» قال: كنا إذا زنى الشريف تركناه، وإذا زنى الضعيف أقمنا عليه الحد، فكثر الزنا في أشرافنا حتى زنى ابن عم ملك لنا فلم نرجمه، ثم زنى رجل آخر فأراد الملك رجمه، فقال له قومه: لا حتى ترجم فلاناً، يعنون ابن عمه. فقلنا: تعالوا نجتمع فلنضع شيئاً دون الرجم، يكون على الشريف والوضيع فوضعنا الجلد والتحميم، وهو أن يجلد أربعين جلدة، ثم يسوّد وجوههما، ثم يحملان على حمارين ويجعل وجوههما من قبل دبر الحمار، ويطاف بهما. فجعلوا هذا مكان الرجم. فقالت اليهود لابن صوريا: ما أسرع ما أخبرته به، وما كنت لما أتينا عليك بأهل ولكنّك كنت غائباً فكرهنا أن نغتابك! فقال: إنّه أنشدني بالتوراة، ولولا ذلك لما أخبرته به. فأمر بهما النبي فرجما عند باب مسجده. وقال: «أنا أوّل من أحيا أمرك إذ أماتوه». فأنزل اللَّه فيه: «يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير» فقام ابن صوريا، فوضع يديه على ركبتي رسول اللَّه، ثم قال: هذا مقام العائذ باللَّه وبك، أن تذكر لنا الكثير الذي أمرت أن تعفو عنه، فأعرض النبي صلى الله عليه و آله عن ذلك.

ثم سأله ابن صوريا عن نومه؟ فقال: «تنام عيناي ولا ينام قلبي». فقال: صدقت، وأخبرني عن شبه الولد بأبيه، ليس فيه من شبه أمه شي ء، أو بأمه ليس فيه من شبه أبيه شي ء؟ فقال: «أيّهما علا وسبق ماء صاحبه، كان الشبه له». قال: قد صدقت، فأخبرني ما للرجل من الولد وما للمرأة منه؟ قال: فأغمي على رسول اللَّه طويلًا ثم خلي عنه محمراً وجهه يفيض عرقاً، فقال: «اللحم، والدم، والظفر، والشحم للمرأة

والعظم والعصب والعروق للرجل». قال له: صدقت أمرك أمر نبي. فأسلم ابن صوريا عند ذلك، وقال: يا محمّد من يأتيك من الملائكة؟ قال: «جبرائيل». قال: صفه لي. فوصفه النبي صلى الله عليه و آله فقال: أشهد أنّه في التوراة كما قلت، وأنّك رسول اللَّه حقاً.

فلما أسلم ابن صوريا، وقعت فيه اليهود وشتموه فلما أرادوا أن ينهضوا تعلقت بنو قريضة ببني النضير فقالوا: يا محمد إخواننا بنو النضير: أبونا واحد، وديننا واحد، ونبيّنا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 523

واحد، إذا قتلوا منّا قتيلًا لم يُقد وأعطونا ديته سبعين وسقاً من تمر وإذا قتلنا منهم قتيلًا، قتلوا القاتل، وأخذوا منا الضعف مائة وأربعين وسقاً من تمر، وإن كان القتيل امرأة قتلوا بها الرجا منّا وبالرجل منهم رجلين منّا، وبالعبد الحر منا وجراحاتنا على النصف من جراحاتهم، فاقض بيننا وبينهم فأنزل اللَّه في الرجم والقصاص الآيات.

التّفسير

التحكيم بين الأنصار والأعداء: تدلّ هاتان الآيتان والآيات التي تليهما، على أنّ للقاضي المسلم الحق- في ظل شروط خاصة- في الحكم في جرائم الطوائف الاخرى من غير المسلمين. لقد بدأت الآية الاولى الخطاب بعبارة: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ». وربّما جاء استخدام هذا التعبير من أجل إثارة أكثر لدافع الشعور بالمسؤولية لدى النّبي صلى الله عليه و آله.

بعد ذلك تُطمئن الآية النبي صلى الله عليه و آله- كتمهيد لبيان الحكم التالي- فتقول: «لَايَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا ءَامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ».

وبعد أن تذكر الآية تجاوزات المنافقين والأعداء الداخليين، تتناول وضع الأعداء الخارجيين واليهود الذين كانوا سبباً لحزن النبي صلى الله عليه و آله فتقول الآية: «وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا».

ثم تشير الآية إلى قسم من تصرفات هؤلاء المشوبة بالنفاق والرياء، فتؤكّد أنّهم إنّما يستمعون كلام

النبي لا لأجل اطاعته، بل لكي يجعلوا من ذلك وسيلة لتكذيب النبي والإفتراء عليه حيث تقول الآية: «سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ».

ثم تفضح الآية الصفة الثالثة لليهود، فتبيّن أنّهم يتجسّسون على المسلمين لمصلحة قوم آخرين ممّن لا يحضرون الاجتماعات الإسلامية التي تعقد في مجلس النبي صلى الله عليه و آله فتقول الآية:

«سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ».

ثم تذكر الآية انحرافاً آخر لهؤلاء اليهود، فتشير إلى تحريفهم لكلام اللَّه سبحانه وتعالى من خلال تحريف الألفاظ أو تحريف المعاني الواردة في هذا الكلام، فهم إن وجدوا في كلام اللَّه حكماً يخالف مصالحهم أوّلوه أو رفضوه جملة وتفصيلًا، كما تقول الآية: «يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ».

والأعجب من ذلك أنّ هؤلاء قبل أن يحضروا مجلس النّبي كانوا يقرّرون كما يأمرهم كبارهم أنّهم إن تلقّوا من محمّد صلى الله عليه و آله حكماً موافقاً لميولهم وأهوائهم قبلوا به، وإن كان مخالفاً لهوى أنفسهم ردّوه وابتعدوا عنه، تقول الآية الكريمة: «يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ

مختصر الامثل، ج 1، ص: 524

تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا». فهؤلاء قد غرقوا في الضلال بحيث لم يبق أمل في هدايتهم، فاستحقوا بذلك عذاب اللَّه ولم تعد تنفع فيهم شفاعة الشافعين، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة: «وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيًا». وقد تدنّست قلوب هؤلاء إلى درجة لم تعد قابلة للتطهير، وحرمهم اللَّه لذلك طهارة القلوب، فتقول الآية: «أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ». وعمل اللَّه مقرون بالحكمة دائماً، لأنّ من يقضي عمراً في الانحراف ويمارس النفاق والكذب ويخالف الحق ويرفض الحقيقة، ويحرف قوانين اللَّه لن يبقى له مجال للتوبة والعودة إلى الحق، حيث تقول الآية الكريمة في هذا المجال: «لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ

وَلَهُمْ فِى الْأَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ».

أمّا الآية الثانية فتؤكد- مرّة اخرى- على أنّ هؤلاء لديهم آذان صاغية لإستماع حديث النّبي صلى الله عليه و آله لا لإطاعته بل لتكذيبه، أو كما يقول تفسير آخر فإنّ هؤلاء آذانهم صاغية لإستماع أكاذيب كبارهم، فتقول الآية: «سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ».

كما أضافت الآية صفة شنيعة اخرى اتّصف بها اليهود وهي تعوّدهم وادمانهم على أكل الأموال المحرّمة والباطلة من الربا والرشوة وغير ذلك، حيث تقول الآية: «أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ» «1».

ثم تخيّر الآية النبي صلى الله عليه و آله بين أن يحكم بينهم أو أن يتجنبهم ويتركهم، حيث تقول الآية:

«فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ».

ولكي تعزز الآية الإطمئنان في نفس النبي صلى الله عليه و آله- إن هو ارتأى الإعراض عن هؤلاء لمصلحة- أكّدت قائلة: «وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيًا».

كما أكّدت ضرورة إتّباع العدل وتطبيقه إذا كانت الحالة تقتضي أن يحكم النبي بين هؤلاء فقالت الآية: «وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ».

وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَ عِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ مَا أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)

______________________________

(1) «سحت»: في الأصل نزع القشرة، أو شدّة الجوع، ثم اطلقت على كل مال غير مشروع، أي محرّم، وبالأخص الرشوة، لأنّ مثل هذه الأموال تنزع الصفاء والمودّة عن المجتمع وتزيل عنه البركة والرخاء مثلما يؤدّي نزع قشر الشجرة إلى ذبولها وجفافها.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 525

تتابع هذه الآية موضوع الحكم بين اليهود الذي تطرّقت إليه الآيتان السابقتان اللتان بيّنتا أنّ اليهود كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه و آله ويطلبون منه الحكم فيهم وقد أظهرت هذه الآية الأخيرة الإستغراب من حالة اليهود الذين كانوا مع وجود التّوراة بينهم واحتوائها على حكم

اللَّه، يأتون إلى النبي محمّد صلى الله عليه و آله ويطلبون منه الحكم فيهم بالرغم من وجود التوراة عندهم، فتقول: «وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَيةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ».

والعجيب في أمر هؤلاء اليهود أنّهم حين كانوا يطلبون التحكيم من نبي الإسلام بينهم، كانوا لا يقبلون بحكمه إذا كان مطابقاً لحكم التوراة لكنّه لم يوافق ميولهم ورغباتهم حيث تقول الآية: «ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلِكَ». وما ذلك إلّالأنّ هؤلاء لم يكونوا بمؤمنين، ولو كانوا مؤمنين لما استهزؤوا هكذا بأحكام اللَّه، حيث تؤكد الآية قائلة: «وَمَا أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ».

إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَ كَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَ اخْشَوْنِ وَ لَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) إنّ هذه الآية والآية التي تليها تكملان البحث أو الموضوع الوارد في الآيات السابقة، وتبين هذه الآية أهمية الكتاب السماوي الذي نزل على النبي موسى عليه السلام أي التوراة، حيث تشير إلى أنّ اللَّه أنزل هذا الكتاب وفيه الهداية والنور اللذان يرشدان إلى الحق، وأنّ النور والضياء الذي فيه هو لإزاحة ظلمات الجهل من العقول فتقول الآية: «إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَيةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ».

ولذلك فإنّ الأنبياء الذين أطاعوا أمر اللَّه، والذين تولّوا مهامّهم بعد نزول التوراة كانوا يحكمون بين اليهود بأحكام هذا الكتاب، تقول الآية الكريمة: «يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا».

كما أنّ علماء اليهود ووجاءهم ومفكّريهم المؤمنين الأتقياء، كانوا يحكمون وفق هذا الكتاب السماوي الذي وصل أمانة بأيديهم وكانوا شهوداً عليه، حيث تقول الآية:

مختصر الامثل، ج 1، ص: 526

«وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن

كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ» «1». ثم توجّه الآية الخطاب إلى اولئك العلماء والمفكّرين من اليهود الذين كانوا يعيشون في ذلك العصر، فتطلب منهم أن لا يخافوا الناس لدى بيان أحكام اللَّه، بل عليهم أن يخافوا اللَّه، فلا تسوّل لهم أنفسهم مخالفة أوامره أو كتمان الحق، وإن فعلوا ذلك فسيلقون الجزاء والعقاب، فتقول الآية هنا: «فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ».

ثم تحذّر الآية من الاستهانة والاستخفاف بآيات اللَّه، فتقول: «وَلَا تَشْتَرُوا بَايتِى ثَمَنًا قَلِيلًا».

وحقيقة كتمان الحق وأحكام اللَّه نابعة إمّا عن الخوف من الناس، وإمّا بدافع المصلحة الشخصية، وأيّاً كان السبب فهو دليل على ضعف الإيمان وانحطاط الشخصية، وقد أشير في الجمل القرآنية أعلاه إلى هذين السببين.

وتصدر الآية حكماً صارماً وحازماً على مثل هؤلاء الأفراد الذين يحكمون خلافاً لما أنزل اللَّه فتقول: «وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ».

وواضح أنّ عدم الحكم بما أنزل اللَّه يشمل السكوت والإبتعاد عن حكم اللَّه الذي يؤدّي بالناس إلى الضلال، كما يشمل التحدّث بخلاف حكم اللَّه.

وتبين هذه الآية- أيضاً- المسؤولية الكبرى التي يتحمّلها علماء ومفكّروا كل امّة حيال العواصف الاجتماعية، والأحداث التي تقع في بيئاتهم، وتدعو بأسلوب حازم لمكافحة الانحرافات وعدم الخوف من أيّ بشر- كائناً من كان- لدى تطبيق أحكام اللَّه.

وَ كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) القصاص أو العفو: تشرح هذه الآية الكريمة قسماً آخر من الأحكام الجنائية والحدود الإلهية التي وردت في التوراة، فتشير إلى ما ورد في هذا الكتاب السماوي من أحكام وقوانين

تخصّ القصاص، وتبين أنّ من يقتل انساناً بريئاً فإنّ لأولياء القتيل حق القصاص من

______________________________

(1) «أحبار»: صيغة جمع من «حبر» (على وزن فكر) فهي تعني كل أثر خير، اطلقت على المفكّرين الذين يخلفون أثاراً خيّرة في مجتمعهم، ويطلق أيضاً على حبر الدواة الذي يستعمل للكتابة لما فيه من أثر خير.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 527

القاتل بقتله، نفساً بنفس. حيث تقول الآية في هذا المجال: «وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ».

كما بيّنت أنّ من يصيب عين انسان آخر ويتلفها، يستطيع هذا الإنسان المتضرر في عينه أن يقتصّ من الفاعل ويتلف عينه، إذ تقول الآية في هذا المجال: «وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ».

وكذلك الحال بالنسبة للأنف والأذن والسن والجروح الاخرى، «وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسّنَّ بِالسّنّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ».

وعلى هذا الأساس فإنّ حكم القصاص يطبّق بشكل عادل على المجرم الذي يرتكب أحد الجرائم المذكورة.

وقد أنهت هذه الآية التمايز غير العادل الذي كان يمارس في ذلك الوقت.

ولكي لا يحصل وَهمٌ أنّ القصاص أو المقابلة بالمثل أمر إلزامي لا يمكن الحيدة عنه، استدركت الآية بعد ذكر حكم القصاص فبيّنت أنّ الذي يتنازل عن حقه في هذا الأمر ويعفو ويصفح عن الجاني، يعتبر عفوه كفارة له عن ذنوبه بمقدار ما يكون للعفو من أهمية «فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ».

وفي الختام تؤكد الآية قائلة: «وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ». وأيّ ظلم أكبر من الإنجرار وراء العاطفة الكاذبة، وترك القاتل دون أن ينال قصاصه العادل بحجة أنّ الدم لا يُغسل بالدم، وفسح المجال للقتلة للتمادي بارتكاب جرائم قتل اخرى، وبالنهاية الإساءة عبر هذا التغاضي إلى أفراد أبرياء، وممارسة الظلم بحقهم نتيجة لذلك.

وَ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ

مِنَ التَّوْرَاةِ وَ آتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَ هُدًى وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) بعد الآيات التي تحدّثت عن التوراة جاءت هذه الآية، وهي تشير إلى حال الإنجيل وتؤكد بعثة ونبوّة المسيح عليه السلام بعد الأنبياء الذين سبقوه، وتطابق الدلائل التي جاء بها مع تلك التي وردت في التوراة، حيث تقول الآية: «وَقَفَّيْنَا عَلَى ءَاثَارِهِم بِعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ مُصَدّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَيةِ».

ثم تشير الآية الكريمة إلى انزال الإنجيل على المسيح عليه السلام وفيه الهداية والنور فتقول:

مختصر الامثل، ج 1، ص: 528

«وَءَاتَيْنهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ». إنّ كلمة النّور التي اطلقت في القرآن الكريم على التّوراة والإنجيل، إنّما عنت التوراة والإنجيل الأصليين الحقيقيين.

بعد ذلك تكرر الآية التأكيد على أنّ عيسى عليه السلام لم يكن وحده الذي أيّد وصدّق التوراة، بل إنّ الإنجيل- الكتاب السماوي الذي نزل عليه- هو الآخر شهد بصدق التوراة حيث تقول الآية: «مُصَدّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَيةِ».

وفي الختام تؤكد الآية أنّ هذا الكتاب السماوي قد حوى سبل الرشاد والهداية والمواعظ للناس المتقين، حيث تقول: «وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ».

وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) الإمتناع عن الحكم بالقانون الإلهي: بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى نزول الإنجيل، أكّدت هذه الآية محل البحث أنّ حكم اللَّه يقضي أن يطبّق أهل الإنجيل ما أنزله اللَّه في هذا الكتاب من أحكام، فتقول الآية: «وَلْيَحْكُمْ أَهَلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ».

فالمراد هو أنّ المسيحيين تلقّوا الأوامر من اللَّه بعد نزول الإنجيل بأن يعملوا بأحكام هذا الكتاب وأن يحكّموها في جميع قضاياهم.

وتؤكد هذه الآية- في النهاية- فسق

الذين يمتنعون عن الحكم بما أنزل اللَّه من أحكام وقوانين فتقول: «وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ».

ويلفت النظر اطلاق كلمة «الكافر» مرّة و «الظالم» اخرى و «الفاسق» ثالثة، في الآيات الأخيرة على الذين يمتنعون عن تطبيق أحكام اللَّه، ولعلّ هذا التنوّع في اطلاق صفات مختلفة إنّما هو لبيان أنّ لكل حكم جوانب ثلاثة:

أحدها: ينتهي بالمشرّع الذي هو اللَّه.

والثّاني: يمسّ المنفّذين للحكم (الحاكم أو القاضي).

الثّالث: يرتبط بالفرد أو الأفراد الذين يطبّق عليهم الحكم.

أي إنّ كل صفة من الصفات الثلاث المذكورة قد تكون إشارة إلى واحد من الجوانب الثلاثة، لأنّ الذي لا يحكم بما أنزل اللَّه يكون قد تجاوز القانون الإلهي وتجاهله، فيكون قد

مختصر الامثل، ج 1، ص: 529

كفر بغفلته هذه، ومن جانب آخر إرتكب الظلم والجور- بابتعاده عن حكم اللَّه- على إنسان برى ء مظلوم، وثالثاً: يكون قد خرج عن حدود واجباته ومسؤوليته، فيصبح بذلك من الفاسقين.

وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهَاجاً وَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) تشير هذه الآية إلى موقع القرآن بعد أن ذكرت الآيات السابقة الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء السابقين.

«مهيمن»: تطلق في الأصل على كل شي ء يحفظ ويراقب أو يؤتمن على شي ء آخر ويصونه، ولمّا كان القرآن الكريم يشرف في الحفاظ على الكتب السماوية السابقة وصيانتها من التحريف إشرافاً كاملًا ويكمل تلك الكتب، لذلك أطلق عليه لفظ «المهيمن» حيث تقول الآية: «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ

الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ».

فالقرآن بالإضافة إلى تصديقه الكتب السماوية السابقة، اشتمل- أيضاً- على دلائل تتطابق مع ما ورد في تلك الكتب، فكان بذلك حافظاً وصائناً لها.

ثم تؤكد على النبي صلى الله عليه و آله- انطلاقاً من الحقيقة المذكورة- ضرورة الحكم بتعاليم وقوانين القرآن بين الناس، حيث تقول: «فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ».

ثم تؤكد عليه أن يبتعد عن أهواء وميول أهل الكتاب، الذين يريدون أن يطوّعوا الأحكام الإلهية لميولهم ورغباتهم، وأن ينفّذ ما نزل عليه بالحق، حيث تقول الآية: «وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقّ».

ولأجل اكمال البحث تشير الآية إلى أنّ كل ملّة قد أفردت لها شرعة ونظام للحياة يهديها إلى السبيل الواضح، حيث تقول: «لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا».

وكلمة «شرع» أو «الشريعة»: تعني الطريق الذي يؤدّي إلى الماء وينتهي به، واطلاق

مختصر الامثل، ج 1، ص: 530

كلمة «الشريعة» على الدين لأنّ الدين ينتهي بحقائق وتعاليم هدفها تطهير النفس الإنسانية وضمان الحياة السليمة للبشرية؛ أمّا كلمة «النهج» أو «المنهاج»: فتطلقان على الطريق الواضح. ثم تبيّن الآية أنّ اللَّه لو أراد أن يجعل من جميع أبناء البشر امة واحدة، تتبع ديناً وشرعة واحدة لقدر على ذلك، لكن هذا الأمر يتنافي مع قانون التكامل التدريجي، وحركة مراحل التربية المختلفة، فتقول: «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَا ءَاتَيكُمْ».

بعد ذلك تخاطب الآية- في الختام- جميع الأقوام والملل، وتدعوهم إلى التسابق في فعل الخيرات بدل تبذير الطاقات في الاختلاف والتناحر، حيث تقول: «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ».

مؤكّدة أنّ الجميع يكون مرجعهم جميعاً وعودتهم إلى اللَّه الذي يخبرهم في يوم القيامة بما كانوا فيه يختلفون: «إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ».

وَ أَنِ

احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَ فَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)

سبب النّزول

في تفسير المنار عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسد وعبد اللَّه بن صوريا وشاس بن قيس من اليهود: اذهبوا بنا إلى محمّد لعلنا نفتنه عن دينه. فأتوه فقالوا: يا محمّد إنّك عرفت أنّا أحبار اليهود وأشرافهم وساداتهم وإنّا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا وأنّ بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك فنقضي لنا عليهم ونؤمن لك ونصدقك. فأبى ذلك. وأنزل اللَّه عزّ وجلّ فيهم «وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم» إلى قوله «لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ».

التّفسير

تكرر هذه الآية تأكيد الباري عزّ وجلّ على نبيّه محمّد صلى الله عليه و آله في أن يحكم بين أهل الكتاب طبقاً لأحكام اللَّه وأن لا يستسلم لأهوائهم ونزواتهم، فتقول: «وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 531

ثم تحذّر الآية النبي صلى الله عليه و آله من مؤامرة هؤلاء الذين أرادوا عدول النبي صلى الله عليه و آله عن شرعة الحق والعدل وطالبته بأن يراقب تحرّكاتهم، حيث تقول: «وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ».

وأكّدت هذه الآية استمراراً لخطابها لنبي الخاتم محمّد صلى الله عليه و آله أنّ أهل الكتاب هؤلاء إن لم يذعنوا لحكمه العادل فإنّ ذلك يكون دلالة على أنّ ذنوبهم وآثامهم قد طوّقتهم فحرمتهم من التوفيق، وأنّ اللَّه يريد أن يعاقبهم ويعذّبهم بسبب بعض ذنوبهم، حيث تقول الآية:

«فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ

أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِم».

وتشير الآية في النهاية إلى أنّ إصرار هؤلاء القوم من أهل الكتاب على باطلهم يجب أن لا يكون باعثاً للقلق عند النبي لأنّ الكثير من الناس منحرفون عن طريق الحق، أي أنّهم فاسقون، حيث تقول الآية: «وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ».

أمّا الآية الاخرى فتساءلت بصيغة استفهام استنكاري: هل أنّ هؤلاء الذين يدّعون أنّهم أتباع الكتب السماوية يتوقّعون أن تحكم بينهم (الخطاب للنبي صلى الله عليه و آله) بأحكام الجاهلية التي فيها أنواع التمايز المقيت؟ حيث تقول الآية: «أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ».

لكنّ أهل الإيمان لا يرون أيّ حكم أرفع وأفضل من حكم اللَّه، حيث تتابع الآية قولها:

«وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ».

وفي الكافي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنّه قال: «الحكم حكمان: حكم اللَّه، وحكم الجاهلية، فمن أخطأ حكم اللَّه حكم بحكم الجاهلية».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَ هؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: إختلف في سبب نزوله، وإن كان حكمه عاماً لجميع المؤمنين. قيل:

لما انهزم أهل بدر، قال المسلمون لأوليائهم من اليهود: آمنوا قبل أن يصيبكم اللَّه بيوم مثل

مختصر الامثل، ج 1، ص: 532

يوم بدر. فقال مالك بن ضيف: أغرّكم أن أصبتم رهطاً من قريش، لا علم لهم بالقتال، أما لو أمرونا العزيمة أن

نستجمع عليكم، لم يكن لكم يدان بقتالنا! فجاء عبادة بن الصامت الخزرجي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: يا رسول اللَّه! إنّ لي أولياء من اليهود كثيراً عددهم، قوية أنفسهم، شديدة شوكتهم وإنّي أبرأ إلى اللَّه ورسوله من ولايتهم، ولا مولى لي إلّااللَّه ورسوله. فقال عبد اللَّه بن ابي: لكني لا أبرأ من ولاية اليهود لأنّي أخاف الدوائر ولابدّ لي منهم. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «يا أبا الحباب! ما نفست به من ولاية اليهود على عبادة بن الصامت، فهو لك دونه». قال: إذاً أقبل. وأنزل اللَّه الآية.

التّفسير

لقد حذّرت الآيات الثلاث مورد البحث المسلمين- بشدّة- من الدخول في أحلاف مع اليهود والنصارى، فالآية الاولى منها تمنع المسلمين من التحالف مع اليهود والنصارى أو الإعتماد عليهم (أي إنّ الإيمان باللَّه يوجب عدم التحالف مع هؤلاء إن كان ذلك لأغراض ومصالح مادية) حيث تقول الآية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ».

«أولياء»: صيغة جمع من «ولي» وهي مشتقة من مصدر «الولاية» وهي بمعنى التقارب الوثيق بين شيئين؛ لكن المراد هو منع المسلمين من التحالف مع اليهود والنصارى أو الإعتماد عليهم في مواجهة الأعداء.

بعد ذلك تبين الآية سبب هذا النهي في جملة قصيرة، وتقول بأنّ هاتين الطائفتين إنّما هما أصدقاء وحلفاء أشباههما من اليهود والنصارى حيث تقول: «بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ». أي إنّهما يهتّمان بمصالحهما ومصالح أصدقائهما فقط، ولا يعيران اهتماماً لمصالح المسلمين، ولذلك فإنّ أيّ مسلم يقيم صداقة أو حلفاً مع هؤلاء فإنّه سيصبح من حيث التقسيم الاجتماعي والديني جزءاً منهم، حيث تؤكد الآية هذا المعنى بقولها: «وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ».

وبديهي أنّ اللَّه لا يهدي الأفراد الظالمين الذين يرتكبون الخيانة

بحق أنفسهم واخوانهم وأخواتهم المسلمين والمسلمات، ويعتمدون على أعداء الإسلام، تقول الآية: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَهدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».

وتشير الآية التالية إلى الأعذار التي كان يتشبث بها أفراد ذوي نفوس مريضة لتبرير علاقاتهم اللاشرعية مع الغرباء، واعتمادهم عليهم وتحالفهم معهم، مبررين ذلك بخوفهم من

مختصر الامثل، ج 1، ص: 533

الوقوع في مشاكل إن أصبحت القدرة يوماً في يد حلفائهم الغرباء، فتقول الآية: «فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ» «1».

ويذكّر القرآن الكريم هؤلاء الضعفاء، ذوي النفوس المريضة ردّاً على تعللهم في التخلّي عن حلفهم مع الغرباء، فيبيّن لهم أنّهم حين يحتملون أن يمسك اليهود والنصارى يوماً بزمام القدرة والسلطة يجب أن يحتملوا- أيضاً- أن ينصر اللَّه المسلمين فتقع القدرة بأيديهم، حيث يندم هؤلاء على ما أضمروه في أنفسهم، كما تقول الآية: «فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِىَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِى أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ».

وتشير الآية في الختام إلى مصير عمل المنافقين وتبيّن أنّه حين يتحقق الفتح للمسلمين المؤمنين وتنكشف حقيقة عمل المنافقين يقول المؤمنون- بدهشة-: هل أنّ هؤلاء المنافقين هم اولئك الذين كانوا يتشدّقون بتلك الدعاوى ويحلفون بالأيمان المغلّظة بأنّهم معنا، فكيف وصل الأمر بهم إلى هذا الحد؟ حيث تقول الآية: «وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُوا أَهؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ».

إنّ هؤلاء لنفاقهم هذا ذهبت أعمالهم أدراج الرياح، لأنّها لم تكن نابعة من نيّة خالصة صادقة، ولهذا فقد أصبحوا من الخاسرين- سواء في هذه الدنيا أم الآخرة معاً- حيث تؤكد الآية هذا الأمر بقولها: «حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى

الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) بعد الانتهاء من موضوع المنافقين، يأتي الكلام- في هذه الآية الكريمة- عن المرتدين الذين تنبّأ القرآن بارتدادهم عن الدين الإسلامي الحنيف، وهذه الآية أتت بقانون عام يحمل انذاراً لجميع المسلمين، فأكّدت أنّ من يرتد عن دينه فهو لن يضر اللَّه بارتداده هذا

______________________________

(1) «دائرة»: مشتقة من المصدر (دور) أي الشي ء الذي يكون في حالة دوران، وبما أنّ القدرات المادية والحكومات هي في حالة دوران دائم على طول التّاريخ، لذلك يقال لها (دائرة) كما تطلق هذه الكلمة- أيضاً- على أحداث الحياة المختلفة التي تدور حول الأشخاص.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 534

أبداً، ولن يضر الدين ولا المجتمع الإسلامي أو تقدّمه السريع، لأنّ اللَّه كفيل بإرسال من لديهم الإستعداد في حماية هذا الدين، حيث تقول الآية الكريمة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأتِى اللَّهُ بِقَومٍ». ثم تتطرق الآية إلى صفات هؤلاء الحماة الذين يتحمّلون مسؤولية الدفاع العظيمة، وتبيّنها على الوجه التالي:

1- إنّهم يحبون اللَّه ولا يفكّرون بغير رضاه، فاللَّه يحبهم وهم يحبونه، كما تقول الآية:

«يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ».

2 و 3- يبدون التواضع والخضوع والرأفة أمام المؤمنين، بينما هم أشدّاء أقوياء أمام الأعداء الظالمين، حيث تقول الآية: «أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ».

4- إنّ شغلهم الشاغل هو الجهاد في سبيل اللَّه، إذ تقول الآية: «يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ».

5- وآخر صفة تذكرها الآية لهؤلاء العظام، هي أنّهم لا يخافون لوم اللائمين في طريقهم لتنفيذ أوامر اللَّه والدفاع عن الحق، حيث تقول الآية: «وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ».

وتؤكد الآية- في الختام- على أنّ إكتساب أو نيل مثل هذه الإمتيازات السامية

(بالإضافة إلى الحاجة لسعي الإنسان نفسه) مرهون بفضل اللَّه الذي يهبه لمن يشاء ولمن يراه كفؤاً له من عباده، حيث تقول الآية في هذا المجال: «ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ».

وفي النهاية تبيّن الآية أنّ مجال فضل اللَّه وكرمه واسع، وهو يعرف الأكفّاء والمؤهلين من عباده، وكما تقول الآية: «وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ».

إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَ هُمْ رَاكِعُونَ (55)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: بينا عبد اللَّه بن عباس جالس على شفير زمزم، يقول قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذ أقبل رجل متعمم بعمامة، فجعل ابن عباس لا يقول قال رسول اللَّه، إلّاقال الرجل قال رسول اللَّه، فقال ابن عباس: سألتك باللَّه، من أنت؟ فكشف العمامة عن وجهه وقال: يا أيّها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا اعرفه بنفسي، أنا جندب بن جنادة البدري، أبو ذر الغفاري، سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بهاتين وإلّا فصمتا، ورأيته بهاتين وإلّا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 535

فعميتا، يقول: «عليّ قائد البررة وقاتل الكفرة منصور من نصره، مخذول من خذله».

أمّا إنّي صلّيت مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوماً من الأيّام صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئاً فرفع السائل يده إلى السماء وقال: اللّهم اشهد أنّي سألت في مسجد رسول اللَّه فلم يعطني أحد شيئاً، وكان عليّ راكعاً فأوما بخنصره اليمنى إليه، وكان يختتم فيها فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره وذلك بعين رسول اللَّه صلى الله عليه و آله. فلمّا فرغ من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال: «اللّهمّ إنّ أخي موسى سألك فقال:

«رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وَيَسّرْ لِى أَمْرِى وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِى يَفْقَهُوا قَوْلِى وَاجْعَلْ لِى وَزِيرًا مِن أَهْلِى هرُونَ أَخِى اشْدُدْ بِهِ أَزْرِى وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى». فأنزلت عليه قرآناً ناطقاً: «سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا». اللّهمّ وأنا محمّد نبيّك وصفيّك أللّهمّ فاشرح لي صدري ويسّر لي أمري واجعل لي وزيراً عليّاً أشدد به ظهري».

قال أبو ذر: فو اللَّه ما استتم رسول اللَّه الكلمة، حتى نزل جبرائيل من عند اللَّه فقال: يا محمّد إقرأ. قال: وما أقرأ؟ قال: إقرأ «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا» الآية.

التّفسير

ابتدأت هذه الآية بكلمة «إنّما» التي تفيد الحصر، وبذلك حصرت ولاية أمر المسلمين في ثلاث هم: اللَّه ورسوله صلى الله عليه و آله والذين آمنوا وأقاموا الصلاة وأدّوا الزكاة وهم في حالة الركوع في الصّلاة كما تقول الآية: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ».

إنّ المراد من كلمة «ولي» في هذه الآية هو ولاية الأمر والإشراف وحق التصرف والزعامة المادية والمعنوية، خاصة وقد جاءت مقترنةً مع ولاية النبي صلى الله عليه و آله وولاية اللَّه حيث جاءت الولايات الثلاث في جملة واحدة. وبهذه الصورة فإنّ الآية تعتبر نصّاً قرآنياً يدل على ولاية وإمامة علي بن أبي طالب عليه السلام للمسلمين.

إنّ الكثير من الكتب الإسلامية ومصادر أهل السنة تشتمل على العديد من الروايات القائلة بنزول هذه الآية في شأن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وقد ذكرت بعض هذه الروايات قضية تصدّق الإمام علي عليه السلام بخاتمه على السائل وهو في حالة الركوع، كما لم تذكر روايات اخرى مسألة التصدّق هذه، بل اكتفت بتأييد نزول هذه الآية في حق علي عليه

السلام.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 536

وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) جاءت هذه الآية مكمّلة لمضمون الآية السابقة وهي تؤكد وتتابع الهدف المقصود في تلك الآية وتعلن للمسلمين أنّ النصر سيكون حليف اولئك الذين يقبلون القيادة المتمثلة في اللَّه ورسوله والذين آمنوا، الذين أشارت إليهم الآية السابقة. وتصف الآية الذين قبلوا بهذه القيادة بأنّهم من حزب اللَّه المنصورين دائماً، حيث تقول: «وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ».

وتشتمل هذه الآية- أيضاً- على قرينة اخرى تؤكد المعنى المذكور في تفسير الآية السابقة لكلمة «الولاية» وهو الإشراف والتصرف والزعامة لأنّ عبارة «حزب اللَّه» والتأكيد على أنّ الغلبة تكون لهذا الحزب- في الآية- لهما صلة بالحكومة الإسلامية، ولا علاقة لهما بقضية الصدقة التي هي أمر بسيط وعادي وهذا يؤكد بنفسه أنّ الولاية- الواردة في الآية- تعني الإشراف والحكم والقيادة للمجتمع الاسلامي، لأنّ معنى الحزب يتضمن التنظيم والتضامن والإجتماع لتحقيق أهداف مشتركة.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ الْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَ إِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَ لَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس: كان رفاعة بن زيد وسويد بن الحرث قد أظهرا الإسلام، ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادونهما، فنزلت الآية.

أمّا بخصوص سبب نزول الآية الثانية من هاتين الآيتين فقيل: إنّهم كانوا إذا أذّن المؤذن للصلاة، تضاحكوا فيما بينهم، وتغامزوا على طريق السُخْف والمجون «1» تجهيلًا لأهلها، وتنفيراً للناس عنها، وعن الداعي إليها.

التّفسير

يحذّر القرآن في الآية المؤمنين

من اتّخاذ أصدقاء لهم من بين المنافقين والأعداء، إلّاأنّه

______________________________

(1) «السخف»: قلة العقل؛ «المجون»: الصلابة والغلظة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 537

لأجل استثارة عواطف المؤمنين واستقطاب انتباهم إلى فلسفة هذا الحكم خاطبهم بهذا الاسلوب، كما تقول الآية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ».

ولتأكيد التحذير تقول الآية في الختام: «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ». بمعنى أنّ التودد مع الأعداء والمنافقين لا يتناسب والتقوى والإيمان أبداً.

و الآية الثانية تتابع البحث في النهي عن التودد إلى المنافقين وجماعة من أهل الكتاب الذين كانوا يستهزؤون بأحكام الإسلام، وتشير إلى إحدى ممارساتهم الإستهزائية دليلًا وشاهداً على هذا الأمر، فتقول: «وَ إِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا».

بعد ذلك تبين الآية الكريمة دوافع هذا الإستهزاء، فتذكر أنّ هذه الجماعة إنّما تفعل ذلك لجهلها وابتعادها عن الحقائق، فتقول: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّايَعْقِلُونَ».

ورد في روايات أهل البيت عليهم السلام من أنّ الأذان نزل وحياً على النبي صلى الله عليه و آله.

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَ مَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنَازِيرَ وَ عَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَ أَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)

سبب النّزول

في تفسير القرطبي (وفي المجمع أيضاً) قال ابن عباس: جاء نفر من اليهود- فيهم أبو ياسر بن أخطب ورافع بن أبي رافع- إلى النبي صلى الله عليه و آله فسألوه عمن يؤمن به الرسل عليهم السلام؛ فقال: نؤمن باللَّه وما أنزل إلينا وما أنزل

على إبراهيم وإسماعيل إلى قوله «و نحن له مسلمون». فلما ذكر عيسى عليه السلام جحدوا نبوّته وقالوا: واللَّه ما نعلم أهل دين أقل حظّاً في الدنيا والآخرة منكم ولا ديناً شراً من دينكم؛ فنزلت هذه الآية وما بعدها.

التّفسير

في هذه الآية يأمر اللَّه نبيّه صلى الله عليه و آله أن يسأل أهل الكتاب عن سبب اعتراضهم وانتقادهم للمسلمين، وهل أنّ الإيمان باللَّه الواحد الأحد والإعتقاد بما أنزل على نبي الخاتم والأنبياء الذين سبقوه يجابه بالإعتراض والإنتقاد، حيث تقول الآية: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ

مختصر الامثل، ج 1، ص: 538

تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَن ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ» «1». وتأتي في آخر الآية عبارة تبين علة الجملة السابقة، حيث تبين أنّ اعتراض اليهود وانتقادهم للمسلمين الذين آمنوا باللَّه وبكتبه، ما هو إلّالأنّ أكثر اليهود من الفاسقين الذين انغمسوا في الذنوب، ولذلك فهم- لإنحرافهم وتلوّثهم بالآثام- يعيبون على كل انسان شريف اتباعه للصواب وسيره في طريق الحق حيث تؤكد الآية: «وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ».

فتخاطب الآية النّبي بأن يسأل هؤلاء: إن كانوا يريدون التعرّف على أناس لهم عند اللَّه أشد العقاب جزاء ما اقترفوه من أعمال، حيث تقول: «قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُم بِشَرّ مِّن ذلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ» «2».

بعد هذا تبادر الآية إلى شرح الموضوع، فتبيّن أنّ اولئك الذين شملتهم لعنة اللَّه فمسخهم قروداً وخنازير، والذين يعبدون الطاغوت والأصنام، إنّما يعيشون في هذه الدنيا وفي الآخرة وضعاً أسوأ من هذا الوضع، لأنّهم ابتعدوا كثيراً عن طريق الحق وعن جادة الصواب، تقول الآية الكريمة: «مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاءَ السَّبِيلِ» «3».

وَ إِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَ

قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَ تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَ الْعُدْوَانِ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْ لَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)

______________________________

(1) «تنقمون»: مشتقة من المصدر «نقمة» وتعني في الأصل إنكار شي ء معيّن نطقاً أو فعلًا كما تأتي بمعنى إيقاع العقاب أو الجزاء.

(2) إنّ كلمة «مثوبة» وكذلك كلمة «ثواب»: تعنيان- في الأصل- الرجوع أو العودة إلى الحالة الاولى كما تطلقان- أيضاً- لتعنيا المصير والجزاء (الأجر أو العقاب) لكنّهما في الغالب تستخدمان في مجال الجزاء الحسن، وأحياناً تستخدم كلمة «الثواب» بمعنى العقاب وفي الآية جاءت بمعنى المصير أو العقاب.

(3) «سواء»: تعني في اللغة (المساواة والإعتدال والتساوي) وأنّ وجه تسمية الصراط المستقيم في الآية ب «سواء السبيل» لأنّ جميع أجزاء هذا الطريق مستوية ولأنّ طرفيه متساويان وممهّدان، كما تطلق هذه التسمية على كل طريقة تتسم بالإعتدال وتخلو من الانحراف.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 539

الآية الاولى من هذه الآيات الثلاث- واستكمالًا للبحث الذي تناولته الآيات السابقة حول المنافقين- تكشف عن ظاهرة الإزدواجية النفاقية عند هؤلاء، وتنبّه المسلمين إلى أنّ المنافقين حين يأتونهم يتظاهرون بالإيمان وقلبهم يغمره الكفر، ويخرجون من عندهم المسلمين ولا يزال الكفر يملأ قلوبهم، حيث لا يترك منطق المسلمين واستدلالهم وكلامهم في نفوس هؤلاء المنافقين أيّ أثر يذكر، تقول الآية الكريمة: «وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا ءَامَنَّا وَقَد دَّخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ».

ثم تبيّن الآية الاخرى علائم من نوع آخر للمنافقين، فتشير إلى أنّ كثيراً من هؤلاء في انتهاجهم طريق العصيان والظلم وأكل المال الحرام، يتسابقون بعضهم مع بعضهم الآخر تقول

الآية: «وَتَرَى كَثِيرًا مّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ». أي إنّ هؤلاء يسرعون الخطى في طريق المعاصي والظلم، وكأنّهم يسعون إلى أهداف تصنع لهم الفخر والمجد، ويتسابقون فيما بينهم في هذا الطريق دون خجل أو حياء.

في الختام لكي يؤكد القرآن قبح هذه الأعمال، قالت الآية: «لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

بعد ذلك تحمل الآية الثالثة على علمائهم الذين أيّدوا قومهم على إرتكاب المعاصي بسكوتهم، فتقول: «لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ».

وفي الختام، يمارس القرآن الكريم نفس أسلوب الذم الذي إتّبعه مع أهل المعاصي الحقيقيين، فيذمّ العلماء الساكتين الصامتين التاركين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقبّح صمتهم هذا، كما تقول الآية: «لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ».

وهكذا تبيّن أنّ مصير الذين يتخلّون عن مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العظيمة- وخاصة إن كانوا من العلماء- يكون كمصير أصحاب المعاصي، وهؤلاء شركاء في الذنب مع العاصين.

في تفسير المنار روي عن ابن عباس أنّه قال: ما في القرآن أشدّ توبيخاً من هذه الآية أي فهي حجة على العلماء إذا قصروا في الهداية والارشاد وتركوا النهي عن البغي والفساد.

وبديهي أنّ هذا الحكم لا ينحصر في علماء اليهود والنصاري، بل يشمل كل العلماء مهما كانت دياناتهم إن هم سكتوا وصمتوا أمام تلوّث مجتمعاتهم بالذنوب وتسابق الناس في الظلم والفساد، ذلك لأنّ حكم اللَّه واحد بالنسبة لجميع البشر.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 540

مختصر الامثل ج 1 574

في الكافي: خطب أمير المؤمنين عليه السلام فحمد اللَّه وأثنى عليه وقال: «أمّا بعد فإنّه إنّما هلك من كان قبلكم حيث ما عملوا من المعاصي ولم ينههم الربّانيون والأحبار عن ذلك وإنّهم لمّا تمادوا في المعاصي ولم ينههم الربّانيون والأحبار عن ذلك نزلت بهم العقوبات

فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر».

وَ قَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَ كُفْراً وَ أَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَ الْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَ اللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) تبرز هذه الآية واحداً من المصاديق الواضحة للأقوال الباطلة التي كان اليهود يتفوّهون بها، وقد تطرّقت الآية السابقة إليها- أيضاً- ولكن على نحو كلي.

ويتحدّث لنا التّأريخ عن فترة من الوقت كان اليهود فيها قد وصلوا إلى ذروة السلطة والقدرة، وكانوا يمارسون الحكم على قسم مهم من المعمورة، ويمكن الإستشهاد بحكم سليمان وداود كمثال على حكم الدولة اليهودية، وقد استمر حكم اليهود بعدهما بين رقيّ وانحطاط حتى ظهر الإسلام، فكان ايذاناً بأفول الدولة اليهودية، وبالأخص في الحجاز، إذ أدّى قتال النبي صلى الله عليه و آله ليهود بني النضير وبني قريظة ويهود خيبر إلى إضعاف سلطتهم بصورة نهائية.

وفي ذلك الوضع كان البعض من اليهود حين يتذكّرون سلطتهم القوية السابقة، كانوا يقولون- استهزاء وسخرية- إنّ يد اللَّه أصبحت مقيدة بالسلاسل (والعياذ باللَّه) وأنّه لم يعد يعطف على اليهود!

وبما أنّ سائر أبناء الطائفة اليهودية أظهروا الرضى عن أقوال كبار قومهم هؤلاء، لذلك جاء القرآن لينسب هذه الأقوال إلى جميعهم، كما تقول الآية: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةً».

واللَّه تعالى يرد على هؤلاء توبيخاً وذمّاً لهم ولمعتقدهم هذا بقوله: «غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا». ثم لكي يبطل هذه العقيدة الفاسدة يقول سبحانه وتعالى «بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ

مختصر الامثل، ج 1، ص: 541

يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ». فلا إجبار في عمل اللَّه كما أنّه

ليس محكوماً بالجبر الطبيعي ولا الجبر التأريخي، بل إنّ إرادته فوق كل شي ء وتعمل في كل شي ء.

ثم تشير الآية إلى أنّ آيات اللَّه التي تفضح أقوال ومعتقدات هؤلاء تجعلهم يوغلون أكثر في صلفهم وعنادهم ويتمادون في طغيانهم وكفرهم بدلًا من تأثيرها الإيجابي في ردعهم عن السير في نهجهم الخاطي ء حيث تقول الآية الكريمة: «وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا».

بعد ذلك تؤكد الآية على أنّ صلف هؤلاء وطغيانهم وكفرهم سيجر عليهم الوبال، فينالهم من اللَّه عذاب شديد في هذه الدنيا، من خلال تفشّي العداء والحقد فيما بينهم حتى يوم القيامة، فتقول الآية الكريمة: «وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيمَةِ».

وتشير الآية- في الختام- إلى المساعي والجهود التي كان يبذلها اليهود لتأجيج نيران الحروب، وعناية اللَّه ولطفه بالمسلمين في انقاذهم من تلك النيران المدمرة الماحقة، فتقول:

«كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ».

وتعتبر هذه الظاهرة إحدى معاجز حياة النبي الأكرم محمّد صلى الله عليه و آله لأنّ اليهود كانوا الأقوى بين أهل الحجاز والأعرف بمسائل الحرب.

ثم تبيّن الآية- أيضاً- أنّ هؤلاء لا يكفّون عن نثر بذور الفتنة والفساد في الأرض فتقول: «وَيَسْعَوْنَ فِى الْأَرْضِ فَسَادًا» وتؤكد أيضاً قائلة: «وَاللَّهُ لَايُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ».

وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَ لَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) بعد أن وجّهت الآيات السابقة النقد لنهج واسلوب أهل الكتاب، جاءت هاتان الآيتان وفقاً لما تقتضيه مبادى ء التربية الإنسانية لتفتحا باب العودة والتوبة أمام المنحرفين من أهل الكتاب، لكي

يعودوا إلى الطريق القويم، ولتريهم الدرب الحقيقي الذي يجب أن يسيروا فيه، ولتثمّن دور تلك الأقلية من أهل الكتاب التي عاشت في ذلك العصر لكنها لم تواكب

مختصر الامثل، ج 1، ص: 542

الأكثرية في أخطائها، فتقول الآية الاولى في البدء: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيَاتِهِمْ». بل ذهبت إلى أبعد من هذا فوعدتهم بالجنة ونعيمها، إذ قالت: «وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتٍ النَّعِيمِ» وهذه إشارة إلى النعم المعنوية الأخروية.

ثم تشير الآية الثانية إلى الأثر العميق الذي يتركه الإيمان والتقوى، في الحياة الدنيوية للإنسان، فتؤكّد أنّ أهل الكتاب لو طبّقوا التوراة والإنجيل وجعلوهما منهاجاً لحياتهم وعملوا بكل ما نزل عليهم من ربّهم، سواء في الكتب السماوية السابقة أم في القرآن، دون تمييز أو تطرّف لغمرتهم النعم الإلهية من السماء والأرض، فتقول الآية: «وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَيةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم».

وبديهي أنّ المراد من إقامة التوراة والإنجيل هو إتّباعهم لما بقي من التوراة والإنجيل الحقيقيين في أيديهم في ذلك العصر.

إنّ الآية الأخيرة تؤكد مرّة اخرى هذا المبدأ الأساسي القائل بأنّ اتّباع التعاليم السماوية التي جاء بها الأنبياء، ليس لإعمار الحياة الآخرة التي تأتي بعد الموت فحسب، بل إنّ لها- أيضاً- انعكاسات واسعة على الحياة الدنيوية المادية للإنسان، فهي تقوّي الجماعات وتعزز صفوفها وتكثّف طاقاتها، وتغدق عليها النعيم وتضاعف امكانياتها وتضمن لها الحياة السعيدة المقترنة بالأمن والإستقرار.

ولو ألقينا نظرة على الثروات الطائلة والطاقات البشرية الهائلة التي تهدر اليوم في عالم الإنسان نتيجة للانحراف عن هذه التعاليم، في صنع وتكديس أسلحة فتّاكة، وفي صراعات لا مبرر لها ومساع هدّامة، لرأينا أنّ ذلك كله دليل حيّ على هذه الحقيقة، حيث إنّ الثروات التي

تستخدم لإشاعة الدمار في هذا العالم- إذا أمعنا النظر جيداً- إن لم تكن أكثر حجماً من الثروات التي تنفق في سبيل البناء، فهي ليست بأقل منها.

إنّ العقول المفكّرة التي تسعى وتعمل جاهدة- اليوم- لإكمال وتوسيع انتاج الأسلحة الحربية، ولتوسيع بقعة النزاعات الاستعمارية، إنّما تشكّل جزءاً مهمّاً من الطاقات البشرية الخلّاقة التي طالما احتاجها المجتمع البشري لرفع احتياجاته، وكم سيصبح وجه الدنيا جميلًا وجذّاباً لو كانت كل هذه الطاقات تستغل في سبيل الإعمار؟

وفي الختام تشير الآية الكريمة إلى الأقلية الصالحة من أهل الكتاب الذين اختاروا طريق الإعتدال في حياتهم خلافاً لنهج الأغلبية المنحرفة، فعزل اللَّه حسابهم عن حساب

مختصر الامثل، ج 1، ص: 543

هذه الأكثرية الضالة، حيث تقول الآية: «مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ».

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) اختيار الخليفة مرحلة إنتهاء الرسالة: هذه الآية تتوجّه بالخطاب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وحده وتبيّن له واجبه، فهي تبدأ بمخاطبة الرّسول: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ» وتأمره بكل جلاء ووضوح أن «بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ».

ثم لكي يكون التوكيد أشد وأقوى، تحذّره وتقول: «وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ».

ثم تُطمئن الآية الرسول صلى الله عليه و آله- وكأنّ أمراً يقلقه- وتطلب منه أن يهدى ء من روعه وأن لا يخشى الناس، فيقول له: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ».

وفي ختام الآية إنذار وتهديد بمعاقبة الذين ينكرون هذه الرسالة الخاصة ويكفرون بها عناداً، فتقول: «إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ».

أسلوب هذه الآية، ولحنها الخاص، يدل على أنّ الكلام يدور حول أمر مهم جدّاً بحيث إنّ

عدم تبليغه يعتبر عدم تبليغ للرسالة كلها.

فما هذه المسألة المهمة التي برزت في الشهور الأخيرة من حياة الرسول صلى الله عليه و آله بحيث تنزل هذه الآية وفيها كل ذلك التوكيد؟

ليس ثمّة شك أنّ قلق الرسول صلى الله عليه و آله لم يكن لخوف على شخصه وحياته، وإنّما كان لما يحتمله من مخالفات المنافقين وقيامهم بوضع العراقيل في طريق المسلمين.

هل هناك مسألة تستطيع أن تحمل كل هذه الصفات غير مسألة استخلاف النبي صلى الله عليه و آله وتعيين مصير مستقبل الإسلام؟!

في مختلف الكتب التي كتبها علماء من أهل السنة في التفسير والحديث والتأريخ، أوردوا فيها روايات كثيرة تقول جميعها بصراحة: إنّ الآية المذكورة قد نزلت في علي عليه السلام.

حادثة الغدير بايجاز: إنّه في السنة الأخيرة من حياة النبي صلى الله عليه و آله أدّى المسلمون مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حجّة الوداع في عظمة وجلال.

لم يكن أهل المدينة وحدهم قد رافقوا النبي صلى الله عليه و آله في هذه الحجة، بل إلتحق بركبه مسلمون توافدوا من سائر أنحاء الجزيرة العربية لينالوا شرف الصحبة في هذه الحجة.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 544

كانت الشمس ترسل أشعّتها اللافحة المحرقة على الوديان والسهول لكن لذّة هذا السفر الروحي يسّرت كل شي ء. اقترب وقت الظهيرة، واقترب الركب الكبير من أرض الجحفة، وظهرت من بعيد أرض «غدير خم» القاحلة الجافة المحرقة. كان يوم الخميس من السنة العاشرة للهجرة، وقد مضت ثمانية أيّام على عيد الأضحى، وإذا برسول اللَّه صلى الله عليه و آله يصدّر أمره للحجيج بالتوقف، وصعد مؤذن النبي صلى الله عليه و آله ينادي في الناس لصلاة الظهر، وأخذ الناس يستعدّون- مسرعين- لأداء الصلاة، كانت الرياح لافحة

محرقة، حتى اضطر بعضهم إلى أن يضع قسماً من عباءته تحت قدميه وقسماً منها فوق رأسه كي يتّقي حرارة الحصى وأشعة الشمس.

إنتهت صلاة الظهر وهرع الحجيج يريدون نصب خيامهم الصغيرة التي كانوا يحملونها معهم ليلوذون بها من حر الهاجرة، إلّاأنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أخبرهم أنّ عليهم أن يستعدّوا لسماع رسالة إلهيّة جديدة في خطبته، وكان الذين يقفون على مسافة من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لا يستطيعون رؤيته، لذلك صنعوا له منبراً من أهداج الإبل ارتقاه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال:

«الحمد للَّه ونستعينه ونؤمن به ونتوكّل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا الذي لا هادي لمن ضلّ ولا مضلّ لمن هدى وأشهد أن لا إله إلّااللَّه وأنّ محمّداً عبده ورسوله. أمّا بعد: أيّها الناس قد نبّأني اللطيف الخبير أنّه لم يعمر نبيّ إلّامثل نصف عمر الذي قبله، وإنّي أوشك أن ادعى فأجيب، وإنّي مسؤول وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟»

قالوا: نشهد أنّك بلّغت ونصحت وجهدت فجزاك اللَّه خيراً.

قال: «ألستم تشهدون أن لا إله إلّااللَّه وأنّ محمّداً عبده ورسوله وأنّ جنّته حق وناره حق وأنّ الموت حق وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ اللَّه يبعث من في القبور؟»

قالوا: بلى نشهد بذلك.

قال: «اللّهم اشهد». ثم قال: «أيّها الناس ألا تسمعون؟» قالوا: نعم.

ثم ساد الجوّ صمت عميق ولم يُسمع فيه سوى أزيز الرياح ... قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«... فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين».

قالوا: وما هذان الثقلان يا رسول اللَّه؟

قال: «أمّا الثقل الأكبر فكتاب اللَّه عزّ وجلّ سبب ممدود من اللَّه ومني في أيديكم، طرفه بيد اللَّه والطرف الآخر بأيديكم فيه علم ما مضى

وما بقي إلى أن تقوم الساعة، وأمّا الثقل الأصغر

مختصر الامثل، ج 1، ص: 545

فهو حليف القرآن وهو علي بن أبي طالب وعترته عليهم السلام وأنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض».

ثم أخذ بيد أمير المؤمنين- صلوات اللَّه عليه- فرفعها حتى بدا للناس بياض إبطيهما ثم قال: «أيّها الناس: من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟»

قالوا: اللَّه ورسوله أعلم.

قال: «إنّ اللَّه عزّ وجلّ مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فعليّ مولاه». (يقولها ثلاث مرات) وفي لفظ الإمام أحمد إمام الحنابلة: (أربع مرات). ثم قال:

«اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه وأحب من أحبّه وأبغض من أبغضه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغائب».

ثم لم يتفرّقوا حتى نزل أمين وحي اللَّه بقوله: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى» الآية. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «اللَّه أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة، ورضى الربّ برسالتي والولاية لعليّ من بعدي».

ثم طفق القوم يهنّئون أمير المؤمنين عليه السلام وممّن هنّأه أبوبكر وعمر كل يقول: بخّ بخّ لك يابن أبي طالب، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْ ءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَ كُفْراً فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هَادُوا وَ الصَّابِئُونَ وَ النَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان وتفسير القرطبي عن ابن عباس قال: جاء جماعة من اليهود

إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالوا: ألست تقرّ بأنّ التّوراة من عند اللَّه؟ قال: «بلى». قالوا: فإنّا نؤمن بها ولا نؤمن بما عداها (وفي الحقيقة فإنّ التوراة تعتبر القدر المشترك بيننا وبينكم، ولكن القرآن كتاب مختص بكم). فنزلت الآية الاولى.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 546

التّفسير

هذه الآية تشير إلى جانب آخر من ذلك العقبات التي كان يضعها أهل الكتاب (اليهود والنصارى) تردّ فيها على منطقهم الواهي الداعي إلى اعتبار التوراة كتاباً متفقاً عليه بين المسلمين واليهود، وترك القرآن باعتباره موضع خلاف. لذلك فالآية تخاطب الرسول صلى الله عليه و آله قائلة: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَىْ ءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَيةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبّكُمْ». وذلك لأنّ هذه الكتب صادرة عن مبدأ واحد وأصولها واحدة.

ويعود القرآن ليشير إلى حالة أكثريتهم، فيقرّر أنّ أكثرهم لا يأخذون العبرة والعظة من هذه الآيات ولا يهتدون بها، بل إنّهم- لما فيهم من روح العناد- يزدادون في طغيانهم وكفرهم «وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا».

وفي ختام الآية يخفف اللَّه من حزن رسوله صلى الله عليه و آله إزاء تصلّب هذه الأكثرية من المنحرفين وعنادهم فيقول له: «فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ».

هذه الآية ليست مقصورة على اليهود- طبعاً- فالمسلمون أيضاً إذا اكتفوا بادّعاء الإسلام ولم يقيموا تعاليم الأنبياء، وخاصة ما جاء في كتابهم السماوي، فلن تكون لهم منزلة ومكانة لا عند اللَّه، ولا في حياتهم الفردية والاجتماعية.

الآية التالية تعود لتقرّر مرّة اخرى هذه الحقيقة، وتؤكد أنّ جميع الأقوام وأتباع كل المذاهب دون إستثناء، مسلمين كانوا أم يهوداً أم صابئين أم مسيحيين، لا منقذ لهم من الخوف من المستقبل والحزن على ما فاتهم إلّاإذا آمنوا

باللَّه وبيوم الحساب وعملوا صالحاً:

«إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَن ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ». «1»

هذه الآية ردّ قاطع على الذين يظنون النجاة في ظل قومية معينة، ويفضّلون تعاليم بعض الأنبياء على بعض، ويتقبّلون الدعوة الدينية على أساس من تعصب قومي، فتقول الآية إنّ طريق الخلاص ينحصر في نبذ هذه الأقوال.

لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَ فَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) وَ حَسِبُوا أَنْ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَ صَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَ صَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)

______________________________

(1) «الصابئون»: هم أتباع يحيى أو نوح أو إبراهيم.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 547

في آيات سابقة من سورة البقرة، وفي أوائل هذه السورة أيضاً إشارة إلى عهد وميثاق أخذه اللَّه تعالى على بني إسرائيل وفي هذه الآية تذكير بهذا الميثاق: «لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا».

ثم يضاف إلى ذلك القول بأنّهم، فضلًا عن كونهم لم يعملوا بذاك الميثاق: «كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَاتَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ».

هذه هي طرائق المنحرفين الأنانيين وسبلهم، فهم بدلًا من إتّباع قادتهم، يصرّون على أن يكون القادة هم التابعين لأهوائهم.

في الآية التالية إشارة إلى غرورهم أمام كل ما اقترفوه من طغيان وجرائم: «وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فُتْنَةٌ». أي ظنّوا مع ذلك أنّ البلاء والجزاء لن ينزل بهم، واعتقدوا- كما صرحت الآيات الاخرى- أنّهم من جنس أرقى، وأنّهم أبناء اللَّه!

وأخيراً إستحال هذا الغرور الخطير والتكبر إلى ما يشبه حجاباً غطّى أعينهم وآذانهم:

«فَعَمُوا وَصَمُّوا» عن رؤية آيات اللَّه وعن سماع كلمات الحقّ.

ولكنهم عندما أصابتهم مظاهر من عقاب

اللَّه وشاهدوا نتائج أعمالهم المشؤومة، ندموا وتابوا بعد أن أدركوا أنّ وعد اللَّه حق، وأنّهم ليسوا عنصراً متميزاً فائقاً.

وتقبل اللَّه توبتهم: «ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ».

إلّا أنّ حالة الندم والتوبة لم تلبث طويلًا، فسرعان ما عاد الطغيان والتجبّر وسحق الحق والعدالة، وعادت أغشية الغفلة الناتجة عن الإنغماس في الإثم تحجب أعينهم وآذانهم مرّة اخرى «ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مّنْهُمْ» فلم يعودوا يرون الآيات أو يسمعوا كلمة الحق، وعمّت الحالة الكثير منهم.

في نهاية الآية جملة قصيرة عميقة المعنى تقول: إنّ اللَّه لا يغفل أبداً عن أعمالهم، إذ أنّه يرى كل ما يعملون: «وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ».

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَ قَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْوَاهُ النَّارُ وَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَ مَا مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ وَاحِدٌ وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَ فَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 548

تعقيباً على البحوث الماضية بشأن انحرافات اليهود التي مرّت في الآيات السابقة، تتحدّث هذه الآيات والتي تليها عن انحرافات المسيحيين، فتبدأ أوّلًا بأهم تلك الانحرافات، أي «تأليه المسيح» و «تثليث المعبود»: «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ».

وأيّ كفر أشدّ من أن يجعلوا اللَّه اللامحدود من جميع الجهات متحداً مع مخلوق محدود من جميع الجهات، وأن يصفوا الخالق بصفات المخلوق، مع أنّ المسيح عليه السلام نفسه يعلن صراحة لبني إسرائيل: «يَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبّى وَرَبَّكُمْ»

وبهذا يستنكر كل لون من ألوان الشرك، ويرفض الغلوّ في شخصه ويعتبر نفسه مخلوقاً كسائر مخلوقات اللَّه.

ولكي يشدد المسيح التوكيد على هذا الأمر، وليزيل كل إبهام وخطأ، يضيف قائلًا:

«إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَيهُ النَّارُ».

ويمضي في التوكيد وإثبات أنّ الشرك والغلو ضرب من الظلم الواضح، فيقول أيضاً:

«وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ».

فإنّ ما ورد في الآية المذكورة عن إصرار المسيح عليه السلام على مسألة التوحيد إنّما ينسجم مع المصادر المسيحية الموجودة ويعتبر من دلائل عظمة القرآن.

وينبغي الإلتفات إلى أنّ الموضوع الذي تتناوله الآية هو الغلو ووحدة المسيح باللَّه، أو بعبارة اخرى هو «التوحيد في التثليث» ولكن الآية التالية تشير إلى مسألة «تعدد الآلهة» في نظر المسيحيين، أي «التثليث في التوحيد» وتقول: إنّ الذين قالوا إنّ اللَّه ثالث الأقانيم «1» الثلاثة لا ريب أنّهم كافرون: «لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلثَةٍ».

ويردّ القرآن عليهم ردّاً قاطعاً فيقول: «وَمَا مِن إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ وَاحِدٌ».

وفي ذكر «من» قبل «إله» نفي أقوي لأيّ معبود آخر.

ثم ينذرهم بلهجة قاطعة: «وَإِنْ لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

في الآية الثالثة يدعوهم القرآن إلى أن يتوبوا عن هذه العقيدة الكافرة لكي يغفر لهم اللَّه تعالى، فيقول: «أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

______________________________

(1) «الأقنوم»: بمعنى الأصل والذات، جمعها «أقانيم».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 549

مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَ لَا نَفْعاً وَ اللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي

دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَ لَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ ضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) تواصل هذه الآيات البحث الذي جاء في الآيات السابقة حول غلو المسيحيين في المسيح عليه السلام واعتقادهم بألوهيته، فتفنّد في بضع آيات قصار اعتقادهم هذا، وتبدأ متسائلة عمّا وجدوه في المسيح من اختلاف عن باقي الأنبياء حتى راحوا يؤلّهونه، فالمسيح ابن مريم قد بعثه اللَّه كما بعث سائر الأنبياء من قبله: «مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ».

إذا كان بعثه من قبل اللَّه سبباً للتأليه والشرك، فلماذا لا تقولون القول نفسه بشأن سائر الأنبياء؟

ولمزيد من التوكيد يقول: «وَأُمُّهُ صِدّيقَةٌ». أي إنّ من تكون له ام حملته في رحمها، ومن يكون محتاجاً إلى كثير من الامور، كيف يمكن أن يكون إلهاً؟! ثم إذا كانت امه صديقة فذلك لأنّها هي أيضاً على خط رسالة المسيح عليه السلام منسجمة معه وتدافع عن رسالته، لهذا فقد كان عبداً من عباد اللَّه المقربين، فينبغي ألّا يتخذ معبوداً كما هو السائد بين المسيحيين الذين يخضعون أمام تمثاله إلى حد العبادة.

ومرّة اخرى يشير القرآن إلى دليل آخر ينفي الربوبية عن المسيح عليه السلام فيقول: «كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ».

وفي ختام الآية إشارة: إلى وضوح هذه الدلائل من جهة، وإلى عناد اولئك وجهلهم من

مختصر الامثل، ج 1، ص: 550

جهة اخرى، فيقول: «انظُرْ كَيْفَ نُبَيّنُ لَهُمُ الْأَيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» «1». ولكي يكمل الاستدلال السابق تستنكر الآية التالية عبادتهم المسيح مع أنّهم يعلمون أنّ له احتياجات بشرية، وإنّه لا قدرة له على دفع الضرر عن نفسه أو نفعها، فكيف يتسنى له دفع الضرر عن الغير أو نفعهم؟ «قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن

دُونِ اللَّهِ مَا لَايَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا».

وفي النهاية يحذّرهم من أن يظنّوا أنّ اللَّه لا يسمع ما يتقوّلونه أو لا يعلم ما يكنونه:

«وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».

الآية التالية تأمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله- بعد اتضاح خطأ أهل الكتاب في الغلو- أن يدعوهم بالأدلة الجلية إلى الرجوع عن السير في هذا الطريق: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَاتَغْلُوا فِى دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقّ» «2».

إنّ غلو النصارى معروف، إلّاأنّ غلو اليهود، الذي يشملهم تعبير «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ» قد يكون إشارة إلى ما كانوا يقولونه عن عُزير وقد اعتبروه ابن اللَّه، ولمّا كان الغلو ينشأ- أكثر ما ينشأ- عن إتّباع الضالين أهواءهم، لذلك يقول اللَّه سبحانه «وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ».

وفي هذا إشارة أيضاً إلى ما انعكس في التأريخ المسيحي، إذ أنّ موضوع التثليث والغلو في أمر المسيح عليه السلام لم يكن له وجود خلال القرون الاولى من المسيحية، ولكن عندما اعتنق بعض الهنود وأمثالهم من عبدة الأصنام المسيحية أدخلوا فيها شيئاً من دينهم السابق كالتثليث والشرك.

لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَ كَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ فِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)

______________________________

(1) «الإفك»: كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه، و «المأفوك»: المصروف عن الحقّ، وإن كان عن تقصيره، ومن هنا يسمّى إفكاً، لأنّه يصد الإنسان عن الحقّ.

(2) «تغلو»: من مادة «الغلو» وهي بمعنى تجاوز الحدّ، إلّاأنّها تستعمل للإشارة إلى

تجاوز الحدّ بالنسبة لمقام شخص من الأشخاص ومنزلته.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 551

تشير هذه الآيات إلى المصير المشؤوم الذي انتهى إليه الكافرون السابقون، لكي يعتبر به أهل الكتاب فلا يتّبعونهم إتّباعاً أعمى، فيقول: «لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِى إِسْرَاءِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ».

فالآية تشير إلى أنّ مجرد كون الإنسان من بني إسرائيل، أو من أتباع المسيح دون أن ينسجم مع خط سيرهما، لا يكون مدعاة لنجاته، بل إنّ هذين النبيين قد لعنا من كان على هذه الشاكلة من الناس.

وفي آخر الآية توكيد لهذا الأمر وبيان للسبب: «ذلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ».

و تتحرك الآية التالية من موقع الذم ولتقريع لتؤكّد أنّ هؤلاء لم يعترفوا أبداً بأنّ عليهم مسؤولية اجتماعية، ولم يكونوا يتناهون عن المنكر، بل إنّ بعضاً من صلحائهم كانوا بسكوتهم وممالاتهم يشجّعون العصاة عملياً «كَانُوا لَايَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ» لذلك فقد كانت أعمالهم سيئة وقبيحة: «لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ».

في تفسير العياشي عن الإمام الصّادق عليه السلام في قوله: «كَانُوا لَايَتَنَاهَوْنَ عَن مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ» قال: «أمّا أنّهم لم يكونوا يدخلون مداخلهم ولا يجلسون مجالسهم ولكن كانوا إذا لقوهم ضحكوا في وجوههم وآنسوا بهم».

الآية الثالثة تشير إلى معصية اخرى من معاصيهم: «تَرَى كَثِيرًا مّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا».

من البديهي أنّ صداقتهم لأولئك لم تكن صداقة عادية، بل كانت ممتزجة بأنواع المعاصي، وكانوا يشجّعون الأعمال والأفكار الخاطئة، لذلك أدانت الآية في عباراتها الأخيرة الأعمال التي قدّموها ليوم المعاد، تلك الأعمال التي استوجبت غضب اللَّه وعذابه الدائم: «لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ». وَ لَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ النَّبِيِّ وَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَ

لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) هذه الآية تبيّن لهم طريق النجاة من نهجهم الخاطى ء، وهو أنّهم لو كانوا حقاً يؤمنون

مختصر الامثل، ج 1، ص: 552

باللَّه وبرسوله وبما أنزل عليه، لما عقدوا أواصر الصداقة مع أعداء اللَّه ولا اعتمدوا عليهم أبداً: «وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِىّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ».

ولكن الذي يؤسف له هو أنّ الذين يطيعون أوامر اللَّه قلّة، ومعظمهم خارجون عن نطاق إطاعته وسائرون على طريق الفسق «وَلكِنَّ كَثِيرًا مّنْهُمْ فَاسِقُونَ».

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْبَاناً وَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَ إِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَ مَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ مَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَ نَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَ ذلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)

سبب النّزول

المهاجرون الاوَل في الإسلام: نزلت في النجاشي، وأصحابه. قال المفسرون: ائتمرت قريش أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، يؤذونهم ويعذّبونهم، فافتتن من افتتن، وعصم اللَّه منهم من شاء ومنع اللَّه رسوله بعمه أبي طالب. فلما رأى رسول اللَّه ما بأصحابه، ولم يقدر على منعهم، ولم يؤمر بعد بالجهاد، أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة، وقال: «إنّ بها ملكاً صالحاً، لا يظلم ولا يُظلم عنده أحد، فاخرجوا إليه حتى يجعل اللَّه عزّ وجلّ للمسلمين فرجاً». وأراد

به النجاشي، واسمه أصحمة وهو بالحبشية عطية.

فخرج إليها سرّاً أحد عشر رجلًا، وأربع نسوة ... وذلك في رجب، في السنة الخامس من مبعث رسول اللَّه وهذه هي الهجرة الاولى.

ثم خرج جعفر بن أبي طالب، وتتابع المسلمون إليها، وكان جميع من هاجر إلى الحبشة

مختصر الامثل، ج 1، ص: 553

من المسلمين 82 رجلًا سوى النساء والصبيان، فلما علمت قريش بذلك، وجّهوا عمرو بن العاص وصاحبه عمارة بن الوليد بالهدايا، إلى النجاشي وإلى بطارقته ليردّوهم إليهم.

فلما ركبوا السفينة شربوا الخمر ... وألقى اللَّه بينهما العداوة في مسيرهما، قبل أن يقدما إلى النجاشي.

ثم وردا على النجاشي فقال عمرو بن العاص: أيّها الملك! إنّ قوماً خالفونا في ديننا وسبّوا آلهتنا، وصاروا إليك فردّهم إلينا. ثم قدّما ما حملاه من هدايا إلى النجاشي.

فبعث النجاشي إلى جعفر، فجاءه، فقال: يا أيّها الملك سلهم، أنحن عبيد لهم؟

فقال: لا بل أحرار.

قال: فسلهم ألهم علينا ديون يطالبوننا بها؟

قال: لا، ما لنا عليكم ديون.

قال: فلكم في أعناقنا دماء تطالبونا بها؟

قال عمرو: لا.

قال: فما تريدون منّا؟ آذيتمونا فخرجنا من دياركم. ثم قال: أيّها الملك! بعث اللَّه فينا نبيّاً أمرنا بخلع الأنداد وترك الإستقسام بالأزلام، وأمرنا بالصلاة والزكاة والعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهانا عن الفحشاء والمنكر والبغي.

فقال النجاشي: بهذا بعث اللَّه عيسى، ثم قال النجاشي لجعفر: هل تحفظ مما أنزل اللَّه على نبيّك شيئاً؟ قال: نعم، فقرأ سورة مريم، فلمّا بلغ قوله: «وَهُزّى إِلَيْكَ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا». قال: هذا واللَّه هو الحق! فقال عمرو: إنّه مخالف لنا فردّه إلينا.

فرفع النجاشي يده وضرب بها وجه عمرو وقال: اسكت، واللَّه لئن ذكرته بعد بسوء لأفعلنّ بك. وقال: أرجعوا إلى هذا هديته، وقال لجعفر وأصحابه: امكثوا فإنّكم سيوم، والسيوم:

آمنون، وأمر لهم بما يصلحهم من الرزق، فانصرف عمرو وأقام المسلمون هناك بخير دار، وأحسن جوار إلى أن هاجر رسول اللَّه وعلا أمره وهادن قريشاً، وفتح خيبر، فوافى جعفر إلى رسول اللَّه بجميع من كانوا معه، فقال رسول اللَّه: «لا أدري أنا بفتح خيبر أسرّ أم بقدوم جعفر».

ووافي جعفر وأصحابه رسول اللَّه في سبعين رجلًا، منهم إثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام، فيهم بحيراء الراهب، فقرأ عليهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله سورة «يس» إلى آخرها

مختصر الامثل، ج 1، ص: 554

فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى، فأنزل اللَّه فيهم هذه الآيات.

التّفسير

حقد اليهود ومودّة النصارى: تقارن هذه الآيات بين اليهود والنصارى الذين عاصروا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله. وضعت الآية الاولى اليهود والمشركين في طرف واحد، والمسيحيين في طرف آخر: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ ءَامَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى .

يشهد تاريخ الإسلام بجلاء على هذه الحقيقة، ففي كثير من الحروب التي أثيرت ضد المسلمين كان لليهود ضلع فيها، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ولكنّنا قلّما نجد المسلمين يواجهون المسيحيين في غزواتهم.

ثم يعزوا القرآن هذا الاختلاف في السلوك الفردي والاجتماعي إلى وجود خصائص في المسيحيين المعاصرين لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله لم تكن موجودة في اليهود:

فأوّلًا كان بينهم نفر من العلماء لم يسعوا- كما فعل علماء اليهود- إلى إخفاء الحقائق «ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ» «1».

ثم كان منهم جمع من الزهاد الذين تركوا الدنيا، وهي النقطة المناقضة لما كان يفعله بخلاء اليهود الجشعين.

وعلى الرغم من كل انحرافاتهم كانوا على مستوى أرفع بكثير من مستوى

اليهود:

«وَرُهْبَانًا».

وكثير منهم كانوا يخضعون للحق، ولم يتكبّروا، في حين كان معظم اليهود يرون أنّهم عنصر أرفع، فرفضوا قبول الإسلام الذي لم يأت على يد عنصر يهودي: «وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ».

ثم إنّ نفراً منهم كانوا إذا استمعوا لآيات من القرآن تنحدر دموعهم مثل من صحب جعفر من الأحباش لأنّهم يعرفون الحق إذا سمعوه: «وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقّ».

______________________________

(1) «القسيس»: تعريب لكلمة سريانية تعني الزعيم والموجّه الديني عند المسيحيين.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 555

فكانوا ينادون بكل صراحة وشجاعة، و «يَقُولُونَ رَبَّنَا ءَامَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ».

لقد كان تأثّرهم بالآيات القرآنية من الشدة بحيث إنّهم كانوا يقولون: «وَمَا لَنَا لَانُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ».

الآيتان الأخيرتان فيهما إشارة إلى مصير هاتين الطائفتين وإلى عقابهما وثوابهما، اولئك الذين أظهروا المودة للمؤمنين وخضعوا لآيات اللَّه وأظهروا إيمانهم بكل شجاعة وصراحة:

«فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ» «1».

وأمّا اولئك الذين ساروا في طريق العداء والعناد فتقول الآية عنهم: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بَايَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَ لَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّباً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَ احْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)

سبب النّزول

لا تتجاوزوا

الحدود: في تفسير القمي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: نزلت هذه الآية في أمير المؤمنين عليه السلام وبلال وعثمان بن مظعون، فأمّا أمير المؤمنين عليه السلام فحلف أن لا ينام بالليل أبداً وأمّا بلال فإنّه حلف أن لا يفطر بالنهار أبداً وأمّا عثمان بن مظعون فإنّه حلف أن لا ينكح أبداً فدخلت امرأة عثمان على عائشة وكانت امرأة جميلة، فقالت عائشة ما لي أراك معطلة فقالت ولمن أتزين فواللَّه ما قاربني زوجي منذ كذا وكذا فإنّه قد ترهب ولبس

______________________________

(1) «أثابهم»: من الثواب وهي في الأصل بمعنى العودة وما يرجع إلى الإنسان من جزاء أعماله.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 556

المسوح وزهد في الدنيا، فلما دخل رسول اللَّه أخبرته عائشة بذلك فخرج فنادى الصلاة جامعة فاجتمع الناس فصعد المنبر فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال: «ما بال أقوام يحرمون أنفسهم الطيبات ألا إنّي أنام بالليل وأنكح وأفطر بالنهار فمن رغب عن سنتي فليس مني».

فقاموا هؤلاء فقالوا: يا رسول اللَّه فقد حلفنا على ذلك فأنزل اللَّه تعالى عليه «لَايُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ ...» الآية.

التّفسير

القسم وكفارته: في هذه الآية والآيات التالية لها مجموعة من الأحكام الإسلامية المهمة.

في الآية الاولى إشارة إلى قيام بعض المسلمين بتحريم بعض النعم الإلهية، فنهاهم اللَّه عن ذلك قائلًا: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتُحَرّمُوا طَيّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ».

فبذكر هذا الحكم يعلن الإسلام صراحة إستنكار الرهبنة وهجر الدنيا كما يفعل المسيحيون والمرتاضون.

ثم لتوكيد هذا الأمر تنهى الآية عن تجاوز الحدود، لأنّ اللَّه لا يحبّ الذين يفعلون ذلك:

«وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ».

وفي الآية التي تليها نهي آخر للأمر، إلّاأنّ الآية السابقة كان فيها نهي عن التحريم، وفي هذه الآية أمر بالإنتفاع المشروع من

الهبات الإلهية، فيقول: «وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَللًا طَيّبًا».

والشرط الوحيد لذلك هو الإعتدال والتقوى عند التمتع بتلك النعم: «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ». أي إنّ إيمانكم باللَّه يوجب عليكم إحترام أوامره في التمتع وفي الإعتدال والتقوى.

و الآية التي بعدها تتناول القسم الذي يقسم به الإنسان في حالة تحريم الحلال وفي غيره من الحالات بشكل عام، ويمكن القول أنّ القسم نوعان:

فالاولى: هو القسم اللغو، فيقول: «لَايُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ».

والقسم الثاني: هو القَسَم الجاد الإرادي الذي قرره المرء بوعي منه، هذا النوع من القسم هو الذي يعاقب عليه اللَّه إذا لم يف به الإنسان: «وَلكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ».

بديهي أنّ الجد وحده في القَسَم لا يكفي لصحته، بل لابدّ أيضاً من صحة محتواه وأن

مختصر الامثل، ج 1، ص: 557

يكون أمراً مباحاً في الأقل، كما لابدّ من القول بأنّ القسم بغير اسم اللَّه لا قيمة له.

وعليه إذا أقسم إمرؤ باللَّه، فيجب عليه أن يعمل بقَسَمه، فإن لم يفعل، فعليه كفارة التخلف.

وكفارة القسم هي ما ورد في ذيل الآية المذكورة، وهي واحدة من ثلاثة:

الاولى: «فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ». ولكيلا يؤخذ هذا الحكم على إطلاقه بحيث يصار إلى أيّ نوع من الطعام الدني ء والقليل، فقد جاء بيان نوع الطعام بما لا يقل عن أوسط الطعام الذي يعطى لأفراد العائلة عادة: «مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ».

الثانية: «أَوْ كِسْوَتُهُمْ».

من الطبيعي أنّ ذلك يعني الملابس التي تغطّي الجسم حسب العادة، لذلك لا يستبعد أن تكون الكسوة التي تعطى كفارة تختلف أيضاً باختلاف الفصول والأمكنة والأزمنة.

الثالثة: «أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ».

ولكن قد يوجد من لا قدرة له على أيّ منها، لذلك فإنّه بعد بيان تلك الأحكام يقول سبحانه وتعالى: «فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلثَةِ

أَيَّامٍ».

ثم يؤكد القول ثانية: «ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ».

ومع ذلك، فلكي لا يظن أحد أنّه بدفع الكفارة يجوز للمرء أن يرجع عن قَسَم صحيح أقسمه، يقول تعالى: «وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ».

في ختام الآيات يبين القرآن أنّ هذه الآيات توضّح لكم الأحكام التي تضمن سعادة الفرد والمجتمع وسلامتها لتشكروه على ذلك: «كَذلِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصَابُ وَ الْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَ الْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ عَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ احْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)

سبب النّزول

في تفسير المنار: في مسند أحمد وسنن أبي داود والنسائي والترمذي أنّ عمر (وكان يكثر

مختصر الامثل، ج 1، ص: 558

من الخمر، كما جاء في تفسير في ظلال القرآن ج 3، ص 33) كان يدعو اللَّه تعالى: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً. فلمّا نزلت الآية (219) من سورة البقرة: «يَسَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ...» قرأها عليه النبي صلى الله عليه و آله فظل على دعائه وكذلك فلمّا نزلت الآية (43) من سورة النساء: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَقْرَبُوا الصَّلَوةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى . فلمّا نزلت آية المائدة دعي فقرأت عليه فلما بلغ قول اللَّه تعالى «فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ» قال: انتهينا انتهينا!

التّفسير

مراحل تحريم الخمر وحكمها النهائي: سبق أنّ ذكرنا في ذيل الآية (43) من سورة النساء، إنّ معاقرة الخمر في الجاهلية وقبيل الإسلام كانت منتشرة إنتشاراً أشبه بالوباء العام، حتى قيل: أنّ حبّ عرب الجاهلية كان مقصوراً على ثلاثة: الشعر

والخمر والغزو.

من الواضح أنّ الإسلام لو أراد أن يحارب هذا البلاء الكبير الشامل بغير أن يأخذ الأوضاع النفسية والاجتماعية بنظر الاعتبار لتعذّر الأمر وشقّ تطبيق التحريم، لذلك إتخذ أسلوب التحريم التدريجي وإعداد الأفكار والأذهان لإقتلاع هذه الآفة من جذورها، وهي العادة التي كانت قد تأصّلت في نفوسهم وعروقهم، ففي أوّل الأمر وردت إشارات في الآيات المكية تستقبح شرب الخمر، إلّاأنّ تلك العادة الخبيثة- عادة معاقرة الخمرة- كانت أعمق من أن تستأصل بهذه الإشارات، عندما هاجر المسلمون إلى المدينة وأسسوا أولى الحكومات الإسلامية، نزلت آية ثانية- هى الآية (219) من سورة البقرة- أشدّ في تحريم الخمر من الاولى.

إنّ تقدّم المسلمين في التعرّف على أحكام الإسلام، أصبحا سبباً في نزول آية صريحة تماماً في تحريم الخمر حتى سدّت الطريق أمام الذين كانوا يتصيّدون الأعذار والمسوّغات، وهذه الآية هي موضوع البحث.

وإنّه مما يستلفت النظر أنّ تحريم الخمرة يعبّر عنه في هذه الآية بصوره متنوعة:

1- فالآية تبدأ بمخاطبة المؤمنين: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا». أي إنّ عدم الصدوع بهذا الأمر لا ينسجم مع روح الإيمان.

2- استعمال «إنّما» التي تعني الحصر والتوكيد.

3- وضعت الخمر والقمار إلى جانب الأنصاب (وهي قطع أحجار لا صورة لها كانت تتخذ كالأصنام) للدلالة على أنّ الخمر والقمار لا يقلّان ضرراً عن عبادة الأصنام، ولهذا جاء (في تفسير جامع البيان) عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «شارب الخمر كعابد الوثن».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 559

4- الخمر والقمار وعبادة الأصنام، والإستقسام وبالأزلام (ضرب من اليانصيب) كلها قد اعتبرها القرآن رجساً وخبثاً: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلمُ رِجْسٌ».

5- وهذه الأعمال القبيحة كلها من أعمال الشيطان: «مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطنِ».

6- وأخيراً يصدر الأمر القاطع الواجب الإتباع: «فَاجْتَنِبُوهُ».

7- وفي الختام يقول

تعالى أنّ ذلك: «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ». أي لا فلاح لكم بغير ذلك.

8- وفي الآية التالية لها يعدد بعضاً من أضرار الخمر والقمار، التي يريد الشيطان أن يوقعها بهم: «إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطنُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَوةِ».

9- وفي ختام هذه الآية يتقدّم بإستفهام تقريري: «فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ».

أي بعد كل هذا التوكيد والتوضيح، ثمّة مكان لخلق المبررات أو للشك والتردد في تجنّب هذين الإثمين الكبيرين؟ لذلك نجد أنّ عمر الذي كان شديد الولع بالخمر والذي كان- لهذا السبب- لا يرى في الآيات السابقة ما يكفي لمنعه، قال عندما سمع هذه الآية: إنتهينا، إنتهينا! لأنّه رأى فيها الكفاية.

10- في الآية الثالثة التي تؤكد هذا الحكم، يأمر المسلمين: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا».

ثم يتوعّد المخالفين بالعقاب، وأنّ مهمة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هي الإبلاغ: «فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلغُ الْمُبِينُ».

لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس: لما نزل تحريم الخمر والميسر، قالت الصحابة: يا رسول اللَّه! ما تقول في إخواننا الذين مضوا وهم يشربون الخمر، ويأكلون الميسر؟ فأنزل اللَّه هذه الآية.

التّفسير

تجيب هذه الآية الذين يتساءلون عن الماضين قبل نزول آية تحريم الخمر والميسر، أو

مختصر الامثل، ج 1، ص: 560

الذين لم يسمعوا بعد تلك الآية لبعد مناطقهم التي يعيشون فيها، فتقول: «لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا». ولكنها تشترط لتلك التقوى والإيمان والعمل الصالح: «إِذَا مَا اتَّقَوا وَّءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ». ثم تكرر ذلك:

«ثُمَّ اتَّقَوا وَّءَامَنُوا».

وللمرّة الثالثة تكرر الآية بقليل من الاختلاف: «ثُمَّ اتَّقَوا وَأَحْسَنُوا». وتنتهي بالتوكيد:

«وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ». إنّ المقصود بالتقوى في المرّة الاولى هو ذلك الإحساس الداخلي بالمسؤولية والذي يسوق الإنسان نحو البحث والتدقيق في الدين ومطالعة معجزة الرسول صلى الله عليه و آله والبحث عن اللَّه، فتكون نتيجة ذلك الإيمان والعمل الصالح.

وتكرار التقوى للمرّة الثانية إشارة إلى التقوى التي تنفذ إلى أعماق الإنسان فيزداد تأثيرها، وتكون نتيجتها الإيمان الثابت الوطيد الذي يؤدّي إلى العمل الصالح.

وفي المرحلة الثالثة يدور الكلام على التقوى التي بلغت حدّها الأعلى بحيث إنّها فضلًا عن دفعها إلى القيام بالواجبات، تدفع إلى الإحسان أيضاً، أي إلى الأعمال الصالحة التي ليست من الواجبات.

وعليه فإنّ هذه الضروب الثلاثة من التقوى تشير إلى ثلاث مراحل من الإحساس بالمسؤولية وكأنّها تمثّل المرحلة (الابتدائية) والمرحلة (المتوسطة) والمرحلة (النهائية)، ولكل مرحلة قرينة تدل عليها الآية.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْ ءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَ مَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيَّارَةِ وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 561

سبب النّزول

في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «حشرت لرسول اللَّه صلى

الله عليه و آله في عمرة الحديبية الوحوش حتى نالت أيديهم ورماحهم».

وفي الدرّ المنثور: انزلت هذه الآية في عمرة الحديبية فكانت الوحوش والطير والصيد تغشاهم في رحالهم لم يروا مثله قط فيما خلا؛ فنهاهم اللَّه عن قتله وهم محرمون ليعلم اللَّه من يخافه بالغيب.

التّفسير

أحكام الصيد عند الإحرام: تبين هذه الآيات أحكام صيد البر والبحر أثناء الإحرام للحج أو للعمرة. في البداية إشارة إلى ما حدث للمسلمين في عمرة الحديبية، فيقول سبحانه وتعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَىْ ءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ».

ثم يقول من باب التوكيد: «لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ».

والآية في الخاتمة تتوعّد الذين يخالفون هذا الحكم الإلهي بعذاب شديد: «فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

على الرغم من أنّ الجملة الأخيرة في الآية تدل على تحريم الصيد أثناء الإحرام، ولكن الآية التالية لها تصدر حكماً قاطعاً وصريحاً وعاماً بشأن تحريم الصيد أثناء الإحرام، إذ تقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ».

ثم بعد ذلك يشار إلى كفارة الصيد في حال الإحرام، فيقول: «وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّدًا فَجَزَاءٌ مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ».

والمقصود من «مثل» هو التماثل في الشكل والحجم. أي إذا قتل أحد حيواناً وحشياً كبيراً مثل النعامة- مثلًا- يجب عليه أن يختار الكفارة من الحيوانات الكبيرة، كالبعير مثلًا أو إذا صاد غزالًا، كفارته تكون شاة تقاربه في الحجم والشكل.

ولما كان من الممكن أن تكون قضية التماثل موضع شك عند بعضهم فقد أصدر القرآن حكمه بأنّ ذلك ينبغي أن يكون بتحكيم شخصين مطّلعين وعادلين: «يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ».

أمّا عن مكان ذبح الكفارة، فيبين القرآن أنّه يكون بصورة «هدي» يبلغ أرض الكعبة:

«هَدْيًا بلِغَ الْكَعْبَةِ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 562

ثم يضيف أنّه

ليس ضرورياً أن تكون الكفارة بصورة أضحية، بل يمكن الإستعاضة عنها بواحد من اثنين آخرين: «أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ» و «أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِيَامًا».

إنّ الهدف من هذه الكفارات هو: «لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ» «1». ثم لمّا لم يكن لأيّ حكم أثر رجعي يعود إلى الماضي، فيقول: «عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ».

أمّا من لم يعتن بهذه التحذيرات المتكررة ولم يلتفت إلى أحكام الكفارة وكرر مخالفاته لحكم الصيد وهو محرم فإنّ اللَّه سوف ينتقم منه في الوقت المناسب: «وَمَن عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ».

بعد ذلك يتناول الكلام صيد البحر: «أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ».

والمقصود من الطعام في الآية هو ما يهيّأ للأكل من سمك الصيد إذ أنّ الآية تريد أن تحلل أمرين: الأوّل هو الصيد، والثاني هو الطعام المتخذ من هذا الصيد.

ثم تشير الآية إلى الحكمة في هذا الحكم وتقول: «مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ». أي لكيلا تعانوا المشقة في طعامكم وأنتم محرمون، فلكم أن تستفيدوا من نوع واحد من الصيد، ذلكم هو صيد البحر.

وللتوكيد تعود الآية إلى الحكم السابق مرّة اخرى وتقول: «وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا».

ولتوكيد جميع الأحكام التي ذكرت، تقول الآية في الخاتمة: «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ».

حكمة تحريم الصيد حال الإحرام: معلوم أنّ الحج والعمرة من العبادات التي تفصل الإنسان عن عالم المادة وتنقله إلى محيط ملى ء بالمعنويات، فخصوصيات الحياة المادية، والجدال والخصام، والرغبات الجنسية، واللذائذ المادية كلها تنفصل عن الإنسان في مناسك الحج والعمرة، ويبدأ الإنسان ضرباً من الرياضة الإلهية المشروعة، ويبدو أنّ تحريم صيد البرّ في حال الإحرام يرمي إلى الهدف نفسه.

ثم لو أحلّ الصيد لزائري بيت اللَّه الحرام، مع الأخذ بنظر الاعتبار كثرة الزوار وكثرة ترددهم في كل سنة على

هذه الأرض المقدسة، لقضي على وجود الكثير من الحيوانات

______________________________

(1) «وبال»: من «الوبل والوابل» وهو المطر الغزير، ثم اطلق على العمل الشاق الجسيم، ولمّا كان العقاب شديداً وثقيلًا عادة، فقد وصف بأنّه «وبال».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 563

القليلة أصلًا في تلك الأرض القاحلة الخالية من الماء والزرع، فجاء هذا التشريع لضمان بقاء حيوانات تلك المنطقة والحفاظ عليها من الإنقراض.

وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّه حتى في غير حال الإحرام يمنع صيد الحرم، وكذلك قطع أشجاره وحشائشه، تبين لنا أنّ لهذا التشريع إرتباطاً وثيقاً بقضية الحفاظ على البيئة وعلى النبات والحيوان في تلك المنطقة، وصيانتها من الإبادة.

جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَ الْهَدْيَ وَ الْقَلَائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَ مَا تَكْتُمُونَ (99) بعد الكلام في الآيات السابقة عن تحريم الصيد في حال الإحرام، يشير القرآن الكريم في هذه الآية إلى أهمّية «مكّة» وأثرها في بناء حياة المسلمين الاجتماعية، فيقول: «جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ».

فهذا البيت المقدس رمز وحدة الناس فهم في ظل هذا البيت المقدس يستطيعون إصلاح الكثير ممّا يستوجب الإصلاح والترميم في حياتهم، وإقامة سعادتهم على قواعده المتينة، لذلك فقد وصف هذا البيت في الآية (96) من سورة آل عمران: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لّلْعَالَمِينَ».

ولما كانت هذه المناسك يجب أن تجري في جوّ آمن وخال من الحروب والمنازعات والمخاصمات، فقد أشارت الآية إلى أثر الأشهر الحرم (وهي الأشهر

التي تمنع فيها الحرب مطلقاً) وقالت: «وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ» كما أشارت إلى الأضاحي الفاقدة للعلامة (الهدي) والأضاحي ذات العلامة (القلائد) التي منها يطعم الناس في موسم الحج، وتؤمّن جانباً من احتياجات الحاج للقيام بمناسكه، فقالت: «وَالْهَدْىَ وَالْقَلِدَ».

ولمّا كان مجموع هذه الأحكام والقوانين والتشريعات بشأن الصيد، وكذلك بشأن حرم مكة والشهر الحرام وغير ذلك، يحكي عمق تدبير الشارع وسعة علمه تقول الآية: «ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 564

الآية التالية تؤكد تلك التشريعات وتحثّ الناس على إتّباعها وتهدد المخالفين والعاصين فتقول: «اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

ومرّة اخرى تؤكد الآية على أنّ الناس هم المسؤولون عن أعمالهم وأنّ النبي مسؤول عن تبليغ الرسالة لا غير «مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلغُ». وفي الوقت نفسه: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ».

قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) الأكثرية ليست دليلًا على الحق: دار الحديث في الآيات السابقة حول تحريم الخمر والقمار والأنصاب والأزلام وصيد البر في حال الإحرام، ولكن قد نجد أناساً يتذرّعون لإرتكاب هذه المعاصي بالكثرة الكاثرة من الذين يرتكبونها في بعض الأمصار، يضع اللَّه سبحانه قاعدة كلية ورئيسية في عبارة قصيرة شاملة يخاطب بها رسوله الكريم: «قُلْ لَا يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ».

وعليه فإنّ الخبيث والطيب- في الآية- يشملان كل ما يرتبط بالإنسان، طعاماً كان ذلك أم فكراً.

وفي الختام يخاطب العلماء وأصحاب العقول والأذكياء فيقول: «فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِى الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَ إِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا

حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَ اللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: خطب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: «إنّ اللَّه كتب عليكم الحج». فقام عكاشة بن محصن- وقيل: سراقة بن مالك- فقال: أفي كل عام يا رسول اللَّه؟ فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثاً، فقال رسول اللَّه: «ويحك ما يؤمّنك أن أقول نعم، واللَّه لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم، فاتركوني كما

مختصر الامثل، ج 1، ص: 565

تركتكم، فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشي ء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شي ء فاجتنبوه».

التّفسير

الأسئلة الفضولية: لا شك أنّ السؤال مفتاح المعرفة، وفي القرآن وفي الروايات الكثير من التوكيد على الناس أن يسألوا عما لا يعرفون، ولكن لكل قاعدة استثناء، ولهذا المبدأ التربوي الأساس استثناءاته أيضاً، منها أنّ هناك- أحياناً- بعض المسائل التي يكون إخفاؤها أفضل لحفظ النظام الاجتماعي ولمصلحة أفراد المجتمع، ففي أمثال هذه الحالات لا يكون الإلحاح في السؤال عنها والسعي لكشف النقاب عن حقيقتها بعيداً عن الفضيلة فحسب، بل يكون مذموماً أيضاً. والقرآن في هذه الآية يشير إلى الموضوع نفسه ويقول:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَسَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ».

ولكن الحاح بعض الناس بالسؤال من جهة، وعدم الإجابة على أسئلتهم من جهة اخرى، قد يثير الشكوك والريب عند الآخرين بحيث يؤدّي الأمر إلى مفاسد أكثر، لذلك تقول الآية: «وَإِن تَسَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ» فيشق عليكم الأمر.

ثم لا تحسبوا اللَّه غافلًا عن ذكر

بعض الامور إن سكت عنها فقد «عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ».

في تفسير مجمع البيان عن علي عليه السلام قال: «إنّ اللَّه افترض عليكم فرائض فلا تضيّعوها، وحدّ لكم حدوداً فلا تعتدوها، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت لكم عن أشياء، ولم يدعها نسياناً فلا تتكلفوها».

الآية التي بعدها تؤكد هذه الحقيقة، وتبين أنّ أقواماً سابقين كانت لهم أسئلة كهذه، وبعد أن سمعوا أجوبتها خالفوها وعصوا: «قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ».

ينبغي ألا يظن أحد بأنّ هذه الآيات لا تمنع أبداً القاء الأسئلة المنطقية التربوية والبنّاءة، بل تتحدد بالأسئلة التي لا لزوم لها، وبالتعمّق في امور لا ضرورة للتعمّق فيها والتي من الأفضل بل من اللازم- أحياناً- بقاؤها في طيّ الكتمان.

مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لَا سَائِبَةٍ وَ لَا وَصِيلَةٍ وَ لَا حَامٍ وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَ وَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لَا يَهْتَدُونَ (104)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 566

في الآية الاولى إشارة إلى أربعة «بدع» كانت سائدة في الجاهلية، فقد كانوا يضعون على بعض الحيوانات علامات وأسماء لأسباب معينة ويحرّمون أكل لحومها ولا يجيزون شرب لبنها أو جزّ صوفها أو حتى امتطاءها، أي أنّهم كانوا يطلقونها سائبة دون أن يستفيدوا منها شيئاً، لذلك يقول اللَّه تعالى: «مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ».

1- «البحيرة»: هي الناقة التي ولدت خمسة أبطن خامسها أنثى- وقيل ذكر- فيشقّون أذُنها وتترك طليقة ولا تذبح.

2- «السائبة»: هي الناقة التي تكون قد ولدت

اثني عشر بطناً- وقيل عشرة أبطن- فيطلقونها سائبة ولا يمتطيها أحد، وقد يحلبونها أحياناً لإطعام الضيف.

3- «الوصيلة»: هي الشاة التي ولدت سبعة أبطن- وقيل أنّها التي تلد التوائم- وكانوا يحرّمون ذبحها.

4- «الحام»: واللفظة يطلق على الفحل الذي يتخذ للتلقيح.

هذه المعاني تدل جميعاً على حيوانات قَدّمت خدمات كبيرة لأصحابها في «النتاج» فكان هؤلاء يحترمونها ويطلقون سراحها لقاء ذلك.

صحيح أنّ عملهم هذا ضرب من العرفان بالجميل ومظهر من مظاهر الشكر، حتى نحو الحيوانات، ولكنه مضيعة للمال وإتلافاً لنعم اللَّه وتعطيلها عن الإستثمار النافع، ثم إنّ هذه الحيوانات، بسبب هذا الإحترام والتكريم، كانت تعاني من العذاب والجوع والعطش لأنّه قلّما يقدم أحد على تغذيتها والعناية بها، ولهذا كله وقف الإسلام بوجه هذه العادة!

إضافة إلى ذلك، يستفاد من بعض الروايات والتفاسير أنّهم كانوا يتقرّبون بذلك كله، أو بقسم منه إلى أصنامهم، فكانوا في الواقع ينذرون تلك الحيوانات لتلك الأصنام، ولذلك كان إلغاء هذه العادات تأكيداً لمحاربة كل مخلّفات الشرك.

والعجيب في الأمر، أنّهم كانوا يأكلون لحوم تلك الحيوانات إذا ما ماتت موتاً طبيعياً (وكأنّهم يتبرّكون بها) وكان هذا عملًا قبيحاً آخر.

ثم تقول الآية: «وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» قائلين أنّ هذه قوانين إلهيّة دون أن يفكّروا في الأمر ويعقلوه، بل كانوا يقلّدون الآخرين في ذلك تقليداً أعمى:

«وأَكْثَرُهُمْ لَايَعْقِلُونَ».

الآية الثانية تشير إلى منطقهم ودليلهم على قيامهم بهذه الأعمال: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 567

إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا».

في الواقع، كان كفرهم وعبادتهم الأصنام ينبع من نوع آخر من الوثنية، هو التسليم الأعمى للعادات الخرافية التي كان عليها أسلافهم، معتبرين ممارسات أجدادهم لها دليلًا قاطعاً على صحتها، ويردّ القرآن بصراحة على

ذلك بقوله: «أَوَ لَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لَايَعْلَمُونَ شَيًا وَلَا يَهْتَدُونَ».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) كل امرى ء مسؤول عن عمله: دار الحديث في الآية السابقة حول تقليد الجاهليين آباءهم الضالين، فأنذرهم القرآن بأنّ تقليداً كهذا لا ينسجم مع العقل والمنطق، فمن الطبيعي أن يتبادر إلى أذهانهم السؤال: إنّنا إذا كان علينا أن ننفصل عن أسلافنا في هذه الامور، فماذا سيكون مصيرهم؟ ثم إذا نحن أقلعنا عن هذه التقاليد فما مصير الكثير من الناس الذين ما يزالون متمسكين بها وواقعين تحت تأثيرها فكان جواب القرآن: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَايَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ».

ثم يشير إلى موضوع البعث والحساب ومراجعة حساب كل فرد: «إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَ لَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَ مَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اسْمَعُوا وَ اللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)

مختصر الامثل، ج 1، ص: 568

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: أنّ ثلاثة نفر خرجوا من المدينة تجاراً إلى الشام: تميم بن

اوس الداري وأخوه عدي، وهما نصرانيان، وابن أبي مارية، مولى عمرو بن العاص السهمي، وكان مسلماً، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، مرض ابن أبي مارية، فكتب وصيّة بيده، ودسّها في متاعه وأوصى إليهما، ودفع المال إليهما وقال: أبلغا هذا أهلي. فلما مات فتحا المتاع وأخذا ما أعجبهما منه ثم رجعا بالمال إلى الورثة. فلما فتش القوم المال، فقدوا بعض ما كان قد خرج به صاحبهم، فنظروا إلى الوصية، فوجدوا المال فيها تامّاً، فكلموا تميماً وصاحبه، فقالا: لا علم لنا به وما دفعه إلينا أبلغناه، كما هو، فرفعوا أمرهم إلى النبي صلى الله عليه و آله فنزلت الآية.

التّفسير

من أهم المسائل التي يؤكدها الإسلام هي مسألة حفظ حقوق الناس وأموالهم وتحقيق العدالة الاجتماعية، وهذه الآيات تبيّن جانباً من التشريعات الخاصة بذلك، فلكيلا تغمط حقوق ورثة الميت وأيتامه الصغار، يصدر الأمر للمؤمنين قائلًا: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مّنكُمْ».

لابدّ من القول بأنّ القضية هنا لا تتعلق بالشهادة العادية المألوفة، بل هي شهادة مقرونة بالوصاية، أي إنّ هذين وصيّان وشاهدان في الوقت نفسه.

ثم تأمر الآية: إذا كنتم في سفر ووافاكم الأجل ولم تجدوا وصيّاً وشاهداً من المسلمين فاختاروا اثنين من غير المسلمين: «أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ».

والمقصود من غير المسلمين هم أهل الكتاب من اليهود والنصاري طبعاً، لأنّ الإسلام لم يقم وزناً في أيّة مناسبة للمشركين وعبدة الأصنام مطلقاً.

ثم تقرّر الآية حمل الشاهدين عند الشهادة على القسم باللَّه بعد الصلاة، في حالة الشك والتردد: «تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدَ الصَّلَوةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ».

ويجب أن تكون شهادتهما بما مفاده: إنّنا لسنا على استعداد أن

نبيع الحق بمنافع مادية فنشهد بغير الحق حتى وإن كانت الشهادة ضدّ أقربائنا: «لَانَشْتَرِى بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا

مختصر الامثل، ج 1، ص: 569

قُرْبَى وإنّنا لن نخفي أبداً الشهادة الإلهية، وإلّا فسنكون من المذنبين: «وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْأَثِمِينَ».

وفي الآية التالية يدور الكلام على ثبوت خيانة الشاهدين إذا شهدا بغير الحق، كما جاء في سبب نزول الآية، فالحكم في مثل هذه الحالة- أي عند الإطلاع على أنّ الشاهدين قد إرتكبا إثم العدوان على الحق واضاعته- هو أن تستعيضوا عنهما باثنين آخرين ممن ظلمهما الشاهدان الأولان (أي ورثة الميت) فيشهدان لإحقاق حقهما: «فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَاخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ».

و الآية الأخيرة بيان لحكمة الأحكام التي جاءت في الآيات السابقة بشأن الشهادة وهي أنّه إذا أجريت الامور بحسب التعاليم، أي إذا طلب الشاهدان للشهادة بعد الصلاة بحضور جمع، ثم ظهرت خيانتهما، وقام اثنان آخران من الورثة مقامهما للكشف عن الحق، فذلك يحمل الشهود على أن يكونوا أدق في شهادتهم، خوفاً من اللَّه أو خوفاً من الناس: «ذلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ».

في الواقع سيكون هذا سبباً في الخشية من المسؤولية أمام اللَّه وأمام الناس، فلا ينحرفان عن محجّة الصواب.

ولتوكيد الأحكام المذكورة يأمر الناس قائلًا: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ».

يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَا ذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) هذه الآية تكملة للآيات السابقة، ففي ذيل تلك الآيات الخاصة بالشهادة الحقة والشهادة الباطلة، كان الأمر بالتقوى والخشية من عصيان أمراللَّه، وفي هذه الآية تذكير بذلك اليوم الذي يجمع اللَّه الرسل فيه ويسألهم

عن رسالتهم ومهمتهم وعما قاله الناس ردّاً على دعواتهم «يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ».

لقد نفوا عن أنفسهم العلم، وأوكلوا جميع الحقائق إلى علم اللَّه و «قَالُوا لَاعِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ». وعليه فإنّكم أمام علّام الغيوب وأمام محكمة هذا شأنها، فاحذروا أن تنحرف شهادتكم عن الحق والعدل.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 570

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلًا وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْرَاةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَ إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) نعم اللَّه على المسيح: هذه الآية والآيات التالية لها حتى آخر سورة المائدة تختص بسيرة حياة السيد المسيح عليه السلام والنعم التي أسبغها اللَّه عليه وعلى امّه، يبيّنها اللَّه هنا لتوعية المسلمين وايقاظهم فتقول الآية: «إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ».

ثم تشرع الآية بذكر النعم: «إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ».

من نعم اللَّه الاخرى: «تُكَلّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلًا». أي إنّ كلامك في المهد، مثل كلامك وأنت كهل، كلام ناضج ومحسوب، لا كلام طفل غر.

ثم أيضاً: «وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَيةَ وَالْإِنجِيلَ».

ومن النعم الاخرى: «وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِى».

ومع ذلك فإنّك تشفي بإذن اللَّه الأعمى بالولادة والمصاب بالمرض الجلدي (البرص):

«وَتُبْرِى ءُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِى».

ثم: «وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِى».

وأخيراً كان من نعمي عليك بأن منعت عنك أذى

بني إسرائيل يوم قام الكافرون منهم بوجهك ووسموا ما تفعل بأنّه السحر، فدفعت أذى اولئك المعاندين اللجوجين عنك وحفظتك حتّى تسير بدعوتك: «وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إِسْرَاءِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ».

و ممّا يلفت النظر في هذه الآية أنّها تكرر «باذني» أربع مرات لكيلا يبقى مكان للغلو في

مختصر الامثل، ج 1، ص: 571

المسيح عليه السلام وادعاء الألوهية له، أي أنّ ما كان يحققه المسيح عليه السلام بالرغم من إعجازه وإثارته الدهشة ومشابهته للأفعال الإلهيّة، لم يكن ناشئاً منه، بل كان من اللَّه وباذنه، فما كان عيسى سوى عبد من عبيد اللَّه، مطيع لأوامره وما كان له إلّاما يستمدّه من قوّة اللَّه الخالدة.

وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَ اشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَ نَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَ آخِرِنَا وَ آيَةً مِنْكَ وَ ارْزُقْنَا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ (115) قصة نزول المائدة على الحواريين: تعقيباً على ما جاء في الآيات السابقة من بحث حول ما أنعم اللَّه به على المسيح عليه السلام وامّه يدور الحديث هنا حول النعم التي أنعم اللَّه بها على الحواريين، أي أصحاب المسيح عليه السلام. ففي البداية تشير

الآية إلى ما أوحي إلى الحواريين أن يؤمنوا باللَّه وبرسوله المسيح عليه السلام فاستجابوا «وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيّينَ أَن ءَامِنُوا بِى وَبِرَسُولِى قَالُوا ءَامَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ».

إنّ للوحي في القرآن معنى واسعاً لا ينحصر في الوحي الذي ينزل على الأنبياء، بل أنّ الإلهام الذي ينزل على قلوب الناس يعتبر من مصاديقه أيضاً.

ثم تذكر الآية نزول المائدة من السماء: «إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ».

«المائدة»: تعني في اللغة الخوان والسفرة والطبق، كما تعني الطعام الذي يوضع عليها.

شعر المسيح عليه السلام بالقلق من طلب الحواريين هذا الذي يدل على الشك والتردد، على الرغم من كل تلك الأدلة والآيات، فخاطبهم و «قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 572

ولكنهم سرعان ما أكّدوا للمسيح عليه السلام أنّ هدفهم برى ء، وأنّهم لا يقصدون العناد واللجاج، بل يريدون الأكل منها (مضافاً إلى الحالة النورانية في قلوبهم المترتبة على تناول الغذاء السماوي لأنّ للغذاء ونوعيته أثر مسلّم في روح الإنسان) «قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ».

فبيّنوا قصدهم أنّهم طلبوا المائدة للطعام، ولتطمئن قلوبهم به لما سيكون لهذا الطعام الإلهي من أثر في الروح ومن زيادة في الثقة واليقين. ولمّا أدرك عيسى عليه السلام حسن نيّتهم في طلبهم ذاك، عرض الأمر على اللَّه: «قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَايَةً مّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ».

فاستجاب اللَّه لهذا الطلب الصادر عن حسن نيّة وإخلاص: «قَالَ اللَّهُ إِنّى مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنّى أُعَذّبُهُ عَذَابًا لَّاأُعَذّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ».

فبعد نزول المائدة تزداد

مسؤوليات هؤلاء وتقوى الحجة عليهم، ولذلك فإنّ العقاب سيزداد أيضاً في حالة الكفر والانحراف.

وَ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَ لَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) براءة المسيح من شرك أتباعه: هذه الآيات تشير إلى حديث يدور بين اللَّه والمسيح يوم القيامة. تقول الآية الاولى: «وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّى إِلهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ».

فيجيب المسيح عليه السلام بكلّ احترام ببضع جمل على هذا السؤال:

1- أوّلًا ينزّه اللَّه عن كل شرك وشبهه: «قَالَ سُبْحَانَكَ».

مختصر الامثل، ج 1، ص: 573

2- ثم يقول: «مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ». أي ما لا يحق لي قوله ولا يليق بي أن أقوله.

فهو لا ينفي هذا القول عن نفسه فحسب، بل ينفي أن يكون له حق في قول مثل هذا القول الذي لا ينسجم مع مقامه ومركزه.

3- ثم يستند إلى علم اللَّه الذي لا تحدّه حدود، تأكيداً لبراءته فيقول: «إِنْ كُنتَ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلَا أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلمُ الْغُيُوبِ» «1».

4- «مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِى بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبّى

وَرَبَّكُمْ». لا أكثر من ذلك.

5- «وَكُنتَ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ شَهِيدٌ». أي كنت أحول دون سقوطهم في هاوية الشرك مدّة بقائي بينهم، فكنت الرقيب والشاهد عليهم، ولكن بعد أن رفعتني إليك، كنت أنت الرقيب والشاهد عليهم.

6- «إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ». أي على كل حال فالأمر أمرك والإرادة إرادتك، إن شئت أن تعاقبهم على انحرافهم الكبير فهم عبيدك وليس بامكانهم أن يفرّوا من عذابك، فهذا حقك بإزاء العصاة من عبيدك وإن شئت أن تغفر لهم ذنوبهم فإنّك أنت القوي الحكيم فلا عفوك دليل ضعف ولا عقابك خال من الحكمة والحساب.

قَالَ اللَّهُ هذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا فِيهِنَّ وَ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (120) الفوز العظيم: بعد الحوار الذي جرى بين اللَّه والمسيح عليه السلام يوم القيامة- كما شرحناه في تفسير الآيات السابقة- تقول الآية: «قَالَ اللَّهُ هذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ».

وهؤلاء الصادقون: «لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا». وخير من هذه النعمة المادية أنّهم: «رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ». ولا شك أنّ هذه النعمة الكبرى التي تجمع بين النعم المادية والنعم المعنوية شي ء عظيم: «ذلِكَ الفَوْزُ الْعَظِيمُ».

______________________________

(1) إطلاق كلمة «نفس» على اللَّه لا يعني الروح، فمن معاني النفس الذات.

مختصر الامثل، ج 1، ص: 574

وفي آخر الآية إشارة إلى امتلاك اللَّه كل شي ء وسيطرته على السماوات والأرض وما فيها وأنّ قدرته عامّة تشمل كل شي ء: «لِلَّهِ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا

فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

هذه الآية تعتبر سبب رضى عباد اللَّه عن اللَّه، وذلك لأنّ الذي يملك كل شي ء في عالم الوجود له القدرة أن يعطي عباده ما يريدون وأن يغفر لهم وأن يفرحهم ويرضيهم، كما تتضمن إشارة إلى عدم صدق أعمال النصارى في عبادة مريم، لأنّ العبادة جديرة بأن تكون لمن يحكم عالم الخليقة بأكمله، لا مريم التي لا تزيد عن كونها مخلوقة مثلهم.

«نهاية تفسير سورة المائدة»

الجزء الثاني

6. سورة الأنعام

حرب على الشرك والوثنية: قيل أنّ سورة الأنعام مكية، وهي السورة التاسعة والستون في تسلسل نزول السور القرآنية. هدف هذه السورة الرئيسي- مثل أهداف السور المكية- توكيد الاصول الثلاثة: «التوحيد» و «النبوة» و «المعاد» ولكنها تؤكد أكثر ما تؤكد قضية عبادة اللَّه الواحد ومحاربة الشرك والوثنية، بحيث إنّ معظم آيات هذه السورة يخاطب المشركين وعبدة الأصنام، وبهذا يتناول البحث في أكثر المواضع، أعمال المشركين وبدعهم.

ولعلّ هذا أيضاً هو السبب لما نقرؤه من روايات عن فضل هذه السورة، وإنّها عند نزولها رافقها سبعون ألف ملك، وأنّ من يقرأها وترتوي روحه من ينبوع التوحيد يستغفر له كل اولئك الملائكة.

إنّ التمعّن في آيات هذه السورة يقضي على روح النفاق والتشتت بين المسلمين، ويجعل الآذان سميعة، والأعين بصيرة، والقلوب عارفة.

ولكن العجيب أن نرى بعضهم يكتفي من هذه السورة بقراءة ألفاظها فقط، ويعقد الجلسات لتلاوة آياتها من أجل حلّ المشاكل الشخصية، فلو اهتمّت هذه الجلسات بمحتوى السورة، فلا تنحل المشاكل الخاصّة وحدها، بل تنحل جميع مشاكل المسلمين العامة أيضاً، ومن المؤسف جداً أنّ جمعاً من الناس يعتبرون القرآن مجموعة من (الأوراد)

مختصر الامثل، ج 2، ص: 6

التي لها خواص غامضة ومجهولة فيقرأونها بغير تمعّن في مضامينها، مع أنّ القرآن كله مدرسة ودروس

ومنهج ويقظة، ورسالة ووعي.

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَ النُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) تبدأ السورة بالحمد للَّه والثناء عليه، ثم تشرع بتوعية الناس على مبدأ التوحيد، عن طريق خلق العالم الكبير (السماوات والأرض) أوّلًا؛ ثم عن طريق خلق العالم الصغير (الإنسان) ثانياً: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ». اللَّه الذي هو مبدأ الظلمة والنور، بخلاف ما يعتقده الثنويون، وهو وحده خالق كل شي ء: «وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ».

غير أنّ الكافرين والمشركين، بدلًا من أن يتعلّموا من هذا النظام الواحد درس التوحيد، يصطنعون للَّه الشريك والشبيه: «ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ».

نلاحظ أنّ القرآن يذكر عقيدة المشركين بعد حرف العطف «ثم» الذي يدل في اللغة العربية على الترتيب والتراخي، وهذا يدل على أنّ التوحيد كان في أوّل الأمر مبداً فطرياً وعقيدة عامة للبشر، بعد ذلك حصل الشرك كانحراف عن الأصل الفطري.

وروي في تفسير نور الثقلين عن أمير المؤمنين علي عليه السلام في تفسير هذه الآية قوله: «وكان في هذه الآية ردّ على ثلاثة أصناف منهم لمّا قال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ». فكان ردّاً على الدهرية الذين قالوا: إنّ الأشياء لا بدء لها وهي دائمة، ثم قال: «وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ» فكان ردّاً على الثنوية الذين قالوا: إنّ النور والظلمة هما المدبران، ثم قال: «ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ» فكان ردّاً على مشركي العرب الذين قالوا: إنّ أوثاننا آلهة».

والآية التالية تلفت نظر الإنسان إلى العالم الصغير (الإنسان) فتشير إلى أعجب أمر وهو خلقه من الطين فتقول: «هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن طِينٍ».

صحيح أنّنا ولدنا من أبوينا، لا من

الطين، ولكن بما أنّ خلق الإنسان الأوّل كان من

مختصر الامثل، ج 2، ص: 7

الطين، فيصح أن نخاطب نحن أيضاً على أنّنا مخلوقين من الطين.

وتستمر السورة فتشير إلى مراحل تكامل عمر الإنسان فتقول: إنّ اللَّه بعد ذلك عيّن مدّة يقضيها الإنسان على هذه الأرض للنمو والتكامل: «ثُمَّ قَضَى أَجَلًا».

ثم لإستكمال البحث تقول: «وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ».

بعد ذلك تخاطب الآية المشركين وتقول لهم: «ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ». أي تشكّون في قدرة الخالق الذي خلق الإنسان من هذه المادة التافهة (الطين) واجتاز به هذه المراحل المدهشة، وتعبدون من دونه موجودات لا قيمة لها كالأصنام.

إنّ كلمة «أجل» وحدها تعني غير الحتمي من العمر والوقت والمدّة و «الأجل المسمى» بمعنى الحتمي منها وبعبارة اخرى «الأجل المسمى» هو الموت الطبيعي؛ و «الأجل» هو الموت غير الطبيعي، ولكن أنّ الأجلين يعيّنهما اللَّه.

وَ هُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَ فِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ وَ يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) هذه الآية تكمل البحث السابق في التوحيد ووحدانية اللَّه، وترد على الذين يقولون بوجود إله لكل مجموعة من الكائنات، أو لكل ظاهرة من الظواهر، فيقولون: إله المطر، وإله الحرب، وإله السلم، وإله السماء، وما إلى ذلك، تقول الآية: «وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّموَاتِ وَفِى الْأَرْضِ».

من الطبيعي أن يكون الحاكم على كل شي ء والمدبّر لكل الامور والحاضر في كل مكان عارفاً بجميع الأسرار والخفايا ولهذا تقول الآية: إنّ ربّاً كهذا «يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ».

وَ مَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (5) قلنا: إنّ معظم الخطاب في سورة الأنعام موجّه إلى المشركين، والقرآن يستخدم شتّى السبل لإيقاظهم وتوعيتهم، فهذه

الآية والآيات الكثيرة التي تليها تواصل هذا الموضوع.

تشير هذه الآية إلى روح العناد واللامبالاة والتكبر عند المشركين تجاه الحق وتجاه آيات اللَّه، فتقول: «وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ مِّنْ ءَايَاتِ رَبّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 8

مثل هذه النفسية لا يقتصر وجودها على عهود الجاهلية ومشركي العرب، فاليوم أيضاً نجد من بلغ الستين من عمره ومع ذلك لم يجشم نفسه عناء ساعة واحدة من البحث والتحقيق في اللَّه والدين، وإن وقع بيده كتاب أو بحث في هذا الموضوع لم ينظر إليه وإن تحدّث إليه أحد بهذا الشأن لم يصغ إليه، هؤلاء هم الجهلاء المعاندون الغافلون الذين قد يظهرون أحياناً أمام الناس بمظهر العالم المتجبّر! ثم تشير الآية إلى نتيجة أعمالهم، وهي: أنّهم عندما رأوا الحقيقة كذّبوها، ولو أنّهم دققوا في آيات اللَّه جيّداً لرأوا الحقيقة وأدركوها وآمنوا بها: «فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقّ لَمَّا جَاءَهُمْ».

ولسوف تصلهم نتيجة هذا التكذيب والسخرية: «فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبؤُا مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ».

في هاتين الآيتين إشارة إلى ثلاث مراحل من الكفر تتزايد في الشدّة على التوالي، المرحلة الاولى هي مرحلة الإعراض، ثم مرحلة التكذيب، وأخيراً مرحلة الإستهزاء بآيات اللَّه.

أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَ أَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَ جَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6) مصير الطغاة: ابتداء من هذه الآية وما بعدها يشرع القرآن بعرض خطّة تربوية مرحلية لإيقاظ عبدة الأصنام والمشركين تتناسب مع اختلاف الدوافع عند الفريقين، يبدأ أوّلًا بمكافحة عامل (الغرور) وهو من عوامل الطغيان والعصيان والانحراف المهمة، فيذكّرهم بالأمم السالفة ومصائرهم المؤلمة، وبذلك يحذر هؤلاء الذين غطت أبصارهم غشاوة

الغرور، ويقول: «أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمْ» «1».

ولكنهم لما استمروا على طريق الطغيان، لم تستطع هذه الإمكانات إنقاذهم من العقاب الإلهي: «فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا ءَاخَرِينَ».

______________________________

(1) «المدرار»: في الأصل من «درّ» اللبن، ثم إنتقل إلى ما يشبهه في النّزول كالمطر، والكلمة صيغة مبالغة.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 9

وَ لَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) منتهى العناد: يشير القرآن هنا إلى الطلب الذي تقدّم به جمع من عبدة الأصنام ويقول:

«وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ». أي إنّ عنادهم قد وصل حدّاً ينكرون فيه حتى ما يشاهدونه بأعينهم ويلمسونه بأيديهم فيعتبرونه سحراً لكيلا يستسلموا للحقيقة.

وَ قَالُوا لَوْ لَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَ لَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَ لَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَ لَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (10) خلق المبررات: من عوامل الكفر والإنكار الاخرى، روح التحجج والبحث عن المبررات. ومن جملة الحجج التي احتج بها المشركون على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأشار إليها القرآن في كثير من آياته- ومنها هذه الآية- هي أنّهم كانوا يقولون: لماذا يقوم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وحده بهذا الأمر العظيم؟ لماذا لا يقوم معه بهذا الأمر أحد من غير جنس البشر، من جنس الملائكة؟ أيمكن لإنسان من جنسنا أن يحمل بمفرده هذه الرسالة على

عاتقه؟ «وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ».

يرد القرآن عليهم بجملتين في كل منهما برهان:

الاولى: «وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِىَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَايُنظَرُونَ». أي لو نزل ملك لمعاونة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لهلك الكافرون.

الثانية: هي أنّ الرسول الذي يبعثه اللَّه لقيادة الناس وتربيتهم وليكون اسوة لهم، لابد أن يكون من جنس الناس أنفسهم وعلى شاكلتهم من حيث الصفات والغرائز البشرية، لذلك فالقرآن في الجواب الثاني يقول: لو شئنا أن يكون رسولنا ملكاً حسبما يريدون، لوجب أن يتصف هذا الملك بصفات الإنسان وأن يظهر في هيئة إنسان: «وَلَوْ جَعَلْنهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنهُ رَجُلًا».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 10

ثم يستنتج من ذلك أنّهم- في هذه الحالة أيضاً- كانوا سيعترضون الإعتراض نفسه، وهو: لماذا أوكل اللَّه مهمّة القيادة إلى بشر وأخفى عنّا وجه الحقيقة: «وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ». وفي الختام يهوّن الأمر على رسوله ويقول له: «وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ».

هذه الآية في الواقع تسلية لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله يطلب اللَّه فيها منه أن لا تزعزعه الزعازع، ويهدد في الوقت نفسه المخالفين والمعاندين ويطلب منهم أن يتفكّروا في عاقبة أمرهم المؤلمة.

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) لكي يوقظ القرآن هؤلاء المعاندين المغرورين يسلك في هذه الآية سبيلًا آخر فيأمر رسوله أن يوصيهم بالسياحة في أرجاء الأرض ليروا بأعينهم مصائر اولئك الذين كذّبوا بالحقائق، فلعلّ ذلك يوقظهم من غفلتهم «قُلْ سِيرُوا فِى الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ».

لا شك أنّ لرؤية آثار السابقين والأقوام التي هلكت بسبب إنكارها الحقائق تأثيراً أعمق من مجرد قراءة كتب التأريخ، لأنّ هذه الآثار تجسّد الحقيقة ناطقة ملموسة، ولهذا

استعمل جملة «انظروا» ولم يقل «تفكروا».

قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَ لَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) يواصل القرآن مخاطبة المشركين، ففي الآيات السابقة دار الكلام حول التوحيد وعبادة اللَّه الأحد وهنا يدور الحديث عن المعاد، وبالإشارة إلى مبدأ التوحيد يواصل القول عن المعاد بطريقة رائعة. يتكوّن الاستدلال هنا على المعاد من مقدمتين:

أوّلًا: يقول: «قُلْ لِّمَن مَّا فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ». ثم يقول مباشرة: أجب أنت بلسان فطرتهم وروحهم: «قُلْ لِّلَّهِ». فبموجب هذه المقدمة يكون كل عالم الوجود ملكاً للَّه وبيده وتدبيره.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 11

ثانياً: إنّ اللَّه هو وحده مصدر كل رحمة، وهو الذي أوجب على نفسه الرحمة، ويفيض بنعمه على الجميع: «كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ».

هذه الرحمة نفسها توجب أن يرتدي الإنسان- الذي عنده إمكانية الخلود- لباس حياة جديدة بعد موته في عالم أوسع، تدفعه يد الرحمة في سيره التكاملي الأبدي، لذلك يقول بعد هاتين المقدمتين: «لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيمَةِ لَارِيْبَ فِيهِ».

في نهاية الآية إشارة إلى مصير المشركين المعاندين وعاقبتهم، فهؤلاء الذين أضاعوا رأس مال وجودهم في سوق تجارة الحياة، لا يؤمنون بهذه الحقائق: «الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَايُؤْمِنُونَ».

الآية السابقة تشير إلى أنّ اللَّه مالك كل شي ء يستوعبه ظرف «المكان» أمّا هذه الآية فتشير إلى ملكية اللَّه لما يستوعبه ظرف «الزمان» الوسيع وتقول: «وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى الَّيْلِ وَالنَّهَارِ».

وفي نهاية الآية وبعد ذكر التوحيد، تشير الآية إلى صفتين بارزتين في اللَّه فتقول: «وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ». أي أنّ إتساع عالم الوجود، والكائنات في آفاق الزمان والمكان لا تحول أبداً

دون أن يكون اللَّه عليماً بأسرارها.

قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَ لَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) الهدف من نزول هذه الآيات هو إثبات التوحيد ومحاربة الشرك وعبادة الأصنام فالمشركون، وإن اعتقدوا أنّ اللَّه هو خالق العالم، كانوا يتخذون من الأصنام ملجأً لأنفسهم، ولربّما اتخذوا صنماً لكل حاجة معينة، فلهم إله للمطر، وإله للظلام، وإله للحرب والسلم، وإله للرزق، وهذا هو تعدد الأرباب الذي ساد اليونان القديم.

ولكي يزيل القرآن هذا التفكير الخاطى ء، يأمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن «قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 12

هذه الآية تقتصر على توكيد إتصاف اللَّه باطعام مخلوقاته ورزقهم، ولعل ذلك إشارة إلى أنّ أقوى حاجات الإنسان في حياته المادية هي حاجته إلى «لقمة العيش» كما يقال، وهذه اللقمة هي التي تحمل الناس على الخضوع لأصحاب المال والقوة، وقد يصل خضوعهم لُاولئك حد العبودية، ففي هذا يقرر القرآن أنّ رزق الناس بيد اللَّه لا بيد هؤلاء ولا بيد الأصنام، فأصحاب المال والقوة هم أنفسهم محتاجون إلى الطعام، وأنّ اللَّه هو وحده الذي يطعم الناس ولا يحتاج إلى طعام.

ثم للردّ على اولئك المشركين الذين كانوا يدعون رسول اللَّه إلى الإنضمام إليهم، يؤكد القرآن على ضرورة رفض دعوة هؤلاء إنطلاقاً من مبدأ نهي الوحي الإلهي عن ذلك، إضافة إلى نهي العقل: «قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ

مِنَ الْمُشْرِكِينَ».

الآية التالية فيها توكيد أشدّ لهذا النهي الإلهي عن إتّباع المشركين: «قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ». أي يأمر اللَّه رسوله أن يقول بأنّه ليس مستثنى من القوانين الإلهية، وأنّه يخاف- إن ركن إلى المشركين- عذاب يوم القيامة.

ولكي يتّضح أنّ النبي صلى الله عليه و آله لا يستطيع شيئاً بغير الاستناد إلى لطف اللَّه ورحمته، فكل شي ء بيد اللَّه وبأمره، وحتى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله نفسه يترقّب بعين الرجاء رحمة اللَّه الواسعة، ومنه يطلب النجاة والفوز: «مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوزُ الْمُبِينُ».

وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (17) وَ هُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قدرة اللَّه القاهرة: قلنا إنّ هدف هذه السورة هو استئصال جذور الشرك وعبادة الأصنام، وهاتان الآيتان تواصلان تحقيق ذلك. فالقرآن يتساءل أوّلًا: لماذا تتوجّهون إلى غير اللَّه، وتلجأون إلى معبودات تصطنعونها لحلّ مشاكلكم ودفع الضر عن أنفسكم واستجلاب الخير لها؟ بينما لو أصابك أدنى ضرر فلا يرفعه عنك غير اللَّه، وإذا أصابك الخير والبركة والفوز والسعادة فما ذلك إلّابقدرة اللَّه، لأنّه هو القادر القوي: «وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ» «1».

______________________________

(1) «الضر»: هو كل نقيصة يتعرّض لها الانسان إمّا في الجسم مثل نقص عضو والمرض، وإمّا في النفس مثل الجهل والسفاهة والجنون، وإمّا في امور اخرى مثل ذهاب المال أو المقام أو الأبناء.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 13

في الواقع إنّ سبب الإتجاه إلى غير اللَّه إمّا لتصوّرهم أنّ ما يتّجهون إليه مصدر الخيرات، وإمّا

لإعتقادهم بقدرته وأنّه يدرأ عنهم المصائب ويحلّ لهم مشاكلهم.

وفي الآية التي تليها إكمال للبحث، فيقول: «وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ».

ولإزالة كل وهم قد يخطر لأحدهم بأنّ اللَّه قد يسي ء استعمال قدرته غير المتناهية كما هو الحال في ذوي القدرة من البشر، يقول القرآن: «وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ». أي أنّه صاحب حكمة وكل أعماله محسوبة لأنّه خبير وعالم ولا يخطى ء في استعمال قدرته أبداً.

قُلْ أَيُّ شَيْ ءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ أَ إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ وَ إِنَّنِي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) أعظم الشاهدين: يذكر جمع من المفسرين أنّ عدداً من مشركي مكة جاءوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقالوا: كيف تكون نبيّاً ولا نرى أحداً يؤيّدك؟ وحتى اليهود والنصارى الذين سألناهم، لم يشهدوا بصحة أقوالك بحسب ما عندهم في التوراة والإنجيل، فهات من يشهد لك على رسالتك، والآيتان المذكورتان تشيران إلى هذه الواقعة. في مواجهة هؤلاء المخالفين المعاندين الذين يغمضون أعينهم عن رؤية كل تلك الدلائل على صدق الرسالة، ويطلبون مزيداً من الشواهد، يؤمر النبي صلى الله عليه و آله أن: «قُلْ أَىُّ شَىْ ءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً». أهناك شهادة أعظم من شهادة ربّ العالمين: «قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ». وهل هناك دليل أكبر من هذا القرآن:

«وَأُوحِىَ إِلَىَّ هذَا الْقُرْءَانُ».

هذا القرآن الذي لا يمكن أن يكون وليد فكر بشري، خاصة في تلك الظروف الزمانية والمكانية، هذا القرآن الذي يضمّ مختلف الشواهد على إعجازه، فألفاظه معجزة، ومعانيه معجزة، أليس

هذا الشاهد الكبير وحده كاف لأن يكون تصديقاً إلهياً للدعوة!

يستفاد من هذه العبارة أيضاً أنّ القرآن أعظم معجزة وأكبر شاهد على صدق دعوة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

ثم يشير إلى هدف نزول القرآن ويقول: «لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ». أي إنّ القرآن قد نزل عليّ لكي أنذركم، وأنذر جميع الذين يصل إليهم- عبر تاريخ البشر، وعلى إمتداد الزمان

مختصر الامثل، ج 2، ص: 14

وفي أرجاء العالم كافة- كلامي، وأحذّرهم من عواقب عصيانهم. ثم أمر اللَّه رسوله أن يسألهم: «أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ ءَالِهَةً أُخْرَى ويأمره أن:

«قُلْ لَاأَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِى بَرِى ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ».

أمّا الذين قالوا: إنّ أهل الكتاب لم يشهدوا لنبي الإسلام صلى الله عليه و آله فإنّ الآية التي بعدها تردّ عليهم وتقول: «الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ». أي إنّ معرفتهم به لا تقتصر على مبدأ ظهوره ودعوته فحسب، بل إنّهم يعرفون حتى التفاصيل والخصائص وعلاماته الدقيقة أيضاً.

والآية تعلن في آخر مقاطعها النتيجة النهائية: «الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَايُؤْمِنُونَ».

أي إنّ الذين لا يؤمنون بالنبي- مع كل ما تحيطه من دلائل وعلامات واضحة- هم فقط اولئك الذين خسروا كل شي ء في تجارة الحياة.

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَ اللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) أشدّ الظلم: تواصل هذه الآيات المنهج القرآني في مقارعة الشرك وعبادة الأصنام بشكل شامل. تقول الآية الاولى بصراحة وبصورة استفهام إستنكاري:

«وَمَن أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بَايَاتِهِ».

الجملة الاولى إشارة إلى إنكار التوحيد والثانية إشارة إلى إنكار النبوة حقّاً لا ظلم أكبر من أن يتخذ المرء قطعة جماد لا قيمة لها، أو إنساناً ضعيفاً مثله شريكاً لربّ لا تحدّه حدود وله الحكم على كل عالم الوجود.

فلا شك إذن في أنّ أيّ ظالم- وعلى الأخص اولئك الذين لظلمهم جوانب متعددة- لا يمكن أن يرى السعادة والفلاح: «إِنَّهُ لَايُفْلِحُ الظَّالِمُونَ».

الآية التالية تشير إلى مصير المشركين يوم القيامة مبيّنة أنّهم باعتمادهم على مخلوقات ضعيفة كالأصنام، لا هم حققوا لأنفسهم الراحة في هذا العالم، ولا هم ضمنوا ذلك في الحياة

مختصر الامثل، ج 2، ص: 15

الآخرة، فتقول الآية: «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ». أين هم؛ لماذا لا يأتون اليوم لإنقاذكم؟ لماذا لا يظهرون أيّ حول ولا يبدون أيّة قوة؟

فيستولي على هؤلاء الرعب والخوف ويبهتون ولا يحيرون جواباً، سوى أن يقسموا باللَّه إنّهم لم يكونوا مشركين، ظنّاً منهم أنّهم هناك أيضاً قادرون على إخفاء الحقائق: «ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ».

الآية الثالثة ومن أجل أن يعتبر الناس بمصير هؤلاء الأفراد تقول: «انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ».

وتنهار المساند التي إختاروا الاستناد عليها وجعلوها شريكة للَّه، وخابوا في مسعاهم «وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ».

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَ جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ وَ إِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ مَا يَشْعُرُونَ (26) في هذه الآية

إشارة إلى الوضع النفسي لبعض المشركين، فهم لا يبدون أيّة مرونة تجاه سماع الحقائق، بل أكثر من ذلك، يناصبونها العداء، ويقذفونها بالتهم، فيبعدون أنفسهم وغيرهم عنها عن هؤلاء. تقول الآية: «وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا» «1».

إنّ نسبة هذه الامور إلى اللَّه، إنّما هى إشارة إلى قانون «العلة والمعلول» وخاصية «العمل»، أي إنّ أثر الاستمرار في الانحراف والإصرار على المعاندة والتشاؤم يظهر في إتصاف نفس الإنسان بهذه المؤثرات، لقد أثبتت التجربة أنّ المنحرفين والمذنبين يحسّون أوّل الأمر بعدم الرضا عن حالهم، ولكنهم يعتادون ذلك بالتدريج، وقد يصل بهم الأمر إلى اعتبار أعمالهم القبيحة لازمة وضرورية.

______________________________

(1) «أكنة»: جمع «كنان» و هو كل ستار أو حاجز؛ و «الوقر»: بمعنى ثقل السمع.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 16

وهؤلاء وصلوا حدّاً تصفه الآية فتقول: «وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ ءَايَةٍ لَّايُؤْمِنُوا بِهَا» بل الأكثر من ذلك أنّهم عندما يأتون إليك، لا يفتحون نوافذ قلوبهم أمام ما تقول، ولا يأتون- على الأقل- بهيئة الباحث عن الحق الذي يسعى للعثور على الحقيقة والتفكير فيها، بل يأتون بروح وفكر سلبيين، ولا هدف لهم سوى الجدل والإعتراض: «حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ». أنّهم عند سماعهم كلامك الذي يستقى من ينابيع الوحي ويجري على لسانك الناطق بالحق، يبادرون إلى إتهامك بأنّ ما تقوله إنّما هو خرافات اصطنعها اناس غابرون:

«يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ».

الآية التالية تذكر أنّ هؤلاء لا يكتفون بهذا، فهم مع ضلالهم يسعون جاهدين للحيلولة دون سلوك الباحثين عن الحقيقة بما يشيعونه ويروّجونه من مختلف الأكاذيب، ويمنعونهم أن يقتربوا من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ» ويبتعدون عنه بأنفسهم: «وَيَنَوْنَ عَنْهُ» «1».

دون أن يدركوا

أنّ من يصارع الحق يكن صريعه، وأخيراً، وبحسب قانون الخلق الثابت، يظهر وجه الحق من وراء السحب، وينتصر بما له من قوة، ويتلاشى الباطل كما يتلاشى الزبد الطافي على سطح الماء، وعليه فإنّ مساعيهم سوف تتحطم على صخرة الإخفاق والخيبة وما يهلكون غير أنفسهم، ولكنهم لا يدركون الحقيقة: «وَإِن يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ».

وَ لَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَ لَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَ لَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) في هاتين الآيتين إشارة إلى بعض مواقف عناد المشركين وفيهما يتجسد مشهد من مشاهد نتائج أعمالهم لكي يدركوا المصير المشؤوم الذي ينتظرهم فيستيقظون، أو تكون حالهم- على الأقل- عبرة لغيرهم، فتقول الآية: «وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ» لتبيّن لك مصيرهم السيى ء المؤلم.

إنّهم في تلك الحال على درجة من الهلع بحيث إنّهم يصرخون: ليتنا نرجع إلى الدنيا لنعوّض عن أعمالنا القبيحة، ونعمل للنجاة من هذا المصير المشؤوم، ونصدّق آيات ربنا،

______________________________

(1) «ينأون»: من «نأى بمعنى إبتعد.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 17

ونقف إلى جاب المؤمنين: «فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذّبَ بَايَاتِ رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ».

الآية التالية تؤكد أنّ ذلك ليس أكثر من تمنّ كاذب، وإنّما تمنّوه لأنّهم رأوا في ذلك العالم كل ما كانوا يخفونه- من عقائد ونيات وأعمال سيئة- مكشوفاً أمامهم، فاستيقظوا يقظة مؤقتة عابرة: «بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ».

غير أنّ هذه اليقظة ليست قائمة ثابتة، بل إنّها قد حصلت لظروف طارئة، ولذلك فحتى لو افترضنا المستحيل وعادوا إلى هذه الدنيا مرّة اخرى لفعلوا ما كانوا يفعلونه من قبل وما

نهوا عنه: «وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ» لذلك فهم ليسوا صادقين في تمنّياتهم ومزاعمهم «وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ».

وَ قَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَ مَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَ لَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَ لَيْسَ هذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَ رَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَ مَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ لَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلَا تَعْقِلُونَ (32) هذه الآية إستئناف لأقوال المشركين المعاندين المتصلّبين الذين يتمنون- عندما يشاهدون أهوال يوم القيامة- أن يعودوا إلى دار الدنيا ليتلافوا ما فاتهم، ولكن القرآن يقول إنّهم إذا رجعوا لا يتّجهون إلى جبران ما فاتهم، بل يستمرون على ما كانوا عليه، وأكثر من ذلك فإنّهم يعودون إلى إنكار يوم القيامة «وَقَالُوا إِنْ هِىَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ».

الآية التالية تشير إلى مصيرهم يوم القيامة، يوم يقفون بين يدي اللَّه: «وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هذَا بِالْحَقّ». فيكون جوابهم أنّهم يقسمون بأنّه الحقّ: «قَالُوا بَلَى وَرَبّنَا».

عندئذ: «قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ». لا شك أنّ «الوقوف بين يدي اللَّه» لا يعني إنّ للَّه مكاناً، بل يعني الوقوف في ميدان الحساب للجزاء، كما يقول بعض المفسرين، أو أنّه من باب المجاز، مثل قول الإنسان عند أداء الصلاة أنّه يقف بين يدي اللَّه وفي حضرته.

الآية التي بعدها، فيها إشارة إلى خسران الذين ينكرون المعاد، فتقول: «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ

مختصر الامثل، ج 2، ص: 18

كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ». إنّ المقصود بلقاء

اللَّه هو- كما قلنا من قبل- اللقاء المعنوي والإيمان الشهودي (الشهود الباطني)، أو هو لقاء مشاهد يوم القيامة والحساب والجزاء.

ثم تبين الآية أنّ هذا الإنكار لن يدوم، بل سيستمر حتى قيام يوم القيامة، حين يرون أنفسهم فجأة أمام مشاهده الرهيبة، ويشهدون بأعينهم نتائج أعمالهم، عندئذ ترتفع أصواتهم بالندم على ما قصّروا في حق هذا اليوم: «حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا». «الساعة»: هي يوم القيامة؛ و «بغتة»: تعني فجأة وعلى حين غرّه، إذ تقوم القيامة دون أن يعلم بموعدها أحد سوى اللَّه تعالى.

ثم يقول القرآن الكريم: «وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ».

«الأوزار»: جمع «وزر» وهو الحمل الثقيل، وتعني الأوزار هنا الذنوب، ويمكن أن تتخذ هذه الآية دليلًا على تجسّد الأعمال، لأنّها تقول إنّهم يحملون ذنوبهم على ظهورهم.

وفي آخر الآية يقول اللَّه تعالى: «أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ».

ثم لبيان نسبة الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة، يقول اللَّه تعالى: «وَمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ». فهؤلاء الذين اكتفوا بهذه الحياة، ولا يطلبون غيرها، هم أشبه بالأطفال الذين يودون أن لو يقضوا العمر كله في اللعب واللهو غافلين عن كل شي ء.

إنّ تشبيه الحياة الدنيا باللهو واللعب يستند إلى كون اللهو واللعب من الممارسات الفارغة السطحية التي لا ترتبط بأصل الحياة الحقيقية، سواء فاز اللاعب أم خسر، إذ كل شي ء يعود إلى حالته الطبيعية بعد اللعب.

ثم تقارن الآية حياة العالم الآخر بهذه الدنيا، فتقول: «وَلَلدَّارُ الْأَخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ». فتلك حياة خالدة لا تفنى في عالم أوسع وعلى مستوىً أرفع، عالم يتعامل مع الحقيقة لا المجاز ومع الواقع لا الخيال.

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ

يَجْحَدُونَ (33) وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَ أُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَ لَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) المصلحون يواجهون الصعاب دائماً: لا شك أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في نقاشاته المنطقية ومحاوراته الفكرية مع المشركين المعاندين المتصلّبين، كان يواجه منهم المعاندة واللجاجة

مختصر الامثل، ج 2، ص: 19

والتصلّب والتعنّت، بل كانوا يرشقونه بتهمهم، ولذلك كله كان النبي صلى الله عليه و آله يشعر بالغم والحزن، واللَّه تعالى في مواضع كثيرة من القرآن يواسي النبي صلى الله عليه و آله ويصبّره على ذلك، لكي يواصل مسيرته بقلب أقوى وجأش أربط، كما جاء في هذه الآية: «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِى يَقُولُونَ». فاعلم أنّهم لا ينكرونك أنت، بل هم ينكرون آيات اللَّه، ولا يكذّبونك بل يكذّبون اللَّه: «فَإِنَّهُمْ لَايُكَذّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بَايَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ».

ومثل هذا القول شائع بيننا، فقد يرى «رئيس» أنّ «مبعوثه» إلى بعض الناس عاد غاضباً، فيقول له: «هوّن عليك، فإنّ ما قالوه لك إنّما كان موجّهاً إليّ، وإذا حصلت مشكلة فأنا المقصود بها، لا أنت» وبهذا يسعى إلى مواساة صاحبه والتهوين عليه.

الآية الثانية تستأنف مواساة الرسول صلى الله عليه و آله وتبيّن له حال من سبقه من الأنبياء، وتؤكد له أنّ هذا ليس مقتصراً عليه وحده، فالأنبياء قبله نالهم من قومهم مثل ذلك أيضاً: «وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ».

ولكنهم صبروا وتحمّلوا حتى انتصروا بعون اللَّه: «فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتهُمْ نَصْرُنَا» وهذه سنة إلهية لا قدرة لأحد على تغييرها: «وَلَا مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ».

وعليه، فلا تجزع ولا تبتئس إذا ما كذّبك قومك وآذوك، بل اصبر على معاندة الأعداء وتحمّل أذاهم،

واعلم أنّ الإمدادات والألطاف الإلهية ستنزل بساحتك بموجب هذه السنّة، فتنتصر في النهاية عليهم جميعاً، وإنّ ما وصلك من أخبار الأنبياء السابقين عن مواجهتهم الشدائد والمصاعب وعن ثباتهم وصبرهم وإنتصارهم في النهاية، لهو شهادة بيّنة لك:

«وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِى الْمُرْسَلِينَ».

تشير هذه الآية إلى مبدأ عام هو أنّ قادة المجتمع الصالحين الذين يسعون لهداية الشعوب عن طريق الدعوة إلى مبادى ء وتعاليم بنّاءة، وبمحاربة الأفكار المنحطّة والخرافات السائدة والقوانين المغلوطة في المجتمع، يواجهون معارضة شديدة من جانب فريق الإنتهازيين الذين يرون في انتشار تلك التعاليم والمبادى ء البنّاءة خطراً يهدد مصالحهم، فلا يتركون وسيلة إلّا استخدموها لترويج أهدافهم المشؤومة، وبكل ما يخطر لهم من سلاح لمحاربة اولئك المصلحين.

إلّا أنّ الحقيقة، بما فيها من قوة الجاذبية والعمق، وبموجب السنّة الإلهية، تعمل عملها إلّا أنّ شرط هذا الإنتصار هو الصبر والمقاومة والثبات.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 20

وَ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَ الْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) الأموات المتحركون: هاتان الآيتان استمرار لمواساة النبي صلى الله عليه و آله التي بدأت في الآيات السابقة لقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يشعر بالحزن العميق لضلال المشركين وعنادهم، وكان يود لو أنّه استطاع أن يهديهم جميعاً إلى طريق الإيمان بأيّة وسيلة كانت. فيقول اللَّه تعالى: «وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِىَ نَفَقًا فِى الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِى السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بَايَةٍ». أي إذا كان إعراض هؤلاء المشركين يصعب ويثقل عليك، فشق أعماق الأرض أو ضع سلّماً

يوصلك إلى السماء للبحث عن آية- إن استطعت- ولكن اعلم أنّهم مع ذلك لن يؤمنوا بك.

في هذه الآية يخبر اللَّه نبيّه بأن ليس في تعليماتك ودعوتك وسعيك أي نقص، بل النقص فيهم لأنّهم هم الذين رفضوا قبول الحق، لذلك فإنّ أيّ مسعى من جانبك لن يكون له أثر فلا تقلق.

ولكن لكيلا يظن أحد أنّ اللَّه غير قادر على حملهم على التسليم يقول: «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى . أي لو أراد حملهم على الإستسلام والرضوخ لدعوتك والإيمان باللَّه لكان على ذلك قديراً.

غير أنّ الإيمان الإجباري لا طائل تحته، إنّ خلق البشر للتكامل مبني على أساس حرية الاختيار والإرادة، ففي حالة حرية الاختيار وحدها يمكن تمييز «المؤمن» من «الكافر» و «الصالح» من «غير الصالح» و «الصادق» من «الكاذب».

ثم يقول سبحانه لنبيّه: «فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ». أي لقد قلت هذا لئلا تكون من الجاهلين، أي لا تفقد صبرك ولا تجزع، ولا يأخذك القلق بسبب كفرهم وشركهم.

وما من شك أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان يعلم هذه الحقائق ولكن اللَّه ذكرها له من باب التطمين وتهدئة الروع.

في الآية التي تليها استكمال لما سبق ومزيد من المواساة للرسول الكريم صلى الله عليه و آله فتقول الآية: «إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 21

أمّا الذين هم في الواقع أشبه بالأموات فإنّهم لا يؤمنون حتى يبعثهم اللَّه يوم القيامة:

«وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ».

يومئذٍ، وبعد أن يروا مشاهد يوم القيامة يؤمنون، إلّاأنّ إيمانهم ذاك لا ينفعهم شيئاً.

وَ قَالُوا لَوْ لَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) تشير هذه الآية إلى واحد من الأعذار التي

يتذرّع بها المشركون، فقد جاء في بعض الروايات أنّه عندما عجز بعض رؤساء قريش عن معارضة القرآن ومقابلته، قالوا لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله: كل هذا الذي تقوله لا فائدة فيه، إذا كنت صادقاً فيما تقول، فأتنا بمعجزات كعصا موسى وناقة صالح، يقول القرآن بهذا الشأن: «وَقَالُوا لَوْلَا نُزّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبّهِ».

من الواضح أنّ اولئك لم يكونوا جادّين في بحثهم عن الحقيقة، لأنّ الرّسول صلى الله عليه و آله كان قد جاء لهم من المعاجز بما يكفي، لذلك يأمر اللَّه رسوله أن: «قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزّلَ ءَايَةً». إلّاأنّ في ذلك أمراً أنتم عنه غافلون، وهو أنّه إذا حقق اللَّه مطاليبكم التي يدفعكم إليها عنادكم، ثم بقيتم على عنادكم ولم تؤمنوا بعد مشاهدتكم للمعاجز، فسوف يقع عقاب اللَّه عليكم جميعاً، وتفنون عن آخركم، لأنّ ذلك سيكون منتهى الإستهتار بمقام الالوهيّة المقدس وبمبعوثه وآياته ومعجزاته، ولهذا تنتهي الآية بالقول: «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَايَعْلَمُونَ».

وَ مَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْ ءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) هذه الآية تستأنف ما جاء في الآيات السابقة من الكلام مع المشركين وتحذيرهم من مصيرهم يوم القيامة، فتتحدّث عن «الحشر» وبعث عام يشمل جميع الكائنات الحيّة والحيوانات، فتقول أوّلًا: «وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم».

يتّضح من هذا أنّ فصائل الحيوان والطيور امم مثل البشر.

أي إنّ للحيوان والطير- أيضاً- إدراكه ومشاعره في عالمه الخاص، ويعرف اللَّه ويسبّح له ويقدّسه بحسب طاقته، وإن تكن قوّة إدراكه أدنى ممّا في الإنسان.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 22

«الدّابة»: من «دبّ» والدبيب المشي الخفيف، ويستعمل ذلك

في الحيوان والحشرات أكثر. «الطائر» كل ذي جناح يسبح في الهواء وقد يوصف بها بعض الامور المعنوية التي تتقدّم بسرعة واندفاع، والآية تقصد الطائر الذي يطير بجناحيه. «امم»: جمع امّة، وهي كل جماعة يجمعهم أمر ما، كالدين الواحد أو الزمان الواحد أو المكان الواحد. «يحشرون»: من «حشر» بمعنى «الجمع» والمعنى الوارد في القرآن يقصد به يوم القيامة، ولا سيما أنّه يقول: «إِلَى رَبّهِم».

ثم تقول الآية: «مَّا فَرَّطْنَا فِى الْكِتَابِ مِن شَىْ ءٍ». لعل المقصود «بالكتاب» هو القرآن الذي يضم كل شي ء، أو المقصود بالكتاب هو «عالم الوجود» إذ أنّ عالم الخليقة مثل الكتاب الضخم، يضمّ كل شي ء ولا ينسى شيئاً.

وتختم الآية بالقول: «ثُمَّ إِلَى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ». من هنا تنذر الآية المشركين وتقول لهم:

إنّ اللَّه الذي خلق جميع الحيوانات ووفّر لها ما تحتاجه، ورعى كل أفعالها، وجعل لها حشراً ونشوراً، قد أوجد لكم دون شك بعثاً وقيامة وليس الأمر كما تقول تلك الفئة من المشركين من أنّه ليس ثمّة شي ء سوى الحياة الدنيا والممات.

هل هناك بعث للحيوانات؟ ما من شك أنّ الشّرط الأوّل للمحاسبة والجزاء هو «العقل والإدراك» ويستتبعهما «التكليف والمسؤولية». يقول أصحاب هذا الرأي: إنّ حياة كثير من الحيوانات تجري وفق نظام دقيق ومثير للعجب، ويدلّ على إرتفاع مستوى إدراكها وفهمها، فمن ذا الذي لم يسمع بالنمل والنحل وتمدّنها العجيب ونظامها المحيّر في بناء بيوتها وخلاياها، ولا شك أنّ هذه امور ليس من السهل اعتبارها ناشئة بدافع الغريزة، إذ إنّ الغريزة تنشأ عنها أعمال رتيبة من طراز واحد باستمرار، أمّا الأعمال التي تقع في ظروف خاصة كردود فعل لحوادث طارئة غير متوقعة، فهذه تكون إلى التعقل والإدراك أقرب منها إلى الغريزة. فالشاة التي لم يسبق لها

أن رأت ذئباً في حياتها تفزع منه أول ما تراه وتدرك خطره عليها وتتوسل بكل حيلة لدرء خطره عنها.

فضلًا عن ذلك كله، فإنّ هناك بعض الآيات التي تدل- بوضوح- على أنّ للحيوانات فهماً وإدراكاً، من ذلك حكاية هروب النمل من أمام جيش سليمان، وحكاية ذهاب الهدهد إلى منطقة سبأ باليمن ورجوعه بأخبار مثيرة لسليمان.

ثمّة أحاديث إسلامية كثيرة حول بعث الحيوانات، من ذلك ما روي في تفسير مجمع البيان عن أبي ذر قال: بينا أنا عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذ انتطحت عنزان، فقال النبي صلى الله عليه و آله:

مختصر الامثل، ج 2، ص: 23

«أتدرون فيما انتطحتا؟» فقالوا: لا ندري. قال: «ولكن اللَّه يدري وسيقضي بينهما».

وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَ بُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) مرّة اخرى يعود القرآن ليتطرّق إلى المنكرين المعاندين، فيقول: «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بَايَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِى الظُّلُمَاتِ». فهم لا يملكون آذاناً صاغية لكي يستمعوا إلى الحقائق، ولا ألسناً ناطقةً بالحقّ توصل إلى الآخرين ما يدركه الإنسان من الحقائق.

وبعد ذلك يقول القرآن الكريم: «مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ».

إنّ الهداية والضلالة اللتين تنسبان في هذه الحالات إلى مشيئة اللَّه إنّما هما ثواب اللَّه وعقابه لعباده على أفعالهم الحسنة أو السيئة. وبعبارة اخرى: قد يرتكب الإنسان أحياناً إثماً كبيراً يؤدّي به إلى أن يحيط بروحه ظلام مخيف، فتفقد عينه القدرة على رؤية الحق، وتفقد أذنه القدرة على سماع صوت الحق، ويفقد لسانه القدرة على قول الحق.

وقد يكون الأمر على عكس ذلك، أي قد يعمل الإنسان أعمالًا صالحة كثيرة بحيث إنّ عالماً من النور والضوء يشع في روحه،

فيتسع بصره وبصيرته، وتزداد أفكاره إشعاعا، ويكون لسانه ابلغ في إعلان الحق، ذلكم هو مفهوم الهداية والضلالة اللتين تنسبان إلى إرادة اللَّه ومشيئته.

قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَ تَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) التوحيد الفطري: يعود الكلام مرّة اخرى إلى المشركين، ويدور الاستدلال حول وحدانية اللَّه وعبادة الواحد الأحد عن طريق تذكيرهم باللحظات الحرجة والمؤلمة التي تمرّ بهم في الحياة، ويستشهد بضمائرهم، فهم في مثل تلك المواقف ينسون كل شي ء، ولا يجدون غير اللَّه ملجأ لهم. يأمر اللَّه سبحانه نبيّه أن: «قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».

الحالة النفسية التي تصوّرها هذه الآية لا تنحصر في المشركين، بل في كل إنسان حين يتعرّض إلى الشدّة وحوادث الخطر وقد لا يلجأ الإنسان في الحوادث الصغيرة والمألوفة إلى

مختصر الامثل، ج 2، ص: 24

اللَّه، إلّاأنّه في الحوادث الرهيبة والمخيفة ينسى كل شي ء وإن ظلّ في أعماقه يحس بأمل في النجاة ينبع من الإيمان بوجود قوّة غامضة خفيّة، وهذا هو التوجه إلى اللَّه وحقيقة التوحيد.

حتى المشركون وعبدة الأصنام لا يخطر لهم التوسل بأصنامهم، بل ينسونها في مثل هذه الظروف تماماً، فتقول الآية: «بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونُ إِلَيْهِ إِن شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ».

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَ الضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْ لَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَ لكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْ ءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا

أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) مصير الذين لا يعتبرون: تواصل هذه الآيات توجيه الكلام للضّالين والمشركين، ويتخذ القرآن فيها طريقاً آخر لإيقاظهم وذلك بأن ينقلهم إلى القرون السالفة والأزمان الماضية، يشرح لهم حال الامم الضّالة والظالمة والمشركة، ويبيّن لهم كيف اتيح لها جميع عوامل التربية والتهذيب والوعي، غير أنّ جمعاً منهم لم يلقوا بالًا إلى أيّ من تلك العوامل، ولم يعتبروا بما حاق بهم من (بأساء) و (ضراء) «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ» «1».

أما كان من الأجدر بهؤلاء أن يستيقظوا عندما جاءهم البأس وأحاطت بهم الشدائد؟! «فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا» ولكنّهم لم يستيقظوا، ولذلك سببان:

الأوّل: إنّهم لكثرة آثامهم وعنادهم في الشرك زايلت الرحمة قلوبهم والليونة أرواحهم:

«وَلكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ».

والثاني: إنّ الشيطان قد استغل عبادتهم أهواءهم فزيّن في نظرهم أعمالهم، فكل قبيح إرتكبوه أظهره لهم جميلًا، ولكل خطأ فعلوه جعله في عيونهم صواباً: «وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطنُ مَا

______________________________

(1) «البأساء»: الشدّة والمكروه، وتطلق على الحرب أيضاً، وكذلك القحط والجفاف والفقر. أمّا «الضّرّاء»: فأكثر ما تعني العذاب الروحي كالهم والغم والإكتئاب والجهل أو الآلام الناشئة عن الأمراض أو عن فقدان مال أو مقام.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 25

كَانُوا يَعْمَلُونَ».

ثم تذكر الآية التالية أنّه لمّا لم تنفع معهم تلك المصائب والمشاكل والضغوط عاملهم اللَّه تعالى بالعطف والرحمة، ففتح عليهم أبواب أنواع النعم، لعلهم يستيقظون ويلتفتون إلى خالقهم الذي وهب لهم كل تلك النعم، ويشخّصوا الطريق السوي: «فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْ ءٍ».

إلّا أنّ هذه النعم كانت في الواقع ذات طابع مزدوج، فهي مظهر من مظاهر المحبة التي تستهدف إيقاظ

النائمين، وهي كذلك مقدمة لنزول العذاب الأليم إذا استمرّت الغفلة، ولهذا يقول إنّنا أعطيناهم الكثير من النعم: «حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ» «1».

وهكذا استؤصلت جذور اولئك الظلمة وانقطع نسلهم: «فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا».

ولمّا كان اللَّه قد وفّر لهؤلاء كل وسائل التربية ولم يبخل عليهم بأيّ شي ء منها، لذلك فإنّ الحمد يختص باللَّه الذي يربّي أهل الدنيا كافة: «وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ».

وإختتام الآية بقول: «وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ» دليل على أنّ استئصال جذور الظلم والفساد والقضاء على شأفة الذين يمكن أن يواصلوا هذا الأمر من الأهمية بحيث يستوجب الحمد للَّه.

في الكافي عن فضيل بن عياض عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «... من أحبّ بقاء الظالمين، فقد أحبّ أن يعصى اللَّه، إنّ اللَّه تعالى حمد نفسه على هلاك الظالمين فقال: «فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ»».

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصَارَكُمْ وَ خَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَ مَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَ أَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)

______________________________

(1) «الإبلاس»: الحزن المعترض من شدّة التألم بسبب كثرة المنغّصات المؤلمة، ومنها اشتقت كلمة «إبليس» وهي هنا تدل على شدّة الغم والهم اللذين يصيبان المذنبين يومئذٍ.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 26

اعرفوا واهب النعم: الخطاب ما يزال موجّهاً إلى المشركين. في هذه الآيات حثّ استدلالي على إيقاظهم ببيان آخر يعتمد غريزة دفع

الضرر، فيبدأ بالقول: إنّه إذا سلب منكم اللَّه النعم الثمينة التي وهبها لكم، مثل السمع والبصر، وأغلق على قلوبكم أبواب التمييز بين الحسن والسي ء، والحق والباطل، فمن يا ترى يستطيع أن يعيد إليكم تلك النعم؟ «قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ».

في الواقع، كان المشركون أنفسهم يعتقدون أنّ الخالق والرازق هو اللَّه، وكانوا يعبدون الأصنام للإستشفاع بها عند اللَّه.

ثم تقول الآية: انظر إلى هؤلاء الذين نشرح لهم الآيات والدلائل بمختلف الوسائل، ولكنهم مع ذلك يعرضون عنها: «انظُرْ كَيْفَ نُصَرّفُ الْأَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ».

«نصرف»: من «التصريف» بمعنى «التغيير» والكلمة هنا تشير إلى مختلف الاستدلالات في صور متنوعة. و «يصدفون»: من «صدف» بمعنى «الجانب» و «الناحية» أي إنّ المعرض عن شي ء يدير وجهه إلى جانب أو ناحية اخرى.

تشير الآية الثانية- بعد ذكر هذه النعم الثلاث «العين والأذن والإدراك» التي هي منبع جميع نعم الدنيا والآخرة- إلى إمكان سلب هذه النعم كلّها دفعة واحدة، فتقول: «قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ».

«بغتة»: بمعنى «فجأة» و «جهرة» بمعنى «الظاهر» والعلانية.

والقصد هو أنّ القادر على إنزال مختلف العقوبات، وسلب مختلف النعم هو اللَّه وحده، وإنّ الأصنام لا دور لها في هذا أبداً، لذلك ليس ثمّة ما يدعو إلى اللجوء إليها، لكن اللَّه لحكمته ورحمته لا يعاقب إلّاالظالمين.

الآية الثالثة تشير إلى مركز الأنبياء، فتقول: ليست الأصنام العديمة الروح هي وحدها العاجزة عن القيام بأيّ أمر، فإنّ الأنبياء العظام والقادة الإلهيين أيضاً لا عمل لهم سوى إبلاغ الرسالة والإنذار والتبشير، فكلّ ما هنالك من نعم إنّما هي من اللَّه وبأمره، وأنّهم إن أرادوا شيئاً طلبوه من

اللَّه: «وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشّرِينَ وَمُنْذِرِينَ».

ثم تقول: إنّ طريق النجاة ينحصر في أمرين، فالذين يؤمنون ويصلحون أنفسهم «وَيَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ» فلا خوف عليهم من العقاب الإلهي، ولا حزن على أعمالهم السابقة.

«فَمَنْ ءَامَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 27

أمّا اولئك الذين لا يصدّقون بآياتنا، بل يكذّبون بها فإنّ عقابهم على فسقهم وعصيانهم عذاب من اللَّه: «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بَايَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ».

من الجدير بالإنتباه أنّ الآية ذكرت عقاب الذين يكذبون بآيات اللَّه بعبارة «يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ» فكأنّ هذا العقاب يطاردهم في كل مكان حتى يشملهم بأشدّ ما يكون من العذاب.

قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَ لَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَ الْبَصِيرُ أَ فَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) معرفة الغيب: هذه الآية استمرار للردّ على إعتراضات الكفار والمشركين المختلفة، والرد يشمل ثلاثة أقسام من تلك الإعتراضات في جمل قصيرة:

الأوّل: هو أنّهم كانوا يريدون من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله القيام بمعجزات عجيبة وغريبة، وكان كل واحد يتقدّم باقتراح حسب رغبته، بل إنّهم لم يكونوا يقنعون بمشاهدة معجزات طلبها آخرون، فمرّة كانوا يطلبون بيوتاً من ذهب، ومرّة يريدون هبوط الملائكة، ومرّة يريدون أن تتحوّل أرض مكة القاحلة المحرقة إلى بستان ملي ء بالمياه والفواكه. ولعلهم بطلباتهم الغريبة تلك كانوا يتوقعون أن يكون للنبي مقام الألوهية وإمتلاك الأرض والسماء، فللردّ على هؤلاء يأتي الأمر من اللَّه: «قُلْ لَاأَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ».

يتّضح أنّ «خزائن اللَّه» تشمل مصدر ومنبع جميع الأشياء، وهي تستقي من ذات اللَّه اللامتناهية منبع جميع الكمالات والقدرات.

ثم تردّ الآية على الذين كانوا يريدون من رسول

اللَّه صلى الله عليه و آله أن يكشف لهم عن جميع أسرار المستقبل، بل ويطلعهم على ما ينتظرهم من حوادث لكي يدفعوا الضرر ويستجلبوا النفع، فتقول: «وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ».

في الجملة الثالثة ردّ على الذين كانوا يتصوّرون النبي صلى الله عليه و آله ملكاً، أو أن يصاحبه ملك، وأن لا يتصف بما يتصف به البشر من تناول الطعام والسير في الطرقات، وغير ذلك، فقال:

«وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنّى مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَىَّ».

وفي الختام يؤمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن يقول لهم: هل يمكن للذين يغمضون أعينهم ويغلقون عقولهم عن التفكير أن يكونوا على قدم المساواة مع الذين يرون الحقائق جيداً

مختصر الامثل، ج 2، ص: 28

ويتفهمونها؟ «قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ».

وَ أَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) في ختام الآية السابقة ذكر سبحانه عدم استواء الأعمى بالبصير، وفي هذه الآية يأمر نبيّه أن ينذر الذين يخشون يوم القيامة: «وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَى رَبّهِمْ».

أي إنّ هؤلاء لهم هذا القدر من البصيرة بحيث يحتملون وجود حساب وجزاء، وفي ضوء هذا الاحتمال والخوف من المسؤولية تتولّد فيهم القابلية على التلقّي والقبول.

ثم يقول: إنّ أمثال هؤلاء من ذوي القلوب الواعية يخافون ذلك اليوم الذي ليس فيه غير اللَّه ملجأ ولا شفيع: «لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِىٌّ وَلَا شَفِيعٌ».

نعم، أنذر أمثال هؤلاء الناس وادعهم إلى اللَّه، إذ أنّ الأمل في هدايتهم موجود: «لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ».

وَ لَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ وَ مَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ

الظَّالِمِينَ (52) وَ كَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَ هؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)

سبب النّزول

في تفسير الدرّ المنثور (وتفسير المنار أيضاً): مرّ الملأ من قريش على النبي صلى الله عليه و آله وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمّد! أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أهؤلاء منّ اللَّه عليهم من بيننا؟ أنحن نكون تبعاً لهؤلاء: اطردهم عنك، فلعلك إن طردتهم أن نتبعك، فأنزل اللَّه فيهم القرآن: «وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَى رَبّهِمْ» إلى قوله «أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ».

في تفسير المنار عن عمر بن الخطاب قال: لو فعلت يا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حتى ننظر ما يريدون بقولهم، وما يصبرون إليه من أمرهم فأنزل اللَّه تعالى الآيتان في رفض إقتراحه.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 29

التّفسير

مكافحة التفكير الطبقي: في هذه الآية إشارة إلى واحد من إحتجاجات المشركين، وهو أنّهم كانوا يريدون من النّبي صلى الله عليه و آله أن يقرّ ببعض الإمتيازات لطبقة الأغنياء ويفضّلهم على طبقة الفقراء، إذ كانوا يرون في جلوسهم مع الفقراء من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله منقصة لهم أيّ منقصة! مع أنّ الإسلام كان قد جاء للقضاء على مثل هذه الإمتيازات الزائفة الجوفاء، كانوا يصرّون على هذا الطلب في طرد اولئك عنه، غير أنّ القرآن ردّ هذا الطلب مستنداً إلى أدلة حيّة، فيقول: «وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَوةِ وَالْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» «1».

في الحقيقة كان هؤلاء يستندون في طلبهم ذاك إلى سنّة قديمة خاطئة تقيّم المرء على أساس ثروته، وكانوا يعتقدون أنّ المعايير الطبقية القائمة على أساس الثروة يجب أن تبقى محفوظة، ويرفضون كل

دعوة تستهدف إلغاء هذه القيم والمعايير.

ثم تقول الآية: إنّه ليس ثمّة ما يدعو إلى إبعاد هؤلاء المؤمنين عنك، لأنّ حسابهم ليس عليك، ولا حسابك عليهم: «مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِّن شَىْ ءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَىْ ءٍ». ولكنّك مع ذلك إذا فعلت تكون ظالماً: «فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ».

والمقصود من «الحساب» هنا هو حساب الأعمال. إنّ المشركين كانوا يتهمون أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الفقراء بالإبتعاد عن اللَّه بسبب فقرهم، زاعمين أنّهم لو كانت أعمالهم مقبولة عند اللَّه لزمه الترفيه والتوسعة عليهم في معيشتهم.

فيرد القرآن على ذلك مبيّناً أنّنا حتى لو فرضنا أنّهم كذلك، فإنّ حسابهم على اللَّه، مادام هؤلاء قد آمنوا وأصبحوا في صفوف المسلمين، فلا يجوز طردهم بأيّ ثمن، وبهذا يقف في وجه إحتجاج أشراف قريش.

إمتياز كبير للإسلام: إنّنا نعلم أنّ دائرة صلاحيات رجال الدين المسيحيين المعاصرين قد اتسعت إتساعاً مضحكاً بحيث إنّهم أعطوا أنفسهم حق غفران الذنوب، فبإمكانهم طرد الأشخاص وتكفيرهم أو قبولهم لأتفه الامور. إلّاأنّ القرآن، في هذه الآية وفي آيات اخرى ينفي صراحة أن يكون لأحد الحق، بل ولا لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله نفسه في أن يطرد أحداً أظهر إيمانه ولم يفعل ما يوجب إخراجه من الإسلام، وأنّ غفران الذنوب والحساب بيد اللَّه وحده، ولا يحق لأحد التدخل في هذا أبداً.

______________________________

(1) معنى «الوجه» في اللغة معروف، ولكنّ الكلمة قد تعني «الذات» كما في هذه الآية.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 30

الآية الثانية يحذّر فيها القرآن أصحاب المال والثروة من أنّ هذه الامور اختبار لهم، فإذا لم يجتازوا الامتحان فعليهم أن يتحمّلوا العواقب المؤلمة، فاللَّه يمتحن بعضهم ببعض: «وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ». «الفتنة» تعني هنا الامتحان.

ثم تضيف الآية:

أنّ الأمر يصل بهؤلاء إلى أنّهم ينظرون إلى المؤمنين الصادقين نظرة احتقار «لِّيَقُولُوا أَهؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا».

ثم تجيب الآية على المعترضين مؤكّدة أنّ هؤلاء الأشخاص اناس شكروا نعمة التشخيص الصحيح بالعمل، كما أنّهم شكروا نعمة دعوة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بقبولها، فأيّ نعمة أكبر وأيّ شكر أرفع، ولذلك رسّخ اللَّه الإيمان في قلوبهم: «أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ».

وَ إِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) هذه الآية تبدأ أوّلًا بالطلب من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن لا يطرد المذنبين مهما عظمت ذنوبهم، بل عليه أن يستقبلهم ويتقبلهم: «وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بَايَاتِنَا فَقُلْ سَلمٌ عَلَيْكُمْ».

يحتمل أن يكون هذا السلام من اللَّه بوساطة رسوله أو أنّه من الرسول صلى الله عليه و آله مباشرة، وهو- على كلا الاحتمالين- دليل على القبول والترحيب والتفاهم والمحبة.

ثم تقول الآية: «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ».

«كتب»: تأتي في كثير من الأحيان كناية عن الإلزام والتعهد، إذ إنّ من نتائج الكتابة توكيد الأمر وثبوته.

وفي الجزء الأخير من الآية- وهو توضيح وتفسير لرحمة اللَّه- يتحدّث بلهجة عاطفية:

«أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

إنّ «الجهالة» في مثل هذه المواضع تعني طغيان الشهوة وسيطرتها.

الآية التالية ومن أجل توكيد هذا الموضوع تشير إلى أنّ اللَّه سبحانه يوضّح آياته وأوامره توضيحاً بيّناً لكي يتبيّن طريق الباحثين عنه والمطيعين له، كما يتبيّن طريق الآثمين

مختصر الامثل، ج 2، ص: 31

المعاندين من أعداء اللَّه: «وَكَذلِكَ

نُفَصّلُ الْأَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ» «1».

إنّ «المجرم» هنا هو اولئك المذنبون المعاندون الذين لا يستسلمون للحق. أي بعد هذه الدعوة العامّة إلى اللَّه، التي تشمل حتّى المجرمين النادمين يتّضح بشكل كامل طريق المعاندين الذين لا يرجعون عن عنادهم.

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَ مَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) الإصرار العقيم: ما يزال الخطاب في هذه الآيات موجّهاً إلى المشركين وعبدة الأصنام المعاندين- كدأب معظم آيات هذه السورة- يبدو من سياق هذه الآيات أنّهم دعوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى إعتناق دينهم، الأمر الذي يستدعي نزول الآية: «قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَن أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ».

ثم بجملة «قُل لَّاأَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ» يجيب بوضوح على إصرارهم العقيم، نظراً لأنّ عبادة الأصنام لا تتفق مع المنطق ولا مع الأدلة العقلية.

وفي ختام الآية يؤكد القرآن مرّة اخرى على أنّه إذا فعل ذلك «قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ».

الآية التالية تتضمّن جواباً آخر وهو: «قُلْ إِنّى عَلَى بَيّنَةٍ مِّن رَّبّى وَكَذَّبْتُم بِهِ».

«البيّنة»: أصلًا ما يفصل بين شيئين بحيث لا يكون بينهما تمازج أو اتصال، ثم أطلقت على الدليل والحجة الواضحة، لأنّها تفصل بين الحق والباطل.

______________________________

(1) جملة «ولتستبين» معطوفة على جملة محذوفة تدرك بالقرينة، فيكون المعنى لتستبين سبيل المؤمنين المطيعين ولتستبين سبيل المجرمين.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 32

إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و

آله يؤمر في هذه الآية أن يقول: إنّ دليلي في قضية عبادة اللَّه ومحاربة الأصنام واضح وبيّن، وإنّ تكذيبكم وإنكاركم لا يقللان من صدق الدليل. ثم يشير إلى حجة واهية اخرى من حججهم، وهي أنّهم كانوا يقولون: إن كنت على حق فعلًا فعجّل بالعقاب الذي تتوعدنا به، فيقول لهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ» لأنّ الأعمال والأوامر كلها بيد اللَّه: «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ».

إنّ معنى «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» واضح، أي إنّ كل أمر في عالم الخلق والتكوين وفي عالم الأحكام والتشريع بيد اللَّه، وكذلك كل منصب- بما في ذلك القيادة الإلهية والتحكيم والقضاء- إذا أوكل إلى أحد، فإنّما هو بأمر اللَّه تعالى

وبعد ذلك يقول مؤكّداً: إنّ اللَّه هو الذي «يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ».

الآية التالية تأمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن يقول لهؤلاء الجماعة الملحاحة العنيدة الجاهلة: لو أنّ ما تطلبونه منّي على عجل كان في سعتي وقدرتي، وأجبتكم إليه لانتهى الأمر، ولم يعد بيني وبينكم شي ء: «قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِىَ الْأَمْرُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ».

ولكيلا يظنّوا أنّ عقابهم قد طواه النسيان، يقول في النهاية: «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ» وسوف يعاقبهم في الوقت المناسب.

«يقص»: في اللغة ترد بمعنى القطع، وعلى هذا يكون معنى و «يَقُصُّ الْحَقَّ» إنّ اللَّه يقطع الحق عن الباطل ويفصل بينهما.

وَ عِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَ يَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَ لَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَ لَا رَطْبٍ وَ لَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَ يَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ

ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَ هُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَ هُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) أسرار الغيب: في هذه الآيات يدور الكلام حول علم اللَّه وقدرته وسعة حكمه وأمره،

مختصر الامثل، ج 2، ص: 33

وهي تشرح ما اجملته الآيات السابقة. تشرع الآية في الكلام على علم اللَّه فتقول: «وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَايَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ».

«مفاتح»: جمع «مفتح» (بكسر الميم وفتح التاء) وهو المفتاح.

ثم لتوكيد ذلك أكثر يقول: «وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ».

«البرّ»: كل مكان واسع فسيح، وتطلق على اليابسة؛ و «البحر»: كذلك تعني المحل الواسع الذي يتجمّع فيه الماء، وتطلق على البحار والمحيطات وعلى الأنهر العظيمة أحياناً. فالقول بأنّ اللَّه يعلم ما في البرّ والبحر، كناية عن إحاطته بكل شي ء.

فهو عالم بحركة آلاف الملايين من الكائنات الحيّة، الكبيرة والصغيرة، في أعماق البحار.

وهو عالم بعدد خلايا جسم الإنسان وكريات دمه.

وهو عالم بكل الحركات الغامضة في الإلكترونات في قلب الذّرة.

وهو عالم بكل الأفكار التي تمرّ بتلافيف أدمغتنا حتى أعماق أرواحنا ... نعم إنّه عالم بكل ذلك على حد سواء.

لذلك فإنّه يؤكد ذلك مرّة اخرى فيقول: «وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا». أي إنّه يعلم عدد الأوراق ولحظة إنفصال كل ورقة عن غصنها وطيرانها في الهواء، حتى لحظة استقرارها على الأرض، كل هذا جلي أمام علم اللَّه.

كذلك لا تختفي حبّة بين طيّات التراب إلّاويعلمها اللَّه ويعلم كل تفاصيلها: «وَلَا حَبَّةٍ فِى ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ».

التركيز هنا على نقطتين حسّاستين لا يمكن أن يتوصل إليهما الإنسان حتى لو أمضى

ملايين السنين من عمره يرتقي سلّم الكمال في صنع أجهزته وأدواته المدهشة.

ترى من ذا الذي يستطيع أن يعرف كم تحمل الرياح معها في هبوبها على مختلف أصقاع الأرض في الليل والنهار، من أنواع البذور المنفصلة عن نباتاتها؟

أيّ دماغ الكتروني هذا الذي يستطيع أن يحصي عدد أوراق الشجر التي تسقط كل يوم من أشجار الغابات؟ انظر إلى غابة من الغابات في الخريف، وتطلّع إلى مشهد سقوط الأوراق المتواصل البديع، عندئذٍ تتكشف لك هذه الحقيقة، وهي أنّ علوماً من هذا القبيل لن تكون يوماً في متناول يد الإنسان.

إنّ سقوط الورقة- في الحقيقة- هو لحظة موتها، بينما سقوط البذرة في مكمنها من الأرض

مختصر الامثل، ج 2، ص: 34

هو لحظة بدء حياتها، وما من أحد غير اللَّه يعلم بنظام هذا الموت وهذه الحياة.

إنّ لهذا الموضوع أثراً «فلسفياً» وآخر «تربوياً»: أمّا أثره الفلسفي، فينفي رأي الذين يحصرون علم اللَّه بالكليات، ويعتقدون أنّه لا يعلم عن الجزئيات شيئاً، وفي الآية هنا تأكيد على أنّ اللَّه يعلم الكليات والجزئيات كلها.

أمّا أثره التربوي فواضح، لأنّ الإيمان بهذا العلم الواسع للَّه يقول للإنسان: إنّ جميع أسرار وجودك، وأعمالك، وأقوالك ونيّاتك، وأفكارك كلها بيّنة أمام اللَّه، فإذا آمن الإنسان حقاً بهذا، فكيف يمكن له أن لا يكون رقيباً على نفسه ويسيطر على أعماله وأقواله ونيّاته.

وفي ختام الآية يقول تعالى: «وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ».

في الآية الثانية ينتقل الكلام إلى إحاطة علم اللَّه بأعمال الإنسان وهو الهدف الأصلي وإلى بيان قدرة اللَّه القاهرة، لكي يستنتج الناس من هذا البحث الدروس التربوية اللازمة فتبدأ بالقول بأنّ اللَّه هو الذي يقبض أرواحكم في الليل، ويعلم ما تعملون في النهار: «وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفكُم بِالَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم

بِالنَّهَارِ».

«توفّي»: تعني استرجع، فالقول بأنّ النوم هو استرجاع للروح يعود إلى أنّ النوم أخو الموت، كما هو معروف، فالموت تعطيل كامل لجهاز الدماغ، وانقطاع تام في إرتباط الروح بالجسد، بينما النوم تعطيل قسم من جهاز الدماغ وضعف في هذا الإرتباط، وعليه فالنوم مرحلة صغيرة من مراحل الموت.

«جرحتم»: من «جرح» وهي هنا بمعنى الإكتساب، أي أنّكم تعيشون تحت ظل قدرة اللَّه وعلمه ليلًا ونهاراً، وانّ الذي يعلم بإنفلاق الحبّة ونموها في باطن الأرض، ويعلم بسقوط أوراق الأشجار وموتها في أيّ مكان وزمان، يعلم بأعمالكم أيضاً.

ثم يقول: إنّ نظام النوم واليقظة هذا يتكرر، فأنتم تنامون في الليل «ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى». أي ثم يوقظكم في النهار .. وتستمر هذه العملية حتى نهاية حياتكم.

ويبيّن القرآن النتيجه النهائية لهذا المبحث بالشكل التالي: «ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

وفي الآية الثالثة توضيح أكثر لإحاطة علم اللَّه بأعمال عباده وحفظها بكل دقة ليوم الحساب، بعد أن يسجلها مراقبون مرسلون لإحصاء أعمالهم: «وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 35

«حفظة»: جمع «حافظ» وهم هنا الملائكة الموكّلون بحفظ أعمال الناس.

ثم يبين القرآن الكريم أنّ حفظ الأعمال يستمر حتى نهاية الأعمار وحلول الموت:

«حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَايُفَرّطُونَ».

وتبين الآية في النهاية أنّ هؤلاء الملائكة الذين يحفظون حساب أعمال البشر، فهم في حفظهم للحساب لا يصدر منهم أدنى تقصير أو قصور، والآية تركّز على هذا القسم بالذات.

في الآية الأخيرة يشير القرآن الكريم إلى آخر مراحل عمل الإنسان، فيقول: «ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلهُمُ الْحَقِّ». أي عادوا إلى اللَّه بعد أنّ طووا مرحلة حياتهم، واختتم ملفُّهم الحاوي على كل شي ء.

وفي تلك المحكمة يكون النظر في القضايا

وإصدار الأحكام بيد اللَّه: «أَلَا لَهُ الْحُكْمُ».

وعلى الرغم من كل تلك الأعمال والملفّات المتراكمة عن أفراد البشر طوال تاريخهم الصاخب فإنّ اللَّه سريع في النظر فيها: «وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ».

روي في تفسير مجمع البيان عن أمير المؤمنين على عليه السلام أنّه سُئل كيف يحاسب اللَّه الخلق ولا يرونه؟ قال: كما يرزقهم ولا يرونه. وروي «أنّه سبحانه يحاسب جميع عباده على مقدار حلب شاة». أي إنّ ذلك لا يتجاوز فترة حلب شاة.

قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) النور الذي يضي ء في الظلام: مرّة اخرى يأخذ القرآن بيد المشركين ويتوغّل بهم إلى أعماق فطرتهم، وهناك في تلك الأغوار المحفوفة بالأسرار الغامضة يريهم نور التوحيد وعبادة الواحد الأحد، فيقول للنبي صلى الله عليه و آله قل لهم: «قُل مَن يُنَجّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ».

إنّ الظلام يكون حسياً أحياناً ومعنوياً أحياناً اخرى، الظلام الحسي هو الذي يكون عند انقطاع النور إنقطاعاً تاماً، أو يضعف بحيث لا يرى شي ء، أو يرى بالجهد الجهيد، والظلام المعنوي هو المشاكل والصعوبات ذات النهايات المظلمة الغامضة.

وإذا حدثت في هذا الظلام حوادث واقعية مرعبة، كأن يكون الإنسان مسافراً في البحر،

مختصر الامثل، ج 2، ص: 36

وتحاصره في ليلة ظلماء الأمواج الهائلة والدوامات المائية، فإنّ خوفه من ذلك يكون أضعاف ما لو حدث ذلك بالنهار، في مثل هذه اللحظات ينسى الإنسان كل شي ء ولا يعود يتذكّر شيئاً سوى نفسه، والنور الذي يسطع في أعماقه ويجذبه نحو المبدأ قادر على إزالة ما يعتوره من بلاء وضيق، هذه الحالات تفتح نوافذ على عالم التوحيد ومعرفة

اللَّه، لذلك يقول في أمثال هذه الحالات: «تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً». وتعقدون- وأنتم في تلك الحالة- عهداً وميثاقاً على أنفسكم، وتقولون: «لَّئِنْ أَنْجنَا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ».

ثم تأمر الآية النبي صلى الله عليه و آله أن يخبرهم أنّ اللَّه سوف ينجيهم من هذه ومن غيرها من الأخطار، وقد فعل ذلك من قبل مراراً، ولكنهم بعد زوال الخطر عنهم يعودون إلى طريق الشرك والكفر: «قُلِ اللَّهُ يُنَجّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ».

«الكرب»: في الأصل بمعنى حفر الأرض وقلبها، وكذلك تعني العقدة المحكمة الشد في حبل الدلو، ثم أطلقت بعد ذلك على الغم والهم والحزن التي تقلب قلب الإنسان وتثقل عليه كالعقدة.

قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) ألوان العذاب: في هذه الآية تركيز على التهديد بعذاب اللَّه وعقابه، من أجل إكمال طرق التربية والتهذيب، أي أنّ اللَّه وهو أرحم الراحمين وملجأ اللاجئين، قهار منتقم مقابل الطغاة العصاة، ففي هذه الآية يؤمر الرسول صلى الله عليه و آله بتهديد المجرمين بثلاثة أنواع من العقاب: عذاب من فوق، وعذاب من تحت، وعقاب يتمثل في اختلاف الكلمة والحرب وإراقة الدماء: «قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ».

إنّ مسألة اختلاف الكلمة والتفرّق في المجتمع لا تقل خطورتها عن العذاب السماوي والصواعق والزلازل، وهو كذلك، بل قد يكون الخراب الناشى ء من اختلاف الكلمة والتفرّق أحياناً أشدّ وطأة ودماراً من الزلازل والصواعق، كثيراً ما نلاحظ أنّ دولًا عامرة يصيبها الفناء بسبب النفاق والتفرقة، وهذه

الكلمة تحذير لجميع مسلمي العالم.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 37

وفي الختام تقول الآية: «انظُرْ كَيْفَ نُصَرّفُ الْأَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ». أي انظر كيف نوضّح لهم المعالم والدلائل على أمل أن يفهموا الحقائق ويعودوا إلى اللَّه.

وَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَ هُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) تكمل هاتان الآيتان البحث الذي جرى في الآيات السابقة عن الدعوة إلى اللَّه والمعاد وحقائق الإسلام والخشية من عقاب اللَّه. الآية الاولى: تخبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّ قومه- أي قريش وأهل مكة- لم يصدقوا ما يقول مع أنّه صدق وحق وتؤكده الأدلة العقلية المختلفة والفطرية: «وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ». ثم يصدر الأمر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «قُلْ لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ». أي إنّما أنا رسول ولست أضمن قبولكم.

إنّ المقصود من «وكيل» هو المسؤول عن الهداية العملية للأفراد والضامن لهم.

وفي الآية التالية القصيرة ذات المعنى العميق تحذير لهم، ودعوة إلى إختيار الطريق الصحيح، «لِّكُلّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ». أي أنّ كل خبر أخبركم به الرّسول صلى الله عليه و آله في هذه الدنيا أو في الآخرة موضع ومقر وسوف يتحقق في موعده المقرر وعندئذ ستعرفون ذلك.

وَ إِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَ مَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ وَ لكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «لمّا نزلت «فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذّكْرَىْ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ»، قال المسلمون: كيف نضع إن كان كلما استهزأ المشركون بالقرآن قمنا

وتركناهم فلا ندخل إذاً المسجد الحرام ولا نطوف بالبيت الحرام؟ فأنزل اللَّه سبحانه «وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْ ءٍ»: أمرهم بتذكيرهم وتبصيرهم ما استطاعوا».

التّفسير

إجتناب مجالس أهل الباطل: بما أنّ المواضيع التي تتطرّق إليها هذه السورة تتناول حال المشركين وعبدة الأصنام، فهاتان الآيتان تبحثان عن موضوع آخر من المواضيع التي

مختصر الامثل، ج 2، ص: 38

تتعلق بهم، ففي البداية تقول للرسول صلى الله عليه و آله: «وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءَايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ» «1». ثم تخاطب الآية رسول اللَّه مؤكّدة أهمية الموضوع: «وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطنُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذّكْرَىْ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ». أي إذا أنساك الشيطان هذا الأمر وجلست مع هؤلاء القوم سهواً، فعليك- حالما تنتبه- أن تنهض فوراً وتترك مجالسة الظالمين.

سؤال: هل يمكن للشيطان أن يتسلط على النبي صلى الله عليه و آله ويسبب له النسيان؟

في الإجابة على هذا السؤال يمكن القول بأنّ الخطاب في الآية وإن يكن موجّهاً إلى النبي صلى الله عليه و آله فهو يتحدّث في الواقع مع أتباعه الذين يمكن أن ينسوا فيساهموا في اجتماعات المشركين الآثمة، فهؤلاء عليهم حال إنتباههم إلى ذلك أن يتركوا المكان، أنّ مثل هذا الأسلوب كثير الحدوث في حياتنا اليومية وموجود في مختلف آداب العالم، فأنت قد توجّه الخطاب إلى أحدهم ولكن هدفك هو أن يسمع الآخرون ذلك كما يقول المثل: إيّاك أعني واسمعي يا جارة.

الآية التالية فيها إستثناء واحد، فإذا اشترك بعض المتقين في جلسات هؤلاء المشركين لكي ينهوهم عن المنكر على أمل أن يؤدّي ذلك إلى انصراف اولئك عن الإثم، فلا مانع من ذلك، وأنّ آثام اولئك لا تسجل على هؤلاء، لأنّ قصدهم هو الخدمة والقيام بالواجب:

«وَمَا

عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْ ءٍ وَلكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ».

وينبغي أن نعلم- في الوقت نفسه- إنّ الذين لهم أن يستفيدوا من هذا الاستثناء هم الذين تنطبق عليهم شروط الآية، فيكونون متميزين بالتقوى، وبعدم التأثّر بهم، وبالقدرة على التأثير فيهم.

وَ ذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً وَ غَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَ ذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَ لَا شَفِيعٌ وَ إِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)

______________________________

(1) «الخوض»: كما يقول الراغب الأصفهاني في «مفرداته» هو الدخول في الماء والمرور فيه، ثم استعير للورود في امور اخرى، وأكثر ما ترد في القرآن بشأن الدخول في موضوع باطل لا أساس له.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 39

هذه الآية تواصل ما بحثته الآية السابقة، وتأمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن يدع اولئك الذين يستهينون بأمر دينهم، ويتخذون ممّا يلهون ويلعبون به مذهباً لهم ويغترون بالدنيا وبمتاعها المادي: «وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا».

وتشير هذه الآية إلى أنّ سلوكهم الحياتي من حيث المحتوى أجوف وواه.

إنّ «دينهم» يعني «دين الشرك وعبادة الأصنام» الذي كانوا يدينون به. فالآية لا تخصّ الكفار وحدهم، بل هي تشمل جميع الذين يتخذون من الأحكام الإلهية ومن المقدسات وسائل للتلهي ومل ء الفراغ وبلوغ الأهداف المادية الشخصية، اولئك الذين يجعلون الدين آلة الدنيا، والأحكام الإلهية ألعوبة أغراضهم الخاصة.

ثم يؤمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن ينبّههم إلى أعمالهم هذه وإلى أنّ هناك يوماً لابدّ لهم أن يستسلموا فيه لنتائج أعمالهم ولن يجدوا من ذلك مفرّاً: «وَذَكّرْ

بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ» «1».

يوم لا شفيع ينفع ولا ولي سوى اللَّه: «لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِىٌّ وَلَا شَفِيعٌ».

إنّهم يومئذ في حال صعبة مؤلمة يرزحون في قيود أعمالهم بحيث إنّهم يرتضون أن يدفعوا أيّة غرامة (إن كان عندهم ما يدفعونه) ولكنّها لن تقبل منهم: «وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَّايُؤْخَذْ مِنْهَا» «2».

ذلك لأنّهم يكونون بين مخالب أعمالهم، ولا فدية تنجيهم، ولا توبة تنفعهم بعد أن فات الأوان: «أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا».

ثم يشار إلى جانب ممّا سيصيبهم من العذاب الأليم بسبب إعراضهم عن الحق والحقيقة:

«لَهُمْ شَرَابٌ مِن حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ».

إنّهم يتعذّبون بالماء الحريق من الداخل، ويكتوون بنار الجحيم.

إنّ جملة «أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا» هي بمثابة السبب الذي يمنع من قبول الغرامة ومن قبول أيّ شفيع وولي، أي إنّ عقابهم ليس لعلّة خارجية بحيث يمكن دفعها بشكل من

______________________________

(1) «البسل»: هو حفظ الشي ء ومنعه بالقوّة والقهر، والإبسال حمل المرء على التسليم، كما تطلق الكلمة على الحرمان من الثواب، أو أخذ الرهائن، والجيش الباسل بمعنى القاهر الذي يحمل العدو على التسليم، والمعنى في الآية هو تسليم المرء وخضوعه لأعماله السيئة.

(2) «العدل»: بمعنى «المعادل» وهو ما يدفع جزاءاً وغرامة لقاء التحرر، وهو أشبه في الواقع بما يفتدى به.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 40

الأشكال، بل ينبع من داخل الذات وسلوكها وأعمالها، إنّهم أسرى أعمالهم القبيحة، لذلك لا مفرّ لهم، لأنّ فرار المرء من أعماله وآثارها إنّما هو فرار من ذاته، وهو غير ممكن.

قُلْ أَ نَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَ لَا يَضُرُّنَا وَ نُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا

قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَ أُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَ أَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَ اتَّقُوهُ وَ هُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) كان المشركون يصرّون على دعوة المسلمين إلى العودة إلى الكفر وعبادة الأصنام، فنزلت هذه الآية تأمر النبي صلى الله عليه و آله بالردّ عليهم ردّاً يدحض رأيهم ويفند دعوتهم في جواب بصيغة الاستفهام الإستنكاري: أتريدون منّا أن نشرك مع اللَّه ما لا يملك لنا نفعاً فنعبده لذلك، ولا يملك لنا ضرراً فنخافه: «قُلْ أَنَدْعُوا مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَايَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا».

هذه الآية تشير إلى أنّ أفعال الإنسان تنشأ عادة عن دافعين، فهي إمّا أن تهدف إلى استجلاب منفعة وإمّا إلى دفع ضرر (مادياً كان أم معنوياً).

ثم يأتي باستدلال آخر على بطلان سلوك المشركين، فيقول: إذا عدنا إلى عبادة الأصنام، بعد الهداية الإلهية نكون قد رجعنا القهقرى، وهذا يناقض قانون التكامل الذي هو قانون حياتي عام: «وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَينَا اللَّهُ» «1».

ثم يضرب مثلًا لتوضيح الأمر، فيقول: إنّ الرجوع عن التوحيد إلى الشرك أشبه بالذي أغوته الشياطين (أو غيلان البوادي التي كان عرب الجاهلية يعتقدون أنّها تكمن في منعطفات الطرق وتغوي السابلة وتضلهم عن الطريق) فتاه عن مقصده وظل حيراناً في الباديّة: «كَالَّذِى اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِى الْأَرْضِ حَيْرَانَ» «2». بينما له رفاق يرشدونه إلى

______________________________

(1) «أعقاب»: جمع «عقب» وهو مؤخر الرجل، ورجع على عقبه بمعنى انثنى راجعاً، وهو هنا كناية عن الانحراف عن الهدف، وهو ما يطلق عليه اليوم اسم «الرجعية».

(2) «إستهوته»: من «الهوى وهو ميل النفس إلى الشهوة، واستهوته بمعنى حملته على إتباع الهوى و «الحيرة»: هي التردد في الأمر، وفي الأصل: الجيئة والذهاب، فالآية تشير إلى الذين يذهبون

من الإيمان إلى الشرك مستلهمين تحركاتهم من الشيطان.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 41

الصراط السوي المستقيم وينادونه: هلم إلينا، ولكنه من الحيرة والتيه بحيث لا يسمع النداء، أو إنّه غير قادر على اتخاذ القرار: «لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا».

وفي الختام يؤمر النبي صلى الله عليه و آله أن يقول: إنّ الهداية من اللَّه وليس لنا إلّاأن نسلم لأمر اللَّه ربّ العالمين: «قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ».

وهذا دليل آخر على رفض دين المشركين، إذ التسليم لا يكون إلّالخالق الكون ومالكه وربّ عالم الوجود، لا الأصنام التي لا دور لها في إيجاد هذا العالم وإدارته.

الآية التالية، تواصل شرح الدعوة الإلهية قائلة: إنّنا فضلًا عن التوحيد، فقد أمرنا بإقامة الصلاة وبتقوى اللَّه: «وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَاتَّقُوهُ».

وفي الختام يشار إلى المعاد وإلى أنّ الناس إلى اللَّه يرجعون: «وَهُوَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ».

وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَ لَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) هذه الآية دليل على ما جاء في الآية السابقة، وعلى ضرورة التسليم للَّه وإتّباع رسوله، لذلك تقول: «وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقّ».

إنّ مبدأ عالم الوجود هو وحده الجدير بالعبادة، وهو وحده الذي يجب الخضوع والتسليم له، لأنّه خلق الأشياء لمقاصد حقّة.

ثم يقول: إنّه فضلًا عن كونه مبدع عالم الوجود، فإنّ يوم القيامة أيضاً يقوم بأمره، وإذا ما أصدر أمره بقيام ذلك اليوم فإنّه يتحقق فوراً: «وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ».

ثم يضيف: أنّ ما يقوله اللَّه هو الحق، أي إنّه مثلما كان مبدأ الخلق ذا أهداف ونتائج ومصالح، كذلك سيكون يوم القيامة: «قَوْلُهُ الْحَقُّ».

وفي ذلك اليوم

الذي ينفخ فيه في الصور ويبعث الناس يوم القيامة، يكون الحكم والملك للَّه: «وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِى الصُّورِ».

حكومة اللَّه على عالم الوجود ومالكيته له قائمتان منذ بداية الخلق حتى نهايته وفي يوم

مختصر الامثل، ج 2، ص: 42

القيامة، ولا يختص ذلك بيوم القيامة وحده، لكن هناك عوامل وأسباباً تؤثّر في مسار هذه الدنيا وتقدّمها نحو أهدافها، لذلك قد يغفل الإنسان أحياناً عن وجود اللَّه وراء هذه الأسباب والعوامل، أمّا في ذلك اليوم الذي تتعطل فيه جميع الأسباب والعوامل، فإنّ حكومة اللَّه ومالكيته تكونان أجلى وأوضح من أيّ وقت سابق.

وفي ختام الآية إشارة إلى ثلاث من صفات اللَّه تعالى، فهو: «عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ». أي إنّه بمقتضى صفة العلم المطلق عالم بأعمال عباده، وبمقتضى قدرته وحكمته يجازي كلًّا بما يستحقه.

وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَ تَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَ قَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) لمّا كانت هذه السورة تحارب الشرك وعبادة الأصنام تستخدم هنا حكاية إبراهيم.

يقول: إنّ إبراهيم وبّخ أباه (عمّه) قائلًا: أتختار هذه الأصنام الحقيرة التي لا حياة فيها آلهة للعبادة: «وَإِذْ قَالَ إِبْرهِيمُ لِأَبِيهِ ءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا ءَالِهَةً إِنّى أَرَيكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَللٍ مُّبِينٍ».

وأيّ ضلال أشدّ وأوضح من أن يجعل الإنسان ما يخلقه بيده إلهاً يعبده، ويتخذ من كائن جامد لا روح فيه ولا إحساس ملجأ يفزع إليه ويبحث عن حلّ مشاكله عنده.

هل كان آزر أبا إبراهيم؟ تطلق كلمة «الأب» في العربية على الوالد غالباً، ولكنها قد تطلق أيضاً على الجد من جهة الام وعلى العم، وكذلك على المربي والمعلم والذين يساهمون بشكل ما في تربية الإنسان.

وقد وردت في القرآن كلمة «أب» بمعنى العم، كما في الآية (133) من سورة

البقرة:

«قَالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ ءَابَائِكَ إِبْرهِيمَ وَإِسْمعِيلَ وَإِسْحقَ إِلهًا وَاحِدًا».

والضمير في «قالوا» يعود على أبناء يعقوب وكان إسماعيل عم يعقوب لا أباه.

الطبري ينقل في تفسيره جامع البيان عن مجاهد قال: ليس آزر أبا إبراهيم.

وفي تفسير روح المعاني: أنّ آزر اسم عم إبراهيم، والعم والجد يسميان أبا مجازاً.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 43

وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هذَا رَبِّي هذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ حَنِيفاً وَ مَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) أدلة التوحيد في السماوات: على أثر الكره الذي كان يحمله إبراهيم للأوثان وطلبه من آزر أن يترك عبادة الأصنام، تشير هذه الآيات إلى نضال إبراهيم المنطقي مع مختلف عبدة الأصنام، وتبين كيفية توصله إلى أصل التوحيد عن طريق الاستدلال العقلي الواضح. تبين أوّلًا أنّ اللَّه كما عرّف إبراهيم على أضرار عبادة الأصنام عرّفه على مالكية اللَّه وسلطته المطلقة على السماوات والأرض: «وَكَذلِكَ نُرِى إِبْرهِيمَ مَلَكُوتَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

«الملكوت»: من «ملك» بمعنى المالكية والحكم، فالمقصود من الكلمة هنا حكومة اللَّه المطلقة على عالم الوجود برمّته.

وكما أنّه في الختام يقول: إنّ الهدف من ذلك هو أن يصبح إبراهيم من أهل اليقين «وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ».

لا شك أنّ إبراهيم كان موقناً يقيناً استدلالياً وفطرياً بواحدانية اللَّه، ولكنه بدراسة أسرار الخلق بلغ يقينه حدّ الكمال.

الآيات التالية تشرح هذا المعنى،

وتبين استدلال إبراهيم من افول الكواكب والشمس على عدم الوهيتها، فعندما غطّى ستار الليل المظلم العالم كله، ظهر أمام بصره كوكب لامع، فنادى إبراهيم: هذا ربي! ولكنه إذ رآه يغرب، قال: لا أحب الذين يغربون: «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَءَا كَوْكَبًا قَالَ هذَا رَبّى فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَاأُحِبُّ الْأَفِلِينَ».

ومرّة اخرى رفع عينيه إلى السماء فلاح له قرص القمر الفضّي ذو الإشعاع واللمعان الجذاب على أديم السماء، فصاح ثانية: هذا ربي: ولكن مصير القمر لم يكن بأفضل من مصير الكوكب قبله، فقد أخفى وجهه خلف طيّات الافق.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 44

هنا قال إبراهيم: إذا لم يرشدني ربي إلى الطريق الموصل إليه فسأكون في عداد التائهين «فَلَمَّا رَءَا الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هذَا رَبّى فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالّينَ». عند ذاك كان الليل قد انقضى، وراح يجمع أطراف أستاره المظلمة هارباً من كبد السماء، بينما راحت الشمس تطل من المشرق وتلقي بأشعتها الجميلة كنسيج ذهبي تنشره على الجبل والوادي والصحراء، وما أن وقعت عين إبراهيم الباحث عن الحقيقة على قرص الشمس الساطع صاح: هذا ربّي فإنّه أكبر وأقوى ضوءاً، ولكنه إذ رآها كذلك تغرب وتختفي في جوف الليل البهيم أعلن إبراهيم قراره النهائي قائلًا: يا قوم! لقد سئمت كل هذه المعبودات المصطنعة التي تجعلونها شريكة للَّه: «فَلَمَّا رَءَا الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هذَا رَبّى هذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنّى بَرِى ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ».

الآن بعد أن عرفت أنّ وراء هذه المخلوقات المتغيرة المحدودة الخاضعة لقوانين الطبيعة إلهاً قادراً وحاكماً على نظام الكائنات، فانّي أتجه إلى الذي خلق السماوات والأرض، وفي إيماني هذا لن أشرك به أحداً، فإنّي موحد ولست مشركاً: «إِنّى وَجَّهْتُ

وَجْهِىَ لِلَّذى فَطَرَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ».

إنّ تفسير هذه الآية والآيات التالية بشأن ما دفع بإبراهيم الموحد العابد للَّه الواحد، أن يشير إلى كوكب في السماء ويقول: هذا ربّي؟

فإنّه عندما يقول: «هذَا رَبّى» لا يقولها قاطعاً جازماً، بل يقولها من باب الفرض والاحتمال حتى يفكّر في الأمر. أو أنّه قال «هذَا رَبّى» تعني: هذا ما تعتقدون أنّه ربي.

وَ حَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَ تُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَ قَدْ هَدَانِ وَ لَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً أَ فَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَ كَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَ لَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَ تِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)

مختصر الامثل، ج 2، ص: 45

تشير هذه الآيات إلى ما دار بين إبراهيم والأقوام المشركة من عبدة الأصنام، الذين بدأوه بالمحاجة «وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ».

فردّ عليهم إبراهيم عليه السلام قائلًا: لماذا تجادلونني في اللَّه الواحد الأحد وتخالفونني فيه، وهو الذي وهبني من الدلائل المنطقية الساطعة ما هداني به إلى طريق التوحيد «قَالَ أَتُحَاجُّونِّى فِى اللَّهِ وَقَدْ هَدَينِ».

يتّضح في هذه الآية بجلاء أنّ قوم إبراهيم المشركين من عبدة الأصنام كانوا يحاولون جهدهم وبأيّ ثمن أن يبعدوا إبراهيم عن عقيدته، قد حذّروه وهددوه بغضب آلهتهم وعقابها في محاولة لإرعابه وإخافته، لأنّنا على أثر ذلك نسمع إبراهيم يستهين بتهديدهم ويؤكد لهم أنّه لا يخشى أصنامهم التي لا حول لها ولا قوة في إيصال أيّ أذى إليه «وَلَا

أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ ...» فما من أحد ولا من شي ء بقادر على أن يلحق بي ضرراً إلّاإذا شاء اللَّه:

«إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبّى شَيًا».

يظهر من هذه الآية أنّ إبراهيم عليه السلام سعى لإتخاذ إجراء وقائي تجاه حوادث محتملة، فيؤكّد أنّه إذا أصابه في هذا الصراع شي ء- فرضاً- فلن يكون لذلك أيّ علاقة بالأصنام، بل يعود إلى إرادة اللَّه.

ويضيف إلى ذلك مبيّناً أنّ ربّه على درجة من سعة العلم بحيث يسع علمه كل شي ء:

«وَسِعَ رَبّى كُلَّ شَىْ ءٍ عِلْمًا».

ثم يحرّك فيهم روح البحث والتفكير فيخاطبهم قائلًا: «أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ».

في الآية التالية ينهج إبراهيم منطقاً استدلالياً آخر، فيقول لعبدة الأصنام: كيف يمكنني أن أخشى الأصنام ويستولي عليّ الخوف من تهديدكم، مع إنّي لا أرى في أصنامكم أثراً للعقل والإدراك والشعور والقوة والعلم، أمّا أنتم فعلى الرغم من إيمانكم بوجود اللَّه وإقراركم له بالعلم والقدرة، ومعرفتكم بأنّه لم يأمركم بعبادة هذه الأصنام، فانّكم لا تخافون غضبه:

«وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا» «1».

كونوا منصفين إذن وقولوا:

«فَأَىُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ».

______________________________

(1) «السلطان»: بمعنى التفوّق والإنتصار، ولمّا كان الدليل والبرهان من أسباب الفوز والإنتصار، فقد يوصفان بالسلطان أيضاً، كما هو الحال هنا، أي لا وجود لأيّ دليل على السماح.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 46

يستند منطق إبراهيم عليه السلام هنا إلى منطق العقل القائم على الواقع، إنّكم تهددونني بغضب الأصنام، مع أنّ تأثيرها وهمٌ من الأوهام، ولكنّكم بعدم خشيتكم من اللَّه العظيم الذي نؤمن به جميعاً، ونعتقد بوجوب اتباع أمره تكونون قد تركتم أمراً ثابتاً، وتمسكتم بأمر وهمي، ولم يصدر اللَّه تعالى إلينا أمراً بعبادة الأصنام.

في الآية التالية جواب يدلي به إبراهيم على سؤال كان

هو قد ألقاه في الآية السابقة (وهذا أسلوب من أساليب الاستدلال العلمي، فقد يسأل المتكلم سؤالًا عن لسان المخاطب ثم يبادر إلى الإجابة عليه مباشرة كدليل على أنّ الجواب من الوضوح بحيث ينبغي أن يعرفه كل شخص). يقول: إنّ المؤمنين الذين لم يمزجوا إيمانهم بظلم، هم الآمنون وهم المهتدون «الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ».

الآية التالية فيها إشارة إجمالية لما مضى من بحث بشأن التوحيد ومجابهة الشرك كما جاء على لسان إبراهيم، فتقول: «وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءَاتَيْنهَا إِبْرهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ».

ثم تقول الآية: «نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ». ولكيلا يخامر بعضهم الشك في أنّ اللَّه يحابي في إعطاء الدرجات لمن يشاء، تقول: إنّ اللَّه متصف بالحكمة وبالعلم، فلا يمكن أن يرفع درجة من لا يستحق ذلك: «إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ».

وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَ نُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَ سُلَيْمَانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسَى وَ هَارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيَى وَ عِيسَى وَ إِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَ إِسْمَاعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَ مِنْ آبَائِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ إِخْوَانِهِمْ وَ اجْتَبَيْنَاهُمْ وَ هَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) في هذه الآيات إشارة إلى النعم التي اسبغها اللَّه على إبراهيم، وهي تتمثل في أبناء صالحين وذرية لائقة، وهي من النعم الإلهية العظيمة. يقول سبحانه: «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحقَ وَيَعْقُوبَ».

ثم يبيّن أنّ مكانة هذين لم تكن لمجرد كونهما ولدي نبي، بل لإشعاع نور الهداية في قلبيهما نتيجة التفكير السليم والعمل الصالح: «كُلًّا هَدَيْنَا».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 47

ثم لكيلا يتصور أحد أنّه لم

يكن هناك من يحمل لواء التوحيد قبل إبراهيم، وأنّ التوحيد بدأ بإبراهيم، يقول: «وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ».

فالإشارة إلى مكانة نوح، وهو من أجداد إبراهيم، والإشارة إلى فريق من الأنبياء من أبنائه وقبيلته، إنّما هي توكيد لمكانة إبراهيم المتميزة من حيث «الوراثة والأصل» و «الذرية».

وعلى أثر ذلك ترد أسماء عدد من الأنبياء من اسرة إبراهيم: «وَمِن ذُرّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهرُونَ». ثم يبيّن أنّ منزلة هؤلاء ناشئة من أعمالهم الصالحة وهم لذلك ينالون جزاءهم: «وَكَذلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ».

في الآية الثانية يرد ذكر زكريّا ويحيى وعيسى والياس على أنّهم جميعاً كانوا من الصالحين. أي إنّ مكانتهم المرموقة ليست من باب المجاملة الإجبارية، بل هي بسبب أعمالهم الصالحة في سبيل اللَّه: «وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ».

الآية الثالثة تذكر أربعة آخرين من الأنبياء والقادة الإلهيين، وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط الذين رفعهم ربهم درجات على أهل زمانهم: «وَإِسْمعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ».

وفي الآية الأخيرة إشارة عامة إلى آباء الأنبياء المذكورين وأبنائهم وإخوانهم ممن لم ترد أسماؤهم بالتفصيل وهم جميعاً من الصالحين الذين هداهم اللَّه: «وَمِنْ ءَابَائِهِمْ وَذُرّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ».

ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) ثلاثة إمتيازات مهمة: بعد ذكر مجموعات الأنبياء في الآيات السابقة، تتناول هذه الآيات الخطوط العامة لحياتهم، وتبدأ القول: «ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ

عِبَادِهِ».

ولكيلا يحسب البعض أنّ هؤلاء قد أجبروا على السير في هذا الطريق، أو يظن أنّ اللَّه

مختصر الامثل، ج 2، ص: 48

ينظر إلى هؤلاء نظرة خاصة وإستثنائية دونما سبب، يقول القرآن عنهم: «وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ». فهم إذن مشمولون بهذا القانون الإلهي الذي يسري على غيرهم بغير محاباة.

الآية التالية تشير إلى ثلاثة إمتيازات مهمة هي أساس جميع إمتيازات الأنبياء، وهي قوله: «أُولئِكَ الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ».

إنّ الحكم أصلًا هو المنع، ومن ذلك العقل الذي يمنع من وقوع الأخطاء والمخالفات، وكذلك القضاء الصحيح يمنع من وقوع الظلم، والحكومة العادلة تقف بوجه الحكومات غير العادلة، فهي قد استعملت في المعاني الثلاثة.

ثم يقول: لئن رفضت هذه الجماعة (أي المشركون وأهل مكة) تلك الحقائق، فإنّ دعوتك لن تبقى بغير إستجابة، إذ إنّنا قد أمرنا جمعاً آخر، لا بقبولها فحسب، بل وبالحفاظ عليها فهم لا يسلكون طريق الكفر أبداً، بل يتبعون الحق: «فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ».

جاء في تفسير المنار وتفسير روح المعاني عن بعض المفسرين أنّ المقصود بالقوم هم الفرس، وقد أسرعوا في قبول الإسلام وجاهدوا في سبيل نشره، وظهر فيهم العلماء في شتى العلوم والفنون الإسلامية وألّفوا الكثير من الكتب.

الآية الأخيرة تجعل من منهاج هؤلاء الأنبياء العظام قدوة رفيعة للهداية تعرض على رسول الخاتم صلى الله عليه و آله فتقول له: «أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَيهُمُ اقْتَدِهْ».

تؤكد هذه الآية مرّة اخرى على أنّ اصول الدعوة التي قام بها الأنبياء واحدة.

إنّ للهداية معنى واسعاً يشمل التوحيد وسائر الاصول العقائدية، كما يشمل الصبر والثبات وسائر الاصول الأخلاقية والتربوية.

ثم يؤمر النبي صلى الله عليه و آله أن يقول للناس إنّه مثل سائر

الأنبياء لا يتقاضى أجراً لقاء عملية تبليغ الرسالة: «قُل لَّاأَسَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا».

ثم إنّ هذا القرآن وهذه الرسالة والهداية إن هي إلّاإيقاظ وتوعية للناس جميعاً: «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ».

إنّ النعم العامة الشاملة مثل نور الشمس والهواء والأمطار هي امور عامة وعالمية، لا تباع ولا تشترى، ولا أجر يعطى لقاءها.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 49

وَ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَ هُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَ تُخْفُونَ كَثِيراً وَ عُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس: إنّ اليهود قالت يا محمّد! أنزل اللَّه عليك كتاباً؟

قال: «نعم». قالوا: واللَّه ما أنزل اللَّه من السماء كتاباً.

التّفسير

يبدو من سبب النزول وسياق الآية انّها بشأن اليهود لا المشركين، لذلك يرى بعضهم أنّ هذه الآية قد نزلت في المدينة، إلّاأنّها وضعت في هذه السورة المكية بأمر من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولهذا في القرآن ما يشابهه. في البداية تقول الآية: إنّهم لم يعرفوا اللَّه معرفة صحيحة وأنكروا نزول كتاب سماوي على أحد: «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مّن شَىْ ءٍ». فيأمر اللَّه رسوله أن «قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لّلنَّاسِ».

ذلك الكتاب الذي جعلتموه صحائف متناثرة، تظهرون منه ما ينفعكم وتخفون ما تظنونه يضرّكم: «تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا».

إنّكم تتعلمون من هذا الكتاب السماوي اموراً كثيرة لم تكونوا أنتم ولا أباؤكم تعلمون عنها شيئاً: «وَعُلّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا ءَابَاؤُكُمْ».

وفي ختام الآية

يؤمر النبي صلى الله عليه و آله أن يذكر اللَّه وأن يترك اولئك في أباطيلهم وعنادهم ولعبهم: «قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ».

وَ هذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَ مَنْ حَوْلَهَا وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) تعقيباً على البحث الذي دار في الآيات السابقة حول كتاب اليهود السماوي، تشير هذه الآية إلى القرآن باعتباره كتاباً سماوياً آخر، والواقع أنّ ذكر التوراة مقدمة لذكر القرآن لإزالة كل عجب وتخوّف من نزول كتاب سماوي على فرد من البشر، فتبدأ بالقول: «وَهذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ». وهو كتاب «مبارك» لأنّه مصدر كل خير وبركة وصلاح وتقدم، ثم إنّه يؤكد

مختصر الامثل، ج 2، ص: 50

الكتب التي نزلت قبله: «مُّصَدّقُ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ». والمقصود من أنّ القرآن يصدّق الكتب التي بين يديه، هو أنّ جميع الإشارات والإمارات التي وردت فيها تنطبق عليه. وبناءاً على ذلك فصدق القرآن يتجلى في محتواه من جهة، وفي المستندات التاريخية من جهة اخرى.

ثم يبيّن القرآن هدف نزوله وهو توجيه الإنذار والتحذير لُام القرى (مكة) والساكنين حولها وتنبيههم إلى مسؤولياتهم وواجباتهم: «وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا».

وفي الختام تقرر الآية أنّ الذين يعتقدون بيوم القيامة، يوم الحساب والجزاء، سيصدّقون بهذا الكتاب، ويؤدّون فريضة الصلاة ولا يفرّطون فيها: «وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْأَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ».

إنّ اليابسة قد انتشرت من تحت الكعبة وهو ما أطلق عليه اسم «دحو الأرض».

«ومن حولها» أي جميع الناس الذين يسكنون الأرض برمّتها.

نلاحظ في هذه الآية أنّها تشير إلى الصلاة من بين جميع الفرائض الدينية، ونعلم أنّ الصلاة هي مظهر الإرتباط باللَّه، ولذلك كانت أرفع من جميع العبادات منزلة، ويرى

بعضهم أنّه عند نزول هذه الآية كانت العبادة الوحيدة المفروضة حتى ذلك الوقت هي الصلاة.

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ ءٌ وَ مَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَ كُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية، فقيل: نزلت في مسيلمة، حيث ادّعى النبوة إلى قوله «وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْ ءٌ» وقوله «سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ» في عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح، فإنّه كان يكتب الوحي للنبي عليه السلام فكان إذا قال له اكتب عليماً حكيماً، كتب غفوراً رحيماً، وإذا قال له اكتب غفوراً رحيماً كتب عليماً حكيماً، وارتدّ ولحق بمكة، وقال إنّي مثل ما أنزل اللَّه.

هذه الآية، مثل سائر آيات القرآن، نزلت في ظروف خاصة، وهي ذات محتوى عام يشمل كل من إدّعى النبوة وأمثالهم.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 51

التّفسير

في الآيات السابقة مرّت الإشارة إلى مزاعم اليهود الذين أنكروا نزول أي كتاب سماوي على أحد، وفي هذه الآية يدور الكلام على اشخاص آخرين يقفون على الطرف المعاكس تماماً لأولئك، فيزعمون كذباً أنّ الوحي ينزل عليهم.

وتتناول الآية ثلاث جماعات من هؤلاء بالبحث، ففي البداية تقول: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا».

والجماعة الثانية هم الذين يدّعون النبوّة ونزول الوحي عليهم، فلا هم أنبياء، ولا نزل عليهم وحي: «أَوْ قَالَ أُوحِىَ إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْ ءٌ».

والجماعة الثالثة هم الذين أنكروا نبوّة نبي الخاتم صلى الله عليه و آله أو زعموا ساخرين أنّهم

يستطيعون أن يأتوا بمثل آيات القرآن، وهم في ذلك كاذبون ولا قدرة لهم على ذلك: «وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ».

نعم، هؤلاء كلهم ظالمون، بل أظلم الظالمين، فهم ضالون مضلون، فمن أظلم ممن يدّعي لنفسه القيادة الإلهية وليست لديه صلاحية مثل هذا المقام.

ثم تبيّن العقاب الأليم الذي ينتظر أمثال هؤلاء فتقول: «وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ» «1». أي لو أنّك- أيّها النبي- رأيت هؤلاء الظالمين وهم يمرون بشدائد الموت والنزع الأخير، وملائكة قبض الأرواح مادّين أيديهم نحوهم ويقولون لهم: هيّا أخرجوا أرواحكم، لأدركت العذاب الذي ينزل بهم.

عندئذٍ تخبرهم ملائكة العذاب بأنّهم سينالون اليوم عذاباً مذلّاً لأمرين: الأوّل: إنّهم كذبوا على اللَّه، والآخر، إنّهم لم ينصاعوا لآياته: «الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقّ وَكُنتُمْ عَنْ ءَايَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ». «أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ» تعني في الواقع ضرباً من التحقير تبديه الملائكة نحو هؤلاء الظالمين، وإلّا فإنّ إخراج الروح ليس من عمل هؤلاء، بل هو من واجب الملائكة.

______________________________

(1) «الغمرات»: جمع غمرة (على وزن ضربة)، و أصل الغمر إزالة أثر الشى ء، ثم استعملت للماء الكثير الذى يستر وجه الشى ء تماماً، كما تطلق على الشدائد والصعاب التى تغمر المرء.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 52

وَ لَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَ مَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت في النضر بن الحرث بن كلدة، حين قال: سوف يشفع لي اللات والعزى.

التّفسير

الضّالون: أشارت الآية السابقة إلى أحوال الظالمين وهم على شفا الموت، وتنطلق هذه الآية لتتحدث عن

خطاب اللَّه لهم عند الموت أو عند الورود إلى ساحة يوم القيامة، فتبدأ الآية بالقول بأنّهم يأتون يوم القيامة منفردين كما خلقوا منفردين: «وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ».

والأموال التي وهبناها لكم وكنتم تستندون إليها في حياتكم، قد خلّفتموها وراءكم، وجئتم صفر الأيدي: «وَتَرَكْتُم مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ» «1».

ولا نرى معكم تلك الأصنام التي قلتم إنّها سوف تشفع لكم وظننتم أنّها شريكة في تعيين مصائركم «وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكؤُا».

ولكن الواقع أنّ جمعكم قد تبدد، وتقطعت جميع الروابط بينكم: «لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ».

وكل ما ظننتموه وما كنتم تستندون إليه قد تلاشى وضاع: «وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ».

كان المشركون العرب يستندون في حياتهم إلى أشياء ثلاثة: القبيلة أو العشيرة التي كانوا ينتمون إليها، والأموال التي جمعوها لأنفسهم، والأصنام التي اعتبروها شريكة للَّه في تقرير مصير الإنسان وشفيعة لهم عند اللَّه، والآية في كل جملة من جملها الثلاث تشير إلى واحدة من هذه الامور، وإلى أنّها عند الموت تودعه وتتركه وحيداً فريداً.

______________________________

(1) «خوّلناكم»: من «الخول» وهو إعطاء ما يحتاج إلى التعهد والتدبير والإدارة، وهو النعم التي يسبغها اللَّه تعالى على عباده.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 53

ففي ذلك اليوم تنفصم العرى وتنفصل عن البشر كل الإنشدادات المادية والمعبودات الخيالية المصطنعة وجميع ما اصطنعوه لأنفسهم في الحياة الدنيا ليكون سنداً لهم يستعينون به في يوم بؤسهم حيث لا يبقى سوى الشخص وعمله، ويزول كل ما عدا ذلك، أو يضل عنهم بحسب تعبير القرآن، وهو تعبير جميل يوحي بأنّ الشركاء سيكونون إلى درجة من الصغر والحقارة والضياع بحيث إنّهم لا يُروا بالعين.

إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ

فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ حُسْبَاناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) مرّة اخرى يوجّه القرآن الخطاب إلى المشركين، ويشرح لهم دلائل التوحيد في عبارات جذّابة وفي نماذج حيّة من أسرار الكون ونظام الخلق وعجائبه.

في الآية الاولى يشير إلى ثلاثة أنواع من عجائب الأرض، وفي الآية الثانية يشير إلى ثلاثة من الظواهر السماوية. يقول القرآن الكريم أوّلًا: «إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبّ وَالنَّوَى .

«الفلق»: شقّ الشي ء وإبانة بعضه عن بعض. و «الحب» و «الحبة»: تقال لأنواع الحبوب الغذائية كالحنطة والشعير ونحوهما من المطعومات التي تحصد، كما يقال ذلك لبروز الرياحين أيضاً. و «النوى»: من النّواة.

وممّا يلفت الإنتباه أنّ الحبّة والنّواة غالباً ما تكونان صلبتين، فنظرة إلى نوى التمر والخوخ وأمثالهما، وإلى بعض الحبوب الصلبة، تكشف لنا أنّ تلك النطفة الحياتية التي هي في الواقع صغيرة، محصنة بقلعة مستحكمة تحيط بها من كل جانب، وأنّ يد الخالق قد أعطت لهذه القلعة العصية على الإختراق خاصية التسليم والليونة أمام إختراق نطفة النبات، كما منحت النطفة قوة إندفاع تُمكّنها من فلق جدران قلعتها فتطلع النبتة بقامتها المديدة، هذه حقّاً حادثة عجيبة في عالم النبات لذلك يشير إليها القرآن على أنّها من دلائل التوحيد.

ثم يقول: «يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيّتِ مِنَ الْحَىّ».

إنّ موضوع الحياة والموت بالنسبة للكائنات الحيّة من أعقد المسائل التي لم تستطيع العلوم البشرية الوصول إلى كنه حقيقتها ورفع الستار عن أسرارها لتخطو إلى أعماق

مختصر الامثل، ج 2، ص: 54

مجهولاتها، ولتعرف كيف يمكن لعناصر الطبيعة وموادها الجامدة أن تطفر طفرة عظيمة فتتحوّل إلى كائنات حيّة. لذلك نجد القرآن- وفي معرض إثبات وجود اللَّه- كثيراً ما يكرر هذا الموضوع، كما يستدل

أنبياء عظام كإبراهيم وموسى، على وجود مبدأ قادر حكيم بمسألة الحياة والموت لإقناع جبابرة طغاة مثل نمرود وفرعون.

وفي ختام الآية توكيد للموضوع: «ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ». أي هذا هو ربّكم وهذه هي قدرته وعلمه اللامتناهي، فكيف بعد هذا تنحرفون عن الحق وتميلون إلى الباطل.

في الآية الثانية يشير القرآن إلى ثلاث نعم سماوية: فيقول أوّلًا: «فَالِقُ الْإِصْبَاحِ».

كثيراً ما يشير القرآن إلى نعمتي النّور والظلام والليل والنهار، ولكنّه هنا يتناول «طلوع الصبح» كنعمة من نعم اللَّه الكبرى، فنحن نعرف أنّ هذه الظاهرة تحدث لوجود جوّ الأرض، ذلك الغلاف الضخم من الهواء الذي يحيط بالأرض، فلو كانت الأرض- مثل القمر- عديمة الجو، لما كان هناك «طلوعان» ولا «فلق» ولا «إصباح» ولا «غسق» ولا «شفق» غير أنّ الجو الموجود حول الأرض والمؤدّي إلى حصول فترة فاصلة بين ظلام الليل وضياء النهار عند طلوع الشمس وغروبها يهيّى ء الإنسان تدريجياً لتقبّل هذين الاختلافين المتضادين والإنتقال من الظلمة إلى النور، ومن النور إلى الظلمة، شيئاً فشيئاً، بحيث إنّه يستطيع أن يتحمّل كل منهما.

ولكيلا يظن أحد أنّ فلق الصبح دليل على أنّ ظلال الليل أمر غير مطلوب وأنّه عقاب أو سلب نعمة، يبادر القرآن إلى القول: «وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَنًا».

من الامور المسلم بها أنّ الإنسان يميل خلال انتشار النور والضياء إلى العمل وبذل الجهد، ويتّجه الدم نحو سطح الجسم وتتهيّأ العضلات للفعالية والنشاط، ولذلك لا يكون النوم في الضوء مريحاً، بل يكون أعمق وأكثر راحة كلّما كان الظلام أشد، حيث يتّجه الدم فيه نحو الداخل، وتدخل الخلايا عموماً في نوع من السكون والراحة، لذلك نجد في الطبيعة أنّ النوم في الليل لا يقتصر على الحيوانات فقط، بل إنّ النباتات تنام في الليل أيضاً، وعند

بزوغ خيوط الصباح الأولى تشرع بفعاليتها ونشاطها، بعكس الإنسان في هذا العصر الآلي، فهو يبقى مستيقظاً إلى ما بعد منتصف الليل، ثم يظل نائماً حتى بعد ساعات من طلوع الشمس، فيفقد بذلك نشاطه وسلامته.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 55

ثم يشير اللَّه تعالى إلى الثالثة من نعمه ودلائل عظمته بجعل الشمس والقمر وسيلة للحساب: «وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا».

إنّه لموضوع مهم جدّاً أن تكون الأرض منذ ملايين السنين تدور حول الشمس، والقمر يدور حول الأرض، أنّ حساب هذا الدوران من الدقّة والضبط بحيث إنّه لا يتقدّم ولا يتأخر لحظة واحدة.

وهذا ما لا يمكن أن يكون إلّافي ظل علم وقدرة لا نهائيتين يضعان تخطيطه وينفذانه بدقة، لذلك تنتهي الآية بقولها: «ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ».

بعد شرح نظام دوران الشمس والقمر في الآية السابقة، تشير هذه الآية إلى نعمة اخرى من نعم اللَّه على البشر، فجعل النجوم ليهتدي بها الانسان في ليالي البر والبحر: «وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِى ظُلُمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ».

وتختتم الآية بالقول بأنّ اللَّه قد بيّن آياته لأهل الفكر والفهم والإدراك: «قَدْ فَصَّلْنَا الْأَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ».

منذ آلاف السنين والإنسان يعرف النجوم في السماء ونظامها، بحيث كانت له هذه النجوم خير وسيلة لمعرفة الإتجاه في الأسفار البرية والبحرية، وعلى الأخص في المحيطات الواسعة التي كانت تخلو من كل إمارة تشير إلى الإتجاه قبل إختراع الإسطرلاب.

إنّ النجوم هي التي هدت ملايين البشر وأنقذتهم من الغرق وأوصلتهم إلى برّ السلامة.

وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْ ءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَ مِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ

دَانِيَةٌ وَ جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَ غَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَ يَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)

مختصر الامثل، ج 2، ص: 56

هاتان الآيتان تتابعان دلائل التوحيد ومعرفة اللَّه، وللوصول إلى هذا الهدف يأخذ القرآن بيد الإنسان ويسيح به في آفاق العالم البعيدة وقد يسير به في داخل ذاته ويبيّن له آثار اللَّه في جسمه وروحه، فيتيح له أن يرى اللَّه في كل مكان. فيبدأ بالقول: «وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَكُم مّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ». أي إنّكم، على اختلاف ملامحكم وأذواقكم وأفكاركم والتباين الكبير في مختلف جوانب حياتكم، قد خلقتم من فرد واحد، وهذا دليل على منتهى عظمة الخالق وقدرته التي أوجدت من المثال الأوّل كل هذه الوجوه المتباينة.

ثم يقول: إنّ فريقاً من البشر «مستقر» وفريقاً آخر «مستودع» «فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ».

«المستقر»: أصله من «القُر» (بضم القاف) بمعنى البرد، ويقتضي السكون والتوقف عن الحركة، فمعنى «مستقر» هو الثابت المكين.

و «مستودع»: من «ودع» بمعنى ترك، كما تستعمل بمعنى غير المستقر، والوديعة هي التي يجب أن تترك عند من أودعت عنده لتعود إلى صاحبها.

يتّضح من هذا الكلام أنّ الآية تعني أنّ الناس بعض «مستقر» أي ثابت، وبعض «مستودع» أي غير ثابت. يحتمل أن يكون هذان التعبيران إشارة إلى الجزئين الأولين في تركيب نطفة الإنسان، إنّ النطفة تتركب من جزئين: الأوّل هو «البويضة» من الانثى، والثاني هو «الحيمن» أو «المني» من الذكر، فالبويضة في رحم الانثى تكاد تكون مستقر ولكن حيمن الذكر حيوان حي يتحرك بسرعة نحوها، وما أن يصل أوّل حيمن إلى البويضة حتى يمتزج بها و «يخصبها» ويصد (الحيامن) الاخرى، ومن هذين الجزئين تتكون بذرة الإنسان الأولى

وفي ختام الآية يعود فيقول: «قَدْ

فَصَّلْنَا الْأَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ».

الآية الثانية هي آخر آية في هذه المجموعة التي تكشف لنا عن عجائب عالم الخلق وتهدينا إلى معرفة اللَّه بمعرفة مخلوقاته. في البداية تشير الآية إلى واحدة من أهم نعم اللَّه التي يمكن أن تعتبر النعمة الام وأصل النعم الاخرى، وهي ظهور النباتات ونموها بفضل النعمة التي نزلت من السماء: «وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً».

وإنّما قال (من السماء) لأنّ سماء كل شي ء أعلاه، فكل ما في الأرض من مياه العيون والآبار والأنهار والقنوات وغيرها منشؤها الأمطار من السماء، وقلّة الأمطار تؤثّر في كمية المياه في تلك المصادر كلها، وإذا استمر الجفاف جفّت تلك المنابع، أيضاً.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 57

ثم تشير إلى أثر نزول الأمطار البارز: «فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَىْ ءٍ».

المقصود من «نَبَاتَ كُلّ شَىْ ءٍ» هو كل أنواع النباتات وأصنافها التي تسقى من ماء واحد، وتنبت في أرض واحدة وتتغذّى من تربة واحدة، وأنّه لمن العجيب أنّ اللَّه تعالى يخرج من أرض واحدة وماء واحد الغذاء الذي يحتاجه كل هؤلاء.

والأعجب من كل هذا أنّ نباتات الصحراء واليابسة ليست وحدها التي تنمو ببركة ماء المطر، بل إنّ النباتات المائية الصغيرة التي تطفو على سطح البحر وتكون غذاء للأسماك تنمو بأشعة الشمس وقطرات المطر.

ثم تشرح الآية ذلك وتضرب مثلًا ببعض النباتات التي تنمو بفضل الماء، فتذكر أنّ اللَّه يخرج بالماء سيقان النباتات الخضر من الأرض، ومن تلك الحبّة الصلبة يخلق الساق الأخضر الطري اللطيف الجميل بشكل يعجب الناظرين: «فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا» «1».

ومن ذلك الساق الأخضر أخرجناالحبّ متراصفاً منظماً: «نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا» «2».

وكذلك بالماء نخرج من النخل طلعاً مغلقاً، ثم يتشقق فتخرج الاعذاق بخيوطها الرفيعة الجميلة تحمل حبّات التمر، فتتدلى من ثقلها: «وَمِنَ النَّخْلِ

مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ».

«الطلع»: هو عذق التمر قبل أن ينفتح غلافه الأخضر، وإذ ينفتح الطلع تخرج منه أغصان العذق الرفيعة، وهي القنوان ومفردها قنو. و «دانية»: أي قريبة، وقد يكون ذلك إشارة إلى قرب أغصان العذق من بعضها، أو إلى أنّها تميل نحو الأرض لثقلها.

وكذلك بساتين فيها أنواع الأثمار والفواكه: «وَجَنَّاتٍ مّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ».

ثم تشير الآية إلى واحدة اخرى من روائع الخلق في هذه الأشجار والأثمار، فتقول:

«مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ».

إنّ شجرتي الرمان والزيتون متشابهتان من حيث الشكل الخارجي وتكوين الأغصان وهيئة الأوراق تشابهاً كبيراً، مع أنّهما من حيث الثمر وطعمه وفوائده مختلفتان، ففي الزيتون مادة زيتية قوية الأثر، وفي الرمان مادة حامضية أو سكرية، فهما متباينان تماماً، ومع ذلك فقد تزرع الشجرتان في أرض واحدة، وتشربان من ماء واحد، فهما متشابهتان وغير متشابهتين في آن واحد.

______________________________

(1) كلمة «أخضر» تشمل كل أخضر في النبات، حتّى براعم الأشجار، ولكن بما إنّها متبوعة مباشرة بالحب المتراكب فالمقصود في الآية هو زراعة الحبوب.

(2) «المتراكب»: من الركوب وما ركب بعضه بعضاً، وأكثر الحبوب بهذا الشكل.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 58

ثم تركّز الآية من بين مجموع اجزاء الشجرة، على ثمرة الشجرة وعلى تركيب الثمرة إذا أثمرت، وكذلك على نضج الثمرة إذا نضجت، ففيها دلائل واضحة على قدرة اللَّه وحكمته للمؤمنين من الناس: «انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِى ذلِكُمْ لَأَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».

ما نقرؤه اليوم في علم النبات عن كيفية طلوع الثمرة ونضجها يكشف لنا عن الأهمية الخاصة التي يوليها القرآن للأثمار، إذ إنّ ظهور الثمرة في عالم النبات أشبه بولادة الأبناء في عالم الحيوان، فنطفة الذكر في النبات تخرج من أكياس خاصة بطرق مختلفة (كالرياح أو الحيوانات) وتحط على القسم

الانثوي في النبات، وبعد التلقيح والتركيب تتشكل البيضة الملقحة الاولى، وتحيط بها مواد غذائية مشابهة لتركيبها، وهذه المواد الغذائية تختلف من حيث التركيب وكذلك من حيث الطعم والخواص الغذائية والطبّية. فقد تكون ثمرة (مثل العنب والرمان) فيها مئات من الحبّ، كل حبّة منها تعتبر جنيناً وبذرة لشجرة اخرى، ولها تركيب معقّد عجيب.

هذا من جهة، ومن جهة اخرى فإنّ المراحل المتعددة التي تمرّ بها الثمرة منذ تولدها حتى نضجها تثير الإنتباه، لأنّ «المختبرات» الداخلية في الثمرة لا تنفك عن العمل في تغيير تركيبها الكيمياوي إلى أن تصل إلى المرحلة النهائية ويثبت تركيبها الكيمياوي النهائي، فكل مرحلة من هذه المراحل دليل على عظمة الخالق وقدرته.

ولكن لابدّ من القول- بحسب تعبير القرآن- إنّ المؤمنين الذين يمعنون النظر في هذه الامور هم الذين يرون هذه الحقائق، وإلّا فعين العناد والمكابرة والإهمال والتساهل لا يمكن أن ترى أدنى حقيقة.

وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَ خَلَقَهُمْ وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَ بَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (101) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فَاعْبُدُوهُ وَ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)

مختصر الامثل، ج 2، ص: 59

خالق كل شي ء: هذه الآيات تشير إلى جانب من العقائد السقيمة والخرافات التي يؤمن بها المشركون وأصحاب المذاهب الباطلة، وتردّ عليهم بالمنطق. فأوّلًا: قالوا: إنّ للَّه شركاء من الجن «وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ».

فينكر الإسلام عليهم ذلك، إذ كيف يمكن ذلك وهو الذي خلق الجن: «وَخَلَقَهُمْ». أي

كيف يمكن أن يكون المخلوق شريكاً للخالق، لأنّ الشركة دليل التماثل والتساوي، مع أنّ المخلوق لا يمكن أن يكون في مصاف خالقه أبداً!

الخرافة الاخرى هي قولهم- جهلًا- إنّ للَّه بنين وبنات: «وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ».

أفضل دليل على أنّ هذه العقائد ليست سوى خرافة، هو أنّها تصدر عنهم «بِغَيْرِ عِلْمٍ».

أي إنّهم لا يملكون أيّ دليل على هذه الأوهام.

من الملاحظ أنّ القرآن استعمل لفظة «خرقوا»: من الخرق، وهو تمزيق الشي ء بغير روية ولا حساب، وهي في النقطة المقابلة تماماً «للخلق» القائم على الحساب، هاتان اللفظتان:

«الخلق والخرق» قد تستعملان في حالات الكذب والاختلاق، مع اختلاف بينهما، هو أنّ (الخلق والإختلاق) تستعمل في الأكاذيب المدروسة و (الخرق والإختراق) فيما لا حساب فيه من الكذب. أي إنّهم اختلقوا تلك الأكاذيب دون أن يدرسوا جوانب الموضوع وبدون أن يعدّوا له ما يلزم من الامور.

أمّا الطوائف التي كانت تنسب للَّه البنين، فإنّ القرآن يذكر في آيات اخرى اسم طائفتين من هؤلاء:

الاولى: هم المسيحيون الذين قالوا: إنّ عيسى ابن اللَّه.

والاخرى: هم اليهود الذين قالوا: عزير ابن اللَّه.

يستفاد من الآية (30) من سورة التوبة أنّ المسيحيين واليهود ليسوا وحدهم الذين نسبوا إبناً للَّه، بل كان هذا موجوداً في المعتقدات الخرافية القديمة.

أمّا بشأن نسبة بنات للَّه، فالقرآن نفسه يوضّح ذلك في آيات اخرى: «وَجَعَلُوا الْمَلِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمنِ إِنَاثًا» «1».

والقرآن يرفض تماماً في نهاية الآية كل هذه الخرافات التي لا أساس لها، وبعبارة حاسمة قاطعة: «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ».

______________________________

(1) سورة الزخرف/ 19.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 60

و الآية التالية تردّ على تلك العقائد الخرافية فتؤكد أنّ اللَّه هو ذلك الذي أبدع خلق السموات والأرض: «بَدِيعُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

«البديع»: تعني موجد الشي ء بغير سابق وجود، أى انّ

اللَّه أوجد السماوات والأرض بغير أن يسبق ذلك وجود مادة أو خطة سابقة.

ثم كيف يمكن أن يكون له أبناء دون أن تكون له زوجة؟! «أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ». وما حاجته إلى زوجة؟ ثم من التي تكون زوجته وهم جميعاً مخلوقاته؟

ومرّة اخرى تؤكد الآية مقامه باعتباره خالقاً لكل شي ء، ومحيطاً بكل شي ء: «وَخَلَقَ كُلَّ شَىْ ءٍ وَهُوَ بِكُلّ شىْ ءٍ عَلِيمٌ».

الآية الثالثة تؤكد على سبيل الاستنتاج من كل ما سبق، من ذكر خالقية اللَّه لكل شي ء، وإبداعه السماوات والأرض وإيجادها، وكونه منزّهاً عن الصفات والعوارض الجسمية وعن الحاجة إلى الزوجة والأبناء وإحاطته العلمية بكل شي ء: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلّ شَىْ ءٍ فَاعْبُدُوهُ» فلا يستحق العبودية غيره.

ولكي ينقطع كل أمل بغير اللَّه، وتنقلع كل جذور الشرك والإعتماد على غير اللَّه، تختتم الآية بالقول: «وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ وَكِيلٌ».

الآية الاخيرة من الآيات مورد البحث، ومن أجل إثبات حاكمية اللَّه وإحاطته بكل شي ء وحفاظه على كل شي ء، وكذلك لإثبات أنّه يختلف عن كل شي ء، تقول: «لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ». أي: إنّه الخبير بمصالح عبيده وبحاجاتهم، ويتعامل معهم بمقتضى لطفه.

في الحقيقة أنّ من يريد أن يكون حافظ كل شي ء ومربيه وملجأه لابد أن يتّصف بهذه الصفات.

لا تدركه الأبصار: تثبت الأدلة العقلية أنّ اللَّه لا يمكن أن يرى بالعين، لأنّ العين لا تستطيع أن ترى إلّاالأجسام، أو على الأصح بعضاً من كيفيات الأجسام، فإذا لم يكن الشي ء جسماً ولا كيفية من كيفيات الجسم، لا يمكن أن تراه العين، وبتعبير آخر، إذا أمكنت رؤية شي ء بالعين، فلأنّ لهذا الشي ء حيّزاً واتجاهاً وكتلة، في حين أنّ اللَّه أرفع من أن يتصف بهذه الصفات، فهو

وجود غير محدود وهو أسمى من عالم المادة المحدود في كل شي ء.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 61

قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَ مَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَ كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَ لِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَ لِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَ مَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَ مَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) ليس من واجبك الإكراه: تعتبر هذه الآيات نتيجة للآيات السابقة، ففي البداية تقول:

«قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ».

«بصائر»: جمع «بصيرة» من «البصر» بمعنى الرؤية، ولكنها في الغالب رؤية ذهنية وعقلانية، وهذه الكلمة في هذه الآيات تعني الدليل والشاهد، وتشمل جميع الدلائل التي وردت في الآيات السابقة، بل إنّها تشمل حتى القرآن نفسه.

ثم لكي تبين أنّ هذه الأدلة والبراهين كافية لإظهار الحقيقة لأنّها منطقية، تقول: «فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا». أي إنّ إبصارهم يعود بالنفع عليهم وعماهم يسبب الإضرار بهم.

وفي نهاية الآية تقول، على لسان النبي صلى الله عليه و آله: «وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ».

الآية التالية تؤكد أنّ إتخاذ القرار النهائي في إختيار طريق الحق أو الباطل إنّما يرجع للناس أنفسهم، وتقول: «وَكَذلِكَ نُصَرّفُ الْأَيَاتِ» «1». أي كذلك نبين الأدلة والبراهين بصور وأشكال متنوعة.

لكن جمعاً عارضوا، وقالوا- دونما دليل وبرهان- إنّك تلقيت هذا من الآخرين (أي اليهود والنصارى): «وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ».

إلّا أنّ جمعاً آخر ممن لهم الإستعداد لتقبل الحق لما لهم من بصيرة وفهم وعلم، يرون وجه الحقيقة ويقبلونها: «وَلِنُبَيّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ».

إنّ إتهام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بأنّه إقتبس تعاليمه من اليهود والنصارى قد تكرر من جانب

المشركين، وما يزال المعارضون المعاندون يتابعونهم في ذلك، مع أنّ حياة الجزيرة العربية لم تكن فيها مدرسة ولا درس ليتعلّم منها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله شيئاً كما أنّ رحلاته إلى خارج

______________________________

(1) «نصرف»: من «التصرف» وهو بمعنى ردّ الشي ء من حالة أو إبداله بغيره، أي إنّ الآيات تنزل في صوروأشكال متنوعة ولمختلف المستويات العقلية والعقائدية والاجتماعية.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 62

الجزيرة كانت قصيرة لا تدع مجالًا لمثل هذا الاحتمال، ثم إنّ معلومات اليهود والمسيحيين الذين كانوا يسكنون الحجاز كانت على درجة من التفاهة وتسطير الخرافات بحيث لا يمكن- أصلًا- مقارنتها بما في القرآن ولا بتعاليم الرّسول صلى الله عليه و آله وسنشرح هذا الموضوع- إن شاء اللَّه- عند تفسير الآية (103) من سورة النحل.

ثم تبين الآية واجب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في قبال معاندة المعارضين وحقدهم وإتهاماتهم، فتقول: «اتَّبِعْ مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ». ومن واجبك أيضاً الإعراض عمّا يوجّهه إليك المشركون من إفتراءات: «وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ».

هذا ضرب من التسلية والتقوية المعنوية للنبي صلى الله عليه و آله لكيلا ينتاب عزمه الراسخ الصلب أيّ ضعف في مواجهة أمثال هؤلاء المعارضين.

في الآية الأخيرة يكرر القرآن فيها- مرّة اخرى- القول بأنّ اللَّه لا يريد أن يكره المشركين ويجبرهم على الإسلام، إذ لو أراد ذلك لما كان هناك أيّ مشرك: «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا».

كما يؤكد القول لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إنّك لست مسؤولًا عن أعمال هؤلاء، لأنّك لم تبعث لإكراههم على الإيمان: «وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا». ولا من واجبك حملهم على عمل الخير: «وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ».

«الحفيظ»: هو من يراقب أمراً أو شخصاً ليحفظه من أن

يصاب بضرر؛ أمّا «الوكيل»:

فهو من يسعى لإحراز النفع لموكّله. إنّ الفكرة التي تسود هذه الآيات تستلفت النظر، فهي تقول: إنّ الإيمان باللَّه وبتعاليم الإسلام لا يكون عن طريق الإكراه والإجبار، بل يكون عن طريق المنطق والاستدلال والنفوذ إلى أفكار الناس وأرواحهم، فالإيمان بالإكراه لا قيمة له، لأنّ المهم هو أن يدرك الناس الحقيقة فيتقبّلوها بإرادتهم واختيارهم.

وَ لَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) تناولت الآيات السابقة موضوع قيام تعاليم الإسلام على أساس المنطق، وقيام دعوته على أساس الاستدلال والإقناع لا الإكراه، وهذه الآية تواصل نفس التوجيهات فتنهى عن سبّ ما يعبد الآخرون- أي المشركون- لأنّ هذا سوف يدعوهم إلى أن يعمدوا هم أيضاً- ظلماً وعدواناً وجهلًا- إلى توجيه السب إلى ذات اللَّه المقدسة: «وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 63

يروى أنّ بعض المؤمنين كانوا يتألمون عند رؤيتهم عبادة الأصنام، فيشتمون أحياناً الأصنام أمام المشركين، وقد نهى القرآن نهياً قاطعاً عن ذلك، وأكّد التزام قواعد الأدب واللياقة حتى في التعامل مع أكثر المذاهب بطلاناً وخرافة.

إنّ السبب واضح، فالسّب والشّتم لا يمنعان أحداً من المضي في طريق الخطأ، لأنّ كل امة تتعصّب عادة لعقائدها وأعمالها كما تقول العبارة التالية من الآية: «كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ».

وفي الختام تقول الآية: «ثُمَّ إِلَى رَبّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَ مَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ

أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قالت قريش يا محمّد! تخبرنا أنّ موسى كانت معه عصا يضرب بها الحجر، فينفجر منه إثنتا عشرة عيناً، وتخبرنا أنّ عيسى كان يحيي الموتى، وتخبرنا أنّ ثمود كانت لهم ناقة، فائتنا بآية من الآيات كي نصدّقك! فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «أيّ شي ء تحبّون أن آتيكم به؟» قالوا: اجعل لنا الصفا ذهباً، وابعث لنا بعض موتانا، حتى نسألهم عنك أحق ما تقول أم باطل، وأرنا الملائكة يشهدون لك، أو ائتنا باللَّه والملائكة قبيلًا! فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «فإن فعلت بعض ما تقولون، أتصدّقونني؟» قالوا: نعم، واللَّه لئن فعلت لنتبعنك أجمعين. وسأل المسلمون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا، فقام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يدعو أن يجعل الصفا ذهباً، فجاءه جبرئيل عليه السلام فقال له: «إن شئت أصبح الصفا ذهباً ولكن إن لم يصدّقوا عذّبتهم وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم». فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «بل يتوب تائبهم». فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.

التّفسير

وردت في الآيات السابقة أدلة كثيرة كافية على التوحيد، وردّ الشرك وعبادة الأصنام، ومع ذلك فإنّ فريقاً من المشركين المعاندين المتعصبين لم يرضخوا للحق، وراحوا يعترضون وينتقدون. في الآية الاولى يقول القرآن: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ إِيمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ ءَايَةٌ

مختصر الامثل، ج 2، ص: 64

لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا» «1». وفي الردّ عليهم يشير القرآن إلى حقيقتين: يأمر النبي صلى الله عليه و آله أوّلًا أن يقول لهم: «قُلْ إِنَّمَا الْأَيَاتُ عِندَ اللَّهِ». أي إنّ تحقيق المعجزة لا يكون وفق مشتهياتهم، بل إنّها بيد اللَّه وبأمره.

ثم

يخاطب المسلمين البسطاء الذين تأثّروا بإيمان المشركين فيقول لهم: «وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَايُؤْمِنُونَ». مؤكّداً بذلك أنّ هؤلاء المشركين كاذبون في قسمهم.

كما أنّ مختلف المشاهد التي جرت بينهم وبين رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تؤكد حقيقة أنّهم لم يكونوا يبحثون عن الحق، بل كان هدفهم من كل ذلك أن يشغلوا الناس ويبذروا في نفوسهم الشك والتردد.

الآية التالية تبين سبب عنادهم وتعصبهم، فتقول: «وَنُقَلّبُ أَفِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ». أي إنّهم بإصرارهم على الانحراف والسير في طريق ملتو وتعصبهم الناشي ء عن الجهل ورفض التسليم للحق، أضاعوا قدرتهم على الرؤية الصحيحة والإدراك السليم، فراحوا يعيشون في متاهات الضلال والحيرة.

ثم تشير الآية في الخاتمة إلى أنّ اللَّه، يترك أمثال هؤلاء في حالتهم تلك لكي يشتد ضلالهم وتزداد حيرتهم: «وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ».

نسأل اللَّه أن يجنبنا الإبتلاء بمثل هذا الضلال والحيرة الناتجة عن أعمالنا السيئة، وأن يمنحنا النظرة السليمة الكاملة لكي نرى الحقيقة ناصعة لا غبش عليها.

وَ لَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَ كَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَ حَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ ءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) هذه الآية تتبع سابقاتها في تعقيب الحقيقة نفسها، وهدف هذه الآيات هو بيان كذب اولئك الذين طلبوا تحقيق معجزات عجيبة وغريبة يستحيل تحقق بعضها كما مرّ. فيصرّح القرآن في الآية المذكورة قائلًا: «وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْ ءٍ قُبُلًا مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا».

ثم يؤكد ذلك أنّهم لا يمكن أن يؤمنوا إلّافي حالة واحدة وهي أن يجبرهم اللَّه بإرادته

______________________________

(1) «الجهد»: بمعنى السعي وبذل الطاقة، والمقصود هنا الجهد في توكيد القسم.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 65

على الإيمان: «إِلَّا

أَن يَشَاءَ اللَّهُ» إلّاأنّ إيماناً كهذا لا ينفع في تربيتهم ولا يؤثّر في تكاملهم وفي النهاية يقول: «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ».

وَ كَذلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَ لَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ مَا يَفْتَرُونَ (112) وَ لِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ لِيَرْضَوْهُ وَ لِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) تشير هذه الآية إلى أنّ أمثال هؤلاء المعاندين اللجوجين المتعصبين الذين أشارت إليهم الآيات السابقة، لم يقتصر وجودهم على عهد نبي الخاتم صلى الله عليه و آله بل إنّ الأنبياء السابقين وقف في وجوههم أعداؤهم من شياطين الإنس والجن: «وَكَذلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنّ». لا عمل لهم سوى الكلام المنمّق الخادع يستغفل به بعضهم بعضاً، يلقونه في غموض أو يهمس به بعض لبعض: «يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا».

ولكن: لو أراد اللَّه لمنع هؤلاء بالإكراه عن ذلك ولحال دون وقوف هؤلاء الشياطين وأمثالهم بوجه الأنبياء: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ».

بيد أنّ اللَّه لم يشأ ذلك، لأنّه أراد أن يكون الناس أحراراً، وليكون هناك مجال لاختبارهم وتكاملهم وتربيتهم.

لذلك يأمر اللَّه نبيّه في آخر السورة أن لا يلقى بالًا إلى أمثال هذه الأعمال الشيطانية:

«فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ».

الآية التالية تشير إلى نتيجة كلام الشياطين المزخرف الخادع فتقول: أخيراً سيستمع الذين لا إيمان لهم- أي الذين لا يؤمنون بيوم القيامة- إلى تلك الأقوال وتميل قلوبهم إليها:

«وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفِدَةُ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالْأَخِرَةِ».

ثم يقول: إنّ نهاية هذا الميل هو الرضا التام بالمناهج الشيطانية «وَلِيَرْضَوْهُ».

وختام كل ذلك كان إرتكاب أنواع الذنوب والأعمال القبيحة: «وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُّقْتَرِفُونَ».

أَ فَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ

الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)

مختصر الامثل، ج 2، ص: 66

هذه الآية هي نتيجة الآيات السابقة، إذ تقول: بعد كل تلك الأدلة والآيات الواضحة التي تؤكد التوحيد: «أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِى حَكَمًا». وهو الذي أنزل هذا الكتاب السماوي العظيم الذي فيه كل احتياجات الإنسان التربوية، وما يميّز بين الحق والباطل والنور والظلمة، والكفر والإيمان: «وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا».

وليس الرسول والمسلمون وحدهم يعلمون أنّ هذا الكتاب قد نزل من اللَّه، بل إنّ أهل الكتاب (اليهود والنصارى) يعلمون ذلك أيضاً، لأنّ علائم هذا الكتاب السماوي قرؤوها في كتبهم ويعلمون أنّه نزل من اللَّه بالحق: «وَالَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبّكَ بِالْحَقّ».

وعلى ذلك لم يبق مجال للشك فيه، وكذلك أنت أيّها النبي لا تشك فيه أبداً، «فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ».

الآية التالية تقول: «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّامُبَدّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».

«الكلمة»: بمعنى القول وتطلق على كل جملة وكل كلام مطولًا كان أم موجزاً، أمّا بالنسبة لاستعمالها في هذه الآية إنّها تعني القرآن لأنّ الآيات السابقة كانت تشير إلى القرآن. فيكون معنى الآية إذن: إنّ القرآن ليس موضع شكّ بأيّ شكل من الأشكال، فهو كامل من جميع الجهات ولا عيب فيه، وكل أخباره وما فيه من تواريخ صدق، وكل أحكامه وقوانينه عدل.

ويستند بعض المفسرين إلى هذه الآية لاثبات عدم تحريف القرآن، لأنّ تعبير «لَّامُبَدّلَ لِكَلِمَاتِهِ» تعني أنّ أحداً لا يستطيع أن يحدث في القرآن تبديلًا أو تغييراً، لا في لفظه، ولا في أخباره، ولا في أحكامه، وأنّ هذا الكتاب السماوي

الذي يجب أن يبقى حتى نهاية العالم هادياً للناس سيبقى محفوظاً ومصوناً من أغراض الخائنين والمحرّفين.

وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) نعلم أنّ آيات هذه السورة نزلت في مكّة، يوم كان المسلمون قلّة في العدد، ولعل قلّتهم هذه وكثرة المشركين وعبدة الأصنام كانت مدعاة لتوهّم بعضهم أنّه إذا كان دين اولئك

مختصر الامثل، ج 2، ص: 67

باطلًا فلم كثر أتباعه؟! وإذا كان دين الإسلام حقاً، فما سبب قلّة معتنقيه؟

ولدفع هذا التوهّم يخاطب اللَّه نبيّه بعد ذكر أحقّية القرآن في الآيات السابقة قائلًا: «وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ».

وفي الجملة التالية يبيّن ذلك وهو أنّهم يتبعون الظنون التي تخالطها الأهواء والأكاذيب ويمتزج بها الخداع والتخمين: «إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ».

فيكون مفهوم الآية الشريفة أنّ الأكثرية لا يمكن أن تكون وحدها الدليل على طريق الحق، ومن هذا نستنتج أنّه يجب التوجّه إلى اللَّه وحده لمعرفة طريق الحق، حتى لو كان السائرون في هذا الطريق قلّة في العدد.

والدليل على ذلك يرد في الآية التالية التي تؤكد على أنّ اللَّه عليم بكل شي ء ولا مكان للخطأ في علمه، فهو أعرف بطريق الهداية، كما هو أعرف بالضالين وبالسائرين على طريق الهداية: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ».

فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَ مَا لَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَ إِنَّ كَثِيراً

لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَ ذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَ بَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) الآيات السابقة تناولت بأساليب متنوعة حقيقة التوحيد وإثبات بطلان الشرك وعبادة الأصنام. ومن نتائج ذلك أنّ على المسلمين أن يمتنعوا عن أكل لحوم القرابين التي تذبح باسم الأصنام، بل عليهم أن يأكلوا من لحم ما ذكر اسم اللَّه عليه، لذلك يبدأ القرآن بالقول:

«فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بَايَاتِهِ مُؤْمِنِينَ». أي إنّ الإيمان ليس مجرّد قول وادّعاء وعقيدة ونظرية، بل لابدّ أن يظهر على صعيد العمل أيضاً، فالذي يؤمن باللَّه يأكل من هذه اللحوم فقط.

بديهي أنّ حرمة الذبائح التي لم يذكر اسم اللَّه عليها، هي خلفية أخلاقية ومعنوية وتستهدف تثبيت قواعد التوحيد وعبودية اللَّه الواحد الأحد.

الآية التالية تورد هذا الموضوع نفسه بعبارة مغايرة مع مزيد من الاستدلال، فتقول: لم لا

مختصر الامثل، ج 2، ص: 68

تأكلون من اللحوم التي ذكر اسم اللَّه عليها، في الوقت الذي بيّن اللَّه لكم ما حرم عليكم؟

«وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ». مرّة اخرى نشير إلى أنّ التوبيخ والتوكيد ليسا من أجل ترك أكل اللحم الحلال، بل الهدف هو أنّ هذه هي ما ينبغي أن تأكلوا منها، لا من غيرها، وبعبارة اخرى: التوكيد هنا على النقطة المقابلة لمفهوم العبارة، من هنا استدل على ذلك بالقول: «وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ».

ثم يستثني من ذلك حالة واحدة: «إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ» سواء كان هذا الاضطرار ناشئاً من وجود الإنسان في البيداء وتحت ضغط الجوع الشديد، أو الوقوع تحت سيطرة المشركين الذين قد يجبرونه على أكل لحومهم.

ثم تشير

الآية إلى أنّ كثيراً من الناس يحاولون أن يضلوا الآخرين عن جهل أو عن إتباع الهوى: «وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ».

يلزم القول أنّ الجملة المذكورة ربّما تكون إشارة إلى ما كان سائداً بين المشركين العرب الذين كانوا يسوّغون لأنفسهم أكل لحوم الحيوانات الميتة بالقول: أيجوز أن تعتبر لحوم الحيوانات التي نقتلها بأنفسنا حلالًا، ولحوم الحيوانات التي يقتلها اللَّه حراماً؟

بديهي أنّ هذا لم يكن سوى سفسطة فارغة، لأنّ الحيوان الميت ليس حيواناً ذبحه اللَّه ليمكن مقارنته بالحيوانات المذبوحة، إذ إنّ الحيوان الميت بؤرة الأمراض ولحمه فاسد، ولهذا حرّم اللَّه أكله، وأخيراً يقول: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ» الذين يحاولون بهذه الأدلة الواهية تنكّب طريق الحق، بل يسعون إلى إضلال الآخرين.

الآية الثالثة تذكر قانوناً عاماً، فيحتمل أن يرتكب بعضهم هذا الإثم في الخفاء، وتقول:

«وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ».

يقال إنّهم في الجاهلية كانوا يعتقدون أنّ الزنا إذا ارتكب في الخفاء فلا بأس به، أمّا إذا إرتكب علناً فهو الإثم! واليوم- أيضاً- نجد اناساً يسيرون وفق هذا المنطق الجاهلي فيخشون إرتكاب الإثم علانية، ولكنّهم يرتكبون في الخفاء ما يشاؤون من الآثام دون رادع من ضمير.

إنّ هذه الآية لا تدين هذا المنطق فحسب، بل من باب تهديد المذنبين بما ينتظرهم من مصير مشؤوم وتذكيرهم بذلك، تقول الآية: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 69

وَ لَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ وَ إِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) دار الكلام في الآيات السابقة حول الجانب الإيجابي من مسألة اللحوم، أي أكل اللحوم الحلال، وفي هذه الآية تأكيد للجانب السلبي من المسألة: «وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ

يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ». ثم في جملة واحدة يدين هذا العمل: «وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ» وإثم وخروج عن طريق العبودية وإطاعة اللَّه.

ولكيلا يقع بعض البسطاء من المسلمين تحت تأثير وسوسة الشيطان، تخاطبهم الآية: إنّ الشياطين يوسوسون في الخفاء لأتباعهم لكي يدخلوا معكم في جدل ونقاش: «وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ» ولكن كونوا على حذر، ولا تطيعوهم: «وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ».

لعل هذا الجدل والوسوسة إشارة إلى ما كان سائداً بين المشركين بشأن أكل الميتة (وذهب البعض إلى أنّ العرب المشركين أخذوه من المجوس) وقولهم: إنّنا نأكل الميتة لأنّ اللَّه أماتها، وهي لذلك أفضل ممّا نقتله بأيدينا، معتقدين أنّ عدم أكل الميتة نوع من الجفاء لعمل اللَّه! غافلين أنّ الحيوان الميت موتاً طبيعياً، إضافة إلى مرضه غالباً، يضمّ بين لحمه دماً قذراً فاسداً يفسد معه اللحم، بسبب عدم إنقطاع أوداجه.

ويستفاد من هذه الآية- ضمنياً- حرمة الذبيحة غير الإسلامية، لأنّها- إضافة إلى الجهات الاخرى- لم يتقيّد ذابحها بذكر اسم اللَّه عليها.

أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَ كَذلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَ مَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَ مَا يَشْعُرُونَ (123)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان قيل: إنّها نزلت في حمزة بن عبد المطلب، وأبي جهل بن هاشم،

مختصر الامثل، ج 2، ص: 70

وذلك أنّ أبا جهل آذى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأخبر بذلك حمزة، وهو على دين قومه، فغضب وجاء معه قوس، فضرب بها رأس أبي جهل، وآمن.

وقيل: نزلت في عمار بن ياسر حين آمن، وأبي جهل.

التّفسير

ترتبط هذه الآية بالآيات السابقة

من حيث كون الآيات السابقة أشارت إلى طائفتين من الناس: المؤمنين المخلصين، والكافرين المعاندين الذين لا يكتفون بضلالهم، بل يسعون حثيثاً إلى تضليل الآخرين، هنا أيضاً يتجسد وضع هاتين الطائفتين من خلال ضرب مثل واضح.

يشير المثال إلى طائفة من الناس كانوا من الضالين، ثم غيّروا مسيرتهم باعتناق الإسلام فهؤلاء أشبه بالميت الذي يحييه اللَّه بإرادته: «أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنهُ».

الإيمان يغيّر الأفراد ويشمل هذا التغيير كل جوانب الحياة، وتبدو آثاره في كل الحركات والسكنات. ثم تقول الآية عن أمثال هؤلاء: «وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِى بِهِ فِى النَّاسِ».

على الرغم من وجود الإختلاف في تفسير هذا «النور» فالظاهر أنّ المقصود ليس القرآن وتعاليم الشرع فحسب، بل أكثر من ذلك، حيث يمنح الإيمان باللَّه الإنسان رؤية وإدراكاً جديدين ... يمنحه رؤية واضحة ويوسّع من آفاق نظرته لتتجاوز إطار حياته المادية وجدران عالم المادة الضيّق إلى عالم أرحب وأوسع.

إنّه في ضوء هذا النور يستطيع أن يميّز مسيرة حياته بين الناس، وأن يصون نفسه ويحافظ عليها ويحصنها ضد ما يقع فيه الآخرون من أخطار الطمع والجشع والأفكار المادية المحدودة، والوقوف بوجه أهوائه وكبح جماحها.

إنّ ما نقرأه في الأحاديث الإسلامية من أنّ «المؤمن ينظر بنور اللَّه» إشارة إلى هذه الحقيقة.

ثم تقارن الآية بين هذا الإنسان الحي، الفعال، النيّر، والمؤثر، بالإنسان العديم الإيمان والمعاند، فتقول: «كَمَن مَّثَلُهُ فِى الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا».

إنّه لم يبق من وجود هؤلاء الأفراد سوى شبح، أو قالب، أو مثال أو تمثال، لهم هياكل خالية من الروح وأدمغة معطلة عن العمل.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 71

وفي الختام تشير الآية إلى سبب مصير هؤلاء المشؤوم فتقول: «كَذلِكَ زُيّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

ولمّا كان بطل هذه المشاهد في جانبها السلبي هو

«أبو جهل» الذي كان من كبار مشركي قريش ومكة، فالآية الثانية تشير إلى حال هؤلاء الزعماء الضالين وقادة الكفر والفساد، فتقول: «وَكَذلِكَ جَعَلْنَا فِى كُلّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا». أي إنّه عاقبة عصيانهم وكثرة ذنوبهم أدّت بهم إلى أن يصبحوا سدّاً على طريق الحق، وعاملًا على جرّ الناس نحو الانحراف والإبتعاد عن طريق الحق.

وفي الختام تقول الآية: «وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ».

كما يستفاد من هذه الآية أنّ النكبات والتعاسة التي تصيب المجتمع إنّما تنشأ من رموزه وقادته، إذ يتوسلون بالمكر والحيلة لتغيير معالم الطريق إلى اللَّه، ويخفون وجه الحق عن الناس.

وَ إِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت في الوليد بن المغيرة قال: واللَّه لو كانت النبوة حقاً، لكنت أولى بها منك، لأنّي أكبر منك سناً وأكثر عنك مالًا.

التّفسير

تشير هذه الآية بإيجاز إلى طريقة تفكير هؤلاء الأكابر «أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا» وإلى مزاعمهم المضحكة الباطلة، فتقول: «وَإِذَا جَاءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِىَ رُسُلُ اللَّهِ».

إنّ القرآن يردّ على هؤلاء بوضوح قائلًا: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ».

بديهي أنّ الرسالة لا علاقة لها بالسن ولا بالمال ولا بمراكز القبائل، لأنّ شرطها الأوّل هو الاستعداد الروحي، وطهارة الضمير، والسجايا الإنسانية الأصيلة، والفكر السامي،

مختصر الامثل، ج 2، ص: 72

والرأي السديد ثم التقوى إلى درجة العصمة ... إنّ هذه الصفات، وخصوصاً الإستعداد لمقام العصمة لا يعلم بها غير اللَّه، فما أبعد الفرق بين هذه الشروط وما كان يدور بخلد اولئك.

كما إنّ من يخلف رسول اللَّه صلى الله

عليه و آله لابدّ أن تكون له جميع تلك الصفات عدا الوحي والتشريع، أي أنّه حامي الشرع والشريعة، والحارس على قوانين الإسلام، والقائد المادي والمعنوي للناس، لذلك لابدّ له أن يكون معصوماً عن الخطأ والإثم، لكي يكون قادراً على أن يوصل الرسالة إلى أهدافها، وأن يكون قائداً مطاعاً وقدوة يُعتمد عليه. وبناءاً على ذلك، يكون اختياره من اللَّه أيضاً، فهو وحده الذي يعلم أين يضع هذا المقام، فلا يمكن أن يترك ذلك للناس ولا للإنتخابات والشورى.

وفي النهاية تشير الآية إلى المصير الذي ينتظر أمثال هؤلاء المجرمين والزعماء الذين يدّعون الباطل، فتقول: «سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ» «1».

كان هؤلاء الأنانيون بمواقفهم العدائية يريدون أن يحافظوا على مراكزهم، ولكن اللَّه سينزلهم إلى أدنى درجات الصغار والحقارة بحيث إنّهم سيتعذبون بذلك عذاباً روحياً شديداً، مضافاً إلى أنّهم سيلاقون العذاب الشديد في الآخرة لأنّ سعيهم على طريق الباطل كان شديداً أيضاً.

فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَ هذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ هُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) تعقيباً على الآيات السابقة التي دارت حول المؤمنين الصادقين والكافرين المعاندين تشرح هذه الآية النعم الإلهية الكبيرة التي تنتظر الفريق الأوّل، والشقاء الذي سيصيب

______________________________

(1) «الإجرام»: من «جرم» وأصله القطع، والمجرم هو الذي يقطع العهود وإرتباطه باللَّه بعدم إطاعته، ولذلك اطلقت كلمة «الجرم» على الإثم والذنب، في هذا إشارة لطيفة إلى أنّ هناك في ذات الإنسان إتّفاق مع الحق والطهارة

والعدالة، والإجرام هو قطع هذا الإتفاق الفطري الإلهي.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 73

الفريق الثاني، فتقرر أنّ اللَّه ينعم بالهداية على من يشاء، وذلك بأن يفتح صدره لتقبّل الإسلام، أمّا الذي لا يريد اللَّه أن يوفّقه لذلك- لسوء أعماله- يضيق صدره بحيث يجعله وكأنّه يريد أن يصعد إلى السماء. «فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحُ صَدْرَهُ لِلْاسْلمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَاءِ».

ولتوكيد هذا الأمر تضيف الآية: «كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ».

فيسلبهم التوفيق ويركسهم في التعاسة والشقاء.

سبق لنا أن قلنا مرّات عديدة أنّ المقصود من لفظي «الهداية» و «الضلالة» الإلهيين هو توفير الظروف والمقدمات المؤدّية إلى الهداية بالنسبة للّذين لهم الاستعداد لذلك، وسلبها عن الذين لا استعداد لهم لذلك، بالنظر إلى أعمالهم.

الآية التالية تؤكد البحث السابق فتقول: إنّ المدد الإلهي الذي يشمل السالكين في خط الايمان والعبودية للَّه ويُسلب عن الذين يتنكبون عن سبيل اللَّه، إنّما هو سنة إلهية مستقيمة ثابتة لا تتبدل «وَهذَا صِرَاطُ رَبّكَ مُسْتَقِيمًا».

وفي ختام الآية توكيد آخر: «قَدْ فَصَّلْنَا الْأَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ». أي لمن يملكون قلوباً واعية وآذاناً سامعة.

الآية الثالثة تشير إلى نعمتين من أكبر النعم التي يهبها اللَّه للذين يطلبون الحق، إحداهما:

«لَهُمْ دَارُ السَّلمِ عِندَ رَبّهِمْ». والثانية: «وَهُوَ وَلِيُّهُم». أي ناصرهم وحافظهم، وكل ذلك لما قاموا به من الأعمال الصالحة: «بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ». فأيّ فخر أجل وأرفع من أن يتولى اللَّه امور الإنسان ويتكفل بها فيكون حافظه ووليه، وأيّة نعمة أعظم من أن تكون له دار السلام، دار الأمن والأمان، حيث لا حرب ولا سفك دماء، ولا نزاع ولا خصام، ولا عنف ولا تنافس قاتل ومميت، ولا تضارب مصالح، ولا كذب ولا إفتراء، ولا إتهام

ولا حسد ولا حقد، ولا هم ولا غم، بل الهدوء والطمأنينة والهناء؟

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَ قَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَ بَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَ كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) تعود هاتان الآيتان إلى بيان مصير المجرمين الضالين والمضلين فتكملان ما بحث في السابق، فتذكّران بيوم يقفون فيه وجهاً لوجه أمام الشياطين الذين كانوا يستلهمون منهم،

مختصر الامثل، ج 2، ص: 74

فيواجه التابعون والمتبوعون سؤالًا لا جواب لديهم عليه. تذكّر الآية في البداية بذلك اليوم الذي يجتمع فيه الجن والإنس، ثم يقال يا أيّها المضلون من الجن لقد أضللتم كثيراً من الناس: «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِنَ الْإِنسِ».

«الجن» هنا هم الشياطين، لأنّ كلمة الجن تشمل كل كائن غير مرئي والآية (50) من سورة الكهف تذكر عن رئيس الشياطين، إبليس إنّه «كَانَ مِنَ الْجِنِّ». ويبدو أنّ الشياطين المضلين لا جواب لديهم على هذا السؤال ويطرقون صامتين، غير أنّ أتباعهم من البشر يقولون: ربّنا، هؤلاء استفادوا منّا كما إنّنا استفدنا منهم حتى جاء أجلنا: «وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا».

أي كان شياطيننا فرحين بسيطرتهم علينا وكنّا نتبعهم مستسلمين، أمّا نحن فكنّا مستمتعين بمباهج الحياة ولذائذها غير متقيدين بشي ء ولا ملتفتين إلى سرعة زوالها، لما كان الشياطين يوسوسون في آذاننا ويظهرون الدنيا لهم في صور جميلة جذّابة.

إنّ المقصود من كلمة «أجل» هو نهاية العمر لأنّ «الأجل» كثيراً ما استعمل في القرآن بهذا المعنى.

غير أنّ اللَّه يخاطب التابعين والمتبوعين

الفاسدين والمفسدين جميعاً: «قَالَ النَّارُ مَثْوَيكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ».

وفي الختام تقول الآية: «إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» فعقابه مبني على حساب دقيق، وكذلك عفوه، لأنّه عالم بمن يستحقهما.

الآية التالية تشير إلى سنّة إلهية ثابتة بشأن هؤلاء الأشخاص، وتقرر أنّ هؤلاء الطغاة والظالمين سيكون وضعهم في الآخرة كما كانوا عليه في الدنيا يجر بعضهم بعضاً نحو التهلكة وسوء المصير والانحراف: «وَكَذلِكَ نُوَلّى بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» وكما ذكرنا في البحوث الخاصة بالمعاد فإنّ يوم القيامة مشهد ردود الفعل في صور مكبرة، وما يوجد هناك إنعكاس عن أعمالنا في هذه الدنيا.

يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَ غَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَ شَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَ لِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَ مَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)

مختصر الامثل، ج 2، ص: 75

ورد وصف مصير الظالمين من أتباع الشياطين يوم القيامة في الآيات السابقة ولكيلا يظن أحد أنّهم في حالة من الغفلة ارتكبوا ما ارتكبوه من إثم، تبين هذه الآيات أنّ تحذيرهم قد تمّ بما فيه الكفاية وتمّت عليهم الحجة، لذلك يقال لهم يوم القيامة: «يَا مَعْشَرَ الْجِنّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايَاتِى وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذَا».

«معشر»: من العدد «عشرة»، وبما أنّ العشرة تعتبر عدداً كاملًا، فالمعشر هي الجماعة الكاملة التي تضمّ مختلف الطوائف والأصناف.

ثم تقول الآية: «قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا» لأنّ يوم القيامة ليس يوم الكتمان، بل إنّ دلائل كل شي ء تكون بادية للعيان، وما من أحد يستطيع أن يخفي

شيئاً، فالجميع يعترفون أمام هذا السؤال الإلهي قائلين: إنّنا نشهد ضدّ أنفسنا ونعترف أنّ الرسل قد جاؤونا وأبلغونا رسالاتك ولكنّنا خالفناها.

نعم ... لقد كانت أمامهم آيات ودلائل كثيرة من اللَّه، وكان يميّزون الخطأ من الصواب، إلّا أنّ الحياة الدنيا ببريقها ومظاهرها قد خدعتهم وأضلتهم: «وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا».

مرّة اخرى يؤكد القرآن أنّهم شهدوا على أنفسهم بألسنتهم بأنّهم قد ساروا في طريق الكفر ووقفوا إلى جانب منكري اللَّه: «وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ».

الآية التالية تعيد المضمون السابق بصورة قانون عام وسنّة ثابتة، وهي: أنّ اللَّه لا يأخذ الناس في المدن والمناطق المسكونة بظلمهم إذا كانوا غافلين، إلّابعد أن يرسل إليهم الرسل لينبّهوهم إلى قبيح أعمالهم، ويحذّروهم من مغبّة أفعالهم: «ذلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ».

قد تعني «بظلم» أنّ اللَّه لا يظلم أحداً بأن يعاقبه عمّا فعل وهو غافل، لأنّ معاقبتهم بهذه الصورة تعتبر ظلماً، واللَّه أرفع من أن يظلم أحداً.

وتذكر الآية الثالثة خلاصة ما ينتظر هؤلاء من مصير، وتقرر أنّ لكل من هؤلاء- الأخيار والأشرار، المطيعين والعصاة، طالبي العدالة والظالمين- درجات ومراتب يوم القيامة تبعاً لأعمالهم، وإنّ ربك لا يغفل عن أعمالهم، بل يعلمها جميعاً، ويجزي كلًا بقدر ما يستحق: «وَلِكُلّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ».

هذه الآية تؤكد مرّة اخرى الحقيقة القائلة بأنّ جميع «الدرجات» و «الدركات» التي يستحقها الإنسان إنّما هي وليدة أعماله، لا غير.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 76

وَ لِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَ مَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَ رَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَ مَا أَنْتُمْ

بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) الآية الاولى تستدل على ما سبق في الآيات التي مرّت بشأن عدم ظلم اللَّه تعالى، وتؤكد أنّ اللَّه لا حاجة له بشي ء وهو عطوف ورحيم، وعليه لا دافع له على أن يظلم أحداً أبداً، لأنّ من يظلم لابدّ أن يكون محتاجاً، أو أن يكون قاسي القلب فظاً: «وَرَبُّكَ الْغَنِىُّ ذُو الرَّحْمَةِ» كما أنّه لا حاجة له بطاعة البشر، ولا يخشى من ذنوبهم، بل إنّه قادر على إزالة كل جماعة بشرية ووضع آخرين مكانها كما فعل بمن سبق تلك الجماعة: «إِن يَشَأَ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مّن ذُرّيَّةٍ قَوْمٍ ءَاخَرِينَ».

بناءاً على ذلك فهو غني لا حاجة به إلى شي ء، ورحيم، وقادر على كل شي ء، فلا يمكن إذن أن نتصوّره ظالماً.

وإذا أدركنا قدرته التي لا حدود لها يتّضح لنا أنّ ما وعده بشأن يوم القيامة والجزاء سوف يتحقق في موعده بدون أيّ تخلّف: «إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَأَتٍ».

كما أنّكم لا تستطيعون أن تخرجوا عن نطاق حكمه ولا أن تهربوا من قبضته العادلة:

«وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ» «1».

ثم يؤمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بأن يهددهم: «قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنّى عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَايُفْلِحُ الظَّالِمُونَ».

وَ جَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَ الْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَ هذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَ مَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)

______________________________

(1) «معجزين»: من «أعجز» أي جعله عاجزاً، فالآية تقول: إنّكم لا تستطيعون أن تجعلوا اللَّه

عاجزاً عن بعث الناس وتحقيق العدالة، وبعبارة اخرى: أنتم لا تستطيعون مقاومة قدرة اللَّه.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 77

لإقتلاع جذور الشرك وعبادة الأصنام من الاذهان يعود القرآن إلى ذكر العادات والتقاليد والعبادات الخرافية السائدة بين المشركين، ويثبت في بيان واضح أنّها خرافية ولا أساس لها، فقد كان كفّار مكّة وسائر المشركين يخصصون للَّه سهماً من مزارعهم وأنعامهم، كما كانوا يخصصون سهماً منها لأصنامهم أيضاً، قائلين: هذا القسم يخصّ اللَّه، وهذا القسم يخصّ شركاءنا أي الأصنام: «وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذَا لِشُرَكَائِنَا».

ثم تشير الآية إلى واحد من أحكامهم العجيبة وهو الحكم بأنّ ما خصصوه لشركائهم لا يصل إلى اللَّه، ولكن ما خصصوه للَّه يصل إلى شركائهم «فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ».

انّهم إذا أصاب نصيب اللَّه ضرر على أثر حادثة قالوا: هذا لا أهميّة له لأنّ اللَّه لا حاجة به إليه، ولكن إذا أصاب الضرر نصيب أصنامهم عوّضوا عنه من نصيب اللَّه، قائلين: إنّ الأصنام أشدّ حاجة إليه.

وفي الختام تدين الآية هذه الخرافات فتقول: «سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ».

فأيّ حكم أقبح وأدعى إلى العار من أن يعتبر إنسان قطعة من الحجر أو الخشب الذي لا قيمة له أرفع من خالق عالم الوجود، هل هناك هبوط فكريّ أحط من هذا؟

وَ كَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَ لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ مَا يَفْتَرُونَ (137) يشير القرآن في هذه الآية إلى عمل قبيح آخر من أعمال عبدة الأصنام القبيحة وجرائمهم الشائنة، ويذكر أنّه كما ظهر لهم أنّ تقسيمهم الحصص بين اللَّه والأصنام عمل حسن بحيث أنّهم اعتبروا

هذا العمل القبيح والخرافي، بل والمضحك، عملًا محموداً، كذلك زيّن الشركاء قتل الأبناء في أعين الكثيرين من المشركين بحيث إنّهم راحوا يعدّون قتل الأولاد نوعاً من «الفخر» و «العبادة»: «وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 78

«الشّركاء» هنا هم الأصنام، فقد كانوا أحياناً يقدمون أبناءهم قرابين لها، أو كانوا ينذرون أنّهم إذا وهبوا ابناً يذبحونه قرباناً لأصنامهم، كما جاء في تاريخ عبدة الأصنام القدامى وعليه فإنّ نسبة «التزيين» للأصنام تعود إلى أنّ شدة تعلقهم بأصنامهم وحبّهم لها كان يحدو بهم إلى إرتكاب هذه الجريمة النكراء.

ثم يوضّح القرآن أنّ نتيجة تلك الأفعال القبيحة هي أنّ الأصنام وخدّامها ألقوا بالمشركين في مهاوي الهلاك، وشككوهم في دين اللَّه، وحرموهم من الوصول إلى الدين الحق: «لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ».

ومع ذلك كله، فإنّ اللَّه قادر على أن يوقفهم عند حدّهم بالإكراه، ولكن الإكراه خلاف سنّة اللَّه، إنّ اللَّه يريد أن يكون عباده أحراراً لكي يمهّد أمامهم طريق التربية والتكامل، وليس في الإكراه تربية ولا تكامل: «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ».

ومادام هؤلاء منغمسين في أباطيلهم وخرافاتهم دون أن يدركوا شناعتها، بل الأدهى من ذلك أنّهم ينسبونها أحياناً إلى اللَّه، إذن فاتركهم وإتهاماتهم والتفت إلى تربية القلوب المستعدة: «فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ».

وَ قَالُوا هذِهِ أَنْعَامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَ أَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَ أَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَ قَالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَ مُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَ إِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) تشير هذه الآيات إلى بعض الأحكام الخرافية لعبدة الاوثان، والتي تدل

على قصر نظرتهم وضيق تفكيرهم، وتكمل ما مرّ في الآيات السابقة. تذكر في البداية أقوال المشركين بشأن من لهم الحق في نصيب الأصنام من زرع وأنعام، وتبيّن أنّهم كانوا يرون أنّها محرّمة إلّا على طائفة معينة: «وَقَالُوا هذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَايَطْعَمُهَا إِلَّا مَن نَّشَاءُ بِزَعْمِهِمْ».

ومرادهم المتولّون امور الأصنام والمعابد، والمشركون كانوا يذهبون إلى أنّ لهؤلاء وحدهم الحق في نصيب الأصنام.

«الحجر» هو المنع.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 79

ثم تشير الآية إلى واحدة اخرى من خرافاتهم تقضي بمنع ركوب بعض الدواب:

«وَأَنْعَامٌ حُرّمَتْ ظُهُورُهَا».

ثم تشير إلى القسم الثالث من الأحكام الباطلة فتقول: «وَأَنْعَامٌ لَّايَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا».

ولعلها إشارة إلى الحيوانات التي كانوا يذكرون أسماء أصنامهم عليها فقط عند ذبحها، أو هي المطايا التي كانوا يحرّمون ركوبها للذهاب إلى الحج.

والأعجب من ذلك أنّهم لم يقنعوا بتلك الأحكام الفارغة، بل راحوا ينسبون إلى اللَّه كل ما يخطر لهم من كذب: «افْتِرَاءً عَلَيْهِ».

وفي ختام الآية، وبعد ذكر تلك الأحكام المصطنعة، تقول إنّ اللَّه: «سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ».

الآية التالية تشير إلى حكم خرافي آخر بشأن لحوم الحيوانات، يقضي بأنّ حمل هذه الأنعام يختص بالذكور، وهو حرام على الزوجات، أمّا إذا خرج ما في بطونها ميتاً، فكلّهم شركاء فيه: «وَقَالُوا مَا فِى بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ».

و يشجب القرآن هذا الحكم الجاهلي، ويقرر أنّ اللَّه سوف يعاقبهم على هذه الأوصاف، «سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ».

وختاماً تقول: «إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ». فهو عليم بأعمالهم وأقوالهم وإتهاماتهم الكاذبة، كما أنّه يعاقبهم وفق حساب وحكمة.

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ حَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَ مَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140) تعقيباً على الآيات السابقة

التي تحدّثت عن بعض الأحكام التافهة والتقاليد القبيحة في عصر الجاهلية الشائن، كقتل الأبناء قرباناً للأصنام، ووأد البنات خشية العار، وتحريم بعض نعم اللَّه الحلال، تدين هذه الآية كل تلك الأعمال بشدّة، في سبعة تعبيرات وفي جمل قصيرة نافذة توضّح حالهم. ففي البداية تقول: «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ». وكل صفة من هذه الصفات الثلاث كافية لإظهار قبح أعمالهم، فأيّ علم يجيز

مختصر الامثل، ج 2، ص: 80

للإنسان أن يعتبر هذه الأعمال قانوناً اجتماعياً؟ من هنا نفهم ما قاله ابن عباس بشأن ضرورة قراءة سورة الأنعام لمن شاء أن يدرك مدى تخلّف الأقوام الجاهليين.

ثم يذكر القرآن أنّ هؤلاء قد حرموا على أنفسهم ما رزقهم اللَّه وأحلّه لهم وكذبوا على اللَّه ونسبوا هذه الحرمة له سبحانه: «وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ».

في هذه العبارة إدانة اخرى لأعمالهم، فهم- أوّلًا- حرموا على أنفسهم النعمة التي «رزقهم» إيّاها وأباحها لهم وكانت ضرورية لحياتهم، فنقضوا بذلك قانون اللَّه.

وهم- ثانياً- «افتروا» على اللَّه قائلين إنّه هو الذي أمر بذلك.

في ختام الآية وفي جملتين قصيرتين إدانة اخرى لهم، فهم: «قَدْ ضَلُّوا» ثم إنّهم لم يسلكوا يوماً الطريق المستقيم: «وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ».

وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَ النَّخْلَ وَ الزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَ لَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) لقد جاءت الإشارة في هذه الآية إلى عدّة مواضيع، كل واحد منها متفرّعٌ عن الآخر، ونتيجة عنه. فهو تعالى يقول أوّلًا: إنّ اللَّه تعالى هو الذي خلق أنواع البساتين والمزارع الحاوية على أنواع الأشجار والنباتات، فمنها ما يعتمد

في موقفه على الأعمدة والعروش حيث تحمل ما لذّ وطاب من الفواكه والثمار، وتجلب بمنظرها الساحر العيون والالباب، ومنها ما لا يحتاج إلى عريش، بل هو قائم على سوقه يلقي بظلاله الوارفة على رؤوس الآدميين، ويسدّ بثماره المتنوعة حاجة الإنسان إلى الغذاء: «وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ».

ثم إنّ الآية تشير إلى نوعين من البساتين والمزارع إذ تقول: «وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ».

ثم إنّه تعالى يضيف قائلًا: إنّ هذه الأشجار مختلفة ومتنوعة من حيث الثمر والطعم. فمع أنّ جميعها ينبت من أرض واحدة ويسقى بماء واحد فإنّ لكل واحدة منها رائحة خاصة، ونكهة معينة، وخاصية تختص بها، ولا توجد في غيرها: «مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 81

ثم يشير سبحانه إلى قسمين آخرين من الثمار عظيمي الفائدة، جَيلي النفع في مجال التغذية البشرية إذ يقول: «وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ».

إنّ اختيار هاتين بالذِكر من بين أشجار كثيرة إنّما هو لأجل أنّ هاتين الشجرتين: (شجرة الزيتون وشجرة الرمان) رغم تشابههما من حيث الظاهر والمظهر تختلفان اختلافاً شاسعاً من حيث الثمرة، ومن حيث الخاصية الغذائية، ولهذا عقّب على قوله ذلك بهاتين الكلمتين:

«مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ».

وبعد ذكر كل هذه النعم المتنوّعة يقول سبحانه: «كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَءَاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ».

ثم ينهى في نهاية المطاف عن الإسراف إذ يقول تعالى: «وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَايُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ». «الإسراف»: تجاوز حدّ الاعتدال في كل فعل يفعله الإنسان. وهذه الجملة يمكن أن تكون إشارة إلى عدم الإسراف في الأكل، أو عدم الإسراف في الإنفاق والبذل.

وَ مِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَ فَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَ لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ

أَمْ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَ مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) إنّ هذه الآيات- كما أشرنا إلى ذلك- بصدد إبطال أحكام خرافية جاهلية كان المشركون يدينون بها في مجال الزراعة والأنعام. ففي الآية المتقدمة جرى الحديث حول أنواع المزروعات والثمار التي أنشأها اللَّه، وفي هذه الآيات يدور الحديث حول الحيوانات المحللة اللحم، وما تؤدّيه من خدمات، وما يأتي منها من منافع. يقول أوّلًا: إنّ اللَّه هو الذي خلق لكم حيوانات كبيرة للحمل والنقل، واخرى صغيرة: «وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 82

«حمولة»: جمع وليس لها مفرد وتعني الحيوانات الكبيرة التي تستخدم للحمل والنقل كالإبل والفرس ونظائرها. و «فرش»: هو بنفس المعنى المتعارف، ولكن فُسّر هنا بالغنم وما يشابهه من الحيوانات الصغيرة.

ثم إنّ الآية الشريفة تخلص إلى القول بأنّه لما كانت جميع هذه الانعام قد خلقها اللَّه تعالى وحكمها بيده، فإنّه يأمركم قائلًا: «كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ».

ولتأكيد هذا الكلام وإبطال أحكام المشركين الخرافية يقول: «وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ». فهو الذي أعلن الحرب على آدم منذ بداية الخلق.

الآية الثانية تبيّن قسماً من الحيوانات المحلّلة اللحم، وبعض الأنعام التي يستفاد منها في النقل، كما يستفاد منها في تغذية البشر وطعامهم أيضاً فيقول: إنّ اللَّه خلق لكم ثمانية أزواج من الأنعام: زوجين من الغنم (ذكر وانثى)، وزوجين من المعز: «ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ».

وبعد ذكر هذه الأزواج الأربعة

يأمر تعالى نبيّه فوراً بأن يسألهم بصراحة: هل أنّ اللَّه حرّم الذكور منها أم الاناث: «قُلْ ءَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ». أم أنّه حرّم عليهم ما في بطون الإناث من الأغنام، أم ما في بطون الإناث من المعز؟: «أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ».

ثم يضيف قائلًا: إذا كنتم صادقين في أنّ اللَّه حرّم شيئاً مما تدعونه، وكان لديكم ما يدل على تحريم أيّ واحد من هذه الأنعام فهاتوا دليلكم على ذلك: «نَبُونِى بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».

ثم في الآية اللاحقة يبين الأزواج الأربعة الاخرى من الأنعام التي خلقها اللَّه للبشر، إذ يقول: وخلق من الإبل ذكراً وانثى، ومن البقر ذكراً وانثى، فأيّ واحد من هذه الأزواج حرّم اللَّه عليكم: الذكور منها أم الإناث؟ أم ما في بطون الإناث من الإبل والبقر: «وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ».

إنّ الحكم بتحليل هذه الأنعام وتحريمها إنّما هو بيد اللَّه، خالقها وخالق البشر وخالق العالم كله. ولقد صرّح في الآية السابقة بأنّه لم يكن لدى المشركين أيّ دليل علمي أو عقلي على تحريم هذه الأنعام، وحيث إنّهم لم يَدّعوا أيضاً نزول الوحي عليهم، أو النبوة، فعلى هذا يبقى الاحتمال الثالث فقط، وهو أن يدّعوا أنّهم حضروا عند أنبياء اللَّه ورسله يوم أصدروا هذه

مختصر الامثل، ج 2، ص: 83

الأحكام، ولهذا يقول اللَّه لهم في مقام الإحتجاج عليهم: هل حضرتم عند الأنبياء وشهدتم أمر اللَّه لهم بتحليل أو تحريم شي ء من هذه الأنعام: «أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذَا».

وحيث إنّ الجواب على هذا السؤال هو الآخر بالنفي والسَلب، يثبت أنّهم ما كانوا يمتلكون في هذا المجال إلّاالإفتراء، ولا يستندون إلّاإلى الكذب.

ولهذا يضيف في

نهاية الآية قائلًا: «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».

فيستفاد من هذه الآية أنّ الإفتراء على اللَّه من أكبر الذنوب والآثام، إنّه ظلم للَّه تعالى ولمقامه الربوبيّ العظيم، وظلم لعباد اللَّه، وظلم للنفس.

قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَ لَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) ثم إنّه تعالى- بهدف تمييز المحرمات الإلهية عن البِدع التي أحدثها المشركون وأدخلوها في الدين الحق- أمر نبيّه صلى الله عليه و آله في هذه الآية بأن يقول لهم بكل صراحة، ومن دون إجمال أو إبهام: «لَّاأَجِدُ فِى مَا أُوحِىَ إِلَىَّ» من الشريعة أيّ شي ء من الأطعمة يكون «مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ» من ذكر أو انثى وصغير أو كبير.

اللّهم «إِلَّا» عدّة أشياء، الأوّل: «أَن يَكُونَ مَيْتَةً». «أَوْ» يكون «دَمًا مَّسْفُوحًا» وهو ما خرج من الذبيحة عند التذكية بالقدر المتعارف (لا الدّماء التي تبقى في جسم الذبيحة في عروقها الشعرية الدقيقة، بعد خروج قدر كبير منها بعد الذبح).

«أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ».

لأنّ جميع هذه الأشياء رجس ومنشأ لمختلف الأضرار «فَإِنَّهُ رِجْسٌ».

ثم أشار تعالى إلى نوع رابع فقال: «أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ» «1». أي التي لم يذكر اسم اللَّه

______________________________

(1) «اهلّ»: أصله «الإهلال» وهو مأخوذ في الأصل من الهلال والإهلال يعني رفع الصَوت عند رؤية الهلال، ثم استعمل لكل صوت رفيع، كما أنّه يطلق على بكاء الصبي عند الولادة الإستهلال، وحيث إنّهم كانوا يذكرون أسماء أصنامهم بصوتٍ عالٍ عند ذبح الأنعام عبِرّ عن فعلهم هذا بالإهلال.

مختصر الامثل،

ج 2، ص: 84

عليها عند ذبحها، لأنّها- من الناحية الأخلاقية والمعنوية- تدل على الإبتعاد عن اللَّه وعن جادة التوحيد ولهذا حرّمت أيضاً. وعلى هذا الأساس أنّ الشروط الإسلامية المقررة في الذبح على نوعين: بعضها- مثل قطع الأوداج الأربعة، وخروج القدر المتعارف من دم الذبيحة- لها جانب صحّي. وبعضها الآخر- مثل توجيه مقاديم الذبيحة نحو القبلة عند الذبح، وذكر اسم اللَّه عنده، وكون الذابح مسلماً- لها جانب معنوي.

ثم إنّه سبحانه استثنى- في آخر الآية- من اضطر إلى تناول شي ء مما ذكر من اللحوم المحرّمة، كما لو لم يجد أيّ طعام آخر وتوقّفت حياته على تناول شي ء من تلك اللحوم، إذ قال:

«فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» «1». يعني أنّ من اضطرّ إلى أكل شي ء مما ذكرِ من المنهيات فلا إثم عليه، بشرط أن يكون للحفاظ على حياته، لا للذة، ولا مستحلّاً لما حرّمه اللَّه، أو متجاوزاً حدّ الضرورة، ففي هذه الصورة «فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

وإنّما اشترط هذان الشرطان لكي لا يتذرّع المضطرون بهذه الإباحة فيتعدّوا حدود ما قرّره اللَّه بحجة الاضطرار.

وَ عَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَ إِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَ لَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) إنّ هاتين الآيتين تشيران إلى بعض ما حرّم على اليهود ليتبين أنّ أحكام الوثنيين الخرافية والمجهولة لا تنطبق لا على أحكام الإسلام، ولا على دين اليهود (بل ولا على دين المسيح الذي يتبع في أكثر أحكامه الدين اليهودي). ولهذا يقول سبحانه في البداية: «وَعَلَى الَّذِينَ

هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ».

يستفاد من الآية المبحوثة أنّ جميع الحيوانات التي لا تكون ذات أظلاف- دواباً كانت أو طيوراً- كانت محرّمة على اليهود.

______________________________

(1) «الباغي»: من «البَغْي» وهو يعني الطلب؛ و «العادي»: من «العَدْو» وهو يعني التجاوز.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 85

ثم يقول سبحانه: «وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا».

ثم يستثني بعد هذا ثلاثة موارد:

أوّلها: الشحوم الموجودة في موضع الظهر من هذين الحيوانين إذ يقول: «إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا».

وثانياً: الشحوم الموجودة على جنبيها، أو بين أمعائها: «أَوِ الْحَوَايَا» «1».

وثالثاً: الشحوم التي امتزجت بالعظم والتصقت به «أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ».

ولكنه صرّح في آخر الآية بأنّ هذه الامور لم تكن محرّمة على اليهود ولكنهم بسبب ظلمهم وبغيهم حُرمُوا- بحكم اللَّه وأمره- من هذه اللحوم والشحوم التي كانوا يحبّونها «ذلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ».

ويضيف- لتأكيد هذه الحقيقة- قوله: «وَإِنَّا لَصَادِقُونَ» وإنّ ما نقوله هو عين الحقيقة.

ولمّا كان عناد اليهود المشركين أمراً بيّناً، وكان من المحتمل أن يتصلّبوا ويتمادوا في تكذيب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أمر اللَّه تعالى نبيّه في الآية الاخرى أن يقول لهم إن كذّبوه: إنّ ربّكم ذو رحمة واسعة فهو لا يسارع إلى عقوبتكم ومجازاتكم، بل يمهلكم لعلكم تؤوبون إليه، وترجعون عن معصيتكم، وتندمون من أفعالكم وتعودون إلى اللَّه، «فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ».

ولكن إذا أساؤوا فهم أو استخدام هذا الإمهال الإلهي، واستمروا في كيل التهم فيجب أن يعلموا أنّ عقاب اللَّه إياهم حتمي لا مناص منه، وسوف يصيبهم غضبه في المآل: «وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ».

إنّ هذه الآية تكشف عن عظمة التعاليم القرآنية، فإنّه بعد شرح وبيان كل هذه المخالفات التي ارتكبها اليهود والمشركون لا يعمد إلى التهديد بالعذاب فوراً، بل يترك

طريق الرجعة مفتوحاً، وذلك بذكر عبارات تفيض بالحب مثل قوله: «ربّكم»، «ذو رحمة»، «واسعة».

حتى إذا كان هناك أدنى استعداد للرجوع والإنابة في نفوسهم شوّقتهم هذه العبارات العاطفية على العودة إلى الطريق المستقيم.

______________________________

(1) «الحوايا»: جمع «حاوية» وهي مجموعة ما يوجد في بطن الحيوان والتي تكون على هيئة كرة تتضمّن الأمعاء.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 86

ولكن حتى لا تبعث سعة الرحمة الإلهية هذه على التمادي في غيّهم، وتتسبّب في تزايد جرأتهم وطغيانهم، وحتى يكفّوا عن العناد واللجاج هدّدهم في آخر جملة من الآية بالعقوبة الحتمية.

سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَ لَا آبَاؤُنَا وَ لَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْ ءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَ لَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ هُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) عقيب الكلام المتقدم عن المشركين في الآيات السابقة، أشار في هذه الآيات إلى طائفة من استدلالاتهم الواهية، مع ذكر الأجوبة عنها. فيقول أوّلًا: إنّ المشركين سيقولون في معرض الإجابة عن اعتراضاتك عليهم في مجال الإشراك باللَّه، وتحريم الأطعمة الحلال: إنّ اللَّه لو أراد أن لا نكون مشركين، وأن لا يكون آباؤنا وثنيين، وأن لا نحرّم ما حرّمنا، لفعل:

«سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا ءَابَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَىْ ءٍ».

إنّ المشركين- مثل كثير من العصاة- يريدون التملّص من مسؤولية العصيان تحت ستار الجبر.

إنّهم كانوا يدّعون أنّ سكوت اللَّه على عبادتهم للأصنام وتحريمهم

لطائفة من الحيوانات دليل على رضاه، لأنّه إذا لم يكن راضياً بها وجب أن يمنعهم عنها بنحو من الأنحاء.

ولكن القرآن تصدّى لجوابهم وناقشهم بشكل قاطع، فهو يقول أوّلًا: ليس هؤلاء وحدهم يفترون على اللَّه مثل هذه الأكاذيب: «كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ» «1». ولكنهم ذاقوا جزاء افتراءاتهم: «حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا».

فهؤلاء كانوا يكذبون في كلامهم هذا، كما أنّهم يكذّبون الأنبياء، ولو كان سبحانه راضياً

______________________________

(1) «كذّب»: في اللغة تأتي بمعنيين تكذيب الغير، وكذلك فعل الكذب.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 87

بهذه الامور فكيف بعث أنبياءه للدعوة إلى التوحيد؟!

إنّ دعوة الأنبياء أقوى دليل على حرية الإرادة الإنسانية، واختيار البشر.

ثم يقول سبحانه: قل لهم يا محمّد: هل لكم برهان قاطع ومسلم على ما تدّعونه؟ هاتوه إن كان: «قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّن عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا».

ثم يضيف في النهاية: إنّ ما تتبعونه ليس سوى أَوهام وخيالات فجّة: «إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ».

وفي الآية اللاحقة يذكر دليلًا آخر لإبطال ادعاء المشركين، ويقول: قل إنّ اللَّه أقام براهين جلية ودلائل واضحة وصحيحة على وحدانيته، وهكذا أقام أحكام الحلال والحرام سواء بواسطة أنبيائه أو بواسطة العقل، بحيث لم يبق أيّ عذر لمعتذر: «قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ».

وعلى هذا الأساس لا يمكن أن يدّعي أحدٌ أبداً أنّ اللَّه أمضى- بسكوته- عقائدهم وأعمالهم الباطلة، وكذلك لايسعهم قط أن يدّعوا أنّهم كانوا مجبورين، لأنّهم لو كانوا مجبورين لكان إقامة الدليل والبرهان، وإرسال الأنبياء وتبليغهم ودعوتهم لغواً، إنّ إقامة الدليل دليل على حرية الإرادة.

ثم يقول في ختام الآية: ولو شاء اللَّه أن يهديكم جميعاً بالجبر لفعل: «فَلَوْ شَاءَ لَهَدَيكُمْ أَجْمَعِينَ».

ولكن في مثل هذه الصورة لم يكن لمثل هذا الإيمان ولا للأعمال التي تصدر في ضوء هذا الإيمان الجبري

القسري أيّة قيمة، إنّما فضيلة الإنسان وتكامله في أن يسلك طريق الهداية والتقوى بقدميه وبإرادته وإختياره.

وفي الآية التالية- ولكي يتضح بطلان أقوالهم، ومراعاة لُاسس القضاء والحكم الصحيح- دعا المشركين ليأتوا بشهدائهم المعتبرين لو كان لهم، لكي يشهدوا لهم بأنّ اللَّه هو الذي حرّم الحيوانات والزروع التي ادعوا تحريمها، لهذا يقول: «قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذَا».

ثم يضيف قائلًا: إذا كانوا لا يملكون مثل هؤلاء الشهداء المعتبرين (ولا يملكون حتماً) بل يكتفون بشهادتهم وادّعائهم أنفسهم فقط، فلا تشهد معهم ولا تؤيّدهم في دعاويهم:

«فَإِن شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ».

هذا مضافاً إلى أنّ جميع القرائن تشهد بأنّ هذه الأحكام ما هي إلّاأحكام مصطنعة

مختصر الامثل، ج 2، ص: 88

مختلقة نابعة عن محض الهوى والتقليد الأعمى، ولا اعتبار لها مطلقاً.

ولذلك قال في العبارة اللاحقة: «وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بَايَاتِنَا وَالَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالْأَخِرَةِ وَهُم بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ» «1».

يعني أنّ وثنيتهم، وإنكارهم للقيامة والبعث، والخرافات، وإتباعهم للهوى، شواهد حيّة على أنّ أحكامهم هذه مختلقة أيضاً، وأنّ إدعاءهم في مسألة تحريم هذه الموضوعات من جانب اللَّه لا قيمة له، ولا أساس له من الصحة.

قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَ لَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ وَ لَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ وَ لَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَ لَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَ إِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَ بِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ

تَذَكَّرُونَ (152) وَ أَنَّ هذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) بعد نفي أحكام المشركين المختلقة التي مرّت في الآيات المتقدمة، أشارت هذه الآيات الثلاثة إلى أصول المحرمات في الإسلام، وذكرت الذنوب الرئيسية الكبيرة في عشرة أقسام ببيان مقتضب، عميق وفريد، ودعت المشركين إلى أن يحضروا عند النّبي ويستمعوا إلى ما يتلى عليهم من المحرّمات الإلهية الواقعية، ويتركوا المحرمات المختلقة جانباً. يقول: «قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ».

1- «أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيًا».

______________________________

(1) «يعدلون»: مشتق من مادة «عدل» بمعنى الشريك والشبيه، وعلى هذا الأساس فإنّ مفهوم جملة «وهم بربّهم يعدلون» هو أنّهم كانوا يعتقدون بشريك وشبيه للَّه سبحانه.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 89

2- «وَبِالْوَالِدَينِ إِحْسَانًا».

3- «وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلدَكُم مِّنْ إِمْلقٍ». أي بسبب الفقر والحرمان لأنّنا «نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ».

4- «وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ». أي لا تقربوها فضلًا عن أن لا ترتكبوها.

5- «وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقّ». فلا تسفكوا الدّماء البريئة، ولا تقتلوا النفوس التي حرّم اللَّه قتلها إلّاضمن قوانين العقوبات الإلهية، فيجوز أن تقتلوا من أذن اللَّه لكم بقتله.

ثم إنّه تعالى بعد ذكر هذه الأقسام الخمسة يقول لمزيد من التأكيد: «ذلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» فلا ترتكبوها.

6- «وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ». فلا تقربوا مال اليتيم إلّا بقصد الإصلاح حتى يبلغ أشده ويستوي.

7- «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ». فلا تطففوا ولا تبخسوا.

وحيث إنّ الإنسان- مهما دقق في الكيل والوزن- قد يزيد أو ينقص بما لا يمكن أن تضبطه الموازين والمكاييل المتعارفة لقلته وخفائه، لهذا عقّب على ما قال بقوله: «لَانُكَلّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا».

8- «وَإِذَا قُلْتُمْ

فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى . فلا تنحرفوا عن جادة الحق عند الشهادة أو القضاء أو أمر آخر حتى ولو كان على القريب، فاشهدوا بالحق، واقضوا بالعدل.

9- «وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا» ولا تنقضوه.

والمراد من العهد الإلهي المذكور في هذه الآية يشمل جميع العهود الإلهية التكوينية والتشريعية والتكاليف الإلهية وكل عهد ونذر ويمين.

ثم إنّه سبحانه يقول في ختام هذه الأقسام الأربعة- للتأكيد-: «ذلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ».

10- «وَأَنَّ هذَا صِرَاطِى مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ». إنّ طريقي هذا هو طريق التوحيد، طريق الحق والعدل، طريق الطهر والتقوى فامشوا فيه، واتّبعوه، واسلكوه ولا تسلكوا الطرق المنحرفة والمتفرقة، فتؤدّي بكم إلى الانحراف عن اللَّه

مختصر الامثل، ج 2، ص: 90

وإلى الاختلاف، والتشرذم، والتفرق، وتزرع فيكم بذور الفرقة والنفاق. ثم يختم جميع هذه الأقسام وللمرة الثالثة- لغرض التأكيد- بقوله: «ذلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ».

بحثان

1- أهمية الإحسان إلى الوالدين: إنّ ذكر مسألة الإحسان للوالدين- بعد مكافحة الشرك مباشرة، وقبل ذكر تعاليم مهمة مثل حرمة قتل النفس والأمر بالعدل- يدل على الأهمية القصوى التي يحظى بها حق الوالدين في التعاليم الإسلامية.

ويتّضح هذا الأمر أكثر عندما نرى أنّ القرآن الكريم ذكر بدل تحريم أذى الوالدين الذي يلائم سياق هذه الآية في استعراضها للمحرمات، مسألة الإحسان إليهما، يعني أنّه ليس إزعاج الوالدين وإيذاؤهما محرّماً فقط، بل يجب الإحسان إليهما.

والأجمل من هذا كله أنّ كلمة «الإحسان» عُدّيت بحرف «الباء» فقال: «وَبِالْوَالِدَينِ إِحْسَانًا». وعلى هذا الأساس فإنّ هذه الآية تؤكد أنّ موضوع الإحسان إلى الوالدين من الأهمية البالغة بحيث يجب على الإنسان أن يباشر الاحسان بنفسه إلى الوالدين.

2- قتل الأولاد من الإملاق والجوع: يستفاد من هذه الآيات أنّ العرب في العهد الجاهلي

لم يقتصروا على قتل البنات ووأدهن بسبب بعض العصبيات الخاطئة فحسب، بل كانوا يقتلون أولادهم الذين كانوا يُعدّون ثروة كبرى في المجتمع يومذاك، وذلك بسبب الفقر وخشيتهم من الفاقة.

ولكن هذا العمل الجاهلي- وللأسف البالغ- يتكرّر الآن في عصرنا في صورة اخرى، إذ نلاحظ كيف يعمد الناس إلى قتل الأطفال الأبرياء وهم أجنّة عن طريق الكورتاج والإجهاض بحجة النقصان الاحتمالي في المواد الغذائية.

إنّ إسقاط الجنين وإن كان يُبرّر الآن بأدلة وحجج اخرى أيضاً، إلّاأنّ مسألة الفقر ومسألة نقصان المواد الغذائية، هي من أدلتها الأصلية.

هذه المسألة والمسائل المشابهة الاخرى تشير إلى أنّ العهد الجاهلي يتكرر في شكل آخر، وأنّ «جاهلية القرن العشرين» أكثر وحشية من جاهلية ما قبل الإسلام.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 91

ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدًى وَ رَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَ هذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَ اتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَ إِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ هُدًى وَ رَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَ صَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157) في الآيات السابقة دار الحديث عن عشرة من أحكام الإسلام الأساسية التي لم تكن مختصّة بالإسلام، بل هي موجودة ومقررة في جميع الأديان، ثم قال عقيب ذلك في هذه الآيات: «ثُمَّ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِى أَحْسَنَ». فقد أتممنا نعمتنا على المحسنين والذين سلّموا لأمره واتّبعوه.

إنّ عبارة: «الَّذِى أَحْسَنَ» إشارة إلى جميع المحسنين، والذين يستجيبون للحق، ويقبلون

بالأوامر الإلهية.

«وَتَفْصِيلًا لِّكُلّ شَىْ ءٍ» فإنّ فيه كل شي ء مما يحتاج إليه المجتمع، ومما له أثر في تكامل الإنسان وترشيده.

«وَهُدًى وَرَحْمَةً». أي أنّ في هذا الكتاب الذي نزل على موسى مضافاً إلى ما سبق:

هدى ورحمة.

إنّ جميع هذه البرامج ما هي إلّالكي يؤمنوا بيوم القيامة، وبلقاء اللَّه، ولكي يُطهّروا عن طريق الإيمان بالمعاد أفكارهم، وأقوالهم، وأعمالهم ويزكّوها: «لَعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ».

الآية اللاحقة تشير إلى نزول القرآن وتعليماته القيّمة، وبذلك أكملت البحث المطروح في الآية السابقة، يقول تعالى: «وَهذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ» فهذا الكتاب الذي أنزلناه كتاب عظيم الفائدة، عظيم البركة، وهو المنبع لكل أنواع الخير والبركة.

ولمّا كان الأمر كذلك وَجَبَ اتّباعه بصورة كاملة، ووجب التزوّد بالتقوى، والتجنّب

مختصر الامثل، ج 2، ص: 92

عن مخالفته، لتشملكم رحمة اللَّه ولطفه «فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ».

وفي الآية الثالثة أبطل سبحانه جميع المعاذير والتحججات وسدّ جميع طرق التملّص والفرار في وجه المشركين، فقال لهم أوّلًا: لقد أنزلنا هذا الكتاب مع هذه المميزات لكي لا تقولوا: لقد نزلت الكتب السماوية على الطائفتين السابقتين (اليهود والنصارى) وكنّا عن دراستها غافلين، وليس تمرّدنا على أوامر اللَّه إلّالكونها موجودة عند غيرنا من الامم، ولم يبلغنا منها شي ء: «أَن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ». ثم إنّه سبحانه ينقل عنهم- في الآية اللاحقة- نفس ذلك التحجج ولكن بصورة أوسع، ومقروناً هذه المرّة بنوع أشد من الغرور والصّلف وهو: أنّ القرآن الكريم لو لم ينزل عليهم لكان من الممكن أن يدّعوا أنّهم كانوا أكثر استعداداً من أيّة امة اخرى لقبول الأمر الإلهي:

«أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ».

والآية المتقدّمة كانت تعكس هذا التحجج وهو: أنّ عدم اهتدائنا إنّما هو

بسبب غفلتنا وجهلنا بالكتب السماوية، وهذه الغفلة وهذا الجهل ناشى ء عن أنّ هذه الكتب نزلت على الآخرين، ولم تنزل علينا. أمّا هذه الآية فتعكس صفة الإحساس بالتفوّق والإدعاء الفارغ الذي كانوا يدّعونه عن تفوّق العنصر العربي على غيرهم.

فإنّ القرآن يقول في معرض الرّد على هذه الإدعاءات أنّ اللَّه سبحانه سدّ عليكم كل سُبل التملّص والفرار، وأبطل جميع الذرائع والمعاذير، لأنّ اللَّه آتاكم كل الآيات، وأقام كل الحجج المقرونة بالهداية الإلهية وبالرحمة الربانية لكم: «فَقَدْ جَاءَكُم بَيّنَةٌ مِّن رَّبّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ». ومع ذلك «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بَايَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا».

«صدف»: من «الصَدْف» ويعني الإعراض الشديد- من دون تفكير- عن شي ء، وهو إشارة إلى أنّهم لم يكونوا ليعرضوا عن آيات اللَّه فحسب، بل كانوا يبتعدون عنها.

وفي خاتمة هذه الآية بيّن اللَّه تعالى العقاب الأليم الذي اعدّ لهؤلاء المخاصمين المعاندين الذين يرفضون الحقائق وينكرونها من دون أن يفكّروا فيها ويدرسوها ولو قليلًا، بل ولا يكتفون برفضها إنّما يعمدون إلى صدّ الآخرين عنها، ويحولون بينهم وبين سماعها واستيعابها، بيّن كل ذلك في قوله الموجز والبليغ: «سَنَجْزِى الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ ءَايَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 93

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) في الآيات السابقة تبيّنت هذه الحقيقة وهي: أنّنا أتممنا الحجة على المشركين، وآتيناهم الكتاب السماوي (أي القرآن) لهدايتهم جميعاً، لكي لا يبقى لديهم أيّ عذر يبرّرون به مخالفتهم للرسالة ومعارضتهم للدعوة. وهذه الآية تقول: ولكن هؤلاء الأشخاص المخاصمين المعاندين بلغوا في لجاجهم

وعنادهم حدّاً لا يؤثّر فيهم حتى هذا البرنامج الواضح البيّن، وكأنّهم يتوقعون وينتظرون هلاكهم، أو ذهاب آخر فرصة، أو ينتظرون اموراً مستحيلة. فيقول أوّلًا: «هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلِكَةُ» لتقبض أرواحهم.

«أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ» إليهم فيرونه، حتى يؤمنوا به.

ويراد من هذا الكلام أنّهم ينتظرون اموراً مستحيلة.

ثم يقول: أو أنّكم تنتطرون أن تتحقق بعض الآيات الإلهية والعلامات الخاصة بيوم القيامة ونهاية العالم يوم تنسدّ كل أبواب التوبة: «أَوْ يَأْتِىَ بَعْضُ ءَايَاتِ رَبّكَ».

ثم يضيف عقيب ذلك قائلًا: «يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءَايَاتِ رَبّكَ لَايَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْرًا» فأبواب التوبة حينذاك مغلقة في وجوه الذين لم يؤمنوا إلى تلك الساعة، لأنّ التوبة ساعتئذ تكون ذات صبغة اضطرارية إجبارية، وفاقدة لمعطيات الإيمان الاختياري وقيمة التوبة النصوح.

ثم إنّه في المقطع الأخير من الآية يوجّه تهديداً شديداً إلى هؤلاء الأشخاص المعاندين، إذ يقول بنبرة شديدة: «قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ».

إنّ من النقاط الهامة التي نستفيدها من الآية الحاضرة هو أنّ الآية تعتبر طريق النجاة منحصرة في الإيمان، ذلك الإيمان الذي يكتسب المرء فيه خيراً ويعمل في ظلّه عملًا صالحاً.

إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ ءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَ مَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَ هُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)

مختصر الامثل، ج 2، ص: 94

تعقيباً على التعاليم والأوامر العشر التي مرّت في الآيات السابقة، والتي امر في آخرها بإتباع الصراط الإلهي المستقيم، وبمكافحة أي نوع من أنواع النفاق والتفرقة، جاءت هذه الآية تتضمّن تأكيداً على هذه الحقيقة، وتفسيراً وشرحاً لها. فيقول تعالى أوّلًا: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ

وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْ ءٍ» «1». أي أنّ الذين اختلفوا في الدين وتفرّقوا فرقاً وطوائف لا يمتّون إليك بصلة أبداً، كما لا يرتبطون بالدين أبداً، لأنّ دينك هو دين التوحيد، ودين الصراط المستقيم، والصراط المستقيم ما هو إلّاواحد لا أكثر.

ثم قال تعالى- مُهدّداً مُوبّخاً اولئك المفرّقين-: «إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ». أي أنّ اللَّه هو الذي سيؤاخذهم بأعمالهم وهو عليم بها، لا يغيب شي ء منها.

محتوى هذه الآية يمثّل حكماً عامّاً يشمل كل من يفرّق الصفوف، وكل من يبذر بذور النفاق والاختلاف بين عباد اللَّه بابتداع البدع، من دون فرق بين من كان يفعل هذا في الامم السابقة أو في هذه الامة.

هذه الآية تكرّر مرّة اخرى- وبمزيد من التأكيد- هذه الحقيقة وهي أنّ الإسلام دين الوحدة والإتحاد وأنّه يرفض كل لون من ألوان التفرقة وإلقاء الاختلاف في صفوف الامة.

في الآية اللاحقة إشارة إلى الرحمة الإلهيّة الواسعة، وإلى الثواب الإلهي الواسع الذي ينتظر الأفراد الصالحين المحسنين وقد عقّبت التهديدات المذكورة في الآية بهذه التشجيعات: «مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا».

ثم قال: «وَمَن جَاءَ بِالسَّيّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا».

وللتأكيد يضيف هذه الجملة أيضاً فيقول: «وَهُمْ لَايُظْلَمُونَ» وإنّما يعاقبون بمقدار أعمالهم.

و «الحسنة» و «السيئة» في الآية الحاضرة يشمل كل عمل صالح وفكر صالح وعقيدة صالحة أو سيئة.

______________________________

(1) «الشِيَع»: من حيث اللغة تعني الفرق والطوائف المختلفة وأتباع الأشخاص المختلفين، وعلى هذا فإنّ مفردهذه الكلمة يعني من يتّبع مدرسة أو شخصاً معيّناً، هذا هو المعنى اللغوي لكلمة الشيعة. ولكن للفظة الشيعة معنى آخر في الإصطلاح، فهو يُطلق على من يتبع أميرالمؤمنين علياً عليه السلام ويشايعه، ولا يصح أن نخلط بين المعنيين اللغوي والإصطلاحي.

مختصر الامثل، ج 2، ص:

95

قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَ مَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيَايَ وَ مَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَ بِذلِكَ أُمِرْتُ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) هذه الآية والآيات الاخر التي سنقرؤها فيما بعد والتي ختمت بها سورة الأنعام، تعتبر خلاصة الأبحاث المطروحة في هذه السورة التي بدأت وانتهت بمكافحة الشرك والوثنية، وتركّزت أحاديثها على توضيح هذا الأمر. ففي البداية أمرت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بأن يقول في مواجهة معتقدات المشركين والوثنيين ومزاعمهم الجوفاء والعارية عن المنطق السليم: «قُلْ إِنَّنِى هَدَينِى رَبّى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ». أي طريق التوحيد، ورفض كل أشكال الشرك والوثنية.

ذكر كلمة «قل» في هذه الآيات وأمثالها في نص القرآن، إنّما هو لحفظ أصالة القرآن، وللدلالة على أنّ ما يأتي بعدها هو عين الكلمات التي اوحيت إلى رسول اللَّه.

ثم إنّه تعالى يوضّح «الصراط المستقيم» في هذه الآية والآيتين اللاحقتين. فهو يقول أوّلًا: إنّه الدين المستقيم الذي هو في نهاية الصحة والاستقامة، وهو الأبدي الخالد القائم المتكفل لُامور الدين والدنيا والجسد والروح: «دِينًا قِيَمًا».

وحيث إنّ العرب كانوا يكنّون لإبراهيم عليه السلام محبة خاصة، بل كانوا يصفون عقيدتهم ودينهم بأنّه دين إبراهيم، فهذا هو الذي أدعو أنا إليه لا ماتزعمونه: «مّلَّةَ إِبْرهِيمَ».

إبراهيم عليه السلام الذي أعرض عن العقائد الخرافية التي كانت سائدة في عصره وبيئته، وأقبل على التوحيد «حَنِيفًا». و «الحنيف»: يعني الشخص أو الشي ء الذي يميل إلى جهة ما، وأمّا في المصطلح القرآني فيطلق هذا الوصف على من يعرض عن عقيدة عصره الباطلة ويولّي وجهه نحو الدين الحق والعقيدة الحقة.

وكأنّ هذا التعبير جواب وردّ على

مقالة المشركين الذين كانوا يعيبون على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مخالفته للعقيدة الوثنية التي كانت دين أسلافهم من العرب، فقال النبي في معرض الردّ على مقالتهم هذه، بأنّ نقض السنن الجاهلية والإعراض عن العقائد الخرافية السائدة في البيئة ليس هو من فعلي فقط، بل كان إبراهيم- الذي نحترمه جميعاً- كذلك أيضاً.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 96

ثم يضيف للتأكيد قائلًا: «وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» بل هو بطل الكفاح ضد الوثنية، وحامل الحرب ضد الشرك، الذي لم يفتأ لحظة واحدة عن محاربته وكفاحه. الآية اللاحقة تشير إلى أنّه على النّبي أن يقول: إنّي لست موحّداً من حيث العقيدة فحسب، بل إنّي أعمل كل عمل صالح: «قُلْ إِنَّ صَلَاتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ» فأنا أحيى للَّه، وله أموت، وأفدي بكلّ شي ء لأجله، وكل هدفي وكل حبّي بل كل وجودي له.

و «النُسُك»: يعني في الأصل العبادة، ولذا يقال للعابد: ناسك، ولكن هذه الكلمة تطلق في الأغلب على أعمال الحج فيقال: مناسك الحج.

ثم في الآية الثالثة يضيف للتأكيد وإبطالًا لأيّ نوع من أنواع الشرك والوثنية قائلًا: «لَا شَرِيكَ لَهُ».

ثم يقول في ختام الآية: «وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ».

فإنّ كون رسول الإسلام أوّل المسلمين، إمّا من جهة كيفية إسلامه وأهميته، لأنّ درجة إسلامه وتسليمه أعلى وأفضل من الجميع، وإمّا لأنّه كان أوّل فرد من هذه الامة التي قبلت بالإسلام والقرآن.

قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ لَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) هذه الآية شجبت منطق المشركين من طريق آخر، حيث قال سبحانه لنبيه: قل لهم واسألهم:

هل من الصحيح أن أطلب رباً غير اللَّه الواحد في حين أنّه هو المالك والمربي، وهو رب كل شي ء وبيده أزمة جميع الكائنات، وحكمه جار في جميع ذرات الوجود بلا استثناء:

«قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِى رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلّ شَىْ ءٍ».

ثم إنّه يردّ على جماعة من المشركين المتحجرين ممن قالوا لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله: اتّبعنا وعلينا وزرك إن كان خطأً. قائلًا: «وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى فلا يعمل أحد إلّالنفسه، ولا يحمل أحد وزر أحد.

«ثُمَّ إِلَى رَبّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» فمآلكم إليه وهو يخبركم عن جميع ما اختلفتم فيه.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 97

وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) في هذه الآية التي هي آخر الآيات من سورة الأنعام إشارة إلى أهمية مقام الإنسان ومكانته في عالم الوجود لتكميل الأبحاث الماضية في مجال تقوية دعائم التوحيد، ومكافحة الشرك. لهذا قال تعالى في مطلع كلامه: «هُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلئِفَ الْأَرْضِ».

إنّ الإنسان الذي هو خليفة اللَّه في أرضه، والذي سُخّرت له كل منابع هذا العالم وصدر الأمر بحكومته على جميع الموجودات من جانب اللَّه تعالى، لا يجوز أن يسمح لنفسه بالسقوط إلى درجة السجود للجمادات.

ثم أشار سبحانه إلى اختلاف المواهب والاستعدادات في المواهب البدنية والروحية لدى البشر، والهدف من هذا الاختلاف والتفاوت، فيقول: «وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لّيَبْلُوَكُمْ فِى مَا ءَاتَاكُمْ» من المواهب المتنوعة والمتفاوتة ويختبركم بها.

ثم تشير في خاتمة الآية الحاضرة إلى حرية الإنسان في اختيار طريق السعادة وطريق الشقاء نتيجة هذه الاختبارات والإبتلاءات، إذ يقول: «إِنَّ

رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ». فإنّ ربك سريع العقاب مع الذين يفشلون في هذا الاختبار، وغفور رحيم للذين ينجحون فيه ويسعون لإصلاح أخطائهم.

بحثان

1- التفاوت بين أفراد البشر ومبدأ العدالة: لا شك أنّ بين أفراد البشر طائفة من الاختلافات والفوارق المصطنعة، التي هي نتيجة المظالم التي يمارسها بعض أفراد البشر ضد الآخرين، فهناك مثلًا جماعة يمتلكون ثروات هائلة، وجماعات اخرى تعاني من الفقر المدقع.

جماعة يعانون من المرض والعلة بسبب سوء التغذية وندرة الوسائل الصحية، في حين يحظى أفراد معدودون بقدر كبير من السلامة والعافية، بسبب توفّر جميع الإمكانيات.

إنّ مثل هذه الفوارق والاختلافات: الثروة والفقر، والعلم والجهل، والسلامة والمرض، هي في الأغلب وليدة الاستعمار والاستثمار، وهي مظاهر مختلفة للعبودية والمظالم الظاهرة والخفية.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 98

إنّ من المسلم أنّه لا يمكن أن تعتبر هذه الامور من فعل المشيئة الإلهية وليس من الصحيح مطلقاً الدفاع عن مثل هذه الاختلافات غير المبرّرة أساساً. إنّ أفراد البشر يشكلون من حيث المجموع شجرة كبيرة واحدة يقوم كل فرد برسالة خاصة في هذا الصرح العظيم، وله بنيان مخصوص يتلاءم مع وظائفه.

ولهذا يقول القرآن الكريم: إنّ هذه الفوارق وهذا التفاوت وسيلة لاختباركم وامتحانكم، لأنّ الاختبار والامتحان الإلهي- كما قلنا سابقاً- يعني «التربية».

2- خلافة الإنسان في الأرض: إنّ النقطة الاخرى الجديرة بالاهتمام، هي أنّ القرآن الكريم وصف الإنسان مراراً بأنّه خليفة اللَّه في أرضه، إنّ هذا الوصف، وهذا التعبير ضمن بيانه لمكانة الإنسان يبيّن هذه الحقيقة أيضاً، وهي: أنّ اللَّه تبارك وتعالى هو المالك الأصلي والحقيقي للأموال والثروات والقابليات، وجميع المواهب الإلهية الممنوحة للإنسان، وما الإنسان- في الحقيقة- إلّاخليفة اللَّه ووكيل من جانبه، ومأذون من قبله.

ومن البديهي أنّ الوكيل- مهما كان- فهو

غير مستقل في تصرفاته، بل يجب أن تخضع تصرفاته لإذن صاحبها الأصلي، وتقع ضمن إجازته.

ومن هنا يتضح أنّ الإسلام- مثلًا- يختلف عن النظام الشيوعي، وكذا عن النظام الرأسمالي في مسألة المالكية، لأنّ الفريق الأوّل يخصص الملكية بالجماعة، والفريق الثاني يخصصها بالفرد، بينما يقول الإسلام: الملكية لا هي للفرد ولا هي للمجتمع، بل هي في الحقيقة للَّه تعالى، والناس وكلاء اللَّه، وخلفاؤه.

وبهذا الدليل نفسه يراقب الإسلام طريقة تصرف الأفراد في الأموال كسباً وصرفاً، ويضع لكل ذلك قيوداً وشروطاً تجعل الاقتصاد الإسلامي نظاماً متميزاً في مقابل الأنظمة الاخرى.

«نهاية تفسير سورة الأنعام»

مختصر الامثل، ج 2، ص: 99

7. سورة الاعراف

هذه السورة من السور المكية إلّاقوله تعالى: «وَاسَلْهُم عَنِ الْقَرْيَةِ» إلى «بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ» الذي نزل في المدينة.

محتوى السورة: يشير في البدء إلى مسألة المبدأ والمعاد.

ثم بهدف إحياء شخصية الإنسان شرحت- باهتمام وعناية كبيرة- قصة خلق آدم.

ثم عدّدت- بعد ذلك- المواثيق التي أخذها اللَّه تعالى من أبناء آدم في مسير الهداية والصلاح، واحداً واحداً.

ثم للتدليل على هزيمة وخسران الجماعات التي تحيد عن سبيل التوحيد والعدالة والتقوى، وكذا للتدليل على نجاح المؤمنين الصادقين وإنتصارهم، ذكرت قصص كثير من الاقوام الغابرة والأنبياء السابقين مثل «نوح» و «لوط» و «شعيب» وختمت ذلك ببيان قصة بني إسرائيل، وجهاد «موسى» ضدّ فرعون، بصورة مفصلة.

وفي آخر السورة عادت مرّة اخرى إلى مسألة المبدأ والمعاد، بهذا تتناغم البداية والخاتمة.

فضيلة تلاوة هذه السورة: في تفسير العياشي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «من قرأ سورة الأعراف في كل شهر كان يوم القيامة من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فإن قرأها

مختصر الامثل، ج 2، ص: 100

مختصر الامثل ج 2 139

في كل جمعة كان ممّن لا يحاسب يوم القيامة». ثم

قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: «أما إنّ فيها آياً محكمة فلا تدعوا قراءتها وتلاوتها والقيام بها فإنّها تشهد يوم القيامة لمن قرأها عند ربّه».

المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَ ذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) في مطلع هذه السورة نواجه مرّة اخرى «الحروف المقطعة»، ويمكن أن يكون أحد الأهداف لهذه الحروف هو جلب إنتباه المستمعين، ودعوتهم إلى السكوت والإصغاء، لأنّ وجود هذه الحروف في مطلع الكلام موضوع عجيب لم يسبق له مثيل في نظر العرب، ومن شأنها أن تثير في العربي حبّ الاستطلاع، وتدعوه إلى متابعة الكلام إلى نهايته.

ثمّ يقول تعالى في الآية اللاحقة: «كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ».

«الحرج»: في اللغة يعني الشعور بالضيق وأيّ نوع من أنواع المعاناة.

إنّ العبارة الحاضرة تسلّي النبي صلى الله عليه و آله وتطمئن خاطره بأنّ هذه الآيات نازلة من جانب اللَّه تعالى فيجب أن لا يشعر صلى الله عليه و آله بأيّ ضيق وحرج، لا من ناحية ثقل الرسالة الملقاة على عاتقه، ولا من ناحية ردود فعل المعارضين والأعداء الألدّاء تجاه دعوته، ولا من ناحية النتيجة المتوقّعة من تبليغه ودعوته.

ثم يضيف تعالى في الجملة اللاحقة أنّ الهدف من نزول هذا الكتاب العزيز هو إنذار الناس وتحذيرهم من عواقب نواياهم وأعمالهم الشريرة، وتذكير المؤمنين الصادقين، إذ يقول: «لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ».

ثم إنّه سبحانه يوجّه خطابه إلى عامة الناس ويقول: «اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ».

وبهذا الطريق يكون قد بدأ الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ومهمته ورسالته، وانتهى بوظيفة الناس وواجبهم

تجاه الرسالة.

وللتأكيد يضيف سبحانه قائلًا: «وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ» فلا تتبعوا غير أوامر اللَّه، ولا تختاروا وليّاً غير اللَّه.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 101

وحيث إنّ الخاضعين للحق والمتذكرين قليلون، لذا قال في ختام الآية: «قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ».

ومن هذه الآية يستفاد أنّ الإنسان يواجه طريقين (أو خيارين) إمّا القبول بولاية اللَّه وقيادته، وإمّا الدخول تحت ولاية الآخرين، فإذا سلك الطريق الأوّل كان اللَّه وليّه، وأمّا إذا دخل تحت ولاية الآخرين فإنّ عليه- حينئذ- أن يخضع في كل يوم لواحد من الأرباب، وأن يختار ربّاً جديداً.

وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) هاتان الآيتان تشيران إلى العواقب المؤلمة التي تترتب على مخالفة الأوامر التي تمّ بيانها في الآيات السابقة، كما أنّهما تعدّان فهرستاً إجمالياً عن قصص الأقوام المتعددة أمثال نوح، وقوم فرعون، وقوم عاد وثمود، وقوم لوط التي ستأتي فيما بعد.

إنّ القرآن الكريم يحذّر وينذر بشدة في هذه الآية كل اولئك الذين يتمرّدون على تعاليم الأنبياء ويقومون بزرع الفجور والفساد بدل إصلاح أنفسهم وإصلاح الآخرين، بأن يتدبروا قليلًا في حياة الأقوام السالفة وينظروا كم من قرية عامرة أبادها اللَّه، وأهلك سكّانها الفاسقين: «وَكَم مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا».

ثم يبيّن كيفية هلاكهم بأنّ العذاب الأليم جاءهم في منتصف الليل وهم يقضون ساعات الراحة والسكون، أو في وسط النهار وهم يمضون لحظات الاستراحة والإسترخاء بعد رحلة من العمل والنشاط اليومي الدّائب: «فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ».

ثم يواصل الحديث في الآية اللاحقة هكذا: «فَمَا كَانَ دَعْوَيهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ». فعندما يتورّطون في البلاء، وتتحطم حياتهم بعواصف الجزاء

يتركون كبرياءهم ونخوتهم وينادون معترفين بظلمهم: إنّا كنا ظالمين.

ولكن لا يجديها مثل هذا الاعتراف، لأنّه نوع من الاعتراف الجبري والاضطراري الذي يضطرّ إليه حتى أشد الناس غروراً.

إنّ هذه الآيات تحذيرات صاعقة لهذا العصر وما يليه من العصور، لنا وللُامم والأقوام القادمة، لأنّه لا معنى للتبعيض في السنّة الإلهية.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 102

والإنسان المسلح بالتكنولوجيا المتقدمة مع كل ما اوتي من قوة هو الآخر عاجز أمام الزلازل والعواصف، وأمام السيول والأمطار الغزيرة، تماماً مثل عجز الامم ما قبل التاريخ وضعفها.

وعلى هذا فليست مثل تلك العواقب السيئة والأليمة التي أصابت ظَلَمة الامم الغابرة وجباريها، وحلّت بالمغرورين والفسقة والمتمردين ليلًا وحطّمتهم، ببعيدة عن الإنسان الحاضر.

فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَ مَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَ الْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) التحقيق الشامل: إنّ الآية المتقدمة تحدّثت عن الجزاء الدنيوي للظالمين، وهذه الآيات تبحث في الجزاء والعقاب الاخروي لهم، وبهذا يتّضح الإرتباط بينها. يقول تعالى أوّلًا وهو يقرر سنّة عامة: «فَلَنَسَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ». أي إنّنا سنسأل في يوم القيامة كل من أرسلنا لهدايته رسولًا، حتماً ودون ريب.

بل ونسأل الأنبياء أيضاً، ماذا فعلوا في مجال تبليغ رسالتهم: «وَلَنَسَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ».

وعلى هذا الأساس فالجميع مسؤولون، قادةً وأتباعاً، رسلًا ومرسلًا إليهم، غاية ما في الأمر أنّه يختلف السؤال والمسؤوليات من طائفة إلى اخرى.

في الآية اللاحقة- ولكي لا يتصور أحد بأنّ سؤال اللَّه للانبياء يعني أنّ الأمر قد خفي على اللَّه وغاب عن علمه- قال تعالى بصراحة مزيجة بالقسم، بأنّنا سوف نشرح لهم كل أعمالهم بعلمنا، لأنّه ما غاب

عنا شي ء من أفعالهم، وما غابوا هم عنا، فقد كنا معهم في كل حين ومكان: «فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ».

المساءلة لماذا؟ نحن نعلم أنّ اللَّه سبحانه يعلم بكل شي ء، فهو الحاضر في كل زمان ومكان، الناظر لكل شي ء من نيّة أو عمل، فما الحاجة إلى مساءلة الرسل والامم عامة

مختصر الامثل، ج 2، ص: 103

وبدون إستثناء؟!

الجواب على هذا السؤال واضح، لأنّ السؤال لو كان للاستعلام والاستفهام، وبهدف الوقوف على الحقيقة لم يصح أن يقع من العالِم العارف. وأمّا إذا كان المقصود منه هو إلفات الشخص إلى ما عمله، أو إتمام الحجة عليه، أو ما أشبه ذلك، لم يكن في ذلك بأس ولا ضير، إذ يشبه ذلك تماماً ما لو أسدينا إلى أحد خدمات كثيرة وقابَلَنا بالإساءة والخيانة، وكان كل ذلك معلوماً معروفاً عندنا، ومع ذلك فإنّنا نسائله ونقول: ألسنا قد أسدينا إليك كذا وكذا من الخدمة؟ فهل كان هذا جزاء الإحسان إليك؟

إنّ مثل هذه المساءلة ليست لاكتساب العلم، واكتشاف الحقيقة المجهولة، بل هي لتفهيم الطرف الآخر وإيقافه على الحقيقة.

في الآية اللاحقة- تكميلًا لمبحث المعاد- يشير تعالى إلى قضية «وزن الأعمال» الذي جاء ذكره في السور القرآنية الاخرى مثل ما جاء في سورة «المؤمنون» في الآية (102 و 103) وسورة «القارعة» الآية (6 و 8).

فيقول أوّلًا: إنّ وزن الأعمال يوم القيامة أمر واقع لا ريب فيه: «وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ».

إذن، فالمسلم هو أنّ أعمال الإنسان توزن في يوم القيامة بأداة خاصة لا بواسطة موازين مثل موازين الدنيا، ويمكن أن تكون تلك الأداة نفس وجود الأنبياء والأئمة والصالحين، وهذا ما يستفاد- أيضاً- من الأحاديث المروية عن أهل البيت عليهم السلام.

بل إنّ أولياء اللَّه في هذا العالم هم أيضاً مقاييس للوزن

والتقييم، ولكن حيث إنّ أكثر الحقائق في هذا العالم تبقى خلف حجب الإبهام والغموض، تبرز في يوم القيامة بمقتضى قوله تعالى: «وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ» «1». وتنكشف هذه الحقائق وتنجلي للعيان.

ثمّ إنّه تعالى يقول في المقطع الآخر من الآية: «فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَن خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بَايَاتِنَا يَظْلِمُونَ».

إنّ من البديهي أنّ المراد من الخفّة والثقل في الموازين ليس هو خفة وثقل نفس الميزان، بل قيمة ووزن الأشياء التي توزن بواسطة تلك الموازين، وتُقاس بتلك المقاييس.

إنّ جملة «كانوا بآياتنا يظلمون» إشارة إلى أنّ مثل هؤلاء لم يظلموا أنفسهم فحسب، بل

______________________________

(1) سورة إبراهيم/ 48.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 104

ظلموا- كذلك- البرامج الإلهية الهادية، لأنّ هذه البرامج كان ينبغي أن تكون سبلًا للهداية ووسائل للنجاة، ولو أنّ أحداً تجاهلها، ولم يكترث بها، فلم يحصل منها هذا الأثر، كان ظالماً لها.

وَ لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10) مكانة الإنسان وعظمته في عالم الوجود: عقيب الآيات التي أشارت إلى المبدأ والمعاد، يدور البحث في هذه الآية والآيات اللاحقة حول عظمة الانسان وأهمية مقامه، وكيفية خلق هذا الكائن والمفاخر التي وهبها اللَّه له. فهو يقول في البداية: نحن الذين منحناكم الملكية والحاكمية وسلّطناكم على الأرض: «وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِى الْأَرْضِ».

وأعطيناكم وسائل العيش بجميع أنواعها: «وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ».

ولكن مع ذلك لم تشكروا هذه النعم إلّاقليلًا «قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ».

وَ لَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا

فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمَانِهِمْ وَ عَنْ شَمَائِلِهِمْ وَ لَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) لقد أشير إلى مسألة خلق الإنسان وكيفية إيجاده في سبع سور من سُوَر القرآن الكريم، وفي الآية المبحوثة الآن يقول اللَّه تعالى: «وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلِكَةِ اسْجُدُوا لِأَدَمَ» جدّكم الأوّل، ومن المأمورين بالسجود إبليس الذي كان موجوداً في صفوفهم وإن لم يكن منهم، فامتثلوا لهذا الأمر جميعاً وسجدوا لآدم إلّاإبليس: «فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 105

وكما قلنا في ذيل الآية (34) من سورة البقرة: إنّ سجود الملائكة لآدم لم يكن سجود عبادة، لأن العبادة مخصوصة للَّه سبحانه، بل السجدة هنا بمعنى التواضع.

في الآية اللاحقة يقول تعالى: أنّه أخذ إبليس على عصيانه وطغيانه و «قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ». فتذرّع- في مقام الجواب- بعذر غير وجيه إذ: «قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ».

وكأنّ إبليس كان يتصور أنّ النار أفضل من التراب، وهذه هي أكبر غلطاته وأخطائه، ولعله لم يقل ذلك عن خطأ والتباس، بل كذب عن وعي وفهم، لأنّنا نعلم أنّ التراب مصدر أنواع البركات، ومنبع جميع المواد الحياتية، وأهم وسيلة لمواصلة الموجودات الحية حياتها، على حين أنّ الأمر بالنسبة إلى النار ليس على هذا الشكل.

على أنّ ميزة الإنسان لم تكن في كونه من التراب، بل إنّ ميزته الأصلية تكمن

في «الروح الإنسانية» وفي خلافته للَّه تعالى.

والظاهر أنّ الشيطان كان يعرف بكلّ هذه الامور، ولكن التكبر، والأنانية هما اللذان منعاه عن امتثال أمر اللَّه، وكان ما أتى به من العذر حجة داحضة، ومحض تحجج وتعلل.

بقي هنا سؤال وهو: كيف كان يتحدّث الشيطان مع اللَّه، فهل كان ينزل عليه الوحي؟

الجواب هو: أنّ كلام اللَّه لا يكون بالوحي دائماً، فالوحي عبارة عن رسالة النبوة، فلا مانع من أن يكلّم اللَّه أحداً لا بعنوان الوحي والرسالة، بل عن طريق الباطني أو بواسطة بعض الملائكة، سواء كان من يحادثه اللَّه من الصالحين الأبرار مثل مريم وام موسى، أو من غير الصالحين مثل الشيطان.

ولنعد الآن إلى تفسير بقية الآيات:

حيث إنّ امتناع الشيطان من السجود لآدم عليه السلام لم يكن امتناعاً بسيطاً وعادياً ولم يكن معصية عادّية، بل كان تمرّداً مقروناً بالاعتراض والإنكار للمقام الربوبي، لهذا فإنّ مخالفته كانت تعني الكفر وإنكار العلم والحكمة الإلهيين، فوجب أن يخسر جميع مراتبه ودرجاته، وبالتالي كل ما له من مكانة عند اللَّه، ولهذا أخرجه اللَّه من ذلك المقام الكريم، وجرّده من تلك المنزلة السامقة التي كان يتمتع بها في صفوف الملائكة، فقال له: «فَاهْبِطْ مِنْهَا».

ثمّ إنّه تعالى شرح له منشأ هذا السقوط والتنزل بالعبارة التالية: «فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا».

وأضاف للتأكيد قائلًا: «فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ». يعني إنّك بعملك وموقفك هذا لم

مختصر الامثل، ج 2، ص: 106

تصبح كبيراً، بل على العكس من ذلك أصبتَ بالصغار والذلة.

إنّ هذه الجملة توضّح بجلاء أنّ شقاء الشيطان كله كان وليد تكبّره. في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «اصول الكفر ثلاثة: الحرص والاستكبار والحسد، فأمّا الحرص فإنّ آدم عليه السلام حين نهي عن الشجرة حمله الحرص على

أن أكل منها، وأمّا الاستكبار فإبليس حيث امر بالسجود لآدم فأبى، وأمّا الحسد فإبنا آدم حيث قتل أحدهما صاحبه».

ولكن قصة الشيطان لم تنته إلى هذا الحد، فهو عندما عرف بأنّه صار مطروداً من حضرة ذي الجلال زاد من طغيانه ولجاجته، وبدل أن يتوب ويثوب إلى اللَّه ويعترف بخطئه فإنّ الشي ء الوحيد الذي طلبه من اللَّه تعالى هو أن يمهله ويؤجّل موته إلى يوم القيامة: «قَالَ أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ».

ولقد استجاب اللَّه لهذا الطلب، ف «قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ».

غير أنّ الشيطان لم يبغ من مطلبه هذا (أي الإمهال الطويل) الحصول على فرصة لجبران مافات منه أو ليعمّر طويلًا، إنّما كان هدفه من ذلك هو إغواء بني البشر «قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ». أي لأغوينهم كما غويت، ولُاضلنّهم كما ضللت.

ثمّ إنّ الشيطان أضاف- تأكيداً لقوله- بأنّه لن يكتفي بالقعود بالمرصاد لهم، بل سيأتيهم من كل حدب وصوب، ويسدّ عليهم الطريق من كل جانب «ثُمَّ لَأَتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ».

ولقد نقل- في المجمع- عن الإمام الباقر عليه السلام تفسير أعمق لهذه الجهات الأربع حيث قال:

«ثمّ لآتينّهم من بين أيديهم، معناه: اهوّن عليهم أمر الآخرة؛ ومن خلفهم، آمرهم بجمع الأموال والبخل بها عن الحقوق لتبقى لورثتهم؛ وعن أيمانهم، افسد عليهم أمر دينهم بتزيين الضلالة وتحسين الشبهة؛ وعن شمائلهم، بتحبيب اللذات إليهم وتغليب الشهوات على قلوبهم».

وفي آخر آية من الآيات المبحوثة هنا يصدر مرّة اخرى الأمر بخروج الشيطان من حريم القرب الإلهي والمقام الرفيع، بفارق واحد، هو أنّ الأمر بطرده هنا اتّخذ صورة أكثر ازدراء وتحقيراً، وأشد عنفاً ووقعاً، ولعل هذا كان لأجل العناد واللجاج الذي أبداه الشيطان بالإلحاح

على الوسوسة للإنسان وإغوائه وإغرائه، يعني أنّ موقفه الأثيم في البداية كان منحصراً في التمرد على أمر اللَّه وعدم إمتثاله، ولهذا صدر الأمر بخروجه فقط، ولكن عندما أضاف معصية أكبر إلى معصيته بالعزم على إضلال الآخرين جاء الأمر المشدد: «قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 107

ثم حلف على أن يملأ جهنم منه ومن أتباعه: «لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ».

سؤال: بعد أن ارتكب الشيطان مثل تلك المعصية الكبيرة، لماذا قبل اللَّه طلبه في الإمهال، وتأخير الأجل؟

إنّ مواصلة الشيطان لحياته كقضية سلبية يكون وجودها ضرورياً لتقوية نقاط إيجابية، لا يكون غير مضرّ فحسب، بل هو مؤثر ومفيد أيضاً، فإنّه مع غض النظر عن الشيطان، هناك مجموعة من الغرائز المختلفة في داخلنا، وهي بوقوفها في الطرف الآخر من قوانا العقلية والروحية تشكّلان ساحة صراع وتناقض قويين، وفي مثل هذه الساحة يتحقق تقدم الإنسان وتكامله، وتربيته ورشده.

إنّ النقطة المهمة التي يجب الإنتباه إليها هي أنّ اللَّه تعالى وإن كان ترك الشيطان حرّاً في القيام بوساوسه، ولكنه من جانب آخر لم يدع الإنسان مجرداً من الدفاع عن نفسه.

لأنّه أوّلًا: وهبه قوة العقل التي يمكن أن توجد سدّاً قوياً منيعاً في وجه الوساوس الشيطانية خاصة إذا لقيت تربية صالحة.

وثانياً: جعل الفطرة النقيّة وحب التكامل في باطن الإنسان كعامل فعّال من عوامل السعادة.

وثالثاً: يبعث الملائكة التي تلهم الخيرات إلى الذين يريدون أن يعيشوا بمنأى عن الوساوس الشيطانية، كما يصرّح القرآن الكريم بذلك- في الآية (30) من سورة فصّلت- إذ يقول: «إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلِكَةُ». إنّها تنزل عليهم لتقوية معنوياتهم بإلهامهم ألوان البشارات والتطمينات لهم.

وَ يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا

مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَ لَا تَقْرَبَا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَ قَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَ قَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَ طَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَ نَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَ لَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَ أَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)

مختصر الامثل، ج 2، ص: 108

وساوس شيطانية في حُلل خَلّابة: تُبيّن هذه الآيات وتستعرض فصلًا آخر من قصة آدم، فتقول أوّلًا: إنّ اللَّه سبحانه أمر آدم وزوجته حواء بأن يسكنا الجنة: «وَيَا ءَادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ».

ويستفاد من هذه العبارة أنّ آدم وحواء لم يكونا في بدء الخلقة في الجنة. وفي هذه الأثناء صدر أوّل تكليف وأمر ونهي إلى آدم وحواء من جانب اللَّه تعالى، بهذه الصورة: «فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ». أي إنّ الأكل من جميع أشجار هذه الجنة مباح لكما، إلّاشجرة خاصه لا تقرباها، وإلّا كنتما من الظالمين.

ثم إنّ الشيطان الذي طُرِد من رحمة اللَّه تعالى بسبب إحجامه عن السجود لآدم، وكان قد صمّم على أن ينتقم لنفسه من آدم وبنيه ما أمكن.

بدأ بنزع لباس الطاعة والعبودية للَّه، عنهما، فأبدى عورتهما التي كانت مخبأة مستورة:

«فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطنُ لِيُبْدِىَ لَهُمَا مَا وُورِىَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا».

وللوصول إلى هذا الهدف رأى أنّ أفضل طريق هو أن يستغلّ حب الإنسان ورغبته الذاتية في التكامل والرقي والحياة الخالدة، وليوفّر لهما عذراً يعتذران ويتوسلان به لتبرير مخالفتهما لأمر اللَّه ونهيه، ولهذا قال لآدم وزوجته: «مَا نَهكُمَا

رَبُّكُمَا عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ».

وبهذه الطريقة صوّر الأمر الإلهي في نظرهما بشكل آخر.

ولما سمع آدم هذا الكلام غرق في التفكير ولكن الشيطان- من أجل أن يحكم قبضته ويعمّق وسوسته في روح آدم وحواء- توسل بالأيمان المغلّظة للتدليل على أنّه يريد لهما الخير! «وَقَاسَمَهُمَا إِنّى لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ».

لم يكن آدم يمتلك تجربة كافية عن الحياة، ولم يكن قد وقع في حبائل الشيطان وخدعه بعد ولم يعرف بكذبه وتضليله قبل هذا، كما أنّه لم يكن في مقدوره أن يصدّق بأن يأتي بمثل هذه الأيمان المغلّظة كذباً، ولهذا وقع في حبال الشيطان، وسقط في ورطة المخالفة والعصيان للأوامر الإلهية، كما يعبّر القرآن عن ذلك ويلخّصه في عبارة موجزة إذ يقول: «فَدَلهُمَا بِغُرُورٍ» «1».

______________________________

(1) «دلّى»: من مادة التدلية وتعني إرسال الدلو في البئر بحبلٍ تدريجاً وهذه كناية لطيفة عن أنّ الشيطان أنزل بحبل مكره وخداعه آدم وزوجته من مقامهما الرفيع، وأرسلهما إلى قعر بئر المشكلات والإبتعاد عن الرحمة الإلهية.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 109

وبمجرّد أن ذاق آدم وزوجته من تلك الشجرة الممنوعة تساقط عنهما ما كان عليهما من لباس وانكشفت سوءاتهما «فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا».

وجُرّدا من لباس الجنة الذي هو لباس الكرامة الإلهية.

ثم يقول: إنّ آدم وحواء لمّا وجدا نفسيهما عاريين عمدا فوراً إلى ستر نفسيهما بأوراق الجنة: «وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ» «1».

وفي هذا الوقت بالذات جاءهما نداء من اللَّه يقول: ألم احذّركما من الاقتراب والأكل من هذه الشجرة؟ ألم أقل لكما: إنّ الشيطان عدوّ لكما؟ فلماذا تناسيتم أمري ووقعتم في مثل هذه الأزمة: «وَنَادَيهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ».

من المقايسة بين

تعبير هذه الآية والآية الاولى التي أجاز اللَّه فيها لآدم وحواء أن يسكنا الجنة، يستفاد بوضوح أنّهما بعد هذه المعصية ابتعدا عن مقام القرب الإلهي.

بحثان

1- ماذا كانت الشجرة الممنوعة؟ جاءت في المصادر الإسلامية تفسيران لها، أحدهما «مادي» وهو أنّها كانت «الحنطة» كما هو المعروف في الروايات.

والتفسير الآخر «معنوي» وهو أنّ المقصود من تلك الشجرة- كما في الرّوايات- هو ما عبّر عنها ب «شجرة الحسد» لأنّ آدم طبقاً لهذه الروايات- بعد ملاحظة مكانته ومقامه- تصوّر أنّه لا يوجد فوق مقامه مقام، ولا فوق مكانته مكانة، ولكن اللَّه تعالى أطلعه على مقام ثلّة من الأولياء من ذريته وأبنائه (رسول الأكرم وأهل بيته)، فحصل عنده ما يشبه الحسد، وكانت هذه هي الشجرة الممنوعة التي امر آدم بأن لا يقربها.

وفي الحقيقة تناول آدم- طبقاً لهذه الروايات- من شجرتين، كانت إحداهما أقل منه مرتبة وأدنى منه منزلة، وقد قادته إلى العالم المادي، وكانت هي «الحنطة». والاخرى هي الشجرة المعنوية التي كانت تمثل مقام ثلّة من أولياء اللَّه، والذي كان أعلى وأسمى من مقامه ومرتبته، وحيث إنّه تعدّى حدّه في كلا الصعيدين ابتلي بذلك المصير المؤلم.

ولكن يجب أن نعلم أنّ هذا الحسد لم يكن من النوع الحرام، بل كان مجرد إحساس

______________________________

(1) «يخصفان»: من مادة «الخصف» وتعني في الأصل ضمّ شي ء إلى شي ء آخر، والجمع، ثمّ أطلق على ترفيع النعل أو الثوب المتمزق وخياطته فقيل: خصف النعل أو الثوب، أي جمع الأجزاء المتفرقة وضمّ بعضها إلى الآخر.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 110

نفساني من دون أن تتبعه أيّة خطوة عملية على طبقه. 2- هل ارتكب آدم معصية؟ إنّ المصادر الإسلامية تقول لنا: إنّ الأنبياء لايرتكبون إثماً وإنّ منصب إمامة الناس وهدايتهم لا

يُعطى لمن يرتكب ذنباً ويقترف معصية. ونحن نعلم أنّ آدم كان من الأنبياء الإلهيين، وعلى هذا الأساس فإنّ التعابير التي جاءت في القرآن حول سائر الأنبياء الذين نسب إليهم العصيان، جميعها تعني «العصيان النسبي» و «ترك الأولى» لا العصيان المطلق.

وتوضيح ذلك: أنّ المعصية على نوعين: «المعصية المطلقة» و «المعصية النسبية»، والمعصية المطلقة هي مخالفة النهي التحريمي، وتجاهل الأمر الإلهي القطعي، وهي تشمل كل نوع من أنواع ترك الواجب وإتيان الحرام.

ولكن المعصية النسبية هي أن يصدر من شخصية كبيرة عمل غير حرام لا يناسب شأنه ولا يليق بمقامه.

فالصلاة التي يقوم بها فرد عادي قد تعتبر صلاة ممتازة، ولكنها تعدّ معصية إذا صدر مثلها من أولياء اللَّه.

وهكذا الحال في سائر أعمالهم، فإنّها على غرار عباداتهم، يجب أن تقاس بمنازلهم وشؤونهم، ولهذا إذا صدر منهم «ترك الأولى» عوتبوا من جانب اللَّه، والمراد من ترك الأولى هو أن يترك الإنسان فعل ما هو الأفضل ويعمد إلى عمل جيّد أو مستحب أدنى منه في الفضل.

إنّ نهي آدم عن الشجرة الممنوعة لم يكن نهياً تحريمياً، بل كان ترك أولى، ولكن نظراً إلى مكانة آدم ومقامه ومرتبته عُدّ صدوره أمراً مهمّاً وخطيراً، واستوجب مخالفة هذا النهي (وإن كان نهياً كراهياً وتنزيهياً) تلك العقوبة والمؤاخذة من جانب اللَّه تعالى.

قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَ تَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَ فِيهَا تَمُوتُونَ وَ مِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) رجوع آدم إلى اللَّه وتوبته: وفي المآل عندما عرف آدم وحواء بكيد إبليس، وخطّته ومكره الشيطاني، ورأيا نتيجة مخالفتهم فكّرا في تلافي ما فات، وجبران

ما صدر منهما،

مختصر الامثل، ج 2، ص: 111

فكانت أوّل خطوة خطياها هي: الاعتراف بظلمهما لنفسيهما أمام اللَّه: «قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ».

إنّ توبة آدم وحواء الخالصة وإن قُبِلت من جانب اللَّه تعالى- كما نقرأ ذلك في الآية (37) من سورة البقرة: «فَتَابَ اللَّهُ»- ولكنهما لم يستطيعا على كل حال التخلّص من الأثر الوضعي والنتيجة الطبيعية لعملهما، فقد امرا بمغادرة الجنة، وشمل هذا الأمر الشيطان أيضاً:

«قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ».

كما ذكّر الجميع بأنّهم سيتعرضون في الأرض للموت بعد الحياة، ثم يخرجون من الأرض مرّة اخرى للحساب «قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ».

يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِبَاسُ التَّقْوَى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَ اللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) إنذار إلى كل أبناء آدم: إنّ اللَّه تعالى بيّن في الآيات الحاضرة وما بعدها سلسلة من التعاليم والبرامج البنّاءة لجميع أبناء آدم، وهي تعتبر في الحقيقة استمراراً لبرامج آدم في الجنة.

ففي البداية يشير إلى مسألة اللباس وستر سَوءات البدن التي كان لها دور مهم في قصة آدم، إذ يقول: «يَا بَنِى ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِى سَوْءَاتِكُمْ».

ولكن فائدة اللباس الذي أرسلناه لكم لا تقتصر على ستر البدن وإخفاء

العيوب والسوءآت، بل للتجمل والزينة أيضاً حيث يجعل أجسامكم أجمل مما هي عليه.

«وَرِيشًا».

«ريش»: في الأصل هو ما يستر أجسام الطيور، وحيث إنّ ريش الطيور هو اللباس الطبيعي في أجسامها، لهذا اطلق على نوع من أنواع الألبسة، ولكن حيث إنّ ريش الطير في

مختصر الامثل، ج 2، ص: 112

الأغلب مختلف الألوان جميلها، لذلك تتضمن هذه الكلمة مفهوم الزينة والجمال.

ثم تحدث القرآن عقيب هذه الجملة التي كانت حول اللباس الظاهري، عن حد اللباس المعنوي تبعاً لسيرته في الكثير من الموارد التي تمزج بين الجانبين المادي والمعنوي، الظاهري والباطني إذ قال: «وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذلِكَ خَيْرٌ».

وتشبيه التقوى باللباس تشبيه قوي الدلالة، معبّر جداً، لأنّه كما أنّ اللباس يحفظ البدن من الحرّ والقرّ، يقي الجسم عن الكثير من الأخطار، ويستر العيوب الجسمانية، وهو بالإضافة إلى هذا وذاك زينة للإنسان، ومصدر جمال، كذلك روح التقوى، فإنّها مضافاً إلى ستر عيوب الانسان، ووقايته من الكثير من الأخطار الفردية والاجتماعية، تعدّ زينة كبرى له ...

زينة ملفتة للنظر تضيف إلى شخصيته رفعة وسمّواً، وتزيدها جلالًا وبهاء.

والمراد من لباس التقوى هو «روح التقوى» التي تحفظ الإنسان، وتنطوي تحتها معاني «الحياء» و «العمل الصالح» وأمثالهما.

ثمّ إنّ اللَّه تعالى يقول في ختام الآية: «ذلِكَ مِن ءَايَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ». أي إنّ هذه الألبسة التي جعلها اللَّه لكم، سواء الألبسة المادية أو المعنوية، اللباس الجسماني أو لباس التقوى، كلها من آيات اللَّه ليتذكر الناس نعم الرب تعالى.

اللباس في الماضي والحاضر: لم يزل الإنسان فيما مضى- كما يشهد به التاريخ- يلبس الثياب ولكن الألبسة قد تغيرت وتنوعت تنوعاً بالغاً عبر الزمن. لقد تطورت وسائل إنتاج الألبسة والثياب في عصرنا الراهن تطوراً هائلًا، واتسع نطاقها اتساعاً كبيراً، بحيث أصبح لا يقاس

بما مضى.

ولكن- للأسف- قد اتسعت الجوانب الفرعية، بل وغير المحمودة والفاضحة للثياب والألبسة وتعددت كثيراً إلى درجة أنّها غطت على الفلسفة الأصلية للباس.

لقد أصبح اللباس- اليوم- وسيلة لأنواع التظاهر، وإشاعة الفساد، وتحريك الشهوات، والتكبر والإسراف والتبذير، وما شابه ذلك. حتى أنّنا ربّما نشاهد ألبسة يرتديها جماعات من الناس- وبخاصة الشباب المتغرب- يفوق طابُعها الجنوني على الطابع العقلاني، وتكون أشبه بكل شي ء إلّاباللباس والثوب.

الآية اللاحقة يحذّر فيها اللَّه سبحانه جميع أبناء البشر من ذرية آدم من كيد الشيطان ومكره، ويدعو إلى مراقبته، والحذر منه، لأنّ الشيطان أبدى عداءه لأبيهم آدم، فكما أنّه

مختصر الامثل، ج 2، ص: 113

نزع عنه لباس الجنة بوساوسه يمكن أن ينزع عنهم لباس التقوى، ولهذا يقول تعالى: «يَا بَنِى ءَادَمَ لَايَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطنُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا».

ثمّ إنّ اللَّه تعالى يؤكّد على أنّ الشيطان وأعوانه يختلفون عن غيرهم من الأعداء: «إِنَّهُ يَرَيكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَاتَرَوْنَهُمْ». فلابدّ من شدة الحذر من مثل هذا العدو.

وفي خاتمة الآية يأتي سبحانه بجملة هي إجابة على سؤال مهم، فقد يتساءل أحد: كيف سلّط اللَّه العادل الرحيم عدوّاً بهذه القوة على الإنسان ... عدوّاً لا يمكن مقايسة قواه بقوى الإنسان ... عدواً يذهب حيث يشاء دون أن يحس أحد بتحركاته، بل إنّه- حسبما جاء في بعض الأحاديث- يجري من الإنسان مجرى الدم في عروقه، فهل تنسجم هذه الحقيقة مع عدالة اللَّه سبحانه؟!

الآية الشريفة- في خاتمتها- ترد على هذا السؤال الاحتمالي إذ تقول: «إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ». أي إنّ الخطوات الاولى نحو الشيطان إنّما يخطوها الإنسان نفسه، وهو الذي يسمح للشيطان بأن يتسلل إلى مملكة جسمه. فالشيطان لا يستطيع إجتياز حدود

الروح ويعبرها إلّابعد موافقة من الإنسان نفسه.

وفي الآية (42) من سورة الحجر نقرأ: «إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ».

في الآية التالية يشير تعالى إلى واحدة من وساوس الشيطان المهمة والتي تجري على ألسنة بعض الشياطين من الإنس أيضاً، وهي أنّه عندما يُسأل الشخص لدى إرتكابه عملًا قبيحاً، عن دليله يجيب قائلًا: هذا ما وجدنا آباءنا يفعلونه: «وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءَابَاءَنَا».

ثمّ يضيفون إلى هذه الحجة حجة كاذبة اخرى قائلين: «وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا».

والملفت للنظر أنّ القرآن الكريم لم يَعبأ بالدليل الأول (يعني التقليد الأعمى للآباء والأسلاف) ولم يعتن به، وإنّما اكتفى بالردّ على الحجة الثانية، أو بالأحرى (التبرير الثاني) حيث قال: «قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَايَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ».

ثم يختم الآية بهذه العبارة: «أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَاتَعْلَمُونَ».

«الفحشاء»: هنا هو كل عمل قبيح منكر، ومسألة «الطواف بالبيت عراة» و «اتباع

مختصر الامثل، ج 2، ص: 114

القادة والزعماء الظلمة» تعدّ من المصاديق الواضحة لذلك.

قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ ادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدَى وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) بما أنّ الحديث في الآية السابقة دار حول الفحشاء التي يشمل مفهوماً كل أنواع الفعل القبيح، وتأكّد أنّ اللَّه لا يأمر بالفحشاء اطلاقاً لهذا اشير في هذه الآية إلى أصول ومبادى ء التعاليم الإلهية في مجال الوظائف والواجبات العملية في جملة قصيرة، ثم تبعه بيان أصول العقائد الدينية، أي المبدأ والمعاد، بصورة مختصرة موجزة.

يقول أوّلًا: أيها النبي «قُلْ أَمَرَ رَبّى بِالْقِسْطِ» والعدل.

ونحن نعلم أنّ للعدل مفهوماً واسعاً يشمل جميع الأعمال الصالحة، لأنّ حقيقة العدل

هي استخدام كل شي ء في مجاله، ووضع كل شي ء في محله.

ثمّ إنّه سبحانه أمر بالتوحيد في العبادة ومحاربة كل ألوان الشرك وأنواعه، إذ قال:

«وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ». أي وجّهوا قلوبكم نحو اللَّه الواحد دون سواه «وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ».

وبعد تحكيم وإرساء قاعدة التوحيد، وجه الأنظار نحو مسألة المعاد والبعث يوم القيامة، إذ قال: «كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ».

إنّ الآية الحاضرة تعكس إحدى أقصر وأجمل التعابير في مسألة المعاد الجسماني، إذ تقول: انظروا إلى بداية الخلق، انظروا إلى جسمكم الذي يتكون من مقدار كبير من الماء، ومقدار أقل من المواد المعدنية وشبه المعدنية المختلفة المتنوعة أين كان في السابق؟ فالمياه المستخدمة في جسمكم يحتمل أنّ كل قطرة منها كانت سادرة في محيط من محيطات الأرض ثم تبخّرت وتبدلت إلى السُّحب، ثم نزلت في شكل قطرات المطر على الأراضي، والذرات التي استخدمت في نسيج جسمكم من مواد الأرض الجامدة كانت ذات يوم في هيئة حبّة قمح أو ثمرة شجرة، أو خضروات مختلفة جُمعت من مختلف نقاط الأرض.

وعلى هذا فلا مكان للتعجب والدهشة إذا سمعنا أنّه بعد تلاشي بدن الإنسان ورجوعه

مختصر الامثل، ج 2، ص: 115

إلى حالته الاولى تجتمع تلك الذرات ثانية، وتتواصل وتترابط ويتشكل الجسم الأول، فلو كان هذا الأمر محالًا فلماذا وقع في مبدأ الخلقة؟!

إذاً «كما بدأكم» اللَّه «تعودون» أي يعيدكم في الآخرة، وهذا هو الموضوع الذي تضمنته العبارة القصيرة.

في الآية اللاحقة يصف سبحانه ردود الفعل التي أظهرها الناس قبال هذه الدعوة (الدعوة إلى التوحيد والخير والمعاد) فيقول: «فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّللَةُ».

ولأجل أن لا يتصور أحد أنّ اللَّه يهدي فريقاً أو يضلّ فريقاً من دون سبب، أضاف في الجملة ما يلي: «إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيطِينَ أَوْلِيَاءَ

مِن دُونِ اللَّهِ». أي إنّ الضالين هم الذين إختاروا الشياطين أولياء لهم بدل أن يدخلوا تحت ولاية اللَّه، فضلوا.

والعجب أنّه رغم كل ما أصابهم من ضلال وانحراف يحسبون أنّهم المهتدون الحقيقيون «وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُّهْتَدُونَ».

إنّ هذه الحالة تختص بالذين غرقوا في الطغيان والمعصية، وفي هذه الحالة اغلقت في وجوههم كل أبواب الهداية، وهذا هو ما أوجدوه وجلبوه لأنفسهم.

يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) الحديث في هاتين الآيتين يتناسب مع قصة آدم في الجنة، وكذلك يتناول مسألة اللباس وسائر مواهب الحياة، وكيفية الاستفادة الصحيحة منها. في البداية يأمر جميع أبناء آدم ضمن دستور عام أبدي، يشمل جميع الأعصار والقرون، أن يتخذوا زينتهم عندما يذهبون إلى المساجد: «يَا بَنِى ءَادَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ».

هذه الجملة يمكن أن تكون إشارة إلى كل «زينة جسمانية» مما يشمل لبس الثياب المرتبة الطاهرة الجميلة، وتمشيط الشعر، واستعمال الطيب والعطر وما شابه ذلك كما يمكن أيضاً أن تكون إشارة إلى كل «زينة معنوية» يعني الصفات الإنسانية والملكات الأخلاقية، وصدق

مختصر الامثل، ج 2، ص: 116

النية وطهارتها وإخلاصها. ثمّ في العبارة اللاحقة يشير سبحانه إلى مواهب اخرى، يعني الأطعمة والأشربة الطاهرة الطيبة، ويقول: «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا».

ولكن حيث إنّ الإنسان حريص بحكم طبيعته البشرية، يمكن أن يسي ء استخدام هذين التعليمين، وبدل أن يستفيد من نعمة اللباس والغذاء الصحيح بالشكل المعقول والمعتدل، يسلك سبيل الإسراف والتبذير والبذخ، لهذا أضاف مباشرة قائلًا: «وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا

يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ».

«الإسراف»: كلمة جامعة جدّاً بحيث تشمل كل إفراط في الكم والكيف، وكذا الأعمال العابثة والإتلاف وما شابه ذلك.

وفي الآية اللاحقة يعمد إلى الردّ- بلهجة أكثر حدّةً- على من يظن أنّ تحريم أنواع الزينة والتزين والإجتناب من الأطعمة الطيبة الحلال علامة الزهد، وسبباً للتقرب إلى اللَّه فيقول:

أيّها النبي: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ».

ثمّ أضاف للتأكيد: «قُلْ هِىَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيمَةِ». أي إنّ هذه النعم والمواهب قد خلقت للمؤمنين في هذه الحياة، وإن كان الآخرون- أيضاً- يستفيدون منها رغم عدم صلاحيتهم لذلك، ولكن في يوم القيامة حيث الحياة الأعلى والأفضل، وحيث يتميز الخبيث عن الطيب، فإنّ هذه المواهب والنعم ستوضع تحت تصرف المؤمنين الصالحين فقط، ويحرم منها الآخرون حرماناً كلياً.

وفي ختام الآية يقول من باب التأكيد: «كَذلِكَ نُفَصّلُ الْأَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ».

لقد اختار الإسلام- كسائر الموارد- حدّ التوسط والإعتدال في مجال الإنتفاع والاستفادة من أنواع الزينة.

ولم يكتف الإسلام بتجويز التمتع بجمال الطبيعة والاستفادة من الألبسة الجميلة والمناسبة واستعمال كل أنواع العطور فحسب بل اوصي بذلك وحثّ عليه أيضاً.

توصية صحية هامة: إنّ عبارة «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا» التي جاءت في الآية الحاضرة، وإن كانت تبدو للنظر أمراً بسيطاً جدّاً، إلّاأنّه ثبت اليوم أنّه واحد من أهم الأوامر والتعاليم الصحية، وذلك لأنّ تحقيقات العلماء توصلت إلى أنّ منبع الكثير من الأمراض والآلام هو الأطعمة الإضافية الزائدة التي تبقى في بدن الإنسان إنّ هذه المواد الإضافية تشكل من جانب عبئاً ثقيلًا على القلب وغيره من أجهزة الجسم، وهي من

مختصر الامثل، ج 2، ص: 117

جانب آخر منبع مهيّأ لمختلف أنواع العفونات والأمراض.

إنّ العامل الأصل في وجود هذه المواد الزائدة هو

الإسراف، والإفراط في الأكل والبطنة، والطريق إلى تجنب هذه الحالة ليس إلّارعاية الإعتدال في الأكل.

قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) لقد شاهدنا مراراً أنّ القرآن الكريم كلّما تحدث عن أمر مباح أو لازم، تحدث فوراً عن ما يقابله، من الامور القبيحة والمحرمات، ليكمّل كل واحد منهما الآخر.

وهنا أيضاً تحدّث- عقيب السماح بالتمتع والاستفادة من المواهب الإلهية وإباحة كل ما هو زينة وجمال- عن المحرمات على نحو العموم، ثم أشار بصورة خاصة إلى عدة نقاط مهمة.

ففي البداية تحدث عن تحريم الفواحش وقال: يا أيّها النبي «قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّىَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ».

«الفواحش»: جمع «فاحشة» وتعني الأعمال القبيحة البالغة في القبح والسوء لا جميع الذنوب، ولعل التأكيد على هذا المطلب (ماظهر منها وما بطن) هو لأجل أنّ العرب الجاهليين كانوا لا يستقبحون عمل الزنا إذا اتي به سرّاً، ويحرّمونه إذا كان ظاهراً مكشوفاً.

ثمّ إنّه عمّم الموضوع وأشار إلى جميع الذنوب وقال: «وَالْإِثْمَ». أي كل إثم.

والإثمّ في الأصل يعني كل عمل مضر، وكل ما يوجب انحطاط مقام الإنسان وتردّي منزلته، ويمنعه ويحرمه من نيل الثواب والأجر الحسن. وعلى هذا يدخل كل نوع من أنواع الذنوب في المفهوم الواسع للإثم.

ومرّة اخرى يشير بصورة خاصة إلى عدد من كبريات المعاصي والآثام، فيقول:

«وَالْبَغْىَ بِغَيْرِ الْحَقّ». أي كل نوع من أنواع الظلم، والتجاوز على حقوق الآخرين.

«البغي»: يعني السعي والمحاولة لتحصيل شي ء ولكن يراد منه غالباً الجهود المبذولة لغصب حقوق الآخرين، ولهذا يكون مفهومه- في الغالب- مساوياً لمفهوم الظلم.

ثمّ أشار تعالى

إلى مسألة الشرك وقال: «وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَّزِلْ بِهِ سُلْطَانًا». فهو أيضاً محرّم عليكم.

وآخر ما يؤكّد عليه من المحرمات هو نسبة شي ء للَّه لايستند إلى علم: «وَأَن تَقُولُوا عَلَى

مختصر الامثل، ج 2، ص: 118

اللَّهِ مَا لَاتَعْلَمُونَ».

وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَ لَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) لكل امة أجل: في هذه الآية يشير اللَّه تعالى إلى واحدة من سنن الكون والحياة، أي فناء الامم وزوالها، ويلقي ضوءاً أكثر على الأبحاث التي تتعلق بحياة أبناء البشر على وجه الأرض ومصير العصاة، التي سبق الحديث عنها في الآيات السابقة. فيقول أوّلًا: «وَلِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ».

ثم يشير إلى أنّ هذا الأجل لا يتقدم ولا يتأخر إن جاء «فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَايَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ». أي إنّ الامم والشعوب مثل الأفراد، لها موت وحياة، وأنّ الامم تندثر وينمحي أثرها من على وجه الأرض، وتحل مكانها امم اخرى، وإنّ سنّة الموت وقانون الفناء لا يختصان بأفراد الإنسان، بل تشمل الجماعات والأقوام والامم أيضاً، مع فارق وهو أنّ موت الشعوب والأمم يكون- في الغالب- على أثر انحرافها عن جادة الحق والعدل، والإقبال على الظلم والجور، والإنغماس في بحار الشهوات، والغرق في أمواج الإفراط في التجمل والرفاهية.

فعندما تسلك الأمم في العالم هذه المسالك وتنحرف عن سنن الكون وقوانين الخلقة، تفقد مصادرها الحيوية الواحد تلو الآخر، وتسقط في النهاية.

ويجب الإلتفات إلى أنّ «الساعة» في اللغة تعني أصغر وحدة زمنية، فربّما تكون بمعنى لحظة، وربّما تكون بمعنى أقل قدر من الزمن.

يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَ أَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولئِكَ أَصْحَابُ

النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) تعليم آخر لأبناء آدم: مرّة اخرى يخاطب اللَّه سبحانه أبناء آدم وذريته، إذ يقول: «يَا بَنِى ءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايتِى فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ». أي إذا أتتكم رسلي يتلون عليكم آياتي فاتبعوهم، لأنّ من اتقى منكم

مختصر الامثل، ج 2، ص: 119

واتبعهم وأصلح نفسه والآخرين كان في أمن من عذاب اللَّه الأليم، فلا يخاف ولا يحزن.

وفي الآية اللاحقة يضيف سبحانه وتعالى قائلًا: «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بَايَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».

فتلك عاقبة المؤمنين، وهذه عاقبة المكذبين لهم.

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَ شَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) من هذه الآية فما بعد تتضمن الآيات بيان أقسام مختلفة من المصير السي ء الذي ينتظر المفترين والمكذبين لآيات اللَّه تعالى، وفي البداية تشير إلى كيفية حالهم عند الموت، إذ تقول: «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بَايَاتِهِ».

ثمّ إنّه تعالى يصف وضعهم عند الموت فيقول: «أُولئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ». أي إنّ هؤلاء سيأخذون ما هو نصيبهم وما هو مقدر مكتوب لهم من النعم المختلفة، حتى إذا استوفوا حظهم من العمر، وانتهوا إلى آجالهم النهائية، حينئذ تأتيهم ملائكتنا الموكلون بقبض أرواحهم.

وعلى كل حال، فإنّ عقوباتهم تبدأ منذ لحظة حلول الموت، ففي البداية يواجهون التوبيخ وعتاب الملائكة المكلفين بقبض أرواحهم، فيسألونهم: أين معبوداتكم التي اتخذتموها من دون اللَّه والتي طالما تحدثتم عنها، وكنتم تسوقون إليها ثرواتكم سفهاً. «قَالُوا أَيْنَ

مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ».

فيجيبهم هؤلاء بعد أن يرون أنفسهم منقطعين عن كل شي ء، ويرون كيف تبددت جميع أوهامهم و تصوراتهم الخاطئة حول آلهتهم وذهبت أدراج الرياح، قائلين: لانرى منها أثراً وإنّها لا تملك أن تدافع عنّا، وإنّ جميع ما فعلناه من العبادة لها كان عبثاً وباطلًا: «قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا».

وهكذا يشهدون على أنفسهم بالكفر والضلال: «وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ». أي في حين أغلق في وجههم طريق العودة، وهذا هو أوّل سوط جهنمي من سياط العقوبة الإلهية التي تتعرض لها أرواحهم.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 120

قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَ لكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَ قَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) تنازع القادة والاتباع في جهنم: في هذه الآية يواصل القرآن الكريم بيان المصير المشؤوم للمكذبين بآيات اللَّه، وقد صوّرت لنا الآيات السابقة وضعهم عند حلول الموت، وسؤال الملائكة القابضة للأرواح لهم، وهنا يرسم لنا ما يجري بين الجماعات المظلة والغاوية، وبين من تعرضوا للإغواء في يوم القيامة. ففي يوم القيامة يقول اللَّه لهم: التحقوا بمن يشابهكم من الجن والإنس ممن سبقوكم، وذوقوا نفس مصيرهم النار «قَالَ ادْخُلُوا فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مّنَ الْجِنّ وَالْإِنسِ فِى النَّارِ».

وعندما يدخل الجميع في النار تبدأ مصادماتهم مع زملائهم وأشباههم في المسلك، وهي مصادمات عجيبة، فكلما دخلت جماعة منهم في النار لعنت الاخرى واعتبرتها سبباً لشقائها ومسؤولة عن بلائها ومحنتها «كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا»

«1».

ففي البداية يبدأ المخدوعون المغرّر بهم بعرض شكايتهم، وحيث إنّهم لا يجدون مناصاً ممّا هم فيه يقولون: ربّنا إنّ هؤلاء المغوين هم الذين أضلونا وخدعونا، فضاعف يا ربّ عذابهم، عذاباً لضلالهم وعذاباً لإضلالهم إيّاناً، وهذا هو ما يتضمنه قوله تعالى: «حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَيهُمْ لِأُولَيهُمْ رَبَّنَا هؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مّنَ النَّارِ».

ولكن العجيب هو أن يقال لهم في معرض الإجابة على طلبهم: سيكون لكلتا الطائفتين ضعفان من العذاب وليس للمضلين فقط «قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِن لَّاتَعْلَمُونَ».

وفي الآية اللاحقة ينقل القرآن الكريم جواب قادة الضلال والانحراف بأنّه ليس بيننا وبينكم أي تفاوت، فإذا قلنا فقد أيّدتم، وإذا خطونا فقد ساعدتم، وإذا ظلمنا فقد عاونتم،

______________________________

(1) التعبير بالاخت كناية عن الإرتباط الفكري والصّلة الرّوحية بين هذه الفرق المنحرفة، وحيث إنّ الامّة مؤنث لفظي، لهذا عبّر عنها بالاخت، لا الأخ.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 121

وإذن فذوقوا بإزاء أعمالكم عذاب اللَّه الأليم «وَقَالَتْ أُولهُمْ لِأُخْرَيهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ».

إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) مرّة اخرى يتناول القرآن بالحديث مصير المتكبرين والمعاندين، يعني اولئك الذين لا يخضعون لآيات اللَّه ولا يستسلمون للحق، فيقول: «إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بَايَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ».

في تفسير مجمع البيان عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «أمّا المؤمنون فترفع أعمالهم وأرواحهم إلى السماء فتفتح لهم أبوابها. وأمّا الكافر فيصعد بعمله وروحه حتى إذا بلغ إلى السماء نادى مناد:

اهبطوا به إلى سجّين وهو واد بحضرموت يقال له برهوت».

ثمّ أضاف قائلًا: «وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمّ الْخِيَاطِ».

إنّ هذا التعبير كناية لطيفة عن استحالة هذا الأمر، حتى لا يشك أحد في عدم وجود طريق لدخول المستكبرين إلى الجنة مطلقاً.

وفي خاتمة الآية يضيف تعالى للمزيد من التأكيد والتوضيح قائلًا: «وَكَذلِكَ نَجْزِى الْمُجْرِمِينَ».

وفي الآية اللاحقة يشير إلى قسم آخر من عقوبتهم المؤلمة إذ يقول: «لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ» «1».

ثم يضيف للتأكيد: «وَكَذلِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ».

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَ نَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَ قَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهذَا وَ مَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَ نُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)

______________________________

(1) «المهاد»: جمع مهد وزان عهد أي الفرش؛ و «الغواش»: في الاصل غواشي جمع غاشية بمعنى كل نوع من أنواع الغطاء.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 122

ولقد كان البحث في الآيات السابقة حول المكذبين لآيات اللَّه، والمستكبرين والظالمين، وهنا يشرح ويبين المستقبل المشرق للمؤمنين إذ يقول: «وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ...

أُولئِكَ أصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».

وقد أتى بين المبتدأ والخبر بجملة معترضة توضّح الكثير من الإبهامات إذ يقول: «لَا نُكَلّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا». وهذه الجملة تؤكّد بأنّه لا ينبغي لأحد أن يتصور بأنّ الإيمان باللَّه، والإتيان بالعمل الصالح وسلوك سبيل المؤمنين، أمر متعسر غير مقدور إلّالأفراد معدودين، لأنّ التكاليف الإلهية في حدود الطاقة البشرية وليست أكثر منها.

إنّ هذه الآية- مثل سائر الآيات القرآنية- تحصر وسيلة النجاة والسعادة الأبدية في الإيمان والعمل

الصالح، وهكذا تفنّد العقيدة النصرانية المحرفة الذين يعتبرون صلب المسيح في مقابل ذنوب البشر وسيلة للنجاة، ويقولون: إنّه قربان لخطايا الإنسانية.

إنّ إصرار القرآن الكريم على مسألة الإيمان والعمل الصالح، في الآيات المختلفة لتفنيد هذه المقولة وأمثالها.

وفي الآية اللاحقة أشار تعالى إلى واحدة من أهم النعم التي أعطاها اللَّه سبحانه لأهل الجنة، والتي تكون سبباً لطمأنينتهم النفسية وسكنتهم الروحية، إذ قال: «وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ».

«الغِل»: في الأصل بمعنى نفوذ الشي ء خفيّة وسرّاً، ولهذا يقال للحسد والحقد والعداوة، الذي يتسلّل إلى النفس الإنسانية بصورة خفية (الغل).

وإنّ من أكبر عوامل الشقاء التي يعاني منها الناس في هذه الحياة، ومصدر الكثير من الصراعات الاجتماعية الواسعة التي تؤدّي- مضافاً إلى الخسائر الفادحة في المال والنفس- إلى زعزعة الاستقرار الروحي، هو الحسد والحقد.

إنّ أهل الجنة معافون من هذه الشقاوات والمحن بالكلية، لأنّهم لا يتصفون بهذه الصفات القبيحة، إنّهم يعيشون معاً في منتهى التواد والتحابب والصفاء والسكينة، ولهذا راضون عن وضعهم الذي هم فيه.

وبعد ذكر هذه النعمة الروحانية، يشير القرآن الكريم إلى نعمهم المادية الجسدية، فيقول:

«تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ».

ثم يعكس رضى أهل الجنة الكامل الشامل الذي يعبرون عنه بالحمد والشكر للَّه وحده

مختصر الامثل، ج 2، ص: 123

على ما هداهم إليه من النعم «وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَينَا لِهذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلَا أَنْ هَدَينَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبّنَا بِالْحَقّ».

وهنا يأتيهم النداء بأنّ ما ورثتموه من النعم إنّما هو بسبب أعمالكم: «وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

وَ نَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ

سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَهَا عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) بعد البحث في الآيات السابقة حول مصير أهل الجنة وأهل النار، أشار هنا إلى حوار هذين الفريقين في ذلك العالم، ويستفاد من ذلك أنّ أهل الجنة وأهل النار يتحادثون بينهم وهم في مواقعهم في الجنة أو النار، فيقول أوّلًا: «وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا».

فيجيبهم أهل النار قائلين: نعم وجدنا كل ذلك، عين الحقيقة «قَالُوا نَعَمْ».

ثم يضيف تعالى بأنّه في هذا الوقت بالذات ينادي مناد بنداء يسمعه الجميع: أن لعنة اللَّه على الظالمين «فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ».

ثم يعرّف الظالمين ويصفهم بقوله: «الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْأَخِرَةِ كَافِرُونَ» «1».

جاء في الأحاديث الإسلامية المفسرة والموضّحة لهذه الآية، تفسير المؤذّن بأمير المؤمنين علي عليه السلام.

في تفسير مجمع البيان: روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن محمّد بن الحنفية عن علي عليه السلام أنّه قال: «أنا ذلك المؤذّن».

و بإسناده عن ابن عباس: إنّ لعليّ عليه السلام في كتاب اللَّه أسماء لا يعرفها الناس، قوله «فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ» فهو المؤذن بينهم، يقول: «ألا لعنة اللَّه على الذين كذّبوا بولايتي واستخفّوا بحقي».

______________________________

(1) «يبغونها عوجاً»: بمعنى يطلبونها عوجاً، أي أنّهم يرغبون ويجتهدون في أن يضلّوا الناس بإلقاء الشبهات والدعايات المسموعة عن الطريق المستقيم.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 124

وَ بَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَ عَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَ نَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَ هُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَ إِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَ نَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا

مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَ مَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَ هؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) الأعراف معبر مهم إلى الجنة: عقيب الآيات السابقة التي بيّنت جانباً من قصة أهل الجنة وأهل النار، تحدث في هذه الآيات حول «الأعراف» التي هي منطقة في الحد الفاصل بين الجنة والنار مع خصوصياتها، وفي البداية يشير إلى الحجاب الذي أقيم بين أهل الجنة وأهل النار، إذ يقول: «وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ».

ويستفاد من الآيات اللاحقة أنّ الحجاب المذكور هو «الأعراف» وهو مكان مرتفع بين الفريقين يمنع من رؤية كل فريق الفريق الآخر، ولكن وجود مثل هذا الحجاب لا يمنع من أن يسمع كل منهما صوت الآخر ونداءه، كما مرّ في الآيات السابقة، على أنّ الذين يقفون على الأعراف، أي على الأقسام المرتفعة من هذا المكان المرتفع، يرون كلا الفريقين.

ثمّ إنّ القرآن الكريم يقول: «وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ». يرون كلًّا من أهل الجنة وأهل النار ويعرفونهم بملامح وجوههم.

ثم يقول: إنّ هؤلاء الرجال ينادون أهل الجنة ويسلّمون عليهم، ولكنهم لا يدخلون الجنة وإن كانوا يرغبون في ذلك «وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ».

ولكن عندما ينظرون إلى الطرف الآخر ويشاهدون أهل النار يصطلون فيها، يتضرعون إلى اللَّه طالبين أن لا يجعلهم مع الظالمين: «وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَاتَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ».

وفي الآية اللاحقة يضيف: إنّ أصحاب الأعراف ينادون فريقاً من الجهنميين الذين يعرفونهم بملامح وجوههم ويلومونهم قائلين: أمّا ترون أنّ جمعكم للأموال والأفراد والتجبّر والتكبر عن قبول الحق لم ينفعكم شيئاً، فأين تلك الأموال واولئك الأعوان؟ وماذا حصدتم

مختصر الامثل، ج 2، ص: 125

من

تلك المواقف والصفات السيئة؟! «وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ».

ومرّة اخرى يقولون موبّخين ومعاتبين، وهم يشيرون إلى جمع من ضعفاء المؤمنين المستقرين فوق الأعراف: «أَهؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَايَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ».

وفي المآل تشمل الرحمة الإلهية هذه الطائفة من ضعفاء المؤمنين، ويقال لهم: «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَاخَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ».

يستفاد من مجموع الآيات والروايات أنّ الأعراف معبر صعب العبور على طريق الجنة والسعادة الأبدية.

ومن الطبيعي أنّ الأقوياء الصالحين والطاهرين هم الذين يعبرون هذا المعبر الصعب بسرعة، أمّا الضعفاء الذي خلطوا عملًا صالحاً وآخر سيئاً فيعجزون عن العبور.

كما أنّه من الطبيعي أيضاً أن تقف قيادات الجموع وسادة القوم عند هذه المعابر الصعبة مثل القادة العسكريين الذين يمشون في مثل هذه الحالات في مؤخرة جيوشهم ليعبر الجميع، يقفون هناك ليساعدوا ضعفاء الإيمان، فينجو من يصلح للنجاة ببركة مساعدتهم ومعونتهم ونجدتهم.

وعلى هذا الأساس، فأصحاب الأعراف فريقان: ضعفاء الإيمان والمتورطون في الذنوب الذين هم بحاجة إلى الرحمة، والأئمة السادة (يعني الأنبياء والأئمة والصلحاء) الذين يساعدون الضعفاء في جميع الأحوال.

وَ نَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَ لَعِباً وَ غَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هذَا وَ مَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) نِعم الجنة حرام على أهل النار: بعد أن استقر كل من أهل الجنة وأهل النار في أماكنهم ومنازلهم، تدور بينهم حوارات نتيجتها العقوبة الروحية والمعنوية لأهل النار، وفي البداية يبدأ الكلام من جانب أهل النار: «وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ

مختصر الامثل، ج 2، ص: 126

الْمَاءِ أَوْ

مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ». فهم يطلبون أن يجودوا عليهم بشي ء من الماء أو من نِعم الجنة.

ولكن أهل الجنة يبادرون إلى رفض هذا المطلب «قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ».

بحثان

1- إنّ عبارة «مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ» التي هي عبارة مجملة، وتتسم بالإبهام، تفيد أنّه حتى أهل النار لا يمكنهم أن يعرفوا بشي ء من حقيقة النعم الموجودة في الجنة وأنواعها. وهذا الموضوع يتفق وينسجم مع بعض الأحاديث التي تقول: (إنّ في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).

ثمّ إنّ عطف الجملة ب «أو» يشير إلى أنّ النعم الاخروية الاخرى وخاصة الفواكه يمكنها أن تحلّ محل الماء وتطفي ء عطش الإنسان.

2- إنّ عبارة «حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ» إشارة إلى أنّ أهل الجنة بأنفسهم، ليسوا هم الذين يمتنعون عن إعطاء شي ء من هذه النعم لأهل النار، لأنّه لا يقلّ منها شي ء بسبب الإعطاء، ولا أنّهم يحملون حقداً أو ضغينة على أحد في صدورهم، حتى بالنسبة إلى أعدائهم، ولكن وضع أهل النار بشكل لا يسمح لهم أن يستفيدوا من نعم الجنة.

إنّ هذا الحرمان نوع من «الحرمان التكويني» مثل حرمان كثير من المرضى من الأطعمة اللذيذة المتنوعة.

في الآية اللاحقة يبيّن سبب حرمانهم، بذكر صفات أهل النار وأنّ أهل هذا المصير الأسود هم الذين أوقعوا أنفسهم فيه فيقول أوّلًا: إنّ هؤلاء هم الذين اتخذوا دينهم لعباً «الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا».

وهذا إلى جانب أنّهم خدعتهم الدنيا واغتروا بها «وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا».

إنّ هذه الامور سببت في أن يغرقوا في وحل الشهوات، وينسوا كل شي ء حتى الآخرة، وينكروا أقوال الأنبياء، ويكذبوا بالآيات الإلهية، ولهذا أضاف قائلًا: «فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هذَا وَمَا كَانُوا بَايَاتِنَا يَجْحَدُونَ».

كما أنّه يستفاد من هذه

الآية أنّ أوّل مرحلة من مراحل الإنحراف والضلال، هو أن لا يأخذ الإنسان قضاياه المصيرية بمأخِذ الجدّ، بل يتعامل معها معاملة المتسلّي والهازل، فتؤدّي به هذه الحالة إلى الكفر المطلق، وإنكار جميع الحقائق.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 127

وَ لَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53) هذه الآية إشارة إلى أنّ حرمان الكفّار ومصيرهم المشؤوم إنّما هو نتيجة تقصيراتهم أنفسهم وإلّا فليس هناك من جانب اللَّه أي تقصير في هدايتهم وقيادتهم وإبلاغ الآيات إليهم وبيان الدروس التربوية لهم لهذا يقول تعالى: إنّنا لم نألُ جهداً ولم ندخر شيئاً في مجال الهداية والإرشاد، بل أرسلنا لهم كتاباً شرحنا فيه كل شي ء بحكمة ودراية: «وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنهُ عَلَى عِلْمٍ».

وهو كتاب فيه رحمة وهداية، لا للمعاندين الأنانيين، بل للمؤمنين: «هُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».

الآية اللاحقة تشير إلى الطريقة الخاطئة في تفكير العصاة والمنحرفين في صعيد الهداية الإلهية فيقول: «هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ». أي كأنّ هؤلاء يتوقعون أن يروا نتيجة الوعد والوعيد الإلهي بعيونهم (أي يروا أهل الجنّة وهم فيها، وأهل النار وهم فيها) حتى يؤمنوا.

ولكنّه توقّع سخيف، لأنّه عندما تُترجم الوعود الإلهية على صعيد الواقع ينتهي الامر، ولم يعد هناك مجال للرجوع ولا طريق للعودة، وهناك سيعترفون بأنّهم قد تناسوا كتاب اللَّه وتجاهلوا التعاليم الإلهية التي أنزلها على رسله بالحق، وكان قولهم حقّاً أيضاً: «يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ

رَبّنَا بِالْحَقّ».

سيغرقون في هذا الوقت في قلق واضطراب، ويفكرون في مخلّص ينقذهم من هذه المشكلة ويقولون: «فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا».

وإذا لم يكن هناك شفعاء لنا، أو إنّنا لا نصلح أساساً للشفاعة، أفلا يمكن أن نرجع إلى الدنيا ونقوم بأعمال غير ما عملناه سابقاً، ونسلّم للحق والحقيقة «أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ».

ولكن هذا التنبيه جاء متأخراً جداً، فلا طريق للعودة ولا صلاحية لهم للشفاعة لأنّهم

مختصر الامثل، ج 2، ص: 128

قد خسروا كل رؤوس أموالهم وتورطوا في خسران جميع وجودهم «قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ».

وسوف يثبت لهم أنّ أصنامهم ومعبوداتهم ليس لها أي دور هناك، وفي الحقيقة ضاعت- في نظرهم- جميعاً «وَضَلَّ عَنْهُم مَّاكَانُوا يَفْتَرُونَ». من هذه الآية يستفاد أوّلًا: أنّ الإنسان حرّ مختار في أعماله، وإلّا لما طلب العودة والرجوع إلى الدنيا لجبران ما فات، و ثانياً: إنّ العالم الآخر ليس مكان العمل واكتساب الفضائل والنجاة.

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) هذه الآية تصف المعبود الحقيقي مع ذكر صفاته الخاصة حتى يستطيع الذين يطلبون الحقيقة وينشدونها أن يعرفوه بوضوح في هذا العالم وقبل حلول يوم القيامة، ويبدأ حديثه هذا بقوله: «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ». أي أنّ المعبود لا يمكن أن يكون إلّامن كان خالقاً.

هل خلق العالم في ستة أيام؟ نظراً إلى المفهوم الواسع للفظة «يوم» وما يعادلها في مختلف اللغات، يكون جواب هذا السؤال واضحاً، لأنّه كثيراً ما يستعمل اليوم بمعنى الدورة. على هذا الأساس أنّ

اللَّه سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض في ست دورات متوالية، وإن استغرقت كل دورة من هذه الدورات ملايين أو ملياردات السنين، والعلم الحديث لم يبيّن أي أمر يخالف هذا الموضوع.

ثمّ يقول القرآن الكريم: إنّ اللَّه تعالى بعد خلق السماوات والأرض أخذ زمام إدارتها بيده (أي ليس الخلق منه فقط، بل منه الإدارة والتدبير أيضاً) فقال تعالى: «ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ».

وهذا جواب لمن يعتقد أنّ الكون محتاج إلى اللَّه تعالى في الخلق والإيجاد دون البقاء.

«العرش»: في اللغة هو ما له سقف، وقد يطلق العرش على نفس السقف، وربّما يأتي بمعنى الأسرة الكبيرة المرتفعة، ولكن عندما ينسب إلى اللَّه سبحانه وتعالى ويقال: عرش اللَّه، يراد منه مجموعة عالم الوجود، الذي يعدّ في الحقيقة سرير حكومة اللَّه تعالى.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 129

وعلى هذا تكون عبارة «اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ» كناية عن الإحاطة الكاملة للَّه تعالى وسيطرته على تدبير أمور الكون- سماءاً وأرضاً- بعد خلقها.

ثم يقول بأنّه تعالى هو الذي يلقي بالليل- كغشاء- على النهار، ويستر ضوء النهار بالأستار المظلمة «يُغْشِى الَّيلَ النَّهَارَ».

ثم يضيف بعد ذلك قائلًا: إنّ الليل يطلب النهار طلباً حثيثاً «يَطْلُبُهُ حَثِيثًا».

ثم يضيف تعالى أنّه هو الذي خلق الشمس والقمر والنجوم، خاضعة لأمره بعد خلقها:

«وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ».

ثم بعد ذكر خلق العالم ونظام الليل والنهار، وخلق الشمس والقمر والنجوم، قال مؤكّداً:

اعلموا أنّ خلق الكون وتدبير اموره كله بيده سبحانه دون سواه «أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ».

إنّ المراد من «الخلق» هو الخلق والإيجاد الأوّل. والمراد من «الأمر» هو السنن والقوانين الحاكمة على عالم الوجود بأسره بأمر اللَّه تعالى، والتي تقود الكون في مسيره المرسوم له. أي إنّ العالم كما يحتاج في حدوثه إلى اللَّه، كذلك يحتاج في تدبيره واستمرار

حياته وإدارة شؤونه إلى اللَّه، ولو أنّ اللَّه صرف عنايته ولطفه عن الكون لحظة واحدة لتبدد النظام وانهار وانهدم بصورة كاملة.

ثمّ في ختام الآية يقول: «تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ».

إنّ هذه الجملة- بعد ذكر خلق وتدبير عالم الوجود- نوع من الثناء على الذات الربوبية المقدسة.

فهو وجود مبارك أزلي أبدي، وهو بالتالي منشأ جميع البركات والخيرات، ومنبع الخير المستمر «تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ».

ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَ ادْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) شروط استجابة الدعاء: لقد أثبتت الآية السابقة- في ضوء ما أقيم من برهان واضح- هذه الحقيقة، وهي أنّ الذي يستحق العبادة فقط هو اللَّه، وفي عقيب ذلك ورد الأمر هنا بالدعاء،

مختصر الامثل، ج 2، ص: 130

الذي هو مخ العبادة وروحها، يقول أوّلًا: «ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً».

«التضرع»: في الأصل من مادة «ضَرْع» بمعنى الثدي، وعلى هذا يكون فعل التضرع بمعنى حلب اللبن من الضرع، وحيث إنّه عند حلب اللبن تتحرك الأصابع على حلمة الثدي من جهاتها المختلفة استداراً للحليب، لهذا استعملت هذه الكلمة في من يظهر حركات خاصة إظهاراً للخضوع والتواضع. وعلى هذا فإنّ الآية المبحوثة، وعبارة «ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا» تحثّنا على أن نقبل على اللَّه بمنتهى الخضوع والخشوع والتواضع، بل يجب أن تنعكس روح الدعاء في أعماق روح الإنسان، وعلى جميع أبعاد وجوده.

وأمره تعالى بأن يدعى اللَّه «خفية» وفي السّر، لأنّه أبعد عن الرياء، وأقرب إلى الإخلاص، ولأجل أن يكون الدعاء مقروناً بتمركز الفكر وحضور القلب.

ثمّ قال تعالى في ختام الآية: «إِنَّهُ لَايُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ». أي إنّ اللَّه لا يحب المعتدين.

ولهذه العبارة معنى وسيع يشمل كل نوع من

أنواع العدوان والتجاوز، سواء الصراخ ورفع الصوت عالياً جداً حين الدعاء، أو التظاهر وممارسة الرياء، أو التوجه إلى غير اللَّه حين الدعاء.

وفي الآية اللاحقة يشير تعالى إلى حكم هو في الحقيقة شرط من شروط تأثير الدعاء، إذ قال: «وَلَا تُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلحِهَا».

ولهذا فلا تستجاب أدعية المفسدين والعصاة، ولا تنتهي إلى أية نتيجة مرجوّة.

والمراد من «الفساد بعد الإصلاح» يمكن أن يكون الإصلاح من الكفر أو الظلم أو كليهما.

في تفسير مجمع البيان عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «إنّ الأرض كانت فاسدة فأصلحها اللَّه بنبيّه صلى الله عليه و آله».

ومرّة اخرى يعود إلى مسألة الدعاء ويذكر شرطاً آخر من شرائطه فيقول: «وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا». أي لا تكونوا راضين معجبين بأفعالكم بحيث تظنون أنّه لا توجد في حياتكم أيّة نقطة سوداء، إذ إنّ هذا الظن هو أحد عوامل التقهقر والسقوط، كما لا تكونوا يائسين إلى درجة أنّكم لا ترون أنفسكم لائقين للعفو الإلهي ولإجابة الدعاء، إذ إنّ هذا

مختصر الامثل، ج 2، ص: 131

اليأس والقنوط هو الآخر سبب لإنطفاء شعلة السعي والإجتهاد، بل لابدّ أن تعرجوا نحوه تعالى بجناحي (الخوف) و (الأمل) الخوف من المسؤوليات والعثرات، والأمل برحمته ولطفه.

وفي خاتمة الآية يقول تعالى للمزيد من التأكيد على أسباب الأمل بالرحمة الإلهية: «إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مّنَ الْمُحْسِنِينَ».

هذه الآيات قد تضمنت الإشارة إلى خمسة من شرائط قبول الدعاء وإجابته، وهي باختصار كالتالي:

1- أن يكون الدعاء عن تضرع وخفية.

2- أن لا يتجاوز حد الإعتدال.

3- أن لا يكون مقروناً بالإفساد والمعصية.

4- أن يكون مقروناً بالخوف والامل المعتدلين.

5- أن يكون مقروناً بالبرّ والإحسان، وفعل الخيرات.

وَ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا

بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) لابد من المربي والقابلية: في الآيات الماضية مرّت إشارات عديدة إلى مسألة «المبدأ» أي التوحيد ومعرفة اللَّه، من خلال الوقوف على أسرار الكون، وفي هذه الآيات ضمن بيان طائفة من النعم الإلهية وردت الإشارة إلى مسألة «المعاد» والبعث، ليكمل هذان البحثان أحدهما الآخر.

وهذه هي سيرة القرآن الكريم ودأبه في كثير من الموارد، حيث يقرن بين «المبدأ» و «المعاد»، والملفت للنظر أنّه يستعين لمعرفة اللَّه، وكذا لتوجيه الأنظار إلى أمر المعاد معاً بالاستدلال بالأسرار الكامنة في خلق موجودات هذا العالم، فيقول تعالى أوّلًا: «وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 132

ثمّ يقول: إنّ هذه الرياح التي تهب من المحيطات تحمل معها سحباً ثقيلة مشبّعة بالماء «حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا».

ثم يسوق تلك السحب إلى الأراضي الظامئة اليابسة، ويكلّفها بأن تروي تلك الأراضي العطاشى «سُقْنهُ لِبَلَدٍ مَّيّتٍ».

وبذلك ينهمر ماء الحياة في كل مكان «فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ».

وبمعونة هذا الماء نخرج للبشر أنواعاً متنوعة من الثمار والفواكة «فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلّ الثَّمَرَاتِ».

ثم عقيب ذلك يضيف: «كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى ونلبسهم حلّة الوجود والحياة مرّة اخرى.

ولقد أتينا بهذا المثال لأجل أن نريكم انموذجاً من المعاد في هذه الدنيا، الذي يتكرر أمام عيونكم كل يوم «لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ».

وفي الآية اللاحقة- وحتى لا يظن أحد أنّ نزول المطر على نمط واحد يدل على أنّ جميع الأراضي تصير حيّة على نمط واحداً أيضاً، وحتى يتّضح أنّ القابليات والإستعدادات المتفاوتة تسبّبت في أن تتفاوت حالات الاستفادة والإنتفاع بالمواهب الإلهية

يقول:

«وَالْبَلَدُ الطَّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ». أي إنّ الأرض الصالحة هي التي تستفيد من المطر، وتثمر خير إثمار بإذن ربّها.

أمّا الأراضي السبخة والخبيثة فلا تثمر إلّابعض الأعشاب غير النافعة «وَالَّذِى خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا» «1».

ثمّ في ختام الآية يقول تعالى: إنّ هذه الآيات نبيّنها لمن يشكرونها، ويستفيدون من عِبَرها ومداليلها، ويسلكون في ضوئها سبيل الهداية «كَذلِكَ نُصَرّفُ الْأَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ».

إنّ الآية الحاضرة إشارة إلى مسألة مهمّة وهي أنّ فاعلية الفاعل وحدها لا تكفي للإثمار والإنتاج الصحيح المطلوب، بل لابدّ من «قابلية القابل» فهي شرط للتأثير والإثمار.

______________________________

(1) «النّكد»: هو البخيل الممسك الذي يتعذر أخذ شي ء منه بسهولة، ولو أنّه أعطى لأعطى الشي ء اليسير الحقير. ولقد شبهت الأراضي المالحة السبخة غير المساعدة للزرع بمثل هذا الشخص.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 133

لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَ أَنْصَحُ لَكُمْ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ لِتَتَّقُوا وَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَ الَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ (64) رسالة نوح أوّل الرسل من أولي العزم: قد وردت قصة نوح في سور قرآنية متعددة، مثل سورة هود، الأنبياء، المؤمنون، الشعراء، لكن هنا اكتفي بإعطاء فهرست عن ذلك ضمن ست آيات هي: يقول أوّلًا: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ».

إنّ أوّل شي ء ذكّرهم به

هو إلفات نظرهم إلى حقيقة التوحيد، ونفي أيّ نوع من أنواع الوثنية «فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلهٍ غَيْرُهُ».

وبعد أن أيقظ نوح ضمائرهم وفطرتهم الغافية، حذّرهم من مغبة الوثنية وعاقبتها المؤلمة إذ قال: «إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ».

والمراد من «عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» يمكن أن يكون الطوفان المعروف بطوفان نوح، كما ويمكن أن يكون إشارة إلى العقوبة الإلهية في يوم القيامة.

ولكن قوم نوح بدل أن يستقبلوا دعوة هذا النبي العظيم الإصلاحية، المقرونة بقصد الخير والنفع لهم، فينضوون تحت راية التوحيد ويكفون عن الظلم والفساد، قال جماعة من الأعيان والأثرياء الذين كانوا يحسون بالخطر على مصالحهم بسبب يقظة الناس وانتباههم، ويرون الدين مانعاً من عبثهم ومجونهم وشهواتهم، قالوا لنوح بكل صراحة وقحة: نحن نراك في ضلال واضح «قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَيكَ فِى ضَللٍ مُّبِينٍ».

ولقد جابه نوح عليه السلام تعنتهم وخشونتهم بلحن هادي ء ولهجة متينة تطفح بالمحبّة والرحمة،

مختصر الامثل، ج 2، ص: 134

فقال في معرض الردّ عليهم: أنا لست بضال، بل ليست فيّ أية علامة للضلال، ولكني مرسل من اللَّه «قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِى ضَللَةٌ وَلكِنّى رَسُولٌ مّن رَّبّ الْعَالَمِينَ».

وهذه إشارة إلى أنّ الأرباب التي تعبدوها كلها لا أساس لها من الصحة، ورب العالمين ما هو إلّااللَّه الواحد الذي خلقها جميعاً وأوجدها من العدم. ثمّ إنّ هدفي إنّما هو إبلاغ ما حمّلت من رسالة «أُبَلّغُكُمْ رِسلتِ رَبّى».

ولن آلو جهداً في تقديم النصح لكم، وقصد نفعكم، وإيصال الخير إليكم «وَأَنصَحُ لَكُمْ».

ثمّ أضاف تعالى: «وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَاتَعْلَمُونَ».

إنّ هذه العبارة يمكن أن يكون لها جانب تهديد في مقابل معارضاتهم ومخالفتهم، وكأنّه يريد أن يقول: أنا أعلم بعقوبات إلهية أليمة تنتظر العصاة لا تعلمون

شيئاً عنها، أو تكون إشارة إلى لطف اللَّه ورحمته، وتعني أنّكم إذا أطعتم اللَّه، وكففتم عن تعنتكم، فإنّي أعلم مثوبات عظيمة لكم لا تعلمونها ولم تقفوا لحد الآن على سعتها.

وفي الآية اللاحقة نقرأ لنوح كلاماً آخر قاله في مقابل استغراب قومه من أنّه كيف يمكن لبشر أن يكون حاملًا لمسؤولية إبلاغ الرسالة الإلهية، إذ قال: «أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مّن رَّبّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ».

يعني: أيّ شي ء في هذه القضية يدعو إلى الإستغراب والتعجب، لأنّ الانسان الصالح هو الذي يمكنه أن يقوم بهذه الرسالة أحسن من أي كائن آخر.

ولكن بدل أن يقبلوا دعوة مثل هذا القائد المخلص الواعي فقد كذّبه الجميع، فأرسل اللَّه عليهم طوفاناً فغرق المكذبون ونجا في السفينة نوح ومن آمن «فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِى الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بَايَاتِنَا».

وفي خاتمة الآية ذكر دليل هذه العقوبة الصعبة، وأنّه عمى القلب الذي منعهم عن رؤية الحق، وأتباعه «إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ» «1».

______________________________

(1) «عمين»: جمع عمي، وهو يطلق عادة على من تعطلت بصيرته الباطنية، ولكن الأعمى يطلق على من فقد بصره الظاهري، وكذلك يطلق على من فقد بصيرته الباطنية أيضاً.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 135

وَ إِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَ إِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَ أَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ

وَ زَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَ جِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَ نَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَ غَضَبٌ أَ تُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَ الَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ قَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَ مَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72) لمحة عن قصة قوم هود: عقيب ذكر رسالة نوح والدروس الغنية بالعبر الكامنة فيها، عمد القرآن الكريم إلى إعطاء لمحة سريعة عن قصة نبي آخر من الأنبياء العظام، وهو النبي هود عليه السلام وذكر ما جرى بينه وبين قومه. يقول تعالى أوّلًا: ولقد أرسلنا إلى قوم عاد أخاهم هوداً «وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا».

وقوم «عاد» كانوا امة تعيش في أرض «اليمن» وكانت امة قوية من حيث المقدرة البدنية والثروة الوافرة التي كانت تصل إليهم عن طريق الزراعة والرعي، ولكنها كانت متخمة بالانحرافات الإعتقادية وبخاصة الوثنية والمفاسد الأخلاقية المتفشية بينهم.

وقد كُلّف «هود» الذي كان منهم- وكان يرتبط بهم بوشيجة القربى- من جانب اللَّه بأن يدعوهم إلى الحق ومكافحة الفساد، ولعل التعبير ب «أخاهم» إشارة إلى هذه الوشيجة النسبية بين هود وقوم عاد.

ثمّ إنّه يحتمل أيضاً أن يكون التعبير ب «الأخ» في شأن النبي هود، وكذا في شأن عدّة

مختصر الامثل، ج 2، ص: 136

أشخاص آخرين من الأنبياء الإلهيين مثل نوح عليه السلام (سورة الشعراء، الآية 106) وصالح (سورة الشعراء، الآية 142) ولوط (سورة الشعراء، الآية 161) وشعيب (سورة الأعراف، الآية 85) إنّما هو لأجل أنّهم كانوا يتعاملون مع قومهم في منتهى الرحمة،

والمحبة مثل أخ حميم، ولا يألون جهداً في إرشادهم وهدايتهم ودعوتهم إلى الخير والصلاح.

ثم يذكر تعالى أنّ هود شرع في دعوته في مسألة التوحيد ومكافحة الشرك والوثنية:

«قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أفَلَا تَتَّقُونَ».

ولكن هذه الجماعة الأنانية المستكبرة، وبخاصة أغنياؤها المغرورون المعجبون بأنفسهم، والذين يعبّر عنهم القرآن بلفظة «الملأ» باعتبار أنّ ظاهرهم يملأ العيون، قالوا لهود نفس ما قاله قوم نوح لنوح عليه السلام: «قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَيكَ فِى سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ».

ولكن هوداً- وهو يتحلى بالوقار والمتانة التي يتحلى بها الأنبياء والهداة الصادقون الطاهرون- من دون أن ينتابه غضب، أو تعتريه حالة يأس «قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِى سَفَاهَةٌ وَلكِنّى رَسُولٌ مِّن رَّبّ الْعَالَمِينَ».

ثم إنّ هوداً أضاف: إنّ مهمته هي إبلاغ رسالات اللَّه إليهم، وإرشادهم إلى ما فيه سعادتهم وخيرهم، وانقاذهم من ورطة الشرك والفساد، كل ذلك مع كامل الإخلاص والنصح والأمانة والصدق «أُبَلّغُكُمْ رِسلتِ رَبّى وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ».

ثم إنّ هوداً أشار- في معرض الردّ على من تعجب من أن يبعث اللَّه بشراً رسولًا- إلى نفس مقولة نوح النبي لقومه: «أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مّن رَّبّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ».

أي هل تعجبون من أن يرسل اللَّه رجلًا من البشر نبياً، ليحذركم من مغبة أعمالكم، وما ينتظركم من العقوبات في مستقبلكم؟

ثم إنّه إستثارة لعواطفهم الغافية، وإثارة لروح الشكر في نفوسهم، ذكر قسماً من النعم التي أنعم اللَّه تعالى بها عليهم، فقال: «وَاذْكُرُوا إِذ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ»، فقد ورثتم الأرض بكل ما فيها من خيرات عظيمة بعد أن هلك قوم نوح بالطوفان بسبب طغيانهم وبادوا.

ولم تكن هذه هي النعمة الوحيدة، بل وهب لكم

قوّة جسدية عظيمة «وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ بَصْطَةً».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 137

وفي خاتمة الآية يذكّر تلك الجماعة الأنانيّة بأن يتذكروا نعم اللَّه لتستيقظ فيهم روح الشكر فيخضعوا لأوامره، علّهم يفلحون «فَاذْكُرُوا ءَالَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».

ولكن في مقابل جميع المواعظ والإرشادات المنطقية، والتذكير بنعم اللَّه ومواهبه، انبرت تلك الثلة من الناس الذين كانوا يرون مكاسبهم المادية في خطر، وقبول دعوة النبي تصدّهم عن التمادي في أهوائهم وشهواتهم، انبرت إلى المعارضة، وقالوا بصراحة،: إنّك جئت تدعونا إلى عبادة اللَّه وحده وترك ما كان أسلافنا يعبدون دهراً طويلًا، كلّا، لا يمكن هذا بحال «قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا».

وفي النهاية، ولأجل أن يقطعوا أمل هود فيهم تماماً، ويقولوا كلمتهم الأخيرة قالوا: إذا كان حقاً وواقعاً ما تنذرنا به من العذاب، فلتبادر به، أي إنّنا لا نخشى تهديداتك أبداً «فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ».

وعندما بلغ الحوار إلى هذه النقطة، وأطلق اولئك المتعنتون كلمتهم الأخيرة الكاشفة عن رفضهم الكامل لدعوة هود، وأيس هود- هو الآخر- من هدايتهم تماماً، قال: إذن ما دام الأمر هكذا فسيحلّ عليكم عذاب ربّكم «قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ».

يعني أنّكم قد غرقتم في دوّامة الانحراف والفساد إلى درجة أنّ روحكم قد دفنت تحت اوزار كثيفة من النجاسات، وبذلك استوجبتم غضب اللَّه، وشملكم سخطه.

ثم لأجل أن لا يبقى منطق عبادة الاوثان من دون ردّ أضاف قائلًا: «أَتُجَادِلُونَنِى فِى أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ». فهذه الاصنام التي صنعتموها انتم وآباؤكم ليس لها من الالوهية الّا اسم فارغ وضعها أسلافكم كذباً وزوراً، ثم وجئتم تجادلونني في عبادتها في حين لم ينزل بذلك أي دليل من جانب

اللَّه.

ثم قال: فإذا كان الأمر هكذا فلننتظر جميعاً، انتظروا أنتم أن تنفعكم أصنامكم ومعبوداتكم وتنصركم، وأنتظر أنا أن يحلّ بكم غضب اللَّه وعذابه الأليم جزاء تعنتكم، وسيكشف المستقبل أي واحد من هذين الإنتظارين هو الأقرب إلى الحقيقة والواقع «فَانتَظِرُوا إِنّى مَعَكُم مّنَ الْمُنتَظِرِينَ».

وفي نهاية الآية بيّن القرآن مصير هؤلاء القوم المتعنتين في عبارة قصيرة موجزة:

«فَأَنجَيْنهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بَايَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 138

أجل، لقد أنجى اللَّه هوداً ومن اتبعه من القوم بلطفه ورحمته، وأمّا الذين كذبوا بآيات اللَّه، ورفضوا الإنضواء تحت لواء دعوته، والإنصياع للحق، فقد أبيدوا نهائياً. «دابر»: في اللغة بمعنى آخر الشي ء ومؤخرته، وبناء على هذا المفهوم يكون معنى الآية:

أنّنا أبدنا هؤلاء القوم إبادة كاملة واستأصلنا شأفتهم.

وَ إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَ لَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَ بَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَ تَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَ لَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَ تَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَ قَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَ

نَصَحْتُ لَكُمْ وَ لكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) قصة قوم صالح وما فيها من عبر: في هذه الآيات جاءت الإشارة إلى قيام «صالح» النبي الإلهي العظيم في قومه «ثمود» الذين كانوا يسكنون في منطقة جبلية بين الحجاز والشام، وبهذا يواصل القرآن أبحاثه السابقة الغنية بالعبر حول قوم نوح وهود، فيقول تعالى في البداية: «وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صلِحًا».

ولقد كانت أوّل خطوة خطاها نبيهم صالح في سبيل هدايتهم، هي الدعوة إلى التوحيد،

مختصر الامثل، ج 2، ص: 139

وعبادة اللَّه الواحد «قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلهٍ غَيْرُهُ».

ثمّ أضاف: إنّه لا يقول شيئاً من دون حجة أو دليل، بل قد جاء إليهم ببيّنة من ربهم «قَدْ جَاءَتْكُم بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ هذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَةً».

ثمّ إنّه يقول لهم: اتركوا الناقة تأكل في أرض اللَّه ولا تمنعوها «فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

ثم يقول في الآية اللاحقة: «وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِى الْأَرْضِ».

أي: من جانب لا تنسوا نعم اللَّه الكثيرة، ومن جانب آخر انتبهوا إلى أنّه قد سبقكم أقوام (مثل قوم عاد) طغوا فحاق بهم عذاب اللَّه بذنوبهم وهلكوا.

ثم ركّز على بعض النعم الإلهية كالأرض فقال: «تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا». فالأرض قد خُلقت بنحو تكون سهولها المستوية والمزودة بالتربة الصالحة لإقامة القصور الفخمة، كما تكون جبالها صالحة لأن تنحت فيها البيوت القوية المحصنة لفصل الشتاء والظروف الجوية القاسية.

ويبدو للنظر من هذا التعبير هو أنّهم كانوا يغيرون مكان سكناهم في الصيف والشتاء.

وفي ختام الآية يقول تعالى على لسان نبيّه صالح: «فَاذْكُرُوا ءَالَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِى الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ».

ثم إنّنا نلاحظ أيضاً أنّ جماعة الأغنياء والمترفين ذوي الظاهر

الحسن، والباطن القبيح الخبيث، الذين عبر عنهم بالملأ أخذوا بزمام المعارضة لهذا النبي الإلهي العظيم.

فقال الفريق المستكبر من قوم صالح للمستضعفين الذين آمنوا بصالح: هل تعلمون يقيناً أنّ صالحاً مرسل من قبل اللَّه «قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صلِحًا مُّرْسَلٌ مّن رَبّهِ».

ولكن سرعان ما واجهوا ردّ تلك الجموع المؤمنة القاطع، الكاشف عن إرادتها القوية وعزمها على مواصلة طريقها، حيث قالوا: إنّنا مضافاً إلى اعتقادنا بأنّ صالحاً رسول من قبل اللَّه، فنحن مؤمنون أيضاً بما جاء به «قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ».

ولكن هؤلاء المغرورين المتكبرين لم يكفوا عن عملهم، بل عادوا مرّة اخرى إلى إضعاف معنوية المؤمنين «قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِى ءَامَنتُم بِهِ كَافِرُونَ».

عندما يئس من زعزعة الإيمان في نفوس الجماهير المؤمنة بصالح عليه السلام ومن جانب آخر

مختصر الامثل، ج 2، ص: 140

مختصر الامثل ج 2 179

رأوا أنّ وساوسهم وشائعاتهم لا تجدي نفعاً مع وجود «الناقة» التي كانت تُعَدّ معجزة صالح عليه السلام لهذا قرّروا قتل الناقة، مخالفين بذلك أمر ربهم «فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ» «1». ولم يكتفوا بهذا أيضاً، بل أتَوا إلى صالح نفسه وبصراحة «قَالُوا يَا صلِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ».

انّ هذا الكلام نوع من الحرب النفسية ضد صالح عليه السلام بهدف إضعاف روحيته وروحية المؤمنين به.

وعندما وصل المعارضون بطغيانهم وتمرّدهم إلى آخر درجة، وأطفأوا في نفوسهم آخر بارقة أمل في الإيمان، حلّت بهم العقوبة الإلهية طبقاً لقانون انتخاب الأصلح، وإهلاك ومحو الكائنات الفاسدة والمفسدة «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِى دَارِهِمْ جَاثِمِينَ».

بأيّ شي ء اهلك قوم ثمود: وهنا يطرح سؤال وهو: يستفاد من الآية الحاضرة أنّ الشي ء الذي أهلك هؤلاء المتمردون

كان هو الزلزال، ولكن يظهر من الآية (13) من سورة فصّلت أنّه كان الصاعقة، بينما نقرأ في الآية (5) من سورة الحاقّة: «فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ». يعني أنّ قوم ثمود اهلكوا بشي ء مدمّر، فهل هناك تناقض بين هذه التعابير؟

إنّ الجواب على هذا السؤال يمكن أن يلخص في جملة واحدة، وهي جميع هذه العبارات ترجع إلى معنى واحد، أو أنّه يلازم بعضها بعضاً، فكثيراً ما تحدث الرجّة الأرضية في منطقة ما بفعل صاعقة عظيمة، أي أنّه تحدث صاعقة أوّلًا، ثمّ تحدث على أثرها رجة أرضية.

«الطاغية»: فهي بمعنى كائن تجاوز عن حدّه، وهذا ينسجم مع الزلزلة وكذا مع الصاعقة، ولهذا فلا يوجد أي تناقض بين الآيات.

وفي آخر آية من الآيات المبحوثة يقول: «فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِن لَّاتُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ». أي بعد هذه القضية تولى صالح وهو يقول: لقد أديت رسالتي إليكم، ونصحت لكم ولكنكم لا تحبّون من ينصحكم.

______________________________

(1) «العقر»: هو قطع عصب خاص خلف رجل الناقة أو الفرس هو سبب حركتها، فإذا قطع سقط الحيوان، وفقد القدرة على الحركة والتنقل.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 141

وَ لُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَ مَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَ أَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَ أَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) مصير قوم لوط المؤلم: في هذه الآيات يستعرض القرآن الكريم فصلًا آخر غنياً بالعبر من قصص الأنبياء، وبذلك يواصل هدف الآيات السابقة ويكمله، والقصة هذه المرّة

هي قصة النبي الإلهي العظيم «لوط». الآية الاولى تقول في البدء: اذكروا إذ قال لوط لقومه:

أترتكبون فعلًا قبيحاً لم يفعله قبلكم أحد من الناس! «وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّنَ الْعَالَمِينَ».

وفي الآية اللاحقة يشرح المعصية التي ذكرت في الآية السابقة ويقول: «إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النّسَاءِ». وأيّ انحراف أسوأ وأقبح من أن يترك الإنسان وسيلة توليد النسل وإنجاب الأولاد، وهو مقاربة الرجل للمرأة، والذي أودعه اللَّه في كيان كل إنسان بصورة غريزية طبيعية، ويعمد إلى «الجنس الموافق» ويفعل بالتالي ما يخالف- أساساً الفطرة والتركيب الطبيعي للجسم والروح الإنسانيين والغريزة السوية الصحيحة، ويكون نتيجته عقم الهدف المتوخى من المقاربة الجنسية.

ثم يقول تعالى في نهاية الآية: «بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ». أي تجاوزتم حدود اللَّه، ووقعتم في متاهة الانحراف والتجاوز عن حدود الفطرة.

وفي الآية اللاحقة أشار القرآن الكريم إلى الجواب المتعنت وغير المنطقي لقوم لوط، وقال:

إنّهم لم يكن لديهم أيّ جواب في مقابل دعوة هذا النبي الناصح المصلح، إلّاأن قالوا:

أخرجوا لوطاً وأتباعه من مدينتكم. ولكن ما كان ذنبهم؟ إنّ ذنبهم هو أنّهم كانوا جماعة طاهرين لم يلوثوا أنفسهم بأدران المعصية «وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوهُم مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ».

ويحتمل أيضاً في تفسير جملة «إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ» أنّ قوم لوط كانوا يريدون بهذه العبارة أن يتهموا ذلك النبي العظيم وأتباعه الأتقياء بالرياء والتظاهر بالتطهر، مع ملاحظة

مختصر الامثل، ج 2، ص: 142

كل ما قيل في الآيات الثلاثة أعلاه، يستطيع كل قاض منصف أن يصدر حكمه بحق مثل هذه الجماعات والأقوام، ولهذا قال اللَّه تعالى في الآية اللاحقة: «فَأَنجَيْنهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ» «1». أي لمّا بلغ الأمر

إلى هذا الحد أنجينا لوطاً وأتباعه الواقعيين وأهله الطيبين، إلّازوجته التي كانت على عقيدة قومه المنحرفين فتركناها. يستفاد من الآية (10) من سورة التحريم إجمالًا أنّ زوجة لوط كانت في البداية امرأة صالحة، ولكنها سلكت سبيل الخيانة فيما بعد، وجرأت أعداء لوط عليه.

وفي آخر آية من الآيات إشارة إلى العقوبة الشديدة والرهيبة التي حلّت بهؤلاء القوم، إذ قال تعالى: «وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا». أيّ مطر ... إنّه كان مطراً عجيباً حيث إنهالت عليهم الشهب والنيازك كالمطر وأبادتهم عن آخرهم!

«فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ». إنّ هذا الخطاب وإن كان موجهاً إلى النبي صلى الله عليه و آله ولكنه من الواضح أنّ الهدف هو اعتبار جميع المؤمنين به.

وَ إِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزَانَ وَ لَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَ لَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَ اذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَ إِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَ طَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَ هُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) رسالة شعيب في مدين: في هذه الآيات يستعرض القرآن الكريم فصلًا خامساً من قصص الأقوام الماضين، ومواجهة الأنبياء العظام معهم، وهذا الفصل يتناول قوم شعيب.

______________________________

(1) يقال «الغابر» لمن ذهب أهله وفنوا وبقي هو وحده، كما ذهبت عائلة لوط معه، وبقيت زوجته وحدها، وأصيبت بما أصيب به العصاة.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 143

بعث شعيب عليه السلام الذي

ينتهي نسبه- حسب كتب التاريخ- إلى إبراهيم عبر خمس طبقات، إلى أهل مدين، وهي مدينة من مدن الشام، كان أهلها أهل تجارة وترف قد سادت فيهم الوثنية، وكذا الحيلة، والتطفيف في المكيال والميزان، والبخس في المعاملة.

في البداية يقول سبحانه: ولقد أرسلنا إلى أهل مدين أخاهم شعيباً «وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا».

إنّ «مدين» في الأصل اسم لأحد أبناء إبراهيم الخليل، وحيث إنّ أبناءه وأحفاده سكنوا في أرض على طريق الشام سميت تلك الأرض «مدين».

ثم إنّه تعالى أضاف: إنّ شعيباً مثل سائر الأنبياء بدأ دعوته بمسألة التوحيد «قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلهٍ غَيْرُهُ».

وقال: إنّ هذا الحكم مضافاً إلى كونه من وحي العقل، ثابت بواسطة الأدلة الواضحة التي جاءتهم من جانب اللَّه أيضاً: «قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ».

ثم إنّه عليه السلام بعد الدعوة إلى التوحيد أخذ في محاربة المفاسد الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية السائدة فيهم، وفي البدء منعهم من ممارسة التطفيف، والغش في المعاملة، يقول: «فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ» «1».

ثم يشير إلى عمل آخر من الأعمال الأثيمة، وهو الإفساد في الأرض بعد أن اصلحت أوضاعها بجهود الأنبياء، وفي ضوء الإيمان فقال: «وَلَا تُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلحِهَا».

ومن المسلّم أنّه لا يستفيد أحد من إيجاد الفساد ومن الإفساد، سواء كان فساداً أخلاقياً، أو من قبيل فقدان الإيمان، أو عدم وجود الأمن، لهذا أضاف في آخر الآية قائلًا:

«ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ».

وفي الآية اللاحقة يشير إلى رابع نصيحة لشعيب، وهي منعهم عن الجلوس على الطرقات وتهديد الناس، وصدّهم عن سبيل اللَّه، وتضليل الناس بإلقاء الشبهات وتزييف طريق الحق المستقيم في نظرهم، فقال: «وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِهِ

وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا».

وفي ختام الآية جاءت النصيحة الخامسة لشعيب، التي ذكّر فيها قومه بالنعم الإلهية

______________________________

(1) «البخس»: يعني نقص حقوق الأشخاص، والنّزول عن الحد بصورة توجب الظلم والحيف.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 144

لتفعيل حسّ الشكر فيهم، فيقول: تذكّروا عندما كنتم أفراداً قلائل فزادكم اللَّه في الأفراد وضاعف من قوتكم: «وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ». ثم يلفت نظرهم إلى عاقبة المفسدين ونهاية أمرهم ومصيرهم المشؤوم حتى لا يتبعوهم في السلوك فيصابوا بما أصيبوا به، فيقول: «وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ».

إنّ آخر آية من الآيات المبحوثة هنا بمثابة إجابة على بعض استفهامات المؤمنين والكفار من قومه.

فيقول لهم شعيب: إن كانت طائفة منكم آمنت بما بُعِثت به، وأعرضت اخرى فلا ينبغي أن يكون ذلك سبباً لغرور الكفار، ويأس المؤمنين، اصبروا حتى يحكم اللَّه بيننا وبينهم.

فالمستقبل سوف يكشف عمن يكون على حق، ومن يكون على باطل «وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مّنكُمْ ءَامَنُوا بِالَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ».

قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَ وَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَ بَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) هذه الآيات تستعرض ردّ فعل قوم شعيب مقابل كلمات هذا النبي العظيم المنطقية، وحيث إنّ الملا والأثرياء المتكبرين في عصره كانوا أقوياء في الظاهر، كان ردّ فعلهم أقوى من ردّ فعل الآخرين.

إنّهم كانوا- مثل كل المتكبرين

المغرورين- يهددون شعيباً معتمدين على قوتهم وقدرتهم، كما يقول القرآن الكريم: «قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا».

على أنّ تهديد المعارضين لم يقتصر على هذا، بل كانت هناك تهديدات اخرى سنبحثها في سائر الآيات المرتبطة بشعيب.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 145

وقد أجابهم شعيب في مقابل كل تهديداتهم وخشونتهم تلك بكلمات في غاية البساطة والرفق والموضوعية، إذ قال لهم: وهل في إمكانكم أن تعيدوننا إلى دينكم إذا لم نكن راغبين في ذلك: «قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ».

وفي الآية اللاحقة يواصل شعيب قوله: «قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجنَا اللَّهُ مِنْهَا».

ثم يضيف شعيب قائلًا: «وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا».

ثم من دون إبطاء يضيف: إنّ اللَّه لا يأمر بمثل هذا، لأنّ اللَّه يعلم بكل شي ء ويحط علماً بجميع الامور «وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَىْ ءٍ عِلْمًا».

وعلى هذا الأساس ليس من الممكن أن يعود عن أمر أعطاه، لأنّه لا يعود ولا يرجع عن أمر أعطاه إلّامن كان علمه محدوداً، واشتبه ثم ندم على أمره، أمّا الذي يعلم بكل شي ء ويحيط بجميع الامور علماً فيستحيل أن يعيد النظر.

ثم لأجل أن يفهمهم بأنّه لا يخاف تهديداتهم، وأنّه ثابت في موقفه، قال: «عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا».

وأخيراً لأجل أن يثبت حسن نيّته، ويظهر رغبته في طلب الحقيقة والسلام، حتى لا يتهمه أعداؤه بالشغب والفوضوية والإخلال بالأمن يقول: «رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ». أي: يا ربّ أنت أحكم بيننا وبين هؤلاء بالحق، وارفع المشاكل التي بيننا وبين هؤلاء، وافتح علينا أبواب رحمتك، فأنت خير الفاتحين.

وَ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ

اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) تتحدث الآية الاولى عند الدعايات التي كان يبثّها معارضو شعيب ضدّ من يحتمل فيهم الميل إلى الإيمان به فتقول: «وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 146

والمقصود من الخسارة- هنا- الخسارات المادية التي تصيب المؤمنين بدعوة شعيب، إذ من المسلم عدم عودتهم إلى عقيدة الوثنية، وعلى هذا الأساس كان يجب أن يخرجوا من بلدهم وديارهم بالقهر، ويتركوا بيوتهم وأملاكهم. وعندما وَصَل أمرهم إلى الإصرار على ضلاتهم، وعلى إضلال غيرهم أيضاً، ولم يبق أيّ أمل في إيمانهم وهدايتهم، حلّت بهم العقوبة إلالهية بحكم قانون حسم مادة الفساد، فأصابهم زلزال رهيب شديد بحيث تهاوى الجميع أجساداً ميتة، في داخل بيوتهم ومنازلهم «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِى دَارِهِمْ جَاثِمِينَ».

في الآية اللاحقة شرح القرآن الكريم أبعاد هذا الزلزال العجيب المخيف الرهيب بالعبارة التالية: «الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا». أي إنّ الذين كذبوا شعيباً ابيدوا إبادة عجيبة، وكأنّهم لم يكونوا يسكنون تلك الديار.

وفي ختام الآية يقول: «الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ».

وكأنّ هاتين الجملتين جواباً لأقوال معارضي شعيب، لأنّهم كانوا قد هدّدوا بأن يخرجوه هو وأتباعه في حالة عدم انصرافهم من دين التوحيد إلى الدين السابق، فقال القرآن: إنّهم ابيدوا كاملة، وكأنّهم لم يسكنوا في تلك المنازل، فضلًا عن أن يستطيعوا إخراج غيرهم من البلد.

وفي مقابل قولهم: إنّ أتّباع شعيب يستلزم الخسران، قال القرآن الكريم:

إنّ نتيجة الأمر أثبتت أنّ مخالفة شعيب هي العامل الأصلي في الخسران.

وفي آخر آية- من الآيات المبحوثة- نقرأ آخر كلام لشعيب مع قومه بعد اعراضه عنهم حيث قال: لقد بلّغت رسالات ربّي، ونصحتكم بالمقدار الكافي، ولم آلُ جهداً في إرشادكم:

«فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسلتِ رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ».

ثم قال: «فَكَيْفَ ءَاسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ». أي لست متأسفاً على مصير الكافرين، لأنّني قد بذلت كل ما في وسعي لهدايتهم وإرشادهم، ولكنهم لم يخضعوا للحق ولم يسلّموا، فكان يجب أن ينتظروا هذا المصير المشؤوم.

وَ مَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَ الضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَ قَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَ السَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)

مختصر الامثل، ج 2، ص: 147

إذ لم تنفع المواعظ: إنّ هذه الآيات- التي ذكرت بعد استعراض قصص مجموعة من الأنبياء العظام، مثل نوح وهود وصالح ولوط وشعيب، وقبل أن يعمد القرآن الكريم إلى استعراض قصة موسى بن عمران- أشار إلى عدّة أصول وقواعد عامة تحكم في جميع القصص والحوادث، وهي قواعد واصول إذا فكّرنا فيها كشفت القناع عن حقائق قيمة ترتبط بحياتنا- جميعاً- ارتباطاً وثيقاً. في البداية يقول: «وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ». فالصِعاب والمشاق والبلايا التي تصيب الأفراد إنّما يفعلها اللَّه بهم عسى أن ينتبهوا، ويتركوا طغيانهم، ويرجعوا إلى اللَّه ويتوبوا إليه.

وذلك لأنّ الناس ما داموا في الرخاء والرفاه فهم في غفلة وقلما يكون لديهم استعداد وقابلية لقبول الحق. أمّا عندما يتورّطون في المحنة والبلاء، يشرق نور فطرتهم وتوحيدهم ويتذكرون اللَّه قهراً بلا اختيار، وتستعد قلوبهم لقبول

الحق.

ولكن هذه اليقظة والنهضة ليست عند الجميع على حدّ سواء، فهي في كثير من الناس سريعة وعابرة وغير ثابتة، وبمجرّد أن تزول المشكلات يعودون إلى غفلتهم وغفوتهم، ولكن هذه المشكلات تعتبر بالنسبة إلى جماعة آخرين نقطة تحول في الحياة، ويعودون إلى الحق إلى الأبد.

ولهذا قال تعالى في الآية اللاحقة: عندما لم تغيّر تلك الجماعات سلوكها ومسيرها تحت ضعظ المشكلات والحوادث، بل بقوا في الضلال، رفعنا عنهم المشكلات وجعلنا مكانها النعم والرخاء فازدهرت حياتهم وكثر عددهم وزادت أموالهم «ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا».

ثمّ أضاف: أنّهم عند زوال المشكلات بدل أن يلتفتوا إلى هذه الحقيقة وهي «النعمة» و «النقمة» بيد اللَّه، وأنّهم راجعون إلى اللَّه، يتذرعون- لخداع أنفسهم- بهذا المنطق، وهو إذا تعرضنا للمصائب والبلايا، فإنّ ذلك ليس بجديد، فقد مس آباءنا الضراء والسراء، وكانت لهم حالات رخاء وحالات بلاء، فالحياة لها صعود ونزول، والصعاب أمواج غير ثابتة وسريعة الزوال «وَّقَالُوا قَدْ مَسَّ ءَابَاءَنَا الضَّرَّآءُ وَالسَّرَّآءُ». فهي إذن قضية طبيعية، ومسألة إعتيادية.

فيقول القرآن الكريم في الختام: إنّ الأمر عندما بلغ إلى هذا الحد، ولم يستفيدوا من عوامل التربية- أبداً- بل ازدادوا غروراً وعنجهيّة وتكبراً أهلكناهم فجأة ومن غير سابق انذار، لأنّ ذلك أشد إيلاماً ونكالًا لهم، وعبرة لغيرهم: «فَأَخَذْنهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَايَشْعُرُونَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 148

وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَ هُمْ نَائِمُونَ (97) أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَ هُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)

أَ وَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) التقدم والعمران في ظل الإيمان والتقوى: في الآيات الماضية وقع البحث فيما جرى لأقوام مثل قوم هود وصالح وشعيب ونوح ولوط على نحو الإجمال، وإن كانت تلك الآيات كافية لبيان النتائج المشحونة بالعبر في هذه القصص، ولكن الآيات الحاضرة تبيّن النتائج بصورة أكثر وضوحاً فتقول: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ». أي لو أنّهم سلكوا سبيل الإيمان والتقوى، بدل الطغيان والتمرد وتكذيب آيات اللَّه والظلم والفساد، لم يتخلصوا من غضب اللَّه وعقوبته فحسب، بل لفتحت عليهم أبواب السماء والأرض.

والمراد من «بركات» الأرض والسماء إنّها المطر والنباتات التي تنبت من الأرض.

ولكن- للأسف- تركوا الصراط المستقيم الذي هو طريق السعادة والرفاه والأمن وكذبوا الأنبياء، وتجاهلوا برامجهم الإصلاحية، فعاقبناهم بسبب أعمالهم «وَلكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ».

في الآيات اللاحقة ولمزيد من التأكيد على عمومية هذا الحكم وأنّ القانون أعلاه ليس خاصاً بالأقوام الغابرة بل يشمل الحاضر والمستقبل أيضاً- يقول: هل أنّ المجرمين الذين يعيشون في نقاط مختلفة من الأرض يرون أنفسهم في أمن من أن تحل بهم العقوبات الإلهية، فتنزل بهم صاعقة أو يصبهم زلزال في الليل وهم نائمون «أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ».

وهل هم في أمان من ذلك العذاب في النهار وهم غارقون في أنواع اللهو واللعب «أَوَ أَمِنَ

مختصر الامثل، ج 2، ص: 149

أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ». يعني أنّهم في قبضة القدرة الإلهية في جميع الأحوال والأوقات، ليلًا ونهاراً، في اليقظة والنوم، في ساعات الفرح والترح، وبإشارة واحدة وأمر واحد

يقضى عليهم جميعاً، ويطوي صفحة حياتهم نهائياً.

وفي الآية اللاحقة يعود القرآن الكريم إلى ذكر وتأكيد هذه الحقيقة بشكل آخر فيقول:

أفأمن المجرمون من المكر الإلهي في حين لا يأمن مكره إلّاالخاسرون «أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ».

«المكر»: يعني في اللغة العربية كل حيلة ووسيلة لصرف الشخص عن الهدف الذي يمضي إليه، سواء كان حقاً أو باطلًا. والمراد من المكر الإلهي هو أنّ اللَّه تعالى يصرفهم بخططه القوية التي لا تقهر عن حياة الرفاه واللذة دون اختيارهم ويقطعها عليهم. وهذه إشارة إلى العقوبات الإلهية الفجائية والمهلكة.

وفي الآية اللاحقة يقول القرآن الكريم بهدف إيقاظ عقول الشعوب الغافية وإلفات نظرهم إلى العبر التي كانت في حياة الماضيين: ألا يتنبه الذين ورثوا السيادة على الأرض- من الأقوام الماضية- إلى ما في حياة الماضيين وقصصهم من عبر، فلو أنّنا أردنا أن نهلكهم بذنوبهم لفعلنا: «أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضِ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ».

ويمكننا أيضاً أن نتركهم أحياء ونسلب منهم الشعور وحس التشخيص والتمييز بالمرّة بسبب توغّلهم في الذنوب، بحيث لا يسمعون معها حقيقة، ولا يقبلون نصيحة، ويعيشون بقية حياتهم حيرى «وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَايَسْمَعُونَ».

تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَ لَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَ مَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَ إِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) في هاتين الآيتين ركّز القرآن الكريم على العبر المستفادة من بيان قصص الماضين، والخطاب متوجه هنا إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله إلّاأنّ الهدف هو الجميع، يقول القرآن الكريم أوّلًا: هذه هي القرى والأقوام التي نقص عليك قصصهم: «تِلْكَ

الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ

مختصر الامثل، ج 2، ص: 150

أَنبَائِهَا». ثم يقول: لم يكن إهلاكهم قبل إتمام الحجّة عليهم، بل لقد جاءهم الأنبياء أوّلًا بالبراهين الجلية وبذلوا قصارى جهدهم في إيقاظهم وإرشادهم «وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ». ولكنهم قاوموا الأنبياء وخالفوا دعوتهم، وأصروا ولجّوا في عنادهم، ولم يكونوا على إستعداد لأن يؤمنوا بما كذبوا به من قبل، بل استمروا على تكذيبهم حتى مع مشاهدتهم البينات: «فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ».

وفي العبارة اللاحقة يبين تعالى علة هذا التعنت واللجاج: «كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ». يعني أنّ الذين يسيرون في درب خاطي ء، ويستمرون في السير في ذلك الطريق، ينتقش الانحراف والكفر على قلوبهم نتيجة تكرار العمل السي ء، ويتجذر الفساد في نفوسهم، كما يثبت النقش على السكة (والطبع في اللغة نقش صورة على شي ء كالسكة) وهذا هو أثر العمل وخاصيته.

وقد نسب إلى اللَّه هو تعالى مسبب الأسباب، وهو منشأ تأثير كل مؤثر، فهو يهب الفعل هذه الخاصّية عند تكراره، حيث يجعله «مَلكة» في نفس الشخص.

ولكن من الواضح والبيّن أنّ مثل الضلال ليس له أي صفة جبرية وقهرية، بل إنّ موجد الأسباب هو الإنسان وإن كان التأثير بأمر اللَّه تعالى (فتأمل).

وفي الآية اللاحقة يبيّن تعالى قسمين آخرين من نقاط الضعف الأخلاقي لدى هذه الجماعات، والتي تسببت في ضلالها وهلاكها. في البداية يقول: إنّهم كانوا لا يحترمون العهود والمواثيق بل ينقضونها «وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ».

وهذا العهد يمكن أن يكون إشارة إلى «العهد الفطري» الذي أخذه اللَّه على جميع عباده بحكم الجبلة والفطرة.

كما أنّه يمكن أن يكون إشارة إلى العهد الذي كان الأنبياء الإلهيّون يأخذونه من الناس، وكان أكثر الناس يقبلونه، ولكنهم ينقضونه.

أو يكون إشارة إلى جميع المواثيق «الفطرية»

و «التشريعية».

وعلى كل حال فإنّ روح نقض الميثاق كان من أسباب معارضة الأنبياء والإصرار على سلوك طريق الكفر والنفاق، والإبتلاء بعواقبها المشؤومة.

ثم يشير القرآن الكريم إلى عامل آخر إذ يقول: «وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 151

يعني أنّ روح التمرد والتجاوز على القانون، والخروج عن نظام الخلقة والقوانين الإلهية، كان عاملًا آخر من عوامل استمرارهم على الكفر، وإصرارهم على مخالفة الدعوة الإلهية.

ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَ مَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَ قَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) المواجهة بين موسى وفرعون: بيّن تعالى في هذه الآيات والآيات الكثيرة اللاحقة قصة موسى بن عمران، وما جرى بينه وبين فرعون وملئه وعاقبة أمره. وعلى العموم يمكن حصر وتلخيص حياة هذا النبي الإلهي العظيم في خمس دورات ومراحل:

1- مرحلة الولادة، وما جرى عليه من الحوادث حتى ترعرعه في بلاط فرعون.

2- مرحلة فراره من مصر، وحياته في أرض «مدين» في كنف النبي شعيب عليه السلام.

3- مرحلة بعثته، ثم المواجهات الكثيرة بينه وبين فرعون وجهازه.

4- مرحلة نجاته ونجاة بني إسرائيل من مخالب فرعون.

5- مرحلة مشاكله مع بني إسرائيل.

في الآية الاولى من الآيات الحاضرة يقول تعالى: «ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بَايَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيهِ». أي من بعد قوم نوح وهود وصالح.

«فرعون»: اسم عام، وهو يطلق على كل ملوك مصر.

ثم يقول

تعالى: «فَظَلَمُوا بِهَا».

ثم يقول تعالى في ختام الآية: «فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ».

وهذه العبارة إشارة إجمالية إلى هلاك فرعون وقومه الطغاة المتمردين، الذي سيأتي شرحه فيما بعد.

وهذه الآية تشير إشارة مقتضبة إلى مجموع برنامج رسالة موسى، وما وقع بينه وبين فرعون من المواجهة وعاقبة أمرهم.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 152

أمّا الآيات اللاحقة فتسلّط الأضواء بصورة أكثر على هذا الموضوع، فيقول أوّلًا:

«وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنّى رَسُولٌ مّن رَّبّ الْعَالَمِينَ».

وهذه هي أوّل مواجهة بين موسى وبين فرعون، وهي صورة حية وعملية من الصراع بين «الحق» و «الباطل».

وفي الآية اللاحقة نقرأ أنّ موسى عقيب دعوى الرسالة من جانب اللَّه قال: فالآن إذ أنا رسول ربّ العالمين ينبغي ألا أقول عن اللَّه إلّاالحق، لأنّ المرسل من قبل اللَّه المنزّه عن جميع العيوب لا يمكن أن يكون كاذباً «حَقِيقٌ عَلَى أَن لَّاأَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ».

ثم لأجل توثيق دعواه للنّبوة، أضاف: أنا لا أدعي ما أدّعيه من دون دليل، بل إنّ معي أدلة واضحة من جانب اللَّه «قَدْ جِئْتُكُم بِبَيّنَةٍ مّن رَّبّكُمْ».

فإذا كان الأمر هكذا «فَأَرْسِلْ مَعِىَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ».

وكان هذا قسماً من رسالة موسى بن عمران الذي حرّر بني إسرائيل من قبضة الاستعمار الفرعوني.

فقال فرعون بمجرّد سماع هذه العبارة- (أي قوله: قد جئتكم ببيّنة)- هات الآية التي معك من جانب اللَّه إن كنت صادقاً «قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بَايَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ».

ومن دون تأخير أخرج موسى معجزتيه العظيمتين التي كانت إحداهما مظهر «الخوف» والاخرى مظهر «الأمل» وكانتا تكملان مقام إنذاره ومقام تبشيره، وألقى في البداية عصاه:

«فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ».

ثم إنّ الآية اللاحقة تشير إلى المعجزة الثانية للنبي موسى عليه السلام التي لها طابع الرجاء والبشارة.

يقول تعالى: «وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ».

قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَا ذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَ أَخَاهُ وَ أَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) بدء المواجهة: في هذه الآيات جاء الحديث عن أوّل ردّ فعل لفرعون وجهازه في مقابل

مختصر الامثل، ج 2، ص: 153

دعوة موسى عليه السلام ومعجزاته. الآية الاولى تذكر عن ملأ فرعون أنّهم بمجرد مشاهدتهم لأعمال موسى الخارقة للعادة اتهموه بالسحر، وقالوا: هذا ساحر عليم ماهر في سحره: «قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ».

ثم أضافوا: إنّ هدف هذا الرجل أن يخرجكم من وطنكم «يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مّنْ أَرْضِكُمْ». يعني أنّه لا يهدف إلّااستعماركم واستثماركم والحكومة على الناس، وغصب أراضي الآخرين، وهذه الأعمال الخارقة للعادة وادعاء النبوة كلها لأجل الوصول إلى هذا الهدف.

ثم قالوا بعد ذلك: مع ملاحظة هذه الأوضاع فما هو رأيكم: «فَمَاذَا تَأْمُرُونَ».

يعني أنّهم جلسوا يتشاورون في أمر موسى، ويتبادلون الرأي فيما يجب عليهم اتّخاذه تجاهه، لأنّ مادة «أمر» بمعنى التشاور.

وعلى كل حال فقد قال الجميع لفرعون: لا تعجل في أمر موسى وهارون، وأجلّ قرارك بشأنهما إلى ما بعد، ولكن ابعث من يجمع لك السحرة من جميع أنحاء البلاد «قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ».

نعم ابعث من يجمع لك كل ساحر ماهر في حرفته عليم في سحره «يَأْتُوكَ بِكُلّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ».

إنّ هذا الإقتراح من جانب حاشية فرعون كان لأجل أنّهم كانوا يريدون افتعال ذريعة سياسية لأي موقف سيتخذونه ضد موسى كما كانوا يفعلون ذلك في بقية مواقفهم ونشاطاتهم الشخصية، ولهذا اقترحوا أرجاء أمر قتل موسى وأخيه نظراً لمعجزتيه اللتين أورثتا رغبة في

مجموعة كبيرة من الناس نحو دعوته وانحيازهم إليه، ومزجت صورة «نبوته» بصورة «المظلومية والشهادة» وأضفت بضم الثّانية إلى الاولى- مسحة من القداسة والجاذبية عليه وعلى دعوته.

ولهذا فكروا في بداية الأمر في إجهاض عمله بأعمال خارقة للعادة مماثلة، ويسقطوا اعتباره بهذه الطريقة، ثمّ يأمرون بقتله لتنسى قصة موسى وهارون وتمحى عن الأذهان إلى الأبد.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 154

وَ جَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ وَ جَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَ بَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَ انْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَ أُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَ هَارُونَ (122) كيف انتصر الحق في النهاية: في هذه الآيات جرى الحديث حول المواجهة بين النبي موسى عليه السلام وبين السحرة وما آل إليه أمرهم في هذه المواجهة، وفي البداية تقول الآية: إنّ السحرة بادروا إلى فرعون بدعوته، وكان أوّل ما دار بينهم وبين فرعون هو: هل لنا من أجر إذا غلبنا العدو «وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ».

فوعدهم فرعون وعداً جيداً وقال: إنّكم لن تحصلوا على الأجر السخي فقط، بل ستكونون من المقربين عندي «قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ».

يستفاد من هذه الآية أنّ التقرب إلى فرعون في ذلك المحيط، وتلك البيئة كان أعلى وأسمى وأهم من المال والثروة، لأنّه كان يعني منزلة معنوية كان من الممكن

أن تصبح منشأ لأموال كثيرة وثروات كبيرة.

وفي المآل حُدّد موعدٌ معين لمواجهة السحرة لموسى، وكما جاء في سورة «طه» و «الشعراء» دُعي جميع الناس لمشاهدة هذا النزال.

وحلّ اليوم الموعود، وهيّأ السحرة كل مقدمات العمل ... حفنة من العصىّ والحبال التي يبدو أنّها كانت معبئة بمواد كيمياوية خاصة، تبعث على حركتها إذا سطعت عليها الشمس، لأنّها تتحول إلى غازات خفيفة تحرّك تلك العصي والحبال المجوفة.

وكانت واقعة عجيبة، فموسى وحده (ليس معه إلّاأخوه) يواجه تلك المجموعة الهائلة من السحرة، وذلك الحشد الهائل من الناس المتفرجين الذين كانوا على الأغلب من أنصار السحرة ومؤيديهم.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 155

فالتفت السحرة في غرور خاص وكبير إلى موسى عليه السلام وقالوا: إمّا أن تشرع فتلقي عصاك، وإمّا أن نشرع نحن فنلقي عصيّنا؟ «قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِىَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ».

فقال موسى عليه السلام بمنتهى الثقة والإطمئنان: بل اشرعوا أنتم «قَالَ أَلْقُوا».

وعندما ألقى السحرة بحبالهم وعصيّهم في وسط الميدان سحروا أعين الناس، وأوجدوا بأعمالهم وأقاويلهم المهرجة ومبالغاتهم خوفاً في قلوب المتفرجين وأظهروا سحراً كبيراً رهيباً: «فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ».

«السحر»: تعني في الأساس الخداع والشعوذة، وقد يطلق أيضاً على كل عامل غامض، ودافع غير مرئي.

في هذه اللحظة التي اعترت الناس فيها حالة من النشاط والفرح، وتعالت صيحات الإبتهاج من كل صوب، وعلت وجوه فرعون وملائه ابتسامة الرضى، ولمع في عيونهم بريق الفرح، أدرك الوحي الإلهي موسى عليه السلام وأمره بإلقاء العصى وفجأة انقلب المشهد وتغير، وبدت الدهشة على الوجوه، وتزعزت مفاصل فرعون وأصحابه كما يقول القرآن الكريم:

«وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ».

«تلقف»: مشتقة من مادة «لَقْف» (على وزن سَقف) بمعنى

أخذ شى ء بقوة وسرعة، سواء بواسطة الفم، والأسنان، أو بواسطة الأيدي، ولكن تأتي في بعض الموارد بمعنى البلع والإبتلاع أيضاً، والظاهر أنّها جاءت في الآية الحاضرة بهذا المعنى.

«يأفكون»: مشتقّة من مادة «إفك» على وزن «مسك» وهي تعني في الأصل الإنصراف عن الشي ء، وحيث إنّ الكذب يصرف الإنسان من الحق أطلق على الكذب لفظ «الإفك».

وفي هذا الوقت ظهر الحق، وبطلت أعمالهم المزّيفة: «فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ». لأنّ عمل موسى كان عملًا واقعياً، وكانت أعمالهم حفنة من الحيل ومن أعمال الشعبذة، ولا شك أنّه لا يستطيع أي باطل أن يقاوم الحق دائماً.

وهذه هي أوّل ضربة توجهت إلى أساس السلطان الفرعوني الجبّار.

ثم يقول تعالى في الآية اللاحقة: وبهذه الطريقة ظهرت آثار الهزيمة فيهم، وصاروا جميعاً أذلاء: «فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ».

والضربة الأقوى كانت عندما تغير مشهد مواجهة السحرة لموسى عليه السلام تغييراً كلّياً، وذلك عندما وقع السحرة فجأة على الأرض ساجدين لعظمة اللَّه «وَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 156

ثم نادوا بأعلى صوتهم و «قَالُوا ءَامَنَّا بِرَبّ الْعَالَمِينَ رَبّ مُوسَى وَهرُونَ».

ولم يكن فرعون والملأ يتوقعون هذا الأمر مطلقاً.

قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَ مَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) التهديدات الفرعونية الجوفاء: عندما توجهت ضربة جديدة- بانتصار موسى على السحرة وإيمانهم به- إلى أركان السلطة الفرعونية، استوحش فرعون واضطرب بشدة، لهذا عمد فوراً إلى عملين مبتكرين: في البداية وجه اتهاماً (لعله مرغوب عند السواد

من الناس) إلى السحرة، ثم هددهم بأشدّ التهديدات، ولكن على العكس من توقعات فرعون أظهر السحرة مقاومة عجيبة تجاه هذين الموقفين، وبهذه الطريقة وجهوا ضربة ثالثة إلى أركان السلطان الفرعوني، وقد رسمت الآيات اللاحقة هذا المشهد بصورة رائعة.

في البداية يقول: إنّ فرعوناً قال للسحرة: هل آمنتم بموسى قبل أن آذن لكم «قَالَ فِرْعَوْنُ ءَامَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ».

وهذه هي أعلى درجات الإستعباد والاستحمار، أن يكون شعب من الشعوب أسيراً وعبداً بحيث لا يحق له حتى التفكير والإيمان القلبي بأحد أو بعقيدة.

وهذا هو البرنامج الذي يواصله «الاستعمار الجديد»، يعني أنّ المستعمرين لا يكتفون بالاستعمار الاقتصادى والسياسي والاجتماعي، بل يسعون إلى تقوية جذورهم عن طريق الاستعمار الفكري.

ثم يضيف فرعون قائلًا: «إِنَّ هذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا».

إنّ مراد فرعون هو أنّ هناك مؤامرة مدروسة وتواطؤاً مبيّتاً قد دبرتموه قبل مدة للسيطرة على أوضاع مصر واستلام زمام السلطة.

وهذه التهمة كانت خاوية ومفضوحة، إلى درجة أنّه لم يكن يقتنع بها إلّاالعوام والجهلة من الناس.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 157

ثمّ إنّ فرعون هدّدهم بتهديد غامض ولكنّه شديد ومحكم، إذ قال: «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ».

وفي الآية اللاحقة بيّن تفاصيل ذلك التهديد الذي هدّد به السحرة فاقسم بأن يقطع أيديهم وأرجلهم ويصلبهم، إذ قال: «لَأُقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مّن خِلفٍ ثُمَّ لَأُصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ».

لقد قاوم السحرة كلتا حربتي فرعون، وأجابوه جواب رجل واحد: إنّنا نرجع إلى ربّنا إذن «قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ». يعني إذا تحقق تهديدك الثاني (وهو القتل) فمعناه أنّنا سننال الشهادة في سبيل الدفاع عن الحق، وهذا لا يوجب ضرراً علينا، ولا ينقصنا شيئاً، بل يُعدّ سعادة وفخراً عظيماً لنا.

ثم إنّهم للرد على تهمة فرعون، ولايضاح الحقيقة لجماهير المتفرجين على هذا

المشهد، واثبات براءتهم من أي ذنب، قالوا: إنّ الإشكال الوحيد الذي تورده علينا هو أنّنا آمنا بآيات اللَّه وقد جاءتنا «وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَن ءَامَنَّا بَايَاتِ رَبّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا».

ثم إنّهم أشاحوا بوجوههم عن فرعون وتوجهوا إلى اللَّه سبحانه، وطلبوا منه الصبر والإستقامة، لأنّهم كانوا يعلمون أنّهم لا يستطيعون أن يقاوموا تلك العقوبات الثقيلة من دون نصره وتأييده وعونه، لهذا قالوا: «رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ».

وأخيراً- وكما جاء في الروايات وكتب التاريخ- استقام اولئك الجماعة من السحرة الذين آمنوا بموسى حتى نفّذ فرعون تهديداته، ومثّل بأجسامهم تمثيلًا مروعاً، وصلبهم على جذوع النخل على مقربة من نهر النيل.

أجل، إذا كان الإيمان مقروناً بالوعي الكامل فإنّه ينتهي إلى مثل هذا العشق الملتهب الذي لا يكون هذا التفاني في سبيله مثار للعجب.

وَ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَ تَذَرُ مُوسَى وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَ نَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَ إِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَ اصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَ مِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)

مختصر الامثل، ج 2، ص: 158

في هذه الآيات يبيّن لنا القرآن الكريم مشهداً آخر من الحوار الذي دار بين فرعون وبين ملئه حول وضع موسى عليه السلام. تقول الآية في البداية: «وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَ». يستفاد من هذا التعبير أنّ فرعون بعد هزيمته أمام موسى عليه السلام ترك موسى وبني إسرائيل أحراراً مدّة من الزمن، ولم

يترك بنو إسرائيل بدورهم هذه الفرصة من دون أن يشتغلوا بالدعوة والتبليغ لصالح دين موسى عليه السلام وأنّ فرعون كانت له معبودات وأصنام.

إنّ فرعون- بسبب تحذيرات أعوانه وحاشيته- صمم على اتّخاذ موقف متشدد من بني إسرائيل، فقال لحاشيته في معرض الجواب على تحريضهم وتحذيرهم: سأقتل أبناءهم وأستخدم نساءهم ونحن متفوقون عليهم على كل حال: «قَالَ سَنُقَتّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْىِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ». و الآية اللاحقة بيّنت خطّة موسى التي اقترحها على بني إسرائيل لمواجهة تهديدات فرعون، وشرح فيها شروط الغلبة على العدو، وذكرهم بأنّهم إذا عملوا بثلاث مبادي ء انتصروا على العدو حتماً:

أوّلها: الإتكال على اللَّه فقط «قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ».

والآخر: أن يثبتوا ولا يخافوا من تهديدات العدو: «وَاصْبِرُوا».

وللتأكيد على هذا المطلب، ومن باب ذكر الدليل، ذكّرهم بأنّ الأرض كلها ملك اللَّه وهو الحاكم عليها والمالك المطلق لها، فهو يعطيها لمن يشاء «إِنّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ».

وآخر هذه المبادي ء هو أن يعتمدوا التقوى لأنّ العاقبة لمن اتّقى «وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ».

هذه المبادى ء والشروط الثلاثة ليست شرائط إنتصار قوم بني إسرائيل وحدهم على العدو، بل كل شعب أراد الغلبة على أعدائه لابدّ له من تحقيق هذه البرامج الثلاثة.

وفي آخر آية من الآيات الحاضرة يعكس القرآن الكريم شكايات بني إسرائيل وعتابهم من المشكلات التي ابتلوا بها بعد قيام موسى عليه السلام فيقول: «قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا». فإذاً متى يحصل الفرج؟!

وكأنّ بني إسرائيل مثل كثير منّا كانوا يتوقعون أن تصلح جميع الامور بقيام موسى عليه السلام في ليلة واحدة ....

مختصر الامثل، ج 2، ص: 159

ولكن موسى عليه السلام أفهمهم بأنّهم سينتصرون في المآل، ولكن أمامهم طريقاً طويلًا، وإنّ هذا الإنتصار- طبقاً للسنة

الإلهية- يتحقق في ظل الإستقامة والثبات والسعي والإجتهاد، كما جاء ذلك في الآية الحاضرة: «قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الْأَرْضِ».

ثم يقول في ختام الآية: إنّ اللَّه أعطاكم هذه النعمة، وأعاد إليكم حريتكم المسلوبة كي ينظر كيف تتصرفون أنتم «فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ». يعني ستبدأ- بعد الإنتصار- مرحلة امتحانكم واختباركم.

وَ لَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَ نَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هذِهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَ مَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) العقوبات التنبيهية: لقد كان القانون الإلهي العام في دعوة الأنبياء- كما قلنا في تفسير الآية (94) من نفس هذه السورة- هو أنّهم كلّما واجهوا معارضة كان اللَّه تعالى يبتلي الاقوام المعاندين بأنواع المشاكل والبلايا، حتى يحسّوا بالحاجة في ضمائرهم وأعماق نفوسهم.

وفي أوّل آية من الآيتين الحاضرتين إشارة إلى نفس هذا المطلب في قصّة فرعون، إذ يقول تعالى: «وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ بِالسّنِينِ وَنَقْصٍ مّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ».

ولكن بدل أن يستوعب «آل فرعون» هذه الدروس الإلهية، ويستيقظوا من غفلتهم وغفوتهم العميقة، أساءوا استخدام هذا الظرف والحالة، وفسّروها حسب مزاجهم، فإذا كانت الأحوال مؤاتية ومطابقة لرغبتهم، وكانوا يعيشون في راحة واستقرار قالوا: إنّ الوضع الحسن هو بسبب جدارتنا وصلاحنا «فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هذِهِ».

ولكن عندما تنزل بهم النوائب فإنّهم ينسبون ذلك إلى موسى عليه السلام وجماعته فوراً ويقولون هذا من شؤمهم: «وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ».

ولكن القرآن الكريم قال في معرض الردّ عليهم: اعلموا أنّ منشأ كل شؤم وبلاء أصابكم إنّما هو من قبل اللَّه، وأنّ اللَّه تعالى أراد أن تصيبكم نتيجة أعمالكم المشؤومة، ولكن

أكثرهم لا يعلمون «أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَايَعْلَمُونَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 160

مسألة التطيّر والتفاؤل والتشاؤم قد تكون منتشرة في مختلف المجتمعات البشرية.

إنّ هذين الأمرين وإن لم يكن لهما أي أثر طبيعي إلّاأنّه يمكن أن يكون لهما أثر نفسي لا ينكر، وإنّ التفاؤل غالباً يوجب الأمل والتحرك، والتشاؤم يوجب اليأس والوهن والتراجع. ولعله لأجل هذا لم يُنْه في الروايات والأحاديث الإسلامية عن التفاؤل، بينما نهي عن التشاؤم بشدة، ففي حديث مروي عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «تفاءلوا بالخير تجدوه».

وَ قَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَ الْجَرَادَ وَ الْقُمَّلَ وَ الضَّفَادِعَ وَ الدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) النوائب المتنوعة: في هاتين الآيتين اشير إلى مرحلة اخرى من الدروس المنبهة التي لقّنها اللَّه لقوم فرعون، وفي الآية الاولى من الآيات المبحوثة يقول القرآن الكريم من باب المقدمة لنزول النّوائب: إنّهم بقوا يلجّون في إنكار دعوة موسى، وقالوا: مهما تأتنا من آية وتريد أن تسحرنا بها فإنّنا لن نؤمن بك: «وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءَايَةٍ لّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ».

ولكن حيث إنّ اللَّه سبحانه لا يعاقب امّة أو قوماً من دون أن يتمّ عليهم الحجّة قال في الآية اللاحقة: نحن أنزلنا عليهم بلايا كثيرة ومتعددة لعلهم يتنبهون ... فقال أوّلًا: «فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ».

«الطوفان»: مشتقة من مادة «الطوف» وتعني الشي ء الذي يطوف ويدور، ثم اطلقت هذه اللفظة على الحادثة التي تحيط بالإنسان.

ثم سلط الجراد على زروعهم وأشجارهم «وَالْجَرَادَ».

وكلما كان يُصيبهم بلاء كانوا يلجأون إلى موسى عليه السلام ويسألونه أن يطلب من اللَّه أن يرفع عنهم ذلك البلاء،

فقد فعلوا هذا بعد الطوفان والجراد أيضاً، وقبِل موسى عليه السلام، وارتفع عنهم البلاء ولكنهم مع ذلك لم يكفّوا عن لجاجهم وتعنتهم.

وفي المرة الثالثه سلط عليهم القمل «وَالْقُمَّلَ».

والمراد من «القمل» نوع من الآفات الزراعية التي تصيب الغلات وتفسدها وتتلفها.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 161

وعندما خفت أمواج هذا البلاء، واستمرّوا في عنادهم سلط اللَّه عليهم في المرحلة الرابعة، الضفادع، فقد تزايد نسل الضفادع تزايداً شديداً حتى أنّه تحول إلى بلاء عظيم عكّر عليهم صفو حياتهم: «وَالضَّفَادِعَ».

ولكنهم مع ذلك لم يخضعوا للحق ولم يسلّموا.

وفي هذا الوقت بالذات سلّط اللَّه عليهم «الدَّمَ».

وقال تعالى في ختام ذلك: إنّ هذه الآيات والمعاجز الباهرة- رغم أنّها أظهرت لهم حقانية موسى- ولكنهم استكبروا عن قبول الحق وكانوا مجرمين. «ءَايَاتٍ مُّفَصَّلتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ».

وَ لَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَ كَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) نقض العهد المتكرر: في هذه الآيات نلاحظ رد فعل الفرعونيين في مقابل النوائب والبلايا المنبّهة الإلهية، وفي الآية الاولى نقرأ: «وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ».

إنّهم عند نزول البلاء يلجأون إلى موسى ويطلبون منه أن يدعو لرفع العذاب عنهم، وأن يفي اللَّه بما وعده له من استجابة دعائه: «عَهِدَ عِندَكَ».

ثم يقولون: إذا دعوت فرفع عنّا البلاء فإنّنا نحلف لك بأن نؤمن بك، ونرفع طوق العبودية عن بني إسرائيل: «لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ».

«الرجز»: استعملت في معاني كثيرة:

البلايا الصعبة، الطاعون، الوثن والوثنية، وسوسة الشيطان، والثلج أو البَرَد الصلب.

والمراد من عبارة «بِمَا عَهِدَ عِندَكَ» ومن ذلك العهد الإلهي الذي أعطاه سبحانه لموسى هو أن يستجيب دعاءه إذا دعاه.

وفي الآية اللاحقة يشير إلى نقضهم للعهد ويقول: «فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم

مختصر الامثل، ج 2، ص: 162

بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ» «1». إنّ جملة «إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ» إشارة إلى أنّ موسى حدّد لهم وقتاً وعيّن أمداً، فكان يقول لهم: في الوقت الفلاني سيرفع هذا البلاء عنكم، حتى يتضح لهم أنّ إرتفاع ذلك البلاء عنهم ليس أمراً اتفاقياً وصدفة، بل هو بفضل دعائه وطلبه من اللَّه تعالى.

وآخر هذه الآيات تبين- من خلال جملتين قصيرتين- عاقبة كل هذا التعنت، ونقض العهد، فتقول بصورة مجملة: «فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ».

ثم تشرح هذا الإنتقام وتذكر تفصيله: «فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِى الْيَمّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بَايَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ». الإنتقام يعني العقوبة والمجازاة.

والمقصود من الإنتقام الإلهي هو أنّ الجماعة الفاسدة وغير القابلة للإصلاح لا يحق لها الحياة في نظام الخلق، ولابدّ أن تمحى من صفحة الوجود.

وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَ دَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ وَ مَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) قوم فرعون والمصير المؤلم: بعد هلاك قوم فرعون، وتحطّم قدرتهم، وزوال شوكتهم، ورث بنو إسرائيل الذين طال رزوحهم في أغلال الأسر والعبودية أراضي الفراعنة الشاسعة والآية الحاضرة تشير إلى هذا الأمر: «وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا».

والمقصود من العبارة هو حكومة بني إسرائيل على كل اراضى الفراعنة وبلادهم.

والتعبير ب «كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ» إشارة إلى الفرعونيين كانوا يستبقون بني إسرائيل

في حالة ضعف دائمية: ضعف فكري وضعف أخلاقي وضعف اقتصادي، ومن جميع الجهات وفي جميع النواحي.

والتعبير ب «مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا» إشارة إلى الأراضي الواسعة العريضة التي كانت تحت تصرّف الفرعونيين.

______________________________

(1) «النكث»: على وزن مَكْث، يعني فل الحبل المفتول، ثمّ اطلق على نقض الميثاق والعهد.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 163

وجملة «بَارَكْنَا فِيهَا» إشارة إلى الخصب العظيم الذي كانت تتمتع به هذه المنطقة- يعني مصر والشام.

ثم يقول: «وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ بِمَا صَبَرُوا». أي تحقق الوعد الإلهي لبني إسرائيل بانتصارهم على الفرعونيين، بسبب صبرهم وثباتهم.

ثم يضيف في آخر الآية: نحن الذين دمرنا قصور فرعون وقومه العظيمة، وأبنيتهم الجميلة الشامخة، وكذا بساتينهم ومزارعهم العظيمة «وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ».

«صنع»: يعني الأعمال الجميلة، وقد وردت هذه اللفظة في الآية الحاضرة بمعنى الهندسة الجميلة الرائعة التي كان يستخدمها الفرعونيين في أبنيتهم.

«يعرشون»: في الأصل تعني الأشجار والبساتين التي تنصب بواسطة العروش والسقف، ولها جمال عظيم وروعة باهرة.

«دمرّنا»: من مادة «التدمير» بمعنى الإهلاك والإبادة.

وَ جَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَ بَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَ هُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَ إِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) الاقتراح على موسى بصنع الوثن: في هذه الآيات إشارة إلى جانب حساس آخر من قصّة بني إسرائيل التي بدأت في أعقاب الإنتصار على الفرعونيين، وذلك هو مسألة توجه بني إسرائيل إلى

الوثنية التي بحثت بداياتها في هذه الآيات، وجاءت نتيجتها النهائية بصورة مفصلة في سورة طه من الآية (86- 97)، وبصورة مختصرة في الآية (148) فما بعد من هذه السورة.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 164

في الآية الاولى: «وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْرَاءِيلَ الْبَحْرَ». أي النيل العظيم.

ولكن في مسيرهم مرّوا على قوم يعبدون الأصنام: «فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ». «عاكف»: مشتقة من مادة «العكوف» بمعنى التوجه إلى شي ء وملازمته المقارنة لإحترامه وتبجيله.

فتأثّر الجهلة الغافلون بهذا المشهد بشدة إلى درجة قالوا لموسى من دون إبطاء: يا موسى اتّخذ لنا معبوداً على غرار معبودات هؤلاء: «قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ».

فانزعج موسى عليه السلام من هذا الإقتراح الأحمق بشدة، وقال لهم: «قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ». لأنّ منشأ الوثنية هو جهل البشر.

وفي الآية اللاحقة نقرأ أنّ موسى عليه السلام- لتكميل حديثه لبني إسرائيل- قال: إنّ هذه الجماعة الوثنية التي ترونها سينتهي أمرها إلى الهلاك، وإن عملهم هذا باطل لا أساس له «إِنَّ هؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

فعمل هذه الجماعة باطل، وجهودهم غير منتجة، كما أن مصير مثل هؤلاء القوم وكل قوم وثنيين ومشركين هو الهلاك والدمار.

ثم تضيف الآية التوكيد: إنّ موسى عليه السلام «قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ».

وفي الآية اللاحقة يذكر القرآن الكريم إحدى النعم الإلهية الكبرى التي وهبها اللَّه سبحانه لبني إسرائيل، ليبعث بالإلتفات إلى هذه النعمة الكبرى حسّ الشكر فيهم، وليعلموا أنّ اللائق بالخضوع والعبادة هو الذات الإلهية المقدسة فحسب، يقول في البداية: تذكّروا يوم أنجيناكم من مخالب آل فرعون الذين كانوا يعذبونكم دائماً «وَإِذْ أَنجَيْنكُم مّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ».

ثمّ تمشياً مع أسلوب القرآن في بيان

الامور بتفصيل بعد إجمال شرح هذا العذاب المستمر، وهو: قتل الأبناء، واستبقاء النساء للخدمة والإسترقاق «يُقَتّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ».

وقد كان في هذا اختبار عظيم من اللَّه لكم «وَفِى ذلِكُم بَلَاءٌ مّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 165

وَ وَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَ قَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) الميعاد الكبير: في هذه الآية إشارة إلى مشهد من مشاهد حياة بني إسرائيل، ومشكلة موسى عليه السلام معهم، وذلك هو قصة ذهاب موسى إلى ميقات ربّه، وتلقي أحكام التوراة عن طريق الوحي وكلامه مع اللَّه، والتي ذكرت بعد قصة عبادة بني إسرائيل للعجل وانحرافهم عن مسير التوحيد، وضجّة السامري العجيبة. يقول تعالى أوّلًا: «وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً».

هذه الأيام الأربعون بدأت من أوّل شهر ذى القعدة وختمت باليوم العاشر من شهر ذي الحجة (عيد الأضحى).

«الميقات»: مشتقة من مادة «الوقت» بمعنى الموعد المضروب للقيام بعمل ما، ويطلق عادة على الزمان، ولكنه قد يطلق على المكان الذي يجب أن يتمّ العمل فيه، مثل «ميقات الحج» يعني المكان الذي لا يجوز أن يجتازه أحد إلّامحرماً.

ثم ذكرت الآية أنّ موسى استخلف هارون وأمره بالإصلاح في قومه، وأن لا يتبع سبيل المفسدين: «وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هرُونَ اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ».

حديث المنزلة: أشار كثير من المفسرين الشيعة والسنّة- في ذيل الآية مورد البحث- إلى حديث «المنزلة» المعروف، بفارق واحد هو: أنّ الشيعة اعتبروا هذا الحديث من الأدلة الحيّة والصريحة على خلافة علي عليه السلام لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله مباشرة وبلا فصل.

ولكي يتّضح هذا

البحث ندرج هنا أوّلًا أسانيد ونص هذا الحديث باختصار، ثم نبحث في دلالته.

أسانيد حديث المنزلة: روى جمع كبير من صحابة النبي صلى الله عليه و آله حول غزوة تبوك: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خرج إلى تبوك واستخلف علياً فقال: أتخلفني في الصبيان والنساء؟ قال: «ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّاأنّه ليس نبي بعدي».

وهذا النص ورد في أوثق الكتب الحديثية لدى أهل السنّة، يعني صحيح البخاري وعن سعد بن أبي وقاص «1».

______________________________

(1) صحيح البخارى 5/ 129.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 166

وقد روى هذا الحديث- أيضاً- في صحيح مسلم الذي يعدّ من المصادر الرئيسية عن أهل السنة: خلف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على بن أبي طالب في غزوة تبوك فقال: يا رسول اللَّه تخلفني في النساء والصبيان؟ فقال: «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنّه لا نبي بعدي» «1».

وقد ورد عين هذا الموضوع في سنن ابن ماجه أيضاً «2».

وقد أضيف في سنن الترمذي مطلب آخر، وهو عن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال:

أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما منعك أن تسبّ أبا تراب؟ قال: أما ما ذكرت ثلاثاً قالهنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فلن أسبّه، لئن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ من حُمْر النَعَم. سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول لعلي وخلفه في بعض مغازيه؟ فقال له يا رسول اللَّه تخلفني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّاأنّه لا نبوّة بعدي». وسمعته يقول يوم خيبر: «لاعطين الراية رجلًا

يحب اللَّه ورسوله ويحبه اللَّه ورسوله». قال: فتطاولنا لها. فقال: «ادعوا لي علياً». قال فأتاه وبه رمد فبصق في عينه فدفع الراية إليه ففتح اللَّه عليه. وأنزلت هذه الآية «ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم» الآية دعا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: «اللهم هؤلاء أهلي» «3».

وقد أشير إلى هذا الحديث في (13) موارد من مسند أحمد بن حنبل، تارة ذكرت فيه غزوة تبوك، وتارة من دون ذكر غزوة تبوك بل بصورة كلية «4».

والجدير بالذكر أنّ هذا الحديث لم يروه سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه و آله وحده، بل رواه- أيضاً- مجموعة كبيرة من الصحابة الذين يتجاوز عددهم عشرين شخصاً منهم:

جابر بن عبداللَّه، وأبو سعيد الخدري، وأسماء بنت عميس، وابن عباس، وأم سليم، وعبد اللَّه بن مسعود، وأنس بن مالك، وزيد بن أرقم، وأبو أيوب، والأجدر بالذكر أنّ هذا الحديث رواه عن النبي صلى الله عليه و آله معاوية بن أبي سفيان، وعمر بن الخطاب أيضاً.

______________________________

(1) صحيح مسلم 7/ 120.

(2) سنن ابن ماجه 1/ 45.

(3) سنن الترمذي 5/ 301.

(4) مسند أحمد بن حنبل 1/ 170 و 173 و 175 و 177 و 179 و 182 و 184 و 185 و 331؛ و 3/ 32؛ و 6/ 369 و 438.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 167

حديث المنزلة في سبعة مواضع: النقطة الاخرى، إنّ النبي صلى الله عليه و آله- وخلافاً لما يتصوره البعض- لم يقل هذا البحث في علي عليه السلام في غزوة تبوك فقط، بل قال هذه العبارة في عدّة مواضع منها:

1- في المؤاخاة الاولى: يعني في المرّة الاولى التي آخى فيها رسول اللَّه صلى الله عليه و

آله بين المهاجرين واختار علياً عليه السلام في هذه المؤاخاة لنفسه وقال: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي» «1».

2- في يوم المؤاخاة الثانية: لمّا آخى النبي صلى الله عليه و آله بين أصحابه، قال عليّ: لقد ذهب روحي وانقطع ظهري حين رأيتك فعلت بأصحابك ما فعلت غيري فإن كان هذا من سخط على فلك العتبى والكرامة فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «والذي بعثني بالحق ما أخرتك إلّالنفسي وأنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنّه لا نبيّ بعدي وأنت أخي ووارثي» قال: وما أرث منك يا رسول اللَّه؟ قال: «ما ورثت الأنبياء من قبلي». قال: وما ورثت الأنبياء من قبلك؟

قال: «كتاب ربهم وسنة نبيهم وأنت معي في قصري في الجنة مع فاطمة بنتي وأنت أخي ورفيقي» «2».

3- أم سليم- التي كانت على جانب من الفضل والعقل، وكانت تعدّ من أهل السوابق، وهي من الدعاة إلى الإسلام، واستشهد أبوها وأخوها بين يدي النبي صلى الله عليه و آله وفارقت زوجها لأنّه أبى أن يعتنق الإسلام، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يزورها في بيتها ويسلّيها- تروي أم سليم هذه أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال لها ذات يوم: «إنّ عليّاً لحمه من لحمي ودمه من دمي، وهو منّي بمنزلة هارون من موسى» «3».

4- عن ابن عباس قال: قال عمر بن الخطاب: كفّوا عن ذكر علي بن أبي طالب فإنّي سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: في علي ثلاث خصال لئن يكون لي واحدة منهن أحبّ إلي ممّا طلعت عليه الشمس، كنت أنا وأبوبكر وأبو عبيدة ابن الجراح ونفر من أصحاب

رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والنبي صلى الله عليه و آله متكى ء على علي بن أبي طالب حتى ضرب بيده على منكبه ثم قال: «أنت يا علي أوّل المؤمنين إيماناً، وأوّلهم إسلاماً». ثم قال: «وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى وكذب على من زعم أنّه يحبني ويبغضك» «4».

______________________________

(1) كنز العمال 5/ 724.

(2) كنز العمال 9/ 167/ 25554.

(3) كنز العمال 11/ 607.

(4) كنز العمال 13/ 122.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 168

5- عن هانئ بن هانئ عن عليّ عليه السلام قال: لما صدرنا من مكة إذا ابنة حمزة تنادي: يا عم يا عم، فتناولها على عليه السلام عنه وأخذها فقال لصاحبته: دونك ابنة عمك فحملتها، فاختصم فيها على وزيد وجعفر، فقال عليّ: أنا آخذها وهي بنت عمي. وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي. وقال زيد: ابنة أخي. فقضى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لخالتها وقال: «الخالة بمنزلة الأم»، ثم قال لعليّ: «أنت منّي بمنزلة هارون وأنا منك» «1». 6- عن جابر بن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «يا علي إنّه يحلّ لك في المسجد ما يحلّ لي وإنّك منّي بمنزلة هارون من موسى إلّاأنّه لا نبيّ بعدي» «2».

هذه الموارد الستّة هي غير غزوة تبوك، أخذناها برمتها من المصادر المعروفة لأهل السنة، وإلّا فإنّ هناك في الروايات المروية عن طريق الشيعة موارد اخرى قال فيها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هذه العبارة في شأن علي عليه السلام أيضاً.

من مجموع ذلك يستفاد أنّ حديث المنزلة لم يكن مختصاً بغزوة تبوك، بل هو أمر عام ودائم في شأن علي عليه السلام.

ومن هنا يتّضح أيضاً أنّ ما تصوره بعض علماء

السنّة مثل «الآمدي» من أنّ هذا الحديث يتكفل حكماً خاصّاً في مجال خلافة علي عليه السلام وأنّه يرتبط بظرف غزوة تبوك خاصة، ولا يرتبط بغيره من الظروف والأوقات، تصور باطل أساساً، لأنّ النبي صلى الله عليه و آله كرّر هذه العبارة في مناسبات متنوعة ممّا يفيد أنّه كان حكماً عاماً.

محتوى حديث المنزلة: لو درسنا- بموضوعية وتجرّد- هذا الحديث، وتجنّبْنا الأحكام المسبّقة والتحججات الناشئة من العصبية، لاستفدنا من هذا الحديث أنّ علياً عليه السلام كان له- بموجب هذا الحديث- جميع المنازل التي كانت لهارون في بني إسرائيل- إلّاالنبوة.

وَ لَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَ خَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)

______________________________

(1) خصائص النسائي/ 88.

(2) ينابيع المودة 1/ 260.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 169

المطالبة برؤية اللَّه: في هذه الآيات والآيات اللاحقة يشير سبحانه إلى مشهد مثير آخر من مشاهد حياة بني إسرائيل، وذلك عندما طلب جماعة من بني إسرائيل من موسى عليه السلام- بإلحاح وإصرار- أن يَروا اللَّه سبحانه، وأنّهم لن يؤمنوا به إذا لم يشاهدوه، فاختار موسى سبعين رجلًا من قومه واصطحبهم معه إلى ميقات ربّه، وهناك رفع طلبهم إلى اللَّه سبحانه، فسمع جواباً أوضح لبني إسرائيل كل شي ء في هذا الصعيد. ففي الآيات الحاضرة يقول أوّلًا:

«وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ».

ولكن سرعان ما سمع الجواب من جانب المقام الرّبوبي: كلا، لن تراني أبداً «قَالَ لَن تَرَينِى وَلكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَينِى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ

لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا» «1».

فلمّا رأى موسى هذا المشهد الرهيب تملكه الرعب إلى درجة أنّه سقط على الأرض مغمىً عليه «وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا».

وعندما أفاق قال: ربّاه سبحانك، أنبتُ إليك، وأنا أوّل من آمن بك «فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ».

هل يمكن رؤية اللَّه أساساً؟ نقرأ في الآية الحاضرة أنّ اللَّه سبحانه قال لموسى: «انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَينِى» فهل مفهوم هذا الكلام هو أنّ اللَّه قابل للرؤية أساساً؟

الجواب هو أنّ هذا التعبير هو كناية عن استحالة مثل هذا الموضوع، مثل جملة «حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمّ الْخِيَاطِ» وحيث كان من المعلوم أنّ الجبل يستحيل أن يستقر في مكانه عند تجلّي اللَّه له، لهذا ذكر هذا التعبير، كما أنّ مفهوم جملة «لَن تَرَينِى» إنّك لا تراني لا في هذا العالم ولا في العالم الآخر.

وعلى هذا الأساس، إذا جاء في الأحاديث والأخبار الإسلامية أو الآيات القرآنية عبارة «لقاء اللَّه» فإنّ المقصود هو المشاهدة بعين القلب والعقل.

______________________________

(1) «دك»: في الأصل بمعنى سوّى الأرض، وعلى هذا فالمقصود من عبارة «جعله دكّاً» هو أنّه حطم الجبال وسواها كالأرض وجاء في بعض الرّوايات أنّ الجبل تناثر أقساماً، سقط كل قسم منه في جانب أو غار في الأرض وتلاشى نهائياً.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 170

قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَ بِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَ كَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) ألواح التوراة: وفي النهاية أنزل اللَّه شرائع وقوانين دينه على موسى عليه السلام. ففي البداية:

«قَالَ يَا مُوسَى إِنّى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسلتِى

وَبِكَلمِى».

فإذا كان الأمر كذلك «فَخُذْ مَا ءَاتَيْتُكَ وَكُن مّنَ الشَّاكِرِينَ».

إنّ هدف الآية هو بيان امتيازين كبيرين لموسى على الناس: أحدهما تلقي رسالات اللَّه وتحمّلها والآخر التكلّم مع اللَّه وكلا هذين الأمرين من شأنهما تقوية مقام قيادته بين أمته.

ثم أضاف تعالى واصفاً محتويات الألواح التي أنزلها على موسى عليه السلام بقوله: «وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الْأَلْوَاحِ مِن كُلّ شَىْ ءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلّ شَىْ ءٍ».

ثم أمره بأن يأخذ هذه التعاليم والأوامر مأخذ الجد، ويحرص عليها بقوة «فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ».

وأن يأمر قومه أيضاً بأن يختاروا من هذه التعاليم أحسنها «وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا».

كما يحذرهم بأنّ مخالفة هذه الأوامر والتعاليم والفرار من المسؤوليات والوظائف تستتبع نتائج مؤلمة، وأن عاقبتها هي جهنم وسوف يرى الفاسقون مكانهم «سَأُورِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ».

بحوث

1- يستفاد من الآيات القرآنية المتنوعة أنّ اللَّه تعالى كلّم موسى عليه السلام وكان تكليم اللَّه لموسى عن طريق خلق أمواج صوتية في الفضاء أو في الأجسام، وربّما انبعثت هذه الأمواج الصوتية من خلال «شجرة الوادي الأيمن» وربّما من «جبل طور» وتبلغ مسمع موسى.

2- يستفاد من عبارة «مِن كُلّ شَىْ ءٍ مَّوْعِظَةً» أنّه لم تكن جميع المواعظ والمسائل موجودة في ألواح موسى عليه السلام لأنّ اللَّه يقول: «وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الْأَلْوَاحِ مِن كُلّ شَىْ ءٍ مَّوْعِظَةً»

مختصر الامثل، ج 2، ص: 171

وهذا لأجل أنّ دين موسى عليه السلام لم يكن آخر دين، ولم يكن موسى عليه السلام خاتم الأنبياء ومن المسلم أنّ الأحكام الإلهية التي نزلت كانت في حدود ما يحتاجه الناس في ذلك الزمان، ولكن عندما وصلت البشرية إلى آخر مرحلة حضارية للشرايع السماوية نزل آخر دستور إلهي يشمل جميع حاجات الناس المادية والمعنوية.

وتتّضح من هذا أيضاً علة تفضيل مقام علي عليه السلام على مقام موسى عليه

السلام في بعض الروايات، وهي أنّ علياً عليه السلام كان عارفاً بجميع القرآن، الذي فيه تبيان كل شي ء «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلّ شَىْ ءٍ» في حين أنّ التوراة لم يرد فيها إلّابعض المسائل.

3- في مجال قوله: «سَأُورِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ» الظاهر أنّ المقصود منها هو جهنم، وهي مستقرّ كل اولئك الذين يخرجون من طاعة اللَّه، ولا يقومون بوظائفهم الإلهية. سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَ كَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَ لِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) مصير المتكبرين: البحث في هاتين الآيتين هو نوع من عملية استنتاج من الآيات الماضية عن مصير فرعون وملئه والعصاة من بني إسرائيل، فقد بيّن اللَّه في هذه الآيات الحقيقة التالية وهي: إذا كان الفراعنة أو متمرّدو بني إسرائيل لم يخضعوا للحق مع مشاهدة كل تلك المعاجز والبينات، وسماع كل تلكم الحجج والآيات الإلهية، فذلك بسبب أنّنا نصرف المتكبرين والمعاندين للحق- بسبب أعمالهم- عن قبول الحق. ولهذا يقول أوّلًا:

«سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايتِىَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ».

ثم أشار تعالى إلى ثلاثة أقسام من صفات هذا الفريق «المتكبر المتعنت» وكيفية سلب توفيق قبول الحق عنهم.

الاولى قوله تعالى: «وَإِن يَرَوْا كُلَّ ءَايَةٍ لَايُؤْمِنُوا بِهَا» إنّهم لا يؤمنون حتى ولو رأوا جميع المعاجز والآيات، والثانية: «وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَايَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا» والثالثه إنّهم

مختصر الامثل، ج 2، ص: 172

على العكس: «وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَىّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا». بعد ذكر هذه الصفات الثلاث الحاكية برمتها عن تصلب

هذا الفريق تجاه الحق، أشار إلى عللها وأسبابها، فقال: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بَايَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ».

ثم تبين الآية اللاحقة عقوبة مثل هؤلاء الأشخاص وتقول: «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بَايَاتِنَا وَلِقَاءِ الْأَخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ».

«الحبط»: يعني بطلان العمل وفقدانه للأثر والخاصية، يعني أنّ مثل هؤلاء الأفراد حتى إذا عملوا خيراً فإنّ عملهم لن يعود عليهم بنتيجة.

وفي ختام الآية أضاف بأنّ هذا المصير ليس من باب الإنتقام منهم، إنّما هو نتيجة أعمالهم هم، بل هو عين أعمالهم ذاتها وقد تجسمت أمامهم «هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

إنّ هذه الآية نموذج آخر من الآيات القرآنية الدالة على تجسم الأعمال، وحضور أعمال الإنسان خيرها وشرها يوم القيامة.

وَ اتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَ لَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَ كَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَ لَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَ رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَ يَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) اليهود وعبادتهم للعجل: في هذه الآيات يقصّ القرآن الكريم إحدى الحوادث المؤسفة، وفي نفس الوقت العجيبة التي وقعت في بني إسرائيل بعد ذهاب موسى عليه السلام إلى ميقات ربه، وهي قصّة عبادتهم للعجل التي تمّت على يد شخص يدعى «السامري» مستعيناً بحلي بني إسرائيل وما كان عندهم من آلات الزّينة. وفي الآية الحاضرة يقول القرآن الكريم أوّلًا: إنّ قوم موسى عليه السلام بعد ذهابه إلى ميقات ربّه صنعوا من حليّهم عجلًا، وكان مجرّد تمثال لا روح فيه، ولكنه كان له صوت كصوت البقر، واختاروه معبوداً لهم:

«وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِن حُلِيّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ».

كيف كان للعجل الذهبي خوار؟ و «الخوار» هو الصوت الخاص الذي يصدر

من البقر أو العجل، وقد ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ السامري بسبب ما كان عنده من معلومات وضع

مختصر الامثل، ج 2، ص: 173

أنابيب خاصه في باطن صدر العجل الذهبي، كان يخرج منها هواء مضغوط فيصدر صوت من فم ذلك العجل الذهبيّ شبيه بصوت البقر.

ثم يقول القرآن الكريم معاتباً وموبّخاً: ألم ير بنو إسرائيل أنّ هذا العجل لا يتكلم معهم ولا يهديهم لشي ء، فكيف يعبدونه؟ «أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَايُكَلّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا». يعني أنّ المعبود الحقيقي هو من يعرف- على الأقل- الحسن والقبيح، وتكون له القدرة على هداية أتباعه، ويتحدث إلى عبدته ويهديهم سواء السبيل، ويعرّفهم على طريقة العبادة.

إنّهم ظلموا بهذا العمل أنفسهم، لهذا يقول في ختام الآية: «اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ».

بيد أنّه برجوع موسى عليه السلام إليهم، واتضاح الأمر عرف بنو إسرائيل خطأهم، وندموا على فعلهم، وطلبوا من اللَّه أن يغفر لهم، وقالوا: إذا لم يرحمنا اللَّه ولم يغفر لنا فإنّنا لا شك خاسرون «وَلَمَّا سُقِطَ فِى أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ».

وَ لَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَ أَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَ لَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي وَ أَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) ردة فعل شديدة تجاه عبادة العجل: في هاتين الآيتين بيّن تعالى بالتفصيل ما جرى بين موسى عليه السلام وبين عبدة العجل عند عودته من ميقاته المشار إليه في الآية السابقة. فهاتان الآيتان تعكسان ردة

فعل موسى عليه السلام الشديدة التي أدّت إلى يقظة هذه الجماعة. يقول في البدء: ولما عاد موسى عليه السلام إلى قومه غضبان ممّا صنع قومه من عبادة العجل، قال لهم: ضيعتم ديني وأسأتم الخلافة «وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِى».

والمراد هو أنّكم تعجلتم في الحكم بالنسبة إلى أمر اللَّه تعالى في قضية تمديد مدّة الميقات من ثلاثين إلى أربعين، فاعتبرتم عدم مجيئي في المدة المقررة- أوّلًا- دليلًا على موتي، في حين كان يتعين عليكم أن تتريثوا وتنتظروا قليلًا ريثما تمرّ أيام ثم تتّضح الحقيقة.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 174

فهنا لابدّ أن يظهر موسى عليه السلام غضبه الشديد إذ العودة إلى الحق والصواب عسيرة في غير هذه الصورة. إنّ القرآن يستعرض ردّة فعل موسى الشديدة في قبال ذلك المشهد وفي تلك الأزمة، إذ يقول: إنّ موسى ألقى ألواح التوراة التي كانت بيده، وعمد إلى أخيه هارون وأخذ برأسه ولحيته وجرهما إلى ناحيته ساخطاً غاضباً.

وفي الحقيقة كان هذا الموقف يعكس- من جانب- حالة موسى عليه السلام النفسية، وانزعاجه الشديد تجاه وثنية بني إسرائيل وانحرافهم، ومن جانب آخر كان ذلك وسيلة مؤثرة لهزّ عقول بني إسرائيل الغافية، والفاتهم إلى بشاعة عملهم.

ثم إنّ القرآن الكريم ذكر أنّ هارون قال- وهو يحاول استعطاف موسى وإثبات برائته في هذه المسألة-: يابن ام هذه الجماعة الجاهلة جعلوني ضعيفاً إلى درجة أنّهم كادوا يقتلونني، فإذن أنا بري ء، فلا تفعل بي ما سيكون موجباً لشماتة الأعداء بي ولا تجعلني في صف هؤلاء الظالمين «قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِى وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِى فَلَا تُشْمِتْ بِىَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ».

لقد هدأ غضب موسى عليه السلام بعض الشي ء، وتوجّه إلى

اللَّه «قَالَ رَبّ اغْفِرْ لِى وَلِأَخِى وَأَدْخِلْنَا فِى رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ».

إنّ طلب موسى عليه السلام العفو والمغفرة من اللَّه تعالى لنفسه ولأخيه، لم يكن لذنب اقترفاه، بل كان نوعاً من الخضوع للَّه، والعودة إليه، وإظهار النفرة من أعمال الوثنيين القبيحة، وكذا لإعطاء درس عملي للجميع حتى يفكروا ويروا إذا كان موسى وأخوه- وهما لم يقترفا إنحرافاً- يطلبان من اللَّه العفو والمغفرة هكذا، فالأجدر بالآخرين أن ينتبهوا ويحاسبوا أنفسهم، ويتوجهوا إلى اللَّه ويسألوه العفو والمغفرة لذنوبهم. وقد فعل بنو إسرائيل هذا فعلًا- كما تفيد الآيتان السابقتان.

إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ ذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَ الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَ آمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَ لَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَ فِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)

مختصر الامثل، ج 2، ص: 175

لقد فعلت ردّة فعل موسى عليه السلام الشديدة فعلتها في المآل فقد ندم عَبَدة العجل الإسرائيليون- وهم أكثرية القوم- على فعلهم، وقد طرح هذا الندم في عدّة آيات قبل هذه الآية أيضاً (الآية 149) ومن أجل أن لا يُتصور أنّ مجرّد الندم من مثل هذه المعصية العظيمة يكفي للتوبة، يضيف القرآن الكريم قائلًا: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبّهِمْ وَذِلَّةٌ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا».

وهكذا لأجل أن لا يُتصور أنّ هذا القانون يختص بهم أضاف قائلًا: «وَكَذلِكَ نَجْزِى الْمُفْتَرِينَ».

إنّ التعبير ب «اتّخذوا» إشارة إلى أنّ الوثن ليس له أيّة واقعية، ولكن انتخاب عبدة الأوثان هو الذي أعطاه تلك الشخصية والقيمة الوهمية، ولهذا أتى بكلمة «العجل» وراء هذه الجملة فوراً، يعني أنّ ذلك العجل

هو نفس ذلك العجل حتى بعد انتخابه للعبادة.

وفي الآية اللاحقة يكمّل القرآن الكريم هذا الموضوع ويقول في صورة قانون عام:

«والَّذِينَ عَمِلُوا السَّيَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِهَا وَءَامَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ» فالذين يتوبون من بعد السيئة وتتوفر كل شروط التوبة لديهم يغفر اللَّه لهم ويعفو عنهم.

الآية الأخيرة من الآيات المبحوثة تقول: ولما سكن غضب موسى عليه السلام وحصل على النتيجة التي كان يتوخاها، أخذ الألواح من الأرض، تلك الألواح التي كانت تحتوي- من أوّلها إلى آخرها- على الرحمة والهداية، رحمة وهداية للذين يشعرون بالمسؤولية، والذين يخافون اللَّه، ويَخضعون لأوامره وتعاليمه: «وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِى نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ».

وَ اخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيَّايَ أَ تُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَ ارْحَمْنَا وَ أَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَ اكْتُبْ لَنَا فِي هذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَ الَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)

مختصر الامثل، ج 2، ص: 176

مندوبو بني إسرائيل في الميقات: في الآيتين الحاضرتين يعود القرآن الكريم مرّة اخرى إلى قصة ذهاب موسى إلى الميقات «الطور» في صحبة جماعة، ويقص قسماً آخر من تلك الحادثة. فقد قال القرآن الكريم في الآيتين الحاضرتين أوّلًا: «وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لّمِيقَاتِنَا».

ولكن بني إسرائيل حيث إنّهم سمعوا كلام اللَّه طلبوا من موسى عليه السلام أن يطلب من اللَّه تعالى أن يريهم

نفسه- لبني إسرائيل- جهرة، وفي هذا الوقت بالذات أخذهم زلزال عظيم وهلك الجماعة، ووقع موسى عليه السلام على الأرض مغشياً عليه، وعندما أفاق قال: ربّاه لو شئتَ لأهلكتَنا جميعاً، يعني بماذا أجيبُ قومي لو هلك هؤلاء: «فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيىَ».

ثم قال: ربّاه إنّ هذا المطلب التافة إنّما هو فعل جماعة من السفهاء، فلا تؤاخذنا بفعلهم:

«أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا».

ثم إنّ موسى عليه السلام قال في عقيب هذا التضرع والطلب من اللَّه: ربّاه إنّي أعلم أنّ هذا كان اختبارك وامتحانك، فأنت تضلّ من تشاء (وكان مستحِقاً لذلك) وتهدي من تشاء (وكان لائقاً لذلك) «إِنْ هِىَ إِلَّا فِتْنَتُكَ» وإختبارك.

وفي ختام الآية يقول موسى عليه السلام: ربّاه: «أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ».

من مجموع الآيات والروايات يستفاد أنّ الهالكين قد استعادوا حياتهم في المآل وعادوا برفقة موسى عليه السلام إلى بني إسرائيل، وقصُّوا عليهم كل ما سمعوه وشاهدوه، وأخذوا في إرشاد الغافلين الجاهلين وهدايتهم.

وفي الآية اللاحقة يشير إلى طلب موسى عليه السلام من ربّه وتكميل مسألة التوبة التي ذكرت في الآيات السابقة، يقول موسى: «وَاكْتُبْ لَنَا فِى هذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الْأَخِرَةِ».

«الحسنة»: تعني كل خير وجمال، وعلى هذا الأساس تشمل جميع النعم، وكذا التوفيق للعمل الصالح، والمغفرة، والجنّة، وكل نوع من أنواع السعادة.

ولقد أجاب اللَّه- في النهاية- دعاء موسى عليه السلام وقَبِل توبته، ولكن لا بصورة مطلقة، بل جاء ذلك في ختام الآية مشروطاً بشروط، إذ يقول: «قَالَ عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ» وكان مستحِقاً.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 177

ثم يضيف تعالى قائلًا: «وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْ ءٍ».

إنّ هذه الرحمة الواسعة يمكن أن تكون إشارة إلى أنواع الرحمة المادية والمعنوية، لأنّ

النعم المعنوية لا تختص بقوم دون قوم، وإن كان لها شرائط تتوفر لدى الجميع.

ولكن حتى لا يظن أحد أنّ قبول التوبة، أو سعة الرحمة الإلهية وشموليتها، غير مقيدة وغير مشروطة، ومن دون حساب أو كتاب، يضيف في ختام الآية: سرعان ما أكتب رحمتي للذين تتوفر فيهم ثلاثة أمور: اتقوا، وآتوا الزكاة، وآمنوا بآياتي «فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَالَّذِينَ هُم بَايَاتِنَا يُؤْمِنُونَ».

«التقوى»: إشارة إلى إجتناب كل معصية وإثم.

«الزكاة»: مرادة هنا بمعناها الواسع، وحسب الحديث المعروف «لكل شي ء زكاة» يشمل جميع الأعمال الصالحة والطيبة.

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) اتبعوا هذا النبي: هذه الآية تكمل الآية السابقة التي تحدثت عن صفات الذين تشملهم الرحمة الإلهية الواسعة، أي من تتوفر فيهم الصفات الثلاث: التقوى، وأداء الزكاة، والإيمان بآيات اللَّه. وفي هذه الآية يذكر صفات اخرى لهم من باب التوضيح، وهي اتباع الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله لأنّ الإيمان باللَّه غير قابل للفصل عن الإيمان بالنبي صلى الله عليه و آله وإتباع دينه، ولهذا يقول تعالى: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ».

ثم يبين ست صفات لهذا الرسول مضافاً إلى مقام الرسالة:

1- أنّه نبيّ اللَّه «النَّبِىَّ».

والنبي يطلق على كل من يبين رسالة اللَّه إلى الناس، ويوحى إليه وإن لم يكن مكلّفاً بالدعوة والتبليغ، ولكن الرسول مضافاً إلى كونه نبياً- مكلف بالدعوة إلى دين اللَّه، وتبليغه والإستقامة في هذا السبيل.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 178

2-

أنّه نبي امّي لم يتعلم القراءة والكتابة، وقد نهض من بين جماهير الناس من أرض مكة أم القرى قاعدة التوحيد الأصلية: «الْأُمِّىَّ».

3- ثم إنّ هذا النبي هو «الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَيةَ وَالْإِنجِيلِ».

4- ومن سمات هذا النبي أنّ دعوته تتطابق لنداء العقل مطابقة كاملة، فهو يدعو إلى كل الخيرات وينهى عن كل الشرور والممنوعات العقلية: «يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْههُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ».

5- كما أنّ محتوى دعوته منسجم مع الفطرة الإنسانية السليمة، فهو يحل ما ترغب فيه الطباع السليمة ويحرم ما تنفر منه «وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيّبَاتِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ».

6- أنّه ليس كأدعياء النبوة والرسالة الذين يهدفون إلى توثيق الناس بأغلال الاستعمار والاستثمار والاستغلال، بل هو على العكس من ذلك، إنّه يرفع عنهم إصرهم والأغلال التي تكبّل عقولهم وأفكارهم وتثقل كاهلهم «وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْللَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ» «1».

وبما إنّ هذه الصفات الست بالاضافة إلى الصفة السابعة وهي مقام الرسالة تشكّل من حيث المجموع علامة واضحة ودليل قاطع على صدق دعواه، فيضيف القرآن الكريم:

«فَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».

بحثان

1- خمسة أدلة على النبوة في آية واحدة: الأوّل: أنّه «امّي» لم يدرس، ولكنه مع ذلك أتى بكتاب لم يغيّر مصير أهل الحجاز فقط، بل كان نقطة تحول هام في التاريخ البشري.

الثاني: أنّ دلائل نبوته قد وردت بتعابير مختلفة في الكتب السماوية السابقة على نحو توجد علماً لدى المرء بحقانيته ....

الثالث: أنّ محتويات دعوته تنسجم انسجاماً كاملًا مع العقل.

الرابع: أنّ محتويات دعوته منسجمة مع الطبع السليم والفطرة السويّة.

الخامس: لو لم يكن من جانب اللَّه لكان عليه أن يقوم بما يضمن مصالحه الخاصة، وفي هذه الصورة كان يتعين عليه أن لا يرفع الأغلال

والسلاسل عن الناس، بل عليه أن يبقيهم في حالة الجهل والغفلة لاستغلالهم بنحو أفضل، في حين أنّنا نجده يحرر الناس من الأغلال الثقيلة.

أغلال الجهل والغفلة عن طريق الدعوة المستمرة إلى العلم والمعرفة.

______________________________

(1) «الإصر»: يعني في الأصل عقد الشي ء وحبسه، ويطلق على كل عمل يمنع الإنسان من الفعالية والحركة.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 179

أغلال الوثنية والخرافة عن طريق الدعوة إلى التوحيد.

أغلال التمييز بكل أنواعه، والحياة الطبقية بجميع أصنافها، عن طريق الدعوة إلى الأخوة الدينية والإسلامية، والمساواة أمام القانون.

وهكذا سائر الأغلال الاخرى.

إنّ كل واحد من هذه الدلائل لوحده دليل على حقانية دعوته، كما أنّ مجموعها دليل أوضح وأقوى.

2- البشارات بظهور النبي في العهدين: إنّ الشواهد التاريخية القطعية، وكذا محتويات كتب اليهود والنصارى المقدسة (التوراة والإنجيل) تفيد أنّ هذه الكتب ليست هي الكتب السماوية التي نزلت على موسى وعيسى عليهما السلام وأنّ يد التحريف قد طالتهما، بل إنّ بعضها اندرس واندثر، وأن ما هو موجود الآن باسم الكتب المقدسة بينهم ما هي إلّاخليط من نسائج الأفكار والأدمغة البشرية وشي ء من التعاليم التي نزلت على موسى وعيسى عليهما السلام مما بقي في أيدي تلامذتهم.

ولكن مع هذا فإنّه يلحظ في ثنايا هذه الكتب المحرفة عبارات تتضمن اشارات معتدّ بها حول ظهور هذا النبي العظيم.

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَ يُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ كَلِمَاتِهِ وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) دعوة النبي العالمية: في تفسير الصافي عن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام قال: جاء نفر من اليهود إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالوا: يا محمّد! أنت الذي

تزعم أنّك رسول اللَّه، وأنّك الذي يوحى إليك كما يوحى إلى موسى بن عمران؟ فسكت النبي ساعة ثم قال: «نعم أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا خاتم النبيين، وإمام المتقين، ورسول ربّ العالمين». قالوا: إلى من، إلى العرب أم إلى العجم، أم إلينا؟ فأنزل اللَّه هذه الآية التي صرّحت بأنّ رسالة النبي صلى الله عليه و آله رسالة عالمية.

وفي البداية يأمر اللَّه تعالى رسول اللَّه قائلًا: «قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 180

مختصر الامثل ج 2 199

إنّ هذه الآية مثل آيات كثيرة اخرى من القرآن الكريم دليل واضح على عالمية دعوة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

ثم إنّه وصف الإله الذي يدعو إليه النبي صلى الله عليه و آله بثلاث صفات:

1- «الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ» فله الحاكمية المطلقة.

2- «لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ» فلا معبود يليق للعبادة سواه.

3- «يُحْىِ وَيُمِيتُ» بيده نظام الحياة والموت.

وفي الختام تدعو جميع أهل العالم إلى الإيمان باللَّه وبرسوله الذي لم يتعلّم القرآءة والكتابة والقائم من بين الناس «فَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِىّ الْأُمّىّ».

النبي الذي لا يكتفي بدعوة الآخرين إلى هذه الحقائق فحسب، بل يؤمن هو في الدرجة الاولى- بما يقول، يعني الإيمان باللَّه وكلماته «الَّذِى يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ».

إنّه لا يؤمن فقط بالآيات التي نزلت عليه، بل يؤمن بجميع الكتب الحقيقية للأنبياء السابقين.

إنّ تأريخ النبي صلى الله عليه و آله برمّته يشهد بهذه الحقيقة وهي أنّه صلى الله عليه و آله كان أكثر من غيره التزاماً بالتعاليم التي جاء بها.

أجل، لابدّ لكم من اتّباع مثل هذا النبي حتى تسطع أنوار الهداية على قلوبكم، لتهتدوا إلى طريق السعادة «وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ».

وهذا إشارة إلى أنّه لا

يكفي مجرد الإيمان، وإنما يفيد الإيمان إذا إقترن بالإتباع العملي.

وَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَ قَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَ ظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَ مَا ظَلَمُونَا وَ لكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) جانب من نعم اللَّه على بني إسرائيل: في الآيات الحاضرة إشارة إلى حقيقة رأينا نظيرها في القرآن الكريم، وهذه الحقيقة هي تحري القرآن للحق، واحترامه لمكانة الأقليات

مختصر الامثل، ج 2، ص: 181

الدينية الصالحة، يعني أنّه لم يكن ليصف جميع بني إسرائيل بأسرهم بالفساد والإفساد، وبأنّ هذا العرق القومي برمته ضالّ متمرد من دون إستثناء، بل اعترف بأنّ منهم أقلية صالحة غير موافقة على أعمال الأكثرية، وقد أولى القرآن الكريم اهتماماً خاصّاً بهؤلاء فيقول: «وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ».

إنّ هذه الآية تشير إلى الأقلية اليهودية الذين كانوا يعيشون في عصر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والذين اعتنقوا الإسلام تدريجاً وبعد مطالعة دعوة النبي ومحتوى رسالته، وانضموا إلى صفوف المسلمين الصادقين.

وفي الآية اللاحقة يشير القرآن الكريم إلى عدّة أقسام من نعم اللَّه على بني إسرائيل.

فيقول أوّلًا: «وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَىْ عَشَرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا». وهذا التقطيع والتقسيم إنّما هو لأجل أن يسودهم نظام عادل، بعيد عن المصادمات الخشنة.

«أسباط»: جمع «سبط» (بفتح السين وبكسرها) تعني في الأصل الإنبساط في سهولة، ثم يطلق السبط والأسباط على الأولاد وبخاصّة الأحفاد لأنّهم امتداد العائلة.

والمراد من الأسباط- هنا- هو قبائل بني إسرائيل وفروعها، الذين كان كل واحد منها منشعباً

ومنحدراً من أحد أولاد يعقوب عليه السلام.

والنعمة الاخرى هي: أنّه عندما كان بنو إسرائيل متوجهين إلى بيت المقدس وأصابهم العطش الشديد الخطير في الصحراء، وطلبوا من موسى عليه السلام الماء، أوحي إليه أن اضرب بعصاك الحجر ... ففعل فنبع الماء فشربوا ونجوا من الهلاك «وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا».

وقد كانت الينابيع هذه مقسمة بين أسباط بني إسرائيل بحيث عرف كل سبط منهم نبعه الذي يشرب منه «قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ».

والنعمة الثالثة هي: أنّ اللَّه تعالى أرسل لهم- في تلك الصحارى الملتهبة حيث لا سقف ولا ظلال- سحباً ظلّلتهم «وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ».

والنعمة الرابعة إنزال المنّ والسلوى عليهم كغذائين لذيذين ومقويين: «وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى .

ثم يقول اللَّه تعالى: وقلنا «كُلُوا مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ».

ولكنهم أكلوا وكفروا النعمة ولم يشكروها وبذلك ظلموا أنفسهم «وَمَا ظَلَمُونَا وَلكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 182

وَ إِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَ كُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَ قُولُوا حِطَّةٌ وَ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) في تعقيب الآيات السابقة تشير هاتان الآيتان إلى قسم آخر من المواهب الإلهية لبني إسرائيل وطغيانهم تجاه تلك النعم، وكفرانهم بها. يقول تعالى: «وَ» اذكروا «إِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ».

وقلنا لهم اطلبوا من اللَّه حطّ الذنوب عنكم وعفوه عن خطاياكم، وادخلوا من باب بيت المَقدس بخضوع «وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا».

فاذا قمتم بهذه الامور غفرنا لكم خطاياكم، وأعطينا للمحسنين ثواباً أكبر «نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ».

وبالرغم

من أنّ اللَّه فتح أمامهم أبواب الرحمة، ولو أردوا إغتنام الفرصة لاستطاعوا حتماً إصلاح ماضيهم وحاضرهم، ولكن لم يغتنم الظالمون من بني إسرائيل هذه الفرصة فحسب، بل بدّلوا أمر اللَّه، وقالوا خلاف ما أمروا أن يقولوه: «فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِى قِيلَ لَهُمْ».

وفي المآل نزل عليهم بسبب هذا الطغيان والظلم للنفس وللآخرين عذاب من السماء «فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ».

وَ اسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَ إِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَ أَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)

مختصر الامثل، ج 2، ص: 183

قصة فيها عبرة: في هذه الآيات يستعرض مشهداً آخر من تاريخ بني إسرائيل الزاخر بالحوادث، وهو مشهد يرتبط بجماعة منهم كانوا يعيشون عند ساحل بحر. غاية ما في الأمر أنّ الخطاب موجه فيها إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله فيقول له: «وَسَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِى كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ». أي اسأل يهود عصرك عن قضية القرية التي كانت تعيش على ساحل البحر.

ثم تقول: وذكّرهم كيف أنّهم تجاوزوا- في يوم السبت- القانون الإلهي «إِذْ يَعْدُونَ فِى السَّبْتِ» لأنّ يوم السبت كان يوم عطلتهم، وكان عليهم أن يكفوا فيه عن الكسب، وعن صيد السمك ويشتغلوا بالعبادة، ولكنهم تجاهلوا هذا الأمر.

ثم يشرح القرآن العدوان المذكور بالعبارة

التالية: «إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا». فالأسماك كانت تظهر على سطح الماء في يوم السبت، بينما كانت تختفي في غيره من الأيام.

«السبت»: في اللغة تعني تعطيل العمل للإستراحة، وسمّى «يوم السبت» بهذا الإسم لأنّ الأعمال العادية والمشاغل كانت تتعطل في هذا اليوم، ثمّ بقي هذا الإسم لهذا اليوم علماً له.

إنّ هذا الموضوع سواء كان له جانب طبيعي عادي أم كان له جانب استثنائي وإلهي، كان وسيلة لامتحان واختبار هذه الجماعة، لهذا يقول القرآن الكريم: وهكذا اختبرناهم بشي ء يخالفونه ويعصون الأمر فيه «كَذلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ».

وجملة «بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ» إشارة إلى أنّ اختبارهم كان من خلال أدوات موافقة لأهوائهم وما من شأنه أن يدعوهم إلى المعصية والمخالفة، وجميع الاختبارات كذلك، لأن الاختبار يجب أن يبيّن مدى مقاومة الأشخاص أمام جاذبية المعاصي والذنوب.

عندما واجهت هذه الجماعة من بني إسرائيل هذا الامتحان الكبير الذي كان متداخلًا مع حياتهم تداخلًا كاملًا، انقسموا إلى ثلاث فرق:

«الفريق الأوّل» وكانوا يشكّلون الأكثرية، وهم الذين خالفوا هذا الأمر الإلهي.

«الفريق الثاني» وكانوا على القاعدة يشكلون الأقلية، وهم الذين قاموا- تجاة الفريق الأوّل بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

«الفريق الثالث» وهم الساكتون المحايدون الذين لم يوافقوا العصاة، ولا قاموا بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 184

وفي الآية الثانية من الآيات المبحوثة هنا يشرح الحوار الذي دار بين الساكنين، وبين الذين تحركوا للنهي عن ارتكاب هذه المخالفة فيقول: «وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا».

فأجابهم الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر: بأنّنا ننهى عن المنكر لأنّنا نؤدّي واجبنا تجاه اللَّه تعالى، وحتى لا نكون مسؤولين تجاهه، هذا مضافاً إلى أنّنا نأمل أن يؤثر كلامنا في قلوبهم،

ويكفوا عن طغيانهم وتعنتهم «قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ».

ويستفاد من الجملة الحاضرة أنّه ربّما يجب بيان الحقائق والوظائف الإلهية حتى مع عدم احتمال التأثير، وذلك عندما يكون عدم بيان الأحكام الإلهية، وعدم إنكار المنكر سبباً لتناسي وتنامي البدع، وحينما يعدّ السكوت دليلًا على الرضا والموافقة. ففي هذه الموارد يجب إظهار الحكم الإلهي في مكان حتى مع عدم تأثيره في العصاة والمذنبين.

ثم إنّ الآية اللاحقة تقول: وفي المآل غلبت عبادة الدنيا عليهم، وتناسوا الأمر الإلهي، وفي هذا الوقت نجينا الذين كانوا ينهون عن المنكر، وعاقبنا الظالمين بعقاب أليم بسبب فسقهم وعصيانهم «فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ» «1».

ثم يشرح العقوبات هكذا: «فَلَمَّا عَتَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِينَ» «2».

وواضح أنّ أمر «كونوا» هنا أمر تكويني مثل: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» «3».

يجب الإلتفات إلى أنّ الممسوخين- حسب الروايات- بقوا على هذه الحالة عدة أيّام ثمّ هلكوا ولم يتولد منهم نسل أبداً.

كيف ارتكبوا هذه المعصية؟ إنّهم في البداية استخدموا ما يسمى بالحيلة الشرعية، وذلك بواسطة حفر أحواض إلى جانب البحر، أو إلقاء الكلاليب والصنارات، ثم لما صُغرت هذه المعصية في نظرهم، جرأهم ذلك على كسر احترام يوم السبت وحرمته، فأخذوا يصيدون السمك في يوم السبت تدريجاً وعلناً، واكتسبوا من هذا الطريق ثروة كبيرة جداً.

______________________________

(1) «بئيس»: مشتقة من مادة «بأس» يعني الشديد.

(2) «عتوا»: من مادة «عتّو» على وزن «غلوّ»، بمعنى الإمتناع عن طاعة أمر.

(3) سورة يس/ 28.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 185

وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ

وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَ قَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَ مِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَ بَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَ السَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) تفرق اليهود وتشتتهم: هاتان الآيتان تشيران إلى بعض العقوبات الدنيوية التي أصابت جماعة من اليهود خالفت أمر اللَّه تعالى، وسحقت الحق والعدل والصدق. فيقول في البداية: واذكروا يوم أخبر اللَّه بأنّه سيسلّط على هذه الجماعة العاصية المتمردة فريقاً يجعلها حليفة العذاب والأذى إلى يوم القيامة «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيمَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ».

ويستفاد من هذه الآية أنّ هذه الجماعة المتمردة الطاغية لن ترى وجه الإستقرار والطمأنينة أبداً، وإن أسّست لنفسها حكومة وشيّدت دولة.

وفي ختام الآية يضيف تعالى قائلًا: «إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ».

فبالنسبة إلى الكفّار سريع العقاب، وبالنسبة للمذنبين التائبين غفور رحيم.

وهذه الجملة تكشف عن أنّ اللَّه قد ترك الباب مفتوحاً أمامهم حتى لا يظن أحد أنّه قد كُتب عليهم المصير المحتوم والشقاء الابدي الذي لا خلاص منه.

وفي الآية اللاحقة يشير تعالى إلى تفرّق اليهود في العالم فيقول: «وَقَطَّعْنَاهُمْ فِى الْأَرْضِ أُمَمًا مّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ» فهم متفرقون منقسمون على أنفسهم بعضهم صالحون، ولهذا عندما سمعوا بنداء الإسلام وعرفوا دعوة النبي محمّد صلى الله عليه و آله آمنوا به، وبعضهم لم يكونوا كذلك بل تركوا الحق وراءهم ظهرياً، ولم يرتدعوا عن معصية في سبيل ضمان مصالحهم وحياتهم المادية.

ومرّة اخرى تتجلى هذه الحقيقة في هذه الآية وهي أنّ الإسلام لا يعادي العنصر اليهودي، ولا يشجبهم لكونهم أتباع دين معين، أو منتمين إلى عنصر وعرق معيّن، بل يجعل أعمالهم هي مقياس تقييمهم.

ثمّ يضيف تعالى قائلًا: «وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ». أي ربّما

مختصر الامثل، ج 2، ص: 186

نكرمهم

ونجعلهم في رفاه ونعمة حتى نثير فيهم روح الشكر، ويعودوا إلى طريق الحق. وربّما نغرقهم في الشدائد والمصاعب والمصائب حتى ينزلوا عن مركب الغرور والأنانية والتكبر، ويقفوا على عجزهم، لعلهم يستيقظون ويعودون إلى اللَّه، والهدف في كلتا الحالتين هو التربية والهداية والعودة إلى الحق.

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنَى وَ يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَ إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَ دَرَسُوا مَا فِيهِ وَ الدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَ الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَ أَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) في الآيات الماضية دار الحديث حول أسلاف اليهود، ولكن في الآية الحاضرة دار الكلام حول أبنائهم وأخلافهم. وفي البداية يقول تعالى: «فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنَى . إنّهم ورثوا التوراة عن أسلافهم، وكان عليهم أن ينتفعوا بها ويهتدوا، ولكنهم رغم ذلك فُتنوا بمتاع هذه الدنيا وحطامها الرخيص التافه، واستبدلوا الحق والهدى بمنافعهم الماديّة.

ثم يضيف قائلًا: وعندما وقعوا بين مفترق طريقين: بين ضغط الوجدان من جهة، والرغبات والمنافع المادية من جهة اخرى عمدوا إلى الأماني والآمال الكاذبة وقالوا: لنأخذ المنافع الدنيوية فعلًا سواءً من حلال أو حرام، واللَّه سيرحمنا ويغفر لنا «وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا».

إنّ هذه الجملة تكشف عن أنّهم كانوا بعد القيام بمثل هذا العمل يعيشون حالة من الندم العابر والتوبة الظاهرية، ولكن هذه الندامة- كما يقول القرآن الكريم- لم تكن لها أيّة جذور في أعماق نفوسهم، ولهذا يقول تعالى: «وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ».

«عَرَض»: على وزن «غرض» يعني الشي ء الذي لا ثبات له ولا دوام، ومن هذا

المنطق يطلق على متاع العالم المادي اسم العرض، لكونه زائلًا غير ثابت في الغالب.

إنّ هذه الجملة إشارة إلى عمليات الإرتشاء التي كان يقوم بها بعض اليهود لتحريف الآيات السماوية، ونسيان أحكام اللَّه لمضادتها لمصالحهم ومنافعهم المادية.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 187

ولهذا قال تعالى في عقيب ذلك: «أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لَّايَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ». أي أنّهم اخذ عليهم الميثاق- بواسطة كتابهم السماوي التوراة- أن لا يفتروا على اللَّه كذباً، ولا يحرفوا كلماته، ولا يقولوا إلّاالحق.

ثم يقول: لو كان هؤلاء الذين يرتكبون هذه المخالفات جاهلون بالآيات الإلهية، لكان من الممكن أن ينحتوا لأنفسهم أعذاراً، ولكن المشكلة هي أنّهم رأوا التوراة مراراً وفَهموا محتواها ومع ذلك ضيّعوا أحكامها، ونبذوا أمرها وراء ظهورهم «وَدَرَسُوا مَا فِيهِ».

وفي ختام الآية يقول: إنّ هؤلاء يخطئون في تقديرهم للُامور، وإنّ هذه الأعمال لن تجديهم نفعاً «وَالدَّارُ الْأَخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ».

ألا تفهمون هذه الحقائق الواضحة «أَفَلَا تَعْقِلُونَ».

وفي مقابل الفريق المشار إليه سابقاً يشير تعالى إلى فريق آخر لم يكتفوا بعدم اقتراف جريمة تحريف الآيات الإلهية وكتمانها فحسب، بل تمسكوا بحذافيرها وطبقوها في حياتهم حرفاً بحرف، والقرآن يصف هذه الجماعة بأنّهم مصلحو العالم، ويعترف لهم بأجر جزيل وثواب عظيم، ويقول عنهم: «وَالَّذِينَ يُمَسّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ إِنَّا لَانُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ».

إنّ الآيات الحاضرة تكشف لنا بوضوح عن أنّ الإصلاح الواقعي في الأرض لا يمكن من دون التمسك بالكتب السماوية، ومن دون تطبيق الأوامر والتعاليم الإلهية، وهذا التعبير يؤكّد- مرّة اخرى- هذه الحقيقة، وهي أنّ الدين ليس مجرد برنامج يرتبط بعالم ما وراء الطبيعة، وبدار الآخرة، بل هو برنامج للحياة البشرية، ويهدف إلى حفظ مصالح جميع أفراد البشر، وإجراء مبادى ء العدل والسلام والرفاه والإستقرار،

وبالتالي كل مفهوم تشمله كلمة «الإصلاح» الواسعة المعنى.

وَ إِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَ ظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) آخر كلام حول اليهود: هذه الآية آخر آية في هذه السورة تتحدث حول حياة بني إسرائيل وهي تتضمن تذكير قصة اخرى ليهود عصر النبي صلى الله عليه و آله قصة فيها عبرة، كما أنّها دليل على إعطاء ميثاق وعهد، إذ يقول: واذكروا إذ قلعنا الجبل من مكانه وجعلناه فوق

مختصر الامثل، ج 2، ص: 188

رؤوسهم كأنّه مظلّة «وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ» «1». وقد ظنّوا أنّه سيسقط على رؤوسهم، فإنتابهم اضطراب شديد وفزع «وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ».

وفي تلك الحالة قلنا لهم: خذوا ما أعطيناكم من الأحكام بقوة وجديّة «خُذُوا مَا ءَاتَيْنكُم بِقُوَّةٍ».

واذكروا ما جاء فيه حتى تتقوا، وخافوا من العقاب الإلهي واعملوا بما أخذناه فيه منكم من المواثيق «وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ».

يعني أنّ رسالة موسى عليه السلام وسائر الأنبياء وأعمالهم ومواجهاتهم المستمرة والصعبة وما لقوا من صعاب ومتاعب وشدائد مضنية كانت لأجل تطبيق أوامر اللَّه، وتنفيذ مبادى ء الحق والعدالة والطهر والتقوى في المجتمعات البشرية بشكل كامل.

وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَ فَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) العهد الأوّل وعالم الذر: الآيات المذكورة أعلاه، تشير إلى «التوحيد الفطري» ووجود الإيمان في أعماق روح الإنسان، ولذلك فإنّ هذه الآيات تُكمّل الأبحاث

الواردة في الآيات المتقدمة من هذه السورة في شأن «التوحيد الإستدلالي». يقول اللَّه سبحانه مخاطباً نبيّه في هذه الآية: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا».

«الذرية»: معناها في الأصل الأبناء الصغار اليافعون، إلّاأنّها تطلق في الغالب على عموم الأبناء.

ثم يشير اللَّه سبحانه إلى الهدف النهائي من هذا السؤال والجواب، وأخذ العهد من ذرية آدم في مسألة التوحيد، فيقول: «أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذَا غَافِلِينَ».

______________________________

(1) «نتقنا»: من مادة «نتق» تعني في الأصل قلع وانتزاع شي ء من مكانه، وإلقاءه في جانب آخر.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 189

الآية التالية تشير إلى هدف آخر من أخذ هذا العهد، وهو أنّ اللَّه تعالى إنّما أخذ هذا العهد من ذرية بني آدم لئلا يعتذروا «أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ ءَابَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرّيَّةً مّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ».

أجل ... «وَكَذلِكَ نُفَصّلُ الْأَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ».

إنّ المراد من هذا العالم وهذا العهد هو عالم الإستعداد «والكفاءات» و «عهد الفطرة» والتكوين والخلق. فعند خروج أبناء آدم من أصلاب آبائهم إلى أرحام الامهات، وهم نطف لا تعدو الذرات الصغار، وهبهم اللَّه الإستعداد لتقبل الحقيقة التوحيدية، وأودع ذلك السرّ الإلهي في ذاتهم وفطرتهم بصورة إحساس داخلي ... كما أودعه في عقولهم وأفكارهم بشكل حقيقة واعية بنفسها. فبناءً على هذا، فإنّ جميع أبناء البشر يحملون روح التوحيد، وما أخذه اللَّه من عهد منهم أو سؤاله إيّاهم: ألست بربّكم؟ كان بلسان التكوين والخلق، وما أجابوه كان باللسان ذاته.

وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَ لَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَ اتَّبَعَ هَوَاهُ

فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَ أَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَ مَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) في هذه الآيات إشارة لقصة اخرى من قصص بني إسرائيل، والآية الاولى من هذه الآيات يخاطب بها النبي صلى الله عليه و آله حيث يقول تعالى: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى ءَاتَيْنهُ ءَايتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطنُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ». و الآية التالية تكمل هذا الموضوع على النحو التالي «وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنهُ بِهَا».

و لكن من المسلم أنّ إكراه الناس وإجبارهم على أن يسلكوا سبيل الحق لا ينسجم والسنن الإلهية وحرية الإرادة ولا يكون ذلك دليلًا على عظمة الشخص، لهذا فإنّ الآية

مختصر الامثل، ج 2، ص: 190

تضيف مباشرة إنّنا تركناه وهواه وبدلًا من أن ينتفع من معارفه فإنّه هوى وانحطّ «وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَيهُ». «أخلد»: من «الإخلاد» وهي تعني السكن الدائم في مكان واحد مع حرية الإرادة، فجملة (أخلد إلى الأرض) تعني اللصوق الدائم بالأرض، وهي كناية عن عالم المادة وبهارجها، واللذائذ غير المشروعة للحياة المادية.

ثم تشبّه الآية هذا الفرد بالكلب الذي يُخرج لسانه لاهثاً دائماً كالحيوانات العطاشى فتقول: «فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث».

فهو لفرط اتّباعه الهوى وتعلقه بعالم المادة انتابته حالة من العطش الشديد غير المحدود وراء لذائذ الدنيا، وكل ذلك لم يكن لحاجة، بل لحالة مَرضيّة، فهو كالكلب المسعور الذي يظهر بحالة عطش كاذب لا يمكن إرواؤها وهي حالة العبيد الذين لا يهمهم غير جمع المال واكتناز الثروة فلا يحسون معه بشبع أبداً.

ثم تضيف الآية:

إنّ هذا المثال الخاص لا يتعلق بفرد معين، بل: «ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بَايَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ».

العالِم المنحرف «بلعم بن باعوراء»: يستفاد من أغلب الروايات وأحاديث المفسرين أنّ هذا الشخص يسمّى (بلعم بن باعوراء) الذي عاصر النبي موسى عليه السلام وكان من مشاهير علماء بني إسرائيل، حتى أنّ موسى عليه السلام كان يعوّل عليه كداعية مقتدر، وبلغ أمره أن دعاءه كان مستجاباً لدى الباري جلّ وعلا، لكنّه مال نحو فرعون وإغراءاته فانحرف عن الصواب، وفقد مناصبه المعنوية تلك حتى صار بعدئذٍ في جبهة أعداء موسى عليه السلام.

ويجب على المؤمنين معرفة مثل هؤلاء الأشخاص والحذر منهم واجتنابهم.

والآيتان التاليتان- كنتيجة عامّة وشاملة لقضية (بلعم) وعلماء الدين الذين أحبّوا الدنيا- فتقول اولاهما: «سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بَايَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ».

فما أفحش ظلم الإنسان لنفسه وهو يسخّر ملكاته المعنوية وعلومه النافعة التي بإمكانها أن تعود عليه وعلى مجتمعه بالخير، ويضعها تحت اختيار المستكبرين وأصحاب القدرة الدنيوية ويبيعها بثمن بخس فيؤدّي ذلك إلى سقوطه وسقوط المجتمع و الآية الأخيرة تحذّر الإنسان وتؤكّد له أنّ الخلاص من مثل هذا الانحراف وما يكيده الشياطين لا يمكن إلّا بتوفيق وتسديد من اللَّه عزّ وجلّ: «مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِى وَمَن يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 191

وَ لَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَ لَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وَ لِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَ ذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَ مِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ (181) علائم

أهل النار: هذه الآيات تقسم الناس إلى مجموعتين ... وتحكي عن صفاتهما وهما أهل النار، وأهل الجنة. فتتحدث عن المجموعة الاولى- أهل النار- أوّلًا، فتأتي بالقسم والتوكيد فتقول: «وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنّ وَالْإِنسِ».

«ذرأنا»: مشتقة من «ذرأ»، وتعني هنا الإيجاد والخلق، غير أنّها في أصل اللغة تعني نشر الشي ء وتفريقه.

فإنّ اللَّه سبحانه خلق الناس جميعهم على نسق واحد طاهرين إلّاأنّ قسماً منهم إختاروا بأعمالهم جهنّم فكانوا من أهلها فكان عاقبة أمرهم خسراً ... وأنّ قسماً منهم إختاروا بأعمالهم الجنّة وكان عاقبة أمرهم السعادة ....

ثم يلخّص القرآن صفات أهل النار في ثلاث جمل، إذ تقول الآية: «لَهُمْ قُلُوبٌ لَايَفْقَهُونَ بِهَا».

والصفة الثانية التي ذكرتها الآية لأهل النار «وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّايُبْصِرُونَ بِهَا».

والصفة الثالثه الواردة في حقهم «وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَّايَسْمَعُونَ بِهَا أُولئِكَ كَالْأَنْعمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ».

لأنّ البهائم والأنعام لا تملك هذه الإستعدادات والإمكانات، إلّاأنّهم بما لديهم من عقل سالم وعين باصرة وأذن سامعة، بإمكانهم أن يبلغوا كل مراتب الرقي والتكامل، إلّاأنّهم نتيجة لإتباعهم هواهم ورغبتهم- بكل هذه التوافه من الامور تركوا هذه الإستعدادات جانباً ... وكان شقاؤهم كبيراً لهذا السبب: «أُولئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ».

فالمَعين الذي يحييهم ويروي ظمأهم موجود إلى جانبهم وهم على مقربة منه، إلّاأنّهم يتصارخون من الظمأ وأبواب السعادة مفتحة أمامهم لكنّهم لا يلتفتون إليها.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 192

وفي الآية التالية إشارة إلى حال أهل الجنة وبيان لصفاتهم، فتبدأ الآية بدعوة الناس إلى التدبر والتوجه إلى أسماء اللَّه الحسنى كمقدمة للخروج من صف أهل النار، فتقول: «وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا». والمراد من «أسماء اللَّه الحسنى» هي صفات اللَّه المختلفة التي هي حُسنى جميعاً فالمراد من دعاء اللَّه بأسمائه الحسنى، ليس هو ذكر هذه الألفاظ وجريانها على

اللسان فحسب، كأن نقول مثلًا: يا عالم يا قادر يا أرحم الراحمين، بل ينبغي أن نتمثّلَ هذه الصفات في وجودنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا. وبتعبير أخرى: ينبغي أن نتّصف بصفاته ونتخلّق بأخلاقه.

من ذلك الرواية الواردة في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام في قول اللَّه عزّ وجلّ «وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا» قال: «نحن واللَّه الأسماء الحسنى». فهي إشارة إلى أنّ إشعاعاً من صفاته قد انعكس فينا، فمن عرفنا فقد عرف ذاته المقدسة ....

ثم تحذر الآية من هذا الأمر، وهو أن تُحرّف أسماؤه فتقول: «وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ». والمقصود من الإلحاد في أسماء اللَّه هو أن نحرِف ألفاظها أو مفاهيمها، بحيث نصفه بصفات لا تليق بساحته المقدسة، كما يصفه المسيحيون بالتثليث «الأب والابن وروح القدس».

وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة إلى صفتين من أبرز صفات أهل الجنة، إذ تقول الآية: «وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ».

إنّ لهؤلاء منهجين ممتازين فأفكارهم وأهدافهم ودعواتهم وثقافاتهم حقّة وهي في اتجاه الحق أيضاً كما أنّ أعمالهم وخططهم وحكوماتهم قائمة على أساس الحق والحقيقة.

وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) الإستدراج: تعقيباً على البحث السابق الذي عالجته الآيات المتقدمة- والذي يبين حال أهل النار- تبين هاتان الآيتان واحدةً من سنن اللَّه في شأن كثير من عباده المجرمين المعاندين، وهي ما عبّر عنها القرآن «بعذاب الإستدراج».

والإستدراج جاء في موطنين من القرآن: أحدهما في الآيتين محل البحث، والآخر في الآية (44) من سورة القلم، وكلا الموطنين يتعلقان بمكذّبي آيات اللَّه ومنكريها.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 193

يقول سبحانه في الآية الاولى: «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بَايَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم

مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ». أي سنعذّبهم بالإستدراج شيئاً فشيئاً، ونطوي حياتهم.

و الآية الثانية تؤكّد الموضوع ذاته، وتشير بأنّ اللَّه لا يتعجّل بالعذاب عليهم، بل يمهلهم لعلهم يحذرون ويتعظون، فإذا لم ينتبهوا من نومتهم ابتلوا بعذاب اللَّه؛ فتقول الآية «وَأُمْلِى لَهُمْ».

لأنّ الإستعجال يتذرع به من يخاف الفوت، واللَّه قوي ولا يفلت من قبضته أحد «إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ».

فهذه الآية تنذر جميع المجرمين والمذنبين بأنّ تأخير الجزاء من قبل اللَّه لا يعني صحة أعمالهم أو طهارتهم، ولا عجزاً وضعفاً من اللَّه، وأن لا يحسبوا أنّ النعم التي غرقوا فيها هي دليل على قربهم من اللَّه، فما أقرب من أن تكون هذه النعم والإنتصارات مقدمة لعقاب الإستدراج. فاللَّه سبحانه يغشّيهم بالنعم ويمهلهم ويرفعهم عالياً، ثمّ يكبسهم على الأرض فجأة حتى لا يبقى منهم أثر، ويطوي بذلك وجودهم وتأريخ حياتهم كله.

في الكافي: سئل الإمام الصادق عليه السلام عن قول اللَّه عزّ وجلّ «سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ» قال: «هو العبد يذنب الذنب فتجدّد له النعمة معه، تلهيه تلك النعمة عن الاستغفار عن ذلك الذنب».

أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ وَ أَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَ يَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله صعد الصفا وكان يدعو قريشاً، فخذاً فخذاً، إلى توحيد اللَّه، ويخوفهم عذاب اللَّه، فقال المشركون: إنّ صاحبهم قد جُنّ، بات ليلًا يصوّت إلى الصباح، فأنزل اللَّه هذه الآية.

التّفسير

التُهم والأباطيل: في

الآية الاولى من الآيات- محل البحث- يردّ اللَّه سبحانه على كلام

مختصر الامثل، ج 2، ص: 194

المشركين الفارغ، بزعمهم أنّ النبي صلى الله عليه و آله قد جُنّ، فيقول سبحانه: «أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّةٍ» «1». وهذا التعبير يشير إلى أنّ النبي صلى الله عليه و آله لم يكن شخصاً مجهولًا بينهم، وتعبيرهم ب «الصاحب» يعني المحب والمسامر والصديق وما إلى ذلك، وكان النبي معهم أكثر من أربعين عاماً يرون ذهابه وإيابه وتفكيره وتدبيره دائماً وآثار النبوغ كانت باديةً عليه، فمثل هذا الإنسان الذي كان يُعدّ من أبرز الفضلاء والعقلاء قبل الدعوة إلى اللَّه، كيف تلصق به مثل هذه التهمة بهذه السرعة؟! أما كان من الأفضل أن يتفكروا- بدلًا من إلصاق التهم به- في احتمال أن يكون صادقاً في دعواه ومرسل من قبل اللَّه سبحانه؟! كما عقّب القرآن الكريم وبيّن ذلك بعد قوله أو لم يتفكروا؟ فقال: «إِن هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ».

وفي الآية التالية- استكمالًا للموضوع آنف الذكر- دعاهم القرآن إلى النظر في عالم الملكوت عالم السماوات والأرض، إذ تقول الآية: «أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِى مَلَكُوتِ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْ ءٍ». ليعلموا أنّ هذا العالم الواسع، عالم الخلق، عالم السماوات والأرض، بنظامه الدقيق المحيّر المذهل لم يخلق عبثاً، وإنّما هناك هدف وراء خلقه. ودعوة النبي صلى الله عليه و آله هي من أجل ذلك الهدف، وهو تكامل الإنسان وتربيته وارتقاؤه.

ثم تقول الآية معقبة لتنّبههم من نومة الغافلين: «وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَىّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ».

وأخيراً فإنّ الآية التالية، تختتم الكلام بالقول: «مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِىَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ».

فإنّ هذه التعابير تختص باولئك الذين يقفون بوجه الحقائق معاندين ألدّاء،

حتى كأنّما على أبصارهم غشاوة وفي سمعهم صمم وعلى قلوبهم طبع، فلا يجدون إلّاأسدالًا من الظلمات تحجب طريقهم. وكل ذلك هو نتيجة أعمالهم، وهو المقصود بالإضلال الإلهي «مَن يُضْلِلِ اللَّهُ».

______________________________

(1) «الجنّة»: معناها الجنون، ومعناها في الأصل: الحائل والمانع فكأنّما يُلقى على العقل حائل عند الجنون. مختصر الامثل، ج 2، ص: 195

يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس: جاء قوم من اليهود، فقالوا: يا محمّد أخبرنا عن الساعة متى هي إن كنت نبياً؟ فنزلت الآية.

وقيل: قالت قريش يا محمّد! متى الساعة؟ فنزلت الآية.

التّفسير

مع أنّ هذه الآية ذات سبب خاص في النزول- كما ذكروا- إلّاأنّها في الوقت ذاته لها علاقة وثيقة بالآيات المتقدمة أيضاً، لأنّه قد وردت الإشارة إلى يوم القيامة ولزوم الإستعداد لمثل ذلك اليوم في الآيات السابقة. وبالطبع فإنّ موضوعاً كهذا يستدعي السؤال عن موعده وقيامه، ويستثير كثيراً من الناس أن يسألوه: أيّان يوم القيامة؟ لهذا فإنّ القرآن يقول: «يَسَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسهَا».

«الساعة»: تعني زمان نهاية الدنيا، إلّاأنّها في الغالب تأتي بمعنى القيامة في القرآن الكريم؛ و «أيّان»: تساوي «متى» وهما للسّؤال عن الزمان؛ و «المرسى»: ثبات الشي ء أو وقوعه، فبناءً على ذلك فإنّ «أيّان مرساها» تعني: في أيّ وقت تقع القيامة وتكون ثابتةً؟

ثم تضيف الآية مخاطبة النبي أن يرد عليهم بصراحة قائلة: «قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبّى لَا يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ».

إلّا أنّ الآية تذكر علامتين مجملتين، فتقول أوّلًا: «ثَقُلَتْ فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

أيّة

حادثة يمكن أن تكون أثقل من هذه، إذ تضطرب لهولها جميع الأجرام السماوية «قبيل القيامة» فتخمد الشمس ويُظلم القمر وتندثر النجوم، ويتكون من بقاياها عالم جديد بثوب آخر.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 196

ثمّ إنّ قيام الساعة يكون على حين غرّة، وبدون مقدمات تدريجية، بل على شكل مفاجي ء وانقلاب سريع. «لَاتَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً».

ثمّ تقول الآية مرّة اخرى: «يَسَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا».

وتضيف الآية مخاطبة النبي الكريم: «قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ».

قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَ لَا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَ مَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: إنّ أهل مكة قالوا: يا محمّد! ألا يخبرك ربّك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو، فتشتريه فتربح فيه، وبالأرض التي تريد أن تجدب، فنرتحل منها إلى أرض قد أخصبت؟ فأنزل هذه الآية.

التّفسير

لا يعلم الغيب إلّااللَّه: إنّ الكلام كان في الآية السابقة على عدم علم أحد بقيام الساعة إلّا اللَّه، والكلام في هذه الآية على نفي علم الغيب عن العباد بصورة كلية. ففي الجملة الاولى من هذه الآية خطاب للنبي صلى الله عليه و آله يقول: «قُلْ لَّاأَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ».

إنّ مالك جميع القوى والقدرات وذو الاختيار المستقل- وبالذات- في عالم الوجود هو اللَّه عزّ وجلّ فحسب، والآخرون حتى الأنبياء والملائكة يكتسبون منه القدرة ويستمدون منه القوة.

وبعد بيان هذا الموضوع تشير الآية إلى مسألة مهمّة اخرى ردّاً على سؤال جماعة منهم فتقول: «وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوءُ».

ثمّ تحكي الآية عن مقام النبي الواقعي ورسالته، في جملة

موجزة صريحة، فتقول على لسانه: «إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 197

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَ يُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَ لَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَ لَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) جحدُ نعمةٍ عظمى: في هذه الآيات إشارة إلى جانب آخر من حالات المشركين واسلوب تفكيرهم والردّ على تصوّراتهم الخاطئة. لمّا كانت الآية السابقة إشارة إلى توحيد أفعال اللَّه، فالآيات محل البحث تعدّ مكملةً لها لأنّ هذه الآيات تشير إلى توحيد أفعال اللَّه أيضاً. تقول الآية الاولى من هذه الآيات: «هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا» فجعل الحياة والسكن جنباً إلى جنبٍ «فَلَمَّا تَغَشهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ».

وبمرور الأيام والليالي ثقل الحمل «فَلَمَّا أَثْقَلَت» كان كل من الزوجين ينتظر الطفل، ويتمنّى أن يهبه اللَّه ولداً صالحاً، فلذلك «دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ ءَاتَيْتَنَا صلِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ». وعندما استجاب اللَّه دعاءهما، ورزقهما الولد الصالح أشركا باللَّه «فَلَمَّا ءَاتهُمَا صلِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا ءَاتهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ».

وتعقيباً على هذا الأمر يردّ القرآن- باسلوب بيّن متين- عقيدة المشركين وأفكارهم مرة اخرى، فيقول: «أَيُشْرِكُونَ مَا لَايَخْلُقُ شَيًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ».

وليس هذا فحسب، فهم ضعاف «وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ».

والأوثان والأصنام في حالة لو ناديتموها لما استجابت لكم

«وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ». فمن كان بهذه المنزلة وبهذا المستوى أنّى له بهداية الآخرين!

ويحتمل بعض المفسرين احتمالًا آخر في تفسير الآية، أنّ المراد هو أنّكم لو طلبتم منهم الهداية فلن يتحقق دعاؤكم وطلبكم على كل حال «سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 198

أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ وَ أَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَ يَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) هاتان الآيتان- محل البحث- تواصلان الكلام على التوحيد ومكافحة الشرك، وتبطلان منطق المشركين بأربعة أدلة، فتقول الآية الاولى من هاتين الآيتين: «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ».

فبناءً على ذلك لا معنى لأن يسجد الإنسان لشى ء مثله تحكمها قوانين الطبيعية، وأن يمدّ يد الضراعة والحاجة إليه، وأن يجعل مقدّراته ومصيره تحت يده.

ثم تضيف الآية: أنّكم لو تزعمون بأنّ لهم عقلًا وشعوراً «فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».

وهذا هو الدليل الثاني على إبطال منطق المشركين.

وفي البيان الثالث تبرهن الآية على أنّ الأصنام أضعف حتى من عبادها المشركين، فتتساءل مستنكرةً: «أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا» «1».

وهكذا فإنّ الأصنام من الضعة بمكان حتى أنّها بحاجة إلى من يدافع عنها ويحامي عنها، وأخيراً فإنّ الآية تبين ضمن تعبير هو في حكم الدليل الرابع مخاطبة النبي صلى الله عليه و آله قائلةً: «قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونَ». أي إذا كنت كاذباً، وأنّ

الأصنام مقرّبات عنداللَّه، وقد تجرأتُ عليها فلِمَ لا تغضب عليّ؟ وليس لها ولا لكم ولمكائدكم أي تأثير عليّ.

إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَ لَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَ تَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَ هُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)

______________________________

(1) «يبطشون»: فعل مشتق من «البطش» على زنة «العرش» ومعناه الإستيلاء بالشدّة والصولة والقدرة.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 199

المعبودات التي لا قيمة لها: تعقيباً على الآية المتقدمة التي كانت تخاطب المشركين بالقول (على لسان النبي): «ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونَ» منبّهة إياهم أنّهم لا يستطيعون أن يصيبوا النبي بأدنى ضرر، فإنّ الآية الاولى- من الآيات- محل البحث- تذكر الدليل على ذلك فتقول: «إِنَّ وَلِيّىَ اللَّهُ الَّذِى نَزَّلَ الْكِتَابَ».

وليس وليي وحدي فحسب، بل هو وليّ جميع الصالحين «وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ».

ثم يؤكّد القرآن بالآية التالية على بطلان عبادة الأوثان مرّة اخرى فيقول: «وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَايَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ».

بل أبعد من ذلك «وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَايَسْمَعُوا». وبالرغم من امتلاكهم العيون التي يخيل إلى الرائي أنّها تنظر: «وَتَرَيهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَايُبْصِرُونَ».

ومضمون الآيتين الأخيرتين ورد في الآيات السابقة أيضاً، وهذا التكرار إنّما هو لمزيد التأكيد على مكافحة الشرك وقلع جذوره التي نفذت في أفكار المشركين وأرواحهم عن طريق التلقين والتقرير المتكرر.

خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَ إِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَ إِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ

قَالُوا لَوْ لَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَ هُدًى وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وساوس الشيطان: في هذه الآيات يبين القرآن شروط التبليغ وقيادة الناس وإمامتهم باسلوب أخّاذ رائق وجيز، وهي في الوقت ذاته تتناسب والآيات المتقدمة التي كانت تشير إلى مسألة تبليغ المشركين أيضاً. ففي الآية الاولى- من الآيات محل البحث- إشارة إلى ثلاث من وظائف القادة والمبلغين، فتوجّه الخطاب للنبي صلى الله عليه و آله فتقول في البداية: «خُذِ الْعَفْوَ».

ثم تعقّب الآية بذكر الوظيفة الثانية للنبي صلى الله عليه و آله وتأمره بأن يرشد الناس إلى حميد الأفعال التي يرتضيها العقل ويدعو إليها اللَّه عزّ وجلّ قائلةً: «وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 200

مختصر الامثل ج 2 239

أمّا الوظيفة الثالثه للنبي صلى الله عليه و آله فهي أن يتحمل الجاهلين، فتقول: «وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ».

فالقادة والمبلغون يواجهون في مسيرهم أفراداً متعصبين جهلة يعانون من انحطاط فكري وثقافي وغير متخلقين بالأخلاق الكريمة، فيرشقونهم بالتّهم، ويُسيؤون الظن بهم ويحاربونهم.

فطريق معالجة هذه المعضلة لا يكون بمواجهة المشركين بالمثل، بل الطريق السليم هو التحمل والجلد وعدم الإكثرات بمثل هذه الامور، والتجربة خير دليل على أنّ هذا الاسلوب هو الاسلوب الأمثل لمعالجة الجهلة، وإطفاء النائرة، والقضاء على الحسد والتعصب، وما إلى ذلك.

وفي الآية التالية دستور آخر، وهو يمثل الوظيفة الرابعة التي ينبغي على القادة والمبلغين أن يتحملوها، وهي أن لا يدعوا سبيلًا للشيطان إليهم، سواء كان متمثلًا بالمال أم الجاه أم المقام وما إلى ذلك، وأن يردعوا الشياطين أو المتشيطنين ووساوسهم، لئلا ينحرفوا عن أهدافهم. فالقرآن يقول: «وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطنِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».

وفي الآية التالية بيان

للإنتصار على وساوس الشيطان بهذا النحو: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طئِفٌ مِنَ الشَّيْطنِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ». أي يتذكرون ما أنعم اللَّه عليهم، ويفكرون في سوء عاقبة الذنب وعذاب الاخرة فيتّضح لهم بذلك طريق الحق.

والطائف: هو الذي يطوف ويدور حول الشي ء، فكأنّ وساوس الشيطان تدور حول فكر الإنسان وروحه كالطائف حول الشي ء ليجد منفذاً إليه.

وأساساً فإنّ كل إنسان في أية مرحلة من الإيمان، أو أيّ عمر كان، يُبتلى بوساوس الشياطين. وربّما أحس أحياناً أنّ في داخله قوة مهيمنة تدفعه نحو الذنب وتدعوه إليه، ولا شك أنّ مثل هذه الحالة من الوساوس في مرحلة الشباب أكثر منها في أيّة مرحلة اخرى، ولا سيما إذا كانت البيئة أو المحيط كما هو في العصر الحاضر من التحلّل والحريّة، لا الحرية بمعناها الحقيقي، بل بما يذهب إليه الحمقى «من الإنسلاخ من كل قيد والتزام أخلاقي أو اجتماعي أو ديني» فتزداد الوساوس الشيطانية عندالشباب.

وطريق النجاة الوحيد من هذا التلوّث والتحلل في مثل هذه الظروف، هو تقوية رصيد التقوى أولًا، كما أشارت إليه الآية: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا» ثم المراقبة والتوجه نحو النفس، والإلتجاء إلى اللَّه وتذكر ألطافه ونعمه وعقابه الصارم للمذنب.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 201

وملخص القول: أنّنا لاحظنا في الآية السابقة كيف ينجو المتقون من نزغ الشيطان ووسوسته بذكر اللَّه، إلّاأنّ الآثمين إخوة الشياطين يبتلون بمزيد الوساوس فلا ينسلخون عنها، كما تعبّر الآية التالية عن ذلك قائلة: «وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى الْغَىّ ثُمَّ لَايُقْصِرُونَ».

«الإخوان»: كناية عن الشياطين، والضمير «هم» يعود على المشركين والآثمين.

وجملة «ثُمَّ لَايُقْصِرُونَ» تعني أنّ الشياطين لا يألون جهداً في إضلال المشركين والآثمين.

ثم تذكر الآية التالية حال جماعة من المشركين والمذنبين البعيدين عن المنطق، فتقول:

إنّهم يكذبونك- يا رسول اللَّه-

عندما تتلو عليهم آيات القرآن، ولكن عندما لا تأتيهم بآية، أو يتأخر الوحي يتساءلون عن سبب ذلك: «وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بَايَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا» «1». ولكن قل لهم إنّني لا اعمل ولا أقول إلّابما يوحي اللَّه إليّ: «قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَىَّ مِن رَّبّى هذَا بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».

وَ إِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصَالِ وَ لَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ وَ لَهُ يَسْجُدُونَ (206) وإذا قرى ء القرآن فاستمعوا وانصتوا: لقد بدأت هذه السورة (سورة الأعراف) ببيان عظمة القرآن، وتنتهي بالآيات- محل البحث- التي تتكلم عن القرآن أيضاً. في البداية تقول الآية: «وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ».

ويستفاد من ظاهر الآية أنّ هذا الحكم عام غير مختص بحال ما ولا وقت معين، أي ينبغي إن قرى ء القرآن- حيثما كان وكيف كان- أن يستمع الآخرون وينصتوا احتراماً للقرآن، لأنّ القرآن ليس كتاب قراءة فحسب، بل هو كتاب فهم وإدراك، ثم هو كتاب عمل أيضاً.

______________________________

(1) «الإجتباء»: مأخوذ من الجباية، وأصلها جمع الماء في الحوض ونحوه، ثمّ توسعوا في الاستعمال فأطلقواعلى جمع الأشياء وانتخابها واختيار ما يراد منها اجتباءً. فجملة «لولا اجتبيتها» تعني لولا اخترتها.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 202

وهذا الحكم المستحب ورد عليه التأكيد إلى درجة أنّ بعض الروايات عبّرت عنه بالوجوب.

والمورد الوحيد الذي يجب فيه السكوت أو يكون حكم السكوت فيه واجباً، هو في صلاة الجماعة، إذ على المأموم أن يسكت ويستمع لقراءة الإمام، حتى أنّ جمعاً من الفقهاء قالوا: إنّ

هذه الآية تدل على سقوط الحمد والسورة من قبل المأموم «عند صلاة الجماعة».

وفي الآية التالية إكمالًا للأمر السابق يخاطب القرآن النبي الكريم- وهذا الحكم كلي وعام أيضاً وإن كان الخطاب موجهاً للنبي صلى الله عليه و آله كما هو الحال في سائر آيات القرآن الاخرى وأحكامها- إذ يقول سبحانه في كتابه: «وَاذْكُرْ رَّبَّكَ فِى نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً».

ثم يضيف قائلًا: «وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوّ وَالْأَصَالِ» «1».

«وَلَا تَكُن مّن الْغَافِلِينَ».

فذكر اللَّه في كل حال وفي كل وقت، صباحاً ومساءً، مدعاة لإيقاظ القلوب وجلائها من الدرن، وإبعاد الغفلة عن الإنسان. ومثله مثل مزنة الربيع، إذا نزلت أحيت القلوب بأزهار التوجه والإحساس بالمسؤولية والبصيرة، وكل عمل إيجابي بنّاء ....

ثم تختتم سورة الأعراف بهذه العبارة، وهي أنّكم لستم المكلفون فقط بذكر اللَّه بل من يذكر اللَّه من موقع الخشية والاستكانة هم الملائكة المقربون: «إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ».

«نهاية تفسير سورة الأعراف»

______________________________

(1) «الآصال»: جمع الأصيل، ومعناه قبيل المغرب أو عند الغروب.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 203

8. سورة الانفال

محتوى السورة: في بداية سورة الأنفال إشارة إلى قسم مهم من المسائل المالية من جملتها الأنفال والغنائم التي يُعدّ كل منهما دعامة لبيت المال كما تضمنت هذه السورة مباحث اخرى منها:

صفات المؤمنين الصادقين وما يمتازون به، قصة معركة بدر، وهي أوّل مواجهة مسلحة بين المسلمين وأعدائهم، وما تضمّنت من أحداث عجيبة تلهم العبر.

بعض أحكام الجهاد ووظائف المسلمين إزاء هجوم العدو المتواصل.

ماجرى للنبي صلى الله عليه و آله في ليلته التاريخية «ليلة المبيت».

حال المشركين قبل الإسلام وخرافاتهم.

ضعف المسلمين وعجزهم بادي ء الأمر ثم زيادة قوتهم ببركة الإسلام.

حكم الخمس وكيفية تقسيمه.

مواجهة المنافقين وطريقة التعرّف عليهم. وأخيراً نجد في هذه السورة سلسلة مسائل

اخرى أخلاقية واجتماعية بنّاءة.

فلا غرابة أن نقرأ بعض الروايات الواردة في شأن هذه السورة وفضيلتها، كالرواية الواردة- في تفسير مجمع البيان- عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ الأنفال وبراءة في كل

مختصر الامثل، ج 2، ص: 204

شهر لم يدخله نفاق أبداً، وكان من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام حقّاً، ويأكل يوم القيامة من موائد الجنة معهم حتى يفرغ الناس من الحساب». إنّ فضائل سور القرآن والثواب العظيم لا يتأتّى بمجرد قراءة الألفاظ، بل القراءة مقدمة للتفكر، والتفكر وسيلة للفهم، والفهم مقدمة للعمل.

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس: إنّ النبي صلى الله عليه و آله قال يوم بدر: من جاء بكذا، فله كذا، ومن جاء بأسير، فله كذا، فتسارع الشُبّان وبقي الشيوخ تحت الرايات، فلما انقضى الحرب، طلب الشُبّان ما كان قد نفلهم النبي صلى الله عليه و آله به، فقال الشيوخ: كنا ردءاً لكم، ولو وقعت عليكم الهزيمة لرجعتم إلينا، وجرى بين أبي اليسر بن عمرو الأنصارى أخي بني سلمة، وبين سعد بن معاذ، كلام فنزع اللَّه تعالى الغنائم منهم، وجعلها لرسوله، يفعل بها ما يشاء، فقسمها بينهم بالسوية.

التّفسير

إنّ الآية- محل البحث- كما قرأنا في سبب النزول، نزلت بعد معركة بدر وتتكلم عن غنائم الحرب وتبيّن حكماً إسلامياً واسعاً بشكل عام، فتخاطب النبي صلى الله عليه و آله بالقول:

«يَسَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ».

فبناءً على ذلك: «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ». أي: إنّ الإيمان ليس بالكلام فحسب، بل هو الطاعة للَّه والرسول دون

قيد أو شرط وفي جميع مسائل الحياة لا في غنائم الحرب وحدها.

ما هي الأنفال؟ إنّ مفهوم الأنفال لا يقتصر على غنائم الحرب فحسب، بل يشمل جميع الأموال التي ليس لها مالك خاص (كالآجام وبطون الأودية والموات) وهذه الأموال جميعها للَّه وللرسول ولمن يلي أمره ويخلِفه، وبتعبير آخر: إنّ هذه الأموال للحكومة الإسلامية، وتصرف في منافع المسلمين العامة.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 205

كما قرأنا في شأن النّزول آنفاً، أنّ مشاجرة وقعت بين بعض الأنصار في شأن غنائم الحرب، وقطعاً لهذه المشاجرة فقد نفت الآية أن تكون الغنائم لغير اللَّه والرسول ثم أمرت المسلمين بإصلاح ذات البين.

وأساساً فإنّ إصلاح ذات البين وإيجاد التفاهم وقلع عناصر الكدر والبغضاء من صدور المسلمين، وتبديل كل ذلك بالمحبة، يعدّ من أهم الأغراض الإسلامية.

وقد أولت التعاليم الإسلامية عناية فائقة لهذا الموضوع حتى عدّته من أفضل العبادات.

في نهج البلاغة: يقول علي عليه السلام في آخر وصاياه- لما ضربه ابن ملجم بالسيف- لولديه:

«إنّي سمعت جدّكما صلى الله عليه و آله يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام».

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَ عَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (4) خمس صفات خاصه بالمؤمنين: كان الكلام في الآية السابقة عن تقوى اللَّه وطاعته وطاعة رسوله بعد المشاجرة اللفظية بين بعض المسلمين في شأن الغنائم. وإكمالًا لهذا الموضوع يشير في هذه الآيات إلى خمس صفات بارزة في المؤمنين: ثلاث منها ذات جانب معنوي وروحاني وباطني، واثنتين منها لها جانب عملي وخارجي ....

فالثلاث الاولى عبارة عن «الإحساس

بالمسؤولية» و «الإيمان» و «التوكل»، والإثنتان الاخريان هما الإرتباط باللَّه، والإرتباط بخلق اللَّه سبحانه.

فتقول الآيات أوّلًا: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ».

«الوجل»: حالة الخوف التي تنتاب الإنسان، وهو ناشي ءٌ عن أحد أمرين: فقد ينشأ عند إدراك المسؤولية.

وقد ينشأ عند إدراك عظمة مقام اللَّه، والتوجه إلى وجوده المطلق الذي لا نهاية له.

ثم تبين الآية الصفة الثانية للمؤمنين فتقول: «وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا».

والمؤمنون ليسوا كالموتى من الجمود وعدم التحرك، ففي كل يوم جديد يكون لهم فكر جديد وتكون صفاتهم مشرقة جديدة.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 206

والصفة الثالثة لهؤلاء المؤمنين هي أنّهم يتّكلون على اللَّه فقط «وَ عَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ».

فهم يعيشون سعة الافق وسلامة التفكير بحيث يرون ضعف جميع المخلوقات مهما كانت في الظاهر قوية ومقتدرة ولذلك يرفضون الخضوع والاعتماد على أيّ موجود غير اللَّه تعالى، فمنه يقتبسون قوتهم ومنه يطلبون حاجاتهم.

ولا ينبغي الوقوع في المفهوم الخاطي للتوكل حيث تصور البعض أنّ التوكل يعني عدم الأخذ بقانون العلية والابتعاد معن السعي والعمل، والصحيح أنّ مفهومه الحقيقي هو عدم التعلقق والاعتماد بالقوى الظاهرية والّا فان الاستفادة من عالم الاسباب المسببات في الطبيعة هو عين التوكل لأنّ كل تثير لهذه الاسباب في الواقع الخارجي إنّما يحصل باذن اللَّه ومشيئته.

وبعد أن ذكرت الآيات الصفات الروحانية للمؤمنين الحقيقين تقول: «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ».

التعبير ب «يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ» ليس إشارة الى ممارستهم الدائمة للصلاة فحسب، بل إنّهم يتحركون في هذا الاتجاه اتقوية دعائهم الصلاة في المجتمع وفي كل مكان.

وعبارة «وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ» تتضمن معنى واسعاً يستوعب المواهب المادية والمعنوية كافة، فهم ينفقون من جميع مارزقهم اللَّه تعالى من المال والعلم والجاه والمكانة الاجتماعية وأمثال ذلك.

وتتحرك آخر آية من الآيات مورد البحث

لبيان مقام هؤلاء ومكانتهم عند اللَّه تعالى وما ينتظرهم من الثواب العظيم، فتقول في البداية: «أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا».

ثم تذكر الآية ثلاثة أنواع من الثواب لهؤلاء: «لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبّهِمْ».

وللمؤمنين إضافة لدرجاتهم رحمة من اللَّه «وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ».

كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ (6) قرأنا في الآية الاولى من هذه السورة أنّ بعض المسلمين من جديدي العهد بالإسلام، كانوا غير راضين عن كيفية تقسيم غنائم معركة بدر (إلى حدّ ما). ففي الآيتين محل البحث يقول اللَّه سبحانه لُاولئك: هذه ليست أوّل مرّة تكرهون شيئاً مع أنّه فيه صلاحكم كما كان

مختصر الامثل، ج 2، ص: 207

الأمر في أساس غزوة بدر وكانوا غير راضين بادي ء الأمر، إلّاأنّهم رأوا كيف تمت هذه المعركة لصالح الإسلام والمسلمين. تقول الآية الاولى من الآيتين محل البحث: إنّ عدم رضا بعض المسلمين في شأن تقسيم الغنائم يشبه عملية إخراجك من مكة وعدم رضى بعض المؤمنين بذلك: «كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ».

والتعبير «بالحق» إشارة إلى أنّ أمر الخروج كان طبقاً لوحي إلهي ودستور سماوي، وكانت نتيجته الوصول إلى الحق واستقرار المجتمع الإسلامي، إلّاأنّ هؤلاء الأفراد لا يرون إلّا ظواهر الامور، ولهذا: «يُجَادِلُونَكَ فِى الْحَقّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ».

إلّا أنّ الحوادث التالية كشفت لهم عن خطئهم في حساباتهم، وأنّ خوفهم وقلقهم دونما أساس، وأنّ هذه المعركة (معركة بدر) حققت للمسلمين انتصارات مشرقة، فمع رؤية مثل هذه النتائج علام يجادلون في الحق وتمتد ألسنتهم بالإعتراض؟

وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ

أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَ يَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَ يُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) أوّل مواجهة مسلحة بين الإسلام والكفر ... لمّا كانت الآيات السابقة قد أشارت إلى معركة بدر، فإنّ الآيتين أعلاه وما بعدهما من الآيات قد أماطت اللثام عن جوانب مهمة وحساسة في تلك المعركة، ولإيضاح الآيتين محل البحث والآيات التالية، من المناسب أن نلقي الضوء على ما جرى في هذه المعركة الحاسمة، لتتجلى لنا دقائق الامور ولطائف ما أشارت إليه الآيات الكريمة في شأن معركة بدر الكبرى.

بدأت معركة بدر- طبقاً لما يقوله المؤرخون والمحدثون والمفسرون- حين كان أبو سفيان- كبير مكة- عائداً بقافلة تجارية مهمة مؤلفة من أربعون راكباً من قريش، وتحوي على ثروة تجاربة تقدّر بخمسين ألف دينار من الشام نحو المدينة.

فأمر النبي صلى الله عليه و آله أصحابه أن يتعبأوا ويتهيأوا لمواجهة هذه القافلة الكبيرة التي تحمل جلّ رأس مال العدو معها، وبمصادرة أموال القافلة يتمّ توجيه ضربة اقتصادية نحو العدو وتعقبها ضربة عسكرية قاصمة.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 208

إنّ أبا سفيان عرف عن طريق أتباعه وأصدقائه تصميم النبي على مواجهة قافلته، هذا من جهة، كما أنّ القافلة حينما كانت متجهة نحو الشام للإتيان بمال التجارة تعرضت لتحركات من هذا القبيل. لهذا فإنّ أبا سفيان أرسل من يمضي إلى مكة بسرعة ليخبر أهلها بما سيؤول إليه أمر القافلة.

فمضى رسول أبي سفيان بحالة مثيرة كما أوصاه أبو سفيان، إذ خرم أنف بعيره وبتر أذنيه والدماء تسيل على وجه البعير لهيجانه، وقد شقّ ثوبه- أو طمريه- وركب بعيره على خلاف ما يركب الناس «إذ ظهره كان إلى رقبة البعير

ووجهه إلى عجزه» ليلفت الناس إليه من كل مكان. فلما دخل مكة أخذ يصرخ قائلًا: أيّها الناس الأعزة، أدركوا قافلتكم، أدركوا قافلتكم وأسرعوا وتعجلوا إليها.

ولما كان أكثر أهل مكة شركاء في هذه القافلة فقد تعبئوا بسرعة وتحركوا نحو القافلة بحوالي 950 مقاتلًا و 700 بعير ومئة فرس، وكان أبو جهل يقود هذا الجيش.

وكان النبي صلى الله عليه و آله قد قارب بدراً في نحوٍ من ثلائمائة وثلاث عشر رجلًا كانوا يمثلون رجال الإسلام آنئذ «وبدر منطقة ما بين مكة والمدينة» وقد بلغه خبر تهيؤ أبي جهل ومن معه لمواجهته.

فتشاور النبي صلى الله عليه و آله مع أصحابه: هل يلحقون القافلة ويصادرون أموالها، أو أنّ عليهم أن يتهيأوا لمواجهة جيش العدو؟ فقالت طائفة من أصحابه: نقاتل عدوّنا، وكرهت طائفة اخرى ذلك، إلّاأنّ النبي بالرغم من كل ذلك قبل بالقول الأوّل «أي قتال العدو».

ومن جهة اخرى فإنّ طائفة من المسلمين كانت في قلق وإضطراب وكانت تصرّ على عدم مواجهة هذا الجيش اللجب، إذ لا موازنة بين أصحاب النبي وأصحاب أبي جهل! لكن النبي صلى الله عليه و آله طمأنهم بوعد اللَّه وقال: «إنّ اللَّه عزّ وجل وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف اللَّه وعده، واللَّه لكأنّي أنظر مصرع أبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وفلان وفلان». وأمر رسول اللَّه بالرحيل، وخرج إلى بدر وهو بئر.

وفي هذه الأثناء استطاع أبو سفيان أن يفرّ بقافلته من الخطر المحدق به، واتّجه نحو مكة عن طريق ساحل البحر الأحمر غير المطروق، وأرسل رسولًا إلى قريش: إنّ اللَّه نجّى قافلتكم، ولا أظن أنّ مواجهة محمّد في هذا الظرف مناسبة، لأنّ له أعداء يكفونكم أمره، إلّا أنّ أبا جهل لم

يرض باقتراح أبي سفيان وأقسم باللات والعزى أنّه سيواجه محمّداً، بل سيدخل المدينة لتعقيب أصحابه.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 209

وأقبلت قريش، وبعثوا عبيدها ليستقوا من الماء، فأخذهم أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقالوا لهم: من أنتم؟ قالوا: نحن عبيد قريش. قالوا: فأين العير؟ قالوا: لا علم لنا بالعير.

فأقبلوا يضربونهم وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يصلّي فانفتل من صلاته وقال: «إن صدّقوكم ضربتموهم وإن كذّبوكم تركتموهم!» فأتوه بهم، فقال لهم: «من أنتم؟» قالوا: يا محمّد نحن عبيد قريش. قال: «كم القوم؟!» قالوا: لا علم لنا بعددهم. قال: «كم ينحرون في كل يوم من جزور؟» قالوا: تسعة إلى عشرة. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «القوم تسعمائة إلى ألف رجل». وأمر صلى الله عليه و آله بهم فحبسوا.

كان الجوّ مكفهراً بالرعب والوحشة، إذ كان جيش قريش معبّأ مدججاً بالسلاح، ولديه المؤونة والعُدّد، حتى النساء اللائي ينشدن الأشعار والمغنيات اللائي يثرن الحماسة، وكان جيش أبي جهل يرى نفسه أمام طائفة صغيرة أو قليلة من الناس، ولا يصدّق أنّهم سينزلون الميدان.

المشكلة الاخرى التي كان أصحاب النبي يواجهونها، هي أنّ أرض بدر كانت غير صالحة للنزال لما فيها من الرمال، فنزل المطر تلك الليلة، فأفاد منه أصحاب النبي فاغتسلوا منه وتوضأوا وأصبحت الأرض صُلبة صالحة للنزال، العجيب في ذلك أنّ المطر كان في جهة العدو شديداً بحيث أربكهم وأزعجهم.

والخبر الجديد الذي حصل عليه أصحاب النبي من جواسيسهم الذين تحسسوا ليلًا حالة العدو أنّ جيش قريش مع كل تلك الإمكانات العسكرية في حالة من الرعب بمكانة لا توصف، فكأنّ اللَّه أنزل عليها جيشاً من الرعب والوحشة.

وعند الصباح اصطفّ جيش المسلمين الصغير بمعنويات عالية ليواجهوا

عدوهم، ولكن النبي صلى الله عليه و آله- إتماماً للحجة ولئلا يبقى مجال للتذرع بالذرائع الواهية- أرسل إلى قريش ممثلًا عنه ليقول لهم: إنّ النبي لا يرغب في قتالكم ولا يحبّ أن تكونوا أوّل جماعة تحاربه، فوافق بعض قادة قريش على هذا الإقتراح ورغبوا في الصلح، إلّاأنّ أبا جهل امتنع وأبى بشدّة.

وأخيراً اشتعلت نار الحرب، فالتقى أبطال الإسلام بجيش الشرك والكفر، ووقف حمزة عمّ النبي وعلي ابن عمّ النبي الذي كان أصغر المقاتلين سنّاً وجها لوجه مع صناديد قريش وقتلوا من بارزهم فإنهار ما تبقى من معنويات العدو، فأصدر أبو جهل أمراً عاماً بالحملة، وكان قد أمر بقتل أصحاب النبي من أهل المدينة «الأنصار» وأن يؤسر المهاجرون من أهل

مختصر الامثل، ج 2، ص: 210

مكة. فقال النبي صلى الله عليه و آله لأصحابه: «غضّوا أبصاركم وغضوا على النواجذ ولا تستلوا سيفاً حتى آذن لكم». ثم رفع يده إلى السماء وقال: «يا ربّ إن تهلك هذه العصابة لم تعبد وإن شئت أن لا تعبد لا تعبد». ثم أصابه الغشي فسرى عنه وهو يسكب العرق عن وجهه ويقول: «هذا جبرئيل قد أتاكم في ألف من الملائكة مردفين».

فهبت ريح عاصف على العدو، وكان المسلمون يحملون على عدوّهم والرياح تهب من خلفهم بوجه العدو، وأثبت المسلمون جدارة فائقة وصمدوا للقتال حتى قتلوا من المشركين سبعين، وأبو جهل من القتلى، وأسروا سبعين، وانهزم الجمع وولّوا الدُبر، ولم يُقتل من المسلمين إلّانفر قليل، وكانت هذه المعركة أوّل مواجهة مسلحة بين المسلمين وعدوّهم من قريش، وإنتهت بالنصر الساحق للمسلمين على عدوّهم.

التّفسير

في الآية الاولى- من الآيتين محل البحث- إشارة إلى وعد اللَّه بالنصر في معركة بدر إجمالًا، إذ تقول الآية: «وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى

الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ».

لكنكم لخوفكم من الخسائر واخطار وبلايا الحرب لم تكونوا راغبين فيها «وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ».

«شوكة»: ترمز إلى القدرة وتعني الشدّة، وأصلها مأخوذ من الشوك، ثم استعملت هذه الكلمة «الشوكة» في نصول الرماح، ثم اطلق هذا الاستعمال توسعاً على كل نوع من الأسلحة. فبناء على هذا فإنّ ذات الشوكة تعني الجماعة المسلحة، وغير ذات الشوكة تعني الجماعة غيرالمسلحة. أي إنّ فيكم من يرغب في مواجهة العدو مواجهة غير المسلحة، وذلك بمصادرة أموال تجارته، وذلك ابتغاء الراحة أو حبّاً منه للمنافع المادية، في حين أن الحرب أثبتت بعد تمامها أنّ الصلاح يكمن في تحطيم قوى العدو العسكرية، لتكون الطريق لاحبةً لإنتصارات كبيرة في المستقبل، ولهذا فإنّ الآية تعقّب بالقول: «وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ» «1».

______________________________

(1) «الدابر»: بمعنى ذيل الشي ء وعقبه، فبناءً على هذا يكون معنى «ويقطع دابر الكافرين» هو استئصال جذورهم.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 211

ولم يكن هذا درساً لمسلمي ذلك اليوم فحسب، بل ينبغي لمسلمي اليوم أن يستلهموا من ذلك التعليم السماوي، فعليهم ألّا يغضوا أبصارهم عن المبادي الأساسية بسبب المشاكل والأتعاب ويستبدلوها بمناهج غير أساسية قليلة الأتعاب.

وفي آخر آية يماط اللثام عن الأمر بصورة أجلى، إذ تقول الآية الكريمة: «لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ».

إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَ لِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَ يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ

يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَ أَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) دروس مفيدة من ساحة المعركة: إنّ هذه الآيات تتحدث عن اللحظات الحساسة من واقعة بدر، والألطاف الإلهية الكثيرة التي شملت المسلمين لتثير في نفوسهم الإحساس بالطاعة والشكر. وتشير ابتداء لإمداد الملائكة فتقول: «وَإِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ».

في تفسير مجمع البيان: قيل: إنّ النبي صلى الله عليه و آله لما نظر إلى كثرة عدد المشركين، وقلة عدد المسلمين، استقبل القبلة وقال: «اللّهم أنجز لي ما وعدتني، اللّهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض». فما زال يهتف ربّه مادّاً يديه حتى سقط رداؤه من منكبيه، فأنزل اللَّه تعالى «وَإِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ» الآية.

وعند ذلك «فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنّى مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلِكَةِ مُرْدِفِينَ».

«مردفين»: من «الإرداف» بمعنى اتخاذ محل خلف الشي ء، فيكون مفهومها أنّ الملائكة كانت تتابع بعضها بعضاً في النّزول لنصرة المسلمين.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 212

ولئلا يعتقد بعض بأنّ النصر كان بسبب نصرة الملائكة فحسب، فإنّ الآية تقول: «وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».

لأنّ اللَّه عزيز ومقتدر لا يستطيع أحد الوقوف مقابل إرادته، وحكيم لا يُنزل نصرته إلّا للأفراد الصالحين والمستحقين لذلك.

ثم تذكر الآية النعمة الثانية التي اكتنفت المؤمنين فتقول: «إِذْ يُغَشّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مّنْهُ».

«يغشى : من مادة «الغشيان» بمعنى تغطية الشي ء وإحاطته. فكأنّ النوم كالغطاء الذي وُضع عليهم فغطّاهم.

«النعاس»: يطلق على بداية النوم، أو النوم القليل أو

الخفيف الناعم.

والرحمة الثالثه التي وصلتكم هي: «وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطنِ».

وهذا الرّجز قد يكون وساوس الشيطان، أو رجزاً بدنياً كجنابة بعضهم، أو الأمرين معاً.

ثم إنّ اللَّه تعالى أراد بذلك تقوية معنويات المسلمين وكذلك تثبيت الرمال المتحركة تحت أقدامهم بواسط المطر: «وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ».

ويمكن أن يكون المراد من تثبيت الأقدام هو رفع المعنويات وزيادة الثبات والإستقامة ببركة تلك النعمة، أو إشارة إلى هذين الأمرين.

والنعمة الاخرى التي أنعمها اللَّه على المجاهدين في بدر، هي الرعب الذي أصاب به اللَّه قلوب أعدائهم، فزلزل معنوياتهم بشدّة، فيقول تعالى: «إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلِكَةِ أَنّى مَعَكُمْ فَثَبّتُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا». «سَأُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ». وإنّه لمن العجب والغرابة أن ينهار جيش قريش القوي أمام جيش المسلمين القليل، وأن تذهب معنوياتهم- كما ينقل التاريخ- بصورة يخاف معها الكثير منهم من منازلة المسلمين، وحتى أنّهم كانوا يفكرون بأنّ المسلمين ليسوا أشخاصاً مألوفين.

ثم إنّ القرآن يذكّر المسلمين بالأمر الذي أصدره النبي صلى الله عليه و آله للمسلمين بأنّ عليهم اجتناب الضرب غير المؤثر في المشركين حال القتال لئلا تضيع قوتهم فيه، بل عليهم توجيه

مختصر الامثل، ج 2، ص: 213

ضربات مؤثرة وقاطعة «فَأضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ».

«البنان»: جمع «البنانة» بمعنى رؤوس أصابع الأيدي أو الأرجل، أو الأصابع نفسها، وفي هذه الآية يمكن أن تكون كناية عن الأيدي والأرجل أو بالمعنى الأصلي نفسه.

وبعد كل تلك الأحاديث، ولكيلا يقول شخص بأنّ هذه الأوامر الصادقة تخالف الرحمة والشفقة وأخلاق الرجولة، فإنّ الآية تقول: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ».

«شاقوا»: من مادة «الشقاق» وهي في الأصل بمعنى الإنفطار والإنفصال، وبما أنّ المخالف أو العدو ويبتعد عن الآخرين

فقد سمي عمله شقاقاً: «وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ».

ثم يؤكّد هذا الموضوع ويقول: ذوقوا العذاب الدنيوي من القتل في ميدان الحرب والأسر والهزيمة السافرة، وعلاوة على ذلك انتظروا عذاب الآخرة أيضاً: «ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَ مَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَ لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذلِكُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) هذه الآيات توجّه خطابها للمؤمنين وتأمرهم أمراً عاماً بالقتال: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ».

فالفرار من الحرب يعدّ في الإسلام من كبائر الذنوب، ولذلك تذكر الآية بعدها جزاء من يفر من ميدان الحرب مع الإشارة لمن يستثنون منهم فتقول: «وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرّفًا لِّقِتَالِ أَوْ مُتَحَيّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ».

وكما نرى فقد استثنت الآية صورتين من مسألة الفرار، ظاهرهما أنّهما من صور الفرار، غير أنّهما في الحقيقة والواقع صورتان للقتال والجهاد.

الصورة الاولى: عُبّر عنها ب «مُتَحَرّفًا لِّقِتَالِ» و «متحرف» من مادة (التحرّف) أي

مختصر الامثل، ج 2، ص: 214

الإبتعاد جانباً من الوسط نحو الأطراف والجوانب، والمقصود بهذه الجملة هو أنّ المقاتلين يقومون بتكتيك قتالي إزاء الأعداء، فيفرون من أمامهم نحو الأطراف ليلحقهم الأعداء: ثمّ يغافلونهم في توجيه ضربة قوية إليهم واستخدام فن الهجوم والإنسحاب المتتابع وكما يقول العرب: (الحرب كرّ وفرّ). الصورة الثانية: أن يرى

المقاتل نفسه وحيداً في ساحة القتال، فينسحب للإلتحاق بإخوانه المقاتلين وليهجم معهم من جديد على الأعداء.

وتختتم الآية محل البحث بالقول: إنّ جزاء من يفرّ مضافاً إلى استحقاقه لغضب اللَّه فإنّ مصيره إلى النار: «وَمَأْوَيهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ».

ومن ضمن الإمتيازات الكثيرة التي كانت عند الإمام علي عليه السلام وربّما يشير إلى نفسه أحياناً ليكون نبراساً للآخرين قوله: «إنّي لم أفر من الزحف قطّ، ولم يبارزني أحد إلّاسقيت الأرض من دمه» «1».

ولئلا يصاب المسلمون بالغرور في انتصارهم، ولئلا يعتمدوا على قواهم الجسمية فحسب، وليذكروا اللَّه في قلوبهم دائماً، وليتعلقوا به طلباً لألطافه، فإنّ الآية التالية تقول:

«فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمَى .

وتشير الآية في ختامها إلى لطيفة مهمة اخرى، وهي أنّ ساحة بدر كانت ساحة امتحان واختبار، إذ تقول: «وَلِيُبْلِىَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا».

لهذا فإنّ الآية تختتم بهذه الجملة: «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ». أي إنّ اللَّه سمعَ صوت استغاثة النبي والمؤمنين، واطلع على صدق نيّاتهم، فأنزل ألطافه عليهم جميعاً ونصرهم على عدوّهم، وأنّ اللَّه يعامل عباده بهذه المعاملة حتى في المستقبل، فيطلع على ميزان صدق نياتهم وإخلاصهم واستقامتهم.

وفي الآية التالية يقول سبحانه تعميماً لهذا الموضوع وأنّ مصير المؤمنين والكفار هو ما سمعتم، فيقول: «ذلِكُمْ». ثمّ يعقب القرآن مبيناً العلة: «وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ».

إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَ إِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَ لَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَ لَوْ كَثُرَتْ وَ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)

______________________________

(1) تفسير نور الثقلين 2/ 139.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 215

لقد جرى بحث كثير بين المفسرين حول الذين توجهت إليهم الآية بالحديث، فبعضهم يعتقد بأنّهم المؤمنون، وأحسن صورة لتفسير الآية

على هذا الوجه هي:

لقد حصل بين بعض المؤمنين جدال حول تقسيم الغنائم بعد واقعة بدر ونزلت آيات توبخهم وتضع الغنائم تحت تصرف الرسول بشكل كامل فقام بتقسيمها بينهم بالتساوي، بغية تربيتهم وتعليمهم، ثم ذكّرهم بحوادث بدر وكيف نصرهم اللَّه على عدوّهم القوي.

وهذه الآية تتابع الحديث عن الموضوع نفسه فتخاطب المسلمين وتقول لهم: إنّكم إذا سألتم اللَّه الفتح والنصر فسوف يستجيب لكم وينصركم، وإذا تركتم الإعتراض والجدال عند النبي صلى الله عليه و آله فبذلك مصلحتكم، وإذا عدتم لنفس الاسلوب من الإعتراض فسنعود نحن أيضاً، ونترككم وحيدين في قبضة الأعداء وحتى إذا كان عددكم كثيراً فبدون نصرة اللَّه لن تقدروا أن تعملوا أي شي ء، وإنّ اللَّه مع المؤمنين المخلصين والطائعين لأوامره وأوامر نبيّه.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَ لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَ هُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (23) الذين قالوا سمعنا وهم لا يَسمعون: تتابع هذه الآيات البحوث السابقة، فتدعو المسلمين إلى الطاعة التامة لأوامر الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله واسلوب الآيات فيه دلالة على تقصير بعض المؤمنين في التنفيذ والطاعة، فتبدأ بالقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ».

وتضيف لتؤكّد الأمر من جديد: «وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ».

ولما كان القول بلا عمل، والإستماع بلا تأثر، أحد الأمراض التي تصاب بها المجتمعات، وأساس الكثير من التخلفات، فقد جاءت الآية الاخرى لتؤكّد على هذه المسألة باسلوب آخر، فقالت: «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَايَعْقِلُونَ».

ولما كان

القرآن كتاب عمل فإنّه ينظر إلى النتائج دائماً.

وتقول الآية بعدها إنّ اللَّه لايمتنع من دعوة هؤلاء إن كانوا صادقين في طلبهم وعلى

مختصر الامثل، ج 2، ص: 216

استعداد لتقبل الحق: «وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيرًا لَّأَسْمَعَهُمْ».

وفي تفسير مجمع البيان قيل معناه: لأسمعهم قول قصي بن كلاب فإنّهم قالوا: أحي لنا قصي، إنّ كلاب ليشهد بنبوتك. ويقول تعالى: «وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ».

فالذين سمعوا دعوة الحق كثيراً، وبلغت آذانهم آيات القرآن، وفهموا مضامينها العالية، لكنهم أنكروها بسبب عتوهم وعصبيّتهم.

كما أنّ هذه الآية تعد جواباً قاطعاً للقائلين بمدرسة الجبر، لأنّها تقرر بأنّ الخير يكمن في الإنسان نفسه.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَ اذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَ أَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) دعوة للحياة: تتابع هذه الآيات دعوة المسلمين المتقدمة للعلم والعمل والطاعة والتسليم لكنها تتابع الهدف ذاته عن طريق آخر، فتقول ابتداءاً: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ».

فهذه الآية تقول بصراحة: إنّ دعوة الإسلام هي دعوة للعيش والحياة على جميع الأصعدة والناس في الجاهلية كانوا يعيشون الحياة الحيوانية والمادية، فجاء القرآن ليدعوهم إلى الحياة.

ثم يقول تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ».

إنّ اللَّه عزّ وجلّ حاضر وناظر ومهيمن على كل المخلوقات. فإنّ الموت والحياة والعلم والقدرة والأمن والسكينة والتوفيق والسعادة، كلها بيديه وتحت قدرته، فلا يمكن للإنسان كتمان أمر

ما عنه، أو أن يعمل أمراً بدون توفيقه، وليس من اللائق التوجه لغيره وسؤال من سواه. لأنّه مالك كل شي ء والمحيط بجميع وجود الإنسان.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 217

ثم تشير الآية إلى عاقبة السوء لمن يرفض دعوة اللَّه ورسوله إلى الحياة فتقول: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَاتُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً».

وكلمة «فتنة»: بمعنى البلاء والمصائب الاجتماعية التي يصاب بها الجميع.

ومفهوم الآية هنا هو أنّ أفراد المجتمع مسؤولون عن أداء وظائفهم، وكذلك فهم مسؤولون عن حثّ الآخرين لأداء وظائفهم أيضاً، لأنّ الاختلاف والتشتت في قضايا المجتمع يؤدّي إلى إنهياره، ويتضرر بذلك الجميع.

وتُختتم الآية بلغة التهديد فتقول: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ».

ويأخذ القرآن الكريم مرّة اخرى بأيدي المسلمين ليعيدهم نحو تاريخهم، فكم كانوا في بداية الأمر ضعفاء وكيف صاروا، لعلّهم يدركون الدرس البليغ الذي علّمهم إيّاه في الآيات السابقة فيقول: «وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ».

وهذه عبارة تشير إلى الضعف وقلّة عدد المسلمين في مكّة قبل الهجرة قبال المشركين الأقوياء. أو في المدينة بعد الهجرة في مقابل القوى الكبرى كالفرس والروم: «فَاوَيكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مّنَ الطَّيّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَ اعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَ أَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ أَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)

سبب النّزول

روى في تفسير مجمع البيان عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام: نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر الأنصاري، وذلك أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة، فسألوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الصلح على ما صالح عليه إخوانهم من بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم

إلى أذرعات، وأريحاء من أرض الشام، فأبى أن يعطيهم ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلّاأن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة وكان مناصحاً لهم لأنّ عياله وماله وولده كانت عندهم، فبعثه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فأتاهم، قالوا: ما ترى يا أبا لبابة أتنزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار أبو لبابة إلى حلقه: إنّه الذبح فلا تفعلوا. فأتاه جبرائيل عليه السلام فأخبره بذلك. قال أبو لبابة: فواللَّه ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت إنّي قد خنت اللَّه

مختصر الامثل، ج 2، ص: 218

ورسوله، فنزلت الآية فيه، فلما نزلت شدّ نفسه على سارية من سوارى المسجد. وقال: واللَّه لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب اللَّه عليّ! فمكث سبعة أيّام، لا يذوق طعاماً ولا شراباً حتى خرّ مغشياً عليه، ثم تاب اللَّه عليه، فقيل له: يا أبا لبابة قد تيب عليك. فقال:

لا واللَّه لا أحل نفسي حتى يكون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هو الذي يحلّني. فجاءه فحلّه بيده، ثم قال أبو لبابة: إنّ من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي.

فقال صلى الله عليه و آله: «يجزئك الثلث أن تصدّق به».

التّفسير

الخيانة وأساسها: يوجه اللَّه سبحانه في الآية الاولى من الآيتين محل البحث الخطاب إلى المؤمنين فيقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ».

إنّ الخيانة للَّه ورسوله، هي وضع الأسرار العسكرية للمسلمين في تصرف أعدائهم، أو تقوية الأعداء أثناء محاربتهم.

ثم تقول الآية: «وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ».

«الخيانة»: في الأصل معناها: الإمتناع عن دفع حق أحد مع التعهد به، وهي ضد «الأمانة» والأمانة وإن كانت تطلق على الأمانة المالية

غالباً، لكنها في منطق القرآن ذات مفهوم أوسع يشمل شؤون الحياة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية كافة.

ويقول القرآن في آخر الآية: «وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ». أي إنّه قد يصدر منكم على نحو الخطأ ما هو خيانة، ولكن الاقدام على الخيانة مع العلم.

و الآية بعدها تحذر المسلمين ليجتنبوا الماديات والمنافع العابرة، لئلا يلقي على عيونهم وآذاتهم غشاء فيرتكبون خيانة تعرّض المجتمع إلى الخطر فتقول: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَ أَوْلدُكُمْ فِتْنَةٌ».

فإذا زلت لنا قدم يوماً، فيجب علينا الإسراع في تصحيح المسير ك «أبي لبابة» وإذا كان المال هو السبب في الإنحراف، فعلينا بذله وإنفاقه في سبيل اللَّه.

وفي نهاية الآية بشارة كبرى لمن يخرج من هذين الامتحانين منتصراً، فتقول: «وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ».

فمهما كان حبّ الأبناء كبيراً، ومهما كانت الأموال محبوبة وكثيرة، فإنّ جزاء اللَّه وثوابه أعلى وأعظم من كل ذلك.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

مختصر الامثل، ج 2، ص: 219

الإيمان ووضوح الرّؤية: تناولت الآيات السابقة أوامر حياتية تتضمّن السعادة المادية والمعنوية للإنسان، لكن العمل بها غير ممكن إلّافي ظلال التقوى لذلك بيّنت الآية أربعة ثمار ونتائج للتقوى فقالت ابتداءاً: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا».

إنّنا نرى على مدى التاريخ بعض النساء والرجال المتّقين يملكون وضوحاً من الرؤية لا يمكن بلوغه بوسائل العلم والمعرفة أبداً، فهم يرون الأسباب الخفيّة للكثير من الحوادث التي تعصف بالمجتمع، ويرون عناصر الشر وأعداء الحق وإن حجبتهم آلاف الستائر الخادعة.

ومن جانب آخر أنّ إهدار القوى والطاقات في الذنوب يتسبب في بقاء الناس على مستوىً دانٍ من البصيرة والمعرفة ويعيشون التخلّف الثقافي والانحطاط في التفكير حتى وإن

كانوا متقدمين في الصناعة والحياة المادية.

ثم يقول: إنّه إضافة إلى معرفة الحق من الباطل فإنّ من آثار التقوى أن يغطي على ذنوبكم ويمحوا آثارها من وجودكم «وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيَاتِكُمْ».

مضافاً إلى ذلك، فإنّه تعالى سيشملكم بمغفرته «وَيَغْفِرْ لَكُمْ».

وثمار كثيرة اخرى تنتظركم لا يعلمها إلّااللَّه: «وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ». فهذه الآثار الأربعة هي ثمرات في شجرة التقوى، ووجود روابط طبيعية بين التقوى وقسم من هذه الآثار لا يمنع من نسبة كل ذلك إلى اللَّه تبارك وتعالى.

والفرق بين (تكفير السيئات) و (الغفران) هو أنّ (تكفير السيئات) تشير للآثار النفسية والاجتماعية للذنوب والتي تزول بفعل التقوى، ولكن (الغفران) إشارة إلى مسألة العفو الإلهي والخلاص من الجزاء ....

وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)

سبب النّزول

ذكر المفسرون والمحدثون أنّ الآية- محل البحث- تشير إلى الحوادث التي أدّت إلى هجرة الرسول صلى الله عليه و آله من مكة إلى المدينة.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 220

في تفسير مجمع البيان: قال المفسرون: إنّها نزلت في قصة دار الندوة وذلك أنّ نفراً من قريش اجتمعوا فيها، وهي دار قصي بن كلاب، وتآمروا في أمر النبي صلى الله عليه و آله، فقال عروة بن هشام: نتربّص به ريب المنون، وقال أبو البختري: أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه، وقال أبو جهل: ما هذا برأي، ولكن اقتلوه بأن يجتمع عليه من كل بطن رجل فيضربوه بأسيافهم ضربة رجل واحد فيرضى حينئذ بنو هاشم بالدية، فصوّب إبليس هذا الرأي، وكان قد جاءهم في صورة شيخ كبير من أهل نجد، وخطّأ الأوّلين. فاتفقوا على هذا الرأي وأعدّو الرجال والسلاح وجاء جبرائيل عليه السلام فأخبر رسول اللَّه

صلى الله عليه و آله فخرج إلى الغار وأمر عليّاً فبات على فراشه، فلمّا أصبحوا وفتشوا عن الفراش، وجدوا عليّاً. وقد ردّ اللَّه مكرهم فقالوا: أين محمّد؟ فقال: لا أدري. فاقتصّوا أثره وأرسلوا في طلبه، فلمّا بلغوا الجبل ومرّوا بالغار، رأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو كان هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه. فمكث فيه ثلاثاً ثم قدم المدينة.

التّفسير

هذه الآية وخمس آيات تليها، نزلت في مكة لأنّها تشير إلى هجرة النبي صلى الله عليه و آله فتقول في بدايتها: «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ».

ثم تضيف الآية قائلة: «وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمكِرِينَ».

إنّ المشركين قد بذلوا كل ما في وسعهم وجهدهم من طاقاتٍ فكرية وجسدية للقضاء على نبي الخاتم صلى الله عليه و آله حتى أنّهم أعدّوا جائزة لهذا الغرض وهي مئة ناقة، ولكن اللَّه سبحانه أذهب بأتعابهم أدراج الرياح بواسطة نسيج العنكبوت!

ونظراً إلى أنّ هجرة النبي صلى الله عليه و آله تمثل مرحلة جديدة في التاريخ الإسلامي، بل التاريخ الإنساني، فإنّنا نستنتج أنّ اللَّه قد غير مسيرة التاريخ البشري بما نسجته العنكبوت من خيوط ....

وهذا الأمر لا ينحصر بهجرة النبي صلى الله عليه و آله بل في جميع تأريخ الأنبياء، فإنّ اللَّه سبحانه أذل أعداءهم ودمرهم وأباد قوى الضلال بأسباب هيّنة كالريح- مثلًا- أو كثرة البعوض، أو الطير الصغيرة التي تُسمّى بالأبابيل، ليبين حالة الضعف البشري والعجز إزاء قدرته اللامتناهية وليردع الإنسان عن التفكير بالطغيان والعناد.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 221

وَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذَا إِنْ هذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَ إِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هذَا هُوَ الْحَقَّ

مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ مَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَ مَا لَهُمْ أَنْ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَ مَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَ مَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَ تَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) ذُكر في الآية السابقة مثل من منطق المشركين على مستوى العمل والممارسة، وفي هذه الآيات مثل آخر من منطقهم الفكري، ليتّضح أنّ هؤلاء لم يمتلكوا سلامةً في الفكر ولا صحة في العمل، فجميع أساليبهم خاوية بغير أساس. تقول الآية الاولى من الآيات محل البحث:

«وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذَا إِنْ هذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ».

كانوا يقولون مثل هذا الكلام عند ما يعجزون عن مواجهة القرآن ومعارضته، وكانوا يعرفون جيداً أنّهم غير قادرين على معارضة القرآن.

و الآية التالية تتحدث عن منطق عجيب آخر فتقول: «وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ».

لقد كانوا يقولون ذلك لشدّة تعصبهم وعنادهم، وكانوا يتصورون أنّ الدين الإسلامي لا أساس له أبداً، وإلّا فإنّ أحداً يحتمل حقانية الإسلام كيف يمكنه أن يدعو على نفسه بمثل هذا الدعاء؟

وفي ماتقدم من الآيات نلاحظ أنّ المشركين وجّهوا إلى النبي صلى الله عليه و آله اشكالين:

الأوّل منهما: واضح البطلان وهو قولهم: لو نشاء لقلنا مثل هذا.

والإشكال الثاني: لو كانت هذه الآيات نازلة من قبل اللَّه فأنزل علينا العقاب والبلاء، فيردّ عليهم القرآن في الآية الثالثه، من الآيات محل

البحث، بقوله: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 222

ثم تعقب الآية بالقول: «ومَا كَانَ اللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ». إنّ مفهوم الآية لا يختص بمعاصري النبي صلى الله عليه و آله بل هو قانون عام يشمل جميع الناس. لهذا فقد روي في نهج البلاغة عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال: «كان في الأرض أمانان من عذاب اللَّه، وقد رفع أحدهما فدونكم الآخر فتمسّكوا به». وقرأ هذه الآية.

و الآية التالية تقول: إنّ هؤلاء جديرون بعذاب اللَّه «وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ».

وهذا التعبير في الآية يشير إلى يوم كان المسلمون في مكة، ولم يكن لهم الحق أن يقيموا صلاة الجماعة بتمام الحرية والإطمئنان عند المسجد الحرام، إذ كانوا يتعرضون للإيذاء والتعذيب. أو أنّ هذا التعبير يشير إلى منع المشركين المسلمين وصدهم إيّاهم بعد أدائهم مناسك الحج والعمرة، فلم يأذنوا لهم بالتردد إلى المسجد الحرام.

والعجيب أنّ هؤلاء المشركين كانوا يتصورون أنّ لهم حق التصرف كيفَما شاءوا في المسجد الحرام، وأنّهم أولياؤه. إلّاأنّ القرآن يضيف في هذه الآية قائلًا: «وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ». وبالرغم من زعمهم أنّهم أولياؤه ف «إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ».

ومع أنّ هذا الحكم ورد في شأن المسجد الحرام، إلّاأنّه يشمل جميع المراكز الدينية والمساجد فإنّ سدنتها ينبغي أن يكونوا من أطهر الناس وأتقاهم وأورعهم وأكثرهم إهتماماً بالمحافظة على مراكز العبادة، ليجعلوها منطلقاً للتعليم وبثّ الوعي والإيقاظ.

والأعجب في هذا الشأن أنّ المشركين كانوا يدّعون أنّهم يصلّون ويعبدون اللَّه بما كانوا يقومون به من أعمال قبيحة كالصفير والتصدية عند البيت، ولهذا فقد قالت الآية التالية عنهم: «ومَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً».

ونقرأ في التاريخ أنّ

طائفة من الأعراب في زمان الجاهلية عندما كانوا يطوفون بالبيت العتيق، كانوا يخلعون ثيابهم ويصفرون ويصفقون ويسمّون أعمالهم هذه عبادة.

تعقب الآية على ما تقدم لتقول: إنّ أعمالكم- بل حتى صلاتكم- مدعاة للخجل والسفاهة ولذلك «فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 223

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)

سبب النّزول

في تفسير علي بن إبراهيم القمي: نزلت في قريش لما وافاهم ضمضم وأخبرهم بخروج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في طلب العير فأخرجوا أموالهم وحملوا وأنفقوا وخرجوا إلى محاربة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ببدر فقتلوا وصاروا إلى النار وكان ما أنفقوا حسرة عليهم.

التّفسير

مفهوم الآية مفهوم جامع يحمل في معناه كل ما بذله أعداء الحق والعدل من أموال لنيل مقاصدهم المشؤومة، إذ تقول في مستهلها: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ». إلّاأنّ هذا الإنفاق والبذل لن يحقق لهم نصراً «فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ».

ولا يبتلون بالحسرة والهزيمة في الدنيا فحسب، بل هم كذلك في الآخرة أيضاً «وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ».

وبعد أن تكلمت الآية السابقة على ثلاث نتائج مشؤومة لإنفاق أعداء الإسلام، فإنّ الآية التي تليها تقول: «لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيّبِ».

هذه سنة إلهية دائمة أن يُعرف المخلص من غير المخلص، والطاهر من غير الطاهر، والمجاهد الصادق من الكاذب، والأعمال الطيبة من الأعمال الخبيثة، فلا يبقى أي من ذلك مجهولًا أبداً، بل لابدّ في النهاية من أن تمتاز الصفوف بعضها

عن بعض ويسفر الحق عن وجهه.

ثم تضيف الآية: «وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ».

فالخبيث من أيّة طائفة وفي أيّ شكل كان سيؤول في النهاية إلى الخسران، كما تقول الآية في نهاية المطاف: «أُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 224

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَ إِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (38) وَ قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَ نِعْمَ النَّصِيرُ (40) من المعلوم في اسلوب القرآن هو الجمع بين البشارة والإنذار، أي أنّه كما ينذر أعداء الحق بالعقاب والعذاب، فإنّه يفتح لهم في الوقت نفسه طريق العودة أمامهم. والآية الاولى:

من الآيات محل البحث تتبع هذا الاسلوب ذاته، فتأمر النبي صلى الله عليه و آله قائلةً: «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ».

ويستفاد من الآية المباركة أنّ قبول الإسلام يوجب محو كل سابقة.

وتضيف الآية قائلة: إنّهم إن لم يصححوا أسلوبهم «وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ». والمقصود من هذه السنّة هو ما آل إليه أعداء الحق بعد ما واجهوا الأنبياء، وما أصاب المشركين عندما واجهوا النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في معركة بدر.

ولما كانت الآية السابقة قد دعت الأعداء للعودة إلى الحق، وإنّ هذه الدعوة قد تولّد هذه الفكرة لدى المسلمين وهي أنّه قد انتهت فترة الجهاد ولابدّ بعد الآن من اللين والتساهل، ترفعُ هذه الشبهة الآية التالية وتقول: «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَاتَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ».

في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «لم يجى ء تأويل هذه

الآية، ولو قام قائمنا بعد، سيرى من يدركه ما يكون من تأويل هذه الآية، وليبلغن دين محمّد صلى الله عليه و آله ما بلغ الليل، حتى لا يكون مشرك على ظهر الأرض، كما قال اللَّه تعالى: «يَعْبُدُونَنِى لَايُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا»».

وأخيراً فإنّ الآية في نهايتها، وتزامناً مع الشدة في العمل، تمدّ يد المحبة والرأفه إلى الأعداء مرّة اخرى فتقول: «فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ». ولكن إذا تمادوا في عنادهم وطغيانهم ولم يستسلموا للحق، فاعلموا أنّ النصر حليفكم والهزيمة من نصيب أعدائكم، لانّ اللَّه مولاكم وهو خير ناصر ومعين: «وَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 225

وَ اعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبَى وَ الْيَتَامَى وَ الْمَسَاكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَ مَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (41) وجدنا في بداية هذه السورة كيف أنّ بعض المسلمين تشاجروا في شأن تقسيم الغنائم بعد غزوة بدر، وفي هذه الآية عود إلى مسألة الغنائم. يقول الحق سبحانه: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَىْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى [الأئمة من أهل البيت عليهم السلام وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ»- من ذرّية الرسول صلى الله عليه و آله أيضاً.

ويضيف مؤكّداً: «إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ أي يوم بدر- يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ».

وتشير الآية في نهايتها إلى قدرة اللَّه غير المحدودة، فتقول: «وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

أي: بالرغم من قلتكم يوم بدر وكثرة عدوّكم في الظاهر، لكن اللَّه القادر خذلهم وأيدكم فانتصرتم عليهم.

إنّ الآية محل البحث جاءت في سياق آيات

الجهاد، إلّاأنّها تقول: «إنّ أية فائدة أو ربح تحصلون عليه- ومنه غنائم الحرب- فعليكم أن تعطوا خمسه».

ما هو المراد من سهم اللَّه؟ إنّ ذكر سهم على أنّه سهم اللَّه، للتأكيد على أهمية مسألة الخمس وإثباتها، ولتأكيد ولاية الرسول والقيادة الإسلامية وحاكمية النبي صلى الله عليه و آله أيضاً.

أي كما أنّ اللَّه جعل سهماً باسمه وهو أحق بالتصرف فيه، فقد أعطى النبي والإمام حق الولاية والتصرف فيه كذلك، وإلّا أنّ سهم اللَّه يُجعل تحت تصرف النبي أو الإمام يصرفه في المكان المناسب، وليس للَّه حاجة في سهم معين.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 226

إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَ هُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَ الرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ لَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَ لكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ إِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَ لَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَ لَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَ لكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولًا وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) يعود القرآن في هذه الآيات الكريمة- ولمناسبة الكلام في الآيات السابقة عن يوم الفرقان يوم معركة بدر- ليعرب عن أجزاء من فصول تلك المعركة، ليطلع المسلمون على أهمية ذلك النصر العظيم. فتقول الآية الاولى من الآيات محل البحث: «إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى .

«العُدوة»: مأخوذة من «العدو» على زنة «السَّرْو» ومعناها في الأصل التجاوز، ولكنها تطلق على أطراف كل شي ء، وحواشيه، لأنّها تتجاوز الحد الوسط إلى إحدى الجوانب، وجاءت هذه الكلمة في هذه الآية بهذا

المعنى أي «الطرف، والجانب».

«الدنيا»: مأخوذة من «الدنّو» على وزن العلوّ وتعني الأقرب، ويقابل هذا اللفظ الأقصى والقصوى.

وكان المسلمون في الجانب الشمالي من ميدان الحرب الذي هو أقرب إلى جهة المدينة، وكان الأعداء في الجانب الجنوبي وهو الأبعد.

ثم تعقّب الآية قائلة: «وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ».

وبغض النظر عن كل ذلك فإنّ عدد قوات المسلمين وإمكاناتهم كان أقلّ من قوات الأعداء من جميع الوجوه، لهذا فإنّ الآية الكريمة تقول: «وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِى الْمِيعَادِ».

لأنّ الكثير منكم سيدركون ضعفهم الظاهري قبال الأعداء فيتقاعسون عن قتالهم،

مختصر الامثل، ج 2، ص: 227

ولكن اللَّه جعلكم إزاء أمر مقدر، وكما تقول الآية: «وَلكِن لِّيَقْضِىَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا».

وليعرف الحق من الباطل في ظلال ذلك النصر غير المتوقع والمعجزة الباهرة و «لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ».

وتعقب الآية قائلةً: «وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ».

فقد سمع نداء استغاثاتكم، وكان مطلعاً على نياتكم، ولذلك أيّدكم بنصره على أعدائكم.

وكان النبي صلى الله عليه و آله قد رأى في منامه من قبل أنّ قلة من المشركين تقاتل المسلمين، وكانت هذه الرؤيا إشارة إلى النصر وبشارة به، فقد رواه صلى الله عليه و آله للمسلمين فازدادت العزائم في الزحف نحو معركة بدر.

و الآية الثانية من الآيات محل البحث تشير إلى الحكمة من هذا الأمر، والنعمة التي أولاها سبحانه وتعالى للمسلمين عن هذا الطريق، فتقول: «إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِى مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَيكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ». ولهبطت معنوياتكم، ولم يقف الامر عند هذا الحدّ، بل لأدّى ذلك إلى التنازع واختلاف الكلمة «وَلَتَنَازَعْتُمْ فِى الْأَمْرِ وِلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ» وانقذ الأمر بواسطة الرؤيا التي أظهرت الوجه الباطني لجيش الأعداء، ولأنّ اللَّه يعرف باطنكم «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ».

وتُذكّر الآية الاخرى بمرحلة من مراحل

معركة بدر تختلف عن سابقتها، ففي هذه المرحلة وفي ظل خطاب النبي المؤثر فيهم والبشائر الربانية، ورؤية حوادث حال التهيؤ للقتال- كنزول المطر لرفع العطش ولتكون الرمال الرخوة صالحة لساحة المعركة- تجددت بذلك المعنويات وكبر الأمل بالنصر وقويت عزائم القلوب، حتى صاروا يرون الجيش المعادي وكأنّه صغير ضعيف لا حول ولا قوة له، فتقول الآية المباركة: «وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا».

أمّا العدو فإنّه لما كان يجهل معنويات المسلمين وظروفهم، فكان ينظر إلى ظاهرهم فيراهم قليلًا جدّاً، بل رآهم أقل مما هم عليه، إذ تقول الآية في الصدد «وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ».

لهذا فإنّ الآية تعقب على ما سبق قائلة: «لِيَقْضِىَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا».

فلم تنته هذه المعركة وحدها وفق سنة اللَّه فحسب، بل إنّ إرادته نافذة في كل شي ء «وَإِلَى اللَّهِ تُرجَعُ الْأُمُورُ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 228

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ اصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَ لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَ رِئَاءَ النَّاسِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) في الآيات محل البحث ستة أوامر للمسلمين هي:

1- أنّها تقول أوّلًا: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا». أي إنّ إحدى علائم الإيمان هي ثبات القدم في جميع الأحوال، وخاصه في مواجهة الأعداء.

2- «وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ». ولا ريب أنّ المراد من ذكر اللَّه هنا ليس هو الذكر اللفظي فحسب، بل حضور القلب، فهذا التوجه إلى اللَّه يقوّي من عزيمة الجنود المجاهدين، ويُشعر الجندي بأنّ سنداً قوياً لا تستطيع أية قدرة في

الوجود أن تتغلب عليه يدعمه في ساحة القتال. وإذا قُتل فسينال السعادة الكبرى ويبلغ الشهادة العظمى.

3- كما أنّ من أهم أسس المبارزة والمواجهة هو الإلتفات للقيادة وإطاعة أوامر القائد والآمر، الآمر الذي لولاه لما تحقق النصر في معركة بدر، لذلك فإنّ الآية بعدها تقول:

«وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ».

4- «وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا» لأنّ النزاع والفرقة امام الأعداء يؤدّي إلى الضعف وخور العزيمة، ونتيجة هذا الضعف والفتور هي ذهاب هيبة المسلمين وقوتهم وعظمتهم «وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ».

5- ثم تأمر الآية بالإستقامة بوجه العدو، وفي قبال الحوادث الصعبة، فتقول: «وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ».

والفرق بين ثبات القدم في الأمر الأوّل، والإستقامة والصبر في الأمر الخامس، هو من جهة أنّ ثبات القدم يمثل الناحية الظاهرية «الجسمية» أمّا الإستقامة والصبر فليسا ظاهريين، بل هما أمران نفسيان ومعنويان.

6- وتدعو الآية الأخيرة من الآيات محل البحث المسلمين إلى اجتناب الأعمال الساذجة البلهاء، ورفع الأصوات الفارغة، وتشير إلى قضية أبي سفيان وأسلوب تفكيره هو

مختصر الامثل، ج 2، ص: 229

وأصحابه، فتقول: «وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ».

فأهدافهم غير مقدسة، وكذلك أساليبهم في الوصول إليها، وتختتم الآية بالقول: «وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ».

وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَ قَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَ إِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَ قَالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَ لَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبَارَهُمْ وَ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذلِكَ بِمَا

قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) انّ أوّل آية من الآيات محل البحث تتكلم عن دفاع الشياطين عن المشركين، فتبدأ بالقول: «وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطنُ أَعْمَالَهُمْ».

إنّ تزيين الشيطان للعمل يكون عن طريق تحريك الأهواء والشهوات والرذائل، فيتزين للإنسان عمله حتى ينظر إليه باعجاب.

ثم تقول الآية: «وَقَالَ لَاغَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنّى جَارٌ لَّكُمْ».

ولن آلوَ جهداً في الدفاع عنكم، كما يدافع الجار عن جاره ويظهر له وفاءه وإخلاصه، والازمكم ملازمة الظل للشاخص.

ثم تقول الآية: «فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنّى بَرِى ءٌ مّنكُمْ».

واستدل على نكوصه وتراجعه القهقهرى بدليلين هما:

أوّلًا قوله: «إِنّى أَرَى مَا لَاتَرَوْنَ».

فإنّه يرى آثار النصر جيداً في وجوه المسلمين الغاضبة ويشاهد عليها سمات اللطف

مختصر الامثل، ج 2، ص: 230

الإلهي والإمداد الغيبي وتأييد الملائكة لهم.

والثاني قوله: «إِنّى أَخَافُ اللَّهَ». فإنّ الجزاء الإلهي ليس أمراً يسيراً يمكنه أن يقف بوجهه، بل إنّه هو العذاب الأليم «وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ».

هل جاء الشيطان عن طريق الوسوسة أو ظهر متجسداً لهم؟ يعتقد بعض المفسرين أنّ الشيطان تجسد لهم في صورة الإنسان، ففي رواية إنّ قريشاً عندما قررت التحرك والمسير نحو بدر، جاءهم إبليس في صورة «سراقة بن مالك» الذي كان من رؤوس بني كنانة وطمأنهم بأنّهم يوافقونهم على هذا الأمر، وأنّهم سينتصرون، انّه نقل ما يشبه هذه القصة في هجرة النبي صلى الله عليه و آله ومجي ء رجل كبير على هيئة شيخ نجدي إلى دار الندوة.

وتشير الآية بعدها إلى روحية جماعة ممن يميلون إلى الشرك في ساحة بدر، فتقول: «إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هؤُلَاءِ دِينُهُمْ». حين تصوروا أنّهم سينتصرون مع قلة العدد والعدة، أو أنّهم سينالون الشهادة والحياة الابدية في هذا

المسار.

لكن هؤلاء لعدم إيمانهم وعدم معرفتهم بالإمداد الإلهي أنكروا تلك الحقائق البينة، لأنّه كما تقول الآية المباركة: «وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».

المراد من «الْمُنَافِقُونَ» و «الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ» هما المنافقين في المدينة إمّا أنّهم من المنافقين الذين التحقوا بصفوف المسلمين من المدينة، أو أنّهم من الذين تظاهروا بالإيمان في مكة لكنهم لم يهاجروا إلى المدينة وانضموا في معركة بدر إلى صفوف المشركين، فلما رأوا قلة المسلمين في معركة بدر قبال جيوش الكافرين قالوا: إنّ هؤلاء أصابهم الغرور في دينهم الجديد وجاءوا إلى هذه الساحة.

وتجسد الآية بعدها كيفية موت الكفار ونهاية حياتهم، فتتوجه بالخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله فتقول: «وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ».

ثم يقال لُاولئك: «ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ».

وتضيف الآية الأخيرة معقبة بالقول: «وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 231

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَ كُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54) في هذه الآيات إشارة إلى «سنة إلهية دائمة» تتعلق بالشعوب والامم والمجتمعات، فتقول الآية الاولى من الآيات محل البحث: «كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بَايَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ».

فبناءً على هذا فإنّ قريشاً والمشركين وعبدة الأصنام في مكة، الذين أنكروا آيات اللَّه ووقفوا بوجه الحق وحاربوا قادة الإنسانية، ليسوا وحدهم الذين نالوا

جزاء ما إقترفوه، بل أنّ ذلك قانون دائم، وسنّة إلهيّة تشمل من هم أقوى منهم- كآل فرعون- كما تشمل الشعوب الضعيفة كذلك.

ثم توضح الآية التالية أصل هذا الموضوع فتقول: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».

وبعبارة اخرى: إنّ الرحمة الربانية عامة تسع جميع الخلق، لكنها تبلغ الناس وتصل إليهم بما يناسب كفاءتهم وشأنهم، فإذا استفادوا من تلك النعم في السير نحو الكمال والإستمداد منها في سبيل الحق تعالى والشكر على نعمائه، بالإفادة منها إفادةً صحيحة، فإنّ اللَّه سبحانه سيثبت نعماءه ويزيدها، أمّا إذا استغلت تلك المواهب في سبيل الطغيان والانحراف والعنصرية، وكفران النعمة والغرور والفساد، فإنّ اللَّه سيسلبهم تلك النعم أو يُبدلها إلى بلاء ومصيبة، بناءً على ذلك فإنّ التغيير يكون من قِبلنا دائماً، وإلّا فإنّ النعماء الإلهية لا تزول ....

وتعقيباً على هذا الهدف يعود القرآن ليشير إلى حال الطغاة- كفرعون وأقوام آخرين- فيقول: «كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بَايَاتِ رَبّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظلِمِينَ» ظلموا أنفسهم وظلموا سواهم أيضاً.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 232

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَ هُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَ إِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَ لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) في هذه الآيات المباركة إشارة إلى طائفة اخرى من أعداء الإسلام الذين وجهوا ضربات مؤلمة للمسلمين في حياة النبي صلى الله عليه و

آله المليئة بالأحداث، إلّاأنّهم ذاقوا جزاء ما اقترفوه مُرّاً وكانت عاقبة أمرهم خُسراً، وهؤلاء هم يهود المدينة الذين عاهدوا النبي صلى الله عليه و آله عدة مرات. وتبدأ الآيات فتعرّف هذه الطائفة بأنّها شر الأحياء الموجودة في هذه الدنيا فتقول: «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَايُؤْمِنُونَ».

وتقول الآية الاخرى: «الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِى كُلّ مَرَّةٍ».

والمفروض أن يراعوا الحياد على الأقل فلا يكونوا بصدد الاضرار بالمسلمين وإعانة الأعداء عليهم.

فلاهم يخافون اللَّه تعالى، ولا يحذرون من مخالفة أوامره، ولا يراعون القواعد والاصول الإنسانية: «وَهُمْ لَايَتَّقُونَ». و الآية بعدها توضح كيفية اسلوب مواجهة هؤلاء فتقول: «فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الْحَرْبِ فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ». أي قاتلهم بشكل مدمّر بحيث أن الطوائف القابعة خلفهم لإمدادهم يعتبروا بذلك ويتفرقوا عنهم.

«تثقفنهم»: مأخوذة من مادة «الثقف» على زنة «السقف» بمعنى بلوغ الشي ء بدقة وسرعة، وهي إشارة إلى وجوب التنبه والإطلاع السريع والدقيق على قراراتهم، والاستعداد لإنزال ضربة قاصمة لها وقع الصاعقة عليهم قبل أن يفاجئوك بالهجوم.

«شرّد»: مأخوذة من مادة «التشريد» وهي بمعنى التفريق المقرون بالاضطراب فينبغي أن يكون الهجوم عليهم بشكل تتفرق معه المجموعات الاخرى من الأعداء وناقضي العهود، ولا يفكروا بالهجوم عليكم.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 233

وهذا الأمر إنّما صدر ليعتبر به الأعداء الآخرون، بل حتى الأعداء في المستقبل أيضاً ويتجنّبوا الحرب مع المسلمين، وليتجنب نقض العهد- كذلك- الذين لهم عهود مع المسلمين، أو الذين سيعاهدونهم مستقبلًا «لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ». «وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ» ولا تبدأهم بالهجوم قبل إبلاغهم بإلغاء العهد «إِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ الْخَائِنِينَ».

وفي آخر آية من الآيات محل البحث يوجه تعالى الخطاب إلى ناقضي العهد، فيحذرهم من عاقبة ذلك فيقول: «وَلَا يَحْسَبَنَّ

الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَايُعْجِزُونَ».

وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَ عَدُوَّكُمْ وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَ مَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَ إِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) تشير أوّل آية هنا- وتواصلًا مع الحديث في الآيات المتقدمة عن الجهاد- إلى أصل مهم يجب على المسلمين التمسك به في كل عصر ومصر، وهو لزوم الإستعداد العسكري لمواجهة الأعداء، فتقول: «وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ». أي لا تنتظروا حتى يهجم العدو فتستعدوا عندئذ لمواجهته، بل يجب أن تكون لديكم القدرة والإستعداد اللازم لمواجهة هجمات الأعداء المحتملة.

وتضيف الآية قائلة: «وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ». «الرباط»: بمعنى شدّ الشي ء، ويرد هذا الاستعمال كثيراً بمعنى ربط الحيوان في مكان ما لرعايته والمحافظة عليه.

والتعبير في الآية واسع إلى درجة أنّه ينطبق على كل عصر ومصر تماماً.

وكلمة «قوّة» تشمل كل أنواع القوى والقدرات التي يكون لها أثراً ما في الإنتصار على الأعداء، سواء من الناحية المادية أو الناحية المعنوية.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 234

إنّ هذا الشعار الإسلامي الكبير: «وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ» إذا أضحى شعاراً شاملًا في كل مكان، ينادي به الصغير والكبير، والعالم وغير العالم، والمؤلف والخطيب، والجندي والضابط، والفلاح

والتاجر، والتزموا به في حياتهم وطبقوه، كان كافياً لجبران التخلف والتأخر.

إنّ سيرة النبي صلى الله عليه و آله العملية وأئمة الإسلام تدل على أنّهم لم يدخروا وسعاً، واستغلوا كل فرصة لمواجهة العدو، كإعداد الجنود وتهيئة السلاح، وشد الأزر ورفع المعنويات، وبناء معسكرات التدريب، واختيار الزمان المناسب للهجوم، والعمل على استعمال مختلف الأساليب الحربية، ولم يتركوا أية صغيرة ولا كبيرة في ذلك.

والمعروف أنّ النبي بلغه أن سلاحاً جديداً مؤثراً صنع في اليمن أيام معركة حنين، فأرسل النبي جماعة إلى اليمن لشرائه فوراً.

الهدف من تهيئة السلاح وزيادة التعبئة العسكرية: ثم ينتقل القرآن بعد ذلك التعليم المهم إلى الهدف المنطقي والإنساني من وراء هذا الموضوع، فيقول: إنّ الهدف منه ليس تزويد الناس في العالم أو في مجتمعكم بأنواع الأسلحة المدمرة التي تهدم المدن وتحرق الاخضر واليابس وليس الهدف منه استغلال أراضي الآخرين وممتلكاتهم، وليس الهدف هو توسعة الإستعباد والاستعمار في العالم، بل الهدف من ذلك هو «تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ». لأنّ أكثر الأعداء لا يستمعون لكلمة الحق ولا يستجيبون لنداء المنطق والمبادئ الإنسانية، ولا يفهمون غير منطق القوة.

ثم تضيف الآية بأنّ المزيد من استعداداتكم العسكرية يخيف أعداء آخرين لا تعرفونهم فتقول: «وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَاتَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ».

تتضمن الآية تعليماً لمسلمي اليوم أيضاً، وهو أنّه لا ينبغي الإكتفاء بالإستعداد لأعداء الإسلام الذين تعرفونهم، بل عليكم أن تنتبهو للأعداء الاحتماليين أو «بالقوة» وأن تتهيأوا حتى تكونوا في أعلى حدّ من القوّة والقدرة.

وفي نهاية الآية إشارة إلى موضوع مهم آخر، وهو أنّ الإستعداد العسكري وجمع الأسلحة والأجهزة الحربية ووسائل الدفاع المختلفة، كل ذلك يحتاج إلى الدعم المالي اللازم له، لذلك تأمر المسلمين بالتعاون الجماعي لتهيئة ذلك المال، وأن ما يبذلونه

في هذا الأمر فهو عطاء في سبيل اللَّه، ولن ينقص منه شي ء أبداً «وَمَا تُنفِقُوا مِن شَىْ ءٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَ

مختصر الامثل، ج 2، ص: 235

إِلَيْكُمْ» فيرجع إليكم جميعه، بل أكثر ممّا أنفقتم «وَأَنتُمْ لَاتُظْلَمُونَ»، وستنالون ثواب ذلك في هذه الدنيا في إنتصار الإسلام وقوته وعظمته.

كما أنّ ثواباً أعظم ينتظركم في العالم الآخر في جوار رحمة اللَّه.

إنّ جملة «وأنتم لا تظلمون» معطوفة على جملة «ترهبون» أي أنّكم إذا ما أعددتم القوة اللازمة لمواجهة الأعداء فسيخافون أن يهجموا عليكم، ولن يقدروا على ظلمكم وإيذائكم، وبناءً على ذلك فلن يصيبكم ظلم أبداً.

مع أنّ الآية السابقة أوضحت هدف الجهاد في الإسلام بقدر كافٍ، فإنّ الآية التالية التي تتحدّث عن الصلح بين المسلمين توضح هذا الأمر بصورة أجلى فتقول: «وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا».

ولما كان الناس يترددون أغلب الأحيان عندما يراد التوقيع على معاهدة الصلح، فإنّ الآية تأمر النبي بعدم التردد في الأمر إذا كانت الشروط عادلة ومنسجمة مع المنطق السليم والعقل، فتقول: «وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».

ومع ذلك فهي تحذر النبي صلى الله عليه و آله والمسلمين من احتمال الإحتيال والخداع في دعوة الأعداء إلى الصلح، فقد تكون دعوةً للتمويه والرّغبة في توجيه ضربة مفاجئة، أو يكون هدفهم هو تأخير الحرب ليتمكنوا من إعداد قوات أكثر، إلّاأنّ الآية تطمئن النبي صلى الله عليه و آله أن لا يخشى هذا الأمر أيضاً، لأنّ اللَّه عزّ وجلّ سيكفيه أمرهم وسينصره في جميع الأحوال، إذ تقول: «وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ».

وسيرتك أيّها النبي- السابقة- شاهدة على هذه الحقيقة، لأنّ اللَّه «هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ».

أضف إلى ذلك أنّ المؤمنين المخلصين قد أحاطوا بك من كل جانب ولم

يدخروا وسعاً في الدفاع عنك، فقد كانوا قبل ذلك متشتتين متعادين، ولكن اللَّه شرح صدورهم بأنوار الهداية «وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ».

وقد كانت الحرب لسنوات طويلة قائمة على قدم وساق بين طائفتي الأوس والخزرج بشكل لم يكن أي أحد يتصور أنّهم سيعيشون بعضهم مع بعض بالحب والصفاء في يوم ما، ولكن اللَّه القادر المتعال فعل ذلك ببركة الإسلام وفي ظلال القرآن.

ثم تضيف الآية أنّ اتحاد تلك القلوب، أو إيجاد تلك الألفة، لم يكن بوسائل مألوفة أو

مختصر الامثل، ج 2، ص: 236

مادية «لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ».

وتضيف الآية معقبة في الختام: «إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ». فعزّته تقتضي عجز الاخرين من الوقوف في مواجهته، وحكمته تقتضي أن تكون كل اموره جاريةً وفق حساب دقيق ونظام صحيح، ولهذا فإنّ الخطة الدقيقة وحّدت القلوب المتنافرة المتفرقة وجعلتها تنصاع للنبي صلى الله عليه و آله لينشروا أنوار الهداية في كل أرجاء العالم.

وتخاطب الآية الأخيرة من الآيات محل البحث النبي بالقول: «يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ».

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) في هاتين الآيتين تتوالى التعاليم العسكرية وأحكام الجهاد أيضاً. فالآية الاولى منهما تخاطب الرسول فتقول: «يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ حَرّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ».

هذه الآية توضح أهمية الإعلام والتبليغ وشحذ همم المقاتلين والجنود ومعنوياتهم باعتبار ذلك تعليماً إسلامياً مهماً.

وتعقب الآية

بالتعليم الثاني فتقول: «إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مّنكُم مّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا». فينبغي للمسلمين أن لا ينتظروا حتى يبلغ عددهم مقداراً يُكافي ء قوة العدو وأفراده، ليتحركوا إلى ساحة القتال والجهاد، بل يجب عليهم القيام بواجباتهم حتى إذا كان عدوّهم عشرة أضعافهم.

ثم تشير الآية إلى علة هذا الحكم فتقول: «بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّايَفْقَهُونَ» وهذا التعليل يبدو عجيباً لأوّل وهلة، إذ ما هي العلاقة بين المعرفة والفقاهة وبين النصر أو بين عدم المعرفة والهزيمة؟! لكن الواقع هو أنّ العلاقة بينهما قريبة ومتينة، لأنّ المؤمنين يعرفون نهجهم الذي سلكوه ويدركون الهدف من خلقهم وإيجادهم.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 237

فهذا السير الواضح المشفوع بالمعرفة يمنحهم الثبات والصبر والإستقامة.

أمّا الذين لا يؤمنون باللَّه واليوم الآخر، كعبدة الأصنام، فلا يعرفون لأيّ أمر يقاتلون؟

الأعمى ولعاداتهم الجاهلية ساروا وراء هذه الأفكار، وهكذا تبعث ظلمات الطريق وعدم معرفتهم الهدف ونتائج أعمالهم على إنهيار أعصابهم وتفتّ في عضدهم وثباتهم، وتجعل منهم كائنات ضعيفة.

وبعد ذلك الحكم الثقيل بجهاد الأعداء وان كانوا عشرة اضعاف يخفف اللَّه عن المؤمنين ويتنزل في الحكم الذي يرهقهم فيقول: «النَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا».

ثم يقول: «فَإِن يَكُن مّنكُم مّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذنِ اللَّهِ».

ولكن على كل حال ينبغي أن لا تنسوا تسديد اللَّه «وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ».

مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَ اللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْ لَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّباً وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ

فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَ إِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) بيّنت الآيات السابقة بعض أحكام الجهاد المهمّة ومواجهة الأعداء، وفي هذه الآيات استكمال لما سبق في عرض قسم من أحكام أسرى الحرب، وأوّل موضوع مهم يثار في هذا الشأن، هو ما قالته الآية الكريمة من أنّ كل نبي ليس له الحق في أسر افراد العدو الّا بعد أن يثبّت اقدامه في الارض ويكيل الضربات القاضية للأعداء: «مَا كَانَ لِنَبِىّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِى الْأَرْضِ».

«يثخن»: مأخوذ من «الثِخَن» على زنة «المحَن» ومعناه في الأصل الضخامة والغلظة والثقل، ثم استعمل هذا اللفظ بمعنى الفوز والقوة والنصر والقدرة.

إنّ معنى الآية هو التفوق على العدو تماماً وإظهار القوة والقدرة وإحكام السيطرة على المنطقة.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 238

ثم ألقت باللوم على اولئك الذين خالفوا هذا الأمر فتقول: «تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْأَخِرَةَ». فلا ينبغي أن نترك المنافع الطويلة الأمد والمستقبلية رهن الخطر من أجل أن نحصل على منافع مادية عابرة.

وتُختتم الآية بالقول أن التعليم آنف الذكر- في الواقع- مزيج من العزة والنصر والحكمة والتدبير، لأنّه صادر من قبل اللَّه تعالى «وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».

الآية التالية توجّه اللوم والتقريع ثانية لأولئك الذين يعرّضون المنفعة العامة والمصلحة الاجتماعية للخطر من أجل الحصول على المنافع المادية العابرة، فتقول الآية: «لَّوْلَا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ».

إلّا أنّه- كما صرحت الآيات الكريمة في القرآن- فإنّ سُنة اللَّه اقتضت أن تُبين أحكامه ثم يجازي الذي يخالفون عن أمره.

وفي الآية التالية

إشارة إلى حكم آخر من أحكام أسرى الحرب، وهو حكم أخذ الفداء.

في تفسير القمي: لما قتل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط، خافت الأنصار أن يقتل الأسارى، فقالوا: يا رسول اللَّه! قتلنا سبعين وأسرنا سبعين وهم قومك واساراك هبهم لنا يا رسول اللَّه وخذ منهم الفداء واطلقهم، فأنزل اللَّه عليهم «مَا كَانَ لِنَبِىّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى الآيات، فأطلق لهم أن يأخذوا الفداء ويطلقوهم.

إنّ الآية محل البحث أجازت للمسلمين التصرف في غنائم المعركة، والمبلغ الذي يأخذونه فداءً من الأسير، فقالت: «فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَللًا طَيّبًا».

ويمكن أن تكون هذه الجملة ذات معنى واسع يشمل حتى الغنائم الاخرى غير الفداء.

ثم تأمرهم الآية بالتقوى فتقول: «وَاتَّقُوا اللَّهَ». وهذا إشارة إلى أنّ جواز أخذ مثل هذه الغنائم لا ينبغي أن يجعل هدف المجاهدين في المعركة هو جمع الغنائم وأن يأسروا العدو حتى يأخذوا فداءه، وإذا كان في القلوب مثل هذه النيّات السيئة فعليهم أن يطهروا قلوبهم منها، ويعدهم اللَّه بالعفو عمّا مضى فتقول الآية: «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ». والمسألة المهمة في شأن أسرى الحرب هي موضوع إصلاحهم وتربيتهم وهدايتهم، ولهذا فإنّ الآية الرابعة من الآيات محل البحث تخاطب النبي أن يدعو الأسرى إلى الإيمان باللَّه وإصلاح أنفسهم، ويرغبهم في كل ذلك، فتقول: «يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ قُلْ لِّمَن فِى أَيْدِيكُم مّنَ الْأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِى قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أَخَذَ مِنكُمْ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 239

والمراد من كلمة «خيراً» في الجملة آنفة الذكر «إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِى قُلُوبِكُمْ خَيْرًا» هو الإيمان وقبول الإسلام أمّا المراد من كلمة «خير» في الجملة الاخرى «يؤتكم خيراً» فهو الثواب أو الأجر المادي والمعنوي.

ثم إضافة إلى

ذلك فسيشملكم لطف اللَّه ويعفو عن سيئاتكم «وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

وحيث إنّ من الممكن أن يستغل بعض الأسرى إظهار الإسلام ليسي ء إلى الإسلام ويخون النبي وينتقم من المسلمين، فإنّ الآية التالية تحذّر النبي والمسلمين من خيانتهم فتقول: «وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ».

وأيّ خيانة أعظم من عدم الإستجابة لنداء الفطرة والعزوف عن نداء الحق والعقل، والشرك باللَّه وعليهم أن لا ينسوا نصرة اللَّه لك «فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ».

وإذا أرادوا الخيانة في المستقبل فلن يُفلحوا، لأنّ اللَّه مطلع على نيّاتهم، وجميع تعاليم الإسلام في شأن الأسرى وفق حكمته «وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هَاجَرُوا وَ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَ فَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هَاجَرُوا وَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَ هَاجَرُوا وَ جَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَ أُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (75) تبحث هذه الآيات التي تُختتم بها سورة الأنفال- وتُعدّ آخر فصل من فصولها- عن طوائف المهاجرين والأنصار والطوائف الاخرى من المسلمين وبيان قيمة هؤلاء جميعاً،

مختصر الامثل، ج 2، ص: 240

مختصر الامثل ج 2 279

فتعطي كل طائفة قيمة، وتستكمل ما تناولته الآيات

السابقة في شأن الجهاد والمجاهدين.

وقد تناولت هذه الآيات خمس طوائف، أربع منها من المسلمين، وواحدة من غير المسلمين، والطوائف الأربع هي:

1- المهاجرون السابقون.

2- الأنصار في المدينة.

3- المؤمنون الذين لم يهاجروا.

4- الذين آمنوا من بعدُ وهاجروا.

فتقول الآية الاولى من الآيات محل البحث: «إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَوا وَّنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ».

إنّ الآية وصفت الطائفة الاولى بأربع صفات هي: الإيمان، والهجرة والجهاد المالي والاقتصادي والصفة الرابعة جهادهم بأنفسهم ودمائهم وأرواحهم.

أمّا الأنصار فقد وصفتهم الآية بصفتين هما: الإيواء، والنصرة.

ثم تشير الآية إلى الطائفة الثالثه فتقول: «وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مّن وَليَتِهِم مّن شَىْ ءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا».

ثم استثنت في الجملة التي بعدها مسؤولية واحدة فحسب، وأثبتتها في شأن هذه الطائفة، فقالت: «وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِى الدّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ ... إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مّيثَاقٌ».

وحضّت الآية على رعاية العهود والمواثيق والدقة في أداء هذه المسؤولية، ومنبهة إلى علم اللَّه بكل الأمور، فقالت: «وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».

فهو يرى جميع أعمالكم ويطلع على ما تفعلون من جهاد، أو أداء للوظيفة الملقاة على عاتقكم، أو إحساس بالمسؤولية، كما يعلم بمن لم يعتن بالأمر، وكذلك بالوهن والضعف وعدم الإحساس بالمسؤولية إزاء هذه الوظائف الكبيرة.

أمّا الآية الثانية فتشير إلى النقطة المقابلة للمجتمع الإسلامي، أي مجتمع الكفر وأعداء الإسلام، فتقول: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ». أي إنّ علاقاتهم منحصرة فيما بينهم، ولا يحق لكم أن تتعاهدوا معهم، أو تحاموا عنهم، أو تطلبوا منهم النصرة لأنفسكم، أو تلجؤوهم وتؤوهم إليكم، أو تأووا وتلتجئوا إليهم.

ثم تنبّه الآية المسلمين وتحذرهم من مخالفة هذا التعليم، فتقول: «إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِى الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 241

إنّ المراد من «الفتنة»

هو الإختلاف والتفرق وتزلزل مباني العقيدة الإسلامية على أثر وسوسة الأعداء، و «الفساد» يشمل كل إخلال وتخريب للنظم الاجتماعية المختلفة وخاصة سفك الدماء البريئة والارهاب وأمثال ذلك.

أمّا في الآية التالية فنجد تأكيداً على مقام المهاجرين والأنصار مرّة اخرى، وما لهما من موقع وأثر في تحقق أهداف المجتمع الإسلامي، فتثني عليهم الآية بقولها: «وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَوا وَّنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا». لأنّهم هبوا لنصرة الإسلام في الأيام الصعبة الشديدة وفي الغربة والمحنة وقد اشترك كل فرد منهم بنوع من النصرة للَّه ولرسوله صلى الله عليه و آله «لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ». فهم فائزون بثواب اللَّه والنعمة الاخروية، كما أنّهم يتمتعون في هذه الدنيا بالعزّة ورفعة الرأس والكرامة.

أمّا الآية الأخيرة فتشير إلى الطائفة الرابعة من المسلمين، أي اولئك الذين آمنوا وهاجروا من بعد، فتقول: «وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنكُمْ». أي إنّ المجتمع الإسلامي ليس مجتمعاً منغلقاً ومحصوراً على نفسه، بل أبوابه مفتوحة لجميع المؤمنين والمهاجرين والمجاهدين.

وتشير الآية في ختامها إلى ولاية الأرحام بعضهم لبعض، وأوليتها فيما جعله اللَّه في عباده من أحكام، فتقول: «وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَابِ اللَّهِ».

إنّ الآيات السابقة تتكلم عن ولاية المؤمنين والمسلمين العامّة «بعضهم إلى بعض» أمّا هذه الآية محل البحث فتؤكّد هذا الموضوع في شأن الأرحام والأقارب، فهم إضافة إلى ولاية الإيمان والهجرة يتمتعون بولاية الأرحام أيضاً، ومن هنا فهم يرثون ويورّثون بعضهم بعضاً، إلّاأنّه لا إرث بين غيرهم من المؤمنين الذين لا علاقة قربى بينهم.

وفي آخر جملة من هذه الآية يقول اللَّه سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ».

فما نزل في هذه السورة من أحكام تتعلق بالأنفال وغنائم الحرب، وتعاليم الجهاد

والصلح، وأحكام الأسرى والحرب، وما يتعلق بالهجرة وغيرها، كل ذلك كان وفق حساب دقيق يتلاءم وروح المجتمع الإنساني، والعواطف البشرية، والمصالح العامة في جميع جوانبها المختلفة.

«نهاية تفسير سورة الأنفال»

مختصر الامثل، ج 2، ص: 243

9. سورة التوبة

ينبغي الإلتفات إلى الامور التالية قبل الشروع في تفسير السورة:

1- أسماء هذه السورة: ذكر المفسرون لهذه السورة أسماءً عديدة تبلغ العشرة، غير أنّ المشهور منها هو ما يلي: سورة البراءة، وسورة التوبة، والسورة الفاضحة.

2- متى نزلت هذه السورة؟ هذه السورة هي آخر سورة نزلت على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أو من أواخر السور النازلة عليه في المدينة.

والمعروف أنّ بداية نزول هذه السورة كانت في السنة التاسعة للهجرة، وقسماً منها نزل قبل معركة تبوك، وقسماً منها نزل عند الإستعداد للمعركة أو «الغزوة»، وقسماً منها نزل بعد الرجوع من المعركة والفراغ منها.

والآيات الاولى- هذه- والتي تتعلق بمن بقي من المشركين بلّغها أميرالمؤمنين عليه السلام في موسم الحج.

3- محتوى السورة: يتعلق قسم من آيات هذه السورة بالبقية الباقية من عبدة الأوثان والمشركين، وقطع العلاقات معهم، وإلغاء المعاهدات التي كانت بينهم وبين المسلمين.

وقسماً مهماً منها تتحدّت عن المنافقين وعاقبتهم، وتحذر المسلمين منهم.

وبعض آيات هذه السورة تتحدّث عن الجهاد في سبيل اللَّه وأهميته، كما أنّ قسماً منه

مختصر الامثل، ج 2، ص: 244

يكمل البحوث السابقة التي تناولت انحراف أهل الكتاب «اليهود والنصارى» عن حقيقة التوحيد، وتتكلم عن انصراف علمائهم عن واجبهم في التبليغ وقيادة المجتمع. وحيث سبّب انتشار الإسلام واتساع رقعة مجتمعه آنئذ ظهور حاجات مختلفة ينبغي توفيرها، فقد عرضت بقية الآيات من هذه السورة موضوع الزكاة وتحريم تراكم الثروات واكتنازها، ووجوب طلب العلم أو التعلّم وتعليم الجهلة، وتناولت بحوثاً متنوعة اخرى كقصة هجرة النبي

صلى الله عليه و آله، والأشهر الحرم التي يحرم فيها القتال، وأخذ الجزية من الأقليات الدينية غير الإسلامية كاليهود والنصارى، وما إلى ذلك.

في تفسير مجمع البيان عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «ما نزل عليّ القرآن إلّاآية آية، وحرفاً حرفاً، خلا سورة البراءة وقل هو اللَّه أحد، فإنّهما نزلتا عليّ ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة، كل يقول يا محمّد استوص بنسبة اللَّه خيراً».

4- لِم لَم تبدأ هذه السورة بالبسملة؟ يُجيب استهلال السورة على السؤال آنف الذكر فقد بُدئت بالبراءة- من قبل اللَّه- من المشركين، وإعلان الحرب عليهم، واتباع أسلوب شديد لمواجهتهم، وبيان غضب اللَّه عليهم، وكل ذلك لا يتناسب والبسملة «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» الدالة على الصفاء والصدق والسلام والحب، والكاشفة عن صفة الرحمة واللطف الإلهي.

بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَ أَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) إلغاء عهود المشركين: كانت في المجتمع الإسلامي ومحيطه طوائف شتى، فطائفة منها مثلًا لم يكن لها أيّ عهد مع النبي صلى الله عليه و آله والنبي كذلك لم يكن له أيّ عهد معها.

وطوائف اخرى عاهدت النبي صلى الله عليه و آله في الحديبية- وأمثالها- على ترك المخاصمة والمنازعة، وقد نقضت بعض تلك الطوائف عهودها من جانب واحد، وبدون أي سبب يجيز النقض وذلك بمظاهرتها أعداء الإسلام، أو حاولت اغتيال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

الآية الاولى من الآيتين محل البحث تعلن للمشركين كافة: «بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مّنَ الْمُشْرِكِينَ».

يستفاد من الروايات أنّ علياً عليه السلام قد امر بإبلاغ أربع مواد إلى الناس في

ذلك اليوم وهي:

مختصر الامثل، ج 2، ص: 245

1- إلغاء عهد المشركين.

2- لا يحق للمشركين أن يحجّوا في المواسم المقبلة.

3- منع العراة والحفاة من الطواف الذي كان شائعاً ومألوفاً حتى ذلك الوقت.

4- منع المشركين من دخول البيت الحرام.

ثم أمهلتهم مدّة أربعة أشهر ليفكروا فيها ويحدّدوا موقفهم من الإسلام، فإمّا أن يتركوا عبادتهم للأصنام، أو يتهيأوا للمواجهة والقتال، فقالت: «فَسِيحُوا فِى الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِى الْكَافِرِينَ».

وَ أَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِي ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَ بَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَ لَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) نلحظ في هاتين الآيتين البينتين مزيد تأكيد على موضوع إلغاء المعاهدات التي كانت بين النبي صلى الله عليه و آله والمشركين، حتى أنّ تاريخ الإلغاء قد اعلن في هذه الآية إذ نقول: «وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِى ءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ».

إنّ اللَّه سبحانه يريد في هذا الإعلان العام في مكّة المكرمة، وفي ذلك اليوم العظيم، أن يوصد كل ذريعة يتذرع بها المشركون والأعداء، ويقطع ألسنة المفسدين.

ثم يتوجه الخطاب في الآية إلى المشركين أنفسهم ترغيباً وترهيباً، لعلهم يهتدون، إذ تقول الآية: «فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ». أي إنّ الإستجابة لرسالة التوحيد فيها صلاحكم وفيها خير لكم ولمجتمعكم ودنياكم وآخرتكم، فلو تدبّرتم بجد وصدق لرأيتم أن قبول الدعوة هو البلسم الشافي لكل جراحاتكم وليس في الأمر منفعة للَّه أو لرسوله.

ثم إنّ

الآية تُحذر المخالفين المعاندين المتعصبين فتقول: «وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرَ مُعْجِزِى اللَّهِ». فلا يمكنكم الخروج من دائرة قدرته المطلقة بحال.

وأخيراً فإنّ الآية أنذرت المعاندين المتعصبين قائلة: «وَبَشّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 246

وكما أشرنا من قبل فإنّ إلغاء هذه العهود من جانب واحد- ورفض عهد المشركين- يختص باولئك الذين دلّت القرائن على استعدادهم لنقض عهدهم وبدت بوادره، لذلك فإنّ الآية استثنت قسماً منهم لوفائهم بالعهد، فقالت «إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ».

فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ احْصُرُوهُمْ وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَ آتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) الشدة المقرونة بالرفق: نقرأ في الآيتين أعلاه بيان وظيفة المسلمين بعد انتهاء مدّة إمهال المشركين «الأشهر الأربعة» وقد أصدر القرآن أوامره الصارمة في هذا الصدد فقال:

«فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ».

ثم يقول: «وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ».

وهذه الشدة متناغمة ومتوائمة مع منهج الإسلام وخطته في إزالة الوثنية وقلعها من جذورها، لأنّ الوثنية ليست عقيدة صحيحة، ولا ديناً كي تُلحظ بعين الإحترام.

وهذه الشدة والقوة والصرامة لا تعني سدّ الطريق- طريق الرجوع نحو التوبة- بوجههم، بل لهم أن يثوبوا إلى رشدهم ويعودوا إلى سبيل الحق، ولذلك فإنّ الآية عقبت بالقول: «فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ وَءَاتُوا الزَّكَوةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ».

ف «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ». يتوب على عباده المنيبين إليه.

وتستكمل الآية التالية هذا الموضوع بأمر

آخر، كيما يتّضح بجلاء أن هدف الإسلام من هذا الأمر إنّما هو نشر التوحيد والحق والعدالة، وليس هو الاستثمار أو الاستعمار وإمتصاص المال، أو الإستيلاء على أراضي الآخرين، إذ تقول الآية: «وَإِن أَحَدٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلمَ اللَّهِ». أي عليك أن تعامل من يلجأ اليك من المشركين برفق ولطف، وامنحه المجال للتفكير حتى يتبين له محتوى دعوتك في كمال الإرادة والحرية،

مختصر الامثل، ج 2، ص: 247

فإذا أشرقت أنوار الهداية في قلوبهم فسيؤمنون بدعوتك.

ثم تضيف الآية قائلة: «ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ» وأوصله إلى مكان آمن حتى لا يعترضه أحد في طريقه.

وأخيراً فإنّ الآية تبين علة هذا الحكم، فتقول: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّايَعْلَمُونَ».

فبناءً على ذلك لو فُتحت أبواب المعرفة بوجوهم، فإنّه يؤمّل خروجهم من الوثنية التي هي وليدة الجهل- وإلتحاقهم بركب التوحيد الذي هو وليد العلم والمعرفة.

كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَ لَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَ تَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَ أَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَ لَا ذِمَّةً وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) المعتدون الناقضون العهد: كما لاحظنا في الآيات السابقة أنّ الإسلام ألغى جميع العهود التي كانت بينه وبين المشركين وعبدة الأوثان- إلّاجماعة خاصة- وأمهلهم مدّة أربعة أشهر ليقرروا موقفهم منه، والآيات محل البحث بيان لعلة إلغاء العهود من قِبل الإسلام، فتقول الآية الاولى من هذه الآيات مستفهمة استفهاماً إنكارياً: «كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ». أي:

إنّهم لا ينبغي لهم أن يتوقعوا أو ينتظروا الوفاء بالعهد من قِبل النبي صلى الله عليه و آله ومن جانب واحد، في وقت تصدر منهم المخالفات وعدم الوفاء بالعهد.

ثم استثنت الآية مباشرة اولئك الذين لم ينقضوا عهدهم، بل بقوا أوفياء له، فقالت: «إِلَّا الَّذِينَ عهَدتُّم عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ».

وفي الآية التالية يثار هذا الموضوع بمزيد الصراحة والتأكيد، ويستفهم منه استفهاماً إنكارياً أيضاً، إذ تقول الآية: «كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَايَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 248

وتضيف الآيه معقبة بأن هؤلاء يريدون أن يخدعوكم بألفاظهم المزوّقة فقالت:

«يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ». وفي نهاية الآية إشارة إلى جذر هذا الموضوع وأساسه وهو فسقهم، فتقول: «وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ».

وفي الآية التالية بيان لبعض علائم فسقهم وعصيانهم، إذ أعربت الآية عن ذلك على النحو التالي «اشْتَرَوْا بَايَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ».

ثمّ تعقب الآية بالقول: «إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ». فقد خسروا طريق السعادة وضيعوها، وحرموا الهداية، وهُم في الوقت ذاته أوصدوا الطريق بوجه الآخرين، وأي عمل أسوأ من أن يحمل الإنسان وزره ووزر سواه!

أمّا في آخر آية من الآيات محل البحث فهي تأكيد آخر على ما ورد في الآيات المتقدمة، إذ تقول الآية: «لَايَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً».

وهذه الخصلة فيهم لم يُبتل بها المؤمنون فحسب بل يعتدون على كل من تناله أيديهم «وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ».

فَإِنْ تَابُوا وَ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَ آتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَ لَا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَ

هَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَ هُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَ يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) إنّ أحد أساليب الفصاحة والبلاغة أن يكرر المتحدّث المطلب المهم بتعابير مختلفة للتأكيد على أهمية، وليكون له أثر في النفوس. ولما كانت مسألة تطهير المحيط الإسلامي من

مختصر الامثل، ج 2، ص: 249

الوثنية وعبادة الأصنام وإزالة آثارها، من المسائل ذات الأهمية القصوى، فإنّ القرآن يكرر هذه المطالب بعبارات جديدة في الآيات محل البحث، فتقول الآية الاولى: «فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ وَءَاتَوُا الزَّكَوةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِى الدّينِ».

وتضيف معقبة: «وَنُفَصّلُ الْأَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ».

ولكن لو استمر المشركون في نقض العهود، فتقول الآية التالية: «وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِى دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَاأَيْمنَ لَهُمْ».

صحيح أنّهم عاهدوكم على عدم المخاصمة والمقاتلة، إلّاأنّ هذه المعاهدة- بنقضها مراراً، وكونها قابلة للنقض في المستقبل- لا اعتبار لها أصلًا ولا قيمة لها.

وتعقّب الآية مضيفة: «لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ».

وفي الآية الاخرى خطاب للمسلمين لإثارة هممهم، وإبعاد روح الضعف والخوف والتردد عنهم في هذا الأمر الخطير، إذ تقول الآية: «أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمنَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ».

فعلام تقلقون وأنتم لم تبدأوهم بالقتال وإلغاء العهد من قبلكم «وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ».

وإذا كان بعضكم يتردد في مقاتلتهم خشية منهم، فإنّ هذه الخشية لا محل لها «أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ».

وفي الآية التالية وعد بالنصر الحاسم للمسلمين، إذ تقول: «قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ».

وليس ذلك فحسب، بل، «وَيُخْزِهِمْ» «وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ».

وبهذا يشعر المؤمنون بالراحة والطمأنينة بعد أن كانوا يقاسون

الألم والعذاب تحت وطأة هؤلاء المجرمين، ويزيل اللَّه تعالى عن قلوبهم آلام المحنة بهذا النصر «وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ».

أمّا الآية التالية فتضيف: إنّ في إنتصار المؤمنين وهزيمة الكافرين سروراً للمؤمنين، وإنَّ اللَّه يسدّدهم «وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ».

وتُختتم الآية بالقول: «وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».

العبارة الأخيرة تحمل البشرى بأنّ مثل هؤلاء سيميلون نحو الإسلام ويشملهم توفيق

مختصر الامثل، ج 2، ص: 250

اللَّه، لما لديهم من التهيؤ الروحي والقابلية.

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لَا رَسُولِهِ وَ لَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) في هذه الآية ترغيب للمسلمين في الجهاد عن طريق آخر، حيث تُحمّل الآية المسلمين مسؤولية ذات عب ء كبير، وهي أنّه لا ينبغي أن تتصوروا أنّ كل شي ء سيكون تامّاً بادعائكم الإيمان فحسب، بل يتجلى صدق النية وصدق القول والإيمان الواقعي في قتالكم الأعداء قتالًا خالصاً من أي نوع من أنواع النفاق، فتقول الآية أوّلًا: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً».

«الوليجة»: مشتقة من «الولوج» ومعناه الدخول، وتطلق الوليجة على من يُعتمد عليه في الأسرار ومعناها يُشبه معنى البطانة تقريباً.

إنّ الجملة المتقدمة تُنّبه المسلمين إلى أنّ الأعمال لا تكمل بإظهار الإيمان فحسب، ولا تتجلى شخصية الأشخاص بذلك، بل يعرف الناس باختبارهم عن طريقين:

الأوّل: الجهاد في سبيل اللَّه لغرض محو آثار الشرك والوثنية.

الثاني: ترك أيّة علاقة أو أيّ تعاون مع المنافقين والأعداء.

فالأوّل لدفع العدو الخارجي، والثاني يحصّن المجتمع من خطر العدو الداخلي.

وتُختتم الآية بما يدلّ على الإخطار والتأكيد: «وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ».

فلا ينبغي أن يتصور أحدّ أنّ

اللَّه لا يعرف العلائق السرية بين بعض الأفراد وبين المنافقين، بل يعرف كل شي ء جيداً وهو خبير بالأعمال كلها.

مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَ فِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَقَامَ الصَّلَاةَ وَ آتَى الزَّكَاةَ وَ لَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)

مختصر الامثل، ج 2، ص: 251

من جملة المسائل التي يمكن أن تراود أذهان البعض بعد إلغاء عهد المشركين والحكم بجهادهم، هو: لِم نُبْعد هذه الجماعة العظيمة من المشركين عن المسجد الحرام لأداء مناسك الحج، مع أنّ مساهمتهم في هذه المراسم عمارة للمسجد من جميع الوجوه «المادية والمعنوية» إذ يستفاد من إعاناتهم المهمة لبناء المسجد الحرام، كما يكون لوجودهم أثر معنوي في زيادة الحاج والطائفين حول الكعبة المشرفة وبيت اللَّه. فالآيتان محل البحث تردّان على مثل هذه الأفكار الواهية التي لا أساس لها، وتصّرح الآية الاولى منهما بالقول: «مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ».

ثم تشير الآية إلى فلسفة هذا الحكم فتقول: «أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ».

ولذلك فهي لا تجديهم نفعاً: «وَفِى النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ».

فاللَّه طاهر منزّه، وينبغي أن يكون بيته طاهراً منزهاً كذلك، فلا يصح أن تمسّه الأيدي الملوثة بالشرك. أمّا الآيةالتالية فتذكر شروط عمارة المسجدالحرام- إكمالًاللحديث آنف الذكر- فتبيّن خمسة شروط مهمة في هذا الصدد، فتقول: «إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ».

وهذا النص إشارة إلى الشرطين الأوّل والثاني اللذين يمثلان الأساس العقائدي.

ثم تشير الآية إلى الشرطين الثالث والرابع فتقول: «وَأَقَامَ الصَّلَوةَ وَءَاتَى الزَّكَوةَ».

أي: إنّ الإيمان باللَّه واليوم الآخر لا يكفي أن يكون مجرّد ادعاء فحسب، بل

تؤيده الأعمال الكريمة، فعلاقة الإنسان باللَّه ينبغي أن تكون قوية محكمة، وأن يؤدّي صلاته باخلاص، كما ينبغي أن تكون علاقته بعباد اللَّه وخلقه قوية، فيؤدي الزكاة إليهم.

وتشير الآية إلى الشرط الخامس والأخير فتقول: «وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ».

فقلبه ملي ء بعشق اللَّه، ولا يحسّ إلّابالمسؤولية في امتثال أمره ولايرى لأحد من عبيده أثراً في مصيره ومصير مجتمعه وتقدمه، هم أقل من أن يكون لهم أثر في عمارة محل للعبادة.

ثم تضيف الآية معقبة بالقول: «فَعَسَى أُولئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ». فيبلغون أهدافهم ويسعون لعمارة المسجد.

أهمية بناء المساجد: وردت أحاديث كثيرة في أهمية بناء المساجد. ففي تفسير المنار عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «من بنى للَّه مسجداً ولو كمفحص قطاة لبيضها بنى اللَّه له بيتاً في الجنة».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 252

إلّا أنّ ما هو أكثر أهمية هذا اليوم هو عمارة المسجد المعنوية، فالمسجد ينبغي أن يكون مركزاً للشباب المؤمن، لا محلًا للعجزة والكسالى والمقعدين، فالمسجد مجال للنشاط الاجتماعي الفعال، لا مجال العاطلين والبطّالين والمرضى.

أَ جَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَ عِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَ اللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَ هَاجَرُوا وَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوَانٍ وَ جَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني عن ابن بريدة، قال: بينا شيبة والعباس يتفاخران، إذا مرّ بهما علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: «بماذا تتفاخران؟»

فقال

العباس: لقد اوتيت من الفضل ما لم يؤت أحد: سقاية الحاج.

وقال شيبة: أوتيت عمارة المسجد الحرام.

فقال علي عليه السلام: «استحييت لكما، فقد اوتيت على صغري ما لم تؤتيا!»

فقالا: وما اوتيت يا على؟

قال: «ضربت خراطيمكما بالسيف حتى آمنتما باللَّه ورسوله!»

فقام العباس مغضباً يجرّ ذيله حتى دخل على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقال: أما ترى إلى ما يستقبلني به علي؟

فقال: «أدعو لي عليّاً». فدعى له فقال: «ما حملك على ما استقبلت به عمّك؟» فقال: «يا رسول اللَّه! صدمته بالحق، فمن شاء فليغضب ومن شاء فليرض!»

فنزل جبرائيل عليه السلام فقال: يا محمّد، إنّ ربّك يقرأ عليك السلام ويقول: اتل عليهم:

«أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجّ» الآيات. فقال العباس: إنّا قد رضينا؛ ثلاث مرات.

التّفسير

مقياس الفخر والفضل: مع أنّ للآيات- محل البحث- شأناً في نزولها، إلّاأنّها في الوقت

مختصر الامثل، ج 2، ص: 253

ذاته تستكمل البحث الذي تناولته الآيات المتقدمة، ونظير ذلك كثير في القرآن. فالآية الاولى من هذه الآيات تقول: «أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ وَجَاهَدَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لَايَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».

ويحدثنا التاريخ أنّ منصب «سقاية الحاج» قبل الإسلام كان من أهم المناصب وكان يضاهي منصب سدانة الكعبة.

أمّا الآية التالية فتوضح ما أجملته الآية السابقة وتؤكّده بالقول: «الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ».

وأمّا الآية الثالثه- من الآيات محل البحث- فتقول: إنّ اللَّه أنعم على المؤمنين والمهاجرين والمجاهدين في سبيله ثلاث مواهب هي:

1- «يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ».

2- «وَرِضْوَانٍ».

3- «وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ».

وتعقب الآية الأخيرة لمزيد التوكيد بالقول: «خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا

آبَاءَكُمْ وَ إِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَ أَبْنَاؤُكُمْ وَ إِخْوَانُكُمْ وَ أَزْوَاجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَ تِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَ مَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَ اللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) كل شي ء فداء للهدف: إنّ آخر وسوسة أو ذريعة يمكن أن يتذرع بها جماعة من المسلمين للامتناع عن جهاد المشركين (وفعلًا فقد تذرع بعضهم وفقاً لما ورد في قسم من التفاسير) بأنّ من بين المشركين وعبدة الأوثان أقارب لهم، فإذا كان القرار أن يجاهد الجميع المشركين فلابدّ أن يغمضوا أعينهم عن أرحامهم وأقاربهم وعشيرتهم الخ. هذا كله من جهة.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 254

ثم ومن جهة اخرى كانت رؤوس الأموال والقدرة التجارية بيد المشركين تقريباً، ولهذا يسبب تردد المشركين إلى مكة إزدهار التجارة.

ومن جهة ثالثة كان للمسلمين في مكة بيوت عامرّة نسبياً، فإذا قاتلوا المشركين فمن المحتمل أن يهدمها المشركون، أو تفقد قيمتها إذا عطل المشركون مراسم الحاج ومناسكه بمكة. فالآيتان- محل البحث- ناظرتان إلى مثل هؤلاء الأشخاص، وتردّان عليهم ببيان صريح، فتقول الآية الاولى منهما: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَتَّخِذُوا ءَابَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمنِ».

ثم تعقب- على وجه التأكيد- مضيفة: «وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ».

وأيّ ظلم أسوأ من أن يظلم الإنسان نفسه بتعلقه بأعداء الحق والمشركين، ويظلم مجتمعه، ويظلم نبيّه أيضاً؟!

أمّا الآية التالية فهي تتناول هذا الموضوع بنحوٍ من التفصيل والتأكيد والتهديد والتقريع، فتخاطب النبي صلى الله عليه و آله ليعنّف اولئك الذين لا يرغبون في جهاد المشركين لما ذكرناه

آنفاً، فتقول: «قُلْ إِن كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةً تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِى سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ».

ولما كان ترجيح مثل هذه الامور على رضا اللَّه والجهاد في سبيله، يعدّ نوعاً من العصيان والفسق البيّن، وإنّ من تشبث قلبه بالدنيا وزخرفها وزبرجها غير جدير بهداية اللَّه، فإنّ الآية تعقب في الختام قائلة: «وَاللَّهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ».

ما قرأناه في الآيتين- محل البحث- ليس مفهومه قطع علائق المحبة بين الأرحام، وإهمال رؤوس الأموال الاقتصادية، والإنسياق إلى تجاوز العواطف الإنسانية وإلغائها، بل المراد من ذلك أنّه ينبغي أن لا ننحرف عند مفترق الطرق إلى الأموال والأزواج والأولاد والدور والمقام الدنيوي، بحيث لا نطبّق في تلك الحالة حكم اللَّه، أو لا نرغب في الجهاد، ويحول عشقنا المادي دون تحقيق الهدف المقدس.

لهذا يلزم على الإنسان إذا لم يكن على مفترق الطرق أن يرعى الجانبين «العلاقة باللَّه والعلاقة بالرحم».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 255

فعلينا أن نغرس مدلول هاتين الآيتين في قلوب اطفال المسلمين وشبابهم ونجعله شعاراً لنا، ونحيي في نفوس المسلمين روح التضحية والجهاد، ليحافظوا على ثقافتهم وموروثهم المعرفي.

لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَ عَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ذلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) الكثرة وحدها لا تجدي نفعاً: في الآيات المتقدمة رأينا أنّ اللَّه سبحانه يدعوا المسلمين إلى التضحية والجهاد على جميع

الصُعد في سبيل اللَّه وقلع جذور الشرك وعبادة الأوثان، ويهدد بشدة من يتقاعس منهم عن الجهاد والتضحية بسبب التعلق بالأزواج والأولاد والأرحام والعشيرة والمال والثروة. أمّا الآيات محل البحث فتشير إلى مسألة مهمة، وهي أنّ على كل قائد أن ينّبه أتباعه في اللحظات الحساسة بأنّه إذا كان فيهم بعض الأشخاص من ضعاف الايمان والذين يحجبهم التعلق بالمال والولد والأزواج وما إلى ذلك عن الجهاد في سبيل اللَّه، فلا ينبغي أن يقلق المؤمنون المخلصون من هذا الأمر، وعليهم أن يواصلوا طريقهم، لأنّ اللَّه لم يتخلّ عنهم يوم كانوا قلة، كما هو الحال في معركة بدر، ولا يوم كانوا كثرة مل ء العين (كما في معركة حنين) وقد أعجبتهم الكثرة فلم تغن عنهم شيئاً، لكن اللَّه سبحانه أنزل جنوداً لم تروها، وعذب الذين كفروا، فاللَّه في الحالين ينصر المؤمنين ويرسل إليهم مدده ... لهذا فإنّ الآية الاولى من الآيات محل البحث تقول: «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ».

ثم تضيف الآية معقبة: «وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيًا». وكان جيش المسلمين يوم حنين زهاء اثني عشر ألفاً، وهذا الرقم لم يسبق له مثيل في الحروب الإسلامية قبل ذلك الحين، حتى إغتر بعض المسلمين وقالوا: «لن نُغلب اليوم».

إلّا أنّه قد فرّ كثير من المسلمين ذلك اليوم، لكونهم جديدي عهد بالإسلام ولم يتوغل الإيمان في قلوبهم فانكسر جيش المسلمين في البداية وكاد العدو أن يغلبهم لولا أنّ اللَّه أنزل بلطفه مدده وجنوده فنجّاهم.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 256

ويصوّر القرآن هذه الهزيمة بقوله: «وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ».

وفي هذه اللحظات الحساسة حيث تفرق جيش الإسلام هنا وهناك، ولم يبق مع النبي إلّا القلة، وكان النبي مضطرباً ومتألّماً

جدّاً لهذه الحالة نزل التأييد الإلهي: «ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا».

ويَذكر القرآن النتيجة النهائية لمعركة حنين الحاسمة فيقول: «وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ». وكان هذا العذاب والجزاء أن قُتل بعض الكافرين، واسر بعضهم، وفرّ بعضهم إلى مناطق بعيدة عن متناول الجيش الاسلامي.

ومع هذا الحال فإنّ اللَّه يفتح أبواب توبته للأسرى والفارين من الكفار الذين يرغبون في قبول مبدأ الحق «الإسلام» لهذا فإنّ الآية الأخيرة من الآيات محل البحث تقول: «ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذلِكَ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

وجملة «يتوب» التي وردت بصيغة الفعل المضارع، والتي تدل على الإستمرار، مفهومها أنّ أبواب التوبة والرجوع نحو اللَّه مفتوحة دائماً بوجه التائبين.

غزوة حنين ذات العبرة: «حنين» منطقة قريبة من الطائف، وبما أنّ الغزوة وقعت هناك فقد سمّيت باسم المنطقة ذاتها، وقد عُبّر عنها في القرآن ب «يوم حنين» ولها من الأسماء:

غزوة أوطاس، وغزوة هوازن أيضاً.

أمّا تسميتها بأوطاس، فلأنّ «أوطاس» أرض قريبة من مكان الغزوة، وأمّا تسميتها بهوازن، فلأنّ إحدى القبائل التي شاركت في غزوة حنين تُدعى هوازن.

إنّ رؤساء طائفة هوازن جاءوا إلى مالك بن عوف واجتمعوا عنده في اخريات شهر رمضان أو شوال في السنة الثامنة للهجرة، وكانوا قد جاءوا بأموالهم وأبنائهم وأزواجهم لئلا يفكر أحدهم بالفرار حال المعركة، وهكذا فقد وردوا منطقة أوطاس.

فعقد النبي صلى الله عليه و آله لواءه، وسلمه علياً عليه السلام.

وكان ألفا شخص قد أسلم في فتح مكة، فأضيف عددهم إلى العشرة آلاف الذين ساهموا في فتح مكة، وصاروا حوالي اثني عشر ألفاً، وتحركوا نحو حنين.

فلما صلّى النبي صلاة الغداة «الصبح» بأصحابه أمر أن ينزلوا إلى حنين، ففوجئوا بهجوم هوازن عليهم من كل

جانب وصوب، وأصبح المسلمون مرمى لسهامهم، ففرّت طائفة من

مختصر الامثل، ج 2، ص: 257

المقاتلين جديدي الإسلام (بمكة) من مقدمة الجيش، فكان أن ذُهل المسلمون واضطربوا وفرّ الكثير منهم.

فخلّى اللَّه بين جيش المسلمين وجيش العدو، وترك الجيشين على حالهما، ولم يحم المسلمين لغرورهم- مؤقتاً- حتى ظهرت آثار الهزيمة فيهم.

إلّا أنّ عليّاً حامل لواء النبي بقي يقاتل في عدة قليلة معه، فأمر النبي صلى الله عليه و آله عمّه العباس- وكان جهير الصوت- أن يصعد على تل قريب وينادي: يا معشر المهاجرين والأنصار، يا أصحاب سورة البقرة، يا أهل بيعة الشجرة، إلى أين تفرّون؟ هذا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

فلّما سمع المسلمون صوت العباس رجعوا وقالوا: لبيك لبيك، ولا سيما الأنصار إذ عادوا مسرعين وحملوا على العدو من كل جانب حملة شديدة، فقتل حوالي مئة شخص من هوازن، وغنم المسلمون أموالهم كما أسروا عدّة منهم.

ونقرأ في نهاية هذه الحادثة التأريخية أنّ ممثلي هوازن جاءوا النبي وأعلنوا إسلامهم، وأبدى لهم النبي صلى الله عليه و آله صفحه وحبّه.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هذَا وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) لا يحق للمشركين أن يدخلوا المسجد الحرام: قلنا: إنّ واحداً من الامور الأربعة التي بلّغها الإمام علي عليه السلام في موسم الحج في السنة التاسعة للهجرة، هو أنّه لا يحق لأحد من المشركين دخول المسجد الحرام، أو الطواف حول البيت، فالآية محل البحث تشير إلى هذا الموضوع وحكمته، فتقول أوّلًا: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هذَا».

ثم تعقب الآية على ذوي النظرة

السطحية الذين كانوا يزعمون بأن المشركين إذا انقطعوا عن المسجد الحرام ذهبت تجارتهم وغدوا فقراء مغوزين فتقول: «وَإِن خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ».

كما فعل ذلك سبحانه على خير وجه، فباتساع رقعة الإسلام في عصر النبي صلى الله عليه و آله أخذ سيل الزائرين يتجه نحو بيت اللَّه في مكة، وما زال هذا الأمر مستمراً حتى عصرنا الحاضر حيث أصبحت مكة في أحسن الظروف فهي بين سلسلة جبال صخرية لا ماء فيها ولا

مختصر الامثل، ج 2، ص: 258

زرع، لكنها مدينة عامرة، وقد صارت بإذن اللَّه مركزاً مهماً للبيع والشراء والتجارة.

ويضيف القرآن في نهاية الآية قائلًا: «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ». فكل ما يأمركم به اللَّه فهو وفق حكمته، وهو عليم بما سيؤول إليه أمره من نتائج مستقبلية، وهو خبير بذلك.

قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صَاغِرُونَ (29) مسؤوليتنا إزاء أهل الكتاب: كان الكلام في الآيات السابقة عن وظيفة المسلمين إزاء المشركين، أمّا الآية محل البحث (وما يليها من الآي) فتبيّن تكليف المسلمين ووظيفتهم إزاء أهل الكتاب. وفي هذه الآيات جعل الإسلام لأهل الكتاب سلسلة من الأحكام تعدّ حدّاً وسطاً بين المسلمين والكفار، لأنّ أهل الكتاب من حيث إتّباعهم لدينهم السماوي لهم شبه بالمسلمين، إلّاأنّهم من جهة اخرى لهم شبه بالمشركين أيضاً.

ولهذا فإنّ الإسلام لا يجيز قتلهم، مع أنّه يجيز قتل المشركين الذين يقفون بوجه المسلمين، لأنّ الخطة تقضي بقلع جذور الشرك والوثنية من الكرة الأرضية، غير أنّ الإسلام يسمح بالعيش مع أهل الكتاب في صورة ما لو

احترم أهل الكتاب الإسلام، ولم يتآمروا ضده، أو يكون لهم إعلام مضاد.

والعلامة الاخرى لموافقتهم على الحياة المشتركة السلمية مع المسلمين هي أن يوافقوا على دفع الجزية للمسلمين، بأن يعطوا كل عام إلى الحكومة الاسلامية مبلغاً قليلًا من المال بحدود وشروط معينة سنتناولها في البحوث المقبلة إن شاء اللَّه.

وفي غير هذه الحال فإنّ الإسلام يصدر أمره بمقاتلتهم، ويوضح القرآن دليل شدة هذا الحكم في جمل ثلاث في الآية محل البحث، إذ تقول الآية أوّلًا: «قَاتِلُوا الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْأَخِرِ».

لكن كيف لا يؤمن أهل الكتاب- كاليهود والنصارى- باللَّه وباليوم الآخر، مع أنّنا نراهم في الظاهر يؤمنون باللَّه ويقرون بالمعاد أيضاً؟

والجواب: لأنّ إيمانهم مزيج بالخرافات والأوهام.

ثم تشير الآية إلى الصفة الثانية لأهل الكتاب، فتقول: «وَلَا يُحَرّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 259

وتذكر الآية الصفة الثالثه التي كانوا يتصفون بها فتقول: «وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقّ». أي إنّ أديانهم منحرفة عن مسيرها الأصيل، فنسوا كثيراً من الحقائق والتزموا بكثير من الخرافات مكانها.

وبعد ذكر هذه الأوصاف الثلاثة، التي هي المسوغ لجهاد المسلمين لأهل الكتاب، تقول الآية: «مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابِ».

ثم تبين الآية الفرق بين أهل الكتاب والمشركين في مقاتلتهم، بالجملة التالية: «حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ».

«الصاغر»: مأخوذ من «الصِغَر» ومعناه الراضي بالذلة. والمراد من الآية أنّ الجزية ينبغي أن تُدفع في حال من الخضوع للإسلام والقرآن.

ما هي الجزية؟ تُعدّ الجزية ضريبة مالية «إسلامية» وهي تتعلق بالأفراد لا بالأموال ولا بالأراضي. أو بتعبير آخر: هي ضريبة مالية سنوية على الرؤوس. أنّ فلسفة هذه الضرائب أو حكمتها هي الدفاع عن الوطن واستقلاله وأمنه، وهي وظيفة عامة على جميع الناس، فبناء على ذلك متى ما قام جماعة فعلًا

بالمحافظة على الوطن ولم يستطع الآخرون أن يجندوا أنفسهم للدفاع عن الوطن، لأنّهم يكتسبون ويتّجرون- مثلًا- فإنّ على الجماعة الثانية أن تقوم بمصارف المقاتلين فتدفع ضرائب سنوية للدولة.

فبناء على ذلك أنّ الجزية إعانة مالية فحسب، يقدمها أهل الكتاب إزاء ما يتحمله المسلمون من مسؤولية في الحفاظ عليهم وعلى أموالهم.

وَ قَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَ قَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَ رُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ مَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً وَاحِداً لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)

مختصر الامثل، ج 2، ص: 260

شرك أهل الكتاب: كان الكلام في الآيات المتقدمة بعد الحديث عن المشركين وإلغاء عهودهم وضرورة إزالة دينهم ومعتقداتهم الوثنية يشير بعد ذلك إلى أهل الكتاب. وفي الآيات محل البحث بيان لوجه الشبه بين أهل الكتاب والمشركين، ولا سيما اليهود والنصارى منهم، ليتضح أنّه لو كان بعض التشدد في معاملتهم، فإنّما هو لانحرافهم عن التوحيد، وميلهم إلى نوع من الشرك في العقيدة، ونوع من الشرك في العبادة. فتقول الآية الاولى من الآيات محل البحث: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْزٌ ابنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصرَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضهُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ».

من هو عزير؟ «عزير» في لغة العرب هو «عزرا» في لغة اليهود، فإنّ عزيراً- أو عزرا- له مكانة خاصه في تاريخ

اليهود، حتى أنّ بعضهم زعم أنّه واضع حجر الأساس لُامّة اليهود وباني مجدهم، وفي الواقع فإنّه خدمةً كبرى لدينهم، لأنّ بخت نصر ملك بابل دمر اليهود تدميراً في واقعته المشهورة، وجعل مُدُنَهم، تحت سيطرة جنوده فأبادوها، وهدموا معابدهم، وأحرقوا توراتهم، وقتلوا رجالهم، وسبوا نساءهم، وأسروا أطفالهم، وجي ء بهم إلى بابل فمكثوا هناك حوالي قرن.

ولمّا فتح كورش ملك فارس بابل جاءه عزرا، وكان من أكابر اليهود، فاستشفعه في اليهود فشفّعه فيهم، فرجعوا إلى ديارهم وكتب لهم التّوراة- ممّا بقي في ذهنه من أسلافه اليهود وما كانوا قد حدّثوا به- من جديد. ولذلك فهم يحترمونه أيما احترام، ويعدّونه منقذهم ومحيي شريعتهم. وكان هذا الأمر سبباً أن تلقبه جماعة منهم ب «ابن اللَّه».

وفي الآية التالية إشارة إلى شركهم العملي في قبال الشرك الإعتقادي، أو بعبارة اخرى إشارة إلى شركهم في العبادة، إذ تقول الآية: «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ». «الأحبار» جمع حبر، ومعناه العالم، و «الرهبان» جمع راهب وتطلق على من ترك دنياه وسكن الدير وأكبّ على العبادة.

وممّا لا شك فيه أنّ اليهود والنصارى لم يسجدوا لأحبارهم ورهبانهم، لكن لما كانوا منقادين لهم بالطاعة دون قيد أو شرط، بحيث كانوا يعتقدون بوجوب تنفيذ حتى الأحكام المخالفة لحكم اللَّه من قبلهم، فالقرآن عبّر عن هذا التقليد الأعمى باتخاذ ربّ.

وفي ختام الآية تأكيد على هذه المسألة، وهي أنّ جميع هذه العبادات للبشر بدعة، وهي من العبادات الموضوعة: «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهًا وَاحِدًا لَّاإِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحنَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 261

إنّ القرآن المجيد يعلّم أتباعه في الآية محل البحث درساً قيّماً جدّاً، ويبين واحداً من أبرز مفاهيم التوحيد فيها، إذ يقول: لا يحق

لأيّ مسلم طاعة إنسان آخر دون قيد أو شرط، لأنّ هذا الأمر مساو لعبادته، وجميع الطاعات يجب أن تكون في إطار طاعة اللَّه، وإنّما يصح إتباع الإنسان نظيره متى كانت قوانينه غير مخالفة لقوانين اللَّه، أيّاً كان ذلك الإنسان وفي أية مكانة أو منزلة.

وفي الآية الثالثه من الآيات محل البحث تشبيه طريف لسعي اليهود والنصارى، أو سعي جميع مخالفي الإسلام حتى المشركين، وجدّهم واجتهادهم المستمر «العقيم» الذي لا يعود عليهم بالنفع أبداً، إذ تقول الآية: «يُرِيدُونَ أَن يُطْفُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ».

ولا تعبير أبلغ من تعبير القرآن لتجسيد هذه المحاولات اليائسة، وفي الواقع فإنّ محاولات مخلوق ضعيف إزاء قدرة اللَّه التي لا نهاية لها، لا تكون أحسن حالًا ممّا ذكرته الآية.

الآية الأخيرة من الآيات محل البحث في نهاية المطاف تزف البُشرى للمسلمين باستيعاب الإسلام العالم بأسره، وتكمل ما أشارت إليه- آنفاً- أنّ أعداء الإسلام لن يفلحوا في محاولاتهم ومناوآتهم بوجه الإسلام أبداً، وتقول بصراحة: «هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ».

والمقصود من «الهدى» هو الدلائل الواضحة، والبراهين اللائحة الجلية التي وُجِدت في الدين الإسلامي.

وأمّا المراد من «دين الحق» فهو هذا الدين الذي اصوله حقة وفروعه حقة أيضاً، وكل ما فيه من تاريخ وبراهين ونتائج حق، ولا شك أنّ الدين الذي محتواه حق، ودلائله وبراهينه حقة، وتأريخه حق جلي، لابدّ أن يظهر على جميع الأديان.

وبمرور الزمان وتقدم العلم وسهولة الإرتباطات، فإنّ الواقع سيكشف وجهه ويطلعه من وراء سُدُل الإعلام المضللة، وستزول كل العقبات والموانع والسدود التي وضعت في طريق انتشار الإسلام.

وهكذا فإنّ دين الحق سيستوعب كل مكان، ولا يحول بينه وبين

تقدمه شي ء أبداً، لأنّ الحركات المضادة للإسلام حركات مخالفة لسير التاريخ وسنن الخلق.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 262

القرآن وظهور المهدي: إنّ الآية محل البحث عينها وبالالفاظ ذاتها، وردت في سورة الصف، الآية (9) كما وردت في الآية (28) من سورة الفتح باختلاف يسير؛ والآية تخبر عن حدث مهمّ كبير استدعت أهمّيته هذه أن تتكرر الآية في القرآن، وهذا الحدث الذي أخبرت عنه الآية هو استيعابُ الإسلام للعالم بأسره.

فمفهوم الآية إنتصار الإسلام كلياً- ومن جميع الجهات- على جميع الأديان، ومعنى هذا الكلام أنّ الإسلام سيُهيمن على الكرة الأرضية عامة، وسينتصر على جميع العالم.

ينقل الشيخ الصدوق رحمه الله في كتابه إكمال الدين عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال: «واللَّه ما نزل تأويلها بعدُ، ولا ينزل تأويلها حتى يخرج القائم، فإذا خرج القائم لم يبق كافر باللَّه العظيم».

كما في تفسير مجمع البيان عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «إنّ ذلك يكون عند خروج المهدي من آل محمّد، فلا يبقى أحد إلّاأقرّ بمحمّد».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَ الرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) كنز الأموال: كان الكلام في الآيات المتقدمة عن أعمال اليهود والنصارى المشوبة بالشرك، إذ كانوا يعبدون الأحبار والرهبان من دون اللَّه. الآية الاولى محل البحث تقول: إنّ اولئك مضافاً إلى كونهم غير جديرين بالالوهية فهم غير جديرين بقيادة الناس أيضاً، وخير دليل على ذلك أعمالهم

المتناقضة المضطربة. فالآية هنا تلتفت نحو المسلمين فتخاطبهم بالقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ».

لكن كيف يأكلون أموال الناس دون مسوّغ أو مجوز، فقد أشرنا سابقاً إلى ذلك في آيات اخرى كما ورد في التاريخ شي ء منه أيضاً، وذلك:

مختصر الامثل، ج 2، ص: 263

أوّلًا: إنّهم كتموا حقائق التعاليم التي جاء بها موسى عليه السلام في توراته وعيسى عليه السلام في إنجيله، لئلا يميل الناس إلى الدين الجديد، «الدين الإسلامي» فتنقطع هداياهم وتغدو منافعهم في خطر، كما أشارت إلى ذلك الآيات (41) و (79) و (174) من سورة البقرة.

والثاني: إنّهم بأخذهم «الرشوة» كانوا يقلبون الحق باطلًا والباطل حقاً، وكانوا يحكمون لصالح الأقوياء، كما أشارت إلى ذلك الآية (41) من سورة المائدة.

ومن أساليبهم غير المشروعة في أخذ المال هو ما يسمّى ب «صكوك الغفران وبيع الجنة» فكانوا يتسلمون أموالًا باهظة من الناس.

وأمّا صدّهم عن سبيل اللَّه فهو واضح، لأنّهم كانوا يحرفون آيات اللَّه، أو أنّهم كانوا يكتمونها رعاية لمنافعهم الخاصة.

وتعقيباً على موضوع حب اليهود والنصارى لدنياهم وأكل المال بالباطل، فإنّ القرآن يتحدث عن قانون كلي في شأن أصحاب المال وذوي الثراء، الذين يكنزون أموالهم، فيقول:

«وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشّرهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ».

فالآية محل البحث تحرم الكنز وجمع المال، والثروة، وتأمر المسلمين أن ينفقوا أموالهم في سبيل اللَّه وما فيه نفع عباد اللَّه، وأن يتجنبوا كنزها ودفنها وإبعادها عن تحرك السوق، وإلّا فلينتظروا «العذاب الأليم».

وهذا العذاب الأليم ليس جزاءهم في يوم القيامة فحسب، بل يشملهم في الدنيا- لإرباكهم الحالة الاقتصادية ولإيجاد الطبقية بين الناس «الفقير والغني» أيضاً.

متى يعدّ جمع الثروة كنزاً؟ وفق كثير من

الروايات أنّه يجب على الإنسان دفع زكاته سنوياً لا غير، فإذا دفع الإنسان زكاة سنته فلا يكون مشمولًا بحكم الكنز وإن جمع المال؟

ففي تفسير المنار عن ابن عباس قال: لمّا نزلت هذه الآية «وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ» كبر ذلك على المسلمين وقالوا: ما يستطيع أحد منا لولده ما لا يبقى بعده، ثم سألوا النبي صلى الله عليه و آله فقال: «إنّ اللَّه لم يفرض الزكاة إلّاليطيب بها ما بقي من أموالكم، وإنّما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم».

إلّا أنّنا نقرأ روايات اخرى في المصادر الإسلامية لا تنسجم ظاهراً- ولأوّل وهلة- والتفسير الآنف الذكر، ومنها ما ورد- في تفسير مجمع البيان- عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال:

«ما زاد على أربعة آلاف «1» فهو كنز أدّى زكاته أو لم يؤدّ، وما دونها فهو نفقة».

______________________________

(1) المقصود بها أربعة آلاف درهم لأنّها مخارج السنة.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 264

ويمكن الإستنتاج من مجموع الأحاديث- آنفة الذكر- منضمةً إليها الآية محل البحث، أنّه في الظروف الاعتيادية المألوفة، حيث يرى الناس آمنين، أو غير محدق بهم الخطر، والمجتمع في حال مستقر، فيكفي عندئذ دفع الزكاة وما تبقى لا يعد كنزاً.

وأمّا في الحالات غيرالطبيعية وغير الاعتيادية، وعندما يقتضي حفظ مصالح المجتمع الإسلامي ذلك، فإنّ الحكومة الإسلامية، تحدّد لجمع المال مقداراً، كما مرّ في حديث الإمام علي عليه السلام أو تطالب الناس بالكنوز وما جمعوه من المال كلياً.

جزاء من يكنز: في الآية التالية إشارة إلى واحد ممّا يحيق بمثل هؤلاء ممّن يكنز المال، في العالم الآخر، إذ تقول الآية: «يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ».

ويخاطبهم ملائكة العذاب وهم في هذه الحال: «هذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ».

وهذه

الآية توكّد مرّة اخرى هذه الحقيقة، وهي أنّ أعمال الإنسان لا تمضي سدى، بل تبقى وتتجسّد له يوم القيامة، وتكون مدعاة سروره أو مدعاة شقائه.

إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَ قَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَ اللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) وقف القتال الإجباري: لما كانت هذه السورة تتناول أبحاثاً مفصلةً حول قتال المشركين، فالآيتان محل البحث تشيران إلى أحد مقررات الحرب والجهاد في الإسلام، وهو إحترام الأشهر الحرم. فتقول الآية الاولى: «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِى كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرضَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 265

والتعبير ب «كتاب اللَّه» إشارة إلى كتاب الخلق وعالم الوجود.

فمنذ ذلك اليوم الذي استقرت عليه المجموعة الشمسية بنظامها الخاص حدثت السنين والأشهر، فالسنة عبارة عن دوران الأرض حول الشمس دورة كاملة والشهر دوران القمر حول الأرض دورة كاملة.

ثم تضيف الآية- آنفة الذكر- معقبّة: «مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ».

ثم تضيف الآية مؤكّدة: «ذلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ».

ويستفاد من بعض الروايات أنّ تحريم القتال في هذه الأشهر الحرم، كان مشرّعاً في الديانة اليهودية والمسيحية وسائر الشرائع السماوية، إضافة إلى شريعة إبراهيم الخليل عليه السلام.

ثم تقول الآية: «فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ».

إلّا أنّه لما كان تحريم هذه الأشهر قد يتخذ ذريعة من قبل العدو لمهاجمة المسلمين فيها، فقد عقبت الآية بالقول: «وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ

كَافَّةً». فبالرغم من أنّ هؤلاء مشركين، والشرك أساس التشتت والتفرقة، إلّاأنّهم يقاتلونكم في صف واحد «كافة» فينبغي عليكم أن تقاتلوهم كافة، فذلك منكم أجدر لأنّكم موحدون فلابد من توحيد كلمتكم أمام عدوكم ولتكونوا كالبنيان المرصوص.

وتختتم الآية بالقول: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ».

وفي الآية الثانية- من الآيتين محل البحث- إشارة إلى إحدى السنن الخاطئة في الجاهلية، وهي سنة النسي ء «تغيير الأشهر الحرم» إذ تقول الآية: «إِنَّمَا النَّسِى ءُ زِيَادَةٌ فِى الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا» ففي أحد الاعوام يقرّرون حليّة الشهر الحرام ويحرمون أحد الأشهر الحلال للمحافظة على العدد أربعة «يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ». فهؤلاء يضيعون بتصرفهم هذا فلسفة تحريم الأشهر، ويتلاعبون بحكم اللَّه بحسب ما تمليه عليهم أهوائهم، والعجيب أنّهم يرضون عن عملهم، وفعلهم هذا كما تقول الآية: «زُيّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ». فهم يغيرون الأشهر الحرم ويبدلونها، ويعدّون ذلك تدبيراً لحياتهم ومعاشهم، أو يتصورون أنّ طول فترة إيقاف القتال يقلل من حماس المقاتلين فلابد من إثارة الحرب.

فاللَّه سبحانه إذا علم أنّ في عباده من ليس أهلًا للهداية والتوفيق، خلاه ونفسه: «وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 266

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِنْ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لَا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (39)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قالوا لما رجع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من (الطائف)، أمر بالجهاد لغزوة الروم، وذلك في زمان إدراك الثمار، فأحبّوا المقام

في المسكن والمال، وشقّ عليهم الخروج إلى القتال، وكان صلى الله عليه و آله قلّما خرج في غزوة إلّاكنّى عنها وورّى بغيرها إلّا (غزوة تبوك)، لبعد شقتها، وكثرة العدو، ليتأهب الناس، فأخبرهم بالذي يريد، فلما علم اللَّه سبحانه تثاقل الناس، أنزل الآية.

التّفسير

كما أشرنا آنفاً في شأن نزول الآيتين، فإنّهما نزلتا في غزوة «تبوك».

وتبوك منطقة بين المدينة والشام، وتعدّ الآن من حدود الحجاز، وكانت آنئذ على مقربة من أرض الروم الشرقية المتسلطة على الشامات «1».

وقد حدثت هذه الواقعة في السنة التاسعة للهجرة، أي بعد سنة من فتح مكة تقريباً.

ففي الآية الاولى- من الآيتين محل البحث- يدعو القرآن المسلمين إلى الجهاد بلسان الترغيب تارة وبالعتاب تارة اخرى وبالتهديد ثالثة فهو يدعوهم ويهيؤهم إلى الجهاد، ويدخل إليهم من كل باب. إذ تقول الآية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ».

ثمّ تقول الآية مخاطبة إيّاهم بلهجة الملامة: «أَرَضِيتُم بِالْحَيَوةِ الدُّنْيَا مِنَ الْأَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا فِى الْأَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ».

فكيف يتسنى للإنسان العاقل أن يساوم مساومة الخُسران، وكيف يعوّض متاعاً غالياً

______________________________

(1) الفاصلة بين تبوك والمدينة 610 كم والفاصلة بينها وبين الشام 692 كم.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 267

لا يزول بمتاع زائل لا يعد شيئاً؟!

ثم تتجاوز الآية مرحلة الملامة والعتاب إلى لهجة أشدّ وأسلوب تهديدي جديد، فتقول:

«إِلَّا تَنفِرُوا يُعِذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا».

فإذا كنتم تتصورون أنّكم إذا توليتم وأعرضتم عن الذهاب إلى سوح الجهاد، فإنّ عجلة الإسلام ستتوقف وينطفى ء نور الإسلام، فأنتم في غاية الخطأ واللَّه غني عنكم «وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ» قوماً أفضل منكم من كل جهة، لا من حيث الشخصية فحسب، بل من حيث الإيمان والإرادة والشهامة والإستجابة والطاعة «وَلَا تَضُرُّوهُ شَيًا».

وهذه حقيقة

وليست ضرباً من الخيال أو أمنية بعيدة المدى، فاللَّه عزيز حكيم: «واللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

إِنْ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَ جَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) المدد الإلهي للرسول في أشد اللحظات: كان الكلام في الآيات المتقدمة عن موضوع الجهاد ومواجهة العدو، وكما أشرنا فقد جاء الكلام عن الجهاد مؤكّداً بعدّة طرق، من ضمنها أنّه لا ينبغي أن تتصوروا أنّكم إذا تقاعستم من الجهاد ونصرة النبي صلى الله عليه و آله فستذهب دعوته والإسلام أدراج الرياح. فالآية محل البحث تعقّب على ما سبق لتقول: «إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ».

وكان ذلك عندما تآمر مشركو مكة على اغتيال النبي صلى الله عليه و آله وقتله، وقد مرّ بيان ذلك في ذيل الآية (30) من سورة الأنفال بالتفصيل.

ولكن النبي صلى الله عليه و آله اطّلع- بأمر اللَّه- على هذه المكيدة، فتهيأ للخروج من (مكة) والهجرة إلى (المدينة).

وقد سعى الأعداء سعياً حثيثاً للعثور على النبي، إلّاأنّهم عادوا آيسين، وبعد بضعة أيّام وصل صلى الله عليه و آله المدينة سالماً، وبدأت مرحلة جديدة من تأريخ الإسلام هناك.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 268

فالآية آنفة الذكر تشير إلى أشدّ اللحظات حرجاً في هذا السفر التاريخي، فتقول: «إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا» وبالطبع فإنّهم لم يريدوا إخراجه بل أرادوا قتله، لكن لما كانت نتيجة المؤامرة خروج النبي صلى الله عليه و آله من مكة فراراً منهم، فقد نسبت الآية إخراجه إليهم.

ثم تقول: كان ذلك في حال هو «ثَانِىَ

اثْنَيْنِ».

وهذا التعبير إشارة إلى أنّه لم يكن معه في هذا السفر الشاق إلّارجل واحد، وهو أبو بكر «إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ». أي غار ثور، فاضطرب أبو بكر وحزن فأخذ النبي صلى الله عليه و آله يسرّي عنه، وكما تقول الآية: «إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَاتَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا».

ولعل هذه الجنود الغيبية هي الملائكة التي حفظت النبي صلى الله عليه و آله في سفره الشاق المخيف، أو الملائكة التي نصرته في معركتي بدر وحنين وأضرابهما.

«وَجَعَلَ كَلِمَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا».

وهي إشارة إلى أنّ مؤامراتهم قد باءت بالخيبة والفشل وحبطت أعمالهم وآراؤهم، وشعّ نور اللَّه في كل مكان، وكان الإنتصار في كل موطن حليف محمّد صلى الله عليه و آله، ولم لا يكون الأمر كذلك «وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ». فبعزته وقدرته نصر نبيه، وبحكمته أرشده سبل الخير والتوفيق والنجاح.

انْفِرُوا خِفَافاً وَ ثِقَالًا وَ جَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَ سَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَ لكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) الكسالى الطامعون: قلنا: إنّ معركة تبوك كانت لها حالة استثنائية، وكانت مقترنة بمقدمات معقّدة وغامضة تماماً، ومن هنا فإن عدداً من ضعاف الإيمان أو المنافقين أخذ «يتعلّل» في الإعتذار عن المساهمة في هذه المعركة. وقد وردت في الآيات المتقدمات ملامة للمؤمنين من قبل اللَّه سبحانه، وتعقيباً على هذا الكلام يدعو المؤمنين جميعاً مرّة اخرى- دعوة عامة- نحو الجهاد ويعنف المتسامحين فيقول سبحانه: «انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 269

«الخفاف»: جمع الخفيف؛ «الثقال»: جمع

الثقيل، ولهاتين الكلمتين مفهوم شامل يستوعب جميع حالات الإنسان. أي انفروا في أيّة حالة كنتم شباباً أم شيوخاً، تعولون أحداً أم لا تعولون، أغنياءً أم فقراء، أصحابَ تجارة أو زراعة أم لستم من اولئك.

ثم تضيف الآية قائلة: «وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ». أي جهاداً مطلقاً عاماً من جميع الجهات، لأنّهم كانوا يواجهون عدوّاً قويّاً مستكبراً.

ولئلا يتوهّم أحد أنّ هذه التضحية يريدها اللَّه لنفسه ولا تنفع أصحابها، فإنّ الآية تضيف قائلة: «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ». أي إن كنتم تعلمون بأنّ الجهاد مفتاح عزتكم ورفعتكم ومنعتكم.

وإن كنتم تعلمون بأنّ سبيل الوصول إلى مرضاة اللَّه والسعادة الأبدية وأنواع النعم والمواهب الإلهية، كل ذلك إنّما هو في هذه النهضة المقدسة العامة والتضحية المطلقة.

ثم يتناول القرآن ضعاف الإيمان الكسالى الذين يتشبثون بالحجج الواهية للفرار من ساحة القتال، فيخاطب النبي مبيّناً واقعهم فيقول: «لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَّاتَّبَعُوكَ وَلكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ» «1».

والعجيب أنّهم لا يكتفون بالأعذار الواهية، بل «وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ». فعدم ذهابنا إلى ساحات القتال إنّما هو لضعفنا وعدم اقتدارنا وابتلائنا! «يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ».

فهم قادرون على الذهاب إلى ساحات القتال، لكن حيث إنّ السفر ذو مشقة، ويواجهون صعوبةً وحرجاً، فإنّهم يتشبثون بالكذب والباطل. ولم يكن هذا الأمر منحصراً بغزوة تبوك وعصر النبي صلى الله عليه و آله فحسب، ففي كل مجتمع فئة من الكسالى والمنافقين والطامعين والانتهازيين الذين ينتظرون لحظات الإنتصار ليقحموا أنفسهم في الصفوف الاولى، ويصرخوا بعالي الصوت أنّهم المجاهدون الأوائل والمخلصون البواسل، ليصادروا ثمرات جهود الآخرين في إنتصارهم دون أن يبذلوا أيّ جهد!

غير أنّ هؤلاء «المجاهدين» المخلصين! كما يزعمون، حين يواجهون الشدائد والأزمات يلوذون بالفرار ويتشبثون

بالأعذار الباطلة والحجج الواهية، كأن يقول أحدهم: إنّي

______________________________

(1) «العَرَض»: ما يعرض ويزول عاجلًا ولا دوام له، ويطلق عادةً على مواهب الدنيا المادية؛ و «القاصد»: معناه السهل، لأنّه في الأصل من قصد، والناس يسعون في قصدهم إلى المسائل السهلة.

«الشقة»: تعني الأرض الصخرية أو الطريق الطويل البعيد الذي يجلب على عابره المشقة والنصب.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 270

مريض، ويقول الآخر: إنّي مبتلىً بطفلي، ويقول الثالث: زوجي مُقرب وعلى وشك الولادة، ويقول الرابع: يا ليتني كنت معكم لولا ضعف في عينيّ لا أبصر بهما، ويقول الخامس: أنا أتدارك مقدمات الأمر وأنا على أثركم، وهكذا .... إلّا أنّ على القادة والصفوة من الناس أن يعرفوا هذه الفئة من بداية الأمر، وإذا لم يكونوا أهلًا للإصلاح فينبغي إخراجهم وطردهم من صفوف المجاهدين.

عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) التعرّف على المنافقين: يستفاد من الآيات- محل البحث- أنّ جماعة من المنافقين جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه و آله وبعد أن تذرعوا بحجج واهية مختلفة- حتى أنّهم أقسموا على صدق مدعاهم- إستأذنوا النبي في الانصراف عن المساهمة في معركة تبوك، فأذن لهم النبي بالإنصراف. فاللَّه سبحانه يعتب على النبي في الآية الاولى من الآيات محل البحث فيقول:

«عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ».

وهناك كلام طويل بين المفسّرين في المراد من عتاب اللَّه نبيّه المشفوع بالعفو عنه، أهو دليل على أنّ إذن النبي

صلى الله عليه و آله كان مخالفة، أم هو من باب ترك الاولى؟!

يُحتمل في تفسير الآية هو أنّ العتاب أو الخطاب المذكور آنفاً إنّما هو على سبيل الكناية، ولم يكن في الأمر حتى «ترك الاولى» بل المراد بيان روح النفاق في المنافقين ببيان لطيف وكناية في المقام.

ويمكن أن يتّضح هذا الموضوع بذكر مثال، فلنفرض أنّ ظالماً يريد أن يلطم وجه ابنك، إلّا أنّ أحد أصدقائك يحول بينه وبين مراده فيمسك يده، فقد تكون راضياً عن سلوكه هذا، بل وتشعر بالسرور الباطني، إلّاأنّك ولإثبات القبح الباطني للطرف المقابل تقول لصديقك:

لم لا تركته يضربه على وجهه ويلطمه؟ وهدفك من هذا البيان إنّما هو إثبات قساوة قلب هذا الظالم ونفاقه، الذي ورد في ثوب عتاب الصديق وملامته من قِبَلك.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 271

ثم يتناول القرآن أحد علامات المؤمنين والمنافقين، فيقول: «لَايَسْتْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ».

بل ينهضون مسرعين دون سأم أو ملل عند صدور الأمر بالجهاد ويدعوهم الإيمان باللَّه واليوم الآخر ومسؤولياتهم وإيمانهم بمحكمة القيامة، كل ذلك يدعوهم إلى هذا الطريق ويوصد بوجوههم الأعذار والحجج الواهية: «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ».

ثمّ يضيف القرآن: «إِنَّمَا يَسْتْذِنُكَ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ».

ويعقّب مؤكّداً عدم إيمانهم بالقول: «وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ».

وهاتان العلامتان لا تختصان بالمؤمنين والمنافقين في صدر الإسلام ومعركة تبوك فحسب، بل يمكن في عصرنا الحاضر أن نميز المؤمنين الصادقين من المدّعين الكاذبين بهاتين الصفتين. فالمؤمن شجاع ذو إرادة وتصميم وخطى واثقة، والمنافق جبان وخائف ومتردد وحائر ويبحث عن المعاذير دائماً.

وَ لَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَ لكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَ قِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا

وَ لَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَ فِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَ قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَ ظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَ هُمْ كَارِهُونَ (48) عدم وجودهم أفضل: في الآية الاولى- من الآيات أعلاه- بيان لعلامة اخرى من علائم كذبهم، وهي في الحقيقة تكمل البحث الوارد في الآيات المتقدمة آنفاً، إذ جاء فيها «وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ». فالآية محل البحث تقول: «وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً» ولم ينتظروا الإذن لهم: «وَلكِن كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ» «1».

هذا أمر تكويني نهض من باطنهم المظلم، وإنّه مقتضى عقيدتهم الفاسدة وأعمالهم القبيحة، ويستفاد من الآية محل البحث أنّ لكل عمل ونيّة اقتضاءً يُبتلى به الإنسان شاء أم

______________________________

(1) «ثبّطهم»: مشتق من التثبيط ويعني الوقوف بوجه العمل المزمع إجراؤه بوجه من الوجوه.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 272

أبى، وليس لكل أحد قابلية السير في سبيل اللَّه وتحمّل الأعباء الكبرى، بل هو توفيق من قِبَل اللَّه يوليه من يجد فيه طهارة النية والإستعداد والإخلاص. وفي الآية التالية إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ عدم مساهمة مثل هؤلاء الأفراد في ساحة الجهاد ليس مدعاة للتأثر والأسف فحسب، بل لعله مدعاة للسرور، والآية تعطي درساً للمسلمين أن لا يكترثوا بكثرة المقاتلين أو قلّتهم وكميتهم وعددهم، بل عليهم أن يفكروا في اختيار المخلصين المؤمنين وإن كانوا قلّة، فهذا درس لمسلمي الماضي والحاضر والمستقبل. وتقول الآية: «لَوْ خَرَجُوا فِيكُم». أي إلى تبوك للقتال «مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا».

فبناءً على ذلك فإنّ حضورهم بتلك الروحية الفاسدة المقرونة بالتردد والنفاق لا أثر له سوى إيجاد الشك والتردد وتثبيط العزائم بين جنود الإسلام.

وتضيف الآية قائلة: «وَلَأَوْضَعُوا خِللَكُمْ

يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ» «1».

ثم تنذر المسلمين من المتأثرين بهم في صفوف المسلمين: «وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ».

فبناءً على ذلك فإنّ وظيفة المسلمين الراسخين في الإيمان مراقبت مثل هؤلاء الضعفاء لئلا يقعوا فريسة المنافقين الذئاب. والمراد من السمّاع في الآية هو الجاسوس الذي يتجسّس بين المسلمين ويجمع الأخبار للمنافقين.

وتُختتم الآية بالقول: «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ».

وفي آخر آية من الآيات محل البحث إنذار للنبي صلى الله عليه و آله بأنّ هؤلاء المنافقين لم يبادروا لأوّل مرّة إلى التخريب والتفرقة وبذر السموم، بل ينبغي أن تتذكر- يا رسول اللَّه- أنّ هؤلاء ارتكبوا من قبل مثل هذه الامور وهم يتربصون الفرص الآن لينالوا مُناهم «لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ».

وهذه الآية تشير إلى ما جرى في معركة احد حيث رجع عبداللَّه بن أبي وأصحابه وانسحبوا وهم في منتصف الطريق، أو أنّها تشير إلى مؤامرات المنافقين عامة التي كانوا يكيدونها للنبي صلى الله عليه و آله أو للمسلمين، ولم يغفل التاريخ أن يسجلها على صفحاته.

«وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ» وخطّطوا للإيقاع بالمسلمين، أو لمنعهم من الجهاد بين يديك، إلّا أنّ كل تلك المؤامرات لم تفلح، وإنما رَقَموا على الماء ورشقوا سهامهم على الحجر «حَتَّى جَاءَ

______________________________

(1) «أوضعوا»: من مادة الإيضاع ومعناه، الإسراع في الحركة، ومعناه هنا الإسراع في النفوذ بين صفوف المقاتلين، و «الفتنة»: هنا بمعنى التفرقة واختلاف الكلمة.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 273

الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ». غير أنّ مشيئة العباد وإرادتهم لا أثر لها إزاء مشيئة اللَّه وإرادته، فقد شاء اللَّه أن ينصرك وأن يُبلغ رسالتك إلى أصقاع المعمورة، ويزيل العراقيل والموانع عن منهاجك، وقد فعل.

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَ لَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)

سبب النّزول

في

تفسير مجمع البيان: قيل: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لما استنفر الناس إلى تبوك، قال: «إنفروا لعلكم تغنمون بنات الأصفر». فقام جد بن قيس، أخو بني سلمة من بني الخزرج، فقال يا رسول اللَّه! ائذن لي، ولا تفتنّي ببنات الأصفر، فإنّي أخاف أن افتتن بهنّ. فقال: «قد أذنت لك». فأنزل اللَّه تعالى «وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّى وَلَا تَفْتِنّى» الآية.

فلما نزلت هذه الآية قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لبني سلمة: «من سيّدكم»؟ قالوا: جدّ بن قيس غير أنّه بخيل جبان! فقال صلى الله عليه و آله: «وأيّ داء أدوي من البخل، بل سيدكم الفتى الأبيض الجعد بشر بن البراء بن المعرور».

التّفسير

المنافقون المتذرّعون: يكشف شأن النزول المذكور أنّ الإنسان متى أراد أن يتنصل من تحمل المسؤولية يسعى للتذرّع بشتى الحيل. فإنّ القرآن يوجه الخطاب للنبي صلى الله عليه و آله ليردّ على مثل هذه الذرائع المفضوحة قائلًا: «وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّى وَلَا تَفْتِنّى» بالنساء والفتيات الروميات الجميلات.

ولكن القرآن يقول مجيباً عليه وأمثاله: «أَلَا فِى الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ». أي إنّ أمثال اولئك الذين تذرّعوا بحجّة الخوف من الذنب- هم الآن واقعون فيه فعلًا، وأن جهنم محيطة بهم، لأنّهم تركوا ما أمرهم اللَّه ورسوله به وراء ظهورهم وانصرفوا عن الجهاد بذريعة الشبهة الشرعية!

مختصر الامثل، ج 2، ص: 274

إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَ يَتَوَلَّوْا وَ هُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ

عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) في الآيات- آنفة الذكر- إشارة إلى إحدى صفات المنافقين وعلاماتهم وبهذا تتابع البحث الذي يتناول صفات المنافقين في ذيل الآيات المتقدمة والآيات اللاحقة.

تقول الآيات أوّلًا: «إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ».

وهذه المساءة دليل على العداوة الباطنية وفقدان الإيمان.

ولكنهم على خلاف هذه الحال عند الشدة والخطب: «وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَّهُمْ فَرِحُونَ».

هؤلاء المنافقون عُمي القلوب ينتهزون أيّة فرصة لصالحهم ومنافعهم، ويزعمون أن ما نالوه كان بتدبيرهم وعقلهم، إذ لم نُساهم في المعركة الفلانية ولم نقع في أيّ مأزق! كما ابتلي به الآخرون الذين لم يكن لهم نصيب من التعقل والتدبر، وبهذه المزاعم يعودون إلى أوكارهم وهم يكادون أن يطيروا فرحاً.

ولكنك- يا رسول اللَّه- عليك أن تردّ عليهم بجواب منطقي متين وذلك:

أوّلًا: «قُلْ لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلنَا». أجَلْ فلا يريد بنا إلّاالخير والصلاح: «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ». فهم يعشقون اللَّه فحسب، ومنه يطلبون المدد والعون، ويتوكلون عليه ويلتجئون إليه عند الخطوب.

ثانياً: «قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ». فإمّا أن نُبير الأعداء في ساحة الحرب ونُبيدهم ونعود منتصرين، أو نُقتل فننهل ورد الشهادة العذب، فكلاهما محبّب لنا ومصدر افتخارنا.

وهكذا يختلف حالنا عن حالكم، فنحن نتوقع لكم مساءتين: إمّا أن تصيبكم سهام البلايا والمصائب والعقوبات الإلهية سواء في الدنيا أو الآخرة، أو يكون هلاككم على أيدينا:

مختصر الامثل، ج 2، ص: 275

«وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبّصُونَ». تربصوا غبطتنا وسعادتنا ونحن نتربص شقاءكم وسوء عاقبتكم.

قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ (53) وَ مَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ

إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ بِرَسُولِهِ وَ لَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَ هُمْ كُسَالَى وَ لَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَ هُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَ لَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كَافِرُونَ (55) تشير هذه الآيات إلى قسم آخر من علامات المنافقين وعواقب أعمالهم ونتائجها، وتبيّن بوضوح كيف أن أعمالهم لا أثر لها ولا قيمة، ولا تعود عليهم بأيّ نفع.

ولمّا كان- من بين الأعمال الصالحة- الإنفاق في سبيل اللَّه «الزكاة بمعناها الواسع» والصلاة «وهي العلاقة بين الخلق والخالق»- لهما موقع خاص، فقد اهتمّت الآيات بهذين القسمين اهتماماً خاصاً. تخاطب الآيات النبي الكريم فتقول: «قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ».

ثم تشير الآية إلى سبب ذلك فتقول: «إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ». فنيّاتكم غير خالصة، وأعمالكم غير طاهرة، وقلوبكم مظلمة، وإنّما يتقبل اللَّه العمل الطاهر من الورع التقي.

والمراد من «الفسق» هنا الكفر والنفاق، أو تلوّث الإنفاق بالرياء والتظاهر.

وفي الآية التالية يوضح القرآن مرّة اخرى السبب في عدم قبول نفقاتهم فيقول: «وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ».

والقرآن يعوّل كثيراً على أنّ قبول الأعمال الصالحة مشروط بالإيمان، حتى أنّه لو قام الإنسان بعمل صالح وهو مؤمن، ثمّ كفر بعد ذلك فإنّ الكفر يحبط عمله ولا يكون له أي أثر.

وبعد أن أشار القرآن إلى عدم قبول نفقاتهم، يشير إلى حالهم في العبادات فيقول: «وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَوةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى كما أنّهم «وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ».

وأنّ نفقاتهم لا تقبل لسببين:

الأوّل: هو أنّهم «كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 276

والثاني: أنّهم إنّما ينفقون عن كره وإجبار.

كما أنّ صلواتهم لا تُقبل لسببين أيضاً:

الأوّل: لأنّهم «كَفَرُوا بِاللَّهِ

...».

والثاني: أنّهم «لَايَأْتُونَ الصَّلَوةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى .

وفي آخر آية من الآيات محل البحث يتوجه الخطاب نحو النبي قائلًا: «فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوَلدُهُمْ».

فهي وإن كانت نعمةً بحسب الظاهر، إلّاأنّه: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُم بِهَا فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ».

وفي الواقع فإنّهم يعذبون عن طريقين بسبب هذه الأموال والأولاد، أي القوة الاقتصادية والإنسانية:

فالأوّل: إنّ مثل هؤلاء الأبناء لا يكونون صالحين عادة، ومثل هذه الأموال لا بركة فيها، فيكونان مدعاة قلقهم وألَمِهِم في الحياة الدنيا، إذ عليهم أن يسعوا ليل نهار من أجل أبنائهم الذين هم مدعاة أذاهم وقلقهم، وأن يجهدوا أنفسهم لحفظ أموالهم التي اكتسبوها عن طريق الإثم والحرام.

والثاني: لما كانوا متعلقين بهذه الأموال والأولاد، ولا يؤمنون بالحياة بعد الموت ولا بالدار الآخرة الواسعة ولا بنعيمها الخالد، فليس من الهيّن أن يغمضوا عن هذه الأموال والذرية، وبالتالي يخرجون من هذه الدنيا- بحال مزرية وفي حال الكفر.

فالمال والبنون قد يكونان موهبة وسعادة ومدعاة للرفاه والهدوء والاطمئنان والدعة إذا كانا طاهرين طيبين وإلّا فهما مدعاة العذاب والشقاء والألم.

وَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَ لكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَ هُمْ يَجْمَحُونَ (57) علامة اخرى للمنافقين: ترسم الآيتان أعلاه حالة اخرى من أعمال المنافقين بجلاء، إذ تقول الآية الاولى: «وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مّنكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ» ومن شدّة خوفهم وَفَرقِهم يخفون كفرهم ويظهرون الإيمان.

و الآية التالية تصوّر شدّة عداوة المنافقين للمؤمنين ونفورهم منهم، في عبارة موجزة إلّا أنّها في غاية المتانة والبلاغة، إذ تقول: «لَوْ يَجِدُونَ مَلْجًا أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَّوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 277

فهذه الآية واحدة

من أبلغ الآيات والتعابير التي يسوقها القرآن في وصف المنافقين، وبيان هلعهم وخوفهم وبغضهم إخوانهم المؤمنين، بحيث لو كان لهم سبيل للفرار من المؤمنين، ولو على قمم الجبال أو تحت الأرض، لَولّوا إليه وهم يجمحون، ولكن ما عسى أن يفعلوا مع الروابط التي تربطهم معكم من القبيلة والأموال والثروة، كل ذلك يضطرهم إلى البقاء على رغم أنوفهم.

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ قَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ رَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)

سبب النّزول

في تفسير الدرّ المنثور عن أبي سعيد الخدري قال: بينما النبي صلى الله عليه و آله يقسم قسماً- وقال ابن عباس: كانت غنائم هوازن يوم حنين- إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي فقال: اعدل يا رسول اللَّه. فقال: «ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل». فقال عمر: يا رسول اللَّه إئذن لي فأضرب عنقه! فقال النبي صلى الله عليه و آله: «دعه فإنّ له أصحاباً يحتقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فينظر في قذذه فلا يوجد فيه شي ء ثم ينظر في نصله فلا يوجد فيه شي ء ...» فنزلت فيهم الآيتان.

التّفسير

الأنانيون السفهاء: في الآية الاولى أعلاه إشارة إلى حالة اخرى من حالات المنافقين، وهي أنّهم لا يرضون أبداً بنصيبهم. فمتى مُلئت جيوبهم رضوا (عن صاحبهم) ومتى ما اعطوا حقهم وروعي العدل في ايتاء الآخرين حقوقهم سخطوا عليه. لذا فإنّ الآية تقول:

«وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِى الصَّدَقَاتِ». لكنهم ينظرون إلى منافعهم الخاصة: «فَإِن أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا

إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ».

فهؤلاء يرون أنّ النبي صلى الله عليه و آله غير منصف ولا عادل، ويتهمونه في تقسيمه المال!

«وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا ءَاتهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 278

إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَ الْمَسَاكِينِ وَ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقَابِ وَ الْغَارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) موارد صرف الزكاة ودقائقها: في تاريخ صدر الإسلام مرحلتان يمكن ملاحظتهما بوضوح، إحداهما في مكة، حيث كان هدف النبي صلى الله عليه و آله والمسلمين فيها تعليم الأفراد وتربيتهم ونشر التعاليم الإسلامية. والثانية في المدينة، حيث أقدم النبي صلى الله عليه و آله على تشكيل حكومة إسلامية أجرى من خلالها الأحكام والتعاليم الإسلامية.

ومما لا شك فيه أنّ أوّل وأهم مسألة واجهت تشكيل الحكومة هي إيجاد بيت المال، إذ عن طريقه تُؤمّن حاجات الدولة الاقتصادية، وهي حاجات طبيعية توجد في كل دولة بدون استثناء، ومن هنا كان إيجاد بيت المال من أوائل أعمال النبي صلى الله عليه و آله في المدينة، وتشكل الزكاة أحد موارده، وعلى المشهور فإنّ هذا الحكم شُرّع في السنة الثانية للهجرة النبوية.

إنّ الآية التي نبحثها قد بيّنت الموارد الحقيقية التي تصرف فيها الزكاة، وأنهت التوقعات غير المنطقية وحددت موارد صرف الزّكاة في ثمانية أصناف:

1- الفقراء.

2- المساكين: وسيأتي البحث عن الفرق بين الفقير والمسكين.

3- العاملين عليها: وهم الذين يسعون في جباية الزكاة، وإدارة بيت المال.

4- المؤلفة قلوبهم: وهم الذين لا يوجد لديهم الحافز والدافع المعنوي القوي من أجل النهوض بالأهداف الإسلامية وتحقيقها، ولكن ويمكن استمالتهم بواسطة بذل المال لهم، والاستفادة منهم في

الدفاع عن الإسلام وتحكيم دولته، وإعلاء كلمته.

وكما جاء في المباحث الفقهية، فإنّ لهذه الآية، وكذلك للروايات الواردة في هذا الموضوع مفهوماً واسعاً، ولهذا فإنّها تشمل كل من يمكن استمالته من أجل نفع وتحكيم الإسلام، ولا دليل على تخصيصها بالكفار.

5- في الرقاب: وهذا يعني أن قسماً من الزكاة يخصّص لمحاربة العبودية والرق وإنهاء هذه الحالة غير الإنسانية.

6- الغارمون: وهم الذين عجزوا عن أداء ديونهم، ولم يكن هذا العجز نتيجة لتقصيرهم.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 279

7- في سبيل اللَّه: والمراد منه جميع السبل التي تؤدّي إلى تقوية ونشر الدين الإلهي، وهي أعم من مسألة الجهاد والتبليغ وأمثالها.

8- ابن السبيل: وهم الذين تخلفوا في الطريق لعلة ما، وليس معهم من الزاد والراحلة ما يوصلهم إلى بلدانهم أو إلى الجهة التي يقصدونها، حتى ولو لم يكونوا فقراء في واقعهم، لكنهم افتقروا الآن نتيجة سرقة أموالهم أو مرضهم أو لأسباب أخر.

وفي خاتمة الآية نلاحظ التأكيد على صرفها في الجهات السابقة، ولذلك قال سبحانه:

«فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ» ولا شك أنّ هذه الفريضة قد حُسبت بصورة دقيقة جدّاً، وبصورة تحفظ مصالح الفرد والمجتمع، لأنّ «وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».

بحثان

1- الفرق بين الفقير والمسكين: إنّ «الفقير» هو الشخص الذي يعاني من حاجة مالية في حياته ومعاشه مع أنّه يعمل ويكتسب، لكنه لا يسأل أحداً مطلقاً رغم حاجته لعفته وعزّة نفسه، أمّا «المسكين» فهو أشد حاجة من الفقير، وهو العاجز عن العمل، فهو مضطر لأنّ يستعطي الناس ويسألهم.

2- دور الزكاة في الإسلام: إذا علمنا أنّ الإسلام ظهر إلى الوجود كدين وقانون كامل وشامل عولجت فيه كل الحاجات المادية والمعنوية في الحياة، وكذلك إذا علمنا أنّ تشكيل وتأسيس الدولة الإسلامية قد لازم ظهور الإسلام منذ عصر النبي الأكرم

صلى الله عليه و آله وإذا علمنا أنّ الإسلام يهتم اهتماماً خاصاً بنصرة المحرومين ومكافحة الطبقية في المجتمع اتضح لنا أنّ دور بيت المال والزكاة التي تشكل أحد موارده، من أهم الأدوار.

لا شك أنّ في كل مجتمع أفراداً عاجزين عن العمل، مرضى، يتامى، معوقين، وأمثالهم، وهؤلاء يحتاجون حتماً إلى من يحميهم ويرعاهم ويقوم بشؤونهم، وكذلك يحتاج هذا المجتمع إلى جنود مضحين من أجل حفظ وجوده وكيانه، أمّا مصاريف هؤلاء الجنود ونفقاتهم فإنّ الدولة هي التي تلتزم بتأمينها ودفعها إليهم.

وعلى هذا الأساس أولى الإسلام الزكاة- التي تعتبر نوعاً من الضرائب على الإنتاج والأرباح وعلى الأموال الراكدة- اهتماماً خاصاً، حتى أنّه اعتبرها من أهم العبادات، وقد ذكرت- جنباً إلى جنب- مع الصلاة في كثير من الموارد، بل إنّه اعتبرها شرطاً لقبول الصلاة.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 280

مختصر الامثل ج 2 300

وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)

سبب النّزول

هذا حسن لا قبيح: في تفسير مجمع البيان قيل: نزلت في جماعة من المنافقين منهم الجلاس بن سويد بن صامت، وشأس بن قيس وجحش بن حمير ورفاعة بن عبد المنذر وغيرهم، قالوا ما لا ينبغي، فقال رجل منهم: لا تفعلوا فإنّا نخاف أن يبلغ محمّداً ما تقولون، فيوقع بنا. فقال الجلاس: بل نقول ما شئنا، ثم نأتيه فيصدقنا بما نقول، فإنّ محمّداً اذُن سامعة، فأنزل اللَّه الآية.

التّفسير

تتحدّث الآية- كما يفهم من مضمونها- عن فرد أو أفراد كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه و آله بكلامهم ويقولون أنّه اذن ويصدّق كل ما يقال له سريعاً:

«وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِىَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ».

هؤلاء المنافقون اعتبروا هذه الصفة- والتي هي سمة إيجابية للنبي صلى الله عليه و آله والتي يجب توفرها في أي قائد كامل- نقطة ضعف في سيرته ومعاملته صلى الله عليه و آله.

من هنا نلاحظ أنّ القرآن قد ردّهم مباشرة، وأمر النبي صلى الله عليه و آله أن يقول لهم بأنّه إذا كان يصغي لكلامكم، ويقبل أعذاركم، أو كما تظنون بأنّه اذُن، فإنّ ذلك في مصلحتكم ولمنفعتكم «قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ». فإنّه بذلك يحفظ ماء وجوهكم وشخصيتكم، ولا يجرح شعوركم وعواطفكم، وبذلك- أيضاً- يسعى لحفظ وحدتكم واتحادكم ومودتكم، ولو أراد أن يرفع الستار عن أفعالكم القبيحة، ويفضح الكاذبين على رؤوس الأشهاد، لضرّكم ذلك وشق عليكم.

ومن أجل أن لا يستغل المتتبعون لعيوب الناس ذلك، ولا يجعلون هذه الصفة وسيلة لتأكيد كلامهم، أضاف اللَّه تعالى أنّ النبي صلى الله عليه و آله يؤمن باللَّه ويطيع أوامره، ويصغي إلى كلام المؤمنين المخلصين ويقبله ويرتب عليه الأثر، «يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ». وهذا يعني أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان له طريقان واسلوبان في عمله:

مختصر الامثل، ج 2، ص: 281

أحدهما: الحفاظ على الظاهر والحيلولة دون هتك الأستار وفضح أسرار الناس.

والثاني: في مرحلة العمل، فقد كان صلى الله عليه و آله في البداية يسمع من كل أحد، ولا ينكر على أحد ظاهراً، أمّا في الواقع العملي فإنّه لا يعتني ولا يقبل إلّاأوامر اللَّه واقتراحات وكلام المؤمنين المخلصين، والقائد الواقعي يجب أن يكون كذلك فإن تأمين مصالح المجتمع لا يتم إلّا عن هذا الطريق، لذلك عبر عنه بأنّه رحمة للمؤمنين: «وَرَحْمَةٌ لّلَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ».

بقي هنا شي ء واحد، وهو أنّ هؤلاء الذين يؤذون النبي صلى الله عليه

و آله بكلامهم ويتتبعون أحواله لعلّهم يجدون عيباً يشهّرون به يجب أن لا يتصوروا أنّهم سوف يبقون بدون جزاء وعقاب، ولهذا قال تعالى في نهاية الآية: «وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: لمّا نزلت الآيات التي ذمت المتخلفين عن غزوة تبوك ووبختهم قالوا المنافقين: لئن كان ما يقول محمّد حقّاً فنحن شرٌّ من الحمير، وكان عندهم غلام من الأنصار يقال له عامر بن قيس، فقال: واللَّه إنّ ما يقول محمّد حق، وأنتم شرٌّ من الحمير، ثم أتى النبي صلى الله عليه و آله فأخبره فدعاهم فسألهم فحلفوا أنّ عامراً كذّاب، فنزلت الآية.

التّفسير

المنافقون والتظاهر بالحق: إنّ إحدى علامات المنافقين وأعمالهم القبيحة والتي أشار إليها القرآن مراراً هي إنكارهم الأعمال القبيحة والمخالفة للدين والعرف، وهم إنّما ينكرونها من أجل التغطية على واقعهم السي ء وإخفاء الصورة الحقيقية لهم، ولما كان المجتمع يعرفهم ويعرف كذبهم في هذا الإنكار فقد كانوا يلجؤون إلى الأيمان الكاذبة من أجل مخادعة الناس وإرضائهم.

وفي الآيات السابقة الذكر نرى أنّ القرآن المجيد يكشف الستار عن هذا العمل القبيح ليفضح هؤلاء من جهة، ويحذّر المسلمين من تصديق الأيمان الكاذبة من جهة اخرى. في البداية يخاطب القرآن الكريم المسلمين وينبههم إلى أنّ هدف هؤلاء من القَسَم هو إرضاؤكم «يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 282

فلو كان هدفهم هو إرضاء المؤمنين الحقيقيين عنهم، فإنّ إرضاء اللَّه ورسوله أهم من إرضاءالمؤمنين، غير أنا نرى أنّهم بأعمالهم هذه قد أسخطوا

اللَّه ورسوله، ولذا عقبت الآية فقالت: «وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ».

وفي الآية الثانية نرى أنّ القرآن يهدد المنافقين تهديداً شديداً، فقال: «أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا».

ومن أجل أن يؤكّد ذلك أضاف تعالى: «ذلِكَ الْخِزْىُ الْعَظِيمُ».

«يحادد»: مأخوذ من «المحادّة» وأصلها «حدّ»، ومعناها نهاية الشي ء وطرفه، ولما كان الأعداء والمخالفون يقفون في الطرف الآخر المقابل، لذا فإنّ مادة «المحادّة» قد وردت بمعنى العداوة أيضاً.

يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِءُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ قُلْ أَ بِاللَّهِ وَ آيَاتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت في إثنى عشر رجلًا وقفوا على العقبة، ليفتكوا برسول اللَّه صلى الله عليه و آله عند رجوعه من تبوك، فأخبر جبرئيل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بذلك وأمره أن يرسل إليهم ويضرب وجوه رواحلهم.

وعمار كان يقود دابة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وحذيفة يسوقها، فقال لحذيفة: إضرب وجوه رواحلهم فضربها حتى نحاهم. فلما نزل قال لحذيفة: من عرفت القوم؟ قال: لم أعرف منهم أحداً. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إنّه فلان وفلان حتى عدّهم كلهم فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم فتقتلهم؟ فقال: «أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم».

التّفسير

يستفاد من الآية الاولى أنّ اللَّه سبحانه وتعالى يكشف الستار عن أسرار المنافقين

مختصر الامثل، ج 2، ص: 283

أحياناً، وذلك لدفع خطرهم عن النبي صلى الله عليه و

آله وفضحهم أمام الناس ليعرفوا حقيقتهم، ويحذروهم وليعرف المنافقون موقع اقدامهم ويكفّوا عن تآمرهم، ويشير القرآن إلى خوفهم من نزول سورة تفضحهم وتكشف خبيئة أسرارهم فقال: «يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِى قُلُوبِهِمْ».

إلّا أنّ العجيب في الأمر أنّ هؤلاء ولشدة حقدهم وعنادهم لم يكفّوا عن استهزائهم وسخريتهم، لذلك تضيف الآية: بأنّهم مهما سخروا من أعمال النبي صلى الله عليه و آله فإنّ اللَّه لهم بالمرصاد وسوف يظهر خبيث أسرارهم ويكشف عن دني ء نيّاتهم، فقال: «قُلِ اسْتَهْزِءُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ».

أمّا الآية الثانية فإنّها أشارت إلى اسلوب آخر من أساليب المنافقين، وقالت: «وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ» «1». أي إذا سألتهم عن الدافع لهم على هذه الأعمال المشينة قالوا: نحن نمزح وبذلك ضمنوا طريق العودة.

غير أنّ القرآن الكريم واجه هؤلاء بكل صرامة، وجابههم بجواب لا مفرّ معه من الإذعان للواقع، فأمر النبي صلى الله عليه و آله أن يخاطبهم: «قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ».

أي إنّه يسألهم: هل يمكن المزاح والسخرية حتى باللَّه ورسوله وآيات القرآن؟

هل يمكن إخفاء قضية تنفير البعير وسقوط النبي صلى الله عليه و آله من تلك العقبة الخطيرة، والتي تعني الموت، تحت عنوان ونقاب المزاح؟

ثم يأمر القرآن النبي صلى الله عليه و آله أن يقول للمنافقين بصراحة: «لَاتَعْتَذِرُوا» والسبب في ذلك أنّكم «قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ». فهذا التعبير يُشعر أنّ هذه الفئة لم تكن منذ البداية في صف المنافقين، بل كانوا مؤمنين لكنّهم ضعيفو الإيمان، بعد هذه الحوادث الآنفة الذكر سلكوا طريق الكفر.

واختتمت الآية بهذه العبارة: «إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ» فهي تبيّن أنّ طائفة قد استحقت العذاب نتيجة الذنوب والمعاصي،

وهذا دليل على أنّ أفراد الطائفة الاخرى إنّما شملهم العفو الإلهي لأنّهم غسلوا ذنوبهم ومعاصيهم بماء التوبة من أعماق وجودهم.

______________________________

(1) «خوض»: على وزن «حوض» وهو بمعنى الدخول التدريجي في الماء، ثم أطلقت على الدخول في مختلف الأعمال من باب الكناية، إلّاأنّها جاءت في القرآن غالباً بمعنى الدخول أو الشروع بالأعمال أو الأقوال القبيحة البذيئة.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 284

الْمُنَافِقُونَ وَ الْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَ الْمُنَافِقَاتِ وَ الْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَ لَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَ أَكْثَرَ أَمْوَالًا وَ أَوْلَاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَ خُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَ لَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عَادٍ وَ ثَمُودَ وَ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَ أَصْحَابِ مَدْيَنَ وَ الْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) البحث في هذه الآيات يدور كالسابق حول سلوك المنافقين وعلاماتهم وصفاتهم، فالآية الاولى من هذه الآيات تشير إلى أمر كلي، وهو أنّ روح النفاق يمكن أن تتجلّى بأشكال مختلفة وتبدو في صور متفاوتة بحيث لا تلفت النظر في أوّل الأمر، خصوصاً أنّ روح النفاق هذه يمكن أن تختلف بين الرجل والمرأة، لكن يجب أن لا يُخدع الناس بتغيير صور النفاق بين المنافقين، لذلك يقول اللَّه سبحانه: «الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مّن بَعْضٍ».

وبعد ذلك يشرع القرآن الكريم في ذكر خمس صفات لهؤلاء:

الاولى والثانية: إنّهم يدعون

الناس إلى فعل المنكرات ويرغبونهم فيها من جهة، ويُبعدونهم وينهونهم عن فعل الأعمال الصالحة من جهة اخرى «يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ». أي إنّهم يسلكون طريقاً ويتّبعون منهاجاً هو عكس طريق المؤمنين تماماً، فإنّ المؤمنين يسعون دائماً- عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- إلى أن يصلحوا المجتمع وينقوه من الشوائب والفساد، بينما يسعى المنافقون إلى إفساد كل زاوية في المجتمع

مختصر الامثل، ج 2، ص: 285

واقتلاع جذور الخير والأعمال الصالحة من بين الناس من أجل الوصول إلى أهدافهم المشؤومة، ولا شك أنّ وجود مثل هذا المحيط الفاسد والبيئة الملوّثة ستساعدهم كثيراً في تحقيق أهدافهم.

الثالثه: إنّ هؤلاء بخلاء لا يتمتعون بروح الخير للناس فلا ينفقون في سبيل اللَّه، ولا يعينون محروماً، ولا يستفيد أقوامهم ومعارفهم من أموالهم، فعبّر عنهم القرآن: «وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ».

الرابعة: إنّ كل أعمالهم وأقوالهم وسلوكهم يوضح أنّ هؤلاء قد نسوا اللَّه، والوضع الذي يعيشونه يبيّن أنّ اللَّه قد نسيهم في المقابل، وبالتالي فإنّهم قد حُرموا من توفيق اللَّه وتسديده ومواهبه السنية، أي إنّه سبحانه قد عاملهم معاملة المنسيين، وآثار وعلامات هذا النسيان المتقابل واضحة في كل مراحل حياتهم، وإلى هذا تشير الآية: «نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ».

الخامسة: إنّ المنافقين فاسقون وخارجون من دائرة طاعة أوامر اللَّه سبحانه وتعالى، وقالت الآية: «إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ».

في الآية التي تليها نلاحظ الوعيد الشديد والإنذار بالعذاب الأليم والجزاء الذي ينتظر هؤلاء حيث تقول: «وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُّفَارَ نَارَ جَهَنَّمَ» وأنّهم سيخلدون في هذه النار المحرقة «خَالِدِينَ فِيهَا» وأنّ هذه المجازاة التي تشمل كل أنواع العذاب والعقوبات تكفي هؤلاء إذ «هِىَ حَسْبُهُمْ». وبعبارة اخرى: إنّ هؤلاء لا يحتاجون إلى عقوبة اخرى غير النار، حيث يوجد في نار جهنم كل أنواع

العذاب: الجسمية منها والروحية.

وتضيف الآية في خاتمتها أنّ اللَّه تعالى قد أبعد هؤلاء عن ساحة رحمته وجازاهم بالعذاب الأبدي «وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ»، بل إنّ البعد عن اللَّه تعالى يعتبر بحد ذاته أعظم وأشد عقوبة وآلمها.

تكرر التاريخ والإعتبار به: من أجل توعية هؤلاء المنافقين، وضعت الآية الآتية مرآة التاريخ أمامهم، ودعتهم إلى ملاحظة حياتهم وسلوكهم ومقارنتها بالمنافقين والعتاة المردة الذين تمردوا على أوامر اللَّه سبحانه وتعالى، وأعطتهم أوضح الدروس وأكثرها عبرة، فذكّرهم بأنّهم كالمنافقين الماضين ويتبعون نفس المسير وسيلقون نفس المصير: «كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ» علماً أنّ هؤلاء «كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلدًا».

وكما أنّ هؤلاء قد تمتعوا بنصيبهم في هذه الحياة الدنيا، وصرفوا أعمارهم في طريق قضاء

مختصر الامثل، ج 2، ص: 286

الشهوات والمعصية والفساد والإنحراف، فإنّكم قد تمتعتم بنصيبكم كهؤلاء: «فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلقِهِمْ».

«الخلاق»: في اللغة بمعنى النصيب والحصة. ثم تقول بعد ذلك: إنّكم كمن مضى من أمثالكم قد أوغلتم وسلكتم مسلك الإستهزاء والسخرية، تماماً كهؤلاء: «وَخُضْتُمْ كَالَّذِى خَاضُوا» «1».

ثم تبين الآية عاقبة أعمال المنافقين الماضين لتحذّر المنافقين المعاصرين للنبي صلى الله عليه و آله وكل منافقي العالم في جملتين:

الاولى: إنّ كل أعمال المنافقين قد ذهبت أدراج الرياح، في الدنيا والآخرة، ولم يحصلوا على أيّ نتيجة حسنة، فقالت: «حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِى الدُّنْيَا والْأَخِرَةِ».

الثانية: إنّ هؤلاء هم الخاسرون الحقيقيون بما عملوه من الأعمال السيئة: «وَأُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ».

إنّ هؤلاء المنافقين يمكن أن يستفيدوا ويحققوا بعض المكاسب والإمتيازات من أعمال النفاق، لكن ما يحصلون عليه مؤقت ومحدود، فإنّنا إذا أمعنّا النظر فسنرى أنّ هؤلاء لم يجنوا من سلوك هذا الطريق شيئاً، لا في الدنيا ولا في الآخرة.

وبعد هذه الآيات يتحول الحديث

من المنافقين ويتوجه إلى النبي صلى الله عليه و آله ويتبع اسلول الإستفهام الإنكاري، فتقول الآية: «أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ» «2».

إنّ هذه الحوادث المرعبة تهز وجدان وأحاسيس كل إنسان إذا امتلك أدنى إحساس وشعور عند مطالعتها وتحقيقها.

ورغم طغيان هؤلاء وتمردّهم فإنّ اللَّه الرؤوف الرحيم لم يحرم هؤلاء من رحمته وعطفه لحظة، وقد أرسل إليهم الرسل بالآيات البينات لهدايتهم وإنقاذهم من الضلالة إذ «أَتَتْهُمْ

______________________________

(1) إنّ جملة «كالذي خاضوا» في الواقع بمعنى: كالذي خاضوا فيه. وبعبارة اخرى، فإنّها تشبيه لفعل منافقي اليوم بفعل المنافقين السابقين، كما شبهت الجملة السابقة استفادة هؤلاء من النعم والمواهب الإلهية في طريق الشهوات كالسابقين منهم، وعلى هذا فإنّ هذا التشبيه ليس تشبيه شخص بشخص لنضطر إلى أن نجعل (الذي) بمعنى (الذين) أي المفرد بمعنى الجمع، بل هو تشبيه عمل بعمل.

(2) «المؤتفكات»: مأخوذة من مادة الإئتفاك، بمعنى انقلاب الأسفل إلى الأعلى وبالعكس، وهي إشارة إلى مدن قوم لوط التي قلب عاليها سافلها نتيجة الزلزلة.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 287

رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ» إلّاأنّ هؤلاء لم يصغوا إلى أيّة موعظة ولم يقبلوا نصيحة من أنبياء اللَّه وأوليائه، ولم يقيموا وزناً لجهاد ومتاعب هؤلاء الأبرار وتحملهم كل المصاعب في سبيل هداية خلق اللَّه، وإذا كان العقاب قد نالهم فلا يعني أن اللَّه عزّ وجلّ قد ظلمهم، بل هم ظلموا أنفسهم بما أجرموا فاستحقوا العذاب: «فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ».

وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَ يُطِيعُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ

وَ الْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَ مَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) مرّ في الآيات السابقة، ذكر خمس الصفات المشتركة بين المنافقين، الرجال منهم والنساء، وتذكر هذه الآيات صفات وعلامات المؤمنين والمؤمنات، وتتلخص في خمس صفات أيضاً، وتشرع الآية بذكر صفات المؤمنين والمؤمنات، وتبدأ ببيان أنّ بعضهم لبعض ولي وصديق «وَالمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ».

وبعد بيان هذه القاعدة الكلية، تشرع ببيان الصفات الجزئية للمؤمنين:

1- ففي البداية تبيّن أنّ هؤلاء قوم يدعون الناس إلى الخيرات «يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ».

2- إنّهم ينهون الناس عن الرذائل والمنكرات «وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ».

3- إنّهم بعكس المنافقين الذين كانوا قد نسوا اللَّه، فإنّهم يقيمون الصلاة، ويذكرون اللَّه فتحيا قلوبهم وتشرف عقولهم «وَيُقِيمُونَ الصَّلَوةَ».

4- إنّهم- على عكس المنافقين والذين كانوا يبخلون بأموالهم- ينفقون أموالهم في سبيل اللَّه وفي مساعدة عباد اللَّه وبناء المجتمع وإصلاح شؤونه، ويؤدون زكاة أموالهم «وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ».

5- إنّ المنافقين فسّاق ومتمردون، وخارجون من دائرة الطاعة لأوامر اللَّه، أمّا المؤمنون فهم على عكسهم تماماً، إذ «وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ».

أمّا ختام الآية فإنّه يتحدث عن إمتيازات المؤمنين، والمكافأة والثواب الذي ينتظرهم،

مختصر الامثل، ج 2، ص: 288

وأوّل ما تعرضت لبيانه هو الرحمة الإلهية التي تنتظرهم ف «أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ».

ولا شك أنّ وعد اللَّه للمؤمنين قطعي ويقيني لأنّ اللَّه قادر وحكيم، ولا يمكن للحكيم أن يعد بدون سبب، وليس اللَّه القادر بعاجز عن الوفاء بوعده حين وعد «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ». الآية الثانية شرحت جانباً من هذه الرحمة الإلهية الواسعة التي تعم المؤمنين في بُعديها المادي والمعنوي. فهي أوّلًا تقول: «وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنتِ جَنتٍ تَجْرِى مِن تَحْتَهَا الْأَنْهرُ»، ومن خصائص هذه النعمة الكبيرة أنّها

لا زوال لها ولا فناء، بل الخلود الأبدي، لذا فإن المؤمنين والمؤمنات سيكونون «خَالِدِينَ فِيهَا».

ومن المواهب الإلهية الاخرى التي سوف ينعمون بها هي المساكن الجميلة، والمنازل المرفهة التي أعدها اللَّه لهم وسط الجنان «وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ».

ويتّضح من الاحاديث أنّ جنات عدن حدائق خاصة في الجنة سيستقر فيها النبي صلى الله عليه و آله وجماعة من خلّص أصحابه وأتباعه.

بعد ذلك تشير الآية إلى الجزاء المعنوي المعد لهؤلاء، وهو رضى اللَّه تعالى عنهم المختص بالمؤمنين الحقيقيين، وهو أهم وأعظم جزاء، ويفوق كل النعم والعطايا الاخرى «وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ».

إنّ اللذة المعنوية والإحساس الروحي الذي يحس ويلتذ به الإنسان عند شعوره برضى اللَّه سبحانه وتعالى عنه لا يمكن أن يصفه أي بشر.

وفي النهاية أشارت الآية إلى جميع هذه النعم المادية والمعنوية، وعبرت عنها بأنّ «ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنَافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (73) جهاد الكفار والمنافقين: وأخيراً، صدر القرار الإلهي للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله في وجوب جهاد الكفار والمنافقين بكل قوة وحزم «يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ» ولا تأخذك بهم رأفة ورحمة، بل شدد «وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ». وهذا العقاب هو العقاب الدنيوي، أمّا في الآخرة فإنّ محلهم «وَمَأْوَيهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 289

إن طريقة جهاد الكفار واضحة ومعلومة، فإنّ جهادهم يعني التوسل بكل الطرق والوسائل في سبيل القضاء عليهم، وبالذات الجهاد المسلح والعمل العسكري.

والمقصود من جهاد المنافقين هو الأشكال والطرق الاخرى للجهاد غير الجهاد الحربي والعسكري، كالذم والتوبيخ والتهديد والفضيحة، وربّما تشير جملة «وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ» إلى هذا المعنى.

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَ لَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ

وَ هَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَ مَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَ إِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ وَ مَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لَا نَصِيرٍ (74)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت في جلاس بن سويد بن الصامت، وذلك أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خطب ذات يوم بتبوك وذكر المنافقين فسمّاهم رجساً وعابهم، فقال الجلاس: واللَّه لئن كان محمّد صادقاً فيما يقول، فنحن شرّ من الحمير! فسمعه عامر بن قيس فقال: أجل واللَّه! إنّ محمّداً لصادق وأنتم شر من الحمير! فلما انصرف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى المدينة أتاه عامر بن قيس فأخبره بما قال الجلاس، فقال الجلاس: كذب يا رسول اللَّه. فأمرهما رسول اللَّه أن يحلفا عند المنبر فقام الجلاس عند المنبر فحلف باللَّه ما قال، ثم قام عامر فحلف باللَّه لقد قاله. ثم قال: اللهم أنزل عليّ نبيّك الصادق منا الصدق. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والمؤمنون: آمين.

فنزل جبرائيل عليه السلام قبل أن يتفرقا بهذه الآية، حتى بلغ «فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ» فقام الجلاس، فقال: يا رسول اللَّه أسمع اللَّه قد عرض علىّ التوبة صدق عامر بن قيس فيما قال لك، لقد قلته وأنا أستغفراللَّه وأتوب إليه. فقبل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ذلك منه.

التّفسير

مؤامرة خطرة: إنّ هذه الآية تزيح الستار عن عمل آخر من أعمال المنافقين، وهو أنّ هؤلاء عندما رأوا أنّ أمرهم قد انكشف، انكروا ما نُسب إليهم بل أقسموا باليمين الكاذبة

مختصر الامثل، ج 2، ص: 290

على مدّعاهم. في البداية تذكر الآية أنّ

هؤلاء المنافقين لا يرتدعون عن اليمين الكاذبة في تأييد إنكارهم، ولدفع التهمة فإنّهم «يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا» في الوقت الذي يعلمون أنّهم إرتكبوا ما نسب إليهم من الكفر «وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ» وعلى هذا فإنّهم قد إختاروا طريق الكفر بعد إعلانهم الإسلام «وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلمِهِمْ». ومن البديهي أنّ هؤلاء لم يكونوا مسلمين منذ البداية، بل إنّهم أظهروا الإسلام فقط، وعلى هذا فإنّهم بإظهارهم الكفر قد هتكوا ومزّقوا حتى هذا الحجاب المزيف الذي كانوا يتسترون به. وفوق كل ذلك فقد صمّموا على أمر خطير لم يوفقوا لتحقيقه «وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا» ويمكن أن يكون هذا إشارة إلى تلك المؤامرة لقتل النبي صلى الله عليه و آله في ليلة العقبة، والتي مرّ ذكرها آنفاً، أو أنّه إشارة إلى كل أعمال المنافقين التي يسعون من خلالها إلى تحطيم المجتمع الإسلامي وبثّ بذور الفرقة والفساد والنفاق بين أوساطه، لكنّهم لن يصلوا إلى أهدافهم مطلقاً.

الجملة الاخرى تبين واقع المنافقين القبيح ونكرانهم للجميل فتقول الآية: إنّ هؤلاء لم يروا من النبي صلى الله عليه و آله أي خلاف أو أذى، ولم يتضرروا بأي شي ء نتيجة للتشريع الإسلامي، بل على العكس، فإنّهم قد تمتعوا في ظل حكم الإسلام بمختلف النعم المادية والمعنوية «وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ» وهذه قمة اللؤم.

غير أنّ القرآن- كعادته- رغم هذه الأعمال لم يغلق الأبواب بوجه هؤلاء، بل فتح باب التوبة والرجوع إلى الحق على مصراعيه إن أرادوا ذلك، فقال: «فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ».

وهذه علامة واقعية الإسلام واهتمامه بمسألة التربية، ومعارضته لاستخدام الشدّة في غير محلّها وهكذا فتح باب التوبة حتى بوجه المنافقين الذين طالما كادوا للإسلام وتآمروا على نبيّه وحاكوا الدسائس والتهم

ضده، بل إنّه دعاهم إلى التوبة أيضاً.

وفي نفس الوقت ومن أجل أن لا يتصور هؤلاء أنّ هذا التسامح الإسلامي صادر من منطق الضعف، حذّرهم بأنّهم إن استمروا في غيهم وتنكّروا لتوبتهم، فإنّ العذاب الشديد سينالهم في الدّارين «وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ» وإذا كانوا يظنون أنّ أحداً يستطيع أن يمدّ لهم يد العون مقابل العذاب الإلهي فإنّهم في خطأ كبير، فإنّ العذاب إذا نزل بهم فساء صباح المنذرين: «وَمَا لَهُمْ فِى الْأَرْضِ مِن وَلِىٍّ وَلَا نَصِيرٍ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 291

وَ مِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَ لَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَ تَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَ نَجْوَاهُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: نزلت في ثعلبة بن حاطب، وكان من الأنصار، فقال للنبي صلى الله عليه و آله أن ادع اللَّه أن يرزقني مالًا. فقال «يا ثعلبة! قليل تؤدّي شكره، خير من كثير لا تطيقه، أما لك في رسول اللَّه اسوة حسنة؟ والذي نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معي ذهباً وفضة، لسارت». ثم أتاه بعد ذلك فقال: يا رسول اللَّه ادع اللَّه أن يرزقني مالًا، والذي بعثك بالحق لئن رزقني اللَّه مالًا، لأعطينّ كل ذي حق حقّه! فقال صلى الله عليه و آله: «اللهم ارزق ثعلبة مالًا».

قال: فاتخذ غنماً، فنمت كما ينمو الدود، فضاقت عليه المدينة، فتنحي عنها، فنزل وادياً من أوديتها، ثم كثرت نموّاً حتى تباعد عن

المدينة، فاشتغل بذلك عن الجمعة والجماعة، وبعث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إليه المصدق ليأخذ الصدقة، فأبى وبخل وقال: ما هذه إلّااخت الجزية! فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «يا ويح ثعلبة! يا ويح ثعلبة!» وأنزل اللَّه الآيات.

التّفسير

المنافقون وقلّة الاستيعاب: هذه الآيات تشير إلى صفة اخرى من صفات المنافقين السيّئة، وهي أنّ هؤلاء إذا مسّهم البؤس والفقر والمسكنة عزفوا على وتر الإسلام بشكل لا يصدق معه أحد أنّ هؤلاء يمكن أن يكونوا يوماً من جملة المنافقين، إلّاأنّ هؤلاء أنفسهم، إذا تحسّن وضعهم المادي فإنّهم سينسون كل عهودهم ومواثيقهم مع اللَّه والناس، ويغرقون في حبّ الدنيا. فالآية الاولى تتحدث عن بعض المنافقين الذين عاهدوا اللَّه على البذل والعطاء لخدمة عباده إذا ما أعطاهم اللَّه المال الوفير: «وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءَاتنَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحيِنَ».

إلّا أنّهم يؤكّدون هذه الكلمات والوعود مادامت أيديهم خالية من الأموال «فَلَمَّا ءَاتهُم

مختصر الامثل، ج 2، ص: 292

مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ» غير أنّ عملهم هذا ومخالفتهم للعهود التي قطعوها على أنفسهم بذرت روح النفاق في قلوبهم وسيبقى إلى يوم القيامة متمكناً منهم «فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِى قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ» وإنّما استحقوا هذه العاقبة السيئة غير المحمودة «بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ». وفي النهاية وبّخت الآية هؤلاء النفر ولامتهم على النوايا السيئة التي يضمرونها، وعلى انحرافهم عن الصراط المستقيم، واستفهمت بأنّهم: «أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَيهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلمُ الْغُيُوبِ».

الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ

إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)

سبب النّزول

وردت عدّة روايات في سبب نزول هذه الآيات في كتب التفسير والحديث، يستفاد من مجموعها أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان قد صمّم على إعداد جيش المسلمين لمقابلة العدو- وربّما كان ذلك في تبوك- وكان محتاجاً لمعونة الناس في هذا الأمر، فلما أخبرهم بذلك سارع الأغنياء إلى بذل الكثير من أموالهم، سواء كان هذا البذل من باب الزكاة أو الإنفاق، ووضعوا هذه الأموال تحت تصرف النبي صلى الله عليه و آله.

أمّا الفقراء، فقد عمدوا إلى مضاعفة عملهم، واستقاء الماء ليلًا، فحصلوا على صاعين من التمر، وشاركوا بهذا الشي ء اليسير- الذي لا قيمة له ظاهراً- في هذا المشروع الإسلامي الكبير. غير أنّ المنافقين الذين لا همّ لهم إلّاتتبع ما يمكن التشهير به بدلًا من التفكير بالمساهمة الجدية فإنّهم عابوا كلا الفريقين، أمّا الأغنياء فاتهموهم بأنّهم إنّما ينفقون رياءً وسمعة، وأمّا الفقراء الذين لا يستطيعون إلّاجهدهم، والذين قدموا اليسير وهو عند اللَّه كثير، فإنّهم سخروا منهم بأنّ جيش الإسلام هل يحتاج إلى هذا المقدار اليسير؟ فنزلت هذه الآيات، وهددتهم تهديداً شديداً وحذرتهم من عذاب اللَّه.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 293

التّفسير

خبث المنافقين: في هذه الآيات إشارة إلى صفة اخرى من الصفات العامة للمنافقين، وهي أنّهم أشخاص لجوجون معاندون وهمهم التماس نقاط ضعف في أعمال الآخرين واحتقار كل عمل مفيد يخدم المجتمع ومحاولة إجهاضه بأساليب شيطانية خبيثة من أجل صرف الناس عن عمل الخير. لكن القرآن المجيد ذم هذه الطريقة غير الإنسانية التي يتبعها هؤلاء، وعرّفها للمسلمين لكي لا يقعوا في حبائل مكر المنافقين ومن

ناحية اخرى أراد أن يفهم المنافقون أنّ سهمهم لا يصيب الهدف في المجتمع الإسلامي. ففي البداية يقول: إنّ هؤلاء «الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِى الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَايَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

والمراد من جملة: «سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ» أنّ اللَّه سبحانه تعالى سيجازيهم على ما عملوا من الأعمال السيئة، أو أنّه تعالى سيحقرهم كما حقروا عباده وسخروا منهم.

ونلاحظ في الآية التي تليها تأكيداً أشد على مجازاة هؤلاء المنافقين، وتذكر آخر تهديد بتوجيه الكلام وتحويله من الغيبة إلى الخطاب، والمخاطب هذه المرّة هو النبي صلى الله عليه و آله فقالت:

«اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَاتَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ».

وإنّما لن يغفر اللَّه لهم لأنّهم قد أنكروا اللَّه ورسالة رسوله، واختاروا طريق الكفر، وهذا الاختيار هو الذي أرداهم في هاوية النفاق وعواقبه المشؤومة «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ». ومن الواضح أنّ هداية اللَّه تشمل السائرون في طريق الحق وطلب الحقيقة، أمّا الفساق والمجرمون والمنافقون فإنّ الآية تقول: «وَاللَّهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ».

إنّ نوع العمل هو المهم لا مقداره، وهذه الحقيقة في القرآن واضحة جلية، فالإسلام لم يستند في أيّ مورد إلى كثرة العمل ومقداره، بل هو يؤكّد دائماً- وفي كل الموارد- على أنّ الأساس هو نوع العمل وكيفيته.

المهم أنّ كل فرد يجب أن يبذل ما يستطيع، ولا يلتفت إلى مقدار عطائه، فليس المعيار كثرة العطاء وقلّته، بل الإحساس بالمسؤولية والإخلاص في العمل.

ومن هذه الواقعة تتّضح حقيقة اخرى، وهي أنّ المسلمين في المجتمع الإسلامي الواقعي السالم يجب أن يحسّوا جميعاً بالمسؤولية تجاه المشاكل التي تعترض المجتمع وتظهر فيه، ولا يجب أن ينتظروا الأغنياء والمتمكنين يقوموا وحدهم بحل هذه المشاكل والمصاعب،

بل

مختصر الامثل، ج 2، ص: 294

على الضعفاء أيضاً أن يساهموا بما يستطيعون، مهما صغر وقل ما يقدمونه، لأنّ الإسلام يتعلق بالجميع لا بفئة منهم، وعلى هذا، فعلى الجميع أن يسعوا في حفظ الإسلام ولو ببذل النفوس والدماء ويعملوا بكل وجودهم من أجل حياته وصيانته.

فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَ كَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ قَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَ لْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) يستمر الحديث في هذه الآيات حول تعريف المنافقين وأساليب عملهم وسلوكهم وأفكارهم ليعرفهم المسلمون جيداً، ولا يقعوا تحت تأثير وسائل إعلامهم وخططهم الخبيثة وسمومهم. في البداية تتحدث الآية عن هؤلاء الذين تخلفوا عن الجهاد في تبوك، وتعذّروا بأعذار واهية كبيت العنكبوت، وفرحوا بالسلامة والجلوس في البيت بدل المخاطرة بأنفسهم والاشتراك في الحرب رغم أنّها مخالفة لأوامر اللَّه ورسوله: «فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلفَ رَسُولِ اللَّهِ». وبدل أن يضعوا كل وجودهم وإمكاناتهم في سبيل اللَّه لينالوا افتخار الجهاد وعنوان المجاهدين، فإنّهم امتنعوا «وَكَرِهُوا أَن يُجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ».

إلّا أنّ هؤلاء النفر لم يكتفوا بتخلفهم وتركهم لهذا الواجب المهم، بل إنّهم سعوا في تخذيل الناس عن الجهاد بوساوسهم الشّيطانية ومحاولة إخماد جذوة الحماسة الملتهبة في صدور المسلمين وتشبث المنافقون بكلّ عذر يمكن أن يحقق الهدف حتى ولو كان العذر الحَرّ! «وَقَالُوا لَاتَنفِرُوا فِى الْحَرّ».

ثم تتغير وجهة الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله فيأمره

اللَّه سبحانه وتعالى أن يجيبهم بلهجة شديدة واسلوب قاطع: «قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ». لكنّهم للأسف لضعف إيمانهم، وعدم الإدراك الكافي لا يعلمون أيّة نار تنتظرهم، فشرارة واحدة من تلك النار أشدّ حرارة من جميع نيران الدّنيا وأشدّ حرقة وألماً.

وتشير الآية الثانية إلى أنّ هؤلاء ظنوا بأنّهم قد حققوا نصراً بتخلفهم وتخذيلهم المسلمين وصرف أنظارهم عن مسألة الجهاد، وضحكوا لذلك وقهقهوا بمل ء أفواههم، وهذا

مختصر الامثل، ج 2، ص: 295

هو حال المنافقين في كل عصر وزمن، إلّاأنّ القرآن حذّرهم من مغبة أعمالهم فقال:

«فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا».

نعم، ليبكوا على مستقبلهم المظلم: ليبكوا على العذاب الأليم الذي ينتظرهم: ليبكوا على أنّهم أغلقوا كل أبواب العودة بوجوههم، وأخيراً ليبكوا على ما أنفقوا من قوتهم وقدراتهم وعمرهم الثمين، واشتروا به الخزي والفضيحة وسوء العاقبة وتعاسة الحظ.

وفي نهاية الآية يبين اللَّه تعالى أنّ هذه العاقبة التي تنتظرهم هي «جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ».

وفي آخر آية- من الآيات محل البحث- إشارة إلى طريقة اخرى دقيقة وخطرة من طرق المنافقين، وهي أنّهم حينما يرتكبون ما يخالف القانون الإسلامي، فإنّهم يُظهرون أعمالًا يحاولون بها جبران ما صدر منهم، ومحاولة تبرئة ساحتهم مما يستحقون من العقوبة، وبهذه الأعمال المناقضة لأعمالهم المخالفة للقانون فإنّهم يخفون وجوههم الحقيقية، أو يسعون إلى ذلك. إنّ الآية الكريمة تقول: «فإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِىَ عَدُوًّا». أي إنّ النبي صلى الله عليه و آله يجب أن يزرع اليأس في نفوس هؤلاء، ويُعلمهم أن هذا التلون سوف لا ينطلي على أحد، ولن يُخدع بهم أحد.

جملة «طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ» توحي أنّ هؤلاء المنافقين لم يكونوا بأجمعهم يمتلكون الشجاعة حتى يحضروا ويطلبوا من

النبي صلى الله عليه و آله السماح لهم في الخروج إلى الجهاد.

ثم تبين الآية أنّ سبب عدم قبول اقتراح هؤلاء وطلبهم ب «إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ».

وَ لَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَ لَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ مَاتُوا وَ هُمْ فَاسِقُونَ (84) وَ لَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَ أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كَافِرُونَ (85) بعد أن أزاح المنافقون الستار عن عدم مشاركتهم في ميدان القتال، وعلم الناس تخلفهم الصريح، وفشا سرّهم، أمر اللَّه سبحانه وتعالى نبيّه بأن يتبع أسلوباً أشدّ وأكثر صراحة ليقتلع وإلى الأبد- جذور النفاق والأفكار الشيطانية، وليعلم المنافقون بأنّهم لا محل لهم في المجتمع الإسلامي، وكخطوة عملية في مجال تطبيق هذا الأسلوب الجديد، صدر الأمر الإلهي «وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 296

إنّ هذا الأسلوب- في الواقع- هو نوع من الكفاح السلبي الفاعل في مواجهة المنافقين.

إنّ هذا البرنامج والأسلوب الدقيق كان قد أعد لمقابلة منافقي ذلك العصر، ويجب أن يستفيد المسلمون من هذه الأساليب. وفي آخر الآية يتّضح سبب هذا الأمر الإلهي ب «إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» ورغم ذلك فإنّهم لم يفكروا بالتوبة ولم يندموا على أفعالهم ليغسلوها بالتوبة، بل إنّهم بقوا على أفعالهم «وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ».

وهنا يمكن أن يسأل أحدكم: إنّ المنافقين إذا كانوا- حقيقة- بهذا البعد عن رحمة اللَّه، وعلى المسلمين أن لا يُظهروا أي ود أو محبّة تجاههم، فلماذا فضّلهم اللَّه تعالى ومنحهم كل هذه القوى الاقتصادية من الأموال والأولاد؟

في الآية الاخرى يوجه اللَّه سبحانه وتعالى الخطاب إلى النبي: «وَلَا تُعْجِبْكَ

أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلدُهُمْ». فإنّها ليست منحة ومحبّة من اللَّه تعالى لهؤلاء المنافقين، بل على العكس تماماً، فإنّ هذه الأموال والأولاد ليست لسعادتهم، بل «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذّبَهُم بِهَا فِى الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ».

إنّ هذه الآية تشير إلى حقيقة وهي أنّ هذه الإمكانيات والقدرات الاقتصادية والقوى الإنسانية للأشخاص الفاسدين ليست غير نافعة لهم فحسب، بل هي- غالباً- سبب لإبتلائهم وتعاستهم، لأنّ أشخاصاً كهؤلاء لا هم يصرفون أموالهم في مواردها الصحيحة ليستفيدوا منها الفائدة البناءة، ولا يتمتعون بأبناء صالحين كي يكونوا قرة عين لهم ومعتمدهم في حياتهم. بل إنّ أموالهم تصرف غالباً في طريق الشهوات والمعاصي ونشر الفساد وتحكيم أعمدة الظلم والطغيان، وهي السبب في غفلتهم عن اللَّه سبحانه وتعالى، وكذلك أولادهم في خدمة الظلمة والفاسدين، ومبتلين بمختلف الانحرافات الأخلاقية، وبذلك سيكونون سبباً في تراكم البلايا والمصائب.

غاية الأمر إنّ الذين يظنون أنّ الأصل في سعادة الإنسان هو الثروة والقوة البشرية فقط، أمّا كيفية صرف هذه الثروة والقوة فليس بذلك الأمر المهم، تكون لوحة حياتهم مفرحة ومبهجة ظاهراً، إلّاأنّنا لو اقتربنا منها واطلعنا على دقائقها، وعلمنا أنّ الأساس في سعادة الإنسان هو كيفية الاستفادة من هذه الإمكانيات والقدرات لعلمنا أنّ هؤلاء ليسوا سعداء مطلقاً.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 297

وَ إِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَ جَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَ قَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَ طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لكِنِ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ أُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) دناءة الهمّة:

الكلام في هذه الآيات يدور كذلك حول المنافقين، فالآية الاولى تتحدث عن حال المنافقين إذا ما دعا الرسول صلى الله عليه و آله الناس إلى الثبات على الإيمان والجهاد في سبيل اللَّه، فإنّهم- أي المنافقون- رغم قدرتهم الجسمية والمالية سيطلبون العذر والسماح لهم بعدم المشاركة والبقاء مع ذوي الأعذار: «وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ ءَامِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ».

وفي الآية التي تليها وبخ القرآن هؤلاء وذمّهم وقبّحهم بأنّهم «رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ».

والمقصود من «الخوالف» في هذه الآية كل الذين عُذروا عن المشاركة في الجهاد بشكل أو آخر، أعم من أن يكونوا نساء أو مسنّين أو مرضى أو صبيان.

ثم أضافت الآية: بأنّ هؤلاء نتيجة لكثرة الذنوب والنفاق وصلوا إلى مرحلة «وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَايَفْقَهُونَ».

ثم تحدثت الآية التي تليها في الجانب المقابل عن صفات وروحيات الفئة التي تقابل المنافقين، وهم المؤمنون المخلصون، وعن أعمالهم الحسنة، وبالتالي عاقبة أعمالهم المعاكسة تماماً لعاقبة اولئك، فهي تقول: «لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ» فكانت عاقبتهم أن يتمتعوا بكل الخيرات والسعادة واللذائذ المادية والمعنوية في الدنيا والآخرة «وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».

«الخيرات»: تعبير جامع لكل توفيق وخير ونصر وموهبة، وهي تشمل المادية منها والمعنوية.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 298

ويستفاد بوضوح من هذه الآية أنّ «الإيمان» و «الجهاد» إذا اتحدا في شخص، فسيصحبهما كل خير وبركة، ولا سبيل إلى الفلاح والإخلاص، أو إلى شي ء من الخيرات والبركات المادية والمعنوية إلّافي ظل هذين العامَليْن.

وفي آخر آية من الآيات التي نبحثها إشارة إلى قسم من الجزاء الاخروي المعد لهؤلاء المؤمنين، فهي تبشرهم بأنّهم قد «أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ»

وتوكّد لهم بأنّ هذه المواهب والنعم سوف لا تفنى ولا تنفد، بل سيبقون «خَالِدِينَ فِيهَا»، ثمّ تبيّن أنّ «ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».

وَ جَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَ قَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) في هذه الآية- ولمناسبة البحث هنا للأبحاث السابقة حول المنافقين الذين يتعذرون بكل عذر ويتمسكون بأتفه الحجج- إشارة إلى وضع وواقع مجموعتين من المتخلفين عن الجهاد. ففي البداية تقول الآية أنّ هؤلاء الأعراب رغم أنّهم كانوا معذورين في عدم الاشتراك في الجهاد، فإنّهم حضروا بين يدي النبي صلى الله عليه و آله وطلبوا منه أن يأذن لهم في الجهاد:

«وَجَاءَ الْمُعَذّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ». وفي مقابل ذلك فإنّ الفئة الاخرى التي كذبت على اللَّه ورسوله قد تخلف أفرادها دون أي عذر، «وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ».

وفي النهاية هددت الآية المجموعة الثانية تهديداً شديداً وأنذرتهم بأنّه «سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٍ».

لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَ لَا عَلَى الْمَرْضَى وَ لَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَ لَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَنْ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَ هُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)

مختصر الامثل، ج 2، ص: 299

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: إنّ الآية الاولى نزلت في عبد اللَّه بن زائدة وهو ابن أم مكتوم، وكان ضرير البصر، جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال:

يا نبى اللَّه إنّي شيخ ضرير، خفيف الحال، نحيف الجسم، وليس لي قائد فهل لي رخصة في التخلف عن الجهاد؟ فسكت النبي صلى الله عليه و آله، فأنزل اللَّه الآية.

والآية الثانية نزلت في البكائين وهم سبعة نفر من فقراء الأنصار جاءوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالوا: يا رسول اللَّه! احملنا فإنّه ليس لنا ما نخرج عليه. فقال: «لا أجد ما أحملكم عليه».

التّفسير

هذه الآيات قسمت المسلمين في مجال المشاركة في الجهاد لتوضيح حال سائر المجاميع من ناحية القدرة على الجهاد، أو العجز عنه، وأشارت إلى خمس مجموعات: أربع منها معذورة حقيقة وواقعاً، والخامسة هم المنافقون.

الآية الاولى تقول: إنّ الضعفاء، والعاجزين لكبر أو عمى أو نقص في الأعضاء، والذين لا وسيلة لهم يتنقلون بها ويستفيدون منها في المشاركة في الجهاد، لا حرج عليهم إذا تخلفوا عن هذا الواجب الإسلامي المهم: «لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ».

هذه الأقسام الثلاث تعذر في كل قانون إذا لم تشارك، والعقل والمنطق يمضي هذا التسامح، ومن المسلم أنّ القوانين الإسلامية لا تنفصل عن المنطق والعقل في أي مورد.

«الحرج»: في الأصل تعني مركز اجتماع الشي ء، ولما كان اجتماع الناس وكثرتهم في مكان ومركز ما ملازم لضيق ذلك المكان، فقد استعملت هذه الكلمة بمعنى الضيق والإزعاج والمسؤولية والتكليف، ويكون معناها في هذه الآية هو المعنى الأخير، أي المسؤولية والتكليف.

ثم بيّنت الآية شرطاً مهماً في السماح لهؤلاء بالإنصراف، وهو إخلاصهم وحبّهم للَّه ورسوله، ورجاؤهم وعملهم كل خير لهذا الدين الحنيف، لذا قالت: «إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ». أي إنّ هؤلاء قادرون على استعمال سلاح الكلمة والسلوك الإسلامي الأمثل، وبهذا يستطيعون ترغيب المجاهدين.

مختصر الامثل، ج 2،

ص: 300

ويجب أن لا يقصروا في هدم وتضعيف معنويات العدو، وتهيئة أرضية الهزيمة في نفوس أفراده قدر المستطاع.

ثم تذكر الآية الدليل على هذا الموضوع، فتذكر أن مثل هؤلاء الأفراد الذين لا يألون جهداً في عمل الخير، لا يمكن أن يعاتبوا أو يُوبّخوا أو يُعاقبوا، إذ «مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ».

بعد ذلك اختتمت الآية بذكر صفتين عظيمتين من صفات اللَّه عزّ وجل- وكل صفاته عظيمة- كدليل آخر على جواز تخلف هؤلاء المندرجين ضمن المجموعات الثلاث فقالت:

«وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

«غفور»: مأخوذة من مادة الغفران، أي الستر والإخفاء، أي إنّ اللَّه سبحانه وتعالى سيلقي الستار على أعمال هؤلاء المعذورين ويقبل أعذارهم، وكون اللَّه «رحيماً» يقتضي أن لا يكلف أحداً فوق طاقته، بل يعفيه من ذلك، وإذا اجبر هؤلاء على الحضور في ميدان القتال، فإنّ ذلك لا يناسب غفران اللَّه ورحمته، وهذا يعني أنّ اللَّه الغفور الرحيم سيعفي هؤلاء عن الحضور حتماً، ويعفو عنهم.

ثم تشير الآية إلى الفئة الرابعة من المعفو عنهم وهؤلاء هم الذين حضروا- بشوق- عند النبي صلى الله عليه و آله وطلبوا منه أن يحملهم على الدواب للمشاركة في الجهاد، فاعتذر النبي صلى الله عليه و آله بأنّه لا يملك ما يحملهم عليه، فخرجوا من عنده وعيونهم تفيض من الدمع حزناً وأسفاً على ما فاتهم، وعلى أنّهم لا يملكون ما ينفقونه في سبيل اللَّه: «وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَاأَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ».

«تفيض»: من مادة الفيضان، أي الإنسكاب والتساقط بعد الإمتلاء، فإنّ الإنسان إذا أهمه أمر أو دهمته مصيبة، فإذا لم تكن شديدة اغرورقت عيناه بالدموع وامتلأت دون أن تجري، أمّا إذا وصلت إلى

مرحلة يضعف الإنسان عن تحملها سالت دموعه.

أمّا آخر آية فتبين وضع الفئة الخامسة، وهم الذين لم يعذروا، ولن يُعذروا عند اللَّه تعالى، فإنّهم قد توفرت فيهم كل الشروط، ويملكون كل مستلزمات الجهاد، فوجب عليهم حتماً، لكنهم رغم ذلك يحاولون التملّص من أداء هذا الواجب الإلهي الخطير، فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه و آله يطلبون الإذن في الإنصراف عن الحرب، فبينت الآية أنّهم سيؤاخذون بتهرّبهم ويعاقبون عليه: «إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 301

مختصر الامثل ج 2 339

وتضيف الآية بأنّ هؤلاء يكفيهم عاراً وخزياً أن يرضوا بالبقاء مع العاجزين والمرضى رغم سلامتهم وقدرتهم، ولم يهتموا بأنّهم سيحرمون من فخر الإشتراك في الجهاد: «رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ».

وكفى به عقاباً أن يسلبهم اللَّه القدرة على التفكر والإدراك نتيجة أعمالهم السيئة هذه، ولذلك أبغضهم اللَّه «وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَايَعْلَمُونَ».

تتّضح من هذه الآيات المعنويات القوية العالية لجنود الإسلام، وكيف أن قلوبهم كانت تتطلع بشوق، وتتحرق عشقاً للجهاد والشهادة، وهذا الفخر والوسام مقدم على جميع الأوسمة والصفات الاخرى التي كانوا يمتلكونها، ومن هنا يتّضح عامل هو من أهم عوامل التقدم السريع للإسلام وتطوره وانتشاره في ذلك اليوم، وتخلفنا في الوقت الحاضر لفقداننا هذا الوسام.

يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَ سَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)

سبب

النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس: نزلت الآيات في جد بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهما من المنافقين وكانوا ثمانين رجلًا، ولما قدم النبي صلى الله عليه و آله المدينة راجعاً من تبوك قال:

«لا تجالسوهم، ولا تكلموهم».

التّفسير

تستمر هذه السلسلة من الآيات في الحديث عن الأعمال الشيطانية للمنافقين. الآية الاولى تبين للمسلمين أنّ هؤلاء إذا علموا بقدومكم فسيأتون: «يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 302

ثم يتوجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله- باعتباره قائد المسلمين- بأن يواجه المنافقين: «قُل لَّا تَعْتَذِرُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ» لأنّا على علم بأهدافكم الشيطانية وما تضمرون وما تعلنون، إذ:

«قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ». إلّاأنّه في الوقت نفسه سيبقى باب التوبة والرجوع إلى الصواب مفتوحاً أمامكم «وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ».

ثم قالت الآية: إنّ كل أعمالكم ونيّاتكم ستثبت اليوم في كتبكم «ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

وفي الآية التالية إشارة اخرى إلى أيمان المنافقين الكاذبين، وتنبيه للمسلمين على أنّ هؤلاء سيتوسلون باليمين الكاذبة لتغفروا لهم خطيئاتهم وتصفحوا عنهم «سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ».

إنّ هؤلاء يطرقون كل باب ليردوا منه، فتارةً يريدون إثبات براءتهم وعدم تقصيرهم بالإعتذار، وتارةً يعترفون بالتقصير ثمّ يطلبون العفو عن ذلك التقصير، إذ ربّما استطاعوا عن إحدى هذه الطرق النفوذ إلى قلوبكم، لكن لا تتأثروا بأي اسلوب من هذه الأساليب، بل إذا جاؤوكم ليعتذروا إليكم «فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ».

ولتأكيد المطلب وتوضيحه وبيان دليله عقّبت الآية بأنّ السبب في الاعراض عن هؤلاء «إِنَّهُمْ رِجْسٌ»، ولأنّهم كذلك فإنّ مصيرهم «وَمَأْوَيهُمْ جَهَنَّمُ». إنّ كل العواقب السيئة التي سيلقونها إنّما يرونها «جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ».

في الآية الأخيرة التي نبحثها هنا إشارة إلى يمين

اخرى من أيمان هؤلاء، الهدف منها جلب رضى المسلمين: «يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ».

الملفت للنظر هنا أنّ اللَّه تعالى لم يقل: لا ترضوا عنهم، بل عبّر سبحانه بتعبير تُشم منه رائحة التهديد، إذ يقول عزّ وجل: «فَإِن تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَايَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ».

لا شك أنّ هؤلاء من الناحية الدينية والأخلاقية لا يعيرون اهتماماً لرضى المسلمين، بل إنّ الهدف من عملهم هذا هو رفع النظرة السلبية والغضب عليهم من أفكار وقلوب المسلمين، ليكونوا في المستقبل في مأمن من ردود الفعل ضدهم إذا بدرت منهم أعمال منافية.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 303

الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفَاقاً وَ أَجْدَرُ أَنْ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَ مِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَ يَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَ مِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَ صَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) في هذه الآيات الثلاث- استمراراً للبحث المتقدم حول منافقي المدينة- حديث وبحث حول وضع منافقي الأعراب- وهم سكان البوادي- وعلاماتهم وأفكارهم، وكذلك قد تحدثت حول المؤمنين الخلص منهم.

وربّما كان السبب في تحذير المسلمين من هؤلاء، هو أن لا يتصور المسلمون أنّ المنافقين هم- فقط- هؤلاء المتواجدون في المدينة، بل إنّ المنافقين من الأعراب أشدّ وأقسى فالآية الاولى تقول: إنّ الأعراب، بحكم بعدهم عن التعليم والتربية، وعدم سماعهم الآيات الربانية وكلام النبي صلى الله عليه و آله، أشدّ كفراً ونفاقاً من مشابهيهم في المدينة: «الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا» ولهذا البعد والجهل فمن الطبيعي، بل الأولى

أن يجهلوا الحدود والأحكام الإلهية التي نزلت على النبي صلى الله عليه و آله: «وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ».

كلمة «الأعراب» من الكلمات التي تعطي معنى الجمع، وهذه الكلمة تطلق على سكان البادية فقط، ومختصة بهم، وإذا أرادوا اطلاقهم على شخص واحد فإنّهم يستعملون نفس هذه الكلمة ويلحقون بها ياء النسب، فيقولون: أعرابي.

«أجدر»: فهي مأخوذة من الجدار، ومن ثم اطلقت على كل شي ء مرتفع ومناسب، ولهذا فإنّ «أجدر» تستعمل- عادةً- بمعنى الأنسب والأليق.

وتقول الآية أخيراً: «وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ». أي: إنّه تعالى عندما يحكم على الأعراب بمثل هذا الحكم، فلأنّه يناسب الوضع الخاص لهم، لأنّ محيطهم يتصف بمثل هذه الصفات.

لكن ومن أجل أن لا يُتوهم بأنّ كل الأعراب أو سكان البوادي يتصفون بهذه الصفات، فقد أشارت الآية التالية إلى مجموعتين من الأعراب. ففي البداية تتحدث عن أنّ قسماً من هؤلاء الأعراب- لنفاقهم أو ضعف إيمانهم- عندما ينفقون شيئاً في سبيل اللَّه، فإنّهم

مختصر الامثل، ج 2، ص: 304

يعتبرون ذلك ضرراً وخسارة لحقت بهم، لا أنّه توفيق ونصر وتجارة رابحة: «وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا» «1». ومن الصفات الاخرى لهؤلاء أنّهم دائماً ينتظرون أن تحيط بكم المصائب والنوائب والمشاكل، ويرميكم الدهر بسهمه: «وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ».

«الدوائر»: جمع دائرة، ومعناها معروف، ولكن العرب يقولون للحادثة الصعبة والأليمة التي تحل بالإنسان: دائرة، وجمعها «دوائر».

في الواقع أنّ هؤلاء أفراد ضيقو النظر، وبخلاء وحسودون.

ثم تقول الآية- بعد ذلك- إنّ هؤلاء ينبغي أن لا يتربصوا بكم، وينتظروا حلول المصائب والدوائر بكم، لأنّها في النهاية ستحل بهم فقط: «عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ».

ثمّ تختم الآية الحديث بقولها: «وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»، فهو تعالى يسمع كلامهم، ويعلم بنياتهم ومكنون ضمائرهم.

أمّا الآية الأخيرة فقد أشارت

إلى الفئة الثانية من الأعراب، وهم المؤمنون المخلصون، إذ تقول: «وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ». ولهذا السبب فإنّهم لا يعتبرون الإنفاق في سبيل اللَّه خسارة أبداً، بل وسيلة للتقرب إلى اللَّه ودعاء الرسول صلى الله عليه و آله لإيمانهم بالجزاء الحسن والعطاء الجزيل الذي ينتظر المنفقين في سبيل اللَّه: «وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ».

هنا يؤيّد اللَّه تعالى ويصدّق هذا النوع من التفكير، ويؤكّد على أنّ هذا الإنفاق يقرب هؤلاء من اللَّه قطعاً: «أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ» ولهذا «سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ» وإذا ما صدرت من هؤلاء هفوات وعثرات، فإنّ اللَّه سيغفرها لهم لإيمانهم وأعمالهم الحسنة، ف «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَ الْأَنْصَارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)

______________________________

(1) «مغرم»: مأخوذة من مادة (غرم) على وزن (جرم)، وهي في الأصل بمعنى ملازمة الشي ء، ولهذه المناسبة قيل للدائن والمدين اللذين لا يدع كل منهما صاحبه: غريم، وأيضاً قيل: غرامة، لنفس هذه المناسبة لأنّها تلازم الإنسان ولا تنقطع عنه إلّابأدائها.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 305

هذه الآية تشير إلى مجموعات وفئات مختلفة من المسلمين المخلصين، وقسمتهم إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل: السابقون في الإسلام والهجرة: «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ».

الثاني: السابقون في نصرة وحماية النبي صلى الله عليه و آله وأصحابه المهاجرين: «وَالْأَنصَارَ».

الثالث: الذين جاؤوا بعد هذين القسمين واتبعوا خطواتهم ومناهجهم، وقبولهم الإسلام والهجرة، ونصرتهم للدين الإسلامي، فإنّهم إرتبطوا بهؤلاء السابقين: «وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ».

والملفت للنظر هنا فقد قالوا بالإجماع، إنّ أوّل من أسلم من النساء خديجة زوجة النبي صلى الله عليه و آله الوفية المضحية، وأمّا

من الرجال فكل علماء الشيعة ومفسريهم، وفريق كبير من أهل السنّة قالوا: إنّ علياً عليه السلام أوّل من أسلم ولبّى دعوة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله.

وبعد ذكر هذه الأقسام الثلاثة قالت الآية: «رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ».

إنّ رضى اللَّه سبحانه وتعالى عن هؤلاء هو نتيجة لإيمانهم وأعمالهم الصالحة التي عملوها، ورضاهم عن اللَّه لما أعد لهم من الجزاء والعطايا المختلفة التي لا تدركها عقول البشر.

ومع أنّ الجملة السابقة قد تضمنت كل المواهب والنعم الإلهية، المادية منها والمعنوية، الجسمية والروحية، لكن الآية أضافت من باب التأكيد، وبيان التفصيل بعد الإجمال:

«وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ». ومن إمتيازات هذه النعمة أنّها خالدة، وسيبقى هؤلاء «خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا». وإذا نظرنا إلى مجموع هذه المواهب المادية والمعنوية أيقنا أن «ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ». أيّ فوز أعلى وأكبر من أن يدرك الإنسان أن خالقه ومعبوده ومولاه قد رضي عنه، وقد وقّع على قبول أعماله؟

وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) مرّة اخرى يدير القرآن المجيد دفة البحث إلى أعمال المنافقين وفئاتهم، فيقول: «وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ». أي يجب أن تأخذوا بنظر الاعتبار المنافقين المتواجدين في أطراف المدينة، وتحذروهم، وتراقبوا أعمالهم ونشاطاتهم الخطرة.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 306

ثمّ تضيف الآية بأنّ في المدينة نفسها قسماً من أهلها قد وصلوا في النفاق إلى أقصى درجاته، وثبتوا عليه، وأصبحوا ذوي خبرة في النفاق: «وَمِن أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النّفَاقِ».

«مردوا»: مأخوذة من مادة «مرد» بمعنى الطغيان والعصيان والتمرد المطلق، وهي في الأصل بمعنى التعري والتجرد.

إنّ هؤلاء المنافقين قد انسلخوا من الحق والحقيقة، وتسلطوا على أعمال

النفاق إلى درجة أنّهم كانوا يستطيعون أن يظهروا في مصاف المؤمنين الحقيقين، دون أن ينتبه أحد إلى حقيقتهم ومراوغتهم.

إنّ هذا التفاوت في التعبير عن المنافقين الداخليين والخارجيين في الآية يلاحظ جلياً، وربّما كان ذلك إشارة إلى أنّ المنافقين الداخليين أكثر تسلطاً على النفاق، وبالتالي فهم أشد خطراً، فعلى المسلمين أن يراقبوا هؤلاء بدقة، لكن يجب أن لا يغفلوا عن المنافقين الخارجين، بل يراقبونهم أيضاً. لذلك تقول الآية مباشرة بعد ذلك: «لَاتَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ» ومن الطبيعي أنّ هذا إشارة إلى العلم الطبيعي للنبي صلى الله عليه و آله ولكن هذا لا ينافي أن يقف كاملًا على أسرارهم عن طريق الوحي والتعليم الإلهي.

وفي النهاية تبين الآية صورة العذاب الذي سيصب هؤلاء: «سَنُعَذّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ».

إنّ العذاب العظيم إشارة إلى عذاب يوم القيامة، وفي نوعية العذابين الآخرين وماهيتهما الذي يرجّحه النظر أنّ واحداً من هذين العذابين هو العقاب الاجتماعي لهؤلاء، والمتمثل في فضيحتهم وهتك أسرارهم، والكشف عمّا في ضمائرهم من خبيث النوايا.

والعذاب الثّاني هو ما أشارت إليه الآية (50) من سورة الأنفال، حيث تقول هناك:

«وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ».

وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قال أبو حمزة الثمالي: بلغنا أنّهم ثلاثة نفراً من الأنصار: أبو لبابة بن

مختصر الامثل، ج 2، ص: 307

عبد المنذر، وثعلبة بن وديعة، وأوس بن حذام، تخلّفوا عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عند مخرجه إلى تبوك، فلما بلغهم ما أنزل اللَّه فيمن تخلف عن نبيّه، أيقنوا بالهلاك وأوثقوا أنفسهم بسواري المسجد، فلم يزالوا كذلك حتى

قدم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فسأل عنهم، فذكر له أنّهم أقسموا أن لا يحلّون أنفسهم حتى يكون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يحلّهم وقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «وأنا أقسم لا أكون من حلّهم إلّاأن اؤمر فيهم بأمر». فلما نزل «عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» عمد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إليهم، فحلّهم فانطلقوا فجاءوا بأموالهم إلى رسول اللَّه، فقالوا: هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فخذها، وتصدّق بها عنّا. قال صلى الله عليه و آله: «ما امرت فيها». فنزل «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً» الآيات.

التّفسير

بعد أن أشارت الآية السابقة إلى وضع المنافقين في داخل المدينة وخارجها، أشارت هذه الآية هنا إلى وضع جمع من المسلمين العاصين الذين أقدموا على التوبة لجبران الأعمال السيئة التي صدرت منهم، ورجاء لمحوها: «وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صلِحًا وَءَاخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» ويشملهم برحمته الواسعة ف «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِهَا وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَ يَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ سَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) الزكاة مطهرة للفرد والمجتمع: في الآية الاولى من هذه الآيات إشارة إلى أحد الأحكام الإسلامية المهمة، وهي مسألة الزكاة، حيث تأمر النبي صلى الله عليه و آله بشكل عام أن: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً».

إنّ حكم «خذ» دليل واضح على أنّ رئيس الحكومة الإسلامية يستطيع أن يأخذ

الزكاة من الناس، لا أنّه ينتظر الناس فإن شاؤوا أدّوا الزكاة، وإلّا فلا.

ثمّ تشير إلى قسمين من الفلسفة الأخلاقية والاجتماعية للزكاة، حيث تقول: «تُطَهّرُهُمْ

مختصر الامثل، ج 2، ص: 308

وَتُزَكّيهِم بِهَا». فهي تطهرهم من الرذائل الأخلاقية، ومن حبّ الدنيا وعبادتها، ومن البخل وغيره من مساوى ء الأخلاق، وتزرع مكانها خلال الحب والسخاء ورعاية حقوق الآخرين في نفوسهم. وفوق كل ذلك فإنّ المفاسد الاجتماعية والانحطاط الخلقي والاجتماعي المتولد من الفقر والتفاوت الطبقي والذي يؤدّى إلى وجود طبقة محرومة، كل هذه الامور ستقتلع بتطبيق هذه الفريضة الإلهية وأدائها. ثم تضيف الآية في خطابها للنبي صلى الله عليه و آله بأنّك حينما تأخذ الزكاة منهم فادع لهم «وَصَلّ عَلَيْهِمْ». إنّ هذا يدل على وجوب شكر الناس وتقديرهم، حتى إذا كان مايؤدونه واجباً عليهم وحكماً شرعياً يقومون به، وترغيبهم بكل الطرق، وخاصة المعنوية والنفسية.

في المجمع روي عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه كان إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: «اللّهمّ صلّ عليهم».

ثم تقول الآية: «إِنَّ صَلَوتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ» لأنّ من بركات هذا الدعاء أن تنزل الرحمة الإلهية عليهم، وتغمر قلوبهم ونفوسهم إلى درجة أنّهم كانوا يحسون بها.

وفي نهاية الآية نقرأ: «وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» وهذا الختام هو المناسب لما سبق من بحث في الآية، إذ إنّ اللَّه سبحانه يسمع دعاء النبي صلى الله عليه و آله، ومطلع على نيات المؤدين للزكاة.

ولما كان بعض المذنبين- كالمتخلفين عن غزوة تبوك- يصرّون على النبي صلى الله عليه و آله في قبول توبتهم، أشارت الآية الثانية من الآيات التي بين يدينا إلى أنّ قبول التوبة ليس مرتبطاً بالنبي صلى الله عليه و آله، بل باللَّه الغفور الرحيم، لذا قالت: «أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ

التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ». ولا ينحصر الأمر بتوقف قبول التوبة على قبول اللَّه لها، بل إنّه تعالى هو الذي يأخذ الزكاة والصدقات الاخرى التي يعطيها العباد تقرباً إليه، أو تكفيراً لذنوبهم: «وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ».

إنّ هذا التعبير من ألطف التعبيرات التي تجسّد عظمة هذا الحكم الإسلامي- أي الزكاة- فبالرغم من ترغيب كل المسلمين ودعوتهم إلى القيام بهذه الوظيفة الإلهية الكبيرة، فإنّها تحذرهم بشدّة وتأمرهم بأن يراعوا الآداب الإسلامية ويتقيّدوا باحترام من يؤدّونها إليه، لأنّ من يأخذها هو اللَّه عزّ وجل.

في المجمع عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «إنّ الصدقة تقع في يد اللَّه قبل أن تصل إلى يد السائل».

وفي تفسير العياشي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «ما من شي ء إلّاوكّل به ملك إلّاالصدقة فإنّها تقع في يد اللَّه».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 309

ثم قالت الآية في النهاية من باب التأكيد: «وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».

وتؤكّد الآية التي تليها البحوث التي مرّت بصورة جديدة، وتأمر النبي صلى الله عليه و آله أن يبلغ الناس: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ». فهي تشير إلى أن لا يتصور أحد أنّه إذا عمل عملًا، سواء في خلوته أو بين الناس فإنّه سيخفى على علم اللَّه سبحانه، بل إنّ الرسول صلى الله عليه و آله والمؤمنين يعلمون به إضافةً إلى علم اللَّه عزّ وجلّ.

إنّ هذا الإطلاع هو مقدمة للثواب أو العقاب الذي ينتظره في العالم الآخر، لذا فإنَّ الآية الكريمة تعقب على ذلك مباشرة وتقول: «وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

مسألة عرض الأعمال: إنّ بين أتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام ونتيجة للأخبار الكثيرة الواردة عن الأئمّة عليهم السلام عقيدة معروفة ومشهورة، وهي أنّ النبي صلى الله

عليه و آله والأئمّة عليهم السلام يطلعون على أعمال كل الامّة، أي أنّ اللَّه تعالى يعرض أعمالها بطرق خاصه عليهم.

إنّ مسألة عرض الأعمال لها أثر عظيم على المعتقدين بها، فإنّي إذا علمت أنّ اللَّه الموجود في كل مكان معي، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ نبيي وأئمتي عليهم السلام يطلعون على كل أعمالي، الحسنة والسيئة في كل يوم، أو في كل اسبوع، فلا شك أنّي سأكون أكثر مراقبة ورعاية لما يبدر منّي من أعمال، وأحاول تجنب السيئة منها ما أمكن.

وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت الآية في (ثلاثة من المتخلفين عن تبوك وهم:) هلال بن امية الواقفي، ومرارة بن ربيع، وكعب بن مالك، وهم من الأوس والخزرج وكان كعب بن مالك رجل صدق غير مطعون عليه، وإنّما تخلف توانياً عن الإستعداد، حتى فاته المسير وانصرف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: واللَّه ما لي من عذر ولم يعتذر إليه بالكذب فقال صلى الله عليه و آله:

«صدقت، فمر حتى يقضي اللَّه فيك». وجاء الآخران فقالا مثل ذلك وصدقا. فنهى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن مكالمتهم وأمر نساءهم باعتزالهم حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت فأقاموا على ذلك خمسين ليلة وبني كعب خيمة على سلع يكون فيها وحده. ثم نزلت التوبة عليهم بعد الخمسين في الليل وهو قوله تعالى «وَعَلَى الثَّلثَةِ الَّذِينَ خُلّفُوا» الآية (118) من هذه السورة.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 310

التّفسير

في هذه الآية إشارة إلى مجموعة من المذنبين الذين لم تتّضح جيداً عاقبة أمرهم، فلا هم مستحقون حتماً للرحمة الإلهية، ولا من المغضوب عليهم حتماً، لذا فإنّ

القرآن الكريم يقول في حقّهم: «وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذّبُهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ».

وتضيف الآية- بعد ذلك- أنّ اللَّه سبحانه سوف لا يحكم على هؤلاء بدون حساب، بل يقضي بعلمه وحكمته: «وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».

وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَ كُفْراً وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ إِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَ اللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)

سبب النّزول

تتحدث الآيات أعلاه عن جماعة اخرى من المنافقين الذين أقدموا- من أجل تحقيق أهدافهم المشؤومة- على بناء مسجد في المدينة، عرف فيما بعد ب (مسجد الضرار).

في تفسير مجمع البيان: قال المفسرون: إنّ بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قباء وبعثوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن يأتيهم فأتاهم وصلّى فيه فحسدهم عن جماعة من المنافقين من بني غنم بن عوف، فقالوا: نبني مسجداً فنصلّي فيه ولا نحضر جماعة محمّد. فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قباء فلما فرغوا منه، أتوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو يتجهّز إلى تبوك فقالوا: يا رسول اللَّه! إنّا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاثية وإنّا نحبّ أن تأتينا فتصلّى فيه لنا

وتدعو بالبركة. فقال: «إنّي على جناح سفر، ولو قدمنا أتيناكم إن شاء اللَّه

مختصر الامثل، ج 2، ص: 311

فصلّينا لكم فيه». فلما انصرف رسول اللَّه من تبوك، نزلت عليه الآية في شأن المسجد.

وكشف الستار عن أعمال هؤلاء، فأمر النبي صلى الله عليه و آله بحرق المسجد المذكور، وبهدم بقاياه، وأن يُجعل مكانه محلًا لرمي القاذورات والأوساخ.

التّفسير

معبد وثني في صورة مسجد: أشارت الآيات السابقة إلى وضع مجاميع مختلفة من المخالفين، وتُعرّف الآيات التي نبحثها مجموعة اخرى منهم، المجموعة التي دخلت حلبة الصراع بخطة دقيقة وذكية، إلّاأنّ اللطف الإلهي أدرك المسلمين، وبدد أحلام المنافقين بإبطال مكرهم وإحباط خطتهم. فالآية الاولى تقول: «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا» وأخفوا أهدافهم الشريرة تحت هذا الإسم المقدس، ثم لخصت أهدافهم في أربعة أهداف:

1- إنّ هؤلاء كانوا يقصدون من هذا العمل إلحاق الضرر بالمسلمين، فكان مسجدهم «ضِرَارًا».

2- تقوية اسس الكفر، ومحاولة إرجاع الناس إلى الحالة التي كانوا يعيشونها قبل الإسلام: «وَكُفْرًا».

3- إيجاد الفرقة بين المسلمين، لأنّ اجتماع فئة من المسلمين في هذا المسجد سيقلل من عظمة التجمع في مسجد قبا الذي كان قريباً منه، أو مسجد النبي صلى الله عليه و آله الذي كان يبعد عنه «وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ».

ويظهر من هذه الجملة- وكذلك فهم بعض المفسرين- أنّ المسافة بين المساجد يجب أن لا تكون قليلة بحيث يؤثر الاجتماع في مسجد على جماعة المسجد الآخر.

4- والهدف الأخير لهؤلاء هو تأسيس مقر ومركز لإيواء المخالفين للدين وأصحاب السوابق السيئة، والإنطلاق من هذا المقر في سبيل تنفيذ خططهم ومؤامراتهم: «وَإِرْصَادًا لّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ».

إلّا أنّ مما يثير العجب أنّ هؤلاء قد أخفوا كل هذه الأغراض الشريرة والأهداف المشؤومة في لباس جميل ومظهر خداع، وأنّهم لايريدون إلّاالخير:

«وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى .

إلّا أنّ القرآن الكريم يبين أنّ اللَّه تعالى الذي يعلم السرائر وما في مكنون الضمائر، والذي

مختصر الامثل، ج 2، ص: 312

تساوى لديه الظاهر والباطن، والغيب والشهادة يشهد على كذب هؤلاء: «وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ». يؤكّد اللَّه سبحانه وتعالى في الآية التالية تأكيداً شديداً على مسألة حياتية مهمة، ويأمر نبيّه بصراحة أن «لَاتَقُمْ فِيهِ أَبَدًا» بل «لَّمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ» لا المسجد الذي أسس من أوّل يوم على الكفر والنفاق وتقويض أركان الدين.

ثمّ يضيف القرآن الكريم أنّه بالإضافة إلى أنّ هذا المسجد قد أسس على أساس التقوى، فإنّ «فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهّرِينَ».

إنّ للطهارة هنا معنى واسعاً يشمل كل أنواع التطهير، سواء التطهير الروحي من آثار الشرك والذنوب، أو التطهير الجسمي من الأوساخ والنجاسات.

وفي الآية الثالثه من الآيات مقارنة بين فريقين وفئتين: المؤمنين الذين بنوا مساجد كمسجد قبا على أساس التقوى، والمنافقين الذين بنوه على أساس الكفر والنفاق والتفرقة والفساد. فهي تقول أوّلًا: «أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ».

إنّ التشبيه الوارد أعلاه يعطي صورة في منتهى الوضوح عن عدم ثبات أعمال المنافقين وتزلزلها، وفي المقابل استحكام ودوام أعمال المؤمنين ونشاطاتهم وبرامجهم.

ومن هنا، فإنّ المنافقين يظلمون أنفسهم ويظلمون المجتمع أيضاً ولذلك فإنّ الآية اختتمت بقوله: «وَاللَّهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».

وفي آخر آية إشارة إلى إصرار المنافقين وعنادهم، فهي تعبّر عن تعصبهم وإصرارهم في أعمالهم، وعنادهم في نفاقهم، وحيرتهم في ظلمة كفرهم، فهم في شك من بنيانهم الذي بنوه، أو في النتيجة المرجوة منه، وسيبقون في هذه الحال

حتى موتهم: «لَايَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِى بَنَوْا رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ».

وتقول الآية أخيراً: «وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».

فإنّه تعالى إنّما أمر نبيّه صلى الله عليه و آله بهدم هذا البناء الذي يحمل صفة الحق ظاهراً، حتى تتبيّن نيّات السوء التي انطوى عليها هؤلاء، وتنكشف حقائقهم وبواطنهم وهذا الحكم الإلهي هو عين الحكمة، وحسب صلاح المجتمع الإسلامي، وقد صدر على هذا الأساس.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 313

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ الْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) لمّا كان الكلام في الآيات السابقة عن المتخلفين عن الجهاد، فإنّ هاتين الآيتين قد بيّنتا المقام الرفيع للمجاهدين المؤمنين مع ذكر مثال رائع. لقد عرّف اللَّه سبحانه وتعالى نفسه في هذا المثال بأنّه مشترٍ، والمؤمنين بأنّهم بائعون، وقال: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ».

ولمّا كانت كل معاملة تتكون في الحقيقة من خمسة أركان أساسية، فقد أشار اللَّه سبحانه إلى كل هذه الأركان، فجعل نفسه مشترياً، والمؤمنين بائعين، وأموالهم وأنفسهم متاعاً وبضاعة، والجنة ثمناً لهذه المعاملة، غاية ما في الأمر أنّه بيّن طريقة تسليم البضاعة بتعبير لطيف، فقال: «يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ».

ثم يشير بعد ذلك إلى سند المعاملة الثابت، والذي يشكل الركن الخامس فيها، فقال:

«وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِى التَّوْرَيةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْءَانِ».

ثم، ومن أجل التأكيد على هذه المعاملة، تضيف الآية: «وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ

مِنَ اللَّهِ». أي إنّ ثمن هذه المعاملة وإن كان مؤجلًا، إلّاأنّه مضمون، ولا وجود لأخطار النسيئة، لأنّ اللَّه تعالى لقدرته واستغنائه عن الجميع أوفي من الكل بعهده.

والأروع من كل شي ء أنّه تعالى قد بارك للطرف المقابل صفقته، ويتمنى لهم أن تكون صفقة وفيرة الربح، تماماً كما هو المتعارف بين التجار، فيقول عزّ وجل: «فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُم بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 314

كما هي طريقة القرآن المجيد، حيث إنّه يُجمِل الكلام في آية، ثم يعمد إلى التفصيل في الآية التي تليها، فقد بيّن سبحانه في الآية الثانية حال البائعين للروح والمال لربّهم عزّ وجل، فذكر تسع صفات مميزة لهم: 1- فهم يغسلون قلوبهم وأرواحهم من رين الذنوب بماء التوبة: «التِبُونَ».

2- وهم يطهرون أنفسهم في نفحات الدعاء والمناجاة مع ربّهم: «الْعبِدُونَ».

3- وهم يحمدون ويشكرون كل نعم اللَّه المادية والمعنوية: «الْحمِدُونَ».

4- وهم يتنقلون من مكان عبادة إلى آخر: «السِحُونَ».

وبهذا الترتيب فإنّ برامج تربية النفس عند هؤلاء لا تنحصر في العبادة، أو في إطار محدود، بل إنّ كل مكان هو محل عبادة للَّه وجهاد للنفس وتربية لها بالنسبة لهؤلاء، وكل مكان يوجد فيه درس وعبرة لهؤلاء فإنّهم سيقصدونه.

5- وهم يركعون مقابل عظمة اللَّه: «الرَّاكِعُونَ».

6- ويضعون جباههم على التراب أمام خالقهم ويسجدون له: «السَّاجِدُونَ».

7- وهم يدعون الناس لعمل الخير: «الْأَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ».

8- ولم يقتنعوا بهذه الدعوة للخير، بل حاربوا كل منكر وفساد: «وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ».

9- وبعد أدائهم وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقومون بأداء آخر وأهم واجب اجتماعي، أي حفظ الحدود الإلهية وإجراء قوانين اللَّه، وإقامة الحق والعدالة:

«وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ».

وبعد ذكر هذه الصفات التسع فإنّ اللَّه يرغّب- مرّة اخرى- أمثال هؤلاء المؤمنين المخلصين الذين هم ثمرة منهج

الإيمان والعمل، ويقول للنبي صلى الله عليه و آله: «وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ».

مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَ مَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)

مختصر الامثل، ج 2، ص: 315

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: إنّ المسلمين قالوا للنبي صلى الله عليه و آله: ألا تستغفر لآبائنا الذين ماتوا في الجاهلية؟ فأنزل اللَّه سبحانه هذه الآية وبيّن أنّه لا ينبغي لنبي، ولا مؤمن، أن يدعو لكافر، ويستغفر له.

التّفسير

نهت الآية الاولى النبي صلى الله عليه و آله والمؤمنين عن الاستغفار للمشركين بلهجة قاطعة وحادة، فهي تقول: «مَا كَانَ لِلنَّبِىّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ». ولكي تؤكّد ذلك قالت:

«وَلَوْ كَانُوا أُولِى قُرْبَى .

ثم أنّ القرآن الكريم بيّن سبب ودليل هذا الحكم فقال: «مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ».

فإنّ هذا العمل- أي الاستغفار للمشركين- عمل لا معنى له وفي غير محله، لأنّ المشرك لا يمكن العفو عنه بأي وجه، ولا سبيل لنجاة من سار في طريق الشرك.

ولما كان المسلمون العارفون بالقرآن قد قرأوا من قبل أن إبراهيم استغفر لعمه آزر، ولذا فمن الممكن جدّاً أن يتبادر إلى اذهانهم هذا السؤال: ألم يكن آزر مشركاً؟ وإذا كان هذا العمل منهياً عنه فكيف يفعله هذا النبي الكبير؟

لهذا نرى أنّ الآية الثانية تتطرق لهذا السؤال وتجيب عليه مباشرة لتطمئن القلوب، فقالت: «وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ».

وفي آخر الآية توضيح بأنّ إبراهيم كان إنساناً خاضعاً بين يدي

اللَّه عزّ وجلّ، وخائفاً من غضبه، وحليماً واسع الصدر، فقالت: «إِنَّ إِبْرهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ».

ضرورة قطع كل رابطة بالأعداء: إنّ هذه الآية ليست الوحيدة التي تتحدث عن قطع كل رابطة بالمشركين، بل يستخلص من عدّة آيات في القرآن الكريم أنّ كل إرتباط وتضامن وعلاقة، العائلية منها وغيرها، يجب أن تخضع لإطار العلاقات العقائدية، ويجب أن يحكم الانتماء إلى اللَّه ومحاربة كل أشكال الشرك والوثنية، كل أشكاليات الترابط بين المسلمين، لأنّ هذا الإرتباط هو الأساس والحاكم على كل مقدراتهم الاجتماعية، ولا تستطيع

مختصر الامثل، ج 2، ص: 316

العلاقات والروابط السطحية والفوقية أن تنفيه.

إنّ هذا درس كبير للأمس واليوم، وكل الأعصار والقرون.

وَ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لَا نَصِيرٍ (116)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: مات قوم من المسلمين على الإسلام قبل أن تنزل الفرائض، فقال المسلمون: يا رسول اللَّه! إخواننا الذين ماتوا قبل الفرائض، ما منزلتهم؟ فنزل «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا» الآية.

التّفسير

إنّ الآية الاولى تشير إلى قانون كلّي وعام، يؤيده العقل أيضاً، وهو أنّ اللَّه سبحانه وتعالى مادام لم يبيّن حكماً، ولم يصل شي ء من الشرع حوله، فإنّه تعالى سوف لا يحاسب عليه أحداً، وبتعبير آخر: فإنّ التكليف والمسؤولية تقع دائماً بعد بيان الأحكام، وهذا هو الذي يعبر عنه في علم الاصول بقاعدة (قبح العقاب بلا بيان). ولذلك فأوّل ما تطالعنا به الآية قوله: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَيهُمْ حَتَّى يُبَيّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ».

وأخيراً تقول الآية: «إِنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَىْ ءٍ

عَلِيمٌ». أي إنّ علم اللَّه يحتم ويؤكّد على أنّ اللَّه سبحانه مادام لم يبين الحكم الشرعي لعباده، فإنّه سوف لايؤاخذهم أو يسألهم عنه.

وتستند الآية التالية على هذه المسألة وتؤكّد: «إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ» وأنّ نظام الحياة والموت أيضاً بيد قدرته، فإنّه هو الذي «يُحْىِ وَيُمِيتُ» وعلى هذا: «وَمَا لَكُم مّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِىّ وَلَا نَصِيرٍ». وهو إشارة إلى أنّه لما كانت كل القدرات والحكومات في عالم الوجود بيده، وخاضعة لأمره، فلا ينبغي لكم أن تتكلوا على غيره، وتلتجئوا إلى البعيدين عن اللَّه وإلى أعدائه وتوادّوهم، وتوثّقوا علاقتكم بهم عن طريق الاستغفار وغيره.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 317

لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَ الْمُهَاجِرِينَ وَ الْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَ عَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَ ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَ ظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت الآية الاولى في غزاة تبوك، وما لحق المسلمين فيها من العسرة، حتى همّ قوم بالرجوع، ثم تداركهم لطف اللَّه سبحانه.

وأمّا الآية الثانية: فإنّها نزلت في شأن كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن امية وذلك أنّهم تخلفوا عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولم يخرجوا معه، لا عن نفاق، ولكن عن توان، ثم ندموا. فلما قدم النبي صلى الله عليه و آله المدينة، جاؤوا إليه، واعتذروا، فلم يكلّمهم النبي صلى الله عليه و آله وتقدم إلى المسلمين بأن لا يكلّمهم أحد منهم، فهجرهم

الناس حتى الصبيان. فضاقت عليهم المدينة، فخرجوا إلى رؤوس الجبال، وكان أهاليهم يجيئون لهم بالطعام، ولا يكلّمونهم، فقال بعضهم لبعض: قد هجرنا الناس ولا يكلّمنا أحد منهم، فهلا نتهاجر نحن أيضاً! فتفرقوا، ولم يتجمع منهم اثنان، وبقوا على ذلك خمسين يوماً، يتضرعون إلى اللَّه تعالى، ويتوبون إليه فقبل اللَّه تعالى توبتهم، وأنزل فيهم هذه الآية.

التّفسير

تتحدّث هذه الآيات أيضاً عن غزوة تبوك، فتشير الآية الاولى إلى رحمة اللَّه اللامتناهية التي شملت النبي صلى الله عليه و آله والمهاجرين والأنصار في اللحظات الحساسة، وتقول:

«لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِىّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ».

ثم تُبين أنّ شمول هذه الرحمة الإلهية لهم كان في وقت اشتدت فيه الحوادث والضغوط والاضطرابات إلى الحد الذي أوشكت أن تزل فيه أقدام بعض المسلمين عن جادة الصواب، (وصمّموا على الرجوع من تبوك) فتقول: «مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 318

ثم تؤكّد مرّة اخرى على أنّ اللَّه سبحانه قد تاب عليهم، فتقول: «ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ». ولم تشمل الرحمة الإلهية هذا القسم الكبير الذي شارك في الجهاد فقط، بل شملت حتى الثلاثة الذين تخلفوا عن القتال ومشاركة المجاهدين في ساحة الجهاد: «وَعَلَى الثَّلثَةِ الَّذِينَ خُلّفُوا».

إلّا أنّ اللطف الإلهي لم يشمل هؤلاء المتخلفين بهذه السهولة، بل عندما عاش هؤلاء- وهم كعب بن مالك ومرارة بن ربيع وهلال بن أمية، الذين مرّ شرح حالهم في سبب النزول- مقاطعةً اجتماعية شديدة، وقاطعهم كل الناس بالصورة التي تصورها الآية، فتقول: «حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ».

بل إنّ صدور هؤلاء امتلأت همّاً وغمّاً بحيث ظنوا أن لا مكان لهم في الوجود، فكأنّه ضاق عليهم «وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ» فابتعد

أحدهم عن الآخر وقطعوا العلاقة فيما بينهم.

عند ذلك رأوا كل الأبواب مغلقة بوجوههم فأيقنوا «وَظَنُّوا أَن لَّامَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ» فأدركتهم رحمة اللَّه مرّة اخرى، وسهلت ويسّرت عليهم أمر التوبة الحقيقية، والرجوع إلى طريق الصواب ليتوبوا: «ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) كونوا مع الصادقين: في الآيات السابقة كان الحديث حول جماعة من المتخلفين الذين نقضوا عهدهم مع اللَّه ورسوله، أمّا هذه الآية فقد أشارت إلى النقطة المقابلة لهؤلاء، فهي تأمر بتحكيم الروابط مع الصادقين الذين حافظوا على عهدهم وثبتوا عليه. في البداية تقول الآية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ». ولأجل أن يستطيعوا سلوك طريق التقوى الملي ء بالمنعطفات والاخطار بدون اشتباه وانحراف أضافت: «وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ».

والصادقين هم الذين يؤدون تعهداتهم أمام الإيمان باللَّه على أحسن وجه دون أي تردد أو تماهل ولا يخافون سيل المصاعب والعقبات، بل يُثبتون صدق إيمانهم بأنواع الفداء والتضحية.

ولا شك أنّ لهذه الصفات درجات، فقد يكون البعض في قمّتها، وهم الذين نسمّيهم بالمعصومين، والبعض في درجات أقل وأدنى منها.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 319

مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَ لَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لَا نَصَبٌ وَ لَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لَا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَ لَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَ لَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَ لَا كَبِيرَةً وَ لَا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) كان البحث في

الآيات السابقة حول توبيخ وملامة الممتنعين عن الاشتراك في غزوة تبوك، وتبحث هاتان الآيتان البحث النهائي لهذا الموضوع كقانون كلّي. فالآية الاولى تقول:

«مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ» لأنّه قائد الامّة، ورسول اللَّه، ورمز بقاء وحياة الامّة الإسلامية.

من البديهي أنّ التأكيد على أهل المدينة وأطرافها إنّما هو لأنّ المدينة كانت مقرّ الإسلام يومئذ ومركزه المشع، وإلّا فإنّ هذا الحكم غير مختص بالمدينة وأطرافها، وغير مختص بالنّبي صلى الله عليه و آله فإنّ واجب كل المسلمين، وفي جميع العصور أن يحترموا ويكرموا قادتهم كأنفسهم، بل أكثر، ويبذلون قصارى جهدهم في سبيل الحفاظ عليهم، ولا يتركوهم يواجهون الصعاب والأخطار وحدهم، لأنّ الخطر الذي يحدق بهؤلاء يحدق بالامّة جميعاً.

ثمّ تشير الآية إلى مكافآت المجاهدين المعدة مقابل كل صعوبة يلاقونها في طريق الجهاد، وتذكر سبعة أقسام من هذه المشاكل والصعاب وثوابها، فتقول: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لَايُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صلِحٌ». ومن المحتم أنّهم سيقبضون جوائزهم من اللَّه سبحانه، واحدة بواحدة، ف «إِنَّ اللَّهَ لَايُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ». وكذلك فإنّهم لا يبذلون شيئاً في أمر الجهاد:

«وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً» ولا يقطعون أرضاً في ذهابهم للوصول إلى ميدان القتال، أو عند رجوعهم منه إلّاثبت كل ذلك في كتبهم: «وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ» وإنّما يثبت ذلك «لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 320

وَ مَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ

لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذا خرج غازياً، لم يتخلف عنه إلّا المنافقون والمعذرون. فلما أنزل اللَّه تعالى عيوب المنافقين، وبيّن نفاقهم في غزاة تبوك، قال المؤمنون: واللَّه لا نتخلف عن غزاة يغزوها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولا سرية أبداً! فلما أمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالسرايا إلى الغزو، نفر المسلمون جميعاً وتركوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وحده فأنزل اللَّه سبحانه «وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا» الآية.

التّفسير

محاربة الجهل وجهاد العدو: إنّ لهذه الآية إرتباطاً بالآيات السابقة حول موضوع الجهاد، وتشير إلى حقيقة حياتية بالنسبة للمسلمين، وهي: أنّ الجهاد وإن كان عظيم الأهمية، والتخلف عنه ذنب وعار، إلّاأنّه في غير الحالات الضرورية لا لزوم لتوجه المؤمنين كافة إلى ساحات الجهاد، خاصة في الموارد التي يبقى فيها النبي صلى الله عليه و آله في المدينة، بل يبقى منهم جماعة لتعلم أحكام الدين ويتوجه الباقون إلى الجهاد: «وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِى الدّينِ».

فإذا رجع أصحابهم من الجهاد يقومون بتعليمهم هذه الأحكام والمعارف الإسلامية، ويحذرونهم من مخالفتها: «وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ» والهدف من ذلك أن يحذر هؤلاء عن مخالفة أوامر اللَّه سبحانه بانذارهم «لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ».

المسألة المهمة التي يمكن استخلاصها من الآية، هي الأهمية الخاصة التي أولاها الإسلام لمسألة التعليم والتعلم، إلى الدرجة التي ألزم فيها المسلمين بأن لا يذهبوا جميعاً إلى ميدان الحرب، بل يجب أن يبقى قسم منهم لتعلم الأحكام والمعارف الإسلامية.

إنّ هذا يعني أنّ محاربة الجهل واجب كمحاربة الأعداء، ولا تقل أهمية أحد الجهادين عن

الآخر. بل إنّ المسلمين مالم ينتصروا في محاربتهم للجهل واقتلاع جذوره من المجتمع فإنّهم سوف لا ينتصرون على الأعداء (لأنّ الامة الجاهلة محكومة بالهزيمة دائماً).

مختصر الامثل، ج 2، ص: 321

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) قتال الأقرب فالأقرب: أشارت الآية في سياق أحكام الجهاد التي ذكرت لحد الآن في هذه السورة- إلى أمرين آخرين في هذا الموضوع الإسلامي المهم، فوجهت الخطاب أوّلًا إلى المؤمنين وقالت: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ».

إنّ هذه الآية بالرغم من أنّها تتحدث عن العمل المسلح والبعد المكاني، إلّاأنّه ليس من المستبعد أنّ روح الآية حاكمة في الأعمال المنطقية والفواصل المعنوية، أي إنّ المسلمين عندما يعزمون على المجابهة المنطقية والإعلامية والتبليغية يجب أن يبدؤوا بمن يكون أقرب إلى المجتمع الإسلامي وأشدّ خطراً عليه، فمثلًا في عصرنا الحاضر نرى أنّ خطر الإلحاد والمادية يهدد كل المجتمعات، فيجب تقديم التصدّي لها على مواجهة المذاهب الباطلة الاخرى وهذا لا يعني نسيان هؤلاء، بل يجب اعطاء الأهمية القصوى للهجوم نحو الفئة الأخطر، وهكذا في مواجهة الاستعمار الفكري والسياسي والاقتصادي التي تحوز الدرجة الاولى من الأهمية.

والأمر الثاني فيما يتعلق بالجهاد في الآية، هو اسلوب الحزم والشدّة، فهي تقول: إنّ العدو يجب أن يلمس في المسلمين نوعاً من الخشونة والشدّة: «وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً» وهي تشير إلى أنّ الشجاعة والشهامة الداخلية والإستعداد النفسي لمقابلة العدو ومحاربته ليست كافية بمفردها، بل يجب اظهار هذا الحزم والصلابة للعدو ليعلم أنّكم على درجة عالية من المعنويات، وهذا بنفسه سيؤدّي إلى هزيمتهم وانهيار معنوياتهم.

وبعبارة اخرى فإنّ امتلاك القدرة ليس كافياً، بل يجب استعراض هذه القوة أمام

العدو.

وفي النهاية تبشر الآية المسلمين بالنصر من خلال هذه العبارة: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ». ويمكن أن يشير هذا التعبير- إضافةً لما قيل- إلى أنّ استعمال الشدّة والخشونة يجب أن يقترن بالتقوى، ولا يتعدى الحدود الإنسانية في أي حال.

وَ إِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَ مَاتُوا وَ هُمْ كَافِرُونَ (125)

مختصر الامثل، ج 2، ص: 322

تأثير آيات القرآن المتباين على القلوب: تشير هاتان الآيتان إلى واحدة من علامات المؤمنين والمنافقين البارزة، تكملةً لما مرّ من البحوث حولهما. فتقول أوّلًا: «وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذِهِ إِيمنًا». وهم يريدون بكلامهم هذا أن يبينوا عدم تأثير سور القرآن فيهم، وعدم اعتنائهم بها، ويقولون: إنّ هذه الآيات لا تحتوي على الشي ء المهم والمحتوى الغني، بل هي كلمات عادية ومعروفة.

ولكن القرآن يجيبهم بلهجة قاطعة، ويقول ضمن تقسيم الناس إلى طائفتين: «فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمنًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ».

وهذا على خلاف المنافقين ومرضى القلوب من الجهل والحسد والعناد «وأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ».

وفي النهاية فإنّ هؤلاء بعنادهم يغادرون الدنيا على الكفر: «وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ».

إنّ القرآن الكريم يؤكّد من خلال هاتين الآيتين على حقيقة، وهي أنّ وجود البرامج والقوانين الحياتية لا تكفي بمفردها لسعادة فرد أو جماعة، بل يجب أن يؤخذ بنظر الاعتبار وجود الأرضية المهيئة والإستعداد للتلقي كشرط أساسي.

أَ وَ لَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَ لَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَ إِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ

أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) يستمر الكلام في هذه الآيات حول المنافقين، وهي توبّخهم وتذمهم فتقول: «أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ». والعجيب أنّهم رغم هذه الامتحانات المتلاحقة لا يعتبرون «ثُمَّ لَايَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ».

يظهر من تعبير الآية أنّ هذا الاختبار يختلف عن الاختبار العام الذي يواجهه كل الناس في حياتهم، بل انّ هذا الاختبارات التي ينبغى أن تكون سبباً في توعية هذه المجموعة كإزاحة الستار عن أعمال هؤلاء السيئة وظهور باطنهم وحقيقتهم.

ثم تشير الآية إلى الموقف الإنكاري لهؤلاء في مقابل الآيات الإلهية، فتقول: «وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 323

إنّ خوف هؤلاء وقلقهم ناشي من أنّ تلك السورة تتضمن فضيحة جديدة لهم، أو لأنّهم لا يفهمون منها شيئاً لعمى قلوبهم، والإنسان عدوّ ما يجهل.

وعلى كل حال، فإنّهم كانوا يخرجون من المسجد حتى لا يسمعوا هذه الأنغام الإلهية، إلّا أنّهم كانوا يخشون أن يراهم أحد حين خروجهم، ولذلك كان أحدهم يهمس في أذن صاحبه ويسأله: «هَلْ يَرَيكُم مِّنْ أَحَدٍ»؟ وإذا ما أطمأنوا إلى أنّ الناس منشغلون بسماع كلام النبي صلى الله عليه و آله وغير ملتفتين إليهم خرجوا: «ثُمَّ انصَرَفُوا».

وتطرّقت الآية في الختام إلى ذكر علة هذا الموضوع فقالت: إنّ هؤلاء إنّما لا يريدون سماع كلمات اللَّه سبحانه ولا يرتاحون لذلك لأنّ قلوبهم قد حاقت بها الظلمات لعنادهم ومعاصيهم فصرفها اللَّه سبحانه عن الحق، وأصبحوا أعداءً للحق لأنّهم أناس جاهلون لا فكر لهم: «صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّايَفْقَهُونَ».

لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلهَ

إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) آخر آيات القرآن المجيد: إنّ هذه الآيات برأي بعض المفسّرين، هي آخر الآيات التي نزلت على النبي صلى الله عليه و آله وبها تنتهي سورة التوبة، فهي في الواقع إشارة إلى كل المسائل التي مرّت في هذه السورة. ومن هنا فإنّ خطاب الآية الاولى موجّه للناس، فهي تقول: «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ». خاصة وأنّه قد وردت لفظة «مّنْ أَنفُسِكُمْ» وهي تشير إلى شدة إرتباط النبي صلى الله عليه و آله بالناس، حتى كأنّ قطعة من روح الناس والمجتمع قد ظهرت بشكل النبي صلى الله عليه و آله.

فبعد ذكر هذه الصفة «مّنْ أَنفُسِكُمْ» أشارت الآية إلى أربع صفات اخرى من صفات النبي صلى الله عليه و آله السامية، والتي لها الأثر العميق في إثارة عواطف الناس وجلب انتباههم وتحريك أحاسيسهم. ففي البداية تقول: «عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ». أي أنّ الأمر لا ينتهي في أنّه لا يفرح لأذاكم ومصاعبكم، بل إنّه لا يقف موقف المتفرج تجاه هذا الأذى، فهو يتألم لألمكم.

ثم تضيف أنّه: «حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ» ويتحمس لهدايتكم.

ثم تشير إلى الصفتين الثالثه والرابعة وتقول: «بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ». وعلى هذا فإنّ

مختصر الامثل، ج 2، ص: 324

كل الأوامر الصعبة التي يصدرها، (حتى المسير عبر الصحاري المحرقة في فصل الصيف المقرون بالجوع والعطش لمواجهة عدو قوي في غزوة تبوك) فإنّ ذلك نوع من محبته ولطفه، لنجاتكم ولتخليصكم من قبضة الظلم والاستبداد والمعاصى والتعاسة.

وفي الآية التي تليها، وهي آخر آية في هذه السورة، وصف للنبي صلى الله عليه و آله بأنّه شجاع وصلب في طريق الحق، ولا ييأس بسبب عصيان الناس وتمردهم، بل يستمر في دعوتهم إلى دين الحق: «فَإِن تَوَلَّوْا

فَقُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ». فهو حصنه الوحيد ... أجل لا حصن لي إلّا اللَّه، فإليه استندت و «عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ».

إنّ الذي بيده العرش والعالم العلوي وما وراء الطبيعة بكلّ عظمتها، وهي تحت حمايته ورعايته، كيف يتركني وحيداً ولا يعينني على الأعداء؟ فهل توجد قدرة لها قابلية مقاومة قدرته؟ أم يمكن تصور رحمة وعطف أشد من رحمته وعطفه؟

«نهاية تفسير سورة التوبة»

مختصر الامثل، ج 2، ص: 325

10. سورة يونس

محتوى وفضيلة السورة: هذه السورة- على قول بعض المفسّرين- نزلت بعد سورة الإسراء وقبل سورة هود، وتؤكّد على عدة مسائل أساسية، وأهمها مسألة المبدأ والمعاد.

غاية ما في الأمر أنّها تتحدث أوّلًا عن مسألة الوحي ومقام النبي صلى الله عليه و آله، ثمّ تتطرق إلى نماذج وعلامات الخلقة العظيمة التي تدل على عظمة اللَّه عزّ وجلّ، وبعد ذلك تدعو الناس إلى الإلتفات إلى عدم بقاء الحياة المادية في هذه الدنيا، وحتمية زوالها، ووجوب التوجه إلى الآخرة والتهيؤ لها عن طريق الإيمان والعمل الصالح.

وقد ذكرت السورة- كدلائل وشواهد على هذه المسائل- أقساماً مختلفة من حياة كبار الأنبياء، ومن جملتهم نوح وموسى ويونس عليهم السلام ولهذا سمّيت بسورة يونس.

وأخيراً فإنّها تستغل كل فرصة للبشارة والإنذار، البشارة بالنعم الإلهية التي لا حدود لها للصالحين، والإنذار والإرعاب للطاغين والعاصين، لتكملة ما ورد فيها من بحوث.

في كتاب ثواب الأعمال عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ سورة يونس في كل شهرين أو ثلاثة، لم يخف عليه أن يكون من الجاهلين، وكان يوم القيامة من المقربين». وذلك لأنّ آيات التحذير والوعيد وآيات التوعية كثيرة في هذه السورة.

ربّما لا نحتاج أن نذكّر بأنّ فضائل السور لا يمكن تحصيله بمجرد تلاوة الآيات من دون

مختصر الامثل، ج 2، ص: 326

إدراك معناها، ومن دون العمل بمحتواها، لأنّ التلاوة مقدمة للفهم، والفهم مقدمة للعمل.

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَ كَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) رسالة النبي: في هذه السورة نواجه- مرّة اخرى- الحروف المقطعة في القرآن، والتي ذكرت بصورة «الر». بعد هذه الحروف تشير الآية أوّلًا إلى عظمة آيات القرآن وتقول:

«تِلْكَ ءَايتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ». إنّ التعبير ب «تلك» وهي إسم إشارة للبعيد، بدل (هذه) التي تشير للقريب، والذي جاء نظيره في بداية سورة البقرة، يعتبر من التعبيرات الجميلة واللطيفة في القرآن، وهو كناية عن عظمة ورفعة مفاهيم القرآن.

إنّ توصيف الكتاب السماوي- أي القرآن- بأنّه «حكيم» هو إشارة إلى أنّ آيات القرآن محكمة ومنظمة ودقيقة، بحيث لا يمكن أن يأتيها أو يخالطها أيّ شكل من أشكال الباطل والخرافة، فهي لا تقول إلّاالحق، ولا تدعو إلّاإلى طريق الحق.

أمّا الآية الثانية فإنّها تبيّن- ولمناسبة تلك الإشارة التي مرّت إلى القرآن والوحي الإلهي في الآية السابقة- واحداً من إشكالات المشركين على النبي صلى الله عليه و آله وهو نفس الإشكال الذي جاء في القرآن بصورة متكررة، وهذا التكرار يبيّن أنّ هذا الإشكال من إشكالات المشركين المتكررة، وهو: لماذا نزل الوحي الإلهي من اللَّه على إنسان مثلهم؟ ولماذا لم تتعهد الملائكة بمسؤولية هذه الرسالة الكبيرة؟ فيجيب القرآن عن هذه الأسئلة فيقول: «أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ».

إنّ كلمة «منهم» تضمنت الجواب على سؤالهم، أي إنّ القائد والمرشد إذا كان من جنس أتباعه، ويعلم أمراضهم، ومطلع على احتياجاتهم، فلا مجال للتعجب، بل

العجب أن يكون القائد من غير جنسهم، بحيث يعجز عن قيادتهم نتيجة عدم اطلاعه على وضعهم.

ثم تشير إلى محتوى الوحي الإلهي وتلخصه في أمرين:

الأوّل: إنّ الوحي الذي أرسلناه، مهمته إنذار الناس وتحذيرهم من عواقب الكفر

مختصر الامثل، ج 2، ص: 327

والمعاصى: «أَن أَنذِرِ النَّاسَ».

والثاني: هو «وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبّهِمْ».

إنّ «قدم الصدق» هذا إشارة إلى أنّ الإيمان له «سابقة فطرية» أو إشارة إلى مسألة المعاد ونعيم الآخرة، أو أنّ القدم بمعنى القدوة والزعيم والقائد، أي إنّنا أرسلنا للمؤمنين قائداً ومرشداً صادقاً.

وأن تكون البشارة بكل هذه الامور هي المرادة من التعبير أعلاه.

وتنهي الآية حديثها بذكر إتهام طالما كرّره المشركون واتهموا به النبي صلى الله عليه و آله فقالت: «قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ».

إنّ أمثال هذه التعبيرات التي كانت تصدر من ناحية الأعداء ضد النبي صلى الله عليه و آله دليل بنفسها على أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان يقوم بأعمال خارقة للعادة، بحيث تجذب القلوب والأفكار نحوها، خاصه وأنّ التأكيد على السحر في شأن القرآن المجيد هو بنفسه دليل قاطع وقوي على الجاذبية الخارقة الموجودة في هذا الكتاب السماوي، ولأجل خداع الناس فإنّهم كانوا يجعلونه في إطار السحر.

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) معرفة اللَّه والمعاد: بعد أن أشار القرآن الكريم إلى مسألة

الوحي والنبوة في بداية هذه السورة، انتقل في حديثه إلى أصلين أساسيين في تعليمات وتشريعات جميع الأنبياء، ألا وهما المبدأ والمعاد، وبيّن هذين الأصلين ضمن عبارات قصيرة في هاتين الآيتين.

فيقول أوّلًا: «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ». أي إنّ اللَّه سبحانه قد خلق السماء والأرض في ستة مراحل.

ثم تضيف الآية: «ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبّرُ الْأَمْرَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 328

«العرش»: تأتي أحياناً بمعنى السقف، وأحياناً بمعنى الشي ء الذي له سقف، وتارةً بمعنى الأسرّة المرتفعة، هذا هو المعنى الأصلي لها، أمّا معناها المجازي فهو القدرة. وبعد أن تبيّن أنّ الخالق والموجد هو اللَّه سبحانه، اتّضح أنّ الأصنام،- هذه الموجودات الميتة والعاجزة- لا يمكن أن يكون لها أيّ تأثير في مصير البشر، ولهذا قالت الآية في الجملة التالية: «مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ».

وتتحدث الآية التالية- كما أشرنا- عن المعاد، وتبيّن في جمل قصار أصل مسألة المعاد، والدليل عليها، والهدف منها. فتقول أوّلًا: «إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا». وبعد الإستناد إلى هذه المسألة المهمة والتأكيد عليها تضيف: «وَعْدَ اللَّهُ حَقًّا». ثم تشير إلى الدليل على ذلك بقولها: «إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ».

إنّ الآيات المرتبطة بالمعاد في القرآن توضح أنّ العلة الأساسية في تشكيك وتردد المشركين والمخالفين، هي أنّهم كانوا يشكّون في إمكان حدوث مثل هذا الشي ء، وكانوا يسألون بتعجب بأنّ هذه العظام النخرة التي تحولت إلى تراب، كيف يمكن أن تعود لها الحياة وترجع إلى حالتها الاولى؟ ولهذا نرى أنّ القرآن يقول: فإنّ من أوجد العالم في البداية يستطيع أن يعيد ذلك الايجاد.

ثم تبيّن الهدف من المعاد بأنّه لمكافأة المؤمنين على جميع أعمالهم الصالحة حيث لا تخفى على اللَّه سبحانه مهما صغرت: «لِيَجْزِىَ الَّذِينَ ءَامَنُوا

وَعَمِلُوا الصلِحتِ بِالْقِسْطِ». أمّا اولئك الذين اختاروا طريق الكفر والإنكار، ولم تكن لديهم أعمال صالحة- لأنّ الإعتقاد الصالح أساس العمل الصالح- فإنّ العذاب الأليم وأنواع العقوبات بانتظارهم: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ».

هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَ الْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ وَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) جانب من آيات عظمة اللَّه: لقد مرّت في الآيات السابقة إشارة عابرة إلى مسألة المبدأ

مختصر الامثل، ج 2، ص: 329

والمعاد، إلّاأنّ هذه الآيات وما بعدها تبحث بصورة مفصلة هذين الأصلين الأساسيين اللذين يمثلان أهم دعامة لدعوة الأنبياء. لقد أشارت الآية الاولى التي نبحثها إلى جوانب من آيات عظمة اللَّه سبحانه في عالم الخلقة فقالت: «هُوَ الَّذِى جَعَلَ الْشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا».

إنّ الشمس التي تعم العالم بنورها لا تعطي النور الحرارة للموجودات فحسب، بل هي العامل الأساس في نمو النباتات وتربية الحيوانات، وإذا ما انقطعت هذه الأشعة الحياتية عن كرتنا الأرضية يوماً فإنّ السكون والظلمة والموت سيخيّم على كل شي ء في فاصلة زمنية قصيرة.

والقمر بنوره الجميل هو مصباح ليالينا المظلمة، ولا تقتصر مهمّته على هداية المسافرين ليلًا وإرشادهم إلى مقاصدهم، بل هو بنوره المناسب يبعث الهدوء والنشاط لكل سكان الأرض.

ثمّ أشارت الآية إلى فائدة اخرى لوجود القمر فقالت: «وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ». بل إنّه تقويم طبيعي دقيق جدّاً يستطيع الجاهل والعالم قراءته، ويقرأ فيه تأريخ أعماله وامور حياته.

ثمّ تضيف الآية: إنّ هذا الخلق والدوران ليس عملًا غير هادف، أو هو من باب اللعب،

بل «مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقّ».

وفي النهاية تؤكّد الآية: «يُفَصّلُ الْأَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» إلّاأنّ هؤلاء الغافلين وفاقدي البصيرة بالرغم من أنّهم يمرون كثيراً على هذه الآيات والدلائل، إلّاأنّهم لا يدركون أدنى شي ء منها.

وتتطرق الآية الثانية إلى قسم آخر من العلامات والدلائل السماوية والأرضية الدالّة على وجوده سبحانه، فتقول: «إِنَّ فِى اخْتِلفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ لَأَيتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ». أي إنّ الذين يدركون تلك الآيات هم الذين سمت أرواحهم وصفت نتيجة لتقواهم وبعدهم عن المعاصي.

لقد عدت الآيات أعلاه اختلاف الليل والنهار من آيات اللَّه سبحانه، وذلك لأنّ نور الشمس إذا استمر في إشعاعه على الأرض، فإنّ من المسلّم أن درجة الحرارة سترتفع إلى الحد الذي تستحيل معه الحياة على وجه الأرض.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 330

وكذلك الليل إذا استمر فإنّ كل شي ء سينجمد لشدّة البرودة.

إلّا أنّ اللَّه سبحانه قد جعل هذين الكوكبين يتبع أحدهما الآخر لتهيئة أسباب الحياة والمعيشة على وجه الكرة الأرضية.

إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَ رَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ اطْمَأَنُّوا بِهَا وَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَ آخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) أهل الجنّة والنار: هذه الآيات تفصيل حول المعاد ومصير الناس في العالم الآخر. ففي البداية يقول: «إِنَّ الَّذِينَ لَايَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا». فهم لا يعتقدون بالمعاد وتجاهلوا الآيات البينات فلم يتدبروا فيها كيما تستيقظ قلوبهم ويتحرك فيهم روح الاحساس بالمسؤولية «وَالَّذِينَ هُمْ عَن ءَايتِنَا غَافِلُونَ». فكلتا هاتين

الطائفتين مصيرهم إلى النار: «أُولئِكَ مَأْوَيهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ».

إنّ النتيجة الطبيعية والحتمية لعدم الإيمان بالمعاد هي الإرتباط بهذه الحياة المحدودة والعلائق المادية، والاطمئنان بها والإعتماد عليها.

وكذلك فإنّ الغفلة عن الآيات الإلهية هي أساس البعد عن اللَّه سبحانه، والإبتعاد عن اللَّه هو العلّة لعدم الإحساس بالمسؤولية والتلوّث بالظلم والفساد والمعصية، وعاقبة ذلك لا تكون إلّاالنار.

إنّ هاتين الآيتين تؤكّدان مرّة اخرى هذه الحقيقة، وهي أنّ إصلاح مجتمع ما وإنقاذه من نار الظلم والفساد، يتطلب تقوية رُكني الإيمان باللَّه والمعاد اللذين هما شرطان ضروريان وأساسيان، فإنّ عدم الإيمان باللَّه سبحانه سيقتلع الإحساس بالمسؤولية من وجود الإنسان، والغفلة عن المعاد يذهب بالخوف من العقاب، وعلى هذا فإنّ هذين الأساسين العقائديين هما أساس كل الإصلاحات الاجتماعية.

ثم يشير القرآن إلى وضع فئة اخرى في مقابل هذه الفئة، فيقول: «إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا

مختصر الامثل، ج 2، ص: 331

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ». فإنّ نور الهداية الإلهية الذي ينبعث من نور إيمانهم يضي ء كل آفاق حياتهم، وقد اتّضحت لهم الحقائق باشراقات هذا النور بحيث لم تعد شراك المذاهب المادية وزبارجها، ولا الوساوس الشيطانية وبريق المطامع الدنيوية قادرة على التعتيم على افكارهم ودفعهم في طريق الانحراف عن الصواب والحق.

إنّ وضع هؤلاء في الحياة الاخرى أنّهم «تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ».

إنّ هؤلاء يرفلون في محيط مملوء بالصلح والصفاء وعشق اللَّه وأنواع النعم، ففي كل وقت تنير وجودهم نفحة ورشحة من ذات اللَّه وصفاته، فإنّ «دَعْوَيهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ».

وكلما التقى بعضهم بالآخر فإنّهم يتحدثون عن الصفاء والسلام «وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلمٌ».

وأخيراً فإنّهم كلما إلتذوا بنعم اللَّه المختلفة شكروا ذلك «وَءَاخِرُ دَعْوَيهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ».

وَ لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ

فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَ إِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) الهمج الرّعاع: الكلام في هذه الآيات يدور كذلك حول عقاب المسيئين، فتقول الآية الاولى بأنّ اللَّه سبحانه إذا جازى المسيئين على أعمالهم بنفس العجلة التي يحب بها هؤلاء تحصيل النعم والخير، فستنتهي أعمار الجميع ولا يبقى لهم أثر: «وَلَوْ يُعَجّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ». إلّاأنّ لطف اللَّه سبحانه لما كان شاملًا لجميع العباد، حتى المسيئين والكافرين والمشركين، فلا يمكن أن يعجل بعذابهم وجزائهم لعلهم يعون ويتوبون، ويرجعون عن الضلال إلى الحق والهدى.

وفي الختام تقول الآية: يكفي عقاباً لهؤلاء أن نتركهم وشأنهم ليبقوا في حيرتهم، فلا هم يميزون الحق من الباطل، ولا هم يجدون سبيل النجاة من متاهاتهم: «فَنَذَرُ الَّذِينَ لَايَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ».

عند ذلك تشير الآية إلى وجود نور التوحيد في فطرة الإنسان وأعماق روحه وتقول:

مختصر الامثل، ج 2، ص: 332

«وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانِ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا».

نعم ... إنّ خاصية المشاكل والشدائد الخطيرة، أنّها تزيل الحجب عن فطرة الإنسان الطاهرة، ويسطع عندها- ولو لمدّة قصيرة- نور التوحيد. ثم تقول الآية: إنّ هؤلاء الأفراد إلى درجة من الجهل وضيق الافق بحيث إنّهم يعرضون بمجرد كشف الضرّ عنهم، حتى كأنّهم لم يدعونا ولم نساعدهم: «فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرّ مَّسَّهُ كَذلِكَ زُيّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

إنّ اللَّه سبحانه هو الذي يزين الأعمال، وذلك بجعل هذه الخاصية في الأعمال القبيحة والمحرّمة، بحيث أن الإنسان كلما تلوّث بها أكثر،

فإنّه سيتطبع عليها، وبمرور الزمن يزول قبحها تدريجياً، بل وتصل الحال إلى أن يراها حسنة وجميلة.

وأمّا لماذا سمّت الآية أمثال هؤلاء «مسرفين» فلأنّه لا إسراف أكثر من أن يهدر الإنسان أهم رأس مال في وجوده، ألا وهو العمر والسلامة والشباب والقوى، ويصرفه في طريق الفساد والمعصية أو في طريق تحصيل متاع الدنيا التافه الفاني ولا يربح من ذلك شيئاً.

وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَ مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) الإعتبار بالظالمين السابقين: تشير هذه الآيات أيضاً إلى معاقبة الأفراد الظالمين والمجرمين في هذه الدنيا، وقد نبّهت المسلمين- بعد أن أطلعتهم على تاريخ من قبلهم- إلى أنّهم إذا سلكوا نفس طريق هؤلاء، فسينتظرهم نفس المصير. فالآية الاولى تقول: «وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا». ثمّ تضيف:

«كَذلِكَ نَجْزِى الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ».

ثمّ تبيّن الآية التالية هذا الأمر بصورة أكثر صراحة وتقول: «ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلِفَ فِى الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ».

يستفاد من جملة: «وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا» أنّ اللَّه سبحانه يهلك فقط اولئك الذين لا أمل في إيمانهم حتى في المستقبل، وعلى هذا فإنّ الأقوام التي يمكن أن تؤمن في المستقبل لا يشملها مثل هذا العقاب.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 333

وَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ

لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: نزلت في خمسة نفر (من عبدة الأوثان)، قالوا للنبي صلى الله عليه و آله: ائت بقرآن ليس فيه ترك عبادة اللات والعزّى ومناة وهبل، وليس فيه عيبها، أو بدّله تكلّم به من تلقاء نفسك.

التّفسير

كتعقيب للآيات السابقة التي كانت تتحدث عن المبدأ والمعاد، تبحث هذه الآيات نفس الموضوع والمسائل المتعلقة به. في البداية تشير إلى واحد من الإشتباهات الكبيرة لعباد الأصنام، وتقول: «وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَايَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرءَانٍ غَيْرِ هذَا أَوْ بَدّلْهُ».

إنّ هؤلاء الجهلة العاجزين لم يرضوا بالنّبي صلى الله عليه و آله قائداً ومرشداً لهم، بل كانوا يدعون لاتباع خرافاتهم وأباطيلهم.

إنّ القرآن الكريم يلفت نظر هؤلاء إلى هذا الإشتباه الكبير، ويأمر النبي صلى الله عليه و آله أن يقول لهم: «قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاىِ نَفْسِى». ثم يضيف للتأكيد: «إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَىَّ». ولست عاجزاً عن تغيير أو تبديل هذا الوحي الإلهي- فحسب- بل: «إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ».

ثم تتطرق الآية التالية إلى دليل هذا الموضوع وتقول: قل لهم بأنّي لست مختاراً في هذا الكتاب السماوي: «قُلْ لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَيكُم بِهِ». والدليل على ذلك:

مختصر الامثل، ج 2، ص: 334

«فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ». لكنكم لم تسمعوا منّي مثل هذا الكلام مطلقاً، ولو كانت هذه الآيات من عندي لتحدثت بها لكم خلال هذه الأربعين سنة، فهل لا تدركون أمراً بهذه الدرجة من الوضوح: «أَفَلَا تَعْقِلُونَ». وكذلك، ومن أجل

التأكيد يضيف: بأنّي أعلم أنّ أقبح أنواع الظلم هو أن يفتري الإنسان على اللَّه الكذب: «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا». وعلى هذا فكيف يمكن أن أرتكب مثل هذا الذنب الكبير.

وكذلك فإنّ التكذيب بآيات اللَّه سبحانه من أشدّ الكبائر وأعظمها: «أَوْ كَذَّبَ بَايَاتِهِ».

فإذا كنتم جاهلين بعظمة ما ترتكبونه من الاثم في تكذيب وإنكار آيات الحق، فإنّي لست بجاهل بها، وعلى كل حال فإنّ عملكم هذا جرم كبير، و «إِنَّهُ لَايُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ».

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَ لَا يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَ لَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) آلهة بدون خاصية: واصلت الآية الحديث عن التوحيد أيضاً، وذلك عن طريق نفي الوهية الأصنام، وذكرت عدم أهلية الأصنام للعبادة وإنتفاء قيمتها وأهميتها: «وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَايَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ».

ثمّ تتطرق إلى إدعاءات عبدة الأوثان الواهية، «وَيَقُولُونَ هؤُلَاءِ شُفَعؤُنَا عِندَ اللَّهِ».

أي إنّ هذه الأصنام والآلهة تستطيع بشفاعتها أن تكون سبباً للضر والنفع رغم عجزها عن أي عمل بصورة مستقلة.

لقد كان الإعتقاد بشفاعة الأصنام أحد أسباب عبادتها.

إنّ القرآن يقول في دفع هذا الوهم: «قُلْ أَتُنَبُونَ اللَّهَ بِمَا لَايَعْلَمُ فِى السَّموَاتِ وَلَا فِى الْأَرْضِ». وهو كناية عن أنّ اللَّه سبحانه لو كان له مثل هؤلاء الشفعاء. فإنّه يعلم بوجودهم في أيّ نقطة كانوا من السماء والأرض، لأنّ سعة علم اللَّه لا تدع أصغر ذرة في السماء والأرض إلّاوتحيط بها علماً.

وفي آخر الآية تأكيد لهذا الموضوع حيث تقول: «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 335

وَ مَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَ لَوْ لَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ

لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) إنّ هذه الآية- تتمة للبحث الذي مرّ في الآية السابقة حول نفي الشرك وعبادة الأصنام- تشير إلى فطرة التوحيد لكل البشر، وتقول: «وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً».

إنّ فطرة التوحيد هذه، والتي كانت سالمة في البداية، إلّاأنّها قد اختلفت وتلوّثت بمرور الزمن نتيجة الأفكار الضيقة، والميول الشيطانية والضعف، فانحرف جماعة عن جادة التوحيد وتوجهوا إلى الشرك، وقد انقسم المجتمع الإنساني إلى قسمين مختلفين: قسم موحّد، وقسم مشرك: «فَاخْتَلَفُوا». بناءً على هذا فإنّ الشرك في الواقع نوع من البدعة والانحراف عن الفطرة، الانحراف المترشح من الأوهام والخرافات التي لا أساس لها.

وقد يطرح هنا هذا السؤال، وهو: لماذا لا يرفع اللَّه هذا الاختلاف بواسطة عقاب المشركين السريع، ليرجع المجتمع الإنساني جميعه موحّداً؟

ويجيب القرآن الكريم مباشرة عن هذا السؤال بأنّ الحكمة الإلهية تقتضي حرية البشر في مسير الهداية، فهي رمز التكامل والرقي، ولو لم يكن أمره كذلك فإنّ اللَّه سبحانه كان سيقضي بينهم في اختلافاتهم: «وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ».

وَ يَقُولُونَ لَوْ لَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) المعجزات المقترحة: مرّة اخرى يتطرق القرآن الكريم إلى اختلاق المشركين للحجج عند امتناعهم عن الإيمان والإسلام: «وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مّن رَّبّهِ».

إنّ هؤلاء كانوا يظنون أنّ الإعجاز أمر بيد النبي صلى الله عليه و آله وهو يستطيع أن يقوم به في أي وقت وبأية كيفية يريد، ولهذا فإنّ القرآن الكريم يأمر النبي صلى الله عليه و آله مباشرة: «فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ». وبناء على هذا، فإنّ المعجزة ليست بيدي لآتيكم كل يوم بمعجزة جديدة إرضاءً لأهوائكم وحسب ميولكم

ورغباتكم ثمّ لا تؤمنون بعد ذلك بأعذار واهية وحجج ضعيفة.

وفي النهاية تقول الآية بلهجة التهديد: «فَانتَظِرُوا إِنّى مَعَكُم مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ». فانتظروا العقاب الإلهي، وأنا أنتظر النصر!

مختصر الامثل، ج 2، ص: 336

وَ إِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَ جَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) يدور الكلام في هذه الآيات- أيضاً- حول عقائد وأعمال المشركين، ثم دعوتهم إلى التوحيد ونفي كل أنواع الشرك. فالآية الاولى تشير إلى بعض سلوكيات المشركين الحمقاء، وتقول: إنّنا عندما نبتلي الناس بالمشاكل والنكبات من أجل إيقاظهم وتنبيههم، ثم نرفع هذا البلاء عنهم ونذيقهم طعم الراحة والهدوء بعد تلك الضراء، فإنّهم بدلًا من أن ينتبهوا لهذه الآيات ويرجعوا إلى الصواب، يسخرون بها، أو يفسرونها بتفسيرات غير صحيحة، فمثلًا يفسرون الإبتلاءات والمشاكل بأنّها نتيجة غضب الأصنام، والنعم والطمأنينة بأنّها دليل على شفقتها، أو أنّهم يعدون كل هذه الامور صدفة محضة: «وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِى ءَايَاتِنَا».

إنّ كلمة «مكر» في الآية أعلاه، والتي تعني بشكل عام إعمال الفكر، تشير إلى التوجيهات الخاطئة وطرق التهرّب التي يفكر بها المشركون عند مواجهة الآيات الإلهية، وظهور أنواع

البلايا والنعم. إلّاأنّ اللَّه سبحانه حذر هؤلاء بواسطة نبيّه، وأمره أن «قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا».

و «المكر»: في الأصل هو كل نوع من التخطيط المقترن بالعمل المخفي، وعلى هذا فإنّه يصدق على اللَّه سبحانه كما يصدق على العباد. ومصداق المكر الإلهي في هذه الآية إشارة إلى نفس تلك العقوبات الإلهية التي يحلّ بعضها في نهاية الخفاء وبدون أية مقدمة وبأسرع ما يكون، بل إنّه يعاقب ويعذب بعض المجرمين بأيديهم أحياناً. وبتعبير آخر فإنّ اللَّه

مختصر الامثل، ج 2، ص: 337

سبحانه في أي وقت يريد إنزال العقاب بأحد العباد أو تنبيهه، فإنّ هذا العقاب سيتحقق مباشرة، في حين أنّ الآخرين ليسوا كذلك.

ثم يهدد هؤلاء بأن لا تظنوا أنّ هذه المؤامرات والخطط ستُنسى، بل إنّ رسلنا- أي الملائكة- يكتبون كل هذه المخططات التي تهدف إلى إطفاء نور الحق: «إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ» ولذلك يجب أن تهيئوا أنفسكم للجواب والعقاب في الحياة الاخرى

وتغوص الآية التالية في أعماق فطرة البشر، وتوضح لهؤلاء حقيقة التوحيد الفطري، وكيف أنّ الإنسان عندما تلّم به المشاكل الكبيرة وفي أوقات الخطر، ينسى كل شي ء إلّااللَّه تبارك وتعالى ويتعلق به. تقول الآية: «هُوَ الَّذِى يُسَيِّرُكُمْ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ». في هذا الحال بالضبط تذكروا اللَّه ودعوه بكل إخلاص وبدون أية شائبة من الشرك، و «دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ». فيرفعون أيديهم في هذا الوقت للدعاء:

«لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ». فلا نظلم احداً ولانشرك بعبادتك غيرك.

ورغم أنّ هذه اليقظة مؤقتة، وليس لها أثر تربوي في الأفراد الملوّثين جدّاً، أنّها تقيم الحجّة عليهم،

وستكون دليلًا على محكوميتهم.

أمّا الذين تلوثوا بالمعاصي قليلًا، فإنّهم سيتنبهون في هذه الحوادث ويصلحون مسارهم.

ولكن ما أن أنجاهم اللَّه وأوصلهم إلى شاطى ء النجاة بدؤوا بالظلّم والجور: «فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ». لكن يجب أن تعلموا- أيّها الناس- إنّ نتيجة ظلمكم ستصيبكم أنتم «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم». وآخر عمل تستطيعون عمله هو أن تتمتعوا قليلًا في هذه الدنيا: «مَّتَاعَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

ملاحظتان

1- لقد ذكرت «الرحمة» في الآيات أعلاه مقابل «الضراء» ولم تذكر السراء، وهي إشارة إلى أنّ أي حسن ونعمة تصل إلى الإنسان فهي من اللَّه سبحانه ورحمته اللامتناهية، في حين أنّ السوء والنقمات إذا لم تكن للعبرة، فإنّها من آثار أعمال الإنسان نفسه.

2- إنّ جملة «أُحِيطَ بِهِمْ» تعني أنّ هؤلاء قد أحاطت بهم الأمواج المتلاطمة من كل

مختصر الامثل، ج 2، ص: 338

جانب، إلّاأنّها هنا كناية عن الهلاك والفناء الحتمي لهؤلاء.

إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَ الْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَ ازَّيَّنَتْ وَ ظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَ اللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لوحة الحياة الدنيا: مرّت الإشارة في الآيات السابقة إلى عدم استقرار ودوام الحياة الدنيا، ففي الآية الاولى من الآيات التي نبحثها تفصيل لهذه الحقيقة ضمن مثال لطيف وجميل لرفع حجب الغرور والغفلة من أمام نواظر الغافلين والطغاة «إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنهُ مِنَ السَّمَاءِ».

إنّ قطرات المطر هذه تسقط على الأراضي

التي لها قابلية الحياة. وبهذه القطرات ستنمو مختلف النباتات التي يستفيد من بعضها الإنسان، ومن بعضها الآخر الحيوانات «فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعمُ».

إنّ هذه النباتات علاوة على أنّها تحتوي على الخواص الغذائية المهمة للكائنات الحيّة الاخرى، فإنّها تغطي سطح الأرض وتضفي عليها طابعاً من الجمال «حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ». في هذه الأثناء حيث تتفتح الجنابذ وتورق أعالي الأشجار وتعطي ذلك المنظر الزاهي وتبتسم الأزهار وتتلألأ الأعشاب تحت أشعة الشمس، وتتمايل الأغصان طرباً مع النسيم، وتُظهر حبات الغذاء والأثمار أنفسها شيئاً فشيئاً وتجسم جانباً دائب الحركة من الحياة بكلّ معنى الكلمة، وتملأ القلوب بالأمل، والعيون بالسرور والفرح، بحيث «وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا». في هذه الحال وبصورة غير مرتقبة يصدر أمرنا بتدميرها، سواء ببرد قارص، أو ثلوج كثيرة، أو إعصار مدمّر، ونجعلها كأن لم تكن شيئاً مذكوراً «أَتهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ».

إنّ جملة «لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ» تعني أنّها لم تكن بالأمس هنا، وهذا كناية عن فناء الشي ء بالكلية بصورة كأنّه لم يكن له وجود مطلقاً.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 339

وللتأكيد تقول الآية في النهاية: «كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْأَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».

إنّ الآية التالية أشارت بجملة قصيرة إلى الحياة المقابلة لهذه الحياة، وقالت: «وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلمِ».

فلا خبر هناك عن مطاحنات واعتداءات المتكالبين على الحياة المادية، ولا حرب ولا إراقة دماء ولا استعمار ولا استثمار.

ثم تضيف الآية: إنّ اللَّه سبحانه يهدي من يشاء- إذا كان لائقاً لهذه الهداية- إلى صراطه المستقيم، ذلك الصراط التي ينتهي إلى دار السلام ومركز الأمن والأمان «وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ».

لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَ زِيَادَةٌ وَ لَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَ لَا

ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) بيض الوجوه وسود الوجوه: مرّت الإشارة في الآيات السابقة إلى عالم الآخرة ويوم القيامة، ولهذه المناسبة فإنّ هذه الآيات تبيّن مصير الصالحين وعاقبة المذنبين فتقول في البداية: «لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ». والمقصود من الزيادة في هذه الجملة، هو الثواب المضاعف الكثير، الذي يتضاعف أحياناً عشر مرات، واخرى آلاف المرات حسب نسبة الإخلاص والطهارة والتقوى وقيمة العمل.

ثم تضيف الآية: «وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ». «يرهق»: مأخوذة من مادة «رهق» وهي بمعني التغطية القهرية والجبرية، و «القتر»: بمعنى «الغبار» والدخان.

وفي النهاية تقول: «أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ». التعبير بالأصحاب إشارة إلى التناسب الموجود بين روحية هذه المجموعة ومحيط الجنة.

ثم يأتي الحديث في الآية التالية عن أصحاب النار الذين يشكلون الطرف المقابل للمجموعة الاولى، فتقول: «وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيَاتِ جَزَاءُ سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا». وهنا لا يوجد كلام عن الزيادة، لأنّ الزيادة في الثواب فضل ورحمة، أمّا في العقاب فإنّ العدالة توجب أن

مختصر الامثل، ج 2، ص: 340

مختصر الامثل ج 2 379

يكون بقدر الذنب ولا يزيد ذرة واحدة. إلّاأنّ هؤلاء عكس الفريق الأوّل مسودة وجوههم «وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ». وهذه هي خاصية وأثر العمل الذي ينعكس من داخل روح الإنسان إلى الخارج.

فقد يظن المسيئون أنّهم سوف يكون لهم طريق للهرب أو النجاة، أو أنّ الأصنام وأمثالها تستطيع أن تشفع لهم، إلّاأنّ الجملة التالية تقول بصراحة: «مَّا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ».

إنّ وجوه هؤلاء مظلمة ومسودة إلى الحد الذي «كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا

مِّنَ الَّيْلِ مُظْلِمًا أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».

وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَ شُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَ قَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30) مشهد من قيامة عبدة الأوثان: تتابع هذه الآيات أيضاً البحوث السابقة حول المبدأ والمعاد ووضع المشركين، فتقول أوّلًا: «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ».

ثم تضيف: أنّنا سوف نعزل هاتين الفئتين- أي العابدون والمعبودون- عن بعضهم البعض، ونسأل كلًا منهما على انفراد، تماماً كما هو المتداول في كل المحاكم حيث يسأل كل واحد على انفراد، فنسأل العابدين: بأي دليل جعلتم هذه الأصنام شريكة للَّه وعبدتموها؟

ونسأل المعبودين: لماذا أصبحتم معبودين؟ أو لماذا رضيتم بهذا العمل؟ «فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ».

في هذه الأثناء ينطق الشركاء الذين صنعتهم أوهام هؤلاء: «وَقَالَ شُرَكَاؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ» فأنتم كنتم تعبدون أهواءكم وميولكم وأوهامكم.

ثمّ، ومن أجل التأكيد الأشد، يقولون: «فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ».

والمراد من الأصنام والشركاء في هذه الآية أنّها تشمل كل المعبودات، غاية ما في الأمر أنّ المعبودات التي لها عقل وشعور تعيد الحقائق وتذكرها بلسانها، أمّا المعبودات التي لا

مختصر الامثل، ج 2، ص: 341

عقل لها ولا شعور فإنّ الكلام عن لسان حالها، وتتحدث عن طريق انعكاس آثار العمل.

ففي ذلك اليوم وذلك المكان وذلك الحال- كما يتحدث القرآن في آخر آية من آيات البحث- فإنّ كل إنسان سيختبر كل أعماله التي عملها سابقاً ويرى نتيجتها، بل نفس أعماله، سواء العابدون والمعبودون المضلون الذين كانوا

يدعون الناس إلى عبادتهم، وسواء المشركون والمؤمنون من أيّ قوم ومن أيّ قبيل: «هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ». وفي ذلك اليوم سيرجع الجميع إلى اللَّه مولاهم الحقيقي، ومحكمة المحشر تبيّن أن الحكم لايتم إلّا بأمره «وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلهُمُ الْحَقّ».

وأخيراً فإنّ جميع هذه الأصنام والمعبودات المختلقة التي جعلها هؤلاء شريكة للَّه كذباً ستفنى وتمحى: «وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ» فإنّ القيامة ساحة ظهور كل الأسرار الخفية للعباد، ولا تبقى أية حقيقة إلّاوتُظهر نفسها.

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ أَمْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصَارَ وَ مَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَ مَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَ فَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَا ذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) الحديث في هذه الآيات عن علامات ودلائل وجود اللَّه سبحانه وأهليته للعبادة، وتعقب أبحاث الآيات السابقة حول هذا الموضوع. ففي البداية تقول: قل لهؤلاء المشركين وعبدة الأوثان الحائرين التائهين عن طريق الحق: من يرزقكم من السماء والأرض؟ «قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ».

«الرزق»: يعني العطاء والبذل المستمر، ولما كان الواهب لكل المواهب هو اللَّه سبحانه، فإنّ «الرازق» و «الرزّاق» بمعناهما الحقيقي لا يستعملان إلّافيه فقط، وإذا استعملت هذه الكلمة في حق غيره فلا شك أنّها من باب المجاز.

والأرض وحدها هي التي تغذي جذور النباتات بواسطة موادها الغذائية، وربّما كان هذا هو السبب في أن تتحدث الآية أوّلًا عن أرزاق السماء، ثم عن أرزاق الأرض حسب تفاوت درجة الأهمية.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 342

ثم تشير الآية إلى حاستين من أهم حواس الإنسان، واللتان لايمكن كسب العلم وتحصيله

بدونهما، فقالت: «أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ».

فإنّ هذه الآية أشارت إلى النعم المادية أوّلًا، ثمّ إلى المواهب والأرزاق المعنوية التي تصبح النعم المادية بدونها فاقدة للهدف والمحتوى.

ثم تطرقت الآية إلى ظاهرتي الموت والحياة اللتين هما أعجب ظواهر عالم الخلقة، فتقول: «وَمَن يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيّتَ مِنَ الْحَىّ».

وهذا هو نفس الموضوع الذي حيّر عقول علماء الطبيعة وعلماء الاحياء، وهو كيف أتى الموجود الحي إلى الوجود من موجود ميت؟

هذه الآية تشمل الموت والحياة المعنويين إضافة إلى الموت والحياة الماديين، لأنّنا نرى أناساً عقلاء طاهرين ورعين مؤمنين يولدون أحياناً من أبوين ملوثين منحرفين لا إيمان لهما، ويلاحظ أيضاً عكس ذلك.

ثم تضيف الآية: «وَمَن يُدَبّرُ الْأَمْرَ». والكلام في الواقع بدأ عن خلق المواهب، ثم عن حافظها وحارسها ومدبرها، وبعد أن يطرح القرآن الكريم هذه الأسئلة الثلاثة يقول مباشرة بأنّ هؤلاء سيجيبون بسرعة: «فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ».

يستفاد من هذه الجملة جيداً أنّه حتى مشركي وعبدة الأصنام في الجاهلية كانوا يعلمون أنّ الخالق والرازق والمحيي ومدبر أمور عالم الوجود هو اللَّه سبحانه.

وفي آخر الآية يأمر اللَّه نبيّه: «فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ».

وبعد أن عرضت الآية السابقة نماذج من آثار عظمة وتدبير اللَّه في السماء والأرض، وأيقظت وجدان وعقل المخالفين ودعتهم للحكم في أمر الخالق، واعترف هؤلاء بذلك، خاطبتهم الآية التالية بلهجة قاطعة وقالت: «فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ». لا الأصنام، ولا سائر الموجودات التي جعلتموها شريكة للباري عزّ وجل، والتي تسجدون أمامها وتعظمونها.

ثم تنتهي إلى ذكر النتيجة: «فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقّ إِلَّا الْضَّللُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ». وأنّى تولوا وجوهكم عن عبادة اللَّه وأنتم تعلمون ألّا خالق ولا معبود حقّاً سواه؟

إنّ هذه الآية تطرح طريقاً منطقياً واضحاً لمعرفة الباطل وتركه، وهو أن يخطو الإنسان أوّلًا في سبيل معرفة

الحق بآليات الوجدان والعقل، فإذا عرف الحق فإنّ كل ما خالفه باطل وضلال، ويجب أن يضرب عرض الحائط.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 343

وتقول آخر آية في بيان العلة في عدم اتباع هؤلاء للحق رغم وضوح الأمر وظهور الحق:

«كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَايُؤْمِنُونَ». وفي الواقع فإنّ هذه خاصية الأعمال السيئة المستمرة لهؤلاء بحيث تُظلم قلوبهم وتلوث أرواحهم إلى درجة لا يرون معها الحق رغم وضوحه وتجلّيه، ويسلكون نتيجة لذلك طريق الضلال.

قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَ مَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) واحدة من علامات الحق والباطل: تعقب هذه الآيات أيضاً الإستدلالات المرتبطة بالمبدأ والمعاد، وتأمر الآية الاولى النبي صلى الله عليه و آله أن «قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ». ثمّ تضيف: «قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ». ولماذا تصرفون وجوهكم عن الحق وتتجهون نحو الضلال؟

ثم تأمر الآية الاخرى النبي صلى الله عليه و آله مرّة اخرى: «قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِى إِلَى الْحَقّ».

لأنّ المعبود يجب أن يكون هادياً ومرشداً لعباده، خاصة وأنّها هداية نحو الحق، في حين أنّ آلهة المشركين، أعم من الجمادات أو الأحياء، غير قادرة أن تهدي أحداً إلى الحق بدون الهداية الالهية، لأنّ الهداية إلى الحق تحتاج إلى منزلة العصمة والصيانة من الخطأ والاشتباه، وهذا لايمكن

من دون هداية اللَّه سبحانه وتسديده، ولذلك فإنّها تضيف مباشرة: «قُلِ اللَّهُ يَهْدِى لِلْحَقّ». وإذا كان الحال كذلك «أَفَمَنْ يَهْدِى إِلَى الْحَقّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّايَهْدِى إِلَّا أَن يُهْدَى .

وتقول الآية في النهاية بلهجة التوبيخ والتقريع والملامة: «فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ».

وفي آخر آية إشارة إلى المصدر الأساس والعامل الأصل لهذه الانحرافات وهو الأوهام والظنون «وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَايُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيًا».

وفي النهاية تخاطب الآية- باسلوب التهديد- مثل هؤلاء الأفراد الذين لا يتبعون أي منطق سليم وتقول: «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 344

إنّ الآيات أعلاه تبيّن أنّ من برامج اللَّه الأصلية لعباده أن يهديهم إلى الحق، ويتمّ ذلك عن طريق منح العقل، وإعطاء الدروس المختلفة عن طريق الفطرة، وإرادة وإظهار آياته في عالم الخلقة، وكذلك عن طريق إرسال الأنبياء والكتب السماوية.

وَ مَا كَانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) عظمة دعوة القرآن وحقانيته: تتطرق هذه الآيات إلى الإجابة عن قسم آخر من كلمات المشركين السقيمة، فإنّ هؤلاء لم يجانبوا الصواب في معرفة المبدأ وحسب، بل كانوا يفترون على نبي الخاتم صلى الله عليه و آله بأنّه هو الذي اختلق القرآن ونسبه إلى اللَّه، فالآية الاولى تقول:

«وَمَا

كَانَ هذَا الْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ».

ثم تتطرق الآية إلى ذكر الدليل على أصالة القرآن وكونه وحياً سماوياً: فتقول «وَلكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ». أي إنّ كل البشارات والدلالات الحقة التي جاءت في الكتب السماوية السابقة تنطبق على القرآن ومن جاء به تماماً، وهذا بنفسه يثبت أنّه ليس افتراءً على اللَّه بل هو حق.

ثم تذكر الآية دليلًا آخر على أصالة هذا الوحي السماوي وهو: إنّ في هذا القرآن شرح كتب الأنبياء السابقين الأصيلة، وبيان أحكامهم الأساسية وعقائدهم الأصولية، ولهذا فلاشك في كونه من اللَّه تعالى، فتقول: «وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَارَيْبَ فِيهِ مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ».

وبتعبير آخر: لايوجد فيه أي تضاد وتناقض مع برامج وأهداف الأنبياء السابقين، بل يلاحظ فيه تكامل تلك التعليمات والبرامج، وإذا كان هذا القرآن مختلقاً فلابد أن يخالفها ويناقضها.

وذكر في الآية التالية دليل ثالث على أصالة القرآن، وخاطبت الذين يدعون أنّ النبي صلى الله عليه و آله قد افترى هذا القرآن على اللَّه، بأنّكم إن كنتم صادقين في دعواكم فأتوا بسورة من

مختصر الامثل، ج 2، ص: 345

مثله، واستعينوا في ذلك بمن شئتم غير اللَّه، ولكنكم لاتستطيعون فعل ذلك أبداً، وبهذا الدليل يثبت أنّ القرآن من وحي السماء «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَيهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».

إنّ هذه الآيات من جملة الآيات التي تبيّن إعجاز القرآن بصراحة، لا إعجاز كل القرآن فحسب، بل حتى إعجاز السورة الواحدة، وقد خاطبت كل العالمين- بدون استثناء- بأنّكم إن كنتم معتقدين بأنّ هذه الآيات ليست من اللَّه فأتوا بمثله، أو بسورة منه على الأقل.

وفي الآية التالية إشارة إلى واحدة من العلل الأساسية لمخالفة المشركين، فتقول: إنّ هؤلاء لم ينكروا القرآن بسبب

الإشكالات والإيرادات، بل إنّ تكذيبهم وإنكارهم إنّما كان بسبب عدم اطلاعهم وعلمهم به: «بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ».

في الحقيقة لم يكن لهؤلاء أيّ دليل على نفي المبدأ والمعاد، وكان الجهل والتخلف الناشى ء من الخرافات والتعود على مذهب الأجداد هو السد الوحيد في طريقهم.

أو الجهل بأسرار الأحكام.

أو الجهل بمفهوم بعض الآيات المتشابهة.

أو الجهل بمعنى الحروف المقطعة.

أو الجهل بالدروس والعبر التي هي الهدف النهائي من ذكر تاريخ الماضين.

إنّ مجموع هذه الجهالات والضلالات كانت تحملهم على الإنكار والتكذيب، في حين أنّ تأويل وتفسير وتحقق المسائل المجهولة بالنسبة لهؤلاء لم يبيّن بعد «وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ».

«التأويل»: في أصل اللغة بمعنى إرجاع الشي ء وعلى هذا فإنّ كل عمل أو قول يصل إلى هدفه النهائي نقول عنه: إنّ تأويله قد حان وقته.

ثم يضيف القرآن مبيناً أن هذا المنهج الزائف لاينحصر بمشركي عصر الجاهلية، بل إنّ الأقوام السابقين كانوا مبتلين أيضاً بهذه المسألة، فإنّهم كانوا يكذبون الحقائق وينكرونها دون السعي لمعرفة الواقع، أو إنتظار تحققه: «كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ».

في حين أنّ العقل والمنطق يحكمان بأنّه لا ينبغي للانسان انكار ما يجهله مطلقاً، بل يبدأ بالبحث والتحقيق.

وفي النهاية وجهت الآية الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله وقالت: «فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ». أي إنّ هؤلاء سيلاقون أيضاً نفس المصير.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 346

وأشارت الآية الأخيرة من آيات البحث إلى فئتين عظيمتين من المشركين، فتقول: إنّ هؤلاء لايبقون جميعاً على هذا الحال، بل إنّ جماعة منهم لم تخمد فيهم روح البحث عن الحق وطلبه وسيؤمنون بالقرآن في النهاية. في حين أن الفئة الاخرى ستبقى في عنادها وإصرارها وجهلها، وسوف لا تؤمن أبداً: «وَمِنْهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لَّايُؤْمِنُ بِهِ».

ومن الواضح

أنّ أفراد الفئة الثّانية فاسدون ومفسدون، ولذلك قالت الآية في النهاية:

«وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ». وهي إشارة إلى أنّ الذين لا يذعنون للحق، هم أفراد يسعون لحل عرى المجتمع، ولهم دور مهم في إفساده.

وَ إِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَ أَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَ لَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَ لَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَ لكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) تتابع هذه الآيات البحث الذي مرّ في الآيات السابقة حول إنكار وتكذيب المشركين، وإصرارهم على ذلك، فقد علّمت الآية الاولى النبي صلى الله عليه و آله طريقة جديدة في المواجهة، فقالت: «وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ لّى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُم بَرِيُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِى ءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ».

إنّ لإعلان الترفع وعدم الاهتمام هذا، والمقترن بالاعتماد والإيمان القاطع بالمذهب، أثراً نفسياً خاصاً، وبالذات على المنكرين المعاندين، فهو يفهمهم بعدم وجود أي إجبار وإصرار على قبولهم الدعوة الإسلامية، بل إنّهم بعدم تسليمهم أمام الحق سيحرمون أنفسهم، ولا يضرون إلّاأنفسهم.

وتشير الآيتان التاليتان إلى سبب انحراف هؤلاء وعدم إذعانهم للحق، وتبيّن أنّ التعليمات الصحيحة، والآيات المعجزة التي تهزّ الوجدان والدلالات الاخرى الواضحة لا تكفي بمفردها لهداية الإنسان، بل إنّ إستعداد التقبل ولياقة قبول الحق لازمة أيضاً، كما أنّ البذر لوحده ليس كافياً لإنبات النبات والأوراد، بل إنّ الأرض بدورها يجب أن تكون مستعدة. ولهذا قالت الآية: «وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 347

وهناك فئة ثانية يشخصون بأبصارهم إليك، وينظرون إلى أعمالك

المتضمنة أحقيتك وصدق قولك، إلّاأنّهم عمي لايبصرون: «وَمِنْهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِى الْعُمْىَ وَلَوْ كَانُوا لَايُبْصِرُونَ».

ولكن إعلم وليعلم هؤلاء أنّ قصور الفكر هذا، وعدم البصيرة والعمى عن رؤية وجه الحق، والصمم عن سماع كلام اللَّه ليس شيئاً ذاتياً لهم نشؤوا عليه منذ ولادتهم، وإنّ اللَّه تعالى قد ظلمهم، بل إنّهم هم الذين ظلموا أنفسهم بأعمالهم السيئة وعدائهم وعصيانهم للحق، وعطلوا بذلك عين بصيرتهم وأذن أفئدتهم عن سماع الحق وإتّباعه، ف «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيًا وَلكِنَّ النَّاسُ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ».

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَ مَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَ إِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) بعد بيان بعض صفات المشركين في الآيات السابقة، أشير هنا إلى وضعهم المؤلم في القيامة. تقول الآية: «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ».

الاحساس بقلة مقدار الإقامة في دار الدنيا وقصره، إمّا لأنّه بالنسبة للحياة الاخروية لا يبلغ سوى ساعة واحدة، أو لأنّ هذه الدنيا الفانية انقضت بسرعة بحيث كأنّها لم تكن أكثر من ساعة، أو لأنّهم لما لم يستفيدوا من عمرهم الاستفادة الصحيحة، فيتصورون أنّها لا تساوي أكثر من قيمة ساعة.

يستفاد من الآيتان (55 و 56) من سورة الروم، أنّ مجموعة من المجرمين يُقسمون في القيامة أنّ فترة برزخهم لم تكن أكثر من ساعة، إلّاأنّ المؤمنين يقولون لهم: إنّ المدّة كانت طويلة، والآن قد قامت القيامة وأنتم لاتعلمون، ونحن نعلم أن البرزخ ليس متساوياً بالنسبة

للجميع، وسنذكر تفصيل ذلك في ذيل الآيات المناسبة.

ثم تضيف الآية أنّه سيثبت لكل هؤلاء في ذلك اليوم: «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ

مختصر الامثل، ج 2، ص: 348

اللَّهِ». وأنفقوا كل ملكاتهم وطاقاتهم الحيوية دون جدوى «وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ» بسبب هذا التكذيب والإنكار والإصرار على الذنب، ولأنّ قلوبهم وأرواحهم كانت مظلمة. وتقول الآية التالية تهديداً للكفّار، وتسلية لخاطر النبي صلى الله عليه و آله: «وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ».

وتبيّن الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث قانوناً كلياً في شأن كل الأنبياء، ومن جملتهم نبي الخاتم صلى الله عليه و آله، وكل الامم ومن جملتها الامة التي كانت تحيا في عصر النبي صلى الله عليه و آله فتقول: «وَلِكُلّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ». فإذا جاء رسولها وبلغ رسالته، وآمن قسم منهم وكفر آخرون، فإنّ اللَّه سبحانه يقضي بينهم بعدله، ولا يظلم ربّك أحداً، فيبقى المؤمنون والصالحون يتمتعون بالحياة، أمّا الكافرون فمصيرهم الفناء او الهزيمة: «فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِىَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَايُظْلَمُونَ».

وهذا ما حصل لنبي الخاتم صلى الله عليه و آله وامته المعاصرة له، وبناء على هذا فإنّ القضاء والحكم الذي ورد في هذه الآية هو القضاء التكويني في هذه الدنيا.

وَ يَقُولُونَ مَتَى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَ لَا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَ لَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَا ذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَ ثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَ قَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ

تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) العذاب الإلهي واختيارات الرسول: بعد التهديدات التي ذكرت في الآيات السابقة المتعلقة بعذاب وعقاب منكري الحق، فإنّ هذه الآيات تنقل أوّلًا استهزاء هؤلاء بالعذاب الإلهي وسخريتهم وانكارهم. فتقول: «وَيَقُولُونَ مَتَى هذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».

فإنّ هؤلاء أرادوا بهذه الكلمات أن يظهروا عدم اهتمامهم بتهديدات النبي صلى الله عليه و آله.

وفي مقابل هذا السؤال، فإنّ اللَّه سبحانه أمر نبيّه صلى الله عليه و آله أن يجيبهم بعدّة طرق:

فيقول أوّلًا: «قُلْ لَّاأَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ». فإنّي لست إلّارسوله ونبيّه، وإنّ تعيين موعد نزول العذاب بيده فقط.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 349

إنّ هذه الجملة إشارة إلى توحيد الأفعال حيث يرتبط كل شي ء في هذا العالم باللَّه سبحانه، وكل الحركات والأفعال معلولة لإرادته ومشيئته، فهو الذي ينصر المؤمنين بحكمته، وهو الذي يجازي المنحرفين بعدالته.

من البديهي أنّ ذلك لا ينافي أنّ اللَّه قد أعطانا قوى وطاقات نملك بواسطتها جلب النفع ودفع الضرر، ونستطيع أن نختار ما يتعلق بمصيرنا.

ثم يتطرق القرآن إلى جواب آخر ويقول: «لِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ».

إنّ القرآن الكريم يحذر المشركين الذين كانوا يتعجلون العذاب الإلهي بأن لا يعجلوا، فعندما يحل موعدهم فإنّ هذا العذاب سوف لن يتأخر أو يتقدم لحظة.

وتطرح الآية الاخرى الجواب الثالث، فتقول: «قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَتكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا».

فهل تستطيعون أن تدفعوا عن أنفسكم هذا العذاب المفاجى ء غير المرتقب؟ وإذا كان الحال كذلك ف «مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ».

وفي الآية التالية ورد جواب رابع لهؤلاء، فهي تقول: إذا كنتم تفكرون أن تؤمنوا حين نزول العذاب، وأنّ إيمانكم سيقبل منكم، فإنّ ظنّكم هذا باطل لا صحّة له: «أَثُمَّ إِذَا

مَا وَقَعَ ءَامَنتُم بِهِ». لأنّ أبواب التوبة ستغلق بوجوهكم بعد نزول العذاب، وليس للإيمان حينئذ أدنى أثر، بل يقال لكم: «ءَالنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ».

هذا بالنسبة لعقاب هؤلاء الدنيوي، وفي الآخرة: «ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ». فإنّ أعمالكم هي التي أخذت بأطرافكم، وهي التي تتجسد أمامكم وتؤذيكم على الدوام.

وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَ أَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) لا معنى للشك في العذاب الإلهي: كان البحث في الآيات السابقة عن جزاء وعقاب

مختصر الامثل، ج 2، ص: 350

المجرمين في هذه الدنيا والعالم الآخر، وتكمل هذه الآيات هذا البحث أيضاً. فالآية الاولى تقول: إنّ هؤلاء يسألونك بتعجب واستفهام عن حقيقة هذا الوعيد بالعذاب الإلهي في هذا العالم والعالم الآخر: «وَيَسْتَنْبُونَكَ أَحَقُّ هُوَ». ويأمر اللَّه سبحانه نبيّه أن يجيبهم على هذا السؤال بما أوتي من التأكيد: «قُلْ إِى وَرَبّى إِنَّهُ لَحَقٌّ». وإذا ظننتم أنّكم تستطيعون أن تفلتوا من قبضة العقاب الإلهي فأنتم على خطأ كبير:

«وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ».

وتؤكّد الآية الاخرى على عظمة هذه العقوبة، وخاصة في القيامة، فتقول: «وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِى الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ».

إنّ هؤلاء مستعدون لأن يدفعوا أكبر رشوة يمكن تصورها من أجل الخلاص من قبضة العذاب الإلهي، لكن لا أحد يقبل من هؤلاء شيئاً، ولا ينقص

من عذابهم مقدار رأس ابرة، خاصة وأنّ لبعض هذه العقوبات صبغة معنوية، وهي أنّهم: يرون العذاب والفضيحة في مقابل أتباعهم مما يوجب لهم اظهار الندم مزيداً من الخزي والعذاب النفسي فلذلك يحاولون عدم ابراز الندم: «وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ».

ثم تؤكّد الآية على أنّه بالرغم من كل ذلك، فإنّ الحكم بين هؤلاء يجري بالعدل، ولا يظلم أحد منهم: «وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَايُظْلَمُونَ».

ثم، ومن أجل أن لا يأخذ الناس هذه الوعود والتهديدات الإلهية مأخذ الهزل، ولكي لايظنوا أنّ اللَّه عاجز عن تنفيذ هذه الوعود، تضيف الآية: «أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَايَعْلَمُونَ». لأنّ جهلهم قد حجب بصيرتهم وجعل عليها غشاوة فلم يعوا الحقيقة.

وتؤكّد آخر آية على هذه المسألة الحياتية مرّة اخرى، حيث تقول: «هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ».

وبناء على ذلك فإنّ له القدرة على إماتة العباد، كما أنّ له القدرة على إحيائهم لمحكمة الآخرة، وفي النهاية: «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» وستلاقون جزاء كل أعمالكم هناك.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَ هُدًى وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)

مختصر الامثل، ج 2، ص: 351

القرآن رحمة إلهية كبرى: لقد جاءت في بعض الآيات السابقة بحوث في شأن القرآن عكست جوانب من مخالفات المشركين. وفي هذه الآيات تجدد الكلام عن القرآن بهذه المناسبة أيضاً، ففي البداية تخاطب جميع البشرية خطاباً عالمياً وشمولياً وتقول: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ».

لقد بيّنت هذه الآية أربع صفات للقرآن وتشرح وتبيّن أربع مراحل من مراحل تربية وتكامل الإنسان في ظل القرآن:

المرحلة الاولى:

مرحلة الموعظة والنصيحة.

المرحلة الثانية: مرحلة تطهير روح الإنسان من مختلف أنواع الرذائل الأخلاقية.

المرحلة الثالثه: مرحلة الهداية التي تجري بعد مرحلة التطهير.

المرحلة الرابعة: هي المرحلة التي يصل فيها الإنسان إلى أن يكون لائقاً لأن تشمله رحمة اللَّه ونعمته.

وتقول الآية الاخرى من أجل تكميل هذا البحث والتأكيد على هذه النعمة الإلهية الكبرى- أي القرآن المجيد-: «قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا» ولا يفرحوا بمقدار الثروات، وعظم المراكز، وعزة القوم والقبيلة، لأنّ رأس المال الحقيقي والأساس للسعادة الحقيقية هو هذا القرآن، فهو أفضل من كل ما جمعوه، ولا يمكن قياسه بذلك المجموع، إذاً «هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ».

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَ حَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَ مَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60) وَ مَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَ مَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَ لَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَ مَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لَا فِي السَّمَاءِ وَ لَا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَ لَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) هو الشاهد في كل مكان: كان الحديث في الآيات السابقة عن القرآن، والموعظة الإلهية والهداية والرحمة في هذا الكتاب السماوي، وتتحدث هذه الآيات عن قوانين المشركين

مختصر الامثل، ج 2، ص: 352

المبتدعة والخرافية وأحكامهم الكاذبة. الآية الاولى وجهت الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله وقالت:

«قُلْ أَرَءَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَللًا». إذ أنّهم طبقاً لسننهم الخرافية حرموا قسماً من الدواب وكذلك

حرّموا جزءاً من محاصيلهم الزراعية. ثم تقول: «قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ».

الآن وقد أصبح من المسلم أنّ هؤلاء بهذه الأحكام الخرافية المبتدعة، إضافةً إلى أنّهم حُرموا من النعم الإلهية، فإنّهم قد افتروا على الساحة الإلهية المقدسة، ولذلك تضيف الآية:

«وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيمَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ» ولذلك فإنّه لسعة رحمته لا يعاقب هؤلاء فوراً على أعمالهم القبيحة.

إلّا أنّ هؤلاء بدل أن يستغلوا هذه الفرصة الإلهية ويشكروا اللَّه على ذلك وينيبوا إليه، فإنّ أكثرهم غافلون: «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَايَشْكُرُونَ».

وحتى لا يتصور أحد أنّ هذه المهلة الإلهية دليل على عدم إحاطة علم اللَّه سبحانه بكل أعمال هؤلاء، فإنّ آخر آية من آيات البحث تبيّن هذه الحقيقة بأبلغ عبارة وتوضح أنّ اللَّه مطّلع على كل ذرات الموجودات في خفايا السماء والأرض، ومطّلع على دقائق أعمال العباد، فتقول: «وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِن قُرْءَانٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ».

ثم تعقب الآية على مسألة اطلاع اللَّه على كل شي ء بتأكيد أكبر، فتقول: «وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ».

«يعزب»: مأخوذة من العزوب، وهو في الأصل بمعنى الإبتعاد عن البيت والأهل في سبيل إيجاد وتهيئة المراتع للأغنام والحيوانات، ثمّ استعملت بمعنى الغيبة والإختفاء بصورة مطلقة.

و «الذّرة»: بمعنى الجسم الصغير جدّاً، ولذلك يقال للنمل الصغير: ذرة، ولمزيد التوضيح راجع تفسير الآية (40) من سورة النساء.

«الكتاب المبين» إشارة إلى علم اللَّه الواسع، والذي يعبر عنه أحياناً باللوح المحفوظ، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع في تفسير الآية (59) من سورة الأنعام.

لقد

بيّنت آخر هذه الآيات درساً كبيراً لكلّ المسلمين ... درس يستطيع أن يسلك بهم طريق الحق ويصرفهم عن الإنحرافات والطرق الملتوية ... درس فيه صلاح المجتمع مع

مختصر الامثل، ج 2، ص: 353

التوجّه اليه، وهو: إنّنا يجب أن نعي هذه الحقيقة، وهي أنّ كل خطوة نخطوها، وكل كلام نقوله، وكل فكرة تخطر في أذهاننا، ولأي جهة ننظر، وعلى أيّ حال نكون، فليس اللَّه سبحانه وحده يراقبنا ونحن على هذه الأحوال والأفعال، بل إنّ ملائكته تراقبنا أيضاً، وينظرون إلينا بكل دقّة وانتباه.

في المجمع عن الإمام الصادق عليه السلام: «كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذا قرأ هذه الآية بكى بكاءً شديداً».

فإذا كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مع كل ذلك الإخلاص والعبودية، ومع كل تلك الخدمة للخلق والعبادة للخالق خائفاً من عمله في مقابل علم اللَّه، فإنّ حالنا وحال الآخرين معلوم.

أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ فِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَ لَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) طمأنينة الروح في ظل الإيمان: لمّا شرحت الآيات السابقة بعضاً من حالات المشركين والأفراد غير المؤمنين، بيّنت هذه الآيات حال المؤمنين المخلصين المجاهدين المتقين الذين يقعون في الطرف المقابل لُاولئك تماماً، تقول الآية أوّلًا: «أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَاخَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ». إنّ المقصود من الغموم هي الغموم المادية والأخاويف الدنيوية، وإلّا فإنّ وجود أولياء اللَّه مملوء بالخوف والخشية ... الخوف من عدم أداء الواجبات والمسؤولية.

والأسف والحسرة على أن يكون قد فاتهم شي ء من الموفقية،

ولهذا الخوف والحسرة صفة معنوية، فهما أساس تكامل وجود الإنسان ورقيّه، بعكس الخوف والحزن الدنيويين فهما أساس الإنحطاط والتسافل.

إنّ أولياء اللَّه هم الذين لا يوجد حاجب وحائل بينهم وبين اللَّه، فقد زالت الحجب عن قلوبهم ويتقلبون في نور المعرفة والإيمان والعمل الخالص، ويرون اللَّه بعيون قلوبهم بحيث لا يجد الشك أي طريق إلى تلك القلوب الوالهة، وبالنظر لهذه المعرفة باللَّه الأزلي والقدرة اللامحدودة والكمال المطلق، فإنّ كل شي ء سوى اللَّه حقير في نظرهم ولا قيمة له، وفانٍ لا أهمية له.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 354

إنّ الآية الثانية وضحت المقصود من «أولياء اللَّه» فهي تقول: «الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ».

وتؤكّد الآية الثالثه على مسألة عدم وجود الخوف والغم والوحشة في شخصية وقلوب أولياء الحق بهذه العبارة: «لَهُمُ الْبُشْرَى فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَفِى الْأَخِرَةِ».

ثم تضيف من أجل التأكيد أيضاً: «لَاتَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ». بل هي ثابتة حقّة، وأنّ اللَّه سبحانه سيفي بما وعد به أولياءه، و «ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».

وحولت الآية الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله الذي يمثل رأس سلسلة أولياء اللَّه وأحبائه مخاطبةً له بلحن المواساة وتسلية الخاطر: «وَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا». ولا يمكن أن يقوم العدو بعمل مقابل إرادة الحق، فإنّه تعالى عالم بكل خططهم ودسائسهم. ف «هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».

أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ مَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ النَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) جانب من آيات عظمته: تعود الآيات أعلاه مرّة اخرى إلى مسألة التوحيد والشرك والتي تعتبر واحدة من

أهم مباحث الإسلام، وبحوث هذه السورة، وتجرّ المشركين إلى المحاكمة وتثبت عجزهم. فتقول أوّلًا: «أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَن فِى السَّموَاتِ وَمَن فِى الْأَرْضِ». وإذا كان الأشخاص ملكه ومنه، فمن الاولى أن تكون الأشياء الموجودة في هذا العالم ملكه ومنه، وبناءً على هذه فإنّه مالك كل عالم الوجود.

ثمّ تضيف الآية: «وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ». إذ لا دليل ولا برهان لهم على كلامهم «وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ».

وأساساً، فإنّ إتباع الظن والحدس الذي لا يستند إلى أساس ثابت يجرّ الإنسان في النهاية إلى وادي الكذب عادة.

ثمّ ومن أجل إكمال هذا البحث، وتبيّن طرق معرفة اللَّه، والإبتعاد عن الشرك وعبادة

مختصر الامثل، ج 2، ص: 355

الأوثان، أشارت الآية الثانية إلى جانب من المواهب الإلهية التي أودعت في نظام الخلقة والدالة على عظمة وقدرة وحكمة اللَّه عزّ وجل، فقالت: «هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا».

نعم «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ». اولئك الذين يسمعون ويدركون، وبعد إدراك الحقيقة يتبعونها ويسيرون على نهجها.

قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهذَا أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) تستمر هذه الآيات- أيضاً- في بحثها مع المشركين، وتذكر واحدة من أكاذيب واتهامات هؤلاء لساحة اللَّه المقدسة، فتقول أوّلًا: «قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا».

إنّ هذا الكلام قاله المسيحيون في حق المسيح عليه السلام ثمّ عبدة الأوثان في عصر الجاهلية في حق الملائكة، حيث كانوا يظنون أنّها بنات اللَّه، وقاله

اليهود في شأن عزير. ويجيبهم القرآن بطريقين:

الأوّل: إنّ اللَّه سبحانه منزّه عن كل عيب ونقص، وهو مستغن عن كل شي ء: «سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِىُّ». وهذا إشارة إلى أنّ الحاجة إلى الولد، إمّا للحاجة الجسمية إلى قوته ومساعدته، أو للحاجة الروحية والعاطفية، ولما كان اللَّه سبحانه منزّه عن كل عيب ونقص وحاجة، فلا يمكن أن يتخذ لنفسه ولداً.

«لَهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ». ومع هذا الحال فأي معنى لأن يتخذ لنفسه ولداً ليطمئنه ويهدئه، أو يعينه ويساعده.

والجواب الثاني الذي يذكره القرآن لهؤلاء هو: إنّ من يدعي شيئاً يجب عليه أن يقيم دليلًا على مدعاه: «إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطنٍ بِهذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَاتَعْلَمُونَ».

وتعيد الآية التالية عاقبة الإفتراء على اللَّه المشؤومة، فتوجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله وتقول: «قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَايُفْلِحُونَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 356

وعلى فرض أنّ هؤلاء يستطيعون بافتراءاتهم وأكاذيبهم أن ينالوا المال والمقام لعدّة أيام، فإنّ ذلك «مَتعٌ فِى الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ». إنّ التعبير ب «نذيقهم» يشير إلى أنّ هذا العذاب الذي سينال هؤلاء بدرجة من الشدّة بحيث كأنّهم يذوقونه بألسنتهم وأفواههم، وهذا التعبير أبلغ جداً من المشاهدة، بل وحتى من لمس العذاب.

وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَ تَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَ لَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَ جَعَلْنَاهُمْ

خَلَائِفَ وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) جانب من جهاد نوح: الآيات أعلاه بداية لبيان قسم من تأريخ الأنبياء، فيأمر اللَّه نبيّه أن يتابع حديثه السابق مع المشركين بشرح تاريخ الماضين ليكون عبرة لهم. في البداية تطرقت إلى قصة نوح، فقالت: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بَايتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ». ولهذا فإنّي لا أخاف غيره.

ثم تضيف: «فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ». أي ادعوا أصنامكم أيضاً لتعينكم في المشورة، حتى لا يبقى شي ء خافياً على أحد ولا يتعرض منكم إلى الهم والغم أحد «ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً». بل اتّخذوا قراركم في شأني بكل وضوح.

ثم يقول: «ثُمَّ اقْضُوا إِلَىَّ وَلَا تُنظِرُونَ».

وإذا علمنا أنّ هذه الآيات نزلت في مكة في الوقت الذي كان يعيش فيه النبي صلى الله عليه و آله ظروفاً تشبه ظروف نوح، وكان المؤمنون قلّة، سيتّضح أنّ القرآن يريد أن يعطي للنبي- أيضاً- نفس هذا الدرس بأن لا يهتم بقدرة العدو، بل يسير ويتقدم بكلّ حزم وجرأة وشجاعة، لأنّ اللَّه يسنده وينصره.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 357

وهذا درس كبير لكل القادة الإسلاميين بأن لا يخافوا ولا ينهاروا أمام عظمة الأعداء وكثرتهم، بل إنّهم باتكالهم على اللَّه كانوا يدعون هؤلاء إلى الميدان بكل حزم واقتدار ويستصغرون قوتهم، فكان هذا عاملًا مهماً في تقوية معنويات الأتباع والمؤيدين، وتدمير معنويات العدو وانهيارها.

وذكرت الآية التالية بياناً آخر عن نوح من أجل إثبات أحقيّته، هناك حيث تقول:

«فَإِن تَوَّلَيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ»، فإنّي أعمل له، ولا أريد الأجر إلّا منه «وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ».

إنّ مقولة نوح هذه درس آخر

للقادة الإلهيين بأن لا يتوقعوا أي جزاء مادي ومعنوي من الناس لقاء دعوتهم وتبليغهم، لأنّ هذا التوقع يوجد نوعاً من التعلق النفسي الذي يؤدّي إلى عرقلة أساليب الدعوة الصريحة والنشاطات الحرة.

وتبيّن الآية الأخيرة عاقبة ومصير أعداء نوح، وصدق توقعه وقوله السابق بهذه الصورة: «فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الْفُلْكِ». ولم ننقذهم وحسب، بل «وَجَعَلْنَاهُمْ خَلِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بَايتِنَا».

وفي النهاية توجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله وتقول: «فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ».

ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) الرسل بعد نوح: بعد انتهاء البحث الإجمالي حول قصّة نوح، أشارت هذه الآية إلى الأنبياء الآخرين الذين جاؤوا بعد نوح وقبل موسى عليهما السلام لهداية الناس كإبراهيم وهود وصالح ولوط ويوسف عليهم السلام فقالت: «ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيّنَاتِ».

فقد كانوا مسلّحين كنوح بسلاح المنطق والإعجاز والبرامج البناءة، إلّاأنّ الذين سلكوا طريق العناد وكذّبوا الأنبياء السابقين، كذّبوا هؤلاء الأنبياء أيضاً ولم يؤمنوا بهم «فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ». وكان ذلك نتيجة للعصيان والتمرّد وعداء الحق الذي أوصد تلك القلوب «كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 358

جانب من جهاد موسى وهارون: لقد جرى ذكر قصص الأنبياء والامم السابقة كنماذج حيّة، وبدأ الحديث أوّلًا عن نوح عليه السلام ثمّ عن الأنبياء بعد نوح، ووصل الدور في هذه الآيات إلى موسى وهارون عليهما السلام ومواجهاتهم المستمرة مع فرعون وأتباعه، فتقول الآية الاولى:

«ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهرُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيهِ بَايَاتِنَا».

إلّا أنّ فرعون وأتباعه امتنعوا عن قبول دعوة موسى، وعن التسليم في مقابل

الحق:

«فَاسْتَكْبَرُوا». ونظراً للتكبر والاستعلاء وعدم امتلاكهم لروح التواضع فإنّهم لم يلتفتوا إلى الحقائق الواضحة في دعوة موسى، وأصرّوا واستمروا في إجرامهم: «وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ».

وتتحدث الآية التالية عن مراحل مواجهة الفراعنة لموسى وأخيه هارون، وأوّل تلك المراحل هي مرحلة الإنكار والتكذيب والإفتراء واتهامهما بسوء النية، وابطال سنن الأجداد، والإخلال بالنظام الاجتماعي، كما يقول القرآن: «فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا إِنَّ هذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ».

إلّا أنّ موسى عليه السلام نهض للدفاع عن نفسه، فأزاح الستار وأوضح كذب هؤلاء وأبطل تهمتهم، ففي البداية: «قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذَا».

صحيح أنّ لكل من السحر والمعجزة نفوذاً وتأثيراً، وأنّ من الممكن أن يؤثر الحق والباطل على ادراكات الناس ونفسياتهم، إلّاأنّ السحر الذي هو أمر باطل يتميز تماماً عن المعجزة التي هي حق، إذاً لايمكن المقارنة بين نفوذ الأنبياء ونفوذ السحرة، فإنّ أعمال السحرة تفتقد إلى الهدفية ومحدودة ولا قيمة لها، ومعجزات الأنبياء لها أهداف إصلاحية وتغييرية وتربوية واضحة، وتعرض بشكل واسع وغير محدود.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 359

إضافة إلى أنّه: «وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ». وهذا التعبير دليل آخر على امتياز عمل الأنبياء عن السحر.

إنّ السحرة لا يرون وجه الفلاح مطلقاً، ولا يعملون إلّامن أجل المال والثروة والمنصب والمنافع الشخصية، في حين أنّ هدف الأنبياء هداية خلق اللَّه وإصلاح المجتمع الإنساني من جميع جوانبه المادية والمعنوية.

ثمّ يستمر فرعون وملئه في رمي موسى عليه السلام بسيل الإتهامات الصريحة، حيث «قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا».

الواقع، أنّهم قدموا صنم «سنة الآباء» وعظمتهم الخيالية والأسطورية حتى يوجهوا الرأي العام ضد موسى وهارون، بأنّهما يريدان أن يعبثا بمقدّسات مجتمعكم وبلادكم.

ثمّ استمروا في هذا التشويه، وقالوا بأنّ دعوتكم إلى دين اللَّه ما هي إلّاكذب محض،

وكل هذه مصائد وخطط خيانية بهدف التسلط على الناس: «وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِى الْأَرْضِ».

إنّ هؤلاء لما كانوا يسعون دائماً من أجل الحكم الظالم على الناس كانوا يظنون أنّ الآخرين مثلهم، وهكذا كانوا يفسرون مساعي المصلحين والأنبياء.

«وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ» لأنّا على علم بنواياكم وخططكم الهدامة.

وكانت هذه هي المرحلة الاولى من المواجهة السلبية مع موسى.

وَ قَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَ يُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) المرحلة الثّانية: فعندما لاحظ فرعون قسماً من معجزات موسى، كاليد البيضاء والحية العظيمة، ورأى أنّ ادّعاء موسى ليس واهياً بدون دليل وبرهان، وأنّ هذا الدليل سيؤثر في جميع أنصاره أو الآخرين قليلًا أو كثيراً، فكّر بجواب عملي كما يقول القرآن: «وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِى بِكُلّ سحِرٍ عَلِيمٍ». «فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ». فإنّ هؤلاء قد عبؤوا كل ما يملكون من قدرة، وألقوا كل ما أتوا به معهم في وسط الحلبة: «فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم

مختصر الامثل، ج 2، ص: 360

بِهِ السّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ». فأنتم أفراد فاسدون ومفسدون لأنّكم تخدمون حكومة جبارة وظالمة وتعملون على تقوية دعائم هذه الحكومة الغاشمة الدكتاتورية وهذا بنفسه أقوى دليل على كونكم مفسدين، و «إِنَّ اللَّهَ لَايُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ».

وفي الآية الأخيرة، إنّ موسى قال لهؤلاء: إنّ النصر والغلب لنا في هذه المبارزة حتماً، لأنّ اللَّه سبحانه قد وعد أن يظهر الحق بواسطة المنطق القاطع، ومعجزات أنبيائه القاهرة، ويفضح ويخزي المفسدين وأهل الباطل وإن كره المجرمون

ذلك: «وَيُحِقُّ اللَّهَ الْحَقَّ بِكَلِمتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ».

فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَ قَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَ نَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) المرحلة الثالثه: عكست هذه الآيات مرحلة اخرى من المواجهة الثورية بين موسى وفرعون، ففي البداية تبيّن وضع المؤمنين فتقول: «فَمَا ءَامَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ».

إنّ هذه المجموعة الصغيرة القليلة، والتي كان الشباب والأشبال يشكّلون أكثريتها بمقتضى ظاهر كلمة ذريّة، كانت تواجه ضغوطا شديدة من فرعون وأتباعه إلى درجة أنّهم خافوا أن يصل بهم الأمر إلى ترك دين موسى نتيجة هذه الضغوط الشديدة: «عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِى الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ».

فقد حدّث موسى هؤلاء بلسان المحبّة والمودة من أجل تهدئة خواطرهم وتسكين قلوبهم: «وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ».

إنّ حقيقة التوكل هي إلقاء العمل والتصرف في الامور على كاهل الوكيل، وليس معنى التوكل أن يترك الإنسان الجد والسعي، بل معناه أن يبذل قصارى جهده، فإذا لم يستطع أن يحل المشكلة فلا يدع للخوف طريقاً إلى نفسه، بل يصمد أمامها بالتوكل والإعتماد على لطف اللَّه والاستعانة بذاته المقدسة وقدرته اللامتناهية، ويستمر في جهاده المتواصل.

إنّ هؤلاء المؤمنين المخلصين أجابوا دعوة موسى بالتوكل: «فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا». ثمّ

مختصر الامثل، ج 2، ص: 361

رجوا من اللَّه سبحانه أن ينجيهم من شر الأعداء ووساوسهم وضغوطهم ويؤمّنهم: «رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً

لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ». «وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ».

وَ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَ قَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً وَ أَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَ اشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَ لَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) المرحلة الرابعة: مرحلة البناء من أجل الثورة: شرحت هذه الآيات مرحلة اخرى من نهضة وثورة بني إسرائيل ضد الفراعنة. فتقول أوّلًا: «وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبلَةً». فالأمر الإلهي يقرر اختيار البيوت لبني اسرائيل بمصر وأن تكون هذه البيوت متقاربة ومتقابلة.

ثم تطرقت إلى مسألة تربية النفس معنوياً وروحياً، فقالت: «وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ». ومن أجل أن تطرد آثار الخوف والرعب من قلوب هؤلاء وتعيد وتزيد من قدرتهم المعنوية والثورية قالت: «وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ».

يستفاد من مجموع هذه الآية أنّ بني إسرائيل كانوا في تلك الفترة بصورة جماعة متشتتة مهزومة ومتطفلة وملوّثة وخائفة، فلا مأوى لهم ولا اجتماع مركزي.

لذلك فإنّ موسى وأخاه هارون قد تلقوا مهمة وضع برنامج في عدّة نقاط من أجل تطهير مجتمع بني إسرائيل، وخاصه في الجانب الروحي:

1- الإهتمام أوّلًا بمسألة بناء المساكن، وعزل مساكنهم عن الفراعنة.

2- أن يبنوا بيوتهم متقاربة ويقابل بعضها الآخر.

3- التوجه إلى العبادة، وخاصه الصلاة التي تحرر الإنسان من عبودية العباد.

الملفت للنظر أنّ بني إسرائيل من أولاد يعقوب، وجماعة منهم من أولاد يوسف طبعاً، وقد حكم هو واخوته مصر سنين طويلة، وسعوا في عمران هذا الوطن، إلّاأنّه نتيجة لتركهم طاعة اللَّه والغفلة

والخلافات الداخلية وصلوا إلى مثل هذا الوضع المأساوي.

وَ جَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ بَغْياً وَ عَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) وَ لَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَ رَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)

مختصر الامثل، ج 2، ص: 362

ثم أشارت إلى إحدى علل طغيان فرعون وأزلامه، فتقول على لسان موسى: «وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ ءَاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ».

إنّ اللام في «ليضلوا» لام العاقبة، أي إنّ جماعة الأشراف الأثرياء المترفين سيسعون من أجل إضلال الناس شاؤوا أم أبوا، وسوف لا تكون عاقبة أمرهم شيئاً غير هذا، لأنّ دعوة الأنبياء والأطروحات الإلهية توقظ الناس وتوحدّهم وبذلك لا يبقى مجال لتسلط الظالمين وكيد المعتدين وستضيق الدنيا عليهم، فلا يجدوا بدّاً من معارضة الانبياء. ثم يطلب موسى عليه السلام من اللَّه طلباً فيقول: «رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ».

«الطمس»: في اللغة بمعنى المحو وسلب خواص الشي ء، واللطيف في الأمر أنّ ماورد في بعض الروايات من أنّ أموال الفراعنة قد أصبحت خزفاً وحجراً بعد هذه اللعنة، ربّما كان كناية عن أنّ التدهور الاقتصادي قد بلغ بهم أن سقطت فيه قيمة ثرواتهم تماماً وأصبحت كالخزف لا قيمة لها!

ثم اضافت: «وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ». أي: أسلبهم قدرة التفكير والتدبر أيضاً لأنّهم بفقدانهم هاتين الدعامتين (المال والفكر) سيكونون على حافة الزوال

والفناء، وسينفتح أمامنا طريق الثورة، وتوجيه الضربه النهائية لهؤلاء.

اللّهم إن كنت قد طلبت ذلك منك في حق الفراعنة فليس ذلك نابعاً من روح الإنتقام والحقد بل لأنّ هؤلاء قد فقدوا أرضية الإيمان أبداً: «فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ».

ثم خاطب اللَّه سبحانه وتعالى موسى وأخاه بأنّه: الآن وقد أصبحتما مستعدين لتربية وبناء قوم بني إسرائيل «قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا» في سبيل اللَّه ولا تخافا سيل المشاكل، وكونا حازمين في أعمالكما ولا تستسلما أمام اقتراحات الجاهلين، بل استمرّا في برنامجكما الثوري «وَلَا تَتَّبِعَانّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَايَعْلَمُونَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 363

الفصل الأخير من المجابهة مع الظالمين: هذه الآيات جسّدت آخر مرحلة من المواجهة بين بني إسرائيل والفراعنة وبيّنت مصير هؤلاء في عبارات قصيرة، فتقول أوّلًا:

إنّنا جاوزنا ببني إسرائيل البحر- وهو نهر النيل العظيم أطلق عليه اسم البحر لعظمته- أثناء مواجهتهم للفراعنة، وعندما كانوا تحت ضغط ومطاردة هؤلاء: «وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْرَاءِيلَ الْبَحْرَ». إلّاأنّ فرعون وجنوده طاردوا هؤلاء من أجل القضاء على بني إسرائيل:

«فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا». «البغي»: يعني الظلم، «والعدو»: بمعنى التعدي، أي إنّ هؤلاء إنّما طاردوهم وتعقبوهم لغرض الظلم والتعدي عليهم، أي على بني إسرائيل.

جملة «فأتبعهم» توحي بأنّ فرعون وجنوده قد تتبعوا بني إسرائيل طوعاً.

فإنّ هذه الأحداث قد استمرت حتى أوشك فرعون على الغرق، وأصبح كالقشة تتقاذفه الأمواج وتلهو به، فعنذاك زالت حجب الغرور والجهل من أمام عينه، وسطع نور التوحيد الفطري وصدع بالإيمان: «حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا الَّذِى ءَامَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَاءِيلَ». فلست مؤمناً بقلبي فقط، بل إنّي من المسلمين عملياً: «وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ».

ولمّا تحققت تنبؤات موسى عليه السلام الواحدة تلو الاخرى وأدرك فرعون صدق هذا النبي الكبير أكثر

فأكثر وشاهد قدرته وقوته، اضطر إلى إظهار الإيمان على أمل أن ينقذه ربّ بني إسرائيل كما أنجاهم من هذه الأمواج المتلاطمة ولذلك يقول: آمنت أنّه لا إله إلّاالذي آمنت به بنو إسرائيل!

إلّا أنّ من البديهي أنّ مثل هذا الإيمان الذي يتجلّى عند نزول البلاء ونشوب أظفار الموت، إيمان اضطراري يتشبث به كل جان ومجرم ومذنب وليست له أيّة قيمة، أو يكون دليلًا على حسن نيّته أو صدق قوله، ولهذا فإنّ اللَّه سبحانه خاطبه فقال: «ءَالنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ».

لكن «فَالْيَوْمَ نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءَايَةً». آية للحكام المستكبرين ولكلّ الظالمين والمفسدين، وآية للفئات المستضعفة.

والمراد من البدن هنا، جسد فرعون الذي فارقته الروح، لأنّ عظمة فرعون في أفكار الناس في ذلك المحيط بلغت حدّاً بحيث إنّ الكثير لولا ذلك لم يكن يصدق أن فرعون يمكن أن يغرق، وكان من الممكن أن تنسج الأساطير والخرافات الكاذبة حول نجاة وحياة فرعون بعد هذه الحادثة، لذلك ألقى اللَّه سبحانه جسده خارج الماء.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 364

ويقول في نهاية الآية: إنّه وبالرغم من كل هذه الآيات والدلالات على قدرة اللَّه، ومع كل الدروس والعبر التي ملأت تاريخ البشر فإنّ الكثير معرضون عنها «وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ ءَايَاتِنَا لَغَافِلُونَ». وتبيّن آخر آية من هذه الآيات النصر النهائي لبني إسرائيل، والرجوع إلى الأرض المقدسة بعد الخلاص من قبضة الفراعنة، فتقول: «وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ».

إنّ التعبير ب «مُبَوَّأَ صِدْقٍ» يمكن أن يكون إشارة إلى أرض مصر، أم أراضى الشام وفلسطين.

ثم يضيف القرآن الكريم: «وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الْطَّيّبَاتِ». إلّاأنّ هؤلاء لم يعرفوا قدر هذه النعمة «فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ». وبعد مشاهدة كل تلك المعجزات التي جاء بها موسى،

وأدلة صدق دعوته، إلّا «إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ». وإذا لم يتذوقوا طعم عقاب الاختلاف اليوم، فسيذوقونه غداً.

فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَ لَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَ لَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) لا تدع للشك طريقاً إلى نفسك: لمّا كانت الآيات السابقة قد ذكرت جوانب من ماضي الأنبياء والامم السابقة، وكان من الممكن أن يشكك بعض المشركين ومنكري دعوة النبي صلى الله عليه و آله في صحة ذلك، فقد طلب القرآن من هؤلاء أن يراجعوا أهل الكتاب للتأكد والعلم بصحة هذه الأقوال، وليسألوهم عن ذلك، لأنّ كثيراً من هذه المسائل قد ورد في كتب هؤلاء. إلّاأنّه بدل أن يوجه الخطاب لهؤلاء، خاطب النبي صلى الله عليه و آله فقال: «فَإِن كُنتَ فِى شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَسَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ». ليثبت عن هذا الطريق بأنّه: «لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ».

ثم تضيف الآية التالية: «وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بَايَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ» من بعد ما اتّضحت لك آيات اللَّه وصدق هذه الدعوة.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 365

إنّ الآية السابقة تقول بأنّك إن كنت في شك فاسأل اولئك المطلعين العالمين، وتقول هذه الآية بأنّك يجب أن تسلم مقابل هذه الآيات بعد أن ارتفعت عوامل الشك، وإلّا فإنّ مخالفة الحق لا عاقبة لها إلّاالخسران.

ثم أنّها تخبر النبي صلى الله عليه و آله بأنّ من بين مخالفيك جماعة

متعصبين عنودين لا فائدة من انتظار إيمانهم، فإنّهم قد مسخوا من الناحية الفكرية، وتوغّلوا في طريق الباطل إلى الحدّ الذي فقدوا معه الضمير الإنساني الحي تماماً، وتحولوا إلى موجودات لايمكن اختراقها، غاية ما في الأمر أنّ القرآن الكريم يبيّن هذا الموضوع بهذا التعبير: «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ».

وحتى إذا جاءتهم كل الآيات والدلالات فإنّهم لا يؤمنون: «وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ ءَايَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ» ولا أثر لإيمانهم في ذلك الوقت.

فَلَوْ لَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ مَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) الامّة التي آمنت في الوقت المناسب: تحدثت الآيات السابقة عن فرعون خاصة، والأقوام السابقة بصورة عامّة، وهي أنّ هؤلاء امتنعوا من الإيمان باللَّه في وقت الإختيار والسلامة، إلّاأنّهم لما أشرفوا على الموت والعذاب الإلهي أظهروا الإيمان الذي لم يكن نافعاً لهم آنذاك. وتطرح الآية التي نبحثها هذه المسألة كقانون عام، فتقول: «فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا». ثمّ استثنت قوم يونس فقالت: «إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا ءَامَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ». أي إلى آخر عمرهم.

قصة إيمان قوم يونس: كانت قصّة هؤلاء على ما جاء في التواريخ، أنّه عندما يئس يونس من إيمان قومه القاطنين أرض نينوى في العراق، دعا على قومه باقتراح من عابد كان يعيش بينهم، في حين أنّ عالماً كان معهم أيضاً اقترح على يونس أن يدعو لهؤلاء لا عليهم، وأن يستمر في إرشاده أكثر من قبل ولا ييأس.

يونس عليه السلام اعتزل قومه بعد الدعاء عليهم، فاغتنم هؤلاء الفرصة وعملوا بنصيحة العالم وخرجوا معه خارج المدينة للتضرع والدعاء، وأظهروا الإيمان والتوبة.

إنّ

هذه التوبة والإيمان والرجوع إلى اللَّه، الذي تمّ في الوقت المناسب وعن وعي مقترن

مختصر الامثل، ج 2، ص: 366

بالإخلاص قد أثر أثره، وارتفعت علامات العذاب وعادت المياه إلى مجاريها، ولمّا رجع يونس إلى قومه بعد احداث ووقائع كثيرة وقعت له قبلوه بأرواحهم وقلوبهم. ثم إنّ القصة أعلاه تبيّن بصورة ضمنية مدى تأثير القائد الواعي الرشيد الحريص في القوم أو الامّة، في حين أن العابد الذي لا يمتلك الوعي الكافي يعتمد على الخشونة أكثر، وهكذا يفهم من هذه الرواية منطق الإسلام في المقارنة بين العبادة الجاهلة، والعلم الممتزج بالاحساس بالمسؤولية.

وَ لَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَ مَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَ يَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) لا خير في الإيمان الإجباري: لقد طالعنا في الآيات السابقة أنّ الإيمان الاضطراري لا يجدي نفعاً أبداً، ولهذا فإنّ الآية الاولى من هذه الآيات تقول: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَأَمَنَ مَن فِى الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا». وبناء على هذا فلا يعتصر قلبك ألماً لعدم إيمان جماعة من هؤلاء، فإنّ من مستلزمات أصل حرية الإرادة والاختيار أن يؤمن جماعة ويكفر آخرون، وإذا كان الأمر كذلك «أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ».

إنّ هذه الآية تنفي بصراحة مرّة اخرى التهمة الباطلة التي قالها ويقولها أعداء الإسلام بصورة مكررة، حيث يقولون: إنّ الإسلام دين السيف، وقد فرض بالقوة والإجبار على شعوب العالم، فتجيب الآية- ككثير من آيات القرآن الاخرى- بأنّ الإيمان الإجباري لا قيمة له، والدين والإيمان شي ء ينبع عادة من أعماق الروح، لا من الخارج وبواسطة السيف، خاصه وأنّها حذرت النبي صلى الله عليه و آله من

إكراه وإجبار الناس على الإيمان والإسلام.

الآية التالية قد ذكرت هذه الحقيقة أيضاً، وهي أنّ البشر وإن كانوا أحراراً في اختيارهم، إلّا أنّه «وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» ولهذا فإنّ هؤلاء قد ساروا في طريق الجهل وعدم التعقل، ولم يكونوا مستعدين للاستفادة من رأس مال فكرهم وعقلهم، وسوف لا يوفقون للإيمان وهم على هذا الحال، إذ «وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَايَعْقِلُونَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 367

قُلِ انْظُرُوا مَا ذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَ النُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) الموعظة والنصيحة: كان الكلام في الآيات السابقة عن أنّ الإيمان يجب أن يكون اختيارياً لا بالجبر والاكراه، ولهذا فإن الآية الاولى هنا ترشد الناس إلى الإيمان الاختياري، وتخاطب النبي صلى الله عليه و آله فتقول: «قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

إنّ هذه الجملة تنفي بوضوح مسألة الجبر وسلب حرية الإرادة، فهي تقول: إنّ الإيمان هو نتيجة التدبر في عالم الخلقة، أي إنّ هذا الأمر في اختياركم.

ثم تضيف أنّه رغم كل هذه الآيات والعلامات الدالة على الحق، فلا داعي للعجب من عدم إيمان البعض، لأنّ الآيات والدلالات والإنذارات تنفع الذين لهم الإستعداد لتقبل الحق، أمّا هؤلاء فإنّه «وَمَا تُغْنِى الْأَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَايُؤْمِنُونَ» «1».

ثم تقول- بنبرة التهديد المتلبسة بلباس السؤال والإستفهام-: هل ينتظر هؤلاء المعاندون الكافرون إلّاأن يروا مصيراً كمصير الأقوام الطغاة والمتمردين السابقين الذين عمهم العقاب الإلهي، مصير كمصير الفراعنة والنماردة وشدّاد وأعوانهم وأنصارهم؟! «فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا

مِن قَبْلِهِمْ».

وتحذرهم الآية أخيراً فتقول: يا أيّها النبي «قُلْ فَانتَظِرُوا إِنّى مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ».

فأنتم بانتظار هزيمة دعوة الحق، ونحن بانتظار المصير المشؤوم الذي ستلاقونه، مصير المتكبرين الماضين.

ومن أجل أن لايتوهم متوهم أنّ اللَّه سبحانه يصيب بعذابه الصالح والطالح، تضيف الآية: إنّنا إذا ما تحققت مقدمات نزول العذاب على الأمم السابقة، نقوم بانقاذ عبادنا الصالحين: «ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا».

______________________________

(1) «نذر»: جمع نذير، أي المنذر، وهو كنايه عن الأنبياء والقادة الإلهيين أو هي جمع إنذار، بمعنى تحذير وتهديد الغافلين والمجرمين الذي هو من برامج هؤلاء القادة الإلهيين.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 368

ثم تقول في النهاية: إنّ هذا ليس مختصاً بالامم السالفة والرسل والمؤمنين الماضين، بل «كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ».

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَ لَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَ لَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَ لَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَ إِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) الحزم في التعامل مع المشركين: هذه الآيات والآيات التي تليها، هي آخر آيات هذه السورة، وتتحدث جميعاً حول مسألة التوحيد ومحاربة الشرك والدعوة إلى الحق، وهي فهرست أو خلاصة لبحوث التوحيد وتأكيد على محاربة ومجابهة عبادة الأصنام التي بيّنت مراراً في هذه السورة.

إنّ سياق الآية يوحي بأنّ المشركين كانوا يتوهمون أحياناً أن من الممكن أن يلين النبي ويتسامح في

عقيدته في شأن الأصنام ويعترف ويقرّ لهم عبادة الأصنام ولو جزئياً إلى جانب الإعتقاد باللَّه بنحو من الانحاء. إلّاأنّ القرآن ينسف هذا التوهم الواهي بصورة قاطعة وحاسمة ويقطع عليهم احلامهم هذه إلى الأبد، فلا معنى لأي نوع من المساومة واللين في مقابل الأصنام، ولا معبود إلّااللَّه، لاتزيد كلمة ولا تنقص اخرى. ففي البداية يأمر النبي صلى الله عليه و آله أن يخاطب جميع الناس: «قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى شَكّ مِّن دِينِى فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ» ولا تكتفي الآية بنفي آلهة اولئك، بل تثبت كل العبادة للَّه سبحانه زيادة في التأكيد فتقول: «وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِى يَتَوَفكُمْ». ومن أجل تأكيد أكبر تضيف: أنّ هذه ليست إرادتي فقط، بل «وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ».

وبعد أن بيّنت الآية العقيدة الحقة في نفي الشرك وعبادة الأوثان بكل صراحة وقوة، تطرقت إلى بيان دليل ذلك، دليل من الفطرة، ودليل من العقل:

«وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفًا» وهنا أيضاً لم يكتف بجانب الإثبات، بل نفي الطرف

مختصر الامثل، ج 2، ص: 369

المقابل لتأكيد الأمر، فقالت الآية: «وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ».

«الحنيف»: تعني الشخص الذي يميل ويتحول عن طريق الانحراف إلى جادة الصواب والاستقامة.

وبعد الإشارة إلى بطلان الشريك بالدليل الفطري، تشير إلى دليل عقلي واضح، فتقول:

«وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَايَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ». إذ تكون قد ظلمت نفسك ومجتمعك الذي تعيش فيه.

وهنا أيضاً لم تكتف الآية بجانب النفي، بل إنّها تؤكّد إضافةً إلى النفي على جانب الإثبات فتقول: «وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ»، وكذلك «وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ» لأنّ عفوه ورحمته وسعت

كل شي ء «وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ».

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَ مَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَ اتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَ اصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَ هُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109) الكلمة الأخيرة: هاتين الآيتين تضمّنت إحداهما موعظة ونصيحة لعامة الناس، واختصت الثانية بالنبي صلى الله عليه و آله وقد كملتا الأوامر والتعليمات التي بيّنها اللَّه سبحانه على مدى هذه السورة ومواضعها المختلفة. وبذلك تنتهي سورة يونس. فتقول أوّلًا، وكقانون عام:

«قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبّكُمْ». هذه التعليمات وهذا الكتاب السماوي، وهذا الدين وهذا النبي كلها حق، والأدلّة على كونها حقّاً واضحة، وبملاحظة هذه الحقيقة: «فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ». أي إنّي لست مأموراً بإجباركم على قبول الحق، لأنّ الإجبار على قبول الإيمان لا معنى له، ولا أستطيع إذا لم تقبلوا الحق ولم تؤمنوا أن أدفع عنكم العذاب الإلهي، بل إنّ واجبي ومسؤوليتي هي الدعوة والإبلاغ والإرشاد والهداية والقيادة.

ثم تبيّن وظيفة وواجب النبي صلى الله عليه و آله في جملتين: الاولى «وَاتَّبَعَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ». فإنّ اللَّه قد حدّد مسيرك من خلال الوحي، ولا يجوز لك أن تنحرف عنه قيد أنملة.

والثانية: إنّه ستعترضك في هذا الطريق مشاكل مضنية ومصاعب جمة، فلا تدع للخوف

مختصر الامثل، ج 2، ص: 370

من سيل المشاكل إلى نفسك طريقاً، بل «وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ».

فإنّ أمره حق، وحكمه عدل، ووعده متحقق لا محالة.

«نهاية تفسير سورة يونس»

مختصر الامثل، ج 2، ص: 371

11. سورة هود

محتوى السورة: إنّ هذه السورة بأكملها نزلت بمكة ... وطبقاً لما ورد في

«تاريخ القرآن» أنّها السورة التاسعة والأربعون في ترتيب السور النازلة على المرسل صلى الله عليه و آله.

ونزلت في السنوات الأخيرة التي قضاها النبي صلى الله عليه و آله بمكة، أي بعد وفاة عمّه أبي طالب عليه السلام وزوجته خديجة عليها السلام ... وبطبيعة الحال فإنّ هذه السورة جاءت في فترة من أشد الفترات صعوبة في حياة النبي صلى الله عليه و آله ولذلك يلاحظ في بداية السورة تعابير فيها جانب من التسلية للنبي صلى الله عليه و آله وللمؤمنين.

ويُشكل القسم المهم والعمدة من آيات هذه السورة قصص الأنبياء الماضين وخاصة قصة نوح النبي عليه السلام الذي انتصر بالفئة القليلة التي معه على الأعداء الكثيرين.

إنّ سرد هذه القصص فيه تسلية لخاطر النبي صلى الله عليه و آله والمؤمنين معه وهم أمام الكم الهائل من الأعداء، كما أنّ فيه درساً لمخالفيهم من الاعداء.

إنّ آيات هذه السورة- كسائر السور المكية- تتناول أصول المعارف الإسلامية ولا سيما المواجهة مع الشرك وعبادة الأصنام، ومسألة المعاد والعالم بعد الموت، وصدق دعوة النبي.

في هذه السورة- إضافة إلى قصّة نوح النبي- إشارة إلى قصص الأنبياء هود وصالح وإبراهيم ولوط وموسى عليهم السلام ومواقفهم الشجاعة بوجه الشرك والكفر والانحراف والظلم.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 372

شيبتني سورة هود: إنّ آيات هذه السورة تقرر أن على المسلمين أن لا يتركوا السوح والميادين- في الحرب والسلم- لكثرة الأعداء ومواجهاتهم الحادة، بل عليهم أن يواصلوا مسيرتهم ويستقيموا أكثر فأكثر ويوماً بعد يوم.

وعلى هذا فإنّنا نقرأ في الدرّ المنثور عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «شيّبتني هود وأخواتها».

إنّ هذه السورة فيها آيات مؤثرة اخرى تتعلق بيوم القيامة والمحاسبة في محكمة العدل الإلهي، وآيات تتعلق بما ناله الأقوام

السابقون من جزاء، وما جاء مع بعضها من أوامر في الوقوف بوجه الفساد بحيث يحمل جميعها طابع المسؤولية ... فلا عجب إذاً أن يشيب الإنسان عندما يفكر في مثل هذه المسؤوليات ...

مسألة دقيقة اخرى ينبغي الإلتفات إليها في هذا المجال، وهي أنّ كثيراً من هذه الآيات تؤكّد ما ورد في السورة السابقة- أي سورة يونس.

التأثير المعنوي لهذه السورة: في تفسير البرهان عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «من قرأ هذه السورة اعطي من الأجر والثواب بعدد من صدّق هوداً والأنبياء عليهم السلام ومن كذّب بهم وكان يوم القيامة في درجة الشهداء وحوسب حساباً يسيراً».

ومن الوضوح بمكان أنّ مجرد التلاوة لا يعطي هذا الأثر، وإنّما يكون هذا الأثر إذا كانت تلاوة هذه السورة مقرونة بالتفكر والعمل بعدها. وهذا هو الذي يقرّب الإنسان إلى المؤمنين السالفين ويبعده عن الذين أنكروا على الأنبياء وجحدوا دعواتهم.

الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَنْ تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ (2) وَ أَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَ يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (4) الاصول الأربعة في دعوة الأنبياء: تبدأ هذه السورة ببيان أهمية الكتاب العزيز المنزل من السماء، ليلتفت الناس إلى محتوياته أكثر ويتفكروا فيه بنظرة أدق. وذكر الحروف المقطعة «الر»- نفسه- دليل على أهمية هذا الكتاب السماوي العزيز الذي يتشكل من حروف

مختصر الامثل، ج 2، ص: 373

بسيطة معروفة للجميع مثل الألف واللام والراء مع ما فيه من عظمة وإعجاز بالغين، ثم يبيّن

بعد هذه الحروف المقطعة واحدة من خصائص القرآن الكريم في جملتين.

أوّلًا: إنّ جميع آياته متقنة ومحكمة «كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءَايَاتُهُ». و ثانياً: إنّ تفصيل حاجات الإنسان في حياته الفردية والاجتماعية- مادية كانت أو معنوية- مبيّن فيها أيضاً «ثُمَّ فُصّلَتْ».

هذا الكتاب العظيم مع هذه الخصيصة، من أين انزل، وكيف؟! انزل من عند ربّ حكيم وخبير «مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ». فبمقتضى حكمته احكمت آيات القرآن، وبمقتضى أنّه خبير مطلع بيّن آيات القرآن في مجالات مختلفة طبقاً لحاجات الإنسان.

إنّ كل واحدة من صفات القرآن التي جاءت في هذه الآية تسترفد من واحدة من صفات اللَّه ... فاستحكام القرآن من حكمته، وشرحه وتفصيله من خبرته.

إنّ القرآن مجموعة واحدة مترابطة كالبنيان المرصوص الثابت، كما تدل على أنّه نازل من إله فرد، ولهذا فلا يوجد أي تضاد في آياته، ولا يُرى بينها أي اختلاف.

وفي الآية التالية يبيّن أهم مايحتويه القرآن وما هو أساسه وهو التوحيد والوقوف بوجه الشرك «أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ».

والثاني من محتويات الدعوة السماوية: «إِنَّنِى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ». نذير لكم من الظلم والفساد والشرك والكفر، واحذركم من عنادكم وعقاب اللَّه لكم!

وثالث ما في منهج دعوتي إليكم هو أن تستغفروا من ذنوبكم وتطهروا أنفسكم من الأدران: «وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ».

ورابعها هو أن تعودوا إلى اللَّه بالتوبة، وأن تتصفوا- بعد غسل الذنوب والتطهر في ظل الاستغفار- بصفات اللَّه، فإنّ العودة إليه تعالى لا تعني إلّاالإقتباس من صفاته «ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ».

ثم تبيّن الآيات النتائج العملية لموافقة هذه الأصول الأربعة أو مخالفتها بالنحو التالي «يُمَتّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى». فاذا عملنا بهذه الاصول فإنّ اللَّه سبحانه يهبنا حياة سعيدة إلى نهاية العمر، وفوق كل ذلك فإنّ كُلًا يُعطى بمقدار عمله ولا يهمل التفاوت

والتفاضل بين الناس في كيفية العمل بهذه الأصول ... «وَيُؤْتِ كُلَّ ذِى فَضْلٍ فَضْلَهُ». وأمّا في صورة المخالفة والعناد فتقول الآية: «وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ». حين تمثلون للوقوف في محكمة العدل الإلهي.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 374

واعلموا أنّ «إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ» كائنا من كنتم، وفي أي محل ومقام أنتم، وهذه الجملة تشير إلى الأصل الخامس من الأصول التفصيليّة للقرآن وهي مسألة «المعاد والبعث» ولكن لا تتصوروا أنّه لا يستطيع أن يجمع عظامكم النخرة بعد الموت ويكسوها ثوباً جديداً من الحياة ... «وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَ مَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) هذه الآية تشير- على العموم- إلى أحد الأساليب الحمقاء التي كان يتبعها أعداء الإسلام والنبي صلى الله عليه و آله وذلك بالاستفادة من طريقة النفاق والإبتعاد عن الحق، فكانوا يحاولون أن يخفوا حقيقتهم وماهيتهم عن الأنظار لئلا يسمعوا قول الحق. لذلك فإنّ الآية تقول: «أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ».

«يثنون»: مشيرة إلى كل عمل خفي- ظاهري وباطنيّ- قام به أعداء النبي صلى الله عليه و آله. لذلك فإنّ القرآن يعقّب مباشرة: أن أحذروهم، فإنّهم حين يستخفون تحت ثيابهم فإنّ اللَّه يعلم ما يخفون وما يعلنون ... «أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ».

وَ مَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَ مُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) جميع الأحياء ضيوف مأدبته: الآية السابقة أشارت إلى سعة علم اللَّه وإحاطته بالسر وما يخفون وما يعلنون، والآية محل البحث تُعدّ دليلًا على تلك الآية المتقدمة، فإنّها تتحدث

عن الرازق لجميع الموجودات ولايمكن يتمّ ذلك إلّابالإحاطة الكاملة بجميع العالم وما فيه.

تقول الآية «وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا».

ويعلم تقلّبها وتنقلها من مكان لآخر، وحيثما كانت فإنّ الرزق يصل إليها منه.

وهذه الحقائق مع جميع حدودها ثابتة في كتاب مبين ولوح محفوظ في علم اللَّه «كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 375

ملاحظات

1- بالرغم من أنّ كلمة «دابّة» مشتقة من مادة «دبيب» التي تعني السير ببطء وبخطى قصيرة، ولكنها من الناحية اللغوية تشمل كل حيوان يتحرك في سيره ببطء أو بسرعة.

2- «الرزق»: هو العطاء المستمر، ومن هنا كان عطاء اللَّه المستمر للموجودات رزقاً.

3- «المستقر»: تعني المقر، لأنّ جذر هذه الكلمة في اللغة مأخوذ من «قرّ» على وزن «حرّ» وتعني كلمة القرّ البرد الشديد الذي يجعل الإنسان والموجودات الاخرى يركنون إلى بيوتهم، ومن هنا جاءت بمعنى التوقف والسكون أيضاً.

و «المستودع» و «الوديعة»: من مادة واحدة، وهاتان الكلمتان في الأصل تعنيان «اطلاق الشي ء وتركه».

4- «الكتاب المبين»: معناه المكتوب الواضح البيّن، ويشير إلى علم اللَّه الواسع، وقد يعبر عنه أحياناً باللوح المحفوظ أيضاً.

تقسيم الأرزاق والسعي من أجل الحياة: طريقة إيصال الرزق من اللَّه تعالى إلى الموجودات المختلفة مذهلة ومحيرة حقّاً. من الجنين الذي يعيش في بطن امّه ولا يعلم أحد من أسراره شيئاً، إلى الحشرات المختلفة التي تعيش في طيّات الأرض، وفي الأشجار وعلى قمم الجبال أو في أعماق البحر، وفي الأصداف ... جميع هذه الموجودات يتكفل اللَّه برزقها ولا تخفى على علمه، وكما يقول القرآن: «عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا».

الطريف في الآيات آنفة الذكر أنّها تعّبر عن الموجودات التي تطلب الرزق ب «الدابّة» وفيها إشارة لطيفة إلى العلاقة بين

موضوع «الطاقة» و «الحركة». ونعلم أنّه حيثما تكن حركة فلابد لها من طاقة، أي ما يكون منشأً للحركة.

وفي جواب السؤال هل أنّ رزق كل أحد مقدر ومعين من أوّل عمره إلى آخره، وهل أنّه يصل إليه شاء أم أبى

نقول: إنّ رزق كل أحد مقدّر وثابت، إلّاأنّه مشروط بالسعي والجد، وإذا لم يتوفر الشرط لم يحصل المشروط.

المسألة المهمّة في هذا المجال أنّ الآيات والرّوايات المتعلقة بتقدير الرزق- في الواقع- بمثابة الكابح للاشخاص الحريصين وعبّاد الدنيا الذين يلجون كل باب، ويرتكبون أنواع الظلم والجنايات، ويتصورون أنّهم إذا لم يفعلوا ذلك لم يؤمّنوا حياتهم!

مختصر الامثل، ج 2، ص: 376

إنّ آيات القرآن والأحاديث الإسلامية تحذر هذا النمط من الناس ألّا يمدّوا أيديهم وأرجلهم عبثاً، بل يكفي أن يسعوا لتحصيل الرزق عن طريق مشروع، واللَّه سبحانه يضمن لهم الرزق. وبالطبع أنّ بعض الأرزاق مثل نور الشمس والمطر والعقل والفكر والاستعداد تصل إلى الإنسان سعى لها أم لم يسع.

ولكن هذه المواهب إذا لم نحافظ عليها بالجد والسعي بطريقة صحيحة فستضيع من أيدينا، أو أنّها ستبقى بلا أثر!

إنّ النقطة الأساسية هنا أنّ جميع التعاليم الإسلامية تأمرنا أن نسعى أكثر فأكثر لتأمين نواحي الحياة المادية والمعنوية، وأنّ الفرار من العمل- بزعم أنّ الرزق مقسوم وأنّه آت لا محالة- غير صحيح ...

وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَ لَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) الهدف من الخلق: في هذه الآية بُحثت ثلاث نقاط أساسية:

المطلب الأوّل: يبحث عن خلق عالم الوجود- وخصوصاً بداية الخلق- الذي يدل على قدرة اللَّه وعظمته سبحانه «وَهُوَ

الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ».

إنّ المقصود من كلمة «اليوم» هو الزمان، سواء كان قصيراً أو مديداً جدّاً بحيث يبلغ مليارات السنوات مثلًا، وقد نبّهنا على هذا المعنى في ذيل الآية (54) من سورة الأعراف بشرح وافٍ في هذا المجال، فلا حاجة للتكرار والإعادة.

ثم يضيف سبحانه أنّ عرشه كان على الماء «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ».

«العرش»: في الأصل يعني السقف أو ما يكون له سقف، كما يطلق على الأسرّة العالية كأسرّة الملوك والسلاطين الماضين، ويطلق أيضاً على خشب بعض الأشجار، وغير ذلك.

ولكن هذه الكلمة استعملت بمعنى القدرة أيضاً ويقال «استوى فلان على عرشه» كناية عن بلوغه القدرة كما يقال «ثُلّ عرش فلان» كنايةً عن ذهاب قدرته. كما ينبغي الإلتفات إلى هذه الدقيقة، وهي أنّ العرش يطلق أحياناً على عالم الوجود، لأنّ عرش قدرة اللَّه يستوعب جميع هذا العالم.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 377

إنّه في بداية الخلق كان الكون بصورة مواد ذائبة «مع غازات مضغوطة للغاية، بحيث كانت على صورة مواد ذائبة أو مائعة».

وبعدئذ حدثت اهتزازات شديدة وانفجارات عظيمة في هذه المواد المتراكمة الذائبة، وأخذت تتقاذف أجزاء من سطحها إلى الخارج، وأخذ هذا الوجود المترابط بالإنفصال، ثم تشكلت بعد ذلك الكواكب السيارة والمنظومات الشمسية والأجرام السماوية.

فعلى هذا نقول: إنّ عالم الوجود ومرتكزات قدرة اللَّه كانت مستقرة بادى ء الأمر على المواد المتراكمة الذائبة.

والمطلب الثاني: الذي تشير إليه الآية آنفة الذكر هو الهدف من خلق الكون، والقسم الأساس من ذلك الهدف يعود للإنسان نفسه الذي يمثل ذروة الخلائق ... هذا الإنسان الذي كتب عليه أن يسير في طريق التعليم والتربية ويشقّ طريق التكامل نحو اللَّه تعالى. يقول اللَّه سبحانه: «لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا». أي ليختبركم ويمتحنكم أيّكم الأفضل والأحسن

عملًا بهذه الدار الدنيا.

«ليبلوكم»: كلمة مشتقة من مادة «البلاء» و «الإبتلاء» ومعناها الاختبار والامتحان.

والمطلب الثالث: الذي تشير إليه الآية آنفة الذكر- هو مسألة المعاد الذي لا ينفصل ولا يتجزأ عن مسألة خلق العالم، وفيها بيان الهدف من الخلق وهو تكامل الإنسان وتكامل الإنسان يعني التهيؤ إلى الحياة في عالم أوسع وأكمل، ولذلك يقول سبحانه: «وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ».

وكلمة «هذا» التي وردت- في الآية آنفة الذكر- على لسان الكفار، إشارة إلى كلام النبي صلى الله عليه و آله في شأن المعاد ... أي إنّ ما تدّعيه أيها النبي في شأن المعاد سحر مكشوف وواضح، فعلى هذا تكون كلمة السحر هنا بمعنى الكلام العاري عن الحقيقة، والقول الذي لا أساس له.

وَ لَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَ حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (8) وَ لَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَ لَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ (11)

مختصر الامثل، ج 2، ص: 378

استيعاب المؤمنين وعدم استيعاب غيرهم: في هذه الآيات- وبمناسبة البحث السابق عن غير المؤمنين- بيان لزوايا الحالات النفسية ونقاط الضعف في أخلاق هؤلاء الأفراد والتي تجر الإنسان إلى هاوية الظلام والفساد.

وأوّل صفة تذكر لهؤلاء هي السخرية من الحقائق وعدم الإكتراث بها وبالمسائل المصيرية، فهؤلاء بسبب جهلهم وعدم معرفتهم وغرورهم حين يسمعون تهديد الانبياء في مؤاخذة المسيئين ومعاقبتهم، ثم تمرّ عليهم عدة أيام يؤخر اللَّه تعالى بلطفه فيها

العذاب عنهم، نراهم يقولون باستهزاء مبطّن: ما السبب في تأخر العذاب الإلهي، وأين عقاب اللَّه:

«وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ».

فهذه عادة الجاهلين والمغترين، فكلما وجدوا شيئاً لا ينسجم مع ميولهم وطباعهم عدّوه سخرية.

لكن القرآن يحذرهم وينذرهم بصراحة في ردّه على كلامهم، ويبيّن لهم أن لا دافع لعذاب اللَّه إذا جاءهم «أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ» وأنّ الذين يسخرون منه واقع بهم ومدمّرهم «وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ».

ومن نقاط الضعف عند هؤلاء قلة الصبر بوجه المشاكل والصعاب وانحسار البركات الإلهية. حيث نجد في الآية التالية قوله تعالى عنهم: «وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيُوسٌ كَفُورٌ».

والمراد من «الإنسان» في مثل هذه الآيات هو الأفراد الذين لم يتلقوا تربية سليمة والمنحرفون عن جادة الحق.

ونقطة الضعف الثالثه عند هؤلاء أنّهم حين يتنعمون بنعمة ويشعرون بالترف والرفاه يبلغ بهم الفرح والتكبر والغرور درجة ينسون معها كل شي ء، ولذلك يشير القرآن الكريم إلى هذه الظاهرة بقوله تعالى: «وَلَئِنْ أَذَقْنهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيَاتِ عَنّى إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ». ثمّ يستثني اللَّه سبحانه المؤمنين الذين يواجهون الشدائد والمصاعب بصبر، ولا يتركون الأعمال الصالحة على كل حال، فهؤلاء بعيدون عن الغرور والتكبر وضيق الأفق، حيث يقول سبحانه: «إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ».

هؤلاء لا يَغترّون عند وفور النعمة فينسون اللَّه، ولا ييأسون عند الشدائد والمصائب

مختصر الامثل، ج 2، ص: 379

فيكفرون باللَّه، بل إنّ أرواحهم الكبيرة وافكارهم السليمة جعلتهم يهضمون النعم والبلايا في أنفسهم دون الغفلة عن ذكر اللَّه وأداء مسؤولياتهم ولذلك فإنّ لهؤلاء ثواباً ومغفرة من اللَّه «أُولئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ».

الامة المعدودة وأصحاب المهدي عليه السلام: في روايات عديدة وصلتنا عن

أهل البيت عليهم السلام أنّ الامة المعدودة تعني النفر القليل، وفيها إشارة إلى أصحاب المهدي عليه السلام وأنصاره.

ولكن أنّ ظاهر الآية من الامة المعدودة هو الزمان المعدود والمعين، وقد وردت رواية عن الإمام علي عليه السلام في تفسير الامة المعدودة تشير إلى ما بيناه، وهو الزمان المعين، فيمكن أن تكون الروايات الآنفة تشير إلى المعنى الثاني من الآية، وهو ما اصطلح عليه ب «بطن الآية».

فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَ ضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)

سبب النّزول

وردت في شأن نزول الآيات المتقدمة روايتان، ويحتمل أن تكون كليهما صحيحتين جميعاً. الاولى: في تفسير مجمع البيان روي عن ابن عباس: إنّ رؤساء مكة من قريش، أتوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالوا: يا محمّد! إن كنت رسولًا فحوّل لنا جبال مكة ذهباً أو ائتنا بملائكة يشهدون لك بالنبوة. فأنزل اللَّه تعالى «فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ» الآية. والثانية: روي العياشي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال لعلي عليه السلام: «إنّي سألت ربّي أن يوالي بيني وبينك ففعل، وسألت ربّي أن يؤاخي بيني وبينك ففعل، وسألت ربّي أن يجعلك وصيي ففعل». فقال رجلان من قريش: واللَّه لصاع من تمر في شنّ بال أحبّ إلينا مما سأل محمّد ربّه، فهلا سأله مُلكاً يعضده

على عدوه، أو كنزاً يستعين به على فاقته. فنزلت الآية.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 380

مختصر الامثل ج 2 419

التّفسير

القرآن المعجزة الخالدة: يبدو من هذه الآيات أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان يوكل إبلاغ الآيات- نظراً للجاجة الأعداء ومخالفتهم- لآخر فرصة، لذا فإنّ اللَّه سبحانه ينهى نبيّه في أوّل آية نبحثها عن ذلك بقوله: «فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ». لئلا يطلبوا منك معاجز مقترحة كنزول كنز من السماء، أو مجي ء الملائكة لتصديقه «أَن يَقُولُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ».

إنّ هؤلاء لا يطلبون هذه المعاجز ليصدقوا دعوى النبي ويتبعوا الحق، بل هدفهم اللجاجة والعناد والتحجج الواهي، فلذلك تأتي الآية معقبة: «إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ». سواءً قبلوا دعواك أم لم يقبلوا، وسخروا منك أم لم يسخروا، فاللَّه هو الحافظ والناظر على كل شي ء «وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ وَكِيلٌ». أي لا تكترث بكفرهم وإيمانهم فإنّ ذلك لا يعنيك، وإنّما وظيفتك أن تبلغهم، واللَّه سبحانه هو الذي يعرف كيف يحاسبهم، وكيف يعاملهم.

وبما أنّ الذين يتذرعون بالحجج ويشكلون على النبي كانوا أساساً منكرين لوحي اللَّه، ويقولون: إنّ هذه الآية ليست نازلة من قبل اللَّه، وإنّ هذا الكلام افتراه محمّد- وحاشاه من ذلك- على اللَّه كذباً، لذلك تأتي الآية التالية لتبيّن بصراحة تامة: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَيهُ».

فقل لهم يا رسول اللَّه- إن كانوا صادقين في دعواهم أنّ ما تقوله ليس من اللَّه وأنّه من صنع الإنسان- فليأتوا بعشر سور مثل هذا الكلام مفتريات، وليدعوا- سوى اللَّه- ما شاؤوا «قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».

أمّا إذا لم يستجيبوا لدعوتك ولا للمسلمين، ولم يلبوا طلبك على الإتيان بعشر

سور مفتريات كسور القرآن، فاعلموا أنّ ذلك الضعف وعدم القدرة دليل على أنّ هذه الآيات نزلت من خزانة علم اللَّه، ولو كانت من صنع بشر، فهم بشر أيضاً ... فلماذا لا يقدرون على ذلك: «فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ». واعلموا أيضاً أنّه لا معبود سوى اللَّه، ونزول هذه الآيات دليل على هذه الحقيقة «وَأَن لَّاإِلهَ إِلَّا هُوَ». فهل يسلم المخالفون مع هذه الحالة «فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ». أي بعد ما دعوناكم للإتيان بمثل هذه السور، وظهر عجزكم وعدم قدرتكم على ذلك، فهل يبقى شك في أنّ هذه الآيات منزلة من قبل اللَّه، ومع هذه المعجزة البينة ما زلتم منكرين، أم أنّكم تسلمون وتقرّون حقاً؟

مختصر الامثل، ج 2، ص: 381

إنّ الآيات- المذكورة- تؤكّد إعجاز القرآن مرّة اخرى وتقول: ليس هذا كلاماً عادياً، بل هو وحي السماء الذي ينزل بعلم اللَّه اللامحدود وقدرته الواسعة، وعلى هذا فإنّه يتحدى جميع البشر أن يواجهوه بمثله.

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَ زِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَ هُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَ حَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَ بَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) الآيات أعلاه أكملت الحجة مع «دلائل إعجاز القرآن» على المشركين والمنكرين، ولكن جماعة منهم امتنعوا عن القبول- لحفظ منافعهم الشخصية- بالرغم من وضوح الحق، فالآيات هذه تشير إلى مصير هؤلاء فتقول: «مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا» من رزق مادي وشهرة وتلذذ بالنعم «نُوَفّ إِلَيْهِمْ» نتيجة «أَعْمَالَهُمْ فِيهَا» في هذه الدنيا «وَهُمْ فِيهَا لَايُبْخَسُونَ». أي لا ينقص من حقهم شي ء في الدنيا.

«البخس»: في اللغة نقصان الحق، وجملة «وَهُمْ فِيهَا لَايُبْخَسُونَ» إشارة إلى أنّهم سينالون نتيجة أعمالهم بدون أقل

نقصان من حقوقهم.

هذه الآية سنة إلهية دائمة، وهي أنّ الأعمال «الإيجابية» والمؤثرة لاتضيع نتائجها، مع فارق وهو أنّه إذا كان الهدف الأصلي منها هو الوصول إلى الحياة المادية في هذه الدنيا فإنّ ثمراتها في الدنيا فحسب، وأمّا إذا كان الهدف هو «اللَّه» وكسب رضاه فإنّ تأثيرها ونتائجها ستكون في الدنيا وفي الآخرة أيضاً حيث تكون النتائج كثيرة الثمار.

وهذا من قبيل مانراه بوضوح على أرض الواقع المعاش، فالعالم الغربي فتح أسراراً كثيرة من العلم بسعيه المتواصل والمنسّق، وأصبح متسلطاً على قوى الطبيعة وحصل على مواهب كثيرة لتصديه الدائب لمشاكل الحياة الدنيوية بصبر واستقامة وجد، فلا كلام في نيل العالم الغربي جزاء أعماله وتحقيقه انتصارات مشرقة، ولكن لأنّ هدفه الحياة المادية فحسب، فإنّ أعماله لا تثمر غير توفر الإمكانات المادية.

فلذلك يقول سبحانه عنهم في الآية التالية: «أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الْأَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ» ليزول كل أثر اخروي لما عملوا في هذه الدنيا ولا ينالون عليه أي ثواب «وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا» وكل ما كان لغير اللَّه فسيزول أثره «وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 382

في الدرّ المنثور- في تفسير هذه الآيات- عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «إذا كان يوم القيامة صارت امتي ثلاث فرق: فرقة يعبدون اللَّه خالصاً، وفرقة يعبدون اللَّه رياءً، وفرقة يعبدون اللَّه يصيبون به دنيا. فيقول للذي كان يعبد اللَّه للدنيا: بعزّتي وجلالي، ما أردت بعبادتي؟ فيقول: الدنيا. فيقول:

لا جرم لا ينفعك ما جمعت ولا ترجع إليه، انطلقوا به إلى النار.

ويقول للذي يعبد اللَّه رياءً: بعزّتي وجلالي، ما أردت بعبادتي؟ قال: الرياء. فيقول: إنّما كانت عبادتك التي كنت ترائي بها لا يصعد إليّ منها شي ء ولا ينفعك اليوم، انطلقوا

به إلى النار.

ويقول للذي كان يعبد اللَّه خالصاً: بعزّتي وجلالي، ما أردت بعبادتي؟ فيقول: بعزّتك وجلالك لأنت أعلم به منّي، كنت أعبدك لوجهك ولدارك، قال: صدق عبدي، انطلقوا به إلى الجنة».

أَ فَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَ رَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) هناك أقوال كثيرة- في تفسير الآية أعلاه- ولكن تفسير منها أشد وضوحاً. في بداية الآية يقول الحق سبحانه: «أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ». أي من اللَّه تعالى: «وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً». أي التوراة التي تؤيّد صدقه وعظمته، مثل هذا الشخص هل يستوي ومن لا يتمتع بهذه الخصال والدلائل البينة؟

هذا الشخص هو النبي صلى الله عليه و آله ودليله الواضح هو القرآن المجيد، والشاهد المصدق بنبوته كل مؤمن حق أمثال علي عليه السلام ومن قَبلُ وردت صفاته وعلائمه في التوراة، فعلى هذا ثبتت دعوته عن طرق ثلاثة حقة واضحة.

الأوّل: القرآن الكريم الذي هو بيّنة ودليل واضح في يده.

الثاني: الكتب السماوية التي سبقت نبوّته وأشارت إلى صفاته بدقّة، وأتباع هذه الكتب السماوية في عصر النبي كانوا يعرفونه حقّاً، ولهذا السبب كانوا ينتظرونه.

والثالث: أتباعه وأنصاره المؤمنون المضحّون الذين كانوا يبيّنون دعوته ويتحدثون عنه.

ومع وجود هذه الدلائل الحيّة، هل يمكن أن يقاس مع غيره من المدّعين، أم هل ينبغي التردد في صدق دعوته؟!

مختصر الامثل، ج 2، ص: 383

ثم يشير بعد هذا الكلام إلى طلاب الحقّ والباحثين عن الحقيقة، يدعوهم إلى الإيمان دعوة ضمنية فيقول: «أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ». أي

النبي الذي لديه هذه الدلائل الواضحة.

ثم يعقب بعد ذلك ببيان عاقبة المنكرين ومصيرهم بقوله تعالى: «وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ».

وفي ختام الآية- كما هي الحال في كثير من آيات القرآن- يوجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله ويبيّن درساً عاماً لجميع الناس، ويقول: بعد هذا كله من وجود الشاهد والبيّنة والمصدق بدعوتك، فلا تتردد في الطريق ذاته «فَلَا تَكُ فِى مِرْيَةٍ مِّنْهُ». لأنّه من قبل اللَّه سبحانه «إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّكَ». ولكن كثيراً من الناس ونتيجةً لجهلهم وأنانيتهم لا يؤمنون «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايُؤْمِنُونَ».

وعلى هذا فالآية تشير إلى امتيازات الإسلام والمسلمين الصادقين واستنادهم إلى الدلائل المحكمة في اختيار مذهبهم هذا ... وفي قبال ذلك تذكر ما يصير إليه المنكرون والمستكبرون من مآل مشؤوم أيضاً ...

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَ يَقُولُ الْأَشْهَادُ هؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَهَا عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَ مَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) أخسر الناس أعمالًا: بعد الآية المتقدمة التي كانت تتحدث عن القرآن ورسالة النبي محمّد صلى الله عليه و آله تأتي آيات اخر تشرح عاقبة المنكرين وعلاماتهم ومآل أعمالهم. ففي أوّل آية من هذه الآيات يقول سبحانه: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا». ويعني أنّ تكذيب دعوة النبي الصادق في الواقع

هو تكذيب لكلام اللَّه وافتراء عليه بالكذب.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 384

ثم يبيّن ما ينتظرهم من مستقبل مشؤوم يوم القيامة حين يُعرضون على محكمة العدل الإلهي «أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبّهِمْ». حينئذ يشهد «الأشهاد» على أعمالهم وأنّ هؤلاء هم الذين كذبوا على اللَّه العظيم الرحيم وولي النعمة .... «وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبّهِمْ» ثم ينادون بصوت عال «أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ». و الآية التي بعدها تبيّن صفات الظالمين في ثلاث جمل:

الاولى تقول: إنّهم يمنعون الناس بمختلف الأساليب عن سبيل اللَّه «الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ» فمرّة عن طريق إلقاء الشُبهة، ومرّة بالتهديد، وأحياناً عن طريق الإغراء والطمع، وجميع هذه الأساليب ترجع إلى أمر واحد، وهو الصدّ عن سبيل اللَّه.

الثانية تقول: إنّهم يسعون في أن يُظهروا سبيل اللَّه وطريقه المستقيم عوجاً «وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا». أي بأنواع التحريف من قبيل الزيادة أو النقصان أو التّفسير بالرأي وإخفاء الحقائق حتى لا تتجلى الصورة الحقيقية للصراط المستقيم. ولا يستطيع الناس وطلاب الحق السير في هذا الطريق.

والثالثه تقول: إنّهم لا يؤمنون بيوم النشور والقيامة «وَهُم بِالْأَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ».

وعدم إيمانهم بالمعاد هو أساس الانحرافات.

في الآية التالية يبيّن أنّ هؤلاء لا يستطيعون الهرب من عقاب اللَّه في الأرض ولا أن يخرجوا من سلطانه «أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِى الْأَرْضِ» كما أنّهم لا يجدون وليّاً وحامياً لهم غير اللَّه «وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ».

وأخيراً يشير سبحانه إلى عقوبتهم الشديدة حيث تكون مضاعفة: «يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ».

لماذا؟! لأنّهم كانوا ضالين ومخطئين ومنحرفين، وفي الوقت ذاته كانوا يجرّون الآخرين إلى هذا السبيل، فلذلك سيحملون أوزارهم وأوزار الآخرين، دون التخفيف عن الآخرين من أوزارهم «وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ» «1».

وفي ختام الآية يبيّن اللَّه

سبحانه أساس شقاء هؤلاء بقوله: «مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ».

______________________________

(1) سورة العنكبوت/ 13.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 385

فهم بإهمالهم هاتين الوسيلتين المؤثرتين وسيلتي السمع والبصر لدرك الحقائق، ضلّوا السبيل وأضلّوا سواهم أيضاً ...

وبديهي أنّ عدم استطاعة دركهم الحقائق كانت نتيجة لجاجتهم الشديدة وعدائهم للحق والحقيقة، وهذا لا يسلب عنهم المسؤولية.

و الآية التي بعدها تبيّن في جملة واحدة حصيلة سعيهم وجدهم في طريق الباطل، فتقول:

«أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ». وهذه أعظم خسارة يمكن أن تصيب الإنسان، إذ يخسر وجوده الإنساني ...

ثم تضيف الآية: أنّهم اتخذوا آلهة ومعبودين مصطنعين «مزيفين» ولكن تلاشت هذه الآلهة المصنوعة والمزيفة أخيراً ... «وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ».

وفي نهاية الآية بيان الحكم النهائي لمآلهم وعاقبتهم بهذا التعبير: «لَاجَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الْأَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ».

والسبب واضح؛ لأنّهم حُرموا من نعمة السمع الحاد والبصر النافذ، وخَسِروا كل إنسانيتهم ووجودهم، ومع هذه الحال فقد حملوا أثقالَ مسؤوليتهم وأثقال الآخرين مع أثقالهم.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَ أَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَ الْأَصَمِّ وَ الْبَصِيرِ وَ السَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَ فَلَا تَذَكَّرُونَ (24) تعقيباً على الآيات المتقدمة التي أوضحت حال منكري الوحي، تأتي الآيتان هنا لتوضحا من في قبالهم، وهم المؤمنون حقّاً. فالآية الاولى تقول: «إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبّهِمْ». أي: استسلموا وانقادوا خاضعين لأمر اللَّه ووعده الحق، «أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».

وفي الآية الاخرى بيان لحالة هذين الفريقين في مثال حيّ وواضح ... حال الأعمى والأصم، وحال السميع والبصير، فتقول الآية: «مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا». ثمّ تعقّب الآية: «أَفَلَا تَذَكَّرُونَ».

حال منكري الوحي، فبسبب لجاجتهم وعدائهم للحق ووقوعهم

أسرى بمخالب

مختصر الامثل، ج 2، ص: 386

التعصب والأنانية وعبادة الذات، فقدوا بصرهم وسمعهم للحقيقة البيّنة، فلا يستطيعون ادراك الحقائق المرتبطة بعالم الغيب، وتأثير الإيمان، والتلذذ بعبادة اللَّه، وعظمة التسليم لأمره. هؤلاء الأفراد يعيشون أبداً عمياناً صمّاً في ظلام مطبق وسكوت مميت ... في حين أنّ المؤمنين الصادقين يرون كل حركة بأعين بصيرة، ويسمعون كل صوت بآذان سميعة، وبالتوجه إلى طريقهم يكون مصيرهم «السعادة».

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَ مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَ مَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَ نُلْزِمُكُمُوهَا وَ أَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) قصّة نوح المثيرة مع قومه: تقدم أنّ هذه السورة تحمل بين ثناياها قصص الأنبياء السابقين وتاريخهم، في البداية تذكر قصّة نوح عليه السلام وهو أحد الأنبياء أولي العزم، وضمن (26) آية تُرسم النقاط الأساسية لتاريخه المثير ... والآيات المتقدمة تبيّن بداية هذه الدعوة العظيمة فتقول: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ».

وفي الآية الاخرى يُلخّص محتوى رسالته في جملة واحدة ويقول: رسالتي هي «أَن لَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ». ثم يعقب دون فاصلة بالإنذار والتحذير مرّة اخرى: «إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ».

إنّ مسألة التوحيد والعبودية للَّه الواحد الأحد هي أساس دعوة الأنبياء جميعاً، فإذا كان جميع أفراد المجتمع موحدون ولا يعبدون إلّااللَّه، ولا ينقادون للأوثان الوهمية الخارجية منها والداخلية من قبيل الأنانية

والهوى والشهوات والمقام والجاه والنساء والبنين فلا يبقى أثر للسلبيات والخبائث في المجتمع البشري.

فلننظر الآن أوّل ردّ فعل من قبل الطواغيت واتّباع الهوى والمترفين وامثالهم إزاء إنذار الأنبياء، كيف كان وماذا كان؟!

مختصر الامثل، ج 2، ص: 387

فقد أجاب اولئك دعوة نوح بثلاثة إشكالات:

الأوّل: إنّ الأشراف والمترفين من قوم نوح عليه السلام قالوا له أنت مثلنا ولا فرق بيننا وبينك:

«فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَيكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا». زعماً منهم أنّ الرسالة الإلهية ينبغي أن تحملها الملائكة إلى البشر لا أنّ البشر يحملها إلى البشر! وظنّاً منهم أنّ مقام الإنسان أدنى من مقام الملائكة، أو أنّ الملائكة تعرف حاجات الإنسان أكثر منه.

والإشكال الثاني: إنّهم قالوا: يا نوح؛ لا نرى متبعيك ومن حولك إلّاحفنةً من الأراذل وغير الناضجين الذين لم يسبروا مسائل الحياة: «وَمَا نَرَيكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرَّأْىِ».

الإشكال الثالث: الذي أوردوه على نوح عليه السلام أنّهم قالوا: بالاضافة إلى أنّك إنسان ولست ملكاً، وأنّ الذين آمنوا بك والتفوا حولك هم من الأراذل، فإنّنا لا نرى لكم علينا فضلًا «وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ».

والآيات التي تعقبها تبيّن ردّ نوح عليه السلام وإجاباته المنطقية على هؤلاء حيث تقول: «قَالَ يَا قَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتَ عَلَى بَيّنَةٍ مِّن رَّبّى وَءَاتنِى رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ».

وفي ختام الآية يقول النبي نوح عليه السلام لهم: هل أستطيع أن ألزمكم الإستجابة لدعوتي وأنتم غير مستعدّين لها وكارهون لها: «أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ».

وَ يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَ مَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَ لكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَ يَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ

اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَ فَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَ لَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَ لَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) ما أنا بطارد الذين آمنوا: هذه الآيات تتابع ما ردّ به نوح عليه السلام على قومه المنكرين.

فالآية الاولى التي تحمل واحداً من دلائل نبوّة نوح، ومن أجل أن تنير القلوب المظلمة من قومه تقول على لسان نوح: «وَيَا قَوْمِ لَاأَسَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا». فأنا لا أطلب لقاء دعوتي مالًا أو ثروة منكم، وإنّما جزائي وثوابي على اللَّه سبحانه الذي بعثني بالنبوة وأمرني بدعوة خلقه إليه: «إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 388

وَ لَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَ حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (8) وَ لَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَ لَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ (11) وهذا معيار وميزان لمعرفة القادة الصادقين من غيرهم الذين يتحيّنون الفرص ويهدفون إلى تأمين المنافع المادية في كل خطوة يخطونها سواء كان بشكل مباشر أو غير مباشر.

ويعقب نوح عليه السلام بعد ذلك في ردّه على مقولة طرد المؤمنين به من الفقراء والشباب فيقول بصورة قاطعة: «وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ ءَامَنُوا». لأنّهم سيلاقون ربّهم ويخاصمونني في الدار الآخرة «إِنَّهُمْ مُّلقُوا رَبّهِمْ».

ثم تُختتم الآية ببيان نوح لقومه بأنّكم جاهلون «وَلكِنّى أَرَيكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ». وأيّ جهل وعدم

معرفة أعظم من أن تضيعوا مقياس الفضيلة وتبحثون عنها في الثروة والمال الكثير والجاه والمقام الظاهري.

ثمّ أنتم تتصورون- بجهلكم- أن يكون النبي من الملائكة، في حين ينبغي أن يكون قائد الناس من جنسهم ليحسّ بحاجاتهم ويعرف مشاكلهم وآلامهم.

وفي الآية التي بعدها يقول لهم موضحاً: إنّني لو طردت من حولي فمن ينصرني من عدل اللَّه يوم القيامة وحتى في هذه الدنيا «وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ».

فطرد المؤمنين الصالحين ليس بالأمر الهيّن، إذ سيكونون خصومي يوم القيامة بطردي لهم، ولا أحد هناك يستطيع أن يدافع عنّي ويخلصني من عدل اللَّه، ولربّما أصابتني عقوبة اللَّه في هذه الدنيا، أم أنّكم لا تفكرون في أنّ ما أقوله هو الحقيقة عينها «أَفَلَا تَذَكَّرُونَ».

وآخر ما يجيب به نوح قومه ويردّ على إشكالاتهم الواهية ... إنّكم إذا كنتم تتصورون أن لي امتيازاً آخر غير الإعجاز الذي لديّ عن طريق الوحي فذلك خطأ، وأقول لكم بصراحة: «وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ». ولا أستطيع أن أحقق كل شي ءٍ أريده وكل عمل أطلبه، حيث تحكي الآية عن لسانه «وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ». ولا أقول لكم إنّني مطلع على الغيب «وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ». ولا أدعي أنّني غيركم كأن أكون من الملائكة مثلًا «وَلَا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ» فهذه الادّعاءات الفارغة والكاذبة يتذرع بها المدّعون الكذبة، وهيهات أن يتذرع بها الأنبياء الصادقون.

وفي ذيل الآية يكرر التأكيد على المؤمنين المستضعفين بالقول: «وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا»، بل على العكس تماماً، فخير هذه الدنيا وخير الآخرة لهم وإن كانوا حُفاة لخلوّ أيديهم من المال والثروة فأنتم الذين تحسبون الخير منحصراً في المال والمقام والسن، تجهلون الحقيقة ومعناها تماماً.

مختصر الامثل، ج 2،

ص: 389

وعلى فرض صحة مدّعاكم أراذل و «أوباش» ف «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِى أَنفُسِهِمْ».

أنا الذي لا أرى منهم شيئاً سوى الصدق والإيمان يجب عليّ قبولهم، لأنّي مأمور بالظاهر، والعارف بأسرار العباد هو اللَّه سبحانه، فإن عملت غير عملي هذا كنت آثماً «إِنّى إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ».

قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَ لَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَ أَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) كفانا الكلام فأين ما تعدنا به؟ الآية الاولى من الآيات اعلاه تتحدث عن قوم نوح عليه السلام أنّهم: «قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا». فأين ما تعدنا به من عذاب اللَّه «فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ».

فاختيار هذه الطريقة إزاء كل ذلك اللطف وتلك المحبة من قبل أنبياء اللَّه ونصائحهم التي تجري كالماء الزلال على القلوب، إنّما تحكي عن مدى اللجاجة والتعصب الأعمى لدى تلك الأقوام.

لقد أجاب نوح عليه السلام على هذه اللجاجة والحماقة وعدم الإعتناء بقوله: «قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللَّهُ إِن شَاءَ». فذلك خارج من يدي على كل حال وليس باختياري، إنّما أنا رسوله ومطيع لأمره، فلا تطلبوا منّي العذاب والعقاب! ولكن حين يحل عذابه فاعلموا أنّكم لا تقدرون أن تفرّوا من يد قدرته أو تلجأوا إلى مأمن آخر «وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ».

ثم يضيف: وإذا كان اللَّه يريد أن يضلّكم ويغويكم- لما أنتم عليه من الذنوب والتلوّث الفكري والجسدي- فلا فائدة من نصحي لكم إذاً «وَلَا

يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ» فهو وليكم وأنتم في قبضته «هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ».

سؤال: هل يمكن أن يريد اللَّه الغواية والضلال لعباده؟

الجواب: قد تصدر من الإنسان- أحياناً- سلسلة من الأعمال التي تكون نتيجتها الغواية والانحراف الدائمي وعدم العودة إلى الحق.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 390

وفي آخر الآية- محل البحث- ورد كلام بمثابة الجملة المعترضة ليؤكّد المواضيع التي بحثت قصة نوح في الآيات السابقة واللاحقة، فتبيّن الآية أنّ الأعداء يقولون: إنّ هذا الموضوع صاغه «محمّد» من قبل نفسه ونسبه إلى اللَّه «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَيهُ».

ففي جواب ذلك قل يا رسول اللَّه: إن كان ذلك من عندي ونسبته إلى اللَّه فذنبه عليّ «قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَىَّ إِجْرَامِى» ولكني بري ء من ذنوبكم «وَأَنَا بَرِى ءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ».

«الإجرام»: مأخوذ من مادة «جرم» على وزن «جهل» وكما أشرنا إلى ذلك- سابقاً- فإنّ معناه قطف الثمرة غير الناضجة، ثم اطلقت على كل ما يحدث من عمل سي ء، وتطلق على من يحث الآخر على الذنب أنّه أجرم، وحيث إنّ الإنسان له إرتباط في ذاته وفطرته مع العفاف والنقاء، فإنّ الإقدام على الذنوب يفصل هذا الإرتباط الإلهي منه.

وَ أُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَ وَحْيِنَا وَ لَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ وَ كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) إنّ قصة نوح عليه السلام الواردة في آيات هذه السورة، بُيّنت بعدّة عبارات

وجمل، كل جملة مرتبطة بالاخرى، وكل منها يمثل سلسلة من مواجهة نوح عليه السلام في قبال المستكبرين، ففي الآيات السابقة بيان لمرحلة دعوة نوح عليه السلام المستمرة والتي كانت في غاية الجدية، وبالاستعانة بجميع الوسائل المتاحة، وفي الآيات محل البحث إشارة إلى المرحلة الثالثه من هذه المواجهة، وهي مرحلة انتهاء دورة التبليغ والتهيؤ للتصفية الإلهية. ففي الآية الاولى نقرأ ما معناه: يا نوح، إنّك لن تجد من يستجيب لدعوتك ويؤمن باللَّه غير هؤلاء: «وَأُوحِىَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ ءَامَنَ».

وهي إشارة إلى أنّ الصفوف قد أمتازت بشكل تام، والدعوة للإيمان والإصلاح غير مجدية، فلابدّ إذاً من الإستعداد للتصفية والتحول النهائي.

وفي نهاية الآية تسلية لقلب نوح عليه السلام أن لا تحزن على قومك حين تجدهم يصنعون مثل

مختصر الامثل، ج 2، ص: 391

هذه الأعمال «فَلَا تَبْتِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ». ونستفيد من هذه الآية- ضمناً- أنّ اللَّه يطلع نبيّه نوحاً على قسم من أسرار الغيب بمقدار ما ينبغي.

وعلى كل حال لابدّ من إنزال العقاب بهؤلاء العصاة اللجوجين ليطهر العالم من التلوّث بوجودهم، وليكون المؤمنون في منأى عن مخالبهم.

وجاء الأمر لنوح أن «وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا».

وفي نهاية الآية ينذر اللَّه نوحاً أن لا يشفع في قومه الظالمين، لأنّهم محكوم عليهم بالعذاب وإن الغرق قد كتب عليهم حتماً «وَلَا تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ».

هذه الجملة تبيّن بوضوح أنّ الشفاعة لا تتيسر لكلّ شخص، بل للشفاعة شروطها فإذا لم تتوفر في أحد الأشخاص فلا يحق للنبي أن يشفع له ويطلب من اللَّه العفو لأجله.

أمّا عن قوم نوح فكان عليهم أن يفكروا بجد- ولو لحظة واحدة- في دعوة النبي نوح عليه السلام ويحتملوا على الأقل أنّ

هذا الإصرار وهذه الدعوات المكررة كلها من «وحي اللَّه» فتكون مسألة العذاب والطوفان حتمية! إلّاأنّهم واصلوا استهزاءهم وسخريتهم مرّة اخرى وهي عادة الأفراد المستكبرين والمغرورين «وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مّن قَوْمِهِ سَخَرُوا مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ».

ولكن نوحاً كان يواصل عمله بجدية فائقة وأناة واستقامة منقطعة النظير لأنّها وليدة الإيمان، وكان لا يكترث بكلمات هؤلاء الذين رضوا عن أنفسهم وعميت قلوبهم، وإنّما يواصل عمله ليكمله بسرعة. ويوماً بعد يوم كان هيكل السفينة يتكامل ويتهيأ لذلك اليوم العظيم، وكان نوح عليه السلام أحياناً يرفع رأسه ويقول لقومه الذين يسخرون منه هذه الجملة القصيرة «قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ».

ذلك اليوم الذي يطغى فيه الطوفان فلا تعرفون ماتصنعون، ولا ملجأ لكم، وتصرخون معولين بين الأمواج تطلبون النجاة .. ذلك اليوم يسخر منكم المؤمنين ومن غفلتكم وجهلكم وعدم معرفتكم ويضحكون عليكم.

«فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ».

سفينة نوح: لا شكّ أنّ سفينة نوح لم تكن سفينة عاديّة ولم تنته بسهولة مع وسائل ذلك الزمان وآلاته، إذ كانت سفينة كبيرة تحمل بالإضافة إلى المؤمنين الصادقين زوجين اثنين من كل نوع من الحيوانات، وتحمل متاعاً وطعاماً كثيراً يكفي للمدة التي يعيشها المؤمنون

مختصر الامثل، ج 2، ص: 392

والحيوانات في السفينة حال الطوفان، ومثل هذه السفينة بهذا الحجم وقدرة الاستيعاب لم يسبق لها مثيل في ذلك الزمان، فهذه السفينة ستجري في بحر بسعة العالم، وينبغي أن تمرّ سالمةً عبر أمواج كالجبال فلا تتحطم بها. لذلك تقول بعض روايات المفسرين: إنّ طول السفينة كان ألفاً ومئتي ذراع، وعرضها كان ستمائة ذراع (كل ذراع يعادل نصف متر تقريباً).

ونقرأ في بعض الروايات

أنّ النساء ابتلين قبل الطوفان بأربعين عامّاً بالعقم وعدم الإنجاب، وكان ذلك مقدمة لعذابهم وعقابهم.

حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَ فَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَ مَنْ آمَنَ وَ مَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَ قَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَ مُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَ هِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَ نَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَ كَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَ لَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَ حَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) شروع الطوفان: رأينا في الآيات المتقدمة كيف صنع نوح عليه السلام وجماعته المؤمنون سفينة النجاة بصدق. وواجهوا جميع المشاكل واستهزاء الأكثرية من غير المؤمنين، وهيأوا أنفسهم للطوفان، ذلك الطوفان الذي طهّر سطح الأرض من لوث المستكبرين الكفرة. والآيات- محل البحث- تتعرض لموضوع ثالث، وهو كيف كانت النهاية؟ وكيف تحقق نزول العذاب على القوم المستكبرين، فتبيّنه بهذا التعبير: «حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ».

ولعل قوم نوح الغافلين رأوا هذه الآية. وهي فوران التنور بالماء في بيوتهم ولكن غضّوا أجفانهم وصمّوا آذانهم كعادتهم عند ظهور مثل العلائم الكبيرة حتى أنّهم لم يسمحوا لأنفسهم بالتفكير في هذا الأمر وأن إنذارات نوح حقيقية.

في هذه الحالة بلغ الأمر الإلهي نوحاً «قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَن ءَامَنَ».

لكن كم هم الذين آمنوا معه؟ «وَمَا ءَامَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 393

هذه الآية تشير من جهة إلى امرأة نوح وابنه كنعان وقد قطعا علاقتهما

بنوح على أثر انحرافهما وتآمرهما مع المجرمين، فلم يكن لهما حق في ركوب السفينة ليكونا من الناجين، لأنّ الشرط الأوّل للركوب كان هو الإيمان.

وتشير الآية من جهة اخرى إلى أنّ ثمرة جهاد نوح عليه السلام بعد هذه السنين الطوال والسعي الحثيث المتواصل في التبليغ لدعوته، لم يكن سوى هذا النفر المؤمن القليل.

جمع نوح عليه السلام ذويه وأصحابه المؤمنين بسرعة، وحين أزف الوعد واقترب الطوفان وأوشك أن يحل عذاب اللَّه أمرهم أن يركبوا في السفينة «وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَيهَا وَمُرْسهَا».

لماذا؟ لكي يعلمهم أنّه ينبغي أن تكونوا في جميع الحالات في ذكر اللَّه تعالى وتستمدوا العون من اسمه وذكره «إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ».

فبمقتضى رحمته جعل هذه السفينة تحت تصرفكم واختياركم لتنجيكم من الغرق وبمقتضى عفوه وغفرانه يتجاوز عن أخطائكم.

وأخيراً حانت اللحظة الحاسمة، إذ صدر الأمر الإلهي فتلبّدت السماء بالغيوم كأنّها قطع الليل المظلم، وتراكم بعضها على بعض بشكل لم يسبق له مثيل، وتتابعت أصوات الرعد وومضات البرق في السماء كلها تخبر عن حادثة «مهولة ومرعبة جدّاً».

شرع المطر وتوالى مسرعاً منهمراً أكثر فأكثر.

وهكذا إتصلت مياه الأرض بمياه السماء، فلم يبق جبل ولا وادٍ ولا تلعة ولا نجد إلّا استوعبه الماء وصار بحراً محيطاً خضمّاً ... أمّا الأمواج فكانت على أثر الرياح الشديدة تتلاطم وتغدو كالجبال. وسفينة نوح ومن معه تمضي في هذا البحر «وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ يَا بُنَىَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ». فإنّ مصيرك إلى الفناء إذا لم تركب معنا.

ولكن- للأسف- كان أثر المحيط السي ء عليه أكبر من تأثير قلب أبيه المتحرق عليه.

لذلك فإنّ هذا الولد اللجوج الأحمق، وظنّاً منه أن ينجو من غضب اللَّه

أجاب والده نوحاً و «قَالَ سَاوِى إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَاءِ». ولكن نوحاً لم ييأس مرّة اخرى فنصحه أن يترك غروره ويركب معه و «قَالَ لَاعَاصِمُ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ». ولا ينجو من هذا الغرق إلّا من شمله لطف اللَّه «إِلَّا مَن رَّحِمَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 394

وفي هذه الحالة التي كان ينادي نوح إبنه ولا يستجيب الابن له ارتفعت موجة عظيمة والتهمت كنعان بن نوح وفصل الموج بين نوح وولده «وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ».

بحوث

1- دروس تربوية من طوفان نوح: إنّ هدف القرآن الأصلي من ذكر قصص الماضين بيان دروس وعبر ومسائل تربوية، وفي هذا القسم من قصة نوح مسائل مهمة جدّاً نشير إلى قسم منها:

تطهير وجه الأرض: صحيح أنّ اللَّه رحيم ودود، ولكن لا ينبغي أن ننسى أنّه حكيم أيضاً، فبمقتضى حكمته أنّه عندما لا تؤثر دعوة الناصحين والمربّين الإلهيين في قوم فاسدين، فلا حق لهم بعد ذلك في الحياة وسينتهون نتيجة للثورات الاجتماعية أو الطبيعية وتحت وطأة التنظيم الحياتي.

وهذا الأمر غير منحصر في قوم نوح ولا بزمان معين، إنّما هو سنة اللَّه في خلقه وعباده في جميع العصور والأزمان حتى في عصرنا الحاضر، وأي إشكال في أن تكون كل من الحرب العالمية الاولى والحرب العالمية الثانية صورة من صور «تطهير الأرض».

2- لِمَ كان العقاب أو الطوفان؟ صحيح أنّ قوماً أو امة كانوا فاسدين وينبغي زوالهم ومهما تكن وسائل إزالتهم فالنتيجة واحدة، ولكن بالتدقيق في الآيات المتقدمة نستفيد أنّ هناك تناسباً بين الذنوب وعقاب اللَّه دائماً وأبداً «فتدبر جيداً».

كان فرعون يرى قدرته وعظمته تتجلى في «نهر النيل» ومياهه كثير البركات، لكن الطريف أنّ هلاك فرعون ونهايته كان في النيل.

وكان قوم نوح أهل

زراعة و «أنعام» وكانوا يجدون كل خيراتهم في «حبات المطر» لكن نهايتهم كانت بالمطر أيضاً ...

ومن هنا يتّضح جلياً أنّ حساب اللَّه في غاية الدقة، ولو لاحظنا الطغاة العتاة في عصرنا وفي الحرب العالمية الاولى والثانية كيف ابيدوا بأسلحتهم الحديثة والمتطورة لاتضح المعنى أكثر.

فلا ينبغي أن نعجب أنّ هذه الصناعات المتقدمة التي اعتمدوا عليها في استعمار الشعوب واستثمار خيراتهم واستضعافهم ... أدت إلى زوالهم.

3- المرتكزات الجوفاء: من الطبيعي أنّ كل أحد يعتمد في التغلّب على الصعاب ومواجهة

مختصر الامثل، ج 2، ص: 395

المشاكل في حياته إلى أمر ما، فجماعة يعتمدون على الثروة والمال، وجماعة على المقام والمنصب، وجماعة يلجأون إلى القدرة الجسمية، وآخرون إلى أفكارهم .. ولكن- كما تخبرنا الآيات المتقدمة ويرينا التاريخ- لا أحد من هؤلاء يستطيع أن يقاوم أدنى مقاومة أمام أمر اللَّه وقدرته، حيث يكون مثله كمثل خيط العنكبوت يتلاشى أمام هبوب الرياح الشديدة.

فابن نوح لغروره وغفلته كان غارقاً في مثل هذا الوهم، وظن أنّ الجبل سيعصمه من طوفان غضب اللَّه ويحميه ولكن موجة واحدة من ذلك الطوفان المتلاطم كشفت سراب ظنّه وأنهت حياته.

4- سفينة النجاة: وردت روايات كثيرة عن النبي صلى الله عليه و آله تعبر عن أهل بيته- وهم الأئمة الطاهرون وحملة الإسلام- بأنّهم «سفينة النجاة». أي أنّه حين يطغى الطوفان الفكري والعقائدي والاجتماعي في المجتمع الإسلامي، فإنّ طريق النجاة الوحيد هو الإلتجاء إلى مذهب أهل البيت عليهم السلام.

وَ قِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَ يَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ الْمَاءُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) نهاية الحادث: كان نوح عليه السلام قد أودع زمام السفينة بيد اللَّه سبحانه، وكانت الأمواج تتقاذف السفينة في

كل صوب، وفي روايات استمرت هذه الحال ستة أشهر تماماً (من بداية شهر رجب حتى نهاية شهر ذي الحجة) وعلى رواية (من عاشر شهر رجب حتى عاشر محرّم) وطافت السفينة نقاطاً متعددة من الأرض، وطبقاً لما جاء في بعض الرّوايات أنّها سارت على أرض مكّة وحول الكعبة.

وأخيراً صدر الأمر الإلهي بانتهاء العقاب وأن ترجع الأرض إلى حالتها الطبيعية، والآية- محل البحث- تبيّن هذا الأمر وجزئياته ونتيجته في عبارات وجيزة جدّاً، وفي الوقت ذاته بليغة وأخّاذة، وقد جاءت الآية في جمل ست:

1- «وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِى مَاءَكِ» صدر الأمر للأرض أن تبلع الماء.

2- «وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِى» وصدر الأمر للسماء أن لا تمطري.

3- «وَغِيْضَ الْمَاءُ» ونزل الماء في جوف الأرض.

4- «وَقُضِىَ الْأَمْرُ» انتهى حكم اللَّه.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 396

5- «وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِىّ» واستقرت السفينة على طرف جبل الجودي.

6- «وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» عندئذ لُعن المجرمون بالدعاء عليهم أن يبتعدوا من رحمة اللَّه.

طائفة من علماء العرب: إنّ هذه الآية تعدّ أفصح آيات القرآن وأبلغها وإن كانت آياته جميعاً في غاية البلاغة والفصاحة.

الشاهد على هذا الكلام هو أنّنا نقرأ في تفسير مجمع البيان أنّ كفار قريش أرادوا أن يتعاطوا معارضة القرآن، فعكفوا على لباب البر، ولحوم الضأن، وسلاف الخمر أربعين يوماً لتصفو أذهانهم. فلمّا أخذوا فيما أرادوا سمعوا هذه الآية، فقال بعضهم لبعض: هذا كلام لا يشبهه شي ء من الكلام، ولا يشبه كلام المخلوقين. وتركو ما أخذوا فيه، وافترقوا. وَ نَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ

تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ إِنْ تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) حادثة ابن نوح المؤلمة: قرأنا في الآيات المتقدمة أنّ ابن نوح لم يسمع نصيحة والده وموعظته، ولم يترك لجاجته وحماقته حتى النفس الأخير، فكانت نهايته الغرق في أمواج الطوفان. وهذه الآيات- محل البحث- تتحدث عن قسم آخر من هذه القصة، وهو أنّه حين رأى نوح إبنه تتقاذفه الأمواج ثارت فيه عاطفة الأبوّة وتذكّر وعد اللَّه في نجاة أهله فالتفت إلى ساحة اللَّه منادياً «فَقَالَ رَبّ إِنَّ ابْنِى مِنْ أَهْلِى وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ».

وهذا الوعد هو ما أشارت إليه الآية (40) من هذه السورة، ولكنه سمع الجواب مباشرة ... جواب يهزّ هزّاً كما أنّه يكشف عن حقيقة كبيرة ... حقيقة أنّ الرّباط الديني أسمى من رباط النسب والقرابة «قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صلِحٍ».

فهو فرد غير لائق، حيث لا أثر لرباط القرابة بعد أن قطع رباط الدين. «فَلَا تَسَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ».

فأحسّ نوح أنّ طلبه هذا من ساحة رحمة اللَّه لم يكن صحيحاً، ولا ينبغي أن يتصور نجاة

مختصر الامثل، ج 2، ص: 397

ولده مما وعد اللَّه به في نجاة أهله، لذلك توجه إلى اللَّه معتذراً مستغفراً و «قَالَ رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ».

في العيون عن الرضا عليه السلام: «كيف يقرأون هذه الآية؟» قيل: من الناس من يقرأ: أنّه عمل غير صالح ومنهم من يقرأ: أنّه عمل غير صالح فمن قرأ أنّه عمل غير

صالح نفاه عن أبيه، فقال عليه السلام: «كلّا لقد كان إبنه، ولكن لمّا عصى اللَّه نفاه عن أبيه، كذا من كان منّا لم يطع اللَّه فليس منّا».

قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَ بَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَ لَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) هبوط نوح بسلام: هاتان الآيتان هما نهاية الآيات التي تتحدث عمّا جاء في نوح وقصته المليئة بالدروس والعبر في سورة هود، وفيهما إشارة إلى هبوط نوح عليه السلام من سفينته وعودة الحياة والعيش الطبيعي على الأرض. يقول القرآن في الآية الاولى من هاتين الآيتين: «قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلمٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ».

لا شك أنّ الطوفان كان قد دمّر كل آثار الحياة ... فالأراضي العامرة والمراتع الخُضر والغابات النضرة كلها ابيدت، فالحالة كانت تنذر بأزمة خانقة لنوح وأصحابه بالنسبة للمعاش والغذاء، لكن اللَّه سبحانه طمأن هذه الجماعة المؤمنة إزاء البركات الإلهية والسلامة وأنّ كل ذلك سيكون مهيّأً وموفّراً لهم فلا ينبغي الحزن على شي ء ...

ثم يضيف القرآن مخاطباً نوحاً أنّه ستعقب الامم التي معك امم من نسلها، ولكن هذه الامم ستغتر وتغفل عن نعم اللَّه فتنال جزاءها من اللَّه «وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٍ».

وفي آخر آية تختم بها قصة نوح- في هذه السورة- إشارة كلية عامة إلى ما حدث في عهد نوح فتقول: «تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذَا».

فالخطاب هنا للنبي محمّد صلى الله عليه و آله يؤكّد عليه أن يصبر

ويستقيم كما صبر واستقام نوح عليه السلام

مختصر الامثل، ج 2، ص: 398

عندما واجه المشاكل، وهكذا تكون عاقبة الصبر النصر «فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ».

يستفاد من هذه الآية أنّ الأنبياء كانوا يعلمون الغيب عن طريق تعليم اللَّه وبالمقدار الذي كان يريده اللَّه لهم، لا أنّهم يعلمون الغيب من أنفسهم.

والآن نودع قصّة نوح بكلّ ما تحمل من عبر وأعاجيب، ونتوجه إلى نبي عظيم آخر وهو هود الذي سُمّيت هذه السورة باسمه.

وَ إِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَ فَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَ يَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَ لَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) في الآيات السابقة كان الكلام حول نوح عليه السلام وأمّا الآن فالحديث عن هود عليه السلام. يقول سبحانه في الآية الاولى من هذه القصة: «وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا». ونلاحظ في الآية أنّها وصفت هوداً بكونه «أخاهم».

وهذا التعبير جار في لغة العرب. حيث يطلقون كلمة أخ على جميع أفراد القبيلة لانتسابهم إلى أصل واحد ...

أو أنّ هذا التعبير يشير إلى أنّ معاملة هود لهم كانت أخوية بالرغم من كونه نبيّاً، وهذه الحالة هي صفة الأنبياء جميعاً، فهم لا يعاملون الناس من منطق الزعامة والقيادة أو معاملة أب لأبنائه، بل من منطلق أنّهم إخوة لهم ....

معاملة خالية من أيّة شائبة وأيّ امتياز أو استعلاء.

كان أوّل دعوة هود- كما هو الحال في دعوة الأنبياء جميعاً- توحيد اللَّه ونفي الشرك عنه «قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا

مُفْتَرُونَ».

فهذه الأصنام ليست شركاءه، ولا منشأ الخير أو الشر، ولا يصدر منها أي عمل، وأي افتراء أعظم وأكبر من نسبتكم كل هذا المقام والتقدير لهذه الموجودات «الأصنام» التي لا قيمة لها إطلاقاً.

ثم يضيف هود قائلًا لقومه: لا تتصوروا أنّ دعوتي لكم من أجل المادة، فأنا لا اريد منكم أيّ أجر «يَا قَوْمِ لَاأَسَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا». فأجري وحده على من فطرني ووهبني

مختصر الامثل، ج 2، ص: 399

الروح وأنا مدين له بكل شي ء، فهو الخالق والرازق «إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى الَّذِى فَطَرَنِى».

وأساساً فإنّي في كل خطوة أخطوها لسعادتكم، إنّما أفعل ذلك طاعةً لأمره، ولذلك ينبغي طلب الأجر منه وحده لا منكم، وإضافة إلى ذلك فهل لديكم شي ء من عندكم، فكل ما هو لديكم منه سبحانه: «أَفَلَا تَعْقِلُونَ».

ثم شرع هود ببيان الأجر المادي للإيمان لغرض التشويق والاستفادة من جميع الوسائل الممكنة لإيقاظ روح الحق في قومه الظالين، فبيّن أن هذا الأجر المادي مشروط بالايمان فيقول: «وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ». فإذا فعلتم ذلك فإنّه «يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مّدْرَارًا» «1». لئلا تصاب مزارعكم بقلة الماء أو القحط، بل تظل خضراء مثمرة دائماً، وزيادة على ذلك فإنّ اللَّه بسبب تقواكم وابتعادكم عن الذنوب والتوجه إليه يرعاكم «وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ».

فلا تتصوروا أنّ الإيمان والتقوى يضعفان من قوتكم أبداً، فعلى هذا إيّاكم والإبتعاد عن طريق الحق «وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ».

التوحيد أساس دعوة الأنبياء: يبين تاريخ الأنبياء أنّهم بدأوا دعوتهم جميعاً من التوحيد ونفي الشرك ونفي عبادة الأصنام أيّاً كانت، والواقع فإنّ أيّ إصلاح في المجتمعات الإنسانية لا يتيسر بغير هذه الدعوة، لأنّ وحدة المجتمع والتعاون والإيثار كلها امور تسترفد من منبع واحد وهو توحيد المعبود.

وأمّا الشرك فهو أساس كل فرقة

وتعارض وتضاد وأنانية ... وما إلى ذلك ... وإرتباط هذه المفاهيم بالشرك وعبادة الأصنام بالمفهوم الواسع غير خاف على أحد!

قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَ مَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَ مَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَ اشْهَدُوا أَنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لَا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ (57)

______________________________

(1) «المدرار»: مشتق من «درّ» وهو انصباب حليب الأثداء، ثمّ استعمل في انصباب المطر.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 400

قوّة المنطق: والآن لننظر ماذا كان ردّ فعل القوم المعاندين والمغرورين- قوم عاد- مقابل نصائح أخيهم هود وتوجيهاته إليهم: «قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيّنَةٍ». أي لم تأتنا بدليل مقنع لنا «وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءَالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ» الذي تدعونا به إلى عبادة اللَّه وترك الأوثان «وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ».

وأضافوا إلى هذه الجمل الثلاث غير المنطقية، أنّك يا هود مجنون و «إِن نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَيكَ بَعْضُ ءَالِهَتِنَا بِسُوءٍ». ولا شك أنّ هوداً- كأي نبي من الأنبياء- أدّى دوره ووظيفته وأظهر المعجز أو المعجزات لقومه للتدليل على حقانيته، ولكنهم لغرورهم- مثل سائر الأقوام- أنكروا معاجزه وعدّوها سحراً.

إنّ على هود أن يردّ على هؤلاء الضالين اللجوجين رداً مقروناً بالمنطق، من منطلق القوة أيضاً ... يقول القرآن في جواب هود لهم: «قَالَ إِنّى أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنّى بَرِى ءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ».

يشير بذلك إلى أنّ الأصنام إذا

كانت لها القدرة فاطلبوا منها هلاكي وموتي لمحاربتي لها علناً فعلام تسكت هذه الأصنام؟ وماذا تنتظر بي؟

ثم يضيف أنّه ليست الأصنام وحدها لا تقدر على شي ء، فأنتم مع هذا العدد الهائل لا تقدرون على شي ء، فإذا كنتم قادرين «مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لَاتُنظِرُونَ».

فأنا لا تردعني كثرتكم ولا أعدها شيئاً، ولا أكترث بقوتكم وقدرتكم أبداً، وأنتم المتعطشون لدمي ولديكم مختلف القدرات، إلّاأنني واثق بقدرة فوق كل القدرات، «إِنّى تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبّى وَرَبّكُم».

فلو فكرتم جيداً لكان هذا وحده معجزاً حيث ينهض إنسان مفرد وحيد بوجه الخرافات والعقائد الفاسدة في مجتمع قوي ومتعصب، لكنّه في الوقت ذاته لا يشعر في نفسه بالخوف منهم، ولا يستطيع الأعداء أن يقفوا بوجهه! ثمّ يضيف: لستم وحدكم في قبضة اللَّه، فإنّه «مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ ءَاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا»، فما لم يأذن به اللَّه، لا يستطيع أحد أن يفعل شيئاً.

ولكن إعلموا أيضاً أنّ ربّي القدير ليس كالأشخاص المقتدرين الذين يستخدمون قدرتهم للهوي واللعب والأنانية وفي غير طريق الحق، بل هو اللَّه الذي لا يفعل إلّاالحكمة والعدل «إِنَّ رَبّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ».

ثم إنّ هوداً قال لقومه في آخر كلامه معهم كما تحكيه الآية: «فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 401

إشارة إلى أن لا يتصوروا أنّ هوداً سيتراجع إن لم يستجيبوا لدعوته، فإنّه أدّى واجبه ووظيفته، وأداء الواجب انتصار بحد ذاته حتى لو لم تقبل دعوته.

وكما هدّد القوم هوداً، فإنّه هددهم بأشدّ من تهديدهم، وقال: إن لم تستجيبوا لدعوتي فإنّ اللَّه سيبيدكم في القريب العاجل «وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّى قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيًا».

هذه سنّة اللَّه في خلقه وقانونه العام، إنّه متى كان قوم غير لائقين لاستجابة الدعوة والهداية والنعم

الاخرى التي أنعمها عليهم فإنّه سيبعدهم ويستخلف قوماً لائقين بمكانهم «إِنَّ رَبّى عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ حَفِيظٌ». فلا تفوته الفرصة، ولا يهمل أنبياءه ومحبيه، ولا يعزب عنه مثقال ذرة من حساب الآخرين بل هو عالم بكل شي ء وقادر على كل شي ء.

وَ لَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ نَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَ تِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَ عَصَوْا رُسُلَهُ وَ اتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) اللعن الأبدي على القوم الظالمين: في آخر الآيات التي تتحدث عن قصة قوم عاد ونبيّهم هود إشارة إلى العقاب الأليم للمعاندين، فتقول الآيات: «وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا». وتؤكّد أيضاً نجاة المؤمنين «وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ».

وفي قوله تعالى: «نَجَّيْنَا» وتكرار هذه الكلمة في الآية مرّتين أقوال مختلفة للمفسرين، ف «نجّينا» الأولى تعني خلاصهم من عذاب الدنيا و «نجّينا» الثانية تعني نجاتهم في المرحلة المقبلة من عذاب الآخرة، وينسجم هذا التعبير مع وصف العذاب بالغلظة أيضاً.

ويشير بعض المفسرين إلى مسألة لطيفة هنا، وهي أنّ الكلام لمّا كان على رحمة اللَّه فمن غير المناسب أن تتكرر كلمة العذاب مباشرة، فأين الرحمة من العذاب؟ لذلك تكررت كلمة «نجّينا» لتفصل بين الرحمة والعذاب دون أن ينقص شي ء من التأكيد على العذاب.

كما ينبغي الإلتفات إلى هذه المسألة الدقيقة أيضاً، وهي أنّ آيات القرآن وصفت العذاب

مختصر الامثل، ج 2، ص: 402

بالغليظ في أربعة موارد «1». وبملاحظة تلك الآية بدقّة نستنتج أنّ العذاب الغليظ مرتبط بالدار الآخرة، وخصوصاً الآيات التي جاءت في سورة ابراهيم

وذكر فيها العذاب الغليظ، فإنّها تصف بصراحة حال أهل جهنم وأهوالها، وهكذا يكون، وذلك لأنّ عذاب الدنيا مهما كان شديداً فإنّه أخفّ من عذاب الآخرة!

وهناك تناسب ينبغي ملاحظته أيضاً، وهو أنّ قوم عاد- كما سيأتي بيان حالهم إن شاء اللَّه- ورد ذكرهم في سورة القمر، والحاقة، وكانوا قوماً ذوي أبدان طوال خشنين، فشبّهت أجسامهم بالنخل، ولهذا السبب كانت لديهم عمارات عالية عظيمة، بحيث نقرأ في تاريخ ما قبل الإسلام أن العرب كانوا يَنسبون البناءات الضخمة والعالية إلى عاد ويقولون مثلًا: «هذا البناء عادي» لذلك كان عذابهم مناسباً لهم لا في العالم الآخر بل في هذه الدنيا كان عذابهم خشناً وعقابهم صارماً، كما مرّ في تفسير السور الآنفة الذكر.

ثمّ تلخّص الآيات ذنوب قوم عادٍ في ثلاثة مواضيع:

الأوّل: بإنكارهم لآيات اللَّه وعنادهم أيضاً لم يتركوا دليلًا واضحاً وسنداً بيّناً على صدق نبوّة نبيّهم إلّاجحدوه «وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بَايَاتِ رَبِّهِمْ».

والثاني: إنّهم من الناحية العملية لم يتّبعوا أنبياء اللَّه «وَعَصَوْا رُسُلَهُ».

والثالث من الذنوب: إنّهم تركوا طاعة اللَّه ومالوا لكل جبار عنيد «وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ». فأي ذنب أعظم من هذه الذنوب: ترك الإيمان، ومخالفة الأنبياء، والخضوع لطاعة كل جبار عنيد.

و «الجبار»: يطلق على من يُجبر سواه على إتباعه ويريد أن يغطي نقصه بادعاء العظمة والتكبر الظاهري.

و «العنيد»: هو من يخالف الحق والحقيقة أكثر مما ينبغي، ولا يرضخ للحق أبداً.

______________________________

(1) وهي في السور التالية: 1- ابراهيم/ 7؛ 2- لقمان/ 34؛ 3- فصّلت/ 50؛ 4- هود/ 58.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 403

هاتان الصفتان تتجليان في الطواغيت والمستكبرين في كل عصر وزمان، الذين لا يستمعون لكلام الحق أبداً ويعمدون إلى من يخالفهم بانزال أشد انواع العقاب به بلا رحمة.

وفي الآية الأخيرة التي

تنتهي بها قصة «هود» وقومه «عاد» بيان لنتيجة أعمالهم السيئة و الباطلة حيث تقول الآية: «وَأُتْبِعُوا فِى هذِهِ الدُّنْيَالَعْنَةً» و بعدالموت لايبقى إلّاخزيهم والصيت السي ء «وَيَوْمَ الْقِيمَةِ» يقال لهم: «أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ».

وكان يكفي تعريف هذه الجماعة بلفظ «عاد» ولكن بعد ذكر عاد جاء لفظ «قوم هود» أيضاً لتؤكّد عليهم أوّلًا، ولتشير إلى أنّهم القوم الذين آذوا نبيّهم الناصح لهم ثانياً، ولذلك فقد أبعدهم اللَّه عن رحمته.

وَ إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قصة ثمود: انتهت قصة عاد، قوم هود، بجميع دروسها بشكل مضغوط، وجاء الدور الآن لثمود «قوم صالح» وهم الذين عاشوا في وادي القرى بين المدينة والشام، حسب ما تنقله التواريخ عنهم.

ونرى هنا أيضاً أنّ القرآن حين يتحدث عن نبيّهم «صالح» يذكره على أنّه أخوهم، وأيّ تعبير أروع وأجمل منه حيث بيّنا قسماً من محتواه في الآيات المتقدمة، أخ محترق القلب ودود مشفق ليس له هدف إلّاالخير لجماعته «وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صلِحًا».

ونجد أيضاً أنّ منهج الأنبياء جميعاً يبدأ بمنهج التوحيد ونفي أي نوع من أنواع الشرك وعبادة الأوثان التي هي أساس جميع المتاعب «قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَالَكُم مِّنْ إِلهٍ غَيْرُهُ».

ولكي يحرك إحساسهم بمعرفة الحق أشار إلى عدد من نعم اللَّه المهمة التي استوعبت جميع وجودهم فقال: «هُوَ أَنْشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ».

ثمّ يُذكّر هؤلاء المعاندين بعد أن أشار إلى نعمة الخلقة بنعم اخرى موجودة في الأرض حيث قال: «وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا».

الطريف هنا أنّ القرآن لم يقل: إنّ اللَّه عمر الأرض وجعلها تحت تصرفكم، وإنّما

قال:

وفوّض إليكم إعمار الأرض «وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا» وهي إشارة إلى أنّ الوسائل معدّة فيها لكل شي ء وعليكم إعمارها بالعمل والسعي المتواصل والسيطرة على مصادر الخيرات فيها.

وبدون ذلك لا حظّ لكم في الحياة الكريمة.

فإذا كان الأمر كذلك: «فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ» لدعواتكم.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 404

قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هذَا أَ تَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَ إِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَ يَا قَوْمِ هذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَ لَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) والآن لنلاحظ ما الذي كان جواب المخالفين لنبيّ اللَّه «صالح عليه السلام» إزاء منطقه الحي الداعي إلى الحق.

لقد استفادوا من عامل نفسي للتأثير على النبي «صالح» أو على الأقل للمحاولة في عدم تأثير كلامه على المستمعين له من جمهور الناس، وبالتعبير العامّي الدارج: أرادوا أن يضعوا البطيخ تحت إبطه، فقالوا: «يَا صلِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذَا». وكنّا نتوجه إليك لحل مشاكلنا ونستشيرك في امورنا ونعتقد بعقلك وذكائك ودرايتك، ولم نشك في إشفاقك واهتمامك بنا، لكن رجاءنا فيك ذهب ادراج الرياح، حيث خالفت ما كان يعبد آباؤنا من الأوثان وهو منهج اسلافنا ومفخرة قومنا، فأبديت عدم احترامك للأوثان وللكبار وسخرت من عقولنا «أَتَنْهنَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا». والحقيقة أنّنا نشكّ في دعوتك للواحد الأحد «وَإِنَّنَا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ».

لكن هذا

النبي الكبير لم ييأس من هدايتهم ولم تؤثر كلماتهم المخادعة في روحه الكبيرة فأجابهم قائلًا: «قَالَ يَا قَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتَ عَلَى بَيّنَةٍ مّن رَبِّى وَءَاتنِى مِنْهُ رَحْمَةً». أفأسكت عن دعوتي ولا أبلغ رسالة اللَّه ولا أواجه المنحرفين «فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ».

ولكن اعلموا أنّ كلامكم هذا واحتجاجكم بمنهج السلف والآباء لا يزيدني إلّاإيماناً بضلالتكم وخسرانكم: «فَمَا تَزِيدُونَنِى غَيْرَ تَخْسِيرٍ».

وبعد هذا كلّه ومن أجل البرهان على صدق دعوته، وبيان المعاجز الإلهية التي دونها

مختصر الامثل، ج 2، ص: 405

قدرة الإنسان جاءهم بالناقة التي هي آية من آيات اللَّه وقال: «وَيَا قَوْمِ هذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ».

«الناقة»: في اللغة هي انثى الجمل، وقد اضيفت إلى لفظ الجلالة «اللَّه» وهذه الإضافة تدل على أنّ هذه الناقة لها خصائص معينة، ومع الإلتفات إلى ما عبّر عنها في الآية المتقدمة بأنّها «آية» وعلامة إلهيّة ودليل على الحقانيّة، يتّضح أنّها لم تكن ناقة عادية، بل كانت خارقة للعادة من جهة أو جهات متعددة.

إنّ القرآن ذكر قصة ناقة صالح بشكل مجمل غير أنّنا نقرأ في روايات كثيرة، أنّ هذه الناقة خرجت من قلب الجبل، ولها خصائص اخرى ليس هنا مجال سردها.

وعلى كل حال، فمع جميع ما أكّده نبيّهم العظيم «صالح» في شأن الناقة، فقد صمّموا أخيراً على القضاء عليها، لأنّ وجودها مع ما فيها من خوارق مدعاة لتيقظ الناس والتفافهم حول النبي صالح عليه السلام، لذلك فإنّ جماعة من المعاندين لصالح من قومه الذين كانوا يجدون في دعوة صالح خطراً على مصالحهم، ولا يرغبون أن يستفيق الناس من غفلتهم فتتعرض دعائم استعمارهم للتقويض والانهيار، فتآمروا للقضاء على الناقة وهيأوا جماعة لهذا

الغرض، وأخيراً أقدم أحدهم على مهاجمتها وضربها بالسكين فهوت إلى الأرض «فَعَقَرُوهَا».

«عقروها»: مشتقة من مادة «العُقر» على وزن «الظلم» ومعناه: أصل الشي ء وأساسه وجذره، لأنّ نحر البعير يستلزم زوال وجوده من الأصل.

العلاقة الدينية: إنّ الإسلام يعدّ الرضا الباطني في أمر ما والإرتباط معه إرتباطاً عاطفياً بمنزلة الاشتراك فيه. يقول الإمام علي عليه السلام في الخطبة (201) في نهج البلاغة: «وإنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمّهم اللَّه بالعذاب لما عمّوه بالرضا».

وهناك روايات متعددة في المضمون ذاته نقلت عن نبي الخاتم وأهل بيته الكرام، وهي تكشف غاية الإهتمام من قبل هؤلاء السادة العظام بالعلاقة العاطفية والمناهج الفكرية المشتركة بجلاء.

وفي نهاية الآية نقرأ أنّ النبي «صالحاً» بعد أن رأى تمرّد قومه وعقرهم الناقة أنذرهم «فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِى دَارِكُمْ ثَلثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ». فهو وعد اللَّه الذي لا يتغير وما أنا من الكاذبين.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 406

فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَ أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْداً لِثَمُودَ (68) نهاية ثمود؛ قوم صالح: في هذه الآيات يتبيّن كيف نزل العذاب على قوم صالح المعاندين بعد أن أمهلهم وقال لهم: «تَمَتَّعُوا فِى دَارِكُمْ ثَلثَةَ أَيَّامٍ» فتقول الآيات: «فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صلِحًا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا» لا من العذاب الجسماني والمادي فحسب، بل «وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ» «1». لأنّ اللَّه قوي وقادر على كل شي ء، وله السلطة على كل أمر، ولا يصعب عليه أيّ شي ء ولا قدرة فوق قدرته «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِىُّ الْعَزِيزُ».

وعلى هذا فإنّ

نجاة جماعة من المؤمنين من بين جماعة كثيرة تبتلى بعذاب اللَّه ليس بالأمر المشكل بالنسبة لقدرة اللَّه تعالى.

إنّ رحمة اللَّه تستوجب ألّا يحترق الأبرياء بنار الأشقياء المذنبين، وألّا يؤاخذ المؤمنون بجريرة غير المؤمنين «وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ». وهكذا هلكوا وصاروا «شذر مذر» ومضت آثارهم مع الريح «كَأَنَّ لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِّثَمُودَ» عن لطف اللَّه ورحمته.

وَ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَ امْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَ مِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذَا لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَ بَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)

______________________________

(1) «الخزي»: في اللغة الإنكسار الذي يصيب الإنسان سواءً من نفسه أو من سواه ويشمل كل أنواع الذل أيضاً.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 407

جانب من حياة محطّم الأصنام: والآن جاء الدور للحديث عن جانب من حياة «إبراهيم عليه السلام» هذا البطل العظيم الذي حطم الأصنام، وما جرى له مع قومه، وهنا تذكر الآيات قسماً من حياته المرتبطة بقصة «قوم لوط» وعقاب هؤلاء الجماعة الملوّثين بالآثام والعصيان، فتقول في البداية: «وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرهِيمَ بِالْبُشْرَى .

وهؤلاء الرسل هم الملائكة الذين امروا بتدمير مدن قوم لوط، ولكنهم قبل ذلك جاؤوا إلى إبراهيم ليسلموه بلاغاً يتضمّن بشرى سارة.

أمّا عن ماهية هذه البشرى فهناك احتمالان، ولا مانع من الجمع بينهما.

الإحتمال الأوّل: البشرى بتولّد

إسماعيل وإسحاق ويعدّ بشارة عظمى.

والإحتمال الثاني: إنّ إبراهيم كان مستاءً مما وجده في قوم لوط من الفساد والعصيان، فحين أخبروه بأنّهم امروا بهلاكهم سُرّ، وكان هذا الخبر بشرى له.

فحين جاءوا إبراهيم «قَالُوا سَلمًا» فأجابهم أيضاً و «قَالَ سَلمٌ» ورحّب بهم «فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ». «العجل»: في اللغة ولد البقر؛ و «الحنيذ»: معناه المشوي.

ويستفاد من هذه الجملة أنّ من آداب الضيافة أن يعجّل للضيف بالطعام، خاصة إذا كان الضيف مسافراً، فإنّه غالباً ما يكون متعباً وجائعاً وبحاجة إلى طعام، فينبغي أن يقدم له الطعام عاجلًا ليخلد إلى الراحة.

ولكن حدث لإبراهيم حادث عجيب مع أضيافه عند تقديم العجل الحنيذ لهم، فقد رآهم لا يمدّون أيديهم إلى الطعام، وهذا العمل كان مريباً له وجديداً عليه، فأحسّ بالإستيحاش واستغرب ذلك منهم «فَلَمَّا رَءَا أَيْدِيَهُمْ لَاتَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً».

ومن السنن والعادات القديمة التي لا تزال قائمة بين كثير من الناس الذين لهم التزام بالتقاليد الطيبة للاسلاف، هي أنّ الضيف إذا تناول من طعام صاحبه (وبما اصطلح عليه:

تناول من ملحه وخبزه) فهو لا يكنّ له قصد سوء، وعلى هذا فإنّ من له قصد سوء مع أحد- واقعاً- يحاول ألّا يأكل من طعامه «وخبزه وملحه» ومن هذا المنطلق شك إبراهيم في نيّاتهم، وأساء الظن بهم، واحتمل أنّهم يريدون به سوءاً.

أمّا الرسل فإنّهم لمّا اطلعوا على ما في نفس إبراهيم، بادروا لرفع ما وقع في نفسه و «قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 408

وفي هذه الحال كانت امرأته «سارة» واقفة هناك فضحكت كما تقول الآية: «وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ».

هذا الضحك من سارة يحتمل أن يكون لأنّها كانت مستاءةً من قوم لوط وفجائعهم، واطّلاعها على قرب

نزول العذاب عليهم كان سبباً لسرورها وضحكها.

ثم تضيف الآية أنّ إسحاق سيعقبه ولد من صلبه اسمه يعقوب: «فَبَشَّرْنهَا بِإِسْحقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحقَ يَعْقُوبَ».

الواقع أنّ الملائكة بشّروها بالولد وبالحفيد، فالأوّل إسحاق والثّاني يعقوب، وكلاهما من أنبياء اللَّه.

ومع التفات «سارة» امرأة إبراهيم إلى كبر سنّها وسنّ زوجها فإنّها كانت آيسة من الولد بشدّة، فاستنكرت بصوت عال متعجبة من هذا الأمر و «قَالَتْ يَا وَيْلَتَى ءَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذَا بَعْلِى شَيْخًا إِنَّ هذَا لَشَىْ ءٌ عَجِيبٌ».

إنّ رسل اللَّه ازالوا التعجب عنها فوراً وذكّروها بنعم اللَّه «الخارقة للعادة» عليها وعلى اسرتها ونجاتهم من الحوادث الجمّة، فالتفتوا إليها و «قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ». ذلك الربّ الذي نجّى إبراهيم من مخالب نمرود الظالم، ولم يصبه سوء وهم في قلب النار.

وهذه الرحمة الإلهية لم تكن خاصة بذلك اليوم فحسب، بل هي مستمرة في أهل هذا البيت، وأي بركة أعظم من وجود رسول اللَّه محمّد صلى الله عليه و آله والأئمة الطاهرين عليهم السلام في هذه الاسرة وفي هذا البيت بالذات.

وقالت ملائكة اللَّه لمزيد التأكيد على بشارتهم وكلامهم في شأن اللَّه: «إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ».

فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَ جَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) رأينا في الآيات السابقة أنّ إبراهيم عرف فوراً أنّ أضيافه الجدد لم يكونوا أفراداً خطرين أو يخشى منهم، ولمّا ذهب الهلع والخوف عن إبراهيم من اولئك الأضياف، ومن ناحية اخرى فقد بشروه بالوليد السعيد، شرع فوراً بالتفكير في قوم لوط الذين ارسل إليهم

مختصر الامثل، ج 2، ص: 409

هؤلاء

الرُسل «الملائكة» فأخذ يجادلهم ويتحدث معهم في أمرهم «فَلَمَّا ذَهَبَ عَن إِبْرهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِى قَوْمِ لُوطٍ» «1».

وهنا يمكن أن ينقدح هذا السؤال، وهو: لِمَ تباحث إبراهيم عليه السلام مع رسل اللَّه وجادلهم في قوم آثمين ظالمين- كقوم لوط- وقد امروا بتدميرهم، في حين أنّ هذا العمل لا يتناسب مع نبيّ، خاصة إذا كان إبراهيم عليه السلام في عظمته وشأنه؟

لهذا فإنّ القرآن يعقّب مباشرة في الآية عن شفقة إبراهيم وتوكله على اللَّه فيقول: «إِنَّ إِبْرهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ» «2».

هذه الاصاف الثلاث المجملة جواب على السؤال المشار إليه آنفاً. وتوضيح ذلك: إنّ هذه الصفات المذكورة لإبراهيم تشير إلى أنّ مجادلته كانت ممدوحة، وذلك لأنّ إبراهيم لم يتّضح له أنّ أمر العذاب صادر من قبل اللَّه بصورة قطعية، ويحتمل أنّهم سيرتدون عن غيهم ويتّعظون، ومن هنا فما زال هناك مجال للشفاعة لهم ....

وتقول الآية التالية: إنّ الرسل قالوا لإبراهيم- مباشرةً- أن أعرض عن اقتراحك لأنّ أمر ربّك قد تحقق والعذاب نازل لا محالة. «يَا إِبْرهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ ءَاتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ».

والتعبير ب «ربّك» لا يدل على أنّ هذا العذاب خال من الطابع الانتقامي فحسب، بل يدل أيضاً على أنّه علامة لتربية العباد وإصلاح المجتمع الإنساني.

وَ لَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِي ءَ بِهِمْ وَ ضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قَالَ هذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَ جَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَ مِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ لَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)

قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)

______________________________

(1) «روع»: على وزن «نوع» معناها «الخوف و الوحشة» و كلمة «روع» على وزن «نوح» معناها «الروح» أو قسم منها الذى هو محل الخوف و مركزه، لمزيد الإيضاح تراجع المعاجم اللغوية.

(2) «الحليم»: مشتق من «الحلم» و هو: الأناة والصبر فى سبيل الوصل إلى هدف مقدس، والأواه فى الأصل: كثير التحسر والآه سواء من الخوف من المسؤولية التى يحملها أو من المصائب، والمنيب من الإنابة أى الرجوع.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 410

قوم لوط وحياة الخزي: مرّت في آيات من سورة الأعراف إشارة إلى شي ء من مصير قوم لوط، وفسّرنا ذلك في محلّه، وهنا يتناول القرآن الكريم- وبمناسبة ما ذكره من قصص الأنبياء وأقوامهم وبما ورد في الآيات المتقدمة عن قصة لوط وقومه- قسماً آخر من حياة هؤلاء القوم المنحرفين الضالين ليتابع بيان الهدف الأصلي ألا وهو سعادة المجتمع الإنساني ونجاته بأسره. يبيّن القرآن الكريم في هذا الصدد أوّلًا ... أنّه لما جاءت رسلنا لوطاً طار هلعاً وضاق بهم ذرعاً وأحاط به الهمّ من كل جانب «وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِى ءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا».

وقد ورد في الروايات الإسلامية أنّ لوطاً كان في مزرعَته حيث فوجى ء بعدد من الشباب الوسيمين الصِباح الوجوه قادمون نحوه وراغبون في النزول عنده ولرغبته باستضافتهم من جهة، ولعلمه بالواقع المرير الذي سيشهده في مدينته الملوّثة بالانحراف الجنسي من جهة اخرى، كل ذلك أوجب له الهم ...

ومرّت هذه المسائل على شكل أفكار وصور مرهقة في فكره، وتحدث مع نفسه «وَقَالَ هذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ»، لاحتمال الفضيحة والتورط في مشاكل عويصة.

«سيى ء»: مشتقة من ساء، ومعناها عدم الإرتياح وسوء الحال؛ و «الذرع»: تعني «القلب» على قول؛

وكلمة «عصيب»: مشتقة من «العصب» ومعناه ربط الشي ء بالآخر وشده شدّاً محكماً، وبما انّ الحوادث الصعبة تشدّ الإنسان وكأنّها تسلبه راحته فيظل مبلبل الأفكار سُميت «عصيبة» وتطلق العرب على الأيام شديدة الحر أنّها عصيبة أيضاً.

وورد في بعض الروايات أنّ لوطاً أخّر ضيوفه كثيراً حتى حلول الليل، فلعله يستطيع أن يحفظ ماء وجهه من شرور قومه، ويقوم بواجب الضيافة دون أن يُساء إلى أضيافه، ولكن ما عسى أن يفعل الإنسان إذا كان عدوه داخل بيته، وكانت امرأة لوط امرأة كافرة وتساعد قومه الظالمين، وقد اطلعت على ورود هؤلاء الأضياف إلى بيتها، فصعدت إلى أعلى السطح وصفقت بيديها أوّلًا، ثم بإشعال النار وتصاعد الدخان أعلمت جماعة من هؤلاء القوم بأنّ طعمة دسمة قد وقعت في «الشِباك».

يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: «وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ» «1». وكانت حياة هؤلاء

______________________________

(1) «يُهرعون»: مشتقّة من الإهراع ومعناها السياقة الشديدة، فكأنّما تسوق غريزة هؤلاء إيّاهم بشدّة إلى أضيافه.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 411

القوم مسودّة وملطخة بالعار «وَمِن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيَاتِ» فكان من حق لوط أن يضيق ذرعاً ويصرخ ممّا يرى من شدّة استيائه و «قَالَ يَا قَوْمِ هؤُلَاءِ بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ» فأنا مستعد أنّ أزوجهن إياكم «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ» يصدكم عن هذه الأعمال المخزية وينصحكم بالإقلاع عنها.

تعبير لوط «أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ» في آخر كلامه مع قومه المنحرفين يكشف عن هذه الحقيقة، وهي أنّ وجود رجل- ولو رجل واحد رشيد- بين قوم ما وقبيلة ما يكفي لردعهم من أعمالهم المخزية، أي لو كان فيكم رجل عاقل ذو لبّ ورشد لما قصدتم بيتي ابتغاء الإعتداء على ضيفي!

ولكن هؤلاء القوم المفسدين أجابوا لوطاً بكل وقاحة وعدم

حياء و «قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ».

وهنا وجد لوط- هذا النبي العظيم- نفسه محاصراً في هذه الحادثة المريرة فنادى و «قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قَوَّةً» أو سند من العشيرة والأتباع والمعاهدين الأقوياء حتى اتغلّب عليكم «أَوْ ءَاوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ».

قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَ لَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَ أَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَ مَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) عاقبة الجماعة الظالمة: وأخيراً حين شاهد الملائكة (رسل اللَّه) الأضياف، ما عليه لوط من عذاب النفس كشفوا «ستاراً» عن أسرار عملهم و «قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ».

نقرأ في الآية (37) من سورة القمر: «وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ». ونقرأ في بعض الروايات- أيضاً- أنّ أحد الملائكة غشّى وجوههم بحفنة من التراب فعموا جميعاً.

إنّ اطلاع لوط عليه السلام على حال أضيافه ومأموريتهم، دنا زمن السرور والنجاة من مخالب هؤلاء القوم المنحرفين المتوحشين.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 412

ثم أمر الأضياف لوطاً- مباشرة- أن يرحل هو وأهله من هذه البلدة وقالوا: «فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الَّيْلِ».

ولكن كونوا على حذر «وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ» إلى الوراء «إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ» لتخلّفها عن أمر اللَّه وعصيانها مع العُصاة الظَلَمة.

وخلاصة الأمر فإنّ آخر ما قاله رسل اللَّه- أي الملائكة- للوط عليه السلام: إنّ العذاب سينزل قومه صباحاً. ومع أوّل شعاع للشمس سيحين غروب حياة هؤلاء: «إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ».

ونقرأ في بعض

الرّوايات أنّ الملائكة حين وعدوا لوطاً بنزول العذاب صباحاً، سأل لوط الملائكة لشدة ما لقيه من قومه مما ساءه، وجرح قلبه وملأه همّاً وغمّاً أن يعجلوا عليهم بالعذاب في الحال فإنّ الأفضل الإسراع، ولكن الملائكة طمأنوه بقولهم: «أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ».

وأخيراً دنت لحظة العذاب وتصرّمت ساعات انتظار لوط النبي عليه السلام وكما يقول القرآن الكريم: «فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجّيلٍ مَّنضُودٍ».

وكلمة «سجّيل»: فارسية الأصل، وهي مركبة من «سنگ» ومعناها الحجارة و «گِل» ومعناها الطين، فعلى هذا هي شي ء لاصلباً كالحجارة ولا رخواً كالزهرة، وإنّما هي برزخ «وسط» بينهما. و «المنضود»: من مادة «نضد» ومعناه كون الشي ء مصفوفاً وموضوعاً بشكل متتابع ومتراكم، أي إنّ هذا المطر كان متتابعاً سريعاً إلى درجة حتى كأنّ هذه الأحجار تتراكب بعضها فوق بعض فتكون «منضودة».

ولكن هذه الأحجار ليست أحجاراً عادية، بل هي أحجار فيها علامات عند اللَّه «مُسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ».

ولا تتصوروا أنّ هذه الأحجار مخصوصة بقوم لوط، بل «وَمَا هِىَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ».

هؤلاء القوم المنحرفون ظلموا أنفسهم وظلموا مجتمعهم، لعبوا بمصير امتهم كما استهزؤوا بالإيمان والأخلاق الإنسانية، وكلّما نصحهم نبيّهم باخلاص وحرقة قلب لم يسمعوا له وسخروا منه.

تحريم الانحراف الجنسي: يُعدّ الميل الجنسي إلى المماثل «سواء وقع ذلك بين الرجال أو بين النساء» من الذنوب الكبيرة في الإسلام، وقد جعل الإسلام لكل من الحالتين حداً شرعياً.

والرّوايات التي تذم الميل الجنسي إلى المماثل والمنقولة عن قادة الإسلام كثيرة ومذهلة

مختصر الامثل، ج 2، ص: 413

والمطالع لهذه الروايات يحسّ أنّ قبح هذا الذنب ليس له مثيل بين الذنوب.

نقرأ مثلًا من هذه الروايات رواية عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال: «من جامع غلاماً

جاء يوم القيامة جنباً لا ينقّيه ماء الدنيا، وغضب اللَّه عليه ولعنه وأعدّ له جهنم وساءت مصيراً. ثمّ قال: إنّ الذّكر يركب الذّكر فيهتزّ العرش لذلك» «1».

وَ إِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَ لَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَ الْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَ يَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَ الْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَ لَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَ لَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَ مَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) مدين بلدة شعيب: مع انتهاء قصة قوم لوط تصل النوبة إلى قوم شعيب وأهل مدين، اولئك الذين حادوا عن طريق التوحيد وهاموا على وجوههم في شركهم وعبادة الأصنام، ولم يعبدوا الأصنام فحسب، بل الدرهم والدينار والثروة والمال، ومن أجل ذلك فإنّهم لوّثوا تجارتهم الرابحة وكسبهم الوفير بالغش والبخس والفساد. في بداية القصة تقول الآية: «وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا». وكلمة «أخاهم» تستعمل في مثل هذا التعبير لبيان منتهى المحبّة من قِبَل الأنبياء لقومهم.

و «مدين»: اسم لمدينة شعيب وقبيلته، وتقع المدينة شرق خليج العقبة، وأهلها من أبناء إسماعيل، وكانوا يتاجرون مع أهل مصر ولبنان وفلسطين.

هذا النبي وهذا الأخ الودود المشفق على قومه- كأي نبي في اسلوبه وطريقته في بداية الدعوة- دعاهم أوّلًا إلى ما هو الأساس والعماد والمعتقد وهو «التوحيد» وقال: «قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلهٍ غَيْرُهُ».

ثم أشار إلى أحد المفاسد الاقتصادية التي هي من افرازات عبادة الأصنام والشرك، وكانت رائجة عند أهل مدين يومئذ جدّاً، وقال: «وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ». أي حال البيع والشراء.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 14/ 249.

مختصر الامثل، ج 2، ص:

414

ويشير هذا النبي العظيم بعد هذا الأمر إلى علتين: العلة الاولى: هي قوله «إِنّى أَرَيكُم بِخَيْرٍ».

يقول أوّلًا: إنّ قبول نصحي يكون سبباً لتفتح أبواب الخير عليكم وتقديم التجارة وهبوط سطح القيمة واستقرار المجتمع.

ويحتمل أيضاً في تفسير هذه الجملة «إِنّى أَرَيكُم بِخَيْرٍ» أنّ شعيباً يقول لهم: إنّي أراكم منعمين وفي خير كثير، فعلى هذا لا مدعاة لعبادة الأصنام وإضاعة حقوق الناس والكفر بدلًا من الشكر على نعم اللَّه سبحانه.

وثانياً: «وَإِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ» بسبب إصراركم على الشرك والتطفيف في الوزن وكفران النعمة ... الخ.

وكلمة «محيط»: جاءت صفة ليوم، أي يوم شامل ذو إحاطة، وشمول اليوم يعني شمول العذاب والعقاب في ذلك اليوم، وهذا التعبير فيه إشارة إلى عذاب الآخرة كما يشير إلى عقاب الدنيا الشامل.

و الآية الاخرى تؤكّد على نظامهم الاقتصادي، فإذا كان شعيب قد نهى قومه عن قلة البيع والبخس في المكيال، فهنا يدعوهم إلى إيفاء الحقوق والعدل والقسط حيث يقول: «وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ».

ويجب أن يحكم هذا الأصل «وهو اقامة القسط والعدل، وإعطاء كل ذي حق حقه» على مجتمعكم بأسره.

ثم يخطو خطوة أوسع ويقول: «وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ».

و «البخس»: معناه في اللغة التقليل، وجاء هنا بمعنى الظلم أيضاً.

ونجد في نهاية الآية أنّ شعيباً يخطو خطوةً اخرى أوسع ويقول لقومه: «وَلَا تَعْثَوْا فِى الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ».

فالفساد يقع عن طريق البيع ويقع عن طريق غصب حقوق الناس والإعتداء على حقوق الآخرين، والفساد أيضاً يقع في الإخلال بالموازين والمقاييس الاجتماعية، ويقع أيضاً ببخس الناس أشياءهم وأموالهم، وأخيراً يقع الفساد على الحيثيات بالإعتداء على حرمتها وعلى النواميس وأرواح الناس.

إنّ الآيتين المتقدمتين تعكسان هذه الواقعية بجلاء، وهي أنّه بعد الإعتقاد بالتوحيد والنظر الفكري الصحيح، يُنظر إلى

الاقتصاد السليم بأهمية خاصة، كما تدلّان على أنّ

مختصر الامثل، ج 2، ص: 415

الإخلال بالنظام الاقتصادي سيكون أساساً للفساد الوسيع في المجتمع.

ثم يخبرهم أنّ زيادة الثروة- التي تصل إلى أيديكم عن طريق الظلم واستثمار الآخرين- ليست هي السبب في غناكم، بل ما يغنيكم هو «بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ».

التعبير ب «بقيت اللَّه» إمّا لأنّ الربح الحلال القليل المترشح عن أمر اللَّه فهو «بقيت اللَّه» وإمّا لأنّ الحصول على الرزق الحلال باعث على دوام نعم اللَّه وبقاء البركات ... وإمّا لأنّه يشير إلى الجزاء والثواب المعنوي الذي يبقى إلى الأبد.

وقد قلنا مراراً إنّ آيات القرآن بالرغم من نزولها في موارد خاصة، إلّاأنّها تحمل مفاهيم جامعة وكلية، بحيث يمكن أن يكون لها مصداق في العصور والقرون التالية وتنطبق على مجال أوسع أيضاً.

صحيح أنّ المخاطبين في الآية المتقدمة هم قوم شعيب، والمراد من (بقيت اللَّه) هو الربح ورأس المال الحلال أو الثواب الإلهي، إلّاأنّ كل موجود نافع باق من قبل اللَّه للبشرية، ويكون أساس سعادتها وخيرها يعدّ (بقيت اللَّه) أيضاً.

ومن هنا فإنّ «المهدي الموعود عليه السلام» آخر إمام وأعظم قائد ثوري بعد النبي صلى الله عليه و آله من أجلى مصاديق (بقيت اللَّه) وهو أجدر من غيره بهذا اللقب، خاصة أنّه الوحيد الذي بقي بعد الأنبياء والأئمة عليهم السلام.

وفي نهاية الآية- محل البحث- نقرأ على لسان شعيب: «وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ». إذ وظيفته هي البلاغ وليس مسؤولًا على «إجبار» أحد أبداً.

قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَ صَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ رَزَقَنِي مِنْهُ

رِزْقاً حَسَناً وَ مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَ مَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَ يَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَ مَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)

مختصر الامثل، ج 2، ص: 416

المنطق الواهي: والآن فَلنَر ما كان ردّ القوم اللجوجين إزاء نداء هذا المصلح السماوي «شعيب». فبما إنّهم كانوا يتصورون أنّ عبادة الأصنام من آثار سلفهم الصالح، ودلالة على أصالة ثقافتهم، وكانوا لا يرفعون اليد عن الغش في المعاملة وتحقيق الربح الوفير عن هذا الطريق قالوا: «يَا شُعَيْبُ أَصَلَوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا». ونترك حريتنا في التصرف بأموالنا فلا نستطيع الاستفادة منها «أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِى أَمْوَالِنَا مَا نَشؤُا». إنّ هذا بعيد منك «إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ».

لقد كان قوم شعيب واقعين في مثل هذا الخطأ حيث كانوا يتصورون أنّه من الخطأ القول بتحديد التصرف بالأموال من قِبَل مالكيها، في حين يجب أن تكون الامور المالية تحت ضوابط صحيحة ومحسوبة كما عرضها الأنبياء على الناس، وإلّا فستجرّ الحرية المطلقة المجتمع نحو الانحراف والفساد.

وعلى كل حال هؤلاء الأغنياء فلعلهم كانوا يتصورون متساءلين: إنّ هذه الأذكار والأدعية ما عسى أن تؤثر في هذه الامور؟ على حين لو كان اولئك يفكرون جيداً لأدركوا هذا الأمر الواقعي وهو أنّ الصلاة توقظ في الإنسان الإحساس بالمسؤولية والتقوى ومخافة اللَّه ومعرفة الحقوق، وتذكره باللَّه وبمحكمة عدل اللَّه، ولذلك فهي تخلّصه من الشرك وعبادة الأصنام والتقليد الأعمى للسلف الجاهل وبخس الناس أشياءهم، وعن أنواع

الغش والخداع ... الخ.

ولكن شعيباً ردّ على من اتّهمه بالسفه وقلة العقل بكلام متين و «قَالَ يَا قَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيّنَةٍ مِّن رَّبّى وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا».

ثمّ يضيف هذا النبي العظيم قائلًا: «وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهكُمْ عَنْهُ». فلا تتصوروا أنّني أقول لكم لا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تنقصوا المكيال، وأنا أبخس الناس أو أنقص المكيال، أو أقول لكم لا تعبدوا الأوثان وأنا أفعل ذلك كله، كلا فإنّني لا أفعل شيئاً من ذلك أبداً.

ويستفاد من هذه الجملة أنّهم كانوا يتهمون شعيباً بأنّه كان يريد الربح لنفسه، ولهذا فهو ينفي هذا الموضوع صراحةً ويقول تعقيباً على ما سبق «إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلحَ مَا اسْتَطَعْتُ».

وهذا هو هدف الأنبياء جميعاً، حيث كانوا يسعون إلى إصلاح العقيدة، وإصلاح الأخلاق، وإصلاح العمل، وإصلاح العلائق والروابط الاجتماعية وأنظمتها «وَمَا تَوْفِيقِى إِلَّا

مختصر الامثل، ج 2، ص: 417

بِاللَّهِ» للوصول إلى هذا الهدف.

وعلى هذا فإنّني، ولأجل أداء رسالتي والوصول إلى هذا الهدف الكبير «عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ».

وأسعى للإستعانة به على حل المشاكل، وأتوكل عليه في تحمّل الشدائد في هذا الطريق، وأعوذ إليه أيضاً.

ثم ينبههم إلى مسألة أخلاقية، وهي أنّه كثيراً ما يحدث للإنسان أنّه لا يعرف مصالحه وينسى مصيره، وذلك بسبب بغضه وعدائه بالنسبة لشخص آخر أو التعصب الأعمى واللجاجة في شي ء ما، فيقول لهم «وَيَا قَوْمِ لَايَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى» فتبتلوا بما ابتلى به غيركم و «أَن يُصِيبَكُم مّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صلِحٍ» وما حدث لقوم لوط من البلاء العظيم حيث أمطرهم اللَّه بحجارة من سجيل منضود وقلب مدنهم فجعل عاليها سافلها «وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ».

و «مدين»: التي كانت موطن شعيب لم تكن بعيدة عن موطن

قوم لوط، لأنّ الموطنين كلاهما كانا من مناطق «الشامات» وأمّا من الناحية العملية فالفرق كبير بين الانحراف الجنسي الذي كان عليه قوم لوط والانحراف الاقتصادي الذي كان عليه قوم شعيب، لكن كليهما يتشابهان في توليد الفساد في المجتمع والإخلال بالنظام الاجتماعي وإماتة الفضائل الخُلقية وإشاعة الانحراف.

ثم يأمر شعيب قومه الضالين بشيئين هما ما كان يؤكّد عليه جميع الأنبياء المتقدمين.

الأوّل: قوله: «وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ». أي لتطهروا من الذنوب وتجتنبوا الشرك وعبادة الأوثان والخيانة في المعاملات. والثاني: قوله: «ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ» أي ارجعوا إليه.

والواقع أنّ الاستغفار توقف في مسير الذنب وغسل النفس، والتوبة عودة إلى اللَّه الكمال المطلق.

واعلموا أنّه مهما يكن الذنب عظيماً والوزر ثقيلًا فإنّ طريق العودة إليه تعالى مفتوح وذلك لأنّ «رَبّى رَّحِيمٌ وَدُودٌ».

«الودود»: صيغة مبالغة مشتقة من الود ومعناه المحبة، وذكر هذه الكلمة بعد كلمة «رحيم» إشارة إلى أنّ اللَّه يلتفت بحكم رحمته إلى المذنبين التائبين، بل هو إضافة إلى ذلك يحبّهم كثيراً لأنّ رحمته ومحبّته هما الدافع لقبول الاستغفار وتوبة العباد.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 418

قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَ إِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَ لَوْ لَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَ مَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَ رَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَ اتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَ مَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَ ارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) التهديدات المتبادلة بين شعيب وقومه: إنّ شعيباً هذا النبي العظيم- الذي لُقّب بخطيب الأنبياء «1» لخطبه المعروفة والواضحة، والتي كانت أفضل شاهد أمين للحياة المادية والمعنوية لهذه الجماعة- واصل محاججته لقومه بالصبر والأناة

والقلب المحترق، ولكن تعالوا لنرى كيف ردّ عليه هؤلاء القوم الضالون؟!

لقد أجابوه بأربع جمل كلها تحكي عن جهلهم ولجاجتهم:

فأوّلها: أنّهم قالوا: «يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ».

والثانية: قولهم «وَإِنَّا لَنَرَيكَ فِينَا ضَعِيفًا».

والثالثه: هي أنّه لا تظنّ أنّنا نتردد في القضاء عليك بأبشع صورة خوفاً منك ومن بأسك، ولكن احترامنا لعشيرتك هو الذي يمنعنا من ذلك «وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنكَ».

«الرهط»: تطلق في لغة العرب على الجماعة التي مجموع أنصارها ثلاثة إلى سبعة، أو عشرة، أو على قول- وهو الحد الأكثر- تطلق على أربعين نفراً.

وهم يشيرون بذلك إلى أنّ قبيلتك تتمتع بالقوة الكافية مقابل قوتنا، ولكن تمنعنا أمور اخرى.

وقولهم الأخير: «وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ» فمهما كانت منزلتك في عشيرتك، ومهما كنت كبيراً في قبيلتك إلّاأنّه لا منزلة لك عندنا لسلوكك المخالف والمرفوض.

ولكن شعيباً دون أن يتأثر بكلماتهم الرخيصة واتهاماتهم الواهية أجابهم بمنطقه العذب وبيانه الشائق متعجباً وقال: «يَا قَوْمِ أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ» أفتذروني من أجل

______________________________

(1) بحار الأنوار 12/ 387.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 419

رهطي وقبيلتي التي لا تتجاوز عدّة أنفار ولا تصغون لكلامي في اللَّه؟ وهل يمكن أن نقارن عدة أفراد بعظمة اللَّه سبحانه ... وأنتم لم تهابوه وتوقّروه «وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا».

وفي الختام يقول لهم: لا تظنوا أنّ اللَّه غافل عنكم أو أنّه لا يرى أعمالكم ولا يسمع كلامكم، بل «إِنَّ رَبّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ».

فحيث أنّ المشركين من قوم شعيب هددوهُ في آخر كلامهم بالرجم، وأبرزوا قوتهم أمامه، كان موقف شعيب من تهديداتهم على النحو التالي: «وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنّى عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ» «1».

وَ لَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَ الَّذِينَ آمَنُوا

مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ أَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) عاقبة المفسدين في مدين: قرأنا في قصص الأقوام السابقين مراراً، أنّ الأنبياء كانوا في المرحلة الاولى يدعونهم إلى اللَّه، وفي المرحلة التي بعدها حيث لم ينفع النصح للجماعة ينذرها نبيّها ويخوّفها من عذاب اللَّه، وفي المرحلة الثالثه، تبدأ مرحلة التصفية وينزل العقاب. وفي شأن قوم شعيب- أي أهل مدين- وصل الأمر إلى المرحلة النهائية أيضاً، إذ يقول القرآن الكريم فيهم: «وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ». «الصيحة»: معناها في اللغة كل صوت عظيم، والقرآن الكريم يحكي عن هلاك أقوام متعددين بالصيحة السماوية، هذه الصيحة يحتمل أن تكون صاعقة من السماء أو ما شابهها.

ثم يعقّب القرآن فيقول: «فَأَصْبَحُوا فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ». أي: أجساداً هامدة بلا روح، لتبقى أجسادهم هناك عبرة لمن اعتبر ...

وهكذا طُوي سجلّ وطومار حياتهم «كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا». وانطفأ بريق كل شي ء، فلا ثروة ولا قصور ولا ظلم ولا زينة كل ذلك تلاشى وانعدم.

وكما كانت نهاية عاد وثمود- وقد حكى عنهما القرآن- فهو يقول عن نهاية مدين أيضاً

______________________________

(1) «الرقيب»: معناه الحافظ والمراقب وهو مشتق في الأصل من الرقبة وإنّما سُمّي بذلك لأنّه يكون حافظاً على رقبة شخص ما «كناية عن أنّه مراقب على روحه» أو يحرك الرقبة ليؤدّي دور الرقابة والحفظ.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 420

مختصر الامثل ج 2 449

«أَلَا بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ». والمقصود من كلمة «مدين» أهل مدين الذين كانوا بعيدين عن رحمة اللَّه وكانوا من الهالكين.

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَ سُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَ

مَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَ مَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَ بِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) البطل المبارز لفرعون: بعد انتهاء قصّة شعيب وأهل مدين، يُشير القرآن الكريم إلى زاوية من قصة موسى ومواجهته لفرعون وهذه القصة هي القصة السابعة من قصص الأنبياء في هذه السورة. تحدث القرآن الكريم عن قصة موسى عليه السلام وفرعون وبني اسرائيل أكثر من مائة مرّة. وخصوصية قصة موسى عليه السلام بالنسبة لقصص الأنبياء- كشعيب وصالح وهود ولوط عليهم السلام التي قرأناها في ما سبق- هي أنّ اولئك الأنبياء عليهم السلام واجهوا الأقوام الضالين، لكن موسى عليه السلام واجه إضافة إلى ذلك حكومة «ديكتاتور» طاغ مستبد هو فرعون الجبار. ولكن ينبغي الإلتفات إلى أنّنا نقرأ في هذا القسم من قصة موسى زاوية صغيرة فحسب ولكنها في الوقت ذاته تحمل رسالة كبيرة للناس جميعاً. يقول القرآن الكريم أوّلًا:

«وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بَايَاتِنَا وَسُلْطنٍ مُّبِينٍ».

«السلطان»: بمعنى التسلط، يستعمل تارةً في السلطة الظاهرية، وأحياناً في السلطة المنطقية، السلطة التي تحاصر المخالف في طريق مسدود بحيث لا يجد طريقاً للفرار.

ويبدو في الآية المتقدمة أنّ «السلطان» استعمل في المعنى الثاني، والمراد ب «الآيات» هي معاجز موسى الجليلة.

إنّ موسى ارسل بتلك المعجزات القاصمة وذلك المنطق القوي «إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيهِ».

«الملأ»: تُطلق على الذين يملأ مظهرهم العيون بالرغم من خلوّ المحتوى الداخلي، وفي منطق القرآن تطلق هذه الكلمة غالباً على الوجوه والأشراف والأعيان الذين يحيطون بالمستكبرين وبالقوى الظالمة ... إلّاأنّ جماعة فرعون الذين وجدوا منافعهم مهددة بالخطر بسبب دعوة موسى، فإنّهم لم يكونوا مستعدين للاستجابة ... لمنطقه الحق ومعجزاته

مختصر الامثل، ج 2،

ص: 421

«فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ». ولكن فرعون ليس من شأنه هداية الناس إلى الحياة السعيدة أوضمان نجاتهم وتكاملهم: «وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ».

ويوم الحشر حين يأتي الناس عرصات القيامة فإنّ زعماؤهم وقادتهم في الدنيا هم الذين سيقودوهم هناك حين يُرى فرعون هناك: «يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيمَةِ» وبدلًا من أن ينقذهم ويخلصهم من حرارة المحشر وعطشه يوصلهم إلى جهنم «فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ». فبدلًا من أن يسكن عطش أتباعه هناك يحرق وجودهم وبدلًا من الإرواء يزيدهم ظمأ إلى ظمأ.

ثم يقول القرآن: «وَأُتْبِعُوا فِى هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيمَةِ». فأسماؤهم الذليلة تثبت على صفحات التاريخ أبداً على أنّهم قوم ضالون وجبابرة، فقد خسروا الدنيا والآخرة وساءت النار لهم عطاء وجزاءً «بِئْسَ الرّفْدُ الْمَرْفُودُ».

«الرفد»: في الأصل معناه الإعانة على القيام بعمل معين، ثمّ أطلقت هذه الكلمة على العطاء لأنّه إعانة من قِبَل المُعطي إلى المُطعى له.

ذلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَ حَصِيدٌ (100) وَ مَا ظَلَمْنَاهُمْ وَ لكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ مَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَ كَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَ هِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَ مَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) في آيات هذه السورة تبيان لقصص سبعة أقوام من الأقوام السابقين ولمحات من تاريخ أنبيائهم، وهنا إشارة إلى جميع تلك القصص، فيتحدث القرآن عن صورة مستجمعة لما مرّ من الحوادث والأنباء حيث يقول: «ذلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ».

«قائم»: تشير إلى المدن والعمارات

التي لا تزال باقية من الأقوام السابقين.

«حصيد»: معناها اللغوي قطع النباتات بالمنجل، وفي هذه الكلمة إشارة إلى بعض

مختصر الامثل، ج 2، ص: 422

الأراضي البائرة، كأرض قوم نوح وأرض قوم لوط، حيث إنّ واحدة منهما دمرها الغرق والثانية امطرت بالحجارة. «وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ» حيث ركنوا ولجأوا إلى الأصنام والآلهة «المزعومة» «فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءَالِهَتُهُمُ الَّتِى يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَىْ ءٍ لَّمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبّكَ» بل زادوهم ضرراً وخسراناً «وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ» «1».

«وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ» فلا يدعها على حالها و «إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ».

هذا قانون إلهي عام ومنهج دائم، فما من قوم أو امة من الناس يتجاوزون حدود اللَّه ويمدون أيديهم للظلم ولا يكترثون لنصائح أنبيائهم ومواعظهم، إلّاأخذهم اللَّه أخذاً شديداً واعتصرتهم قبضة العذاب.

وبالطبع فإنّ الظلم بمعناه الواسع يشمل جميع الذنوب، ووصُفت القرية أو المدينةُ بأنّها «ظالمة» مع أنّ الوصف ينبغي أن يكون لساكنيها، فكأنّما هناك مسألة دقيقة وهي أنّ أهل هذه المدينة انغمسوا في الظلم إلى درجة حتى كأنّ المدينة أصبحت مغموسة في الظلم أيضاً.

وبما إنّ هذا قانون كلي فإنّ القرآن يقول مباشرة: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً لّمَنْ خَافَ عَذَابَ الْأَخِرَةِ». لأنّ الدنيا لا تعدّ شيئاً إزاء الآخرة، وجميع ما في الدنيا حقير حتى ثوابها وعقابها، والعالم الآخر أوسع- من جميع النواحي- من هذه الدنيا، فالمؤمنون بيوم القيامة ينظرون بعين العبرة لدى مشاهدة هذه المُثُل والنماذج في الدنيا، ويواصلون طريقهم.

وفي ختام الآية إشارة إلى وصفين من أوصاف يوم القيامة حيث يقول القرآن: «ذلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ».

هي إشارة إلى أنّ القوانين والسنن الإلهية كما هي عامّة في هذا العالم، فإنّ اجتماع الناس في تلك

المحكمة الإلهية أيضاً عام.

وبما أنّ البعض قد يتوهم أنّ الحديث عن ذلك اليوم لم يحن أجله فهو نسيئة وغير معلوم وقت حلوله، لهذا فإنّ القرآن يقول مباشرة: «وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ».

وذلك أيضاً لمصلحة واضحة جليّة ليرى الناس ميادين الاختبار والتعلم، وليتجلى آخر منهج للأنبياء.

______________________________

(1) «التتبيب»: مشتق من مادة «تبّ» ومعناه الاستمرار في الضرر، وقد يأتي بمعنى الهلاك أيضاً.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 423

والتعبير بكلمة «معدود» إشارة إلى قرب يوم القيامة، لأنّ كل شي ء يقع تحت العدّ والحساب فهو محدود وقريب.

يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) السعادة والشقاوة: أشير في الآيات المتقدمة إلى مسألة القيامة واجتماع الناس كلهم في تلك المحكمة العظيمة ... وهذه الآيات- محل البحث- بيّنت زاوية من عواقب الناس ومصيرهم في ذلك اليوم، إذ تقول الآيات أوّلًا: «يَوْمَ يَأْتِ لَاتَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ».

إنّ الناس يقطعون في ذلك اليوم مراحل مختلفة ... وكل مرحلة لها خصوصياتها، ففي قسم من المراحل لا يُسألون أبداً حتى أنّ أفواههم يُختم عليها فلا يتكلمون، وإنّما تنطق أعضاء أجسادهم التي حفظت آثار أعمالها بلغة من دون لسان، وفي المراحل الاخرى يرفع الختم أو القفل عن أفواههم ويتكلمون بإذن اللَّه فيعترفون بأخطائهم وذنوبهم ويلوم المخطئون بعضهم بعضاً، بل يحاولون أن يُلقوا تبعات أوزارهم على غيرهم.

ويشار في نهاية الآية إلى تقسيم الناس جميعاً إلى طائفتين: طائفة

محظوظة، واخرى بائسة تعيسة «فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ». وليس هذا الشقاء وتلك السعادة سوى نتيجة الأعمال والأقوال والنيّات التي سلفت من الإنسان في الدنيا.

ثم تشرح الآيات حالات السعداء والأشقياء حيث تقول: «فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِى النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ». وتضيف حاكية عن حالهم أيضاً: «خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّموَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَّا يُرِيدُ* وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِى الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّموَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ».

الطريف أنّ لفظ «شقوا» في الآيات المتقدمة ورد بصيغة المبني للمعلوم، ولفظ «سعدوا» ورد بصيغة المبني للمجهول، ولعل في هذا الاختلاف في التعبير إشارة لطيفة إلى هذه المسألة الدقيقة، وهي أنّ الإنسان يطوي طريق الشقاء بخطاه، ولكن لابد لطيّ طريق السعادة من

مختصر الامثل، ج 2، ص: 424

الإمداد والعون الإلهي، وإلّا فإنّه لا يوفّق في مسيره، ولا شك أنّ هذا الإمداد والعون يشمل اولئك الذين يخطون خطواتهم الاولى بإرادتهم واختيارهم فحسب وكانت فيهم اللياقة والجدارة لهذا الإمداد. (فلاحظوا بدقة).

بحثان

1- مسألة الخلود في القرآن: معنى «الخلود» لغة البقاء الطويل، كما جاء بمعنى الأبد أيضاً، فكلمة «الخلود» لا تعني الأبد وحده لأنّه تشمل كل بقاء طويل. ولكن ذُكرت في كثير من آيات القرآن مع قيود يفهم منها معنى الأبد، فمثلًا في الآية (100) من سورة التوبة، والآية (11) من سورة الطلاق، والآية (9) من سورة التغابن، حين تذكر هذه الآيات أهل الجنّة تأتي بالتعبير عنهم «خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا» ومفهومها أبدية الجنة لهؤلاء، ونقرأ في آيات القرآن الاخرى وصف أهل النار كالآية (169) من سورة النساء، والآية (23) من سورة الجن هذا التعبير أيضاً «خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا» وهو دليل على عذابهم الأبدي.

وتعبيرات

اخرى مثل الآية (3) من سورة الكهف «مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا» والآية (108) من سورة الكهف أيضاً: «لَايَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا» وأمثالها تدل بصورة قطعية على أنّ طائفة من أهل الجنة وطائفة من أهل النار سيبقون في العذاب أو النعمة.

فالآيات- محل البحث- أيضاً تبيّن الدوام.

2- أسباب السعادة والشقاء: السعادة ضالة كل الناس، وهي توفّر أسباب تكامل الفرد في المجتمع، والنقطة المقابلة لها هي الشقاء وهو عبارة عن عدم مساعدة الظروف للنجاح والتقدم والتكامل. ولكن ينبغي الإلتفات إلى أنّ أساس السعادة أو الشقاء هو إرادة الإنسان نفسه، فهو يستطيع أن يوفر الوسائل لترشيد نفسه وحتى مجتمعه، وهو الذي يستطيع أن يواجه عوامل الشقاء ويهزمها أو يستسلم لها.

وليس الشقاء أو السعادة في منطق الوحي ومدرسة الأنبياء شيئاً من ذات الإنسان وحتى النواقص في المحيط والعائلة والوراثة كل ذلك قابل للتغيير بتصميم الإنسان وإرادته إلّا أن ننكر أصل الإرادة في الإنسان وحريته، ونعدّه محكوماً بالظروف الجبرية، وكل من سعادته أو شقائه ذاتي أو هو نتيجة جبرية لمحيطه، وما إلى ذلك.

وهذا الرأي مرفوض في نظر الأنبياء وفي نظر المذهب العقلي أيضاً.

الطريف أنّنا نجد في الرّوايات المنقولة عن النبي صلى الله عليه و آله وأهل البيت عليهم السلام إشارات إلى مسائل

مختصر الامثل، ج 2، ص: 425

مختلفة على أنّها أسباب السعادة، أو أسباب الشقاء ... بحيث يتعرف الإنسان خلال مطالعتها على طريقة التفكير الإسلامي في هذه المسألة المهمّة، وسيقفُ على الواقعيات العينية وأسباب السعادة الحقيقية.

في كتاب الخصال عن الإمام الصادق عليه السلام عن جدّه أميرالمؤمنين علي عليه السلام أنّه قال: «حقيقة السعادة أن يختم للرجل عمله بالسعادة، وحقيقة الشقاوة أن يختم للمرء عمله بالشقاوة».

ويقول نبي الخاتم صلى الله عليه و آله أيضاً: «أربع

من السعادة وأربع من الشقاوة، فالأربع التي من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب البهيّ. والأربع التي من الشقاوة: الجار السوء، والمرأة السوء، والمسكن الضيق، والمركب السوء» «1».

وإذا لاحظنا أسباب السعادة والشقاوة في الأحاديث المتقدمة وحقيقتهما وأثرهما البالغ في حياة البشر، وقارنّاهما مع الأسباب والمسائل الخرافية التي يعتقد بها جمع كثير- حتى في عصرنا- لوصلنا إلى هذا الواقع الذي يؤكّد أنّ التعاليم الإسلامية منطقية ومدروسة إلى أقصى حد.

فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَ إِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَ مَنْ تَابَ مَعَكَ وَ لَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) الاستقامة والثبات: هذه الآيات بمثابة تسلية لخاطر النبي صلى الله عليه و آله كما أنّها نازلة لبيان وظيفته ومسؤوليته، وفي الواقع إنّ من أهم النتائج التي يُتوصل إليها من القصص السابقة للُامم الماضية هي أن لا يكترث النبي ومن معه من أتباعه المؤمنون حقاً من كثرة الأعداء، ولا يخافوا منهم، ولا يشكّوا أو يتردّدوا في هزيمة عبدة الأصنام والظالمين الذي يقفون بوجوههم، وأن يواصلوا طريقهم ويعتمدوا على اللَّه واثقين به. لذلك يقول القرآن الكريم في

______________________________

(1) بحار الأنوار 73/ 154/ 34.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 426

هذا الصدد: «فَلَا تَكُ فِى مِرْيةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ ءَابَاؤُهُم مِّن قَبْلُ» «1».

ويقول بعدها مباشرة: «وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ». إنّ هذه الآية تجسّم هذه

الحقيقة، وهي أنّ ما قرأناه من قصص الامم السابقة لم يكن أسطورة، كما أنّها لا تختص بالماضين، فهي سنّة أبدية وخالدة وهي لجميع الناس ماضياً وحاضراً ومستقبلًا.

ويسلّي القرآن قلب النبي صلى الله عليه و آله مرّة اخرى، فيحدّثه عن موسى وقومه قائلًا: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابِ فَاخْتُلِفَ فِيهِ». ويقول إذا ما رأيت أنّ اللَّه لا يعجل العذاب على قومك، فلأنّ مصلحة الهداية والتعليم والتربية لقومك توجب ذلك وإلّا فإنّ القرار الالهي المسبق يقتضي التعجيل بعملية التحكيم والقضاء وبالتالي إنزال العقاب «وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكّ مِّنْهُ مُرِيبٍ».

«مريب»: مشتقة من «الريب» ومعناه الشك المقترن بسوء الظن والنظرة السيئة والقرائن المخالفة، وعلى هذا فيكون مفهوم هذه الكلمة أنّ عبدة الأصنام ما كانوا يترددون في مسألة حقيقة القرآن أو نزول العذاب على المفسدين فحسب، بل كانوا يدّعون بأنّ لديهم قرائن تخالف ذلك أيضاً.

ويضيف القرآن لمزيد التأكيد: «وَإِنَّ كُلًّا لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ». وهذا الأمر ليس فيه صعوبة على اللَّه ولا حرج إذ: «إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ».

الطريف أنّ القرآن يقول: «لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ» ليشير مرّة اخرى إلى مسألة تجسم الأعمال وأنّ الجزاء والثواب هما في الحقيقة أعمال الإنسان نفسه التي تتخذ شكلًا آخر وتصل إليه ثانية.

وبعد ذكر قصص الأنبياء والأمم السابقة ورمز نجاحهم ونصرهم، وبعد تسلية قلب النبي صلى الله عليه و آله وتقوية إرادته، يبيّن القرآن- عن هذا الطريق- أهمّ دُستور امر به النبي صلى الله عليه و آله وهو «فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ».

«استقم» في طريق الإرشاد والتبليغ وأداء الوظائف الإلهية ونشر التعليمات القرآنية.

ولكن هذه الإستقامة ليست لينال فلان أو فلان مستقبلًا زاهراً، بل هي لمجرد طاعة اللَّه

______________________________

(1) «المِرية»: معناها التردد في التصميم

على أمر ما ....

مختصر الامثل، ج 2، ص: 427

واتّباع أمره. كما أنّ هذه الإستقامه ليست عليك وحدك، فعليك أن تستقيم أنت «وَمَن تَابَ مَعَكَ» استقامة خالية من كل زيادة ونقصان وإفراط أو تفريط «وَلَا تَطْغَوْا» إذ «إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» ولا تخفى عليه حركة ولا قول ولا أي خطة اخرى ... الخ.

المسؤولية الكبيرة: في تفسير الدرّ المنثور عن ابن عباس أنّ الصحابة قالوا يا رسول اللَّه لقد أسرع إليك الشيب؟ قال: «أجل، شيبتني هود وأخواتها».

وفي رواية اخرى أنّ النبي صلى الله عليه و آله لما نزلت هذه الآية قال: «شمّروا شمّروا فما رُئي ضاحكاً».

والدليل واضح، لأنّ أربعة أوامر مهمة موجودة في هذه الآية يلقي كل واحد منها عبئاً ثقيلًا على الكتف.

واليوم مسؤوليتنا المهمة- نحن المسلمين أيضاً، وبالخصوص قادة الإسلام- تتلخص في هذه الكلمات الأربعة. وهي: الاستقامة، والإخلاص، وقيادة المؤمنين، وعدم الطغيان والتجاوز. ودون ربط هذه الامور بعضها إلى بعض فإنّ النصر على الأعداء الذين أحاطونا من كل جانب من الداخل والخارج، واستفادوا من جميع الأساليب الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية ... هذا النصر لايكون سوى أوهام في مخيلة المسلمين.

وَ لَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) الركون إلى الظالمين: إنّ هذه الآية تبيّن واحداً من أقوى وأهم الاسس والبرامج الاجتماعية والسياسية والعسكرية والعقائدية، فتخاطب عامة المسلمين ليؤدوا وظيفتهم القطعية فتقول: «وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» «1». والسبب واضح «فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ» ومعلوم عندئذ حالكم «ثُمَّ لَاتُنصَرُونَ».

في أي الامور لا ينبغي الركون إلى الظالمين؟ بديهي أنّه في الدرجة الاولى لا يصح الإشتراك معهم في الظلم أو طلب الإعانة منهم،

وبالدرجة الثانية الاعتماد عليهم فيما يكون فيه ضعف المجتمع الإسلامي وسلب استقلاله واعتماده على نفسه وتبديله إلى مجتمع تابع

______________________________

(1) «الركون»: مشتق من مادة «رُكن» ومعناه العمود الضخم من الحجر أو الجدار الذي يربط البناء أو الأشياءالاخرى بعضها إلى بعض، ثمّ اطلق هذا اللفظ على الإعتماد أو الاستناد إلى الشي ء.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 428

وضعيف لا يستحق الحياة، لأنّ هذا الركون ليس فيه نتيجة سوى الهزيمة والتبعية للمجتمع الإسلامي. وأمّا ما نلاحظه أحياناً من مسائل التبادل التجاري والروابط العلمية بين المسلمين والمجتمعات غير الإسلامية على أساس حفظ منافع المسلمين واستقلال المجتمعات الإسلامية وثباتها، فهذا ليس داخلًا في مفهوم الركون إلى الظالمين ولم يكن شيئاً ممنوعاً من وجهة نظر الإسلام، وفي عصر النبي نفسه صلى الله عليه و آله والأعصار التي تلته كانت هذه الامور موجودة وطبيعية أيضاً.

وَ أَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَ اصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) الصلاة والصبر: هذه الآيات تشير إلى أمرين من أهمّ الأوامر الإسلامية، وهما في الواقع روح الإيمان وقاعدة الإسلام، فيأتي الأمر أوّلًا بالصلاة: «وَأَقِمِ الصَّلَوةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ الَّيْلِ».

وظاهر التعبير من «طَرَفَىِ النَّهَارِ» هو بيان صلاة الصبح وصلاة المغرب اللتين يقعان طرفي النهار؛ و «الزلف»: جمع «زلفة» التي تعني القرب، ويشار بها إلى أوّل الليل القريب من النهار فتنطبق على صلاة العشاء.

ولأهمية الصلوات اليومية- خاصة- وجميع العبادات والطاعات والحسنات- عموماً- فإنّ القرآن يشير بهذا التعبير: «إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيَاتِ ذلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ».

والآية آنفة الذكر كسائر آيات القرآن تبيّن تأثير الأعمال الصالحة في محو أثر الأعمال السيئة.

العمل الصالح الصادر من الهدف الإلهي يهب روح الإنسان

لطافةً بامكانها أن تغسل آثار الذنوب وأن تبدّل ظلمات نفسه إلى أنوار.

الأهمية القصوى للصلاة: تلاحظ في الرّوايات المتعددة المنقولة عن النبي صلى الله عليه و آله والأئمة الطاهرين عليهم السلام تعبيرات تكشف عن الأهمية الكبرى للصلاة في نظر الإسلام. في تفسير مجمع البيان عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنّه قال: «كنّا مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في المسجد، ننتظر الصلاة فقام رجل فقال: يا رسول اللَّه إنّي أصبت ذنباً. فأعرض عنه، فلمّا قضى النبي صلى الله عليه و آله الصلاة قام الرجل فأعاد القول، فقال النبي صلى الله عليه و آله: أليس قد صلّيت معنا هذه الصلاة، وأحسنت لها الطهور؟

قال بلى. قال: فإنّها كفارة ذنبك».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 429

متى ما أدّيت الصلاة بشرائطها فإنّها تنقل الإنسان إلى عالم من المعنوية والروحانية بحيث توثق علائقه الإيمانية باللَّه، وتغسل عن قلبه وروحه الأدران وآثار الذنوب.

الصلاة تجير الإنسان من الذنب، وتجلو صدأ القلوب.

الصلاة تجذّر الملكات السامية للإنسان في أعماق الروح البشرية، والصلاة تقوي الإرادة وتطهر القلب والروح، وبهذا الترتيب فإن الصلاة الواعية الفاعلة هي مذهب تربوي عظيم.

وتعقيباً على تأثير الصلاة في بناء شخصية الإنسان وبيان تأثير الحسنات على محو السيئات، يأتي الأمر بالصبر في الآية الاخرى بعدها: «وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَايُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ». ومعنى ذلك أنّ العمل الصالح لا يتيسر دون صبر ومقاومة.

إنّ «الصبر» في هذه الآية يشمل كل أنواع الصبر أمام المشاكل والمخالفات والأذى والطغيان والمصائب المختلفة، فالصمود أمام جميع هذه الحوادث يندرج تحت مفهوم الصبر.

«الصبر» أصل كلي وأساس إسلامي، يأتي أحياناً في القرآن مقروناً بالصلاة، ولعل ذلك آتٍ من أنّ الصلاة تبعث في الإنسان الحركة، والأمر بالصبر يوجد المقاومة، وهذان الأمران،

أي «الحركة والمقاومة» حين يكونان جنباً إلى جنب يثمران كل اشكال النجاح والموفقية.

فَلَوْ لَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَ كَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَ مَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) عامل الإنحراف والفساد في المجتمعات: من أجل إكمال البحوث السابقة ذكر في هاتين الآيتين أصل أساسي اجتماعي يضمن نجاة المجتمعات من الفساد، وهو أنّه مادام هناك في كل مجتمع طائفة من العلماء المسؤولين والملتزمين الذين يحاربون كل اشكال الفساد والانحراف، ويأخذون على عاتقهم قيادة المجتمع فكرياً وثقافياً ودينياً، فإنّ هذا المجتمع سيكون مصوناً من الزيغ والانحراف.

لكن متى ما سكت عن الحق أهله وحماته، وبقي المجتمع دون مدافع أمام عوامل الفساد، فإنّ انتشار الفساد ومن ورائه الهلاك أمر حتمي.

الآية الاولى أشارت إلى القرون والأمم المتقدمة الذين ابتلوا بأشد أنواع البلاء قائلة:

«فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِى الْأَرْضِ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 430

إنّ أثر «أُولُوا بَقِيَّةٍ» في بقاء المجتمع حساس للغاية، حتى يمكن القول: إنّ المجتمع من دون «اولي بقية» يُسلب حق الحياة، ومن هنا فقد وردت الإشارة إليهم في الآية المتقدمة.

ثم تستثني جماعة فتقول: «إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ».

هذه الجماعة القليلة وإن كانت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ولكنها كحال لوط عليه السلام واسرته الصغيرة، ونوح والمعدودين ممّن آمن به، وصالح وجماعة من أتباعه، فإنّهم كانوا قلّة لم توفق للإصلاح العام والكلي في المجتمع. إنّ الظالمين الذين كانوا يشكلون القسم الأكبر من المجتمع اتبعوا لذاتهم وتنعمهم، وكما تقول الآية: «وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ». يعنى

متى كان المجتمع ظالماً ولكنه مقبل على اصلاح نفسه، فهذا المجتمع يبقى، ولكن إذا كان المجتمع ظالماً ولم يُقبل على نفسه فيصلحها أو يطهرها فإنّ مصيره إلى الفناء والهلاك.

فهذا التنعم والتلذذ غير المقيد وغير المشروط أساس الانحرافات في المجتمعات المرفهة، لأنّ سكرها من شهواتها يصدها عن إعطاء القيم الإنسانية الأصيلة حقها ودرك الواقعيات الاجتماعية، ويغرقها في العصيان والآثام.

وللتأكيد على هذه الحقيقة، تأتي الآية الثانية لتقول: إنّ هذا الذي ترون من إهلاك اللَّه للُامم، إنّما كان لعدم وجود المصلحين فيهم «وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ».

وَ لَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ لَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) في الآية الاولى محل البحث إشارة إلى واحدة من سنن الخلق والوجود والتي تمثّل اللبنات التحتية لسائر المسائل المرتبطة بالإنسان ... وهي مسألة الاختلاف والتفاوت في بناء الإنسان روحاً وفكراً وجسماً وذوقاً وعشقاً، ومسألة حرية الإرادة والاختيار. تقول الآية: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ». لئلا يتصور أحد من الناس أنّ تأكيد اللَّه وإصراره على طاعة أمره دليل على عدم قدرته على أن يجعلهم في سير واحد ومنهج واحد.

لكن مثل هذا الإيمان لا تكون فيه فائدة ولا في مثل هذا الاتحاد ... فالإيمان القسري

مختصر الامثل، ج 2، ص: 431

الذي ينبع من هدف غير إرادي لا يكون علامة على شخصية الفرد ولا وسيلة للتكامل، ولا يوجب الثواب.

إلّا أنّ قيمة الإنسان وامتيازه وأهم ما يتفاوت فيه عن سائر الموجودات هي هذه الموهبة، وهي حرية الإرادة والاختيار، وكذلك امتلاك الأذواق والأطباع والأفكار المتفاوتة التي يصنع كل

واحد منها قسماً من المجتمع ويؤمّن بُعداً من أبعاده.

ومن طرف آخر فإنّ الاختلاف في انتخاب العقيدة والمذهب أمر طبيعي.

ولهذا يقول القرآن الكريم في الآية الاخرى: «إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ». ولكن هذه الرحمة الإلهية ليست خاصه بجماعة معينة، فالجميع يستطيعون «شريطة رغبتهم» أن يستفيدوا منها «وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ».

الأشخاص الذين يريدون أن يستظلوا برحمة اللَّه فإنّ الطريق مفتوح لهم ... الرحمة التي أفاضها اللَّه لجميع عباده عن طريق تشخيص العقل وهداية الأنبياء.

ومتى ما استفادوا من هذه الرحمة والموهبة، فإنّ أبواب الجنة والسعادة الدائمة تفتح بوجوههم، وإلّا فلا: «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».

إنّ هذا الأمر المحتوم فيه شرط واحد وهو الخروج من دائرة رحمة اللَّه، والتقهقر عن هداية الرسل والادلّاء من قِبَله، وبهذا الترتيب.

وَ كُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَ جَاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَ مَوْعِظَةٌ وَ ذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَ قُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَ مَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) أربع معطيات لقصص الماضين: بانتهاء هذه الآيات تنتهي سورة هود، وفي هذه الآيات استنتاج كلي لمجموع بحوث هذه السورة، وبما أنّ القسم الأهم من هذه السورة يتناول القصص التي تحمل العبر من سيرة الأنبياء والامم السابقة، فإنّ هذه القصص تعطي نتائج قيّمة ملخّصة في أربعة مواضيع. تقول هذه الآيات أوّلًا: «وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ». وكلمة «كُلًّا» إشارة إلى تنوع هذه القصص.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 432

ثم تشير الآية إلى النتيجة الكبرى الثانية فتقول الآيات: «وَجَآءَكَ فِى هذِهِ

الْحَقُّ».

أمّا ثالث الآثار ورابعها اللذان يستلفتان النظر هما: «وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ».

إنّ هذه الآية تؤكّد مرّة اخرى أنّه لا ينبغي أن نعدّ قصص القرآن ملهاة أو يستفاد منها لإشغال السامعين، بل هي مجموعة من أحسن الدروس الحياتية في جميع المجالات، وطريق رحب لجميع الناس في الحاضر والمستقبل. ثم تخاطب الآيات النبي صلى الله عليه و آله وهو يواجه أعداءه الذين يؤذونه ويظهرون اللجاجة والعناد إن واصل الطريق: «وَقُل لّلَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ».

فستعلمون من الذي سينتصر، انتظروا هزيمتنا كما تزعمون انتظاراً غير مُجد، ونحن ننتظر العذاب من اللَّه عليكم، وهو ما ستذقونه من قِبَلنا أو من قِبَل اللَّه مباشرةً.

و آخر آية من هذه السورة تتحدث عن التوحيد كما تحدثت الآيات الاولى من هذه السورة عن التوحيد أيضاً.

هذه الآية تشير إلى ثلاث شعب من التوحيد: توحيد علم اللَّه أوّلًا، فغيب السماوات والأرض خاص باللَّه وهو المطلع عليها جميعاً «وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ». أمّا سواه فعلمه محدود، وفي الوقت ذاته فإنّ هذا العلم ناشي ء من التعليم الإلهي، فعلى هذا فإنّ العلم غير المحدود، والعلم الذاتي بالنسبة لجميع ما في السماوات والأرض مخصوص بذات اللَّه المقدسة.

ومن جهة ثانية فإنّ أزمّة جميع الأفعال مرهونة بقدرته «وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ». وهذه مرحلة توحيد الأفعال.

ثم تستنتج الآية أنّه إذا علمت أنّ الإحاطة والعلم غير المحدود والقدرة التي لا تنتهي ...

جميعها مخصوص بذات اللَّه المقدّسة «فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ» وهذه مرحلة توحيد العبادة.

فينبغي اجتناب العصيان والعناد والطغيان «وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ».

بحثان

1- علم الغيب خاص باللَّه: إنّ الإطلاع على الأسرار الخفية أو الأسرار الماضية والآتية كله خاص باللَّه ... والآيات المختلفة من القرآن تؤكّد هذه الحقيقة وتؤيدها أيضاً.

وإذا

وجدنا في قسم من آيات القرآن بيان أنّ الأنبياء قد يعلمون بعض الامور الغيبية،

مختصر الامثل، ج 2، ص: 433

أو قرأنا في بعض الآيات أو الروايات الكثيرة أنّ النبي صلى الله عليه و آله والإمام عليّاً والأئمة المعصومين عليهم السلام قد يخبرون عمّا يجري في المستقبل من حوادث ويبيّنون أسراراً خفية منها، فينبغي أن نعرف أنّ كل ذلك بتعليم اللَّه سبحانه. فهو سبحانه حيث يجد المصلحة يطلع عباده وأولياءه على قسم من أسرار الغيب، ولكن هذا العلم لا هو علم ذاتي ولا غير محدود، بل هو من تعليم اللَّه وهو محدود بمقدار ما يريده اللَّه.

وليس الإطلاع على علم الغيب من قبل اللَّه خاصاً بالأنبياء أو الأئمة فقد يطلع اللَّه غير النبي والأئمة على غيبه أيضاً ... فنحن نقرأ في قصة ام موسى في الآية (7) من سورة القصص أنّ اللَّه قال لها: «وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكَ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ».

وقد يطلع اللَّه لضرورة الحياة- أحياناً- الطيور والحيوانات على الأسرار الخفية وحتى على المستقبل البعيد نسبياً مما يصعب علينا تصوره وبهذا الترتيب قد تكون بعض المسائل التي نحسبها غيباً، هذه المسائل نفسها بالنسبة للطيور أو الحيوانات لا تعد من الغيب.

2- العبادة للَّه وحده: في الآية المتقدمة دليل لطيف على أنّ العبادة للَّه وحده، وهو أنّه لو كانت العبادة من أجل العظمة وصفات الجمال، والجلال فهذه الصفات قبل كل شي ء موجودة في اللَّه، وأمّا الآخرون فلا شي ء بالنسبة إليه، وأكبر دليل على عظمة اللَّه علمه الواسع غير المحدود وقدرته اللامتناهية، وقد أشارت الآية الآنفة إلى أنّهما مختصان باللَّه.

وإذا كانت العبادة لأجل الإلتجاء- في حل المشاكل- إلى المعبود ... فإنّ مثل هذا العمل جدير بمن هو عليم بجميع حاجات العباد

وأسرارهم الخفية. وما يغيب عليهم، وهو قادر على إجابة دعوتهم، وبالنتيجة فإنّ توحيد الصفات يكون سبباً لتوحيد العبادة (لاحظوا بدقة).

«نهاية تفسير سورة هود»

مختصر الامثل، ج 2، ص: 435

12. سورة يوسف

بداية سورة يوسف: قبل الدخول في تفسير آيات هذه السورة ينبغي ذكر عدّة أمور:

1- جميع آيات هذه السورة سوى الآيات القليلة التي تقع في نهاية السورة تبيّن قصة نبي اللَّه يوسف عليه السلام. القصة الطريفة والجميلة والتي تحمل بين طيّاتها العِبَر، ولذلك سمّيت هذه السورة باسم «يوسف» وبهذه المناسبة- أيضاً- ورد ذكر يوسف- من مجموع (27) مرة في القرآن- (25) مرّة في هذه السورة ومرة واحدة في سورة غافر الآية (34) ومرة اخرى في سورة الأنعام الآية (84).

ومحتوى هذه السورة- على خلاف سور القرآن الاخرى- مرتبط بعضه ببعض ويبيّن جوانب مختلفة من قصة واحدة وردت في أكثر من عشرة فصول، مع بيان أخاذ موجز، عميق، وطريف ومثير.

وبالرغم من أنّ القصّاصين غير الهادفين، أو من لهم اغراض رخيصة سعوا إلى أن يحوّلوا هذه القصة المهذبة إلى قصة عشق يحرك أهل الهوى والشهوة! وأن يمسخوا الوجه الواقعي ليوسف عليه السلام بحيث بلغت الحال أن يصوروا «فيلماً سينمائياً» وينشروه بصورة مبتذلة ... إلّا أنّ القرآن- وكل ما فيه أسوة وعبرة- عكس في ثنايا هذه القصة أسمى دروس العفة وضبط النفس والتقوى والإيمان، حتى لو أنّ إنساناً قرأها عدة مرات فإنّه يتأثر- بدون اختيار- بأسلوبها الجذاب في كل مرة.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 436

ولذا فقد عبّر القرآن عنها ب «أَحْسَنَ الْقَصَصِ» وجعل فيها العبر للمعتبرين «أُولِى الْأَلْبَابِ».

2- التدقيق في آيات هذه السورة يكشف هذه الحقيقة للإنسان، وهي أنّ القرآن معجز في جميع أبعاده، لأنّ الأبطال الذين يقدمهم في قصصه أبطال حقيقيّون لا خياليّون،

وكل واحد في نفسه منهم منعدم النظير:

فإبراهيم عليه السلام: البطل الذي حطّم الأصنام بروحه العالية التي لا تقبل المساومة مع الطغاة.

وموسى عليه السلام: البطل المربّي لقومه اللجوجين، والذي وقف بوجه فرعون المتكبر الطاغي.

ويوسف عليه السلام: بطل الورع والتقوى والطهارة ... أمام امرأة محتالة جميلة عاشقة.

بعد هذا كلّه تتجلّى القدرة البيانية للوحي القرآني بصورةٍ تحيّر الإنسان، لأنّ هذه القصّة- كما نعرف- تنتهي في بعض مواردها إلى مسائل العشق ودون أن يمسخها القرآن أو يتجاوزها يتعرض إلى الأحداث في مسرحها بدقة بحيث لا يحس السامع شي ء غير مطلوب فيها، ويذكر القضايا بأجمعها في المتن، ولكن تحفّها أشعة قوية من التقوى والطهارة.

3- قصة يوسف قبل الإسلام وبعده: لا شك أنّ قصة يوسف كانت مشهورة ومعروفة بين الناس قبل الإسلام، لأنّها مذكورة في (14) فصلًا من (سفر التكوين) في التوراة بين (الفصل 37- 50) ذكراً مفصلًا.

وبطبيعة الحال فإنّ المطالعة الدقيقة في هذه الفصول الأربعة عشر تكشف مدى الاختلاف بين ما جاء في التوراة وما جاء في القرآن.

وبالمقارنة بين نصّ التوراة ونصّ القرآن نجد أنّ نصّ القصة في القرآن في غاية الصدق وتخلو من أي خرافة.

وما يقوله القرآن للنبي صلى الله عليه و آله: «وَإِن كُنتَ مِن قَبلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ» يشير إلى قصة يوسف التي عبّر عنها بأحسن القصص، حيث لم يكن النبي مطّلعاً على حقيقتها الخالصة.

وعلى كل حال فإنّ هذه القصة- بعد الإسلام- تناقلتها أقلام مؤرخي الشرق والغرب ...

وأحياناً مع أغصان وأوراق إضافية.

4- لِمَ ذكرت قصة يوسف في مكان واحد بخلاف قصص سائر الأنبياء؟ إنّ من خصائص قصة يوسف البارزة أنّ هذه القصة ذكرت في مكان واحد من القرآن، على خلاف قصص الأنبياء التي ذكرت على شكل فصول مستقلة

في سور متعددة من القرآن.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 437

والحكمة في ذلك تعود إلى أنّ تفكيك فصول هذه القصة مع ملاحظة وضعها الخاص يفقدها ترابطها وانسجامها، فلهذا ينبغي أن تذكر كاملة في مكان واحد للحصول على النتيجة المتوخاة.

والخصيصة الاخرى من خصائص هذه السورة هي أنّ قصص الأنبياء التي وردت في السور الاخرى من القرآن تبيّن عادة مواجهة الأنبياء لقومهم المعاندين والطغاة.

أمّا في قصة يوسف فلا كلام عن هذا الموضوع، بل أكثر ما فيها بيان حياة يوسف نفسه ونجاته من المزالق الخطيرة التي تنتهي أخيراً إلى استلامه سدّة الحكم، وهي في حدّ ذاتها «أنموذج» خاص.

5- فضيلة تلاوة سورة يوسف: في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:

«من قرأ سورة يوسف في كل يوم أو في كل ليلة، بعثه اللَّه يوم القيامة وجماله مثل جمال يوسف، ولا يصيبه فزع يوم القيامة، وكان من خيار عباد اللَّه الصالحين».

إنّ الروايات التي وردت في فضائل سور القرآن- كما قلنا مراراً- ليس معناها القراءة السطحية دون تفكر وعمل، بل تلاوة تكون مقدمة للتفكر ....

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) أحسن القصص بين يديك: تبدأ هذه السورة بالحروف المقطعة «الر» وهي دلالة على عظمة القرآن، وإنّ تركيب هذه الآيات ذات المحتوى العميق متكوّن من أبسط الأجزاء، وهي حروف الهجاء «ألف- باء ... الخ».

وربّما كان لهذا السبب أن تأتي الإشارة- بعد هذه الحروف المقطعة مباشرةً- إلى بيان عظمة القرآن في هذه السورة، فتقول: «تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ».

ثم يأتي البيان عن الهدف من نزول الآيات فيقول: «إِنَّا

أَنزَلْنهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ». فالهدف إذن ليس القراءة أو التلاوة أو التيمّن أو التبرك بتلاوة هذه الآيات فحسب، بل الهدف الأساسي هو الإدراك ... الإدراك القوي الذي يدعو الإنسان إلى العمل بجميع وجوده.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 438

فالتعبير بكون القرآن عربياً- الذي تكرر في عشرة موارد من القرآن- جواب لأولئك الذين يتهمون النبي صلى الله عليه و آله بأنّه تعلم القرآن من أعجمي، وأنّ محتوى القرآن مستورد وليس وحياً إلهياً.

وهذه التعبيرات المتتابعة تحتم ضمناً وظيفةً مفروضة على جميع المسلمين، وهي أن يسعوا جميعاً إلى معرفة اللغة العربية وأن تكون اللغة الثانية إلى جانب لغتهم، لأنّها لغة الوحي ومفتاح فهم حقائق الإسلام.

ثم يقول سبحانه: «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ».

يعتقد بعض المفسرين أنّ «أَحْسَنَ الْقَصَصِ» إشارة إلى مجموع القرآن.

إنّ اللَّه سبحانه عبّر ب «أَحْسَنَ الْقَصَصِ» عن مجموع هذا القرآن الذي جاء في أجمل البيان والشرح، وأفصح الألفاظ وأبلغها، مقرونةً بأسمى المعاني وأدقّها، بحيث يبدو ظاهره عذباً جميلًا، ومن حيث الباطن فمحتواها عظيم.

ولكن إرتباط الآيات المقبلة التي تبيّن قصة يوسف عليه السلام مع هذه الآية- محل البحث- بشكل يشدّ ذهن الإنسان إلى هذا المعنى، وهو أنّ اللَّه عبر عن قصة يوسف ب «أَحْسَنَ الْقَصَصِ» وقلنا مراراً أنّه لا مانع من أن تكون مثل هذه الآيات للمعنيين جميعاً ... فالقرآن هو أحسن القصص بصورة عامة، وقصة يوسف هي أحسن القصص بصورة خاصة.

أثر القصة في حياة الناس: مع ملاحظة أنّ القسم المهم من القرآن قد جاء على صورة تأريخ للُامم السابقة وقصص الماضين، فقد يتساءل البعض: لِم يحمل هذا الكتاب التربوي كل هذا «التاريخ» والقصص؟!

وتتضح العلة الحقيقية للموضوع بملاحظة

عدّة نقاط:

1- إنّ التاريخ مختبر لنشاطات البشرية المختلفة، وما رسمه الإنسان في ذهنه من الأفكار والتصورات يجده بصورة عينية على صفحات التاريخ.

2- ثم بعد هذا فإنّ للتاريخ والقصة جاذبية خاصة، والإنسان واقع تحت هذا التأثير الخارق للعادة في جميع أدوار حياته من سنّ الطفولة حتى الشيخوخة.

والعلة في ذلك قد تكون أنّ الإنسان حسي بالطبع قبل أن يكون عقلياً ويتخبط في المسائل المادية قبل أن يتعمق في المسائل الفكرية.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 439

وكلما ابتعد الانسان عن ميدان الحسّ، باتجاه المسائل العقلية كانت هذه المسائل أثقل على الذهن وأبطأ هضماً.

ومن هنا نلاحظ أنّه لأجل بيان الاستدلال العقلي يستمدّ المفكرون في المسائل الاجتماعية والحياتية المختلفة من الأمثلة الحسية، وأحياناً يكون للمثال المناسب والمؤثر في الاستدلال قيمة مضاعفة، ولذلك فإنّ العلماء الناجحين هم اولئك الذين لهم هيمنة على انتخاب أحسن الأمثلة.

3- القصة والتاريخ مفهومان عند كل أحد، وعلى هذا فإنّ الكتاب الشامل الذي يريد أن يستفيد منه البدوي الامّي والمتوحش ... إلى الفيلسوف والمفكر الكبير، يجب أن يكون معتمداً على التاريخ والقصص والأمثلة.

ومجموعة هذه الجهات تبيّن أنّ القرآن خطا أحسن الخطوات في بيان التواريخ والقصص في سبيل التعليم والتربية.

إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَ كَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) بارقة الأمل وبداية المشاكل: بدأ القرآن بذكر قصة يوسف من رؤياه العجيبة ذات المعنى

الكبير، لأنّ هذه الرؤيا في الواقع تعدّ أوّل فصل من فصول حياة يوسف المتلاطمة.

جاء يوسف في أحد الأيام صباحاً إلى أبيه وهو في غاية الشوق ليحدثه عن رؤياه، وليكشف ستاراً عن حادثة جديدة لم تكن ذات أهمية في الظاهر، ولكنها كانت إرهاصاً لبداية فصل جديد من حياته: «إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ».

يقول ابن عباس: إنّ يوسف رأى رؤياه ليلة الجمعة التي صادفت ليلة القدر (ليلة تعيين الأقدار والآجال).

مختصر الامثل، ج 2، ص: 440

والمقصود من السجود هنا هو الخضوع والتواضع، وإلّا فإنّ السجود المعروف عند الناس لا مفهوم له بالنسبة للكواكب والشمس والقمر. إنّ هذه الرؤيا المثيرة ذات المغزى تركت يعقوب النبي غارقاً في التفكير ... فالقمر والشمس والكواكب، وأي الكواكب! إنّها أحد عشر يسجدون جميعاً لولدي يوسف، كم هي رؤيا ذات مغزى! لا شك أنّ الشمس والقمر «أنا وامه أو خالته» والكواكب الأحد عشر إخوته، هكذا يرتفع قدر ولدي حتى تسجد له الشمس والقمر وكواكب السماء.

إنّ ولدي «يوسف» عزيز عند اللَّه إذا رأى هذه الرؤيا المثيرة! لذلك توجه إلى يوسف بلهجة يشوبها الإضطراب والخوف المقرون «بالفَرحة» و «قَالَ يَا بُنَىَّ لَاتَقْصُصْ رُءْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا» وأنا أعرف «إِنَّ الشَّيْطنَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ» وهو منتظر الفرصة ليوسوس لهم ويثير نار الفتنة والحسد وليجعل الإخوة يقتتلون فيما بينهم.

ولكن هذه الرؤيا لم تكن دليلًا على عظمة يوسف في المستقبل من الوجهة الظاهرية والمادية فحسب، بل تدل على مقام النبوة التي سيصل إليها يوسف في المستقبل.

ولذلك فقد أضاف يعقوب- لولده يوسف- قائلًا: «وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى ءَالِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا

عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرهِيمَ وَإِسْحقَ» «1».

أجل فإنّ اللَّه على كل شي ء قدير و «إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».

الرؤيا والحُلم: إنّ الرؤيا والأحلام على أقسام:

1- الرؤيا المرتبطة بماضي الحياة حيث تشكل الرغبات والأمنيات قسماً مهماً من هذه الأحلام.

2- الرؤيا غير المفهومة والمضطربة وأضغاث الأحلام التي تنشأ من التوهم والخيال وإن كان من المحتمل أن يكون لها دافع نفسي.

3- الرؤيا المرتبطة بالمستقبل والتي تخبر عنه.

______________________________

(1) «التأويل»: في الأصل إرجاع الشي ء، وكل عمل أو كل حديث يصل إلى الهدف النهائي يطلق عليه «تأويل» وتحقق الرؤيا في الخارج مصداق للتأويل ... و «الأحاديث»: جمع الحديث، وهو نقل ما يجري، والحديث هنا كناية عن الرؤيا لأنّ الإنسان ينقلها للمعبرين.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 441

ونقرأ في الحديث عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عن الرؤيا قوله: «الرؤيا ثلاثة: بُشرى من اللَّه، وتحزين من الشيطان، والذي يحدّث به الإنسان نفسه فيراه في منامه» «1».

وواضح أنّ أحلام الشيطان ليست شيئاً حتى يكون لها تعبير، ولكن ما يكون من اللَّه في الرؤيا فهي تحمل بشارة حتماً ... ويجب أن تكون رؤيا تكشف الستار عن المستقبل المشرق.

من الدروس التي نستلهمها من هذا القسم من الآيات أن نحفظ الأسرار، وينبغي أن يُطبق هذا الدرس أحياناً حتى أمام الإخوة، فدائماً تقع في حياة الإنسان أسرار لو أذيعت وفشت بات مستقبله أو مستقبل مجتمعه معرضاً للخطر، والمواظبة على حفظ هذه الأسرار دليل على سعة الروح وتملك الإرادة.

وورد حديث عن الإمام الصادق عليه السلام يقول: «سرّك من دمك فلا يجرينّ من غير أوداجك» «2».

لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ

مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَ أَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) المؤامرة: من هنا تبدأ قصة مواجهة إخوة يوسف واشتباكهم معه: ففي الآية الاولى- من الآيات محل البحث- إشارة إلى الدروس التربوية الكثيرة التي توحيها القصة، إذ تقول الآية: «لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ءَايَاتٌ لّلسَّائِلِينَ».

وأيّ درس أعظم من أن يجتمع عدّة أفراد لإهلاك فرد ضعيف ووحيد- في الظاهر- وبخطط أعدّها الحسدُ، ويبذلون أقصى جهودهم لهذا الأمر، ولكن نفس هذا العمل- ودون شعور وإرادة منهم- بات سبباً في تربّعه على سرير الملك وصيرورته آمراً على البلد الكبير «مصر» ثم يأتي إخوته في النهاية ليطأطئوا برؤوسهم إعظاماً له، وهذا يدلّ على أنّ اللَّه إذا

______________________________

(1) بحار الأنوار 58/ 191.

(2) بحار الأنوار 72/ 71.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 442

أراد أمراً فهو قادر على أن يجريه حتى على أيدي من يخالفون ذلك الأمر، ليتجلى أنّ الإنسان المؤمن الطاهر ليس وحيداً في هذا العالم، فلو سعى جميع أفراد هذا العالَم إلى إزهاق روحه واللَّه لا يريد ذلك، فإنّهم لا يستطيعون أن يسلبوا منه شعرة واحدة. كان ليعقوب اثنا عشر ولداً، واثنان منهم: يوسف وبنيامين وهما من ام واحدة اسمها راحيل، وكان يعقوب يولي هذين الولدين محبة خاصة، لا سيما يوسف. لأنّهما أوّلًا: أصغر أولاده، وبالطبع فهما يحتاجان إلى العناية والرعاية والمحبة.

وثانياً: لأنّ امّهما ارتحلت من الدنيا- طبقاً لبعض الروايات- وبعد هذا كله كانت بوادر النبوغ والذكاء الحادّ ترتسم على يوسف، وهذه الامور أدّت إلى أن يولي يعقوب ابنه هذا عناية أكثر.

إلّا أنّ الإخوة الحساد- دون أن

يلتفتوا إلى هذه الجهات- تألّموا من حبّ أبيهم ليوسف وأخيه، وخاصه بعد اختلافهم في الام والمنافسة الطبيعية المترتبة على هذا الأمر. لهذا اجتمعوا فيما بينهم وتدارسوا الأمر وصمموا على المؤامرة «إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ».

وحكموا على أبيهم من جانب واحد بقولهم: «إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَللٍ مُّبِينٍ».

وبالطبع فإنّ اتهامهم لأبيهم بالضلالة، لم يكن المقصود منها الضلالة الدينية، لأنّ الآيات الآتية تكشف عن اعتقادهم بنبوّة أبيهم، وإنّما استنكروا طريقة معاشرته فحسب.

ثمّ أدّى بهم الحسد إلى أن يخططوا لهذا الأمر، فاجتمعوا وقدموا مقترحين وقالوا:

«اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا- أرسلوه إلى منطقة بعيدة- يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ».

ومن الحق أن تشعروا بالذنب والخجل في وجدانكم لأنّكم تقدمون على هذه الجناية في حق أخيكم الصغير، ولكن يمكن أن تتوبوا وتغسلوا الذنب «وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ».

إنّ هذه الجملة تدلّ على إحساسهم بالذنب من هذا العمل، وكانوا يخافون اللَّه في أعماق قلوبهم، ولذلك قالوا: نتوب ونكون من بعده قوماً صالحين.

ولكن المسألة المهمّة هنا هي أنّ الحديث عن التوبة قبل الجريمة- في الواقع- هو لأجل خداع «الوجدان» وإغرائه وفتح الباب للدخول إلى الذنب، فلا يعدّ دليلًا على الندم أبداً.

ولكن كان من بين الاخوة من هو أكثر ذكاءً وأرق عاطفة ووجداناً، لأنّه لم يرض بقتل

مختصر الامثل، ج 2، ص: 443

يوسف أو إرساله إلى البقاع البعيدة التي يُخشى عليه من الهلاك فيها ... فاقترح عليهم اقتراحاً ثالثاً، وهو أن يلقى في البئر (بشكل لا يصيبه مكروه) لتمرّ قافلة فتأخذه معها، ويغيب عن وجه أبيه ووجوههم، حيث تقول الآية في هذا الصدد: «قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ لَاتَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِى غَيَابَتِ الْجُبّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ». «الجبّ»: معناه «البئر» التي

لم تنضّد بالطابوق والصخور، ولعلّ أغلب آبار الصحراء على هذه الشاكلة.

يستفاد من جملة «إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ» أنّ القائل لم يكن يرغب- أساساً- حتى بهذا الاقتراح ولعلّه كان لا يوافقهم على إيذاء يوسف أصلًا.

أثر الحسد المدمّر في حياة الناس: الدرس الآخر الذي نتعلّمه من هذه القصة، وهو أنّ الحسد يمكن أن يدفع الإنسان حتى إلى قتل أخيه، أو ايجاد المشاكل له، فنار الحسد إذا لم يمكن إخمادها فإنّها ستحرق صاحبها بالإضافة إلى إحراق الآخرين بها.

ولهذا نجد في الأحاديث الإسلامية تعابير مؤثرة تدعو إلى مكافحة هذه الرذيلة، وعلى سبيل المثال نورد منها ما يلي:

1- في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال اللَّه عزّ وجلّ لموسى بن عمران عليه السلام: يابن عمران لا تحسدنّ الناس على ما آتيتهم من فضلي ولا تمدّن عينيك إلى ذلك ولا تتبعه نفسك فإنّ الحاسد ساخط لنعمي صادّ لقسمي الذي قسمت بين عبادي، ومن يك كذلك فلست منه وليس منّي».

2- وفي الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «آفة الدين الحسد والعجب والفخر». كما نقرأ له حديثاً يقول: «إنّ المؤمن يغبط ولا يحسد، والمنافق يحسد ولا يغبط».

كما نستنتج درساً آخر من هذا المقطع في القصة، وهو أنّ الوالدين ينبغي أن يلاحظا أبناءها الآخرين عند إبراز عنايتهما ومحبتهما لواحد منهم، لأنّ إبراز العلاقة لبعض الأبناء دون بعض توجد عقدةً في نفوس الآخرين، إلى درجة أنّها تجرّهم إلى كل عمل مخرّب، حيث يجدون شخصياتهم منهزمة ولابدّ من تحطيم شخصية أخيهم للتعويض عن هذه الهزيمة، فيكون الإقدام على هذا العمل دون لحاظ الرحمية ووشائج القربى.

وإذا لم يستطع الإنسان أن يقوم بعمل معاكس، فإنّه يظل يلوم نفسه

ويحرضها حتى يبتلى بالمرض النفسي.

وفي هذا الصدد نقرأ في الروايات الإسلامية أنّ الإمام الباقر عليه السلام قال يوماً: «واللَّه إنّي

مختصر الامثل، ج 2، ص: 444

لُاصانع بعض ولدي، وأجلسته على فخذي، وأفكر له في الملح، وأكثر له الشّكر، وإنّ الحق لغيره من ولدي، ولكن مخافة عليه منه ومن غيره، لئلا يصنعوا به ما فعلوا بيوسف إخوته، وما أنزل اللَّه سورة يوسف إلّاأمثالًا لكيلا يحسد بعضنا بعضاً كما حسد يوسف إخوته، وبغوا عليه، فجعلها حجة ورحمة على من تولّانا، ودان بحبّنا وحجّة على أعدائنا ومن نصب لنا الحرب» «1».

قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَ إِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَ يَلْعَبْ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَ أَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَ أَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخَاسِرُونَ (14) المؤامرة المشؤومة: بعد أن صوّب إخوة يوسف إقتراح أخيهم في عدم قتل يوسف، وإلقائه في الجبّ، أخذوا يفكرون في كيفية فصل يوسف عن أبيه، لذلك أقدموا على تخطيط آخر، فجاؤوا إلى أبيهم بلسان ليّن يدعو إلى الترحم، وفي شكل يتظاهرون به أنّهم مخلصون له وحدثوا أباهم و «قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَاتَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ».

تعال يا أبانا وارفع اليد عن اتهامنا، فإنّه أخونا وما يزال صبياً وبحاجة إلى اللهو واللعب، وليس من الصحيح حبسه عندك في البيت، فخلّ سبيله «أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ» «2».

وإذا كنت تخشى عليه من سوء فنحن نواظب على حمايته «وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ».

ولكن يعقوب- دون أن يتهم إخوة يوسف بسوء القصد- أظهر تردّده في إرسال يوسف لأمرين: الأوّل: أنّه سيبتعد

عنه فيحزن عليه، والثاني: ربّما يوجد خارج المدينة بعض الذئاب المفترسة فتأكله، فاعتذر إليهم و «قَالَ إِنّى لَيَحْزُنُنِى أَن تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ».

وبديهي أنّ الإخوة لم يكن لهم جواب بالنسبة للأمر الأوّل الذي أشار إليه أبوهم يعقوب، لأنّ الحزن والإغتمام على فراق يوسف لم يكن شيئاً عادياً حتى يعوّض عنه، وربّما كان هذا التعبير مثيراً لنار الحسد في إخوة يوسف أكثر.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 13/ 344/ 24516.

(2) «يرتع»: من مادة «رتع» على وزن «قطع» ومعناه في الأصل رعي الأغنام والأنعام بصورة عامّة للنباتات وشبعها منها، ولكن قد يطلق هذا اللفظ (رتع، يرتع) ويراد به تنزّه الإنسان وكثرة الأكل والشرب أيضاً.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 445

ومن جهة اخرى فإنّ هذا الموضوع الذي أشار إليه يعقوب، وهو حزنه على ابتعاد يوسف عنه يمكن ردّه، وهو لا يحتاج إلى بيان، لأنّ الولد لابدّ له من الإبتعاد عن أبيه من أجل أن ينمو ويرشد.

لذلك فإنّهم لم يجيبوه عن الشقّ الأوّل من كلامه، بل أجابوه عن الشقّ الثاني لأنّه كان مهماً وأساسياً بالنسبة لهم إذ «قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ». أي:

أترانا موتى فلا ندافع عن أخينا، بل نتفرج على الذئب كيف يأكله.

وعلى كل حال فقد استطاع إخوة يوسف بما أوتوا من الحيل، وبتحريك أحاسيس يوسف النقية وترغيبه إلى التنزه خارج المدينة، استطاعوا أن يأخذوا يوسف معهم وأن يستسلم الأب لهذا الأمر فيوافق على طلبهم.

ومن الطريف أنّه كما أنّ إخوة يوسف استغلّوا علاقة الإنسان- ولا سيما الشاب- بالتنزّه واللعب من أجل الوصول إلى هدفهم الغادر ... ففي حياتنا المعاصرة- أيضاً- نجد أعداء الحق والعدالة يستغلّون مسألة الرياضة واللعب في سبيل تلويث أفكار الشباب، فينبغي

أن نحذر المستكبرين «الذئاب» الذين يخططون لاضلال الشباب وحرفهم عن رسالتهم تحت اسم الرياضة والمسابقات المحلّية والعالمية.

فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَ أَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذَا وَ هُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وَ جَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَ تَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَ مَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَ لَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَ جَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) الكذب المفضوح: وأخيراً إنتصر إخوة يوسف وأقنعوا أباهم أن يرسل معهم أخاهم يوسف، فباتوا ليلتهم مطمئني البال بانتظار الصبح لتنفيذ خطتهم وإزاحة أخاهم الذي يقف عائقاً في طريقهم ... وكان قلقهم الوحيد أن يندم أبوهم ويسحب كلامه ووعده بإرسال يوسف معهم. فجاؤوا صباحاً إلى أبيهم فأمرهم بالمحافظة على يوسف، وكرر توصياته في شأنه، فأظهر الأبناء طاعتهم لأبيهم وأبدوا احترامهم الفائق ومحبتهم العميقة، وتحركوا إلى

مختصر الامثل، ج 2، ص: 446

خارج المدينة.

يقال: إنّ أباهم ودعهم إلى بوابة المدينة ثم أخذ منهم يوسف وضمّه إلى صدره ودمعت عيناه، ثم أودع يوسف عندهم وفارقهم، ولكن يعقوب كان يودعهم بنظراته، وكان إخوة يوسف لا يقصرون عن مدارة أخيهم يوسف وإظهار عنايتهم به ومحبتهم له طالما كانت تلاحظهم عينا أبيهم، ولكن ما أن غاب عنهم أبوهم واطمأنوا إلى أنّه لا يراهم، حتى انفجرت عقدتهم وصبوا «جام غضبهم» وحقدهم وحسدهم المتراكم لعدّة سنوات على رأس يوسف، فالتفّوا حوله يضربونه بأيديهم ويلتجى ء من واحد لآخر ويستجير بهم فلا يجيره أحد منهم.

نقرأ في رواية أنّ يوسف كان يبكي تحت وابل اللكمات والضربات القاسية، ولكن حين أرادوا أن

يلقوه في الجبّ شرع بالضحك فجأة ... فتعجب إخوته كثيراً وحسبوا أنّ أخاهم يظنّ الأمر لا يعدو كونه مزاحاً ... ولكنه رفع الستار عن ضحكه وعلّمهم درساً كبيراً إذ قال: لا أنسى أنني نظرت- أيّها الإخوة- إلى عضلات أيديكم القوية وقواكم الجسدية الخارقة، فسررت وقلت في نفسي: ما عسى أن يخشى ويخاف من الحوادث والملمّات من كان عنده مثل هؤلاء الإخوة، فاعتمدت عليكم وربطت قلبى بقواكم، والآن وقد أصبحت أسيراً بين أيديكم وأستجير بكم من واحد للآخر فلا اجار، وقد سلطكم اللَّه عليّ لأتعلم هذا الدرس، وهو ألّا أعتمد وأتوكّل على أحد سواه ... حتى ولو كانوا إخوتي.

وعلى كل حال فالقرآن الكريم يقول في هذا الصدد: «فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَابَتِ الْجُبّ».

ثم تبيّن الآية أنّ اللَّه أوحى إلى يوسف وهدأ روعه وألهمه ألّا يحزن فالعاقبة له، إذ تقول:

«وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هذَا وَهُمْ لَايَشْعُرُونَ».

وهذا الوحي الإلهي لم يكن وحي النبوة، بقرينة الآية (22) من السورة ذاتها، بل كان إلهاماً لقلب يوسف ليعلم أنّه ليس وحيداً، بل له حافظ ورقيب، وهذا الوحي بثّ في قلب يوسف نور الأمل وأزال عن روحه ظلمات اليأس والحيرة.

لقد نفّذ إخوة يوسف خطتهم كما أردوا، ولكن ينبغي أن يفكروا عند العودة كيف كي يصدّق أبوهم أنّ يوسف إنتهى بصورة طبيعية.

وكانت الفكرة التي أوصلتهم إلى هذا الهدف هي ما تخوّف أبوهم منه، فأقنعوه- ظاهراً-

مختصر الامثل، ج 2، ص: 447

عن هذا الطريق مدّعين بأنّ الذئب قد أكل يوسف وجاؤوا إليه بدلائل مزيّفة!

يقول القرآن الكريم: «وَجَاءُو أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ» بكاءً كاذباً، وهذا يدلّ على أنّ البكاء الكاذب ممكن ... ولا يمكن أن يُخدع العاقل ببكاء العين وحدها.

أمّا الأب الذي كان ينتظر مجيى ء

ولده (يوسف) بفارغ الصبر، فقد اهتزّ وارتجف حين رأى الجمع وليس بينهم يوسف، وسأل عنه مستفسراً ... فأجابوه و «قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا» لصغر سنه ولأنّه لا يعرف التسابق، وانشغلنا عنه «فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ».

ومن أجل أن يبرهنوا على صحة كلامهم فقد «وَجَاءُو عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ». إذ لطخوا الثوب بدم الغزال أو الخروف أو التيس ....

ولكن حيث إنّ الكاذب لا يمتلك حافظة قوية، فقد غفل إخوة يوسف عن هذه المسألة الدقيقة ... وهي- على الأقل- أن يخرقوا قميص يوسف الملطخ بالدم ليدل على هجوم الذئب ... فقد قدّموا القميص سالماً غير مخرق فأحس الأب بمؤامرتهم، فما إن وقعت عيناه على القميص حتى فهم كل شي ء و «قَالَ بَلْ سَوَّلَت لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا».

في تفسير القرطبي عن ابن عباس: إنّهم أخذوا ظبياً فذبحوه فطلخوا بدمه القميص ولما جاؤوا به جعل يقلّبه فيقول: «ما أرى أثر ناب ولا ظفر إنّ هذا السبع رحيم». وفي رواية أنّه أخذ القميص وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص، وقال: «تاللَّه ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم من هذا، أكل إبني ولم يمزّق عليه قميصه». وجاء أنّه بكى وصاح وخرّ مغشيّاً عليه فأفاضوا عليه الماء فلم يتحرك ونادوه فلم يجب ووضع يهوذا يده على مخارج نفسه فلم يحس بنفس ولا تحرك له عرق، فقال: ويل لنا من ديّان يوم الدين، ضيعنا أخانا وقتلنا أبانا فلم يفق إلّاببرد السحر.

وبالرغم من احتراق قلبه ولهيب روحه لم يجر على لسانه ما يدل على عدم الشكر أو اليأس أو الفزع أو الجزع، بل قال: «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ». ثم قال: «وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ»

وأسأله أن يبدل مرارة الصبر في فمي إلى «حلاوة» ويرزقني القوة والقدرة على التحمل أكثر أمام هذا الطوفان العظيم، لئلا أفقد زمامي ويجري على لساني كلام غير لائق.

ملاحظتان

1- حول الترك الأولى: في تفسير البرهان عن الثمالي قال: صلّيت مع عليّ بن

مختصر الامثل، ج 2، ص: 448

الحسين عليه السلام الفجر بالمدينة يوم الجمعة فلمّا فرغ من صلاته وسُبحته نهض إلى منزله وأنا معه، فدعا مولاةً له تسمّى سكينة فقال لها: «لا يعبُر على بابي سائلٌ إلّاأطعَمتُموه فإنّ اليوم يوم الجمعة». قلت له: ليس كل من يسأل مستحِقّاً؟ فقال: «يا ثابت، أخاف أن يكون بعض من يسألنا محقّاً فلا نُطعمه ونردّه فينزل بنا- أهل البيت- ما نزل بيعقوب وآله. أطعِموهم أطعموهم. إنّ يعقوب كان يَذبح كل يوم كبشاً فيتصدّق منه ويأكل هو وعياله منه، وإنّ سائلًا مؤمناً صوّاماً محقّاً له عند اللَّه منزلة، وكان مجتازاً غريباً اعترّ على باب يعقوب عشيّة جمعة عند أوان إفطاره يهتِف على بابه: أطعموا السائل المجتاز الغريب الجائع من فضل طعامكم. يهتف بذلك على بابه مراراً وهم يسمعونه، قد جهلوا حقّه ولم يصدقوا قوله، فلمّا أيس أن يطعموه وغشيه الليل استرجع واستعبر وشكا جوعه إلى اللَّه عزّ وجلّ وبات طاوياً، وأصبح صائماً جائعاً صابراً حامداً للَّه تعالى، وبات يعقوب وآل يعقوب شباعاً بطاناً وأصبحوا وعندهم فضل من طعامهم».

قال: «فأوحى اللَّه عزّ وجلّ إلى يعقوب في صبيحة تلك الليلة: لقد أذللت- يا يعقوب- عبدي ذلّة استجررت بها غضبي، واستوجبت بها أدبي، ونزول عقوبتي وبلواي عليك وعلى ولدك. يا يعقوب، إنّ أحبّ أنبيائي إليّ وأكرمهم عليّ من رحم مساكين عبادي وقرّبهم اليه وأطعمهم، وكان لهم مأوىً وملجأ. يا يعقوب، أما رحمت ذميال عبدي

المجتهد في عبادته، القانع باليسير من ظاهر الدنيا عشاء أمس، لمّا اعترّ ببابك عند أوان افطاره وهتف بكم: أطعموا السائل الغريب المجتاز القانع. فلم تطعموه شيئاً، فاسترجع واستعبر وشكا ما به إليّ وبات طاوياً حامداً لي وأصبح لي صائماً، وأنت- يا يعقوب- ووُلدك شِباعٌ، وأصبحت وعندكم فضل من طعامكم.

أوما علمت- يا يعقوب- أنّ العقوبة والبلوى إلى أوليائي أسرع منها إلى أعدائي؟»

فقلت لعليّ بن الحسين عليه السلام: جعلت فداك، متى رأى يوسف الرؤيا؟ فقال: «في تلك الليلة التي بات فيها يعقوب وآل يعقوب شباعاً ...».

يستفاد من هذا الحديث أنّ زلّة بسيطة أو بعبارة أدق: «ترك الأولى» وهو لا يعدّ خطيئة أو إثماً، لأنّ يعقوب لم يتّضح له حال السائل ... هذا الترك من قبل الأنبياء والأولياء يكون سبباً لأن يبتليهم اللَّه بلاءً شديداً ... وما ذلك إلّالمقامهم الكبير الذي يوجب عليهم أن يراقبوا كل حركاتهم وسكناتهم، لأنّ «حسنات الأبرار سيئات المقربين».

2- دعاء يوسف البليغ الجذّاب: في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: لما طرح إخوة يوسف في الجبّ أتاه جبرئيل عليه السلام فدخل عليه فقال: يا غلام ما تصنع ههنا؟ فقال: إنّ إخوتي

مختصر الامثل، ج 2، ص: 449

ألقوني في الجبّ. قال: فتحبّ أن تخرج منه؟ قال: ذاك إلى اللَّه عزّ وجلّ، إن شاء أخرجني.

قال: فقال له: إنّ اللَّه ادعني بهذا الدعاء حتى أخرجك من الجبّ فقال له: وما الدعاء؟ فقال:

قل: «اللّهم إنّي أسألك بأنّ لك الحمد، لا إله إلّاأنت المنّان، بديع السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام، أن تصلي على محمّد وآل محمّد وأن تجعل لي ممّا أنا فيه فرجاً ومخرجاً».

وَ جَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هذَا غُلَامٌ وَ أَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَ

اللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَ كَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) نحو أرض مصر: قضى يوسف في ظلمة الجب الموحشة والوحدة القاتلة ساعات مرّةً، ولكنه بإيمانه باللَّه وسكينته المنبثقة عن الإيمان شع في قلبه نور الأمل، وألهمه اللَّه تعالى القوة والقدرة على تحمل الوحدة الموحشة، وأن ينجح في هذا الإمتحان.

ولكن ... اللَّه أعلم كم يوماً قضى يوسف في هذه الحالة؟

قال بعض المفسرين: قضى ثلاثة أيام، وقال آخرون: يومين.

وعلى كل حال تبلج النور «وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ».

وانتخبت منزلها على مقربة من الجبّ، وطبيعي أنّ أوّل ما تفكر القافلة فيه- في منزلها الجديد- هو تأمين الماء وسد حاجتها منه «فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ».

فانتبه يوسف إلى صوت وحركة من أعلى البئر، ثم رأى الحبل والدلو يسرعان إلى النزول، فانتهز الفرصة وانتفع من هذا العطاء الإلهي وتعلق بالحبل بوثوق.

فأحسّ المأمور بالإتيان بالماء أن الدلو قد ثقُل أكثر مما ينبغي، فلما سحبه بقوة إلى الأعلى فوجى ء نظره بغلام كأنّه فلقة قمر، فصرخ وقال: «يَا بُشْرَى هذَا غُلمٌ».

وشيئاً فشيئاً سرى خبر يوسف بين جماعة من أهل القافلة، ولكن من أجل أن لا يذاع هذا الخبر وينتشر، ولكي يمكن بيع هذا الغلام الجميل في مصر، أخفوه «وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً» «1».

وقالوا: هذا متاع لأصحاب هذا الجبّ أودعوه عندنا لنبيعه في مصر.

وتقول الآية في نهايتها: «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ». والذين شروا يوسف بثمن بخس،

______________________________

(1) «البضاعة»: في الأصل من مادة «بضع» على وزن «نذر» ومعناها: القطعة من اللحم، ثمّ توسعوا في المعنى وأطلقوا هذا اللفظ على القطعة المهمّة من المال. (راجع المفردات للراغب).

مختصر الامثل، ج 2، ص: 450

مختصر الامثل ج 2 499

هو من كان في القافلة.

وباعوا يوسف بثمن قليل، أو كما عبّر عنه

القرآن: «وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ». ولكن هذا أمر مألوف فإنّ السُراق أو اولئك الذين تأتيهم بضاعة مهمة دون أي تعب ونصب يبيعونها سريعاً لئلا يطلع الآخرون.

ومن الطبيعي أنّهم لا يستطيعون بهذه الفورية أن يبيعوه بسعر غال.

«البخس»: في الأصل معناه تقليل قيمة الشي ء ظلماً.

وتقول الآية في نهايتها: «وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ».

وهذا البيع البخس إمّا لأنّ أهل القافلة اشتروا يوسف بثمن بخس، أو إنّهم كانوا يخافون أن يفتضح سرّهم ويجدون من يدّعيه.

وَ قَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَ اللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) في قصر عزيز مصر: انتهت حكاية يوسف مع إخوته الذين ألقوه في غيابة الجبّ وبيناها تفصيلًا، بدأ فصل جديد من حياة هذا الغلام الحدث في مصر ... فقد جي ء بيوسف إلى مصر وعرض للبيع، ولما كان تحفة نفيسة فقد صار من نصيب «عزيز مصر» الذي كان وزيراً لفرعون أو رئيساً لوزرائه. يقول القرآن الكريم في شأن يوسف: «وَقَالَ الَّذِى اشْتَرَيْهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِى مَثْوَيهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا» «1». فلا ينبغي أن تنظري إليه كما ينظرإلى العبيد.

يستفاد من سياق الآية أنّ عزيز مصر لم يرزق ولداً وكان في غاية الشوق للولد، وحين وقعت عيناه على هذا الصبي الجميل والسعيد تعلّق قلبه به ليكون مكان ولده.

ثم يضيف القرآن الكريم: «وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الْأَرْضِ».

______________________________

(1) «المثوى»: من مادة (ثوى) ومعناه المقام، ولكن معناه هنا الموقعية والمنزلة والمقام كذلك.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 451

هذا «التمكين»

في الأرض إمّا أن يكون لمجيى ء يوسف إلى مصر، وخاصه أن خطواته في محيط مصر مقدمة لما سيكون عليه من الإقتدار والمكانة القصوى، وإمّا أنّه لا قياس، بين هذه الحياة في مصر «العزيز».

ويضيف القرآن أيضاً: «وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ».

والمراد من «تأويل الأحاديث»- كما أشرنا سابقاً- هو علم تفسير الأحلام وتعبير الرؤيا حيث كان يوسف قادراً على أن يطلع على بعض أسرار المستقبل من خلاله.

ثم يختتم القرآن هذه الآية بالقول: «وَاللَّه غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ».

لقد واجه يوسف في هذا المحيط الجديد، الذي يعدّ واحداً من المراكز السياسية المهمة في مصر مسائل مستحدثة ... فمن جهة كان يرى قصور الطغاة المدهشة وثرواتهم ومن جهة اخرى كانت تتجسد في ذهنه صورة أسواق النخاسين وبيع المماليك والعبيد ومن خلال الموازنة بين هاتين الصورتين كان يفكر في كيفية القضاء على هموم المستضعفين من الناس لو أصبح مقتدراً على ذلك.

فاشتغل بتهذيب نفسه وبنائها، يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: «وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ءَاتَيْنهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ».

«أشدّ»: من مادة «شدّ» وهي هنا إشارة إلى الإستحكام الجسماني والروحاني.

والمراد من «الحكم» و «العلم» الواردين في الآية المتقدمة التي تقول: «وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ءَاتَيْنهُ حُكْمًا وَعِلْمًا» إمّا أن يكون مقام النبوة، وإمّا أن يكون المراد من الحكم العقل والفهم والقدرة على القضاء الصحيح الخالي من اتباع الهوى والإشتباه، والمراد من العلم الإطلاع الذي لا يقترن معه الجهل، ومهما كان فإنّ الحكم والعلم موهبتان نادرتان وهبهما اللَّه ليوسف لتقواه وصبره وتوكله عليه.

فإنّه ليس مستبعداً أن يهب اللَّه سبحانه لعباده المخلصين المنتصرين في ميادين «جهاد النفس للهوى والشهوات» مواهب من المعارف والعلوم التي لا تقاس بأيّ معيار مادي.

وَ رَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ

فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَ قَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِهَا لَوْ لَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)

مختصر الامثل، ج 2، ص: 452

العشق الملتهب: لم يأسر جمال يوسف الملكوتي عزيز مصر فحسب، بل أسر قلب امرأة العزيز كذلك وأصبح متيّماً بجماله. وامتدّت مخالب العشق إلى أعماق قلبها، وبمرور الزمن كان هذا العشق يتجذّر يوماً بعد يوم ويزداد إشتعالًا ... لكنّ يوسف هذا الشاب الطاهر التقي، لم يفكّر بغير اللَّه، ولم يتعلق قلبه بغير عشق اللَّه سبحانه.

وهناك امور اخرى زادت من عشق امرأة العزيز ليوسف ... فمن جهة لم تُرزق الولد، ومن جهة اخرى إنغمارها في حياة مترفة مفعمة بالبذخ ... ومن جهة ثالثة عدم إبتلائها بأيّ نوع من البلاء كما هي حال المتنعمين، وعدم الرقابة الشديدة على هذا القصر من قبل العزيز من جهة رابعة ... كل ذلك ترك امرأة العزيز- الفارغة من الإيمان والتقوى- تهوي في وساوسها الشيطانية إلى الحضيض، بحيث أفضت ليوسف أخيراً عمّا في قلبها وراودته عن نفسه.

واتّبعت جميع الأساليب والطرق للوصول إلى هدفها، وسعت لكي تلقي في قلبه أثراً من هواها وترغيبها وطلبها، كما يقول عن ذلك القرآن الكريم: «وَرَاوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ». وجملة «راودته»: مأخوذة من مادّة «المراودة» وأصلها البحث عن المرتع والمرعى، ثم توسّعوا في هذا اللفظ فاطلق على كل ما يُطلب بالمداراة والملاءمة.

وهذا التعبير يشير إلى أنّ امرأة العزيز طلبت من يوسف أن ينال منها بطريق المسالمة والمساومة وبدون أي تهديد، وأبدت محبتها القصوى له بمنتهى اللين.

وأخيراً

فكّرت في أن تخلو به وتوفّر له جميع ما يثير غريزته، من ثياب فضفاضة، وعطور عبقة شذية، وتجميلات مرغبة، حتى تستولي على يوسف وتأسره.

يقول القرآن الكريم: «وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ».

«غلّقت»: تدل على المبالغة وأنّها أحكمت غلق الأبواب.

وفي هذه الحال، حين رأى يوسف أنّ هذه الامور تجري نحو الإثم، ولم ير طريقاً لخلاصه منها، توجّه يوسف إلى زليخا و «قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ». وبهذا الكلام رفض يوسف طلب امرأة العزيز غير المشروع. وبهذه الجملة إعترف يوسف بوحدانية اللَّه تعالى من الناحية النظرية، وكذلك من الناحية العملية أيضاً، ثم أضاف: «إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَ» ... أليس التجاوز ظلماً وخيانة واضحة «إِنَّهُ لَايُفْلِحُ الظَّالِمُونَ».

وهنا يبلغ أمر يوسف وامرأة العزيز إلى أدقّ مرحلة وأخطرها، حيث يعبّر القرآن عنه تعبيراً ذا مغزى كبير «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّءَا بُرْهنَ رَبِّهِ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 453

إنّ امرأة العزيز كانت تريد أن تقضي وطراً مع يوسف، وبذلت وسعها في ذلك، وكاد يوسف يستجيب لرغبتها بطبيعة كونه بشراً شابّاً لم يتزوج ويرى نفسه إزاء المثيرات الجنسية وجهاً لوجه ... لولا أن رأى برهان اللَّه ... أي روح الإيمان والتقوى وتربية النفس، أضف إلى كل ذلك مقام العصمة الذي كان حائلًا دون هذا العمل.

الطريف أنّ هذا التفسير نقل عن الإمام الرضا عليه السلام في عيون الأخبار للصدوق رحمه الله باسناده إلى علي بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون وعنده الرّضا عليه السلام فقال له المأمون:

يابن رسول اللَّه أليس من قولك: أنّ الأنبياء معصومون؟ قال: «بلى». قال المأمون: فما معنى قول اللَّه عزّ وجلّ إلى أن قال: فأخبرني عن قول اللَّه تعالى «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّءَا بُرْهنَ رَبِّهِ». فقال

الرّضا عليه السلام: «لقد همّت به، ولولا أن رأى برهان ربّه لهمّ بها كما همّت به، لكنّه كان معصوماً والمعصوم لا يهُمّ بذنب ولا يأتيه». فقال المأمون: للَّه درُّك يا أبا الحسن.

والآن لنتوجّه إلى تفسير بقية الآية إذ يقول القرآن المجيد: «كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ». وهي إشارة إلى أنّ هذا الإمداد الغيبي والإعانة المعنوية لإنقاذ يوسف من السوء والفحشاء من قبل اللَّه لم يكن إعتباطاً، فقد كان عبداً عارفاً مؤمناً ورعاً ذا عمل صالح طهّر قلبه من الشرك وظلماته.

وبيان هذا الأمر يدل على أنّ مثل هذه الإمدادات الغيبية، في لحظات الشدة والأزمة التي تدرك الأنبياء- كيوسف مثلًا- غير مخصوصة بهم، فإنّ كل من كان في زمرة عباد اللَّه الصالحين المخلصين فهو جدير بهذه المواهب أيضاً.

العفة والمتانة في البيان: من عجائب القرآن وواحدة من أدلّة الإعجاز، أنّه لا يوجد في تعبيره ركّة وإبتذال وعدم العفة وما إلى ذلك، كما أنّه لا يتناسب مع اسلوب الفرد العادي الامّي الذي تربّى في محيط الجاهليّة، مع أنّ حديث كل أحد يتناسب مع محيطه وأفكاره.

وبين جميع قصص القرآن وأحداثه التي ينقلها توجد قصة غرام وعشق واقعية، وهي قصة (يوسف وامرأة عزيز مصر).

قصة تتحدّث عن عشق امرأة جميلة والهة ذات أهواء جامحة لشاب جميل طاهر القلب.

ولكن القرآن يمزج في رسم هذه الميادين الحسّاسة من هذه القصة- باسلوب معجب- الدقة في البيان مع المتانة والعفة، دون أن يغض الطرف عن ذكر الوقائع، أو أن يظهر العجز، وقد استعمل جميع الاصول الأخلاقية والامور الخاصة بالعفة.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 454

وَ اسْتَبَقَا الْبَابَ وَ قَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَ أَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا

أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَ شَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَ هُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَ إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَ هُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذَا وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) فضيحة امرأة العزيز: المقاومة الشديدة التي أبداها يوسف جعلت امرأة العزيز آيسة منه تقريباً ... ولكن يوسف الذي إنتصر في هذا الدور على تلك المرأة المعاندة أحسّ أنّ بقاءه في بيتها- في هذا المزلق الخطر- غير صالح، وينبغي أن يبتعد عنه، ولذلك أسرع نحو باب القصر ليفتحه ويخرج، ولم تقف امرأة العزيز مكتوفة الأيدي، بل أسرعت خلفه لتمنعه من الخروج، وسحبت قميصه من خلفه فقدّته «وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ». «الإستباق»: في اللغة هو المسابقة بين شخصين أو أكثر.

و «قدّ»: بمعنى مَزّق طولًا، كما أنّ «قطّ» بمعنى مَزّق عرضاً.

فقد أوصل يوسف نفسه نحو الباب وفتحه فرأيا «يوسف وامرأة العزيز» عزيز مصر خلف الباب فجأةً. يقول القرآن الكريم: «وَأَلْفَيَا سَيّدَهَا لَدَى الْبَابِ».

والتعبير عن الزوج ب «السيد» كان طبقاً للعرف السائد في مصر، حيث كانت تخاطب المرأة زوجها بالسيد.

في هذه اللحظة التي رأت امرأة العزيز نفسها على أبواب الفضيحة من جهة، وشعلة الإنتقام تتأجّج في داخلها من جهة اخرى، كان أوّل شي ء توجّهت إليه أن تخاطب زوجها متظاهرة بمظهر الحق متهمة يوسف إذ «قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

ولكن يوسف أدرك أنّ السكوت هنا غير جائز ... فأماط اللثام عن عشق امرأة

العزيز «قَالَ هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 455

وطبيعي أنّ مثل هذا الحادث من العسير تصديقه في البداية، أي إنّ شاباً يافعاً غير متزوج لا يُعدّ آثماً، ولكن امرأة متزوجة ذات مكانة اجتماعية- ظاهراً- آثمة! فلذلك كانت أصابع الإتهام تشير إلى يوسف أكثر من امرأة العزيز.

ولكن حيث إنّ اللَّه حامي الصالحين والمخلصين فلا يرضى أن يحترق هذا الشاب المجاهد بشعلة الإتهام، لذلك يقول القرآن في هذا الصدد: «وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ».

أمّا عزيز مصر فقد قبل هذا الحكم الدقيق، وتحيّر في قميص يوسف ذاهلًا: «فَلَمَّا رَءَا قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ».

في هذه الحال، ولخوف عزيز مصر من إنتشار خبر هذا الحادث المؤسف على الملأ، فتسقط منزلته وكرامته في مصر رأى أنّ من الصلاح كتمان القضية، فالتفت إلى يوسف وقال:

«يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذَا». أي: اكتم هذا الأمر ولا تخبر به أحداً ... ثم التفت إلى امرأته وقال: «وَاسْتَغْفِرِى لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِينَ».

الشاهد الذي ختم «ملفّ يوسف وامرأة العزيز» بسرعة، هو أحد أقارب امرأة العزيز، وكلمة «من أهلها» دليل على ذلك. وعلى القاعدة فهو رجل حكيم وعارف ذكي ويقال: إنّ هذا الرجل كان من مشاوري عزيز مصر وكان معه.

حماية اللَّه في الأزمات: الدرس الكبير الآخر الذي نتعلّمه من قصة يوسف، هو حماية اللَّه ورعايته للإنسان الأكيدة في أشدّ الحالات، وبمقتضى قوله: «يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقُهُ مِن حَيْثُ لَايَحْتَسِب». فمن جهة كان يوسف لا يُصدّق أبداً أنّ نافذة من الأمل ستفتح له، ويكون قدّ القميص سنداً للطهارة والبراءة، ذلك القميص الذي

يصنع الحوادث، فيوماً يفضح إخوة يوسف لأنّهم جاؤوا أباهم وهو غير ممزّق، ويوماً يفضح امرأة العزيز لأنّه قدّ من دُبر، ويوماً آخر يهب البصر والنور ليعقوب، وريحه المعروف يسافر مع نسيم الصباح من مصر إلى أرض كنعان ويبشّر العجوز «الكنعاني» بقدوم موكب البشير.

إنّ للَّه ألطافاً خفية لا يسبر غورها أحد، وحين يهبّ نسيم هذه الألطاف تتغير الأسباب والمسببات بشكل لا يمكن حتى لأذكى الأفراد أن يتنبّأ عنها.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 456

وَ قَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَ آتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَ قَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هذَا بَشَراً إِنْ هذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَ لَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِنْ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) مؤامرة اخرى: بالرغم من أنّ عشق امرأة العزيز- المذكور آنفاً- كان مسألة خصوصية بحيث أكّد حتى العزيز على كتمانها، ولكن حيث إنّ هذه الأسرار لا تبقى خافية، ولا سيّما في قصور الملوك وأصحاب المال والقوّة- التي في حيطانها آذان صاغية- فسوف تتسرّب إلى خارج القصر كما يقول القرآن في هذا الشأن: «وَقَالَ نِسْوَةٌ فِى الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا». ثم لُمْنَها وعَنّفنها بهذه الجملة: «إِنَّا لَنَرَيهَا فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ».

وواضح

أنّ المتحدث بمثل هذا الكلام كنّ نساء أشراف مصر.

لم يكن فساد هؤلاء النسوة بأقلّ من امرأة العزيز ولكن أيديهن لم تصل إلى يوسف، فكنّ يرين امرأة العزيز بسبب هذا العشق في ضلال مبين.

«الشغف»: من مادة «الشغاف» ومعناه أعلى القلب أو الغشاء الرقيق المحيط بالقلب، وشغفها حبّاً معناه أنّها تعلّقت به إلى درجة بحيث نفذ حبّه إلى قلبها واستقر في أعماقه.

أمّا امرأة العزيز فقد وصلها ما دار بين النسوة من إفتضاحها «فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكًا وَءَاتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مّنْهُنَّ سِكّينًا».

هذا العمل دليل على أنّ امرأة العزيز لم تكن تكترث بزوجها، ولم تأخذ الدرس من فضيحتها، ثم أمرت يوسف أن يتخطّى في المجلس «وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ».

نساء مصر- وطبقاً لبعض الروايات التي تقول: كن عشراً ... أو أكثر- فوجئن بظهور

مختصر الامثل، ج 2، ص: 457

يوسف كأنّه البدر أو الشمس الطالعة، فتحيّرن من جماله «فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ» وفقدن أنفسهن «وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ» مكان الفاكهة، وحين وجدن الحياء والعفة تشرقان من عينيه وقد احمر وجهه خجلًا صحن جميعاً و «قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هذَا بَشَرًا إِن هذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ».

وفي هذه الحال التي كانت الدماء تسيل من أيدي النسوة وقد لاحظن ملامح يوسف كلها وصرن أمامه «كالخُشُب المسنّدة» كشفن عن أنّهن لسن بأقل من امرأة العزيز عشقاً ليوسف، فاستغلّت امرأة العزيز هذه الفرصة ف «قَالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيهِ».

وهكذا أحسّت امرأة العزيز بالغرور لأنّها وُفّقت في ما ألقته من فكرة وأعطت لنفسها العذر، وإعترفت بكل صراحة بكل ما فعلت وقالت: «وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ».

وبدلًا من أن تظهر الندم على كلامها أو تتحفّظ على الأقل أمام ضيوفها، أردفت القول بكل جدّ يحكي عن إرادتها القطعية: «وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ

مَا ءَامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ» ... ولا أكتفي بسجنه، بل «وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ».

ينقل البعض روايات عجيبة مؤدّاها أنّ بعضاً من نسوة مصر أعطين الحق لامرأة العزيز ودرن حول يوسف ليرغبنه بأن يستسلم لحبّها وكل واحدة تكلّمت بكلام.

فقالت واحدة: أيّها الشاب ما هذا الصبر والدلال، ولِم لا ترحم هذه العاشقة الواهبة قلبها لك، ألا ترى هذا الجمال الآسر؟ أليس عندك قلب؟! ألست شابّاً؟ ألا تستلذ بالعشق.

وقالت الثانية: إذا كنت لا ترغب في جمالها المثير ولا تحتاج إلى مقامها ومالها، ولكن ألا تعرف أنّها ستنتقم لنفسها بما اوتيت من وسائل الإنتقام الخطرة.

تهديد امرأة العزيز من جانبها بالسجن من جهة، ووساوس النسوة من جهة اخرى، أوقعا يوسف في أزمة شديدة، وأحاط به طوفان المشاكل، ولكن حيث إنّ يوسف كان قد صنع نفسه، فقد صمّم بعزم وشجاعة والتفت نحو السماء ليناجي ربّه وهو في هذه الشدة «قَالَ رَبّ السّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ».

وحيث كان يدري أن لا مهرب له إلّاإلى اللَّه في جميع الأحوال ولا سيما في الساعات الحرجة، فقد أودع نفسه عند اللَّه بهذا الكلام «وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ».

وحيث إنّ وعد اللَّه حقّ، وأنّه يُعين المجاهد (لنفسه أو لعدوّه) فإنّه لم يترك يوسف سُدىً وتلقفته رحمته ولطفه كما يقول القرآن الكريم: «فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ

مختصر الامثل، ج 2، ص: 458

السَّمِيعُ الْعَلِيمُ». فهو يسمع نجوى عبيده، وهو مطلع على أسرارهم، ويعرف طريق الحلّ لهم.

ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَ دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَ قَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ

مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَ اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) السجن بسبب البراءة: انتهى المجلس العجيب لنسوة مصر مع يوسف في قصر العزيز في تلك الغوغاء والهياج، فإنّ الخوف من فضيحة جنسية في اسرة العزيز كان يزداد يوماً بعد يوم. فكان الرأي بعد تبادل المشورة بين العزيز ومستشاريه هو إبعاد يوسف عن الأنظار لينسى الناس اسمه وشخصه، وأحسن السبل لذلك إيداعه قعر السجن المظلم أوّلًا، وليشيع بين الناس أنّ المذنب الأصلي هو يوسف ثانياً، لذلك يقول القرآن في هذا الصدد: «ثُمَّ بَدَا لَهُم مّن بَعْدِ مَا رَأَوُا الْأَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ».

أجل ... في المحيط المنحرف تكون الحرية من نصيب المنحرفين وليست الحرية وحدها من نصيبهم فحسب، ... بل إنّ الأفراد النجباء كيوسف ينبغي أن يقبعوا في زاوية النسيان ...

ولكن إلى متى؟ هل تستمر هذه الحالة؟ ... قطعاً لا ....

ومن جملة السجناء الداخلين مع يوسف فتيان «وَدَخَلَ مَعَهُ السّجْنَ فَتَيَانِ».

وحيث إنّ الظروف لم تكن تسمح للإنسان أن يحصل فيها على الأخبار بطريق عادي، فإنّه يأنس لأحاسيس الآخرين ليبحث عن مسير الحوادث ويتوقّع ما سيكون، حتى أنّ الرؤيا وتعبيرها عنده يكون مطلباً مهماً.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 459

من هذا المنطلق جاء ليوسف يوماً هذان الفتيان اللذان يقال: إنّ أحدهما كان ساقياً في بيت الملك، والآخر كان مأموراً للطعام والمطبخ، وبسبب وشاية الأعداء وسعايتهم بهما دخلا

السجن بتهمة التصميم لسمّ الملك، وتحدّث كل منهما عن رؤيا رآها الليلة الفائتة وكانت بالنسبة له أمراً عجيباً.

«قَالَ أَحَدُهُمَا إِنّى أَرَينِى أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْأَخَرُ إِنّى أَرَينِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ». ثم أضافا: «نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَيكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ».

فقد إغتنم يوسف مراجعة السجينين له لتعبير الرؤيا- وكان لا يدع فرصة لإرشاد السجناء ونصحهم- وبحجة التعبير كان يبيّن حقائق مهمة تفتح لهم السُبل ولجميع الناس أيضاً.

في البداية، ومن أجل أن يستلفت إهتمامهما وإعتمادهما على معرفته بتأويل الأحلام الذي كان مثار إهتمامهما وتوجّههما «قَالَ لَايَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا».

ثم إنّ يوسف أضاف إلى كلامه مقروناً بالإيمان باللَّه والتوحيد الجاري بجميع أبعاده في أعماق وجوده، ليبيّن بوضوح أن لا شي ء يتحقق إلّابإرادة اللَّه قائلًا: «ذلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى» ولئلا يتصور أنّ اللَّه يمنح مثل هذه الامور دون حساب، قال: «إِنّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْأَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ».

والمقصود بهذه الملة أو الجماعة هم عبدة الأصنام بمصر أو عبدة الأصنام من كنعان.

وينبغي لي أن أترك مثل هذه العقائد لأنّها على خلاف الفطرة الإنسانية النقية، ثم إنّي تربّيت في اسرة الوحي والنبوة «وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءَابَاءِى إِبْرهِيمَ وَإِسْحقَ وَيَعْقُوبَ».

ثم يضيف على نحو التأكيد: «مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَىْ ءٍ». لأنّ اسرتنا اسرة التوحيد ... اسرة إبراهيم محطّم الأصنام «ذلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ». وهي الموهبة العامة التي تشمل جميع عباد اللَّه المودعة في أرواحهم المسمّاة بالفطرة حيث يتكاملون بقيادة الأنبياء «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَشْكُرُونَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 460

يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَ أَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَ

آبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَنْ تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَ أَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَ قَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) السجن أو مركز التربية: حين هيّأ يوسف في البحث السابق قلوب السجينين لقبول حقيقة التوحيد، توجّه إليهما وقال: «يَا صَاحِبَىِ السّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ القَهَّارُ».

فكأنّ يوسف يريد أن يفهم السجينين أنّه لِم تريان الحرية في النوم ولا تريانها في اليقظة؟

فلِم لا تجتمعون تحت راية التوحيد، وتعتصموا بحبل الواحد القهار، لتطردوا من مجتمعكم هؤلاء الظالمين والجبابرة الذين يسوقونكم إلى السجن أبرياء دون ذنب؟!

ثم يضيف قائلًا: «مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطنٍ» بل هي صنع عقولكم العاجزة وأفكاركم المنحرفة ... «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» فلا ينبغي أن تطأطئوا رؤوسكم لسواه من الطغاة والفراعنة، ثمّ أضاف زيادة في التأكيد قائلًا:

«أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ».

أي إنّ التوحيد في جميع أبعاده- في العبادة، في الحكومة، في المجتمع، في المسائل الثقافية، وفي كل شي ء- هو الدين الإلهي المستقيم والثابت. «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ» ولذلك خضعوا لحكومة غير (اللَّه) فذاقوا الشقاء والسجون في هذا السبيل.

ثم التفت إليهما وقال: «يَا صَاحِبَىِ السّجْن أَمَّا أَحَدُ كُمَا فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْأَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ».

ثم أضاف مؤكداً: «قُضِىَ الْأَمْرُ الَّذِى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ». وهو إشارة إلى أنّ هذا التعبير ليس

مختصر

الامثل، ج 2، ص: 461

تعبيراً ساذجاً، بل هو من أنباء الغيب التي تعلّمها من اللَّه، فلا مجال للترديد والكلام بعد هذا.

وحين أحسّ يوسف أنّ السجينين سينفصلان عنه عاجلًا، ومن أجل أن يجد يوماً يُطلق فيه ويُبرأ من هذه التهمة، أوصى أحد السجينين الذي كان يعلم أنّه سيطلق أن يذكره عند الملك «وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِى عِندَ رَبّكَ» لكن هذا الغلام «الناسي» مثله مثل الأفراد قليلي الإستيعاب، ما إن يبلغوا نعمةً ما حتى ينسوا صاحبها، وهكذا نسي يوسف تماماً، ولكن القرآن عبّر عن ذلك بقوله: «فَأَنسهُ الشَّيْطنُ ذِكْرَ رَبّهِ» وهكذا أصبح يوسف منسيّاً «فَلَبِثَ فِى السّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ».

أمّا عدد السنوات التي قضاها يوسف في السجن، فهناك أقوال بين المفسرين، والمشهور أنّها سبع سنوات، إلّاأنّ بعضهم قال: إنّ يوسف بقي في السجن إثنتي عشرة سنة، خمس قبل رؤيا صاحبي سجنه، وسبع بعدها، وكانت سنوات ملأى بالتعب والنَصب إلّاأنّها من جهة الإرشاد كانت سنوات مفعمة بالبركة والخير.

وَ قَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَ سَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَ مَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَ قَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَ سَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ

يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ (49) رؤيا ملك مصر وما جرى له: بقي يوسف سنين في السجن المظلم كأي إنسان منسيّ، ولم يكن لديه من عمل إلّابناء شخصيته، وإرشاد السجناء وعيادة مرضاهم وتسلية الموجَعين

مختصر الامثل، ج 2، ص: 462

منهم، حتى غيّرت (حظّه وطالعه) حادثة صغيرة بحسب الظاهر ... ولم تغيّر هذه «الظاهرة» حظّه فحسب، بل حظّ امّة مصر وما حولها. لقد رأى ملك مصر الذي يقال أنّ اسمه هو «الوليد بن الريان» وكان «عزيز مصر وزيره» رأى هذا الملك رؤيا مهولة، فأحضر عند الصباح المعبّرين للرؤيا ومن حوله فقصّ عليهم رؤياه «وَقَالَ الْمَلِكُ إِنّى أَرَى سَبْعَ بِقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِستٍ». ثم إلتفت إليهم طالباً منهم تعبير رؤياه فقال: «يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِى فِى رُءْيىَ إِن كُنتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ». ولكن حاشية السلطان وجموا إزاء هذه الرؤيا و «قَالُوا أَضْغثُ أَحْلمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلمِ بِعَالِمِينَ».

«الأضغاث»: جمع «ضِغْث» ومعناه المجموعة من الحطب أو العشب اليابس أو الأخضر أو شي ء آخر؛ و «الأحلام»: جمع «حُلُم» معناه الطيف والرؤيا، فيكون معنى «أَضْغَاثُ أَحْلمٍ» هو الأطياف المختلطة، فكأنّها متشكلة من مجموعة مختلفة ومتفاوتة من الأشياء.

وهنا تذكّر ساقي الملك ما حدث له ولصاحبه في السجن مع يوسف، ونجا من السجن كما بشّره يوسف «وَقَالَ الَّذِى نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونَ».

وهكذا حرّك كلام الساقي المجلس وشخصت الأبصار نحوه، وطلبوا منه الإسراع بالذهاب إليه والإتيان بالخبر.

مضى الساقي إلى السجن ليرى صديقه القديم ... ذلك الصديق الذي لم يف بوعده له، لكنّه ربّما كان يعرف أنّ شخصية يوسف الكريمة تمنعه من فتح «باب العتاب» فالتفت إليه وقال: «يُوسُفُ

أَيُّهَا الصّدّيقُ أَفْتِنَا فِى سَبْعِ بِقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلّى أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ».

إنّ يوسف دون أن يطلب شرطاً أو قيداً أو أجراً لتعبيره، عبّر الرؤيا فوراً تعبيراً دقيقاً لا غموض فيه ولا حجاب مقروناً بما ينبغي عمله في المستقبل و «قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِى سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ».

ثم أنّه يحلّ بكم القحط لسبع سنين متوالية فلا أمطار ولا زراعة كافية، فعليكم بالاستفادة مما جمعتم في سنيّ الرخاء «ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ».

ولكن عليكم أن تحذروا من إستهلاك الطعام «إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ» وإذا واظبتم على هذه الخطّة فحينئذ لا خطر يهدّدكم لأنّه «ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 463

و «يُغَاثُ النَّاسُ». أي يدركهم الغيث فتكثر خيراتهم، وليس هذا فحسب، بل «وَفِيهِ يَعْصِرُونَ» المحاصيل لإستخراج الدهن والفاكهة لشراب عصيرها ... الخ.

كم كان تعبير يوسف لهذه الرؤيا دقيقاً ومحسوباً. في الحقيقة لم يكن يوسف مفسّراً بسيطاً للأحلام، بل كان قائداً يخطّط من زاوية السجن لمستقبل البلاد، وقد قدّم مقترحاً من عدّة مواد لخمسة عشر عاماً على الأقل، وكما سنرى فإنّ هذا التعبير المقرون بالمقترح للمستقبل حرّك الملك وحاشيته وكان سبباً لإنقاذ أهل مصر من القحط القاتل من جهة، وأن ينجو يوسف من سجنه وتخرج الحكومة من أيدي الطغاة من جهة اخرى.

وَ قَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ

امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَ مَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) تبرئة يوسف من كل إتهام: لقد كان تعبير يوسف لرؤيا الملك دقيقاً ومدروساً ومنطقياً، لقد فهم الملك إجمالًا أنّ يوسف لم يكن رجلًا يستحق السجن، بل هو شخص أسمى مقاماً من الإنسان العادي، دخل السجن نتيجة حادث خفي، لذلك تشوّق لرؤيته، ولكن لا ينبغي للملك أن ينسى غروره ويسرع إلى زيارته، بل أمر أن يُؤتى به إليه كما يقول القرآن: «وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ» لم يوافق يوسف على الخروج من السجن دون أن يثبت براءته، فالتفت إلى رسول الملك و «قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبّكَ فَسَلْهُ مَا بَالُ النّسْوَةِ التِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ». إذن ... فيوسف لم يرغب أن يكون كأيّ مجرم، أو على الأقل كأيّ متهم يعيش مشمولًا ب «عفو الملك» ... لقد كان يرغب أوّلًا أن تثبت براءته وطهارة ذيله، ويخرج من السجن مرفوع الرأس، كما يُثبت ضمناً تلوّث النظام الحكومي وما يجري في قصر وزيره.

ثم يضيف يوسف: إذا لم يعلم سبب سجني شعب مصر ولا جهازه الحكومي وبأي سبب وصلت السجن، فاللَّه مطلع على ذلك «إِنَّ رَبِّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 464

عاد المبعوث من قبل الملك إلى يوسف مرّة ثانية إلى الملك، وأخبره بما طلبه يوسف مع ما كان من إبائه وعلوّ همّته، لذا عظم يوسف في نفس الملك وبادر مسرعاً إلى إحضار النسوة اللاتي شاركن في الحادثة، والتفت إليهن و «قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ

رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ». يجب أن تقلن الحق ... هل إرتكب يوسف خطيئة أو ذنباً؟

فتيقّظ فجأةً الوجدان النائم في نفوسهن، وأجبنه جميعاً بكلام واحد، متفق على طهارته و «قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ».

أمّا امرأة العزيز التي كانت حاضرة أيضاً، أحسّت بأنّ الوقت قد حان لأن تنزّه يوسف وأن تعوّض عن تبكيت وجدانها وحيائها وذنبها بشهادتها القاطعة في حقه، وخاصه أنّها رأت كرم يوسف المنقطع النظير من خلال رسالته إلى الملك، إذ لم يعرّض فيها بالطعن في شخصيتها وكان كلامه عامّاً ومغلقاً تحت عنوان «نسوة مصر».

فكأنّما حدث إنفجار في داخلها فجأةً وصرخت و «قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ النَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ».

ثم واصلت امرأة العزيز كلامها «ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ» لأنّي عرفت بعد هذه المدة الطويلة وما عندي من التجارب «أَنَّ اللَّهَ لَايَهْدِى كَيْدَ الْخَائِنِينَ».

وتواصل امرأة العزيز القول: «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبّى» وبحفظه وإعانته نبقى مصونين، وأنا أرجو أن يغفر لي ربّي هذا الذنب «إِنَّ رَبّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

فامرأة العزيز التي تدعى «زليخا» أو «راعيل» وإن ابتُليت في عملها بأشدّ الهزائم، لكن هذه الهزيمة في مسير الذنب كانت سبباً لأن تنتبه ويتيقّظ وجدانها النائم، وأن تندم على ما فات من عملها ... والتفتت إلى ساحة اللَّه.

السعداء هم اولئك الذين يصنعون من الهزائم إنتصاراً، ومن سوء الحظّ حظّاً حسناً، ومن أخطائهم طريقاً صحيحاً للحياة.

وَ قَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ

وَ لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ (57)

مختصر الامثل، ج 2، ص: 465

يوسف أميناً على خزائن مصر: رأينا أنّ يوسف- هذا النبي العظيم- ثبتت براءته أخيراً للجميع، وحتى الأعداء شهدوا بطهارته ونزاهته، وظهر لهم أنّ الذنب الوحيد الذي أودع من أجله السجن لم يكن غير التقوى والأمانة التي كان يتحلّى بهما.

إضافةً إلى هذا فقد ثبت لهم أنّ هذا السجين منهل العلم والمعرفة والنباهة وطاقة فذّة وعالية في الإدارة.

ثم يستمر القرآن بذكر القصة فيقول: «وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى» وهكذا أمر الملك باحضاره لكي يجعله مستشاره الخاص ونائبه في المهمّات فيستفيد من علمه ومعرفته وخبرته لحلّ المشاكل المستعصية.

ثم أرسل الملك مندوباً لزيارته في السجن، فدخل عليه وأبلغه تحيات الملك وعواطفه القلبية تجاهه ثم قال له: إنّه قد لبّى طلبك في البحث والتحقيق عن نساء مصر وإتهامهن إيّاك، قم لنذهب إلى الملك.

فدخل يوسف على الملك وتكلّم معه فعندما سمع من يوسف الأجوبة التي تحكي عن علمه وفراسته وذكائه الحادّ، إزداد حبّاً له وقال: إنّ لك اليوم عندنا منزلة رفيعة وسلطات واسعة وإنّك في موضع ثقتنا وإعتمادنا «فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اليَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ» فلابدّ أن تتصدّى للمناصب الهامّة في هذا البلد، وتهتمّ بإصلاح الامور الفاسدة.

فاختار يوسف منصب الأمانة على خزائن مصر، وقال إجعلني مشرفاً على خزائن هذا البلد فإنّي حفيظ عليم وعلى معرفة تامّة بأسرار المهنة وخصائصها «قَالَ اجْعَلْنِى عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ».

كان يوسف يعلم أنّ جانباً كبيراً من الاضطراب الحاصل في ذلك المجتمع الكبير الملي ء بالظلم والجور يكمن في القضايا الاقتصادية، والآن وبعد أن عجزت أجهزة الحكم من حلّ تلك المشاكل واضطرّوا لطلب المساعدة منه،

فمن الأفضل له أن يسيطر على اقتصاد مصر حتى يتمكن من مساعدة المستضعفين وأن يخفّف عنهم- قدر ما يستطيع- الآلام والمصاعب ويستردّ حقوقهم من الظالمين.

وهنا نقطة اخرى يجب التنبيه عليها وهي إنّنا نلاحظ أنّ يوسف عليه السلام يخاطب الملك ويقول له: «إِنّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ» وهذه إشارة إلى أهمية عنصر الإدارة إلى جانب عنصر الأمانة وأنّ توفّر عنصر الأمانة والتقوى فقط في شخص لا يؤهّله لأن يتصدّى لأحد

مختصر الامثل، ج 2، ص: 466

المناصب الاجتماعية الحساسة، بل لابد من إجتماع ذلك العامل مع العلم والتخصص والقدرة على الإدارة. ثم يقول اللَّه سبحانه وتعالى مُنهياً بذلك قصة يوسف عليه السلام: «وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ».

نعم إنّ اللَّه سبحانه وتعالى ينزل رحمته وبركاته ونعمه المادية والمعنوية على من يشاء من عباده الذين يراهم أهلًا لذلك «نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ».

وأنّه سبحانه وتعالى لا ينسى أن يجازي المحسنين، وإنّه مهما طالت المدّة فإنّه يجازيهم بجزائه الأوفي «وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ».

ولكن لا يقتصر سبحانه وتعالى على مجازاة المحسنين في الدنيا، بل يجازي المتقين والمحسنين بأحسن من ذلك في الآخرة وهو الجزاء الأوفى «وَلَأَجْرُ الْأَخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ».

وَ جَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَ هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَ لَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَ لَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَ أَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَ لَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَ إِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَ قَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) إقتراح جديد من يوسف لُاخوته: وكما كان متوقّعاً، فقد تحسّنت الزراعة في

مصر خلال سبع سنوات متتالية وذلك على أثر توالي الأمطار ووفرة ماء النيل وكثرته، ويوسف قد أجبر أبناء الشعب على أن يبيعوا للدولة الفائض عن حاجتهم من الإنتاج الزراعي، وهكذا امتلأت المخازن بالمنتوجات الزراعية والإستهلاكية ومرّت سبع سنوات من الرخاء والوفرة، وبدأ القحط والجفاف يُظهر وجهه الكريه، ومنعت السماء قطرها، فلم تينع ثمرة، ولم تحمل نخلة.

وهكذا أصاب عامّة الشعب الضيق وقلّت منتوجاتهم الزراعية، لكنّهم كانوا على علم بخزائن الدولة وإمتلائها بالمواد الغذائية، وساعدهم يوسف حيث استطاع- بخطّة محكمة

مختصر الامثل، ج 2، ص: 467

ومنظمة مع الأخذ بعين الاعتبار الحاجات المتزايدة، في السنين القادمة- أن يرفع الضيق عن الشعب بأن باع لهم المنتوجات الزراعية مراعياً في ذلك العدالة بينهم.

وهذا القحط والجفاف لم يكن مقتصراً على مصر وحدها، بل شمل البلدان المحطية بها أيضاً، ومنهم شعب فلسطين وأرض كنعان المتاخمة لمصر والواقعة على حدودها في الشمال الشرقي، وكانت عائلة يوسف تسكن هناك وقد تأثّرت بالجفاف، واشتدّ بهم الضيق، بحيث اضطرّ يعقوب أن يرسل جميع أولاده- ما عدا بنيامين الذي أبقاه عنده بعد غياب يوسف- إلى مصر، حيث سافروا مع قافلة كانت تسير إلى مصر ووصلوا إليها- كما قيل- بعد 18 يوماً.

وتذكر المصادر التاريخية أنّ الأجانب عند دخولهم إلى الأراضي المصرية كانوا ملزمين بتسجيل أسمائهم في قوائم معينة لكي تعرض على يوسف، ومن هنا فحينما عرض الموظفون تقريراً على يوسف عن القافلة الفلسطينية وطلبهم للحصول على المؤن والحبوب رأى يوسف أسماء اخوته بينهم وعرفهم وأمر بإحضارهم إليه، دون أن يتعرف أحد على حقيقتهم وأنّهم اخوته ....

يقول القرآن الكريم: «وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ». وكان طبيعياً أن لا يتعرف إخوة يوسف عليه لأنّه في جانب كان قد

مضى على فراقهم إياه منذ أن أودعوه الجبّ وخرج منه ودخل إلى مصر ما يقرب من أربعين سنة، ومن جهة اخرى كان لا يخطر ببالهم أنّ أخوهم صار عزيزاً لمصر، وحتى لو رأوا الشبه بين العزيز وبين أخيهم لحملوه على الصدفة.

كما أنّ احتمال بقاء يوسف على قيد الحياة بعد هذه المدة كان ضعيفاً عندهم، وعلى أية حال فإنّ إخوة يوسف قد اشتروا ما طلبوه من الحبوب.

أمّا يوسف فإنّه قد رحّب بإخوته ولاطفهم وفتح باب الحديث معهم، قالوا: نحن عشرة إخوة من أولاد يعقوب، ويعقوب هو ابن إبراهيم الخليل نبي اللَّه العظيم، وأبونا أيضاً من أنبياء اللَّه العظام، وقد كبر سنّه وألمّ به حزن عميق ملك عليه وجوده.

فسألهم يوسف: لماذا هذا الغم والحزن؟

قالوا: كان له ولد أصغر من جميع إخوته وكان يحبّه كثيراً، فخرج معنا يوماً للنزهة والتفرج والصيد وغفلنا عنه فأكله الذئب، ومنذ ذلك اليوم وأبونا يبكي لفراقه.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 468

نقل بعض المفسرين أنّه كان من عادة يوسف أن لا يعطي ولا يبيع لكل شخص إلّاحمل بعير واحد، وبما أنّ إخوته كانوا عشرة فقد باع لهم 10 أحمال من الحبوب، فقالوا: إنّ لنا أباً شيخاً كبيراً عاجزاً عن السفر وأخاً صغيراً يرعى شؤون الأب الكبير، فطلبوا من العزيز أن يدفع إليهم حصّتهما، فأمر يوسف أن يضاف إلى حصصهم حملان آخران، ثمّ توجّه إليهم مخاطباً إيّاهم وقال: فأتوا بأخيكم الصغير في سفركم القادم لتثبتوا صدقكم، وتدفعوا التّهمة عن أنفسكم. وهنا يقول القرآن الكريم: إنّه حينما جهّزهم يوسف بجهازهم وأرادوا الرحيل عن مصر «وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِى بِأَخٍ لَّكُم مّنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنّى أُوفِى الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ». لكنّه ختم كلامه بتهديد مبطّن لهم،

وهو إنّني سوف أمنع عنكم المؤن والحبوب إذا لم تأتوني بأخيكم: «فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلَا تَقْرَبُونِ»، وكان يوسف يحاول بشتّى الطرق، تارة بالتهديد، واخرى بالتحبب، أن يلتقي بأخيه بنيامين ويبقيه عنده، وظهر من سياق الآيات، أمران: أنّ الحبوب كانت تباع وتشترى في مصر بالكيل لا بالوزن، واتّضح أيضاً أنّ يوسف كان يستقبل الضيوف- ومنهم اخوته- الذين كانوا يفدون إلى مصر بحفاوة بالغة ويستظيفهم بأحسن وجه.

وأجاب إخوة يوسف على طلب أخيهم: «قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ».

ويستفاد من قوله «إِنَّا لَفَاعِلُونَ» وإجابتهم الصريحة لعزيز مصر، أنّهم كانوا مطمئنين إلى قدرتهم على التأثير على أبيهم وأخذ الموافقة منه، وكيف لا يكونون مطمئنين بقدرتهم على ذلك وهم الذين استطاعوا بإصرارهم وإلحاحهم أن يفرّقوا بين يوسف وأبيه؟!

وأخيراً أمر يوسف رجاله بأن يضعوا الأموال التي اشتروا بها الحبوب في رحالهم- جلباً لعواطفهم- «وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِى رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ».

لماذا لم يظهر يوسف حقيقته لإخوته؟ بالنسبة للآيات السابقة فإنّ أوّل ما يتبادر إلى الذهن هو إنّه لماذا لم يعرّف يوسف نفسه لإخوته، حتى يقفوا على حقيقة حاله ويرجعوا إلى أبيهم ويخبرونه عن مصير يوسف، وبذلك تنتهي آلامه لأجل فراق يوسف؟

حاول جمع من المفسرين- كالعلّامة الطبرسي في مجمع البيان والعلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان والقرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن- الإجابة على هذا السؤال، وذكروا له عدّة أجوبة، ولعل أحسنها وأقربها هو أنّ يوسف لم يكن مجازاً من قبل اللَّه

مختصر الامثل، ج 2، ص: 469

سبحانه وتعالى في إخبار أبيه، لأنّ قصة يوسف مع غض النظر عن خصائصه الذاتية كانت ساحة لاختبار يعقوب وحقلًا لإمتحانه، فلابدّ من أن يؤدّي يعقوب إمتحانه

ويجتاز فترة الاختبار قبل أن يسمح ليوسف بإخباره، وإضافة إلى هذا فإنّ إسراع يوسف في إخبار إخوته قد يؤدّي إلى عواقب غير محمودة، مثلًا قد يستولي عليهم الخوف والهلع من إنتقام يوسف منهم لما إرتكبوه سابقاً في حقه فلا يرجعوا إليه.

فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَ لَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَ نَمِيرُ أَهْلَنَا وَ نَحْفَظُ أَخَانَا وَ نَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) موافقة يعقوب: رجع اخوة يوسف إلى كنعان فرحين حاملين معهم المتاع الثمين، لكنّهم كانوا يفكّرون بمصيرهم في المستقبل وأنّه لو رفض الأب ولم يوافق على سفر أخيهم الصغير (بنيامين) فإنّ عزيز مصر سوف لن يستقبلهم، كما إنّه لا يعطيهم حصّتهم من الحبوب والمؤن. ومن هنا يقول القرآن: «فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ» ولا سبيل لنا للحصول عليه إلّاأن ترسل معنا أخانا «فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ» وكن على يقين من أنّنا سوف نحافظ عليه ونمنعه من الآخرين «وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ».

ثم أضاف: «فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ».

ثم إنّ الاخوة حينما عادوا من مصر «وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ» فشاهدوا أنّ هذا الأمر هو برهان قاطع على صحّة طلبهم، فجاؤوا إلى أبيهم و «قَالُوا يَا أَبَانَا

مَا نَبْغِى هذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّت إِلَيْنَا».

فيا أبانا ليس هناك مجال للتأخير- ابعث معنا أخانا لكي نسافر ونشتري الطعام «وَنَمِيرُ أَهْلَنَا» وسوف نكون جادّين في حفظ أخينا «وَنَحْفَظُ أَخَانَا»، وهكذا نتمكن من أن نشتري كيل بعير من الحبوب «وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ» وإنّنا على يقين في أنّ سماحة

مختصر الامثل، ج 2، ص: 470

العزيز وكرمه سوف يسهّلان حصوله «ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ». وفي كل الأحوال رفض يعقوب إرسال إبنه بنيامين معهم، ولكنّه كان يواجه إصرار أولاده بمنطقهم القوي بحيث اضطر إلى التنازل على مطلبهم ولم يَر بدّاً من القبول، ولكنّه وافق بشرط: «قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِى بِهِ إِلَّا أَن يُحَاطَ بِكُمْ».

والمقصود من قوله «مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ» هو العهد واليمين المتضمن لإسم اللَّه سبحانه وتعالى.

فقد وافق اخوة يوسف بدورهم على شرط أبيهم، وحينما أعطوه العهد والمواثيق المغلّظة قال يعقوب: «فَلَمَّا ءَاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ».

وَ قَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَ ادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَ مَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ عَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَ لَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) وأخيراً توجّه إخوة يوسف صوب مصر للمرّة الثانية بعد إذن أبيهم وموافقته على إصطحاب أخيهم الصغير معهم، وحينما أرادوا الخروج ودعهم أبوهم موصياً إيّاهم بقوله:

«وَقَالَ يَا بَنِىَّ لَاتَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَةٍ».

ثم أضاف: إنّه ليس في مقدوري أن أمنع ما قد قدّر لكم في علم اللَّه سبحانه وتعالى

«وَمَا أُغْنِى عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَىْ ءٍ».

ثم قال أخيراً: «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكّلُونَ».

لا شك في أنّ عاصمة مصر كانت تمتلك أبواباً متعددة، ذهب جمع من المفسرين إلى أنّ سبب هذه النصيحة هو أنّ إخوة يوسف كانوا يتمتعون بقسط وافر من الجمال وبأجسام قوية رشيقة، وكان الأب الحنون في قلق شديد من الفات نظر الناس إلى هذه المجموعة المكوّنة فيصيبهم الحسد من تلك العيون الفاحصة.

وهناك سبب آخر وهو أنّ دخول هذه المجموعة إلى مصر بوجوههم المشرقة وأجسامهم الرشيقة القويمة قد يثير الحسد والبغضاء في بعض النفوس الضعيفة فيسعون ضدّهم عند السلطان.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 471

واصل الاخوة سيرهم نحو مصر، وبعد أن قطعوا مسافة طويلة وشاسعة بين كنعان ومصر دخلوا الأراضي المصرية، وعند ذاك «وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِى عَنْهُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَىْ ءٍ». فهم برغم تفرّقهم إلى جماعات صغيرة- طبقاً لما وصّاهم به أبوهم- فإنّ الفائدة والثمرة الوحيدة التي ترتّبت على تلك النصيحة ليس «إِلَّا حَاجَةً فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضهَا». وهذه إشارة إلى أنّ أثرها لم يكن سوى الهدوء والطمأنينة التي إستولت على قلب الأب الحنون الذي بعد عنه أولاده، وبقي ذهنه وفكره مشغولًا بهم وبسلامتهم وخائفاً عليهم من كيد الحاسدين وشرور الطامعين، فما كان يتسلّى به في تلك الأيّام لم يكن سوى يقينه القلبي بأنّ أولاده سوف يعملون بنصيحته.

ثمّ يستمرّ القرآن في مدح يعقوب ووصفه بقوله: «وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ». وهذه إشارة إلى أنّ كثيراً من الناس يتيهون في الأسباب وينسون قدرة اللَّه سبحانه وتعالى، إلّاأنّ يعقوب كان عالماً بأنّه بدون إرادة اللَّه سبحانه وتعالى لا يحدث شي ء، فكان يتوكّل في

الدرجة الاولى على اللَّه سبحانه وتعالى ويعتمد عليه، ثم يبحث عن عالم الأسباب.

وَ لَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَا ذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَ لِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَ مَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)

مختصر الامثل، ج 2، ص: 472

يوسف يخطّط للإحتفاظ بأخيه: وأخيراً دخل الاخوة على يوسف وأعلموه بأنّهم قد نفّذوا طلبته واصطحبوا معهم أخاهم الصغير برغم إمتناع الأب في البداية، ولكنّهم أصرّوا عليه وإنتزعوا منه الموافقة لكي يثبتوا لك إنّهم قد وفوا بالعهد، أمّا يوسف فإنّه قد إستقبلهم بحفاوة وكرم بالغين ودعاهم لتناول الطعام على مائدته، فأمر أن يجلس كل إثنين منهم على طبق من الطعام، ففعلوا وجلس كل واحد منهم بجنب أخيه على الطعام، وبقي بنيامين وحيداً فتألّم من وحدته وبكى وقال: لو كان أخي يوسف حيّاً لعطف عليّ ولأجلسني إلى جنبه على المائدة لأنّنا إخوة من أب واحد وامّ واحدة، قال يوسف مخاطباً إيّاهم: إنّ أخاكم بقي وحيداً وإنّني سأجلسه بجنبي على المائدة ونأكل سويّة من الطعام، ثم بعد ذلك

أمر يوسف بأن تهيّأ لهم الغرف ليستريحوا فيها ويناموا، ومرّة اخرى بقي بنيامين وحيداً، فاستدعاه يوسف إلى غرفته وبسط له الفراش إلى جنبه، لكنّه لاحظ في تقاسيم وجهه الحزن والألم وسمعه يذكر أخاه المفقود (يوسف) متأوّهاً، عند ذاك نفذ صبر يوسف وكشف عن حقيقة نفسه، والقرآن الكريم يصف هذه الوقائع بقوله: «وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ ءَاوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنّى أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

«تبتئس»: مأخوذ من مادّة «البؤس» وهو أصل بمعنى الضرر والشدّة، لكن في الآية الشريفة استعملت بمعنى: لا تسلط الغمّ على نفسك ولا تكن حزيناً من معاملتهم لك، والمراد بقوله «يعملون» هو معاملة الاخوة السيئة لأخيهم بنيامين حيث خطّطوا لإبعاده وطرده من بينهم كما فعلوا بيوسف.

وتقول بعض الروايات: إنّه عند ذاك إقترح يوسف على أخيه بنيامين وقال له: هل تودّ أن تبقى عندي ولا تعود معهم؟

قال بنيامين: نعم، ولكن إخوتي لا يوافقون على ذلك.

قال يوسف: لا تهتمّ بهذا الأمر فإنّي سوف أضع خطّة محكمة بحيث يضطرّون لتركك عندي والرجوع دونك.

وبدأ يوسف بتنفيذ الخطّة، وأمر بأن يعطى لكلّ واحد منهم حصّة من الطعام والحبوب ثم عند ذاك «فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السّقَايَةَ فِى رَحْلِ أَخِيهِ».

لا شك في أنّ يوسف قام بهذا العمل بسرية تامة، ولعله لم يطلع على هذه الخطة سوى موظف واحد وعند ذاك إفتقد العاملون على تزويد الناس بالمؤونة الكيل الملكي الخاص،

مختصر الامثل، ج 2، ص: 473

وبحث عنه الموظفون والعمّال كثيراً لكن دون جدوى وحينئذ «أَذَّنَ مُؤَذّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ».

وحينما سمع إخوة يوسف هذا النداء إرتعدت فرائصهم وإستولى عليهم الخوف، حيث لم يخطر ببالهم أن يتهموا بالسرقة بعد الحفاوة التي قوبلوا بها من جانب يوسف، فتوجّهوا إلى الموظفين والعمال

وقالوا لهم: ماذا فقدتم؟ «قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ».

قالوا: قد فقدنا صواع الملك ونظنّ إنّه عندكم «قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ» وبما أنّ الصواع ثمين ومورد علاقة الملك فإنّ لمن يعثر عليه جائزة، وهي حمل بعير من الطعام «وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ». ثم أضاف المؤذن والمسؤول عن البحث عن الصواع المفقود: إنّني شخصياً أضمن هذه الجائزة «وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ».

فاشتدّ إضطراب الاخوة لسماعهم هذه الامور وزادت مخاوفهم، وتوجّهوا إلى الموظف مخاطبين إياه «قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ».

إلّا أنّ الموظفين توجّهوا إليهم و «قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ».

أجاب الاخوة: إنّ عقاب من وجد الصواع في رحله هو أن يؤخذ الشخص نفسه بدل الصواع «قَالُوا جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ». وإنّ هذا العقاب هو جزاء السارق «كَذلِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ». وحينئذ أمر يوسف الموظفين والعمال بأن تنزل رحالهم من على ظهور الجمال ويفتح متاعهم وأن يبحثوا فيها واحداً بعد واحد ودون استثناء، وتجنّباً عن إنكشاف الخطة أمر يوسف بأن يبدأوا البحث والتفتيش في أمتعة الاخوة أوّلًا قبل أمتعة أخيه بنيامين، لكنهم وجدوه أخيراً في أمتعة بنيامين «فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ».

بعد أن عثر على الصاع في متاع بنيامين، إستولى الإرتباك والدهشة على الاخوة، وصعقتهم هذه الواقعة ورأوا أنفسهم في حيرة غريبة، فمن جهة قام أخوهم بعمل قبيح وسرق صواع الملك، وهذا يعود عليهم بالخزي والعار، ومن جهة اخرى إنّ هذا العمل سوف يفقدهم اعتبارهم ونفوذهم عند الملك خصوصاً مع حاجتهم الشديدة إلى الطعام، وإضافةً إلى كل هذا، كيف يجيبون على استفسارات أبيهم؟ وكيف يقنعونه بذنب ابنه وعدم تقصيرهم في ذلك؟

ثم يستمرّ القرآن الكريم ويبين

كيف استطاع يوسف أن يأخذ أخاه بالخطة التي رسمها

مختصر الامثل، ج 2، ص: 474

اللَّه له دون أن يثير في اخوته أي نوع من المقاومة والرفض «كَذلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ». والأمر المهم في هذه القضية هو أنّه لو أراد يوسف أن يعاقب أخاه بنيامين،- وطبقاً للقانون المصري- لكان عليه أن يضرب أخاه ويودعه السجن لكن مثل هذه المعاملة كانت تخالف رغبات وأهداف يوسف للإحتفاظ بأخيه، ومن هنا وقبل القبض على بنيامين، سأل إخوته عن عقوبة السارق عندهم، فاعترفوا عنده بأنّ السنة المتّبعة عندهم في معاقبة السارق أن يعمل السارق عند المعتدى عليه كالعبد.

لا ريب إنّ للعقوبة والجزاء طرقاً عديدة منها أن يعاقب المعتدي على طبق ما يعاقب به في قومه، وهكذا عامل يوسف أخاه بنيامين، وتوضيحاً لهذه الحالة وأنّ يوسف لم يكن بإمكانه أخذ أخيه طبقاً للدستور المصري يقول القرآن الكريم: «مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الْمَلِكِ». لكن اللَّه سبحانه وتعالى يستثني بقوله: «إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ». وهو إشارة إلى أنّ ما فعله يوسف بأخيه لم يكن إلّابأمر منه سبحانه وتعالى وطبقاً لإرادته في الإحتفاظ ببنيامين، واستمراراً لإمتحان يعقوب وأولاده.

وأخيراً يضيف القرآن الكريم ويقول: إنّ اللَّه سبحانه يرفع درجات من استطاع أن يفوز في الامتحان ويخرج مرفوع الرأس كما حدث ليوسف «نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ» ولكن في كل الأحوال فإنّ اللَّه تعالى عليم يهدي الإنسان إلى سواء السبيل وهو الذي أوقع هذه الخطة في قلب يوسف وألهمه إيّاها «وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ».

قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً

كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظَالِمُونَ (79) موقف إخوة يوسف: وأخيراً إقتنع اخوة يوسف بأنّ أخاهم (بنيامين) قد إرتكب فعلًا شنيعاً وقبيحاً وإنّه قد شوّه سمعتهم وخذلهم عند عزيز مصر، فأرادوا أن يبرّأوا أنفسهم ويعيدوا ماء وجههم «قَالُوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ». أي إنّه لو قام بالسرقة فهذا ليس بأمر عجيب منه فإنّ أخاه يوسف وهو أخوه لأبويه قد إرتكب مثل هذا العمل القبيح،

مختصر الامثل، ج 2، ص: 475

ونحن نختلف عنهما في النسب.

وحينما سمع يوسف كلامهم تأثر بشدة لكنه كتم ما في نفسه: «فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِى نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ» لأنّه كان عالماً بأنّهم قد افتروا عليه واتّهموه كذباً، إلّاأنّه لم يرد عليهم وقال لهم باختصار وإقتضاب: «قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا». أي: إنّكم أحقر وأشرّ مكاناً ممّن تتّهمونه وتنسبون إليه السرقة، أو أنتم أحقر الناس عندي.

ثم أضاف يوسف: إنّ اللَّه سبحانه وتعالى أعلم بما تنسبون «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ».

وعندما لاحظ الإخوة أنفسهم محاصرين بين أمرين، فمن جهة- وطبقاً للسنّة والدستور المتعيّن عندهم- لابدّ وأن يبقى أخوهم الصغير بنيامين عند عزيز مصر ويقوم بخدمته كسائر عبيده، ومن جهة اخرى فإنّهم قد أعطوا لأبيهم المواثيق والأيمان المغلّظة على أن يحافظوا على أخيهم بنيامين ويعودوا به سالماً إليه، حينما وقعوا في هذه الحالة توجّهوا إلى يوسف الذي كان مجهول الهوية عندهم، مخاطبين إيّاه «قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ» لكي نرجعه إلى أبيه ونكون قد وفينا بالوعد الذي قطعناه له، فإنّه شيخ كبير ولا طاقة له بفراق ولده العزيز، فنرجو منك أن تترحّم

علينا وعلى أبيه ف «إِنَّا نَرَيكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ».

أمّا يوسف فإنّه قد واجه هذا الطلب بالإنكار الشديد و «قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلَّا مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ» فإنّ العدل والإنصاف يقتضي أن يكون المعاقب هو السارق، وليس بريئاً رضي بأن يتحمل أوزار عمل غيره، ولو فعلنا لأمسينا من الظالمين «إِنَّا إِذًا لَّظَالِمُونَ».

والطريف أنّ يوسف لم ينسب لأخيه السرقة وإنّما عبّر عنه ب «مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ» وهذا برهان على السلوك الحسن والسيرة المستقيمة التي كان ينتهجها يوسف في حياته.

فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَ مِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَ هُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَ مَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَ مَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَ اسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَ الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَ إِنَّا لَصَادِقُونَ (82)

مختصر الامثل، ج 2، ص: 476

رجوع الاخوة إلى أبيهم خائبين: حاول الاخوة أن يستنقذوا أخاهم بنيامين بشتّى الطرق، إلّاأنّهم فشلوا في ذلك، ورأوا أنّ جميع سبل النجاة قد سدّت في وجوههم، إستولى عليهم اليأس وصمّموا على الرجوع والعودة إلى كنعان لكي يخبروا أباهم، يقول القرآن واصفاً إيّاهم «فَلَمَّا اسْتَيَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا». أي: إنّهم بعد أن يئسوا من عزيز مصر أو من إنقاذ أخيهم، إبتعدوا عن الآخرين واجتمعوا في جانب وبدأوا بالتشاور والنجوى فيما بينهم.

قوله تعالى «خلصوا»: بمعنى الخلوص، وهو كناية عن الإبتعاد عن الآخرين والاجتماع في جلسة خاصه، أمّا قوله تعالى «نجيّاً»: فهو من مادّة «المناجاة» وأصله من «نجوة» بمعنى الربوة

والأرض المرتفعة، فباعتبار أنّ الربوات منعزلة عن أراضيها المجاورة، سمّيت الجلسات الخاصة البعيدة عن عيون الغرباء والحديث في السر قياساً عليها ب «النجوى».

وفي ذلك الاجتماع الخاص خاطبهم الأخ الكبير قائلًا: «قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ» بأن تردّوا إليه بنيامين سالماً، فالآن بماذا تجيبونه؟ وقد سوّدنا صفحتنا في المرّة السابقة بما عاملنا به أخانا يوسف «وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ» فالآن والحالة هكذا، فإنّني لا اغادر أرض مصر وسوف أعتصم فيها «فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِى أَبِى أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِى وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ». والظاهر أنّ قصده بحكم اللَّه، إمّا الموت الذي هو حكم إلهي، أي لا أبرح من هذه الأرض حتى أموت فيها، وإمّا أن يفتح اللَّه سبحانه وتعالى له سبيلًا للنجاة، أو عذراً مقبولًا عند أبيه.

ثم أمرهم الأخ الأكبر أن يرجعوا إلى أبيهم ويخبروه بما جرى عليهم «ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ». وهذه شهادة نشهدها بمقدار علمنا عن الواقعة حيث سمعنا بفقد صواع الملك، ثمّ عثر عليه عند أخينا، وظهر للجميع إنّه قد سرقها «وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا» ولكن نحن لا نعلم إلّاما شهدناه بأعيننا وهذا غاية معرفتنا «وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ».

ثم أرادوا أن يزيلوا الشك والريبة عن قلب أبيهم فقالوا يمكنك أن تتحقق وتسأل من المدينة التي كنا فيها «وَسَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِى كُنَّا فِيهَا» «1». ومن القافلة التي سافرنا معها إلى مصر

______________________________

(1) «القرية»: يشمل جميع الأرياف والمدن والقرى الصغيرة منها والكبيرة. والمقصود منها في الآية هي مصر.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 477

ورجعنا معها، حيث إنّ فيها اناساً يعرفونك وتعرفهم، وبمقدورك أن تسألهم عن حقيقة الحال وواقعها «وَالْعِيرَ الَّتِى أَقْبَلْنَا فِيهَا»

«1». وفي كل الأحوال كن على ثقة بأنّنا صادقون ولم نقص عليك سوى الحقيقة والواقع «وَإِنَّا لَصَادِقُونَ».

يستفاد من مجموع هذه الكلمات والحوار الذي دار بين الأولاد والأب أنّ قضية سرقة بنيامين كانت قد شاعت في مصر، وأنّ جميع الناس علموا بأنّ أحد أفراد العير والقافلة القادمة من كنعان حاول سرقة صواع الملك، لكن موظفي الملك تمكّنوا بيقظتهم من العثور عليها والقبض على سارقها.

قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَ تَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قَالَ يَا أَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَ ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يعقوب والألطاف الإلهية: وأخيراً غادروا مصر متّجهين إلى كنعان في حين تخلف أخواهم الكبير والصغير، ووصلوا إلى بيتهم منهوكي القوى وذهبوا لمقابلة أبيهم، وحينما رأى الأب الحزن والألم مستولياً على وجوههم (خلافاً للسفرة السابقة والتي كانوا فيها في غاية الفرح) علم أنّهم يحملون إليه أخباراً محزنة وخاصه حينما إفتقد بينهم بنيامين وأخاه الأكبر، وحينما أخبروه عن الواقعة بالتفصيل، إستولى عليه الغضب وقال مخاطباً إيّاهم بنفس العبارة التي خاطبهم بها حينما أرادوا أن يشرحوا له خديعتهم مع يوسف «قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا». أي: إنّ أهواءكم الشيطانية هي التي إستولت عليكم وزيّنت لكم الأمر بهذه الصورة التي أنتم تصفونه.

لكن بعد هذا العتاب الملي ء بالحزن والأسى رجع يعقوب إلى قرارة نفسه وقال: «فَصَبْرٌ

______________________________

(1) «عير»: تعني الجماعة التي تصحب معها الإبل والدواب المحمّلة بالغذاء، أي يطلق على المجموع «عير» فعلى

هذا يكون السؤال منهم ممكناً لأنّ الكلمة تشمل الأشخاص أيضاً ولا حاجة للتقدير.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 478

جَمِيلٌ». أي: أنّني سوف أمسك بزمام نفسي، ولا أسمح لها بأن تطغى عليّ بل أصبر صبراً جميلًا على أمل بأنّ اللَّه سبحانه وتعالى سوف يعيد لي أولادي (يوسف وبنيامين وأخوهم الأكبر) «عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا». فإنّه هو العالم بواقع الامور والخبير بحوادث العالم ما مضى منها وما سوف يأتي، ولا يفعل إلّاعن حكمة وتدبير «إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ». ثم بعد هذه المحاورات بين يعقوب وأولاده، إستولى عليه الحزن والألم، وحينما رأى مكان بنيامين خالياً عادت ذكريات ولده العزيز يوسف إلى ذهنه، وتذكّر تلك الأيام الجميلة التي كان يحتضن فيها ولده الجميل ذا الأخلاق الفاضلة والصفات الحسنة والذكاء العالي فيشمّ رائحته الطيّبة ويستعيد نشاطه، أمّا اليوم فلم يبق منه أثر ولا عن حياته خبر، كما أنّ خليفته (بنيامين) أيضاً قد ابتلي مثل يوسف بحادث مؤلم وذهب إلى مصير مجهول لا تعرف عاقبته.

حينما تذكّر يعقوب هذه الامور إبتعد عن أولاده واستعبر ليوسف «وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ». واشتدّ حزن يعقوب وبكاؤه على المصائب المتكرّرة وفقد أعزّ أولاده «وابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ». لكن يعقوب كان مسيطراً على حزنه ويخفّف من آلامه ويكظم غيظه ولا يتفوّه بما لا يرضى به اللَّه سبحان وتعالى «فَهُوَ كَظِيمٌ».

أمّا الإخوة فكانوا متألّمين من جميع ما جرى لهم، فمن جهة كان عذاب الوجدان لا يتركهم مما أحدثوه ليوسف، وفي قضية بنيامين شاهدوا أنفسهم في وضع صعب وامتحان جديد، ومن جهة ثالثة كان يصعب عليهم أن يشاهدوا أباهم يتجرّع غصص المرارة والألم ويواصل بكاءه الليل بالنهار، فلذلك توجّهوا إلى أبيهم وخاطبوه معاتبين: «قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا

تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ» «1». أي: إنّك تردّد ذكر يوسف وتتأسّف عليه حتى وتقع على فراش المرض وتشرف على الهلاك وتموت.

لكن شيخ كنعان هذا النبي العظيم صاحب الضمير اليقظ ردّ عليهم بقوله: «إِنَّمَا أَشْكُوا بَثّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ» «2». لا إليكم، أنتم الذين تخونون الوعد وتنكثون العهد لأنّني «وَأَعْلَمُ مِنَ

______________________________

(1) «حرض»: بمعنى الشي ء الفاسد والمؤلم، والمقصود منه هنا هو المريض الذي ضعف جسمه وصار مشرفاًعلى الموت.

(2) «بثّ»: بمعنى التفرقة والشي ء الذي لا يمكن اخفاؤه، والمقصود منه هنا هو الألم والحزن الظاهر الذي لايخفى على أحد.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 479

اللَّهِ مَا لَاتَعْلَمُونَ» فهو اللطيف الكريم الذي لا أطلب سواه.

يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ وَ لَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ وَ جِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَ إِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) اليأس علامة الكفر: كان القحط والغلاء وشحّة الطعام يشتدّ يوماً بعد آخر في مصر وما حولها ومنها كنعان، ومرّة اخرى أمر يعقوب أولاده بأن يتّجهوا

صوب مصر للحصول على الطعام، لكنّه هذه المرّة طلب منهم بالدرجة الاولى أن يبحثوا عن يوسف وأخيه بنيامين، حيث قال لهم: «يَا بَنِىَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ».

لكن بما أنّ أولاد يعقوب كانوا مطمئنين إلى هلاك يوسف وعدم بقاءه، تعجّبوا من توصية أبيهم وتأكيده على ذلك، لكن يعقوب نهاهم عن اليأس والقنوط ووصّاهم بالإعتماد على اللَّه سبحانه والإتكال عليه بقوله: «وَلَا تَايَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ». فإنّه القادر على حلّ الصعاب و «إِنَّهُ لَايَايَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ».

«تحسّس»: أصله من «حس» بمعنى البحث عن الشي ء المفقود بأحد الحواس، والفرق بينه وبين «تجسّس» أنّ التحسّس هو البحث عن الخير، والتجسّس هو البحث عن الشر.

قوله تعالى «روح» بمعنى الرحمة والراحة والفرج والخلاص من الشدة.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 480

وأخيراً جمع الاخوة متاعهم وتوجّهوا صوب مصر، وهذه هي المرة الثالثه التي يدخلون فيها أرض مصر، هذه الأرض التي سبّبت لهم المشاكل وجرّت عليهم الويلات. لكن في هذه السفرة- خلافاً للسفرتين السابقتين- كانوا يشعرون بشي ء من الخجل يعذّب ضمائرهم فإنّ سمعتهم عند أهل مصر أو العزيز ملوّثة للوصمة التي لصقت بهم في المرة السابقة، ولعلّهم كانوا يرونهم بمثابة (مجموعة من لصوص كنعان) الذين جاؤوا للسرقة. إلّا أنّ الذي كان يبعث في نفوسهم الأمل ويعطيهم القدرة على تحمل الصعاب هو وصية أبيهم «لَا تَايَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ».

وأخيراً استطاعوا أن يقابلوا يوسف، فخاطبوه- وهم في غاية الشدّة والألم- بقولهم:

«فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ». أي: إنّ القحط والغلاء والشدّة قد ألمّت بنا وبعائلتنا ولم نحمل معنا من كنعان إلّامتاعاً رخيصاً «وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ» «1».

لا قيمة لها ولكن- في كل الأحوال- نعتمد على ما تبذل لنا من كرمك

ونأمل في معروفك «فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ» بمنّك الكريم وصدقاتك الوافرة «وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا» ولا تطلب منّا الأجر، بل اطلبه من اللَّه سبحانه وتعالى حيث: «إِنَّ اللَّهَ يَجْزِى الْمُتَصَدِّقِينَ».

والطريف أنّ إخوة يوسف لم ينفذوا وصيّة أبيهم في البحث عن إخوتهم أوّلًا، بل حاولوا الحصول على الطعام، ولأجل ذلك قابلوا العزيز وطلبوا منه المؤن والحبوب، ولعل السبب في ذلك ضعف أملهم في العثور على يوسف، أو لعلّهم أرادوا أن يظهروا أنفسهم أمام العزيز والمصريين وكأنّهم اناس جاؤوا لشراء الطعام والحبوب فقط، ثمّ يطرحون مشكلتهم أمام العزيز ويطلبون منه المساعدة، فعند ذاك يكون وقع الطلب أقوى واحتمال تنفيذه أكثر.

ونقرأ في روايات وردت في هذا المقام، أنّ الإخوة كانوا يحملون معهم رسالة من أبيهم إلى عزيز مصر، حيث مدح يعقوب في تلك الرسالة عزيز مصر وأكبر عدالته وصلاحه وشكره على ما بذله له ولعائلته من الطعام والحبوب، ثم عرّف نفسه والأنبياء من أهل بيته وأخبره برزاياه وما تحمله من المصائب والمصاعب من فقده أعزّ أولاده وأحبّهم إلى نفسه يوسف وأخيه بنيامين، وما أصابهم من القحط والغلاء، وفي ختام الرسالة طلب من العزيز أن يمنّ عليه ويطلق سراح ولده بنيامين، وذكّره أنّ بنيامين سليل بيت النبوة والرسالة وأنّه

______________________________

(1) «البضاعة»: أصلها «البضع» على وزن جزء، وهي بمعنى القطعة من اللحم المقطوعة من الجسم، كما يطلق على جزء من المال الذي يقتطع منه ثمناً لشي ء. «مزجاة»: من «الإزجاء» بمعنى الدفع، وبما أنّ الشي ء التافه والقليل الثمن يدفعه الآخذ عن نفسه، اطلق عليه (مزجاة).

مختصر الامثل، ج 2، ص: 481

لا يتلوّث بالسرقة وغيرها من الدناءات والمعاصي.

وحينما قدّم الأولاد رسالة أبيهم إلى العزيز شاهدوا أنّه فضّ الرسالة بإحترام وقبلها ووضعها على عينيه وبدأ يبكي بحيث أنّ الدموع

بلّت ثيابه.

وفي تلك اللحظة، وبعد أن مضت أيّام الامتحان الصعب وكان قد إشتدت محنة الفراق على يوسف وظهرت عليه آثار الكآبة والهمّ، أراد أن يعرّف نفسه لإخوته فابتدرهم بقوله:

«هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ اِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ».

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ يوسف حينما استفسر عمّا فعلوه معه ومع أخيه ختم إستفساره بإبتسامة عريضة ليدفع عن أذهانهم احتمال أنّه سوف ينتقم منهم فظهرت لإخوته أسنانه الجميلة ولاحظوا وتذكّروا الشبه بينه وبين أسنان أخيهم يوسف.

أمّا هم، فإنّهم حينما لاحظوا هذه الامور مجتمعة، وشاهدوا أنّ العزيز يتحدّث معهم ويستفسرهم عمّا فعلوه بيوسف، تلك الأعمال التي لم يكن يعلمها أحد غيرهم إلّايوسف.

ومن جهة اخرى أدهشهم يوسف وما أصابه من الوجد والهياج حينما إستلم كتاب يعقوب، وأحسّوا بعلاقة وثيقة بينه وبين صاحب الرسالة.

وثالثاً: كلّما أمعنوا النظر في وجه العزيز ودقّقوا في ملامحه، لاحظوا الشبه الكبير بينه وبين أخيهم يوسف ... لكنهم في نفس الوقت لم يدر بخلدهم ولم يتصوروا أنّه يمكن أن يكون أخوهم يوسف قد إرتقى منصب الوزارة وصار عزيزاً لمصر، أين يوسف وأين الوزارة والعزّة؟! لكنهم تجرّأوا أخيراً وسألوه مستفسرين منه «قَالُوا أَءِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ».

كانت اللحظات تمرّ بسرعة لكن يوسف لم يدع اخوته يطول بهم الإنتظار ورفع الحجاب بينه وبينهم وأظهر لهم حقيقة نفسه و «قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِى». لكن لكي يشكر اللَّه سبحانه وتعالى على ما أنعمه من جميع هذه المواهب والنعم، ولكي يعلّم إخوته درساً آخر من دروس المعرفة قال: إنّه «قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَايُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ».

هذه اللحظات الحساسة كانوا لا يطيقون النظر إلى وجه أخيهم يوسف لعلمهم بالذنب والجريمة التي اقترفوها في حقه، فترقّبوا إجابة يوسف وأنّه

هل يغفر لهم إساءتهم إليه ويعفو

مختصر الامثل، ج 2، ص: 482

عن جريمتهم أم لا؟ فابتدأوا مستفسرين بقولهم: «قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ ءَاثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا» «1». أي:

إنّ اللَّه سبحانه وتعالى قد فضّلك علينا بالعلم والحلم والحكومة «وَإِن كُنَّا لَخَاطِينَ». أمّا يوسف الذي كانت نفسه تأبى أن يرى إخوته في حال الخجل والندامة- خاصه في هذه اللحظات الحساسة وبعد إنتصاره عليهم، فخاطبهم بقوله: «قَالَ لَاتَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ» «2». أي: إنّ العتاب والعقاب مرفوع عنكم اليوم، اطمئنوا وكونوا مرتاحي الضمير ولا تجعلوا للآلام والمصائب السابقة منفذاً إلى نفوسكم، ثم لكي يبيّن لهم أنّه ليس وحده الذي أسقط حقّه وعفا عنهم، بل إنّ اللَّه سبحانه وتعالى أيضاً عفا عنهم حينما أظهروا الندامة والخجل قال لهم: «يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ». أي: إنّ اللَّه سبحانه وتعالى قد قبل توبتكم وعفا عنكم لأنّه أرحم الراحمين.

وهذا دليل على علو قدر يوسف وغاية فضله حيث إنّه لم يعف عن سيّئات إخوته فحسب، بل طمأنهم على أنّ اللَّه سبحانه وتعالى رحيم غفور وأنّه تعالى سوف يعفو عن سيئاتهم، وإستدلّ لهم على ذلك بأنّ اللَّه سبحانه وتعالى هو أرحم الراحمين.

وهنا تذكّر الإخوة مصيبة اخرى قد ألمّت بعائلتهم والشاهد الحي على ما إقترفوه في حقّ أخيهم، ألا وهو أبوهم حيث فقد الشيخ الكبير بصره حزناً وفراقاً على يوسف، أمّا يوسف فإنّه قد وجد لهذه المشكلة حلًا حيث خاطبهم بقوله: «اذْهَبُوا بِقَمِيصِى هذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا». ثمّ طلب منهم أن يجمعوا العائلة ويأتوا بهم جميعاً «وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ».

ورد في بعض الروايات أنّ يوسف قال: إنّ الذي يحمل قميصي المشافي إلى أبي لابدّ وأن يكون هو نفسه الذي حمل قميصي الملطّخ بالدماء إليه، فأعطى ل (يهودا)

قميصه بعد أن اعترف له أنّه هو الذي حمل قميصه الملطّخ بالدماء إلى أبيه وأخبره بأنّ الذئب قد أكل يوسف.

إنّ الآيات السابقة تعلّمنا درساً من دروس الأخلاق الإسلامية، وهو أنّه بعد الإنتصار

______________________________

(1) «آثرك»: أصله من «الإيثار» وفي الأصل بمعنى البحث عن أثر الشي ء، وبما أنّه يقال للفضل والخير: أثر، فقد استعملت هذه الكلمة للدلالة على الفضيلة والعلو.

(2) «تثريب»: أصله من مادّة «ثرب 9 وهو شحمة رقيقة تغطّي المعدة والأمعاء، والتثريب بمعنى رفع هذاالغطاء، ثمّ بمعنى العتاب والملامة فكأنّ المعاقب قد رفع بعتابه غطاء الذنب عن وجه المذنب.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 483

وَ لَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) على العدو وكسر شوكته لابدّ أن لا ننسى العفو والرحمة، وأن لا نعامله بقساوة.

كما أنّنا نرى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حينما فتح مكّة وأذلّ المشركين وهزمهم وكسر أصنامهم وداس شوكتهم وكبرياءهم، جاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى جوار الكعبة وأخذ بحلقة بابها وكان المشركون قد إلتجؤوا إليها، قال: «وأنا أقول كما قال أخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم».

أي: إنّ اليوم ليس يوم ملامة وإنتقام وإظهار الحقد والضغينة «اذهبوا فأنتم الطلقاء».

وأخيراً شملتهم رعاية اللَّه ولطفه: أمّا أولاد يعقوب فإنّهم بعد أن واجهوا يوسف وجرى لهم ما جرى حملوا معهم قميص يوسف فرحين ومستبشرين وتوجّهوا مع القوافل

القادمة من مصر، لكن- مقارناً مع حركة القافلة من مصر- حدث في بيت يعقوب حادث غريب بحيث أذهل الجميع وصار مثاراً للعجب والحيرة، حيث نشط يعقوب وتحرّك من مكانه وتحدّث كالمطمئن والواثق بكلامه قال: لو لم تتحدّثوا عنّي بسوء ولم تنسبوا كلامي إلى السفاهة والجهل والكذب لقلت لكم: «إِنّى لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ». فإنّي أحسّ بأنّ أيّام المحنة والآلام سوف تنصرم في القريب العاجل، وأنّه قد حان وقت النصر واللقاء مع الحبيب، وأرى أنّ آل يعقوب قد نزعوا ثوب العزاء والمصيبة ولبسوا لباس الفرح والسرور لكن لا تصدّقون كلامي «وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنّى لَاجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَن تُفَنِّدُونِ».

أمّا الذين كانوا مع يعقوب- وهم عادةً أحفاده وأزواج أولاده وغيرهم من الأهل والعشيرة- فقد إستولى عليهم العجب وخاطبوه بوقاحة مستنكرين: «قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِى ضَللِكَ الْقَدِيمِ». أليس هذا برهاناً واضحاً على ضلالك حيث مضت سنين طويلة على موت يوسف لكنّك لا زلت تزعم أنّه حي، وأخيراً تقول: إنّك تشمّ رائحته من مصر؟! أين مصر وأين الشام وكنعان؟! وهذا دليل على بعدك عن عالم الواقع وإنغماسك في الأوهام

مختصر الامثل، ج 2، ص: 484

والخيالات لكنّك قد ضللت منذ مدّة طويلة، ألم تقل لأولادك قبل فترة اذهبوا إلى مصر وتحسّسوا عن أحوال يوسف!

يظهر من هذه الآية الشريفة أنّ المقصود ب (الضلال) ليس الانحراف في العقيدة، بل الانحراف في تشخيص حقيقة حال يوسف والقضايا المتعلّقة به. وبعد عدّة أيام من الإنتظار- والتي لا يعلم إلّااللَّه كيف قضاها يعقوب- إرتفع صوت المنادي معلناً عن وصول قافلة كنعان من مصر، لكن في هذه المرّة- وخلافاً للمرّات السابقة- دخل أولاد يعقوب إلى المدينة فرحين مستبشرين، وتوجّهوا مسرعين إلى بيت أبيهم، وقد سبقهم

ال (بشير) الذي بشّر يعقوب بحياة يوسف وألقى قميص يوسف على وجهه.

أمّا يعقوب الذي أضعفت المصائب بصره ولم يكن قادراً على رؤية القميص فبمجرد أن أحسّ بالرائحة المنبعثة من القميص، وأحسّ يعقوب بتغيّر حالته، وفجأةً رأى النور في عينيه وأحسّ بأنّهما قد فتحتا ومرّة اخرى رأى جمال العالم، والقرآن الكريم يصف لنا هذه الحالة بقوله: «فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا».

هذه الحالة التي حصلت ليعقوب أسالت دموع الفرح من عيون الإخوة والأهل، وعند ذاك خاطبهم بقوله: «أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنّى أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَاتَعْلَمُونَ».

هذه المعجزة الغريبة، جعلت الأولاد يعودون إلى أنفسهم ويتساءلون عنها ويفكّرون في ماضيهم الأسود الملي ء بالأخطاء والذنوب، وما اعتورهم من الحسد وغيره من الصفات الرذيلة البعيدة عن الإنسانية، لكن ما أجمل التوبة والعودة إلى طريق الصواب حينما ينكشف للإنسان خطأ المسيرة التي سار فيها ... وما أحلى تلك اللحظات التي يحاول المذنب أن يطلب العفو ممّن جنى عليه، ليطهّر به نفسه ويبعدها عن جادة الخطأ والانحراف، وهذا ما قام به الإخوة حيث وقعوا نادمين على يد أبيهم يقبّلونها ويطلبون منه العفو والاستغفار «قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِينَ».

أمّا يعقوب هذا الرجل العظيم الذي كانت روحه أوسع من المحيطات، فقد أجابهم دون أن يلومهم على تلك الأفعال التي اقترفوها في حقّه وحقّ أخيهم ... أجابهم بقوله: «سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى» وأملي معقود بأن يغفر اللَّه سبحانه وتعالى ذنوبكم «إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الْرَّحِيمُ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 485

بحوث

1- الوعد بالاستغفار: نقرأ في الآيات- محل البحث- أنّ يوسف عليه السلام قال لإخوته عندما أظهروا له ندامتهم: «يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ» إلّاأنّ يعقوب عليه السلام قال لهم عندما اعترفوا عنده

بالذنب وأظهروا الندامة: «سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ» وكان هدفه- كما تقول الرّوايات- أن يؤخّر إستجابة طلبهم الاستغفار إلى السحر (من ليلة الجمعة) الذي هو خير وقت لإستجابة الدعاء وقبول التوبة.

2- التوسل جائز: يستفاد من الآيات- آنفة الذكر- أنّ طلب الاستغفار من الآخرين غير مناف للتوحيد، بل هو سبيل إلى الوصول إلى لطف اللَّه سبحانه، وإلّا فكيف كان يمكن ليعقوب أن يستجيب لطلب أبنائه في أن يستغفر لهم وأن يجيبهم بالإيجاب على توسلهم به.

3- نهاية الليلة السوداء: إنّ الدرس الكبير الذي نستلهمه من الآيات المتقدمة هو أنّه مهما كانت المشاكل والحوادث صعبة وعسيرة، ومهما كانت الأسباب والعلل الظاهرية غير تامة ومحدودة، ومهما كان النصر أو الفرج بطيئاً (أو غير متحقق فعلًا) فإنّ أيّاً من اولئك لا يمنع من الرجاء والأمل بلطف اللَّه، فاللَّه الذي أعاد البصر برائحة القميص ونقل رائحة ذلك القميص من مسافة بعيدة، وردّ العزيز المفتقد بعد سنين طويلة، قادر على أن يضمّد القلوب المجروحة من الفراق، وأن يشفي آلام النفوس.

أجل إنّنا نجد الدرس التوحيدي الكبير ينطوي في هذا القصص والتاريخ، وهو أنّه لا شي ء على اللَّه بعزيز ولا عسير، بل يهون كل شي ء بأمره وإرادته: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيًا أَن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ».

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَ قَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَ قَالَ يَا أَبَتِ هذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَ جَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)

رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)

مختصر الامثل، ج 2، ص: 486

عاقبة أمر يوسف وأبيه وإخوته: مع وصول القافلة التي تحمل أعظم بشارة من مصر إلى كنعان ينبغي على أهل هذا البيت- وفقاً لوصية يوسف- أن يتحرّكوا ويتّجهوا نحو مصر، وتهيأت مقدمات السفر من جميع النواحي، وركب يعقوب راحلته وشفتاه رطبتان بذكر اللَّه وتمجيده.

وهذا السفر كان خالياً من أيّة شائبة من شوائب الهمّ والغم. وحتى لو كان السفر بنفسه متعباً، فهذا التعب لم يكن شيئاً ذا بال قِبال ما يهدفون إليه في مسيرهم هذا.

كانوا يطوون الليالي والأيّام ببطء، إلّاأنّ القرآن الكريم- كعادته دائماً- حذف هذه المقدمات التي يمكن أن تدرك بأدنى تفكر وتأمل، فقال في هذا الشأن: «فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ ءَاوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ».

«آوى»: تعني في الأصل إنضمام شي ء إلى شي ء آخر، وضمّ يوسف أبويه إليه كناية عن إحتضانهما ومعانقتهما.

وأخيراً تحقّقت أحلى سويعات الحياة ليعقوب، وفي هذا اللقاء والوصال الذي تم بين يعقوب ويوسف بعد سنين من الفراق، مرّت على يعقوب ويوسف لحظات لا يعلم إلّااللَّه عواطفها في تلك اللحظات الحلوة، وأيّة دموع إنسكبت من عينيهما من الفرح.

وعندها التفت يوسف إلى إخوته وأبويه «وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ» لأنّ مصر أصبحت تحت حكم يوسف في أمن وأمان واطمئنان.

ويُستشفّ من هذه الجملة أنّ يوسف كان قد خرج إلى خارج بوّابة المدينة لإستقبال والديه وإخوته، ولعل التعبير ب «دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ» يحتمل أن يكون يوسف قد أمر أن تنصب الخيام هناك «خارج المدينة» وأن تُهيأ مقدّمات الإستقبال لأبويه وإخوته.

فلمّا دخلوا القصر أكرمهم يوسف «وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ».

وكانت

هذه العظمة من النعمة الإلهية واللطف والموهبة التي منّ اللَّه بها على يوسف قد أدهشت إخوة يوسف وأبويه فذهلوا جميعاً «وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا».

وعندها إلتفت يوسف عليه السلام إلى أبيه «وَقَالَ يَا أَبَتِ هذَا تَأْوِيلُ رُءْيىَ مِن قَبْلُ».

ألم يقل أنّي رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين؟!

فانظر يا أبت كما كنت تتوقّع من عاقبة أمري «قَدْ جَعَلَهَا رَبّى حَقًّا* وَقَدْ أَحْسَنَ بِى إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السّجْنِ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 487

الطريف هنا أنّ يوسف تكلّم هنا عن سجنه في مصر من بين جميع مشاكله ولم يتكلّم على الجبّ مراعاةً لإخوته.

ثم أضاف يوسف قائلًا: «وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطنُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى».

وأخيراً يقول يوسف: إنّ جميع هذه المواهب هي من قِبَل اللَّه، ولِمَ لا تكون كذلك ف «إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاءُ».

فيتولّى امور عباده بالتيسير والتدبير ... وهو يعلم من هو المحتاج ومن هو الجدير بالإستجابة «إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ».

ثمّ يلتفت يوسف نحو مالك الملك الحقيقي وولي النعمة الدائمة فيقول شاكراً راجياً: «رَبّ قَدْ ءَاتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ».

وهذا العلم البسيط بحسب الظاهر «تأويل الأحاديث» كم كان له من أثر عظيم في تغيير حياتي وحياة جماعة آخرين من عبادك، وما أعظم بركة العلم!

فأنت ياربّ: «فَاطِرَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ». ولذلك فقد خضعت وإستسلمت قبال قدرتك جميع الأشياء.

ربّاه: «أَنتَ وَلِىّ فِى الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ».

أي: إنّني لا أطلب دوام الملك وبقاء الحكم والحياة المادية منك يا ربّ، لأنّ هذه الامور جميعها فانية وليس فيها سوى البريق الجذاب. بل أطلب منك يا ربّ أن تكون عاقبة أمري على خير، وأن أقضي حياتي وأموت مؤمناً في سبيلك مسلّماً لإرادتك، وأن أكون في صفوف

الصالحين، فهذه الامور هي المهمة لدي فحسب.

ذلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ مَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَ مَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَ مَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَ هُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَ مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَ فَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَ هُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)

مختصر الامثل، ج 2، ص: 488

الأدعياء مشركون غالباً: بعد ما انتهت قصة يوسف عليه السلام بكل دروسها التربوية ونتائجها الغزيرة والقيّمة والخالية من جزاف القول والخرافات التاريخية ... إنتقل الكلام إلى النبي صلى الله عليه و آله حيث يقول القرآن الكريم: «ذلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ». فالوحي الإلهي فقط هو الذي جاءك بهذه الأخبار.

وكان لزاماً على الناس أن يؤمنوا بعد مشاهدتهم لعلائم الوحي وسماعهم لهذه النصائح الإلهية، وأن يتراجعوا عن طريق الغيّ، ولكن يا أيها النبي: «وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ».

إنّ الوصف ب (الحرص) هنا دليل على شوق ولهفة النبي صلى الله عليه و آله لأن يؤمن الناس.

وهذه الآية بالإضافة إلى ما ذكرنا هي تسليةً لقلب النبي صلى الله عليه و آله حتى لا ييأس أبداً من إصرارهم على الكفر والذنوب، كما نقرأ في الآية (6) من سورة الكهف: «فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ءَاثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثُ أَسَفًا». وقوله تعالى: «وَمَا تَسَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ».

فهؤلاء في الواقع ليس لهم أي عذر أو مبرّر لعدم قبول الدعوة بالإضافة إلى ما اتّضح من

علامات الحق أنّك لم تسألهم أجراً حتى يكون مبرّراً لمخالفتك: «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ».

وهذه الدعوة عامة للجميع، ومائدة واسعة للعام والخاص وكل البشرية.

«وَكَأَيِّن مِّنْ ءَايَةٍ فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ». فهذه الدلائل يرونها بأعينهم كل يوم.

إنّ أسرار هذا النظام العجيب وهذا الشروق والغروب وحياة النباتات والحشرات والإنسان، وهدير المياه، وحركة النسيم، وكل هذا الفن العجيب للوجود هو من الوضوح بحيث إن لم يتدبّر أحد فيه وفي خالقه سيكون كالخشبة المسنّدة.

ولهذا فلا تعجب لعدم إيمانهم بالآيات المنزلة عليك، لأنّهم لم يؤمنوا بالآيات المحيطة بهم من كل مكان «وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُّشْرِكُونَ».

قد يتصور هؤلاء أنّهم من المؤمنين المخلصين ولكن غالباً ما توجد جذور الشرك في أفكارهم وأقوالهم وضمائرهم.

فالمؤمن المخلص هو الذي لا يعتقد بأيّ معبود سوى اللَّه، فتكون أقواله وأعماله وكل أفعاله خاضعة له. ولا يعترف بغير قانون اللَّه.

وفي آخر آية يحذّر القرآن الكريم اولئك الذين لم يؤمنوا بعد ويمرّوا على الآيات الواضحة

مختصر الامثل، ج 2، ص: 489

مرّ الكرام ويشركون في أعمالهم حيث يقول: «أَفَأَمِنُوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَايَشْعُرُونَ».

«الساعة»: القيامة، وقد وردت بهذا المعنى في كثير من الآيات.

أصدق الدروس والعبر: في الآية الاولى من هذه المجموعة يتلقّى النبي صلى الله عليه و آله الأوامر لتحديد الطريق والمنهج الذي يتّبعه، فيقول القرآن الكريم: «قُلْ هذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللَّهِ».

ثم يضيف: «عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى».

وهذه الجملة توضّح أنّ كل فرد مسلم مقتدٍ بالرسول صلى الله عليه و آله له نفس الدور في الدعوة إلى الحق، ولابدّ من دعوة الآخرين إلى اللَّه، من خلال، الأقوال والأفعال وكذلك تؤكّد هذه الجملة على أنّ القائد يجب أن

تكون له بصيرة ومعرفة كافية، وإلّا فإنّ دعوته ليست إلى الحق، وللتأكيد على ذلك يضيف القرآن الكريم: «وَسُبْحنَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ».

إنّ وقوع هذه الآية بعد الآيات المتعلقة بيوسف تشير إلى أنّ طريقة ومنهج النبي لا يختلفان عن طريقة ومنهج يوسف النبي، فهو كان يدعو إلى «اللَّه الواحد القهار» حتى في زوايا السجن، أمّا غيره فكان يدعو إلى أسماء انتقلت إليه بسبب التقليد من جاهل إلى جاهل آخر، أمّا سيرة الأنبياء والرسل كلها واحدة.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 490

وبما أنّ الأقوام الضالة والجاهلة كانت دائماً تثير هذا الإعتراض على الأنبياء وهو أنّكم بشر؟! ولماذا لا تُكلّف الملائكة لهذا الأمر؟ وبما أنّ الناس في الجاهلية كانوا يثيرون نفس الإعتراض بالنسبة إلى الرسول صلى الله عليه و آله ودعوته العامة، فإنّ القرآن الكريم يجيب مرّة ثانية على هذا الإعتراض فيقول: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِى إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى . هؤلاء الرسل هم كباقي الناس يعيشون في المدن والقرى، ويتجوّلون بين الناس ويشعرون بآلامهم وإحتياجاتهم ومشاكلهم. فالوصف هنا ب «مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى تشير إلى أنّ أنبياء اللَّه لم ينهضوا من بين سكنة الصحراء لأنّ سكّان البادية يتّصفون بالجهل وعدم المعرفة وقلوبهم قاسية ويمتازون بقلّة معلوماتهم عن الحياة ومتطلباتها.

ولكن الرسول من أهل مكة التي تعتبر مدينة كبيرة نسبيّاً.

ثم يبيّن القرآن الكريم: إذا ما أراد هؤلاء أن يعلموا عاقبة مخالفتهم لدعوتك التي هي الدعوة إلى اللَّه فإنّ عليهم أن يسيروا ليروا آثار السابقين: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ».

إنّ السير والتجوال في الأرض لمشاهدة آثار الماضين وخراب دورهم ومدنهم بسبب العذاب الإلهي، أفضل درس لهم، درس حي وملموس للجميع، «وَلَدَارُ الْأَخِرَةِ خَيْرٌ

لّلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ». لماذا؟ لأنّ الدنيا دار مليئة بالمصائب والآلام وغير باقية، أمّا الآخرة فدار خالدة وخالية من الآلام والعذاب.

«حَتَّى إِذَا اسْتَيَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّىَ مَن نَّشَاءُ».

تشير هذه الآية إلى أدقّ وأصعب لحظة في حياة الأنبياء فتقول: إنّ الأنبياء يواجهون دائماً مقاومة عنيفة من قبل أقوامهم وطواغيت زمانهم حتى يصل الحال بالأنبياء إلى اليأس إلى حدّ يظنّون أنّ أتباعهم المؤمنين القليلين قد كذبوا عليهم وتركوهم وحدهم في مسيرتهم في الدعوة إلى الحقّ، وفي هذه الأثناء حيث إنقطع أملهم في كل شي ء أتاهم نصرنا، وفي نهايتها تشير إلى عاقبة المجرمين «وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ».

فهذه سنّة اللَّه في الذين أصرّوا على أعمالهم وأغلقوا باب الهداية على أنفسهم، فهم وبعد إتمام الحجة عليهم ينالهم العذاب الإلهي فلا تستطيع أي قوة أن تردّه.

و آخر آية من هذه السورة ذات محتوى شامل وجامع لكل الأبحاث التي ذكرناها في هذه

مختصر الامثل، ج 2، ص: 491

السورة، وهي: «لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِى الْأَلْبَابِ».

فهي مرآة يستطيعون من خلالها أن يروا عوامل النصر والهزيمة، الهناء والحرمان، السعادة والشقاء، العزّ والذلة، والخلاصة كل ما له قيمة في حياة الإنسان وما ليس له قيمة.

وهي مرآة لكل تجارب المجتمعات السابقة والرجال العظام، ومرآة نشاهد فيها ذلك العمر القصير للإنسان كيف يطول بمقدار عمر كل البشر. ولكن اولي الألباب وذوي البصائر فقط باستطاعتهم أن يشاهدوا العبر في صفحة المرآة العجيبة هذه: «مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ».

فهذه الآيات التي أنزلناها عليك والتي أزاحت الستار عن التاريخ الصحيح للُامم السابقة ليست من العلم البشري الذي يمكن معرفته عن العلماء، بل إنّ الكتب السماوية السابقة تشهد على ذلك

وتصدّقه وتؤيّده وبالإضافة إلى ذلك ففي هذه الآيات كل ما يحتاجه الإنسان في تأمين سعادته وتكامله: «وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْ ءٍ».

ولهذا السبب فهي «هُدَىً وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».

«نهاية تفسير سورة يوسف»

مختصر الامثل، ج 2، ص: 493

13. سورة الرعد

محتوى السورة: كما قلنا سابقاً، بما أنّ السور المكية كان نزولها في بداية دعوة النبي صلى الله عليه و آله وأثناء محاربته للمشركين، فإنّها غالباً ما كانت تتحدّث عن المسائل العقائدية وخصوصاً الدعوة إلى التوحيد والمعاد ومحاربة الشرك، في الوقت الذي نرى فيه أنّ السور المدنية نزلت بعد إنتشار الإسلام وقيام الحكومة الإسلامية، فقد تناولت الأحكام والمسائل المتعلقة بالنظام الاجتماعي واحتياجات المجتمع.

فهذه السورة (سورة الرعد) التي هي من السور المكية لها نفس الخصائص السابقة، فبعد ما تشير إلى أحقّية القرآن وعظمته، تتطرّق إلى آيات التوحيد وأسرار الكون التي هي من دلائل ذات اللَّه المقدسة.

ثم تتطرّق إلى المعاد وبعث الإنسان من جديد ومحكمة العدل الإلهي، وهذه المجموعة من اصول المبدأ والمعاد تبيّن مسؤولية ووظائف الناس.

ثم لمعرفة الحق من الباطل، الأمثال الحيّة والقابلة للإدراك.

ومن هنا فالحصيلة النهائية للإيمان بالتوحيد والمعاد هي تلك التطبيقات العملية والحيّة لها، فالقرآن في هذه السورة يدعو الناس إلى الوفاء بالعهد وصلة الأرحام والصبر والاستقامة والإنفاق في السر والعلانية والنهي عن الإنتقام، ويوضّح لهم أنّ الدنيا فانية،

مختصر الامثل، ج 2، ص: 494

والطمأنينة والراحة لا تحصلان إلّافي ظل الإيمان باللَّه.

وفي النهاية يأخذ بأيدي الناس ويغور بهم في أعماق التاريخ، ويريهم العواقب السيئة للذين طغوا وعصوا وأبعدوا الناس عن الحق، ويختم السورة بتهديد الكفار.

إذن فالسورة تبتدى ء بالعقائد والإيمان وتنتهي بالبرامج التربوية للإنسان.

المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ

عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَ هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَ أَنْهَاراً وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَ جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَ غَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) آيات اللَّه في السماء والأرض وعالم النبات: مرّة اخرى نواجه الحروف المقطعة في بداية هذه السورة، تنفرد عن غيرها من السور ب «المر». فمن المحتمل أنّ هذا التركيب في بداية سورة الرعد يشير إلى جمعها لمحتوى مجموعتين من السور التي تبتدى ء ب «الم» و «الر».

فالآية الاولى من هذه السورة تتحدّث عن عظمة القرآن «تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ الْحَقُّ». ولا يوجد أي شك أو ترديد في هذه الآيات، لأنّها تبيّن عين الحقيقة للكون ونظامه المرتبط بالإنسان، فهو حقّ لا يشوبه باطل، ولهذا السبب فإنّ علائم الحق واضحة فيه لا تحتاج إلى براهين «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايُؤْمِنُونَ».

ثم تتطرّق السورة إلى شرح القسم المهم من أدلة التوحيد وآيات اللَّه في الكون، وتتجوّل بالإنسان في عرض السماوات وتريه الكواكب العظيمة وأسرار هذا النظام وحركته، حتى يؤمن بالقدرة المطلقة والحكمة اللامتناهية «اللَّهُ الَّذِى رَفَعَ السَّموَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 495

إنّ هذه الآية تكشف عن حقيقة علمية لم تكن معروفة عند نزول الآيات الكريمة، لأنّه في ذاك الوقت كانت نظرية «بطليموس» في الهيئة تتحكّم في المحافل العلمية في

العالم وعلى أفكار الناس وطبقاً لهذه النظرية فإنّ السماوات عبارة عن أجرام متداخلة تشبه قشور البصل وإنّها لم تكن معلقة وبدون عمد بل كل واحدة منها تستند إلى الاخرى.

ولكن بعد نزول هذه الآيات بألف سنة تقريباً توصل علم الإنسان إلى أنّ هذه الفكرة غير صحيحة، فالحقيقة أنّ الأجرام السماوية لها مقرّ ومدار ثابت، ولا تستند إلى شي ء، فالشي ء الوحيد الذي يجعلها مستقرة وثابتة في مكانها هو تعادل قوة التجاذب والتنافر، فالاولى تربط الأجرام فيما بينها، والاخرى لها علاقة بحركتها.

هذا التعادل للقوّتين الذي يشكّل أعمدة غير مرئية يحفظ الأجرام السماوية ويجعلها مستقرة في مكانها.

«ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ». في خصوص معنى العرش والإستواء عليه هناك شرح وافٍ عنه في ذيل الآية (54) من سورة الأعراف.

وبعد أن بيّن خلق السماوات وهيمنة الخالق عليها، تحدّث عن تسخير الشمس والقمر «وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ».

ولكن هذا النظام المادي ليس أبدياً، بل «كُلٌّ يَجْرِى لِأَجَلٍ مُّسَمًّى».

ثم يضيف بعد ذلك: إنّ هذه الحركات والتغيّرات في الأحوال ليست بدون حساب وكتاب، وبدون فائدة ونتيجة، بل «يُدَبّرُ الْأَمْرَ يُفَصّلُ الْأَيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبّكُمْ تُوقِنُونَ».

وتعقيباً للآيات السابقة التي نقلت الإنسان إلى السماء تنقله الآية الثانية من آيات التوحيد إلى كتاب الكون أي الأرض والجبال والأنهار وأنواع الثمار وشروق الشمس وغروبها. قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الْأَرْضَ» وبسطها بالشكل الذي تتهيّأ فيه لحياة الإنسان ونمو النباتات والحيوانات.

ثم يشير القرآن الكريم إلى ظهور الجبال «وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ». فهي تلك الجبال التي عبّرت عنها في آيات اخرى ب (الأوتاد) ولعلّ ذلك إشارة إلى أنّها متشابكة فيما بينها من الأسفل مثلها مثل الدرع الواقي وتغطّي سطح الأرض، فهي تبطل الضغوط الداخلية في الأسفل والضغط الخارجي المتمثّل بجاذبية القمر والمدّ والجزر، وكذلك

تقضي على الاضطرابات والزلازل، وتجعل الأرض مستقرّة وساكنة وصالحة لحياة الإنسان.

ثم تضيف الآية بعد ذلك الأنهار: «وَأَنْهَارًا».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 496

رائع جدّاً نظام سقي الأرض بواسطة الجبال، وعلاقة الأنهار بالجبال، لأنّ كثيراً من الجبال تختزن المياه بشكل ثلوج على قممها وفي شقوق الوديان، ثم تذوب تدريجياً، وطبقاً لقانون الجاذبية تأخذ طريقها من المناطق المرتفعة إلى المناطق المنخفضة بدون أن تحتاج إلى قوّة اخرى لمساعدتها. ثم يذكر القرآن بعد ذلك النباتات والأشجار التي تتكوّن من الأرض والمياه وأشعة الشمس، والتي هي أفضل وسيلة لإمرار الإنسان بالغذاء: «وَمِن كُلّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ».

والآية تشير هنا إلى أنّ الفاكهة كائنات حيّة فيها الذكر والانثى، وبواسطة التلقيح تتكوّن الثمار.

فإذا كان العالم السويدي «لينه» المختص بعلم النبات هو الذي توصّل إلى هذه الحقيقة في حوالي منتصف القرن الثامن عشر الميلادي وهي أنّ التزويج في عالم النباتات يعتبر قانوناً عاماً فالقرآن الكريم قبل ألف واربعمائة عام من ذلك كشف لنا عن هذه الحقيقة وهذه واحدة من معاجز القرآن العلمية التي تبيّن عظمة هذا الكتاب السماوي الكبير.

وبما أنّ حياة الإنسان وكل الكائنات- وخصوصاً النباتات- لا يمكن لها الإستمرار إلّا بوجود نظام دقيق لليل والنهار، فإنّ القرآن يشير إلى ذلك في القسم الآخر من الآية «يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ». ولولا ظلمة الليل وهدوؤه، لأحرقت الشمس بنورها المستمر كل النباتات، ولم تبق فاكهةً ولا أي كائن حي على وجه الأرض.

وتبيّن الآية في النهاية: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».

وفي الآية الأخيرة من هذه المجموعة يشير القرآن الكريم إلى عدّة نقاط حول علم الأرض وعلم النبات، والتي تعبّر عن النظام الدقيق للخلقة، يقول أوّلًا: «وَفِى الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ».

قوله تعالى: «وَجَنَّاتٌ مّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ

وَغَيْرُ صِنْوَانٍ» «1».

«صنوان»: جمع «صنو» تعني الأغصان المختلفة الخارجة من أصل الشجرة.

وهذه قد تشير إلى قابلية الأشجار للتركيب. ففي بعض الأحيان يتمّ تركيب عدة أغصان مختلفة على ساق واحدة، وبعد نمو هذه التراكيب تعطي كل واحدة منها نوعاً خاصاً

______________________________

(1) «أعناب»: جمع عنب؛ و «النخيل»: جمع نخلة، ويحتمل أنّهما ذكرتا بصيغة الجمع للدلالة على الأنواع المختلفة للعنب والتمر والتي قد تصل إلى مئات الأنواع في العالم.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 497

من الثمر، فالتربة واحدة والساق والجذر واحد ولكن الثمر مختلف.

والأعجب من ذلك أنّها تسقى بماء واحد «يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الْأُكُلِ».

أليست هذه الأسرار تدلّ على وجود من يقود هذا النظام بالعلم والحكمة؟! وهنا في آخر الآية يقول تعالى: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ».

وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَ إِذَا كُنَّا تُرَاباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَ أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) تعجب الكفار من المعاد: بعد ما انتهينا من البحث السابق عن عظمة اللَّه ودلائله، تتطرّق الآية الاولى من هذه المجموعة إلى مسألة المعاد التي لها علاقة خاصه بمسألة المبدأ، ويؤكّد القرآن الكريم هذا المعنى حيث يقول: «وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءِذَا كُنَّا تُرَابًا أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ». أي: إذا أردت أن تتعجب من قولهم هذا فتعجب لقولهم في المعاد.

ثم يبيّن حالهم الحاضر ومصيرهم في ثلاث جمل:

يقول أوّلًا: «أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ»؛ لأنّهم لو كانوا يعتقدون بربوبية اللَّه لما كانوا يتردّدون في قدرة اللَّه على

بعث الإنسان من جديد، وعلى هذا فسوء ظنهم بالمعاد هو نتيجة لسوء ظنهم بالتوحيد وربوبية اللَّه.

والأمر الآخر أنّه بكفرهم وعدم إيمانهم وخروجهم من ساحة التوحيد قيّدوا أنفسهم بالأغلال، أغلال عبادة الأصنام والأهواء والمادة والجهل والخرافة، وجعلوها في أعناقهم «وَأُولئِكَ الْأَغْللُ فِى أَعْنَاقِهِمْ».

ومثل هؤلاء الأشخاص ليس لهم عاقبة سوى دخول النار «وَأُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».

وفي الآية الثانية يشير إلى دعوى اخرى للمشركين حيث يقول: «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ» بدلًا من طلب الرحمة ببركة وجودك بينهم.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 498

وهل يعتقدون بكذب العقوبات الإلهية؟ «وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلتُ» «1».

ثم تضيف الآية: «وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ».

وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) ذريعة اخرى: بعد ما أشرنا في الآيات السابقة إلى مسألة «التوحيد» و «المعاد» تتطرّق هذه الآية إلى واحدة من إعتراضات المشركين المعاندين حول مسألة النبوة: «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مّن رَّبّهِ».

ومن الواضح أنّ إحدى وظائف النبي صلى الله عليه و آله إظهار معاجزه لكي يدل على صدقه وصلته بالوحي الإلهي.

إنّ أعداء الأنبياء لم يكن لديهم حُسن نيّة أو اتّباع للحق عند طلبهم المعجزة، بل لعنادهم وعدم تسليمهم للأمر الواقع ولذلك كانوا يقترحون بين فترة واخرى معاجز عجيبة وغريبة. وهذه ما يسمّى ب «المعجزات الأخلاقية».

ولكن الأنبياء كانوا يقولون لهم الحقيقة وهي أنّ المعاجز بيد اللَّه، ورسالتنا هداية الناس.

ولذلك نقرأ في تكملة الآية قوله تعالى: «إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ».

فمعنى الآية: إنّ الكفار نسوا أنّ هدف الأنبياء الإنذار والدعوة إلى اللَّه، واعتقدوا أنّ وظيفتهم القيام بالمعاجز.

وجه التفاوت بين «الإنذار» و «الهداية» هو

إنّ الإنذار للذين أضلّوا الطريق ودعوتهم تكون إلى الصراط المستقيم، ولكن الهداية والإستقامة للذين آمنوا.

هناك روايات عديدة تؤكّد ما قلناه سابقاً، ففي تفسير جامع البيان عن ابن عباس قال:

لمّا نزلت «إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ» وضع صلى الله عليه و آله يده على صدره فقال: «أنا المنذر ولكل قوم هاد». وأومأ بيده إلى منكب عليّ فقال: «أنت الهادي يا عليّ بك يهتدي المهتدون بعدي».

اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَ مَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَ مَا تَزْدَادُ وَ كُلُّ شَيْ ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ وَ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَ سَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)

______________________________

(1) «المثلات»: جمع «مثلة» بفتح الميم وضمّ الثاء ومعناها العقوبات النازلة على الامم الماضية.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 499

علم اللَّه المطلق: نقرأ في هذه الآيات قسماً من صفات الخالق، والتي تكمل بحث التوحيد والمعاد، فالحديث عن علمه الواسع ومعرفته بكل شي ء. تقول الآية أوّلًا: «اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى في رحمها، سواء من انثى الإنسان أو الحيوان، بل بكل خصائصه والطاقة الكامنة فيه؛ «وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ». أي: تنقص قبل موعدها المقرّر «وَمَا تَزْدَادُ» «1». أي: يعلم بما تزيد عن موعدها المقرّر.

«وَكُلُّ شَىْ ءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ». ولكي لا يتصور أحد أنّ هذه الزيادة والنقصان بدون دليل، كما أنّ للجنين ودم الرحم مقدار أيضاً، فالآية التي بعدها تؤكّد ما قلناه في الآية السابقة حيث تقول: «عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ» فعلمه بالغيب والشهادة لهذا السبب «الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ» فهو يحيط بكل شي ء، ولا يخفى عنه شي ء.

ولتكميل هذا البحث وتأكيد علمه المطلق يضيف القرآن الكريم: «سَوَاءٌ مّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلُ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ

مُسْتَخْفٍ بِالَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ».

لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) المعقّبات الغيبية: علمنا في الآيات السابقة أنّ اللَّه بما أنّه عالم الغيب والشهادة فإنّه يعلم أسرار الناس وخفاياهم، وتضيف هذه الآية أنّه مع حفظ وحراسة اللَّه لعباده فإنّ «لَهُ مُعَقّبَاتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ».

في تفسير البرهان عن الإمام الباقر عليه السلام في تفسير هذه الآية يقول: «بأمر اللَّه من أن يقع في ركي، أو يقع عليه حائط أو يصيبه شي ء، حتى إذا جاء القدر خلّوا بينه وبينه يدفعونه إلى المقادير، وهما ملكان يحفظانه بالليل وملكان بالنهار يتعاقبانه».

ولكي لا يتصور أحد أنّ هذا الحفظ بدون شروط وينغمِس في المزلّات، أو يرتكب الذنوب الموجبة للعقاب، ومع كل ذلك ينتظر من اللَّه أو الملائكة أن يحفظوه، يعلّل القرآن ذلك بقوله: «إِنَّ اللَّهَ لَايُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ».

وكي لا يتبادر إلى الأذهان أنّه مع وجود الملائكة الحافظة فأيّ معنى للعذاب أو الجزاء؟

______________________________

(1) «تغيض»: أصلها الغيض بمعنى إبتلاع السائل وهبوط مستوى الماء. وتأتي بمعنى النقصان والفساد.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 500

مختصر الامثل ج 2 539

هنا تضيف الآية: «وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ». ولهذا السبب فإنّه حين صدور العذاب الإلهي على قوم أو امة، فسوف ينتهي دور المعقّبات ويتركون الإنسان عرضةً للحوادث. «المعقّبات»: جمع «معقبة» وهي بدورها جمع «معقّب» ومعناه المجموعة التي تعمل بشكل متناوب ومستمر.

التغيير يبدأ من النفس (قانون عام): تبيّن الجملة

«إِنَّ اللَّهَ لَايُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ» والتي جاءت في موردين متفاوتين في القرآن الكريم، أنّها قانون عام، وقانون حاسم ومنذر.

إنّ هذا الأصل القرآني الذي يبيّن واحداً من أهمّ المسائل الاجتماعية في الإسلام، يؤكّد لنا أن أي تغيير خارجي للُامم مرتبط بالتغيير الداخلي لها، وأي نجاح أو فشل يصيب الامة ناشى ء من هذا الأمر، والذين يبحثون عن العوامل الخارجية لتبرير أعمالهم وتصرفاتهم ويعتبرون القوى المستعمرة والمتسلطة هي السبب في شقائهم يقعون في خطأ كبير، لأنّ هذه القوى الجهنمية لا تستطيع أن تفعل شيئاً إذا لم تكن لديها قدرة ومركز في داخل المجتمع.

يقول هذا الأصل القرآني: إنّنا يجب أن نثور من الداخل كي نُنهي حالة الشقاء والحرمان، ثورة فكرية وثقافية، ثورة إيمانية وأخلاقية، وأثناء وقوعنا في مخالب الشقاء يجب أن نبحث فوراً عن نقاط الضعف فينا، ونطهّر أنفسنا منها بالتوبة والرجوع إلى اللَّه، ونبدأ حياة جديدة مفعمة بالنور والحركة، كي نستطيع في ظلها أن نبدّل الهزيمة إلى نصر.

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَ الْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَ يُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَ هُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ ءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَ مَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَ مَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ ظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصَالِ (15) قسم آخر من دلائل عظمة اللَّه: يتطرّق القرآن الكريم مرّة ثانية إلى آيات التوحيد وعلائم العظمة وأسرار الخلقة، فتشير أوّلًا إلى البرق: «هُوَ الَّذِى يُرِيكُمُ الْبَرْقَ

خَوْفًا

مختصر الامثل، ج 2، ص: 501

وَطَمَعًا». فالبرق بشعاعه يبهر العيون من جانب، ومن جانب آخر فإنّه يسبّب هطول الأمطار ويروي ظمأ الصحراء ويسقي المزروعات فيطمع فيه الناس، وبين هذا الخوف والرجاء تمرّ عليهم لحظات حساسة

ثم تضيف الآية: «وَيُنشِئُ الْسَّحَابَ الْثّقَالَ» القادرة على إرواء ظمأ الأراضي الزراعية.

الآية الاخرى تشير إلى صوت الرعد الذي يتزامن مع البرق «وَيُسَبّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ».

نعم، فهذا الصوت المدوّي في عالم الطبيعة يُضرب به المثل، فهو مع البرق في خدمة هدف واحد، ويقومان بعملية التسبيح، وبعبارة اخرى فالرعد لسان حال البرق يحكي عن عظمة الخالق وعن نظام التكوين.

وليس الرعد وسائر أجزاء العالم تسبّح بحمده تعالى، بل حتى الملائكة «وَالْمَلِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ». فهم يخافون من تقصيرهم في تنفيذ الأوامر الملقاة على عاتقهم، وبالتالي فهم يخشون العقاب الإلهي، ونحن نعلم أنّ الخوف يُصيب اولئك الذين يحسّون بمسؤولياتهم ووظائفهم ... خوف بنّاء يحثّ الشخص على السعي والحركة.

وللتوضيح أكثر في مجال البرق والرعد تشير الآية إلى الصاعقة: «وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ». ومع كل ذلك- وبمشاهدة آيات العظمة الإلهية في عالم التكوين من السماء والأرض والنباتات والأشجار والبرق والرعد وأمثالها، وفي قدرة الإنسان الحقيرة تجاه هذه الحوادث، حتى في مقابل واحدة منها مثل شرارة البرق- نرى أنّ هناك جماعة جاهلة تجادل في اللَّه «وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِى اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ».

«المحال»: في الأصل «الحيلة» بمعنى التدبير السرّي وغير الظاهر، فالذي له القدرة على هذا التدبير يمتلك العلم والحكمة العالية، ولهذا السبب يستطيع أن ينتصر على أعدائه ولا يمكن الفرار من حكومته.

الآية الأخيرة تشير إلى مطلبين:

الأوّل: قوله تعالى: «لَهُ دَعْوَةُ الْحَقّ». فهو يستجيب لدعواتنا، وهو عالم بدعاء العباد وقادر على قضاء حوائجهم، ولهذا السبب يكون دعاؤنا إيّاه وطلبنا منه

حقاً، وليس باطلًا.

ولكن دعاء الأصنام باطل «وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَايَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَىْ ءٍ».

ولتصوير هذا الموضوع يضرب لنا القرآن الكريم مثالًا حيّاً ورائعاً يقول: «إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ». فهل يستطيع أحد أن يجلس على بئر ويطلب الماء بإشارة يدٍ ليبلغ الماء فاه؟ هذا العمل لا يصدر إلّامن إنسان مجنون.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 502

وللتأكيد على هذا الحديث يأتي في نهاية الآية قوله تعالى: «وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِى ضَللٍ». وأيّ ضلال أكبر من أن يسعى الإنسان ويجتهد في السبيل الضالّ ... ولكنّه لا يصل إلى مقاصده. الآية الأخيرة من هذه المجموعة، ولكي تُبرهن كيف أنّ المشركين ضلّوا الطريق تقول:

«وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِللُهُم بِالْغُدُوّ وَالْأَصَالِ».

السجدة في هذه الموارد تعني الخضوع والتسليم، وهناك نوعان من السجود، سجود تكويني وهو أنّ الكل خاضعون ومسلّمون للقوانين الطبيعية مثل الحياة والممات والمرض و ...، والبعض منهم له سجود تشريعي بالإضافة إلى السجود التكويني، فهم بميلهم وإرادتهم يسجدون للَّه.

عبارة «طَوْعًا وَكَرْهًا» يمكن أن تكون إشارة إلى أنّ المؤمنين خاضعون للَّه بميلهم وإرادتهم، وأمّا غير المؤمنين فهم خاضعون كذلك للقوانين الطبيعية التي تسير بأمر اللَّه إن شاؤوا وإن أبوا.

«الظّلال»: جمع «ظِل» واستعمال هذه الكلمة في الآية يشير إلى أنّ المقصود في السجود ليس فقط السجود التشريعي، فظِلال الكائنات ليست خاضعة لارادتهم واختيارهم، بل هو تسليم لقانون الضوء، وعلى هذا يكون سجودهم تكويني، يعني التسليم للقوانين الطبيعية.

قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لَا ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَ الْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَ النُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ

فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) لماذا عبادة الأصنام؟ كان البيان في الآيات السابقة عن معرفة اللَّه وإثبات وجوده، وهذه الآية تبحث عن ضلال المشركين والوثنيين وتتناوله من عدّة جهات، حيث تخاطب- أوّلًا- النبي صلى الله عليه و آله حيث تقول: «قُلْ مَن رَّبُّ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ». ثمّ تأمر النبي أن يجيب على السؤال قبل أن ينتظر جوابهم: «قُلِ اللَّهُ». ثم إنّه يلومهم ويوبّخهم بهذه الجملة: «قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَايَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا».

ثم يذكر مثالين واضحين وصريحين يحدّد فيها وضع الأفراد الموحدين والمشركين،

مختصر الامثل، ج 2، ص: 503

فيقول أوّلًا: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ». فكما لا يستوي الأعمى والبصير لا يستوي المؤمن والكافر، ولا يصحّ قياس الأصنام على الخالق جلّ وعلا.

ويقول ثانياً: «أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ». كيف يمكن أن نجعل الأصنام التي هي الظلمات المحضة إلى جنب اللَّه الذي هو النور المطلق؟

ثم يُدلِل على بطلان عقيدة المشركين عن طريق آخر فيقول: «أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ». والحال ليس كذلك، فإنّ المشركين أنفسهم لا يعتقدون بها، فهم يعلمون أنّ اللَّه خالق كل شي ء، وعالم الوجود مرتبط به، ولذلك تقول الآية: «قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَىْ ءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ».

يستفاد من الآية أعلاه أنّ الخلقة أمر مستمر ودائمي، وإنّه تعالى يفيض بالوجود عليهم بإستمرار وكل شي ء يأخذ وجوده من ذاته المقدسة، وعلى هذا فنظام الخلقة وتدبير العالم كلها بيد اللَّه.

أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَ الْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَ أَمَّا مَا

يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) وصف دقيق لمنظر الحق والباطل: يستند القرآن الكريم- الذي يعتبر كتاب هداية وتربية- في طريقته إلى الوقائع العينية لتقريب المفاهيم الصعبة إلى أذهان الناس من خلال ضرب الأمثال الحسية الرائعة من حياة الناس، وهنا- أيضاً- لأجل أن يُجسّم حقائق الآيات السابقة التي كانت تدور حول التوحيد والشرك، الإيمان والكفر، الحق والباطل، يضرب مثلًا واضحاً جدّاً لذلك ..

يقول أوّلًا: «أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً». الماء عماد الحياة وأصل النمو والحركة، «فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدْرِهَا» تتقارب السواقي الصغيرة فيما بينها، وتتكوّن الأنهار وتتّصل مع بعضها البعض، فتسيل المياه من سفوح الجبال العظيمة والوديان وتجرف كل ما يقف أمامها، وفي هذه الأثناء يظهر الزّبد وهو ما يرى على وجه الماء كرغوة الصابون من بين أمواج الماء حيث يقول القرآن الكريم: «فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا».

وليس ظهور الزبد منحصراً بهطول الأمطار، بل «وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النَّارِ ابْتِغَاءَ

مختصر الامثل، ج 2، ص: 504

حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مّثْلُهُ». أي: الفلزات المذابة بالنار لصناعة أدوات الزينة منها أو صناعة الوسائل اللازمة في الحياة. بعد بيان هذا المثال بشكله الواسع لظهور الزبد ليس فقط في الماء بل حتى للفلزات وللمتاع، يستنتج القرآن الكريم: «كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ». ثمّ يتطرّق إلى شرحه فيقول: «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الْأَرْضِ».

وفي آخر الآية- للمزيد من التأكيد في مطالعة هذه الأمثال- يقول تعالى: «كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ».

المثال يعمّم المفاهيم: كثير من البحوث العلمية بشكلها الأصلي يفهمها الخواص فقط، ولا يستفيد منها عامة الناس، ولكن عندما يصحبها المثال تكون قابلة للفهم، ويستفيد منها الناس على اختلاف مستوياتهم العلمية، ولهذا فالمثال وسيلة لتعميم الفكر والثقافة.

لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا

لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهَادُ (18) الذين استجابوا لدعوة الحق: بعد ما كشفت الآيات السابقة عن وجهي الحق والباطل من خلال مثال واضح وبليغ، أشارت هذه الآية إلى مصير الذين إستجابوا لربهم والذين لم يستجيبوا لهذه الدعوة واتّجهوا صوب الباطل. تقول أوّلًا: «لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى .

«الحسنى»: في معناها الواسع تشمل كل خير وسعادة.

ثم تضيف الآية: «وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَا فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ».

لا توجد صيغة أوضح من هذه الآية في بيان شدّة عذابهم وعقابهم، يمتلك الإنسان كل ما في الأرض وضعفه أيضاً ويفتدي به للنجاة ولا يحصل النجاة. تشير هذه الجملة في الواقع إلى آخر امنية والتي لا يمكن أن يتصور أكثر منها، وهي أن يمتلك الإنسان كل ما في الأرض، ولكن شدّة العذاب للظالمين ومخالفي الحق تصل بهم إلى درجة أن يفتدوا بكل هذه الامنية

مختصر الامثل، ج 2، ص: 505

أو بأكثر منها لنجاتهم.

وعلى أثر هذا الشقاء (عدم قبول ما في الأرض مقابل نجاتهم) يشير القرآن الكريم إلى شقاء آخر «أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ». يعني أنّ هؤلاء الأفراد يحاسبون حساباً دقيقاً، وأثناء حسابهم يُوبّخون ويُلامون ومن ثم يستقصى منهم.

وفي نهاية الآية إشارة إلى الجزاء الثّالث أو النتيجة النهائية لجزائهم «وَمَأْوَيهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ».

«المهاد»: جمع «مهد»، بمعنى التهيؤ، ويستفاد منها معنى السرير الذي يستخدم لراحة الإنسان، هذا السرير يهيّأ للاستراحة، وقد ذكر القرآن الكريم هذه الكلمة للإشارة إلى أنّ هؤلاء الطغاة بدلًا من أن يستريحوا في مهادهم يجب أن يحرقوا بلهيب النار.

أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا

أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ لَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَ الَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَ عَلَانِيَةً وَ يَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَ أَزْوَاجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ الْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) الأبواب الثمانية للجنة وصفات اولي الألباب: تتحدّث هذه الآيات عن سيرة اولي الألباب وصفاتهم الحسنة، وفيها تكميل للبحث السابق. في الآية الاولى من هذه المجموعة إستفهام إنكاري: «أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى .

وهذه إشارة لطيفة إلى أنّه من المحال أن لا يعلم أحد بهذه الحقيقة إلّاأن يكون أعمى القلب، ولذلك يجي ء في نهاية الآية قوله تعالى: «إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبَابِ».

«الألباب»: جمع «لبّ» بمعنى جوهر الشي ء، ويقابل اولي الألباب اولوا الجهل والعمى.

إنّ هذه الآية تحثّ الناس على طلب العلم ومحاربة الجهل، لأنّها تعدّ الفرد الفاقد للعلم كمن هو أعمى، ثمّ بيّن سيرة اولي الألباب من خلال ذكر صفاتهم الحميدة، وأوّل ما أشار القرآن إليه وفاؤهم بالعهد وعدم نقضهم له «الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 506

إنّ «عهد اللَّه» له معنى واسع، ويشمل العهود الفطرية التي عاهدوا بها ربّهم كالفطرة على التوحيد وحبّ الحقّ والعدالة، والمواثيق العقلية التي يدركها الإنسان من خلال التفكير والتعقّل لعالم الوجود، والمبدأ والمعاد، وتشمل كذلك العهود الشرعية، وهي ما عاهدوا

الرسول صلى الله عليه و آله عليه من الطاعة للأوامر الإلهية وترك المعاصي والذنوب. الصفة الثانية من صفات اولي الألباب هي: «وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ».

فالإنسان له صلات وروابط كثيرة، صلته مع ربّه، ومع الأنبياء والقادة، وروابطه مع الأصدقاء والجيران والأقرباء ومع كل الناس، والآية تأمر أن تُحترم هذه الصلات.

والإنسان ليس منزوياً أو منفكّاً من عالم الوجود، بل تحكم كل وجوده الصلات والروابط.

الصفة الثالثه والرابعة من سيرة اولي الألباب هي قوله تعالى: «وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ».

الصفة الخامسة من صفات اولي الألباب الإستقامة في مقابل جميع المشاكل التي يواجهها الإنسان في مسيرة الطاعة وترك المعصية، وجهاد الأعداء ومحاربة الظلم والفساد، والصبر في مرضاة الخالق، ولذلك يقول تعالى: «وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبّهِمْ» «1».

فإنّ هذه الجملة تبيّن أنّ كل صبر وعمل خير تكون له قيمة عندما يصبح لوجه اللَّه، وأي عمل آخر يقع تحت تأثير الرياء والغرور لا قيمة له مطلقاً.

الصفة السادسة من صفاتهم هي: «وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ».

إنّ الإنسان يجدّد عهده وصلته باللَّه سبحانه وتعالى صباحاً ومساءاً، ويتفكّر بعظمة الخالق ويدعوه، ويُطهّر نفسه من الذنوب، ويرتبط بالحق المطلق.

ثم يبيّن الصفة السابعة لدعاة الحق حيث يقول تعالى: «وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً».

فالصلاة تُحكم الصلة بين العبد وربّه والزكاة بين العباد.

والجملة «مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ» تشمل كل العطايا من الأموال والعلوم والقوة والجاه، والإنفاق كذلك يشمل جميع هذه الأبعاد.

______________________________

(1) ليس الصبر على الطاعة والمعصية والمصيبة فقط بل الصبر على النعم كذلك حتى لا يصيب الإنسان الغرور.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 507

والعبارة «سِرًّا وَعَلَانِيَةً» إشارة اخرى إلى هذه الحقيقة وهي أنّ إنفاقهم يتمّ بشكل مدروس، فتارةً يكون سرّاً ويترتّب عليه أثر كبير، وذلك في الحالات التي تصون الطرف المنفق من

الرياء، ومرّةً يكون الإنفاق العلني أكثر تأثيراً وذلك في الحالات التي تدعو الآخرين لكي يتأسّوا بهذا العمل الخيّر ويقتدوا به، فيكون سبباً لكثير من أعمال الخير.

الصفة الثامنة والأخيرة هي قوله تعالى: «وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيّئَةَ».

ومعنى هذه العبارة أنّهم لم يكتفوا بالتوبة والاستغفار فقط عند إرتكابهم الذنوب، بل يدفعونها كذلك بالحسنات على مقدار تلك الذنوب، حتى يطهّروا أنفسهم والمجتمع بماء الحسنات.

ويحتمل في تفسير الآية أنّهم لا يقابلون السي ء بالسي ء، بل يسعون من خلال إحسانهم للمسيئين أن يجعلوهم يعيدون النظر في مواقفهم.

وبعد ما ذكر القرآن الكريم الصفات الثمانية لُاولي الألباب، أشار في نهاية الآية إلى عاقبة أمرهم حيث يقول تعالى: «أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ».

الآية الاخرى توضّح هذه العاقبة «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرّيَّاتِهِمْ».

والشي ء الذي يكمل هذه النعم الكبيرة واللامتناهية «وَالْمَلِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مّن كُلّ بَابٍ سَلمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ». فهذه السلامة جاءت بعد ما صبرتم على الشدائد وتحمّلتم المسؤوليات الجسام والمصائب، ولكم هنا كامل الطمأنينة والأمان، فلا حرب ولا نزاع، وكل شي ء يبتسم لكم، والراحة الخالية من المتاعب- هنا- معدّة لكم.

يستفاد من آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة أنّ للجنة عدّة أبواب، ولكن هذا التعدد للأبواب بسبب الأعمال المختلفة للأفراد.

ومن الظريف أنّ القرآن الكريم- في الآية (44) من سورة الحجر- يذكر لجهنم سبعة أبواب «لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ». وهذه إشارة إلى أنّ طرق الوصول إلى السعادة وجنّة الخلد أكثر من طرق الوصول إلى الشقاء والجحيم، ورحمة اللَّه سبقت غضبه.

وَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَقْدِرُ

وَ فَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ مَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) للمفسدين الذين فقدوا حظّهم من العلم والمعرفة حيث يقول جلّ وعلا: «وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ» «1».

في الحقيقة يتلخص فساد عقيدتهم في الجمل الثلاث الآتية:

1- نقض العهود الإلهية: وتشمل المواثيق الفطرية والعقلية والتشريعية.

2- قطع الصلات: وتشمل الصلة مع اللَّه والرسل والناس ومع أنفسهم.

3- الإفساد في الأرض: وهو نتيجة حتمية لنقض العهود وقطع الصلات.

قوله تعالى: «اللَّهُ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ». وهذه إشارة لُاولئك الذين يسعون للحصول على دخل أكثر فهم يفسدون في الأرض وينقضون عهد اللَّه ويقطعون ما أمر اللَّه به أن يوصل لكي يزيدوا من دخلهم المادي، وهم غافلون عن هذه الحقيقة وهي أنّ الرزق- في زيادته ونقصه- بيد اللَّه سبحانه وتعالى.

ثم تضيف الآية: «وَفَرِحُوا بِالْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا فِى الْأَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ».

ألا بذكر اللَّه تطمئنّ القلوب: في سورة الرعد بحوث كثيرة حول التوحيد والمعاد والنبوة، فالآية الاولى من هذه المجموعة تبحث مرّةً اخرى في دعوة الرسول صلى الله عليه و آله وتبيّن واحداً من أعذار المشركين المعاندين حيث يقول تعالى: «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنِزلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مّن رَّبّهِ».

إنّ هؤلاء يتوقّعون من النبي أن يجلس في زاوية الدار ويُظهر لكل واحد منهم المعجزة التي يقترحها، فإن لم تعجبهم لم يؤمنوا بها.

ويجيبهم القرآن الكريم حيث يقول: «قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ».

وهذه إشارة إلى أنّ العيب ليس من ناحية الإعجاز، لأنّ الأنبياء قد أظهروا كثيراً من

______________________________

(1) «اللعن»: بمعنى الطرد مع الغضب، واللعن في الآخرة تشير إلى العقوبة

وفي الدنيا الإبتعاد من رحمة اللَّه.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 509

المعاجز، ولكن النقص من داخل أنفسهم. وهو العناد والتعصب والجهل والذنوب التي تصدّ عن الإيمان.

تُشير الآية الثانية بشكل رائع إلى تفسير «مَنْ أَنَابَ» حيث يقول تعالى: «الَّذِينَ ءَامَنُوا وَتَطْمِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ». ثم يذكر القاعدة العامة والأصل الثابت حيث يقول تعالى: «أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمِنُّ الْقُلُوبُ».

وتبحث الآية الأخيرة مصير الذين آمنوا حيث تقول: «الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَابٍ».

ما هو ذكر اللَّه، وكيف يتمّ؟ إنّ الذكر نوعين «ذكر القلب» و «ذكر اللسان» وكل واحد منها على نوعين: بعد النسيان أو بدونه.

وعلى أيّة حال ليس المقصود من الذكر- في الآية أعلاه- هو ذكره باللسان فقط فنقوم بتسبيحه و تهليله و تكبيره، بل المقصود هو التوجه القلبي له و إ دراك علمه و بأنّه الحاضر و الناظر، وهذا التوجّه هو مبدأ الحركة والعمل والجهاد والسعي نحو الخير، وهو سدّ منيع عن الذنوب، فهذا هو الذكر الذي له كل هذه الآثار والبركات كما أشارت إليه عدة من الروايات.

فمن وصايا النبي صلى الله عليه و آله للإمام علي عليه السلام يقول له: «يا علي، ثلاث لا تطيقها هذه الامّة:

المواساة للأخ في ماله، وإنصاف الناس من نفسه، وذكر اللَّه على كل حال، وليس هو سبحان اللَّه والحمد للَّه ولا إله إلّااللَّه واللَّه أكبر، ولكن إذا ورد على ما يحرم عليه خاف اللَّه عزّ وجلّ عنده وتركه» «1».

كَذلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ

بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَ فَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَ لَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)

______________________________

(1) بحار الأنوار 74/ 45.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 510

سبب النّزول

جاء في تفسير مجمع البيان: نزلت الآية الاولى في كفار قريش حين قال لهم النبي صلى الله عليه و آله:

«اسجدوا للرحمن». قالوا: وما الرحمن؟

وفي سبب نزول الآية الثانية: إنّها نزلت في نفر من مشركي مكة، منهم أبو جهل بن هشام، وعبد اللَّه بن أمية المخزومي جلسوا خلف الكعبة ثم أرسلوا إلى النبي صلى الله عليه و آله فأتاهم، فقال له عبد اللَّه بن أمية: إن سرك أن نتبعك فسير لنا جبال مكة بالقرآن، فأذهبها عنا، حتى تنفسخ فإنّها أرض ضيقة، واجعل لنا فيها عيوناً وأنهاراً حتى نغرس ونزرع فلست كما زعمت أهون على ربّك من داود حيث سخر له الجبال تسبح معه أو سخر لنا الريح فنركبها إلى الشام فنقضي عليها مسيرتنا وحوائجنا ثم نرجع من يومنا فقد كان سليمان سخرت له الريح فكما زعمت لنا فلست أهون على ربّك من سليمان. وأحي لنا جدك قصياً، أو من شئت من موتانا لنسأله: أحق ما تقول أم باطل؟ فإنّ عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى ولست بأهون على اللَّه منه فأنزل اللَّه سبحانه «وَلَوْ أَنَّ قُرءَانًا» الآية.

التّفسير

لا أمل في إيمان أهل العناد: تبحث هذه الآيات مرّةً ثانية مسألة النبوّة، والآيات أعلاه تكشف عن قسم آخر من جدال المشركين في النبوّة

وجواب القرآن عليهم فتقول الآية: كما أنّنا أرسلنا رسلًا إلى الأقوام السالفة لهدايتهم: «كَذلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِى أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ». والهدف من ذلك «لِّتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِى أَوْحَيْنَا إِلِيْكَ». في الوقت الذي «وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ». يكفرون باللَّه الذي عمّت رحمته كل مكان، وشمل فيضه المؤمن والكافر.

ثم قل لهم: إنّ الرحمن الذي عمّ فضله هو ربّي «قُلْ هُوَ رَبّى لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ».

ثم يجيب اولئك الذين يتشبّثون دائماً بالحجج الواهية فيقول: لو أنّ الجبال تحرّكت من مكانها بواسطة القرآن: «وَلَوْ أَنَّ قُرءَانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلّمَ بِهِ الْمَوْتَى . فمع ذلك لا يؤمنون به.

ولكن كل هذه الأفعال بيد اللَّه ويفعل ما يريد متى يشاء «بَل لِّلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا».

ولكنكم لا تطلبون الحق، وإذا كنتم تطلبونه فهذا المقدار من المعجزة التي صدرت من

مختصر الامثل، ج 2، ص: 511

الرسول صلى الله عليه و آله كاف لإيمانكم.

ثم يضيف القرآن الكريم: «أَفَلَمْ يَايَسِ الَّذِينَ ءَامَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا». ولكنّه لا يفعل ذلك أبداً، لأنّ هذا الإيمان الإجباري لا قيمة له وهو فاقد للمعنى والتكامل الذي يحتاجه الإنسان في حياته.

ثم تضيف الآية: «وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ». وهذه مصائب تنزل عليهم بشكل إبتلاءات مختلفة أو على شكل هجوم المسلمين عليهم. وهذه المصائب إن لم تنزل في دارهم فهي «أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مّن دَارِهِمْ» لكي يعتبروا بها ويرجعوا إلى اللَّه جلّ وعلا.

وهذا الإنذار مستمر «حَتَّى يَأْتِىَ وَعْدُ اللَّهِ».

وهذا الوعد الأخير قد يشير إلى الموت، أو إلى يوم القيامة، أو على قول البعض إلى فتح مكة التي سحقت آخر معقل للعدو.

وعلى أيّة حال فالوعد الإلهي أكيد: «إِنَّ اللَّهَ

لَايُخْلِفُ الْمِيعَادَ».

الآية الأخيرة من هذه المجموعة تخاطب النبي صلى الله عليه و آله فتقول له: لست الوحيد من بين الأنبياء تعرّض لطلب المعاجز الإقتراحية والإستهزاء من الكفار، بل «وَلَقَدِ اسْتُهْزِى ءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ». ولكن لم نعاقب هؤلاء الكفّار فوراً، بل «فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا» لكي يستيقظوا ويعودوا إلى طريق الحق، أو نلقي عليهم الحجة الكافية على الأقل، لأنّ هؤلاء إذا كانوا مذنبين فإنّ لطف اللَّه وكرمه وحكمته لا تتأثّر بأفعال هؤلاء.

وعلى أيّة حال فهذا التأخير ليس بمعنى نسيان العقاب، بل «ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ» وهذا المصير ينتظر قومك المعاندين أيضاً.

أَ فَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَ صُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ لَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) كيف تجعلون الأصنام شركاء مع اللَّه؟! نعود مرّةً اخرى في هذه الآيات إلى البحث حول

مختصر الامثل، ج 2، ص: 512

التوحيد والشرك، وهي تخاطب الناس من خلال دليل واضح حيث يقول تعالى: «أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ». ولإتمام البحث السابق، ومقدمة للبحث الآتي. يقول تعالى: «وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ».

ثم يجيبهم بلا فاصلة وبعدّة طرق:

يقول أوّلًا: «قُلْ سَمُّوهُمْ». فكيف تجعلون هذه الموجودات التي لا تستحق حتى الأسماء والتي لا قيمة ولا أثر لها، في عداد الخالق القادر المتعال؟

ويقول ثانياً: «أَمْ تُنَبُونَهُ بِمَا لَايَعْلَمُ فِى الْأَرْضِ».

ثالثاً: حتى أنتم لا تؤمنون بذلك في قرارة أنفسكم، بل «أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ القَوْلِ». ولهذا السبب نرى المشركين عندما تضيق بهم

المشاكل الحياتية يلوذون باللَّه، لأنّهم يعلمون في قلوبهم أنّ الأصنام لا يمكن أن تعمل لهم شيئاً.

رابعاً: إنّ المشركين ليس لهم إدراك صحيح، وبما أنّهم تابعين لأهوائهم وتقليدهم الأعمى، فإنّهم غير قادرين على أن يقضوا بالحقّ وبشكل صحيح، ولهذا السبب ضلّوا الطريق، يقول تعالى: «بَلْ زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ».

الإضلال الإلهي إنعكاس لما يقوم به الإنسان من الأعمال السيّئة التي تجرّه إلى الضياع، وبما أنّ هذه الخاصية قد جعلها اللَّه سبحانه وتعالى لمثل هذه الأعمال فلذلك نسب هذا العمل إليه.

ويشير القرآن الكريم في الآية الأخيرة من هذه المجموعة إلى العقاب الأليم الذي يشملهم في الدنيا والآخرة، الشقاء والهزيمة والحرمان وغيرها، حيث تقول: «لَّهُمْ عَذَابٌ فِى الحَيَوةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْأَخِرَةِ أَشَقُّ». لأنّها دائمة ومستمرة، جسدية وروحية، وفيها أنواع الآلام.

وإذا إعتقدوا بأنّ لهم طريقاً للفرار أو سبيلًا للدفاع في مقابل ذلك، فإنّهم في إشتباهٍ كبير، لأنّ «وَمَا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ».

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَ ظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ عُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) بالنظر إلى تناوب آيات هذه السورة في بيان التوحيد والمعاد وسائر المعارف الإسلامية

مختصر الامثل، ج 2، ص: 513

الاخرى، تحدّثت هذه الآية مرّةً اخرى حول المعاد وخصوصاً نِعَم الجنة وعذاب الجحيم.

يقول تعالى: «مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهْرُ».

قد يكون التعبير ب «مثل» إشارة إلى هذه النكتة، وهي أنّ الجنّة وسائر النعم الاخروية غير قابلة للوصف بالنسبة إلى الساكنين في هذا العالم المحدود الذي هو في مقابل عالم بعد الموت يعتبر صغيراً جدّاً، ولذلك نستطيع أن نضرب لهم مثلًا أو صورة عن ذلك.

الوصف الثاني للجنة هو

«أُكُلُهَا دَائِمٌ» فهي ليست كفاكهة الدنيا فصلية وتظهر في وقت معين من السنة، بل في بعض الأحيان وبسبب الآفات الزراعية تنقطع تماماً.

وكذلك «وَظِلُّهَا» كبقية النعم الاخرى خالدة ودائمة، ومن هذا يتّضح أن ليس في الجنة فصل لتساقط الأوراق، ونعلم من ذلك- أيضاً- أنّ شعاع الشمس موجود في الجنة، وإلّا كان التعبير بالظل هناك بدون شعاع الشمس ليس له أي مفهوم.

وبعد بيان هذه الصفات الثلاث قال تعالى في آخر الآية: «تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ».

لقد بيّن وفصّل في هذه العبارة نعم الجنة، ولكن بالنسبة إلى أصحاب النار ذكر جملة قصيرة وبعنف حيث ذكر أنّ عاقبة أمرهم إلى النار.

وَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَ لَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَ إِلَيْهِ مَآبِ (36) المؤمنون والأحزاب: أشارت هذه الآية إلى ردّ الفعل المتفاوت للناس في مقابل نزول الآيات القرآنية، فالأفراد الذين يبحثون عن الحقيقة يفرحون بما انزل على الرسول، بينما المعاندون يخالفون ذلك. يقول تعالى: «وَالَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ».

أي: أنّ الطالبون للحق من اليهود والنصارى وأمثالهم يفرحون عند نزول الآيات على الرسول صلى الله عليه و آله لأنّهم كانوا من جهة يرونها مطابقة لما في أيديهم من العلامات، ومن جهة اخرى كان سبباً لحريتهم ونجاتهم من شرّ الخرافات ومن علماء اليهود والمسيحية الذين كانوا يستعبدونهم، وكانوا محرومين من حرية الفكر والتكامل الإنساني.

ثم تضيف الآية: «وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ». المقصود من هذه المجموعة هي نفس جماعة اليهود والنصارى الذين غلبهم التعصّب الطائفي وأمثاله، ولذلك لم يعبّر القرآن الكريم

مختصر الامثل، ج 2، ص: 514

عنهم بأهل الكتاب، لأنّهم لم يتّبعوا

كتبهم السماوية، بل كانوا أحزاباً وكتلًا تابعين لخطّهم الحزبي. أو أنّ كلمة «الأحزاب» إشارة إلى المشركين، لأنّ سورة الأحزاب ذكرتهم بهذا التعبير، وهؤلاء ليس لهم دين ولا مذهب بل كانوا على شكل أحزاب وكتل متفرقة اتّحدوا في مخالفتهم للقرآن والإسلام. ونقل العلامة الطبرسي عن ابن عباس، أنّ هذه الآية إشارة إلى المشركين الذين كانوا يخالفون وصف اللَّه بالرحمن، وأهل الكتاب- خصوصاً اليهود- يفرحون بهذا الوصف «الرحمان» في الآيات القرآنية، ومشركي مكة كانوا يسخرون منه بسبب عدم معرفتهم به.

وفي آخر الآية يأمر اللَّه النبي صلى الله عليه و آله: «قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَابِ». وتلك دعوة للموحدين الصادقين والمؤمنين الرساليين أن يسلّموا أمام الأوامر الإلهية.

وَ كَذلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لَا وَاقٍ (37) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَ جَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَ ذُرِّيَّةً وَ مَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَ إِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَ عَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) الحوادث الثابتة والمتغيرة: تتابع هذه الآيات المسائل المتعلقة بالنبوّة، ففي الآية الاولى يقول تعالى: «وَكَذلِكَ أَنزَلْنهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا».

«العربي»: كما يقول الراغب في مفرداته «الفصيح البيّن من الكلام» وعلى هذا فوصف القرآن بالعربي لأنّ أحكامه واضحة وبيّنة.

ثم يخاطب القرآن النبي صلى الله عليه و آله بلحن التهديد وبشكل قاطع حيث يقول: «وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِىّ وَلَا وَاقٍ». وبما

أنّ احتمال الانحراف غير موجود إطلاقاً في شخصية الرسول صلى الله عليه و آله لما يتميّز به من مقام العصمة والمعرفة، فهذا التعبير- أوّلًا:- يُوضّح أنّ اللَّه سبحانه وتعالى ليس له إرتباط خاص مع أي أحد حتى لو كان نبيّاً، فمقام الأنبياء الشامخ إنّما هو بسبب عبوديتهم وتسليمهم وإستقامتهم.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 515

وثانياً: تأكيد وإنذار للآخرين، لأنّ النبي صلى الله عليه و آله إذا لم يكن مصوناً من العقوبات الإلهية في حالة انحرافه عن مسيرة الحق وإتّجاهه صوب الباطل، فما بال الآخرين؟

الآية الاخرى جواب لما كان يستشكله أعداء الرسول صلى الله عليه و آله. ومن جملة هذه الإشكالات:

أوّلًا: كان البعض يقول: هل من الممكن أن يكون الرسول من جنس البشر، يتزوج وتكون له ذرّية؟ فالآية تجيبهم وتقول ليس هذا بالأمر الغريب: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً».

ثانياً: كان ينتظر هؤلاء من الرسول أن يجيبهم على كل معجزة يقترحونها عليه بما تقتضيه أهواؤهم، سواء آمنوا أو لم يؤمنوا، ولكن يجب أن يعلم هؤلاء أنّ «وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بَايَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ».

ثالثاً: لماذا جاء نبي الخاتم صلى الله عليه و آله وغيّر أحكام التوراة والإنجيل؟ وتجيب الجملة الأخيرة من الآية فتقول: «لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ» كيما تبلغ البشرية المرحلة النهائية من الرشد والتكامل فليس من العجيب أن ينزّل يوماً التوراة، ويوماً آخر الإنجيل، ثم القرآن، لأنّ البشرية في تحوّلها وتكاملها بحاجة إلى البرامج المتغيرة والمتفاوتة.

الآية الاخرى بمنزلة التأكيد والاستدلال لما ورد في ذيل الآية السابقة، وهو أنّ لكل حدث وحكم زمن معين كما يقال: إنّ الامور مرهونة بأوقاتها، وإذا رأيت أنّ بعض الكتب السماوية تأخذ مكان البعض الآخر فذلك بسبب «يَمْحُو اللَّهُ مَا

يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» فيحذف بعض الامور بمقتضى حكمته وإرادته ويثبت اموراً اخرى، ولكن الكتاب الأصل عنده.

وفي النهاية وللتأكيد أكثر بالنسبة للعقوبات التي كان يوعدهم النبي صلى الله عليه و آله بها وكانوا ينتظرونها حتى أنّهم يقولون: لماذا لا تصبح هذه الوعود عملية؟ يقول تعالى: «وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُم (من إنتصارك عليهم وهزيمتهم وتحرير أتباعك وأسر أتباعهم في حياتك) أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ».

إنّ جملة «يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ» تبيّن قانوناً عامّاً وشاملًا وقد اشير إليه في مختلف المصادر الإسلامية، وهو أنّ تحقّق وصيرورة الحوادث المختلفة للعالم لها مرحلتين: الاولى المرحلة القطعيّة أو الثابتة، ولا سبيل للتغيير فيها (والتي أشارت إليها الآية أعلاه بام الكتاب) والاخرى المرحلة المتغيرة أو بعبارة اخرى «المشروطة» والتي يجد التغيير سبيلًا

مختصر الامثل، ج 2، ص: 516

إليها، وقد عبّر عنها بالمحو والإثبات، وأحياناً يقال عن المرحلتين: «اللوح المحفوظ» و «لوح المحو والإثبات» كأنّ ما كُتب في اللوح الأوّل محفوظ لا يتغيّر، أمّا الثاني فمن الممكن محو ما كتب فيه وتغييره. في تفسير العياشي عن الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: «من الامور امور محتومة كائنة لا محالة، ومن الامور امور موقوفة عند اللَّه يقدّم فيها ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت منها ما يشاء، لم يطلع على ذلك أحداً يعني الموقوفة فأمّا ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا يكذب نفسه ولا نبيّه ولا ملائكته».

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَ اللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَ هُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَ سَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ

عُقْبَى الدَّارِ (42) وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43) البشرية فانية ووجه اللَّه باق: بما أنّ الآيات السابقة كانت تتحدّث مع منكري رسالة النبي صلى الله عليه و آله فقد تابعت هذه الآيات كذلك نفس البحث. يقول تعالى أوّلًا: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِى الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا». من الواضح أنّ المقصود من «الأرض» هنا هم أهل الأرض، يعني أنّ هؤلاء لا ينظرون إلى هذا الواقع من أنّ الأقوام والحضارات والحكومات في حال الزوال والإبادة، وإنذار لكل الناس، الصالح منهم والطالح، حتى العلماء الذين يشكّلون أركان المجتمع البشري يكون موت أحدهم أحياناً نقصاناً للدنيا.

ثم يضيف: «وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَامُعَقّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ». ولذلك فإنّ قانون الفناء مكتوب على جبين كل الأفراد والامم من جهة، ومن جهة اخرى لا يستطيع أحد أن يغيّر هذا الحكم ولا الأحكام الاخرى، ومن جهة ثالثة أنّ حساب العباد سريع جدّاً، وبهذا الترتيب يكون جزاؤه قاطعاً.

ثم يستمر البحث في الآية الثانية ويقول: ليست هذه الفئة فقط نهضت بمكرها ومحاربتها لك، بل «وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ». لكن خططهم كُشفت، واجهضت مؤامرتهم بأمر من اللَّه، لأنّه أعلم الموجودات بهذه المسائل «فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا» ذاك هو العالم بكل شي ء

مختصر الامثل، ج 2، ص: 517

و «يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ». ثم يحذرهم بصيغة التهديد من عاقبة عملهم ويقول:

«وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ».

الآية الأخيرة من هذا البحث (كما بدأت هذه السورة بكتاب اللَّه والقرآن) تُنهي سورة الرعد في التأكيد أكثر على معجزة القرآن. يقول تعالى: «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا».

فهم يصطنعون كل يوم عذراً، ويطلبون في كل وقت المعاجز، ثم آخر الأمر يقولون: لست

بنبي! قل في جوابهم: «قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ». فاللَّه سبحانه وتعالى يعلم بأنّي رسوله، وكذلك هؤلاء لهم المعرفة الكافية بأنّ القرآن هو كتاب سماوي، وهذا تأكيد جديد على إعجاز القرآن بمختلف جوانبه.

«نهاية تفسير سورة الرعد»

مختصر الامثل، ج 2، ص: 519

14. سورة ابراهيم

هذه السورة مكية بإستثناء الآيات (28) و (29) طبقاً لما قاله كثير من المفسرين أنّها نزلت بالمدينة في قتلى المشركين في بدر.

محتوى السورة: المعلوم من اسم السورة أنّ قسماً منها نازل بشأن بطل التوحيد ومحطّم الأصنام سيّدنا إبراهيم عليه السلام (قسم من أدعيته).

والقسم الآخر من هذه السورة يشير إلى تاريخ الأنبياء السابقين أمثال نوح وموسى، وقوم عاد وثمود، وما تحتوي من دروس وعبر فيها.

وتكمل هذه المجموعة من البحوث في السورة آيات الموعظة والنصيحة والبشارة والإنذار.

إنّ قسماً كبيراً منها أيضاً يبحث مواضيع «المبدأ» و «المعاد».

وخلاصة هذه السورة أنّها تبيّن عقائد ونصائح ومواعظ سيرة الأقوام الماضية، والهدف من رسالة الأنبياء ونزول الكتب السماوية.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من قرأ سورة إبراهيم والحجر اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من عبد الأصنام وبعدد من لم يعبدها».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 520

وكما أسلفنا مراراً فإنّ ما ورد من الثواب حول قراءة السور القرآنية يلازمه التفكر ومن ثم العمل.

الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ وَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَهَا عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) الخروج من الظلمات إلى النور:

شرعت هذه السورة- كبعض السور القرآنية الاخرى- بالحروف المقطعة، والنقطة التي يجب ملاحظتها هنا أنّ من بين 29 مورداً لسور القرآن التي ابتدأت بالحروف المقطعة هناك 24 مورد ذكر بعدها مباشرةً القرآن الكريم، والتي تُبيّن أنّ هناك علاقة بين الاثنين، أي بين الحروف المقطعة والقرآن، ولعل هذه العلاقة هي نفسها التي ذكرناها في بداية سورة البقرة، فاللَّه سبحانه وتعالى يريد أن يوضّح من خلال هذا البيان أنّ هذا الكتاب السماوي العظيم المتعهد لقيادة الإنسانية يتكوّن من مواد بسيطة تسمّى بحروف الألفباء، وهذه تشير إلى أهمية هذا الإعجاز، حيث يوجد أصدق بيان من أبسط بيان.

وعلى أيّة حال فبعد ذكر الحروف «الر» يقول تعالى: «كِتَابٌ أَنزَلْنهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ».

إنّ جميع الأهداف التربوية والإنسانية، المعنوية والمادية من نزول القرآن قد جُمعت في هذه الجملة (الخروج من الظلمات إلى النور) أي الخروج من ظلام الجهل إلى نور المعرفة، ومن ظلام الكفر إلى نور الإيمان، من ظلم الظالمين إلى نور العدالة، ومن الفساد إلى الصلاح، ومن الذنوب إلى الطهارة والتقوى، ومن التفرقة والنفاق إلى نور الوحدة.

ومن الطريف أنّ «الظلمات» هنا جاءت بصيغة الجمع و «النور» بصيغة المفرد، وهذه إشارة إلى أنّ كل الحسنات والطيبات والإيمان والتقوى لها حالة واحدة في ظلّ التوحيد

مختصر الامثل، ج 2، ص: 521

ونوره فهي مترابطة ومتحدة فيما بينها فتصنع مجتمعاً واحداً متحداً وطاهراً من كل جهة. بينما الظلمات تعني التشتت وتفرقة الصفوف.

ومن هنا لما كان مصدر كل الخير هي الذات الإلهية المقدسة، والشرط الأساس لدرك التوحيد هو الإلتفات إلى هذه الحقيقة، فإنّه يضيف بلا فاصلة: «بِإِذْنِ رَبّهِمْ».

ولكي يبيّن أكثر ما هو النور يقول تعالى: «إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ». فعزّته دالة على قدرته، لأنّه

لا يستطيع أحد أن يغلبه، والحميد دالة على نعمه ومواهبه غير المتناهية، لأنّ الحمد والثناء دائماً تكون في مقابل النعم والمواهب.

الآية الثانية ولكي تعرّف اللَّه بصفاته، تبيّن درساً من دروس التوحيد حيث تقول:

«اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ». فله كل شي ء، لأنّه خالق جميع الموجودات ولهذا السبب هو القادر والعزيز وواهب النعم والحميد.

ثم يتطرّق في نهاية الآية إلى مسألة المعاد (بعد أن ذكر المبدأ) فتقول الآية: «وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ».

ثم يُعرّف القرآن الكريم الكفار في الآية الاخرى، ويذكر لهم ثلاث صفات كيما نستطيع أن نعرفهم من أوّل وهلة، يقول تعالى أوّلًا: «الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا عَلَى الْأَخِرَةِ». فهم يضحّون بالإيمان والحق والعدالة والشرف التي هي من خصائص محبّي الآخرة، من أجل منافعهم الشخصية وشهواتهم.

ثم يبيّن تعالى أنّ هؤلاء غير قانعين بهذا المقدار من الضلال، بل يسعون في أن يضلّوا الآخرين «وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ». فهم- في الواقع- يزيّنون الهوى، ويدعون الناس إلى الذنوب، ويخوّفونهم من الصدق والإخلاص.

ولا يقتصر عملهم على ذلك فحسب، بل «وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا». ثم يحاولون أن يصبغوا الآخرين بصبغتهم، ويسعون في أن يحرفوا السبيل للوصول إلى هدفهم من خلال نشر الخرافات وإبتداع السنن الخبيثة «أُولئِكَ فِى ضَللٍ بَعِيدٍ».

وهذا الضلال قد أوجد بُعد المسافة بينهم وبين الحق فكان من العسير جدّاً عودتهم إلى طريق الحق، ولكن ذلك كان نتيجة لأعمالهم.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 522

وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)

وَ إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) كان الحديث في الآيات السابقة عن القرآن الكريم وآثاره الروحية، وتتابع الآية الاولى من هذه المجموعة نفس الموضوع، لكن في بُعد خاص وهو أنّ دعوة الأنبياء وكتبهم السماوية نزلت بلسان أقوامهم الذين بُعِثوا إليهم. يقول تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ». لأنّ الأنبياء يرتبطون في الدرجة الاولى مع قومهم، وأوّل نور الوحي يشعّ من بينهم، وأوّل الصحابة والأنصار يُنتخبون منهم، لذلك فإنّ الرسول يجب أن يحدّثهم بلغتهم وبلسانهم «لِيُبَيّنَ لَهُمْ».

إنّ دعوة الأنبياء كانت توضّح لهم من خلال التبيين والتعليم والتربية وبلسانهم الرائج لا من خلال أثر مرموز وغير معروف في قلوب.

ثم يضيف القرآن الكريم بعد أن بيّن لهم الدعوة الإلهية: «فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ». فليست الهداية والضلال من عمل الأنبياء، بل عملهم الإبلاغ والتبيين، اللَّه سبحانه وتعالى هو الموجّه والهادي الحقيقي لعباده.

ولكي لا يتصور أحد أنّ هذا القول بمعنى الجبر وسلب الحريّات، فيضيف القرآن مباشرة: «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ». وبمقتضى عزته وقدرته فإنّه قادر على كل شي ء، ولكن بمقتضى حكمته لا يهدي ولا يضلّ أحداً بدون سبب ودليل، بل الخطوة الاولى تبدأ من قبل العباد وبكامل الحرية في السير إلى اللَّه، ثم يشعّ نور الهداية وفيض الحق في قلوبهم، كما في

مختصر الامثل، ج 2، ص: 523

الآية (69) من سورة العنكبوت: «وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا».

وعلى هذا النحو فإنّ محور الهداية والضلال في أيدي الناس أنفسهم.

تشير الآية

الاخرى إلى واحدة من نماذج إرسال الأنبياء في مقابل طواغيت عصرهم، ليخرجوهم من الظلمات إلى النور: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بَايَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ» «1».

وكما قرأنا في الآية الاولى من هذه السورة فإنّ خلاصة دعوة رسول الخاتم صلى الله عليه و آله هي إخراج الناس من الظلمات إلى النور، فهذه دعوة كل الأنبياء، بل جميع القادة الروحيين للبشر.

ثم يشير القرآن الكريم إلى واحدة من أكبر مسؤوليات موسى عليه السلام حيث يقول تعالى:

«وَذَكّرْهُم بِأَيمِ اللَّهِ». وهي جميع الأيام العظيمة في تاريخ الإنسانية. فكل يوم يُفتح فيه فصل جديد من حياة الناس فيه درس وعبرة، أو ظهور نبي فيه، أو سقوط جبار وفرعون- أو كل طاغ- ومحوه من الوجود. خلاصة القول: كل يوم يُعمل فيه بالحق والعدالة ويتلاشى فيه الظلم وتنطفي فيه بدعة، هو من أيّام اللَّه.

الروايات الواردة من أهل البيت عليهم السلام تشير أنّهم فسّروا «أيّام اللَّه» بأيام مختلفة، ففي تفسير نور الثقلين عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «أيّام اللَّه، يوم يقوم القائم ويوم الكرّة «2» ويوم القيامة».

وفي آخر الآية يقول تعالى: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَاتٍ لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ».

«صبّار» و «شكور»: صيغة مبالغة فأحدهما تشير إلى شدة الصبر، والاخرى إلى زيادة الشكر، وتعني أنّ المؤمنين كما لا يستسلمون للحوادث والمشاكل التي تصيبهم في حياتهم، كذلك لا يغترّون ولا يغفلون في أيّام النصر والنعم.

تشير الآية الاخرى إلى أحد هذه الأيام التي كانت ساطعة ومثمرة في تاريخ بني إسرائيل، وذكرها تذكرة للمسلمين حيث يقول تعالى: «وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجكُم مّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ». هؤلاء الفراعنة الذين كانوا «يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبّحُونَ

______________________________

(1) المعجزات التي ظهرت من موسى بن عمران

أشارت إليها الآية أعلاه بلفظ الآيات، وهي 9 معاجز مهمّة طبقاً للآية (101) من سورة الإسراء، والتي سوف تأتي إن شاء اللَّه في تفسير تلك الآية.

(2) يوم الكرّة/ أي يوم الرجعة.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 524

أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِى ذلِكُم بَلَاءٌ مّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ».

وكان على طول التاريخ طريقة كل المستعمرين حيث كانوا يبيدون قسماً من القوى الفاعلة والمقاومة، ويضعفون قسماً آخر منها ويستخدمونها في منافعهم الخاصة. أيّ يوم أكثر بركة من ذلك اليوم حيث أزال اللَّه عنكم فيه شرّ المتكبرين والمستعمرين، الذين كانوا يرتكبون أفظع الجرائم بحقكم، وأي جريمة أعظم من ذبح أبنائكم كالحيوانات (إنتبه إلى أنّ القرآن عبّر بالذبح لا بالقتل) وأهمّ من ذلك فإنّ نوامسيكم كانت خدماً في أيدي الطامعين.

وليس هذا المورد خاص ببني إسرائيل، بل في جميع الامم والأقوام. فإنّ يوم الوصول إلى الاستقلال والحرية وقطع أيدي الطواغيت يوم من أيام اللَّه الذي يجب أن نتذكّره دوماً حتى لا نعود إلى ما كنّا عليه في الأيّام الماضية.

ثم يضيف القرآن الكريم: «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ». يمكن أن تكون هذه الآية من كلام موسى لبني إسرائيل، ويمكن أن تكون جملة مستقلّة وخطاباً للمسلمين، ولكن على أيّة حال فالنتيجة واحدة، لأنّ وروده في القرآن الكريم من أجل أن يكون درساً بنّاءاً لنا.

الشكر سبب لزيادة النعم والكفر سبب للفناء: مما لا شك فيه أنّ اللَّه سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى شكرنا في مقابل نعمه علينا، وإذا أمرنا بالشكر فذاك لنستوجب نعمة اخرى وهي واحدة من المبادى ء السامية في التربية.

إنّ حقيقة الشكر ليس فقط ما يقوله الإنسان (الحمد للَّه) أو الشكر اللفظي، بل هناك ثلاث مراحل للشكر:

الاولى: يجب أن نعلم من

هو الواهب للنعم؟ هذا العلم والإيمان الركن الأوّل للشكر.

والثانية: الشكر باللسان.

والثالثه: وهي الأهمّ الشكر العملي، أي أن نعلم الهدف من منحنا للنعمة، وفي أي مورد نصرفها، وإلّا كفرنا بها.

وهنا يتّضح هذه العلاقة بين الشكر وزيادة النعمة، لأنّ الناس لو صرفوا النعم الإلهية في هدفها الحقيقي، فسوف يثبتون عملياً إستحقاقهم لها وتكون سبباً في زيادة الفيوضات الإلهية عليهم.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 525

وَ قَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عَادٍ وَ ثَمُودَ وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَ قَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) الآية الاولى من هذه المجموعة تؤيّد وتُكمل البحث السابق في الشكر والكفران، وذلك ضمن الكلام الذي نقل عن لسان موسى عليه السلام: «وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌ حَمِيدٌ».

إنّ الشكر والإيمان باللَّه سبب في زيادة النعم والتكامل الإنساني، وإلّا فاللَّه عزّ وجل ليس بحاجة إلى أيّ شي ء، ولو كفرت جميع الكائنات ولم تحمده لا تَمسُّ كبرياءه بأدنى ضرر، لأنّه حميد في ذاته.

ثم يشرح مصير الفئات من الأقوام السابقة ضمن عدّة آيات، الفئات التي كفرت بأنعم اللَّه وخالفت الدعوة الإلهية، وهي تأكيد للآية السابقة. يقول تعالى: «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ».

يمكن أن

تكون هذه الجملة تعقيباً على كلام موسى، أو بيان مستقل يخاطب به المسلمين، لكن النتيجة غير متفاوتة كثيراً.

ثم يضيف تعالى: «قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ» فهؤلاء لم يطّلع على أخبارهم إلّااللَّه «لَايَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ».

ولكي يوضّح القرآن الكريم مصيرهم يقول: «جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ». أي: وضعوا أيديهم على أفواههم من التعجب والإنكار «وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا

مختصر الامثل، ج 2، ص: 526

أُرْسِلْتُم بِهِ». لماذا؟ بسبب: «وَإِنَّا لَفِى شَكّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ».

وبما أنّ الآية السابقة بيّنت قول المشركين والكفار في عدم إيمانهم بسبب شكهم وترديدهم، فالآية بعدها تنفي هذا الشك من خلال دليل واضح وعبارة قصيرة حيث يقول تعالى: «قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ». «فاطر»: من «فَطَر» وهي في الأصل بمعنى «شقّ» وهنا كناية عن «الخلق» فالخالق هو الموجد للأشياء على أساس نظام دقيق ثم يحفظها ويحميها، كأنّ ظلمة العدم شقّت بنور الوجود.

ولعل «فاطر» تشير إلى تشقّق المادة الأوّلية للعالم، كما نقرأ في العلوم الحديثة إنّ مجموع مادة العالم كانت واحدة مترابطة ثم إنشقّت إلى كُراة مختلفة.

فالقرآن الكريم هنا- كما في أغلب الموارد الاخرى- يستند لإثبات وجود الخالق وصفاته إلى نظام الوجود وخلق السماوات والأرض.

ثم يجيب القرآن الكريم على ثاني إعتراض للمخالفين، وهو إعتراضهم على مسألة الرسالة (لأنّ شكّهم كان في اللَّه وفي دعوة الرسول) ويقول إنّ من المسلم أنّ اللَّه القادر والحكيم لا يترك عباده بدون قائد، بل إنّه بإرسال الرسل: «يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ».

وزيادة على ذلك فإنّه: «وَيُؤَخّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى». كيما تسلكوا سبيل التكامل وتستفيدوا من موهبة الحياة بأقصى ما يمكنكم.

إنّ غاية دعوة الأنبياء أمران: أحدهما غفران الذنوب، والثاني إستمرار الحياة إلى الوقت المعلوم، والإثنان علة

ومعلول، فالمجتمع الذي يستمر في وجوده هو المجتمع النقي من الظلم والذنوب.

ومع كل ذلك لم يقبل الكفار المعاندون دعوة الحق المصحوبة بوضوح منطق التوحيد، ومن خلال بيانهم المشوب بالعناد وعدم التسليم كانوا يجيبون الأنبياء بهذا القول: «قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مّثْلُنَا». علاوة على ذلك: «تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا». وأكثر من ذلك: «فَأْتُونَا بِسُلْطنٍ مُّبِينٍ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 527

قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَ مَا لَنَا أَنْ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَ قَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَ لَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) التوكل على اللَّه وحده: نقرأ في هاتين الآيتين جواب الرسل على حجج المخالفين المعاندين، وإعتراضهم على بشرية الرسل، فكان جوابهم: «قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مّثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ».

يعني لو إفترضنا أنّ اللَّه تعالى أرسل لكم ملائكة بدل البشر، فهي لا تمتلك شيئاً لذاتها، فكل المواهب ومن جملتها موهبة الرسالة والقيادة هي من عند اللَّه، فالذي يستطيع أن يهب الملائكة هذا المقام قادر أن يعطيها للإنسان.

ثم يجيب على السؤال الثالث دون أن يجيب على الثاني، وكأنّ الإعتراض الثاني الذي هو الإستنان بسنّة الأجداد ليس له أي أهمية وفارغ من المحتوى بحيث إنّ أيّ إنسان عاقل- بأقل تأمل- يفهم جوابه، بالإضافة إلى أنّ القرآن الكريم قد أجاب عنه في آيات اخر.

وجواب السؤال الثالث هو أنّ عملنا ليس الإتيان بالمعاجز، فنحن لا نجلس في مكان ونلبّي لكم المعاجز الإقتراحية وكل ما سوّلت لكم أنفسكم،

بل «وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطنٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ».

ومع ذلك فإنّ كل نبي كان يظهر لقومه المعاجز بمقدار كاف بدون أن يطلبها الناس منه، وذلك لكي يثبت الأنبياء أحقّيتهم ولتكون المعاجز سنداً لصدقهم.

ولكي يردّ الرسل على تهديداتهم المختلفة يقولون: «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ».

وبعد ذلك إستدل الأنبياء على مسألة التوكل حيث قالوا: «وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَينَا سُبُلَنَا».

ثم أضافوا: إنّ ملاذنا هو اللَّه، ملاذ لا يُقهر وهو فوق كل شي ء: «وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا ءَاذَيْتُمُونَا». وأخيراً أنهوا كلامهم بهذه الجملة: «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكّلُونَ».

المقصود من التوكل أن لا يحسّ الإنسان بالضعف في مقابل المشكلات العظيمة، بل

مختصر الامثل، ج 2، ص: 528

بتوكله على قدرة اللَّه المطلقة يرى نفسه فاتحاً ومنتصراً، وبهذا الترتيب فالتوكل عامل من عوامل القوة واستمداد الطاقة وسبب في زيادة المقاومة والثبات.

وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَ خَافَ وَعِيدِ (14) وَ اسْتَفْتَحُوا وَ خَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَ يُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَ لَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَ يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَ مَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَ مِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) خطط الجبارين المعاندين ومصيرهم: عندما يعلم الظالمون بضعف منطقهم وعقيدتهم، يتركون الاستدلال، ويلجأون إلى القوة والعنف، ونقرأ هنا أنّ الأقوام الكافرة العنيدة عندما سمعوا منطق الأنبياء المتين والواضح قالوا لرسلهم: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا».

وكأنّ هؤلاء القوم يعتبرون جميع ما في الأرض ملكهم، حتى أنّهم لم يمنحوا لرسلهم حقوق المواطنة، ولذلك يقولون «أرضنا»، وفي الحقيقة فإنّ

اللَّه سبحانه وتعالى خلق الأرض وكل مواهبها للصالحين، وهؤلاء الجبابرة في الواقع ليس لهم أي حق فيها.

ثم يضيف القرآن الكريم لتسلية قلوب الأنبياء: «فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ».

فلا تخافوا من وعيدهم، ولا تُظهروا الضعف في إرادتكم.

وبما أنّ الظالمين كانوا يهدّدون الأنبياء بالتبعيد عن أرضهم، فإنّ اللَّه في مقابل ذلك كان يعد الأنبياء «وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ». ولكن هذا النصر والتوفيق لا يناله إلّا «ذلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ».

وحين إنقطعت الأسباب بالأنبياء من كل جانب، وأدّوا جميع وظائفهم في قومهم، فآمن منهم من آمن، وبقي على الكفر من بقي، وبلغ ظلم الظالمين مداه، في هذه الأثناء طلبوا النصر من اللَّه تعالى: «وَاسْتَفْتَحُوا ...». وقد استجاب اللَّه عزّ وجلّ دعاء المجاهدين المخلصين «وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 529

«خاب»: من الخيبة بمعنى فقدان المطلوب.

و «جبّار»: بمعنى المتكبّر هنا، وتطلق هذه الكلمة أحياناً على اللَّه جلّ وعلا فتعطي معنىً آخر، وهو (جبر وإصلاح من هو بحاجة إلى الإصلاح) أو بمعنى (المتسلط على كل شي ء).

و «العنيد»: في الأصل من «العَنَد» على وزن «رَنَد» بمعنى الإتّجاه، وجاءت هنا بمعنى الانحراف عن طريق الحق.

ومن الطريف أنّ «جبار» تشير إلى صفة نفسانية بمعنى روح العصيان، و «عنيد» تشير إلى آثار تلك الصفة في أفعال الإنسان حيث تصرفه عن طريق الحق.

ثم يُبيّن نتيجة عمل الجبارين في الآخرة ضمن آيتين في خمسة مواضع:

1- إنّ مثل هذا الشخص: «مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ». مع أنّ كلمة «وراء» بمعنى «الخلف» في مقابل أمام، إلّاأنّها في هذه الموارد تعني نتيجة وعاقبة العمل.

2- أمّا في جهنم فإنّه: «وَيُسْقَى مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ». «الصديد»: القيح المتجمع بين اللحم والجلد، وهو بيان للماء المتعفن الكريه الذي يسقونه.

3- فهذا المجرم المذنب عندما

يرى نفسه في مقابل هذا الشراب «يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ». «يسيغه»: من إساغة، وهي وضع الشراب في الحلق.

4- ووسائل التعذيب كثيرة بحيث «وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ». حتى يذوق وبال عمله وسيّئاته.

5- وقد يتصور أن ليس هناك عقاباً أكثر من ذلك، ولكن «وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ».

وبهذا الترتيب فإنّ كل ما يخطر في ذهن الإنسان وما لا يخطر من شدة العقاب هو في إنتظار هؤلاء الظالمين والجبارين والمذنبين لأنّه النتيجة الطبيعية لعمل الإنسان، بل تجسيم أفعالهم في الآخرة، فكل عمل يجسّم بشكل مناسب.

مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْ ءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) رمادٌ إشتدّت به الريح: ضربت هذه الآية مثالًا واضحاً وبليغاً لأعمال الكفار، وبذلك تكمل بحث الآيات السابقة في مجال عاقبة أمرهم. يقول تعالى: «مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرّيحُ فِى يَوْمٍ عَاصِفٍ». فيتناثر الرماد في الريح العاصف بحيث لا

مختصر الامثل، ج 2، ص: 530

يستطيع أحد جمعه، كذلك منكرو الحق ليست باستطاعتهم أن يجمعوا ما كسبوا «لَّايَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَىْ ءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّللُ الْبَعِيدُ».

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَ مَا ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) الخلق على أساس الحق: بعد ما بحثنا عن الباطل وأنّه كالرماد المتناثر إذا إشتدّت به الريح، نبحث في هذه الآية عن الحقّ وإستقراره، يقول اللَّه تعالى مخاطباً النبي صلى الله عليه و آله باعتباره الاسوة لكل دعاة الحق: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقّ».

«الحق»: كما يقول الراغب في مفرداته «المطابقة والتنسيق» وله استعمالات اخرى: فتارةً يستعمل

الحق في العمل الصادر وفقاً للحكمة والنظام كما في الآية (5) من سورة يونس:

«هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السّنِينِ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقّ».

وتارةً يطلق على الشخص الذي قام بهذا العمل المحكم، كما- في الآية (32) من سورة يونس- نطلقها على اللَّه عزّ وجلّ: «فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ».

وتارةً اخرى يطلق على الإعتقاد الذي يطابق الواقع كما في الآية (213) من سورة البقرة: «فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقّ».

ومرّةً يقال للقول والعمل الذي يتحقق في الوقت المناسب كما في الآية (13) من سورة السجدة: «حَقَّ الْقَوْلُ مِنّى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ».

فمقابل «الحق» الباطل والضلال واللعب وأمثالهما؛ لكنّ الآية التي نحن بصددها تشير إلى المعنى الأوّل، وهو إنشاء عالم الخلق. حيث توضّح أنّ الغرض من خلق السماء والأرض هو الحكمة والنظام والحساب، فاللَّه تعالى ليس محتاجاً في خلقها ولا ناقصاً لكي يسدّ نقصه بها، بل هو الغني عن كل شي ء، وهذا العالم الواسع دار لنمو المخلوقات وتكاملها.

ثم يضيف: إنّ الدليل في عدم الحاجة إليكم ولا إلى إيمانكم هو: «إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ».

وهذا العمل ليس صعباً عند اللَّه «وَمَا ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ».

والشاهد على هذا القول في الآيات (131- 133) من سورة النساء: «وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَ

مختصر الامثل، ج 2، ص: 531

لِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ... إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بَاخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذلِكَ قَدِيرًا». وهذا التفسير بخصوص الآية أعلاه منقول عن ابن عباس.

وَ بَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ

لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَ جَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَ قَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ مَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ مَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَ أُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23) المحادثة الصريحة بين الشيطان وأتباعه: أشارت الآيات السابقة إلى العقاب الشديد للمخالفين والمعاندين والكافرين، وهذه الآيات تكمل ذاك البحث. يقول تعالى أوّلًا:

«وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا».

وفي هذه الأثناء يقول الضعفاء الذين تاهوا في وادي الضلالة للمستكبرين الذين كانوا سبب ضلالهم «فَقَالَ الضُّعَفؤُا لّلَذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَىْ ءٍ» فيجيبونهم بدون توقّف «قَالُوا لَوْ هَدَينَا اللَّهُ لَهَدَيْنكُمْ».

ولكن للأسف فالمسألة منتهية «سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ».

ولكن يجب أن يعلم المستكبرون أنّهم يتحمّلون مسؤولية ذنوب أتباعهم شاؤوا أم أبوا، طبقاً لصريح القرآن والرّوايات، لأنّهم المؤسسون للانحراف والضلال دون أن ينقص أي شي ء من عذاب أتباعهم.

«المحيص»: من «المحص» بمعنى التخلّص من العيوب أو الألم.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 532

ثم يشير القرآن الكريم إلى موقف آخر من مواقف القيامة والعقاب النفسي للجبارين والمذنبين وأتباعهم الشياطين، حيث يقول تعالى: «وَقَالَ الشَّيْطنُ لَمَّا قُضِىَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ». وبهذا الترتيب فالشيطان وجميع المستكبرين الذين هم قادة طرق الضلال، أصبحوا يلومون ويوبّخون تابعيهم البؤساء. ثم يضيف: «وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مّن سُلْطنٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى».

ويستمرّ في القول «فَلَا تَلُومُونِى وَلُومُوا أَنفُسَكُم». أنتم فعلتم فاللعنة عليكم!

وعلى كل حال فلا أنا أستطيع إنقاذكم من العذاب ولا أنتم تستطيعون إنقاذي: «مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِىَّ». والآن اعلّمكم بأنّي أتبرّأ من شرككم وإطاعتكم لي «إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ» فقد فهمت الآن أنّ الشرك في الطاعة أدّى إلى شقائي وشقائكم، وهذه التعاسة ليس لها طريق للنجاة، واعلموا «إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

ونستفيد بشكل أكيد من هذه الآية أنّ وساوس الشيطان لا تسلب الإنسان اختياره وحرية إرادته، بل هي مجرد دعوة ليس أكثر، فالناس هم الذين يلبّون دعوته بإرادتهم.

وبعد بيان حال الجبارين والظالمين ومصيرهم المؤلم، تتطرّق الآية الأخيرة من هذا البحث إلى حال المؤمنين وعاقبتهم، حيث يقول تعالى: «وَأُدْخِلَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ» الآية.

«التحية»: في الأصل «الحياة» وتستعمل لسلامة وحياة الأفراد، وتطلق لكل تحيّة وسلام ودعاء في بداية اللقاء.

ف «سلام» يشمل كل سلامة من أي نوع من أنواع العذاب الروحي والجسمي.

أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَ فَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27) الشجرة الطيبة والشجرة الخبيثة: هنا مشهد آخر في تجسيم الحق والباطل، الكفر

مختصر الامثل، ج 2، ص: 533

والإيمان، الطيّب والخبيث ضمن مثال واحد جميل وعميق المعنى ... يُكمل البحوث السابقة في هذا الباب. يقول تعالى أوّلًا: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ

اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيّبَةٍ». ثمّ يشير إلى خصائص هذه الشجرة الطيبة في جميع أبعادها ضمن عبارات قصيرة.

«الكلمة»: في معناها الواسع تشمل جميع الموجودات.

«الطيب»: كل طاهر ونظيف، فالنتيجة من هذا المثال أنّه يشمل كل سنّة ودستور وبرنامج وطريقة، وكل عمل، وكل إنسان ... والخلاصة: كل موجود طاهر ونظيف وذي بركة، وجميعها كشجرة طيبة فيها الخصائص التالية:

1- كائن يمتلك الحركة والنمو، وليس جامداً ولا خاملًا.

2- هذه الشجرة طيّبة، من كل جهة ... ثمارها، أزهارها، ونسيمها جميعها طيب وطاهر.

3- لهذه الشجرة نظام دقيق، لها جذور وأغصان، وكل واحد له وظيفته الخاصة.

4- أصلها ثابت محكم بشكل لا يمكن أن يقلعها الطوفان ولا العواصف، «أَصْلُهَا ثَابِتٌ».

5- إنّ أغصان هذه الشجرة الطيبة ليست في محيط ضيّق ولا ردي ء، بل مقرّها في عنان السماء، وهذه الأغصان والفروع تشقّ الهواء وتصعد فيه عالياً «وَفَرْعُهَا فِى السَّمَاءِ».

ومن الواضح أنّ الأغصان كلّما كانت عالية وسامقة تكون بعيدة عن التلوّث والغبار وتصبح ثمارها نظيفة.

6- هذه الشجرة كثيرة الثمر لا كالأشجار الذابلة العديمة الثمر، ولذلك فهي كثيرة العطاء «تُؤْتِى أُكُلَهَا».

7- وثمارها ليست فصلية، بل في كل فصل وزمان، فإذا أردنا أن نمدّ يدنا إلى أغصانها في أي وقت لم نرجع خائبين «كُلَّ حِينٍ».

8- إنّ إنتاجها من الثمار يكون وفق قوانين الخلقة والسنن الإلهية وليس بدون حساب «بِإِذْنِ رَبّهَا».

والآن يجب أن نفتّش، أين نجد هذه الخصائص والبركات؟

نجدها بالتأكيد في كلمة التوحيد ومحتواها، وفي الإنسان الموحد ذي المعرفة.

الرجال العظام من المؤمنين هم كلمة اللَّه الطيّبة، وحياتهم أصل البركة، دعوتهم توجب الحركة، آثارهم وكلماتهم وأقوالهم وكتبهم وتلاميذهم وتاريخهم ... وحتى قبورهم جميعها ملهمة وحيّة ومربية.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 534

نعم «وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَرُّونَ».

وبما أنّ أحد أفضل

الطرق لتوضيح المسائل هو الاستفادة من طريق المقابلة والمقايسة، فقد جعلت النقطة المقابلة للشجرة الطيبة، الشجرة الخبيثة «وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ».

والكلمة «الخبيثة» هي كلمة الكفر والشرك، وهي القول السي ء والردي ء، وهي البرنامج الضال والمنحرف، والناس الخبثاء، والخلاصة: هي كل خبيث ونجس.

ومن الطريف أنّ القرآن الكريم فصّل الحديث في وصف الشجرة الطيّبة بينما إكتفى في وصف الشجرة الخبيثة بجملة قصيرة واحدة «اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ».

وهذا نوع من لطافة البيان أن يتابع الإنسان جميع خصوصيات ذكر «المحبوب» بينما يمرّ بسرعة في جملة واحدة بذكر «المبغوض».

وبما أنّ الآيات السابقة جسّدت حال الإيمان والكفر، الطيب والخبيث من خلال مثالين صريحين، فإنّ الآية الأخيرة تبحث نتيجة عملهم ومصيرهم النهائي، يقول تعالى: «يُثَبّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الحَيَوةِ الدُّنْيَا وفِى الْأَخِرَةِ». لأنّ إيمانهم لم يكن إيماناً سطحياً وشخصيتهم لم تكن كاذبة ومتلوّنة.

فهنا يثبّتون بالإيمان ويبرؤون من الذنوب، وهناك يُخلدون في النعيم المقيم.

ثم يشير إلى النقطة المقابلة لهم: «وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ».

قلنا مراراً: إنّ الهداية والضلال التي تنسب إلى اللَّه عزّ وجلّ لا تتحققان إلّابأن يرفع الإنسان القدم الأوّل لها، فاللَّه عزّ وجلّ عندما يسلب المواهب والنعم من العبد أو يمنحها له يكون ذلك بسبب إستحقاقه أو عدم إستحقاقه.

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَ بِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) نهاية كفران النعم: الخطاب في هذه الآيات موجّه للرسول صلى الله عليه و آله وهو في الحقيقة عرض لواحد من موارد

«الشجرة الخبيثة». يقول تعالى أوّلًا: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ

مختصر الامثل، ج 2، ص: 535

كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ». هؤلاء هم جذور الشجرة الخبيثة وقادة الكفر والإنحراف.

مع أنّ بعض المفسرين الكبار عند متابعتهم للروايات الإسلامية فسّروا- أحياناً- هذه النعمة بوجود النبي صلى الله عليه و آله وأحياناً اخرى بالأئمة عليهم السلام وفسّروا الكافرين بهذه النعمة ب «بني اميّة» و «بني المغيرة» مرّةً، ومرّةً اخرى جميع الكفار الذين عاصروا عهد النبي صلى الله عليه و آله، ولكن من المسلم به أنّ للآية مفهوماً أوسع من هذا، وليس مختصاً بمجموعة معينة، بل تشمل جميع الأفراد الذين يكفرون بالنعم الإلهية.

ثم إنّ القرآن الكريم يُفسّر دار البوار بقوله تعالى: «جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ» «1».

ثم يشير في الآية الاخرى إلى واحدة من أسوأ أنواع كفران النعم «وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لّيُضِلُّوا عَن سَبِيلِهِ». لكي يستفيدوا عدّة أيام من حياتهم المادية ومن رئاستهم وحكومتهم في ظل الشرك والكفر لإضلال الناس عن طريق الحق.

أيّها النبي: «قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ». فحياتكم هذه شقاء ورئاستكم فاسدة.

«أنداد»: جمع «ندّ» بمعنى «المثل» ولكن الراغب في مفرداته والزبيدي في تاج العروس قالا: إنّ «الندّ» يقال للشي ء الذي يشابه الشي ء الآخر جوهرياً، و «المثل»: يطلق على كل شي ء شبيه لشي ء، ولذلك فالندّ له معنى أعمق وأدقّ من المثل.

وطبقاً لهذا المعنى نستفيد من الآية أعلاه أنّ أئمة الكفر كانوا يسعون لأن يجعلوا للَّه شركاء ويشبهوهم في جوهر ذاتهم باللَّه عزّ وجلّ، لكي يضلوا الناس عن عبادة اللَّه ويحصلوا على مقاصدهم الشريرة.

قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَ يُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَ عَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَ لَا خِلَالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي

خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهَارَ (33) وَ آتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)

______________________________

(1) «يصلون»: من «الصلي» بمعنى الإشتعال والإحتراق بالنار.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 536

عظمة الإنسان من وجهة نظر القرآن: تعقيباً للآيات السابقة في الحديث عن برنامج المشركين والذين كفروا بأنعم اللَّه وكون مصيرهم إلى دار البوار، تتحدّث هذه الآيات عن برنامج عباد اللَّه المخلصين والنعم النازلة عليهم. يقول تعالى: «قُلْ لِّعِبَادِىَ الَّذِينَ ءَامَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَوةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً». قبل أن يأتي ذلك اليوم الذي لا يستطيع فيه الإنسان من التخلّص من العذاب بشراء السعادة والنعيم الخالد، ولا تنفع الصداقة حينئذ «مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لَّابَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِللٌ».

ثم تتطرّق الآية إلى معرفة اللَّه عن طريق نعمه، معرفة تؤدّي إلى إحياء ذكره في القلوب، وتحثّ الإنسان على تعظيمه في مقابل لطفه وقدرته، لأنّ من الامور الفطرية أن يشعر الإنسان في قلبه بالحب والودّ لمن أعانه وأحسن إليه.

ويبيّن هذا الموضوع من خلال عدّة آيات «اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ».

ثم أنّه «وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ» سواء من جهة موادها الأوّلية المتوفرة في الطبيعة، أو من جهة القوة المحرّكة لها وهي الرياح التي تهب على البحار والمحيطات بصورة منتظمة لتسيير هذه السفن فتنقل الإنسان وما يحتاج إليه من منطقة إلى اخرى بيسر وسهولة: «لِتَجْرِىَ فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ». «وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ»

كي تسقوا من مائها زروعكم، وتشربوا أنتم وأنعامكم، وفي كثير من الأحيان تكون طريقاً للسفن والقوارب، وتستفيدون منها في صيد الأسماك.

وليست موجودات الأرض- فقط- مسخّرةً لكم، بل «وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ دَائِبَيْنِ».

وليست مخلوقات العالم بذاتها فقط، بل حتى الحالات العرضية لها هي في خدمتكم:

«وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيلَ وَالنَّهَارَ* وَءَاتكُم مِّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ» من احتياجاتكم البدنيّة والاجتماعية وجميع وسائل السعادة والرفاه «وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَاتُحْصُوهَا» لأنّ النعم المادية والمعنوية للخالق شملت جميع وجودكم وهي غير قابلة للإحصاء، وعلاوةً على ذلك فإنّ ما تعلمونه من النعم بالنسبة لما تجهلونه كقطرة في مقابل البحر.

وعلى الرغم من كل هذه الألطاف والنعم ف «إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ».

فلو كان الإنسان يستفيد من هذه النعم بشكلها الصحيح لاستطاع أن يجعل الدنيا

مختصر الامثل، ج 2، ص: 537

حديقة غنّاء ولنفّذ مشروع المدينة الفاضلة.

إنّ الإنسان من وجهة نظر القرآن له من العظمة بحيث سخّر اللَّه له جميع ما في الوجود، إمّا أن يكون زمام امورها بيده أو تتحرّك ضمن منافعه، وعلى أيّة حال فهذه العظمة جعلته من أشرف الموجودات.

إنّ القرآن الكريم يناديه: أيّها الإنسان، كل شي ء بالقدر الكافي تحت تصرفك، بشرط أن وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَ مَا نُعْلِنُ وَ مَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ فِي الْأَرْضِ وَ لَا فِي السَّمَاءِ

(38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَ تَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوَالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) لا تكون ظلوماً كفاراً، عليك أن تقنع بحقك ولا تتجاوز على حقوق الآخرين.

دعاء إبراهيم عليه السلام: لمّا كان الحديث في الآيات السابقة عن المؤمنين الصادقين والشاكرين لأنعم اللَّه، عقّبت هذه الآيات في بحث بعض أدعية وطلبات العبد المجاهد والشاكر للَّه إبراهيم عليه السلام ليكون هذا البحث تكملة للبحث السابق ونموذجاً حيّاً للذين يريدون أن يستفيدوا من النعم الإلهية أفضل إستفادة. يقول تعالى: «وَإِذْ قَالَ إِبْرهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هذَا الْبَلَدَ ءَامِنًا وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ».

لأنّه عليه السلام كان يعلم حجم البلاء الكبير الكامن في عبادة الأصنام، ويعلم كثرة الذين ذهبوا ضحيّةً في هذا الطريق: «رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ». فأيّ ضلال أكبر من هذا الضلال الذي يفقد الإنسان فيه حتى عقله وحكمته.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 538

إلهي إنّني أدعو إلى توحيدك، وأدعو الجميع إلى عبادتك «فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَن عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ». إنّ إبراهيم عليه السلام أراد بهذه العبارة أن يقول للَّه تعالى: إنّه حتى لو انحرف أبنائي عن مسيرة التوحيد واتّجهوا إلى عبادة الأصنام فإنّهم ليسوا منّي، ولو كان غيرهم في مسيرة التوحيد فهم أبنائي وإخواني.

ثم يستمر بدعائه ومناجاته: «رَبَّنَا إِنّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَوةَ».

وكان ذلك عندما رزقه اللَّه إسماعيل من جاريته «هاجر» فأثار ذلك حسد زوجته الاولى «سارة» ولم تستطيع تحمل وجود هاجر وإبنها، فطلبت من إبراهيم أن يذهب بهما إلى مكان آخر، فإستجاب

لها إبراهيم طبقاً للأوامر الإلهية، وجاء بإسماعيل وامّه إلى صحراء مكة القاحلة، ثم ودّعهم وذهب.

ثم يتابع إبراهيم عليه السلام دعاءه: إلهي، إنّ أهلي قد سكنوا في هذه الصحراء المحرقة إحتراماً لبيتك المحرّم: «فَاجْعَلْ أَفِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ».

ومن هنا لمّا كان الإنسان الموحّد والعارف يعلم بمحدودية علمه في مقابل علم اللَّه، وأنّه لا يعلم مصلحته إلّااللَّه تعالى، فما أكثر ما يطلب شيئاً من اللَّه وليس فيه صلاحه، أو لا يطلبه وفيه صلاحه، وأحياناً لا يستطيع أن يقوله بلسانه فيضمره في أعماق قلبه، ولذلك يعقّب على ما مضى من دعائه ويقول: «رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَىْ ءٍ فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى السَّمَاءِ».

فإن كنت مغتمّاً لفراق إبني وزوجتي فأنت تعلم بذلك ... وترى دموع عيني المنهملة.

وعندما فارقت زوجتي وقالت لي: «إلى من تكلني» فأنت أدرى بها وبمستقبلها ومستقبل هذه الأرض.

ثم يشير القرآن إلى شكر إبراهيم عليه السلام لنعمه تعالى والتي هي من أهمّ ما إمتاز به عليه السلام شكره على منحه ولدين بارّين إسماعيل وإسحاق وذلك في سنّ الشيخوخة: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمعِيلَ وَإِسْحقَ». نعم «إِنَّ رَبّى لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ».

ثم يستمرّ بدعاءه ومناجاته أيضاً فيقول: «رَبّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصَّلَوةِ وَمِن ذُرِّيَّتِى رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 539

ثم يختم دعاءه هنا فيقول: «رَبَّنَا اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ».

وبهذا الترتيب فإنّ دعواته تبدأ بالأمن وتنتهي بالعفو والغفران، ومن الطريف أنّه لم يطلبها لنفسه فقط، بل للآخرين كذلك، لأنّ عباد الرحمن ليسوا أنانيّين. وَ لَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا

يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَ أَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَ نَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَ وَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَ سَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَ تَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَ ضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) اليوم الذي تشخص فيه الأبصار: كان الحديث في الآيات السابقة عن يوم الحساب، وبهذه المناسبة تجسّم هذه الآيات حال الظالمين والمتجبرين في ذلك اليوم، ثم تبيّن المسائل المتعلقة بالمعاد وتكمل الحديث السابق حول التوحيد وتبدأ في تهديد الظالمين: «وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غفِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ».

وهذا في الواقع جواب لُاولئك الذين يقولون: إذا كان لهذا العالم إله عادل فلماذا يترك الظالمين وحالهم؟ هل هو غافل عنهم أم لا يستطيع أن يمنعهم وهو يعلم بظلمهم؟

فيجيب القرآن الكريم على ذلك بأنّ اللَّه ليس غافلًا عنهم أبداً، لأنّ عدم عقابهم مباشرةً هو أنّ هذا العالم محلّ الامتحان والاختبار وتربية الناس، وهذا لا يتمّ إلّافي ظل الحرية، وسوف يأتي يوم حسابهم «إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ* مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رَءُوسِهِمْ لَايَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفِدَتُهُمْ هَوَاءٌ».

«تشخص»: من مادة «الشخوص» بمعنى توقف العين عن الحركة والنظر إلى نقطة بدهشة؛ و «مهطعين»: من مادة «إهطاع» بمعنى رفع الرقبة؛ و «مقنعي»: من مادة «الإقناع» بمعنى رفع الرأس عالياً.

إنّ بيان هذه الصفات الخمس: تشخص الأبصار، مهطعين، مقنعي رؤوسهم، لا يرتدّ إليهم طرفهم، أفئدتهم هواء، صورة بليغة لهول وشدّة ذلك اليوم على الظالمين الذين كانوا يستهزئون بكل شي ء، وأصبحوا في هذا اليوم لا يستطيعون حتى تحريك أجفان أعينهم.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 540

مختصر الامثل ج 3 6

فهؤلاء كانوا يعتقدون بكمال عقولهم

ويعدّون الآخرين من الحمقى، فأصبحوا اليوم مدهوشين لدرجة أنّ نظرهم نظر المجانين، بل الأموات ... نظر جاف عديم الروح وملي ء بالرعب والفزع .... نعم، عندما يريد القرآن الكريم أن يصوّر منظراً أو يجسّم موقفاً يستخدم أقصر العبارات في أكمل بيان كما في الآية أعلاه.

ولكي لا يعتقد أحد أنّ هذه المجازات تتعلق بمجموعة معينة، يقول تعالى لنبيه الكريم:

«وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ تَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ» حتى نستفيد من هذه الفرصة ثم «نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ» ولكن هيهات إنّ ذلك محال «أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ وَسَكَنتُمْ فِى مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ». فكلّ هذه الدروس لم تؤثّر بكم وأدمتم ظلمكم وجوركم، والآن وبعد أن وقعتم في يد العدالة تطلبون تمديد المدّة؟ لقد إنتهى كل شي ء.

وَ قَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَ عِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَ إِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّمَاوَاتُ وَ بَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَ تَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَ تَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ وَ لِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52) لا فائدة من مكرهم: أشارت الآيات السابقة إلى نوع من عقاب الظالمين، وفي هذه الآيات أيضاً أشارت- أوّلًا- إلى جزء من أفعالهم، ومن ثم إلى قسم آخر من جزائهم الشديد وعقابهم الأليم. تقول الآية الاولى: «وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ».

لقد عملوا كل ما

بوسعهم من أجل طمس حقائق الإسلام، بدءً من الترغيب والتهديد وحتى الأذى ومحاولات القتل والإغتيال وبثّ الشائعات، ومع كل ذلك فإنّ اللَّه مطلع على

مختصر الامثل، ج 2، ص: 541

جميع مؤامراتهم وقد أحصى أعمالهم: «وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ». فلا تقلق فإنّهم لا يستطيعون بمكرهم هذا أن يصيبوك بسوء حتى «وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ».

«المكر»: بمعنى الإحتيال، فمرّةً يلازمه الفساد ومرّةً اخرى لا يلازمه، والمراد بكون مكرهم عند اللَّه إحاطته تعالى به بعلمه وقدرته.

ثم يتوعّد اللَّه الظالمين والمسيئين مرّة اخرى من خلال مخاطبة النبي صلى الله عليه و آله: «فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ» لأنّ الإخلاف يصدر من الذي ليست له قدرة واستطاعة، ولكن:

«إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ».

وهذه الآية مكمّلة للآية التي قبلها «وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ». وتعني أنّ المهلة التي أعطيت للظالمين ليست بسبب أنّ اللَّه غافل عنهم وعن أعمالهم ولا مخلف لوعده، بل سينتقم منهم في اليوم المعلوم.

ثم يضيف تعالى: «يَوْم تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّموَاتُ». وسوف يتجدّد كل شي ء بعد الدمار، ويبعث الإنسان في خلق جديد وعالم جديد يختلف في كل شي ء عن هذا العالم، في سعته، في نعيمه وعقابه وسيظهر الإنسان بكل وجوده للَّه تعالى: «وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ القَهَّارِ».

معنى بروز الناس للَّه تعالى، إنكشاف بواطن وظواهر جميع الناس في يوم المحشر، فالظهور بالقياس إلى علمنا وليس إلى علم اللَّه المطلق.

ووصفه بالقهّار دليل على تسلطه على كل الأشياء وسيطرته على ظاهرها وباطنها.

وتصوّر الآية التالية كيفية بروزهم إلى اللَّه فتقول: «وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى الْأَصْفَادِ».

«الأصفاد»: جمع «صفد» بمعنى الغلّ؛ و «مقرنين»: من مادة «القرن والإقتران» بمعنى الأشخاص المتقاربين مع بعضهم البعض.

إنّ هذا الغِل هو عبارة عن تجسيد للروابط العملية والفكرية بين المجرمين

في هذه الدنيا، حيث كان يساعد بعضهم البعض على الظلم والفساد، وتتجسّد هذه العلاقة في الآخرة بصورة سلاسل تربطهم فيما بينهم.

ثم يتطرّق القرآن الكريم إلى لباسهم والذي هو أحد أفراد المجازاة الشديدة: «سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 542

«سرابيل»: جمع «سربال» على وزن «مثقال» بمعنى القميص من أي قماش كان. و «قطران»: بفتح القاف وسكون الطاء أو بكسر القاف وسكون الطاء، وهي مادةً تؤخذ من شجرة الأبهل ثم تُغلى فتثخن وتُطلى بها الإبل عند إصابتها بمرض الجرب، فهي مادة سوداء نتنة وقابلة للإشتغال.

وعلى هذا أنّهم يلبسون ثياباً من مادة سوداء ونتنة وقابلة للإشتعال، حيث تمثّل أسوأ الألبسة لما كانوا يعملونه في هذه الدنيا من إرتكاب الذنوب والفواحش. وسوادها يشير إلى أنّ الذنوب تؤدّي إلى أن يكون الإنسان مسودّ الوجه أمام ربّه، وتعفّنها يشير إلى تلوّث المجتمع بهم ومساعدتهم على إشعال نار الفساد، وكأنّ القطران تجسيد لأعمالهم في الدنيا.

كل ذلك لأجل «لِيَجْزِىَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ». ومن الطريف أنّه لم يقل أنّ الجزاء بما كسبت أنفسهم، بل يقول: «ما كسبت» ليكون تجسيداً حيّاً لأعمالهم، وهذه الآية بهذا التعبير الخاص دليل آخر على تجسّم الأعمال.

وفي الختام يقول تعالى: «إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ». وهذا واضح تماماً لأنّ كل إنسان حسابه معه.

وورد في الخبر: «إنّ اللَّه تعالى يحاسب الخلائق كلهم في مقدار لمح البصر». ولا ريب أنّ اللَّه تعالى لا يحتاج إلى وقت لمحاسبة الأفراد، وما جاء في الرواية أعلاه إشارة إلى أقصر الفترات.

وبما أنّ آيات هذه السورة- وكذلك جميع الآيات- لها جانب الدعوة إلى التوحيد وإبلاغ الأحكام الإلهية إلى الناس وإنذارهم، يقول تعالى في آخر آية من هذه السورة: «هذَا بَلغٌ لّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ

وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْببِ».

بداية وختام سورة إبراهيم: وكما رأينا فإنّ سورة إبراهيم ابتدأت في بيان دور القرآن الكريم في إخراج الناس من الظّلمات إلى نور العلم والتوحيد، وانتهت في بيان دور القرآن في إنذار الناس وتعليمهم التوحيد.

إنّ هذه البداية والنهاية تبيّن هذه الحقيقة، وهو أنّ كل ما نحتاجه موجود في هذا القرآن، حيث يقول الإمام علي عليه السلام: «هو ربيع القلوب وينابيع العلم» ... «فاستشفوه من أدوائكم»

مختصر الامثل، ج 2، ص: 543

وهذا البيان دليل على خلاف ما يراه بعض المسلمين من أنّ القرآن الكريم كتاب مقدس يقتصر وجوده في ترتّب الثواب لقارئه. بل هو كتاب شامل لجميع مراحل الحياة الإنسانية.

كتاب رشد وهداية ودستور للعمل، فهو يذكّر العالِم ويستلهم منه عموم الناس.

إنّ هجران القرآن الكريم وإتّخاذ المبادى ء المنحرفة الشرقية منها والغربية، أحد العوامل المهمة في تأخّر المسلمين.

«نهاية تفسير سورة إبراهيم»

مختصر الامثل، ج 2، ص: 545

15. سورة الحجر

محتوى السورة: المشهور عند جلّ المفسرين أنّ سورة الحجر مكية، وهي السورة الثانية والخمسون من السور التي نزلت على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في مكة المكرمة.

ويمكننا تلخيص ما حوته السورة في سبع نقاط:

1- الآيات المتعلقة بمبدأ عالم الوجود، والإيمان به من خلال التدبّر في أسرار الإيجاد.

2- الآيات المتعلقة بالمعاد وعقاب الفجرة الفسقة.

3- أهمية القرآن باعتباره كتاباً سماوياً.

4- محاولة إيقاظ وتنبيه البشر من خلال طرح قصّة خلق آدم، وتمرّد إبليس، وتبيان عاقبة التمرد.

5- زيادة في محاولة الإيقاظ والتنبيه من خلال عرض القصص القرآني لما جرى لأقوام لوط وصالح وشعيب عليهم السلام.

6- إنذار وبشارة، مواعظ لطيفة وتهديدات عنيفة، إضافة إلى المرغّبات المشوّقة.

7- مخاطبة النبي صلى الله عليه و آله لتقوية صبره وثباته قبال ما يحاك من دسائس.

وقد اختير

اسم السورة من الآية الثمانين التي ذكرت قوم صالح بأصحاب الحجر، وهي السورة الوحيدة في القرآن التي ذكرتهم بهذه التسمية.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 546

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَ قُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا وَ يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَ مَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَ لَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَ مَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) سورة اخرى تفتتح بالحروف المقطعة «الر» لتبيّن من جديد أنّ مفردات كتاب نور السماء إلى ظلام أهل الأرض، ما هي إلّاعين تلك الأبجدية التي تلوك ألفاظها ألسن كل البشر، صغيرهم وكبيرهم، بين مختلف اللغات، ومع ذلك فلا يستطيع أي مخلوق الوصول لبناء وتركيب كلام القرآن، وهو ذروة التحدي الرباني المعجز، وعليه فقد جاءت «تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْءَانٍ مُّبِينٍ» مباشرة، لأنّه يظهر الحقائق ويبيّن الحق من الباطل.

ثم يحذّر الذين يصرّون على الفساد ومخالفة آيات اللَّه الجليّة، ويخبر بأنّهم سوف يندمون حين ينكشف الغطاء يوم القيامة بما كسبت أيديهم من كفر وتعصب أعمى وعناد. ويقول:

«رُبَّمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ».

فالمراد بكلمة «يودّ» التمني وذكر كلمة «لو» للدلالة على تمنّيهم الإسلام في وقت لا يمكنهم فيه العودة إلى ما كانوا ينكرون، وهذه إشارة إلى أنّ تمنيهم سيكون في العالم الآخر وبعد معاينة نتائج الاعمال.

يمكن حمل الآية على ندم بعض من الكافرين في كلا العالمين (الدنيا والآخرة)، واعتبار عدم استطاعتهم العودة إلى الإسلام في حياتهم الدنيا وفي الآخرة لجهات مختلفة.

ثم يأتي نداء السماء بلهجة لاذعة، يا محمّد: «ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ». فهم كالأنعام التي لا تعرف سوى الحقل والعلف، ولا تفهم سوى اللذات المادية، وكل ما

تريده لا يتعدى إطار ما تعرف وتفهم.

إنّهم لا يدركون فقه الحقائق، لأنّ حجب الغرور والغفلة والأماني الزائفة ختمت على قلوبهم.

و لكن، عندما يصفع الأجل وجوههم وترتفع تلك الحجب عن أعينهم، وحينما يجدون

مختصر الامثل، ج 2، ص: 547

أنفسهم أمام الموت أو في عرصة يوم القيامة، هنالك سيدركون عظمة حجم غفلتهم ومدى خسرانهم، وكيف أنّهم قد ضيّعوا أغلى ما كانوا يملكون.

الآية التالية توضّح محدودية اللذائذ الدنيوية لكي لا يظن أحد إنّها خالدة فتقول: «وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ».

ثم يقول تعالى: «مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتْخِرُونَ».

فقد سرت سنّة الباري جلّ شأنه بأن يعطي المدّة الكافية لرجوع المضللين إلى بارئهم، من خلال ابتلائهم بالشدائد الصعبة تارة، وبفيوضات الرخاء تارة اخرى، فمن لا تنفعه البشارة يأتيه الإنذار وهكذا، كل ذلك إتماماً للحجة عليهم.

وَ قَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ مَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) طلب نزول الملائكة: تبتدى ء الآيات بتبيان موقف العداء الأعمى والتعصب الأصم للقرآن الحكيم والنبي الأكرم صلى الله عليه و آله من قبل الكفار، فتقول: «وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ».

ومن خلال كلامهم يظهر بجلاء مدى وقاحتهم وسوء الأدب الذي امتازوا به حين مخاطبتهم للنبي صلى الله عليه و آله.

الملفت في التهم الموجهة إلى أنبياء اللَّه تعالى أنّها تحمل بين طيّاتها تضاداً واضحاً يُلمس بأدنى تدبّر، ففي الوقت الذي يرمون النبي بالجنون يعودون ويقولون عنه: إنّه لساحر، فمع أنّ الساحر لابدّ له من الذكاء والنباهة، فهل يعقل أن يكون الساحر، مجنوناً؟!

إنّهم لم يكتفوا بنسبة الجنون إلى النبي صلى الله عليه

و آله بل تحججوا قائلين: «لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ».

فيجيبهم الباري جلّ شأنه: «مَا نُنَزّلُ الْمَلِكَةَ إِلَّا بِالْحَقّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُّنظَرِينَ».

وبعبارة اخرى: فالإعجاز ليس أمراً ترفيهياً يناغي تصوّرات الأخرين بقدر ما هو حجّة إلهية لإثبات الحق وإماطة الباطل.

وقد أشبعت هذه الحقيقة بصورة وافية لمن يرى النور نوراً والظلام ظلاماً من خلال ما أوصله نبي الخاتم صلى الله عليه و آله عن طريق القرآن والمعاجز الاخرى.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 548

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) حفظ القرآن من التحريف: بعد أن استعرضت الآيات السابقة تحجج الكفار واستهزاءهم بالنبي صلى الله عليه و آله والقرآن، تأتي هذه الآية المباركة لتواسي قلب النبي صلى الله عليه و آله من جهة ولتطمئن قلوب المؤمنين المخلصين من جهة اخرى، من خلال طرح مسألة حيوية ذات أهمية بالغة لحياة الرسالة، ألا وهي حفظ القرآن من التلاعب والتحريف: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ». فبناء هذا القرآن مستحكم وشمس وجوده لا يغطيها غبار الضلال، ومصباح هديه أبديّ الإنارة، ولو اتحد أعتى جبابرة التاريخ وطغاته وحكّامه الظلمة، محفوفين بعلماء السوء، ومزوّدين بأقوى الجيوش عدّة وعتاداً، على أن يخمدوا نور القرآن، فلن يستطيعوا، لأنّ الحكيم الجبّار سبحانه تعهد بحفظه وصيانته.

وقد اختلف المفسرون في دلالة (حفظ القرآن) في هذه الآية المباركة، والصحيح، وفقاً لظاهر الآية المذكورة، أنّ اللَّه تعالى وعد بحفظ القرآن من جميع النواحي: من التحريف، من التلف والضياع، ومن سفسطات الأعداء المزاجية ووساوسهم الشيطانية.

المشهور بين أوساط جلّ علماء المسلمين، أنّ القرآن لم يتعرض لأيّ نوع من التحريف، وأنّ الذي بين أيدينا هو عين القرآن الذي نزل على صدر الحبيب محمّد النبي صلى الله عليه و آله.

فلا زيادة أو نقصان، حتى بكلمة واحدة، أو بحرف واحد.

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ قَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَ لَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) العناد والتعصب: تواسي الآيات قلب النبي صلى الله عليه و آله وقلوب المؤمنين لما كانوا يواجهونه من صعاب في طريق دعوتهم، من خلال الإشارة إلى صراع الأنبياء السابقين مع أقوامهم الضالة والمتعصبة. فتقول أوّلًا: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى شِيَعِ الْأَوَّلِينَ».

ولكنّهم من العناد والتعصب لدرجة: «وَمَا يَأْتِيهِم مّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ».

ذلك الاستهزاء وتلك السخرية لاعتبارات عدّة:

مختصر الامثل، ج 2، ص: 549

- مرة، يريدون بالسخرية إسقاط شخصية النبي كي لا يؤثّر في أوساط الفئة الواعية.

- واخرى، يحاولون بالإستهزاء تغطية ضعفهم وعجزهم أمام المنطق القوي والحجج الدامغة لرسل اللَّه عزّ وجلّ.

- واخرى، محاولة تخدير وجدانهم السارح في المتاهات كي لا يصحوا على حين غرّة فيعتنق الحق وينهض بأعباء مسؤوليته.

- وأخيراً، فقبولهم لدعوة الأنبياء عليهم السلام- حسب تصورهم- يستلزم تقويضاً لكل شهواتهم الدنيوية، وتحميلهم وظائف جديدة لا يطيقونها، فليجؤون للإستهزاء لتبرير إعراضهم وانكارهم وإراحة ضمائرهم.

ثم يقول جلّ وعلا: «كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ». أي: نوصل الآيات القرآنية إلى أعماق وجدانهم وعقولهم.

ومع وضوح البلاغ والتأكيد وبيان المنطق الرباني وإظهار المعجزات، ترى المتعصبين المستهزئين «لَايُؤْمِنُونَ بِهِ» وهو ليس بجديد «وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ».

ويصل أمر الغارقين في شهواتهم والمصرّين في عنادهم على الباطل إلى أنّهم لا يؤمنون حتى «وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ».

ومع ذلك «لَقَالُوا إِنَّمَا سُكّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ».

عجباً، أن يصل الإنسان لهذا الدرك من العناد والتعصب.

إنّ الذنوب والجهل ومعاداة الحق تؤثّر على الروح الطاهرة والفطرة السليمة، فتحجبهما عن رؤية وجه الحقيقة الناصع، وتمنعهما من إدراك الحقائق، وإذا لم يتمكن الإنسان من رفع تلك الحجب وإزالة الموانع، فإنّ صورة الحق ستتلوّث في نظره فينكر كل ما هو معقول ومحسوس معاً، ومن الممكن تطهير الفطرة في المراحل الاولى، ولكن إذا رسخت في قلبه هذه الحالة وتجذّرت وأمست «ملكة» وصفة أخلاقية، فلا يمكن ازالتها بسهولة، وعندها سوف لا تترك أقوى الأدلة العقلية ولا أوضح الأدلة الحسية أيّ تأثير في قلبه.

وَ لَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَ زَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَ حَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) تشير الآيات إلى جانب من عالم المخلوقات لتعميق معرفة وتوحيد اللَّه، وبسياقها

مختصر الامثل، ج 2، ص: 550

جاءت تكملةً لبحثي القرآن والنبوة المذكورين في الآيات السابقة. قوله تعالى: «وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السَّمَاءِ بُرُوجًا». «البروج»: جمع «برج» ويعني «الظهور» ولهذا يطلق على البيت الذي يبنى في سور المدينة أو على سور الحصن الذي يعتصم به المقاتلون، وذلك لما له من بروز وارتفاع خاص.

ويقال كذلك (تبرجت) للمرأة التي تظهر زينتها.

والبروج السماوية: هي منازل الشمس والقمر. وبعبارة أقرب إلى الذهن: لو نظرنا إلى الشمس والقمر بإمعان فسنراها في كل فصل من فصول السنة ولفترة زمنية معينة يقابلان أحد الصور الفلكية (الصور الفلكية: مجموعة نجوم على هيئة خاصة) فنقول: إنّ الشمس في برج الحمل «1»- مثلًا- أو الثور أو الميزان أو العقرب أو القوس.

ويعتبر وجود الأبراج السماوية، وكذلك النظام الدقيق في حركة منازل الشمس والقمر ضمن هذه البروج

(وهو التقويم المجسّم لعالم وجودنا)، من الأدلة الواضحة على علم وقدرة الخالق جلّ وعلا.

ثم يضيف: «وَزَيَّنَاهَا لِلنَّاظِرِينَ».

ويضيف في الآية التالية: «وَحَفِظْنهَا مِن كُلّ شَيْطنٍ رَّجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ».

إنّ المقصود من السماء هو سماء الحق والحقيقة، وأنّ الشياطين ذوي الوساوس يحاولون أن يجدوا سبيلًا لاختراق السماء واستراق السمع، ليتمكنوا من إغواء الناس بذلك، ولكن النجوم والشهب (وهم القادة الربانيون من الأنبياء والأئمة والعلماء) يبعدونهم ويطردونهم بالعلم والتقوى.

وَ الْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَ أَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْزُونٍ (19) وَ جَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وإتماماً لما سبق يتناول القرآن بعض آيات الخلق، ومظاهر عظمة الباري على وجه البسيطة، ويبدأ بنفس الأرض «وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا».

______________________________

(1) «الحمل»: مجموع منظومات شمسية تظهر في السماء على هيئة الحمل تقريباً. وكذلك الثور والميزان وغيرها.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 551

«المد»: في الأصل بمعنى التوسعة والبسط، ومن المحتمل أن يراد به إخراج القسم اليابس من الأرض من تحت الماء.

ثم يتطرق إلى خلق الجبال بما تحمله من منافع جمّة كآية من آيات التوحيد: «وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ».

عبّر سبحانه عن خلق الجبال بالإلقاء، ولعلّ المراد ب «إلقاء» هنا بمعنى (إيجاد).

ومن بديع خلق الجبال إضافةً إلى كونها أوتاداً لتثبيت الأرض وحفظها من التزلزل نتيجة الضغط الداخلي، فإنّها تقف كالدرع الحصين في مواجهة قوّة العواصف، بل وتعمل على تنظيم حركة الهواء وتعيين اتجاهه، ومع ذلك فهي المحل الأنسب لتخزين المياه على صورة ثلوج وعيون.

ثم ينتقل إلى العامل الحيوي الفعال في وجود الحياة البشرية والحيوانية، ألا وهو النبات:

«وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ شَىْ ءٍ مَّوْزُونٍ».

يتنوع على وجه

البسيطة مئات الآلاف من النباتات، وكل تحمل خواصاً معينة ولها من الآثار ما يميّزها عن غيرها، وهي باب لمعرفة الباري ء المصوّر جلّ شأنه، وكل ورقة منها كتاب ينطق بمعرفة الخالق.

وبما أنّ وسائل وعوامل حياة الإنسان غير منحصرة بالنبات والمعادن فقط، ففي الآية التالية يشير القرآن الكريم إلى جميع المواهب بقوله: «وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ».

ليس لكم فقط، بل لجميع الكائنات الحيّة حتى الخارجة عن مسؤوليتكم «وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ».

نعم، لقد كفينا الجميع احتياجاتهم.

«معايش»: جمع «معيشة» وهي الوسائل والمستلزمات التي تتطلبها حياة الإنسان، والتي يحصل عليها بالسعي تارة، وتأتيه بنفسها تارة اخرى.

أمّا آخر آية من الآيات المبحوثة، فتحوي جواباً لسؤال طالما تردد على أذهان كثير من الناس، وهو: لماذا لم تهيّأ النعم والأرزاق بما لا يحتاج إلى سعي وكدح؟! فتنطق الحكمة الإلهية جواباً: «وَإِن مّن شَىْ ءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ». فليست قدرتنا محدودة حتى نخاف نفاد ما نملك، وإنّما منبع ومخزن وأصل كل شي ء تحت أيدينا، وليس من الصعب علينا خلق أيّ شي ء وبأيّ وقت يكون، ولكن الحكمة إقتضت أن يكون كل شي ء في هذا

مختصر الامثل، ج 2، ص: 552

الوجود خاضعاً لحساب دقيق، حتى الأرزاق إنّما تنزل إليكم بقدر. ونقرأ في الآية (27) من سورة الشورى: «وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِى الْأَرْضِ وَلكِن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ».

إنّ السعي والكدح في صراع الحياة يضفي على حركة الإنسان، الحيوية والنشاط، وهو بقدر ما يعتبر وسيلة سليمة ومشروعة لتشغيل العقول وتحريك الأبدان، فإنّه يطرد الكسل ويمنع العجز ويحيي القلب للتحرك والتفاعل مع الآخرين. وإذا ما جعلت الأرزاق تحت اختيار الإنسان بما يرغب هو لا حسب التقدير الرباني، فهل يستطيع أحد أن يتكهن بما سيؤول إليه

مصير البشرية؟

والفقر والغنى من البلاء الذي يدخل ضمن مخطط التمحيص والإمتحان، فكما أنّ الفقر والعوز قد يجرّان الإنسان نحو هاوية السقوط في مهالك الانحراف، فكذلك الغنى في كثير من حالاته يكون منشأً للفساد والطغيان.

وَ أَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَ مَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَ إِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ نَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) دور الرياح والأمطار: بعد أن عرض القرآن الكريم في الآيات السابقة قسماً من أسرار الخليقة والنعم الإلهية كخلق الأرض والجبال والنباتات وما تحتاجه الحياة من مستلزمات، يشير في أولى الآيات المبحوثة إلى حركة الرياح وما لها من آثار في عملية نزول المطر، فيقول: «وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ».

«لواقح»: جمع «لاقح» .. وهي تشير هنا إلى دور الرياح في تجميع قطع السحاب مع بعضها لتهيئة عملية سقوط الأمطار.

ويمكن حمل «مَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ» على أنّها إشارة لخزن ماء المطر في السحب قبل نزوله، أي: إنّكم لا تستطيعون استملاك السحب التي هي المصدر الأصلي للأمطار.

ويمكن حملها على أنّها إشارة إلى جمع وخزن الأمطار بعد نزولها، أي إنّكم لا تقدرون

مختصر الامثل، ج 2، ص: 553

على جمع مياه الأمطار بمقادير كبيرة حتى بعد نزوله، وأنّ اللَّه عزّ وجلّ هو الذي يحفظها ويخزنها على قمم الجبال بهيئة ثلوج، أو ينزلها في أعماق الأرض لتكون بعد ذلك عيوناً وآباراً.

ثم ينتقل من مظاهر توحيد اللَّه إلى المعاد ومقدماته: «وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ». فيذكر مسألة الحياة والموت التي تعتبر من أهمّ المقدمات لبحث موضوع المعاد، إضافة لكون

هذه المسألة من مكمّلات موضوع التوحيد، بالإضافة إلى أنّ وجود الحياة والموت بحد ذاته دليل على أنّ موجودات هذا العالم لا تملك زمام أنفسها ناهيك عمّا هو بأيديها، وأنّ الوارث الحقيقي لكل شي ء هو اللَّه تعالى.

ثم يضيف: «وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتْخِرِينَ». أي: نحن على علم بهم وبما يعملون، وإنّ أمر محاسبتهم وجزائهم في المعاد علينا سهل يسير.

ولهذا نرى الآية التي تليها: «وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ». مرتبطة تماماً مع ما قبلها ومتمّمة من خلال طرحها مسألة ما سيكون بعد الموت ... فحكمة الباري أوجبت أن لا يكون الموت نهاية لكل شي ء.

فلو أنّ الحياة انحصرت بهذه الفترة الزمنية المحدودة وينتهي كل شي ء بالموت لكانت عملية الخلق عبثاً، وهذا غير معقول، لأنّه تعالى منزّه عن العبث.

فالحكمة الإلهية اقتضت من «حياة الدنيا أن تكون مرحلة إستعداد لمسيرة دائمة نحو المطلق». وأمّا كونه سبحانه عليماً فهو عليم بصحائف أعمال الجميع المثبتة في قلب هذا العالم الطبيعي من جهة، وكذلك في اعماق وجود الانسان من جهة اخرى، ولا تخفى عليه خافية يوم يقوم الحساب.

وكونه سبحانه الحكيم العليم في هذا المورد دليل قوي وعميق الغور على مسألة الحشر والمعاد.

إنّ كلمة «المستقدمين» و «المستأخرين» لهما معنيان واسعان يشملان المتقدمين والمتأخرين من حيث الزمان، وكذلك من حيث أعمال الخير والجهاد وحتى الحضور في الصفوف المتقدمة لصلاة الجماعة وما شابهها.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 554

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَ الْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ

كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَنْ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَ إِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) خلق الإنسان: بعد ذكر خلق نماذج من مخلوقات اللَّه في الآيات السابقة، تأتي هذه الآيات لتبيّن أنّ الهدف الأساسي من إيجاد كل الخليقة إنّما هو خلق الإنسان، وتتطرق الآيات إلى جزئيات عديدة في شأن الخلق، زاخرةً بالمعاني. يقول تعالى في البداية: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن صَلْصلٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ». «الصلصال»: هو التراب اليابس الذي لو اصطدم به شي ء أحدث صوتاً ... و «الحمأ المسنون»: هو طين متعفن.

«وَالْجَانَّ خَلَقْنهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ». «السّموم» لغة: الهواء الخارق، وسمي بالسموم لأنّه يخترق جميع مسامات بدن الإنسان.

ثم يعود القرآن الكريم إلى خلق الإنسان مرّة اخرى فيتعرض إلى كلام اللَّه تعالى مع الملائكة قبل خلق الإنسان: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلِكَةِ إِنّى خلِقٌ بَشَرًا مّن صَلْصلٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى». وهي روح شريفة طاهرة جليلة: «فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 555

وبعد أن تمّ خلق الإنسان من الجسم والروح المناسبين

«فَسَجَدَ الْمَلِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ».

ولم يعص هذا الأمر إلّا إبليس: «إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ».

وهنا سأل اللَّه إبليس: «قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ».

فأجاب إبليس بعد أن كان غارقاً في بحر الغرور المظلم، وتائهاً في حبّ النفس المقتم، وبعد أن غطّى حجاب الخسران عقله ... أجاب بوقاحة: «قَالَ لَمْ أَكُن لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ».

ونتيجة للغرور وحبّ النفس، فقد جهل أسرار الخليقة، وكنتيجة طبيعية لهذا السلوك المنحرف فقد هوى من ذلك المقام المرموق بعد أن أصبح غير لائق لأن يكون في درجة الملائكة وبين صفوفهم، فجاء الأمر الإلهي مقرعاً: «قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ». أي:

اخرج من الجنة، أو من السماوات أو اخرج من بين صفوف الملائكة.

واعلم يا إبليس بأنّ غرورك أصبح سبباً لكفرك، وكفرك قد أوجب طردك الأبدي «وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدّينِ». أي: إلى يوم القيامة.

وهنا ... حينما وجد إبليس نفسه مطروداً من الساحة الإلهية، ساوره إحساس بأنّ خلق الإنسان هو سبب شقائه فاشتعلت نار الحقد والضغينة في قلبه لينتقم لنفسه من أولاد آدم عليه السلام.

فبالرغم من أنّ السبب الحقيقي يرجع إلى إبليس نفسه وليس لآدم دخل في ذلك، إلّاأنّ غروره وحبّه لنفسه وعناده المستحكم لم يعطياه الفرصة لدرك حقيقة شقاءه، ولهذا «قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ»، ليركّز عناده وعداءه!

وقبل اللَّه تعالى طلبه: «قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ».

ولكن ليس إلى يوم يبعثون كما أراد، بل «إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ». وهو: نهاية هذا العالم وانتهاء التكليف، لأنّ بعد ذلك (كما يفهم من ظاهر الآيات القرآنية) تحلّ نهاية حياة جميع الكائنات، ولا يبقى حيّ إلّاالذات الإلهية المقدسة، ومن هذا نفهم حصول الموافقة على بعض طلب إبليس.

وهنا أظهر إبليس

نيّته الباطنية: «قَالَ رَبّ بِمَا أَغْوَيْتَنِى». وكان هذا الإنسان سبباً لشقائي «لَأُزَيّنَنَّ لَهُمْ فِى الْأَرْضِ» نعمها المادية «وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ» بإلهائهم بتلك النعم.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 556

إلّا أنّه يعلم جيّداً بأنّ وساوسه سوف لن تؤثّر في قلوب عباد اللَّه المخلصين، وأنّهم متحصنون من الوقوع في شباكه، لأنّ قوة الإيمان ودرجة الإخلاص عندهم بمكان يكفي لدرء الخطر عنهم بتحطيم قيود الشيطان عن أنفسهم ... ولهذا نراه قد استثنى في طلبه «إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ». «المخلصين»: جمع مخلَص (بفتح اللام) المؤمن الذي وصل إلى مرحلة عالية من الإيمان والعمل بعد تعلّم وتربية ومجاهدة مع النفس، فيكون ممتنعاً من نفوذ وساوس الشيطان وأيّ وسواس آخر.

ثم قال تعالى تحقيراً للشيطان وتقوية لقلوب العباد المؤمنين السالكين درب التوحيد الخالص: «قَالَ هذَا صِرَاطٌ عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطنٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ». يعني: يا إبليس ليس لك القدرة على إضلال الناس، لكن الذين يتبعونك إن هم إلّا المنحرفين عن الصراط المستقيم والمستجيبين لدواعي رغباتهم وميولهم.

ثم يهدد اللَّه بشدة أتباع الشيطان: «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ» وأن ليس هناك وسيلة للفرار، والكل سيحاسب في مكان واحد.

«لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ». هي أبواب للذنوب التي يدخلون جهنم بسببها، وكل يحاسب بذنبه ... كما هو الحال في أبواب الجنة التي هي عبارة عن طاعات وأعمال صالحة ومجاهدة للنفس يدخل بها المؤمنون الجنة.

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَ نَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَ مَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) نِعم

الجنة الثمان: رأينا في الآيات السابقة كيف وصف اللَّه تعالى عاقبة أمر الشيطان وأنصاره وأتباعه، وأنّ جهنم بأبوابها السبعة مفتحة لهم. وجرياً على أسلوب القرآن في التربية والتعليم جاءت هذه الآيات المباركات (ومن باب المقارنة) لترفع الستار عن حال الجنة وأهلها وما ترفل به من نعم مادية ومعنوية، جسدية وروحية.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 557

وقد عرضت الآيات ثمانية نعم كبيرة (مادية ومعنوية) بما يساوي عدد أبواب الجنة.

1- أشارت في البدء إلى نعمة جسمانية مهمة: «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ». ويلاحظ أنّ هذه الآية قد اتخذت من صفة (التقوى) أساساً لها، وهي الخوف من اللَّه والورع والالتزام، فهي إذن ... جامعة لكافّة صفات الكمال الإنساني.

إنّ ذكر الجنات والعيون بصيغة الجمع إشارة إلى تنوّع رياض الجنة وكثرة عيونها، والتي لكل منها لذّة مميزة وطعم خاص.

2 و 3- ثم تشير الآيات إلى نعمتين معنويتين مهمتين أخريتين (السلامة) و (الأمن) ..

السلامة من أيّ أذىً وألم، والأمن من كل خطر، فتقول- على لسان الملائكة مرحّبة بهم-:

«ادْخُلُوهَا بِسَلمٍ ءَامِنِينَ».

وفي الآية التالية بيان لثلاث نعم معنوية اخرى:

4- «وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ». أي: الحسد والحقد والعداوة والخيانة.

5- «إِخوانًا» تربطهم أقوى صلات المحبة.

6- «عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ».

إنّ جلساتهم الاجتماعية خالية من القيود المتعبة التي يُعاني منها عالمنا الدنيوي، فلا طبقية ولا ترجيح بدون مرجّح والكلّ إخوان، يجلسون متقابلين في صف واحد ومستوى واحد.

7- ثم تأتي الإشارة إلى النعمة المادية والمعنوية السابعة: «لَايَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ» إنّه ليس كيوم استراحة بهذه الدنيا يقع بين تعب ونصب قبله وبعده، ولا يدع الإنسان يجد طعم الراحة والاستقرار.

8- ولا يشغلهم همّ فناء أو انتهاء نِعم «وَمَا هُم مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ».

بعد أن عرض القرآن الكريم النعم الجليلة التي ينالها المتقون في

الجنة بذلك الرونق المؤثّر الذي يوقع المذنبين والعاصين في بحار لجّية من الغمّ والحسرة ويجعلهم يقولون: يا ليتنا نصيب بعض هذه المواهب، فهناك، يفتح اللَّه الرحمن الرحيم أبواب الجنة لهم ولكن بشرط، فيقول لهم بلهجة ملؤها المحبة والعطف والرحمة وعلى لسان نبيّه الكريم صلى الله عليه و آله: «نَبّئْ عِبَادِى أَنّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ».

وكما هو معهود من الأسلوب القرآني، تأتي العبارات العنيفة حين تتحدث عن الغضب والعذاب الإلهي لتمنع من سوء الاستفادة من الرحمة الإلهية، ولتوجد التعادل بين مسألتي

مختصر الامثل، ج 2، ص: 558

الخوف والرجاء، الذي يعتبر رمز التكامل والتربية فيقول وبدون فاصلة: «وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ».

وَ نَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) الضيوف الغرباء: تتحدث هذه الآيات المباركات وما بعدها عن الجنبة التربوية في تاريخ حياة الأنبياء عليهم السلام وما جرى لهم مع العصاة من أقوامهم، وتطرح الآيات نماذج حيّة للاعتبار، لكلا الطرفين (عباد اللَّه المخلصين من طرف وأتباع الشيطان من طرف آخر).

ومن لطيف البيان القرآني شروع الآيات بذكر قصة ضيف إبراهيم. فتقول أوّلًا:

«وَنَبّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرهِيمَ».

وهؤلاء الضيوف هم الملائكة الذين دخلوا على إبراهيم عليه السلام بوجوه خالية من الإبتسامة، فابتدأوه بالسلام «إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلمًا».

فقام إبراهيم عليه السلام بوظيفته

(إكرام الضيف)، فهيّأ لهم طعاماً ووضعه أمامهم، إلّاأنّهم لم يدنوا إليه، فاستغرب من موقف الضيوف الغرباء، فعبّر عمّا جال في خاطره «قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ». وكان مصدر خوف إبراهيم عليه السلام مما كان عليه متعارفاً في مسألة ردّ الطعام أو عدم التقرب منه، فهو عندهم إشارة إلى وجود نيّة سوء أو علامة عداء.

ولكن الملائكة لم يتركوا ابراهيم في هذا الحال حتى: «قَالُوا لَاتَوْجَلْ إِنَّا نُبَشّرُكَ بِغُلمٍ عَلِيمٍ». والغلام العليم: هو (إسحاق)، حيث نقرأ في سورة هود الآية (71) أنّ امرأة إبراهيم كانت واقفة بقربه عندما بشّرته الملائكة.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 559

كان إبراهيم يعلم جيّداً أنّه من المستبعد أن يحصل له ولد ضمن الموازين الطبيعية، (ومع أنّ كل شي ء مقدور للَّه عزّ وجل)، ولهذا أجابهم بصيغة التعجب: «قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى عَلَى أَن مَّسَّنِىَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشّرُونَ». هل البشارة منكم أم من اللَّه عزّ وجل وبأمره، أجيبوني كي أزداد اطمئناناً؟

وعلى أية حال ... لم يدع الملائكة مجالًا لشك وتعجب إبراهيم حيث «قَالُوا بَشَّرْنكَ بِالْحَقّ». فهي بشارة من اللَّه وبأمره، فهي حق مسلّم به.

وتأكيداً للأمر ودفعاً لأي احتمال من غلبة اليأس على إبراهيم، قالت الملائكة: «فَلَا تَكُن مّنَ الْقَانِطِينَ».

لكن إبراهيم عليه السلام طمأنهم بعدم دخول اليأس إلى قلبه، لأنّه مطمئن من أنّ أمر القدرة الإلهية نافذ في جميع أرجاء الكون حتى مع خرق النواميس الطبيعية وبدون الخلل في الموازنة، «قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ».

إنّ الضالين هم الذين لا يعرفون اللَّه وقدرته المطلقة، اللَّه الذي خلق الانسان ببناءه العجيب المحيّر من ذرّة تراب ومن نطفة حقيرة ليخرجه ولداً سويّاً، اللَّه الذي حوّل نخلة يابسة إلى حاملة للثمر بإذنه، اللَّه الذي جعل النار برداً وسلاماً .. هل من شك بأنّه

سبحانه قادر على كل شي ء، بل وهل يصح ممن آمن به وعرفه حق معرفته أن ييأس من رحمته؟!

وراود إبراهيم عليه السلام- بعد سماعه البشارة- أنّ الملائكة قد تنزلت لأمر ما غير البشارة، وما البشارة إلّامهمة عرضية ضمن مهمتهم الرئيسية، ولهذا «قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ».

ومع علم الملائكة بإحساس إبراهيم عليه السلام المرهف وأنّه دقيق في كل شي ء ولا يقنع بالعموميات، فبيّنوا له أمر نزول العذاب على قوم لوط المجرمين باستثناء أهله «إِلَّا ءَالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ».

إنّ ظاهر تعبير «آل لوط» وما ورد من تأكيد بكلمة «أجمعين» سيشمل امرأة لوط الضّالة التي وقفت في صف المشركين، ولعلّ إبراهيم كان مطلعاً على ذلك، ولذا أضافوا قائلين: «إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ».

مختصر الامثل، ج 2، ص: 560

فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَ أَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَ اتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَ لَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَ امْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَ قَضَيْنَا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَ جَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ لَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَ أَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَ إِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) عاقبة مذنبي قوم لوط: طالعتنا الآيات السابقة بقصة

اللقاء بين ملائكة العذاب هؤلاء وبين إبراهيم عليه السلام وهذه الآيات تكمل لنا سير أحدث القصة فتبتدأ من خروجهم من عند إبراهيم حتى لقائهم بلوط عليه السلام. فنقرأ أوّلًا: «فَلَمَّا جَاءَ ءَالَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ».

فالتفت إليهم لوط «قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ».

يقول المفسرون: قال لهم ذلك لما كانوا عليه من جمال الصورة ريعان الشباب، وهو يعلم ما كان متفشياً بين قومه من الانحراف الجنسي .. فمن جهة، هم ضيوفه ومقدمهم مبارك ولابد من إكرامهم واحترامهم، ولكن المحيط الذي يعيشه لوط عليه السلام مريض وملوّث.

ولكن الملائكة لم يتركوه وهذه الهواجس طويلًا حتى سارعوا إلى القول: «قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ». أي: إنّنا جئنا بالعذاب الذي واعدتهم به كثيراً، وذلك لأنّهم لم يعتنوا ولم يصدّقوا بما ذكرته لهم.

ثم أكّدوا له قائلين: «وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقّ». أي: العذاب الحتمي والجزاء الحاسم لقومك الضالين.

ثم أضافوا لزيادة التأكيد: «وَإِنَّا لَصَادِقُونَ».

فهؤلاء القوم قد قطعوا كل جسور العودة ولم يبق في شأنهم محلّاً للشفاعة والمناقشة، كي

مختصر الامثل، ج 2، ص: 561

لا يفكّر لوط في التشفّع لهم وليعلم أنّهم لا يستحقونها أبداً.

ثم قالت الملائكة للوط: أخرج وأهلك من المدينة ليلًا حين ينام القوم أو ينشغلوا بشرابهم وشهواتهم، لأجل نجاة الثلّة المؤمنة من قومه (وهم أهله ما عدا زوجته).

«فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مّنَ الَّيْلِ» وكن خلفهم كي لا يتخلف أحد منهم ولتكون محافظاً ورقيباً لهم «وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ» وعلى أن يكون نظركم إلى الأمام «وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ». أي: إلى أرض الشام، أو أيّ مكان آخر يكون فيه الناس مطهرين من هذه الآثام.

ثم ينتقل مجرى الحديث حين يقول تعالى: «وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ». أي: سوف لا يبقى منهم أحد عند

الصباح.

ومن الملفت للنظر، أنّ القرآن قد ترك القصة عند هذا الحد وعاد إلى بدايتها ليعرض ما ترك القول فيه- لسبب سنشير إليه فيما بعد- فيقول: «وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ». أي:

إنّهم قد ظنوا بحصول لقمة جديدة سائغة عن طريق ضيوف لوط.

وحينما سمع لوط أصواتهم وضجيجهم أغتمّ غمّاً شديداً لأجل ضيوفه، لأنّه ما كان يدري أنّهم ملائكة العذاب إلى ذلك الوقت ولهذا: «قَالَ إِنَّ هؤُلَاءِ ضَيْفِى فَلَا تَفْضَحُونِ».

أي: إن كنتم لا تؤمنون باللَّه ولا تصدّقون بالنبي ولا تعتقدون بثواب وعقاب، فراعوا حق الضيافة التي هي من السنن المتعارف عليها عند كل المجتمعات سواء كانت مؤمنة أم كافرة، أيّ بشر أنتم؟ لا تفهمون أبسط المسائل الإنسانية، فإن لم يكن لكم دين فكونوا أحراراً في دنياكم!

ثم أضاف قائلًا: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ» أمام ضيفي.

ولكنهم من الوقاحة والإصرار على الانحراف بحيث صاروا لا يشعرون بالخجل من أنفسهم، بل راحوا يحاججون لوطاً ويحاسبونه، وكأنّه إرتكب جرماً في استضافته لهؤلاء القوم «قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعلَمِينَ»، باستضافتهم! فلماذا خالفت أمرنا؟!

وكان قوم لوط من البخل بحيث إنّهم لا يحبّون الضيافة، وكانت مدينتهم على طريق القوافل، ويبررون فعلهم القبيح ببعض الواردين لدفع الضيوف ولأجل أن لا ينزل عندهم أحد من القوافل المارّة، وتعارفوا على ذلك حتى أصبح عندهم عادة.

وكما يبدو أنّ لوطاً كان حينما يسمع بأحد الغرباء يدخل المدينة يسرع لاستضافته خوفاً

مختصر الامثل، ج 2، ص: 562

عليه من عمل قومه الخبيث، ولما علم أهل المدينة بذلك جاؤوا إليه غاضبين ونهوه عن أن يستضيف أحداً مستقبلًا. وعليه، فكلمة «العالمين» في الآية أعلاه- كما يبدو- إشارة إلى عابري السبيل، ومن هم ليسوا من أهل تلك المدينة.

وعندما رآهم لوط على تلك الحال من الوقاحة والجسارة، أتاهم من طريق

آخر لعلهم يستفيقون من غفلتهم وسكر انحرافهم، فقال لهم: إن كنتم تريدون إشباع غرائزكم فلماذا تسلكون سبيل الانحراف ولا تسلكون الطريق الصحيح (الزواج): «قَالَ هؤُلَاءِ بَنَاتِى إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ».

مما لا شك فيه أنّ بنات لوط لا يكفين لذلك العدد الهائل من المتحجرين حول داره، ولكن لوطاً الذي كان يهدف إلى إلقاء الحجة عليهم أراد أن يقول لهم: إنّني مستعد إلى هذه الدرجة للتضحية من أجل الضيف، وكذلك لأجل إنقاذكم من الفساد ونجاتهم من الإنحراف.

لكن الويل، كل الويل من سكرات الشهوة، الانحراف والغرور والعناد .. التي مسحت عنهم كل قيم الأخلاق الإنسانية وأفرغتهم من العواطف البشرية، والتي بها يحسّون بالخجل والحياء أمام منطق لوط عليه السلام أو أن يتركوا بيت لوط وينسحبوا عن موقفهم، ولكن أنّى لهم ذلك، والأكثرية بسبب عدم تأثّرهم بحديث لوط استمروا في غيّهم وأرادوا أن يمدّوا أيديهم إلى الضيوف.

وهنا يخاطب اللَّه تعالى نبيّه قائلًا: «لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ».

وبعد ذلك يبلغ كلام اللَّه تعالى عن هؤلاء القوم الذروة حينما يبيّن عاقبتهم السيئة في آيتين قصيرتين وبشكل قاطع ملي ء بالدروس والعبر بقوله: «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ».

أي صوت شديد عند شروق الشمس.

ويمكن حمل «الصيحة» على أنّها صاعقة عظيمة أو صوت زلزلة رهيب.

ولم يكتف بذلك بل شمل العذاب المدينة أيضاً «فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا».

وزيد في التنكيل بهم «وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ».

ثم إنّ نزول هذا العذاب ذو المراحل الثلاث (الصيحة الرهيبه، قلب المدينة، المطر الحجري)- رغم أنّ كل واحدة منهنّ كانت تكفي لقطع دابر القوم- كان لمضاعفة عذابهم

مختصر الامثل، ج 2، ص: 563

لشدة فسادهم وجسارتهم وإصرارهم على إدامة التلوّث بتلك القبائح الشنيعة، وكي يكون عبرة لمن يعتبر.

وهنا يخلص القرآن الكريم إلى النتائج الأخلاقية والتربوية فيقول: «إِنَّ فِى

ذلِكَ لَايَاتً لّلْمُتَوَسّمِينَ». العقلاء الذين يفهمون الأحداث بفراستهم وذكائهم ونظرهم الثاقب ويحملون من كل إشارة حقيقة ومن كل تنبيه درساً.

ولا تتصوروا أنّ آثارهم ذهبت تماماً، بل هي باقية على طريق القوافل والمارّة «وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ».

ثم تدعو الآية المؤمنين إلى التفكر مليّاً في هذه القصة واستخلاص العبر منها: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً لّلْمُؤْمِنِينَ».

وَ إِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَ إِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَ لَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَ آتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَ كَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) خاتمة أصحاب الأيكة وأصحاب الحجر: يشير القرآن الكريم في هذه الآيات إلى قصّتين من قصص الامم السالفة، وهما (أصحاب الأيكة) و (أصحاب الحجر) ليكمل البحث الذي عرضه في الآيات السابقة حول قوم لوط. يقول أوّلًا: «وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ». «فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ» وعاقبناهم على ظلمهم واستبدادهم ..

وجعلنا أرضهم وأرض قوم لوط- المتقدمة قصّتهم- على طريقكم «وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ». فانظروا إليها وإلى عاقبة أمرهم، واعتبروا يا اولي الألباب.

«الأيكة»: هي الأشجار المتشابكة مع بعضها، و «أصحاب الأيكة»: هم قوم «شعيب» الذين عاشوا في بلدة مليئة بالماء والأشجار بين الحجاز والشام وكانت حياتهم مرفّهة ثريّة فاصيبوا بالغرور والغفلة، فأدّى ذلك إلى الإحتكار والفساد في الأرض.

وقد دعاهم شعيب عليه السلام إلى التوحيد ونهج طريق الحق، مع تحذيره المكرر لهم من عاقبة أعمالهم السيئة فيما لو استمروا على الحال التي هم عليها.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 564

ومن خلال ما بيّنته الآيات في سورة هود، فإنّهم لم ينصاعوا للحق ولم ينصتوا لداعيه حتى جاءهم عذاب اللَّه المهلك. وورد ذكرهم مفصّلًا في الآيات (176) حتى

(190) من سورة الشعراء.

أمّا «أصحاب الحجر» فهم قومٌ عُصاة عاشوا مرفّهين في بلدة تدعى «الحجر» وقد بعث اللَّه إليهم نبيّه صالح عليه السلام لهدايتهم.

ويقول القرآن عنهم: «وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ».

هذه البلدة كانت على طريق القوافل بين المدينة والشام في منزل يسمّى (وادي القرى في جنوب (تيماء) ولا أثر لها اليوم تقريباً.

ومن الجدير ذكره أنّ القرآن الكريم ذكر مسألة تكذيب الأنبياء في خبر أصحاب الحجر (وكذلك قوم نوح وقوم شعيب وقوم لوط في الآيات 105 و 123 و 160 من سورة الشعراء) بالإضافة إلى أقوام اخر كذّبت الأنبياء عليهم السلام والواضح من خلال ظاهر القصص أنّ لكل قوم كان نبي واحد لا أكثر.

ولعل مجي ء هذا التعبير (المرسلين) في هذه الآية، باعتبار أنّ الأنبياء لهم برنامج واحد وهدف واحد، وبينهم درجة من الصلة بحيث إنّ تكذيب أيّ منهم هو تكذيب للجميع.

ويستمر القرآن بالحديث عن «أصحاب الحجر»: «وَءَاتَيْنَاهُمْ ءَايَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ». وموقف الإعراض المشار إليه- كما يبدو- هو عدم إستعدادهم لسماع الآيات والتفكّر بها.

وتشير الآية إلى أنّهم كانوا من الجدّ والدقّة في امور معاشهم وحياتهم الدنيوية حتى أنّهم «وَكَانُوايَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا ءَامِنِينَ».

وهو ما يبيّن لنا أنّ منطقتهم كانت جبليّة، بالإضافة إلى ما توصّلوا إليه من مدنية متقدمة، حيث أصبحوا يبنون بيوتهم داخل الجبال ليأمنوا من السيول والعواصف والزلازل.

والعجيب من أمر الإنسان، أنّه يحزم أمره لتجهيز وتحصين مستلزمات حياته الفانية، ولا يعير أيّ اهتمام لحياته الباقية، حتى يصل به المآل لأن لا يكلّف نفسه بسماع آيات اللَّه والتفكر بها.

وأيّ عاقبة ينتظرون بعد عنادهم وكفرهم غير أن يطبّق عليهم القانون الإلهي

مختصر الامثل، ج 2، ص: 565

الموعودين به (البقاء للإصلاح) وعدم إعطاء حق إدامة الحياة لأقوام فاسدين ومفسدين

..

فليس لهؤلاء سوى البلاء المهلك، ولهذا يقول القرآن: «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ».

وكانت «الصيحة» عبارة عن صوت صاعق مدمّر نزل على دورهم.

فالعذاب الإلهي لا تقف أمامه الجبال الشاهقة، ولا البيوت المحصنة، ولا الأبدان القوية أو الأموال الوافرة، ولهذا يأتي في نهاية قصّتهم «فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ».

وَ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَ لَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ وَ لَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ اخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَ قُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) يعود القرآن بعد طرح قصص الأقوام السالفة- كقوم لوط وقوم شعيب وصالح- إلى مسألة التوحيد والمعاد، لأنّ سبب ضلال الإنسان يعود إلى عدم اعتناقه عقيدة صحيحة، ولعدم إرتباطه بمسألة المبدأ والمعاد، فيشير إليهما معاً في آية واحدة: «وَمَا خَلَقْنَا السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقّ». فنظامها محسوب ومحكم وهو حق، وكذا هدف خلقها حق.

فيكون هذا النظام البديع والخلق الدقيق المنظّم دليلًا واضحاً على الخالق العالم القادر جلّ وعلا، وهو حق أيضاً، بل هو حقيقة الحق، وكل حق بما هو متصل بوجوده المطلق فهو حق، وكل شي ء لا يرتبط به سبحانه فهو باطل ... هذا ما يخصّ التوحيد أمّا المعاد فيقول:

«وَإِنَّ السَّاعَةَ لَأَتِيَةٌ». وإن تأخّرت فإنّها آتية بالنتيجة.

إنّ هذا العالم إنّما يكون حقاً عندما يكون لهذه الأيام الدنيوية المليئة بالآلام والمتاعب هدف عال يبرر خلق هذا الوجود الكبير- فليس الغرض من هذه الدنيا أن يعيش فيها الانسان هذه الحياة وتنتهي- ولهذا

فمسألة خلق السماوات والأرض وما بينهما إنّما هو من موقع الحق ويدل على وجود يوم القيامة والحساب، وإلّا لكان الخلق عبثاً وليس حقاً، فتأمل.

وبعد ذلك يأمر اللَّه تعالى نبيّه الكريم صلى الله عليه و آله أن يقابل عناد قومه وجهلهم وتعصّبهم

مختصر الامثل، ج 2، ص: 566

وعداءهم بالمحبة والعفو وغضّ النظر عن الذنوب، والصفح عنهم بالصفح الجميل، أي غير مصحوب بملامة «فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ». لأنّك تملك الدليل الواضح على ما أمرت بالدعوة إليه، فلا تحتاج وإياهم إلى الخشونة. بالإضافة إلى أنّ الخشونة مع الجهلة غالباً ما تؤدّي بهم إلى الردّ بالمثل، بل وبأشد من ذلك.

«الصفح»: هو وجه كل شي ء، كوجه الصورة، ولهذا فقد جاءت كلمة «فاصفح» بمعنى أدر وجهك وغضّ النظر عنهم.

وبما أنّ إدارة الوجه وصرفه عن الشي ء قد تعطي معنى عدم الإهتمام والنفرة وما شابه ذلك وكذلك معنى العفو والصفح، فقد ذكرت الآية المتقدمة كلمة «الجميل» بعد «الصفح» لكي تحدد المعنى الثاني.

الآية التالية بمنزلة الدليل على وجوب العفو والصفح الجميل، حيث تقول: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلقُ الْعَلِيمُ».

ثم يواسي اللَّه تعالى نبيه الكريم صلى الله عليه و آله أن لا تقلق من وحشية الأعداء وكثرتهم وما يملكون من إمكانات مادية واسعة، لأنّ اللَّه أعطاك ما لا يقف أمامه شي ء: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَاكَ سَبْعًا مّنَ الْمَثَانِى وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ».

اعتبر أكثر المفسرين أنّ «سبعاً من المثاني» كناية عن سورة الحمد، والروايات كذلك تشير لهذا المعنى. والداعي لذلك كونها تتألف من سبع آيات، لأهميتها وعظمة محتواها فقد نزلت مرّتين على النبي محمّد صلى الله عليه و آله.

إنّ اللَّه تعالى قد صرّح لنبيه الكريم صلى الله عليه و آله بأنّك قد ملكت سنداً عظيماً (القرآن)، ولا تستطيع أي قوة في عالم الوجود

أن تصرعه.

وبالذات سورة الفاتحة منه التي لها من المحتوى والأثر بحيث لو إرتبط العبد بربّه ولو للحظة واحدة لحلّقت روحه لساحة قدس الرب، وهي تعيش حال التعظيم والتسليم والمناجاة والدعاء.

وبعد هذه الهبة العظيمة يأمر اللَّه تعالى نبيه الكريم صلى الله عليه و آله بأربعة أوامر فيقول له أوّلًا: «لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مّنْهُمْ». فمتاع الحياة الدنيا ليست دائمة ولا خالية من التبعات، والحفاظ عليها أمر صعب في أحسن الحالات.

مختصر الامثل، ج 2، ص: 567

ثم يقول في الأمر الثاني: «وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ» لما عندهم من أموال ونعم مادية.

في تفسير القمّي عن الإمام الصادق عليه السلام: «لمّا نزلت هذه الآية لا تمدّنّ عينيك؛ قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من لم يتعزّ بعزاء اللَّه تقطّعت نفسه على الدنيا حسرات، ومن رمى بنظره إلى ما في يد غيره كثر همّه ولم يشف غيظه ومن لم يعلم أنّ اللَّه عليه نعمة إلّافي مطعم أو ملبس فقد قصر عمله ودنا عذابه ومن أصبح على الدنيا حزيناً أصبح على اللَّه ساخطاً ومن شكا مصيبة نزلت به فإنّما يشكو ربّه ومن دخل النار من هذه الأمّة ممن قرأ القرآن فهو ممن يتّخذ آيات اللَّه هزواً ومن أتى ذا ميسرة فيخشع له طلب ما في يديه ذهب ثلثا دينه».

فالأمر الأوّل يتعلّق بعدم الإهتمام والتوجه نحو النعم المادية، والأمر الثاني يتعلق بعدم التأثر لفقدانها.

والأمر الثالث: جاء بخصوص ضرورة اللين والتواضع مع المؤمنين حيث يقول:

«وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ».

إنّ هذا التعبير، كناية جميلة عن التواضع والمحبة والملاطفة، فالطيور حينما تريد إظهار حنانها لفراخها تجعلها تحت أجنحتها بعد خفضها، فتجسّم بذلك أعلى صور العاطفة والحنان وتحفظهم من الحوادث والأعداء، وتحميهم من التشتت.

ونصل إلى

الأمر الرابع: «وَقُلْ» لهؤلاء الكفرة المنعّمين بكل حزم «إِنّى أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ». قل: أنذركم من أمر اللَّه بنزول عذابه عليكم «كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْءَانَ عِضِينَ». أي: الذين قسّموا الآيات القرآنية أصنافاً، فما كان ينفعهم أخذوه، وما لا ينسجم ومشتهياتهم تركوه.

والمؤمن الخالص لا يجرؤ على تجزئة أو تقسيم أو تبعيض الأحكام الإلهية.

فَوَ رَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِءِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) إصدع بما تؤمر: يبيّن القرآن في أواخر سورة الحجر مصير المقتسمين الذين ذُكروا في

مختصر الامثل، ج 2، ص: 568

الآيات السابقة فيقول: «فَوَ رَبّكَ لَنَسَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

إنّ عالم السر والعلن ومن لا يخفى عليه ذرة ما في السماوات والأرضين لا يسأل لكشف أمر خفي عليه (سبحانه وتعالى عن ذلك) وإنّما السؤال لتفهيم المسؤول قبح فعله، فالسؤال قسم من العقاب الروحي.

ثم يأمر اللَّه تعالى نبيه صلى الله عليه و آله بقوله: «فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ». أي: لا تخف من ضوضاء المشركين والمجرمين، ولا تضعف أو تترد أو تسكت، بل أدعهم إلى رسالتك جهاراً.

«وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ» ولا تعتن بهم.

«فاصدع»: من مادة «صدع» وهي لغة بمعنى «الشق» بشكل مطلق، أو شق الأجسام المحكمة بما يكشف عمّا في داخلها، ويقال أيضاً لألم الرأس الشديد (صداع) وكأنّه من شدّته يريد أن يشق الرأس. وهي هنا ... بمعنى: الإظهار والإعلان والإفشاء.

فالإعراض عن المشركين هنا بمعنى الإهمال، أو ترك مجاهدتهم وحربهم، لأنّ المسلمين في ذلك

الوقت لم تصل قدرتهم- بعد- لمستوى المواجهة مع الأعداء وحربهم.

ثم يطمئن اللَّه تعالى نبيه صلى الله عليه و آله تقوية لقلبه: «إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِءِينَ».

ثم يصف المستهزئين: «الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا ءَاخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ».

كأنّ القرآن يريد أن يقول: إنّ أفكار وأعمال هؤلاء بنفسها عبث، سخف، حيث يعبدون ما ينحتونه بأيديهم من حجر وخشب، ودفعهم جهلهم لأن يجعلوا مع اللَّه- ما صنعوه بأيديهم- آلهة! ومع ذلك ... يستهزؤون بك.

ولمزيد من التأكيد على اطمئنان قلب النبي صلى الله عليه و آله يضيف تعالى قائلًا: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ». فروحك اللطيفة وقلبك الطيّب الرقيق لا يتحملان تلك الأقوال السيئة وأحاديث الكفر والشرك، ولذلك يضيق صدرك.

ولكن لا تحزن من قبح أقوالهم «فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَكُن مّنَ السَّاجِدِينَ». لأنّ تسبيح اللَّه يذهب أثر أقوالهم القبيحة من قلوب أحبّاء اللَّه.

ولهذا نقرأ في رواية نقلًا عن ابن عباس أنّه قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذا أحزنه أمر فزع إلى الصلاة.

ثم يعطي اللَّه نبيه صلى الله عليه و آله آخر أمر في هذا الشأن: «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ».

إنّ العبادة مدرسة عالية للتربية، لأنّها توقظ عقل الإنسان، وتوجّه فكره نحو المطلق،

مختصر الامثل، ج 2، ص: 569

وتغسل غبار الذنوب والغفلة من قلبه وروحه، وتنمّي فيه الصفات الإنسانية الرفيعة، وتقوّي إيمانه وتجعله أكثر وعياً واكبر مسؤولية.

فلا يمكن للإنسان الواقعي أن يستغني عن هذه المدرسة الراقية، أمّا الذين يعتقدون بأنّ الإنسان قد يصل إلى درجة معينة لا يحتاج عندها إلى العبادة، فاولئك إمّا أنّهم يعتبرون عملية تكامل الإنسان محدودة وتنتهي بحد معين، أو أنّهم لم يدركوا معنى العبادة حقاً.

«نهاية تفسير سورة الحجر»

الجزء الثالث

16 سورة النحل

محتوى السورة: من خلال ملاحظة السورة يبدو

لنا أنّ بحوثها تتناول ما تتناوله الآيات المكية تارة مثل: التوحيد، المعاد، محاربة الشرك وعبادة الأصنام، وتارة اخرى ما تتناوله الآيات المدنية مثل: الأحكام الاجتماعية ومسائل الجهاد والهجرة.

ويمكننا إجمال محتويات السورة المسبوكة بعناية وإحكام بما يلي:

1- ذكر النعم الإلهية، وتفصيلها بما يثير دافع الشكر عند كل ذي حس حي، ليقترب الإنسان من خالق هذه النعم وواهبها.

ومن النعم المذكورة في السورة: نعمة المطر، نور الشمس، أنواع النباتات والثمار، المواد الغذائية الاخرى، الحيوانات الداجنة بما تقدمه من خدمات ومنافع للإنسان، مستلزمات وسائل الحياة وحتى نعمة الولد والزوجة، وبعبارة شاملة (أنواع الطيبات).

ولهذا أطلق البعض عليها (سورة النعم).

وعرفت بسورة النحل لورود تلك الإشارة القصيرة ذات المعاني الجليلة والعجيبة للنحل، ضمن ما ذكر من النعم الإلهية الواسعة، وبخصوص اعتبار النحل مصدراً لغذاء مهم من أغذية الإنسان، وباعتبار حياة هذه الحشرة تعبير ناطق لتوحيد اللَّه.

2- الحديث عن أدلة التوحيد، عظمة ما خلق الخالق، المعاد، إنذار المشركين والمجرمين.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 7

3- تناول الأحكام الإسلامية المختلفة.

4- الحديث عن بدع المشركين مع ذكر أمثلة جميلة حيّة.

5- وأخيراً تحذير الإنسانية من وساوس الشيطان.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «من قرأها لم يحاسبه اللَّه تعالى بالنعم التي أنعمها عليه من دار الدنيا».

فقراءة الآيات بتدبّر وتفكّر مع وجود العزم على العمل والسير وفق الشكر للمنعم، تكون سبيلًا لأن يستعمل الإنسان كل نعمة بما ينبغي عليه أن يستعمل، فلا يحبس ولا يهمل، ويكون من الشاكرين.

أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)

أتى أمر اللَّه: ذكرنا

سابقاً أنّ قسماً مهمّاً من الآيات التي جاءت في أوّل السورة هي آيات مكية نزلت حينما كان النبي صلى الله عليه و آله يخوض صراعاً مشتدّاً مع المشركين وعبدة الأصنام، وما يمرّ يوم حتى يطلع أعداء الرسالة بمواجهة جديدة ضد الدعوة الإسلامية المباركة، لأنّها تريد بناء صرح الحرية، بل كل الحياة من جديد.

ومن جملة مواجهاتهم اليائسة قولهم للنبي صلى الله عليه و آله حينما يهددهم وينذرهم بعذاب اللَّه: إن كان ذلك حقاً فلِم لا يحلّ العذاب والعقاب بنا إذن؟!

ولعلهم يضيفون: وحتى لو نزل العذاب فسنلتجي ء إلى الأصنام لتشفع لنا عند اللَّه في رفع العذاب ... ولِم لا يكون ذلك، أوَ لسن شفيعات؟!

وأوّل آية من السورة تُبطل أوهام اولئك بقوله تعالى: «أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ».

وإن اعتقدتم أنّ الأصنام شافعة لكم عند اللَّه فقد أخطأتم الظن «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ».

وبما أنّ مستلزمات العدل الإلهي اقتضت عدم العقاب إلّابعد البيان الكافي والحجة التامة، فقد أضاف سبحانه: «يُنَزّلُ الْمَلِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا أَنَا». بناء على هذا الإنذار والتذكير «فَاتَّقُونِ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 8

أمّا المقصود من «الروح» في الآية هو: الوحي والقرآن والنبوة، والتي هي مصدر الحياة المعنوية للبشرية.

إنّ كلمة «الروح» في هذا الموضوع ذات جانب معنوي وإشارة إلى كل ما هو سبب لإحياء القلوب وتهذيب النفوس وهداية العقول.

خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَ الْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْ ءٌ وَ مَنَافِعُ وَ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَ لَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَ تَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ

إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَ الْخَيْلَ وَ الْبِغَالَ وَ الْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَ زِينَةً وَ يَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)

بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن نفي الشرك، جاءت هذه الآيات لتقلع جذوره بالكامل، وتوجّه الإنسان نحو خالقه بطريقين:

الأوّل: عن طريق الأدلة العقلية من خلال فهم ومحاولة استيعاب ما في الخلائق من نظام عجيب.

الثاني: عن طريق العاطفة ببيان نعم اللَّه الواسعة على الإنسان، عسى أن يتحرك فيه حس الشكر على النعم فيتقرب من خلاله إلى المنعم سبحانه.

فيقول: «خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقّ». وتتّضح حقانية السماوات والأرض من نظامها المحكم وخلقها المنظم وكذلك من هدف خلقها وما فيها من منافع.

ثم يضيف: «تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ». فهل تستطيع الأصنام إيجاد ما أوجده اللَّه؟!

بل هل تستطيع أن تخلق بعوضة صغيرة أو ذرة تراب؟!

فكيف إذن جعلوها شريكة اللَّه سبحانه!

وبعد الإشارة إلى خلق السماوات والأرض وما فيها من أسرار لا متناهية يعرّج القرآن الكريم إلى بعض تفاصيل خلق الإنسان من الناحية التكوينية فيقول: «خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 9

«النطفة»: في الأصل بمعنى الماء القليل، أو الماء الصافي، ثم أطلقت على قطرات الماء التي تكون سبباً لوجود الإنسان بعد تلقيحها. وحقيقة التعبير يراد به تبيان عظمة وقدرة اللَّه عزّ وجل، حيث يخلق هذا المخلوق العجيب من قطرة ماء حقيرة مع ما له من قيمة وتكريم وشرف بين باقي المخلوقات وعند اللَّه أيضاً.

ثم يشير القرآن الكريم إلى نعمة خلق الحيوانات وما تدر من فوائد كثيرة للإنسان فيقول: «وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْ ءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ». فخلق الأنعام الدال على علم وقدرة الباري سبحانه، فيها من الفوائد الكثيرة للإنسان.

ولم يكتف بذكر منافعها المادية، بل أشار إلى المنافع النفسية والمعنوية كذلك

حين قال:

«وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ».

«تريحون»: (من مادة الإراحة) بمعنى إرجاع الحيوانات عند الغروب إلى محل إستراحتها، ولهذا يطلق على ذلك المحل اسم (المراح).

و «تسرحون»: (من مادة السروح) بمعنى خروج الحيوانات صباحاً إلى مراعيها.

عبّر القرآن بكلمة «جمال» عن تلك الحركة الجماعية للأنعام حين تسرح إلى مراعيها وتعود إلى مراحها.

ف «الجمال» جمال استغناء واكتفاء ذاتي، وجمال إنتاج وتأمين متطلبات امّة كاملة، وبعبارة أوضح: جمال الإستقلال الاقتصادي وقطع كل تبعيّة للغير.

ثم يشير تعالى في الآية التي تليها إلى إحدى المنافع المهمة الاخرى فيقول: «وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقّ الْأَنفُسِ». وهذا مظهر من مظاهر رحمة اللَّه عزّ وجلّ ورأفته حيث سخّر لنا هذه الحيوانات مع ما تملك من قدرة وقوّة «إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ».

فالأنعام إذن: تعطي للإنسان ما يلبسه ويدفع عنه الحر والبرد. وكذلك تعطيه الألبان واللحوم ليتقوّت بها. وتترك في نفس الإنسان آثاراً نفسية طيبة. وأخيراً تحمل أثقاله.

ثم يعرج على نوع آخر من الحيوانات، يستفيد الإنسان منها في تنقلاته، فيقول:

«وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً».

وتأتي الإشارة في ذيل الآية إلى ما سيصل إليه مآل الإنسان في الحصول على الوسائط

مختصر الامثل، ج 3، ص: 10

النقلية المدنية من غير الحيوانات، فيقول: «وَيَخْلُقُ مَا لَاتَعْلَمُونَ» من المراكب ووسائل النقل.

وَ عَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَ مِنْهَا جَائِرٌ وَ لَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَ مِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَ الزَّيْتُونَ وَ النَّخِيلَ وَ الْأَعْنَابَ وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهَارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ

لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَ مَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)

بعد ذكر مختلف النعم في الآيات السابقة، تشير هذه الآيات إلى نعم اخرى ... فتشير أوّلًا إلى نعمة معنوية عالية في مرماها: «وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ». أي: عليه سبحانه سلامة الصراط المستقيم وهو الحافظ له من كل انحراف، وقد وضعه في متناول الإنسان.

ولكن أيّ النحوين من الصراط المستقيم هو المراد، التكويني أم التشريعي؟

اختلف المفسرون في ذلك، إلّا أنّه لا مانع من قصد الجانبين معاً.

فقد هدى اللَّه الإنسان بالعقل والقدرة وبقية القوى التكوينية التي تعينه للسير على الصراط المستقيم.

كما أرسل له الأنبياء والوحي السماوي وأعطاه التعليمات الكافية والقوانين اللازمة للمضي بهدى التشريع الرباني في تكملة مشوار المسيرة، وترك باقي السبل المنحرفة.

ثم يحذّر الباري جلّ شأنه الإنسان من وجود سبل منحرفة كثيرة: «وَمِنْهَا جَائِرٌ».

وبما أنّ نعمة الإرادة وحرية الاختيار في الإنسان من أهم عوامل التكامل فيه، فقد أشارت إليها الآية بجملة قصيرة: «وَلَوْ شَاءَ لَهَدَيكُمْ أَجْمَعِينَ» ولا تستطيعون عندها غير ما يريد اللَّه.

إلّا أنّه سبحانه لم يفعل ذلك، لأنّ الهداية الجبرية لا تسمو بالإنسان إلى درجات التكامل والفخر.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 11

وفي الآية التالية يعود إلى الجانب المادي بما يثير حس الشكر للمنعم عند الناس، ويوقد نار عشق اللَّه في قلوبهم بدعوتهم للتقرّب أكثر وأكثر لمعرفة المنعم الحق، فيقول: «هُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً». ماء فيه سبب الحياة، وزلالًا شفافاً خال من أيّ تلوّث «لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ». وتخرج به النباتات والأشجار فترعى أنعامكم «وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ».

«تسيمون»: من مادة «الإسامة» بمعنى رعي الحيوانات.

ومما لا شك فيه أيضاً أنّ ماء المطر لا تقتصر فائدته لشرب الإنسان وإرواء النباتات، بل ومن

فوائده أيضاً: تطهير الأرض، تصفية الهواء، إيجاد الرطوبة اللازمة لطراوة جلد الإنسان وتنفّسه براحة، وما شابه ذلك .. فالمذكور من فوائده في هذه الآية ليس حصراً وإنّما من باب الأهم.

ويكمّل الموضوع بقوله: «يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِن كُلّ الثَّمَرَاتِ».

ولا شك أنّ خلق هذه الثمار المتنوعة وكل ما هو موجود من المحاصيل الزراعية لآية للمتفكرين «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».

ثم يشير إلى نعمة تسخير الموجودات المختلفة في العالم للإنسان بقوله: «وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ». على عظمة وقدرة اللَّه وعظمة ما خلق.

وإضافة لكل ما تقدم: «وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى الْأَرْضِ» من مخلوقات سخرّها لكم و «مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ» من الأغطية والملابس والأغذية والزوجات العفيفات ووسائل الترفيه، حتى أنواع المعادن وكنوز الأرض وسائر النعم الاخرى «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً لّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ».

وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَ تَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَ أَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ أَنْهَاراً وَ سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَ عَلَامَاتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَ فَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 12

نعمة الجبال والبحار والنجوم: تبيّن هذه الآيات قسماً آخر من النعم الإلهية غير المحدودة التي تفضّل بها اللَّه عزّ وجل على الإنسان، فيبدأ القرآن الكريم بذكر البحار، المنبع الحيوي للحياة، فيقول: «وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ».

وكما هو معلوم أنّ البحار تشكّل القسم الأكبر من سطح الكرة الأرضية، وأنّ الماء أساس الحياة،

ولا زالت البحار تعتبر المنبع المهم في إدامة الحياة البشرية وحياة جميع الكائنات الحية على سطح الكرة الأرضية.

فما أكبرها من نعمة حين جعلت البحار في خدمة الإنسان ....

ثم يشير الباري سبحانه إلى ثلاثة أنواع من منافع البحار: «لِتَأْكُلُوامِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا». فقد جعل اللَّه في البحار لحماً ليتناوله الإنسان من غير أن يبذل أدنى جهد في تربيته، بل أوجدته ونمّته يد القدرة الإلهية.

ومن فوائد البحار أيضاً تلك المواد التجميلية المستخرجة من قاعه: «وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا».

الحس الجمالي من الامور الفطرية التي فطر الإنسان عليها وهو الباعث على إثارة الشعر والفن الأصيل وما شاكلها عنده.

وينبغي العمل على إشباعه بشكل صحيح وسالم بعيداً عن أيّ نوع من الإفراط والتفريط.

ولهذا أوصى الإسلام كثيراً بالتزيّن المعقول الخالي من أي إسراف مثل: لبس اللباس الجيّد، التطيّب بالعطور، استعمال الأحجار الكريمة ... الخ.

ثم يتطرق القرآن إلى الفائدة الثالثه في البحار: حركة السفن على سطح مياهها، كوسيلة مهمة لتنقل الإنسان ونقل ما يحتاجه، فيقول: «وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ».

وأعطاكم اللَّه هذه النعمة لتستفيدوا منها في التجارة أيضاً «وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ».

وبعد ذكر هذه النعم التي تستلزم من الإنسان العاقل أن يشكر واهبها، يأتي في ذيل الآية: «وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

ثم يأتي الحديث عن الجبال بعد عرض فوائد البحار: «وَأَلْقَى فِى الْأَرْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 13

ثم يتطرق القرآن الكريم مباشرة إلى نعمة الأنهار، لما بين الجبال والأنهار من علاقة وثيقة حيث تعتبر الجبال المخازن الأصلية للمياه، فيقول: «وَأَنْهَارًا».

ثم يقطع القرآن الكريم الوهم الحاصل عند البعض من أنّ الجبال حاجز بين إرتباط الأراضي فيما بينها بالإضافة لكونها مانعاً رهيباً أمام حركة النقل، فيقول: «وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ».

ثم يضيف قائلًا: «وَعَلمتٍ». لأنّ الطرق لوحدها لا يمكنها أن

توصل الإنسان لمقصده دون وجود علامات فارقة ومميزات شاخصة يستهدي بها الإنسان لسلك ما يوصله لمأربه، ولذا ذكر هذه النعمة.

ومن تلك العلامات: شكل الجبال، الأودية، الممرات، الإرتفاع والإنخفاض، لون الأرض والجبال وحتى طبيعة حركة الهواء.

وأمّا في حال عدم تشخيص هذه العلامات بسبب ظلمة الليل في أيّ من سفر البر أو البحر، فقد جعل اللَّه تعالى علامات في السماء تعوّض عن علامات الأرض.

وقد فسّرت «النجم» برسول اللَّه صلى الله عليه و آله و «العلامات» بالأئمة عليهم السلام في روايات كثيرة وردت عن أهل البيت عليهم السلام وفي بعضها فسّر «النجم» و «العلامات» كلاهما بالأئمة عليهم السلام وكل ذلك يشير إلى التفسير المعنوي لهذه الآيات.

في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «النجم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، والعلامات الأئمة عليهم السلام».

وبعد أن بيّن القرآن كل هذه النعم الجليلة والألطاف الإلهية الخفية، راح يدعو الوجدان الإنساني للحكم في ذلك «أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّايَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ».

وكما اعتدنا عليه من القرآن في اسلوبه التربوي الهادف المؤثر، فقد طرح مسألة المحاججة بصيغة سؤال يترك الجواب عنه في عهدة الوجدان الحي للإنسان.

وفي نهاية المطاف، يفنّد الباري سبحانه مسألة حصر النعم الإلهية بما ذكر، بقوله: «وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَاتُحْصُوهَا».

ونواجه في هذا المقام سؤالًا وإستفساراً: كيف إذن نؤدّي حق الشكر للَّه؟ و .. ألسنا مع ما نحن فيه، في زمرة الجاحدين؟

مختصر الامثل، ج 3، ص: 14

وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ» خير جواب لذلك السؤال.

نعم، فهو سبحانه أرحم وأرأف من أن يؤاخذنا على عدم الاستطاعة في أداء أتمّ الشكر على نعمه.

ويكفينا من لطفه تعالى بأن يحسبنا من الشاكرين في حال اعتذرنا له واعترافنا بالعجز عن أداء حق الشكر الكامل.

ولكن هذا

لا يمنع من أن نتتبع ونحصي النعم الربانية بقدر المستطاع، لأنّ ذلك يزيدنا معرفة للَّه، وعلماً بعالم الخليقة، وآفاق التوحيد الرحبة، كما يزيد من حرارة عشقه سبحانه في أعماق قلوبنا، وكذا يحرّك فينا الشعور المتحسس بضرورة ووجوب شكر المنعم جلّ وعلا.

ولهذا نجد أنّ الأئمة عليهم السلام يتطرقون في أقوالهم وأدعيتم ومناجاتهم إلى النعم الإلهية ويعدّون جوانب منها، عبادة للَّه وتذكيراً ودرساً للآخرين.

وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَ مَا تُعْلِنُونَ (19) وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَ مَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَ مَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)

آلهة لا تشعر: تناولت الآيات السابقة ذكر صفتين ربانيتين لا تنطبق أيّة منها على الأصنام، أمّا الآية الاولى أعلاه فتشير إلى الصفة الثالثه للمعبود الحقيقي (وهي العلم) فتقول: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ». فلماذا تسجدون للأصنام التي لم تكن هي الخالقة لكم، ولم تمنّ عليكم بأيّة نعمة، ولا تعرف عن علانيتكم شيئاً فضلًا عن سرّكم؟!

ثم يعود القرآن إلى مسألة الخالقية بافق أوسع من الآية السابقة: «وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَايَخْلُقُونَ شَيًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ».

وقد بحث لحدّ الآن في عدم صلاحية الأصنام لتكون معبودة لأنّها ليست خالقة، ومع

مختصر الامثل، ج 3، ص: 15

ذلك كله، فإنّها «أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ». ثم يضيف قائلًا عنها: «وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ».

فإذا كان الثواب والعقاب بيد الأصنام، فلا أقل من معرفتها بوقت بعث عبادهنّ، ومع جهلها بيوم البعث والحساب كيف تكون لائقة للعبادة؟!

وهذه هي الصفة الخامسة التي يجب توفرها في المعبود الحقيقي وتفتقدها

الأصنام.

إنّ مفهوم الصنم وعبادة الأصنام في المنطق القرآني أوسع من أنّ يحدد بالآلهة المصنوعة، فكل موجود نجعله ملجأ لنا مقابل اللَّه عزّ وجل، ونسلّم له أمر مصائرنا، فهو صنم وإن كان بشراً.

ولهذا فكل ما جاء في الآيات أعلاه يشمل الذين يعبدون اللَّه بألسنتهم، ولكن في واقع حياتهم مستسلمون لمعبود ضعيف، وقد تبعوه لكونه المخلص لهم من دون اللَّه، بعد أن فقد زمام استقلال المؤمن الحق.

وبعد هذه الإستدلالات الحيّة والواضحة على عدم صلاحية الأصنام يخلص القرآن إلى النتيجة المنطقية لما ذكر: «إِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ».

وبما أنّ العلاقة بين المبدأ والمعاد مترابطة ربطاً لا انفصام فيه، يضيف القرآن الكريم من غير فاصلة: «فَالَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالْأَخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ». فأدلة التوحيد والمعاد قائمة لمن أراد الحق وطلب الحقيقة، إلّاأنّ سبب عدم قبول الحق وإنكاره يرجع إلى حالة الإستكبار وعدم التسليم له، ويصبح ملكة في وجود المنكرين.

ثم تتطرق الآية الأخيرة إلى علم اللَّه في الغيب والشهادة: «لَاجَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ».

والآية في واقعها تهديد للكفار وأعداء الحق، بأنّ اللَّه عزّ وجل ليس بغافل عنهم.

فهم مستكبرون و «إِنَّهُ لَايُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ». والإستكبار على الحق من علامات الجهل باللَّه عزّ وجل.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 16

وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ مَا ذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ مِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ أَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَ يَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَ السُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ

(27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: يروى أنّها نزلت في المقتسمين وهم ستة عشر رجلًا خرجوا إلى عقاب مكة أيام الحج على طريق الناس على كل عقبة أربعة منهم ليصدّوا الناس عن النبي صلى الله عليه و آله وإذا سألهم الناس عمّا أنزل على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قالوا: أحاديث الأوّلين وأباطيلهم.

التّفسير

حمل أوزار الآخرين: دار الحديث في الآيات السابقة حول عناد المستكبرين واستكبارهم أمام الحق، وسعيهم الحثيث في التنصّل عن المسؤولية وعدم التسليم للحق. أمّا في هذه الآيات فيدور الحديث حول منطق المستكبرين الدائم، فيقول القرآن: «وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ». فليس هو وحي إلهي، بل أكاذيب القدماء.

«الأساطير»: جمع أسطورة، وتطلق على الحكايات والقصص الخرافية والكاذبة، وقد وردت هذه الكلمة تسع مرّات في القرآن الكريم نقلًا عن لسان الكفار ضدّ الأنبياء تبريراً لمخالفتهم الدعوة إلى اللَّه عزّ وجل.

وفي جميع المواطن ذكروا معها كلمة «الأوّلين» ليؤكدوا أنّها ليست بجديدة وأنّ الأيام ستتجاوزها حتى وصل بهم الحال ليغالوا فيما يقولون، كما جاء عن لسانهم في الآية (31) من

مختصر الامثل، ج 3، ص: 17

سورة الأنفال: «قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذَا».

والملاحظ على مستكبري يومنا توسلهم بنفس تلك التهم الباطلة هروباً من الحق وإضلالًا للآخرين، ووصلت بهم الحماقة لأن يعتبروا منشأ الدين من الجهل البشري، وما الآراء الدينية إلّاأساطير وخرافات، حتى أنّهم اثبتوا ذلك في كتب (علم الاجتماع ودوّنوه بصياغة (علمية) كما يدّعون). أمّا لو نفذنا في أعماق تفكيرهم لوجدنا صورة اخرى:

فهم لم يحاربوا الأديان والمذاهب الخرافية المجعولة أبداً، فهم مؤسسوها والداعون لنشرها، إنّما محاربتهم للأصالة والدين الحق الذي يوقظ الفكر الإنساني ويحطّم الأغلال الاستعمارية ويقطع دابر المنحرفين عن جادة الصواب.

توضّح الآية الاخرى أعمالهم بالقول: «لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيمَةِ وَمِن أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ».

ثم تتحرك الآية الاخرى لتقرر أنّ تهمة وصف الوحي الإلهي بأساطير الأوّلين ليست بالأمر المستجد: «قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْينَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتهُمُ الْعَذَابُ مِن حَيْثُ لَايَشْعُرُونَ».

ومن لطيف دقّة العبارة القرآنية، أنّ الآية أشارت إلى أنّ اللَّه عزّ وجل لا يدمرّ البناء العلوي للمستكبرين فحسب، بل سيدمّره من القواعد لينهار بكله عليهم.

وقد يكون تخريب القواعد وإسقاط السقف إشارة إلى أبنيتهم الظاهرية، من خلال الزلازل والصواعق لتنهار على رؤوسهم، وقد يكون إشارة إلى قلع جذور تجمعاتهم وأحزابهم بأمر اللَّه عزّ وجل، بل لا مانع من شمول الأمرين معاً.

وعذابهم في الحياة الدنيا لا يعني تمام الجزاء، بل تكملته ستكون يوم الجزاء الأكبر «ثُمَّ يَوْمَ الْقِيمَةِ يُخْزِيهِمْ».

فيسألهم اللَّه تعالى: «وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَاءِىَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ». أي تجادلون وتعادون فيهم، فلا يتمكنون من الإجابة، ولكن: «قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْىَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ».

وهو نوع من العذاب الروحي، ويصف ذيل الآية السابقة حال الكافرين بالقول:

«الَّذِينَ تَتَوَفهُمُ الْمَلِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 18

لأنّ ممارسة الظلم في حقيقتها ظلم للنفس قبل الآخرين، لأنّ الظالم يتلف ملكاته الوجدانية، ويهتك حرمة الصفات الفطرية الكامنة فيه.

أمّا حين تحين ساعة الموت ويزول حجاب الغفلة عن العيون «فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ».

لماذا ينكرون عملهم القبيح؟ فهل إنّهم يكذبون وقد أصبح الكذب صفة ذاتية لهم من

كثرة تكراره، أم يريدون القول: إنّنا نعلم سوء أعمالنا، ولكننا اخطأنا ولم تكن لدينا نوايا سيئة فيه.

يمكن القول بإرادة كلا الأمرين.

ولكن الجواب يأتيهم فوراً: إنّكم تكذبون فقد ارتكبم ذنوباً كثيرة: «بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ» حتى بنيّاتكم.

وليس المقام محلًّا للإنكار أو التبرير ... «فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ».

وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَا ذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَ لَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَ لَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)

عاقبة المتقين والمحسنين: قرأنا في الآيات السابقة أقوال المشركين حول القرآن وعاقبة ذلك، والآن ندخل مع المؤمنين في اعتقادهم وعاقبته .. فيقول القرآن: «وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا».

ما أجمل هذا التعبير وأكمله «خيراً» خير مطلق يشمل كل: صلاح، سعادة، رفاه، تقدم مادي ومعنوي، خير للدنيا والآخرة، خير للإنسان الفرد والمجتمع.

وتبيّن الآية مورد البحث نتيجة وعاقبة ما أظهره المؤمنون من اعتقاد، كما عرضت

مختصر الامثل، ج 3، ص: 19

الآيات السابقة عاقبة ما قاله المشركين من عقاب دنيوي وأخروي، ومادي ومعنوي مضاعف: «لّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِى هذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ».

وقد أطلق الجزاء بال «حسنة» كما أطلقوا القول «خيراً»، ليشمل كل أنواع الحسنات والنعم في الحياة الدنيا، بالإضافة إلى: «وَلَدَارُ الْأَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ». ثم تصف الآية التالية- بشكل عام- محل المتقين في الآخرة بالقول: «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ».

وقلنا أنّ الآيات مورد البحث توضّح كيفية حياة وموت المتقين مقارنة مع ما ورد في الآيات السابقة

حول المشركين والمستكبرين، وقد مرّ علينا هناك أنّ الملائكة عندما تقبض أرواحهم يكون موتهم بداية لمرحلة جديدة من العذاب والمشقة، ثم يقال لهم: «ادخلوا أبواب جهنم ...».

وأمّا عن المتقين: «الَّذِينَ تَتَوَفهُمُ الْمَلِكَةُ طَيّبِينَ» طاهرين من كل تلوّثات الشرك والظلم والإستكبار، ومخلصين من كل ذنب: «يَقُولُونَ سَلمٌ عَلَيْكُمُ». السلام الذي هو رمز الأمن والنجاة.

ثم يقال لهم: «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

والتعبير عن موتهم ب «تَتَوَفهُم» يحمل بين طيّاته اللطف، ويشير إلى أنّ الموت لا يعني الفناء والعدم أو نهاية كل شي ء، بل هو مرحلة انتقالية إلى عالم آخر.

وفي تفسير الميزان: أنّ في هذه الآية ثلاثة مسائل:

1- طهارة المؤمنين من خبث الظلم.

2- يقولون لهم: «سَلمٌ عَلَيْكُمُ» وهو تأمين قولي لهم.

3- «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ» وهو هداية لهم إليها.

وهذه المواهب الثلاث هي التي ذكرت في الآية (82) من سورة الأنعام: «الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 20

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ مَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَ لكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَ حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (34) وَ قَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ نَحْنُ وَ لَا آبَاؤُنَا وَ لَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَ لَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي

مَنْ يُضِلُّ وَ مَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)

يعود القرآن الكريم مرّة اخرى ليعرض لنا واقع وأفكار المشركين والمستكبرين ويقول بلهجة وعيد وتهديد: ماذا ينتظرون؟ «هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلِكَةُ». أي:

ملائكة الموت فتغلق أبواب التوبة أمامهم حيث لا سبيل للرجوع بعد إغلاق صحائف الأعمال.

أو هل ينتظرون أن يأتي أمر اللَّه بعذابهم: «أَو يَأْتِىَ أَمْرُ رَبّكَ» حيث تغلق أبواب التوبة أيضاً ولا سبيل عندها للإصلاح.

ثم يضيف: إنّ هؤلاء ليس أوّل مَن كانوا على هذه الحال والصفة وإنّما «كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ».

وسوف يلاقون نتيجة ما كسبت أيديهم من أعمال.

ثم يذكر عاقبة أمرهم بقوله: «فَأَصَابَهُمْ سَيَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ».

فتعبير الآية ب «فَأَصَابَهُمْ سَيَاتُ مَا عَمِلُوا» يؤكّد مرّة اخرى على عودة الأعمال على فاعلها سواء في الدنيا أو في الآخرة، وتتجسم له بصور شتى، وتعذّبه وتؤلمه ولا شي ء غر هذه الأعمال في عذابه.

وتشير الآية التالية إلى أحد أقوال المشركين الخاوية، فتقول: «وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ

مختصر الامثل، ج 3، ص: 21

شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْ ءٍ نَّحْنُ وَلَا ءَابَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْ ءٍ».

إنّ قولهم «وَلَا حَرَّمْنَا» إشارة إلى بعض أنواع الحيوانات التي حرّم لحومها المشركون في عصر الجاهلية، والتي أنكرها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بشدة. وكأنّهم يقولون: إن كانت أعمالنا لا ترضي اللَّه تعالى فلماذا لم يرسل إلينا الأنبياء لينهونا عما نقوم به، فسكوته وعدم منعه ما كنا نعمل دليل على رضاه.

ولهذا يقول تعالى مباشرة: «كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلغُ الْمُبِينُ».

وهذا هو خط جميع دعاة الحق (من الأنبياء وغيرهم) .. فهم: لا يداهنون في دعوتهم أبداً

ولا يجاملون الباطل وأهله، متحملين كل عواقب هذه الصراحة والقاطعية.

وبعد ذكر وظيفة الأنبياء (البلاغ المبين)، تشير الآية التالية باختصار جامع إلى دعوة الأنبياء السابقين، بقولها: «وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولًا».

«الامّة»: من «الأم» بمعنى الوالدة، أو بمعنى كل ما يتضمن شيئاً آخر في داخله؛ ومن هنا يطلق على جماعة تربطها وحدة معينة من حيث الزمان أو المكان أو الفكر أو الهدف «امّة».

ويبيّن القرآن محتوى دعوة الأنبياء عليهم السلام بالقول: «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ».

لأنّ اسس التوحيد إذا لم تحكم ولم يطرد الطواغيت من بين المجتمعات البشرية فلا يمكن إجراء أي برنامج إصلاحي.

«الطاغوت»: صيغة مبالغة للطغيان .. أي التجاوز والتعدي وعبور الحد، فتطلق على كل ما يكون سبباً لتجاوز الحد المعقول، ولهذا يطلق اسم الطاغوت على الشيطان، الصنم، الحاكم المستبد، المستكبر وعلى كل مسير يؤدّي إلى غير طريق الحق.

ونعود لنرى ما وصلت إليه دعوة الأنبياء عليهم السلام إلى التوحيد من نتائج، فالقرآن الكريم يقول: «فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّللَةُ».

والآية (79) من سورة النساء تشير إلى المعنى المذكور بقولها: «مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ».

وفي نهاية الآية يصدر الأمر العام لأجل إيقاظ الضالين وتقوية روحية المهتدين، بالقول: «فَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَانظُرُواكَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ».

فالآية دليل ناطق على حرية إرادة الإنسان، فإنْ كانت الهداية والضلال أمرين

مختصر الامثل، ج 3، ص: 22

إجباريين، لم يكن هناك معنىً للسير في الأرض والنظر إلى عاقبة المكذبين.

الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث تؤكّد التسلية لقلب النبي صلى الله عليه و آله بتبيان ما وصلت إليه حال الضالين: «إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَيهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِى مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مّن نَّاصِرِينَ».

«تحرص»: من مادة (حرص)،

وهو طلب الشي ء بجديّة وسعي شديد.

بديهي، أنّ الآية لا تشمل كل المنحرفين، لأنّ الشمول يتعارض مع وظيفة النبي (هداية وتبليغ).

فعليه ... تكون الجملة المتقدمة خاصة بمجموعة معينة من الضالين الذين وصل بهم العناد واللجاجة في الباطل لأقصى درجات الضلال، وأصبحوا غرقى في بحر الإستكبار والغرور والغفلة والمعصية فاغلقت أمامهم أبواب الهداية.

وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْ ءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قالوا: كان لرجل من المسلمين على مشرك دين، فتقاضاه فوقع في كلامه والذي أرجوه بعد الموت أنّه لكذا. فقال المشرك: وإنّك لتزعم أنّك تبعث بعد الموت وأقسم باللَّه لا يبعث اللَّه من يموت. فأنزل اللَّه الآية.

التّفسير

المعاد ونهاية الإختلافات: تعرض الآيات أعلاه جانباً من موضوع «المعاد» تكميلًا لما بحث في الآيات السابقة ضمن موضوع التوحيد ورسالة الأنبياء. فتقول الآية الاولى:

«وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَايَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ».

وهذا الإنكار الخالي من الدليل والذي ابتدؤوه بالقسم المؤكّد، ليؤكّد بكل وضوح على جهلهم ولهذا يجيبهم القرآن بقوله: «بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ».

ثم يتطرق القرآن الكريم إلى ذكر أحد أهداف المعاد وقدرة اللَّه عزّ وجل على ذلك، ليردّ الإشتباه القائل بعدم إعادة الحياة بعد الموت، أو بعبثية المعاد ... فيقول: «لِيُبَيّنَ لَهُمُ الَّذِى

مختصر الامثل، ج 3، ص: 23

يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ» في إنكارهم للمعاد وبأنّ اللَّه لا يبعث من يموت. فالرجوع إلى الوحدة وانتهاء الخلافات العقائدية من أهداف المعاد وقد أشارت إليه الآية

مورد البحث.

ثم يشير القرآن إلى الفقرة الثانية من بيان حقيقة المعاد، للرد على من يرى عدم إمكان إعادة الإنسان من جديد إلى الحياة من بعد موته: «إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْ ءٍ إِذَا أَرَدْنهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ».

إنّ «كن» إنّما ذكرت لضرورة اللفظ، وإلّا لا حاجة في أمر اللَّه ل «كن» أيضاً، فإرادته سبحانه وتعالى كافية في تحقيق ما يريد.

فإرادته إحداثه لا غير ذلك، لأنّه لا يُروّي ولا يهم ولا يتفكر، وهذه الصفات منفية عنه وهي من صفات الخلق، فإرادة اللَّه تعالى هي الفعل لا غير ذلك، يقول له: كن فيكون، بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همة ولا تفكر ولا كيف كذلك كما أنّه بلا كيف.

وَ الَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: الآية الاولى نزلت في المعذبين بمكة مثل صهيب، وعمار، وبلال، وخباب، وغيرهم مكّنهم اللَّه بالمدينة، وذكر أنّ صهيباً قال لأهل مكة: أنا رجل كبير إن كنت معكم لم ينفعكم وإن كنت عليكم لم يضرّكم فخذوا مالي ودعوني. فأعطاهم ماله وهاجر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال له أبوبكر: ربح البيع يا صهيب.

التّفسير

ثواب المهاجرين: نرى في الآيات السابقة الحديث عن المشركين ومنكري يوم القيامة، وينتقل الحديث في الآيات مورد البحث إلى المهاجرين المخلصين، ليقارن بين المجموعتين ويبيّن طبيعتهما فيقول أوّلًا: «وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِى اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً». أمّا في الآخرة: «وَلَأَجْرُ الْأَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ».

ثم يصف في الآية التالية المهاجرين المؤمنين الصالحين بصفتين، فيقول: «الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ».

مختصر الامثل،

ج 3، ص: 24

إنّ للمسلمين هجرتين؛ الاولى: كانت محدودة نسبياً (هجرة جمع من المسلمين على رأسهم جعفر بن أبي طالب إلى الحبشة)، والثانية: الهجرة العامة للنبي صلى الله عليه و آله والمسلمين من مكة إلى المدينة. وظاهر الآية يشير إلى الهجرة الثانية، كما يؤيّد ذلك شأن النزول.

وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَ الزُّبُرِ وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)

اسألوا إن كنتم لا تعلمون: هذه الآية يعود إلى بيان المسائل السابقة فيما يتعلق باصول الدين من خلال إجابته لأحد الإشكالات المعروفة؛ حين يتقوّل المشركون: لماذا لم ينزل اللَّه ملائكة لإبلاغ رسالته؟ أو يقولون: لِم لم يجهّز النبي صلى الله عليه و آله بقدرة خارقة ليجبرنا على ترك أعمالنا؟ فيجيبهم اللَّه عزّ وجل بقوله: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِى إِلَيْهِمْ».

نعم. فإنّ أنبياء اللَّه جميعهم من البشر، وبكل ما يحمل البشر من غرائز وعواطف إنسانية، حتى يحس بالألم ويدرك الحاجة كما يحس ويدرك الآخرون. في حين أنّ الملائكة لا تتمكن من إدراك هذه الامور جيّداً.

ثم يضيف القول (تأكيداً لهذه الحقيقة): «فَسَلُوا أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ».

«الذكر»: بمعنى العلم والإطلاع؛ و «أهل الذكر»: له من شمولية المفهوم بحيث يستوعب جميع العالمين والعارفين في كافة المجالات.

فالآية مبيّنة لأصل إسلامي يتعيّن الأخذ به في كل مجالات الحياة المادية والمعنوية، وتؤكّد على المسلمين ضرورة السؤال فيما لا يعلمونه ممن يعلمه، وأن لا يورطوا أنفسهم فيما لا يعلمون.

وعلى هذا فإنّ «مسألة التخصص» لم يقررها القرآن الكريم ويحصرها في المسائل الدينية بل هي شاملة لكل المواضيع والعلوم المختلفة، ويجب أن يكون من بين

المسلمين علماء في كافة التخصصات للرجوع إليهم.

ثم تقول الآية التالية: «بِالْبَيّنَاتِ وَالزُّبُرِ».

«البيّنات»: جمع بيّنة، بمعنى الدلائل الواضحة، ويمكن أن تكون هنا إشارة إلى معاجز وأدلة إثبات صدق الأنبياء في دعوتهم؛ و «الزبر»: جمع زبور، بمعنى الكتاب.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 25

فالبيّنات تتحدث عن دلائل إثبات النبوة، والزّبر إشارة إلى الكتب التي جمعت فيها تعليمات الأنبياء. ومن ثم يتوجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله: «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»، ليبيّن للناس مسؤوليتهم تجاه آيات ربّهم الحق.

فدعوتك ورسالتك ليست بجديدة من الناحية الأساسية، وكما أنزلنا على الذين من قبلك من الرسل كتباً ليعلّموا الناس تكاليفهم الشرعية، فقد أنزلنا عليك القرآن لتبيّن تعاليمه ومفاهيمه، وتوقظ به الفكر الإنساني ليسيروا في طريق الحق.

أَ فَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)

لكل ذنب عقابه: ثمّة ربط في كثير من بحوث القرآن بين الوسائل الاستدلالية والمسائل الوجدانية بشكل مؤثّر في نفوس السامعين، والآيات أعلاه نموذج لهذا الاسلوب. فالآيات السابقة عبارة عن بحث منطقي مع المشركين في شأن النبوة والمعاد، في حين جاءت هذه الآيات بالتهديد للجبابرة والطغاة والمذنبين. فتبتدأ القول: «أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيَاتِ» من الذين حاكوا الدسائس المتعددة لإطفاء نور الحق والإيمان «أَن يَخْسِفَ بِهِمُ الْأَرْضَ».

فهل ببعيد (بعد فعلتهم النكراء) أن تتزلزل الأرض زلزلة شديدة فتنشق القشرة الأرضية لتبتلعهم وما يملكون، كما حصل مراراً لأقوام سابقة؟!

«مكروا السيئات»: بمعنى وضعوا الدسائس والخطط وصولًا لأهدافهم المشؤمة السيئة، كما فعل المشركون للنيل من نور القرآن ومحاولة قتل النبي صلى الله

عليه و آله.

«يخسف»: من مادة «خسف» بمعنى الإختفاء، ولهذا يطلق على اختفاء نور القمر في ظل الأرض اسم (الخسوف).

ثم يضيف: «أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَايَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ». أي:

عند ذهابهم ومجيئهم وحركتهم في اكتساب الأموال وجمع الثروات. «فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ».

إنّ «معجزين» من الإعجاز بمعنى إزالة قدرة الطرف الآخر، وهي هنا بمعنى الفرار من العذاب ومقاومته.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 26

أو أنّ العذاب الإلهي لا يأتيهم على حين غفلة منهم بل بشكل تدريجي ومقروناً بالإنذار المتكرر: «أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ».

فاليوم مثلًا، يصاب جارهم ببلاء، وغداً يصاب أحد أقربائهم، وفي يوم آخر تتلف بعض أموالهم ... والخلاصة، تأتيهم تنبيهات وتذكيرات الواحدة تلو الاخرى، فإن استيقظوا فما أحسن ذلك، وإلّا فسيصيبهم العقاب الإلهي ويهلكهم.

إنّ العذاب التدريجي في هذه الحالات يكون لاحتمال أن تهتدي هذه المجموعة، واللَّه عزّ وجل لا يريد أن يعامل هؤلاء كالباقين: «فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ».

أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَ هُمْ دَاخِرُونَ (48) وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَ الْمَلَائِكَةُ وَ هُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)

سجود الكائنات للَّه عزّ وجل: تعود هذه الآيات مرّة اخرى إلى التوحيد بادئةً ب «أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْ ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِللُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِّلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ» «1».

أي: ألم يشاهد المشركون كيف تتحرك ظلال مخلوقات اللَّه يميناً وشمالًا لتعبّر عن خضوعها وسجودها له سبحانه؟

وهنا ... يعرض الباري سبحانه حركة ظلال الأجسام يميناً وشمالًا بعنوانها مظهراً لعظمته جلّ وعلا واصفاً حركتها بالسجود والخضوع.

وجاء في الآية أعلاه ذكر سجود الظلال

بمفهومه الواسع، أمّا في الآية التالية فقد جاء ذكر السجود بعنوانه برنامجاً عامّاً شاملًا لكل الموجودات المادية وغير المادية، وفي أيّ مكان، فتقول: «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالْمَلِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ»، مسلمين للَّه ولأوامره تسليماً كاملًا.

وحقيقة السجود نهاية الخضوع والتواضع والعبادة، وما نؤدّيه من سجود على الأعضاء السبعة ما هو إلّامصداق لهذا المفهوم العام ولا ينحصر به.

وبما أنّ جميع مخلوقات اللَّه في عالم التكوين والخلق مسلّمة للقوانين العامة لعالم الوجود،

______________________________

(1) «داخر»: في الأصل من مادة (دخور) أي: التواضع.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 27

التي أفاضتها الإرادة الإلهية فإنّ جميع المخلوقات في حالة سجود له جلّ وعلا، ولا ينبغي لها أن تنحرف عن مسير هذه القوانين، وكلها مظهرة لعظمة وعلم وقدرة الباري عزّ وجل، ولتدلل على أنّها آية على غناه وجلاله ... والخلاصة: كلها دليل على ذاته المقدسة. «الدابة»: بمعنى الموجودات الحيّة، ويستفاد من ذكر الآية لسجود الكائنات الحيّة في السماوات والأرض على وجود كائنات حيّة في الأجرام السماوية المختلفة علاوة على ما موجود على الأرض.

أمّا جملة «وَهُمْ لَايَسْتَكْبِرُونَ» فإشارة لحال وشأن الملائكة التي لا يداخلها أيّ استكبار عند سجودها وخضوعها للَّه عزّ وجل.

ولهذا ذكر صفتين للملائكة بعد تلك الآية مباشرةً وتأكيداً لنفي حالة الإستكبار عنهم:

«يَخَافُونَ رَبَّهُم مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ».

ويستفاد من هذه الآية بوضوح أنّ علامة نفي الإستكبار شيئان:

أ) الشعور بالمسؤولية وإطاعة الأوامر الإلهية من دون أي اعتراض.

ب) ممارسة الأوامر الإلهية بما ينبغي والعمل وفق القوانين المعدّة لذلك.

وَ قَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَ مَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ

فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)

دين حق ومعبود واحد: تتناول هذه الآيات موضوع نفي الشرك تعقيباً لبحث التوحيد ومعرفة اللَّه عن طريق نظام الخلق الذي ورد في الآيات السابقة، لتتّضح الحقيقة من خلال المقارنة بين الموضوع، ويبتدأ ب «وَقَالَ اللَّهُ لَاتَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإِيىَ فَارْهَبُونِ».

ثم يوضّح القرآن أدلة توحيد العبادة بأربعة بيانات ضمن ثلاث آيات ... فيقول أوّلًا «وَلَهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ» فهل ينبغي السجود للأصنام التي لا تملك شيئاً، أم لمن له ما في السماوات والأرض؟

مختصر الامثل، ج 3، ص: 28

ثم يضيف: «وَلَهُ الدّينُ وَاصِبًا».

ثم يقول في نهاية الآية: «أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ».

فهل يمكن للأصنام أن تصدّ عنكم المكروه أو أن تفيض عليكم نعمة حتى تتقوها وتواظبوا على عبادتها؟!

هذا ... «وَمَا بِكُم مّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ».

فهذه الآية تحمل البيان الثالث بخصوص لزوم عبادة اللَّه الواحد جلّ وعلا، وأنّ عبادة الأصنام إن كانت شكراً على نعمة فهي ليست بمنعمة.

وعلاوة على ذلك ... «ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجَرُونَ».

فإن كانت عبادتكم للأصنام دفعاً للضر وحلًّا للمعضلات، فهذا من اللَّه.

وهذا البيان الرابع حول مسألة التوحيد بالعبادة.

«تجئرون»: من مادة (الجؤار) على وزن (غبار)، بمعنى صوت الحيوانات والوحوش الحاصل بلا اختيار عند الألم، ثم استعملت كناية في كل الآهات غير الاختيارية الناتجة عن ضيق أو ألم.

نعم. فاللَّه سبحانه يسمع نداءكم في كل الحالات ويغيثكم ويرفع عنكم البلاء «ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ» بالعود إلى الأصنام.

فالقرآن في الآية يشير إلى فطرة التوحيد في جميع الناس، إلّاأنّ حجب الغفلة والغرور والجهل والتعصب

والخرافات تغطّيها في الأحوال الاعتيادية.

وفي آخر آية (من الآيات مورد البحث) يأتي التهديد بعد إيضاح الحقيقة بالأدلة المنطقية: «لِيَكْفُرُوا بِمَا ءَاتَيْنهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ».

وَ يَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَ لَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَ إِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَ هُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَ يُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَ لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 29

بعد أن عرضت الآيات السابقة بحوثاً استدلالية في نفي الشرك وعبادة الأصنام، تأتي هذه الآيات لتتناول قسماً من بدع المشركين وصوراً من عاداتهم القبيحة، لتضيف دليلًا آخراً على بطلان الشرك وعبادة الأصنام، فتشير الآيات إلى ثلاثة أنواع من بدع وعادات المشركين: وتقول أوّلًا: «وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَايَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ».

وكان النصيب عبارة عن قسم من الإبل بقية من المواشي بالإضافة إلى قسم من المحاصيل الزراعية، وهو ما تشير إليه الآية (136) من سورة الأنعام. ثم يضيف القرآن الكريم قائلًا: «تَاللَّهِ لَتُسَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ».

وعليه فما تقومون به له ضرر مادي من خلال ما تعملونه بلا فائدة، وله عقاب أخروي لأنّكم أسأتم الظن باللَّه واتجهتم إلى غيره.

أمّا البدعة الثانية فكانت: «وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ» من التجسّم ومن هذه النسبة. «وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ». أي: إنّهم لم يكونوا ليقبلوا لأنفسهم ما نسبوه إلى اللَّه، ويعتبرون البنات عاراً وسبباً للشقاء.

وإكمالًا للموضوع تشير الآية التالية إلى العادة القبيحة الثالثه: «وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ».

ولا ينتهي الأمر إلى هذا الحد

بل «يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشّرَ بِهِ».

ولم ينته المطاف بعد، ويغوص في فكر عميق: «أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ».

وفي ذيل الآية، يستنكر الباري حكمهم الظالم الشقي بقوله: «أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ».

وأخيراً يشير تعالى إلى السبب الحقيقي وراء تلك التلوّثات، ألا هو عدم الإيمان بالآخرة: «لِلَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالْأَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

فالسبب الرئيسي لكل انحراف وقبح وخرافة هو الغفلة عن ذكر اللَّه وعن محكمته العادلة في الآخرة.

دور الإسلام في إعادة اعتبار المرأة: لم يكن احتقار المرأة مختصاً بعرب الجاهلية، فلم تلق المرأة أدنى درجات الإحترام والتقدير حتى في أكثر الامم تمدّناً في ذلك الزمان، وكانت المرأة غالباً ما يتعامل معها باعتبارها بضاعة وليست إنساناً محترماً، ولكن عرب الجاهلية جسّدوا تحقير المرأة بأشكال أكثر قباحة ووحشية من غيرهم.

وعندما ظهر الإسلام حارب بشدة هذه المهانة من كافة أبعادها.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 30

وأولى النبي صلى الله عليه و آله ابنته فاطمة الزهراء عليها السلام من الإحترام ما جعل الناس في عجب من أمره، حيث كان صلى الله عليه و آله مع ما يحظى به من شرف ومقام، كان يقبّل يد الزهراء عليها السلام وعندما يعود من السفر يذهب إليها قبل أيّ أحد.

فالإحترام الذي أولاه الإسلام للمرأة قد أعاد لها شخصيتها الضائعة بين حوالك الجاهلية، وحررها من العادات البالية، وأنهى عصر تحقيرها.

وَ لَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَ لَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَ تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَ أَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا

إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ هُدًى وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)

بعد أن تحدّثت الآيات السابقة عن جرائم المشركين البشعة في وأدهم للبنات، يطرق بعض الأذهان السؤال التالي: لماذا لم يعذّب اللَّه المذنبين بسرعة نتيجة لما قاموا به من فعل قبيح وظلم فجيع؟ والآية الاولى (61) تجيب بالقول: «وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ». أي: إنّ اللَّه لو يؤاخذ الناس على ما إرتكبوه من ظلم لما بقي إنسان على سطح البسيطة.

فعندما يذهب الإنسان فسينتفي سبب وجود الكائنات الاخرى وينقطع نسلها.

ويضيف القرآن الكريم قائلًا: «وَلكِن يُؤَخّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ». بل يدركهم الموت في نفس اللحظة المقررة.

ويعود القرآن الكريم ليستنكر بدع المشركين وخرافاتهم في الجاهلية (حول كراهية المولود الأنثى والإعتقاد بأنّ الملائكة إناثاً) فيقول: «وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ».

فهذا تناقض عجيب، فإن كانت الملائكة بنات اللَّه سبحانه وتعالى فينبغي أن تكون البنت أمراً حسناً فلماذا تكرهون ولادتها؟ وإن كانت شيئاً سيّئاً فلماذا تنسبونها إلى اللَّه؟

ومع كل ذلك ... «وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى .

فبأي عمل تنتظرون حسنى الثواب؟

مختصر الامثل، ج 3، ص: 31

ولهذا يقول القرآن: «لَاجَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ». أي: أنّهم ليسوا فاقدين لحسن العاقبة فقط، بل و «لهم النار» «وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ» أي: من المتقدمين في دخول النار.

والمفرط: من فرط، على وزن (فقط) بمعنى التقدم.

وربّما يراود البعض منّا الإستغراب عند سماعه لقصة عرب الجاهلية في وأدهم للبنات، ويسأل: كيف يصدّق أن نسمع عن إنسان ما يدفن فلذة كبده بيده وهي على قيد الحياة؟!

وكأنّ الآية

التالية تجيب على ذلك: «تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطنُ أَعْمَالَهُمْ».

ثم يضيف القرآن: إنّ مشركي اليوم على سنّة من سبقهم من الماضين من الذين زيّنوا أعمالهم بزخرف ما أوحى لهم الشيطان «فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ»، يستفيدون مما يعطيهم إيّاه.

ولهذا ... «وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

وتبيّن آخر آية من الآيات مورد البحث هدف بعث الأنبياء، ولتؤكّد حقيقة أنّ الأقوام والامم لو اتبعت الأنبياء وتخلّت عن أهوائها ورغباتها الشخصية لما بقي أثر لأي خرافة وانحراف، ولزالت تناقضات الأعمال، فتقول: «وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيّنَ لَهُمُ الَّذِى اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».

وَ اللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَ مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)

المياه، الثمار، الأنعام: مرّة اخرى، يستعرض القرآن الكريم النعم والعطايا الإلهية الكثيرة، تأكيداً لمسألة التوحيد ومعرفة اللَّه، وإشارة إلى مسألة المعاد، وتحريكاً لحس الشكر لدى العباد ليتقربوا إليه سبحانه أكثر، ومن خلال هذا التوجيه الرباني تتّضح علاقة الربط بين هذه الآيات وما سبقها من آيات. فيقول: «وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً لّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ».

وهذا المظهر من مظاهر قدرة وعظمة الخالق عزّ وجل يدلل بما لا يقبل الشك على إمكان المعاد.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 32

وإنّ نعمة الأمطار دليل آخر على قدرة وعظمة الخالق سبحانه.

وبعد ذكر نعمة الماء (الذي يعتبر الخطوة الاولى على طريق الحياة) يشير القرآن الكريم إلى نعمة وجود الأنعام، وبخصوص

ما يؤخذ منها من اللبن كمادة غذائية كثيرة الفائدة، فيقول: «وَإِنَّ لَكُمْ فِى الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً».

وأيّة عبرة أكثر من أن: «نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِى بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لّلشَّارِبِينَ».

«الفرث»: لغة بمعنى الأغذية المهضومة في المعدة والتي بمجرد وصولها إلى الامعاء تزوّد البدن بمادتها الحياتية، بينما يدفع الزائد منها إلى الخارج .. فما يهضم من غذاء داخل المعدة يسمّى «فرثاً» وما يدفع إلى الخارج يسمّى (روثاً).

ونعلم بأنّ جدار المعدة لا يمتص إلّامقداراً قليلًا من الغذاء (كبعض المواد السكّرية) والقسم الأكبر منه ينتقل إلى الأمعاء كي يمتص الدم ما يحتاجه منه.

وكما نعلم أيضاً بأنّ اللبن يترشح من غدد خاصه داخل ثدي الإناث، ومادته الأصلية تؤخذ من الدم والغدد الدهنية.

فهذه المادة الناصعة البياض ذات القوة الغذائية العالية تنتج من الأغذية المهضومة المخلوطة بالفضلات، ومن الدم.

والعجب يكمن في استخلاص هذا النتاج الخالص الرائع من عين ملوّثة.

وبعد حديثه عن الأنعام وألبانها يتناول القرآن ذكر النعم النباتية، فيقول: «وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ». وَ أَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) «وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ»: انتقل الأسلوب القرآني بهاتين الآيتين من عرض النعم الإلهية المختلفة وبيان أسرار الخليقة إلى الحديث عن «النحل» وما يدّره من منتوج (العسل) ورمز إلى ذلك الالهام الخفي بالوحي الإلهي إلى النحل: «أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 33

إنّ الوحي في هذا المورد يعني الأمر

الغريزي والباعث الباطني الذي أودعه اللَّه في الكائنات الحية.

وأوّل مهمة أمر بها النحل في هذه الآية هي: بناء البيت، ولعل ذلك إشارة إلى أنّ اتخاذ المسكن المناسب بمثابة الشرط الأوّل للحياة، ومن ثم القيام ببقية الفعاليات.

ويذكر القرآن الكريم في الآية التالية المهمة الثانية للنحل: «ثُمَّ كُلِى مِن كُلّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِى سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلًا».

وأخيراً يعرض القرآن المهمة الأخيرة للنحل (كنتيجة لما قامت به من مهام سابقة):

«يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لّلنَّاسِ إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».

في طبيعة حياتها وما تعطيه من غذاء للإنسان (فيه شفاء)، وهو دليل على عظمة وقدرة الباري عزّ وجل.

كما نعلم بأنّ للنباتات والأوراد استعمالات علاجية فعّالة لكثير من الأمراض، والشي ء المهم في موضوعنا ما توصّل إليه العلماء من خلال تجاربهم التي أكّدت على أنّ للنحل من المهارة بحيث إنّه في علمية صنعه للعسل لم يبذّر فيما تحويه النباتات والأوراد من خواص علاجية، فالنحل ينقل تلك الخواص بالكامل ويجعلها في العسل.

وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَ اللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَ فَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَ فَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)

سبب اختلاف الأرزاق: بيّنت الآيات السابقة قسماً من النعم الإلهية المجعولة في عالمي النبات والحيوان، لتكون دليلًا حسيّاً لمعرفته جلّ شأنه، وتواصل هذه الآيات مسألة إثبات الخالق جلّ وعلا بأسلوب آخر، وذلك بأنّ تغيير

النعم خارج عن اختيار الإنسان، وذلك كاشف بقليل من الدقّة والتأمل على وجود المقدّر لذلك. فيبتدأ القول ب «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفكُمْ». فمنه الممات كما كانت الحياة منه، ولتعلموا بأنّكم لستم خالقين لأيّ من الطرفين (الحياة والموت).

مختصر الامثل، ج 3، ص: 34

ومقدار عمركم ليس باختياركم أيضاً، فمنكم مَن يموت في شبابه أو في كهولته «وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ» «1».

ونتيجة هذا العمر الموغل في سني الحياة «لِكَىْ لَايَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيًا».

فيكون كما كان في مرحلة الطفولة من الغفلة والنسيان وعدم الفهم ... نعم ف «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ». فكل القدرات بيده جلّ وعلا، وعطاؤه بما يوافق الحكمة والمصلحة، وكذا أخذه لا يكون إلّاعندما يلزم ذلك.

ويواصل القرآن الكريم استدلاله في الآية التالية من خلال بيان أنّ مسألة الرزق ليست بيد الإنسان وإنّما ... «وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِى الرّزْقِ». فاصحاب الثروة والطول غير مستعدين لإعطاء عبيدهم منها ومشاركتهم فيها خوفاً أن يكونوا معهم على قدم المساواة: «فَمَا الَّذِينَ فُضّلُوا بِرَادّى رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ».

والذي نستفيده من الآية المبحوثة أنّ الإسلام يوصي بمراعاة المساواة كبرنامج أخلاقي بين أفراد العائلة الواحدة ومن يكون تحت التكفّل قدر الإمكان، وأن لا يجعلوا لأنفسهم فضلًا عليهم.

فالتفاوت بين دخل الأفراد ينبع من التفاوت بالإستعدادات، وهو من المواهب والنعم الإلهية أيضاً، وإن أمكن أن يكون بعض ذلك اكتسابياً، فالبعض الآخر غير اكتسابي قطعاً.

فإذن وجود التفاوت في الأرزاق أمر غير قابل للإنكار من الناحية الاقتصادية، ويتمّ ذلك حتى داخل المجتمعات السليمة، إلّاأنّ أساس النجاح يكمن في السعي والمثابرة والجد، وينبغي أن لا يكون وجود التفاوت والاختلاف في الإستعدادات وفي الدخل اليومي للأفراد دافعاً لسوء الاستفادة وذلك بتشكيل مجتمع طبقي.

ولهذا يقول

القرآن الكريم في ذيل الآية مورد البحث: «أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ».

وذلك إشارة إلى أنّ هذه الاختلافات في حالتها الطبيعية (وليست الظالمة المصطنعة) إنّما هي من النعم الإلهية التي أوجدها لحفظ النظام الاجتماعي البشري.

وتبدأ الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث بلفظ الجلالة «اللَّه» كما كان في الآيتين السابقتين، ولتتحدث عن النعم الإلهية في إيجاد القوى البشرية، ولتتحدث عن الأرزاق الطيبة أيضاً تكميلًا للحلقات الثلاثة من النعم المذكورة في آخر ثلاث آيات، حيث استهلّت

______________________________

(1) «أرذل»: من «رذل» بمعنى الحقارة وعدم المرغوبية؛ والمقصود من «أرذل العمر»: السنين المتقدمة جدّاً من عمر الإنسان حيث الضعف والنسيان، ولا يستطيع تأمين احتياجاته الأولية، ولهذا سماها القرآن بأرذل العمر.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 35

البحث بنظام الحياة والموت، ثم التفاوت في الأرزاق والإستعدادات الكاشف لنظام (تنوع الحياة) لتنتهي بالآية مورد البحث، حيث النظر إلى نظام تكثير النسل البشري و ...

الأرزاق الطيبة. وتقول الآية: «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا» لتكون سكناً لأرواحكم وأجسادكم وسبباً لبقاء النسل البشري.

ولهذا تقول وبلافاصلة: «وَجَعَلَ لَكُم مّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً».

«الحفدة»: بمعنى (حافد) وهي في الأصل بمعنى الإنسان الذي يعمل بسرعة ونشاط دون انتظار أجر وجزاء، أمّا في هذه الآية فالمقصود منها أولاد الأولاد.

ثم يقول القرآن الكريم: «وَرَزَقَكُم مّنَ الطَّيّبَاتِ».

وبعد كل العرض القرآني لآثار وعظمة قدرة اللَّه، ومع كل ما أفاض على البشرية من نعم، نرى المشركين بالرغم من مشاهدتهم لكل ما أعطاهم مولاهم الحق، يذهبون إلى الأصنام ويتركون السبيل التي توصلهم إلى جادة الحق «أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ».

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ شَيْئاً وَ لَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ

(74)

تواصل هاتان الآيتان بحوث التوحيد السابقة، وتشير إلى موضوع الشرك، وتقول بلهجة شديدة ملؤها اللوم والتوبيخ: «وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَايَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مّنَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ شَيًا».

وليس لا يملك شيئاً فقط، بل «وَلَا يَسْتَطِيعُونَ» أن يخلقوا شيئاً.

وهذه إشارة إلى المشركين بأن لا أمل لكم في عبادتكم للأصنام.

ثمّ تقول الآية التالية كنتيجة لما قبلها: «فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ». وذلك «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ».

إنّ عبارة «فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ» تشير إلى منطق المشركين في عصر الجاهلية (ولا يخلو عصرنا الحاضر من أشباه اولئك المشركين) حيث كانوا يقولون: إنّما نعبد الأصنام لأنّنا لا نمتلك الأهلية لعبادة اللَّه، فنعبدها لتقرّبنا إلى اللَّه! وإنّ اللَّه مثل ملك عظيم لا يصل إليه إلّا الوزراء والخواص، وما على عوام الناس إلّاأن تتقرب للحاشية والخواص لتصل إلى خدمة اللَّه!

مختصر الامثل، ج 3، ص: 36

ولذا يجيبهم القرآن الكريم قائلًا: «فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ» التي هي من صنع أفكاركم المحدودة ومن صنع موجودات (ممكنة الوجود) ومليئة بالنواقص.

فاللَّه الذي دعاكم لأن تدعوه وتناجوه، وفتح لكم أبواب دعائه ليل نهار، لاينبغي أن تشبّهوه بجبار مستكبر لا يتمكن أي أحد من الوصول إليه ودخول قصره إلّابعض الخواص «فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ».

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْ ءٍ وَ مَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَ جَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْ ءٍ وَ هُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ هُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ

أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (77)

مثلان للمؤمن والكافر: ضمن التعقيب على الآيات السابقة التي تحدثت عن: الإيمان، الكفر، المؤمنين، الكافرين والمشركين، تشخّص الآيات مورد البحث حال المجموعتين (المؤمنين والكافرين) بضرب مثلين حيّين وواضحين.

يشبّه المثال الأوّل المشركين بعبد مملوك لا يستطيع القيام بأيّة خدمة لمولاه، ويشبّه المؤمنين بإنسان غني، يستفيد الجميع من إمكانياته ... «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَّايَقْدِرُ عَلَى شَىْ ءٍ».

أمّا ما يقابل ذلك فالإنسان المؤمن الذي يتمتع بأنواع المواهب والرزق الحسن: «وَمَن رَّزَقْنهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا» والإنسان الحر مع ما له من إمكانيات واسعة «وَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا». فاحكموا: «هَلْ يَسْتَوُونَ».

قطعاً، لا ... فإذن: «الْحَمْدُ لِلَّهِ» الذي يكون عبده حرّ وقادر ومنفق، وليس الأصنام التي يكون عبّادها أسرى وعديمو القدرة ومحددون «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَايَعْلَمُونَ».

ثم يضرب مثلًا آخر لعبدة الأصنام والمؤمنين والصادقين، فيشبّه الأوّل بالعبد الأبكم الذي لا يقدر على شي ء، ويشبّه الآخر بإنسان حر يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم:

مختصر الامثل، ج 3، ص: 37

«وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَايَقْدِرُ عَلَى شَىْ ءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلهُ». ولهذا ..

«أَيْنَمَا يُوَجّههُّ لَايَأْتِ بِخَيْرٍ». وعلى هذا فيكون له أربع صفات سلبية:

- أبكم (لا ينطق ولا يسمع ولا يبصر منذ الولادة).

- وعاجز لا يقدر على شي ء.

- وكَلٌّ على مولاه.

- وأينما يوجّهه لا يأت بخير.

كما رأينا من ربط القرآن في بحوثه المتعلقة بالتوحيد ومحاربة الشرك مع بحث المعاد ومحكمة القيامة الكبرى، نراه هنا يتناول الإجابة على إشكالات المشركين فيما يخص المعاد، فيقول لهم: «لِلَّهِ غَيْبُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

ثم يضيف قائلًا: «وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ».

فالعبارتان إشارة حيّة لقدرة اللَّه عزّ وجل المطلقة، وبخصوص مسألتي المعاد والقيامة، ولهذا يقول الباري في ذيل

الآية: «إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

وَ اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصَارَ وَ الْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَ يَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَ مِنْ أَصْوَافِهَا وَ أَوْبَارِهَا وَ أَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَ مَتَاعاً إِلَى حِينٍ (80) وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَ سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَ أَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 38

أنواع النعم المادية والمعنوية: يعود القرآن الكريم مرّة اخرى بعرض جملة اخرى من النعم الإلهية كدرس في التوحيد ومعرفة اللَّه، وأوّل ما يشير في هذه الآيات المباركات إلى نعمة العلم والمعرفة ووسائل تحصيله ... ويقول: «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيًا». فمن الطبيعي أنّكم في ذلك المحيط المحدود المظلم تجهلون كل شي ء، ولكن عندما تنتقلون إلى هذا العالم فليس من الحكمة أن تستمروا على حالة الجهل، ولهذا فقد زوّدكم الباري سبحانه بوسائل إدراك الحقائق ومعرفة الموجودات «وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفِدَةَ». لكي يتحرك حس الشكر للمنعم في أعماقكم من خلال إدراككم لهذه النعم الربانية الجليلة «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

وتستمر الآية التالية في بيان أسرار عظمة اللَّه عزّ وجل في علم الوجود، وتقول: «أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِى جَوّ السَّمَاءِ».

وبما أنّ الأجسام تنجذب إلى الأرض طبيعياً فقد

وصف القرآن الكريم حركة الطيور في الهواء بالتسخير.

ويضيف قائلًا: «مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ».

صحيح أنّ ثمّة امور مجتمعة تعطي للطيور إمكانية التحليق والطيران، مثل: الخاصية الطبيعية للأجنحة، قدرة عضلات الطيور، هيكل الطير بالإضافة إلى خواص الهواء الملائمة ... ولكن، من الذي خلق هذه الهيئة وتلك الخواص؟

وفي نهاية الآية، يأتي قوله عزّ من قائل: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ». أي: إنّهم ينظرون إلى هذه الامور بعين باصرة وأذن سميعة ويتفكرون فيما يرون ويسمعون، وبذلك يقوى إيمانهم ويرسخ أكثر فأكثر.

وتستمر الآيات في الإشارة إلى النعم الإلهية حتى نصل إلى الآية الثالثه (مورد البحث) لتقول: «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا».

وحقّاً إنّ هذه النعمة المباركة من أهم النعم، فلولاها لم يمكن التمتع بغيرها.

«البيوت»: جمع بيت، مأخوذ من «البيتوتة» وهي في الأصل بمعنى التوقف ليلًا، واطلقت كلمة «بيت» على الحجرة أو الدار لحصول الاستفادة منهما للسكن ليلًا.

وبعد أن تطرّق القرآن الكريم إلى ذكر البيوت الثابتة عرّج على ذكر البيوت المتنقلة فقال:

«وَجَعَلَ لَكُم مّن جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 39

وهي من الخفّة بحيث «تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ أي: رحيلكم- وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ».

بل وجعل لكم: «وَمِن أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ».

فاستعمال المصطلحين «أَثَاثًا وَمَتَاعًا» على التوالي يمكن أن يشير إلى هذا المعنى: إنّكم تستطيعون أن تهيئوا من أصوافها وأوبارها وأشعارها وسائل بيتية كثيرة تتمتعون بها.

الظلال، المساكن، الأغطية: ويشير القرآن الكريم إلى نعمة اخرى بقوله: «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِللًا وَجَعَلَ لَكُم مّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا».

«الأكنان»: جمع (كن) بمعنى وسائل التغطية والحفظ، ولهذا فقد اطلقت على المغارات وأماكن الإختفاء وفي الجبال.

وكأنّ ذكر نعمة «الظلال» و «أكنان الجبال» بعد ذكر نعمة «المسكن» و «الخيام» في الآية السابقة، للإشارة إلى أنّ طوائف الناس

لا تخرج عن إحدى ثلاثة ... واحدة تعيش في المدن والقرى وتستفيد من بناء البيوت لسكناها، واخرى تعيش الترحال والتنقل فتحمل معها الخيام، وثالثة اولئك الذين يسافرون وليس معهم مستلزمات المأوى ... ولم يترك الباري جلّ شأنه المجموعة الثالثه تعيش حالة الحيرة من أمرها، بل في طريقهم الظلال والمغارات لتقيهم. وبعد ذكر القرآن الكريم لنعمة الظلال الطبيعية والصناعية، ينتقل لذكر ملابس الإنسان فيقول: «وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ»، وثمّة ألبسة اخرى تستعمل لحفظ أبدانكم في الحروب «وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ».

«السرابيل»: جمع «سربال» بمعنى الثوب من أيّ جنس كان.

فإنّ فائدة الألبسة لا تنحصر في حفظ الإنسان من الحر والبرد، بل تُلبس الإنسان ثوب الكرامة وتقي بدنه من الأخطار الموجّهة إليه.

وفي ذيل الآية يقول القرآن مذكّراً: «كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ». أي:

تطيعون أمره.

وطبيعي جدّاً أن يفكر الإنسان بخالق النعم، خصوصاً عند تنبّهه للنعم المختلفة التي تحيط بوجوده.

وبعد ذكر هذه النعم الجليلة، يقول عزّ وجلّ أنّهم لو اعرضوا ولم يسلموا للحق فلا تحزن ولا تقلق، لأنّ وظيفتك ابلاغهم: «فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلغُ الْمُبِينُ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 40

والمراد من هذا المقطع القرآني هو مواساة النبي صلى الله عليه و آله وتسليته.

وتكميلًا للحديث ... يضيف القرآن الكريم القول: «يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا».

فعلّة كفرهم ليست في عدم معرفتهم بالنعم الإلهية وإنّما بحملهم تلك الصفات القبيحة التي تمنعهم من الإيمان كالتعصب الأعمى والعناد في معاداة الحق.

ولعل ما جاء في آخر الآية «وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ» إشارة لهذه الأسباب المذكورة.

إنّ أكثرية الكفار هم من أهل التعصب والعناد، والذين كفروا نتيجة جهلهم أو غفلتهم، فهم القلّة قياساً إلى اولئك.

وَ يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ لَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ

(84) وَ إِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَ لَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَ إِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَ أَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هؤُلَاءِ وَ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدًى وَ رَحْمَةً وَ بُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)

عندما تغلق الأبواب أمام المجرمين: بعد أن عرض القرآن الكريم في الآيات السابقة جحود منكري الحق وعدم اعترافهم بالنعم الإلهية، يتطرق في هذه الآيات إلى جانب من العقاب الإلهي الشديد الذي ينتظر اولئك في عالم الآخرة، لينبّه الغافل من سباته، فعسى أن يعيد النظر في مواقفه المنحرفة قبل فوات الأوان، فيقول أوّلًا: «وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا».

وبخصوص تلك المحكمة، تأتي الآية لتقول: «ثُمَّ لَايُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا».

وهل من الممكن أن لا يأذن اللَّه للمجرمين في الدفاع عن أنفسهم؟

نعم، وذلك لعدم الحاجة للسان في ذلك اليوم العظيم، لأنّ الجوارح من رجل وأذن وعين

مختصر الامثل، ج 3، ص: 41

وكذلك الجلد، بل وحتى الأرض التي أطاع الإنسان عليها أو عصى، كلها ستشهد عليه، بل ويزاد على عدم السماح لهم بالكلام ب «وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ». لأنّ هناك محل مواجهة نتائج الأعمال وليس يوم العمل والإصلاح.

وتشرح الآية التالية حال الظالمين بعد انتهاء مرحلة حسابهم ودخولهم في العذاب، وكيف أنّهم يطلبون تخفيف شدة العذاب تارةً، ويطلبون إمهالهم مدّة تارةً اخرى، فتقول:

«وَإِذَا رَءَا الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ

عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ».

وفي الآية التالية يستمر الحديث عن عاقبة المشركين، وكيف أنّهم سيحشرون في جهنم مع ما أشركوا من معبوداتهم الحجرية والبشرية، فتقول الآية المباركة واصفة حالهم: «وَإِذَا رَءَا الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِن دُونِكَ»، فهذه المعبودات هي التي وسوست لنا للوقوع في درَك العمل القبيح، وهي شريكتنا في الجرم أيضاً، فارفع عنّا بعض العذاب واجعله لها.

وعندها ... تبدأ تلك الأصنام بالتكلم (بإذن اللَّه): «فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ»، فلم نكن شركاء للَّه، ومهما وسوسنا لكم فلا نستحق حمل بعض أوزاركم.

وتأتي الآية التالية لتبين أنّ الجميع بعد أن يقولوا كل ما عندهم، ويسمعوا جواب قولهم، سيتوجهون إلى حالة اخرى ... «وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ» مسلمين للَّه، مذعنين لعظمته جلّ وعلا، لأنّ غرور وتعصب الجاهلين قد ازيل برؤية الحق الذي لا مفرّ من تصديقه والإذعان إليه.

وفي هذه الأثناء، وحيث كل شي ء جليّ كوضوح الشمس .. «وَضَلَّ عَنْهُم مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ». فتبطل كذبتهم بوجود شريك للَّه، وكذلك يبطل ادعاؤهم بشفاعة الأصنام لهم عند اللَّه، عندما يلمسون عدم قدرة الأصنام للقيام بأيّ عمل، بل ويرونها محشورة معهم في نار جهنم.

وبهذا المقدار من الآيات كان الحديث منصبّاً حول انحراف المشركين الضالين وغرقهم في درك الشرك، دون أن يدعوا الآخرين إلى ما هم فيه .. وبعد ذلك ينتقل القرآن الكريم إلى الكافرين من الذين لم يكتفوا بأن يكونوا كافرين، وإنّما كانوا يبذلون أقصى جهودهم لإضلال الآخرين! فيقول: «الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 42

لأنّهم كانوا عاملًا مؤثّراً للفساد على الأرض وإضلال خلق اللَّه بالصدّ عن سبيله.

والحديث المشهور يبيّن لنا هذا المعنى بوضوح:

«من استن بسنّة عدل فاتبع كان له أجر من عمل بها من غير أن ينتقص من أجورهم شي ء ومن استن سنّة جور فاتبع كان عليه مثل وزر من عمل بها من غير أن ينتقص من أوزارهم شي ء».

وتتناول الآية أيضاً مسألة وجود الشهيد في كل امّة (والذي ذكر قبل آيات معدودة)، ولمزيد من التوضيح يقول القرآن الكريم: «وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مّنْ أَنفُسِهِمْ».

ومع أنّ عموم الحكم في هذه الآية يشمل المجتمع الإسلامي والنبي صلى الله عليه و آله إلّاأنّ القرآن الكريم في مقام التأكيد قال: «وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هؤُلَاءِ».

وبما أنّ جعل الشاهد فرع لوجود برنامج كامل وجامع للناس بما تتم فيه الحجة عليهم، ويصح فيه مفهوم النظارة والمراقبة، لذا يقول القرآن بعد ذلك مباشرة: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْ ءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ».

إنّ الآية أعلاه ذكرت أربعة تعابير متلازمة حسب تسلسلها لتوضيح الهدف من نزول القرآن: 1- تبياناً لكل شي ء. 2- هدى. 3- رحمة. 4- بشرى للمسلمين.

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسَانِ وَ إِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَ يَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)

أكمل برنامج إجتماعي: بعد أن ذكرت الآيات السابقة أنّ القرآن فيه تبيان لكل شي ء، جاءت هذه الآية لتقدّم نموذجاً من التعليمات الإسلامية في شأن المسائل الاجتماعية والإنسانية والأخلاقية، فتقول في البدء: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاىِ ذِى الْقُرْبَى .

فالعدل هو القانون الذي تدور حول محوره جميع أنظمة الوجود.

والمعنى الواقعي للعدل يتجسد في جعل كل شي ء في مكانه المناسب، فالانحراف والإفراط والتفريط وتجاوز الحد والتعدّي على حقوق الآخرين، ما هي إلّاصور لخلاف أصل العدل.

ومع ما للعدالة من قدرة وجلال وتأثير عميق في كل الأوقات-

الطبيعية والاستثنائية-

مختصر الامثل، ج 3، ص: 43

في عملية بناء المجتمع السليم، إلّاأنّها ليست العامل الوحيد الذي يقوم بهذه المهمّة، ولذلك جاء الأمر ب «الإحسان» بعد «العدل» مباشرة ومن غير فاصلة. في نهج البلاغة عن علي عليه السلام أنّه قال: «العدل: الإنصاف، والإحسان: التفضل».

وبعد ذكر القرآن الكريم للُاصول الإيجابية الثلاثة يتطرق للُاصول المقابلة لها (السلبية) فيقول: «وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْىِ».

إنّ «الفحشاء»: إشارة إلى الذنوب الخفيّة؛ و «المنكر»: إشارة إلى الذنوب العلنية؛ و «البغي»: إشارة إلى كل تجاوز عن حق الإنسان، وظلم الآخرين والإستعلاء عليهم.

وفي آخر الآية المباركة يأتي التأكيد مجدداً على أهمية هذه الأصول الستة: «يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ».

فإحياء الأصول الثلاثة «العدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى» ومكافحة الانحرافات الثلاث «الفحشاء والمنكر، والبغي» على صعيد العالم كفيل بأن يجعل الدنيا عامرة بالخير، وهادئة من كل اضطراب، وخالية من أيّ سوء وفساد، وإذا روي عن ابن مسعود (الصحابي المعروف) قوله: (هذه الآية أجمع آية في كتاب اللَّه للخير والشر) فهو للسبب الذي ذكرناه.

وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَ لَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَ لَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَ لَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ لكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَ لَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَ تَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ لَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)

سبب النّزول

في تفسير

مجمع البيان: الآية الاولى نزلت في الذين بايعوا النبي صلى الله عليه و آله على الإسلام فقال

مختصر الامثل، ج 3، ص: 44

سبحانه للمسلمين الذين بايعوه: لا يحملنّكم قلة المسلمين وكثرة المشركين على نقض البيعة فإنّ اللَّه حافظكم. أي: اثبتوا على ما عاهدتم عليه الرسول وأكدتموه بالأيمان.

التّفسير

الوفاء بالعهد دليل الإيمان: في هذه الآيات قسماً آخر من تعاليم الإسلام المهمة (الوفاء بالعهد والأيمان). يقول أوّلًا: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ». ثم يضيف: «وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ».

إنّ معنى «عهد اللَّه» هو: العهود التي يبرمها الناس مع اللَّه تعالى (وبديهي أنّ العهد مع النبي عهد مع اللَّه أيضاً)، وعليه فهو يشمل كل عهد إلهي وبيعة في طريق الإيمان والجهاد وغير ذلك.

أمّا مسألة «الأيمان» (جمع يمين، أي: القسم) التي وردت في الآية- والتي عرض فيها المفسرون آراء كثيرة- فلها معنى واسع، ويتّضح ذلك عند ملاحظة مفهوم الجملة حيث إنّه يشمل العهود التي يعقدها الإنسان مع اللَّه عزّ وجل، بالإضافة إلى ما يستعمله من أيمان في تعامله مع خلق اللَّه.

وحيث إنّ الوفاء بالعهد أهم الاسس في ثبات أيّ مجتمع كان، تواصل الآية التالية ذكره باسلوب يتّسم بنوع من اللوم والتوبيخ، فتقول: «وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا» «1».

والآية تشير إلى (رايطة) تلك المرأة التي عاشت في قريش زمن الجاهلية، وكانت هي وعاملاتها يعملن من الصباح حتى منتصف النهار في غزل ما عندهن من الصوف والشعر، وبعد أن ينتهين من عملهن تأمرهن بنقض ما غزلن، ولهذا عرفت بين قومها ب (الحمقاء).

ثم يضيف القرآن الكريم قائلًا: «تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ» «2». أي:

لا تنقضوا عهودكم مع اللَّه بسبب أنّ تلك المجموعة أكبر من هذه فتقعوا في الخيانة والفساد.

واعلموا: «إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ».

______________________________

(1) «أنكاث»: جمع (نكث) على وزن (قسط) بمعنى حلّ خيوط الصوف والشعر بعد برمها، وتطلق أيضاً على اللباس الذي يصنع من الصوف والشعر.

(2) «الدّخل»: (على وزن الدغل)، بمعنى الفساد والتقلب ومنها اخذ معنى (الداخل).

مختصر الامثل، ج 3، ص: 45

وستتّضح النتيجة في الآخرة ليلاقي كل فرد جزاءه العادل: «وَلَيُبَيّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» من هذا الأمر وغيره. و الآية التالية تجيب على توهّم، غالباً ما يطرق الأذهان عند الحديث عن الامتحان الإلهي والتأكيد على الإلتزام بالعهود والوظائف، وخلاصته: هل أنّ اللَّه لا يقدر على إجبار الناس جميعاً على قبول الحق؟ فتقول: «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً».

«امّة واحدة» من حيث الإيمان والعمل على الحق بشكل إجباري، ولكن ذلك سوف لا يكون خطوة نحو التكامل والتسامي ولا فيه أفضلية للإنسان في قبوله الحق، وعليه فقد جرت سُنّة اللَّه بترك الناس أحراراً ليسيروا على طريق الحق مختارين.

ولا تعني هذه الحرية بأنّ اللَّه سيترك عباده ولا يعينهم في سيرهم، وإنّما بقدر ما يقدمون على السير والمجاهدة سيحصلون على التوفيق والهداية والسداد منه جلّ شأنه، حتى يصلوا لهدفهم، بينما يحرم السائرون على طريق الباطل من هذه النعمة الربانية، فتراهم كلّما طال المقام بهم ازدادوا ضلالًا.

ولهذا يواصل القرآن الكريم القول ب: «وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ».

ولكن الهداية الإلهية أو الإضلال لا تسلب المسؤولية عنكم، حيث إنّ الخطوات الاولى على عواتقكم، ولهذا يأتي النداء الرباني: «وَلَتُسَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

وتشير هذه العبارة إلى نسبة أعمال البشر إلى أنفسهم، وتؤكّد على تحميلهم مسؤولية تلك الأعمال، وتعتبر من القرائن الواضحة في تفسير

مفهوم الهداية والإضلال الإلهيين وأنّ أيّاً منهما لا يستبطن صفة الإجبار أبداً.

وقد بحثنا هذا الموضوع سابقاً (راجع تفسير الآية 26 من سورة البقرة).

وتأكيداً على مسألة الوفاء بالعهد والثبات في الإيمان (باعتبار ذلك من العوامل المهمة في ثبات المجتمع) يقول القرآن: «وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ». أي: وسيلة للخداع والنفاق، لأنّ في ذلك خطرين كبيرين:

الأوّل: «فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا».

الثاني: «وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ» في هذه الدنيا «وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ» في الآخرة.

من الآثار السلبية لنقض العهود والأيمان شياع سوء ظن الناس وتنفّرهم من الدين

مختصر الامثل، ج 3، ص: 46

الحق، وتشتت الصفوف وفقدان الثقة حتى لا يرغب الناس في الإسلام، وإن عقدوا معكم عهداً فسوف لا يجدون أنفسهم ملزمين بالوفاء به، وهذا ما يؤدّي لمساوي ومفاسد كثيرة، وبروز حالة التخلف في الحياة الدنيا.

وأمّا على صعيد الحياة الاخرى فإنّه سيكون سبباً للعقاب والعذاب الإلهي.

وَ لَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ مَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَ لَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قال ابن عباس: إنّ رجلًا من حضر موت يقال له عبدان الأشرع قال: يا رسول اللَّه، إنّ امرأ القيس الكندي جاورني في أرضي فاقتطع من أرضي فذهب بها منّي. فسأل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله امرأ القيس عنه، فقال: لا أدري ما يقول. فأمره أن يحلف، فقال عبدان: إنّه فاجر لا يبالى أن يحلف، فقال: إن لم يكن لك شهود

فخذ بيمينه. فلمّا قام ليحلف أنظره فانصرفا فنزل قوله: «وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ» الآيتان. فلمّا قرأهما رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال امرؤ القيس: أمّا ما عندي فينفد، وهو صادق فيما يقول. لقد اقتطعت أرضه ولم أدر كم هي، فليأخذ من أرضي ما شاء، ومثلها معها، بما أكلت من ثمرها. فنزل فيه «مَنْ عَمِلَ صلِحًا» الآية.

التّفسير

جاءت الآية الاولى من هذه الآيات لتؤكّد على قبح نقض العهد مرّة اخرى ولتبيّن عذراً آخراً من أعذار نقض العهد الواهية، فحيث تطرقت الآيات السابقة إلى عذر الخوف من كثرة الأعداء تأتي هذه الآية لتطرح ما للمصلحة الشخصية (المادية) من أثر سلبي على حياة الإنسان. ولهذا تقول: «وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا».

أي: إنّ قيمة الوفاء بعهد اللَّه لا تدانيها قيمة، ولو استلمتم زمام ملك الدنيا بأسرها فإنّه

مختصر الامثل، ج 3، ص: 47

لا يساوي قيمة لحظة واحدة من الوفاء بعهد اللَّه. وتضيف الآية المباركة للدلالة على هذا الأمر: «إِنَّمَا عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ».

ويبيّن القرآن في الآية التالية سبب الأفضلية بقوله: «مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ».

ثم يضيف قائلًا: «وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم»- وعلى الأخص في الثبات على العهد والأيمان- «بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

إنّ التعبير ب «أحسن» دليل على أنّ أعمالهم الحسنة ليست بدرجة واحدة، فبعضها حسن والبعض الآخر أحسن، ولكن اللَّه تعالى يجزي الجميع بأحسن ما كانوا يعملون، وهو ذروة اللطف والرحمة الربانية.

ثم يبيّن القرآن الكريم بعد ذلك- على صورة قانون عام- نتائج الأعمال الصالحة المرافقة للإيمان في هذه الدنيا وفي الآخرة، فيقول: «مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

وعليه، فالمقياس هو

الأعمال الصالحة الناتجة عن الإيمان بلا قيد أو شرط، من حيث السن أو الجنس أو المكانة الإجتماعية أو ما شابه ذلك.

الحياة الطيبة، تعنى الحياة الطيبة بجميع جهاتها، وخالية من التلوّثات والظلم والخيانة والعداوة والذل وكل ألوان الآلام والهموم، وفيها ما يجعل حياة الإنسان صافية كماء زلال.

فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)

تبيّن الآيات مورد البحث طريقة الاستفادة من القرآن وتتطرق إلى كيفية تلاوته، فكثافة المحتوى القرآني لا تكفي وحدها لتوجيهنا، ولابد من رفع الحجب المخيّمة على وجودنا وإزالتها عن محيط فكرنا وروحنا، كي نتمكن من تحصيل هذا المحتوى الثّر الغني.

ولهذا يقول القرآن: «فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطنِ الرَّجِيمِ».

ولا يقصد من الإستعاذة الاكتفاء بالذكر، بل ينبغي لها أن تكون مقدمة لتحقيق وإيجاد الحالة الروحية المطلوبة. حالة: التوجه إلى اللَّه عزّ وجل، الإنفصال عن هوى النفس والعناد

مختصر الامثل، ج 3، ص: 48

المانع للفهم والدرك الصحيح للإنسان، وعندما نقرأ آية، نستعيذ باللَّه من أن تستحوذ وساوس الشيطان علينا، وتحول بيننا وبين كلام اللَّه جلّ وعلا.

وإن لم تتحقق للإنسان هذه الحالة فسيتعذر عليه إدراك الحقائق القرآنية.

وتأتي الآية التالية لتكون دليلًا على ما جاء في الآية التي قلبها: «إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطنٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ». «إِنَّمَا سُلْطنُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ»، لأنّهم يعتبرون أمر الشيطان واجب الطاعة دون أمر اللَّه.

فالآية تؤكّد حقيقة أنّ سلطة الشيطان ليست إجبارية على الإنسان، ولا يتمكن من التأثير على الإنسان من دون أن يمهّد الإنسان السبيل لدخول الشيطان في نفسه، ويعطيه إجازة المرور

من بوّابة قلبه.

وَ إِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدًى وَ بُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قال ابن عباس: كانوا يقولون: يسخر محمّد بأصحابه، يأمرهم اليوم بأمر وغداً يأمرهم بأمر، وإنّه لكاذب، يأتيهم بما يقول من عند نفسه.

التّفسير

تحدثت الآيات السابقة عن اسلوب الاستفادة من القرآن الكريم، وتتناول الآيات

مختصر الامثل، ج 3، ص: 49

مورد البحث جوانب اخرى من المسائل المرتبطة بالقرآن، وتبتدى ء ببعض الشبهات التي كانت عالقة في أذهان المشركين حول الآيات القرآنية المباركة، فتقول: «وَإِذَا بَدَّلْنَا ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ». فهذا التغيير والتبديل يخضع لحكمة اللَّه، فهو أعلم بما ينزل، وكيف ينزل، ولكن المشركين لجهلهم «قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَايَعْلَمُونَ».

إنّ المشركين لم يدخل في تصوراتهم وأذهانهم أنّ القرآن في صدد بناء مجتمع إنساني جديد يسوده التطوّر والتقدم والحريّة والمعنوية العالية.

فبديهي والحال هذه أن يطرأ على التغيير والتبديل تدرّجاً مع ما يعيشونه، فغفلة المشركين عن هذه الحقائق وابتعادهم عن ظروف نزول القرآن، دفعهم للإعتقاد بأنّ أقوال النبي صلى الله عليه و آله تحمل بين ثناياها التناقض أو الإفتراء على اللَّه عزّ وجل وإلّا لعلموا أنّ النسخ في الأحكام جزء من أوامر وآيات القرآن المنظّمة على شكل برنامج تربوي

دقيق لا يمكن الوصول للهدف النهائي لنيل التكامل إلّابه.

وتستمر الآية التالية بنفس الموضوع، وللتأكيد عليه تأمر النبي صلى الله عليه و آله أن: «قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبّكَ بِالْحَقّ».

«روح القدس» أو (الروح المقدسة) هو أمين الوحي الإلهي «جبرائيل الأمين» وبواسطته كانت الآيات القرآنية تتنزّل بأمر اللَّه تعالى على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله سواء الناسخ منها أو المنسوخ.

فكل الآيات حق، وهدفها واحد يتركّز في توجيه الإنسان ضمن التربية الربانية له، وظروف وتركيبة الإنسان استلزمت وجود الأحكام الناسخة والمنسوخة في العملية التربوية.

ولهذا، جاء في تكملة الآية المباركة: «لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ».

يقول صاحب تفسير الميزان: إنّ تعريف الآثار بتخصيص التثبيت بالمؤمنين والهدى والبشرى للمسلمين إنّما هو لما بين الإيمان والإسلام من الفرق، فالإيمان للقلب، ونصيبه التثبيت في العلم والإذعان، والإسلام في ظاهر العمل ومرحلة الجوارح ونصيبها الإهتداء إلى واجب العمل والبشرى بأنّ الغاية هي الجنة والسعادة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 50

مختصر الامثل ج 3 99

وعلى أيّة حال، فلأجل تقوية الروح الإيمانية والسير في طريق الهدى والبشرى لابدّ من برامج قصيرة الأمد ومؤقتة، وبالتدريج يحلّ البرنامج النهائي الثابت محلها، وهو سبب وجود الناسخ والمنسوخ في الآيات الإلهية.

وبعد أن فنّد القرآن شبهات المشركين يتطرق لذكر شبهة اخرى، أو على الأصح لذكر إفتراء آخر لمخالفي نبي الرحمة صلى الله عليه و آله فيقول: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ».

فالقرآن أجابهم بقوة وأبطل كل ما كانوا يفترونه، بقوله: «لّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ وَهذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ» «1».

فالآية المباركة دليل الإعجاز القرآني من حيث اللفظ والمضمون، فحلاوة القرآن وبلاغته وجاذبيته والتناسق الخاص في ألفاظه وعباراته ما يفوق قدرة أيّ إنسان.

وبلهجة المهدّد المتوعّد يبيّن القرآن الكريم

أنّ حقيقة هذه الإتهامات والانحرافات ناشئة من عدم انطباع الإيمان في نفوس هؤلاء، فيقول: «إِنَّ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بَايَاتِ اللَّهِ لَايَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ». لأنّهم غير لائقين للهداية ولا يناسبهم إلّاالعذاب الإلهي، لما باتوا عليه من التعصب والعناد والعداء للحق.

وفي آخر آية يقول: إنّ الأشخاص الذين يتّهمون أولياء اللَّه هم الكفار: «إِنَّمَا يَفْتَرِى الْكَذِبَ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بَايَاتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ». فأيّة أكاذيب أكبر من تلك التي تطلق على رجال الحق لتحول بينهم وبين المتعطشين للحقائق.

قبح الكذب في المنظور الإسلامي: الآية الأخيرة بحثت مسألة قبح الكذب بشكل عنيف، وقد جعلت الكاذبين بدرجة الكافرين والمنكرين للآيات الإلهية.

ولأهمية هذا الموضوع فقد أعطت التعاليم الإسلامية إفاضات خاصه لمسألة الصدق والنهي عن الكذب.

وقد اعتبرت الأحاديث الشريفة الكذب مفتاح الذنوب.

فعن علي عليه السلام أنّه قال: «الصدق يهدي إلى البرّ والبرّ يدعو إلى الجنة» «2».

______________________________

(1) «يلحدون»: من الإلحاد بمعنى الانحراف عن الحق إلى الباطل، وقد يطلق على أيّ انحراف، والمراد هنا: إنّ الكاذبين يريدون نسبة القرآن إلى إنسان ويدعون بأنّه معلم النبي صلى الله عليه و آله.

«الإعجام» و «العجمة» لغةً: بمعنى الإبهام، ويطلق الأعجمي على الذي في بيانه لحن (نقص) سواء كان من العرب أو من غيرهم، وباعتبار أنّ العرب ما كانوا يفهمون لغة غيرهم فقد استعملوا اسم (العجم) على غير العرب.

(2) مشكاة الأنوار للطبرسي/ 300.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 51

مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ

أَبْصَارِهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَ صَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَ هُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: الآية الاولى نزلت في جماعة اكرهوا وهم: عمار، وياسر أبوه وامّه سمية، وصهيب، وبلال، وخباب، عُذّبوا وقُتل أبو عمار وأمّه، وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا منه. ثم أخبر سبحانه بذلك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال قوم: كفر عمار. فقال صلى الله عليه و آله: «كلّا، إنّ عماراً ملي ء إيماناً من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه». وجاء عمار إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو يبكي، فقال صلى الله عليه و آله: «ما وراءك»؟ فقال: شرّ يا رسول اللَّه، ما تُركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، فجعل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يمسح عينيه ويقول: «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت». فنزلت الآية.

التّفسير

المرتدون عن الإسلام: تكمل هذه الآيات ما شرعت به الآيات السابقة من الحديث عن المشركين والكفار وما كانوا يقومون به، فتتناول الآيات فئة اخرى من الكفرة وهم المرتدون. حيث تقول الآية الاولى: «مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ».

تشير الآية إلى نوعين من الذين كفروا بعد إيمانهم:

مختصر الامثل، ج 3، ص: 52

النوع الأوّل: هم الذين يقعون في قبضة العدو الغاشم ويتحملون أذاه وتعذيبه، ولكنّهم لا يصبرون تحت ضغط ما يلاقوه

من أعداء الإسلام، فيعلنون براءتهم من الإسلام وولاءهم للكفر، على أنّ ما يعلنوه لا يتعدى حركة اللسان، وأمّا قلوبهم فتبقى ممتلئة بالإيمان.

فهذا النوع يكون مشمولًا بالعفو الإلهي بلا ريب، بل لم يصدر منهم ذنب، لأنّهم قد مارسوا التقية التي أحلّها الإسلام لحفظ النفس وحفظ الطاقات للاستفادة منها في طريق خدمة دين اللَّه عزّ وجل.

النوع الثاني: هم الذين يفتحون للكفر أبواب قلوبهم حقيقةً، ويغيّرون مسيرتهم ويتخلّون عن إيمانهم، فهؤلاء يشملهم غضب اللَّه عزّ وجل وعذابه العظيم.

وتتطرق الآية التالية إلى أسباب ارتداد هؤلاء، فتقول: «ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَوةَ الدُّنْيَا عَلَى الْأَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ» الذين يصرّون على كفرهم وعنادهم.

وخلاصة المقال: حين أسلم هؤلاء تضررت مصالحهم المادية وتعرضت للخطر المؤقت، فندموا على إسلامهم لشدة حبّهم لدنياهم، وعادوا خاسئين إلى كفرهم.

وبديهي أنّ من لا يرغب في الإيمان ولا يسمح له بالدخول إلى أعماق نفسه، لا تشمله الهداية الإلهية.

وتأتي الآية الاخرى لتبيّن سبب عدم هدايتهم، فتقول: «أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ» بحيث إنّهم حُرموا من نعمة الرؤية والسمع وإدراك الحقائق:

«وَأُولئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ».

إنّ ارتكاب الذنوب وفعل القبائح يترك أثره السلبي على إدراك الإنسان للحقائق، وتغلق أبواب روحه من تقبّل أيّة حقيقة.

ثم تعرض الآية التالية عاقبة أمرهم، فتقول: «لَاجَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الْأَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ».

وهل هناك من هو أتعس حالًا من هذا الإنسان الذي خسر جميع طاقاته وإمكاناته لنيل السعادة الدائمة بإتباعه هوى النفس.

وبعد ذكر الفئتين السابقتين، أي الذين يتلفظون بكلمات الكفر وقلوبهم ملأى بالإيمان، والذين ينقلبون إلى الكفر مرّة اخرى بكامل اختيارهم ورغبتهم، فبعد ذلك تتطرق الآية التالية إلى فئة ثالثة وهم البسطاء المخدوعون في دينهم، فتقول: «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ

جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ».

فالآية دليل واضح على قبول توبة المرتد.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 53

وتأتي الآية الأخيرة لتقدّم تذكيراً عاماً بقولها: «يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا» لتنقذها من العقاب والعذاب. ولكن ... لا فائدة من كل ذلك ... «وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَايُظْلَمُونَ».

وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَ لَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَ هُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّباً وَ اشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)

الذين كفروا فأصابهم العذاب: قلنا مراراً: إنّ هذه السورة هي سورة النِعم، النعم المادية والمعنوية وعلى كافة الأصعدة، وقد مرّ ذكر ذلك في آيات متعددة من هذه السورة المباركة، وتصوّر لنا الآيات أعلاه عاقبة الكفر بالنعم الإلهية على شكل مثل واقعي.

ويبتدأ التصوير القرآني بضرب مثل لمن لم يشكر نعمة اللَّه عليه: «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً» لا تضطر إلى هجرة إجبارية، بل تعيش في أمن وأمان (مطمئنة) ومضافاً إلى ذلك «يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ».

ولكن حالها قد تبدّل في النهاية «فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ».

وإضافة لاستكمال نعم اللَّه المادية عليهم، فقد أضاف لهم من النعم المعنوية ما يستقر به حالهم في الدنيا، ويدام لهم ذلك في الآخرة، فبعث بين ظهرانيهم رسل وأنبياء وأرسلت إليهم التعاليم السماوية «وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ».

فكانت النتيجة أن: «فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ».

وإنّكم حين تطّلعون على هذه النماذج الواقعية من الامم السابقة، فاعتبروا بها ولا تنهجوا طريق اولئك الغافلين الظالمين من

الكافرين بأنعم اللَّه «فَكُلُوا مِمَّا رَزقَكُمُ اللَّهُ حَللًا طَيّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ».

يحتمل حدثت هذه القصّة لجمع من بني إسرائيل في منطقة ما، وأنّهم ابتلوا بالقحط والخوف على أثر كفرانهم بنعم اللَّه.

ومما يؤيد ذلك ما روي- في العياشي- عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّ قوماً كان في بني

مختصر الامثل، ج 3، ص: 54

إسرائيل يؤتى لهم من طعامهم حتى جعلوا منه تماثيل بمدن كانت في بلادهم يستنجون بها فلم يزل اللَّه بهم حتى اضطرّوا إلى التماثيل يبيعونها ويأكلون منها وهو قول اللَّه: ضرب اللَّه مثلًا».

وثمّة احتمال آخر وهو أنّ الآية تشير إلى قوم «سبأ» الذين عاشوا في اليمن، وقد ذكر القرآن الكريم قصّتهم في الآيات (15- 19) من سورة سبأ، وكيف أنّهم كانوا يعيشون على أرض ملؤها الثمار والخيرات في أمن وسلام، حتى أصابهم الغرور والطغيان والإستكبار وكفران النعم الإلهية، فأهلكهم اللَّه وشتّت جمعهم وجعلهم عبرة للآخرين.

فالتعبير إشارة إلى أنّ القحط والخوف كانا من الشدة وكأنّهما لباس قد أحاط بأبدانهم من كل الجهات، وأبدانهم في تماس معه.

وعرض الحادثة ما هو إلّاتنبيه للناس ولكل الأمم الغارقة بالنعم الإلهية، على أنّ الإسراف والتبذير وتضييع النعم لا ينجو من عقوبة وغرامة ثقيلة الوقع.

وهو تنبيه أيضاً للذين يرمون نصف غذائهم (الزائد عن الحاجة) في أكياس الأوساخ دائماً.

وهو تنبيه للذين يجمعون المواد الغذائية في بيوتهم لاستعمالهم الخاص، ويملؤون مخازنهم إنتظاراً لارتفاع سعرها في الأسواق حتى يفسد ويذهب هباءً من غير أن يستفيدوا من بيعها بسعر مناسب قبل فسادها.

نعم، فلا يخلو أي عمل مما ذكر من عقوبة إلهية، وأقل ما يعاقبون به هو سلب تلك النعم عنهم.

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ مَا أُهِلَّ

لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَ لَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَ لَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذَا حَلَالٌ وَ هذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَ عَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ مَا ظَلَمْنَاهُمْ وَ لكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 55

لا يفلح الكاذبون: بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن النعم الإلهية ومسألة شكر النعمة، تأتي الآيات أعلاه لتتحدث عن آخر حلقات الموضوع وتطرح مسألة المحرمات الواقعية وغير الواقعية لتفصل بين الدين الحق وبين البدع التي احدثت في دين اللَّه، وتشرع بالقول: «إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ» «1».

إنّ تلوّث هذه المواد الثلاث بات اليوم ليس خافياً على أحد، فالميتة مصدر لأنواع الجراثيم، والدم من أكثر مكوّنات البدن تقبّلًا للتلوّث بالجراثيم، وأمّا لحم الخنزير فيعتبر سبباً للإصابة بالكثير من الأمراض الخطرة.

أمّا فلسفة تحريم ما يذبح لغير اللَّه فليست صحية، بل هي أخلاقية ومعنوية.

فمن جهة يكون التحريم حرباً على الشرك وعبادة الأصنام، ومن جهة اخرى يكون دعوة إلى خالق هذه النعم.

ويستفاد من المحتوى العام للآية والآيات التالية أنّ الإسلام يوصي بالإعتدال في تناول اللحوم، فلا يكون المسلم كالذين حرّموا على أنفسهم تناول اللحم واكتفوا بالأغذية النباتية، ولا كالذين أحلّوا لأنفسهم أكل اللحوم أيّاً كانت كأهل الجاهلية والبعض ممن يدّعي التمدّن في عصرنا الحاضر، ممن يجيزون أكل كل لحم (كالسحالي والسرطان وأنواع

الديدان).

وفي نهاية الآية سياقاً مع الأسلوب القرآني، ذُكرت الحالات والموارد الاستثنائية، يقول: «فَمَنِ اضْطُرَّ». كأن يكون في صحراء ولا يملك غذاء؛ «غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

«باغ» أو الباغي: (من البغي) بمعنى «الطلب» ويأتي هنا بمعنى طلب اللذة أو تحليل ما حرّم اللَّه. و «عاد» أو العادي: (من العدو) أي «التجاوز» ويأتي هنا بمعنى أكل المضطر لأكثر من حد الضرورة.

وتأتي الآية التالية لتطرح موضوع تحريم المشركين لبعض اللحوم بلا سبب أو دليل، والذي تطرّق القرآن إليه سابقاً بشكل غير مباشر، فتأتي الآية لتطرحه صراحة حيث

______________________________

(1) «اهِلّ»: من الإهلال، مأخوذُ من الهلال، بمعنى إعلاء الصوت عند رؤية الهلال، وباعتبار أنّ المشركين كانوا إذا ذبحوا حيواناتهم للأصنام صرخوا عالياً بأسماء أصنامهم، فقد عبّر عنه ب «اهِلَّ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 56

تقول: «وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذَا حَللٌ وَهذَا حَرَامٌ لّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ». أي: إنّ ما جئتم به ليس إلّاكذبة صريحة أطلقتها ألسنتكم في تحليلكم أشياء بحسب ما تهوى أنفسكم، وتحريمكم لأخرى! (إشارة إلى الأنعام التي حرّمها البعض على نفسه، والبعض الآخر حللها لنفسه بعد أن جعل قسماً منها لأصنامه).

فهل أعطاكم اللَّه حقّ سنّ القوانين؟ أم أنّ أفكاركم المنحرفة وتقاليدكم العمياء هي التي دفعتكم لإحداث هذه البدع؟ ... أوَ ليس هذا كذباً وافتراءاً على اللَّه؟

ويحذّر القرآن في آخر الآية بقوله: «إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَايُفْلِحُونَ».

لأنّ من مسببات الشقاء الأساسية الكذب والإفتراء على أي إنسان، فكيف به إذا كان على اللَّه عزّ وجل؟ فلا أقل والحال هذه من مضاعفة آثاره السيئة.

وتوضّح الآية التالية ذلك الخسران، فتقول: «مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

ويمكن أن تكون «مَتَاعٌ قَلِيلٌ» إشارة إلى أجنّة الحيوانات الميتة التي كانوا

يحللونها لأنفسهم ويأكلون لحومها.

ويطرح السؤال التالي: لماذا حرّمت على اليهود محرّمات إضافية؟

الآية التالية كأنّها جواب على السؤال المطروح، حيث تقول: «وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ».

وهو إشارة إلى ما ذكر في الآية (146) من سورة الأنعام: «وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ».

وحقيقة هذه المحرمات الإضافية العقاب والجزاء لليهود جرّاء ظلمهم، ولذلك يقول القرآن الكريم في آخر الآيات مورد البحث: «وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ».

وفي آخر آية من الآيات مورد البحث، وتمشّياً مع الاسلوب القرآني، يبدأ القرآن بفتح أبواب التوبة أمام المخدوعين من الناس والنادمين من ضلالهم، فيقول: «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ».

وفي هذه الآية ملاحظتان:

أوّلًا: اعتبرت علة ارتكاب الذنب «الجهالة» والجاهل المذنب يعود إلى طريق الحق بعد ارتفاع حالة الجهل.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 57

ثانياً: إنّ الآية لا تحدّد الموضوع بالتوبة القلبية والندم، بل تؤكّد على أثر التوبة من الناحية العملية وتعتبر الإصلاح مكمّلًا للتوبة، لتبطل الزعم القائل بإمكان مسح آلاف الذنوب بتلفظ «أستغفر اللَّه».

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَ هَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَ آتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَ مَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)

كان إبراهيم لوحده امّة: كما قلنا

مراراً بأنّ هذه السورة هي سورة النعم، وهدفها تحريك حس الشكر لدى الإنسان بشكل يدفعه لمعرفة خالق وواهب هذه النعم، والآيات تتحدث عن مصداق كامل للعبد الشكور للَّه، ألا وهو «إبراهيم» بطل التوحيد، وأوّل قدوة للمسلمين عامة وللعرب خاصة، والآيات تشير إلى خمس من الصفات الحميدة التي كان يتحلّى بها إبراهيم عليه السلام.

1- «إِنَّ إِبْرهِيمَ كَانَ أُمَّةً». إنّ «امّة» اسم مفعول يطلق على الذي تقتدي به الناس وتنصاع له. كان إبراهيم عليه السلام منبعاً لوجود امّة ولهذا أطلق القرآن عليه كلمة «امّة».

نعم فقد كان إبراهيم أمّة وكان إماماً عظيماً، وكان رجلًا صانع امّة، وكان منادياً بالتوحيد وسط بيئة اجتماعية خالية من أيّ موحّد.

2- صفته الثانية في هذه الآيات: أنّه كان «قَانِتًا لِلَّهِ».

3- وكان دائماً على الصراط المستقيم سائراً على طريق اللَّه، طريق الحق «حَنِيفًا».

4- «وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» بل كان نور اللَّه يملأ كل حياته وفكره، ويشغل كل زوايا قلبه.

5- وبعد كل هذه الصفات، فقد كان «شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ».

وبعد عرض الصفات الخمسة يبيّن القرآن الكريم النتائج المهمة لها، فيقول:

1- «اجْتَبهُ» للنبوة وإبلاغ دعوته.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 58

2- «وَهَدَيهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ»، وحفظه من كل انحراف، لأنّ الهداية لا تأتي لأحد عبثاً، بل لابدّ من توفّر الإستعداد والأهلية لذلك.

3- «وَءَاتَيْنهُ فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً». «الحسنة»: في معناها العام كل خير وإحسان، فتشمل منح مقام النبوة، مروراً بالنعم المادية حتى نعمة الأولاد وما شابهها.

4- «وَأَنَّهُ فِى الْأَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ». ومع أنّ إبراهيم كان على رأس الصالحين في الدنيا، فإنّه سيكون منهم في الآخرة كما أخبرنا بذلك القرآن الكريم، وهذه دلالة على عظمة مقام الصالحين بأن يحسب إبراهيم عليه السلام على ما له من مقام سام كأحدهم في دار الآخرة،

ولِم لا يكون ذلك وقد طلب إبراهيم عليه السلام ذلك من ربّه حين قال: «رَبّ هَبْ لِى حُكْمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ».

5- وختمت عطايا اللَّه عزّ وجل لإبراهيم عليه السلام لما ظهر منه من صفات متكاملة، بأن جعل دينه عامّاً وشاملًا لما ما سيأتي بعده من أزمان- وخصوصاً للمسلمين- ولم يجعل دينه مختصاً بعصر أهل زمانه، فقال اللَّه عزّ وجل: «ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرهِيمَ حَنِيفًا» «1».

ويأتي التأكيد مرّة اخرى: «وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ».

وبملاحظة الآيات السابقة يبدو لنا هذا السؤال: إن كان دين الإسلام هو نفس دين إبراهيم وأنّ المسلمين يتّبعون سنن إبراهيم عليه السلام في كثير من المسائل ومنها إحترام يوم الجمعة، فلماذا اتّخذ اليهود يوم السبت عيداً لهم بدلًا من الجمعة ويعطلون فيه أعمالهم؟

إنّ آخر آية من الآيات مورد البحث تجيب على السؤال المذكور حين تقول: «إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ». أي: إنّ السبت وما حرّم في السبت كان عقوبة لليهود، وقد اختلفوا فيه أيضاً، فمنهم مَن قبله ومنهم مَن أهمله.

وتقول بعض الروايات: أنّ موسى عليه السلام دعا قومه- بني اسرائيل- لاحترام يوم الجمعة وتعطيل أعمالهم فيه، وهو دين إبراهيم عليه السلام إلّاإنّهم تعللوا، واختاروا يوم السبت، فجعله اللَّه عطلة لهم ولكن بضيق وشدّة، ولهذا لا ينبغي الإعتماد على تعطيل يوم السبت، لأنّه إنّما كان استثنائياً وذا طابع جزائي، وأفضل دليل على هذا الأمر أنّ اليهود أنفسهم اختلفوا في يومهم

______________________________

(1) «الحنيف»: بمعنى الذي يترك الإنحراف ويتّجه إلى الإستقامة والصلاح. وبعبارة اخرى: يغضّ نظره عن الأديان والأوضاع المنحرفة ويتوجّه نحو صراط اللَّه المستقيم، الدين الموافق للفطرة، ولهذا يسمى الصراط المستقيم، فالتعبير بالحنيف يحمل بين طيّاته إشارة خفيّة إلى أنّ التوحيد هو

دين الفطرة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 59

المنتخب هذا، فبعض إحترمه وبعض آخر خالف ذلك وأدام العمل والكسب فيه حتى أصابهم عذاب اللَّه. ويقول القرآن الكريم في آخر الآية: «وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ».

ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَ إِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَ اصْبِرْ وَ مَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَ لَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)

عشرة قواعد أخلاقية ... سلاح داعية الحق: حملت آيات السورة بين طيّاتها أحاديث كثيرة ومتنوعة، فقد تناولت المشركين واليهود وأصناف المخالفين بشكل عام، تارة بلهجة ليّنة واخرى باسلوب تقريع وشدّة، وخصوصاً الآيات السابقة لما لها من عمق وشدّة أكثر مما سبقها من الآيات المباركات. أمّا الآيات أعلاه والتي تمثّل خاتمة بحوث وأحاديث سورة النحل، فتبيّن أهم الأوامر الأخلاقية الأساسية التي ينبغي التحصّن بها عند مواجهة المخالفين على أساس منطقي، كما وتبيّن كيفية العقاب والعفو واسلوب الصمود أمام مؤامراتهم وما شابه ذلك.

ويمكن تسمية ذلك بالأصول التكتيكية ومنهج المواجهة في الإسلام ضد المخالفين، كما وينبغي العمل به كقانون كلّي شامل لكل زمان ومكان.

ويتلخص هذا البرنامج الرباني بعشرة اصول، تمّ ترتيبها وفقاً لتسلسل الآيات مورد البحث:

1- «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ»: فأوّل خطوة على طريق الدعوة إلى الحق هي التمكّن من الاستدلال وفق المنطق السليم، أو النفوذ إلى داخل فكر الناس ومحاولة تحريك وإيقاظ عقولهم، كخطوة اولى في هذا الطريق.

2- «وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ»: وهى

الخطوة الثانية في طريق الدعوة إلى اللَّه، بالاستفادة من

مختصر الامثل، ج 3، ص: 60

عملية تحريك الوجدان الإنساني، وذلك لما للموعظة الحسنة من أثر دقيق وفاعل على عاطفة الإنسان وأحاسيسه، وتوجيه مختلف طبقات الناس نحو الحق.

3- «وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ»: الخطوة الثالثه تختص بتخلية أذهان الطرف المخالف من الشبهات العالقة فيه والأفكار المغلوطة ليكون مستعداً لتلقي الحق عند المناظرة.

وفي ذيل الآية الاولى، يقول القرآن: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ».

فالآية تشير إلى أنّ وظيفتكم هي الدعوة إلى طريق الحق بالطرق الثلاثة المتقدمة، أمّا مسألة من الذي سيهتدي ومن سيبقى على ضلاله، فعلم ذلك عند اللَّه وحده سبحانه.

4- إنصبّ الحديث في الأصول الثلاثة حول البحث المنطقي والاسلوب العاطفي والمناقشة المعقولة مع المخالفين، وإذا حصلت المواجهة معهم ولم يتقبّلوا الحق وراحوا يعتدون، فهنا يأتي الأصل الرابع: «وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ».

5- «وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّابِرِينَ». في تفسير العياشي: إنّ الآية نزلت يوم احد لمّا رأى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ما صنع بحمزة بن عبد المطلب (فشقوا بطنه وأخذت هند بنت عتبة كبده فجعلت تلوكه وجدعوا أنفه وأذنه) قال: «اللّهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان على ما أرى». ثم قال: «لئن ظفرت لأمثلن ولأمثلن».- وعن ابن عباس قال قال رسول اللَّه:

«لأمثلن بسبعين رجلًا منهم».- فأنزل اللَّه: «وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّابِرِينَ». قال فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «أصبر أصبر».

ربّما كانت تلك اللحظة من أشد لحظات حياة النبي صلى الله عليه و آله ولكنّه تمالك زمام امور نفسه واختار الطريق الثاني، طريق العفو والصبر.

6- «وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا

بِاللَّهِ»: والصبر إنّما يكون مؤثّراً وفاعلًا إذا قصد به رضوانه تعالى ولا يلحظ فيه أيّ شي ء دون ذلك.

7- وإذا لم ينفع الصبر في التبليغ والدعوة إلى اللَّه، ولا العفو والتسامح، فلا ينبغي أن يحلّ اليأس في قلب المؤمن أو يجزع، بل عليه الاستمرار في التبليغ بسعة صدر وهدوء أعصاب أكثر، ولهذا يقول القرآن الكريم في الأصل السابع: «وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ».

8- «وَلَا تَكُ فِى ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ»: فمهما كانت دسائس العدو العنيد واسعة ودقيقة وخطرة فلا ينبغي لك ترك الميدان، لظنّك أن قد وقعت في زواية ضيّقة وحصار محكم، بل

مختصر الامثل، ج 3، ص: 61

لابد من التوكل على اللَّه، وسوف تفشل كل الدسائس وتبطل مفعولها بقوة الإيمان والثبات والمثابرة والعقل والحكمة.

و آخر آية من سورة النحل تعرض الأمرين التاسع والعاشر حيث تقول: 9- «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا»: التقوى في جميع أبعادها وبمفهومها الواسع، ومنها: التقوى في مواجهة المخالفين بمراعاة اصول الأخلاق الإسلامية عند المواجهة، فمع الأسير لابد من مراعاة أصول المعاملة الإسلامية، ومع المنحرف ينبغي مراعاة الإنصاف والأدب والتورّع عن الكذب والإتهام، وفي ميدان القتال لابد من التعامل على ضوء التعليمات العسكرية وفق الموازين والضوابط الإسلامية، فمثلًا: ينبغي عدم الهجوم على العزّل من الأعداء، وعدم التعرض للأطفال والنساء والعجزة، ولا التعرض للمواشي والمزارع لأجل إتلافها، ولا يقطع الماء على العدو ... وخلاصة القول: تجب مراعاة اصول العدل مع العدو والصديق (وطبيعي أن تخرج بعض الموارد عن هذا الحكم إستثناءاً وليس قاعدة).

10- «وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ». وإذا عمل بالإحسان في محله المناسب، فإنّه أفضل اسلوب للمواجهة، والتاريخ الإسلامي يرفدنا بعيّنات رائعة في هذا المجال ... منها: موقف معاملة النبي صلى الله عليه و آله مع مشركي مكة

بعد الفتح.

وبنظرة تأملية ممعنة إلى الأصول العشرة المذكورة، تتبيّن لنا جميع الخطوط الأصلية والفرعية لُاسلوب مواجهة المخالفين، وأنّ هذه الاصول إنّما احتوت كل الاسس المنطقية والعاطفية والنفسية والتكتيكية، وكل ما يؤدّي للنفوذ إلى أعماق نفوس المخالفين للتأثير الايجابي فيها.

ولو عمل المسلمون وفق هذا البرنامج الشامل لساد الإسلام كل أرض المعمورة أو معظمها على أقل التقادير.

«نهاية تفسير سورة النحل»

مختصر الامثل، ج 3، ص: 62

17 سورة الإسراء

مختصر الامثل، ج 3، ص: 63

أسماء السورة: بالرغم من أنّ الإسم المشهور لهذه السورة هو «بني إسرائيل» إلّا أنّ لها أسماء اخرى مثل «الإسراء» و «سبحان».

ومن الواضح أنّ ثمة علاقة بين أي اسم من أسماء السورة وبين محتواها ومضمونها، فهي «بني إسرائيل» لأنّ هناك قسماً مهماً في بداية السورة ونهايتها يرتبط بالحديث عن بني إسرائيل.

وإذا قلنا أنّها سورة «الإسراء» فإنّ ذلك يعود إلى الآية الاولى فيها التي تتحدث عن إسراء (ومعراج) النبي الأكرم صلى الله عليه و آله.

وأمّا تسميتها ب «سبحان» فإنّ ذلك يعود إلى الكلمة الاولى في السورة المباركة.

محتوى السورة: هذه السورة مكية وفق القول المشهور بين المفسرين، لذا فإنّ محتوى السورة يوافق خصوصيات السور المكية.

وبالامكان فرز المحاور المهمة الآتية التي يدور حولها مضمون السورة:

1- الإشارة إلى أدلة النبوة الخاتمة وبراهينها، وفي مقدمتها معجزة القرآن وقضية المعراج.

2- ثمة بحوث في السورة ترتبط بقضية المعاد.

3- تتحدّث السورة في بدايتها ونهايتها عن قسم من تاريخ بني إسرائيل الملي ء بالأحداث.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 64

4- تتعرض السورة إلى حرية الاختيار لدى الإنسان وأنّ الإنسان غير مجبر في أعماله، وبالتالي فإنّ على الإنسان أن يتحمّل مسؤولية تلك الحريّة من خلال تحمّله لمسؤولية أعماله سواء كانت حسنة أو سيئة.

5- تبحث السورة قضية الحساب والكتاب في هذه الدنيا، لكي يعي

الإنسان قضية الحساب والكتاب على أعماله وأقواله في اليوم الآخر.

6- تشير إلى الحقوق في المستويات المختلفة، خصوصاً فيما يتعلق بحقوق الأقرباء، وبالأخص منهم الأم والأب.

7- تتعرض السورة إلى حرمة «الإسراف»، و «التبذير»، و «البخل»، و «قتل الأبناء»، و «الزنا»، و «أكل مال اليتيم»، و «البخس في المكيال»، و «التكبر»، و «إراقة الدماء».

8- في السورة بحوث حول التوحيد ومعرفة اللَّه تعالى

9- تواجه السورة مواقف العناد والمكابرة إزاء الحق، وأنّ الذنوب تتحوّل إلى حجب تمنع الإنسان من رؤية الحق.

10- تركّز السورة على أفضلية الإنسان على سائر الموجودات.

11- تؤكّد السورة على تأثير القرآن الكريم في معالجة الأشكال المختلفة من الأمراض الأخلاقية والاجتماعية.

12- تبحث السورة في المعجزة القرآنية وعدم تمكن الخصوم وعجزهم عن مواجهة هذه المعجزة.

13- تحذّر السورة المؤمنين من وساوس الشيطان وإغواءاته، وتنبههم إلى المسالك التي ينفذ من خلالها إلى شخصية المؤمن.

14- تتعرض السورة إلى مجموعة مختلفة من القضايا والمفاهيم والتعاليم الأخلاقية.

15- أخيراً تتعرض السورة إلى مقاطع من قصص الأنبياء عليهم السلام ليتسنى للإنسان استكناه الدروس والعبر من هذه القصص.

في كل الأحوال تعكس سورة الإسراء في مضمونها ومحتواها العقائدي والأخلاقى والإجتماعي لوحة متكاملة ومتناسقة لسمو وتكامل البشر في المجالات المختلفة.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «من قرأ سورة بني إسرائيل في كل ليلة جمعة لم يمت حتى يدرك القائم ويكون من أصحابه».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 65

وينبغي أن يلاحظ أنّ التلاوة ينبغي أن تقترن بالتفكر في معانيها والتأمل في مفاهيمها، وأن يعقب ذلك جميعاً العمل بها، وتحويلها إلى قواعد يسترشدها الإنسان المسلم في سلوكه.

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ

هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)

معراج النبي صلى الله عليه و آله: الآية الاولى في سورة الإسراء تتحدّث عن إسراء النبي صلى الله عليه و آله أي سفره ليلًا من المسجد الحرام في مكّة المكرمة إلى المسجد الأقصى (في القدس الشريف). وقد كان هذا السفر «الإسراء» مقدمة لمعراجه صلى الله عليه و آله إلى السماء. وقد لوحظ في هذا السفر أنّه تمّ في زمن قياسي حيث إنّه لم يستغرق سوى ليلة واحدة بالنسبة إلى وسائل نقل ذلك الزمن ولهذا كان أمراً اعجازياً وخارقاً للعادة.

السورة المباركة تبدأ بالقول: «سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ».

وقد كان القصد من هذا السفر الليلي الإعجازي هو «لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَا».

وبالرغم من أنّ الرسول صلى الله عليه و آله كان عارفاً بعظمة اللَّه سبحانه، وكان عارفاً أيضاً بعظمة خلقه، لقد كان الهدف من هذا السفر الإعجازي أن تمتلى ء روح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أكثر بدلائل العظمة الربانية، وآيات اللَّه في السماوات، ولتجد روحه السامية في هذه الآيات زخماً إضافياً يوظّفه صلى الله عليه و آله في هداية الناس إلى ربّ السماوات والأرض.

ثم خُتمت الآية بالقول: «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ». وهذه إشارة إلى أنّ اللَّه تبارك وتعالى لم يختر رسوله ولم يصطفه لشرف الإسراء والمعراج، إلّابعد أن اختبر استعداده لهذا الشرف ولياقته لهذا المقام، فاللَّه تبارك وتعالى سمع قول رسوله ورأى عمله وسلوكه فاصطفاه للمقام السامي الذي اختاره له في الإسراء والمعراج «1».

______________________________

(1) من المشهور بين علماء الإسلام أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عندما كان في مكة أسرى به اللَّه تبارك وتعالى بقدرته من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ومن هناك صعد

به إلى السماء «المعراج» ليرى آثار العظمة الربانية وآيات اللَّه الكبرى في فضاء السماوات، ثم عاد صلى الله عليه و آله في نفس الليلة إلى مكة المكرمة.

والمعروف أيضاً أنّ سفر الرسول صلى الله عليه و آله في الإسراء والمعراج قد تمّ بجسم رسول اللَّه وروحه معاً.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 66

إنّ تعبير «أسرى» في الآية يشير إلى وقوع السفر ليلًا. وبالرغم من أنّ كلمة «ليلًا» جاءت في الآية تأكيداً لكلمة «أسرى» إلّاأنّها تريد أن تبيّن أنّ سفر الرسول صلى الله عليه و آله قد تمّ في ليلة واحدة فقط على الرغم من أنّ المسافة بين المسجد الحرام وبيت المقدس تقدّر بأكثر من مائة فرسخ، هذا السفر يقع في ليلة واحدة فقط.

وَ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَ جَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً (3) وَ قَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَ كَانَ وَعْداً مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَ أَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَ بَنِينَ وَ جَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَ لِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ لِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَ إِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَ جَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً (8)

بعد أن أشارت الآية الاولى في السورة إلى معجزة إسراء النبي صلى الله عليه و آله كشفت آيات السورة الاخرى عن موقف المشركين والمعارضين لمثل هذه الأحداث، وأبانت استنكارهم لها، وعنادهم

إزاء الحق، في هذا الإتجاه انعطفت الآية الاولى- من الآيات مورد البحث- على قوم موسى، لتقول لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إنّ تأريخ النبوّات واحد، وإنّ موقف المعاندين واحد أيضاً، وأنّه ليس من الجديد أن يقف الشرك القرشي موقفه هذا منك، وبين يديك الآن تأريخ بني إسرائيل في موقفهم من موسى عليه السلام. تقول الآية أوّلًا: «وَءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ».

وصفة هذا الكتاب أنّه: «وَجَعَلْنهُ هُدًى لّبَنِى إِسْرَاءِيلَ». والكتاب الذي تعنيه الآية هنا هو «التوراة» الذي نزل على موسى عليه السلام هدى لبني إسرائيل.

ثم تشير الآية إلى الهدف من بعثة الأنبياء بما فيهم موسى عليه السلام فتقول: «أَلَّا تَتَّخِذُوا مِن دُونِى وَكِيلًا».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 67

إنّ التوحيد في العمل هو واحدٌ من معالم أصل التوحيد، وهو علامة على التوحيد العقائدي. الآية تقول: لا تتكى ء على أحد سوى اللَّه.

ومن أجل أن تحرّك الآية التالية عواطف بني إسرائيل وتحفّزهم لشكر النعم الإلهية عليهم، خصوصاً نعمة نزول الكتاب السماوي، فإنّها تضع لهم نموذجاً للعبد الشكور فتقول:

«ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ». ولا تنسوا: «إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا».

والآية تخاطب بني إسرائيل بأنّهم أولاد من كان مع نوح، وعليهم أن يقتدوا ببرنامج أسلافهم وآبائهم في الشكر لأنعم اللَّه.

بعد هذه الإشارة تدخل الآيات إلى تاريخ بني إسرائيل الملي ء بالأحداث، فتقول:

«وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْرَإِيلَ فِى الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِى الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا».

والمقصود من «الأرض» في الآية- بقرينة الآيات الاخرى- هي أرض فلسطين المقدسة التي يقع المسجد الأقصى المبارك في ربوعها.

الآية التي تليها تفصّل ما أجملته من إشارة إلى الإفسادين الكبيرين لبني إسرائيل والحوادث التي تلي ذلك على أنّها عقوبة إلهية فتقول: «فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولهُمَا» وإرتكبتم ألوان الفساد والظلم والعدوان «بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ

عِبَادًا لَّنَا أُولِى بَأْسٍ شَدِيدٍ».

وهؤلاء القوم المحاربون الشجعان يدخلون دياركم للبحث عنكم: «فَجَاسُوا خِللَ الدّيَارِ». وهذا الأمر لا مناص منه: «وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا».

ثم تشير بعد ذلك إلى أنّ الألطاف الإلهية ستعود لتشملكم، وسوف تعينكم في النصر على أعدائكم، فتقول: «ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا».

وهذه المنّة واللطف الإلهي بكم على أمل أن تعودوا إلى أنفسكم وتصلحوا أعمالكم وتتركوا القبائح والذنوب لأنّه: «إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا».

إنّ الآية تعبّر عن سنّة ثابتة، إذ إنّ محصلة ما يعمله الإنسان من سوء أو خير تعود لنفسه.

تقول الآية في وصف المشهد الثاني أنّه حين يحين الوعد الإلهي سوف تغطّيكم جحافل من المحاربين ويحيق بكم البلاء إلى درجة أنّ آثار الحزن والغم تظهر على وجوهكم: «فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْأَخِرَةِ لِيَسُوا وُجُوهَكُمْ». بل ويأخذون منكم حتى بيت المقدس: «وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 68

وسوف لا يكتفون بذلك بل سيحتلّون جميع بلادكم ويدمّرونها عن آخرها:

«وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا». وفي هذه الحالة فإنّ أبواب التوبة الإلهية مفتوحة: «عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ». «وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا». أي: إن عدتم لنا بالتوبة فسوف نعود عليكم بالرحمة، وإن عدتم للإفساد عدنا عليكم بالعقوبة. وإذا كان هذا جزاؤكم في الدنيا ففي الآخرة مصيركم جهنم:

«وجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا» «1». الإفسادان التأريخيان لبني إسرائيل: تحدثت الآيات أعلاه عن فسادين اجتماعيين كبيرين لبني إسرائيل، يقود كل منهما إلى الطغيان والعلو، وقد لاحظنا أنّ اللَّه سلّط على بني إسرائيل عقب كل فساد، رجالًا أشدّاءً شُجعاناً يذيقونهم جزاء فسادهم وعلوّهم وطغيانهم، هذا مع استثناء الجزاء الأخروي الذي أعدّه اللَّه لهم.

يستفاد من تاريخ بني إسرائيل بأنّ أوّل من هجم على بيت المقدس وخرّبه

هو ملك بابل «نبوخذ نصر» حيث بقي الخراب ضارباً فيه لسبعين عاماً، إلى أنّ نهض اليهود بعد ذلك لإعماره وبنائه، أمّا الهجوم الثاني الذي تعرّض له، فقد كان من قبل قيصر الروم «أسييانوس» الذي أمر وزيره «طرطوز» بتخريب بيت المقدس وقتل بني إسرائيل. وقد تمّ ذلك في حدود مائة سنة قبل الميلاد.

وبذلك يحتمل أن تكون الحادثتان اللتان أشارت إليهما الآيات أعلاه هما نفس حادثتي «نبوخذ نصر» و «أسييانوس».

إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَ يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَ أَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (10) وَ يَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَ كَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَ جَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسَابَ وَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)

______________________________

(1) «حصير»: مشتقة من «حصر» بمعنى الحبس، وكل شي ء ليس له منفذ للخروج يطلق عليه اسم «حصير» ويقال للحصير العادية حصيراً لأنّ خيوطها وموادها نسجت إلى بعضها البعض.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 69

أقصر الطرق للهداية والسعادة: الآيات السابقة تحدّثت عن بني إسرائيل وكتابهم السماوي «التوراة» وكيف تخلّفوا عن برنامج الهداية الإلهية ليلقوا بعض جزائهم في هذه الحياة الدنيا، والباقي مدّخر ليوم القيامة. وفي هذا المقطع من الآيات، إنتقل الحديث إلى القرآن الكريم، الكتاب السماوي للمسلمين، وآخر حلقة في الكتب السماوية، فقال تعالى أوّلًا: «إِنَّ هذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ».

إنّ معنى الآية أعلاه، هو أنّ القرآن الكريم يمثّل أقصر وأفضل طرق الإستقامة والثبات والهداية.

وبهذا فإنّ الطريق القويم من وجهة نظر العقائد والأفكار.

العقيدة الأقوم من هذه الزاوية، هي التي توافق بين

الإعتقاد والعمل، والظاهر والباطن، الفكر والمنهج، وتدفع الإنسان والجميع نحو اللَّه.

أمّا الأقوم من وجهة نظر القوانين الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والسياسية، التي تسود المجتمع.

وأخيراً فإنّ المنهج الأقوم بالنسبة للنظم والسلطات الحاكمة، هو كل ما يدفعها إلى إقامة العدل، والدعوة إلى إشاعة الإنصاف، ومواجهة الظلم والظالمين.

بعد ذلك تشير الآيات إلى موقف الناس في مقابل الكتاب الأقوم، هذا الموقف الذي ينقسم فيه الناس إلى فئتين، فالاولى يكون حالها كما يقول تعالى: «وَيُبَشّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا».

أمّا الفئة الثانية فيكون مصيرها تبعاً لموقفها كما يقول تعالى: «وَأَنَّ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالْأَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا».

وإذا كان استخدام «بشارة» واضح هنا بالنسبة للمؤمنين، فهو بالنسبة لغيرهم من غير المؤمنين يقع على معنى السخرية والإستهزاء.

الآية التي بعدها تنساق في نفس اتجاه البحث وتشير إلى احدى العلل المهمة لعدم الإيمان وتقول بأنّ عجلة الإنسان وتسرّعه وعدم اطلاعه على الامور وإحاطته بها تسوقه إلى أن يساوي في جهده بين دعائه بالخير وطلبه، وبين دعائه بالشر وطلبه له.

تقول الآية: «وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ». لماذا؟: «وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا».

إنّ استعجال الإنسان واندفاعه في سبيل تحصيل المنافع لنفسه، تقوده إلى النظرة السطحية للُامور بحيث إنّه لا يحيط الأشياء بالدراسة الشاملة مما يفوّت عليه تشخيص

مختصر الامثل، ج 3، ص: 70

منفعته الواقعية، وهكذا بنتيجة تعجّله واندفاعه المضطرب يَضيع عليه وجه الحقيقة، ويتغير مضمونها بنظره، فيقود نفسه باتجاه الشر والأعمال السيئة الضارّة. وهكذا ينتهي الإنسان- نتيجة سوء تشخيصه واضطراب مقياسه في رؤية الخير والحقيقة- إلى أن يطلب من اللَّه الشر، تماماً كما يطلب منه الخير، وأن يسعى وراء الأعمال السيئة، كسعيه وراء الأعمال الحسنة، وهذا الإضطراب وفقدان الموازين هو أسوأ بلاء يصاب به الإنسان ويحول بينه

وبين السعادة الحقيقية.

في محاسن البرقي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إنّما أهلك الناس العجلة، ولو أنّ الناس تثبّتوا لم يهلك أحد».

طبعاً هناك باب في الروايات الإسلامية بعنوان «تعجيل فعل الخير» ففي الكافي عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «إنّ اللَّه يحبّ من الخير ما يعجّل».

إنّ العجلة المذمومة هي التي تكون أثناء البحث والدراسة لمعرفة جوانب العمل المختلفة، أمّا السرعة والعجلة الممدوحتان فهما اللتان يكونان بعد اتخاذ قرار الشروع بالعمل، والتصميم على التنفيذ، لذلك نقرأ في الروايات: «سارعوا في عمل الخير». أي: بعد أن يثبت أنّ هذا العمل خير فلا مجال للتأخير والتسويف.

الآية التي بعدها تتحدث عن تعاقب الليل والنهار ومنافع هذا التعاقب، لتجعل من هذا الشاهد مثالًا على معرفة اللَّه والتمعّن بآياته، والمثال أيضاً يفيد معنى التأمل والهدوء ويدعو إلى محاذرة التعجّل والتسرّع. الآية تقول أوّلًا: «وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءَايَتَيْنِ». ثم: «فَمَحَوْنَا ءَايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءَايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً». ولنا في ذلك هدفان: الأوّل: «لّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبّكُمْ» حيث تنطلقون نهاراً في الكسب والعمل والمعاش مستثمرين العطايا الإلهية، وتنعمون ليلًا بالراحة والهدوء والإستقرار. والهدف الثاني فهو: «وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ» لكي لا تبقى شبهة لأحد «وَكُلَّ شَىْ ءٍ فَصَّلْنهُ تَفْصِيلًا».

وَ كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَ مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 71

لقد تحدّثت الآيات القرآنية السابقة عن القضايا التي تتصل بالمعاد والحساب، لذلك فإنّ الآيات

التي نبحثها الآن تتحدّث عن قضية «حساب الأعمال» التي يتعرض لها البشر، وكيفية ومراحل إنجاز ذلك في يوم المعاد والقيامة حيث يقول تعالى: «وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنهُ طِرَهُ فِى عُنُقِهِ». «الطائر»: يعني الطير، ولكن الكلمة هنا تشير إلى معنى آخر كان سائداً ومعروفاً بين العرب؛ إذ كانوا يتفألون بواسطة الطير؛ وكانوا يعتمدون في ذلك على طبيعة الحركة التي يقوم بها الطير. فمثلًا إذا تحرّك الطير من الجهة اليمنى، فهم يعتبرون ذلك فألًا حسناً وجميلًا، أمّا إذا تحرّك الطير من اليُسرى فإنّ ذلك في عُرفهم وعاداتهم علامة الفأل السيّ ء، أو ما يعرف بلغتهم بالتطيّر.

إنّ القرآن يبيّن أنّ التفؤل الحسن والسيّ ء أو الحظ النحس والجميل، إنّما هي أعمالكم لا غير، والتي ترجع عهدتها إليكم وتتحملون على عاتقكم مسؤولياتها، وهذه الأعمال لا تنفصل عنكم في الدنيا ولا في الآخرة.

يقول القرآن بعد ذلك: «وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيمَةِ كِتَابًا يَلْقهُ مَنشُورًا».

والمقصود من «الكتاب» في الآية الكريمة هي صحيفة الأعمال لا غير، وهي نفس الصحيفة الموجودة في هذه الدنيا والتي تثبّت فيها الأعمال، ولكنها هنا (في الدنيا) مخفية عنّا ومكتومة، بينما في الآخرة مكشوفة ومعروفة.

في هذه اللحظة يقال للإنسان: «اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا».

يعني أنّ المسألة- مسألة المصير- بدرجة من الوضوح والعلنية والإنكشاف، بحيث لا مجال لانكارها.

وفي تفسير العياشي عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله «اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ» قال: «يذكر العبد جميع ما عمل، وما كتب عليه، حتى كأنّه فعله تلك الساعة، فلذلك قالوا يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّاأحصاها».

الآية التي بعدها توضّح أربعة أحكام أساسية فيما يخص مسألة الحساب والجزاء على الأعمال، وهذه الأحكام هي:

1- أوّلًا تُقرر أنّ «مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا

يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ» حيث تعود النتيجة عليه.

2- ثم تُقرر أيضاً أنّ «وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا».

وقرأنا نظير هذين الحكمين في الآية السابعة من هذه السورة في قوله تعالى: «إِنْ

مختصر الامثل، ج 3، ص: 72

أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا». 3- ثم تنتقل الآية لتقول: «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى . «الوزر»: بمعنى الحمل الثقيل؛ وأيضاً تأتي بمعنى المسؤولية، لأنّ المسؤولية- أيضاً- حمل معنوي ثقيل على عاتق الإنسان.

طبعاً هذا القانون الكلي الذي تُقرره آية «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى لا يتنافى مع ما جاء في الآية (25) من سورة النحل التي تقول: «لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيمَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ» لأنّ هؤلاء بسبب تضليلهم للآخرين يكونون فاعلين للذنب أيضاً، أو يُعتبرون بحكم الفاعلين له، ولذلك فهم في واقع الأمر يتحملون أوزارهم وذنوبهم.

4- الحكم الرابع يتمثل في قوله تعالى: «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» يقوم ببيان التكليف وإلقاء الحجة.

وَ إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (16) وَ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَ كَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17)

مراحل العقاب الإلهي: إنّ موضوع البحث في هذه الآيات يُكمّل ما كنّا بصدد بحثه في نهاية الآيات السابقة، ولكن بصورة اخرى، إذ تقول الآية الكريمة: «وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنهَا تَدْمِيرًا» «1».

إنّ الآيات التي كُنّا قبل قليل بصدد بحثها، كانت تتحدّث عن أنّ العقاب الإلهي لا يمكن أن ينزل بساحة شخص أو مجموعة أو امّة، من دون أن تكون هناك حجة وبيان للتكليف من قبل الرسل والأنبياء عليهم السلام والآية التي نحن بصددها

الآن، تتحدث عن نفس هذا الأصل ولكن بطريقة اخرى.

إنّ اللَّه لا يُعاقب أو يؤاخذ أحداً بالعذاب، قبل أن يتمّ الحجة عليه، وقبل أن يتّضح ويستبين تكليفه، ففي البداية يضع اللَّه تعليماته وأوامره أمام الناس، فإذا التزموا بها وأطاعوا فستنالهم سعادة الدنيا والآخرة. أمّا إذا عصوا وخالفوا ولم يلتزموا الأوامر والنواهي الربانية، فسيحيق بهم العذاب، ويؤدّي إلى هلاكهم.

______________________________

(1) بالرغم من أنّ كلمة «قول» لها معنى واسع ولكنّها هنا تعني إعطاء الأمر بالعذاب.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 73

إضافة إلى ذلك، فإنّ التعبير في الآية الكريمة ينطوي على إشارة مهمة، هي أنّ أغلب المفاسد الاجتماعية تنبع من المترفين، أصحاب الأموال، البعيدين عن اللَّه تعالى، والذين يعيشون حياةً مترفة بعيدة عن الشرع مملوءة بالأهواء والمفاسد.

الآية التي بعدها تشير إلى نماذج بهذا الخصوص، على أنّها أصل عام، وقاعدة سارية، إذ تقول: «وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ» وفقاً لهذه القاعدة والسنّة، ثم تضيف بعد ذلك: «وَكَفَى بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا». أي: إنّ ظلم وذنوب فرد أو مجموعة لا يمكنها أن تكون خافية على العين البصيرة التي لا تنام لرب العالمين.

أمّا لماذا أكّدت الآية على القرون من بعد نوح عليه السلام؟ فقد يكون ذلك بسبب أنّ الحياة قبل نوح عليه السلام كانت حياة بسيطة، والاختلافات التي تقسّم المجتمعات إلى مُترف ومستضعف، كانت بسيطة وضئيلة، لذلك فالعذاب الإلهي لم يشملهم بكثرة.

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَ مَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَ سَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلًّا نُمِدُّ هؤُلَاءِ وَ هَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَ مَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ

كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)

طلّاب الدنيا والآخرة: لقد تحدّثت الآيات السابقة عن الذين عصوا أوامر اللَّه تعالى، وكيفية هلاكهم، لذا فإنّ هذه الآيات- التي نحن بصددها الآن- تشير إلى سبب التمرّد على شريعة اللَّه، والعصيان لأوامره، وهذا السبب هو حبّ الدنيا، إذ يقول تعالى: «مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا».

«العاجلة»: تعني النعم الزائلة، أو الحياة الزائلة.

والظريف في الآية، أنّها لا تقول: إنّ من يسعى وراء الدنيا، ويجعلها كل همّه، يحصل على كل ما يريد، بل قيّدت ذلك بشرطين هما:

أوّلًا: سيحصل على جزء مما يريده؛ وأنّ هذا الجزء هو المقدار الذي نريده نحن، أي «مَا نَشَاءُ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 74

ثانيا: إنّ جميع الأشخاص- رغم سعيهم الدنيوي- لا يحصلون على هذا المقدار، وإنّما قسم منهم سيحصل على جزء من متاع الدنيا. وهذا معنى قوله: «لِمَن نُّرِيدُ».

وبناءاً على ذلك، فلا كل طلّاب الدنيا يحصلون عليها، ولا اولئك الذين يحصلون على شي ء منها، يحصلون على ما يريدون. ومسار الحياة اليومية يوضّح لنا هذين الشرطين، إذ ما أكثر الذين يكدّون ليلًا ونهاراً ولكنهم لا يحصلون على شي ء.

وما أكثر الذين لهم امنيات كبيرة وطموحات متعددة ومشاريع بعيدة، ولكن لا يحصلون إلّاعلى القليل منها.

والجدير بالإنتباه هنا، أنّ عاقبة هذه المجموعة من الناس، والتي هي نار جهنّم، قد تمّ تأكيدها في الآية، بكلمتي «مَذْمُومًا» و «مَّدْحُورًا» إذ التعبير الأوّل يأتي بمعنى اللوم، بينما الثاني يعني الإبتعاد عن رحمة الخالق، وإنّ نار جهنّم تمثّل العقاب الجسدي لهم، أما «مذموم» و «مدحور» فهما عقاب الروح، لأنّ المعاد هو للروح وللجسد، والجزاء والعقاب يكون للإثنين معاً.

بعد

ذلك تنتقل الآيات إلى توضيح وضع المجموعة الثانية ومصيرها، وبقرينة المقابلة- وهي أسلوب قرآني مميّز- يتوضّح الموضوع أكثر إذ يقول تعالى: «وَمَنْ أَرَادَ الْأَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَشْكُورًا».

بناءاً على ذلك هناك ثلاثة شروط أساسية للوصول إلى السعادة الأبدية، هي:

أوّلًا: إرادة الإنسان: وهي الإرادة التي ترتبط بالحياة الأبدية، ولا تكون مرتبطة باللذّات الزائلة والنعم غير الثابتة، والأهداف المادية.

ثانياً: هذه الإرادة يجب أن لا تكون ضعيفة وقاصرة في المجال الفكري والروحي للإنسان، بل إنّها يجب أن تشمل جميع ذرات الوجود الإنساني، وتدفعه للحركة، وببذل كل ما يستطيع من السعي في هذا المجال.

ثالثاً: إنّ كل ما سبق من حديث عن الإرادة في النقطتين السابقتين، ينبغي أن يقترن بالإيمان؛ الإيمان الثابت القوي. لأنّ أيّ تصميم وجهد، إذا أريد له أن يُثمر يجب أن تكون أهدافه صحيحة، ومصدر هذه الأهداف هو الإيمان باللَّه لا غير.

وقد يتوهم البعض ويلتبس عليه الأمر، ظانّاً أنّ نعم الدنيا هي من نصيب عبيدها وطلّابها فقط، وأنّ طلّاب الآخرة وأهلها محرومون منها، لذلك فإنّ الآية التي بعدها تقف

مختصر الامثل، ج 3، ص: 75

أمام هذا اللبس، وتمنع هذا الظن، عندما تقول: «كَلَّا نُّمِدُّ هؤُلَاءِ وَهؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبّكَ» لتضيف بعدها بقليل: «وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبّكَ مَحْظُورًا».

هذه النعم هي تعبير عن مقام الرحمانية الإلهية التي تشمل فيوضاتها جميع الناس، المؤمن والكافر ولكن هناك نعم لا تحصى وراء ذلك تختص بالمؤمنين والمحسنين دون غيرهم.

الآية التي بعدها تشير إلى أصل مهم في هذا الخصوص وتقول: كما أنّ السعي في هذه الدنيا متفاوت، وتتفاوت معه الأجور، فكذلك الأمر في الآخرة، ولكن التفاوت الدنيوي محدود، لأنّ الدنيا هي نفسها محدودة، وأمّا الآخرة- ولكونها غير محدودة- فإنّ تفاوتها

غير محدود، إذ يقول تعالى: «انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْأَخِرَةِ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا».

هل الدنيا والآخرة تقعان على طرفي نقيض؟ إنّنا نرى في كثير من الآيات القرآنية مدحاً وتمجيداً للدنيا وبإمكاناتها المادية، ولكن، وبرغم الأهمية الكبرى التي تختص بها النعم المادية، فإنّ القرآن الكريم استخدم تعابير اخرى تحقّرها وتحطّ منها بقوة.

هذه المعاني المزدوجة إزاء النعم والمواهب المادية، يمكن ملاحظتها أيضاً في الأحاديث والروايات الإسلامية.

إنّه إذا تمّت الاستفادة من مواهب الدنيا وعطاياها التي تُعتبر من النعم الإلهية؛ ويعتبر وجودها ضرورياً في نظام الخلق والوجود، وتمّت الاستفادة في سعادة الإنسان الأخروية وتكامله المعنوي، فإنّ ذلك يعتبر أمراً جيّداً، وتمتدح معه الدنيا، أمّا إذا اعتبرناها هدفاً لا وسيلة، وأبعدناها عن القيم المعنوية والإنسانية، عندها سيُصاب الإنسان بالغرور والغفلة والطغيان والبغي والظلم.

لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا (22) وَ قَضَى رَبُّكَ أَنْ تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَ لَا تَنْهَرْهُمَا وَ قُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيماً (23) وَ اخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 76

أحكام إسلامية مهمة: الآيات التي نحن بصدد بحثها هي بداية لسلسلة من الأحكام الإسلامية الأساسية، والتي تبدأ بالدعوة إلى التوحيد والإيمان؛ التوحيد الذي يعتبر الأساس والأصل لكل النشاطات الإيمانية، والأعمال الحسنة والبنّاءة. في البداية تبدأ هذه الآيات بالتوحيد وتقول: «لَّاتَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهًا ءَاخَرَ».

إنّها لم تقل: لا تعبد مع اللَّه إلهاً آخر، بل تقول: «لَّاتَجْعَلْ» هذا اللفظ أشمل وأوسع، إذ هو يعني: لا تجعل معبوداً

آخر مع اللَّه لا في العقيدة، ولا في العمل، ولا في الدعاء، ولا في العبودية. بعد ذلك توضّح الآية النتيجة القاتلة للشرك: «فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولًا».

إنّ استعمال كلمة «القعود» تدل على الضعف والعجز. ومن هذا التعبير يمكن أن نستفيد أنّ للشرك ثلاثة آثار سيئة جدّاً في وجود الإنسان، هي:

1- الشرك يؤدّي إلى الضعف والعجز والذلة.

2- الشرك موجب للذم واللوم، لأنّه خط انحرافي واضح في قبال منطق العقل، ويعتبر كفراً واضحاً بالنعم الإلهية.

3- الشرك يكون سبباً في أن يترك اللَّه سبحانه وتعالى الإنسان إلى الأشياء التي يعبدها، فإنّهم يصبحون «مخذولين» أي بدون ناصر ومعين.

بعد تبيان هذا الأصل التوحيدي، تشير الآيات إلى واحدة من أهم توجيهات الأنبياء عليهم السلام للإنسان، فالآية- بعد أن تؤكّد مرّة اخرى على التوحيد- تقول: «وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا».

كلمة «قضاء» لها مفهوم توكيدي أكثر من كلمة «أمر» وهي تعني القرار والأمر المحكم الذي لا نقاش فيه، وهذا أوّل تأكيد في هذه القضية. أمّا التأكيد الثاني الذي يدل على أهمية هذا القانون الإسلامي، فهو ربط التوحيد الذي يعتبر أهم أصل إسلامي، مع الإحسان إلى الوالدين.

أمّا التأكيدان الثالث والرابع فهما يتمثلان في معنى الإطلاق الذي تفيده كلمة «إحسان» والتي تشمل كل أنواع الإحسان. وكذلك معنى الإطلاق الذي تفيده كلمة «والدين» إذ هي تشمل الأم والأب، سواء كانا مسلمين أم كافرين.

أمّا التأكيد الخامس فهو يتمثل بمجي ء كلمة «إحساناً» نكرة، لتأكيد أهميتها وعظمتها.

ثم تنتقل إلى أحد مصاديق هذه العبادة متمثلًا بالإحسان إلى الوالدين فتقول: «إِمَّا

مختصر الامثل، ج 3، ص: 77

يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا» بحيث يحتاجان إلى الرعاية والإهتمام الدائم، فلا تبخل عليهما بأي شكل من إشكال المحبة واللطف ولا تؤذيهما أو تجرح عواطفهما

بأقل إهانة حتى بكلمة «اف»: «فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍ «1» وَلَا تَنْهَرْهُمَا». بل: «وَقُلْ لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا». وكن أمامهما في غاية التواضع «وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا».

إضافة إلى ما ذكرناه، فثمّة ملاحظة لطيفة اخرى يطويها التعبير القرآني، هذه الملاحظة خطاب للإنسان يقول: إذ أصبح والداك مسنيّن وضعيفين وكهلين لا يستطيعان الحركة أو رفع الخبائث عنهما، فلا تنس أنّك عندما كُنت صغيراً كُنت على هذه الشاكلة أيضاً، ولكن والديك لم يقصّرا في مداراتك والعناية بك، لذا فلا تقصّر أنت في مداراتهم ومحبتهم.

وقد تحدث من قبل بعض الأبناء انحرافات فيما يتعلق بحقوق الوالدين واحترامهم والتواضع لهم، وقد يصدر هذا العقوق عن جهل في بعض الأحيان، وعن قصد وعلم في أحيان اخرى، لذا فإنّ الآية الأخيرة في بحثنا هذا تشير إلى هذا المعنى بالقول: «رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ». وهذه إشارة إلى أنّ علم اللَّه ثابت وأزلي وأبدي وبعيد عن الإشتباهات، بينما علمكم أيّها الناس لا يحمل هذه الصفات! لذلك فإذا طغى الإنسان وعصى أوامر خالقه في مجال احترام الوالدين والإحسان إليهم، ولكن بدون قصد وعن جهل، ثم تاب بعد ذلك وأناب، وندم على ما فعل وأصلح، فإنّه سيكون مشمولًا لعفو اللَّه تعالى: «إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا».

إحترام الوالدين في المنطق الإسلامي: إنّ الإسلام يُعطي التعليمات اللازمة إزاء قضية احترام الوالدين ورعاية حقوقهما، إلّافي قضايا نادرة اخرى.

وعلى سبيل المثال يمكن أن تشير الفقرات الآتية إلى هذا المعنى:

أ) في أربع سور قرآنية ذكر الإحسان إلى الوالدين بعد التوحيد مباشرة، وهذا الإقتران يدل على مدى الأهمية التي يوليها الإسلام للوالدين.

ب) إنّ مسألة إحترام الوالدين ورعاية حقهما من المنزلة بمكان، حتى أنّ

القرآن

______________________________

(1) إنّ هذه الكلمة مأخوذ من «الصوت» الذي يخرج من الفم عندما ينفخ الإنسان لتنظيف بدنه أو ملابسه من الغبار الموجود عليها. إنّ الآية تريد أن تقول لا يجوز تجاوز الحدود أمامهما أو إيذاؤهما حتى بمستوى ما تحمله كلمة «أف» من معنى

مختصر الامثل، ج 3، ص: 78

والأحاديث والروايات الإسلامية، تؤكّدان معاً على الإحسان للوالدين حتى ولو كانا مشركين. ج) رفع القرآن الكريم منزلة شكر الوالدين إلى منزلة شكر اللَّه تعالى.

د) القرآن الكريم لا يسمح بأدنى إهانة للوالدين، ولا يجيز ذلك.

ه) بالرغم من أنّ الجهاد يعتبر من أهم التعاليم الإسلامية، إلّاأنّ رعاية الوالدين تعتبر أهم منه، بل لا يجوز إذا أدّى الأمر إلى أذية الوالدين.

و) في الكافي عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إيّاكم وعقوق الوالدين فإنّ ريح الجنة توجد من ميسرة ألف عام ولا يجدها عاقّ».

وفي الكافي عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام قال: «سأل رجل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ما حق الوالد على ولده؟ قال: لا يسمّيه باسمه، ولا يمشي بين يديه، ولا يجلس قبله، ولا يستسبّ له». (أي:

لا يفعل شيئاً يؤدّي إلى أن يسبّ الناس والديه).

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) وَ آتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ لَا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَ كَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً (28) وَ لَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَ لَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَقْدِرُ

إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30)

رعاية الإعتدال في الإنفاق والهبات: مع هذه الآيات يبدأ الحديث عن فصل آخر من سلسلة الأحكام الإسلامية الأساسية، التي لها علاقة بحقوق القربى والفقراء والمساكين، والإنفاق بشكل عام ينبغي أن يكون بعيداً عن كل نوع من أنواع الإسراف والتبذير، حيث تقول الآية: «وَءَاتِ ذَاالْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذّرْ تَبْذِيرًا».

إنّ كلمة «ذِى الْقُرْبَى لها مفهوم عام وتشمل كل الأرحام والمقربين، الّا أنّ أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله هم من أوضح مصاديق القربى له والرسول في طليعة المخاطبين بالآية الكريمة.

إنّ «التبذير» هو هدر المال في غير موقعه ولو كان قليلًا، بينما إذا صُرف في محلّه فلا يعتبر تبذيراً ولو كان كثيراً.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 79

الآية التي بعدها هي لتأكيد النهي عن التبذير: «إِنَّ الْمُبَذّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيطِينِ وَكَانَ الشَّيْطنُ لِرَبّهِ كَفُورًا».

لأنّ اللَّه أعطاه قدرةً وقوّةً وإستعداداً وذكاءاً خارقاً للعادة، ولكن الشيطان استفاد من هذه الامور في غير محلّها، أي في طريق إغواء الناس وإبعادهم عن الصراط المستقيم.

ثم إنّ استخدام «إخوان» تعني أنّ أعمالهم متطابقة ومتناسقة مع أعمال الشيطان، كالأخوين اللذين تكون أعمالهما متشابهة، أو أنّهم قرناء وجلساء للشيطان في الجحيم.

ثم أنّ الإنسان قد لا يملك ما يعطيه للمسكين أحياناً، وفي هذه الحالة ترسم الآية الكريمة طريقة التصرف بالنحو الآتي: «وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا».

«ميسور»: مشتقة من «يسر» وهي بمعنى الراحة والسهولة، أمّا هنا فلها مفهوم واسع، يشمل كل كلام جميل وسلوك مقرون بالإحترام والمحبة.

الإعتدال هو شرط في كل الامور بما فيها الإنفاق ومساعدة الآخرين، لذلك تنتقل الآية للقول: «وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ». وهذا تعبير جميل يفيد أنّ الإنسان

ينبغي أن يكون ذا يد مفتوحة، لا أن يكون مثل البخلاء وكأنّ أيديهم مغلولة إلى أعناقهم بُخلًا وخشية من الإنفاق، ولكن في نفس الوقت تقرّر الآية أنّ بسط اليد لا ينبغي أن يتجاوز الحد المقرر والمعقول في الصرف والبذل والعطاء، حتى لا ينتهي المصير إلى الملامة والإبتعاد عن الناس: «وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا».

سؤال: لماذا يجب أن يكون هناك مساكين وفقراء ومحرومون حتى ننفق عليهم؟ أليس من الافضل أن يعطيهم اللَّه ما يريدون حتى لا يحتاجون إلى إنفاقنا؟

الجواب: تعتبر الآية الأخيرة بمثابة جواب على هذا السؤال: «إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا». إنّه اختبار لنا، فاللَّه قادر على كل شي ء، ولكنه يريد بهذا الطريق تربيتنا على روح السخاء والتضحية والعطاء، إضافة إلى ذلك، إذا أصبح أكثر الناس في حالة الكفاية وعدم الحاجة فإنّ ذلك يقود إلى الطغيان والتمرّد «إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَءَاهُ اسْتَغْنَى ؛ لذلك من المفيد أن يبقوا في حد معين من الحاجة. هذا الحد لا يسبب الفقر ولا الطغيان، من ناحية اخرى يرتبط التقدير والبسط في رزق الإنسان بمقدار السعي وبذل الجهد (باستثناء بعض الموارد من قبيل العجزة والمعلولين)، وهكذا تقتضي

مختصر الامثل، ج 3، ص: 80

المشيئة الإلهية ببسط الرزق وتقديره لمن يشاء، وهذا دليل الحكمة، إذ تقضي الحكمة بزيادة رزق من يسعى ويبذل الجهد، بينما تقضي بتضييقه لمن هو أقل جهداً وسعياً.

وَ لَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْأً كَبِيراً (31) وَ لَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَ سَاءَ سَبِيلًا (32) وَ لَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ

سُلْطَاناً فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً (33) وَ لَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَ زِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)

ستة أحكام مهمة: في متابعة للأحكام الإسلامية التي أثارتها الآيات السابقة، تتحدث هذه الآيات عن ستة أحكام إسلامية اخرى وردت في ست آيات.

أوّلًا: تشير الآية إلى عمل قبيح وجاهلي هو من أعظم الذنوب، فتنهى عنه: «وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلقٍ». فرزق هؤلاء ليس عليكم «نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ». أمّا علّة الحكم فهي: «إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطًا كَبِيرًا».

هذه الآية تفيد أنّ الوضع الاقتصادي للعرب في الجاهلية كان صعباً وسيّئاً. بحيث إنّهم كانوا يقتلون أبناءهم في بعض الأحيان خوف العيلة والفقر، وهناك كلام بين المفسرين فيما إذا كان العرب في الجاهلية يدفنون البنات أحياء وحسب، أو أنّهم كانوا يقتلون الأبناء أيضاً خوفاً من الفقر.

وفي الوقت الذي نستغرب فيه ارتكاب الجاهليين لهذه الجرائم بحق النوع البشري، فإنّ عصرنا الحاضر- وفي أكثر مجتمعاته رُقيّاً وتقدّماً- يعيد تكرار هذه الجريمة ولكن بأسلوب آخر، إذ أنّ العمليات الواسعة في إسقاط الجنين وقتله خوفاً من الضائقة المالية وازدياد عدد السكان، هي نموذج آخر للقتل.

ثانياً: الآية التي بعدها تشير إلى ذنب عظيم آخر هو الزنا: «وَلَا تَقْرَبُوا الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 81

لم تقل الآية: لا تزنوا، بل قالت: لا تقربوا هذا العمل الشائن، وهذا الاسلوب في النهي فضلًا عمّا يحمله من تأكيد، فإنّه يوضّح أنّ هناك مقدمات تجر إلى الزنا ينبغي تجنّبها وعدم مقاربتها، فخيانة العين تعتبر واحدة من المقدمات، والسفور والتعرّي مقدمة اخرى، الكتب السيئة

والأفلام الملوّثة والمجلات الفاسدة ومراكز الفساد كل واحدة مِنها تعتبر مقدمة لهذا العمل.

كذلك فإنّ الخلوة بالأجنبية (يعني خلوة المرأة والرجل الأجنبي في مكان واحد ولوحدهما) يعتبر عاملًا في إثارة الشهوة.

وأخيراً فإنّ امتناع الشباب عن الزواج خاصة مع ملاحظة الصعوبات الموضوعة أمام الطرفين، هي من العوامل التي قد تؤدّي إلى الزنا. والآية نهت عن كل ذلك بشكل بليغ مختصر، ولكنّا نرى في الأحاديث والروايات نهياً مفصّلًا عن كل واحدة من هذه المقدمات.

فلسفة تحريم الزنا: يمكن الإشارة إلى ثلاثة عوامل في فلسفة تحريم الزنا، هي:

1- شياع حالة الفوضى في النظام العائلي، وانقطاع العلاقة بين الأبناء والآباء، هذه الرابطة التي تختص بكونها سبباً للتعارف الاجتماعي، بل إنّها تكون سبباً لصيانة الأبناء.

إنّ العلاقات الاجتماعية القائمة على أساس العلاقات العائلية ستتعرض للانهيار والتصدّع إذا شاع وجود الابناء غير الشرعيين «أبناء الزنا».

وعلاوة على ذلك، فإنّهم سيحرمون من الحبّ الاسري الذي يعتبر عاملًا في الحدّ من الجريمة في المجتمع الإسلامي، وحينئذ يتحوّل المجمتع الإنساني بالزنا إلى مجتمع حيواني تغزوه الجريمة والقساوة من كل جانب.

2- لقد أثبت العلم ودلّت التجارب على أنّ إشاعة الزنا سبب لكثير من الأمراض والمآسي الصحية وكل المعطيات تشير إلى فشل مكافحة هذه الأمراض من دون مكافحة الزنا. (يمكن أن تلاحظ موجات مرض الإيدز في المجتمعات المعاصرة، ونتائجها الصحية والنفسية المدمّرة).

3- يجب أن لا ننسى أنّ هدف الزواج ليس إشباع الغريزة الجنسية وحسب، بل المشاركة في تأسيس الحياة على أساس تحقيق الإستقرار الفكري والأنس الروحي للزوجين. وأمّا تربية الأبناء والتعامل مع قضايا الحياة، فهي آثار طبيعية للزواج، وكل هذه الامور لا يمكن لها أن تثمر من دون أن تختص المرأة بالرجل، وقطع دابر الزنا وأشكال المشاعيّة الجنسية.

مختصر الامثل، ج 3،

ص: 82

ثالثاً: الحكم الآخر الذي تشير إليه الآية التي بعدها، هو احترام دماء البشر، وتحريم قتل النفس حيث تقول: «وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقّ».

إنّ الإسلام يحاسب على أقل أذى ممكن أن يلحقه الإنسان بالآخرين، فكيف بقضية القتل وإراقة الدماء؟! وهنا نستطيع أن نقول- باطمئنان-: إنّنا لا نرى أيّ شريعة غير الإسلام أعطت هذه الحرمة الاستثنائية لدم الإنسان، بالطبع هناك حالات ينتفي معها إحترام دم الإنسان، كما لو قام بالقتل أو ما يوجب إنزال العقوبة به، لذلك فإنّ الآية بعد أن تُثبت حرمة الدم كأصل، تشير للإستثناء بالقول: «إِلَّا بِالْحَقّ».

إنّ حرمة دم الإنسان في الإسلام لا تختص بالمسلمين وحسب، بل تشمل غير المسلمين أيضاً من غير المحاربين، والذين يعيشون مع المسلمين عيشة مُسالمة، فإنّ دماءهم- أيضاً- وأعراضهم وأرواحهم مصونة ويحرم التجاوز عليها.

تشير الآية بعد ذلك إلى إثبات حق القصاص بالمثل لولي القتيل فتقول: «وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَانًا». ولكن في نفس الوقت ينبغي لولي المقتول أن يلتزم حدّ الإعتدال ولا يسرف «فَلَا يُسْرِف فِّى الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا». إذ ما دام ولي الدم يتحرّك في الحدود الشرعية فإنّه سيكون مورداً لنصرة اللَّه تعالى.

والنهي عن الإسراف تشير إلى واقع كان سائداً في الجاهلية، واليوم أيضاً يمكن مشاهدة نماذج لها، فحين يُقتل فرد من قبيلة معينة، فإنّها تقوم بهدر الكثير من الدماء البريئة من قبيلة القاتل.

أو أن يقوم أولياء الدم بقتل أناس أبرياء أو الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم.

رابعًا: الآية التي بعدها تشير إلى حفظ مال اليتيم، والملاحظ أنّ الآية استخدمت نفس اسلوب الآية التي سبقتها، فلم تقل: لا تأكلوا مال اليتيم وحسب، وإنّما قالت: «وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ».

وفي هذا التعبير تأكيد

على حرمة مال اليتيم. ولكن قد تكون هذه الآية حجة لبعض الجهلاء الذين سيتركون مال اليتامى يُهدر ويكون عرضة للحوادث بدون أن يكون عليه قيّم، لذلك استثنت بقوله: «إِلَّا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ». وبناء على هذا الاستثناء يمكن التصرف بأموال اليتامى بشرط حفظ هذه الأموال، وتنميتها وتكثيرها. وهذا الوضع يستمر إلى أن يبلغ اليتيم سن الرشد ويستطيع فكرياً واقتصادياً أن يكون قيّماً على نفسه وأمواله «حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 83

خامساً: تشير الآية بعد ذلك إلى الوفاء بالعهد فتقول: «وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسُولًا». إنّ الكثير من العلاقات الاجتماعية وخطوط النظام الاقتصادي والمسائل السياسية قائمة على محور العهود، بحيث إذا ضعف هذا المحور وانهارت الثقة بين الناس، فسينهار النظام الاجتماعي وستحل الفوضى

سادساً: آخر حكم من الأحكام الستة، يتصل بالعدل في الوزن والكيل ورعاية حقوق الناس في ذلك ومحاربة التطفيف في الميزان حيث تقول الآية الكريمة: «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا».

وعادة، فإنّ الحق والعدل والنظام والحساب، كل هذه الامور تعتبر أصولًا أساسية للحياة، بل وتدخل في نظام الوجود والخلق، لذلك فابتعاد الناس عن هذا الأصل- خصوصاً بالنسبة لبخس الكيل والتطفيف في الميزان- يؤدّي إلى إنزال ضربة شديدة بالثقة التي تعتبر جوهر استقرار التعامل الإقتصادي بين الناس.

«قسطاس»: بكسر القاف أو ضمّها على وزن «مقياس» وأحياناً تقاس على وزن «قرآن» بمعنى «الميزان» والبعض يعتبرها كلمة رومية، بينما البعض يرى بأنّها كلمة عربية.

وهناك من يقول بأنّها مركبة من كلمتين هما «قسط» بمعنى العدل و «طاس» بمعنى كفّة الميزان.

وَ لَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَ لَا تَمْشِ فِي

الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39) أَ فَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَ اتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً (40)

الإنقياد للعلم: في الآيات السابقة وقفنا على مجموعة من الاصول والأحكام الإسلامية وفي الآيات التي نبحثها الآن نلتقي مع آخر مجموعة من سلسلة هذه الأحكام حيث تشير الآيات أعلاه إلى عدّة أحكام مهمة:

أوّلًا: في البداية ينبغي للإنسان المسلم أن يلتزم الدقة في كل الامور ويجعل العلم رائده

مختصر الامثل، ج 3، ص: 84

«وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ». وفي النهاية تعلّل الآية عدم اتباع ما دون العمل، فتقول: «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسُولًا».

والسؤال الذي تواجه به الأعضاء المذكورة يعود إلى مسؤولياتها عن الأعمال، إذ السمع مسؤول عن الكلام المشكوك غير الموثق، والبصر عن موارد ادعاء الإنسان للمشاهدة والرؤية مع أنّه لم يشاهد أو يرى، والفؤاد يُسأل عن الأفكار الخاطئة التي تدخل في الأحكام الخاطئة.

ثانياً: الكبر والغرور: الآية التي بعدها تدعو إلى محاربة الكبر والغرور، وتنهي المؤمنين عن هاتين الصفتين حيث تخاطب النبي صلى الله عليه و آله بالقول: «وَلَا تَمْشِ فِى الْأَرْضِ مَرَحًا» «1». وهذه إشارة إلى سلوك المتكبرين والمغرورين الذي يضربون الأرض بعنف أثناء مشيهم لكي يلتفت الناس إليهم، ويرفعون رؤوسهم في السماء علامة على أفضليتهم المزعومة بين الناس، لهؤلاء تقول الآية: «إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا». إذ مثل هؤلاء كالنملة التي تمشي على صخرة كبيرة وتضرب برجلها عليها، إلّا أن الصخرة تسخر من

حماقتها.

ويمكن أن نفهم من خلال هذه الآية، وما ذكر في القرآن الكريم أنّ التكبر والغرور مرفوضان بشكل عام. لماذا؟ لأنّ الغرور هو مصدر الغربة عن اللَّه وعن النفس السليمة، وهو سبب الخطأ في الحكم والقضاء، وسبيل ضياع الحق والإِرتباط بخط الشيطان والتلوث بأنواع الذنوب.

البرنامج الحياتي العملي لقادة الإسلام يعتبر درساً مفيداً لكل مسلم حقيقي في هذا المجال.

ففي سيرة الرسول صلى الله عليه و آله نرى أنّه لم يكن يسمح لأحد أن يمشي بين يديه وهو راكب.

ونقرأ- أيضاً- أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان يجلس على التراب تواضعاً، ويأكل الطعام كما يأكله العبيد، وكان يحلب الماعز بنفسه، ويركب الدابة دون غطاء. وقد كان الرسول صلى الله عليه و آله يلتزم هذا السلوك في كل مواقفه حتى عند فتح مكة.

وفي سيرة الإمام علي عليه السلام نقرأ أنّه كان يجلب الماء إلى البيت، وفي بعض الأحيان كان ينظّف البيت.

أمّا في سيرة الإمام الحسن عليه السلام فنقرأ أنّه عليه السلام حج إلى بيت اللَّه عشرين مرّة مشياً على

______________________________

(1) «مَرَح»: على وزن فَرَح، وهي تعني الفرح الشديد قبال موضوع باطل لا أساس له.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 85

الأقدام، والنجائب (المحامل والدواب) تقاد بين يديه، وكان عليه السلام يبيّن أنّ هذا العمل تواضع للَّه تعالى.

أمّا الآية التي بعدها فهي تؤكّد على ما تمّ تحريمه في الآيات السابقة كالشرك وقتل النفس والزنا وقتل الأولاد والتصرف في مال اليتيم وإيذاء الوالدين وما شابه ذلك، حيث تقول الآية: «كُلُّ ذلِكَ كَانَ سَيّئُهُ عِندَ رَبّكَ مَكْرُوهًا».

ومن هذا التعبير يتّضح أنّ اللَّه سبحانه وتعالى ليس فقط لايجبر الإنسان على الذنب، وإنّما لا يريد له (بمعنى لا يرغب ولا يَود) أن يرتكب الذنب أيضاً،

وإلّا لو كان الأمر كما يقول أصحاب مذهب الجبر، لما أكد اللَّه سبحانه وتعالى على كراهيه هذه الذنوب.

ثالثاً: لا تكن مشركاً: من أجل التأكيد أكثر على أنّ كل هذه التعليمات إنّما تصدر من الوحي وتتسم بالحكمة، تقول الآية: «ذلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ».

إنّ هذه التعاليم ثابتة عن طريق العقل كما هي ثابتة عن طريق الوحي الإلهي. وعادة ما تكون جميع الأحكام الإلهية على هذه الشاكلة، بالرغم من أنّ الإنسان لا يستطيع في كثير من الأحيان أن يشخص انسجام جزئيات الأحكام الإلهية مع العقل بحكم عدم كماله، ويبقى بعد ذلك الوحي هو المجال الوحيد لمصداقية دركها والإيمان بها.

بعد ذلك ينتهي الحديث عن مجموع هذه الأحكام بنفس البداية التي انطلق منها، حيث يقول تعالى: «وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ». لماذا؟ لأنّ المصير سيكون «فَتُلْقَى فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا». إنّ الشرك هو أساس جميع الإنحرافات والجرائم والذنوب، لذلك فإنّ هذه المجموعة من الأحكام بدأت بالشرك وانتهت به.

آخر آية- من الآيات التي نبحثها- تشير إلى واحدة من الأفكار الخرافية للمشركين، إذ الكثير منهم كان يعتقد بأنّ الملائكة هم بنات اللَّه، في حين أنّهم كانوا يعتبرون البنت عاراً وشناراً، وولادتها في بيت يؤدّي إلى سوء الحظ. القرآن يُساير هذا المنطق فيقول لهم:

«أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلِكَةِ إِنثًا».

إنّ البنات- بدون شك- كالبنين، هم عطايا الإله ومواهبه، ولا يوجد أي تفاوت بينهم في القيمة الإنسانية. هدف القرآن هو مقابلنهم بمنطقهم فيقول لهم: كيف تنسبون لربّكم ما تحسبوه عاراً لكم؟

بعد ذلك يقول القرآن بأسلوب قاطع: «إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا». إذ هذا الكلام لا

مختصر الامثل، ج 3، ص: 86

يتلاءم مع أي منطق ويعتبر ضعيفاً من عدّة جهات، هي: 1- إنّ الإعتقاد

بوجود ابن للَّه يعتبر إهانة عظيمة لمحضره المقدّس، لأنّه سبحانه وتعالى ليس بجسم، وليست فيه الصفات الجسمانية، ولا يحتاج في بقائه إلى النسل. لذا فالإعتقاد بهذا الأمر يدل على عدم المعرفة بالصفات الإلهية.

2- كيف تعتقدون بأنّ أولاد اللَّه كلّهم بنات، في حين أنّكم ترون البنات أدنى مكانة واحتراماً من الأولاد؟ هذا الإعتقاد السفية يعتبر إهانة اخرى إلى مقام اللَّه تبارك وتعالى.

3- هذا الإعتقاد يعتبر إهانة لمقام ملائكة اللَّه الذين يعتبرون من المقربين للعرش، فأنتم تصابون بالرعب بمجرد سماع كلمة «بنت»، في حين تعتبرون هؤلاء المقربين من العرش إناثاً؟

وَ لَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَ مَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)

كيف يفرّون من الحق؟ كان الحديث في الآيات السابقة يتعلق بقضيتي التوحيد والشرك، لذا فإنّ هذه الآيات تتابع هذا الموضوع بوضوح وقاطعية أكبر، ففي البداية تتحدث عن لجاجة بعض المشركين وعنادهم في قبال أدلة التوحيد فتقول: «وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هذَا الْقُرْءَانِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا».

«صرّف»: مشتقّة من «تصريف» وتعني التغيير والتحويل، وكونها على وزن «تفعيل» يؤكّد معنى الكثرة، وبما أنّ القرآن يستخدم تعابير متنوعة وفنوناً كلامية مختلفة من أجل تنبيه المشركين، إذ يستخدم الاستدلال العقلي المنطقي والفطري أو التهديد والترغيب، لذا فإنّ كلمة «صرّفنا» تناسب هذا التنوع في هذا المقام.

وهنا قد يطرح هذا السؤال: إذاً ما الفائدة من ذكر كل ذلك، إذا كانت النتائج معكوسة؟

إنّ جواب هذا السؤال

واضح، إذ أنّ القرآن لم ينزل لفرد أو لمجموعة خاصه، ولكنه للمجتمع كافة، وطبيعي أنّ جميع الناس ليسوا على منوال المعاندين، إذ هناك الكثير ممن يتّبع

مختصر الامثل، ج 3، ص: 87

طريق الحق إذا استبانت له أدلته كما في هذا النوع من الأدلة القرآنية، بالرغم من أنّها تؤدّي بمجموعة اخرى من فاقدي بصيرة القلب إلى المزيد من العناد.

الآية التي بعدها تشير إلى واحد من أدلة التوحيد والذي يعرف بين العلماء والفلاسفة بعنوان «دليل التمانع» إذ الآية تقول للنبي صلى الله عليه و آله: قل لهم: «قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءَالِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَّابْتَغَوْا إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلًا».

وبما أنّ كل صاحب قدرة يسعى لمدّ قدرته وتكميلها، لذا فإنّ وجود عدّة آلهة يؤدّي إلى التنازع والتمانع فيما بينهم حول الحكم والسلطة في عالم الوجود.

وبما أنّ كلام المشركين وعباراتهم توحي بأنّهم نزلوا في إدراكهم للَّه عزّ وجلّ إلى مستوى أن يكون طرفاً للنزاع، لذا فإنّ الآية تقول بعد ذلك مباشرة: «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا».

ثم لأجل إثبات عظمة الخالق وأنّه منزّه عن خيالات واعتقادات وأوهام المشركين، تتحدث الآية التالية عن تسبيح كائنات الوجود لذاته المقدّسة إذ تقول: «تُسَبّحُ لَهُ السَّموَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ». ثم تتطرق الآية إلى أنّ التسبيح لا يقتصر على ما هو موجود في السماوات والأرض، وإنّما ليس هناك موجود إلّاويسبّح ويحمد اللَّه، ولكن لا تدركون تسبيحهم: «وَإِن مِّن شَىْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِن لَّاتَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ». ومع ذلك:

«إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا». أي: لا يؤاخذكم ولا يعاقبكم بسبب كفركم وشرككم مباشرة، ولكن يمهلكم بالقدر الكافي، ويفتح لكم أبواب التوبة ويتركها مفتوحة لإتمام الحجة.

وَ إِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً

(45) وَ جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَ إِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَ إِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: نزل قوله «وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ» الآية في قوم كانوا يؤذون

مختصر الامثل، ج 3، ص: 88

النبي صلى الله عليه و آله بالليل إذا تلا القرآن وصلّى عند الكعبة، وكانوا يرمونه بالحجارة ويمنعونه عن دعاء الناس إلى الدين، فحال اللَّه سبحانه بينه وبينهم حتى لا يؤذوه. وروي- في تفسير الكبير- عن ابن عباس، أنّ أبا سفيان والنضر بن الحرث وأبا جهل وغيرهم كانوا يجالسون النبي صلى الله عليه و آله ويستمعون إلى حديثه، فقال النضر يوماً: ما أدري ما يقول محمّد غير أنّي أرى شفتيه تتحركان بشي ء. وقال أبو سفيان: إنّي لأرى بعض ما يقوله حقّاً. وقال أبو جهل: هو مجنون. وقال أبو لهب: هو كاهن. وقال حويطب بن عبد العزى: هو شاعر. فنزلت هذه الآية: «وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ ...».

التّفسير

المغرورون وموانع المعرفة: بعد الآيات السابقة قد يطرح الكثيرون هذا السؤال: رغم وضوح قضية التوحيد بحيث إنّ جميع مخلوقات العالم تشهد بذلك؛ فلماذا- إذن- لا يقبل المشركون هذه الحقيقة ولا ينصاعون للآيات القرآنية بالرغم من سماعهم لها؟

الآيات التي نبحثها يمكن أن تكون جواباً على هذا السؤال، إذ تقول الآية الاولى: «وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالْأَخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا». وهذا الحجاب والساتر هو نفسه التعصب واللجاجة والغرور والجهل، حيث تقوم هذه

الصفات بصدّ حقائق القرآن عن أفكارهم وعقولهم ولا تسمح لهم بدرك الحقائق الواضحة مثل التوحيد والمعاد وصدق الرسول في دعوته وغير ذلك.

أمّا الآية التي بعدها فتقول: «وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا». أي:

إنّنا غطّينا قلوبهم بأستار لكي لا يفهموا معناه، وجعلنا في آذانهم ثقلًا. لذلك فإنّهم: «وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى الْقُرْءَانِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا».

ثم يضيف اللَّه تبارك وتعالى مرّة اخرى: «نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ». أي: إنّ اللَّه تعالى يعلم الغرض من استماعهم لكلامك وحضورهم في مجلسك و «إِذْ هُمْ نَجْوَى يتشاورون ويتناجون «إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا». إذ إنّهم لايأتون إليك من أجل سماع كلامك بقلوبهم وأرواحهم، بل هدفهم هو التخريب، وتصيّد الأخطاء.

الآية الأخيرة خطاب للنبي صلى الله عليه و آله وبالرغم من أنّ عبارة الآية قصيرة، إلّاأنّها كانت قاضية بالنسبة لهذه المجموعة حيث قالت: «انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْامْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا». والآية لا تعني أنّ الطريق غير واضح والحق خاف، بل على أبصارهم غشاوة، وقلوبهم مغلقة دون الإستجابة للحق، وعقولهم معطلة عن الهدى بسبب الجهل والحقد والتعصب والعناد.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 89

وَ قَالُوا أَ إِذَا كُنَّا عِظَاماً وَ رُفَاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَ يَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)

حتمية البعث ويوم الحساب: الآيات السابقة تحدّثت عن التوحيد وحاربت الشرك، أمّا الآيات التي نبحثها الآن فتتحدّث عن المعاد والذي يعتبر مكمّلًا

للتوحيد.

الآيات التي نحن بصددها أجابت على ثلاثة أسئلة- أو شكوك- يثيرها منكرو المعاد، ففي البداية تحكي الآيات على لسان المنكرين استفهامهم: «وَقَالُوا أَءِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا» «1».

إنّ التعبير القرآني في هذه الآية الكريمة يدلل على أنّ الرسول صلى الله عليه و آله كان يبيّن في دعوته «المعاد الجسماني» بعد موت الإنسان، إذ لو كان الكلام عن معاد الروح فقط، لم يكن ثمّة سبب لإيراد مثل هذه الإشكالات من قبل المعارضين والمنكرين.

القرآن في إجابته على هؤلاء يبيّن أنّ قضية بعث عظام الإنسان سهلة وممكنة، بل وأكثر من ذلك، فحتى لو كنتم حجارة أو حديداً: «قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا». وحتى لو كنتم أشدّ من الحجر والحديد وأبعد منهما من الحياة: «أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ». فإنّ البعث سيكون مصيركم.

السؤال التشكيكي الآخر الذي يثيره منكرو المعاد هو: إذا سلّمنا بأنّ هذه العظام المندثرة المتلاشية يمكن أن تعود إلى الحياة، فمن يستطيع أن يقوم بهذا الأمر، ومن الذي له قدرة القيام بهذه العملية المعقّدة للغاية؟

هذا السؤال تصوغه الآية بالقول على لسان المنكرين: «فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا».

القرآن يجيب على هذا السؤال حيث يقول: «قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أوَّلَ مَرَّةٍ».

بعد الانتهاء من الشك الأوّل والثاني الذي يطلقه المنكرون للمعاد، تنتقل الآيات إلى الشك الثالث الذي تصوغه على لسانهم بهذا السؤال: «فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ». «سينغضون»: مشتقة من مادة «إنغاض» بمعنى مدّ الرأس نحو الطرف المقابل بسبب التعجب.

______________________________

(1) «رُفات»: على وزن «كُرات» وهو معنى يطلق على كل شي ء قديم ومتلاش.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 90

ما يقصده هؤلاء من سؤالهم هو قولهم: لو اعترفنا بقدرة الخالق على إعادة بعث الإنسان من التراب من جديد، فإنّ هذا يبقى مجرّد

وعد لا ندري متى يتحقق، إذا كان سيحصل هذا في آلاف أو ملايين السنين القادمة فما تأثيره في يومنا هذا ... إنّ المهم أن نتحدّث عن الحاضر لا عن المستقبل!

ويجيب القرآن بقوله: «قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا». إنّ يوم المعاد- طبعاً- قريب، لأنّ عمر العالم والحياة على الأرض، مهما طالت، فإنّها في قبال الحياة الأبدية تعتبر لا شي ء، إذ هي مجرّد لحظات سريعة وعابرة وسرعان ما تنتهي.

إضافة إلى ذلك، فإنّ القيامة إذا كانت في تصوراتنا المحدودة بعيدة فإنّ مقدمة القيامة والتي هي الموت، تعتبر قريبة منا جميعاً، لأنّ الموت هو القيامة الصغرى (إذا مات الإنسان قامت قيامته)، صحيح أنّ الموت لا يمثل القيامة الكبرى، ولكنه علامة عليها ومذكّر بها.

في الآية التي بعدها إشارة إلى بعض خصوصيات القيامة في قوله تعالى: «يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ». أي: إنّ بعثكم يكون يوم يدعوكم من القبور فتمتثلون لأمره طوعاً أو كرهاً، والآية- بالطبع- تتحدث عن خصوصية يوم القيامة لا عن موعد القيامة.

في ذلك اليوم ستظنون أنّكم لبثتم قليلًا في عالم ما بعد الموت (البرزخ) وهو قوله تعالى:

«وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا». إنّ هذا الإحساس سيطغى على الإنسان في يوم القيامة، وهو يظن أنّه لم يلبث في عالم البرزخ إلّاقليلًا، بالرغم من طول الفترة التي قضاها هناك، وهذه إشارة إلى أنّ حياة البرزخ لا تعتبر في مدتها شيئاً في قبال عالم الخلود الاخروي.

وَ قُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى

بَعْضٍ وَ آتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَ لَا تَحْوِيلًا (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً (57)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 91

التعامل المنطقي مع المعارضين: الآيات السابقة تعرّضت لقضية المبدأ والمعاد، أمّا الآيات التي نحن بصددها فهي توضّح أسلوب المحادثة والاستدلال مع المعارضين وخصوصاً المشركين، لأنّه مهما كان المذهب عالي المستوى، والمنطق قويّاً، فإنّ ذلك لا تأثير له ما دام لا يتزامن مع اسلوب صحيح للبحث والمجادلة مرفقاً بالمحبة بدلًا من الخشونة، لذا فإنّ أوّل آية من هذه المجموعة تقول: «وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُوا الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ».

الأحسن من حيث المحتوى والبيان، والأحسن من حيث التلازم بين الدليل ومكارم الأخلاق والأساليب الإنسانية، ولكن لماذا يستعمل هذا الاسلوب مع المعارضين؟

الجواب: إذا ترك الناس القول الأحسن واتبعوا الخشونة في الكلام والمجادلة ف «إِنَّ الشَّيْطنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ» ويثير بينهم الفتنة والفساد، فلا تنسوا: «إِنَّ الشَّيْطنَ كَانَ لِلْإِنْسنِ عَدُوًّا مُّبِينًا».

وكلمة «عبادي» خطاب للمؤمنين، حيث تعلّمهم الآية اسلوب النقاش مع الأعداء، فقد يحدث في بعض الأحيان أن يتعامل المؤمنون الجدد بخشونة مع معارضي عقيدتهم ويقولون لهم بأنّهم من أهل النار والعذاب، وأنّهم ضالون، قد يكون هذا الموقف سبباً في أن يقف المعارضون موقفاً سلبياً إزاء دعوة الرسول صلى الله عليه و آله.

اضافة لذلك، فإنّ الإتهامات التي يطلقها المشركون ضد شخص رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ويتهمونه فيها بالسحر والجنون والكهانة والشعر، قد تكون سبباً في أن يفقد المؤمنون السيطرة على أنفسهم ويبدأوا بالتشاجر مع المشركين ويستخدموا الألفاظ الخشنة ضدّهم ... القرآن يمنع المؤمنين من هذا العمل

ويدعوهم إلى التزام اللين والتلطّف بالكلام واختيار أفضل الكلمات في اسلوب التخاطب، حتى يأمنوا من إفساد الشيطان.

الآية التي بعدها تضيف: «رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ».

وفي آخر الآية مواساة للرسول صلى الله عليه و آله الذي كان يتأذى ويتألم من عدم إيمان المشركين، إذ يقول تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا».

إنّ مسؤوليتك- يا رسول اللَّه- هي الإبلاغ الواضح، والدعوة الحثيثة نحو الحق، فإذا آمنوا فهو الأفضل، وإن لم يؤمنوا فسوف لن يصيبك ضرر.

الآية التالية ذهبت أكثر من الآية السابقة في التعبير عن إحاطة اللَّه تبارك وتعالى وعلمه بأعمال ونيات عباده، فقالت: «وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ». ثم أضافت:

مختصر الامثل، ج 3، ص: 92

«وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيّينَ عَلَى بَعْضٍ وَءَاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا».

هذا التعبير القرآني جواب على أحد أسئلة المشركين وشكوكهم، حيث كانوا يقولون- باسلوب استهزائي- لماذا انتخب اللَّه للنبوة محمّد اليتيم، ثم ما الذي حصل حتى أصبح هذا اليتيم ليس نبياً وحسب، وإنّما خاتم الأنبياء. القرآن يقول لهؤلاء: لا تعجبوا من ذلك، لأنّ اللَّه عليم بقيمة كل إنسان، وهو سبحانه وتعالى ينتخب أنبياءه من بين عامّة الناس، ويفضّل بعضهم على بعض، إذ جعل أحدهم (خليل اللَّه) والآخر (كليم اللَّه) والثالث (روح اللَّه)، أمّا نبينا فقد أنتخبه بعنوان (حبيب اللَّه).

وباختصار: لقد فضّل اللَّه بعض النبيين على بعض لموازين يعلمها هو وتختص بها حكمته جلّ وعلا.

بالرغم من أنّ داود عليه السلام كان له حكم عظيم ودولة كبيرة وملك واسع، إلّاأنّ اللَّه سبحانه لم يجعل هذه الامور سبباً لإفتخاره، بل اعتبر كتاب الزبور فخره، حتى يدرك المشركون أنّ عظمة الإنسان، ليس لها علاقة بالمال والثروة ووجود الحكومة والسلطة، كما أنّ اليتم والفقر ليس مدعاةً للذل أو

دليلًا على الحقارة.

الآية التي تليها تستمر في اتجاه الآيات السابقة، إذ تقول للرسول صلى الله عليه و آله أن يخاطب المشركين بقوله تعالى: «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا».

إنّ هذه الآية- كما في آيات اخرى كثيرة- تبطل منطق المشركين وتضرب صميم عقيدتهم من هذا الطريق، وهو أنّ عبادة الآلهة من دون اللَّه، إمّا بسبب جلب المنفعة أو دفع الضرر، في حين أنّ الآلهة التي يعبدونها ليس لها القدرة على حل مشكلة معينة أو حتى تحريكها؛ أي نقل المشكلة من مستوى معين إلى مستوى أقل.

إنّ استخدام تعبير «الذين» في هذه الآية لا يشمل جميع المعبودات التي يشركها الإنسان مع اللَّه (كالأصنام وغيرها) بل يشمل الملائكة والمسيح وأمثالهم.

بعد ذلك تؤكّد الآية التالية على ما ذكرناه في الآية السابقة، فتقول: هل تعلمون لماذا لا يستطيع الذين تدعونهم من دون اللَّه أن يحلّوا مشاكلكم، أو أن يجيبوا لكم طلباتكم بدون إذن اللَّه سبحانه وتعالى؟ الآية تجيب على ذلك بأنّ هؤلاء أنفسهم يذهبون إلى بيت اللَّه، ويلجأون للتقرب من الذات الإلهية المقدسة لقضاء حوائجهم وحلّ مشاكلهم وتحقيق ما

مختصر الامثل، ج 3، ص: 93

يريدونه: «أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا».

إنّ كلمة «الوسيلة» يشمل كل عمل جميل ولائق، وتدخل في مفهومها كل صفة بارزة اخرى، لأنّ كل هذه الامور تكون سبباً في التقرب من اللَّه.

وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً (58) وَ مَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَ آتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَ مَا

نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفاً (59) وَ إِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَ مَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَ نُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً (60)

بعد أن تحدثت الآيات السابقة مع المشركين في قضايا التوحيد والمعاد، تبدأ أوّل آية من هذه الآيات بكلام على شكل نصيحة لتوعيتهم، حيث تجسم هذه الآية النهاية الفانية لهذه الدنيا أمام عقولهم حتى يعرفوا أنّ هذه الدنيا دار زوال وأنّ البقاء الأبدي في مكان آخر، لذلك ما عليهم إلّاتهيئة أنفسهم لمواجهة نتائج أعمالهم، حيث تقول الآية: «وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيمَةِ أَوْ مُعَذّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا». فالطغاة والظالمون نبيدهم بواسطة العذاب، أمّا الآخرون فيهلكون بالموت أو الحوادث الطبيعية.

وأخيراً، فإنّ هذه الدنيا زائلة والكل يسلك طريق الفناء: «كَانَ ذلِكَ فِى الْكِتَابِ مَسْطُورًا». و «الكتاب» هنا هو نفس اللوح المحفوظ وهو العلم اللامتناهي للخالق جلّ وعلا، ومجموعة القوانين الإلهية التي لا يمكن التخلف عنها في عالم الوجود هذا.

وهنا قد يقول المشركون: نحن لا مانع لدينا من الإيمان ولكن بشرط أن يقوم الرسول صلى الله عليه و آله بجميع المعجزات التي نقترحها عليه، أي أن يستسلم لحججنا، القرآن يجيب أمثال هؤلاء بقوله تعالى: «وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْأَيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ».

الآية تشير إلى أنّ اللَّه تبارك وتعالى أرسل معجزات كثيرة وكافية للدلالة على صدق الرسول صلى الله عليه و آله، أمّا ما تقترحونه من معجزات فهي غير مقبولة، لأنّكم بعد وقوعها ومشاهدتها سوف لا تؤمنون، بدليل أنّ الأمم السابقة والتي كانت أوضاعها وحالاتها

مختصر الامثل، ج 3، ص: 94

مماثلة لأوضاعكم وحالاتكم، اقترحت نفس الإقتراحات ثم لم تؤمن بعد ذلك.

تشير الآية بعد

ذلك إلى نموذج واضح لهذه الحالة فتقول: «وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً».

لقد طلب قوم صالح الناقة فاخرجها اللَّه لهم من الجبل، وأجيبت بذلك المعجزة التي طلبوها، وقد كانت معجزة واضحة وموضّحة! ولكن بالرغم من كل ذلك «فَظَلَمُوا بِهَا».

وعادة فإنّه ليس من مقتضيات البرنامج الإلهي أن يستجيب لأيّ معجزة يقترحها إنسان، أو ينصاع إلى تنفيذها الرسول، ولكن الهدف هو: «وَمَا نُرْسِلُ بِالْأَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا».

ثم يواسي اللَّه تبارك وتعالى نبيّه صلى الله عليه و آله في مقابل عناد المشركين وإلحاحهم بالباطل، إذ يبيّن له أن ليس هذا بالشي ء الجديد: «وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ». ففي قبال دعوة الأنبياء عليهم السلام هناك دائماً مجموعة مؤمنة نظيفة القلب نقيّة السريرة، صافية الفطرة، في مقابل مجموعة اخرى معاندة مكابرة لجوجة تتحجج وتجد لنفسها المعاذير في معاداة الدعوات وإيذاء الأنبياء، وهكذا يتشابه الحال بين الأمس واليوم.

ثم يضيف تعالى: «وَمَا جَعَلْنَا الرُّءْيَا الَّتِى أَرَيْنكَ إِلَّا فِتْنَةً لّلنَّاسِ». وامتحاناً لهم، وكذلك الشجرة الملعونة هي أيضاً امتحان وفتنة للناس: «وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِى الْقُرْءَانِ».

وفي الختام يأتي قوله تعالى: «وَنُخَوّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا». لماذا؟ لأنّه ما دام قلب الإنسان غير مستعد لقبول الحق والتسليم له، فإنّ الكلام ليس لا يؤثّر فيه وحسب، بل إنّ له آثاراً معكوسة، حيث يزيد في ضلال هؤلاء وعنادهم بسبب تعصبهم ومقاومتهم السلبية وانغلاق نفوسهم عن الحق. (تأمّل ذلك).

رؤيا النبي صلى الله عليه و آله والشجرة الملعونة: مجموعة من المفسرين الشيعة والسنّة، نقلوا أنّ هذه الرؤيا إشارة للحادثة المعروفة والتي رأى فيها النبي صلى الله عليه و آله في المنام أنّ عدداً من القرود تصعد منبره وتنزل منه (تنزو على منبره صلى الله عليه و آله)، وقد حزن صلى الله

عليه و آله كثيراً لهذا الأمر بحيث لم ير ضاحكاً من بعدها إلّاقليلًا (وقد تمّ تفسير هذه القرود التي تنزو على منبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ببني أمية الذين جلسوا مكان النبي صلى الله عليه و آله الواحد تلو الآخر، يقلّد بعضهم بعضاً، وكانوا ممسوخي الشخصية، وقد جلبوا الفساد للحكومة الإسلامية، وخلافة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله).

ومن الممكن أن تكون (الشجرة الملعونة) في القرآن إشارة إلى أي مجموعة منافقة وخبيثة

مختصر الامثل، ج 3، ص: 95

ومطرودة من رحمة اللَّه تعالى ومقام الربوبية، خصوصاً تلك المجاميع مثل بني أمية واليهود قساة القلب، والمعاندين وكل الذين يسيرون على خطاهم. وشجرة الزقوم في القيامة تمثّل الأشجار الخبيثة في العالم الآخر، وكل هذه الأشجار الخبيثة (المجاميع المعنيّة) هي لاختبار وتمحيص المؤمنين الصادقين في الحياة الدنيا.

وَ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قَالَ أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً (63) وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ وَ شَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَ الْأَوْلَادِ وَ عِدْهُمْ وَ مَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَ كَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)

هذه الآيات تشير إلى قضية امتناع إبليس عن إطاعة أمر اللَّه في السجود لآدم عليه السلام، والعاقبة السيئة التي انتهى إليها.

إنّ طرح هذه القضية بعد ما ذكر عن المشركين المعاندين هو إشارة إلى أنّ الشيطان يعتبر نموذجاً كاملًا للإستكبار والكفر والعصيان. ثمّ انظروا إلى أين وصلت عاقبته، لذا فإنّ من يتبعه

سيصير إلى نفس العاقبة. الآية تقول: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلِكَةِ اسْجُدُوا لِأَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ».

إنّ هذه السجدة التي أمر اللَّه تعالى بها هي نوع من الخضوع والتواضع بسبب عظمة خلق آدم عليه السلام وتميّزه عن سائر الموجودات، أو هي سجود للخالق جلّ وعلا في قبال خلقه لهذا المخلوق المتميز.

فقد سيطر الكبر والغرور على إبليس وتحكّمت الأنانية في عقله، ظنّاً منه بأنّ التراب والطين اللذان يعتبران مصدراً لكل الخيرات ومنبعاً للحياة أقل شأناً وأهمية من النار، لذا اعترض على الخالق جلّ وعلا وقال: «قَالَ ءَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 96

ولكنه عندما طرد- إلى الأبد- من حضرة الساحة الإلهية بسبب استكباره وطغيانه في مقابل أمر اللَّه له، قال: «قَالَ أَرَءَيْتَكَ هذَا الَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيمَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا». «أحتنكن»: مشتقة من «احتناك» وهي تعني قطع جذور شي ء ما. لذا فإنّ هذا القول يشير إلى أنّ إبليس سيحرف كل بني آدم عن طريق اللَّه وطاعته، إلّاالقليل منهم.

ويحتمل أن تكون كلمة «أحتنكن» مشتقة من «حنك» وهي المنطقة التي تحت البلعوم؛ وفي الواقع، فإنّ الشيطان يريد أن يقول بأنّه سيضع حبل الوسوسة في أعناق الناس ويجرهم إلى طريق الغواية والضلال.

وهكذا كان، فقد أعطي الشيطان إمكانية البقاء والفعالية حتى يتحقق الاختبار للجميع، ويكون وجوده سبباً لتمحيص واختبار المؤمنين الحقيقيين لأنّ الإنسان يشتدّ عزمه عندما تهاجمه الحوادث ويقوى عوده في مواجهة الأعداء، لذلك قالت الآية: «قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءًا مَّوْفُورًا». وبهذه الوسيلة للاختبار ينكشف الفاشل من الناجح في الامتحان الإلهي الكبير.

ثم ذكرت الآيات بعد ذلك- باسلوب جميل- الطرق التي ينفذ منها الشيطان والأساليب التي يستخدمها في الوسوسة والإغواء فقالت:

«وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ

مِنْهُم بِصَوْتِكَ ...».

«وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ...».

«وَشَارِكْهُمْ فِى الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلدِ ...».

«وَعِدْهُمْ ...».

ثم يجي ء التحذير الإلهي: «وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطنُ إِلَّا غُرُورًا ...».

ثم اعلم أيّها الشيطان: «إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطنٌ ...». «وَكَفَى بِرَبّكَ وَكِيلًا».

«إستفزز»: مشتقة من «استفزاز» وهي تعني الإثارة؛ الإثارة السريعة والعادية، ولكن الكلمة في الأصل تعني قطع شي ءٍ ما. واستعمال هذه الكلمة هنا للدلالة على تحريك الشخص وإثارته لينقطع عن الحق ويتوجه نحو الباطل.

«اجلب»: مأخوذ من «إجلاب» وفي الأصل من «جلبة» وهي تعني الصرخة الشديدة، والإجلاب تعني الطرد مع الأصوات والصرخات. وأمّا النهي عن «الجلب» الوارد في

مختصر الامثل، ج 3، ص: 97

الروايات فهو إمّا أن يعني أنّ الذي يذهب إلى المزارع لجمع الزكاة يجب عليه أن لا يصيح ويصرخ بحيث يخيف الأحياء، أو أنّه يعني أنّ على المتسابقين عند سباق الخيل أن لا يصرخوا في وجوه الخيل الاخرى لتكون لهم الأسبقية.

«خيل»: لها معنيان، فهي تعني «الخيول» وأيضاً تعني (الخيالة)، أمّا في هذه الآية فقد وردت للتدليل على المعنى الثاني.

أمّا «رَجِل»: فهي تعني معكوس (الخيالة) أي (جيش الرجّالة والمشاة) وبهذا يتكوّن جيش الشيطان من (الخيالة والرجّالة) من جنسه أو من غير جنسه، وهذا يعني أنّ البعض يتأثر بسرعة بغواية الشيطان ويصبح من أعوانه ومساعديه فهؤلاء كالخيّالة، أمّا البعض الآخر فيتأثر ببطء وعلى مهل كالمشاة والرجّالة.

رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَ كَانَ الْإِنْسَانُ كَفُوراً (67) أَ فَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى

فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً (69)

لماذا الكفران مع كل هذه النعم؟ هذه الآيات تابعت البحوث السابقة في مجال التوحيد ومحاربة الشرك، ودخلت في البحث من خلال طريقين مختلفين، هما: طريق الاستدلال والبرهان، وطريق الوجدان ومخاطبة الإنسان من الداخل. ففي البداية تشير الآية إلى التوحيد الاستدلالي فتقول: «رَّبُّكُمُ الَّذِى يُزْجِى لَكُمُ الْفُلْكَ فِى الْبَحْرِ».

طبعاً هناك أنظمة لأجل حركة الفلك في البحار.

تعلمون- طبعاً- بأنّ السفن تعتبر أضخم وسيلة لحمل الإنسان، واليوم فإنّ هناك من السفن العملاقة ما يكون بعضها بمساحة مدينة صغيرة.

ثم يضيف تعالى: «لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ». حتى تساعدكم في أسفاركم ونقل أموالكم

مختصر الامثل، ج 3، ص: 98

وتجارتكم وتعينكم في كل ما يخصّ امور دنياكم ودينكم. أمّا لماذا؟ فلأنّ اللَّه تبارك وتعالى «إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا».

من هذا التوحيد الاستدلالي والذي يعكس جانباً صغيراً من نظام الخلق، وعلم وقدرة وحكمة الخالق جلّ وعلا، تنتقل الآية إلى اسلوب الاستدلال الفطري فتقول: لا تنسوا «وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِى الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ». حيث يضل أي شي ء من دون اللَّه، لأنّ ضرر البحر إذا وقع، كالطوفان وغيره يذهب بكل الحواجز وأستار التقليد والتعصب اللاصقة على صفاء الفطرة الإنسانية، لينكشف نور الفطرة الذي هو نور التوحيد والإيمان والعبودية للَّه دون غيره.

إنّ الآية تعبّر عن قانون عام، عرفه كل من جرّب ذلك، حيث تؤدّي المشاكل والصعوبات الحادّة التي يمرّ بها الإنسان- ويصل السكين العظم- إلى الغاء كل الأسباب الظاهرية التي كان يتعلق بها الإنسان، وتنعدم فاعلية العلل المادية التي كان يتشبث بها، وتنقطع كل الأسباب، إلّاالسبب الذي يصل الإنسان بمصدر العلم والقدرة المطلقتين، والذي هو- لوحده سبحانه وتعالى- قادر على حلّ أعقد

المشكلات.

ثم تضيف الآية: «فَلَمَّا نَجكُمْ إِلَى الْبَرّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا».

مرّة اخرى تغطّي حجب الغرور والغفلة والتعصّب هذا النور الإلهي، ويغطّي غبار العصيان والذنوب وملاهي الحياة المادية فطرة الإنسان ووجدانه.

ولكن هل تظنون أنّ اللَّه لا يستطيع أن ينزل بكم عقابه الشديد وأنتم على اليابسة وفي قلب الصحاري والبراري؟

لذلك تقول الآية: «أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرّ». ثم أضافت: «أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَاتَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا».

بعد ذلك تضيف الآية مذكّرة أمثال هؤلاء بأنّكم هل تظنون أنّ هذه هي المرّة الأخيرة التي تحتاجون فيها إلى السفر في البحر: «أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَاتَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا» «1». أي: لا أحد حينئذٍ

______________________________

(1) «حاصب»: تعني الهواء الذي يحرّك معه الأحجار الصغيرة.

«قاصف»: بمعنى المحطّم، وهي هنا تشير إلى العاصفة الشديدة التي تقلع كل شي ء من مكانه.

«تبيع»: بمعنى تابع، وهي تشير هنا إلى الشخص الذي ينهض للمطالبة بالدم، وثمن الدم والثأر ويستمر في ذلك.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 99

يطالب بدمكم ويثأر لكم منّا.

وَ لَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَ فَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَ لَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَ مَنْ كَانَ فِي هذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَ أَضَلُّ سَبِيلًا (72)

الإنسان سيد الموجودات: إنّ واحدة من أبرز طرق الهداية والتربية، هي التنويه بشخصية الإنسان ومكانته ومواهبه، لذا فإنّ القرآن الكريم وبعد بحوثه عن المشركين والمنحرفين في الآيات السابقة، يقوم هنا بتبيان الشخصية الممتازة للإنسان والمواهب التي منحها إيّاها رب العالمين، لكي لا يلوّث

الإنسان جوهره الثمين، ولا يبيع نفسه بثمن بخس، حيث يقول تعالى: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ».

ثم تشير الآيات القرآنية إلى ثلاثة أقسام من المواهب الإلهية التي حباها اللَّه لبني البشر، هذه المواهب هي أوّلًا: «وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ».

ثم قوله تعالى: «وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيّبَاتِ» ومع الالتفات إلى سعة مفهوم (الطيب) الذي يشمل كل موجود طيّب وطاهر تتّضح عظمة وشمولية هذه النعمة الإلهية الكبيرة.

أمّا القسم الثالث من المواهب فينص عليه قوله تعالى: «وَفَضَّلْنهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا».

لماذا كان الإنسان أفضل المخلوقات؟ إنّا نعلم أنّ الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يتكوّن من قوى مختلفة، مادية ومعنوية؛ جسمية وروحية، وينمو وسط المتضادات، وله استعدادات غير محدودة للتكامل والتقدم.

في كتاب علل الشرايع عن الإمام علي عليه السلام قال: «إنّ اللَّه عزّ وجل ركّب في الملائكة عقلًا بلا شهوة، وركّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركّب في بني آدم كليهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شرّ من البهائم».

الآية التي بعدها تشير إلى موهبة اخرى من المواهب الإلهية التي حباها اللَّه للإنسان، ورتّبت عليه المسؤوليات الثقيلة بسبب هذه المواهب. ففي البداية تشير الآية إلى قضية

مختصر الامثل، ج 3، ص: 100

مختصر الامثل ج 3 149

القيادة ودورها في مستقبل البشر فتقول: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ». يعني أنّ الذين اعتقدوا بقيادة الأنبياء وأوصيائهم ومن ينوب عنهم في كل زمان وعصر، سوف يكونون مع قادتهم ويحشرون معهم، أمّا الذين انتخبوا الشيطان وأئمة الضلال والظالمين والمستكبرين قادة لهم، فإنّهم سيكونون معهم ويحشرون معهم. هذا التعبير والإشارة إلى دور الإمامة وكونها من أسباب تكامل الإنسان، يعتبر في نفس الوقت تحذيراً لكل البشرية كي تدقق في انتخاب القيادة، ولا تعطي

أزمّة وجودها الفكري والحياتي بيد أيّ شخص كان.

ثم تقسّم الآية الناس يوم القيامة إلى قسمين: «فَمَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا» «1». أمّا القسم الآخر فهو: من كان في الدنيا أعمى القلب: «وَمَن كَانَ فِى هذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِى الْأَخِرَةِ أَعْمَى . وطبيعي أن يكون هؤلاء العميان القلوب أضلّ من جميع المخلوقات «وَأَضَلُّ سَبِيلًا».

وفي كتاب التوحيد للصدوق عن الإمام الباقر عليه السلام في قول اللَّه عزّ وجلّ «وَمَن كَانَ فِى هذِهِ أَعْمَى قال: «من لم يدله خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، ودوران الفلك والشمس والقمر والآيات العجيبات، على أنّ وراء ذلك أمر أعظم منه، فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلًا».

لذلك نقرأ في الآيات (124- 126) من سورة طه، قوله تعالى: «وَمَن أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيمَةِ أَعْمَى قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا* قَالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ ءَايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى .

دور القيادة في الإسلام: في الكافي عن الإمام محمّد بن علي الباقر عليه السلام ينقل أنّه عندما كان يتحدّث عن الأركان الأساسية في الإسلام ذكر (الولاية) كخامس وأهم ركن، في حين أنّ الصلاة التي توضّح العلاقه بين الخالق والخلق، والصيام الذي هو رمز محاربة الشهوات، والزكاة التي تحدّد العلاقة بين الخلق والخالق، والحج الذي يكشف الجانب الاجتماعي في

______________________________

(1) «فتيل»: تعني الخيط الرقيق الموجود في شق نوى التمر، وفي المقابل فإنّ «نقير» تعني مؤخرة نوى التمر، بينما تعني «قطمير» الطبقة الرقيقة التي تغطّي نوى التمر. وكل هذه التعابير كناية عن الشي ء الصغير جدّاً والحقير.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 101

الإسلام، اعتبرت الأركان الأربعة الأساسية الاخرى. ثم يضيف الإمام الباقر عليه السلام: «ولم يناد بشى ء

كما نودي بالولاية» لماذا؟ لأنّ تنفيذ الأركان الاخرى لن يتحقق إلّافي ظل هذا الأصل، أي في ظل الولاية «1».

وفي تفسير العياشي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «لا تترك الأرض بغير إمام يحلّ حلال اللَّه ويحرّم حرامه وهو قول اللَّه: (يوم ندعو كلّ أناس بإمامهم).» ثم قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: من مات بغير إمام مات ميتة جاهليّة».

التاريخ يشهد أنّ بعض الامم تكون في الصف الأوّل بين دول العالم واممه بسبب قيادتها العظيمة والكفوءة، ولكن نفس الامّة تنهار وتسقط في الهاوية، برغم امتلاكها لنفس القوى البشرية والمصادر الاخرى، إذا كانت قيادتها ضعيفة وغير كفوءة.

وَ إِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَ إِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَ لَوْ لَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا (74) إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَ ضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً (75)

بما أنّ الآيات السابقة كانت تبحث حول الشرك والمشركين، لذا فإنّ الآيات التي نبحثها تحذّر الرسول صلى الله عليه و آله من وساوس وإغواءات هذه المجموعة، حيث لا يجوز أن يبدي أدنى ضعف في محاربة الشرك وعبادة الأصنام، بل يجب الاستمرار بصلابة أكبر. في البداية تقول الآية أنّ وساوس المشركين كادت أن تؤثّر فيك: «وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا».

ثم بعد ذلك تضيف أنّه لولا نور العصمة وأنّ اللَّه تعالى ثبّتك على الحق: «وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيًا قَلِيلًا».

وأخيراً لو أنّك ركنت اليهم فسوف يكون جزاءك ضعف عذاب المشركين في الحياة الدنيا، وضعف عذابهم في الآخرة: «إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَوةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَاتَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا».

______________________________

(1)

في الكافي عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «بني الإسلام على خمس، على الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والولاية، ولم يُناد بشي ء كما نودي بالولاية».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 102

إن كلّما زاد مقام الإنسان من حيث العلم والوعي والمعرفة والإيمان، ازدادت قيمة وعمق الأعمال الخيّرة التي يقوم بها، وبالتالي سيكون ثوابها أكثر، أمّا الثواب والعقاب فسوف يزداد تبعاً لهذه النسبة. إلهي لا تكلني إلى نفسي: في تفسير مجمع البيان قال ابن عباس إنّه لما نزلت هذه الآية، قال النبي صلى الله عليه و آله: «اللّهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً».

وهذا الدعاء المهم لرسول الهدى صلى الله عليه و آله يعطينا درساً مهمّاً، وهو أنّه يجب أن نذكر اللَّه دائماً ونلتجي ء إليه، ونعتمد على لطفه، حيث إنّ الأنبياء المعصومين لم يسلموا من المزالق بدون نصرة اللَّه وتثبيته لهم، إذن فكيف بنا نحن مع كل ما يحيطنا من أشكال الوسوسة والإغواء الشيطاني.

وَ إِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَ إِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَ لَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)

سبب النّزول

نزلت في أهل مكة لمّا همّوا بإخراج النبي صلى الله عليه و آله من مكة.

التّفسير

مؤامرة خبيثة اخرى: في الآيات السابقة رأينا كيف أنّ المشركين أرادوا من خلال مكائدهم المختلفة أن يحرفوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن الطريق المستقيم، لكن اللَّه أنجاه بلطفه له ورعايته إيّاه، وبذلك فشلت خطط المشركين.

بعد تلك الأحداث، وطبقاً للآيات التي بين أيدينا، وضع المشركون خطّة اخرى للقضاء على دعوة الرسول صلى الله عليه و آله، وهذه الخطّة تقضي بإبعاد الرسول صلى الله عليه و آله عن مسقط رأسه (مكة)

إلى مكان آخر قد يكون مجهولًا وبعيداً عن الأنظار، إلّاأنّ هذه الخطّة فشلت أيضاً بلطف اللَّه أيضاً.

الآية الاولى تقول: «وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا». بخطة دقيقة.

ثم يحذّرهم القرآن بعد ذلك بقوله: «وَإِذًا لَايَلْبَثُونَ خِلفَكَ إِلَّا قَلِيلًا». فهؤلاء سيبادون بسرعة بسبب ذنبهم العظيم في إخراج القائد الكفوء- الذي تذهب نفسه حسرات على

مختصر الامثل، ج 3، ص: 103

العباد- من البلد، إذ يعتبر ذلك أوضح مداليل كفران النعمة، ومثل هؤلاء القوم لا يستحقون الحياة ويستحقون العذاب الإلهي.

إنّ هذا الأمر لا يخص مشركي العرب وحسب، بل هو «سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا». وهذه السنة تنبع من منطق واضح، حيث إنّ هؤلاء القوم لا يشكرون النعم، ويحطّمون مصباح هدايتهم ومنبع النور إليهم بأيديهم، إنّ مثل هؤلاء الأقوام لا يستحقون رحمة الخالق، وإنّ العقاب سيشملهم، ونعلم هنا أنّ اللَّه تبارك وتعالى لا يفرّق بين عباده، وبذلك فإنّ الأعمال المتشابهة في الظروف المتشابهة لها عقاب متشابه، وهذا هو معنى عدم اختلاف سنن الخالق جلّ وعلا.

أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً (78) وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً (79) وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً (80) وَ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً (81)

بعد سلسلة الآيات التي تحدثت عن التوحيد والشرك وعن مكائد المشركين ومؤامراتهم، تبحث هذه الآيات عن الصلاة والدعاء والإرتباط باللَّه والتي تعتبر عوامل مؤثّرة في مجاهدة الشرك، ووسيلة لطرد إغواءات الشيطان من قلب وروح الإنسان، إذ تقول الآيات في البداية: «أَقِمِ

الصَّلَوةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا».

في الروايات التي وصلتنا عن أهل البيت عليهم السلام توضّح لنا أنّ معنى «دلوك» هو زوال الشمس؛ وأمّا «غسق الليل» فإنّها تعني منتصف الليل، حيث إنّ «غسق» تعني الظلمة الشديدة، وأكثر ما يكون الليل ظلمةً في منتصفه.

أمّا «قرآن» فهي تعني كلاماً يقرأ، و «قرآن الفجر» هنا تعني صلاة الفجر.

وبهذا الدليل تعتبر هذه الآية من الآيات التي تشير بشكل إجمالي إلى أوقات الصلوات الخمس، ومع أخذ الآيات القرآنية الاخرى بنظر الاعتبار في مجال وقت الصلوات والروايات الكثيرة الواردة في هذا الشأن، يمكن تحديد أوقات الصلوات الخمس بشكل دقيق.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 104

الآية بعد ذلك تقول: «إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا». والرّوايات الواردة في تفسير هذه الآية تقول إنّ ملائكة الليل والنهار هي التي تشاهد، لأنّه في بداية الصباح تأتي ملائكة النهار لتحل محل ملائكة الليل التي كانت تراقب العباد، وحيث إنّ صلاة الصبح هي في أوّل وقت الطلوع، لذلك فإنّ المجموعتين من الملائكة تشاهدها وتشهد عليها.

وبعد أن تذكر الآية أوقات الصلوات الخمس تنتقل الآية التي بعدها إلى قوله تعالى:

«وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ». المفسرون الإسلاميون المعروفون يعتبرون هذا التعبير إشارة إلى نافلة الليل التي وردت روايات عديدة في فضيلتها.

ثم تقول الآية: «نَافِلَةً لَّكَ». أي: برنامج إضافي علاوة على الفرائض اليومية.

وهذا التعبير اعتبره الكثير بأنّه دليل على وجوب صلاة الليل على الرسول صلى الله عليه و آله، حيث إنّ هذه (النافلة) والتي هي بمعنى (زيادة في الفريضة) تخصّك أنت دون غيرك يا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

في ختام الآية تتوضّح نتيجة هذا البرنامج الإلهي الروحاني الرفيع حيث تقول: «عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا».

ولا

ريب فإنّ المقام المحمود هو مقام مرتفع جدّاً يستثير الحمد، وبما أنّ هذه الكلمة وردت بشكل مطلق، لذا فقد تكون إشارة إلى أنّ حمد الأوّلين والآخرين يشملك.

الروايات الإسلامية تشير إلى أنّ المقام المحمود هو مقام الشفاعة الكبرى. فالنبي صلى الله عليه و آله هو أكبر الشفعاء في ذلك العالم، وشفاعته تشمل الذين يستحقونها.

أمّا الآية التي بعدها فإنّها تشير إلى أحد التعاليم الإسلامية الأساسية والذي ينبع من روح التوحيد والإيمان: «وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ» «1». فأيّ عمل فردي أو اجتماعي لا أبدؤه إلّابالصدق ولا انهيه إلّابالصدق، فالصدق والإخلاص والأمانة هي الخط الأساس لبداية ونهاية مسيرتي.

وفي الحقيقة فإنّ سرّ الانتصار يكمن هنا، وهذا هو طريق الأنبياء والأولياء الربانيين حيث كانوا يتجنّبون كل غش وخداع وحيلة في أفكارهم وأقوالهم وأعمالهم وكل ما يتعارض مع الصدق.

وعادة فإنّ المصائب التي نشاهدها اليوم والتي تصيب الأفراد والمجتمعات والأقوام

______________________________

(1) «مدخل» و «مخرج»: هي تعني الإدخال والإخراج، تؤدّي هنا المعنى المصدري.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 105

والشعوب، إنّما هي بسبب الانحرافات عن هذا الأساس، ففي بعض الأحيان يكون أساس عملهم قائماً على الكذب والغش والحيلة، وفي بعض الأحيان يدخلون إلى عمل معين بصدق ولكنهم لا يستمرون على صدقهم حتى النهاية. وهذا هو سبب الفشل والهزيمة.

أمّا الأصل الثاني الذي يعتبر من ناحية ثمرة لشجرة التوحيد، ومن ناحية اخرى نتيجة للدخول والخروج الصادق في الأعمال، فهو ما ذكرته الآية في نهايتها: «وَاجْعَل لِّى مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا».

وبعد أن ذكرت الآيات (الصدق) و (التوكل) جاء بعدها الأمل بالنصر النهائي، والذي يعتبر بحد ذاته عاملًا للتوفيق في الأعمال، إذ خاطبت الآية الرسول صلى الله عليه و آله بوعد اللَّه تعالى:

«وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ»

«1»، لأنّ طبيعة الباطل الفناء والدمار: «إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا». فللباطل جولة، إلّاأنّه لا يدوم والعاقبة تكون لانتصار الحق وأصاحبه وأنصاره.

وفي الآيات أعلاه تمّت الإشارة إلى ثلاثة عوامل للانتصار، العوامل التي ابتعد عنها مسلمو اليوم، ولهذا السبب نرى هزائمهم المتكررة في مقابل الأعداء والمستكبرين.

والعوامل الثلاثة هي: الدخول الصادق والخالص في الأعمال، والاستمرار على هذه الحالة الصادقة حتى النهاية «رَبّ أدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ». ثمّ الإعتماد على قدرة الخالق جلّ وعلا، والإعتماد على النفس، وترك أيّ إعتماد أو تبعية للأجانب «وَاجْعَل لِّى مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا».

وفي بعض الروايات تمّ تفسير قوله «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ» بقيام دولة المهدي عليه السلام فالإمام الباقر عليه السلام يبيّن أنّ مفهوم الكلام الإلهي هو: «إذا قام القائم عليه السلام ذهبت دولة الباطل».

وفي تفسير نور الثقلين عن الخرايج والجرايح عن حكيمة خبر طويل وفيه لمّا ولد القائم عليه السلام كان نظيفاً مفروغاً منه وعلى ذراعه الأيمن مكتوب: «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا».

إنّ مفهوم هذه الأحاديث لا يحصر المعنى الواسع للآية بهذا المصداق، بل إنّ ثورة المهدي عليه السلام ونهضته هي من أوضح المصاديق حيث تكون نتيجتها الإنتصار النهائي للحق على الباطل في كل العالم.

______________________________

(1) «زهق»: من مادة «زهوق» بمعنى الإضمحلال والهلاك والإبادة، و «زهوق»: على وزن «قبول» صيغة مبالغةوهي تعني الشي ء الذي تمّت إبادته بالكامل.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 106

وخلاصة القول: إنّ حقيقة إنتصار الحق وانهزام الباطل هي تعبير عن قانون عام يجري في مختلف العصور، وإنتصار الرسول صلى الله عليه و آله على الشرك والأصنام، ونهضة المهدي عليه السلام الموعودة وانتصاره على الظالمين في العالم، هما من أوضح المصاديق لهذا القانون العام.

وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا

هُوَ شِفَاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً (82)

القرآن وصفة للشفاء: الآية التي نبحثها الآن تشير إلى التأثير الكبير للقرآن الكريم ودوره البنّاء في هذا المجال حيث تقول: «وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ».

إنّ «الشفاء» هو في مقابل الأمراض والعيوب والنواقص، لذا فإنّ أوّل عمل يقوم به القرآن في وجود الإنسان هو تطهيره من أنواع الأمراض الفكرية والأخلاقية الفردية منها والاجتماعية.

ثم تأتي بعدها مرحلة «الرحمة» وهي مرحلة التخلّق بأخلاق اللَّه، وتفتّح براعم الفضائل الإنسانية في أعماق الأفراد الذين يخضعون للتربية القرآنية.

أمّا الظالمون فإنّهم بدلًا من أن يستفيدوا من هذا الكتاب العظيم، فإنّهم يتمسكون بما لا ينتج لهم سوى الذل والهوان «وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا».

لا ريب أنّ القرآن قادر على هداية الضالين، ولكن بشرط أن يبحث هؤلاء عن الحق، أمّا واقع المعاندين وأعداء الحق فإنّه يكشف عن تعامل هؤلاء سلبياً مع القرآن، ولذلك لا يستفيدون من القرآن، بل يزداد عنادهم وكفرهم، لأنّ تكرار الذنب يكرّس في روح الإنسان حالة الكفر والعناد.

وَ إِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَ نَأَى بِجَانِبِهِ وَ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)

بعد أن تحدثت الآية السابقة عن شفاء القرآن، تشير الآية التي بين أيدينا إلى أحد أكثر الأمراض تجذّراً فتقول: «وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَا بِجَانِبِهِ». ولكن عندما نسلب منه النعمة ويتضرر من ذلك ولو قليلًا: «وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يُوسًا».

«أعرض»: مشتقة من «إعراض» وهي تعني عدم الإلتفات، والمقصود منها هنا هو عدم الإلتفات للخالق عزّ وجل، وإعراض الوجه عنه وعن الحق.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 107

«نأى»: مشتقة من «نأي» وهي على وزن «رأي»

وهي بمعنى الإبتعاد، وعند إضافة كلمة «بجانبه» إليها يكون المعنى التكبر والغرور والتزام المواقف المعادية. ويمكن الاستفادة من مجموع هذه الجملة أنّ الأشخاص الدنيويين يصابون بالغرور عند مجي ء النعم، بحيث إنّهم ينسون واهب ومعطي هذه النعم، ولا يقتصر الأمر على النسيان وحسب، بل ينتقل إلى الإعتراض والتكبّر وعدم الإلتفات للخالق.

جملة «مَسَّهُ الشَّرُّ» تشير إلى أدنى سوء يصيب الإنسان. والمعنى أنّ هؤلاء من الضعف وعدم التحمل بحيث إنّهم ينسون أنفسهم ويغرقون في دوّامة اليأس بمجرد أن تصيبهم أبسط مشكلة.

الآية الثانية تخاطب الرسول صلى الله عليه و آله فتقول: «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ». فالمؤمنون يطلبون الرحمة والشفاء من آيات القرآن الكريم، والظالمون لا يستفيدون من القرآن سوى مزيد من الخسران، أمّا الأفراد الضعفاء فيصابون بالغرور في حال النعمة، ويصابون باليأس في حال ظهور المشاكل ... هؤلاء جميعاً يتصرفون وفق أمزجتهم، هذه الأمزجة التي تتغير وفق التربية والتعليم والأعمال المتكررة للإنسان نفسه.

وفي هذه الأحوال جميعاً فإنّ هناك علم اللَّه الشاهد والمحيط بالجميع وخاصه بالأشخاص المهتدين: «فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا».

«شاكلة»: في الأصل مشتقة من «شكل» وهي تعني وضع الزمام والرباط للحيوان.

و (شكال) تقال لنفس الزمام؛ وبما أنّ طبائع وعادات كل إنسان تقيّده بصفات معيّنة لذا يقال لذلك «شاكلة».

إنّ الشاكلة تطلق على كل عادة وطريقة ومذهب وأسلوب يعطي للإنسان اتجاهاً معيناً.

لذا فإنّ العادات والصفات التي يكتسبها الإنسان بتكرار الأعمال اختيارياً وإرادياً، وكذلك الإعتقادات التي يقتنع بها ويعتمدها بسبب الاستدلال أو التعصب لرأي معين يطلق عليها كلها كلمة «شاكلة».

وَ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ مَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)

ما هي الروح؟ تبدأ هذه الآية في الإجابة على بعض الأسئلة المهمة للمشركين ولأهل

الكتاب، إذ تقول: «وَيَسَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 108

يمكن أن نستفيد من مجموع القرائن الموجودة في الآية أنّ المستفسرين سألوا عن حقيقة الروح الإنسانية، هذه الروح العظيمة التي تميّز الإنسان عن الحيوان، وقد شرّفتنا بأفضل الشرف، حيث تنبع كل نشاطاتنا وفعالياتنا منها، وبمساعدتها نكتشف أسرار العلوم. ولأنّ الروح لها بناء يختلف عن بناء المادة، ولها اصول تحكمها تختلف عن الاصول التي تحكم المادة في خواصها الفيزيائية والكيميائية، لذا فقد صدر الأمر إلى الرسول صلى الله عليه و آله أن يقول لهؤلاء في جملة قصيرة قاطعة: «قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى». ولكي لا يتعجب هؤلاء أو يندهشوا من هذا الجواب فقد أضافت الآية: «وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا». حيث لا مجال للعجب بسبب عدم معرفتكم بأسرار الروح بالرغم من أنّها أقرب شي ء إليكم.

وفي تفسير العياشي عن زرارة عن الإمام الباقر والصادق عليهما السلام عن قوله تعالى «يَسَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ» قالا: «إنّ اللَّه تبارك وتعالى أحد صمد، والصمد الشي ء الذي ليس له جوف، فإنّما الروح خلق من خلقه، له بصر وقوّة وتأييد يجعله في قلوب الرسل والمؤمنين».

إنّ الروح الإنسانية لها مراتب ودرجات، فتلك المرتبة من الروح الموجودة عند الأنبياء والأئمة عليهم السلام، هي في مرتبة ودرجة عالية جدّاً، ومن آثارها العصمة من الخطأ والذنب وكذلك يترتب عليها العلم الخارق. وبالطبع فإنّ روحاً مثل هذه هي أفضل من الملائكة بما في ذلك جبرئيل وميكائيل. (فتدبر)

وَ لَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87)

ما عندك هو من رحمته وبركته: تحدثت

الآيات السابقة عن القرآن، أمّا الآيتان اللتان نبحثهما الآن فهما أيضاً ينصبّان في نفس الإتجاه. ففي البداية تقول الآية: «وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ». وبعد ذلك: «ثُمَّ لَاتَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا». إنّنا نحن الذين أعطيناك هذه العلوم حتى تكون قائداً وهادياً للناس، ونحن الذين إذا شئنا استرجعناها منك، وليس لأحد أن يعترض على ذلك.

الآية التي بعدها جاءت لتستثني، فهي تبيّن أنّنا إذا لم نأخذ ما أعطيناك، فليس ذلك سوى رحمة من عندنا، حيث يقول تعالى: «إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبّكَ». وهذه الرحمة لأجل هدايتك وإنقاذك، وكذلك لهداية وإنقاذ العالم البشري، وهذه الرحمة مكمّلة لرحمة الخلق.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 109

وفي نهاية الآية ولأجل تأكيد المعنى السابق جاء قوله تعالى: «إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا».

إنّ وجود القابلية لهذا الفضل في قلبك الكبير بجهادك وعبادتك من جهة، وحاجة العباد إلى مثل قيادتك من جهة اخرى، جعلا فضل اللَّه عليك كبيراً للغاية فقد فتح اللَّه أمامك أبواب العلم، وأنبأك بأسرار هداية الإنسان، وعصمك من الخطأ، حتى تكون أسوة وقدوة لجميع الناس إلى نهاية هذا العالم.

قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) وَ لَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً (89)

معجزة القرآن: الآيات التي بين أيدينا تتحدّث عن إعجاز القرآن، ولأنّ الآيات اللاحقة تتحدّث عن حجج المشركين في مجال المعجزات، فإنّ الآية التي بين أيدينا مقدمة للبحث القادم حول المعجزات. إنّ اللَّه يخاطب رسوله صلى الله عليه و آله ويقول له: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْءَانِ لَايَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ

لِبَعْضٍ ظَهِيرًا».

إنّ هذه الآية دعت- بصراحة- العالمين جميعهم، صغاراً وكباراً، عرباً وغير عرب، الإنسان أو أيّ كائن عاقل آخر، العلماء والفلاسفة والأدباء والمؤرخين والنوابغ وغيرهم لقد دعتهم جميعاً لمواجهة القرآن، وتحدّيه الكبير لهم، وقالت لهم: إذا كنتم تظنون أنّ هذا الكلام ليس من الخالق وأنّه من صنع الإنسان، فأنتم أيضاً بشر، فأتوا إذاً بمثله، وإذا لم تستطيعوا ذلك بأجمعكم، فهذا العجز أفضل دليل على إعجاز القرآن.

إنّ هذه الدعوة للمقابلة والتي يصطلح عليها علماء العقائد ب «التحدّي» هي أحد أركان المعجزة، وعندما يرد هذا التعبير في أيّ مكان، نفهم بوضوح أنّ هذا الموضوع هو من المعجزات.

و تتحرك الآية التي بعدها لتوضيح جانب من جوانب الإعجاز القرآني، متمثلًا في شموليته وإحاطته بكل شي ء، إذ يقول تعالى: «وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِى هذَا الْقُرءَانِ مِن كُلّ مَثَلٍ». ولكن بالرغم من ذلك: «فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كَفُورًا».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 110

حقّاً إنّ التنوع الذي يتضمّنه القرآن الكريم تنوع عجيب، خاصه وأنّه صدر من شخص لا يعرف القراءة والكتابة، ففي هذا الكتاب وردت الأدلة العقلية بجزئياتها الخاصة حول قضايا العقائد، وذكرت- أيضاً- الأحكام المتعلقة بحاجات البشر في المجالات كافة.

وتعرّض القرآن- أيضاً- إلى قضايا وأحداث تأريخية تعتبر فريدة في نوعها ومثيرة في بابها، وخالية من الخرافات.

وتعرّض إلى البحوث الأخلاقية التي تؤثّر في القلوب المستعدة كتأثير المطر في الأرض الميتة. القضايا العلمية ورد ذكرها في القرآن الكريم، إذ ذكرت بعض الحقائق التي لم تكن تعرف في ذلك الزمان من قبل أيّ عالم.

والخلاصة: إنّ القرآن سلك كل وادٍ وتناول في آياته أفضل النماذج.

ولهذا السبب إذا اجتمعت الجن والإنس على أن يأتوا بمثله فلا يستطيعون ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.

وَ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى

تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ الْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا (93)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قال ابن عباس: إنّ جماعة من قريش- وفيهم الوليد بن المغيرة وأبو سفيان وأبوجهل- اجتمعوا عند الكعبة، وقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمّد فكلّموه وخاصموه، فبعثوا إليه إنّ أشراف قومك قد اجتمعوا لك، فبادر صلى الله عليه و آله إليهم ظنّاً منه أنّهم بدا لهم في أمره، وكان حريصاً على رشدهم، فجلس إليهم، فقالوا: يا محمّد إنّا دعوناك لنعذر إليك، فلا نعلم أحداً أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، شتمت الآلهة، وعبت الدين وسفّهت الأحكام، وفرّقت الجماعة، فإن كنت جئت بهذا لتطلب مالًا أعطيناك، وإن كنت

مختصر الامثل، ج 3، ص: 111

تطلب الشرف سوّدناك علينا، وإن كانت علّة غلبت عليك طلبنا لك الأطباء.

فقال صلى الله عليه و آله: «ليس شي ء من ذلك، بل بعثني اللَّه إليكم رسولًا، وأنزل كتاباً، فإن قبلتم ما جئت به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه أصبر حتى يحكم اللَّه بيننا».

قالوا: فإذن ليس أحد أضيق بلداً منّا فاسأل ربّك أن يسيّر هذه الجبال، ويجري لنا أنهاراً كأنهار الشام والعراق ....

فقال صلى الله عليه و آله: «ما بهذا بعثت» ....

قالوا: فأسقط علينا السماء كما زعمت إنّ ربّك إن شاء فعل ذلك.

قال صلى الله عليه و آله: «ذاك إلى اللَّه إن شاء فعل».

وقال قائل منهم: لا

نؤمن حتى تأتي باللَّه والملائكة قبيلًا. فقام النبي صلى الله عليه و آله وقام معه عبد اللَّه بن أبي أمية المخزومي ابن عمّته عاتكة بنت عبد المطلب، فقال: يا محمّد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله ... فواللَّه لا أؤمن بك أبداً حتى تتخذ سُلّماً إلى السماء ثم ترقى فيه وأنا أنظر، ويأتي معك نفر من الملائكة يشهدون لك، وكتاب يشهد لك ....

فانصرف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حزيناً لما رأى من قومه، فأنزل اللَّه سبحانه الآيات.

التّفسير

بعد الآيات السابقة التي تحدثت عن عظمة وإعجاز القرآن، جاءت هذه الآيات تشير إلى ذرائع المشركين، هذه الطلبات وردت على ستة أقسام هي:

1- في البداية يقولون: «وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعًا».

2- قولهم كما في الآية: «أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجّرَ الْأَنْهَارَ خِللَهَا تَفْجِيرًا».

3- «أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا».

4- «أَوْ تَأْتِىَ بِاللَّهِ وَالْمَلِكَةِ قَبِيلًا».

5- «أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ».

6- «أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ».

ثم يصدر الأمر من الخالق جلّ وعلا لرسوله صلى الله عليه و آله أن يقول لهؤلاء في مقابل اقتراحاتهم هذه: «قُلْ سُبْحَانَ رَبّى هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 112

وَ مَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَ بَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولًا (95)

ذريعة عامة: الآيات السابقة تحدّثت عن تذرّع المشركين- أو قسم منهم- في قضية التوحيد، أمّا الآيات التي نبحثها فإنّها تشير إلى ذريعة عامة في مقابل دعوة الأنبياء، حيث تقول: «وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن

يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولًا».

هل يمكن التصديق بأنّ هذه المهمة والمنزلة الرفيعة تقع على عاتق الإنسان، ثم- والكلام للمشركين- ألم يكن الأولى والأجدر أن تقع هذه المهمة وهذه المسؤولية على عاتق مخلوق أفضل كالملائكة- مثلًا- كي يستطيعوا أداء هذه المهمة بجدارة ... إذ أين الإنسان الترابي والرسالة الإلهية؟!

إنّ هذا المنطق الواهي الذي تحكيه الآية على لسان المشركين لا يخصّ مجموعة أو مجموعتين من الناس، بل إنّ أكثر الناس وفي امتداد تأريخ النّبوات قد تذرّعوا به في مقابل الأنبياء والر سل.

القرآن الكريم أجاب هؤلاء جميعاً في جملةٍ قصيرة واحدة مليئة بالمعاني والدلالات، قال تعالى: «قُل لَّوْ كَانَ فِى الْأَرْضِ مَلِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولًا». يعني أنّ القائد يجب أن يكون من سنخ من بعث إليه، ومن جنس أتباعه، فالإنسان لجماعة البشر، والملك لجماعة الملائكة.

ودليل هذا التجانس والتطابق بين القائد وأتباعه واضح؛ فمن جانب يعتبر التبليغ العملي أهم وظيفة في عمل القائد من خلال كونه قدوة واسوة، وهذا لا يتمّ إلّاأن يكون القائد من جنسهم، يمتلك نفس الغرائز والأحاسيس، ونفس مكوّنات البناء الجسمي والروحي الذي يملكه كل فرد من أفراد جماعته.

من جانب آخر ينبغي للقائد أن يدرك جميع احتياجات ومشاكل أتباعه كي يكون قادراً على علاجهم، والإجابة على أسئلتهم، لهذا السبب نرى أنّ الأنبياء برزوا من بين عامة الناس.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 113

قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَ بُكْماً وَ صُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً

(97)

بعد أن قطعت الآيات السابقة أشواطاً في مجال التوحيد والنبوة وعرض حديث المعارضين والمشركين، فإنّ هذه الآيات عبارة عن خاتمة المطاف في هذا الحديث، إذ تضع النتيجة الأخيرة لكل ذلك. ففي البداية تقول الآية إذا لم يقبل اولئك أدلتك الواضحة حول التوحيد والنبوة والمعاد فقل لهم: «قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا».

إنّ هذه الآية تستهدف أمرين فهي أوّلًا: تهدّد المعارضين المتعصبين والمعاندين، بأنّ اللَّه خبير وبصير ويشهد أعمالنا وأعمالكم، فلا تظنّوا بأنّكم خارجون عن محيط قدرته أو أنّ شيئاً من أعمالكم خاف عنه.

الأمر الثاني هو أنّ الرسول صلى الله عليه و آله أظهر إيمانه القاطع بما قال، حيث إنّ ايمان المتحدّث القوي بما يقول، له أثر نفسي عميق في المستمع، وعسى أن يكون هذا التعبير القاطع والحاسم المقرون بنوع من التهديد مؤثّراً فيهم، ويهزّ وجودهم، ويوقظ فكرهم ووجدانهم ويهديهم إلى الطريق الصحيح.

الآية التالية تؤكّد على أنّ الشخص المهتدي هو الذي قذف اللَّه تعالى نور الإيمان في قلبه:

«وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ». أمّا من أضلّه اللَّه بسوء أعماله: «وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِهِ». فالطريق الوحيد هو أن يرجعوا إليه ويطلبوا نور الهداية منه.

هاتان الجملتان تثبتان أنّ الدليل القوي والقاطع لا يكفي للإيمان، فما لم يكن هناك توفيق إلهي لا يستقر الإيمان أبداً.

أمّا عن سبب مجي ء «أولياء» بصيغة الجمع، فقد يعود ذلك للإشارة إلى تعدد الآلهة

مختصر الامثل، ج 3، ص: 114

الوهمية أو تنوع الوسائل التي يلجأون إليها، فيكون المقصود أنّ جميع هذه الوسائل وجميع البشر وغير البشر، وكل ما تؤلّهون من آلهة من دون اللَّه، لا يستطيع أن ينقذكم من الضلالة وسوء العاقبة. ثم تذكر الآيات- بصيغة التهديد القاطع- جانباً

من مصيرهم بسبب أعمالهم في يوم القيامة فتقول: «وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ». فبدلًا من الدخول بشكل عادي وبقامة منتصبة، فإنّ الملائكة الموكلين بهم يسحبونهم إلى جهنم على وجوههم تعذيباً لهم.

أو يزحفون كالزواحف على وجوههم وصدورهم بشكل ذليل ومؤلم.

ثم هم يحشرون: «عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا».

إنّ مراحل ومواقف يوم القيامة متعددة، ففي بعض المراحل والمواقف يكون هؤلاء صماً وبكماً وعمياً، وهذا نوع من العقاب لهم، إلّاأنّ عيونهم في مراحل لاحقة تبدأ بالنظر، وآذانهم بالسماع، وألسنتهم بالنطق حتى يروا منظر العذاب ويسمعون كلام الشامتين، ويبدأون بالتأوّه والصراخ وإظهار ضعفهم، حيث إنّ كل هذه الامور هي نوع آخر من العقاب لهم.

إنّ المجرمين وأهل النار محرومون من رؤية ما هو سارّ ومن سماع امور تبعث على الفرح، ومن قول وكلام يستوجب نجاتهم، بل على العكس من ذلك، فهم لا ينظرون ولا يسمعون ولا يقولون إلّاما يؤذي ويؤلم.

في الختام تقول الآية: «مَّأْوَيهُمْ جَهَنَّمُ». لكن لا تظنّوا أنّ نارها كنار الدنيا تنطفي في النهاية، بل هي: «كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا».

ذلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَ قَالُوا أَ إِذَا كُنَّا عِظَاماً وَ رُفَاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَ كَانَ الْإِنْسَانُ قَتُوراً (100)

كيف يكون المعاد ممكناً؟ في الآيات السابقة رأينا كيف أنّ يوماً سيّئاً ينتظر المجرمين في العالم الآخر، هذه العاقبة التي تجعل أيّ عاقل يفكّر في هذا المصير، لذلك فإنّ الآيات التي بين

مختصر الامثل، ج 3، ص: 115

أيدينا تقف على هذا الموضوع بشكل

آخر. في البداية تقول: «ذلِكَ جَزَاؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بَايَاتِنَا وَقَالُوا أَءِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا».

وبعد تعجّبهم من المعاد الجسماني واعتبارهم ذلك أمراً غير ممكن، يقول القرآن باسلوب واضح ومباشر وبلا فصل: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ». وعلى هؤلاء أن لا يعجّلوا فإنّ القيامة وإن تأخّرت، إلّاأنّها سوف تتحقق بلا ريب: «وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَّارَيْبَ فِيهِ».

ولكن هؤلاء الظالمين والمعادين مستمرون على ما هم فيه رغم سماعهم هذه الآيات:

«فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كَفُورًا».

وحيث إنّهم كانوا يصرخون ويصرّون على أن لا يكون النبي من البشر حسداً من عند أنفسهم وجهلًا وضلالًا، وقد منعهم هذا الحسد والجهل من التصديق بإمكانية أن يعطي اللَّه كل هذه المواهب لإنسان، لذا فإنّ الخالق جلّ وعلا يخاطبهم بقوله: «قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّى إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ». ثم يقول: «وَكَانَ الْإِنسَانُ قَتُورًا».

«قتور»: من «قَتَرَ» على وزن «قتل» وهي تعني الإمساك في الصرف، وبما أنّ (قتور) صيغة مبالغة فإنّها تعني شدّة الإمساك وضيق النظر.

المعاد الجسماني: الآيات أعلاه من أوضح الآيات المرتبطة بإثبات المعاد الجسماني، فالمشركين كانوا يعجبون من إمكانية عودة الحياة إلى العظام النخرة، والقرآن يجيبهم بأنّ القادر على خلق السماوات والأرض، لديه القدرة على جمع الأجزاء المتناثرة للإنسان وأن يهبها الحياة مرّة اخرى.

كما إنّ الإستدلال بالقدرة الكلية للخالق عزّ وجل في إثبات المعاد، هو واحد من الأدلة التي يذكرها القرآن مراراً ويعتمد عليها كثيراً.

وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ بَصَائِرَ وَ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ

مَثْبُوراً (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَ مَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَ قُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً (104)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 116

لم يؤمنوا رغم الآيات: قبل بضعة آيات عرفنا كيف أنّ المشركين طلبوا اموراً عجيبة غريبة من الرسول صلى الله عليه و آله، وهذه الآيات- التي نبحثها- تقف على نماذج للُامم السابقة ممن شاهدوا أنواع المعاجز والأعمال غير العادية، إلّاأنّهم استمروا في الإنكار وعدم الإيمان.

في البدء يقول تعالى: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءَايَاتٍ بَيّنَاتٍ».

والآيات التسع هي: العصا، اليد البيضاء، الطوفان، الجراد، القمل، الضفادع، الدم، الجفاف، ونقص الثمرات. ولأجل التأكيد على الموضوع اسأل- والخطاب موجّه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله- بني إسرائيل (اليهود) أمام قومك المعارضين والمنكرين: «فَسَلْ بَنِى إِسْرَاءِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ».

إلّا أنّ الطاغية الجبار فرعون- برغم الآيات- لم يستسلم للحق، بل أكثر من ذلك إتّهم موسى «فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنّى لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا».

إنّ التعبير القرآني يكشف عن الاسلوب الدعائي التحريضي الذي يستخدمه المستكبرون ويتّهمون فيه الرجال الإلهيين بسبب حركتهم الإصلاحية الربانية ضد الفساد والظلم، إذ يصف الظالمون والطغاة معجزاتهم بالسحر أو ينعتونهم بالجنون كي يؤثّروا من هذا الطريق في قلوب الناس ويفرّقوهم عن الأنبياء.

ولكن موسى عليه السلام لم يسكت أمام اتّهام فرعون له، بل أجابه بلغة قاطعة يعرف فرعون مغزاها الدقيق، إذ قال له: «قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ».

لذا فإنّك- يا فرعون- تعلم بوضوح أنّك تتنكّر للحقائق، برغم علمك بأنّها من اللَّه! فهذه «بصائر» أي أدلة واضحة للناس كي يتعرفوا بواسطتها على طريق الحق، وعندها سيسلكون طريق السعادة، وبما أنّك- يا فرعون- تعرف الحق

وتنكره، لذا: «وَإِنّى لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا». «مثبور»: من «ثبور» وتعني الهلاك.

ولأنّ فرعون لم يستطع أن يقف بوجه استدلالات موسى القوية، فإنّه سلك طريقاً يسلكه جميع الطواغيت عديمي المنطق في جميع القرون وكافّة الأعصار، وذاك قوله تعالى:

«فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا».

«يستفز»: من «استفزاز» وتعني الإخراج بقوة وعنف.

ومن بعد هذا النصر العظيم: «وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِى إِسْرَاءِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ

مختصر الامثل، ج 3، ص: 117

الْأَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا». فتأتون مجموعات يوم القيامة للحساب.

«لفيف»: من مادة «لفّ» وهنا تعني المجموعة المتداخلة المعقّدة بحيث لا يعرف الأشخاص، ولا من أيّ قبيلة هم.

وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (105) وَ قُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَ نَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً (107) وَ يَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَ يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109)

مرّة اخرى يشير القرآن العظيم إلى أهمية وعظمة هذا الكتاب السماوي ويجيب على بعض ذرائع المعارضين. في البداية تقول الآيات: «وَبِالْحَقّ أَنزَلْنهُ». ثم تضيف: «وَبِالْحَقّ نَزَلَ». ثم تقول: «وَمَا أَرْسَلْنكَ إِلَّا مُبَشّرًا وَنَذِيرًا». إذ ليس لك الحق في تغيير محتوى القرآن.

والفرق بين الجملة الاولى: «وَبِالْحَقّ أَنزَلْنهُ» والجملة الثانية: «وَبِالْحَقّ نَزَلَ» هو أنّ الإنسان قد يبدأ في بعض الأحيان بعمل ما، ولكنه لا يستطيع اتمامه بشكل صحيح وذلك بسبب من ضعفه، أمّا بالنسبة للشخص الذي يعلم بكل شي ء ويقدر على كل شي ء، فإنّه يبدأ بداية صحيحة، وينهي العمل نهاية صحيحة. وكمثال على ذلك: الشخص الذي يخرج ماءً صافياً من أحد العيون،

ولكن خلال مسير هذا الماء لا يستطيع ذلك الشخص أن يحافظ على صفاء هذا الماء ونظافته ويمنعه من التلوّث، فيصل الماء في هذه الحالة إلى الآخرين وهو ملوّث، إلّاأنّ الشخص القادر والمحيط بالامور، يحافظ على بقاء الماء صافياً وبعيداً عن عوامل التلوّث حتى يصل إلى العطاشى والمحتاجين له.

القرآن كتاب نزل بالحق من قبل الخالق، وهو محفوظ في جميع مراحله سواء في المرحلة التي كان الوسيط فيها جبرائيل الأمين، أو المرحلة التي كان الرسول فيها هو المتلقي، وبمرور الزمن لاتستطيع يد التحريف والتزوير أن تمتد إليه بمقتضى قوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» فاللَّه هو الذي يتكفّل حمايته وحراسته.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 118

لذا فإنّ هذا الماء النقي الصافي الوحي الإلهي القويم لم تناله يد التحريف والتبديل منذ عصر الرسول صلى الله عليه و آله وحتى نهاية العالم. الآية التي تليها تردّ على واحدة من ذرائع المعارضين وحججهم، إذ كانوا يقولون: لماذا لم ينزل القرآن دفعة واحدة على الرسول صلى الله عليه و آله، ولماذا كان نزوله تدريجياً؟ كما تشير إلى ذلك الآية (32) من سورة الفرقان التي تقول: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنهُ تَرْتِيلًا». فيقول اللَّه في جواب هؤلاء: «وَقُرْءَانًا فَرَّقْنهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ». حتى يدخل القلوب والأفكار ويترجم عملياً بشكل كامل.

ومن أجل التأكيد أكثر تبيّن الآية- بشكل قاطع- أنّ جميع هذا القرآن أنزلناه نحن:

«وَنَزَّلنهُ تَنزِيلًا».

إنّ القرآن له إرتباط دقيق بعصره، أي ء ارتباط ب (23) سنة، هي عصر نبوة نبي الخاتم بكل ما كانت تتمخض به من حوادث وقضايا.

هل يمكن جمع حوادث (23) سنة نفسها في يوم واحد، حتى ينزل القرآن في

يوم واحد؟

النزول التدريجي يعني الإرتباط الدائمي للرسول صلى الله عليه و آله مع مصدر الوحي، إلّاأنّ النزول الدفعي يتمّ بمرحلة واحدة لا يتسنّى للرسول صلى الله عليه و آله الإرتباط بمصدر الوحي لأكثر من مرّة واحدة.

الآية التي تليها استهدفت غرور المعارضين الجهلة حيث تقول: «قُلْ ءَامِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا».

إنّ المقصود من «الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ» هم مجموعة من علماء اليهود والنصارى من الذين آمنوا بعد أن سمعوا آيات القرآن، وشاهدوا العلائم التي قرأوها في التوراة والإنجيل، والتحقوا بصف المؤمنين الحقيقيين، وأصبحوا من علماء الإسلام.

«يخرّون»: بمعنى يسقطون على الأرض بدون إرادتهم، واستخدام هذه الكلمة بدلًا من السجود ينطوي على إشارة لطيفة، هي أنّ الواعين وذوي القلوب اليقظة عندما يسمعون آيات القرآن وكلام الخالق عزّ وجل ينجذبون إليه ويولهون به إلى درجة أنّهم يسقطون على الأرض ويسجدون خشية بدون وعي واختيار «1».

______________________________

(1) يقول الراغب في (المفردات): «يخرون» من مادة «خرير» ويقال لصوت الماء والريح وغير ذلك ممّا يسقط من علو. وقوله تعالى: «خَرُّوا لَهُ سُجَّدًا» تنبيه على اجتماع أمرين: السقوط وحصول الصوت منهم بالتسبيح، والتنبيه أنّ ذلك الخرير كان صوت تسبيحهم بحمد اللَّه لا بشي ء آخر، ودليله قوله تعالى فيما بعد: «وَسَبّحُوا بِحَمْدِ رَبّهِمْ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 119

«أذقان»: جمع «ذقن» ومن المعلوم أنّ ذقن الإنسان عند السجود لا يلمس الأرض، إلّا أنّ تعبير الآية إشارة إلى أنّ هؤلاء يضعون كامل وجههم على الأرض قبال خالقهم حتى أنّ ذقنهم قد يلمس الأرض عند السجود.

الآية التي بعدها توضّح قولهم عندما يسجدون: «وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولًا». هؤلاء يعبرون بهذا الكلام عن عمق

إيمانهم واعتقادهم باللَّه وبصفاته وبوعده.

والكلام على هذا الأساس يجمع اصول الدين في جملة واحدة.

وللتأكيد- أكثر- على تأثّر هؤلاء بآيات ربّهم، وعلى سجدة الحب التي يسجدونها تقول الآية التي بعدها: «وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا». «الخشوع»: هو حالة من التواضع والأدب الجسدي والروحي للإنسان في مقابل شخصية معينة أو حقيقة معينة.

قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَ لَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَ لَا تُخَافِتْ بِهَا وَ ابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا (110) وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس: إنّ النبي صلى الله عليه و آله كان ساجداً ذات ليلة بمكة يدعو: يا رحمن يا رحيم، فقال المشركون: هذا يزعم أنّ له إلهاً واحداً، وهو يدعو مثنى مثنى.

التّفسير

آخر الذرائع والأعذار: بعد سلسلة من الذرائع التي تشبّث بها المشركون امام دعوة الرسول صلى الله عليه و آله، نصل مع الآيات التي بين أيدينا إلى آخر ذريعة لهم، وهي قولهم: لماذا يذكر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الخالق بأسماء متعددة بالرغم من أنّه يدّعي التوحيد. القرآن ردّ على هؤلاء بقوله: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّامَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى .

إنّ هؤلاء عميان البصيرة والقلب، غافلون عن أحداث ووقائع حياتهم اليومية حيث كانوا يذكرون أسماء مختلفة لشخص واحد أو لمكان واحد، وكل اسم من هذه الأسماء كان

مختصر الامثل، ج 3، ص: 120

يعرّف بشطر أو بصفة من صفات ذلك الشخص أو المكان. بعد ذلك، هل من العجيب أن تكون للخالق أسماء متعددة تتناسب مع افعاله

وكمالاته وهو المطلق في وجوده وفي صفاته والمنبع لكل صفات الكمال وجميع النعم، وهو وحده عزّ وجلّ الذي يدير دفة هذا العالم والوجود؟

ففي نهاية الآية التي نبحثها نرى المشركين يتحدّثون عن صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ويقولون:

إنّه يؤذينا بصوته المرتفع في صلاته وعبادته، فما هذه العبادة؟ فجاءت التعليمات لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله عبر قوله تعالى: «وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا».

إنّ الآية أعلاه تقول: لا تقرأ بصوت مرتفع بحيث يشبه الصراخ، ولا أقل من الحد الطبيعي بحيث تكون حركة شفاه وحسب ولا صوت فيها.

هذا الحكم الإسلامي في الدعوة إلى الإعتدال بين الجهر والإخفات يعطينا فهماً وإدراكاً من جهتين:

الاولى: لا تؤدّوا العبادات بشكل تكون فيه ذريعة بيد الأعداء، فيقومون بالاستهزاء والتحجج ضدكم، إذ الأفضل أن تكون مقرونه بالوقار والهدوء والأدب.

الثانية: يجب أن يكون هذ التوجيه مبدأ لنا في جميع أعمالنا وبرامجنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وتكون جميع هذه الامور بعيدة عن الإفراط والتفريط، إذ الأساس هو: «وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا».

أخيراً نصل إلى الآية الأخيرة من سورة الإسراء، هذه الآية تنهي السورة المباركة بحمد اللَّه، كما افتتحت بتسبيحه وتنزيه ذاته عزّ وجل. إنّ هذه الآية هي خلاصة أخيرة لكل البحوث التوحيدية التي وردت في السورة، وهي ثمرة لمفاهيمها جميعاً، إذ هي تخاطب الرسول صلى الله عليه و آله بالقول: «وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِىٌّ مِّنَ الذُّلّ».

ومثل هذا الرب في مثل هذه الصفات، هو أفضل من كل ما تفكّر به: «وَكَبّرْهُ تَكْبِيرًا».

روى العلّامة الطبرسي رحمه الله في تفسير مجمع البيان: إنّ في هذه الآية ردّاً على اليهود

والنصارى، حين قالوا اتّخذ اللَّه الولد، وعلى مشركي العرب حيث قالوا: لبيك لا شريك لك، إلّا شريكاً هو لك. وعلى الصابئين والمجوس حين قالوا: لولا أولياء اللَّه لذل اللَّه.

«نهاية تفسير سورة الإسراء»

مختصر الامثل، ج 3، ص: 121

18 سورة الكهف

محتوى السورة: تبدأ السورة بحمد الخالق جلّ وعلا، وتنتهي بالتوحيد والإيمان والعمل الصالح.

يشير محتوى السورة- كما في أغلب السور المكية- إلى قضية المبدأ والمعاد والترغيب والإنذار. وتشير أيضاً إلى قضية مهمة كان المسلمون يحتاجونها في تلك الأيام بشدة، وهي عدم استسلام الأقلية- مهما كانت صغيرة- إلى الأكثرية مهما كانت قوية في المقاييس الظاهرية، بل عليهم أن يفعلوا كما فعلت المجموعة الصغيرة القليلة من أصحاب الكهف، أن يبتعدوا عن المحيط الفاسد ويتحركوا ضدّه.

فإذا كانت لديهم القدرة على المواجهة، فعليهم خوض الجهاد والصراع، وإن عجزوا عن المواجهة فعليهم بالهجرة.

إنّ السورة تشير إلى ثلاث قصص (قصة أصحاب الكهف، قصة موسى والخضر، وقصة ذي القرنين) حيث إنّ هذه القصص بخلاف أغلب القصص القرآنية لم تتكرّر في مكان آخر من القرآن (أشارت الآية 96 من سورة الأنبياء إلى يأجوج ومأجوج دون ذكر ذي القرنين). وهذه الإشارة تعتبر واحدة من خصائص هذه السورة المباركة.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ألا أدلّكم على سورة

مختصر الامثل، ج 3، ص: 122

شيّعها سبعون ألف ملك، حين نزلت ملأت عظمتها ما بين السماء والأرض»؟ قالوا: بلى. قال:

«سورة أصحاب الكهف، من قرأها يوم الجمعة غفر اللَّه له إلى الجمعة الاخرى، وزيادة ثلاثة أيام، واعطي نوراً يبلغ السماء، ووُقِي فتنة الدجّال».

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ سورة الكهف في كل ليلة جمعة لم يمت إلّاشهيداً، وبعثه اللَّه مع الشهداء، ووقف يوم القيامة

مع الشهداء».

إنّ عظمة السور القرآنية وتأثيرها المعنوي، وبركاتها الأخلاقية، إنّما يكون بسبب الإيمان بها والعمل وفقاً لمضامينها.

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَ يُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَ لَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً (5)

البداية باسم اللَّه، والقرآن: تبدأ سورة الكهف- كما في بعض السور الاخرى- بحمد اللَّه، وبما أنّ الحمد يكون لأجل عمل أو صفة معينة مهمة ومطلوبة، لذا فإنّ الحمد هنا لأجل نزول القرآن الخالي من كل اعوجاج، فتقول الآية: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتبَ وَلَمْ يَجْعَل لَهُ عِوَجًا».

هذا الكتاب هو كتاب ثابت ومحكم ومعتدل ومستقيم، وهو يحفظ المجتمع الإنساني ويحمي سائر الكتب السماوية.

«قَيّمًا». وينذر الظالمين من عذاب شديد: «لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ». وفي نفس الوقت فهو: «وَيُبَشّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا». وهؤلاء في نعيمهم «مكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا».

ثم تشير الآيات إلى واحدة من انحرافات المعارضين، سواء كانوا نصارى أو يهود أو مشركين، حيث تنذرهم هذا الأمر فتقول: «وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا». فهي تحذّر النصارى بسبب اعتقادهم بأنّ المسيح ابن اللَّه، وتحذّر اليهود لأنّهم اعتقدوا بأنّ عزير ابن اللَّه، وتحذّر المشركين لظنّهم بأنّ الملائكة بنات اللَّه.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 123

ثم تشير الآيات إلى أصل أساسي في إبطال هذه الإدعاءات الفارغة فتقول: إنّ هؤلاء لا علم لهم ولا يقين بهذا الكلام، وإنّما هم مقلدون فيه للآباء، وإنّ آباءهم على شاكلتهم في الجهل وعدم العلم: «مَّا

لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِأَبَائِهِمْ». ومع ذلك فإنّهم يتفوّهون بكلام رهيب «كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ». فهل يعقل أن يكون اللَّه جسماً أو يكون له ولد، أو أن يحتاج إلى الصفات المادية وأن يكون محدوداً ... إنّه كلام رهيب، ومثل هؤلاء الذين يتفوّهون به لا ينطقون إلّاكذباً: «إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا».

«قيّم»: على وزن كلمة «سيّد» مشتقة من مصدر الكلمة «قيام» وهنا تأتي بمعنى (الثبات والصمود) إضافة إلى أنّها هي وصف للقرآن في عدم وجود أي اعوجاج في آياته، بل إنّ في مضمونها تأكيد على استقامة واعتدال القرآن، وخلوّه من أيّ شكل من أشكال التناقض، وإشارة إلى أبدية وخلود هذا الكتاب السماوي العظيم، وكونه أسوة لحفظ الأصالة، وإصلاح الخلل، وحفظ الأحكام الإلهية والعدل والفضائل البشرية.

صفة «القيّم»: مشتقة من «قيمومة» الباري عزّ وجل التي تعني اهتمام الباري عزّ وجل وحفظه جميع الكائنات، والقرآن الذي هو كلام اللَّه له نفس الصفة أيضاً.

فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَ إِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً (8)

العالم ساحة اختبار: الآيات السابقة كانت تتحدّث عن الرسالة وقيادة النبي صلى الله عليه و آله، لذا فإنّ أوّل آية نبحثها الآن، تشير إلى أحد أهم شروط القيادة، ألا وهي الإشفاق على الامّة فتقول: «فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ءَاثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا».

وهنا يجب الإنتباه إلى بعض الملاحظات:

«باخع»: من «بخع» على وزن «نخل» وهي بمعنى إهلاك النفس من شدّة الحزن والغم.

استخدام كلمة «حديث» للتعبير عن القرآن، هو إشارة إلى ما ورد من معارف جديدة في هذا الكتاب السماوي الكبير.

الآية التي بعدها تجسّد وضع

هذا العالم وتكشف عن أنّه ساحة للاختبار والتمحيص

مختصر الامثل، ج 3، ص: 124

والبلاء، وتوضّح الخط الذي ينبغي أن يسلكه الإنسان: «إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا». لقد ملأنا العالم بأنواع الزينة، بحيث إنّ كل جانب فيه يذهب بالقلب، ويحيّر الأبصار، ويثير الدوافع الداخلية في الإنسان، كيما يتسنى امتحانه في ظلّ هذه الإحساسات والمشاعر ووسط أنواع الزينة وأشكالها، لتظهر قدرته الإيمانية، ومؤهّلاته المعنوية.

لذلك تضيف الآية مباشرة قوله تعالى: «لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا».

إنّ هنا إنذار لكل الناس، لكل المسلمين كي لا ينخدعوا في ساحة الاختبار بزينة الحياة الدنيا، وبدلًا من ذلك عليهم أن يفكّروا بتحسين أعمالهم.

ثم يبيّن تعالى أنّ أشياء الحياة الدنيا ليست ثابتة ولا دائمة، بل مصيرها إلى المحو والزوال:

«وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا».

«صعيد»: مشتقة من «صعود» وهي هنا تعني وجه الأرض، الوجه الذي يتّضح فيه التراب؛ و «جرز»: تطلق على الأرض الموات بسبب الجفاف وقلّة المطر.

إنّ المنظر الذي نشاهده في الربيع في الصحاري والجبال لا تبقى إذ لابدّ أن يأتي الخريف، وتسكت فيها نغمة الحياة.

حياة الإنسان المادية تشبه هذا التحوّل، فلا بدّ أن يأتي ذلك اليوم الذي يضع نهاية للقصور التي تناطح السماء، وللملابس الباذخة والنعم الكثيرة التي يرفل بها الإنسان، كذلك تنتهي المناصب والمواقع والإعتبارات، وسوف لن يبقى شي ء من المجتمعات البشرية سوى القبور الساكنة اليابسة، وهذا درس عظيم.

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَ هَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً (12)

أسباب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن

ابن عباس أنّ النضر بن الحرث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط

مختصر الامثل، ج 3، ص: 125

أنفذهما قريش إلى أحبار اليهود بالمدينة وقالوا لهما: سلاهم عن محمّد وصِفا لهم صفته، وخبّراهم بقوله فإنّهم أهل الكتاب الأوّل وعندهم من علم الأنبياء ما ليس عندنا. فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار اليهود عن النبي صلى الله عليه و آله وقالا لهم ما قالت قريش. فقال لهما أحبار اليهود: إسألوه عن ثلاث فإن أخبركم بهنّ فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فهو رجل متقوّل فرأوا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل ما كان من أمرهم؟ فإنّه قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح ما هو؟

وفي رواية اخرى قالوا: فإن أخبركم عن اثنتين ولم يخبركم بالروح فهو نبي.

فانصرفا إلى مكة فقالا: يا معشر قريش! قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمّد وقصّا عليهم القصّة. فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه و آله فسألوه، فقال صلى الله عليه و آله: «اخبركم بما سألتم عنه غداً» ولم يستثن فانصرفوا عنه، فمكث صلى الله عليه و آله خمس عشرة ليلة لا يحدث اللَّه إليه في ذلك وحياً، ولا يأتيه جبرائيل حتى أرجف أهل مكة وتكلّموا في ذلك. فشقّ على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ما يتكلم به أهل مكة عليه، ثم جاءه جبرائيل عليه السلام عن اللَّه سبحانه بسورة الكهف، وفيها ما سألوه عنه عن أمر الفتية والرجل الطوّاف، وأنزل عليه: «وَيَسَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ» الآية.

التّفسير

بداية قصة أصحاب الكهف: في الآيات السابقة كانت هناك صورة للحياة الدنيا، وكيفية اختبار الناس فيها، ومسير حياتهم عليها، ولأنّ القرآن

غالباً ما يقوم بضرب الأمثلة للقضايا الحساسة، أو أنّه يذكر نماذج من التاريخ لتجسيد الوعي بالقضية، لذا قام في هذه السورة بتوضيح قصة أصحاب الكهف، وعبّرت عنهم الآيات بأنّهم (أنموذج) أو (أسوة).

إنّهم مجموعة من الفتية الأذكياء المؤمنين، الذين كانوا يعيشون في ظل حياة مترفة بالزينة وأنواع النعم، إلّاأنّهم انسلخوا من كل ذلك لأجل حفظ عقيدتهم وللصراع ضدّ الطاغوت- طاغوت زمانهم- وذهبوا إلى غار خال من جميع أشكال الزينة والنعم، وقد أثبتوا بهذا المسلك أمر استقامتهم في سبيل الإيمان والثبات عليه.

في البداية يقول تعالى: «أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحبَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِن ءَايَاتِنَا عَجَبًا».

إنّ لنا آيات أكثر عجباً في السماوات والأرض، وإنّ كل واحد منها نموذج لعظمة الخالق جلّ وعلا، وفي حياتكم- أيضاً- أسرار عجبية تعتبر كل واحدة منها علامة على صدق دعوتك، وفي كتابك السماوي الكبير آيات عجيبة كثيرة، وبالطبع فإنّ قصة أصحاب الكهف ليست بأعجب منها.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 126

«الرقيم»: في الأصل مأخوذة من «رقم» وتعني الكتابة، وهو اسم ثان لأصحاب الكهف، لأنّه في النهاية تمّت كتابة أسمائهم على لوحة وضعت على باب الغار.

البعض يرى أنّ «الرقيم» اسم الجبل الذي كان فيه الغار.

ثم تقول الآيات بعد ذلك: «إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ» وعندما انقطعوا عن كل أمل توجّهوا نحو خالقهم: «فَقَالُوا رَبَّنَا ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً». ثم: «وَهَيّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا».

أي: أرشدنا إلى طريق ينقذنا من هذا الضيق ويقرّبنا من مرضاتك وسعادتك، الطريق الذي فيه الخير والسعادة وإطاعة أوامر اللَّه تعالى. وقد إستجيبت دعوتهم: «فَضَرَبْنَا عَلَى ءَاذَانِهِمْ فِى الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا». «ثُمَّ بَعَثْنهُمْ لِنَعْلَمَ أَىُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا».

بحوث

1- جملة «أَوَى الْفِتْيَةُ» من مادة (مأوى) وتعني المكان الآمن، وهو إشارة إلى

أنّ هؤلاء الفتية الهاربين من بيئتهم الفاسدة المنحرفة قد أحسّوا بالأمن عندما وصلوا إلى الغار.

2- «فتية»: جمع «فتى» وهو الشاب الحدث، ولكنها تطلق أحياناً على الأشخاص الكبار والمسنّين الذين يملكون روحية شابّة، وقد ذكرت هذه الكلمة مع نوع من الإشادة والمدح لأصحاب الكهف بسبب صفات الفتوة والشهامة والتسليم في مقابل الحق.

3- جملة «ضَرَبْنَا عَلَى ءَاذَانِهِمْ» كناية لطيفة عن (التنويم)، كأنّما يوضع ستار على أذن الشخص بحيث لا يسمع أيّ شي ء، وهو ستار النوم.

4- جملة «لِنَعْلَمَ ...» لا تعني أنّ اللَّه يريد أن يعلم شيئاً جديداً، ويكثر استخدام هذا التعبير في القرآن، والغرض منه هو تحقق العلم الإلهي، بمعنى نحن أيقظناهم من المنام حتى يتحقق هذا المعنى، أى حتى يسأل كل واحد الآخر عن مقدار نومهم.

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَ رَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (16)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 127

القصة المفصلة لأصحاب الكهف: بعد أن ذكرت الآيات بشكل مختصر قصة أصحاب الكهف، بدأت الآن مرحلة الشرح المفصل لها ضمن (14) آية وكان المنطلق في ذلك قوله تعالى: «نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقّ». كلام خال من أيّ شكل من أشكال الخرافة والتزوير. «إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءَامَنُوا بِرَبّهِمْ وَزِدْنهُمْ هُدًى».

وتشير الآيات القرآنية- وما هو ثابت في التاريخ- إلى أنّ أصحاب الكهف كانوا

يعيشون في بيئة فاسدة وزمان شاعت فيه عبادة الأصنام والكفر، وكانت هناك حكومة ظالمة تحمي مظاهر الشرك والكفر والإنحراف.

مجموعة أهل الكهف أحسّوا بالفساد وقرروا القيام ضدّ هذا المجتمع، وفي حال عدم تمكنهم من المواجهة والتغيير فإنّهم سيهجرون هذا المجتمع والمحيط الفاسد.

لذا يقول القرآن بعد البحث السابق: «وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَا مِن دُونِهِ إِلهًا».

فإذا عبدنا غيره: «لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا».

«شطط»: على وزن (وسط) تعني الخروج عن الحد والإفراط في الإبتعاد لذا فإنّ (شطط) تقال للكلام البعيد عن الحق، ويقال لحواشي وضفاف الأنهار الكبيرة (شط) لكونها بعيدة عن الماء، وكونها ذات جدران مرتفعة.

إنّ هؤلاء الفتية المؤمنين ذكروا دليلًا واضحاً لإثبات التوحيد ونفي الآلهة، وهو قولهم:

إنّنا نرى وبوضوح أنّ لهذه السماوات والأرض خالقاً واحداً، وأنّ نظام الخلق دليل على وجوده، وما نحن إلّاجزء من هذا الوجود، لذا فإنّ ربّنا هو نفسه ربّ السماوات والأرض.

ثم ذكروا دليلًا آخر وهو: «هؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ ءَالِهَةً».

فهل يمكن الإعتقاد بشي ء بدون دليل وبرهان؟: «لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطنٍ بَيّنٍ».

وهل يمكن أن يكون الظن أو التقليد الأعمى دليلًا على مثل هذا الإعتقاد؟ ما هذا الظلم الفاحش والإنحراف الكبير: «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا».

وهذا الإفتراء هو ظلم للنفس، لأنّ الإنسان يستسلم حينئذ لأسباب السقوط والشقاء، وهو أيضاً ظلم بحق المجتمع الذي تسري فيه هذه الانحرافات، وأخيراً هو ظلم للَّه وتعرّض لمقامه العظيم سبحانه وتعالى.

هؤلاء الفتية الموحدون قاموا بما يستطيعون لإزالة صدأ الشرك عن قلوب الناس،

مختصر الامثل، ج 3، ص: 128

وزرع غرسة التوحيد في مكانها، إلّاأنّ ضجة عبادة الأصنام في ذلك المحيط الفاسد، وظلم الحاكم الجبار كانتا من الشدّة بحيث حبستا أنفاس عبادة اللَّه في صدورهم وانكمشت

همهمات التوحيد في حناجرهم. وهكذا اضطروا للهجرة لانقاذ أنفسهم والحصول على محيط أكثر استعداداً وقد تشاوروا فيما بينهم عن المكان الذي سيذهبون إليه ثم كان قرارهم: «وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ». حتى: «يَنشُرَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِرْفَقاً».

«يهيّى ء»: مشتقة من «تهيئة» بمعنى الإعداد.

«مرفق»: تعني الوسيلة التي تكون سبباً للطف والرفق والراحة.

وليس من المستبعد أن يكون (نشر الرحمة) الوارد في الجملة الاولى إشارة إلى الألطاف المعنوية للَّه تبارك وتعالى، في حين أنّ الجملة الثانية تشير إلى الجوانب المادية التي تؤدّي إلى خلاصهم ونجاتهم.

وَ تَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَ إِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَ هُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً (17) وَ تَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَ هُمْ رُقُودٌ وَ نُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَ ذَاتَ الشِّمَالِ وَ كَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18)

مكان أصحاب الكهف: يشير القرآن في الآيتين أعلاه إلى التفاصيل الدقيقة المتعلقة بالحياة العجيبة لأصحاب الكهف في الغار، وكأنّها تحكى على لسان شخص جالس في مقابل الغار ينظر إليهم. في هاتين الآيتين إشارة إلى ستّ خصوصيات هي:

أوّلًا: فتحة الغار كانت باتجاه الشمال، ولكونه في الجزء الشمالي من الكرة الأرضية، فإنّ ضوء الشمس كان لا يدخل الغار بشكلٍ مباشر، فالقرآن يقول إنّك إذا رأيت الشمس حين طلوعها لرأيت أنّها تطلع من جهة يمين الغار، وتغرب من جهة الشمال: «وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا

مختصر الامثل، ج 3، ص: 129

طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشّمَالِ».

وعلى هذا الأساس لم يكن ضوء الشمس

يصل إلى أجسادهم بشكل مباشر، وهو أمر لو حصل فقد يؤدّي إلى تلف أجسادهم، ولكن الأشعة غير المباشرة كانت تدخل الغار بمقدار كاف.

إنّ عبارة (تزاور) التي تعني (التمايل) تؤكّد على هذا المعنى، وكأنّ الشمس كانت مأمورة بأن تمرّ من اليمين (يمين الغار). وكلمة «تقرض»: التي تعني (القطع) تؤكّد نفس مفهوم السابق.

ثانياً: «وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مّنْهُ».

لقد كان اولئك في مكان واسع من الغار، وهذا يدل على أنّهم لم يأخذوا مستقرّهم في فتحة الغار التي تتسم بالضيق عادة، بل إنّهم انتخبوا وسط الغار مستقراً لهم كي يكونوا بعيدين عن الأنظار، وبعيدين أيضاً عن الأشعة المباشرة لضوء الشمس.

وهنا يقطع القرآن تسلسل الكلام ويستنتج نتيجة معنوية، حيث يبيّن أنّ الهدف من ذكر هذه القصة هو لتحقيق هذا الغرض: «ذلِكَ مِنْ ءَايتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا».

نعم، إنّ الذين يضعون أقدامهم في طريق اللَّه، ويجاهدون لأجله فإنّ اللَّه سيشملهم بلطفه في كل خطوة وليس في بداية العمل فقط. إنّ اللَّه يرعى هؤلاء حتى في أدق التفاصيل.

ثالثاً: إنّ نوم أصحاب الكهف لم يكن نوماً عادياً: «وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ».

هذه الحالة الاستثنائية لكي لا تقترب منهم الحيوانات المؤذية التي تخاف الإنسان اليقظ، أو لكي يكون شكلهم مرعباً كي لا يتجرأ إنسان على الإقتراب منهم، وهذا بنفسه اسلوب للحفاظ عليهم.

رابعاً: وحتى لا تتهرأ أجسامهم بسبب السنين الطويلة التي مكثوا فيها نياماً في الكهف، فإنّ اللَّه تبارك وتعالى يقول: «وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشّمَالِ».

حتى لا يتركز الدم في مكان معين، ولا تكون هناك آثار سيئة على العضلات الملاصقة للأرض بسبب الضغط عليها لمدة طويلة.

خامساً: في وصفٍ جديد يقول تعالى: «وَكَلْبُهُم بسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ».

مختصر الامثل، ج 3، ص:

130

«وصيد»: كما يقول الراغب في المفردات، تعني في الأصل الغرفة أو المخزن الذي يتمّ إيجاده في الجبال لأجل خزن الأموال، إلّاأنّ المقصود به هنا هو فتحة الغار.

سادساً: قوله تعالى: «لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا».

وَ كَذلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَ لْيَتَلَطَّفْ وَ لَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَ لَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20)

اليقظة بعد نوم طويل: سوف نقرأ في الآيات القادمة أنّ نوم أصحاب الكهف كان طويلًا للغاية بحيث استمر (309) سنة، وعلى هذا الأساس كان نومهم أشبه بالموت، ويقظتهم أشبه بالبعث، لذا فإنّ القرآن يقول في الآيات التي نبحثها: «وَكَذلِكَ بَعَثْنهُمْ».

يعني مثلما كنّا قادرين على إنامتهم نوماً طويلًا فإنّنا أيضاً قادرون على إيقاظهم. لقد أيقظناهم من النوم، «لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ». «قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ».

وأخيراً، بسبب عدم معرفتهم لمقدار نومهم، «قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ».

ولكنّهم كانوا يحسّون بالجوع وبالحاجة الشديدة إلى الطعام، لأنّ المخزون الحيوي في جسمهم انتهى أو كاد، لذا فأوّل اقتراح لهم هو إرسال واحد منهم مع نقود ومسكوكات فضّية لشراء الغذاء: «فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مّنْهُ». ثم أردفوا: «وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا». لماذا هذا التلطّف:

«إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ». ثم: «وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا».

وتوصيتهم هي توصية لكافة أنصار الحق، في أن لا يفكروا بطهارة غذائهم المعنوي وحسب، بل عليهم أيضاً الإهتمام بطهارة

طعام الأجسام كي يكون زكيّاً نقيّاً من جميع الأرجاس والشبهات.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 131

وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ أَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَ يَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَ يَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَ ثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَ لَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) وَ لَا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَ قُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذَا رَشَداً (24)

نهاية قصة أصحاب الكهف: لقد وصلت بسرعة أصداء هجرة هذه المجموعة من الرجال المتشخّصين إلى كل مكان وأغاظت بشدّة الملك الظالم. لقد أصدر الحاكم تعليماته إلى جهاز شرطته للبحث عن أصحاب الكهف في كل مكان، وعليهم أن يتّبعوا آثارهم حتى إلقاء القبض عليهم ومعاقبتهم.

وقد يكون هذا الأمر- وهو قيام مجموعة من ذوي المناصب في الدولة بترك مواقعهم العالية في الدولة وتعريض أنفسهم للخطر- هو بحدّ ذاته سبباً ليقظة الناس ومصدراً لوعيهم، أو لوعي قسم منهم على الأقل.

إنّ قصة هؤلاء النفر قد استقرّت في صفحات التاريخ وأخذت الأجيال والأقوام تتناقلها عبر مئات السنين.

والآن لنعد إلى الشخص المكلّف بشراء الطعام ولننظر ماذا جرى له.

لقد دخل المدينة ولكنه فغر فاه من شدّة التعجب، فالشكل العام للبناء قد تغيّر، هندام الجميع ولباسهم غريب عليه، الملابس من طراز جديد، خرائب الأمس تحوّلت إلى قصور، وقصور الأمس تحوّلت إلى خرائب.

إنّه لا يزال يعتقد بأنّ نومهم في الغار

كان ليوم أو بعض يوم.

لقد انتهى عجبه عندما مدّ يده إلى جيبه ليسدّد مبلغ الطعام الذي اشتراه، فالبائع وقع

مختصر الامثل، ج 3، ص: 132

نظره على قطعة نقود ترجع في قدمها إلى (300) سنة، وقد يكون اسم (دقيانوس) الملك الجبار مكتوباً عليها، وعندما طلب منه توضيحاً قال له بأنّه حصل عليها حديثاً.

وهنا أحسّ الشخص بأنّه وأصحابه كانوا في نوم عميق وطويل.

هذه القضية كان لها صدى كالقنبلة في المدينة، وقد انتقلت عبر الألسن إلى جميع الأماكن. فقسم منهم لم يكن قادراً على التصديق بأنّ الإنسان يمكن أن يعود للحياة بعد الموت، إلّاأنّ قصة أصحاب الكهف أصبحت دليلًا قاطعاً لُاولئك الذين يعتقدون بالمعاد الجسماني. ولذا فإنّ القرآن يبيّن أنّنا كما قمنا بإنامتهم نقوم الآن بإيقاظهم حتى ينتبه الناس:

«وَكَذلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ». ثم أضاف تعالى: «وَإِنَّ السَّاعَةَ لَارَيْبَ فِيهَا».

إنّ هذه الإنامة والإيقاظ هي أكثر إثارة للعجب من الموت والحياة في بعض جوانبهما، فمن جهة قد مرّت عليهم مئات السنين وهم نيام وأجسامهم لم تفن أو تتأثّر، وقد بقوا طوال هذه المدّة بدون طعام أو شراب، إذن كيف بقوا أحياءً طيلة هذه المدّة؟

أليس هذا دليلًا قاطعاً على قدرة اللَّه على كل شي ء؟ فالحياة بعد الموت، بعد مشاهدة هذه القضية ممكنة حتماً.

بعض المؤرخين كتب يقول: إنّ الشخص الذي أرسل لتهيئة الطعام وشرائه، عاد بسرعة إلى الكهف وأخبر رفقاءه بما جرى، وقد تعجّب كل منهم، فطلبوا من الخالق جلّ وعلا أن يميتهم، وينتقلون بذلك إلى جوار رحمته، وهذا ما حدث.

لقد ماتوا ومضوا إلى رحمة ربّهم، وبقيت أجسادهم في الكهف عندما وصله الناس.

وهنا حدث النزاع بين أنصار المعاد الجسماني وبين من لم يعتقد به، فالمعارضون للمعاد كانوا يريدون أن

تنسى قضية نوم ويقظة أصحاب الكهف بسرعة، كي يسلبوا أنصار المعاد الجسماني هذا الدليل القاطع، لذا فقد اقترح هؤلاء أن تغلق فتحة الغار، حتى يكون الكهف خافياً إلى الأبد عن أنظار الناس. قال تعالى: «إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا».

ولأجل إسكات الناس عن قصّتهم كانوا يقولون: لا تتحدثوا عنهم كثيراً، إنّ قضيتهم معقّدة ومصيرهم محاط بالألغاز. لذلك فإنّ: «رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ». أي: اتركوهم وشأنهم واتركوا الحديث عن قصّتهم.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 133

أمّا المؤمنون الحقيقيون الذين عرفوا حقيقة الأمر واعتبروه دليلًا حيّاً لإثبات المعاد بعد الموت، فقد جهدوا على أن لا تنسى القصة أبداً لذلك اقترحوا أن يتّخذوا قرب مكانهم مسجداً، وبقرينة وجود المسجد فإنّ الناس سوف لن ينسوهم أبداً، بالإضافة إلى ما يتبرّك به الناس من آثارهم: «قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا».

الآية التي بعدها تشير إلى بعض الإختلافات الموجودة بين الناس حول أصحاب الكهف، فمثلًا تتحدّث الآية عن اختلافهم في عددهم فتقول: «سَيَقُولُونَ ثَلثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ». وبعضهم «وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ». وذلك منهم «رَجْمًا بِالْغَيْبِ».

وبعضهم «وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ». أمّا الحقيقة فهي: «قُلْ رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم».

ولذلك «مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ».

إنّ عدد أصحاب الكهف الحقيقي هو سبعة، حيث إنّ القرآن بعد ذكر الأقوال الباطلة، أبان في الأخير العدد الحقيقي لهم.

إنّ الآية تنتهي بنصيحة تحثّ على عدم الجدال حولهم إلّاالجدل القائم على أساس المنطق والدليل: «فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظهِرًا». بمعنى قل لهم قولًا منطقيّاً بحيث تتوضّح رجحان منطقك.

إنّ مفهوم الكلام هو: عليك أن تتحدث معهم بالإعتماد على الوحي الإلهي، لأنّ أقوى الأدلة هو ما يصدر عن الوحي دون غيره: «وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا».

الآية التي بعدها تعطي توجيهاً عاماً لرسول

اللَّه صلى الله عليه و آله: «وَلَا تَقُولَنَّ لِشَاىْ ءٍ إِنّى فَاعِلٌ ذلِكَ غَدًا». «إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ». يعني يجب أن تقول (إن شاء اللَّه) لكل ما يخصّ أخبار المستقبل وأحداثه ولكل تصميم تتخذه، لأنّك أوّلًا غير مستقل في اتّخاذ القرارات، وإذا لم يشأ اللَّه فإنّ كائناً من كان لا يستطيع القيام بأيّ عمل.

ثانياً: لا يصح للإنسان- من الوجهة المنطقية- أن يقطع في أخباره المستقبلية ومواقفه وتصميماته، لأنّ قدرته محدودة مع احتمال ظهور الموانع المختلفة، لذلك الأفضل له ذكر جملة (إن شاء اللَّه) مع كل تصميم لفعل شي ء.

وبعد ذلك يقول القرآن: «وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ». وهذه إشارة إلى أنّ الإنسان إذا نسي قول (إن شاء اللَّه) وهو يتحدث عن أمر مستقبلي، فعليه أن يقولها فور تذكّره، حيث يعوّض بذلك عما مضى منه.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 134

وبعد ذلك جاء قوله تعالى: «وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبّى لِأَقْرَبَ مِنْ هذَا رَشَدًا».

وَ لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَ ازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَ أَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) وَ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَ لَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27)

نوم أصحاب الكهف: من القرائن الموجودة في الآيات السابقة نفهم إجمالًا أنّ نوم أصحاب الكهف كان طويلًا جدّاً. هذا الموضوع يثير غريزة الاستطلاع عند كل مستمع، إذ يريد أن يعرف كم سنة بالضبط استمرّ نومهم؟

في المقطع الأخير من مجموعة الآيات التي تتحدث عن أصحاب الكهف، تبعد الآيات الشك عن المستمع وتقول له: «وَلَبِثُوا فِى كَهْفِهِمْ ثَلثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا».

ووفقاً للآية فإنّ مجموع

نومهم وبقائهم في الكهف هو (309) سنة.

ومن أجل وضع حدّ لأقاويل الناس حول مكثهم في الكهف تؤكّد الآية: «قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا». لماذا؟ لأنّ: «لَهُ غَيْبُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

والذي يعرف خفايا وظواهر عالم الوجود ويحيط بها جميعاً، كيف لا يعرف مدّة بقاء أصحاب الكهف: «أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ» «1». ولهذا السبب فإنّ سكّان السماوات والأرض: «مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِىّ».

وفي نهاية الآية يأتي قوله تعالى: «وَلَا يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا». هذا الكلام هو تأكيد على الولاية المطلقة للخالق جلّ وعلا.

وفي آخر آية يتوجّه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه و آله ويقول اللَّه له: «وَاتْلُ مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبّكَ». أي: لا تعر أيّة أهمية إلى أقوال الآخرين المخلوطة بالكذب والخرافة والوضع، يجب أن يكون اعتمادك في هذه الامور على الوحي الإلهي فقط، لأنّه لا يوجد شي ء يستطيع أن يغيّر كلامه تعالى: «لَامُبَدّلَ لِكَلِمتِهِ». فكلام اللَّه تعالى وعلمه ليس من سنخ علم

______________________________

(1) جملة «أبْصِرْ بِهِ وَأسْمِعْ» هي صيغة تعجب، تبيّن لنا عظمة علم الخالق جلّ وعلا، والمعنى أنّه بصير سميع بحيث إنّ الإنسان يعجب من ذلك.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 135

الإنسان الذي يخضع يوميّاً للتغيّر والتبديل بسبب الإكتشافات الجديدة والمعرفة الحديثة، لذلك لا يمكن الإعتماد عليه والركون إليه مائة في المائة، ولهذه الأسباب: «وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا». «ملتحد»: مشتقة من «لحد» على وزن «مهد» وهي الحفرة التي يميل وسطها إلى أحد الأطراف (كاللّحد الذي يحفر لقبر الإنسان).

الجوانب التربوية لقصّة أهل الكهف: هذه القصّة التأريخية العجيبة التي يذكرها القرآن خالية من أيّ خرافة أو وضع، وفيها العديد من الدروس التربوية البنّاءة، تماماً كما في قصص القرآن الاخرى.

أ) إنّ أوّل دروس هذه القصة هو تحطيم حاجز

التقليد، والإبتعاد عن التلوّن بلون المجتمع الفاسد.

ب) الهجرة من الأوساط المنحرفة درس آخر في هذه القصة ذات العبر.

ج) التقية بمعناها البنّاء درس آخر نستفيده من هذه القصة.

ونحن نعرف أنّ التقية ليست سوى أن يتكتّم الإنسان على حقيقة أمره في الأماكن والمواقف التي لا يرتجي منها فائدة في ذكر الحقيقة، بل تكون سبباً للضرر، والتقية وقاية للنفس واحتفاظ بقوة الإنسان لوقت جهاد العدو حيث لا تقية.

د) عدم وجود تفاوت بين الناس وهم في طريق اللَّه، فالوزير كان إلى جانب الراعي، بل كان الاثنان إلى جانب الكلب الذي كان يقوم بالحراسة، وهذا درس آخر يتّضح من خلاله أنّ إمتيازات الدنيا المادية، والمناصب المختلفة ليس لها أدنى نصيب أو تأثير على تصنيف الناس من أهل الحق وسالكيه، إذ الكل فيه سواء ... إنّ طريق الحق هو طريق التوحيد، وطريق التوحيد هو طرق وحدة جميع الناس.

ه) الإمدادات الإلهية العجيبة عند ظهور المشاكل، هي نتيجة اخرى يجب الاعتبار بها.

و) لقد تعلّمنا من أصحاب الكهف قيمة (طهارة الطعام) حتى في أصعب الظروف وأدقّها، لأنّ طعام الإنسان له آثار عميقة في روحه وفكره وقلبه، وعندما يختلط الطعام بالحرام والنجاسة، يبتعد الإنسان عن طريق اللَّه؛ طريق التقوى.

ز) ضرورة الاعتماد على مشيئة اللَّه وطلب العون من لطفه تعالى: وقول (إن شاء اللَّه) في كل ما يتعلق بامور المستقبل ... درس آخر نتعلّمه من قصة أصحاب الكهف.

ح) ضرورة النقاش المنطقي مع المعارضين درسٌ آخر نستفيده من قصة أصحاب الكهف.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 136

ط) وأخيراً، فإنّ إمكانية المعاد الجسماني وعودة الناس إلى الحياة مرّة اخرى عند البعث، يعتبر عاشر وآخر درس نستفيده من هذه القصّة.

إنّ هدف القرآن ليس قصّ القصص لغرض التسلية، بل بناء الناس المقاومين

المؤمنين الشجعان الواعين، وأحد الطرق لذلك هو ذكر نماذج أصيلة مما حدث طوال التاريخ البشري الملي ء بالحوادث والمواقف.

وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ لَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَ كَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَ سَاءَتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ يَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَ إِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَ حَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت الآية الاولى في سلمان، وأبي ذر، وصهيب، وعمار، وخباب، وغيرهم من فقراء أصحاب النبي صلى الله عليه و آله وذلك أنّ مؤلفة قلوبهم جاؤوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالوا: يا رسول اللَّه! إن جلست في صدر المجلس ونحّيت عنّا هؤلاء روائح صنانهم وكانت عليهم جبات الصوف، جلسنا نحن إليك، وأخذنا عنك، فلا يمنعنا من الدخول عليك إلّا هؤلاء.

فلمّا نزلت الآية قام النبي صلى الله عليه و آله يلتمسهم فأصابهم في مؤخّر المسجد يذكرون اللَّه عزّ وجل، فقال: «الحمد للَّه الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي، معكم المحيا ومعكم الممات».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 137

التّفسير

الحفاة الأطهار: من الدروس التي نستفيدها من قصة أصحاب الكهف أنّ مقياس قيمة البشر ليست

بالمنصب الظاهري أو بالثروة، بل عندما يكون المسير في سبيل اللَّه يتساوى الوزير والراعي، والآيات التي نبحثها تؤكّد هذه الحقيقة المهمة وتعطي للرسول صلى الله عليه و آله هذا الأمر: «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَوةِ وَالْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ».

ثم تستمر الآيات مؤكّدة خطابها للرسول صلى الله عليه و آله: «وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا» فلا تنظر إلى هؤلاء المستكبرين بدل المستضعفين من أجل بهارج الدنيا وزخارفها.

ثم من أجل التأكيد مجدداً، يقول تعالى: «وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا». «وَاتَّبَعَ هَوَيهُ» والمطيع لأهوائه النفسية، والمفرط في أفعاله دائماً «وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا» «1».

إنّ الموضوع أعلاه من الأهمية بمكان، بحيث إنّ القرآن يقول للرسول صلى الله عليه و آله- بصراحة- في الآية التي بعدها: «وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ».

ولكن اعلموا أنّ هؤلاء عباد الدنيا الذين يسخرون من الألبسة الخشنة التي يرتديها أمثال سلمان وأبي ذر خاصة، والذين يعيشون حياة مرفّهة باذخة ومليئة بالزينة، ستنتهي عاقبتهم إلى سوء وظلام وعذاب: «إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا».

نعم، إنّهم كانوا إذا عطشوا في هذه الدنيا كان الخدم يجلبون لهم أنواع المشروبات، ولكنّهم عندما يطلبون الماء في جهنم يؤتى إليهم بماء كالمهل: «وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوُجُوهَ» «2». «بِئْسَ الشَّرَابُ». ثم «وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا» «3».

وفي هذه الدنيا تتوفر لديهم أنواع المشروبات التي تحضر بين أيديهم بمجرد مناداة الساقي، وفي جهنم يوجد أيضاً ساقٍ وأشربة، أمّا ما هو نوع الشراب؟ إنّه ماء كالمعدن المذاب! حرارته كحرارة دموع اليتامى وآهات المستضعفين والفقراء الذين ظلمهم هؤلاء الأغنياء. نعم، إنّ كل ما هو موجود هناك (في الآخرة) هو تجسيد لما هو موجود هنا (في

الدنيا).

وبما أنّ اسلوب القرآن اسلوب تربوي وتطبيقي، فإنّه بعدما بيّن أوصاف وجزاء عبيد

______________________________

(1) «فرط»: تعني التجاوز عن الحد، وكل شي ء يخرج عن حدّه ويتحول إلى إسراف يقال له (فُرط).

(2) «مُهل»: على وزن «قفل» وهي تعني أي معدن مُذاب.

(3) «مُرتفق»: من كلمة «رَفق ورفيق» بمعنى محل اجتماع الأصدقاء.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 138

الدنيا، ذكر حال المؤمنين الحقيقيين وجوائزهم الثمينة الغالية التي تنتظرهم جزاء ما فعلوا.

لقد أجملت الآية كل ذلك بشكلٍ مختصر، ثم بشكلٍ تفصيلي نوعاً مّا. ففي البدء قال تعالى:

«إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَانُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا». أي: إنّنا لا نضيع أعمال العاملين قليلة كانت أو كثيرة، كلية أو جزئية، ومن أي شخص وفي أي عمرٍ كان:

«أُولئِكَ لَهُمْ جَنتُ عَدْنٍ». (الجنات الخالدة).

«تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهرُ». (من تحت الأشجار والقصور).

«يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ» «1».

«وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ». (من حرير ناعم وسميك).

«مُّتَّكِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ» «2».

«نِعْمَ الثَّوَابُ». «وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا». (وحسنت مجمعاً للأحبّة).

وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَ حَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَ جَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَ لَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَ فَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً (33) وَ كَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَ هُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَ أَعَزُّ نَفَراً (34) وَ دَخَلَ جَنَّتَهُ وَ هُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَ مَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً (36)

تجسيد لموقف المستكبرين من المستضعفين: في الآيات السابقة رأينا كيف أنّ عبيد الدنيا كانوا يحاولون الإبتعاد في كل شي ء عن رجال الحق وأهله المستضعفين، ثم عرّفتنا الآيات جزاءهم في الحياة الاخرى. الآيات التي

نبحثها تشير إلى حادثة اثنين من الأصدقاء أو الإخوة الذين يعتبر كل واحدٍ منهم نموذجاً لإحدى المجموعتين، ويوضّحان طريقة تفكير وقول وعمل هاتين المجموعتين. في البداية تخاطب الآيات الرسول صلى الله عليه و آله

______________________________

(1) «أساور»: جمع «أسورة» على وزن «مشورة» وهي بدورها جمع (سوار) على وزن (غبار) و (كتاب) وهي في الأصل مأخوذة من كلمة فارسية عُرّبت واشتقت منها الأفعال العربية.

(2) «أرائك»: جمع «أريكة» وتطلق على السرير الذي تكون جوانبه جميعاً مغطاة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 139

فتقول: «وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنبٍ وَحَفَفْنهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا».

البستان والمزرعة كان فيهما كل شي ء: العنب والتمر والحنطة وباقي الحبوب، لقد كانت مزرعة كاملة ومكفية من كل شي ء: «كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ ءَاتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مّنْهُ شَيًا».

والأهم من ذلك هو توفّر الماء الذي يعتبر سرّ الحياة، وأمراً مهماً لا غنى للبستان والمزرعة عنه، وقد كان الماء بقدر كاف: «وَفَجَّرْنَا خِللَهُمَا نَهَرًا».

على هذا الأساس كانت لصاحب البستان كل أنواع الثمار: «وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ».

ولأنّ الدنيا قد استهوته فقد أصيب بالغرور لضعف شخصيته وشعر بالأفضلية والتعالي على الآخرين، حيث إلتفت وهو بهذه الحالة إلى صاحبه: «فَقَالَ لِصحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا».

لقد تضخّم هذا الإحساس ونما تدريجياً- كما هو حاله- ووصل صاحب البستان إلى حالة بدأ يظن معها أنّ هذه الثروة والمال والجاه والنفوذ إنّما هي امور أبدية، فدخل بغرور إلى بستانه (في حين أنّه لا يعلم بأنّه يظلم نفسه) ونظر إلى أشجاره الخضراء التي كادت أغصانها أن تنحني من شدّة ثقل الثمر، وسمع صوت الماء الذي يجري في النهر القريب من البستان والذي كان يسقي أشجاره، وبغفلة قال: لا أظن أن يفنى هذا البستان،

وبلسان الآية وتصوير القرآن الكريم: «وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذِهِ أَبَدًا».

بل عمد إلى ما هو أكثر من هذا، إذ بما أنّ الخلود في هذا العالم بتعارض مع البعث والمعاد، لذا فقد فكّر في إنكار القيامة وقال: «وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً». وهذا كلام يعكس وهم قائله وتمنّياته.

ثم أضاف: حتى لو فرضنا وجود القيامة فإنّي بموقعي ووجاهتي سأحصل عند ربي- إذا ذهبت إليه- على مقام وموقع أفضل، لقد كان غارقاً في أوهامه: «وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبّى لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا».

لقد أخذ صاحب البستان ضمن الحالة النفسية التي يعيشها والتي صوّرها القرآن الكريم، يضيف إلى نفسه في كل فترة وهماً بعد آخر من أمثال ما حكت عنه الآيات آنفاً، وعند هذا الحد انبرى له صديقه المؤمن وأجابه بكلمات يشرحهما لنا القرآن الكريم.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 140

قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَ هُوَ يُحَاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَ لَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَ لَوْ لَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَ وَلَداً (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَ يُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41)

جواب المؤمن: هذه الآيات هي ردّ على ما نسجه من أوهام ذلك الغني المغرور العديم الإيمان، نسمعها تجري على لسان صاحبه المؤمن. لقد بدأ الكلام بعد أن ظلّ صامتاً يستمع إلى كلام ذلك الرجل ذي الأفق الضيّق والفكر المحدود، حتى ينتهي من كلامه، ثم قال له:

«قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ

أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّيكَ رَجُلًا».

ثم عمد الرجل الموحد المؤمن إلى تحطيم كفر وغرور ذلك الرجل (صاحب البستان) فقال: «لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبّى».

إنّك تتباهى بدنياك وأنا أفتخر بعقيدتي وإيماني وتوحيدي: «وَلَا أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا».

وبعد أن أشار إلى قضية التوحيد والشرك اللذّين يعتبران من أهم المسائل المصيرية، جدّد لومه لصاحبه قائلًا: «وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ».

وقد وضع سبحانه وتعالى الوسائل والإمكانات تحت تصرفك، حيث إنّك لا تملك شيئاً من عندك، وبدونه تكون لا شي ء.

ثم يقول له: ليس من المهم أن أكون أقل منك مالًا وولداً: «إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا». «فَعَسَى رَبّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ». وليس فقط أن يعطيني أفضل مما عندك، بل ويرسل صاعقة من السماء على بستانك، فتصبح الأرض الخضراء أرض محروقة جرداء:

«وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا».

أو أنّه سبحانه وتعالى يعطي أوامره إلى الأرض كي تمنعك الماء: «أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا».

«حُسبان»: على وزن «لقمان» وهي في الأصل مأخوذة من كلمة «حساب»، ثم وردت

مختصر الامثل، ج 3، ص: 141

بعد ذلك بمعنى السهام التي تحسب عند رميها، وتأتي أيضاً بمعنى الجزاء المرتبط بحساب الأشخاص، وهذا هو ما تشير إليه الآية أعلاه.

«صعيد»: تعني القشرة التي فوق الأرض، وهي في الأصل مأخوذة من كلمة صعود.

«زلق»: بمعنى الأرض الملساء بدون أي نباتات بحيث إنّ قدم الإنسان تنزلق عليها.

في الواقع، إنّ الرجل المؤمن والموحد حذّر صديقه المغرور أن لا يطمأن لهذه النعم، لأنّها جميعاً في طريقها إلى الزوال وهي غير قابلة للإعتماد.

وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَ هِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ

أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ مَا كَانَ مُنْتَصِراً (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَ خَيْرٌ عُقْباً (44)

العاقبة السوداء: أخيراً انتهى الحوار بين الرجلين دون أن يؤثّر الشخص الموحد المؤمن في أعماق الغني المغرور، الذي رجع إلى بيته وهو يعيش نفس الحالة الروحية والفكرية، وغافل أنّ الأوامر الإلهية قد صدرت بإبادة بساتينه ومزروعاته الخضراء، وأنّه وجب أن ينال جزاء غروره وشركه في هذه الدنيا، لتكون عاقبته عبرة للآخرين.

ويحتمل أنّ العذاب الإلهي قد نزل في تلك اللحظة من الليل عندما خيّم الظلام، على شكل صاعقة مميتة أو عاصفة هوجاء مخيفة، أو على شكل زلزال مخرّب ومدمّر. وأيّاً كان فقد دمّرت هذه البساتين الجميلة والأشجار العالية والزرع المثمر، حيث أحاط العذاب الإلهي بتلك المحصولات من كل جانب: «وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ».

«أحيط»: مشتقة من «إحاطة» وهي في هذه الموارد تأتي بمعنى (العذاب الشامل) الذي تكون نتيجته الإبادة الكاملة.

وعند الصباح جاء صاحب البستان وتدور في رأسه الأحلام العديدة ليتفقد ويستفيد من محصولات البستان، ولكنّه قبل أن يقترب منه واجهه منظر مدهش وموحش، يبس الماء في فمه، وتحطّم الكبرياء والغرور اللذان كانا يثقلان نفسه وعقله. كأنّه صحا من نوم عميق: «فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا».

وفي هذه اللحظة ندم على أقواله وأفكاره الباطلة: «وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّى أَحَدًا».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 142

والأكثر حزناً وأسفاً بالنسبة له هو ما أصبح عليه من الوحدة في مقابل كل هذه المصائب والإبتلاءات: «وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ».

ولأنّه فقد ما كان يملكه من رأس المال ولم يبق لديه شي ء آخر، فإنّ مصيره: «وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا».

وهكذا انتهي

كل شي ء ولا ينفع الندم، لأنّ مثل هذه اليقظة الإجبارية التي تحدث عند نزول الإبتلاءات العظيمة يمكن ملاحظتها حتى عند أمثال فرعون ونمرود، وهي بلا قيمة، لهذا فإنّها لا تؤثّر على حال من ينتبه.

«هُنَالِكَ الْوَليَةُ لِلَّهِ الْحَقّ». نعم، لقد إتضح أنّ جميع النعم منه تعالى، وأنّ كل ما يريده تعالى يكون طوع إرادته، وأنّه بدون الاعتماد على لطفه لا يمكن إنجاز عمل: «هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا».

إذن، لو أراد الإنسان أن يحبّ أحداً ويعتمد على شي ء ما، أو يأمل بهديّة من شخص ما، فمن الأفضل أن يكون اللَّه سبحانه محطّ أنظاره، وموقع آماله، ومن الأفضل أن يتعلق بلطفه تعالى وإحسانه.

وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَ كَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمَالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَ خَيْرٌ أَمَلًا (46)

بداية ونهاية الحياة في لوحة حيّة: الآيات السابقة تحدثت عن عدم دوام نعم الدنيا، ولأنّ إدراك هذه الحقيقة في عمر (60- 80) سنة يعتبر أمراً صعباً بالنسبة للأفراد العاديين، لذا فإنّ القرآن قد جسّد هذه الحقيقة من خلال مثال حي ومعبّر كي يستيقظ الغافلون المغرورون من غفلتهم ونومهم عندما يشاهدون تكرار هذا الأمر عدة مرّات خلال عمرهم. يقول تعالى: «وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنهُ مِنَ السَّمَاءِ». هذه القطرات الواهبة للحياة تسقط على الجبال والصحراء، وتعيد الحياة للبذور المستعدة الكامنة في الأرض المستعدة بدورها، لتبدأ حركتها التكاملية.

إنّ الطبقة الخارجية السميكة للبذور تلين قبال المطر، وتسمح للبراعم في الخروج منها، وأخيراً تشقّ هذه البراعم التراب وتخترقه، الشمس تشع، النسيم يهب، المواد الغذائية في الأرض

تقدّم ما تستطيع، تتقوى البراعم بسبب عوامل الحياة هذه ثم تواصل نموّها، بحيث

مختصر الامثل، ج 3، ص: 143

- بعد فترة- نرى أنّ نباتات الأرض تتشابك فيما بينها: «فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ».

الجبل والصحراء يتحوّلان إلى قوّة حياتية دافعة، أمّا البراعم والفواكه والأوراد فإنّها تزيّن الأغصان، وكأنّ الجميع يضحك، يصرخون صراخ الفرح؛ يرقصون فرحاً.

لكن هذا الواقع الجذّاب لا يدوم طويلًا، حيث تهب رياح الخريف وتلقي بغبار الموت على النباتات، يبرد الهواء، وتشح المياه، ولا تمضي مدّة حتى يمسى ذلك الزرع الجميل الأخضر ذو الأغصان المورقة، ميتاً ويابساً: «فَأَصْبَحَ هَشِيمًا» «1».

تلك الأوراق التي لم تتمكن العواصف الهوجاء من فصلها عن الأغصان في فصل الربيع، قد أصبحت ضعيفة بدون روح بحيث إنّ أي نسيم يهب عليها يستطيع فصلها عن الأغصان ويرسلها إلى أيّ مكان شاء: «تَذْرُوهُ الرّيحُ» «2».

نعم: «وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ مُّقْتَدِرًا».

الآية التي بعدها تذكر وضع المال والثروة والقوة الإنسانية اللذين يعتبران ركنين أساسيين في الحياة الدنيا، حيث تقول: «الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا».

إنّ هذه الآية تشير إلى أهم قسمين في رأسمال الحياة حيث ترتبط الأشياء الاخرى بهما، إنّها تشير إلى (القوة الاقتصادية) و (القوة الإنسانية).

ثم يضيف القرآن: «وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا».

إنّ مفهوم (الباقيات الصالحات) يشمل كل فكره وقول وعمل صالح تدوم وتبقى آثاره وبركاته بين الأفراد والمجتمعات.

وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَ تَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَ حَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَ عُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَ وُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَ لَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا

وَ وَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَ لَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)

______________________________

(1) «هشيم»: من «هشم» بمعنى محطّم، وهي هنا تطلق على النباتات المتيبسة والمتحطّمة.

(2) «تذروه»: من «ذرو» وتعني التشتيت.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 144

يا ويلتاه من هذا الكتاب: تعقيباً لما كانت تتحدّث به الآيات السابقة عن غرور الإنسان وإعجابه بنفسه، وما تؤدّي إليه هذه الصفات من إنكار للبعث والمعاد، ينصب المقطع الراهن من الآيات التي بين أيدينا على تبيان المراحل الممهدة للقيامة وفق الترتيب الآتي:

1- مرحلة ما قبل بعث الإنسان.

2- مرحلة البعث.

3- قسم من مرحلة ما بعد البعث.

الآية الاولى تذكّر الإنسان بمقدمات البعث والقيامة فتقول: إنّ إنهيار معالم الشكل الراهن للعالم هي أوّل مقدمات البعث، وسيتمّ هذا التغيير لشكل العالم من خلال مجموعة مظاهر، في الطليعة منها تسيير الجبال الرواسي وكل ما يمسك الأرض ويبرز عليها، حتى تبدو الأرض خالية من أيّ من المظاهر السابقة: «وَيَوْمَ نُسَيّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً».

هذه الآية تشير إلى حوادث قبيل البعث، وهي حوادث كثيرة جدّاً. والملاحظ أنّ السور القصار تتحدث عنها بشكل بارز في إطار حديثها عما بات يعرف اصطلاحاً ب «أشراط الساعة».

إنّ المستفاد من مجموعة تلك السور أنّ وجه العالم الراهن يتغيّر بشكل كلي حيث تتلاشى الجبال، وعلى حطام كل ذلك تظهر إلى الوجود سماء جديدة، وأرض جديدة، ليبدأ الإنسان حينئذ حياته الاخرى في مرحلة البعث والحساب.

بعد ذلك تضيف الآية قوله تعالى: «وَحَشَرْنهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا».

«نغادر»: من «غدر» بمعنى الترك. ولذلك يقال للذي يخلف الوعد والميثاق ويتركه بأنّه «غدر» ويقال لمياه الامطار المتجمعة في مكان واحد ب «الغدير» لأنّها قد تركت هناك.

تؤكّد الآية الآنفة الذكر على أنّ المعاد هو حالة عامة لا يستثنى منها أحد.

الآية التي بعدها تتحدث عن

كيفية بعث الناس فتقول: «وَعُرِضُوا عَلَى رَبّكَ صَفًّا». إنّ استخدام هذا التعبير قد يكون إشارة إلى حشر كل مجموعة من الناس تتشابه في أعمالها في صفٍ واحد؛ أو أنّ الجميع سيكونون في صف واحد دون أيّة إمتيازات أو تفاوت، وسوف يقال لهم: «لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ».

فليس ثمة كلام عن الأموال والثروات، ولا الذهب والزينة، ولا الإمتيازات والمناصب

مختصر الامثل، ج 3، ص: 145

المادية، ولا الملابس المختلفة، وليس هناك ناصر أو معين، ستعودون كمثل الحالة التي خلقناكم فيها أوّل مرّة، بالرغم من أنّكم كنتم تتوهمون عدم امكان ذلك: «بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا».

وذلك في وقت سيطرت فيه حالة الغرور عليكم بما أوتيتم من إمكانات مادية غفلتم معها عن الآخرة، وأصبحتم تفكّرون في حياتكم الدنيا وخلودها، وغفلتم عن نداء الفطرة فيكم.

ثم تشير الآيات إلى مراحل اخرى من يوم البعث والمعاد فتقول: «وَوُضِعَ الْكِتبُ».

هذا الكتاب الذي يحتوي على أحوال الناس بكل تفصيلاتها: «فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ». وذلك عندما يطّلعون على محتواه فتتجلى آثار الخوف والوحشة على وجوههم.

في هذه الأثناء يصرخون: «وَيَقُولُونَ يوَيْلَتَنَا مَالِ هذَا الْكِتبِ لَايُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصهَا».

بالإضافة إلى الكتاب المكتوب ثمة دليل آخر: «وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا». وجدوا الحسنات والسيئات، الظلم والعدل، السلبيات والخيانات، كل هذه وغيرها وجدوها متجسّدة أمامهم.

في الواقع إنّهم يلاقون مصير أعمالهم: «وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا». الذي سيشملهم هناك هو- لا محالة- ما قاموا به في هذه الحياة الدنيا، لذلك فلا يلومون أحداً سوى أنفسهم.

ترى ما مقدار ما يعكسه الإيمان بهذا اليوم- بهذه المحكمة بكلّ ما تتخلله من مشاهد ومواقف- على قضية تربية الإنسان ودفعه ليتحرك في خط الرسالة والاستقامة والابتعاد عن الشهوات. فهل يمكن أن يجمع الإنسان

بين الذنب، وبين إيمانه ويقينه بهذا اليوم؟!

وَ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَ مَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) وَ يَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَ جَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَ رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَ لَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً (53)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 146

لا تتخذوا الشياطين أولياء: لقد تحدّثت الآيات مرّات عدّة عن خلق آدم وسجود الملائكة له، وعدم انصياع إبليس. وقد قلنا: إنّ هذا التكرار يتضمن دروساً متعددة، وفي كل مقطع مكرّر هناك دروس وعبر جديدة.

ولأنّ الآيات السابقة ذكرت مثالًا واقعياً عن كيفية وقوف الأثرياء المستكبرين والمغرورين في مقابل الفقراء المستضعفين وتجسّد عاقبة عملهم، ولأنّ الغرور كان هو السبب الأصلي لإنحراف هؤلاء وانجرارهم إلى الكفر والطغيان، لذا فإنّ الآيات تعطف الكلام على قصة إبليس وكيف أبى السجود لآدم غروراً منه وعلوّاً، وكيف قاده هذا الغرور والعلو إلى الكفر والطغيان.

إضافة إلى ذلك، فإنّ هذه القصة توضّح أنّ الانحرافات تنبع من وساوس الشيطان.

في البداية تقول الآيات: تذكّروا ذلك اليوم الذي فيه: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلِكَةِ اسْجُدُوا لِأَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ».

هذا الاستثناء يمكن أن يوهمنا بأنّ إبليس كان من جنس الملائكة، في حين أنّ الملائكة معصومون، فكيف سلك إبليس- إذاً- طريق الطغيان والكفر إذا كان من جملتهم؟! لذلك فإنّ الآيات- منعاً لهذا الوهم- تقول مباشرة إنّه: «كَانَ مِنَ الْجِنّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ».

إنّه إذاً لم يكن من الملائكة، لكنه- بسبب عبوديته وطاعته للخالق جلّ وعلا-

قرّب وكان في صف الملائكة، إلّاأنّه- بسبب لحظة من الغرور والكبر- سقط وأصبح أكثر الموجودات نفرة وابتعاداً عن اللَّه تبارك وتعالى.

ثم تقول الآية: «أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِى».

والعجب أنّهم: «وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ». وهذا العدو، هو عدوّ صعب مصمّم على ضلالكم وأن يوردكم سوء العاقبة، وقد أظهر عدوانه منذ اليوم الأوّل لأبيكم آدم عليه السلام.

فاتّخاذ الشيطان وأولاده بدلًا من الخالق المتعال أمر قبيح: «بِئْسَ لِلظلِمِينَ بَدَلًا».

الآية التي بعدها هي دليل آخر على إبطال هذا التصور الخاطي ء، إذ تقول: عن إبليس وابنائه أنّهم لم يكن لهم وجود حين خلق السماوات والأرض، بل لم يشهدوا حتى خلق أنفسهم: «مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ». حتى نطلب العون منهم في خلق العالم، أو نطلعهم على أسرار الخلق.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 147

لذا فإنّ الشخص الذي ليس له أيّ دور في خلق العالم، وحتى في خلق من يقع على شاكلته ومن هو من نوعه، ولا يعرف شيئاً من أسرار الخلق، كيف يكون مستحقاً للولاية، أو العبادة، وأيّ قدرة أو دور يملك؟

ثم تقول: «وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلّينَ عَضُدًا».

يعني أنّ الخلق قائم على أساس الصدق والصحة والهداية، أمّا الكائن الذي يقوم منهج حياته على الإضلال والإفساد، فليس له مكان في إدارة هذا النظام.

آخر آية من الآيات التي نبحثها، تحذّر مرّة اخرى، وتقول: تذكّروا يوماً يأتي فيه النداء الإلهي: «وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَاءِىَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ».

لقد كنتم تنادونهم عمراً كاملًا، وكنتم تسجدون لهم، واليوم وبعد أن أحاطت بكم أمواج العذاب في ساحة الجزاء، نادوهم ليأتوا لمساعدتكم ولو لساعة واحدة فقط.

هناك ينادي الأشخاص الذين لا تزال ترسّبات أفكار الدنيا في عقولهم: «فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ». فلم يجيبوا على ندائهم، فكيف بمساعدتهم وانقاذهم!

«وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوبِقًا»

«1».

ثم تقول الآية التي بعدها موضّحة عاقبة الذين اتبعوا الشيطان والمشركين: «وَرَءَا الْمُجْرِمُونَ النَّارَ».

لقد انكشفت لهم النّار التي لم يكونوا يصدّقون بها أبداً، وظهرت أمام أعينهم، وحينئذ يشعرون بأخطائهم، ويتيقّنون بأنّهم سيدخلون النار: «فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا».

ثم يتيقّنون أيضاً أن لا منقذ لهم منها: «وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا».

فلا تنقذهم اليوم منها لا معبوداتهم ولا شفاعة الشفعاء، ولا الكذب أو التوسل بالذهب والقوة، إنّها النار التي يزداد سعيرها بسبب أعمالهم.

«مواقعوها»: مشتقة من «مواقعة» بمعنى الوقوع على الآخرين، وهي إشارة إلى أنّهم يقعون على النّار، وأنّ النّار تقع عليهم، فالنّار تنفذ فيهم وهم ينفذون في النار؛ وقد قرأنا في الآية (24) من سورة البقرة قوله تعالى: «فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ».

______________________________

(1) «موبق»: من «وبوق» على وزن «نبوغ» وهي تعني الهلاك، و «موبق» تقال للمهلكة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 148

وَ لَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَ كَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْ ءٍ جَدَلًا (54) وَ مَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَ يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَ مَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ يُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَ اتَّخَذُوا آيَاتِي وَ مَا أُنْذِرُوا هُزُواً (56)

في انتظار العقاب: تنطوي هذه الآيات على تلخيص واستنتاج لما ورد في الآيات السابقة، وهي تشير- أيضاً- إلى بحوث قادمة. الآية الاولى تقول: «وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هذَا الْقُرْءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلّ مَثَلٍ».

لقد ذكرنا نماذج من تأريخ الماضين الملي ء بالإثارة، وقد أوضحنا للناس الحوادث المرّة للحياة واللحظات الحلوة في التاريخ، وقد فصّلنا بيان هذه الامور بحيث تتقبلها القلوب المستعدّة للحق، وتكون الحجة على الآخرين تامّة، ولا يبقى ثمّة مجال

للشك.

ولكن بالرغم من هذا فإنّ مجموعة عصاة لم يؤمنوا أبداً: «وَكَانَ الْإِنسنُ أَكْثَرَ شَىْ ءٍ جَدَلًا».

الآية التي بعدها تقول: إنّه بالرغم من كل هذه الأمثلة المختلفة والتوضيحات المثيرة والأساليب المختلفة التي ينبغي أن تنفذ إلى داخل الإنسان المستعد لقبول الحق، فإنّ هناك مجموعة كبيرة من الناس لم تؤمن: «وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ». أي مصير الامم السالفة: «أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا» «1».

فيرونه بأمّ أعينهم.

إنّ هذه الآية إشارة إلى أنّ هذه المجموعة المعاندة والمغرورة لا تؤمن بإرادتها وبشكل طبيعي أبداً، بل هم يؤمنون في حالتين فقط:

أوّلًا: عندما يصيبهم العذاب الأليم الذي نزل مثله في الأقوام والامم السابقة.

ثانياً: عندما يشاهدون العذاب الإلهي بأعينهم، وقد أشرنا مراراً إلى أنّ مثل هذا الإيمان هو إيمان عديم الفائدة.

______________________________

(1) «قبل»: تعني التقابل، بمعنى مشاهدة العذاب الإلهي بالعين.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 149

ومن أجل طمأنة الرسول صلى الله عليه و آله في مقابل صلافة وعناد أمثال هؤلاء، تقول الآية:

«وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ».

ثم تقول الآية: إنّ هذه القضية ليست جديدة، بل إنّ من واقع هؤلاء الأشخاص المعارضة والاستهزاء بآيات اللَّه: «وَيُجدِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا ءَايتِى وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا» «1».

وهذه الآية تشبه الآيات (42- 45) من سورة الحج التي تقول: «وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ» الآيات.

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَ نَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَ رَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ

يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَ تِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَ جَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)

لا استعجال في العقاب الإلهي: الآيات السابقة كانت تتحدث عن مجموعة من الكافرين المتعصبين والمظلمة قلوبهم؛ والآيات التي بين أيدينا تستمر في نفس البحث. ففي البداية قوله تعالى: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بَايتِ رَبّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ».

إنّ استخدام تعبير (ذكّر) يوحي إلى أنّ تعليمات الأنبياء عليهم السلام هي بمثابة التذكير بالحقائق الموجودة بشكل فطري في أعماق الإنسان، وإنّ مهمة الأنبياء هي رفع الحجب عن نقاء وشفافية هذه الفطرة.

الطريف في الأمر أنّ الآية الكريمة رسمت ثلاثة مسالك ليقظة هؤلاء وإعادتهم إلى نور الهداية، هي:

______________________________

(1) «يدحضوا»: مشتقة من «إدحاض» بمعنى الإبطال والإزالة، وهي في الأصل مأخوذة من كلمة «دحض» بمعنى الإنزلاق.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 150

مختصر الامثل ج 3 199

أوّلًا: إنّ هذه الحقائق تلائم بشكل كامل ما هو مكنون في فطرتكم ووجدانكم وأرواحكم. ثانياً: إنّها جاءت من قبل خالقكم.

ثالثاً: عليكم أن لا تنسوا أنّكم اقترفتم الذنوب، وأنّ منهاج عمل الأنبياء هو فتح باب التوبة من الذنوب والهداية للصواب.

لكن هذه الفئة من الناس لم تؤمن برغم كل ذلك: «إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا». وبذلك لا تنفع معهم دعوتك: «وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا».

إنّ البرنامج التربوي للخالق جلّ وعلا هو أن يعطي لعباده الفرصة بعد الاخرى، وهو جلّ وعلا لا يعاقب بشكل فوري مثل الجبّارين والظالمين، بل إنّ رحمته الواسعة تقتضي دوماً إعطاء أوسع الفرص للمذنبين، لذا فإنّ الآية التي بعدها تقول: «وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ». «لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ». فاذا كانت الإرادة الإلهية تقتضي انزال العذاب بسبب إرتكابهم للذنوب

لتحقّق ذلك فوراً.

«بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا» «1».

فغفرانه تعالى يقضي أن يرحم التوابين، ورحمته تقضي أن لا يعجّل عذاب غيرهم، إذ من المحتمل أن يلتحق بعضهم بصفوف التوابين، إلّاأنّ عدالته تعالى تقتضي مجازاة المذنبين العاصين الظالمين عندما يصل طغيانهم وتمرّدهم إلى أقصى درجاته.

وأخيراً تنتهي هذه المجموعة من الآيات إلى توجيه التحذير الأخير من خلال التذكير بالعاقبة المؤلمة المرّة لمن ظلم من السابقين ليكون مصيرهم عبرة لمن يسمع، فتقول: إنّ هذه المدن والقرى أمامكم، ولكم أن تشاهدوا خرائبها والدمار الذي حلّ فيها، وقد أهلكنا أهلها بما إرتكبوا من ظلم، في نفس الوقت الذي لم نعجّل فيه لهم العذاب، بل جعلنا موعداً لمهلكهم: «وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا».

______________________________

(1) «موئل»: من كلمة «وئل» وتعني الملجأ ووسيلة النجاة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 151

وَ إِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هذَا نَصَباً (62) قَالَ أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَ مَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قَالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً (64)

لقاء موسى والخضر عليهما السلام: ذكر علي بن إبراهيم في تفسيره: لمّا أخبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قريشاً بخبر أصحاب الكهف، قالوا: أخبرنا عن العالم الذي أمر اللَّه موسى عليه السلام أن يتبعه، من هو؟ كيف تبعه؟ وما قصّته؟ فأنزل اللَّه تعالى.

لقد ذكرت في سورة الكهف ثلاث قصص متناسقة وهذه القصص هي: قصة أصحاب الكهف التي

إنتهينا منها؛ وقصة موسى والخضر عليهما السلام؛ وقصة ذي القرنين التي سنقف على ذكرها فيما بعد.

هذه القصص الثلاث تخرجنا من الأفق المحدود في حياتنا وما تعوّدنا عليه وألفناه، وتبيّن لنا أنّ حدود العالم لا تنحصر في نطاق ما نرى وما نشاهد، وأنّ الشكل العام للحوادث والأحداث ليس هو ما نفهمه من خلال النظرة الاولى.

فإنّ قصة موسى والخضر لها أبعاد عجيبة اخرى. ففي القصة يواجهنا مشهد عجيب نرى فيه نبيّاً من أولي العزم بكل وعيه ومكانته في زمانه يعيش محدودية في علمه ومعرفته من بعض النواحي، وهو لذلك يذهب إلى معلم (هو عالم زمانه) ليدرس ويتعلّم على يديه.

في أوّل آية نقرأ قوله تعالى: «وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتهُ لَاأَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِىَ حُقُبًا».

إنّ المعني بالآية هو بلا شك موسى بن عمران النبي المعروف من أولي العزم.

أمّا المعني من (فتاه) فهو يوشع بن نون، الرجل الشجاع الرشيد المؤمن من بني اسرائيل.

«مجمع البحرين»: بمعنى محل التقاء البحرين، والمقصود بمجمع البحرين هو محل اتصال «خليج العقبة» مع «خليج السويس»، وهذان الخليجان يتصلان بالبحر الأحمر.

«حقب»: تعني المدة الطويلة والتي فسّرها البعض بثمانين عاماً، وغرض موسى عليه السلام من هذه الكلمة، هو أنّني سوف لا أترك الجهد والمحاولة للعثور على ما ضيّعته ولو أدّى ذلك أن أسير عدّة سنين.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 152

قوله تعالى «فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا» أي السمكة التي كانت معهما، أمّا العجيب في الأمر فإنّ الحوت «فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ سَرَبًا».

هذه السمك الذي كان معدّاً للغذاء كانت سمكة طازجة حيث بعثت فيها الحياة بشكل اعجازي وقفزت إلى الماء وغاصت فيه، حيث يوجد بعض أنواع السمك يبقى على قيد الحياة فترة بعد إخراجه من الماء،

ويعود إلى الحياة الكاملة إذا أعيد في هذه الفترة إلى الماء.

وفي تتمة القصة نقرأ أنّ موسى وصاحبه بعد أن جاوزا مجمع البحرين شعرا بالجوع، وفي هذه الأثناء تذكّر موسى عليه السلام أنّه قد جلب معه طعاماً، وعند ذلك قال لصاحبه: «فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتهُ ءَاتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذَا نَصَبًا».

إنّ هذه الجملة تظهر أنّ موسى ويوشع قد سلكا طريقاً يمكن أن نسمّيه بالسفر، إلّاأنّ نفس هذه التعابير تفيد أنّ هذا السفر لم يكن طويلًا.

وفي هذه الأثناء قال له صاحبه: «قَالَ أَرَءَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنّى نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسنِيهُ إِلَّا الشَّيْطنُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ عَجَبًا».

ولأنّ هذا الحادث والموضوع- بشكل عام- كان علامة لموسى عليه السلام، لكي يصل من خلاله إلى موقع (العالم) الذي خرج يبحث عنه، لذا فقد قال: «قَالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ».

وهنا رجعا في نفس الطريق: «فَارْتَدَّا عَلَى ءَاثَارِهِمَا قَصَصًا».

وهنا قد يطرح هذا السؤال: هل يمكن لنبي مثل موسى عليه السلام أن يصاب بالنسيان حيث يقول القرآن ف «نَسِيَا حُوتَهُمَا».

في الجواب نقول: إنّه لا يوجد ثمة مانع من الإصابة بالنسيان في المسائل والموارد التي لا ترتبط بالأحكام الإلهية والامور التبليغية، أي في مسائل الحياة العادية.

فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَ عَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَ لَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْ ءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 153

رؤية المعلم

الكبير: عندما رجع موسى عليه السلام وصاحبه إلى المكان الأوّل، أي قرب الصخرة وقرب (مجمع البحرين)، فجأة: «فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا ءَاتَيْنهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا».

إنّ استخدام كلمة «وجدا» تفيد أنّهم كانوا يبحثون عن نفس هذا الرجل العالم، وقد وجداه أخيراً.

أمّا استخدام عبارة «عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا» فهي تبيّن أنّ أفضل فخر للإنسان هو أن يكون عبداً حقيقياً للخالق جلّ وعلا، وإنّ مقام العبودية هذا يكون سبباً في شمول الإنسان بالرحمة الإلهية، وفتح أبواب المعرفة والعلم في قلبه.

كما أنّ استخدام عبارة «مِن لَّدُنَّا» تبيّن أنّ علم ذلك العالم لم يكن علماً عادياً، بل كان يعرف جزءاً من أسرار هذا العالم، وأسرار الحوادث التي لا يعلمها سوى اللَّه تعالى.

والمقصود من عبارة «رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا» هو الإستعداد الكبير والروح الواسعة، وسعة الصدر التي وهبها اللَّه تعالى لهذا الرجل كي يكون قادراً على استقبال العلم الإلهي.

في هذه الأثناء قال موسى للرجل العالم باستفهام وبأدب كبير: «قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلّمَنِ مِمَّا عُلّمْتَ رُشْدًا».

في معرض الجواب نرى أنّ الرجل العالم يجيب موسى عليه السلام بكلام عجيب: «قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا».

ثم بيّن سبب ذلك مباشرة وقال: «وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا».

إنّ هذا الرجل العالم كان يحيط بأبواب من العلوم التي تخصّ أسرار وبواطن الأحداث، في حين أنّ موسى عليه السلام لم يكن مأموراً بمعرفة البواطن، وبالتالي لم يكن يعرف عنها الكثير.

في مثل هذه الحالة يفقد الشخص الذي ينظر إلى الظاهر صبره وتماسكه فيقوم بالإعتراض وحتى بالتشاجر.

وقد يكون موسى عليه السلام اضطرب عندما سمع هذا الكلام وخشي أن يحرم من فيض هذا العالم الكبير، لذا فقد تعهّد بأن يصبر على جميع

الحوادث و «قَالَ سَتَجِدُنِى إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِى لَكَ أَمْرًا».

مرّة اخرى كشف موسى عليه السلام عن قمّة أدبه في هذه العبارة، فقد اعتمد على خالقه حيث لم يقل للرجل العالم: إنّي صابر، بل قال: إن شاء اللَّه ستجدني صابراً.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 154

ولأنّ الصبر على حوادث غريبة وسيّئة في الظاهر والتي لا يعرف الإنسان أسرارها، ليس بالأمر الهيّن، لذا فقد طلب الرجل العالم من موسى عليه السلام أن يتعهد له مرّة اخرى، وحذّره: «قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِى فَلَا تَسَلْنِى عَن شَىْ ءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا» «1». وقد أعطى موسى العهد مجدداً وانطلق مع العالم الأستاذ.

المعلم الإلهي والأفعال المنكرة: نعم، لقد ذهب موسى وصاحبه وركبا السفينة:

«فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السَّفِينَةِ خَرَقَهَا».

«خرق»: (كما يقول الراغب في المفردات) الخرق، قطع الشي ء على سبيل الإفساد بلا تدبّر ولا تفكّر حيث كان ظاهر عمل الرجل العالم على هذا المنوال.

وبحكم كوْن موسي عليه السلام نبيّاً إلهيّاً فقد كان من جانب يرى أنّ من واجبه الحفاظ على أرواح وأموال الناس، وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ومن جانب آخر كان وجدانه الإنساني يضغط عليه ولا يدعه يسكت أمام أعمال الرجل العالم التي يبدو ظاهرها سيّئاً قبيحاً، لذا فقد نسي العهد الذي قطعه للخضر (العالم) فاعترض و «قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا

______________________________

(1) إنّ عبارة «أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا» يكون مفهومها بعد الأخذ بنظر الإعتبار كلمة «أحدث» هو: إنّي أنا الذي أبدأ بالكلام وأكشف للمرّة الاولى؛ أمّا أنت فلا تتكلم.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 155

لَقَدْ جِئْتَ شَيًا إِمْرًا».

وفي هذه الأثناء نظر الرجل العالم إلى موسى عليه السلام نظرة خاصة وخاطبه: «قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا».

أمّا موسى الذي ندم على استعجاله، بسبب

أهمية الحادثة، فقد تذكّر عهده الذي قطعه لهذا العالم الأستاذ، لذا فقد التفت إليه قائلًا: «قَالَ لَاتُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْرًا». يعني لقد أخطأت ونسيت الوعد فلا تؤاخذني بهذا الإشتباه.

«ترهقني»: مشتقة من «إرهاق» وتعني تغطية شي ء ما بالقهر والغلبة، وتأتي في بعض الأحيان بمعنى التكليف، وفي الآية- أعلاه- يكون معناها: لا تصعّب الامور عليّ، ولا تقطع فيضك عنّي بسبب هذا العمل.

لقد انتهت سفرتهم البحرية وترجّلوا من السفينة: «فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلمًا فَقَتَلَهُ»، وقد تمّ ذلك بدون أي مقدمات.

وهنا ثار موسى عليه السلام مرّة اخرى حيث لم يستطع السكوت على قتل طفلٍ بري ء بدون أي سبب، وظهرت آثار الغضب على وجهه وملأ الحزن وعدم الرضا عينيه ونسي وعده مرّةً اخرى، فقام للإعتراض، وكان اعتراضه هذه المرّة أشد من اعتراضه في المرّة الاولى، لأنّ الحادثة هذه المرّة كانت موحشة أكثر من الاولى: «قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ». أي إنّك قتلت انساناً بريئاً من دون أن يرتكب جريمة قتل، «لَّقَدْ جِئْتَ شَيًا نُّكْرًا».

ومرّة اخرى كرّر العالم الكبير جملته السابقة التي إتّسمت ببرود خاص، حيث قال لموسى عليه السلام: «قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا».

تذكّر موسى تعهده فانتبه إلى ذلك وهو خجل، حيث أخلّ بالعهد مرتين- ولو بسبب النسيان- وبدأ تدريجياً يشعر بصدق عبارة الأستاذ في أنّ موسى لا يستطيع تحمل أعماله، لذا فلا يطيق رفقته كما قال له عندما عرض عليه موسى الرفقة، لذا فقد بادر إلى الاعتذار وقال: إذا اعترضت عليك مرّة اخرى فلا تصاحبني وأنت في حلّ منّي: «قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْ ءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصحِبْنِى قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّى عُذْرًا».

صيغة العذر هنا تدل على انصاف موسى عليه

السلام ورؤيته البعيدة للُامور، وتبيّن أنّه عليه السلام كان

مختصر الامثل، ج 3، ص: 156

يستسلم للحقائق ولو كانت مرّة.

بعد هذا الكلام والعهد الجديد: «فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيّفُوهُمَا». والمقصود من كلمة قرية هو مدينة (الناصرة) أو ميناء (أيلة). المهم في الأمر، أنّنا نستنتج من خلال ما جرى لموسى عليه السلام وصاحبه من أهل هذه المدينة أنّهم كانوا لئاماً دنيئي الهمّة. في مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «كانوا أهل قرية لئام».

ثم يضيف القرآن: «فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ». وقد كان موسى عليه السلام شاهد كيف أنّ الخضر قام بترميم الجدار بالرغم من سلوك أهل القرية القبيح إزاءهما، وكأنّه بذلك أراد أن يجازي أهل القرية بفعالهم السيّئة؛ وكان موسى يعتقد بأنّ على صاحبه أن يطالب بالأجر على هذا العمل حتى يستطيعا أن يعدّا لأنفسهما طعاماً.

لذا فقد نسي موسى عليه السلام عهده مرّة اخرى وبدأ بالإعتراض، إلّاأنّ اعتراضه هذه المرّة بدا خفيفاً ف «قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا».

وفي الواقع فإنّ موسى يعتقد بأنّ قيام الإنسان بالتضحية في سبيل أناس سيئين عمل مجاف لروح العدالة.

وهنا قال الرجل العالم كلامه الأخير لموسى بأنّك ومن خلال حوادث مختلفة، لا تستطيع معي صبراً، لذلك قرّر العالم قراره الأخير: «قَالَ هذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا». «تأويل»: من «أول» على وزن «قول» وتعني الإرجاع، لذا فإنّ أي عمل أو كلام يرجعنا إلى الهدف الأصلي يسمّى «تأويل» كما أنّ رفع الحجب عن أسرار شي ء هو نوع من التأويل.

إنّ مفارقة رجل بهذه الخصائص أمرٌ صعب للغاية، لكن على موسى عليه السلام أن ينصاع لهذه الحقيقة المرّة.

المفسر المعروف

أبو الفتوح الرازي يقول: ورد في الخبر، أنّ موسى عليه السلام عندما سئل عن أصعب ما لاقى من مشكلات في طول حياته، أجاب قائلًا: لقد واجهت الكثير من المشاكل والصعوبات (إشارة إلى ما لاقاه عليه السلام من فرعون، وما عاناه من بني إسرائيل) ولكن لم يكن أيّاً منها أصعب وأكثر ألماً على قلبي من قرار الخضر في فراقي إيّاه.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 157

أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَ كَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَ أَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَ كُفْراً (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَ أَقْرَبَ رُحْماً (81) وَ أَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَ كَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَ كَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَ يَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَ مَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82)

الأسرار الداخلية لهذه الحوادث: بعد أن أصبح الفراق بين موسى والخضر عليهما السلام أمراً حتمياً، كان من اللازم أن يقوم الأستاذ الإلهي بتوضيح أسرار أعماله التي لم يستطع موسى أن يصبر عليها، وفي الواقع فإنّ استفادة موسى من صحبته تتمثل في معرفة أسرار هذه الحوادث الثلاثة العجيبة، والتي يمكن أن تكون مفتاحاً للعديد من المسائل، وجواباً لكثير من الأسئلة. ففي البداية ذكر قصة السفينة وقال: «أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسكِينَ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا».

وبهذا الترتيب كان ثمّة هدف خيّر وراء ثقب السفينة الذي بدأ في حينه عملًا مشيناً سيّئاً، والهدف هو نجاتهم من قبضة ملك غاصب، وكان هذا الملك يترك السفينة المعيبة

ويصرف النظر عنها، إذاً خلاصة المقصود في الحادثة الاولى هو حفظ مصالح مجموعة من المساكين.

كلمة «وراء» لا تعني هنا الجانب المكاني، وإنّما هي كناية عن الخطر المحيط بهم (خطر الملك) بدون أن يعلموا به، وبما أنّ الإنسان لا يحيط بالحوادث التي سوف تصيبه لاحقاً، لذا استخدمت الآية التعبير الآنف الذكر.

بعد ذلك ينتقل العالم إلى بيان سر الحادثة الثانية التي قتل فيها الفتى، فيقول: «وَأَمَّا الْغُلمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَينِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْينًا وَكُفْرًا».

إنّ تعبير (خشينا) جاء هنا بمعنى: لم نكن نرغب، وإلّا لا معنى للخوف في هذه الموارد بالنسبة لشخص بهذا المستوى من العلم والوعي والقدرة.

وبعبارة اخرى: فإنّ الهدف هو الإتّقاء من حادث سي ء نرغب أن نقي الأبوين منه على أساس المودة لهما.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 158

ثم تحكي الآيات على لسان العالم قوله: «فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مّنْهُ زَكَوةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا». «زكاة»: هنا بمعنى الطهارة والنظافة، ولها مفهوم واسع حيث تشمل الإيمان والعمل الصالح، وتتسع للامور الدينية والمادية، وقد يكون في هذا التعبير ما هو جواب على اعتراض موسى عليه السلام الذي قال: «أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً ...» فقال له العالم في الجواب: إنّ هذه النفس ليست زكية، وأردنا أن يبدلهما ربّهما ابناً طاهراً بدلًا عن ذلك.

وفي الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «أبدلهما اللَّه به جارية ولدت سبعين نبيّاً».

في آخر آية من الآيات التي نبحثها، كشف الرجل العالم عن السر الثالث الذي دعاه إلى بناء الجدار فقال: «وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صلِحًا». «فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا». «رَحْمَةً مِّن رَّبّكَ».

وأنا كنت مأموراً ببناء هذا الجدار بسبب جميل وإحسان أبوي هذين اليتيمين، كي

لا يسقط وينكشف الكنز ويكون معرّضاً للخطر.

وفي خاتمة الحديث، ولأجل أن تنتفي أيّ شبهة محتملة، أو شك لدى موسى عليه السلام، ولكي يكون على يقين بأنّ هذه الأعمال كانت طبقاً لمخطط وتوجيه غيبي، قال العالم: «وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى» بل بأمر من اللَّه.

وذلك سرّ ما لم يستطع عليه موسى عليه السلام صبراً، إذ قال: «ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا».

دروس قصة خضر وموسى عليهما السلام: هناك جملة دروس يمكن أن نستفيدها من القصة، ويمكن لنا أن ندرجها كما يلي:

أ: أهمية العثور على قائد عالم والاستفادة من علمه، بحيث رأينا أنّ نبيّاً من اولي العزم مثل موسى عليه السلام يسلك هذا الطريق الطويل، وقد بذل ما بذل لتحقيقه، وهذا درس لجميع الناس مهما كان علمهم وفي أيّ عمر كانوا.

ب: جوهرة العلم الإلهي تنبع من العبودية للَّه تعالى.

ج: يجب تعلّم العلم للعمل، كما يقول موسى عليه السلام لصاحبه «مِمَّا عُلّمْتَ رُشْدًا». أي:

علمني عملًا يقرّبني من هدفي ومقصدي، فأنا لا أطلب العلم لنفسه، بل للوصول إلى الهدف.

د: يجب عدم الإستعجال في الأعمال، إذ العديد من الامور تحتاج إلى الفرص المناسبة.

ه: الظاهر والباطن من المسائل المهمّة الاخرى التي نتعلّمها من القصة، إذ يجب علينا أن

مختصر الامثل، ج 3، ص: 159

لا نصدر أحكاماً سريعة تجاه الحوادث التي تقع في مجرى حياتنا مما قد لا يعجبنا، إذ ما أكثر الحوادث التي نكرهها، ولكن يتّضح بعد مدّة أنّ هذه الحوادث لم تكن سوى نوع من الألطاف الخفية الإلهية، والقرآن يصرّح بمضمون هذه الحقيقة في الآية (216) من سورة البقرة قوله تعالى: «عَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ».

و: من دروس القصة

الإعتراف بالحقائق واتخاذ المواقف المطابقة لها، فعندما تخلّف موسى ثلاث مرّات عن الوفاء بالتزامه لصاحبه العالم، عرف أنّه لا يستطيع الاستمرار معه في الصحبة.

يجب على الإنسان أن لا يستمر إلى آخر عمره في اختبار نفسه، بحيث تتحوّل حياته إلى مختبر للأمور المستقبلية التي قد لا تحصل أبداً، اذ عليه عندما يختبر موضوعاً ما عدّة مرّات، أن يلتزم العمل بنتائج الإختبار وأن يقتنع به.

ز: تأثير إيمان الآباء على الأبناء؛ لقد تحمل الخضر مسؤولية حماية الأبناء بالمقدار الذي كان يستطيعه، وذلك بسبب الأب الصالح الملتزم، بمعنى أنّ الإبن يستطيع أن يسعد في ظل الإيمان وأمانة والتزام الأب، وإنّ نتيجة العمل الصالح الذي يلتزمه الأب تعود على الإبن أيضاً.

ح: قصر العمر بسبب إيذاء الوالدين عندما يطال الموت الإبن بسبب ما يلحقه من أذى بوالديه في مستقبل حياته، وبسبب ما يرهقهما به من أذىً وطغيان وكفر، قد يحرفهم عن الطريق الإلهي، كما رأينا ذلك في القصة التي بين أيدينا.

ط: الناس أعداء ما جهلوا؛ قد يحدث أن يقوم شخص بالإحسان إلينا، إلّاأنّنا نتصوره عدوّاً لنا، لأنّنا لا نعرف بواطن الامور، ونتسرّع ونفقد الصبر، خصوصاً إزاء الأحداث والامور التي نجهلها ولا نحيط بأسبابها علماً. من الطبيعي أن يفقد الإنسان صبره إزاء ما لا يحيط به علماً من الأحداث والقضايا، إلّاأنّ الدرس المستفاد من القصة هو أن لا نتسرّع في إصدار الأحكام على مثل هذه القضايا حتى تكتمل لدينا الرؤية التي نحيط من خلالها بجوانب وزوايا الموضوع المختلفة.

ى: أدب التلميذ والأستاذ؛ ثمّة ملاحظات لطيفة حول أدب التلميذ والأستاذ ظهرت في مقاطع الحديث بين موسى عليه السلام والرجل الرباني العالم، فمن ذلك مثلًا:

1- اعتبار موسى عليه السلام نفسه تابعاً للخضر قوله: «أَتَّبِعُكَ».

مختصر الامثل،

ج 3، ص: 160

2- وللتواضع فقد اعتبر علم أستاذه كثيراً، وهو يطلب جانباً من هذا العلم، فقال:

«مِمَّا عُلّمْتَ».

وَ يَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَ آتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَ وَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَ إِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً (87) وَ أَمَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَ سَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً (90) كَذلِكَ وَ قَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً (91)

قصة ذو القرنين العجيبة: قلنا في بداية حديثنا عن أصحاب الكهف: إنّ مجموعة من قريش قرّرت اختبار الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، وقامت هذه المجموعة بالتنسيق مع اليهود واستشارتهم بطرح ثلاث قضايا ونحن الآن بصدد ذكر قصة «ذو القرنين»:

إنّ قصة ذو القرنين تدور حول شخصية أثارت اهتمامات الفلاسفة والباحثين منذ القدم.

وقد بذلت جهود ومساعي كثيرة للتعرّف على هذه الشخصية.

وسنقوم أوّلًا بتفسير الآيات الست عشرة الخاصّة بذي القرنين، ثم ننتقل إلى بحوث لمعرفة شخصية ذي القرنين نفسه.

بتعبير آخر: إنّ ما يهمنا أوّلًا هو الحديث عن شخصية ذي القرنين، وهو ما فعله القرآن، حيث يقول تعالى: «وَيَسَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ».

فيكون الجواب على لسان الرسول المصطفى صلى الله عليه و آله: «قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا».

إنّ بداية الآية تبيّن لنا أنّ قصة ذو القرنين كانت متداولة ومعروفة بين

الناس، ولكنّها كانت محاطة بالغموض والإبهام، لهذا السبب طالبوا الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله الإدلاء حولها بالتوضيحات اللازمة.

وفي إستئناف الحديث عن ذي القرنين يقول تعالى: «إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الْأَرْضِ». أي:

منحناه سبل القوّة والقدرة والحكم.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 161

«وَءَاتَيْنهُ مِن كُلّ شَىْ ءٍ سَبَبًا». إنّ اللَّه تبارك وتعالى منح «ذو القرنين» أسباب الوصول لكل الأشياء: العقل، العلم الكافي، الإدارة السليمة، القوّة والقدرة، الجيوش والقوى البشرية، بالإضافة إلى الإمكانات المادية، أي إنّه منح كل الأسباب والسبل المادية والمعنوية الكفيلة بتحقيق الأهداف المنشودة.

ثم يشير القرآن بعد ذلك إلى استفادة ذي القرنين من هذه الأسباب والسبل فيقول:

«فَأَتْبَعَ سَبَبًا». ثم «حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ». فرأى أنّها تغرب في بحر غامق أو عين ذات ماء آسن: «وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ» «1».

«وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا». أي مجموعة من الناس فيهم الصالح والطالح، هؤلاء القوم هم الذين خاطب اللَّه ذا القرنين في شأنهم: «قُلْنَا يذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا».

بعد ذلك تحكي الآيات جواب «ذي القرنين» الذي قال: «قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا» «2». أي إنّ الظالمين سينالون العذاب الدنيوي والأخروي معاً.

«وَأَمَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صلِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى . «وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا». أي:

أنّنا سنتعامل معه بالقول الحسن، فضلًا عن أنّنا سنخفف عنه ولا نجعله يواجه المشاكل والصعاب، بالإضافة إلى أنّنا سوف لن نجبي منه ضرائب كثيرة.

وعندما إنتهى «ذو القرنين» من سفره إلى الغرب توجه إلى الشرق حيث يقول القرآن في ذلك: «ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا». أي استخدم الوسائل والإمكانات التي كانت بحوزته.

«حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ». وهنا رأى أنّها: «وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم

مِّن دُونِهَا سِتْرًا». وفي اللفظ كناية عن أنّ حياة هؤلاء الناس بدائية جدّاً، ولا يملكون سوى القليل من الملابس التي لا تكفي لتغطية أبدانهم من الشمس.

أمّا بعض المفسرين فلم يستبعدوا افتقار هؤلاء الناس إلى المساكن التي تحميهم من الشمس.

______________________________

(1) «حمئة»: تعني في الأصل الطين الأسود ذا الرائحة الكريهة، أو الماء الآسن الموجود في المستنقعات. وهذا الوصف يبيّن لنا بأنّ الأرض التي بلغها «ذو القرنين» كانت مليئة بالمستنقعات، بشكل كان ذو القرنين يشعر معه بأنّ الشمس كانت تغرب في هذه المستنقعات، تماماً.

(2) «نكر»: مشتقة من «منكر» بمعنى الشي ء المجهول؛ أي العذاب المجهول الذي لم يمكن تصوره.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 162

بالطبع ليس هناك تعارض بين التفاسير هذه، قوله تعالى: «كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا». هكذا كانت أعمال «ذو القرنين» ونحن نعلم جيّداً بإمكاناته.

ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَ بَيْنَهُمْ سَدّاً (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَ مَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قَالَ هذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَ كَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً (98)

كيف تمّ بناء سدّ ذي القرنين: الآيات أعلاه تشير إلى سفرة اخرى من أسفار ذي القرنين حيث تقول: «ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا». أي: بعد هذه الحادثة استفاد من الوسائل المهمة التي كانت تحت تصرفه

ومضى في سفره حتى وصل إلى موضع بين جبلين: «حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّايَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا».

والآية تشير إلى أنّه وصل إلى منطقة جبلية، وهناك وجد اناساً كانوا على مستوى دانٍ من المدنية، لأنّ الكلام أحد أوضح علائم التمدن لدى البشر.

في هذه الأثناء اغتنم هؤلاء القوم مجي ء ذي القرنين، لأنّهم كانوا في عذاب شديد من قبل أعدائهم يأجوج ومأجوج، لذا فقد طلبوا العون منه قائلين: «قَالُوا يذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِى الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا».

قد يكون كلامهم هذا تمّ عن طريق تبادل العلامات والإشارات، لأنّهم لا يفهمون لغة ذي القرنين.

أمّا ذو القرنين فقد أجابهم: «قَالَ مَا مَكَّنّى فِيهِ رَبّى خَيْرٌ»، وأنّي لا أحتاج إلى مساعدتكم المالية وإنّما: «فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا».

«ردم»: على وزن «طرد» في الأصل تعني مل ء الشق بالأحجار، إلّاأنّها فيما بعد أخذت معنىً واسعاً بحيث شمل كل سدّ، بل وشمل حتى ترقيع الملابس.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 163

يعتقد بعض المفسرين أنّ كلمة «ردم» تقال للسدّ القوي.

ثم أمر ذو القرنين فقال: «ءَاتُونِى زُبَرَ الْحَدِيدِ».

«زُبر»: جمع «زُبرة» على وزن (غرفة)، وتعني القطع الكبيرة والضخمة من الحديد.

وعندما تهيّأت قطع الحديد أعطى أمراً بوضع بعضها فوق البعض الآخر حتى غطّي بين الجبلين بشكل كامل: «حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ». «صدف»: تعني هنا حافة الجبل.

الأمر الثالث لذي القرنين هو طلبه منهم أن يجلبوا الحطب وما شابهه، ووضعه على جانبي هذا السد، وأشعل النار فيه ثم أمرهم بالنفخ فيه حتى احمرّ الحديد من شدّة النار:

«قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا».

لقد كان يهدف ذو القرنين من ذلك ربط قطع الحديد بعضها ببعض ليصنع منها سدّاً من

قطعة واحدة، وعن طريق ذلك، قام ذو القرنين بنفس عمل «اللحام» الذي يقام به اليوم في ربط أجزاء الحديد بعضها ببعض.

أخيراً أصدر لهم الأمر الأخير فقال: اجلبوا لي النحاس المذاب حتى أضعه فوق هذا السد: «قَالَ ءَاتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا».

وبهذا الشكل قام بتغطية هذا السدّ الحديدي بطبقة من النحاس حتى لا ينفذ فيه الهواء ويحفظ من التآكل.

وأخيراً، أصبح هذا السد بقدر من القوة والإحكام بحيث: «فَمَا اسْطعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطعُوا لَهُ نَقْبًا».

لقد كان عمل ذي القرنين عظيماً ومهماً، وكان له وفقاً لمنطق المستكبرين ونهجهم أن يتباهى به أو يمنّ به، إلّاأنّه قال بأدب كامل: «قَالَ هذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبّى»، لأنّ أخلاقه كانت أخلاقاً إلهية.

إنّه أراد أن يقول: إذا كنت أملك العلم والمعرفة وأستطيع بواسطتهما أن أخطو خطوات مهمّة، فإنّ كل ذلك إنّما كان من قبل الخالق جلّ وعلا.

ثم استطرد قائلًا: لا تظنوا أنّ هذا السد سيكون أبدياً وخالداً: «فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبّى جَعَلَهُ دَكَّاءَ». «وَكَانَ وَعْدُ رَبّى حَقًّا».

لقد أشار ذو القرنين في كلامه هذا إلى قضية فناء الدنيا وتحطّم هيكل نظام الوجود فيها عند البعث.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 164

بحثان

أوّلًا- ملاحظات التربوية في هذه القصة التأريخية: هذه القصة تحوي على دروس تربوية كثيرة وفي الواقع أنّها هي الهدف القرآني من إيرادها.

1- إنّ أوّل درس تعلّمنا إيّاه أنّ العمل الدنيوي لا يتمّ دون توفير أسبابه، لذا فإنّ اللَّه تبارك وتعالى وهب الوسائل والأسباب لتقدم وانتصار ذي القرنين في عمله.

2- لا تستطيع أي حكومة أن تنتصر بدون ترغيب الأنصار والأتباع، ومعاقبة المذنبين والمخطئين، وهذا هو نفس الأساس الذي اعتمد عليه ذو القرنين.

والإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام بلور هذا المعنى في رسالته إلى مالك الأشتر والتي

هي برنامج كامل لإدارة البلاد، إذ يقول عليه السلام: «ولا يكونن المحسن والمسيى ء عندك بمنزلة سواء، فإنّ في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة» «1».

3- التكليف الشاق والتصعّب في الامور وتحميل الناس ما لا يطيقون، كل هذه الامور لا تناسب الحكومة الإلهية العادلة أبداً.

4- الحكومة الكبيرة ذات الإمكانات الواسعة لا تتغاضى عن التفاوت والإختلاف القائم في حياة الناس وتراعي شرائط حياتهم المختلفة.

5- إنّ «ذو القرنين» لم يستبعد حتى تلك المجموعة التي لم تكن تفهم الكلام، أو كما وصفهم القرآن: «لَّايَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا» بل إنّه استمع إلى مشاكلهم، ودأب على رفع احتياجاتهم بأيّ اسلوب كان.

6- الأمن هو أوّل وأهم شرط من شروط الحياة الإجتماعية السالمة، لهذا السبب تحمل «ذو القرنين» أصعب الأعمال وأشقّها لتأمين أمن القوم من أعدائهم.

7- الدرس الآخر الذي يمكن أن نتعلّمه من هذه القصّة، هو أنّ أصحاب المشكلة الأصليين معنيين بالدرجة الاولى في الإشتراك في الجهد المبذول لحل مشكلتهم.

وعادة فإنّ العمل الذي يتمّ بمساهمة وحضور الأطراف الأصليين في المشكلة يؤدّي إلى إظهار استعداداتهم ويعطي قيمة خاصة للنتائج الحاصلة منه، وللجهود المبذولة فيه، ومن ثم يحرص الجميع للحفاظ عليه وإدامته بحكم تحمّلهم لمجهودات إنشائه.

______________________________

(1) نهج البلاغة، الرسالة 53.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 165

كما يتّضح من هذه النقطة أنّ، المجتمع المتخلف والمتأخر يستطيع أن ينجز أعمالًا مهمة وعظيمة إذا تمتّع ببرنامج صحيح وإدارة مخلصة.

8- الزعيم الإلهي والقائد الرباني لا يلتفت إلى الجزاء المادي والنفع المالي وإنّما يقتنع بما حباه اللَّه.

وفي القرآن الكريم نقرأ مراراً في قصص الأنبياء أنّهم لم يكونوا يطلبون المال جزاءً لأعمالهم ودعواتهم.

9- إحكام الامور هو درس آخر نستفيده من هذه القصة.

10- مهما كان الإنسان قوياً ومتمكناً وصاحب قدرة

واستطاعة في إنجاز الأعمال، فعليه أن لا يغتر بنفسه، وهذا هو درس آخر نتعلّمه من قصة «ذو القرنين».

11- كل شي إلى زوال مهما كان محكماً وصلداً. هذا هو الدرس الأخير في هذه القصة، وهو درس للذين يتمنّون أو يظنون خلود المال أو المنصب والجاه.

ثانياً- من هم يأجوج ومأجوج؟ ذكر القرآن الكريم يأجوج ومأجوج في سورتين، إذ وردت المرّة الاولى في الآيات التي نبحثها، والثانية في سورة الأنبياء، الآية (96).

الآيات القرآنية تؤيّد بوضوح أنّ هذين الاسمين هما لقبيلتين همجيتين كانتا تؤذيان سكّان المناطق المحيطة بهم. حيث طلب أهل القفقاز من «كورش» عند سفره إليهم أن ينقذهم من هجمات هذه القبائل، لذلك أقدم على تأسيس السد المعروف بسدّ ذي القرنين.

وَ تَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً (99) وَ عَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَ كَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَ فَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)

عاقبة الكافرين: لقد تناولت الآية السابقة سد يأجوج ومأجوج وانهدامه عند البعث، وهذه الآيات تستمر في قضايا القيامة، فتقول أوّلًا: إنّنا سنترك في ذلك اليوم- الذي ينتهي فيه العالم- بعضهم يموج ببعض: «وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِى بَعْضٍ».

إنّ استخدام كلمة «يموج» إمّا بسبب الكثرة الكاثرة للناس في تلك الواقعة، أو بسبب

مختصر الامثل، ج 3، ص: 166

الإضطراب والخوف الذي يصيب الناس في ذلك اليوم، وكأنّما أجسادهم تهتز كأمواج الماء.

بعد ذلك تضيف الآيات: «وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَجَمَعْنهُمْ جَمْعًا». وبلا شك فإنّ كافة الناس سيجمعون في تلك الساحة ولن يستثنى منهم أحد، وتعبير «فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا» إشارة إلى هذه الحقيقة.

من مجموع الآيات نستفيد

أنّ ثمّة تحوّلان عظيمان سيحصلان عند نهاية هذا العالم وبداية العالم الجديد:

الأوّل: فناء الموجودات والناس بشكل آني.

والثاني: إحياء الموتى بشكل آني أيضاً.

ولا نعلم مقدار الفاصل بين الحدثين، ولكنّ القرآن يعبّر عن هذين التحوّلين بعنوان (نفخ الصور).

ثم تتناول الآيات تفصيل حال الكافرين، حيث توضّح عاقبة أعمالهم، والصفات التي تقود إلى هذه العاقبة، فتقول: «وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكفِرِينَ عَرْضًا».

إنّ جهنّم ستظهر لهم، وتتّضح لهم الأنواع المختلفة من عذابها، وهذا هو بحد ذاته عذاب أليم موجع، فكيف إذا ولجوها؟!

ولكن من هم الكافرون؟ ولماذا يصابون بمثل هذه العاقبة؟ الآية تعرّف هؤلاء بجملة قصيرة واحدة بقولها: «الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَاءٍ عَن ذِكْرِى». وبالرغم من أنّهم يمتكون آذاناً، إلّاأنّهم يفقدون القدرة على السماع: «وَكَانُوا لَايَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا».

فهؤلاء أسقطوا في الواقع أهم وسيلة لمعرفة الحق وإداركه، وأهملوا الوسيلة الهامة في شقاء أو سعادة الإنسان. يعني أنّهم غطّوا أعينهم وأسماعهم بحجاب وستار بسبب أفكارهم الخاطئة وتعصبهم وحقدهم وصفاتهم القبيحة الاخرى.

الآية التي بعدها تشير إلى نقطة انحراف فكرية لدى هؤلاء هي أصل انحرافاتهم الاخرى، فتقول: «أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِى مِن دُونِى أَوْلِيَاءَ».

هل يملك هؤلاء المعبودون- كالمسيح والملائكة- شيئاً للدفاع عن الآخرين بالرغم من مكانتهم العالية، أو أنّ الأمر بالعكس إذ كل ما عند هؤلاء هو من اللَّه، وأنّهم أنفسهم يحتاجون إلى هدايته؟

إنّ هذه حقيقة واضحة، ولكن هؤلاء تناسوها وتورّطوا في شراك الشرك.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 167

في ختام الآية وللمزيد من التأكيد، تقول الآية: «إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكفِرِينَ نُزُلًا».

«نُزُل»: بمعنى الإقامة، وتعني أيضاً الشي ء الذي يهيّأ لتقديمه للضيوف.

قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَ لِقَائِهِ

فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَ اتَّخَذُوا آيَاتِي وَ رُسُلِي هُزُواً (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)

أخسر الناس: هذه الآيات والآيات اللاحقة- إلى نهاية السورة المباركة- في الوقت الذي تتحدث فيه عن صفات غير المؤمنين، فإنّها تعتبر نوعاً من التلخيص لكافّة البحوث التي وردت في هذه السورة، خاصة البحوث المتعلقة بقصة أصحاب الكهف وموسى والخضر وذي القرنين، وما بذلوه من جهود إزاء معارضيهم.

فالآيات تكشف أوّلًا عن أخسر الناس، ولكنها- بهدف إثارة حب الإستطلاع لدى المستمع إزاء هذه القضية- تعمد إلى إثارتها على شكل سؤال موجّه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فتقول: «قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْملًا».

ثم يأتي الجواب بدون أي توقف حتى لا يبقى المستمع في حيرة، فتقول: «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا».

مفهوم الخسران لا ينطبق على خسران الأرباح وحسب، بل إنّ الخسران الواقعي هو خسران أصل رأس المال، وهل هناك رأس مال أربح وأفضل وأحسن من العقل والذكاء والطاقات الإلهية الموهوبة للإنسان من عمر وشباب وصحة؟

إنّ نتاج كل هذه المواهب هي أعمال الإنسان، وأعمال الإنسان هي في الواقع انعكاس وتجسيد لطاقاتنا وقدراتنا.

عندما تتحوّل هذه الطاقات إلى أعمال مخرّبة أو غير هادفة، فكأنّها قد فنيت أو ضاعت؛ إلّا أنّ الخسران الحقيقي والمضاعف هو أن يفقد الإنسان رأسماله المادي والمعنوي في مسالك خاطئة ومجالات منحرفة ويظن أنّه أحسن العمل، فهو في هذه الحالة لم يحصل على ثمرة

مختصر الامثل، ج 3، ص: 168

لعمله، وفي نفس الوقت لم يلتفت إلى ما هو فيه، فيكرّر العمل. الآيات الاخرى

تذكر صفات ومعتقدات هذه المجموعة من الخاسرين، حيث تبدأ بتلك الصفات التي تكون أساساً في مصائبهم فتقول: «أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَايَاتِ رَبّهِمْ».

إنّهم كفروا بالآيات التي تفتح الأبصار والمسامع، الآيات التي ترفع حجب الغرور وتجسّد الحقائق أمام الإنسان، وأخيراً فإنّها آيات النور والضياء التي تخرج الإنسان من ظلمات الأوهام والتصورات الخاطئة وترشده إلى عالم الحقائق.

ثم إنّهم بعد ذلك نسوا اللَّه وكفروا بالمعاد وبلقاء اللَّه «وَلِقَائِهِ».

يعني أنّ الإنسان في يوم القيامة يشاهد آثار الخالق أكثر وأفضل من أي زمان، لذا فإنّه ينظر إليه بوضوح، بعين القلب الواعي البصير.

نعم، فما لم يكن الإيمان بالمعاد إلى جانب الإيمان بالمبدأ، وما لم يحس الإنسان بأنّ هناك قوة تراقب أعماله فإنّ الإنسان سوف لا يعير أهمّية إلى أعماله وسوف لا يصلح نفسه.

ثم تضيف الآية أنّهم بسبب من كفرهم بالمبدأ والمعاد فإنّ أعمالهم قد حبطت وضاعت:

«فَحَبِطَتْ أَعْملُهُمْ». وغدت تماماً كالرماد في مقابل العاصفة الهوجاء.

ولأنّهم لا يملكون عملًا قيّماً ثميناً لذا: «فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ وَزْنًا».

لأنّ الوزن يخصّ الامور الموجودة، أمّا هؤلاء فلا يملكون شيئاً من الأعمال، ولذلك ليس لهم وزن ولا قيمة. روي في تفسير مجمع البيان أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال: «إنّه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن جناح بعوضة».

لماذا؟ لأنّ أعمال مثل هؤلاء وأفكارهم وشخصيتهم كانت في الحياة الدنيا عديمة الأهمية والفائدة.

وفي إطار بيان جزاء هؤلاء، تكشف الآية عن ثالث سبب في انحراف وخسران هؤلاء، وهو الاستهزاء بما أنزل اللَّه، فتقول: «ذلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا ءَايتِى وَرُسُلِى هُزُوًا».

وبذلك فإنّ هؤلاء انتهوا إلى إنكار الأصول الأساسية الثلاثة في الإعتقاد الديني (المبدأ، والمعاد، ورسالة الأنبياء) والأكثر من الإنكار أنّهم استهزؤوا بهذه الامور.

والآن بعد أن

عرفنا علامات الكفار والأخسرين أعمالًا، وبعد أن انكشفت عاقبة أعمالهم، تتوجّه الآيات إلى المؤمنين فتبيّن عاقبتهم، وبمقايسة بين الاثنين نستطيع تشخيص

مختصر الامثل، ج 3، ص: 169

كل طرف بشكل كامل. تقول الآية: «إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا». «الفردوس»: البستان الذي يشتمل على كل النعم والمواهب اللازمة، وبذلك فالفردوس هو أفضل وأكمل البساتين في الجنة.

وبما أنّ كمال النعم بدوامها وأن لا تطالها يد الزوال، لذا فإنّ الآية تقول: «خلِدِينَ فِيهَا».

وبالرغم من أنّ طبع الإنسان قائم على التغيّر والتنوع، إلّاأنّ سكّان الجنة لا يطلبون تغيير مكانهم أو حالهم أبداً: «لَايَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا». ذلك لأنّهم يجدون كل ما يطلبون حتى التنوع والتكامل كما سيأتي شرح ذلك.

قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحاً وَ لَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس قال: لمّا نزل قوله «وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» «1»، قالت اليهود: أوتينا علماً كثيراً، أوتينا التوراة، وفيها علم كثير، فأنزل اللَّه هذه الآية «قُلْ لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمتِ رَبّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمتُ رَبّى».

التّفسير

الذين يأملون لقاء اللَّه: الآيات أعلاه في نفس الوقت الذي تبحث بحثاً مستقلًا، إلّاأنّها متصلة مع بحوث هذه السورة، وكأنّما القرآن يريد أن يقول في هذه الآيات: إنّ الإطلاع على قصة أصحاب الكهف، وموسى والخضر، وذي القرنين، يعتبر لا شي ء إزاء علم اللَّه غير المحدود. القرآن الكريم يخاطب الرسول صلى الله عليه و آله- في أوّل آية

نبحثها- بقوله: «قُلْ لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمتِ رَبّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمتُ رَبّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا».

«مداد»: تعني الحبر، أو أي مادة ملوّنة تساعد في الكتابة.

«كلمات»: جمع كلمة، وهي في الأصل تعني الألفاظ التي يتمّ التحدّث بها. أو بعبارة

______________________________

(1) سورة الإسراء/ 85.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 170

اخرى: «الكلمة» لفظ يدل على المعنى، وبما أنّ كل موجود من موجودات هذا العالم هو دليل على علم وقدرة الخالق، لذا فإنّه يطلق في بعض الأحيان على كل موجود اسم (كلمة اللَّه) ويختص هذا التعبير أكثر بالموجودات المهمة العظيمة.

وفي الآية التي نبحثها فإنّ (كلمة) قد استخدمت بهذا المعنى أي إشارة إلى موجودات عالم الوجود التي تدل كل واحدة فيه على الصفات المختلفة للَّه تبارك وتعالى.

إنّ القرآن يلفت أنظارنا في هذه الآية إلى هذه الحقيقة وهي: لا تظنّوا أنّ عالم الوجود محدود بما تشاهدونه أو تعلمونه أو تحسّونه، بل هو على قدر من السعة والعظمة بحيث لو أنّ البحار تتحوّل إلى حبر، وتكتب صفاته وخصائصه، فإنّها- أي البحار- ستجف قبل أن تحصي موجودات عالم الوجود.

وينبغي الإنتباه هنا إلى أنّ الآية أعلاه في الوقت الذي تجسّد فيه سعة عالم الوجود اللامتناهية في الماضي والحاضر والمستقبل، فإنّها توضّح- أيضاً- العلم المطلق وغير المحدود للخالق جلّ وعلا، لأنّنا نعلم أنّ اللَّه سبحانه وتعالى يحيط علمه بما كان موجوداً في عالم الوجود، وبما سيكون موجوداً، وفي الوقت الذي يعتبر فيه علم اللَّه تعالى «علماً حضورياً» فإنّه لا يفترق عن وجود هذه الموجودات (فدقق في ذلك).

إذن نستطيع أن نقول: لو أنّ جميع المحيطات وبحار الأرض تحوّلت إلى حبر ومداد، ولو أنّ كافة الأشجار تحوّلت إلى أقلام، فإنّ ذلك كلّه لا يستطيع الإحاطة بما هو

موجود في علم الخالق جلّ وعلا.

العدد الحي هو العدد الذي تنشغل أفكارنا به، ويجسّد الحقائق كما هي ويملك روحاً ولساناً وعظمة.

والقرآن الكريم بدلًا من أن يقول: إنّ مخلوقات عالم الوجود تتجاوز في كثرتها الرقم الذي تقع على يمينه مئات الكيلومترات من الأصفار، يقول: إذا تحوّلت جميع الأشجار إلى أقلام، وكل البحار إلى مواد وحبر، فإنّ الأقلام ستتكسر ومياه البحار ستنتهي، ولا تنتهي أسرار ورموز وحقائق عالم الوجود، هذه الأسرار التي يحيط بها جميعاً علم اللَّه تعالى.

الآية الثانية في البحث والتي هي آخر آية في سورة الكهف، عبارة عن مجموعة من

مختصر الامثل، ج 3، ص: 171

الأسس والأصول للإعتقادات الدينية، التي تتركّز في التوحيد والمعاد ورسالة الرّسول صلى الله عليه و آله.

ففي البداية تحدّثت السورة عن اللَّه والوحي والجزاء والقيامة، والآية الأخيرة هي خلاصة لمجموع ما ورد في السورة، التي اشتملت في قسم مهم منها على الأصول الثلاثة الآنفة باعتبارها محاور للسورة.

ولأنّ قضية النبوة قد اقترنت مع أشكال من الغلو والمبالغة على طول التاريخ، لذا فإنّ الآية تقول: «قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ».

وهذا التعبير القرآني نسف جميع الإمتيازات المقرونة بالشرك التي تخرج الأنبياء من صفة البشرية إلى صفة الألوهية.

ثم تشير الآية إلى قضية التوحيد من بين جميع القضايا الاخرى في الوحي الإلهي حيث تقول: «أَنَّمَا إِلهُكُم إِلهٌ وَاحِدٌ».

أمّا لماذا تمّت الإشارة إلى هذه القضية؟ فذلك لأنّ التوحيد هو خلاصة جميع المعتقدات، وغاية كل البرامج الفردية والاجتماعية التي تجلب السعادة للإنسان.

وفي مكان آخر، أشرنا إلى أنّ التوحيد ليس أصلًا من أصول الدين وحسب، وإنّما هو خلاصة لجميع أصول وفروع الإسلام.

لهذا السبب نقرأ في حديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «حدثني جبرائيل عليه

السلام قال: سمعت ربّ العزّة سبحانه وتعالى يقول: كلمة لا إله إلّااللَّه حصني فمن قالها دخل حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي» «1».

الجملة الثالثة في الآية الكريمة تشير إلى قضية البعث وتربطها بالتوحيد بواسطة (فاء التفريع)، حيث تقول: «فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا».

بالرغم من أنّ لقاء اللَّه بمعنى المشاهدة الباطنية ورؤية الذات المقدسة بعين البصيرة هو أمر ممكن في هذه الدنيا بالنسبة للمؤمنين الحقيقيين، إلّاأنّ هذه القضية تكتسب جانباً عاماً يوم القيامة بسبب مشاهدة الآثار الكبيرة والواضحة والصريحة للخالق تبارك وتعالى. لذا فإنّ القرآن استخدم هذا التعبير في خصوص يوم القيامة.

______________________________

(1) بحار الأنوار 49/ 127.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 172

وفي آخر جملة ثمّة توضيح للعمل الصالح في جملة قصيرة، هي قوله تعالى: «وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدًا».

بعبارة اخرى: لا يكون العمل صالحاً ما لم تتجلى فيه حقيقة الإخلاص.

في الحقيقة إنّ العمل الصالح الذي ينبع من أهداف إلهيّة، ويمتزج بالإخلاص ويتفاعل معه، هو الذي يكون جوازاً للقاء اللَّه تبارك وتعالى.

فالعمل الخالص يعتبر مهماً في الإسلام إلى الحد الذي يقول فيه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من أخلص للَّه أربعين يوماً فجّر اللَّه ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه» «1».

«نهاية تفسير سورة الكهف»

______________________________

(1) بحار الأنوار 67/ 249.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 173

19 سورة مريم

محتوى السورة: لهذه السورة من جهة المحتوى عدة أقسام مهمّة:

1- يشكّل القسم الذي يتحدث عن قصص زكريا ومريم والمسيح عليهم السلام ويحيي وإبراهيم عليهما السلام بطل التوحيد، وولده إسماعيل، وإدريس وبعض آخر من كبار أنبياء اللَّه- الجزء الأهم في هذه السورة- ويحتوي على امور تربوية لها خصوصيات مهمّة.

2- ثم يتحدث عن المسائل المرتبطة بالقيامة، وكيفية البعث، ومصير المجرمين، وثواب المتقين، وأمثال ذلك.

3- القسم

الثالث، وهو المواعظ والنصائح التي تكمّل الأقسام السابقة.

4- إنّ آخر قسم عبارة عن الإشارات المرتبطة بالقرآن، ونفي الولد عن اللَّه سبحانه، ومسألة الشفاعة، وتشكّل بمجموعها برنامجاً تربوياً مؤثّراً من أجل دفع النفوس الإنسانية إلى الإيمان والطهارة والتقوى.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من أدمن قراءة سورة مريم لم يمت في الدنيا حتى يصيب منها ما يغنيه في نفسه وماله وولده وكان في الآخرة من أصحاب عيسى بن مريم عليه السلام واعطي من الأجر في الآخرة ملك سليمان بن داود في الدنيا».

إنّ هذا الغنى وعدم الإحتياج- حتماً- قبس من وجود محتوى السورة وسريانها في أعماق روح الإنسان، وانعاكسها من خلال أعماله وأقواله وسلوكه.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 174

كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً (4) وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَ كَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً (5) يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً (6)

دعاء زكريا المستجاب: مرّة اخرى نواجه الحروف المقطعة في بداية هذه السورة، ولمّا كنّا قد بحثنا تفسير هذه الحروف المقطعة بصورة مفصّلة في بداية ثلاث سور مختلفة فيما سبق- سورة البقرة وآل عمران والأعراف- فلا نرى حاجة للتكرار هنا.

ولكن ما ينبغي اضافته هنا هو وجود طائفتين من الروايات في المصادر الإسلامية تتعلق بالحروف المقطعة في هذه السورة «كهيعص».

الاولى: تقول بأنّ كل حرف من هذه الحروف يشير إلى اسم من أسماء اللَّه الحسنى، فالكاف يشير إلى الكافي، وهو من أسماء اللَّه الحسنى، والهاء تشير إلى الهادي، والياء

إشارة إلى الولي، والعين إشارة إلى العالم، والصاد إشارة إلى صادق الوعد «1».

الثانية: تفسّر هذه الحروف المقطعة بحادثة ثورة الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء: فالكاف اسم كربلاء، والهاء هلاك العترة، والياء يزيد لعنه اللَّه وهو ظالم الحسين، والعين عطشه، والصاد إشارة إلى صبره «2».

وكما قلنا مراراً، فإنّ لآيات القرآن أنوار ومعان مختلفة، ومع تنوعها واختلافها فإنّه لا يوجد تناقض بينها.

وبعد ذكر الحروف المقطعة، تشرع الكلمات الاولى باستعراض قصة زكريا عليه السلام فتقول:

«ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا». وفي ذلك الوقت الذي كان زكريا عليه السلام مغتماً ومتألماً فيه

______________________________

(1) تفسير نور الثقلين 3/ 320.

(2) المصدر السابق.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 175

من عدم إنجاب الولد، توجّه إلى رحمة ربّه: «إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا» بحيث لم يسمعه أحد. وذكر في دعائه وهن وضعف العظام باعتبارها عمود بدن الإنسان ودعامته وأقوى جزء من اجزائه: «قَالَ رَبّ إِنّى وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّى وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا».

لقد شبّه زكريا نزول الكبر، وبياض كل شعر رأسه باشتعال النار، والرماد الأبيض الذي تتركه، وهذا التشبيه جميل وبليغ جدّاً.

ثم يضيف: «وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيًّا». فقد عوّدتني دائماً- فيما مضى- على استجابة أدعيتي، ولم تحرمني منها أبداً، والآن وقد أصبحت كبيراً وعاجزاً فأجدني أحوج من السابق إلى أن تستجيب دعائي ولا تخيّبني.

إنّ الشقاء هنا بمعنى التعب والأذى أي إنّي لم أتعب ولم أتأذّ في طلباتي منك، لأنّك كنت تقضيها بسرعة.

ثم يبيّن حاجته: «وَإِنّى خِفْتُ الْمَوَالِىَ مِن وَرَاءِى». أي إنّي أخشى من أقربائي أن يسلكوا سبيل الانحراف والظلم، «وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا فَهَبْ لِى مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيًّا». أي مرضياً عندك.

إنّ للإرث هنا مفهوماً ومعنى واسعاً يشمل إرث الأموال كما

يشمل إرث المقامات المعنوية، لأنّ الأشخاص الفاسدين إذا تولّوا أمر هذه الأموال، فإنّهم سيكونون مصدر قلق حقاً، وإذا وقعت زمام الامور وقيادة الناس المعنوية بيد أناس منحرفين، فإنّ ذلك أيضاً يثير المخاوف، وعلى هذا فإنّ خوف زكريا يمكن توجيهه في كلا الصورتين.

يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَ كَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً (8) قَالَ كَذلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَنْ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيّاً (11)

بلوغ زكريا أمله: تبيّن هذه الآيات استجابة دعاء زكريا عليه السلام من قبل اللَّه تعالى استجابة

مختصر الامثل، ج 3، ص: 176

ممزوجة بلطفه الكريم وعنايته الخاصة، وتبدأ بهذه الجملة: «يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشّرُكَ بِغُلمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَّجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا». أمّا زكريا الذي كان يرى أنّ الأسباب الظاهرية لا تساعد على الوصول إلى مثل هذه الأمنية، فإنّه طلب توضيحاً لهذه الحالة من اللَّه سبحانه: «قَالَ رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلمٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا».

«عاقر»: في الأصل من لفظة «عقر» بمعنى الجذر والنهاية، أو بمعنى الحبس، وإنّما يقال للمرأة، عاقر؛ لأنّ قابليتها على الولادة قد انتهت، أو لأنّ إنجاب الأولاد محبوس عنها.

«العتيّ»: تعني الشخص الذي نحل جسمه وضعف هيكله، وهي الحالة التي تظهر على الإنسان عند شيخوخته.

إلّا أنّ زكريا سمع في جواب سؤاله قول اللَّه سبحانه: «قَالَ كَذلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ».

إنّ هذه ليست بالمسألة العجيبة،

أن يولد مولود من رجل طاعن في السن مثلك، وامرأة عقيم ظاهراً «وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيًا»، فإنّ اللَّه قادر على أن يخلق كل شي ء من العدم، فلا عجب أن يتلطّف عليك بولد في هذا السن وفي هذه الظروف.

وقد سرّ زكريا وفرح كثيراً لدى سماعه هذه البشارة، وغمر نور الأمل نفسه، لكن لمّا كان هذا النداء بالنسبة إليه مصيرياً ومهماً جدّاً، فإنّه طلب من ربّه آية على هذا العمل:

«قَالَ رَبّ اجْعَل لِّى ءَايَةً».

لا شك أنّ زكريا كان مؤمناً بوعد اللَّه، وكان مطمئناً لذلك، إلّاأنّه لزيادة الإطمئنان- كما أنّ إبراهيم الذي كان مؤمناً بالمعاد طلب مشاهدة صورة وكيفية المعاد في هذه الحياة ليطمئن قلبه- طلب من ربّه مثل هذه العلامة والآية، فخاطبه اللَّه: «قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلّمَ النَّاسَ ثَلثَ لَيَالٍ سَوِيًّا»، واشغل لسانك بذكر اللَّه ومناجاته.

وهذه واقعاً معجزة بيّنة حيث إنّ إنساناً يمتلك لساناً سليماً، وقدرة على كل نحو من المناجاة مع اللَّه، ومع ذلك لا تكون له القدرة على التحدّث أمام الناس.

بعد هذه البشارة والآية الواضحة، خرج زكريا من محراب عبادته إلى الناس، فكلّمهم بالإشارة: «فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا»، لأنّ النعمة الكبيرة التي منّ اللَّه بها على زكريا قد أخذت بأطراف القوم، وكان لها تأثير على مصير ومستقبل كل هؤلاء.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 177

وإذا تجاوزنا ذلك، فإنّ بإمكان هذه الموهبة التي تعتبر إعجازاً أن تحكّم أسس الإيمان في قلوب الناس، وكانت هذه أيضاً موهبة اخرى.

لقد ورد اسم «يحيى» في القرآن الكريم خمس مرات- في سور آل عمران، والأنعام، ومريم، والأنبياء- فهو واحد من أنبياء اللَّه الكبار، ومن جملة امتيازاته ومختصاته أنّه وصل إلى مقام النبوة في

مرحلة الطفولة.

يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً (12) وَ حَنَاناً مِنْ لَدُنَّا وَ زَكَاةً وَ كَانَ تَقِيّاً (13) وَ بَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً (14) وَ سَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً (15)

صفات يحيى عليه السلام البارزة: رأينا في الآيات السابقة كيف أنّ اللَّه سبحانه منّ على زكريا عند كبره بيحيى، وبعد ذلك فإنّ أوّل ما نلاحظه في هذه الآيات هو الأمر الإلهي المهم الذي يخاطب يحيى: «يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتبَ بِقُوَّةٍ».

إنّ المراد من الكتاب هنا هو التوراة، فإنّ المراد من أخذ الكتاب بقوة هو إجراء وتنفيذ ما جاء في كتاب التوراة السماوي وأن يعمل بكلّ ما فيه، وأن يستعين بكل القوى المادية والمعنوية في سبيل نشره وتعميمه.

ثم أشار القرآن الكريم إلى المواهب العشرة التي منحها اللَّه ليحيى والتي اكتسبها بتوفيق اللَّه:

1- «وَءَاتَيْنهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا». وهو أمر النبوة والعقل والذكاء والدراية.

2- «وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا». و «الحنان» في الأصل بمعنى الرحمة والشفقة والمحبة وإظهار العلاقة والمودة للآخرين.

3- «وَزَكَوةً». أي أعطيناه روحاً طاهرة وزكية.

4- «وَكَانَ تَقِيًّا». فكان يجتنب كل ما يخالف الأوامر الالهية.

5- «وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ».

6- «وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا» فلم يكن رجلًا ظالماً ومتكبّراً وانانيّاً.

7- ولم يكن «عَصِيًّا» ولم يقترف ذنباً ومعصية.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 178

8، 9، 10- ولمّا كان جامعاً لكل هذه الصفات البارزة، والأوسمة الكبيرة، فإنّ اللَّه سبحانه قد سلّم عليه في ثلاثة مواطن: «وَسَلمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا». إنّ جملة «سَلمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ ...» يبيّن أنّ في تاريخ حياة الإنسان وانتقاله من عالم إلى عالم آخر ثلاثة أيام صعبة: يوم يضع قدمه في هذه الدنيا: «يَوْمَ وُلِدَ» ويوم موته وانتقاله إلى

عالم البرزخ «وَيَوْمَ يَمُوتُ» ويوم بعثه في العالم الآخر «وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا». ولمّا كان من الطبيعي أن تكون هذه الأيّام مرافقة للإضطرابات والقلق، فإنّ اللَّه سبحانه يكتنف خاصة عباده بلطفه وعافيته، ويجعل هؤلاء في ظلّ حمايته ومنعته في هذه المراحل العسيرة الثلاثة.

شهادة يحيى عليه السلام: لقد أصبح يحيى ضحيّة للعلاقات غير الشرعية لأحد طواغيت زمانه مع أحد محارمه، حيث تعلّق «هروديس» ملك فلسطين اللاهث وراء شهواته ببنت أخته «هروديا» ولذلك صمم على الزواج منها.

فبلغ هذا الخبر نبي اللَّه العظيم يحيى عليه السلام، فأعلن بصراحة أنّ هذا الزواج غير شرعي ومخالف لتعليمات التوراة، وسأقف أمام مثل هذا العمل.

لقد انتشر صخب وضوضاء هذه المسألة في كل أرجاء المدينة، وسمعت تلك الفتاة (هروديا) بذلك، فكانت ترى يحيى أكبر عائق في طريقها، ولذلك صممت على الإنتقام منه في فرصة مناسبة، فعمّقت علاقتها بخالها ووطّدتها، وجعلت من جمالها مصيدة له، فقالت هروديا: لا أريد منك إلّارأس يحيى.

فسلّم هيروديس لما أرادت من دون أن يفكّر ويتنبه إلى عاقبة هذا العمل، ولم يمض قليل من الزمن حتى احضر رأس يحيى عند تلك المرأة الفاجرة، إلّاأنّ عواقب هذا العمل الشنيع قد أحاطت به، وأخذت بأطرافه في النهاية.

في تفسير مجمع البيان عن علي بن الحسين عليهما السلام قال: «خرجنا مع الحسين عليه السلام فما نزل منزلًا ولا ارتحل منه إلّاذكر يحيى بن زكريا وقتله، وقال يوماً: ومن هوان الدنيا على اللَّه عزّ وجل أنّ رأس يحيى بن زكريا اهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل». أي إنّ ظروفي تشابه من هذه الناحية ظروف وأحوال يحيى، لأنّ أحد أهداف ثورتي محاربة الأعمال المخزية لطاغوت زماني يزيد.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 179

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ

انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيّاً (20) قَالَ كَذلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَ رَحْمَةً مِنَّا وَ كَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً (21)

ولادة عيسى عليه السلام: بعد ذكر قصة يحيى عليه السلام، حوّلت الآيات مجرى الحديث إلى قصة عيسى عليه السلام لوجود علاقة قوية وتقارب واضح جدّاً بين مجريات هاتين الحادثتين.

فإن كانت ولادة يحيى من أب كبير طاعن في السن وأم عقيم عجيبة، فإنّ ولادة عيسى من امّ دون أب أعجب.

وإن كان الوصول إلى مقام النبوة وبلوغ العقل الكامل- في مرحلة الطفولة- باعثاً على الحيرة ومعجزاً، فإنّ التحدّث في المهد عن الكتاب والنبوة أبعث على التعجب والحيرة، وأكثر إعجازاً.

وعلى كل حال، فإنّ كلا الأمرين آيتان على قدرة اللَّه الكبير المتعال، إحداهما أكبر من الاخرى، وقد صادف أن تكون كلتا الآيتين مرتبطتان بشخصين تربطهما أواصر نسب قوية، فكل منهما قريب للآخر من ناحية النسب، حيث إنّ امّ يحيى كانت أخت امّ مريم، وكانت كلتاهما عقيمتين وتعيشان أمل الولد الصالح.

تقول الآية الاولى: «وَاذْكُرْ فِى الْكِتبِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا».

«انتبذت»: أخذت من مادة «نبذ» وهي تعني إلقاء وإبعاد الأشياء التي لا تسترعي الإنتباه، وربّما كان هذا التعبير في الآية إشارة إلى أنّ مريم قد اعتزلت بصورة متواضعة ومجهولة وخالية من كل ما يجلب الإنتباه، واختارت ذلك المكان من بيت اللَّه للعبادة.

في هذه الأثناء ومن أجل أن تكمل مريم

مكان خلوتها واعتكافها من كل جهة، فإنّها «فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا». «فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا». والروح هنا جبرئيل ملك اللَّه العظيم حيث تجسّد لمريم على شكل انسان جميل لا عيب فيه ولا نقص.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 180

إنّ الحالة التي اعترت مريم في تلك اللحظة واضحة جدّاً، كم داخلها من الرعب والإضطراب عند مشاهدة هذا المنظر، وهو دخول رجل أجنبي جميل في محل خلوتها، ولذلك فإنّها مباشرة: «قَالَتْ إِنّى أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا». وكانت هذه أوّل هزّة عمّت كل وجود مريم.

إنّ ذكر اسم الرحمان، ووصفه برحمته العامة من جهة، وترغيب الرجل في التقوى والإمتناع عن المعصية من جهة اخرى، كان من أجل أن يرتدع هذا الشخص المجهول إن كانت له نيّة سيّئة في إرتكاب المعصية.

لقد كانت مريم تنتظر ردّ فعل ذلك الشخص المجهول بعد أن تفوّهت بهذه الكلمات إنتظاراً مشوباً بالإضطراب والقلق الشديد، إلّاأنّ هذه الحالة لم تطل، فقد كلّمها ذلك الشخص، ووضّح مهمّته ورسالته العظيمة «قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبّكِ».

لقد كانت هذه الجملة كالماء الذي يلقى على النار، فقد طمأنت قلب مريم الطاهر، إلّاأنّ هذا الإطمئنان لم يدم طويلًا، لأنّه أضاف مباشرة: «لِأَهَبَ لَكِ غُلمًا زَكِيًّا».

لقد اهتز كيان ووجود مريم لدى سماع هذا الكلام، وغاصت مرّة اخرى في قلق شديد:

«قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا».

لقد كانت تفكّر في تلك الحالة في الأسباب الطبيعية فقط. إلّاأنّ أمواج هذا القلق المتلاطمة هدأت بسرعة عند سماع كلام آخر من رسول اللَّه إليها، فقد خاطب مريم بصراحة: «قَالَ كَذلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ». فأنت الواقفة على قدرتي والعالمة بها جيّداً ...

أنت التي رأيت ثمر الجنّة في فصل لا

يوجد شبيه لتلك الفاكهة في الدنيا جنب محراب عبادتك، أنت التي سمعت نداء الملائكة حين شهدت بعفّتك وطهارتك ... أنت التي تعلمين أنّ جدّك آدم قد خلق من التراب، فلماذا هذا التعجب من سماعك هذا الخبر؟

ثم أضاف: «وَلِنَجْعَلَهُ ءَايَةً لّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا». فنحن نريد أن نبعثه للناس رحمة من عندنا، ونجعله معجزة، وعلى كل حال، «وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا». فلا مجال بعد ذلك للمناقشة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 181

مريم في عاصفة: وأخيراً حملت مريم، واستقرّ ذلك الولد الموعود في رحمها:

«فَحَمَلَتْهُ».

إنّ هذا الأمر قد تسبب في أن تبتعد عن بيت المقدس «فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا».

لقد كانت تعيش في حالة بين الخوف والأمل، حالة من القلق والإضطراب المشوب بالسرور، فهي تفكّر أحياناً بأنّ هذا الحمل سيفتضح أمره في النهاية.

فمن الذي سيقتنع بأنّ إمرأة لا زوج لها تحمل دون أن تكون قد تلوّثت بالرذيلة؟ فماذا سأفعل تجاه هذا الإتهام؟

إلّا أنّها من جهة اخرى كانت تحسّ أنّ هذا المولود، نبي اللَّه الموعود، تحفة سماوية نفيسة، فإنّ اللَّه الذي بشّرني بمثل هذا الغلام، وخلقه بهذه الصورة الإعجازية كيف سيذرني وحيدة؟

ومهما كان فقد انتهت مدّة الحمل.

ومع أنّ النساء يلجأن عادة في مثل هذه الحالة إلى المعارف والأصدقاء ليساعدوهنّ على الولادة، إلّاأنّ وضع مريم لمّا كان استثنائياً، ولم تكن تريد أن يرى أحد وضع حملها مطلقاً، فإنّها اتّخذت طريق الصحراء بمجرّد أن بدأ ألم الولادة؛ ويقول القرآن في ذلك:

«فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ».

إنّ التعبير بجذع النخلة، وبملاحظة أنّ الجذع يعني بدن الشجرة، يوحي بأنّه لم يبق من تلك الشجرة إلّاجذعها وبدنها، أي إنّ الشجرة كانت يابسة.

في هذا الحال غمر كل وجود مريم الطاهر سيل من الغم والحزن، لقد كان هذا الإضطراب والصراع صعباً جدّاً،

وقد أثقل كاهلها إلى الحد الذي تكلّمت فيه بلا إرادة و «قَالَتْ يَا لَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا».

إنّ من البديهي أنّ الخوف من التهم في المستقبل لم يكن الشي ء الوحيد، وإن كان هذا الموضوع يشغل فكر مريم أكثر من أيّة مسألة اخرى، إلّاأنّ مشاكل ومصائب اخرى كوضع الحمل لوحدها بدون قابلة وصديق ومعين في الصحاري الخالية، وعدم وجود مكان للإستراحة، وعدم وجود الماء للشرب، والطعام للأكل، وعدم وجود وسيلة لحفظ المولود الجديد، وغير هذه الامور كانت تهزّها من الأعماق بشدة.

إلّا أنّ هذه الحالة لم تدم طويلًا، فقد سطعت ومضة الأمل التي كانت موجودة دائماً في

مختصر الامثل، ج 3، ص: 182

أعماق قلبها، وطرق سمعها صوت، «فَنَادَيهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا». وانظري إلى الأعلى كيف أنّ هذا الجذع اليابس قد تحوّل إلى نخلة مثمرة، «وَهُزّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا* فَكُلِى وَاشْرَبِى وَقَرّى عَيْنًا» بالمولود الجديد، «فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِى إِنّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا». وهذا الصوم هو المعروف بصوم السكوت. وعلى هذا فليهدأ روعك من كل الجهات، ولا تدعي للهم طريقاً إلى نفسك.

ويظهر من تعبير الآية أنّ نذر صوم السكوت كان أمراً معروفاً في ذلك المجتمع، ولهذا لم يعترضوا على هذا العمل؛ غير أنّ هذا النوع من الصوم غير جائز في شريعتنا.

عن علي بن الحسين عليه السلام (في حديث) قال: «وصوم الصمت حرام» «1».

استفاد المفسرون مما جاء صريحاً في هذه الآيات، أنّ اللَّه سبحانه قد جعل غذاء مريم حين ولادة مولودها الرطب.

في الكافي عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ليكن أوّل ما تأكل النفساء

الرطب، فإنّ اللَّه عزّ وجل قال لمريم: «وَهُزّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا»».

ويستفاد من الروايات أنّ أفضل غذاء ودواء للحامل هو الرطب.

فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ مَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيّاً (30) وَ جَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَمَا كُنْتُ وَ أَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَ الزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً (31) وَ بَرّاً بِوَالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً (32) وَ السَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً (33)

المسيح يتكلّم في المهد: وأخيراً رجعت مريم عليها السلام من الصحراء إلى المدينة وقد احتضنت طفلها «فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ». فلمّا رأوا طفلًا حديث الولادة بين يديها فغرّوا أفواههم تعجّباً، وتعجّل آخرون في القضاء والحكم، وقالوا: إنّ من المؤسف هذا الإنحدار مع ذلك الماضي المضي ء، ومع الأسف على تلوّث سمعة تلك الأسرة الطاهرة، «قَالُوا يَا مَرْيَمُ

______________________________

(1) وسائل الشيعة 7/ 390.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 183

لَقَدْ جِئْتِ شَيًا فَرِيًّا».

والبعض الآخر واجهها، بالقول: «يَا أُختَ هرُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امَرأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا».

أمّا قولهم لمريم: «يَا أُختَ هرُونَ» لأنّ هارون رجل طاهر صالح إلى الدرجة التي يضرب به المثل بين بني إسرائيل، فإذا أرادوا أن يصفوا شخصاً بالطهارة والنزاهة، كانوا يقولون: إنّه أخو أو أخت هارون.

في هذه الساعة، سكتت مريم بأمر اللَّه، والعمل الوحيد الذي قامت به، هو أنّها أشارت إلى وليدها «فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ». إلّاأنّ هذا العمل جعل هؤلاء يتعجبون أكثر، ثم غضبوا فقالوا:

مع قيامك بهذا العمل تسخرين من قومك

أيضاً؟ «قَالُوا كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِى الْمَهْدِ صَبِيًّا».

إنّ الناس قلقوا واضطربوا من سماع كلام مريم هذا، بل وربما غضبوا وقالوا لبعضهم البعض- حسب بعض الروايات-: إنّ استهزاءها وسخريتها أشدّ علينا من انحرافها عن جادة العفة.

إلّا أنّ هذه الحالة لم تدم طويلًا، لأنّ ذلك الطفل الذي ولد حديثاً قد فتح فاه وتكلّم:

«قَالَ إِنّى عَبْدُ اللَّهِ ءَاتنِىَ الْكِتبَ وَجَعَلَنِى نَبِيًّا* وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ»، ومفيداً من كل الجهات للعباد «وَأَوْصنِى بِالصَّلَوةِ وَالزَّكَوةِ مَا دُمْتُ حَيًّا».

وكذلك جعلني مطيعاً ووفيّاً لُامي «وَبَرًّا بِوَالِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّارًا شَقِيًّا».

وروى- في التفسير الكبير- أنّ عيسى عليه السلام قال: «قلبي لين وأنا صغير في نفسي». وهو إشارة إلى أنّ هذين الوصفين يقعان في مقابل الجبار والشقي.

وفي النهاية يقول هذا المولود- أي المسيح-: «وَالسَّلمُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا».

هذه الآية في حق يحيى عليه السلام كما وردت في شأن المسيح عليه السلام، مع الاختلاف بأنّ اللَّه هو الذي قالها في المورد الأوّل، أمّا في المورد الثاني فإنّ المسيح قد طلب ذلك.

ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 184

أيمكن أن يكون للَّه ولد؟! بعد تجسيد القرآن الكريم في الآيات السابقة حادثة ولادة المسيح عليه السلام بصورة حيّة وواضحة جدّاً، انتقل إلى نفي الخرافات وكلمات الشرك التي قالوها في شأن عيسى، فيقول: «ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ». خاصّة وأنّه يؤكّد على كونه «ابن مريم» ليكون ذلك مقدمة لنفي بنوّته للَّه سبحانه. ثم يضيف: «قَوْلَ الْحَقّ الَّذِى فِيهِ يَمْتَرُونَ».

وتقول الآية التالية بصراحة: «مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحنَهُ إِذَا قَضَى

أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ». وهذا إشارة إلى أنّ اتخاذ الولد- كما يظن المسيحيون في شأن اللَّه- لا يناسب قداسة مقام الألوهية والربوبية، فهو يستلزم من جهة الجسمية، ومن جانب آخر المحدودية، ومن جهة ثالثة الإحتياج.

إنّ تعبير «كُن فَيَكُونُ» تجسيد حي جدّاً عن مدى سعة قدرة اللَّه، وتسلطه وحاكميته في أمر الخلقة.

وَ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَ أَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ وَ هُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْهَا وَ إِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)

إنّ آخر كلام لعيسى عليه السلام بعد تعريفه لنفسه بالصفات التي ذكرت، هو التأكيد على مسألة التوحيد، وخاصة في مجال العبادة، فيقول: «وَإِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ».

وعلى هذا فإنّ عيسى عليه السلام بدأ بمحاربة كل أنواع الشرك وعبادة الآلهة المزدوجة والمتعددة منذ بداية حياته.

غير أنّه بالرغم من كل هذه التأكيدات التي أكّد عليها المسيح عليه السلام في مجال التوحيد وعبادة اللَّه، فقد اختلفت الفئات، وأظهروا اعتقادات مختلفة، وخاصة في شأن المسيح:

«فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ».

إنّ تاريخ المسيحية يشهد بوضوح على مدى الاختلاف الذي حصل بعد المسيح عليه السلام في شأنه، وحول مسألة التوحيد.

فذهب البعض: إنّ المسيح هو اللَّه الذي نزل إلى الأرض! فأحيى جماعة، وأمات اخرى، ثم صعد إلى السماء!

مختصر الامثل، ج 3، ص: 185

وقال البعض الآخر: إنّه ابن اللَّه!

ورأى آخرون: إنّه أحد الأقانيم الثلاثة- الذوات الثلاثة المقدسة- الأب والإبن وروح القدس، اللَّه

الأب، واللَّه الإبن وروح القدس.

وآخرون قالوا: إنّه ثالث ثلاثة: فاللَّه معبود، وهو معبود، وامّه معبودة!

وأخيراً قال البعض: إنّه عبد اللَّه ورسوله.

ولمّا كان الانحراف عن أصل التوحيد يعتبر أكبر انحراف للمسيحيين، فقد رأينا كيف أنّ اللَّه قد هدّد هؤلاء في ذيل الآية بأنّهم سيكون لهم مصير مؤلم مشؤوم في يوم القيامة، في ذلك المشهد العام، وأمام محكمة اللَّه العادلة.

ثم تبيّن الآية التالية وضع اولئك في عرصات القيامة، فتقول عندما يقدمون علينا يوم القيامة فسوف تكون لهم اسماع قويّة وابصار حادّه فيسمعون ويرون جميع الحقائق التي كانت خافية عليهم في هذه الدنيا، ولكن الظالمين اليوم، أي في هذه الدنيا غافلون عن هذه العاقبة: «أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لكِنِ الظلِمُونَ الْيَوْمَ فِى ضَللٍ مُّبِينٍ».

ومن الطبيعي أن تسلب المحكمة وآثار الأعمال نوم الغفلة من العين والأذن، وحتى عمي القلوب فإنّهم سيعون الأمر ويعلمون الحق، إلّاأنّ هذا الوعي والعلم لا ينفعهم شيئاً.

ثم تؤكّد الآية التالية مرّة اخرى على مصير المنحرفين والظالمين في ذلك اليوم، فتقول:

«وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ وَهُمْ لَايُؤْمِنُونَ».

حيث يتحسّر المؤمنون المحسنون على قلّة عملهم، وياليتهم كانوا قد عملوا أكثر، وكذلك يتحسّر المسيئون، لأنّ الحجب تزول، وتتّضح حقائق الأعمال ونتائجها للجميع.

ثم تحذّر الآية الأخيرة- من آيات البحث- كل الظالمين والجائرين، وتذكّرهم بأنّ هذه الأموال التي تحت تصرفهم الآن ليست خالدة، كما أنّ حياتهم ليست خالدة، بل إنّ الوارث الأخير لكل شي ء هو اللَّه سبحانه: «إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ».

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَ لَا يُبْصِرُ وَ لَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يَا أَبَتِ إِنِّي

قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيّاً (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً (45)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 186

إبراهيم ومنطقه المؤثر والقاطع: تزيح هذه الآيات الستار عن جانب من حياة بطل التوحيد إبراهيم الخليل عليه السلام، وتؤكّد على أنّ دعوة هذا النبي الكبير- كسائر المرشدين الإلهيين- تبدأ من نقطة التوحيد، فتقول أوّلًا: «وَاذْكُرْ فِى الْكِتبِ إِبْرهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدّيقًا نَبِيًّا».

إنّ أبرز صفة يلزم وجودها في كل الانبياء وحملة الوحي الإلهي أن يوصلوا أوامر اللَّه إلى العباد دون زيادة أو نقصان.

ثم تتطرق الآية التي بعدها إلى شرح محاورته مع أبيه آزر- والأب هنا إشارة إلى العم، فإنّ كلمة الأب، كما قلنا سابقاً، ترد أحياناً في لغة العرب بمعنى الأب، وأحياناً بمعنى العم- فتقول: «إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَايَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِى عَنكَ شَيًا».

إنّ هذا البيان القصير القاطع من أحسن أدلة نفي الشرك وعبادة الأوثان، لأنّ أحد بواعث الإنسان في معرفة الرب هو باعث الربح والخسارة، والضرر والنفع، والذي يعبّر عنه علماء العقائد بمسألة (دفع الضرر المحتمل). فهو يقول: لماذا تتّجه إلى معبود ليس عاجزاً عن حل مشكلة من مشاكلك وحسب، بل إنّه لا يملك أصلًا القدرة على السمع والبصر.

بعد ذلك دعاه- عن طريق المنطق الواضح- إلى اتّباعه، فقال: «يَا أَبَتِ إِنّى قَدْ جَاءَنِى مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِى أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا». فإنّي قد وعيت اموراً كثيرة عن طريق الوحي، وأستطيع أن أقول باطمئنان: إنّي سوف لا أسلك طريق الضلال والخطأ، ولا أدعوك أبداً إلى هذا الطريق المعوج.

ثم يعطف نظره

إلى الجانب السلبي من القضية بعد ما ذكر بعدها الايجابي ويشير إلى الآثار التي تترتب على مخالفة هذه الدعوة، فيقول: «يَا أَبَتِ لَاتَعْبُدِ الشَّيْطنَ إِنَّ الشَّيْطنَ كَانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا».

إنّ العبادة هنا بمعنى الطاعة واتباع الأوامر، وهذا بنفسه يعتبر نوعاً من العبادة.

ثم يذكّره وينبّهه مرّة اخرى بعواقب الشرك وعبادة الأصنام المشؤومة، ويقول: «يَا أَبَتِ إِنّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطنِ وَلِيًّا».

إنّ تعبير إبراهيم هذا رائع جدّاً، فهو من جانب يخاطب عمّه دائماً ب «يَا أَبَتِ» وهذا يدل على الأدب واحترام المخاطب، ومن جانب آخر فإنّ قوله «أَن يَمَسَّكَ» توحي بأنّ

مختصر الامثل، ج 3، ص: 187

إبراهيم كان قلقاً ومتأثّراً من وصول أدنى أذى إلى آزر.

قَالَ أَ رَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اهْجُرْنِي مَلِيّاً (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً (47) وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ أَدْعُو رَبِّي عَسَى أَنْ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَ مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ كُلًّا جَعَلْنَا نَبِيّاً (49) وَ وَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَ جَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً (50)

نتيجة البعد عن الشرك والمشركين: مرّت في الآيات السابقة كلمات إبراهيم عليه السلام التي كانت ممتزجة باللطف والمحبّة في طريق الهداية، والآن جاء دور ذكر أجوبة آزر، لكي تتّضح الحقيقة والواقع من خلال مقارنة الكلامين مع بعضهما. يقول القرآن الكريم: إنّ حرص وتحرّق إبراهيم، وبيانه الغني العميق لم ينفذ إلى قلب آزر، بل إنّه غضب لدى سماعه هذا الكلام، و «قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ ءَالِهَتِى يَا إِبْرهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِى مَلِيًّا».

لكن، ورغم كل ذلك،

فقد سيطر إبراهيم على أعصابه، كبقية الأنبياء والقادة الإلهيين، ومقابل هذه الغلظة والحدّة وقف بكل سمو وعظمة، و «قَالَ سَلمٌ عَلَيْكَ».

إنّ هذا السلام يمكن أن يكون سلام التوديع، وأنّ إبراهيم بقوله: «سَلمٌ عَلَيْكَ» وما يأتي بعده من كلام يقصد ترك آزر؛ ويمكن أن يكون سلاماً يقال لفض النزاع.

ثم أضاف: «سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبّى إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيًّا». إنّ إبراهيم في الواقع قابل خشونة وتهديد آزر بالعكس، ووعده بالاستغفار وطلب مغفرة اللَّه له.

ثم يقول: «وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ». أي: الأصنام. «وَأَدْعوا رَبّى عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبّى شَقِيًّا».

تبيّن هذه الآية من جهة أدب إبراهيم في مقابل آزر، ومن جهة اخرى فإنّها تبيّن حزمه في عقيدته.

لقد وفى إبراهيم بقوله، وثبت على عقيدته بكلّ صلابة وصمود، وكان دائماً ينادي بالتوحيد، بالرغم من أنّ كل ذلك المجتمع الفاسد في ذلك اليوم قد وقف ضدّه وثار عليه، إلّا أنّه لم يبق وحده في النهاية، فقد وجد أتباعاً كثيرين على مرّ القرون والأعصار، بحيث إنّ كل

مختصر الامثل، ج 3، ص: 188

الموحدين وعباد اللَّه في العالم يفتخرون بوجوده. يقول القرآن الكريم: «فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلَّا جَعَلْنَا نَبِيًّا».

إنّ هذه الموهبة العظيمة كانت نتيجة صبر إبراهيم عليه السلام واستقامته التي أظهرها في طريق محاربة الأصنام، واعتزال المنهج الباطل والإبتعاد عنه. وإضافة إلى ذلك: «وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَحْمَتِنَا». تلك الرحمة الخاصة بالمخلصين، والرجال المجاهدين في سبيل اللَّه. وأخيراً: «وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا».

إنّ هذا في الحقيقة إجابة لطلب ودعاء إبراهيم الذي جاء في الآية (84) من سورة الشعراء: «وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الْأَخِرِينَ».

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَ كَانَ رَسُولًا نَبِيّاً (51)

وَ نَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَ قَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً (52) وَ وَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً (53)

موسى النبي المخلص: في هذه الآيات الثلاث إشارة قصيرة إلى موسى عليه السلام- وهو من ذرّية إبراهيم عليه السلام وموهبة من مواهب ذلك الرجل العظيم- حيث سار على خطاه.

وتوجّه الآية الخطاب إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وتقول: «وَاذْكُرْ فِى الْكِتبِ مُوسَى .

ثم تذكر خمس مواهب وصفات من المواهب التي أعطيت لهذا النبي الكبير:

1- إنّه وصل في طاعته وعبوديته للَّه إلى حدّ «إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصًا». ولا ريب أنّ الذي يصل إلى هذه المرتبة سيكون مصوناً من خطر الانحراف والتلوّث، لأنّ الشيطان رغم كل إصراره على إضلال عباد اللَّه، يعترف هو نفسه بعدم قدرته على إضلال المخلصين: «قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» «1».

2- «وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا». فحقيقة الرسالة أن تلقى مهمّة على عاتق شخص، وهو مسؤول عن أدائها وإبلاغها، وهذا المقام كان لجميع الأنبياء المأمورين بالدعوة.

إنّ ذكر كونه «نبيّاً» هنا إشارة إلى علوّ مقام هذا النبي العظيم، لأنّ هذه اللفظة في الأصل مأخوذة من (النّبْوَة) وتعني رفعة المقام وعلوّه.

3- وأشارت الآية التالية إلى بداية رسالة موسى، فقالت: «وَندَيْنهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ

______________________________

(1) سورة ص/ 82 و 83.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 189

الْأَيْمَنِ». ففي تلك الليلة المظلمة الموحشة، حيث قطع موسى صحارى مدين متوجّهاً إلى مصر، أخذ زوجته الطلق وألم الولادة، وكان البرد شديداً، فكان يبحث عن شعلة نار، وفجأة سطع نور من بعيد، وسمع نداء يبلغه رسالة اللَّه، وكان هذا أعظم وسام وألذّ لحظة في حياته.

4- إضافة إلى ذلك: «وَقَرَّبْنهُ نَجِيًّا» «1» فإنّ النداء كان موهبة، والتكلّم موهبة اخرى.

5- وأخيراً «وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هرُونَ

نَبِيًّا» ليكون معينه ونصيره.

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَ كَانَ رَسُولًا نَبِيّاً (54) وَ كَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَ الزَّكَاةِ وَ كَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً (55)

إسماعيل نبي صادق الوعد: بعد ذكر إبراهيم عليه السلام وتضحيته، وبعد الإشارة القصيرة إلى حياة موسى عليه السلام المتسامية، يأتي الحديث عن إسماعيل، أكبر ولد إبراهيم، ويكمل ذكر إبراهيم بذكر ولده إسماعيل، وبرامجه ببرامج ولده، ويبيّن القرآن الكريم خمس صفات من صفاته البارزة التي يمكن أن تكون قدوة للجميع.

ويبدأ الكلام بخطاب الآية الشريفة للنبي صلى الله عليه و آله فتقول: «وَاذْكُرْ فِى الْكِتبِ إِسْمعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا* وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَوةِ وَالزَّكَوةِ وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيًّا».

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً (56) وَ رَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً (57) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْرَائِيلَ وَ مِمَّنْ هَدَيْنَا وَ اجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيّاً (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لَا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60)

هؤلاء أنبياء اللَّه، ولكن ...: في آخر قسم من تذكيرات هذه السورة، جاء الحديث عن

______________________________

(1) وهنا ينادي اللَّه موسى من بعيد، ولمّا اقترب ناجاه. ومن المعلوم أنّ اللَّه سبحانه ليس له لسان ولا مكان، بل يوجد الأمواج الصوتية في الفضاء، ويتكلم مع عبد كموسى.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 190

«إدريس» النبي، فقالت الآية أوّلًا: «وَاذْكُرْ فِى الْكِتبِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدّيقًا نَّبِيًّا».

«الصديق»: هو الشخص الصادق جدّاً، والمصدق بآيات اللَّه

سبحانه، والمذعن للحق والحقيقة. ثم تشير الآية إلى مقامه العالي وتقول: «وَرَفَعْنهُ مَكَانًا عَلِيًّا». والمراد هو عظمة المقامات المعنوية والدرجات الروحية لهذا النبي الكبير.

ثم تبيّن الآية التالية بصورة جماعية عن كل الإمتيازات والخصائص التي مرّت في الآيات السابقة حول الأنبياء العظام وصفاتهم وحالاتهم والمواهب التي أعطاهم اللَّه إياها، فتقول: «أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيّينَ مِن ذُرّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوْحٍ وَمِنْ ذُرّيَّةِ إِبْرهِيمَ وَإِسْرَاءِيلَ».

إنّ المراد من ذرّية آدم في هذه الآية هو إدريس، حيث كان- حسب المشهور- جدّ النبي نوح.

والمراد من الذرية، هم الذين ركبوا مع نوح في السفينة، لأنّ إبراهيم كان من أولاد سام بن نوح. والمراد من ذرّية إبراهيم: إسحاق وإسماعيل ويعقوب؛ والمراد من ذرّية إسرائيل:

موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى.

ثم تكمل الآية هذا البحث بذكر الأتباع الحقيقيين لهؤلاء الأنبياء، فتقول: «وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمُ ءَايتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا» «1».

ثم تتحدث الآيات عن جماعة انفصلوا عن دين الأنبياء المربي للإنسان، وكانوا خلفاً سيئاً لم ينفّذوا ما أريد منهم، وتعدد الآية قسماً من أعمالهم القبيحة، فتقول: «فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَوةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا».

«خَلْف» بمعنى الأولاد الطالحين؛ و «خَلَف» بمعنى الأولاد الصالحين.

وهذه الجملة قد تكون إشارة إلى جماعة من بني إسرائيل ساروا في طريق الضلال، فنسوا اللَّه، ورجّحوا اتباع الشهوات على ذكر اللَّه.

إنّ المراد من (إضاعة الصلاة) هنا القيام بأعمال تضيع الصلاة في المجتمع.

ولمّا كان منهج القرآن في كل موضع هو فتح ابواب الرجوع إلى الإيمان والحق دائماً، فإنّه

______________________________

(1) «سجد»: جمع ساجد؛ و «بكي»: جمع باك.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 191

يقول هنا أيضاً بعد ذكر مصير الأجيال المنحرفة: «إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ

الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيًا»، وعلى هذا فلا يعني أنّ الإنسان إذا غاص يوماً في الشهوات فسيكتب على جبينه اليأس من رحمة اللَّه.

طبقاً لنقل كثير من المفسرين، فإنّ إدريس جدّ سيدنا نوح عليه السلام واسمه في التوراة «أخنوخ» وفي العربية (إدريس)، وذهب البعض أنّه من مادة (درس) لأنّه أوّل من كتب بالقلم، فقد كان إضافة إلى النبوّة عالماً بالنجوم والحساب والهيئة، وكان أوّل من علّم البشر خياطة الملابس.

جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلَاماً وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَ عَشِيّاً (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً (63)

بعض صفات الجنة: وصفت الجنّة ونعمها في هذه الآيات بأنّها «جَنتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا».

ثم تشير بعد ذلك إلى نعمة اخرى من أكبر نعم الجنة فتقول: «لَّايَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا» فلا كذب، ولا عداء، لا تهمة ولا جرح لسان، لا سخرية ولا حتى كلام لا فائدة فيه، بل الشي ء الوحيد الذي يسمعونه هو السلام «إِلَّا سَلمًا».

السلام الذي هو علامة على المحيط الآمن، المحيط الملي بالصفاء والعلاقة الحميمة والطهارة والتقوى والصلح والهدوء والإطمئنان.

وبعد هذه النعمة تشير الآية إلى نعمة اخرى فتقول: «وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا».

وبعد الوصف الإجمالي للجنة ونعمها المادية والمعنوية، تعرّف الآية أهل الجنة في جملة قصيرة، فتقول: «تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا». وعلى هذا فإنّ مفتاح باب الجنة مع كل تلك النعم التي مرّت ليس إلّا «التقوى».

وَ مَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَ مَا خَلْفَنَا وَ مَا بَيْنَ ذلِكَ وَ مَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ

وَ مَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَ اصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً (65)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 192

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: احتبس الوحي أيّاماً، لمّا سئل النبي صلى الله عليه و آله عن قصة أصحاب الكهف، وذي القرنين، والروح، فشقّ ذلك عليه فلمّا أتاه جبرائيل استبطأه فنزلت «وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبّكَ» الآية.

التّفسير

الطاعة التامة: بالرغم من أنّ لهذه الآية سبب نزول ذكر أعلاه، إلّاأنّ هذا لا يكون مانعاً من أن يكون لها إرتباطاً منطقياً بالآيات السابقة، لأنّها تأكيد على أنّ كل ما أتى به جبرئيل من الآيات السابقة قد بلّغه عن اللَّه بدون زيادة أو نقصان، ولا شي ء من عنده، فتتحدث الآية الاولى على لسان رسول الوحي فتقول: «وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبّكَ»، فكل شي ء منه، ونحن عباد وضعنا أرواحنا وقلوبنا على الأكف، «لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلِكَ». والخلاصة: فإنّ الماضي والحاضر والمستقبل، وهنا وهناك وكل مكان، والدنيا والآخرة والبرزخ، كل ذلك متعلق بذات اللَّه المقدسة.

ثم تضيف الآية: إنّ كل ذلك بأمر ربك «رَّبُّ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا» فإذا كان الأمر كذلك، وكل الخطوط تنتهي إليه «فَاعْبُدْهُ» عبادة مقترنة بالتوحيد والإخلاص.

ولما كان هذا الطريق- طريق العبودية والطاعة وعبادة اللَّه الخالصة- ملي ء بالمشاكل والمصاعب، فقد أضافت: «وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ». وتقول في آخر جملة: «هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا».

وهذه الجملة في الواقع، دليل على ما جاء في الجملة السابقة، يعني: هل لذاته المقدسة شريك ومثيل حتى تمدّ يدك إليه وتعبده؟

وَ يَقُولُ الْإِنْسَانُ أَ إِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً (66) أَ وَ لَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ الشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً

(68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيّاً (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً (70)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان أنّ الآيات الاولى نزلت في ابي بن خلف الجمحي، وذلك أنّه أخذ

مختصر الامثل، ج 3، ص: 193

عظماً بالياً فجعل يَفُتّه بيده ويذريه في الريح ويقول: زعم محمّد أنّ اللَّه يبعثنا بعد أن نموت ونكون عظاماً مثل هذا، إنّ هذا شي ء لا يكون أبداً.

التّفسير

حال أهل النار: مرّت في الآيات السابقة بحوث عديدة حول القيامة والجنّة والجحيم، وتتحدّث هذه الآيات التي نبحثها حول نفس الموضوع، فتعيد الآية الاولى أقوال منكري المعاد، فتقول: «وَيَقُولُ الْإِنسنُ أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا». أي إنّ هذا الشي ء غير ممكن.

ثم يجيبهم مباشرة بنفس التعبير: «أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسنُ أَنَّا خَلَقْنهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيًا».

ثم تهدد الآية التالية منكري المعاد، والمجرمين الكافرين: «فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا».

إنّ هذه الآية توحي بأنّ محكمة الأفراد الكافرين والمجرمين قريبة من جهنم.

ولمّا كانت الأولويات تلاحظ في تلك المحكمة العادلة، فإنّ الآية التالية تقول: «ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا» «1». ونبدأ بحسابهم أوّلًا، فإنّهم عتوا عتواً نسوا معه كل مواهب اللَّه الرحمان، وجنحوا إلى التمرد والعصيان وإظهار الوقاحة أمام ولي نعمتهم.

ثم تؤكّد على هذا المعنى مرّة اخرى فتقول: «ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا».

فسنختار هؤلاء بدقة، وسوف لا يقع أيّ اشتباه في هذا الإختيار.

وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً (72)

الجميع يردون جهنم: تستمر الآيات في بحث خصائص القيامة والثواب والعقاب، وأشارت في البداية إلى مسألة يثير سماعها الحيرة

والعجب لدى أغلب الناس، فتقول: «وَإِن مّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا». فجميع الناس سيدخلون جهنّم بدون استثناء لأنّه أمر حتمي.

______________________________

(1) «الشيعة»: في الأصل بمعنى الجماعة التي يتعاون أفرادها للقيام بعمل ما، وانتخاب هذا التعبير في الآيةيمكن أن يكون إشارة إلى أنّ العتاة المردة والضالين الكافرين كانوا يتعاونون في طريق الطغيان، ونحن سنحاسب هؤلاء أوّلًا، لأنّهم أكثر تمرّداً وعصياناً من الجميع.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 194

«ثُمَّ نُنَجّى الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظلِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا». فنتركهم فيها جالسين على الركب من الضعف والذّل.

وهناك بحث مفصّل بين المفسرين في تفسير هاتين الآيتين حول المراد من «الورود» في جملة «وَإِن مّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا»؛ فاختار أكثر المفسرين، أنّ الورود هنا بمعنى الدخول، وعلى هذا الأساس فإنّ كل الناس بدون استثناء- محسنهم ومسيؤهم- يدخلون جهنّم، إلّاأنّها ستكون برداً وسلاماً على المحسنين، كحال نار نمرود على إبراهيم «يَا نَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلمًا عَلَى إِبْرهِيمَ»، لأنّ النار ليست من سنخ هؤلاء الصالحين، فقد تفرّ منهم وتبتعد عنهم، إلّاأنّها تناسب الجهنميين فهم بالنسبة للحجيم كالمادة القابلة للإشتعال، فما أن تمسّهم النار حتى يشتعلوا.

إنّ مشاهدة جهنم وعذابها في الحقيقة، ستكون مقدمة لكي يلتذّ المؤمنون بنعم الجنة بأعلى مراتب اللذة.

إنّ أهل النار أيضاً سيلقون عذاباً أشد من رؤية هذا المشهد.

وَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيّاً (73) وَ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَ رِئْياً (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَ إِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَاناً وَ أَضْعَفُ جُنْداً (75) وَ يَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَ

الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَ خَيْرٌ مَرَدّاً (76)

هذه الآيات تتابع ما مرّ في الآيات السابقة في الحديث عن الظالمين الذين لا إيمان لهم، وتتعرّض لجانب آخر من منطق هؤلاء الظالمين ومصيرهم.

ومن المعلوم أنّ أوّل جماعة آمنت بالرسول الأعظم صلى الله عليه و آله كانوا من المستضعفين الطاهري القلوب، والذين خلت أيديهم من مال الدنيا ومغرياتها.

ولما كان المعيار في المجتمع الجاهلي في ذلك الزمان- وكذا في كل مجتمع جاهلي آخر- هو الذهب والزينة والمال والمقام والمنصب والهيئة الظاهرية، فكان الأثرياء الظالمون، كالنضر بن الحارث وأمثاله يفتخرون على المؤمنين الفقراء بذلك ويقولون: إنّ علامة شخصيتنا معنا، وعلامة عدم شخصيتكم فقركم ومحروميتكم، وهذا بنفسه دليل على أحقيّتنا وباطلكم، كما يقول القرآن الكريم في أوّل آية من الآيات مورد البحث: «وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ

مختصر الامثل، ج 3، ص: 195

الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَىُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا».

إلّا أنّ القرآن الكريم يجيب هؤلاء بجواب منطقي ومستدل تماماً، وفي الوقت نفسه قاطع ومفحم، فيقول: كأنّ هؤلاء قد نسوا تاريخ البشر، ولم ينظروا كم دمّرنا من الأقوام السابقين عند تمرّدهم وعصيانهم: «وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِءْيًا» «1». فهل استطاعت أموالهم وثروتهم، ومجالسهم الفاسقة، وملابسهم الفاخرة، وصورهم الجميلة أن تمنع العذاب الإلهي وتقف أمامه.

ثم تحذّرهم تحذيراً آخر، بأن لا تظنّوا أيّها الظالمون الكافرون أنّ مالكم وثروتكم هذه رحمة، بل كثيراً ما تكون دليلًا على العذاب الإلهي: «قُلْ مَن كَانَ فِى الضَّللَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ». أي: إمّا العذاب في هذه الدنيا، وإمّا عذاب الآخرة، «فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا».

وهذا هو ما ذكر في

بعض آيات القرآن بعنوان عقاب «الإستدراج».

هذه عاقبة ومصير الظالمين المخدوعين بزخرف الدنيا وزبرجها، أمّا اولئك الذين آمنوا واهتدوا، فإنّ اللَّه يزيدهم هدىً وإيماناً «وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى».

من البديهي أنّ للهداية درجات، فإذا طوى الإنسان درجاتها الاولى فإنّ اللَّه يأخذه بيده ويرفعه إلى درجات أعلى.

وفي النهاية تجيب الآية هؤلاء الذين اعتمدوا على زينة الدنيا السريعة الزوال، وجعلوها وسيلة للتفاخر على الآخرين، فتقول: «وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا».

أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَ قَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَ وَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً (79) وَ نَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَ يَأْتِينَا فَرْداً (80) وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً (82)

تفكير خرافي ومنحرف: يعتقد بعض الناس أنّ الإيمان والطهارة والتقوى لا تناسبهم،

______________________________

(1) «الأثاث»: بمعنى المتاع وزينة الدنيا؛ و «رئي»: بمعنى الهيئة والمنظر.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 196

وأنّها السبب في أن تدبر الدنيا عنهم، أمّا إذا خرجوا من دائرة الإيمان والتقوى فإنّ الدنيا ستقبل عليهم، وتزيد ثروتهم وأموالهم. فقد كان في عصر النبي- وكذلك في عصرنا- أفراد جاهلون يظنّون هذه الظنون والأوهام، أو كانوا يتظاهرون بها على الأقل، فيتحدّث القرآن- كمواصلة للبحث الذي بيّنه سابقاً حول مصير الكفار والظالمين- في الآيات مورد البحث عن طريقة التفكير هذه وعاقبتها، فيقول في أوّل آية من هذه الآيات: «أَفَرَءَيْتَ الَّذِى كَفَرَ بَايَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا».

ثم يجيبهم القرآن الكريم: «أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمنِ عَهْدًا». فإنّ الذي يستطيع أن يتكهّن بمثل هذا التكهّن، ويقول بوجود علاقة بين الكفر والغنى وامتلاك الأموال والأولاد، مطّلع على

الغيب، لأنّا لا نرى أيّ علاقة بين هاتين المسألتين، أو يكون قد أخذ عهداً من اللَّه سبحانه، وهذا الكلام أيضاً لا معنى له.

ثم يضيف بلهجة حادّة: إنّ الأمر ليس كذلك، ولا يمكن أن يكون الكفر أساساً لزيادة مال وولد أحد مطلقاً: «كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ».

أجل، فإنّ هذا الكلام الذي لا أساس له قد يكون سبباً في انحراف بعض البسطاء، وسيثبت كل ذلك في صحيفة أعمال هؤلاء، «وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا».

إنّ هذه الأموال والأولاد التي هي أساس الغرور والضلال هي بنفسها عذاب مستمر لهؤلاء. «وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ» من الأموال والأولاد، «وَيَأْتِينَا فَرْدًا».

نعم، إنّه سيترك في النهاية كل هذه الإمكانيات والأملاك المادية ويرحل، ويحضر في محكمة العدل الإلهية بأيد خالية، وفي الوقت الذي اسودّت فيه صحيفة أعماله من الذنوب والمعاصي، وخلت من الحسنات ... هناك، حيث يرى نتيجة أقواله الجوفاء في دار الدنيا.

وتشير الآية التالية إلى علّة اخرى في عبادة هؤلاء الأفراد للأصنام، فتقول: «وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ ءَالِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا». وليشفعوا لهم عند اللَّه، ويعينوهم في حلّ مشاكلهم، لكن، أيّ ظن خاطى ء وخيال ساذج هذا؟!

ليس الأمر كما يظن هؤلاء أبداً، فليست الأصنام سوف لا تكون لهم عزّاً وحسب، بل ستكون منبعاً لذلّتهم وعذابهم، ولهذا فإنّهم سوف ينكرون عبادتهم لها في يوم القيامة: «كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِم وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 197

إنّ هذه الجملة إشارة إلى نفس ذلك المطلب الذي نقرؤه في الآية (14) من سورة فاطر.

يستفاد هذا التفسير من حديث مروي عن الإمام الصادق عليه السلام حيث قال في تفسير هذه الآية: «يكون هؤلاء الذين اتّخذوهم آلهة من دون اللَّه ضداً يوم القيامة ويتبرؤون منهم ومن عبادتهم إلى يوم القيامة».

أَ لَمْ تَرَ أَنَّا

أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَ نَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87)

بملاحظة البحث في الآيات السابقة الذي كان حول المشركين، فإنّ البحث في هذه الآيات، إشارة إلى بعض علل انحراف هؤلاء، ثم تبيّن الآيات في النهاية عاقبتهم المشؤومة، وتثبت هذه الحقيقة، وهي أنّ هذه الآلهة لم تكن سبب عزّتهم بل أصبحت سبب ذلّهم وشقائهم، فتقول أوّلًا: «أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيطِينَ عَلَى الْكفِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا».

«الأزّ»: في الأصل يعني غليان القدر، وتقلّب محتواه عند شدة غليانه؛ وهو هنا كناية عن مدى تسلّط الشياطين على هؤلاء، بحيث إنّهم يوجّهونهم بالصورة التي يريدونها، وفي المسير الذي يشاؤون، ويقلّبونهم كيف يشتهون.

ومن البديهي أنّ تسلط الشياطين على بني آدم ليس تسلطاً إجبارياً، بل إنّ الإنسان الذي يسمح للشياطين بالنفوذ إلى قلبه وروحه.

ثم يوجّه القرآن المجيد الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله فيقول: «فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا» وسنسجّل كل شي ء لذلك اليوم الذي تشكّل فيه محكمة العدل الإلهي.

وهناك احتمال آخر في تفسير الآية، وهو أنّ المراد من عدّ أيام عمر- بل أنفاس- هؤلاء، أنّ مدّة بقائهم قصيرة وداخلة تحت إمكان الحساب والعد.

ثم تبيّن المسير النهائي للمتقين والمجرمين في عبارات موجزة، فتقول: إنّ كل هذه الأعمال جمعناها وإدّخرناها لهم: «يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْدًا».

في تفسير علي بن ابراهيم عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «سأل علي عليه السلام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن تفسير قوله: «يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْدًا» قال: يا علي، الوفد لا

يكون إلّاركباناً، اولئك رجال اتّقوا اللَّه فأحبّهم واختصهم ورضي أعمالهم فسمّاهم اللَّه المتقين. ثم قال: يا علي أما

مختصر الامثل، ج 3، ص: 198

والذي فلق الحبة وبرى ء النسمة إنّهم ليخرجون من قبورهم وبياض وجوههم كبياض الثلج، عليهم ثياب بياضها كبياض اللبن، عليهم نعال الذهب شراكها من لؤلؤ يتلألأ». ثم تقول في المقابل: «وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا». كما تساق الإبل العطشى إلى محل الماء، إلّاأنّه لا ماء هناك، بل نار جهنم.

وإذا كانوا يتصورون أنّهم يستطيعون الخلاص عن طريق الشفاعة، فإنّهم يجب أن يعلموا أنّ هؤلاء الذين يرجونهم «لَّايَمْلِكُونَ الشَّفعَةَ» فلا أحد يشفع لهؤلاء، فمن طريق أولى أن لا يقدروا على الشفاعة لأحد «إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمنِ عَهْدًا» فهؤلاء هم الوحيدون الذين تنفعهم وتشملهم شفاعة الشافعين، أو أنّ مقامهم أعلى من هذه الرتبة أيضاً، ولهم القدرة والصلاحية لأن يشفعوا للعاصين الذين يستحقون الشفاعة.

والمراد من العهد في الآية الشريفة كل نوع من أنواع الإرتباط باللَّه ومعرفته وطاعته، وكذلك الإرتباط بمذهب أولياء الحق، وكل عمل صالح.

وَ قَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَ تَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَ مَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدّاً (94) وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً (95)

لمّا كان الكلام في الآيات السابقة عن الشرك، وعاقبة عمل المشركين، فقد أشارت هذه الآيات في نهاية البحث إلى فرع من فروع الشرك، أي الاعتقاد بوجود ولد للَّه سبحانه، وتبيّن مرّة اخرى قبح هذا الكلام بأشدّ وأحدّ بيان، فتقول: «وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَدًا».

فليس المسيحيون لوحدهم

كانوا يعتقدون بأنّ «المسيح» هو الإبن الحقيقي للَّه سبحانه، بل إنّ اليهود كانوا يعتقدون أيضاً مثل هذا الاعتقاد في (عزير)، وكذلك عبدة الأصنام في (الملائكة) فكانوا يظنّون أنّها بنات اللَّه.

عند ذلك قالت الآية بلهجة شديدة: «لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيًا إِدًّا». «الإدّ»: معناه في الأصل الصوت القبيح المضطرب الذي يصل الأذن نتيجة الاضطراب الشديد للأمواج الصوتية في

مختصر الامثل، ج 3، ص: 199

حنجرة البعير، ثم أطلق على الأعمال القبيحة والموحشة جدّاً.

ولمّا كانت مثل هذه النسبة غير الصحيحة مخالفة لأصل التوحيد فكأنّ كل عالم الوجود، الذي بني على أساس التوحيد، قد اضطرب وتصدّع إثر هذه النسبة الكاذبة، ولذلك تضيف الآية التالية: «تَكَادُ السَّموَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدًّا».

ومن أجل تأكيد وبيان أهمية الموضوع فإنّها تقول: إنّ كل ذلك من أجل «أَن دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَدًا».

إنّ هؤلاء لم يعرفوا اللَّه قط، لأنّه: «وَمَا يَنْبَغِى لِلرَّحْمنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا».

فإنّ الإنسان يطلب الولد لواحد من عدّة أشياء:

إمّا لأنّ عمره ينتهي فيحتاج لولد مثله يحمل صفاته ليبقى نسله وذكره.

أو لأنّه يطلب الصديق والرفيق لأنّ قوته محدودة.

لكن أيّاً من هذه المعاني لا ينطبق على اللَّه سبحانه، ولا يصح، فلا قدرته محدودة، ولا حياته تنتهي، ولا يعتريه الضعف والوهن، ولا يحس بالوحدة والحاجة، ولذلك قالت الآية الاخرى: «إِن كُلُّ مَن فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا ءَاتِى الرَّحْمنِ عَبْدًا».

فمع أنّ كل العباد مطيعون له، وقد وضعوا أرواحهم وقلوبهم على الأكف طاعة لأمره، فهو غير محتاج لطاعتهم، بل هم المحتاجون.

ثم تقول الآية التالية: «لَّقَدْ أَحْصهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا». أي لا تتصور بأنّ محاسبة كل هؤلاء العباد غير ممكن، وعسير عليه سبحانه.

«وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيمَةِ فَرْدًا». وبناء على هذا فإنّ المسيح وعزير والملائكة وكل البشر يشملهم حكمه ولا يستثنى منه أحد،

ومع هذه الحال فما أقبح أن نعتقد ونقول بوجود ولد له، وكم ننقص من قدر ذاته المقدسة وننزلها من أوج العظمة وقمّتها، وننكر صفاته الجلالية والجمالية حينما ندّعي أنّ له ولداً.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدّاً (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً (97) وَ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 200

مختصر الامثل ج 3 249

الإيمان والمحبوبية: هذه الآيات الثلاث نهاية سورة مريم، والكلام فيها أيضاً عن المؤمنين، والظالمين الكافرين، وعن القرآن وبشاراته وإنذاراته، وهي- في الحقيقة- عصارة البحوث السابقة بملاحظات ونكات جديدة. تقول أوّلًا: «إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا».

إنّ للإيمان والعمل الصالح نوراً وضياء بسعة عالم الوجود، ويعمّ نور المحبة الحاصل منهما كل أرجاء عالم الخلقة، وإنّ الذات الإلهية المقدسة تحب أمثال هذا الفرد، فهم محبوبون عند كل أهل السماء، وتقذف هذه المحبة في قلوب أهل الأرض.

ثم تشير الآية التالية إلى القرآن الذي هو منبع ومصدر تنمية الإيمان والعمل الصالح، فتقول: «فَإِنَّمَا يَسَّرْنهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا».

«اللُدّ»:- بضم اللام وتشديد الدال- جمع «ألدّ» بمعنى العدو الشديد العداوة، وتطلق على المتعصب العنود في عداوته، ولا منطق له.

وتقول الآية الأخيرة كتهدئة لخاطر النبي صلى الله عليه و آله والمؤمنين، وتسلية لهم، خاصة مع ملاحظة أنّ هذه السورة نزلت في مكة، وكان المسلمون يومذاك تحت ضغط شديد جدّاً؛ وكذلك تقول بنبرة التهديد والتحذير لكل الأعداء اللجوجين العنودين: «وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا».

«الركز»: بمعنى الصوت الهادى ء، ويقال للأشياء التي

يخفونهاتحت الأرض: «ركاز»، أي إنّ هؤلاء الأقوام الظالمين، وأعداء الحق والحقيقة المتعصبين، قد تمّ تدميرهم وسحقهم إلى حدّ لا يسمع صوت خفي منهم.

لقد صدرت روايات عديدة عن النبي صلى الله عليه و آله في سبب نزول قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا». في كثير من كتب الحديث وتفسير السنة والشيعة، وهي تبيّن أنّ هذه الآية نزلت لأوّل مرّة في حق علي عليه السلام.

«نهاية تفسير سورة مريم»

مختصر الامثل، ج 3، ص: 201

20 سورة طه

محتوى السورة: إنّ أكثر ما يتحدث سورة (طه) عن المبدأ والمعاد كسائر السور المكية، ويذكر نتائج التوحيد وتعاسات الشرك.

1- تشير هذه السورة إلى عظمة القرآن، وبعض صفات اللَّه الجلالية والجمالية.

2- يتحدث أكثر من ثمانين آية عن قصة موسى عليه السلام من حين بعثته، إلى نهوضه لمقارعة فرعون الجبار وأعوانه.

3- جاءت بعض المسائل حول المعاد.

4- تناول جزء آخر من هذه السورة الحديث عن القرآن وعظمته.

5- واحتوى قسم آخر قصة آدم وحواء في الجنة، ثم حادثة وسوسة إبليس، وأخيراً هبوطهما إلى الأرض.

6- وفي القسم الأخير، تبيّن السورة المواعظ والنصائح، لكل المؤمنين، مع توجيه الخطاب في كثير من الآيات إلى نبي الخاتم صلى الله عليه و آله.

فضيلة تلاوة السورة: في كتاب ثواب الأعمال عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «لا تدعوا قراءة سورة طه، فإنّ اللَّه يحبّها، ويحبّ من قرأها، ومن أدمن قراءتها أعطاه اللَّه يوم القيامة كتابه بيمينه، ولم يحاسبه بما عمل في الإسلام، وأعطي في الآخرة من الأجر حتى يرضى».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 202

والمراد من التلاوة هي أن تكون التلاوة مقدمة للتفكر والتدبر، التفكر الذي تتجلّى آثاره في كل أعمال وأقوال الإنسان.

طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً

لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَ السَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا وَ مَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)

سبب النّزول

وردت روايات كثيرة في سبب نزول الآيات الاولى من هذه السورة، يستفاد من مجموعها أنّ النبي صلى الله عليه و آله بعد نزول الوحي والقرآن كان يعبد اللَّه كثيراً، وخاصة أنّه كان يكثر القيام والوقوف في العبادة حتى تورّمت قدماه، وكان من شدّة التعب أحياناً يستند في وقوفه على إحدى قدميه، ثم يستند على الاخرى حيناً آخر، وحيناً على كعب قدمه، وآخر على أصابع رجله، فنزلت الآيات المذكورة وأمرت النبي صلى الله عليه و آله أن لا يحمّل نفسه كل هذا التعب والمشقة.

التّفسير

مرّة اخرى نواجه الحروف المقطعة في بداية هذه السورة، والتي تثير حبّ الاستطاع لدى الإنسان: «طه».

في كتاب معاني الأخبار عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «... وأمّا طه فإسم من أسماء النبي صلى الله عليه و آله ومعناه: يا طالب الحق الهادي إليه». ويظهر من هذا الحديث أنّ طه مركّب من حرفين رمزيين، فالطاء إشارة إلى طالب الحق، والهاء إلى الهادي إليه، ونحن نعلم أنّ استعمال الحروف الرمزية وعلامات الإختصار فيما مضى وفي يومنا هذا أمر طبيعي وكثير الاستعمال، خاصة في عصرنا الحاضر فإنّه كثير التداول والاستعمال جدّاً.

وآخر كلام في هذا الباب هو أنّ (طه) ك (يس) قد أصبحت تدريجياً وبمرور الزمان اسماً خاصاً للنبي صلى الله عليه و آله، حتى أنّهم يسمّون آل النبي صلى الله عليه و آله، (آل

طه) أيضاً؛ وعبّر عن الإمام المهدي- عجّل اللَّه تعالى فرجه- في دعاء الندبة ب (يابن طه).

مختصر الامثل، ج 3، ص: 203

ثم تقول الآية: «مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى . «تشقى : مأخوذة من مادة الشقاء ضدّ السعادة، إلّاأنّ هذه المادة تأتي أحياناً بمعنى المشقّة والتعب، والمراد في الآية هذا المعنى.

ثم تبيّن الآية الاخرى الهدف من نزول القرآن فتقول: «إِلَّا تَذْكِرَةً لّمَن يَخْشَى .

إنّ التعبير ب «تذكرة» من جهة، وب «من يخشى» من جهة اخرى يشير إلى واقع لا يمكن إنكاره، وهو: إنّ التذكرة توحي بأنّ أسس ومقومات كل التعليمات الإلهية موجودة في أعماق روح الإنسان وطبيعته، وتعليمات الأنبياء تجعلها مثمرة، وتوصلها إلى حدّ النضج، كما نذكّر أحياناً بمطلب وأمر ما.

إنّ تعبير «من يخشى» يبيّن أنّ نوعاً من الإحساس بالمسؤولية، والذي سمّاه القرآن بالخشية، إذا لم يكن موجوداً في الإنسان، فسوف لا يقبل الحقائق.

ثم تتطرق الآيات إلى التعريف باللَّه تعالى المنزل للقرآن، لتّتضح عظمة القرآن من خلال معرفته، فتقول: «تَنزِيلًا مّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّموَاتِ الْعُلَى».

إنّ هذا التعبير إشارة إلى ابتداء وانتهاء نزول القرآن، انتهاؤه إلى الأرض وابتداؤه من السماوات.

ثم تستمر في تعريف اللَّه المنزل للقرآن فتقول: «الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى .

إنّ هذا التعبير كناية عن تسلّط اللَّه، وإحاطته الكاملة بعالم الوجود، ونفوذ أمره وتدبيره في جميع أنحاء العالم.

ثم تتحدث عن مالكية اللَّه بعد حاكميته فتقول: «لَهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى . «الثرى»: في الأصل بمعنى التراب الرطب، ولمّا كانت قشرة الأرض- فقط- هي التي تجف نتيجة لأشعة الشمس وهبوب الرياح، وتبقى الطبقة السفلى- غالباً- رطبة، فإنّه يقال لهذه الطبقة: ثرى. وعلى هذا فإنّ «وَمَا تَحْتَ الثَّرَى تعني أعماق الأرض وجوفها،

وكلها مملوكة لمالك الملك وخالق عالم الوجود.

وأشارت الآية التالية إلى الركن الرابع، أي «العالمية»، فقالت: «وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السّرَّ وَأَخْفَى».

وعرف منزل القرآن من مجموع الآيات أعلاه معرفة إجمالية في الأبعاد الأربعة: الخلقة، والحكومة، والمالكية، والعلم.

و الآية التالية ربّما تشير إلى ما ذكرنا: «اللَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى .

مختصر الامثل، ج 3، ص: 204

إنّ التعبير بالأسماء الحسنى قد ورد مراراً وتكراراً في الآيات القرآنية، ومن البديهي أنّ كل أسماء اللَّه حسنة، ولكن لمّا كانت لبعض أسماء اللَّه وصفاته أهمية أكبر، فقد سمّيت بالأسماء الحسنى.

وَ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَ أَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَ اتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)

نار في الجانب الآخر من الصحراء: من هنا تبدأ قصة نبي اللَّه الكبير موسى عليه السلام، وتفصيل الجوانب المهمة من هذه القصة المليئة بالأحداث سيأتي في أكثر من ثمانين آية، لتكون تهدئة ومواساة وتسلية لخاطر النبي صلى الله عليه و آله والمؤمنين الذين كانوا يعانون خلال تلك الفترة في مكة ضغوطاً شديدةً من الأعداء.

ويمكن تقسيم مجموع الآيات في هذه السورة إلى أربعة أقسام:

القسم الأوّل: يتحدث عن بداية نبوة موسى وبعثته، وأوّل ومضات الوحي.

القسم الثاني: يتحدث عن دعوة موسى وأخيه هارون لفرعون وملئه إلى دين التوحيد، ثم اشتباكهما

بالأعداء.

القسم الثالث: يبحث عن خروج موسى وبني إسرائيل من مصر، وكيفية نجاتهم من قبضة فرعون وأتباعه، وغرق هؤلاء وهلاكهم.

القسم الرابع: ويتحدث حول الإتجاهات الانحرافية الشديدة لبني إسرائيل عن دين التوحيد إلى الشرك، وقبول وساوس السامري، ومواجهة موسى الحازمة لهذا الإنحراف.

فهذه الآيات تقول بتعبير رقيق وجذاب: «وَهَلْ أَتكَ حَدِيثُ مُوسَى .

إنّ هذا الاستفهام ليس هدفه تحصيل الخبر، بل مقدمة لبيان خبر مهم.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 205

ثم تقول: «إِذْ رَءَا نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنّى ءَانَسْتُ نَارًا لَّعَلّى ءَاتِيكُم مّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى». «فَلَمَّا أَتهَا نُودِىَ يَا مُوسَى إِنّى أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى».

ويستفاد من الآية (30) من سورة القصص، أنّ موسى قد سمع هذا النداء من جهة شجرة كانت هناك: «فَلَمَّا أَتهَا نُودِىَ مِنْ شطِىِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِى الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يمُوسَى إِنّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعلَمِينَ». إنّ موسى لمّا اقترب شاهد النار في داخل الشجرة، وهذه النار ليست ناراً عادية، بل إنّ هذا النور الإلهي الذي ليس لم يحرق الشجرة وحسب، بل إنّه منسجم معها، ألا وهو نور الحياة.

وقد هام موسى لدى سماعه هذا النداء المحيي للروح: «إِنّى أَنَا رَبُّكَ» وشعر بكل وجوده بلذّة لا يمكن وصفها.

لقد امر أن يخلع نعليه، لأنّه قد وضع قدمه في أرض مقدسة ... الأرض التي تجلّى فيها النور الإلهي، ويسمع فيها نداء اللَّه، ويتحمل مسؤولية الرسالة، فيجب أن يخطو في الأرض بمنتهى الخضوع والتواضع، وهذا هو سبب خلعه النعل عن رجله.

ثم سمع هذا الكلام من نفس المتكلم: «وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى . ومن بعدها تلقّى موسى أوّل جملة من الوحي على شكل ثلاثة امور: «إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا أَنَا

فَاعْبُدْنِى وَأَقِمِ الصَّلَوةَ لِذِكْرِى». شرعت هذه الآية في بيان أهم أصل لدعوة الأنبياء في هذه الآية، ألا وهو مسألة التوحيد، وبعدها ذكرت موضوع عبادة اللَّه الواحد كثمرة لشجرة الإيمان والتوحيد، ثم أصدرت له أمر الصلاة بعد ذلك، وهي تعني أكبر عبادة وأهم إرتباط بين الخلق والخالق، وأكثر الطرق تأثيراً في عدم الغفلة عن الذات المقدسة.

ولمّا كان المعاد هو الأصل والأساس الثاني، فبعد ذكر التوحيد وأغصانه وفروعه، أضافت الآية التالية: «إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَعْسَى .

إنّ علّة إخفاء تاريخ القيامة حسب الآية، هي: «لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَعْسَى . وبتعبير آخر: فإنّ كون الساعة مخفية سيوجد نوعاً من حرية العمل للجميع.

وأشارت الآية الأخيرة إلى أصل اساسي يضمن تنفيذ كل البرامج العقائدية والتربوية، فتقول: «فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لَّايُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَيهُ» والّا فسوف تهلك «فَتَرْدَى فاصمد في مقابل الكافرين ووساوسهم وعراقيلهم، ولا تدع للخوف من كثرتهم

مختصر الامثل، ج 3، ص: 206

ومؤامرتهم وخططهم الخبيثة إلى قلبك سبيلًا، ولا تشك مطلقاً في أحقية دعوتك وأصالة دينك نتيجة هذه الضوضاء. إنّ جملة «يؤمن» وردت هنا بصيغة المضارع، وجملة «واتبع هويه» بصيغة الماضي، وهي أشارت إلى هذه النكتة، وهي أنّ عدم إيمان منكري القيامة ينبع من أتباع هوى النفس، فهم يريدون أن يكونوا أحراراً ويفعلون ما تشتهي أنفسهم.

وَ مَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَ أَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَ لِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَ لَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَ اضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ

آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)

عصا موسى واليد البيضاء: لا شك أنّ الأنبياء يحتاجون إلى المعجزة لإثبات إرتباطهم باللَّه، وإلّا فإنّ أيّ واحد يستطيع أن يدعي النبوة.

إنّ موسى عليه السلام بعد تلقّيه أمر النبوة، يجب أن يتلقّى دليلها وسندها أيضاً، وهكذا تلقّى موسى عليه السلام في تلك الليلة المليئة بالذكريات والحوادث معجزتين كبيرتين من اللَّه، ويبيّن القرآن الكريم هذه الحادثة فيقول: «وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يمُوسَى .

فأجاب موسى: «قَالَ هِىَ عَصَاىَ». ولمّا كان راغباً في أن يستمر في حديثه مع محبوبه الذي فتح الباب بوجهه لأوّل مرّة، وربّما كان يظن أيضاً أنّ قوله: «هِىَ عَصَاىَ» غير كاف، فأراد أن يبيّن آثارها وفوائدها فأضاف: «أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِى» «1». أي أضرب بها على اغصان الشجر فتتساقط اوراقها لتأكلها الأغنام «وَلِىَ فِيهَا مَارِبُ أُخْرَى «2».

إنّ موسى غطّ في تفكير عميق: أيّ سؤال هذا في هذا المجلس العظيم، وأيّ جواب أعطيه؟ وماذا كانت تلك الأوامر؟ ولماذا هذا السؤال؟

وفجأة: «قَالَ أَلْقِهَا يمُوسَى فَأَلْقهَا فَإِذَا حَيَّةٌ تَسْعَى . «تسعى»: من مادة السعي أي المشي السريع الذي لا يصل إلى الركض.

______________________________

(1) «أهش»: من مادة هشّ- بفتح الهاء- أي ضرب أوراق الشجر وتساقطها.

(2) «مارب»: جمع مأربة، أي الحاجة والقصد.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 207

وهنا صدر الأمر لموسى: «قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى .

ثم أشارت الآية التالية إلى المعجزة المهمة الثانية لموسى، فأمرته: «وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ءَايَةً أُخْرَى .

إنّ موسى كان مأموراً أن يدخل يده في جيبه ويوصلها إلى تحت إبطه.

وجملة «مِنْ غَيْرِ سُوءٍ» إشارة إلى أنّ بياض يدك ليس نتيجة مرض البرص وأمثاله، بدليل أنّ لها لمعاناً وبريقاً خاصاً يظهر في لحظة ويختفي في لحظة اخرى.

وتقول الآية

الأخيرة، وكنتيجة لما مرّ بيانه في الآيات السابقة: «لِنُرِيَكَ مِنْ ءَايَاتِنَا الْكُبْرَى». والمراد من الآيات الكبرى هو تلكما المعجزتان المهمتان اللتان وردتا أعلاه.

اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)

موسى وطلباته القيّمة: إلى هنا وصل موسى إلى مقام النبوة، وتلقّى معاجز مهمّة تسترعي الإنتباه، إلّاأنّه من الآن فصاعداً صدر له أمر الرسالة ... رسالة عظيمة وثقيلة جدّاً ... الرسالة التي تبدأ بإبلاغ أعتى وأخطر شخص في ذلك المحيط، فتقول الآية: «اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى .

أجل ... فمن أجل إصلاح بيئة فاسدة، وإيجاد ثورة شاملة يجب البدء برؤوس الفساد وأئمة الكفر ... اولئك الذين لهم تأثير في جميع أركان المجتمع.

ومضافاً إلى أنّ موسى عليه السلام لم يستوحش ولم يخف من هذه المهمّة الثقيلة الصعبة، ولم يطلب من اللَّه أيّ تخفيف في هذه المهمّة، فإنّه قد تقبّلها بصدر رحب، غاية ما في الأمر أنّه طلب من اللَّه أسباب النصر في هذه المهمّة. ولمّا كان أهم وأوّل أسباب النصر الروح الكبيرة، والفكر الوقّاد، والعقل المقتدر، وبعبارة اخرى: رحابة الصدر، فقد «قَالَ رَبّ اشْرَحِ لِى صَدْرِى».

ولمّا كان هذا الطريق مليئاً بالمشاكل والمصاعب التي لا يمكن تجازوها إلّابلطف اللَّه، فقد

مختصر الامثل، ج 3، ص: 208

طلب موسى من اللَّه في المرحلة الثانية أن تيسر له اموره وأعماله، وأن تذلل هذه العقبات التي تعترضه، فقال:

«وَيَسّرْ لِى أَمْرِى». ثم طلب موسى أن تكون له قدرة على البيان بأعلى المراتب فقال: «وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى».

خاصة وأنّه بيّن علة هذا الطلب فقال: «يَفْقَهُوا قَوْلِى». فهذه الجملة تفسير للآية التي قبلها. أي: أريد أتكلم بدرجة من الفصاحة والبلاغة والتعبير بحيث يدرك أيّ سامع مرادي من الكلام جيّداً.

ولمّا كان إيصال هذا الحمل الثقيل- حمل رسالة اللَّه، وقيادة البشر وهدايتهم، ومحاربة الطواغيت والجبابرة- إلى المحل المقصود يحتاج إلى معين ومساعد، ولا يمكن أن يقوم به إنسان بمفرده، فقد كان الطلب الرابع لموسى من اللَّه هو: «وَاجْعَل لِّى وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِى».

ثم يشير إلى أخيه، فيقول: «هرُونَ أَخِى». وهارون كان الأخ الأكبر لموسى، وكان يكبره بثلاث سنين، وكان طويل القامة، جميلًا بليغاً، عالي الإدراك والفهم، وقد رحل عن الدنيا قبل وفاة موسى بثلاث سنين.

وقد كان نبيّاً مرسلًا كما كان نبيّاً وهبه اللَّه لموسى من رحمته.

ثم يبيّن موسى عليه السلام هدفه من تعيين هارون للوزارة والمعونة فيقول: «اشْدُدْ بِهِ أَزْرِى».

ويطلب، من أجل تكميل هذا المقصد والمطلب: «وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى». فيكون شريكاً في مقام الرسالة، وفي إجراء وتنفيذ هذا البرنامج الكبير، إلّاأنّه يتبع موسى على كل حال، فموسى إمامه ومقتداه.

وفي النهاية يبيّن نتيجة هذه المطالب فيقول: «كَى نُسَبّحَكَ كَثِيرًا* وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا* إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا».

ولمّا كان موسى لم يهدف من طلباته المخلصة هذه إلّاالخدمة الأكثر والأكمل، فإنّ اللَّه سبحانه قد لبّى طلباته في نفس الوقت: «قَالَ قَد أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يمُوسَى .

إنّ موسى طلب كل ما كان يلزمه في هذه اللحظات الحساسة الحاسمة التي يجلس فيها لأوّل مرّة على مائدة الضيافة الإلهية ويطأ بساطها، واللَّه سبحانه كان يحبّ ضيفه أيضاً، حيث لبّى كل طلباته وأجابه فيها في جملة قصيرة تبعث

الحياة، وبدون قيد وشرط.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 209

وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَ عَدُوٌّ لَهُ وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَ لِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَ لَا تَحْزَنَ وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)

الربّ الرحيم: يشير اللَّه سبحانه في هذه الآيات إلى فصل آخر من فصول حياة موسى عليه السلام، والذي يرتبط بمرحلة الطفولة ونجاته من قبضة الفراعنة. وهذا الفصل وإن كان من ناحية التسلسل التاريخي قبل فصل الرسالة والنبوّة، إلّاأنّه ذكر كشاهد على شمول عناية اللَّه عزّ وجل لموسى عليه السلام من بداية عمره، وهي في الدرجة الثانية من الأهمية بالنسبة إلى الرسالة، فيقول أوّلًا: «وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى «1».

وبعد ذكر هذا الإجمال تتطرق الآيات إلى الشرح والتفصيل، فتقول: «إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمّكَ مَا يُوحَى .

وهو إشارة إلى أنّنا قد علّمنا امّه كل الطرق التي تنتهي إلى نجاة موسى عليه السلام من قبضة الفراعنة، لأنّه يستفاد من سائر آيات القرآن أنّ فرعون شدّد ارهابه على بني إسرائيل للتصدّي لقوّتهم وعصيانهم المحتمل، أو أنّه كان قد أمر بقتل أبنائهم وإبقاء البنات للخدمة، لكي يمنع ولادة ولد من بني إسرائيل كان قد أخبره المنجّمون أنّه يثور عليه ويزيل ملكه.

إنّ هذه الام أحسّت بأنّ حياة وليدها في خطر، وإخفاؤه مؤقتاً سوف لا يحلّ المشكلة ...

في هذه الأثناء ألهمها اللَّه- الذي رشّح

هذا الطفل لثورة كبيرة؛ فألقى في قلب الامّ: «أَنِ اقْذِفِيهِ فِى التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِى الْيَمّ». «اليم»: هنا يعني نهر النيل العظيم الذي يطلق عليه

______________________________

(1) «المنة»: في الأصل من المن، وهو يعني الأحجار الكبيرة التي كانوا يزنون بها، ولذلك فإنّ كل نعمة كبيرة ونفيسة يقال عنها: إنّها منّة. والمراد في الآية هو هذا المعنى، وهذا المعنى مفهوم جميل وايجابي للمنّة، إلّاأنّ الإنسان إذا عظّم عمله الصغير بكلامه، وذكّر الطرف الآخر به، فإنّه مصداق حي للمنّة السلبية المذمومة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 210

أحياناً اسم البحر لسعته وكثرة مياهه؛ و «التابوت»: تعني الصندوق الخشبي، ولا يعني دائماً الصندوق الذي يوضع فيه الأموات كما يظن البعض، بل إنّ له معنى واسعاً. ثم تضيف: «فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّى وَعَدُوٌّ لَّهُ».

إنّ كلمة «عدو» قد تكررت هنا، وهذا تأكيد على عداء فرعون للَّه، ولموسى وبني إسرائيل، وأشارت إلى أنّ الشخص الذي انغمس إلى هذا الحدّ في العداء هو الذي سيتولّى في النهاية تربية موسى.

ولما كان موسى عليه السلام يجب أن يحفظ في حصن أمين في هذا الطريق الملي ء بالمخاطر، فقد ألقى اللَّه قبساً من محبّته عليه، إلى الحدّ الذي لم ينظر إليه أحد إلّاويعشقه، فلا يكف عن قتله وحسب، بل لا يرضى أن تنقص شعرة من رأسه، كما يقول القرآن في بقية هذه الآيات:

«وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنّى».

يقولون: إنّ قابلة موسى كانت من الفراعنة، وكانت مصمّمة على رفع خبر ولادته إلى فرعون، إلّاأنّه لمّا وقعت عينها على عين المولود الجديد، فكأنّ ومضة برقت من عينه وأضاءت أعماق قلبها، وطوّقت محبته رقبتها، وابتعدت عن رأسها كل الأفكار السيئة.

وتقول الآية في النهاية: «وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى».

وكان قصر فرعون قد بني على جانب شط النيل،

وبينما كان فرعون وزوجته على حافّة الماء ينظرون إلى الأمواج، وإذا بهذا الصندوق الغريب يلفت انتباههما، فأمر جنوده أن يخرجوا الصندوق من الماء، فلمّا فتحوا الصندوق شاهدوا بكامل العجب مولوداً جميلًا فيه، وهو شي ء لم يكن بالحسبان.

وهنا تنبّه فرعون إلى أنّ هذا الوليد ينبغي أن يكون من بني إسرائيل، وإنّما لاقى هذا المصير خوفاً من جلاوزته، فأمر بقتله، إلّاأنّ زوجته- التي كانت عقيماً- تعلّقت جدّاً بالطفل، فقد نفذ النور الذي كان ينبعث من عيني الطفل إلى زوايا قلبها، وجذبها إليه، فضربت على يد فرعون وطلبت منه أن يصرف النظر عن قتله، وعبّرت عن هذا الطفل بأنّه (قرّة عين)، بل وتمادت في طلبها، فطلبت منه أن يتخذاه ولداً ليكون مبعث أمل لهما، ويكبر في أحضانهما، وأصرّت على طلبها حتى أصابت سهامها، وحققت ما تصبو إليه.

غير أنّ الطفل جاع، وأراد لبناً، فاخذ يبكي ويذرف الدموع.

والآن نقرأ بقية القصة على ضوء الآيات الشريفة:

نعم يا موسى، فإنّا كنّا قدّرنا أن تتربى بأعيننا وعلمنا «إِذْ تَمْشِى أُخْتُكَ» بأمر امّك

مختصر الامثل، ج 3، ص: 211

لتراقب مصيرك، فرأت جنود فرعون: «فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ». وربّما أضافت بأنّ هذه المرأة لها لبن نظيف، وأنا مطمئنة بأنّ هذا الرضيع سيقبلها.

فاستبشر الجنود على أمل أن يجدوا ضالّتهم عن هذا الطريق، فذهبوا معها، فأطلعت اخت موسى- والتي كانت تظهر نفسها بمظهر الشخص الغريب والمجهول- امّها على الأمر، فجاءت امّه إلى بلاط فرعون، من دون أن تفقد سيطرتها على أعصابها، بالرغم من أنّ أمواجاً من الحب والأمل كانت قد أحاطت بكل قلبها، واحتضنت الطفل، فلما شمّ الطفل رائحة امّه، وكانت رائحة مألوفة لديه، التقم ثديها كأنّه تضمّن لذة الروح وحلاوتها، واشتغل الطفل بشرب اللبن بلهفة

وعشق شديدين، فانطلقت صرخات الفرح من الحاضرين، وبدت آثار الفرح والسرور على زوجة فرعون.

فقد أمرها فرعون بالإهتمام بالطفل، وأكّدت زوجته كثيراً على حفظه وحراسته، وأمرت أن يعرض عليها الطفل بين فترة واخرى.

هنا تحقق ما قاله القرآن: «فَرَجَعْنكَ إِلَى أُمّكَ كَى تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ».

ومرّت السنون والاعوام، وتربّى موسى عليه السلام وسط هالة من لطف اللَّه ومحبته، وفي محيط آمن، وشيئاً فشيئاً أصبح شابّاً. وكان ذات يوم يمرّ من طريق فرأى رجلين يتشاجران، أحدهما من بني إسرائيل والآخر من الأقباط- وهم المصريون، قوم فرعون- ولمّا كان بنو إسرائيل يعيشون دائماً تحت ضغط الأقباط الظالمين وأذاهم، هبّ موسى لمعونة المظلوم الذي كان من بني إسرائيل، ومن أجل الدفاع عنه وجّه ضربة قاتلة إلى ذلك القبطي، فقضت عليه.

إنّ موسى، وحسب إشارة بعض أصدقائه عليه، خرج متخفّياً من مصر، وتوجّه إلى مدين، فوجد محيطاً وجوّاً آمناً في ظل النبي «شعيب»، والذي سيأتي شرح حاله في تفسير سورة القصص إن شاء اللَّه تعالى

هنا حيث يقول القرآن الكريم: «وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنكَ مِنَ الْغَمّ وَفَتَنكَ فُتُونًا». فبعد حادثة القتل اختبرناك كثيراً والقينا بك في اتون الحوادث والشدائد «فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِى أَهْلِ مَدْيَنَ». وبعد اجتياز هذا الطريق الطويل، والإستعداد الروحي والجسمي، والخروج من دوامة الأحداث بشموخ وانتصار «ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يمُوسَى . أي لاستلام مهمة الرسالة في زمان مقدّر إلى هذا المكان.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 212

ثم يضيف: «وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى». فمن أجل مهمّة تلقّي الوحي الصعبة، ومن أجل قبول الرسالة، ومن أجل هداية العباد وإرشادهم ربّيتك واختبرتك في الحوادث الصعبة ومشاقّها، ومنحتك القوة والقدرة، والآن حيث ألقيت هذه المهمة الكبرى على عاتقك، فإنّك مؤهّل من جميع الجوانب. «اصطناع»: من مادة «صنع» بمعنى

الإصرار والاقدام الأكيد على اصلاح شي ء. ويعني إنّني قد اصلحتك من كل الجهات.

اذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآيَاتِي وَ لَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَ أَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ لَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَ السَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى (48)

أوّل لقاء مع فرعون الجبار: الآن وقد أصبح كل شي ء مهيّأً، وكل الوسائل قد جعلت تحت تصرّف موسى، فقد خاطب اللَّه سبحانه موسى وهارون بقوله: «اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بَايتِى». الآيات التي تشمل المعجزتين الكبيرتين لموسى عليه السلام، كما تشمل كل آيات اللَّه وتعليماته التي هي بذاتها دليل على أحقّية دعوته.

ومن أجل رفع معنوياتهما، والتأكيد على بذل أقصى ما يمكن من المساعي والجهود، فقد أضاف سبحانه قائلًا: «وَلَا تَنِيَا فِى ذِكْرِى» وتنفيذ أوامري، لأنّ الضعف واللين وترك الحزم سيذهب بكل جهودكما أدراج الرياح، فأثبتا ولاتخافا من أيّ حادثة، ولا تضعفا أمام أيّ قدرة.

بعد ذلك، يبيّن الهدف الأساس لهذه الحركة، والنقطة التي يجب أن تكون هدفاً لتشخيص المسار، فيقول: «اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى . فإنّه سبب كل الشقاء والتعاسة في هذه المنطقة الواسعة، وما لم يتمّ إصلاحه فسوف لا ينجح أيّ عمل، لأنّ عامل تقدّم الامّة أو تخلّفها، سعادتها أو شقائها وبؤسها هو قادتها وحكّامها.

ثم بيّنت الآية طريقة التعامل المؤثرة مع فرعون، فمن أجل أن تنفذا إليه وتؤثّرا فيه «فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيّنًا

لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى .

مختصر الامثل، ج 3، ص: 213

ومع هذه الحال، فقد كان موسى وهارون قلقين من أنّ هذا الرجل القوي المتغطرس المستكبر، الذي عمّ رعبه وخشونته كل مكان، قد يقدم على عمل قبل أن يبلّغان الدعوة، ويهلكهما، لذلك «قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى .

إلّا أنّ اللَّه سبحانه قد أجابهما بحزم: ف «قَالَ لَاتَخَافَا إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى وبناءً على هذا، فمع وجود اللَّه القادر معكما في كل مكان، اللَّه الذي يسمع كل شي ء، ويرى كل شي ء، وهو حاميكما وسندكما، فلا معنى للخوف والرعب.

ثم يبيّن لهما بدقّة كيفية إلقاء دعوتهما في محضر فرعون في خمس جمل قصار قاطعة غنيّة المحتوى، ترتبط أوّلها بأصل المهمة، والثانية ببيان محتوى المهمة، والثالثة بذكر الدليل والسند، والرّابعة بترغيب الذين يقبلونها، وأخيراً فإنّ الخامسة تكفّلت بتهديد المعارضين.

فتقول أوّلًا: «فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبّكَ».

ثم تقول: «فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَلَا تُعَذّبْهُمْ».

ثم أشارت إلى دليلهما ووثيقتهما، فتقول: قولا له: «قَدْ جْنكَ بَايَةٍ مِّن رَّبّكَ». وبناءً على هذا، فإنّ العقل يحكم بأن تفكّر في كلامنا على الأقل، وأن تقبله إن كان صحيحاً ومنطقياً.

ثم تضيف الآية من باب ترغيب المؤمنين: «وَالسَّلمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى . وهذه الجملة يمكن أن تشير أيضاً إلى معنى آخر، وهو أنّ السلامة في هذه الدنيا، والعالم الآخر من الآلام والعذاب الإلهي الأليم، ومن مشاكل الحياة الفردية والاجتماعية، من نصيب اولئك الذين يتّبعون الهدى الإلهي، وهذه في الحقيقة هي النتيجة النهائية لدعوة موسى.

وأخيراً، فإنّ اللَّه يأمرهما أن يُفهماه العاقبة المشؤومة للتمرد على هذه الدعوة وعصيانها، بقولهما له: «إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى .

إنّ هذه حقيقة يجب أن تقال لفرعون

بدون لفّ ودوران، وبدون أي تغطية وتورية.

قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَ لَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَ سَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَ ارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَ فِيهَا نُعِيدُكُمْ وَ مِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 214

لقد حذف القرآن المجيد هنا بعض المطالب التي يمكن فهمها بمعونة الأبحاث الآتية، وتوجّه مباشرةً إلى محاورة موسى وهارون مع فرعون، والمبحث في الواقع هكذا:

لمّا أصبح موسى أمام فرعون وجهاً لوجه، أعاد تلك الجمل الدقيقة المؤثرة التي علّمه اللَّه إيّاها أثناء الأمر بالرسالة. فلما سمع فرعون هذا الكلام، كان أوّل ردّ فعله أن «قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يمُوسَى . والعجيب أنّ فرعون المغرور والمعجب بنفسه لم يكن مستعدّاً حتى أن يقول: من ربّي الذي تدّعيانه؟ بل قال: من ربّكما؟

فأجابه موسى مباشرةً بجواب جامع جدّاً، وقصير في الوقت نفسه، عن اللَّه: «قَالَ رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى . ففي هذه العبارة الموجزة إشارة إلى أصلين أساسيين من الخلقة والوجود، وكل واحد منهما دليل وبرهان مستقل يوصل إلى معرفة اللَّه:

الأوّل: إنّ اللَّه سبحانه قد وهب لكل موجود ما يحتاجه.

والثاني: مسألة هداية وإرشاد الموجودات.

إنّ من الممكن أن يمتلك الإنسان أيّ شي ء من أسباب الحياة، إلّاأنّه يجهل كيفية الاستفادة منها، والمهم أن يعرف طريقة استعمالها، وهذا هو الشي ء الذي نراه في الموجودات المختلفة بوضوح، وكيف أنّ كلّاً منها يستغلّ

طاقته بصورة دقيقة في إدامة حياته، كيف يبني بيتاً، وكيف يتكاثر، وكيف يربّي أولاده ويخفيهم ويبعدهم عن متناول الأعداء، أو يعلّمهم كيف يواجهون الأعداء.

والبشر- أيضاً- لديهم هذه الهداية التكوينية.

فإنّ الإنسان نتيجة لإمتلاكه العقل والإرادة، فإنّ له واجبات ومسؤوليات، وبعد ذلك مناهج تكاملية ليس للحيوانات مثلها، ولذلك فإنّه إضافة إلى الهداية التكوينية محتاج إلى الهداية التشريعية.

فلما سمع فرعون هذا الجواب الجامع الجميل، ألقى سؤالًا آخر «قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى .

أجابه موسى عليه السلام بقوله: «قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبّى فِى كِتبٍ لَّايَضِلُّ رَبّى وَلَا يَنسَى».

إنّ موسى قد نبّه بصورة ضمنيّة على إحاطة علم اللَّه بكل شي ء، لينتبه فرعون إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ أي شي ء من عمله لا يخفى على اللَّه وإن كان بمقدار رأس الإبرة، وسوف ينال عقابه أو ثوابه.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 215

ولما كان جانب من حديث موسى عليه السلام حول مسألة التوحيد ومعرفة اللَّه، فإنّه يبيّن هنا فصلًا آخر في هذا المجال، فيقول: «الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى . وفي مجموع هذه الآية إشارة إلى أربعة أنواع من نعم اللَّه الكبرى.

إنّ هذه النعم الأربع الكبرى تشكّل حسب الترتيب الذي ورد في الآية أولويّات حياة الإنسان، فقبل كل شي ء يحتاج الإنسان إلى محلّ سكن وهدوء، وبعده إلى طرق المواصلات، ثم الماء، ثم المحاصيل الزراعية.

ثم أشار إلى خامس النعم وآخرها من سلسلة النعم الإلهية هذه، فقال: «كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ».

وفي النهاية، وبعد أن أشار إلى كل هذه النعم، قال: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيتٍ لِأُولِى النُّهَى .

«النهى»: جمع «نهية» وهي في الأصل مأخوذة من مادة «نهي» مقابل الأمر، وتعني العقل الذي ينهى الإنسان

عن القبائح والسيئات، يعني إنّ العقل والفكر المسؤول هو الذي يستطيع أن يدرك ويطّلع على هذه الحقيقة.

وبما أنّ هذه الآيات دلّلت على التوحيد بخلق الأرض ونعمها، فقد بيّنت مسألة المعاد بالإشارة إلى الأرض في آخر آية من هذه الآيات أيضاً فقالت: «مِنْهَا خَلَقْنكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى .

وَ لَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَ أَبَى (56) قَالَ أَ جِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَ لَا أَنْتَ مَكَاناً سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَ أَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَ قَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَ أَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَ يَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَ قَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 216

فرعون يُهيّ ء نفسه للجولة الأخيرة: تعكس هذه الآيات مرحلة اخرى من المواجهة بين موسى وفرعون، ويبدأ القرآن الكريم هذا الفصل بهذه الجملة: «وَلَقَدْ أَرَيْنهُ ءَايَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى . ومن المسلّم أنّ المراد من هذه الآيات هي المعجزات التي أراها فرعون في بداية دعوته، معجزة العصا، واليد البيضاء، ومحتوى دعوته السماوية الجامعة.

والآن، لنر ماذا قال فرعون الطاغي المستكبر العنود في مقابل موسى ومعجزاته، وكيف اتّهمه كما هي عادة كل المتسلطين والحكّام المتعنّتين؟ «قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يمُوسَى . وهو إشارة إلى أنّنا نعلم أنّ مسألة النبوة والدعوة إلى التوحيد، وإظهار هذه المعجزات تشكّل بمجموعها خطّة منسّقة للإنتصار

علينا، وبالتالي إخراجنا مع الأقباط من أرض آبائنا وأجدادنا.

إنّ هذه التهمة هي نفس الحربة التي يستخدمها الطواغيت والمستعمرون على إمتداد التاريخ، ويلوحون بها ويشهرونها كلّما رأوا أنفسهم في خطر، ومن أجل إثارة الناس لصالحهم يثيرون مسألة تعرّض مصالح البلد للخطر، فالبلد يعني حكومة هؤلاء العتاة، ووجوده يعني وجودهم!

ثم أضاف فرعون بأن لا تظن بأنّنا نعجز عن أن نأتي بمثل هذا السحر: «فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مّثْلِهِ». ولكي يظهر حزماً أكثر فإنّه قال: «فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَّانُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَانًا سُوًى».

إلّا أنّ موسى لم يفقد هدوء أعصابه، ولم يدع للخوف من عنجهيّة فرعون إلى قلبه طريقاً، بل قال بحزم: «قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى» «1».

إنّ التعبير ب «يَوْمُ الزّينَةِ» إشارة إلى يوم عيد إلّاأنّ المهم هو أنّ الناس كانوا يعطّلون أعمالهم فيه.

إنّ فرعون بعد مشاهدة معجزات موسى العجيبة، وتأثيرها النفسي في أنصاره، صمّم على مواجهة موسى عليه السلام بالإستعانة بالسّحرة، ولذلك وضع الإتفاق المذكور مع موسى «فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى .

وأخيراً حلّ اليوم الموعود، ووقف موسى أمام جميع الحاضرين، الذين كان بعضهم

______________________________

(1) «الضحى»: بمعنى زيادة أشعّة الشمس، أو إرتفاع الشمس.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 217

السحرة، وكان عددهم- على رأي بعض المفسرين- إثنين وسبعين ساحراً، وقال آخرون إنّهم بلغوا أربعمائة، وذكر البعض أعداداً أكبر أيضاً، وكان قسم من ذلك الجمع عبارة عن فرعون وأنصاره وحاشيته، وأخيراً القسم الثالث الذي كان يشكّل الأكثرية، وهم الناس المتفرجون.

هنا توجّه موسى إلى السّحرة، أو إلى الفراعنة والسحرة، و «قَالَ لَهُم مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى .

وواضح أنّ مراد موسى من الإفتراء على اللَّه سبحانه هو أن يجعلوا شخصاً

أو شيئاً شريكاً له، أو ينسبوا معجزات رسول اللَّه إلى السحر، ويظنّوا أنّ فرعون إلههم ومعبودهم.

إنّ كلام موسى المتين الذي لا يشبه كلام السّحرة بوجه، بل إنّ نبرته كانت نبرة دعوة كل الأنبياء الحقيقيين، ونابعة من صميم قلب موسى الطاهر، فأثّرت على بعض القلوب، وأوجدت إختلافاً بين ذلك الحشد من السّحرة، فبعض كان يناصر المواجهة والمبارزة، وبعض تردّد في الأمر، واحتمل أن يكون موسى عليه السلام نبيّاً إلهيّاً، وأثّرت فيهم تهديداته، خاصةً وأنّ لباس موسى وهارون البسيط كان لباس رعاة الأغنام، وعدم مشاهدة الضعف والتراجع على محيّاهما بالرغم من كونهما وحيدين، كان يعتبر دليلًا آخر على أصالة أقوالهما وصدق نواياهما، ولذلك فإنّ القرآن يقول: «فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى .

إلّا أنّ أنصار الاستمرار في المواجهة إنتصروا أخيراً وأخذوا زمام المبادرة بيدهم، وشرعوا في تحريك السحرة بطرق مختلفة، فأوّلًا «قَالُوا إِنْ هذَانِ لَسَاحِرَانِ». وبناءً على هذا فلا يجب أن تخافوا مواجهتهما، لأنّكم كبار وأساتذة السحر في هذه البلاد العريضة، ولأنّ قوّتكم وقدرتكم أكبر منهما.

ثم إنّهما «يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا». الوطن الذي هو أعزّ من أنفسكم. إضافة إلى أنّهما لا يقنعان بإخراجكم من أرضكم، بل إنّهما يريدان أيضاً أن يجعلا مقدساتكم اضحوكة ومحلّاً للسخرية «وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى «1».

والآن حيث أصبح الأمر كذلك، فلا تدعوا للتردّد إلى أنفسكم طريقاً مطلقاً، بل

______________________________

(1) «الطريقة»: تعني العادة والاسلوب المتبع، والمراد منها هنا المذهب؛ و «مثلى»: من مادّة «مثل» وهي هنا تعني العالي والأفضل، أي الأشبه بالفضيلة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 218

«فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا» لأنّ الوحدة رمز إنتصاركم في هذه المعركة المصيرية الحاسمة «وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى .

قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ

أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَ أَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَ لَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)

موسى عليه السلام ينزل إلى الساحة: لقد اتّحد السّحرة ظاهراً، وعزموا على محاربة موسى عليه السلام ومواجهته، فلمّا نزلوا إلى الميدان «قَالُوا يمُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِىَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى .

غير أنّ موسى عليه السلام بدون أن يبدي عجلة، لإطمئنانه بأنّ النصر سوف يكون حليفه، بل وبغضّ النظر عن أنّ الذي يسبق إلى الحلبة في هذه المجابهات هو الذي يفوز «قَالَ بَلْ أَلْقُوا».

فقبل السحرة ذلك أيضاً، وألقوا كل ما جلبوه معهم من عصي وحبال للسحر في وسط الساحة دفعة واحدة، وإذا قبلنا الرواية التي تقول: إنّهم كانوا آلاف الأفراد، فإنّ معناها أنّ في لحظة واحدة القيت في وسط الميدان آلاف العصي والحبال التي ملئت أجوافها بمواد خاصة «فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى .

إنّ المشهد كان عجيباً جدّاً، فإنّ السحرة الذين كان عددهم كبيراً، وتمرّسهم وإطلاعهم في هذا الفن عميقاً، وكانوا يعرفون جيّداً طريقة الاستفادة من خواص هذه الأجسام الفيزيائية والكيميائية الخفية، استطاعوا أن ينفذوا إلى أفكار الحاضرين ليصدّقوا أنّ كل هذه الأشياء الميتة قد ولجتها الروح، فعلت صرخات السرور من الفراعنة، بينما كان بعض الناس يصرخون من الخوف والرعب، ويتراجعون إلى الخلف.

في هذه الأثناء «فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى . «أوجس»: أخذت من مادة «إيجاس» وفي الأصل من (وجس) على وزن (حبس) بمعنى الصوت الخفي، وبناءً على هذا فإنّ الإيجاس

يعني الإحساس الخفي والداخلي، وهذا يوحي بأنّ خوف موسى الداخلي كان سطحياً وخفيفاً. كما نقرأ في خطبة الإمام علي عليه السلام: «لم يوجس موسى عليه السلام خيفة على نفسه، بل

مختصر الامثل، ج 3، ص: 219

أشفق من غلبة الجهّال ودول الضلال» «1».

فقد نزل النصر والمدد الإلهي على موسى في تلك الحال، وبيّن له الوحي الإلهي أنّ النصر حليفه كما يقول القرآن: «قُلْنَا لَاتَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى .

فقد أرجعت لموسى إطمئنانه الذي تزلزل للحظات قصيرة.

وخاطبه اللَّه مرّة اخرى بقوله تعالى: «وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى .

وممّا يلفت النظر أنّه لم يقل (الق عصاك) بل يقول: «أَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ» وربّما كان هذا التعبير إشارة إلى عدم الإهتمام بالعصا، وإشارة إلى أنّ العصا ليست مسألة مهمّة، بل المهم إرادة اللَّه وأمره، فإنّه إذا أراد اللَّه شيئاً، فليست العصا فقط، بل أقل وأصغر منها قادر على إظهار مثل هذه القدرة.

فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَ مُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَ أَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَ الَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَ مَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَ اللَّهُ خَيْرٌ وَ أَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَ لَا يَحْيَى (74) وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ

تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَ ذلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)

الإنتصار العظيم لموسى عليه السلام: إنتهينا في الآيات السابقة إلى أنّ موسى امر أن يلقي عصاه ليبطل سحر السّاحرين، وقد عُقّبت هذه المسألة في هذه الآية، غاية الأمر أنّ العبارات والجمل التي كانت واضحة قد حذفت، وهي (أنّ موسى قد ألقى عصاه، فتحوّلت إلى حيّة

______________________________

(1) لقد قال الإمام علي عليه السلام هذا الكلام في وقت كان قلقاً من انحراف الناس، ويشير إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ قلقي ليس نابعاً من شكّي في الحق. (نهج البلاغة الخطبة 4).

مختصر الامثل، ج 3، ص: 220

عظيمة لقفت كل آلات وأدوات سحر السّحرة، فعلت الصيحة والغوغاء من الحاضرين، فاستوحش فرعون وإرتبك، وفغر أتباعه أفواههم من العجب. فأيقن السحرة الذين لم يواجهوا مثل هذا المشهد من قبل، وكانوا يفرّقون جيّداً بين السحر وغيره، إنّ هذا الأمر ليس إلّامعجزة إلهية، وأنّ هذا الرجل الذي يدعوهم إلى ربّهم هو رسول اللَّه، فاضطربت قلوبهم، وتبيّن التحوّل العظيم في أرواحهم ووجودهم).

والآن نسمع بقيّة الحديث من لسان الآيات:

«فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا ءَامَنَّا بِرَبّ هرُونَ وَمُوسَى . إنّ التعبير ب (القي)- وهو فعل مبني للمجهول- ربّما كان إشارة إلى أنّهم قد صدّقوا موسى، وتأثّروا بمعجزته إلى الحد الذي سجدوا معه دون إرادة.

إنّ عمل السّحرة هذا قد وجّه صفعة قويّة إلى فرعون وحكومته الجبارة المستبدة الظالمة، ولذلك لم ير فرعون بدّاً إلّاأن يجمع كيانه ويلملم ما تبقّى من هيبته وسلطانه عن طريق الصراخ والتهديد والوعيد الغليظ، فتوجّه نحو السحرة و «قَالَ ءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ».

إنّ هذا الجبار المستكبر لم يكن يدّعي الحكومة على أجسام وأرواح الناس وحسب، بل كان يريد أن يقول: إنّ قلوبكم تحت تصرفي

أيضاً، ويجب على أحدكم إذا أراد أن يصمّم على أمر ما أن يستأذنني.

إنّ فرعون لم يكتف بذلك، بل إنّه ألصق بالساحرين التهمة وقال: «إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السّحْرَ».

لا شكّ أنّ فرعون كان على يقين ومعرفة تامّة بكذب كلامه وبطلانه، إلّاأنّا نعلم أنّ الطغاة لا يتورّعون عن إلصاق أي كذب وتهمة بخصومهم عندما يرون مركزهم الذي حصلوا عليه بغير حق يتعرّض للخطر.

ثم إنّه لم يكتف بهذا، بل إنّه هدّد السحرة أشدّ تهديد، التهديد بالموت، فقال: «فَلَأُقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلفٍ وَلَأُصَلّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى .

لكن نرى ماذا كان ردّ فعل السحرة تجاه تهديدات فرعون الشديدة؟ إنّهم لم يخافوا ولم يهربوا من ساحة المواجهة، أثبتوا صمودهم في الميدان بصورة قاطعة، و «قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيّنتِ وَالَّذِى فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ» لكن، ينبغي أن تعلم بأنّك تقدر على

مختصر الامثل، ج 3، ص: 221

القضاء في هذه الدنيا، أمّا في الآخرة فنحن المنتصرون، وستلاقي أنت أشدّ العقاب «إِنَّمَا تَقْضِى هذِهِ الْحَيَوةَ الدُّنيَا».

ثم أضافوا بأنّا قد إرتكبنا ذنوباً كثيرة نتيجة السحر، ف «إِنَّا ءَامَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطينَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى . وخلاصة القول: إنّ هدفنا هو الطهارة من الذنوب الماضية، ومن جملتها محاربة نبي اللَّه الحقيقي، فإذا كنت تهدّدنا بالموت في الدنيا، فإنّنا نتقبّل هذا الضرر القليل في مقابل ذلك الخير العظيم.

ثم واصل السحرة قولهم بأنّنا إذا كنّا قد آمنا فإنّ سبب ذلك واضح ف «إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ» ومصيبته الكبرى في الجحيم هي أنّه «لَايَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى بل إنّه يتقلّب دائماً بين الموت والحياة، تلك الحياة التي هي أمرّ

من الموت، وأكثر مشقّة منه.

«وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصلِحتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجتُ الْعُلَى جَنتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهرُ خلِدِينَ فِيهَا وَذلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّى .

عندما صمّموا على قبول الحقّ والثبات عليه بعشق، وعلى قول المفسر الكبير العلّامة الطبرسي رحمه الله: «كانوا أوّل النهار كفّاراً سحرة، وآخر النهار شهداء بررة».

نجاة بني إسرائيل وغرق الفراعنة: بعد حادثة المجابهة بين موسى والسحرة، وإنتصاره الباهر عليهم، وإيمان جمع عظيم منهم، فقد غزا موسى عليه السلام ودينه أفكار الناس في مصر، بالرغم من أنّ أكثر الأقباط لم يؤمنوا به، إلّاأنّ هذا كان ديدنهم دائماً، وكان بنو إسرائيل تحت قيادة موسى مع قلّة من المصريين في حالة صراع دائم مع الفراعنة، ومرّت أعوام على هذا المنوال، وحدثت حوادث مرّة موحشة وحوادث جميلة مؤنسة، أورد بعضها القرآن الكريم في الآية (127) وما بعدها من سورة الأعراف.

وتشير الآيات التي نبحثها إلى آخر فصل من هذه القصة، أي خروج بني إسرائيل من مصر، فتقول: «وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى». فتهيّأ بنو إسرائيل للتوجه إلى

مختصر الامثل، ج 3، ص: 222

الوطن الموعود (فلسطين)، إلّاأنّهم لمّا وصلوا إلى سواحل النيل علم الفراعنة بهم، فتعقّبهم فرعون في جيش عظيم، فرأى بنو إسرائيل أنفسهم محاصرين بين البحر والعدو، إلّا أنّ اللَّه أمر موسى أن امض بقومك «فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِى الْبَحْرِ يَبَسًا». طريقاً متى ما مضيت فيه ف «لَّاتَخفُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى . وبذلك فإنّ موسى وبني إسرائيل قد ساروا في تلك الطرق التي فتحت في أعماق البحر بعد إنحسار المياه عنها، في هذه الأثناء وصل فرعون وجنوده إلى ساحل البحر فدُهشوا لهذا المشهد المذهل المثير غير المتوقّع، ولذلك أعطى فرعون أمراً لجنوده باتّباعهم، وسار

هو أيضاً في نفس الطريق: «فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ».

إنّ فرعون الذي ركب الغرور والعصبية رأسه، وغرق في بحر العناد والحماقة، لم يهتمّ لهذه المعجزة الكبيرة، وأمر جيشه في المسير في هذه الطرق البحرية المريبة حتى دخل من هذه الجهة آخر جندي فرعوني، في وقت خرج من الجانب الآخر آخر فرد من بني إسرائيل.

في هذه الأثناء صدر الأمر لأمواج المياه أن ترجع إلى حالتها الاولى، فوقعت عليهم الأمواج كما تسقط البناية الشامخة إذا هدّمت قواعدها «فَغَشِيَهُم مّنَ الْيَمّ مَا غَشِيَهُمْ». أجل، «وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى .

صحيح أنّ جملة (أضلّ) وجملة (ما هدى) تعطي معنى واحداً تقريباً إلّاأنّ الظاهر أنّ هناك تفاوتاً فيما بينهما، وهو أنّ (أضلّ) إشارة إلى الإضلال، و (ما هدى) إشارة إلى عدم الهداية بعد وضوح الضلالة.

إنّ فرعون كان عنيداً إلى الحد الذي لم يبيّن لقومه الحقيقة حتى بعد وضوح الضلال ومشاهدته.

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَ وَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَ نَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَ لَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى (82)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 223

طريق النجاة الوحيد: تعقيباً على البحث السابق في نجاة بني إسرائيل بصورة إعجازية من قبضة الفراعنة، خاطبت هذه الآيات الثلاث بني إسرائيل بصورة عامة، وفي كل عصر وزمان، وذكرتهم بالنعم الكبيرة التي منحها اللَّه إيّاهم، وأوضحت طريق نجاتهم.

فقالت أوّلًا: «يَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِن عَدُوّكُمْ».

ثم تشير إلى واحدة من النعم المعنوية المهمة، فتقول: «وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ». وهذه إشارة إلى حادثة ذهاب موسى عليه السلام مع جماعة

من بني إسرائيل إلى مكان ميعادهم في الطور، ففي ذلك المكان أنزل اللَّه سبحانه ألواح التوراة على موسى وكلّمه، وشاهدوا جميعاً تجلّي اللَّه سبحانه.

وأخيراً أشارت إلى نعمة ماديّة مهمة من نعم اللَّه الخاصة ببني إسرائيل، فتقول: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى . ففي تلك الصحراء كنتم حيارى، ولم يكن عندكم شي ء من الطعام المناسب، فأدرككم لطف اللَّه، ورزقكم من الطعام الطيّب اللذيذ ما كنتم بأمسّ الحاجة إليه.

و «المنّ» نوعاً من العسل الطبيعي كان موجوداً في الجبال المجاورة لتلك الصحراء؛ و «السلوى» نوع من الطيور المحللة اللحم شبيهاً بالحمام.

ثم تخاطبهم الآية التالية بعد ذكر هذه النعم الثلاث العظيمة، فتقول: «كُلُوا مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ».

الطغيان في النعمة هو أن يتخذ الإنسان هذه النعم وسيلة للذنب والجحود والكفران والتمرد والعصيان، بدل أن يستغلّها في طاعة اللَّه وسعادته، تماماً كما فعل بنو إسرائيل، ولذلك حذّرتهم الآية بعد ذلك فقالت: «فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَى .

«هوى»: في الأصل بمعنى السقوط من المكان المرتفع، والذي تكون نتيجته الهلاك عادةً، إضافة إلى أنّه هنا إشارة إلى السقوط الرتبي والبعد عن قرب اللَّه، والطرد من رحمته.

ولما كان من الضروري أن يقترن التحذير والتهديد بالترغيب والبشارة دائماً، لتتساوى كفّتا الخوف والرجاء، حيث تشكّلان العامل الأساسي في تكامل الإنسان، ولتفتح أبواب التوبة والرجوع بوجه التائبين، فقد قالت الآية التالية: «وَإِنّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى .

«غفّار»: صيغة مبالغة، وتوحي أنّ اللَّه سبحانه لا يقبل هؤلاء التائبين ويشملهم برحمته مرّة واحدة فقط، بل سيعمّهم عفوه ومغفرته مرّات ومرّات.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 224

وَ مَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ

رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَ فَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَ لكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هذَا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَ فَلَا يَرَوْنَ أَنْ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَ لَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَ لَا نَفْعاً (89) وَ لَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَ إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91)

صخب السامري: ذكر في هذه الآيات فصل آخر من حياة موسى عليه السلام وبني إسرائيل، ويتعلق بذهاب موسى عليه السلام مع وكلاء وممثّلي بني إسرائيل إلى الطور حيث موعدهم هناك، ثم عبادة بني إسرائيل للعجل في غياب هؤلاء.

كان من المقرر أن يذهب موسى عليه السلام إلى «الطور» لتلقّي أحكام التوراة، ويصطحب معه جماعة من بني إسرائيل، غير أنّ شوق موسى عليه السلام إلى المناجاة مع اللَّه وسماع ترتيل الوحي، وصل لوحده قبل الآخرين إلى ميقات اللَّه وميعاده. هنا نزل عليه الوحي: «وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يمُوسَى .

شوق المناجاة وسماع كلامك قد سلب قراري، كنت مشتاقاً إلى أن آخذ منك أحكام التوراة بأسرع ما يمكن لُاؤدّيها إلى عبادك، ولأنال رضاك عنّي بذلك ...

وفي هذا اللقاء إمتدّت مدّة الإشراقات والتجليات المعنوية الإلهية من ثلاثين ليلة إلى أربعين، وأدّت الأجواء المهيّأة لانحراف بني إسرائيل دورها، فالسامري، ذلك

الرجل الفطن والمنحرف صنع باستعماله الوسائل عجلًا، ودعا تلك الجماعة إلى عبادته، وأوقعهم فيها.

وأخيراً أخبر اللَّه موسى في الميعاد بما جرى لقومه والسامري إذ تحكي الآية التالية ذلك

مختصر الامثل، ج 3، ص: 225

فتقول: «قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ». «فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا».

وما أن وقعت عينه على ذلك المنظر القبيح، منظر عبادة العجل «قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا». وهذا الوعد الحسن إمّا أن يكون وعد بني إسرائيل بنزول التوراة وبيان الأحكام السماوية فيها، أو الوعد بالنجاة والإنتصار على الفراعنة ووراثة حكومة الأرض، أو الوعد بالمغفرة والعفو للذين يتوبون ويؤمنون ويعملون الصالحات، أو أنّه كل هذه الامور.

ثم أضاف: «أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ».

وحتى لو نأيت عنكم سنين طويلة فينبغي أن تلتزموا بالتعاليم الإلهية التي تعلّمتموها وتؤمنوا بالمعجزات التي رأيتموها: «أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِى». فقد عاهدتكم على أن تثبتوا على خطّ التوحيد وطريق طاعة اللَّه الخالصة، وأن لا تنحرفوا عنه قيد أنملة، إلّاأنّكم نسيتم كل كلامي في غيابي، وكذلك تمردّتم على طاعة أمر أخي هارون وعصيتموه.

فلمّا رأى بنو إسرائيل أنّ موسى عليه السلام قد عنّفهم بشدة ولامهم على فعلهم وتنبّهوا إلى قبح ما قاموا به من عمل، هبوا للإعتذار ف «قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا» فلم نكن في الواقع قد رغبنا وصمّمنا على عبادة العجل «وَلكِنَّا حُمّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِىُّ».

إنّ كبير القوم إذا لام مَن تحت إمرته على إرتكابهم ذنباً ما، فإنّهم يسعون إلى نفي ذلك الذنب عنهم، ويلقونه على عاتق غيرهم، وكذلك عبّاد العجل من بني إسرائيل، فإنّهم كانوا قد انحرفوا بإرادتهم ورغبتهم عن التوحيد إلى الشرك، إلّاأنّهم أرادوا

أن يلقوا كل التبعة على السامري.

على كلّ، فإنّ السامري ألقى كل أدوات زينة الفراعنة وحليّهم التي كانوا قد حصلوا عليها عن طريق الظلم والمعصية- ولم يكن لها قيمة إلّاأن تصرف في مثل هذا العمل المحرّم- في النّار «فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ» «1» فلمّا رأى بنو إسرائيل هذا المشهد، نسوا فجأةً كل تعليمات موسى التوحيديّة «فَقَالُوا هذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسَى .

وبهذا فإنّ السامري قد نسي عهده وميثاقه مع موسى، وإله موسى: «فَنَسِىَ».

وهنا قال اللَّه سبحانه توبيخاً وملامة لعبدة الأوثان هؤلاء: «أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفَعًا». فإنّ المعبود الواقعي يستطيع على الأقل أن يُلبّي طلبات

______________________________

(1) «الخوار»: صوت البقرة والعجل، ويطلق أحياناً على صوت البعير.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 226

عباده ويجيب على أسئلتهم، فهل يمكن أن يكون سماع خوار العجل من هذا الجسد الذهبي لوحده، دليلًا على جواز عبادة العجل، وصحّة تلك العبادة؟ ولا شك أنّ هارون، خليفة موسى ونبي اللَّه الكبير، لم يرفع يده عن رسالته في هذا الصخب والغوغاء، وأدّى واجبه في محاربة الانحراف والفساد قدر ما يستطيع، كما يقول القرآن: «وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هرُونُ مِن قَبْلُ يقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ» ثم أضاف: «وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ».

لقد كنتم عبيداً فحرّركم، وكنتم أسرى فأطلقكم، وكنتم ضالين فهداكم، وكنتم متفرقين مبعثرين فجمعكم ووحّدكم تحت راية رجل رباني، وكنتم جاهلين فألقى عليكم نور العلم وهداكم إلى صراط التوحيد المستقيم، فالآن «فَاتَّبِعُونِى وَأَطِيعُوا أَمْرِى».

أنسيتم أنّ أخي موسى قد نصّبني خليفة له وفرض عليكم طاعتي؟ فلماذا تنقضون الميثاق؟ ولماذا ترمون بأنفسكم في هاوية الفناء؟

إلّا أنّ بني إسرائيل تمسكّوا بهذا العجل عناداً، ولم يؤثّر فيهم المنطق السليم القوي لهذا الرجل، ولا أدلة هذا القائد

الحريص، وأعلنوا مخالفتهم بصراحة: «قَالُوا لَنْ نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى .

وبهذا لم يذعن بنو إسرائيل لأمر العقل ولا لأمر خليفة قائدهم وزعيمهم أيضاً.

ولكن إفترق عنهم هارون مع القلة من المؤمنين الثابتين، والذين كان عددهم قرابة إثني عشر ألفاً، في حين أنّ الأغلبية الجاهلة كادوا أن يقتلوه.

قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَنْ تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَ كَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَ انْظُرْ إِلَى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّمَا إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً (98)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 227

نهاية السامري المريرة: تعقيباً على البحث الذي تناولته الآيات السابقة حول تقريع موسى وملامته لبني إسرائيل الشديدة على عبادتهم العجل، تعكس هذه الآيات التي نبحثها- في البداية- محاورة موسى عليه السلام مع أخيه هارون عليه السلام، ثم مع السامري. فخاطب أوّلًا أخاه هارون «قَالَ يَا هرُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا* أَلَّا تَتَّبِعَنِ» أفلم أقل لك أن «اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ» «1». فلماذا لم تهب لمحاربة عبادة العجل هذه؟

إنّ المراد من جملة «أَلَّا تَتَّبِعَنِ» هو: لماذا لم تتّبع طريقة عملي في شدّة مواجهة عبادة الأصنام؟

ثم أضاف: «أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى». لقد كان موسى عليه السلام يتحدث

بهذا الكلام مع أخيه وهو في فورة وسَورةٍ من الغضب، وكان يصرخ في وجهه، وقد أخذ برأسه ولحيته يجرّه إليه، فلمّا رأى هارون غضب أخيه الشديد قال له- من أجل تهدئته وليقلّل من فورته، وكذلك ليبيّن عذره وحجّته في هذه الحادثة ضمناً ... «قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَاتَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلَا بِرَأْسِى إِنّى خَشِيْتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى».

إنّ هارون يريد أن يقول: إنّي إذا كنت قد أقدمت على الإشتباك معهم كان ذلك خلاف أمرك، وكان من حقّك أن تؤاخذني. وبهذا أثبت هارون براءته.

وبعد الانتهاء من محادثة أخيه هارون وتبرئة ساحته، بدأ بمحاكمة السامري: لماذا فعلت ما فعلت، وما هدفك من ذلك: «قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِىُّ». فأجابه و «قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى».

إنّ كلمة «الأثر» يعني بعض تعليمات موسى عليه السلام؛ و «نبذتها» بمعنى ترك تعليمات موسى عليه السلام. وأخيراً فإنّ «بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا» تشير إلى ما كان لديه من معلومات خاصّة عن دين موسى عليه السلام.

ومن الواضح أنّ جواب السامري عن سؤال موسى عليه السلام لم يكن مقبولًا بأيّ وجه، ولذلك فإنّ موسى عليه السلام أصدر قرار الحكم في هذه المحكمة، وحكم بثلاثة أحكام عليه وعلى عجله، فأوّلًا: «قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِى الْحَيَوةِ أَن تَقُولَ لَامِسَاسَ». أي يجب عليك الإبتعاد عن الناس وعدم الإتصال بهم إلى آخر العمر، فكلما أراد شخص الإقتراب منك، فعليك أن

______________________________

(1) سورة الأعراف/ 142.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 228

تقول له: لا تتصل بي ولا تقربني، وبهذا الحكم الحازم طرد السامري من المجتمع وجعله في عزلة تامة. منزوياً بعيداً عنهم. قال بعض المفسرين: إنّ جملة «لَامِسَاسَ»

إشارة إلى أحد القوانين الجزائية في شريعة موسى عليه السلام التي كانت تصدر في حق من يرتكب جريمة كبيرة، وكان ذلك الفرد يبدو كموجود شرّير نجس قذر، فلا يخالط أحداً أو يخالطه أحد «1».

والعقاب الثاني: إنّ موسى عليه السلام قد أسمعه وأعلمه بجزائه في القيامة فقال: «وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّن تُخْلَفَهُ».

والثالث: «وَانظُرْ إِلَى إِلهِكَ الَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِى الْيَمّ نَسْفًا».

وشخّص موسى في آخر جملة، ومع التأكيد الشديد على مسألة التوحيد، وحاكمية نهج اللَّه، فقال: «إِنَّمَا إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِى لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَىْ ءٍ عِلْمًا». فليس هو كالأوثان المصنوعة التي لا تسمع كلاماً، ولا تجيب سائلًا، ولا تحلّ مشكلة، ولا تدفع ضرّاً.

كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَ قَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَ سَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَ نَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً (104)

مع أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث حول تاريخ موسى وبني إسرائيل والفراعنة والسامري الملي ء بالحوادث، وقد بيّنت في طيّاتها بحوثاً مختلفة، فإنّ القرآن الكريم بعد الانتهاء منها يستخلص نتيجة عامة فيقول: «كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِن أَنبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ». ثم يضيف: «وَقَدْ ءَاتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا» قرآناً مليئاً بالدروس والعبر، والأدلّة العقلية، وأخبار الماضين وما ينبّه المقبلين ويحذّرهم.

إنّ كلمة (ذكر) هنا، وفي آيات كثيرة اخرى من آيات القرآن الكريم تشير إلى القرآن نفسه، لأنّ آياته سبب لتذكّر وتذكير البشر، والوعي والحذر.

ولهذا السبب فإنّ الآية التالية تتحدث عن الذين

ينسون حقائق القرآن ودروس التاريخ

______________________________

(1) تفسير في ظلال القرآن 5/ 494.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 229

وعبره، فتقول: «مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيمَةِ وِزْرًا».

نعم ... إنّ الإعراض عن القرآن يجرّ الإنسان إلى مثل هذه المتاهات التي تحمّله أعباءاً ثقيلة من أنواع الذنوب والانحرافات الفكرية والعقائدية.

ثم تضيف: «خلِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ حِمْلًا».

ثم تتطرق الآيات إلى وصف يوم القيامة وبدايته، فتقول: «يَوْمَ يُنْفَخُ فِى الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا». «زُرق»: جمع «أزرق» تأتي عادةً بمعنى زرقة العين، إلّاأنّها تطلق أحياناً على القاتم جسده بسبب الشدة والألم، فإنّ البدن عند تحمّل الألم والتعب والعذاب يضعف، ويفقد طراوته، فيبدو قاتماً وكأنّه أزرق.

في هذه الحال يتحدث المجرمون فيما بينهم بإخفات حول مقدار مكوثهم وبقائهم في عالم البرزخ، فبعضهم يقول: لم تلبثوا إلّاعشر ليال، أو عشرة أيام بلياليها: «يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا».

وإنّ تخافتهم هذا بالكلام إمّا هو للرعب والخوف الشديد الذي ينتابهم عند مشاهدة أهوال القيامة، أو أنّه نتيجة شدة ضعفهم وعجزهم.

ثم يضيف: «نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ» سواء تكلّموا بهمس أم بصراخ، وبصوت خفي أم عال «إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا».

وَ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَ لَا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَ خَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ لَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَ قَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ

فَلَا يَخَافُ ظُلْماً وَ لَا هَضْماً (112)

مشهد القيامة المهول: تتابع هذه الآيات الكلام في الآيات السابقة عن الحوادث المرتبطة بانتهاء الدنيا وبداية القيامة. ويظهر من الآية الاولى أنّ الناس كانوا قد سألوا

مختصر الامثل، ج 3، ص: 230

النبي صلى الله عليه و آله عن مصير الجبال عند انتهاء الدنيا. ولذلك يقول: «وَيَسَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ».

والجواب: «فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفًا» «1».

يستفاد من مجموع آيات القرآن حول مصير الجبال أنّها تمرّ عند حلول القيامة بمراحل مختلفة:

فهي ترجف وتهتزّ أوّلًا: «يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ» «2».

ثم تتحرّك: «وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا» «3».

وفي المرحلة الثالثة تتلاشى وتتحوّل إلى كثبان من الرمل: «وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا» «4».

وفي المرحلة الأخيرة سيزحزحها الهواء والطوفان من مكانها ويبعثرها في الهواء وتبدو كالصوف المنفوش: «وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ» «5».

ثم تقول الآية: إنّ اللَّه سبحانه بعد تلاشي الجبال وتطاير ذرّاتها يأتي أمره إلى الأرض «فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا* لَّاتَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا» «6». وفي ذلك الحين يدعو الداعي الإلهي جميع البشر إلى الحياة والاجتماع في المحشر للحساب فيلبّي الجميع دعوته ويتّبعونه «يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِىَ لَاعِوَجَ لَهُ». كما أنّ سطح الأرض يصبح صافياً ومستوياً بحيث لا يبقى فيه أيّ إعوجاج، فإنّ أمر اللَّه والداعي أيضاً كل منهما صافٍ ومستقيم جلي، واتّباعه واضح لا سبيل لأيّ إنحراف وإعوجاج إليه.

عند ذلك: «وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا». إنّ هدوء الأصوات أو خشوعها هذا إمّا هو لهيمنة العظمة الإلهية على عرصة المحشر حيث يخضع لها الجميع، أو خوفاً من الحساب ونتيجة الأعمال، أو لكليهما.

______________________________

(1) «نسف»: تعني وضع الحبوب الغذائية في الغربال وغربلتها، أو ذرها في الهواء لينفصل الحبّ عن القشر، وهنا إشارة إلى تلاشي الجبال وتهشّمها، ثم تناثرها في الهواء.

(2) سورة المزمل/ 14.

(3) سورة

الطور/ 10.

(4) سورة المزمل/ 14.

(5) سورة القارعة/ 5.

(6) يستفاد من مجموع هذين الوصفين (القاع وصفصفاً) أنّ كل الجبال والنباتات ستمحى من على وجه الأرض في ذلك اليوم وستبقى الأرض مستوية خالية.

«العوج»: بمعنى الإعوجاج؛ و «الأمت»: أي الأرض المرتفعة والربية، وبناءً على هذا فإنّ معنى الآية هو أنّه لا يرى في ذلك اليوم أيّ إرتفاع وإنخفاض على وجه الأرض.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 231

وبما أنّ بعض الغارقين في الذنوب والمعاصي قد يحتمل أن تنالهم شفاعة الشافعين وتنجيهم، فإنّه يضيف مباشرة: «يَوْمَئِذٍ لَّاتَنفَعُ الشَّفعَةُ إِلَّا مَن أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِىَ لَهُ قَوْلًا». وهذا إشارة إلى أنّ الشفاعة هناك ليست إعتباطية وعشوائية، بل إنّ هناك تخطيطاً دقيقاً لها، سواء ما يتعلق بالشافعين أو المشفوع لهم، وما دام الأفراد لا يملكون الأهلية والاستحقاق للشفاعة، فلا معنى حينئذ لها.

ولمّا كان حضور الناس في عرصات القيامة للحساب والجزاء لابدّ معه من علم اللَّه سبحانه بأعمالهم وسلوكهم ومعاملاتهم، فإنّ الآية التالية تضيف: «يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا». فهو يعلم ما قدّم المجرمون وما فعلوه في الدنيا، وهو مطّلع على كل أفعالهم وأقوالهم ونيّاتهم في الماضي وما سيلاقونه من الجزاء في المستقبل، إلّاأنّهم لا يحيطون بعلم اللَّه، وبهذا فإنّ إحاطة علم اللَّه سبحانه تشمل العلم بأعمال هؤلاء وبجزائهم، وهذان الركنان في الحقيقة هما دعامة القضاء التام العادل.

في ذلك اليوم: «وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَىّ الْقَيُّومِ».

«العنت»: من مادة العنوة، وقد وردت بمعنى الخضوع والذلة، ولذلك يقال للأسير:

«عاني»، لأنّه خاضع وذليل في يد الآسر، وإذا رأينا الخضوع قد نسب إلى الوجوه هنا، فلأنّ كل الإحساسات النفسية، ومن جملتها الخضوع، تظهر آثارها أوّلًا على وجه الإنسان.

إنّ إنتخاب صفتي «الحي والقيوم» هنا من بين صفات اللَّه

سبحانه، لأنّهما يناسبان النشور أو الحياة وقيام الناس جميعاً من قبورهم «يوم القيامة».

وتختتم الآية بالقول: «وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا» فالظلم والجور كالحمل العظيم الذي يثقل كاهل الإنسان، ويمنعه من السير والرقي إلى نعم اللَّه الخالدة.

ولمّا كانت طريقة القرآن غالباً هي بيان تطبيقي للمسائل، فإنّه بعد أن بيّن مصير الظالمين في ذلك اليوم، تطرّق إلى بيان حال المؤمنين فقال: «وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا» «1».

التعبير ب «مِنَ الصَّالِحَاتِ» إشارة إلى أنّهم إن لم يستطيعوا أن يعملوا كل الصالحات فليقوموا ببعضها، لأنّ الإيمان بدون العمل الصالح كالشجرة بلا ثمرة، كما أنّ العمل الصالح

______________________________

(1) «الهضم»: بمعنى النقص، وإذا قيل لجذب الغذاء إلى البدن: هضم، فلأنّ الغذاء يقلّ ظاهراً وتبقى فضلاته.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 232

بدون إيمان كالشجرة من دون جذر، إذ قد تبقى عدة أيّام لكنها تجفّ آخر الأمر. مراحل القيامة: وردت الإشارة في الآيات- محل البحث- إلى سلسلة من الحوادث التي تقع عند حلول القيامة وبعدها:

1- رجوع الأموات إلى الحياة: «يَوْمَ يُنْفَخُ فِى الصُّورِ».

2- جمع المجرمين وحشرهم: «نَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ».

3- تلاشي جبال الأرض، ثم تبعثرها في كل مكان، وإستواء سطح الأرض تماماً:

«يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفًا».

4- إستماع الجميع لدعوة داعي اللَّه، وإنقطاع جميع الأصوات: «يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِىَ ...».

5- عدم تأثير الشفاعة في ذلك اليوم بدون إذن اللَّه: «يَوْمَئِذٍ لَّاتَنفَعُ الشَّفعَةُ ...».

6- إعداد اللَّه تعالى جميع خلقه للحساب بعلمه المطلق غير المتناهي «يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا».

7- خضوع الجميع في مقابل حكمه: «وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَىّ الْقَيُّومِ».

8- يأس الظالمين: «وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا».

9- رجاء المؤمنين لطف اللَّه ورحمته: «وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ...».

وَ كَذلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً

وَ صَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَ لَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114)

الآيات محل البحث- في الواقع- إشارة إلى مجموع ما مرّ في الآيات السابقة حول المسائل التربوية المرتبطة بالقيامة والوعد والوعيد، فتقول: «وَكَذلِكَ أَنزَلْنهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا».

التعبير ب (كذلك) إشارة إلى المطالب التي بيّنت قبل هذه الآية.

كلمة «عربيًّا» وإن كانت بمعنى اللغة العربية، إلّاأنّها هنا إشارة إلى فصاحة القرآن وبلاغته وسرعة إيصاله للمفهوم والمراد من جهتين:

الاولى: إنّ اللغة العربية- بشهادة علماء اللغة في العالم- واحدة من أبلغ لغات العالم، وأدبها من أقوى الآداب.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 233

والثانية: إنّ جملة (صرّفنا) أحياناً تشير إلى التعبيرات القرآنية المختلفة حول حادثة واحدة، فمثلًا نراه يبيّن مسألة الوعيد وعقاب المجرمين من خلال ذكر قصص الامم السابقة وحوادثها تارة، وتارة اخرى على هيئة خطاب موجّه للحاضرين، وثالثة بتجسيد حالهم في مشهد القيامة، وهكذا.

أمّا الآية التالية فتضيف قائلة: «فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ».

وبما أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان يعجّل في إبلاغ الوحي وما ينزل من القرآن لاهتمامه به وتعشّقه أن يحفظه المسلمون ويستظهروه، ولم يتمهّل أن يتمّ جبرئيل ما يلقيه عليه من الوحي فيبلغه عنه، فإنّ الآية محلّ البحث تذكّره بأن يتمهّل فتقول: «وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْمًا».

فإذا كان النبي صلى الله عليه و آله مأموراً أن يطلب زيادة العلم من ربّه إلى آخر عمره مع غزارة علمه، وروحه المليئة وعياً وعلماً، فإنّ واجب الآخرين واضح جدّاً، وفي الحقيقة، فإنّ العلم من

وجهة نظر الإسلام لا يعرف حدّاً، وزيادة الطلب في كثير من الامور مذمومة إلّافي طلب العلم فانّها ممدوحة، والإفراط قبيح في كل شي ء إلّافي طلب العلم.

وَ لَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هذَا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَنْ تَجُوعَ فِيهَا وَ لَا تَعْرَى (118) وَ أَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَ لَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَ طَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَ عَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَ هَدَى (122)

آدم ومكر الشيطان: إنّ هذه الآيات وما بعدها تتحدث عن قصة آدم وحواء، وعداء ومحاربة إبليس لهما، وربما كانت إشارة إلى أنّ الصراع بين الحق والباطل لا ينحصر بالأمس واليوم، وموسى عليه السلام وفرعون، بل كان منذ بداية خلق آدم وسيستمر كذلك.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 234

وبالرغم من أنّ قصة آدم وإبليس قد وردت مراراً في القرآن، إلّاأنّها تمتزج في كل مورد بملاحظات ومسائل جديدة، وهنا تتحدث أوّلًا عن عهد اللَّه إلى آدم فتقول: «وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا». والمراد من العهد المذكور، أمر اللَّه بعدم الإقتراب من الشجرة الممنوعة.

فلا شك أنّ آدم لم يرتكب معصية، بل بدر منه ترك الأولى. أو بتعبير آخر، فإنّ مرحلة وجود آدم في الجنّة لم تكن مرحلة تكليف، بل كانت مرحلة تجريبية للإستعداد للحياة في هذه الدنيا وتقبّل المسؤولية.

ثم أشارت

إلى جانب آخر من هذه القصة، فقالت: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلِكَةِ اسْجُدُوا لِأَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إبْلِيسَ أَبَى . ومن هنا يتّضح مقام آدم العظيم، آدم الذي سجدت له الملائكة، كما أنّ عداوة إبليس تجلّت له ضمناً من أوّل الأمر إذ لم يخضع لآدم ولم يعظّمه.

لا شك أنّ السجدة لا تعني السجدة الخاصة بعبادة اللَّه، ولا أحد أو موجود يستحق أن يكون معبوداً من دون اللَّه سبحانه، وبناءً على هذا فإنّ هذه السجدة كانت للَّه، غاية ما هناك أنّها كانت من أجل خلق هذا الموجود العظيم. فإنّ اللَّه سبحانه تعالى أنذر آدم بقوله: «فَقُلْنَا يَا ءَادَمُ إِنَّ هذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى .

من الواضح أنّ الجنة هنا لا يراد منها جنّة الخلود في العالم الآخر، والتي هي نقطة تكامل لا يمكن الخروج منها أو التراجع عن نعيمها، بل كانت بستاناً فيه كل شي ء مما في بساتين هذه الدنيا، ولم يكن فيها نصب ولا غصّة بلطف اللَّه.

ثم يبيّن اللَّه لآدم راحة الجنة وهدوءها، وألم ومشقة الخروج منها، فيقول: «إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَاتَظْمَؤُا فِيهَا وَلَا تَضْحَى .

فقد اشير في هاتين الآيتين إلى أربع إحتياجات أصلية وابتدائية للإنسان، أي: الحاجة إلى الغذاء، والماء، واللباس- للحماية من حرارة الشمس- والمسكن، لكن ومع كل ذلك، فإنّ الشيطان قد ربط رباط العداوة حول آدم، ولهذا لم يهدأ له بال: «فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطنُ قَالَ يَا ءَادَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّايَبْلَى .

«الوسوسة»: في الأصل تعني الصوت المنخفض جدّاً، ثم قيلت لخطور الأفكار السافلة والخواطر السيئة سواء كانت تنبع من داخل الإنسان، أو من خارجه.

إنّ الشيطان تتبّع رغبة آدم وأنّها في أيّ شي ء، فوجد

أنّ رغبته في الحياة الخالدة

مختصر الامثل، ج 3، ص: 235

والوصول إلى القدرة الأزلية، ولذلك جاء إليه عن هذين العاملين وإستغلّهما في سبيل جرّه إلى مخالفة أمر اللَّه.

وأخيراً وقع المحذور، وأكل آدم وحواء من الشجرة الممنوعة، فتساقط عنهما لباس الجنة، فبدت أعضاؤهما: «فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا» «1». فلما رأى آدم وحواء ذلك إستحييا «وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ» «2». نعم، لقد كانت العاقبة المؤسفة «وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى . «غوى»: اخذت من مادّة الغي، أي العمل الصبياني الناشى ء من إعتقاد خاطى ء، ولما كان آدم هنا قد أكل- جهلًا وإشتباهاً- من الشجرة المحرمة، نتيجة للظن الذي حصل له من قول الشيطان، فقد عُبّر عن عمله ب (غوى).

ولكن لما كان آدم نقيّاً ومؤمناً في ذاته، وكان يسير في طريق رضى اللَّه سبحانه، وكان لهذا الخطأ الذي أحاط به نتيجة وسوسة الشيطان صفة استثنائية، فإنّ اللَّه سبحانه لم يبعده عن رحمته إلى الأبد، بل «ثُمَّ اجْتَبهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى .

قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَ لَا يَشْقَى (123) وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَ كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَ لَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَ أَبْقَى (127)

مع أنّ توبة آدم قد قبلت، إلّاأنّ عمله أدّى إلى عدم استطاعته الرجوع إلى الحالة الاولى، ولذا فإنّ اللَّه سبحانه أصدر أمره لآدم وحواء كليهما وكذلك الشيطان أن يهبطوا جميعاً من الجنة: «قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ

لِبَعْضٍ عَدُوٌّ». إلّاأنّي اعلمكم بأنّ طريق النجاة والسعادة مفتوح أمامكم «فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنّى هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى .

______________________________

(1) «سوءات»: جمع سوءة، وهي في الأصل كل شي ء غير سار ويسي ء الإنسان، ولذلك تطلق أحياناً على جسد الميّت، وأحياناً على العورة، والمراد هنا هو المعنى الأخير.

(2) «يخصفان»: من مادّة خصف، وهي هنا تعني خياطة اللباس.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 236

ومن أجل أن يتّضح أيضاً مصير الذين ينسون أمر الحق، فقد أضاف تعالى «وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيمَةِ أَعْمَى «1».

هنا «قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا». فيسمع الجواب مباشرةً: «قَالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ ءَايتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى . وتعمى عينك عن رؤية نعم اللَّه ومقام قربه.

أمّا الآية الأخيرة من الآيات محل البحث فهي بمثابة الاستنتاج والخلاصة إذ تقول:

«وَكَذلِكَ نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بَايتِ رَبّهِ وَلَعَذَابِ الْأَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى .

أَ فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَ لَوْ لَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِهَا وَ مِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)

لما كانت عدّة بحوث في الآيات السابقة قد وردت عن المجرمين، فقد أشارت الآيات الاولى من الآيات محلّ البحث إلى واحد من أفضل طرق التوعية وأكثرها تأثيراً، وهو مطالعة تأريخ الماضين، فتقول: «أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كُمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مّنَ الْقُرُونِ». اولئك الذين عمّهم العذاب الإلهي الأليم «يَمْشُونَ فِى مَسكِنِهِمْ».

إنّ هؤلاء يمرّون في مسيرهم وذهابهم وإيّابهم على منازل قوم عاد- في أسفارهم إلى اليمن-

وعلى مساكن ثمود المتهدمة الخربة- في سفرهم إلى الشام- وعلى منازل قوم لوط التي جُعل عاليها سافلها- في سفرهم إلى فلسطين- ويرون آثارهم، إلّاأنّهم لا يعتبرون.

نعم ... «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيتٍ لِأُولِى النُّهَى «2».

إنّ موضوع أخذ العبرة من تأريخ الماضين من الامور التي يؤكّد عليها القرآن والأحاديث الإسلامية كثيراً.

في كتاب معاني الأخبار عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «... وأغفل الناس من لم يتّعظ بتغيّر الدنيا من حال إلى حال». ولا يفكّر في تقلّب الليل والنهار وتعاقبهما.

الآية التالية جواب عن سؤال يثار هنا، وهو: لماذا لا يجري اللَّه سبحانه على هذا القسم

______________________________

(1) «الضنك»: المشقّة والضيق، وهذه الكلمة تأتي دائماً بصيغة المفرد، وليس لها تثنية ولا جمع ولا تأنيث.

(2) «النهى»: من مادّة نهي، وهي هنا بمعنى العقل، لأنّ العقل ينهي الإنسان عن القبائح والسيّئات.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 237

من المجرمين ما أجراه على المجرمين السابقين، فيقول القرآن: «وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى».

إنّ هذه السنّة الإلهية التي ذكرت في مواضع عديدة من القرآن باسم (كلمة) إشارة إلى قانون الخلقة المبتني على حرية البشر، لأنّ كل مجرم إذا عوقب مباشرة وبدون أن يمهل، فإنّ الإيمان والعمل الصالح سيتّصف بالجبر تقريباً، وسيكون على الأغلب خوفاً من العقاب الآني، وبناءً على هذا فسوف لا يكون وسيلة للتكامل الذي هو الهدف الأصلي.

إضافةً إلى أنّه إذا تقرّر أن يعاقب جميع المجرمين فوراً، فسوف لا يبقى أحد حيّاً على وجه الأرض: «وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ» «1». وبناءً على هذا فيجب أن تكون هناك مهلة وفترة تعطى لكل المرتبطين بطريق الحق حتى يرجع المجرمون إلى أنفسهم ويسلكوا سبيل الصلاح، ولتكون كذلك

فرصة لتهذيب النفس.

إنّ التعبير ب (أجل مسمّى) بالشكل الذي يفهم من مجموع آيات القرآن، إشارة إلى الزمان الحتمي لنهاية حياة الإنسان.

ثم يوجّه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله، فيقول: «فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ». ومن أجل رفع معنويات النبي صلى الله عليه و آله وتقوية قلبه، وتسلية خاطره، فإنّه يُؤمر بمناجاة اللَّه والصلاة والتسبيح فيقول: «وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ءَانَاىِ الَّيْلِ فَسَبّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ولا يتأثّر قلبك جرّاء كلامهم المؤلم.

لا شك أنّ هذا الحمد والتسبيح محاربة للشرك وعبادة الأصنام، وفي الوقت نفسه صبر وتحمّل أمام أقوال المشركين السيئة، وكلامهم الخشن.

وَ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ رِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ أَبْقَى (131) وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَ الْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَ قَالُوا لَوْ لَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَ وَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْ لَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَ مَنِ اهْتَدَى (135)

______________________________

(1) سورة النحل/ 61.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 238

لقد أصدرت في هذه الآيات أوامر وتوجيهات للنبي صلى الله عليه و آله، والمراد منها والمخاطب فيها عموم المسلمين، وهي تتمة للبحث الذي قرأناه آنفاً حول الصبر والتحمل. فتقول أوّلًا:

«وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ». فإنّ هذه النعم المتزلزلة الزائلة ما هي إلّا «زَهْرَةَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا».

في الوقت الذي أمددناهم بها «لِنَفْتِنَهُم فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى .

فإنّ اللَّه سبحانه وهب لك مواهب ونعماً متنوّعة، فأعطاك الإيمان والإسلام، والقرآن والآيات الإلهية والرزق الحلال الطاهر، وأخيراً نعم الآخرة الخالدة، هذه الهبات والعطايا المستمرة الدائمة.

وتقول الآية التالية تلطيفاً لنفس النبي صلى الله عليه و آله وتقوية لروحه: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَوةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا» لأنّ هذه الصلاة بالنسبة لك ولأهلك أساس العفّة والطهارة وصفاء القلب وسموّ الروح ودوام ذكر اللَّه.

إنّ هذه السورة لمّا كانت قد نزلت في مكة، فإنّ مصداق الأهل في ذلك الزمان كان (خديجة وعلياً عليهما السلام) إلّاأنّ مصطلح أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله أصبح واسع الدلالة بمرور الزمن.

ثم تضيف بأنّه إذا كان قد صدر الأمر لك ولأهلك بالصلاة فإنّ نفعها وبركاتها إنّما يعود كل ذلك عليكم، فإنّا «لَانَسَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ» فإنّ هذه الصلاة لا تزيد شيئاً من عظمة اللَّه، بل هي رأس مال عظيم لتكامل البشر وإرتقائهم ودرس تعليمي وتربوي عال.

وتضيف الآية في النهاية: «وَالْعقِبَةُ لِلتَّقْوَى . فإنّ ما يبقى ويفيد في نهاية الأمر هو التقوى، والمتقون هم الفائزون في النهاية، أمّا الذين لا تقوى لهم فهم محكومون بالهزيمة والإنكسار.

ثم أشارت الآية التالية إلى واحدة من حجج الكفار الواهية فقالت: «وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بَايَةٍ مّن رَّبّهِ» واجابتهم مباشرة: «أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيّنَةُ مَا فِى الصُّحُفِ الْأُولَى . حيث كانوا يشكّكون ويطلبون الأعذار بصورة متلاحقة من أجل الإتيان بالمعجزات، وبعد رؤية ومشاهدة تلك المعاجز إستمرّوا في كفرهم وإنكارهم، فحاق بهم العذاب الإلهي، أفلا يعلمون بأنّهم إذا ساروا في نفس الطريق فسينتظرهم المصير نفسه.

إنّ هؤلاء المتذّرعين ليسوا اناساً طلّاب حق، بل إنّهم دائماً في صدد إيجاد أعذار وتبريرات جديدة، فحتّى «وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنهُم بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا

فَنَتَّبِعَ ءَايتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى إلّاأنّهم الآن وقد جاءهم هذا النبي الكريم بهذا الكتاب العظيم، يقولون كل يوم كلاماً، ويختلقون الأعذار للفرار من الحق.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 239

وقالت الآية التالية: أنذر هؤلاء و «قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبّصٌ» فنحن بإنتظار الوعود الإلهية في حقّكم، وأنتم بإنتظار أن تحيط بنا المشاكل والمصائب «فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحبُ الصّرَاطِ السَّوِىّ وَمَنِ اهْتَدَى . وبهذه الجملة الحاسمة العميقة المعنى تنتهي المحاورة مع هؤلاء المنكرين العنودين المتذّرعين.

«نهاية تفسير سورة طه»

مختصر الامثل، ج 3، ص: 241

21 سورة الأنبياء

محتوى السورة:

1- إنّ هذه السورة كما تدلّ عليها تسميتها هي سورة الأنبياء، لأنّ اسم ستّة عشر نبيّاً قد جاء في هذه السورة، بعضهم بذكر نماذج وصور من حالاتهم، والبعض كإشارة، وهم:

موسى- هارون- إبراهيم- لوط- إسحاق- يعقوب- نوح- داود- سليمان- أيّوب- إسماعيل- إدريس- ذو الكفل- ذو النون (يونس)- زكريا- يحيى عليهم السلام.

2- إضافة إلى ما مرّ، فإنّ خاصية السور المكية التي تتحدث عن العقائد الدينية، وبالأخصّ المبدأ والمعاد، منعكسة تماماً في هذه السورة.

3- وتحدّث جانب آخر من هذه السورة عن إنتصار الحق على الباطل، والتوحيد على الشرك، وجنود الحق على جنود إبليس.

والذي يلفت النظر هنا أنّ هذه السورة تبتدى ء بتهديد الناس الغافلين الجاهلين بالحساب الشديد، وتنتهي بتهديدات اخرى في هذا المجال أيضاً.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأ سورة الأنبياء حاسبه اللَّه حساباً يسيراً، وصافحه وسلّم عليه كل نبي ذكر اسمه في القرآن».

وقد قلنا مراراً: إنّ القرآن كتاب عقيدة وعمل، والقراءة مقدمة للتفكير والتدبر، وهو مقدمة للإيمان والعمل.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 242

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ

إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَ أَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَ فَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)

تبدأ هذه السورة بتحذير قوي شديد موجّه لعموم الناس، تحذير يهزّ الوجدان ويوقظ الغافلين، فتقول: «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ».

إنّ عمل هؤلاء يدلّ على أنّ هذه الغفلة عمّت كل وجودهم، وإلّا فكيف يمكن للإنسان أن يؤمن بإقتراب الحساب ... الحساب الدقيق المتناهي في الدقة، ومع كل ذلك لا يكترث بالامور ويرتكب أنواع الذنوب.

كلمة (إقترب) لها دلالة على التأكيد أكثر من (قرب) وهي إشارة إلى أنّ هذا الحساب قد أصبح قريباً جدّاً.

ثم إنّ الفرق بين «الغفلة» و «الإعراض» يمكن أن يكون من جهة أنّ هؤلاء غافلون عن إقتراب الحساب، وهذه الغفلة هي تسبّب الإعراض عن آيات اللَّه سبحانه.

إنّ المراد من إقتراب الحساب والقيامة هو أنّ ما بقي من الدنيا قليل في مقابل ما مضى منها، ولهذا فإنّ القيامة ستكون قريبة- قرباً نسبيّاً- خاصة وأنّه قد روي- في تفسير مجمع البيان- عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «بعثت أنا والساعة كهاتين» وأشار إلى السبابة والوسطى اللتين تقع إحداهما إلى جنب الاخرى.

ثم تبيّن الآية التالية علامة من علامات إعراض هؤلاء بهذه الصورة: «مَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّن رَّبّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ».

كلمة «ذكر» في الآية إشارة إلى كل كلام منبّه يوقظ الغافلين، والتعبير ب (محدث) إشارة إلى أنّ الكتب السماوية كانت تنزل الواحد تلو الآخر، وتحتوي كل سورة من سور

القرآن، وكل آية من آياته محتوى جديداً ينفذ إلى قلوب الغافلين بطرق مختلفة، لكن أيّ فائدة مع مَن يتّخذ كل ذلك هزواً؟

مختصر الامثل، ج 3، ص: 243

ثم تقول من أجل زيادة التأكيد: «لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ» لأنّهم في الظاهر يتخذون كل المسائل الجدية لهواً ولعباً. ومن الطبيعي أنّ مثل هؤلاء الأشخاص سوف لا يجدون طريق السعادة، ولا يوفّقون إليه.

ثم تشير إلى جانب من الخطط الشيطانية فتقول: «وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذَا إِلَّا بَشَرٌ مّثْلُكُمْ». وإذا لم يكن سوى بشر إعتيادي، فلابد أن تكون أعماله الخارقة ونفوذ كلامه سحراً، ولا يمكن أن يكون شيئاً آخر: «أَفَتَأْتُونَ السّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ».

إنّ هؤلاء قد أكّدوا على مسألتين في أقوالهم: إحداهما: كون النبي صلى الله عليه و آله بشراً، والاخرى: تهمة السحر، وستأتي الإتهامات الاخرى في الآيات التالية أيضاً، ويتصدّى القرآن الكريم لجوابها.

إلّا أنّ القرآن يجيبهم بصورة عامة على لسان النبي صلى الله عليه و آله فيقول: «قَالَ رَبّى يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» فلا تتصوروا أنّ نجواكم ومؤامراتكم المخفية تخفى عليه «وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» فهو يعلم كل شي ء، ومطلع على كل شي ء، فلا يسمع كلامكم وحسب، بل هو مطلع حتى على الأفكار التي تمرّ في أذهانكم، والقرارات التي في صدوركم.

بعد ذكر نوعين من تذرّعات المخالفين، يتطرق القرآن إلى ذكر أربعة أنواع اخرى منها، فيقول: «بَلْ قَالُوا أَضْغثُ أَحْلمٍ» «1» وهم يعتقدون أنّها حقيقة.

وقد يغيّرون كلامهم هذا أحياناً فيقولون: «بَلِ افْتَرَيهُ» ونسبه إلى اللَّه.

ويقولون أحياناً: «بَلْ هُوَ شَاعِرٌ»، وهذه الآيات مجموعة من خيالاته الشعرية.

وفي المرحلة الرابعة يقولون: إنّا نتجاوز عن كل ذلك فإذا كان مرسلًا من اللَّه حقّاً «فَلْيَأْتِنَا بَايَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ».

إنّ التحقيق في هذه الإدّعاءات المتضادة المتناقضة في حق النبي

صلى الله عليه و آله سيوضّح أنّها بنفسها دليل على أنّهم لم يكونوا طلّاب حق، بل كان هدفهم خلق الأعذار، وإخراج خصمهم من الحلبة بأيّة قيمة وثمن، وبأيّ صورة كانت.

______________________________

(1) «أضغاث»: جمع ضِغْث، وهو حزمة الحطب أو الأعشاب اليابسة وما شاكل ذلك؛ و «الأحلام»: جمع حُلم وهو المنام والرؤية، ولمّا كان جمع حزمة حطب يحتاج أن يجمعوا عدّة أشياء متفرّقة إلى بعضها، فإنّ هذا التعبير اطلق على المنامات المضطربة المتفرّقة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 244

مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَ مَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَ مَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَ مَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَ مَنْ نَشَاءُ وَ أَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلَا تَعْقِلُونَ (10)

كل الأنبياء كانوا بشراً: قلنا: إنّ ستّة إشكالات وإيرادات قد اعيد ذكرها في الآيات السابقة، وهذه الآيات التي نبحثها تجيب عنها، تارةً بصورة عامّة جامعة، واخرى تجيب عن بعضها بالخصوص. أشارت الآية الاولى إلى المعجزات المقترحة لُاولئك، ونقصد منها:

المعجزات المقترحة حسب أهوائهم تذرّعاً، فتقول: إنّ جميع المدن والقرى التي أهلكناها سابقاً كانت قد طلبت مثل هذه المعاجز، ولكن لمّا استجيب طلبهم كذّبوا بها، فهل يؤمن هؤلاء؟: «مَا ءَامَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ». وهي تنذرهم بصورة ضمنية بأنّ الآيات لو تحقّقت على ما إقترحتم ثم لم تؤمنوا، فإنّ فناءكم حتمي!

ثم تطرّقت الآية التالية إلى جواب الإشكال الأوّل- خاصةً- حول كون النبي صلى الله عليه و آله بشراً، فتقول: إنّك لست الوحيد في كونك نبيّاً، وفي نفس الوقت أنت بشر «وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا

رِجَالًا نُّوحِى إِلَيْهِمْ» فإنّ هذه حقيقة تاريخية يعرفها الجميع «فَسَلُوا أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ».

لا شكّ أنّ «أَهْلَ الذّكْرِ» تشمل من الناحية اللغوية كل العلماء والمطلعين، والآية أعلاه تبيّن قانوناً عقلائياً عاماً في مسألة (رجوع الجاهل إلى العالم) فإنّ مورد ومصداق الآية وإن كان علماء أهل الكتاب، إلّاأنّ هذا لا يمنع من عمومية القانون، ولهذه العلة إستدلّ علماء وفقهاء الإسلام بهذه الآية في مسألة «جواز تقليد المجتهدين المسلمين».

ثم تعطي الآية التالية توضيحاً أكثر حول كون الأنبياء بشراً، فتقول: «وَمَا جَعَلْنهُمْ جَسَدًا لَّايَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خلِدِينَ».

لا شك في أنّه يجب أن يكون قائد البشر ومرشدهم من جنسهم، بنفس تلك الغرائز والعواطف والأحاسيس والحاجات والعلاقات حتى يحسّ بآلامهم وعذابهم، ولينتخب

مختصر الامثل، ج 3، ص: 246

أفضل طرق العلاج باستلهامه من معلوماته ليكون قدوة واسوة لكل البشر، ويقيم الحجة على الجميع.

ثم تحذّر الآية وتهدّد المنكرين المتعصبين العنودين، فتقول: إنّا كنّا قد وعدنا رسلنا بأن ننقذهم من قبضة الأعداء، ونبطل كيد اولئك الأشرار «ثُمَّ صَدَقْنهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنهُمْ وَمَن نَّشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ».

أجل، فكما أنّ سنّتنا كانت إختيار قادة البشر من بين أفراد البشر، كذلك كانت سنّتنا أن نحميهم من مكائد المخالفين، وإذا لم تؤثّر المواعظ والنصائح المتلاحقة أثرها في المخالفين، فإنّنا سنطهّر الأرض من وجودهم القذر.

أمّا آخر آية من الآيات مورد البحث، فتجيب- مرّة اخرى- في جملة قصيرة عميقة المعنى عن أكثر إشكالات المشركين، فتقول: «لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ». فإنّ كل من يتدبّر آيات هذا الكتاب الذي هو أساس التذكّر وحياة القلب، وحركة الفكر، وطهارة المجتمع، سيعلم جيداً أنّه معجزة واضحة وخالدة، ومع وجود هذه المعجزة البينة التي تظهر فيها آثار الإعجاز من جهات مختلفة

... من جهة الجاذبية الخارقة، ومن جهة المحتوى، الأحكام والقوانين، العقائد والمعارف، و ... فهل لا زلتم بإنتظار معجزة اخرى؟

إنّ كون القرآن موقظاً ومنبّهاً لا يعني إجباره الناس على هذا الوعي، بل إنّ الوعي مشروط بأن يريد الإنسان ويصمّم، وأن يفتح نوافذ قلبه أمام القرآن.

وَ كَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَ أَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَ ارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَ مَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ (15)

كيف وقع الظالمون في قبضة العذاب: تبيّن هذه الآيات مصير المشركين والكافرين مع مقارنته بمصير الأقوام الماضين، وذلك بعد البحث الذي مرّ حول هؤلاء. فتقول الآية الاولى:

«وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا ءَاخَرِينَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 247

«القصم»: يعني الكسر المقترن بالشدة، فإنّها توحي بأنّ اللَّه سبحانه قد أعدّ أشدّ العقاب والإنتقام للأقوام الظالمين الجائرين. عند ذلك توضّح الآية حال هؤلاء عندما تتّسع دائرة العذاب لتشمل ديارهم العامرة، وعجزهم أمام العقاب الإلهي، فتقول: «فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ» «1».

إلّا أنّه يقال لهؤلاء من باب التوبيخ والتقريع: «لَاتَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسَلُونَ».

إنّ هذه العبارة قد تكون إشارة إلى أنّ هؤلاء حينما كانوا غارقين في تلك النعمة الوفيرة، كان السائلون وطالبو الحاجات يترددون دائماً إلى أبوابهم، يأتون والأمل يقدمهم، ويرجعون بالخيبة والحرمان، فالآية تقول لهم: إرجعوا وأعيدوا ذلك المشهد اللعين، وهذا في الحقيقة نوع من الاستهزاء والملامة.

إنّ هؤلاء يعون في هذا الوقت حقيقة الأمر، ويرون ما كانوا يسخرون منه من قبل قد تجلّى أمامهم بصورة جديّة

تماماً، فتعلو صرختهم: «قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ».

إلّا أنّ هذا الوعي الاضطراري للإنسان عندما يواجه مشاهد العذاب لا قيمة له، ولا يؤثّر في تغيير مصير هؤلاء، ولذلك فإنّ القرآن في آخر آية من الآيات محل البحث يضيف:

«فَمَا زَالَت تّلْكَ دَعْوَيهُمْ حَتَّى جَعَلْنهُمْ حَصِيدًا» فيلقونهم على الأرض كالزرع المحصود، وتبدّل مدينتهم التي غمرتها الحياة والحركة والعمران إلى قبور مهدّمة مظلمة، فيصبحوا «خمِدِينَ» «2».

وَ مَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَ الْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)

خلق السماء والأرض ليس لهواً: لمّا كانت الآيات السابقة قد عكست هذه الحقيقة وهي: إنّ الظالمين الذين لا إيمان لهم لا يعتقدون بوجود هدف وغاية من خلقهم إلّاالأكل

______________________________

(1) «الركض»: يأتي بمعنى ركض الإنسان بنفسه، أو بمعنى إركاض المركب والدابة، ويأتي أحياناً بمعنى ضرب الرجل على الأرض؛ مثل «أُرْكُضْ بِرِجْلِكَ هذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ»- سورة ص/ 42.

(2) «خامد»: من مادّة الخمود، بمعنى إنطفاء النّار، ثُمّ اطلقت على كل شي ء يفقد حركته وفاعليّته ونشاطه.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 248

والشرب والملذّات، ويظنّون أنّ العالم بلا هدف، القرآن الكريم يقول في الآيات التي نبحثها من أجل إبطال هذا النوع من التفكير، وإثبات وجود هدف عال وسام من وراء خلق كل العالم، وخاصة البشر: «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لعِبِينَ».

إنّ هذه الأرض الواسعة، وهذه السماء المترامية الأطراف، وكل هذه الموجودات المتنوعة البديعة التي توجد في ساحتها تبيّن أنّ هدفاً مهماً في خلقها ... نعم، إنّ الهدف هو بيان قدرة الخالق الجليل، وإبراز جانب من عظمته من جهة، ومن جهة اخرى

ليكون دليلًا على المعاد، وإلّا فإنّ كل هذه الضجّة والغوغاء إن كانت لبضعة أيّام فلا معنى لها.

ثم تقول الآية التالية: الآن وقد ثبت أنّ العالم له هدف فإنّه لا ريب في أنّ الهدف من هذا الخلق لم يكن أن يلهو اللَّه سبحانه وتعالى عن ذلك، فإنّ هذا اللهو غير معقول، ف «لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فعِلِينَ». «اللعب»: يعني العمل غير الهادف، و «اللهو»:

إشارة إلى الأهداف غير المعقولة والملاهي.

هذه الآية تبيّن حقيقتين:

الاولى: أنّه تشير إلى أنّ من المحال أن يكون هدف اللَّه هو اللهو.

والاخرى: إنّه على فرض أنّ الهدف هو اللهو، فيجب أن يكون لهواً مناسباً لذاته، كأن يكون من عالم المجردات وأمثال ذلك، لا من عالم المادة المحدود.

ثم تقول بلهجة قاطعة من أجل إبطال أوهام الجاهلين الذين يظنّون عدم هدفية الدنيا، بل هي للهو واللعب فقط: إنّ هذا العالم مجموعة من الحق والواقع، ولم يقم أساسه على الباطل «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ». وتقول في النهاية: «وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ» وتتحدثون عن عدم هدفية الخلق.

أي إنّنا نجعل الأدلة العقلية والإستدلالات الواضحة والمعجزات البيّنة إلى جانب ظنون وأوهام اللاهدفيين، لتتبخّر وتتلاشى هذه الأوهام في نظر العلماء وأصحاب الفكر والرأي.

«نقذف»: من مادة «قذف» بمعنى الإلقاء، وخاصةً الإلقاء من طريق بعيد، ولما كان للقذف من بعيد سرعة وقوة أكثر، فإنّ هذا التعبير يبيّن قدرة إنتصار الحق على الباطل.

«يدمغه»: (على قول الراغب) كسر «الجمجمة والدماغ»، وتعتبر أكثر نقطة في بدن الإنسان حساسية، وهو تعبير بليغ عن غلبة جند الحق غلبة واضحة قاطعة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 249

وَ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ

وَ لَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)

كان الكلام في الآيات السابقة عن أنّ عالم الوجود ليس عبثياً لا هدف من ورائه، فلا مزاح ولا عبث، ولا لهو ولا لعب، بل له هدف تكاملي دقيق للبشر.

ولما كان من الممكن أن يوجد هذا التوهّم، وهو: ما حاجة اللَّه إلى إيماننا وعبادتنا؟ فإنّ الآيات التي نبحثها تجيب أوّلًا عن هذا التوهّم، وتقول: «وَلَهُ مَن فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ (أي: الملائكة) لَايَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبّحُونَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ» «1». ومع هذا الحال فأيّ حاجة لطاعتكم وعبادتكم؟ فإذا كنتم قد امرتم بالإيمان والعمل الصالح والعبودية فإنّ كل ذلك سيعود بالنفع عليكم.

وبعد أن نفت في الآيات السابقة عبثيّة ولا هدفية عالم الوجود، وأصبح من المسلم أنّ لهذا العالم هدفاً مقدّساً، فإنّ هذه الآيات تتطرق إلى بحث مسألة وحدة المعبود ومدبّر هذا العالم، فتقول: «أَمِ اتَّخَذُوا ءَالِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ» «2».

وهذه الجملة إشارة إلى أنّ المعبود يجب أن يكون خالقاً، وخاصّة خلق الحياة، لأنّها أوضح مظاهر الخلق ومصاديقه.

التعبير ب «ءَالِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ» إشارة إلى الأصنام والمعبودات التي كانوا يصنعونها من الحجارة والخشب، وكانوا يظنّونها حاكمة على السماوات.

______________________________

(1) «يستحسرون»: في الأصل من مادّة

حسر، وفي الأصل تعني رفع النقاب والستار عن الشي ء المغطّى، ثم استعملت بمعنى التعب والضعف، فكأنّ كل قوى الإنسان تصرف في مثل هذه الحالة، ولا يبقى منها شي ء مخفي في بدنه.

(2) «ينشرون»: من مادّة «نشر»، أي فكّ الشي ء المعقّد الملفوف، وهو كناية عن الخلق وإنتشار المخلوقات في أرجاء الأرض والسماء.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 250

مختصر الامثل ج 3 299

وتبيّن الآية التالية أحد الأدلة الواضحة على نفي آلهة وأرباب المشركين، فتقول: «لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحنَ اللَّهِ رَبّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ».

هذه الإدعاءات غير الصحيحة وهذه الأرباب المصنوعة والآلهة المظنونة ليست إلّا أوهاماً، وساحة كبرياء ذاته المقدسة لا تتلوّث بهذه النسب المغلوطة.

إنّ الدليل الوارد في الآية آنفة الذكر الذي يتحرك لإثبات التوحيد ونفي الآلهة، في الوقت الذي هو بسيط وواضح، فإنّه من البراهين الفلسفية الدقيقة في هذا الباب، ويذكره العلماء تحت عنوان (برهان التمانع). ويمكن إيضاح خلاصة هذا البرهان بما يلي:

إنّنا نرى نظاماً واحداً حاكماً في هذا العالم، إنّ إنسجام القوانين وأنظمة الخلقة هذه يحكي أنّها تنبع من عين واحدة، لأنّ البدايات إن كانت متعددة، والإرادات مختلفة، لم يكن يوجد هذا الإنسجام مطلقاً. لأنّ لكل واحدة قضاء، وكانت الاخرى تمحو أثر الاولى، وسيؤول العالم إلى الفساد عندئذ.

وبعد أن ثبت بالإستدلال الذي ورد في الآية توحيد مدبّر ومدير هذا العالم، فتقول الآية التالية: إنّه قد نظّم العالم بحكمة لا مجال فيها للإشكال والإنتقاص ولا أحد يعترض عليه في خلقه: «لَايُسَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسَلُونَ».

إنّ لدينا نوعين من الأسئلة:

الأوّل: السؤال التوضيحي، وهو أن يكون الإنسان يريد أن يعلم النقطة الأصلية والهدف الحقيقي من المسائل، ومثل هذا السؤال جائز حتى حول أفعال اللَّه.

أمّا النوع الثاني: فهو السؤال الإعتراضي،

والذي يعني أنّ العمل الذي تمّ كان خطأً. من المسلم أنّ هذا النوع من السؤال لا معنى له حول أفعال اللَّه الحكيم، إلّاأنّ مجال هذا السؤال حول أفعال الآخرين واسع.

وتشتمل الآية التالية على دليلين آخرين في مجال نفي الشرك، فمضافاً إلى الدليل السابق يصبح مجموعها ثلاثة أدلة.

تقول الآية أوّلًا: «أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ ءَالِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهنَكُمْ». وهو إشارة إلى أنّكم إذا صرفتم النظر عن الدليل السابق القائم على أنّ نظام عالم الوجود دليل على التوحيد، فإنّه لا يوجد أيّ دليل- على الأقل- على إثبات الشرك والوهية هذه الآلهة، فكيف يتقبّل إنسان عاقل مطلباً لا دليل عليه؟

مختصر الامثل، ج 3، ص: 251

ثم تشير إلى الدليل الأخير فتقول: «هذَا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِى» وهذا هو الدليل الذي ذكره علماء العقائد تحت عنوان: (إجماع وإتّفاق الأنبياء على التوحيد).

ولما كانت كثرة المشركين (وخاصةً في ظروف حياة المسلمين في مكة، والتي نزلت فيها هذه السورة) مانعاً أحياناً من قبول التوحيد من قبل بعض الأفراد، فهي تضيف: «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَايَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُّعْرِضُونَ».

لقد كانت مخالفة الأكثرية الجاهلة في كثير من المجتمعات دليلًا وحجة لإعراض الغافلين الجاهلين دائماً، وقد إنتقد القرآن الإستناد إلى هذه الأكثرية بشدة في كثير من الآيات، سواء التي نزلت في مكة أو المدينة.

ولما كان من المحتمل أن يقول بعض الجهلة الغافلين أنّ لدينا أنبياء كعيسى مثلًا دعوا إلى آلهة متعددة، فإنّ القرآن الكريم يقول في آخر آية من الآيات محل البحث بصراحة تامة:

«وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ». وبهذا يثبت أنّه لا عيسى ولا غيره قد دعا إلى الشرك، ومثل هذه النسبة إليه تهمة وإفتراء.

وَ قَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ

وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَ مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)

لمّا كان الكلام في آخر آية عن الأنبياء، ونفي كل أنواع الشرك، ونفي كون المسيح عليه السلام ولداً، فإنّ كل الآيات محلّ البحث تتحدّث حول نفي كون الملائكة أولاداً.

وتوضيح ذلك أنّ كثيراً من مشركي العرب كانوا يعتقدون أنّ الملائكة بنات اللَّه سبحانه، ولهذا السبب كانوا يعبدونها أحياناً، والقرآن الكريم إنتقد هذه العقيدة الخرافية التي لا أساس لها، وبيّن بطلانها بالأدلّة المختلفة. يقول أوّلًا: «وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَدًا». فإن كان مرادهم الولد الحقيقي، فإنّه يلزم من هذا الجسمية، وإن كان المراد التبنّي- والذي كان إعتيادياً ومتداولًا بين العرب- فإنّ ذلك أيضاً دليل على الضعف والإحتياج، إلّاأنّ الوجود الأزلي الأبدي وغير الجسماني، وغير المحتاج من جميع الجهات، لا معنى لوجود الولد له، ولذلك فإنّ القرآن يقول مباشرةً: «سُبْحنَهُ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 252

ثم تبيّن أوصاف الملائكة في ستّة أقسام تشكّل بمجموعها دليلًا واضحاً على نفي كونهم أولاداً:

1- «بَلْ عِبَادٌ».

2- «مُّكْرَمُونَ».

فليس هؤلاء عباداً هاربين خضعوا للخدمة تحت ضغط المولى، ولذلك فإنّ اللَّه سبحانه قد أحبّهم، وأفاض عليهم من مواهبه نتيجة لإخلاصهم في العبودية.

3- إنّ هؤلاء على درجة من الأدب والخضوع والطاعة للَّه بحيث «لَايَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ».

4- وكذلك من ناحية العمل أيضاً فهم مطيعون «وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ».

فهل هذه صفات الأولاد، أم صفات العبيد؟

ثم أشارت إلى إحاطة علم اللَّه بهؤلاء فتقول: إنّ اللَّه تعالى يعلم أعمالهم الحاضرة والمستقبلية، وكذلك أعمالهم السالفة، وأيضاً يعلم ما في دنياهم

وآخرتهم، وقبل وجودهم وبعده: «يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ» ومن المسلّم أنّ الملائكة مطلعون على هذا الموضوع، وهو أنّ للَّه إحاطة علمية بهم، وهذا العرفان هو السبب في أنّهم لا يسبقونه بالقول، ولا يعصون أمره، ولهذا فإنّ هذه الجملة يمكن أن تكون بمثابة تعليل للآية السابقة.

5- ولا شك أنّ هؤلاء الذين هم عباد اللَّه المكرمون المحترمون يشفعون للمحتاجين، لكن ينبغي الإلتفات إلى أنّ هؤلاء «وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى .

ثم إنّ هذه الجملة تجيب ضمناً اولئك الذين يقولون: إنّنا نعبد الملائكة لتشفع لنا عند اللَّه، فيقول القرآن لهم: إنّ هؤلاء لا يقدرون على فعل شي ء من تلقاء أنفسهم، وكل ما تريدونه يجب أن تطلبوه من اللَّه مباشرةً، وحتى إذن شفاعة الشافعين.

6- ونتيجة لهذه المعرفة والوعي «وَهُم مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ».

«الخشية»: تعني الخوف المقترن بالتعظيم والإحترام؛ و «مشفق»: من مادة الإشفاق، بمعنى التوجه الممتزج بالخوف، لأنّها في الأصل مأخوذة من الشفق، وهو الضياء الممتزج بالظلمة. فبناءً على هذا، فإنّ خوف الملائكة ليس كخوف الإنسان من حادثة مرعبة مخيفة، وكذلك إشفاقهم فإنّه لا يشبه خوف الإنسان من موجود خطر، بل إنّ خوفهم وإشفاقهم ممزوجان بالإحترام، والعناية والتوجه، والمعرفة والإحساس بالمسؤولية.

من الواضح أنّ الملائكة مع هذه الصفات البارزة والممتازة، ومقام العبودية الخالصة لا

مختصر الامثل، ج 3، ص: 253

يدّعون الالوهية مطلقاً، أمّا إذا فرضنا ذلك «وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إِلهٌ مِّن دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ». إنّ إدّعاء الالوهية في الحقيقة مصداق واضح على ظلم النفس والمجتمع، ويندرج في القانون العام «كَذلِكَ نَجْزِى الظلِمِينَ».

أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَ جَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ أَ فَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَ جَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ

أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَ جَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَ جَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ هُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَ النَّهَارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)

علامات اخرى للَّه في عالم الوجود: تعقيباً على البحوث السابقة حول عقائد المشركين الخرافية، والأدلة التي ذكرت على التوحيد، فإنّ في هذه الآيات سلسلة من براهين اللَّه في عالم الوجود، وتدبيره المنظم، وتأكيداً على هذه البحوث تقول أوّلًا: «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَىْ ءٍ حَىّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ».

إنّ المراد من رتق السماء هو أنّها لم تكن تمطر في البداية، والمراد من رتق الأرض أنّها لم تكن تنبت النبات في ذلك الزمان، إلّاأنّ اللَّه سبحانه فتق الإثنين، فأنزل من السماء المطر، وأخرج من الأرض أنواع النباتات.

وأمّا فيما يتعلق بإيجاد كل الكائنات الحية من الماء، فهناك تفسيران مشهوران:

أحدهما: إنّ حياة كل الكائنات الحية- سواء كانت النباتات أم الحيوانات- ترتبط بالماء، هذا الماء الذي كان مبدؤه المطر الذي نزل من السماء.

والآخر: إنّ الماء هنا إشارة إلى النطفة التي تتولّد منها الكائنات الحية عادةً.

وما يلفت النظر أنّ علماء عصرنا الحديث يعتقدون أنّ أوّل إنبثاقة للحياة وجدت في أعماق البحار، ولذلك يرون أنّ بداية الحياة من الماء، وإذا كان القرآن يعتبر خلق الإنسان من التراب، فيجب أن لا ننسى أنّ المراد من التراب هو الطين المركّب من الماء والتراب.

وأشارت الآية التالية إلى جانب آخر من آيات التوحيد ونعم اللَّه الكبيرة، فقالت:

مختصر الامثل، ج 3، ص: 254

«وَجَعَلْنَا فِى الْأَرْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ» «1».

إنّ الجبال كالدرع الذي يحمي الأرض، وهذا هو الذي يمنع- إلى حد كبير- من الزلازل

الأرضية الشديدة التي تحدث نتيجة ضغط الغازات الداخلية، إضافةً إلى أنّ وضع الجبال هذا يقلّل من حركات القشرة الأرضيّة أمام ظاهرة المدّ والجزر الناشئة بواسطة القمر إلى الحدّ الأدنى.

ومن جهة اخرى فلولا الجبال، فإنّ سطح الأرض سيكون معرّضاً للرياح القوية دائماً، وسوف لا تستقرّ على حال أبداً، كما هي حال الصحاري المقفرة المحرقة.

ثم أشارت الآية إلى نعمة اخرى، وهي أيضاً من آيات عظمة اللَّه، فقالت: «وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ».

ولو لم تكن هذه الوديان والفجاج، فإنّ سلاسل الجبال العظيمة الموجودة في المناطق المختلفة من الأرض كانت ستنفصل بعضها عن بعض بحيث ينفصل إرتباطها تماماً، وهذا يدلّ انّ هذه الظواهر الكونية خلقت كلها وفق حساب دقيق.

ولما كان إستقرار الأرض لا يكفي لوحده لإستقرار حياة الإنسان، بل يجب أن يكون آمناً مما فوقه، فإنّ الآية التالية تضيف: «وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ ءَايَاتِهَا مُعْرِضُونَ».

المراد من السماء هنا هو الجو الذي يحيط بالأرض دائماً، وتبلغ ضخامته مئات الكيلومترات كما توصّل إليه العلماء.

وهذه الطبقة رقيقة ظاهراً، وتتكوّن من الهواء والغازات، وهي محكمة ومنيعة إلى الحد الذي لا ينفذ جسم من خارجها إلى الأرض إلّاويفنى ويتحطّم، فهي تحفظ الكرة الأرضية من سقوط الشهب والنيازك «ليل نهار» التي تعتبر أشد خطراً حتى من القذائف والصواريخ الحربية.

إضافةً إلى أنّ هذا الغلاف الجوي يقوم بتصفية أشعة الشمس التي تحتوي على أشعة قاتلة وتمنع من نفوذ تلك الأشعة الكونية القاتلة.

وتطرقت الآية الأخيرة إلى خلق الليل والنهار والشمس والقمر، فقالت: «وَهُوَ الَّذِى

______________________________

(1) «رواسي»: جمع راسية، أي الجبال الثابتة، ولمّا كانت هذه الجبال تتّصل جذورها، فيمكن أن تكون إشارة إلى هذا الإرتباط؛ و «تميد»: من الميد، وهو الهزّة والحركة غير الموزونة للأشياء الكبيرة.

مختصر

الامثل، ج 3، ص: 255

خَلَقَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ».

إنّ المراد من حركة الشمس في الآية إمّا الدوران حول نفسها، أو حركتها ضمن المنظومة الشمسية.

وَ مَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)

الموت يتربّص بالجميع: قرأنا في الآيات السابقة أنّ المشركين قد تشبّثوا بمسألة كون النبي صلى الله عليه و آله بشراً من أجل التشكيك بنبوته. إنّ الآيات محل البحث أشارت إلى بعض إشكالات هؤلاء، فهم يشيعون تارةً أنّ إنتفاضة النبي (وفي نظرهم شاعر) لا دوام لها، وسينتهي بموته كل شي ء، كما جاء في الآية (30) من سورة الطور: «أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ».

وكانوا يظنّون تارةً اخرى أنّ هذا الرجل لمّا كان يعتقد أنّه خاتم النبيين، فيجب أن لا يموت أبداً ليحفظ دينه، وبناء على هذا فإنّ موته في المستقبل سيكون دليلًا على بطلان إدّعائه. فيجيبهم القرآن في أوّل آية فيقول: «وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِن قَبْلِكَ الْخُلْدَ».

إنّ قانون الخلقة هذا لا يقبل التغيير، أي انّه لا يكتب لأحد الخلود، وإذا كان هؤلاء يفرحون بموتك: «أَفَإِين مّتَّ فَهُمُ الْخلِدُونَ».

إنّ بقاء الشريعة والدين لا يحتاج إلى بقاء الرسول، فمن الممكن أن يستمر خلفاؤه في إقامة دينه والسير على خطاه.

ثم يذكر قانون الموت العام الذي يصيب كل النفوس بدون استثناء فيقول: «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ».

إنّ لفظة (النفس) قد استعملت في القرآن بمعان مختلفة، فأوّل معنى للنفس هو الذات، وهذا المعنى واسع يطلق حتى على ذات اللَّه المقدسة، كما جاء في الآية (12) من سورة الأنعام: «كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ».

ثم استعملت هذه الكلمة في الإنسان، أي مجموع

جسمه وروحه، كما في الآية (32) من سورة المائدة: «مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا».

واستعملت أحياناً في خصوص روح الإنسان كما في الآية (93) من سورة الأنعام:

«أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 256

والمراد من النفس في الآيات التي نبحثها هو المعنى الثاني.

وبعد ذكر قانون الموت الكلّي يطرح هذا السؤال، وهو: ما هو الهدف من هذه الحياة الزائلة؟ وأيّ فائدة منها؟

فيقول القرآن حول هذا الكلام: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ». أي: إنّ مكانكم الأصلي ليس هو هذه الدنيا، بل هو مكان آخر، وإنّما تأتون هنا لتؤدّوا الإختبار والامتحان، وبعد إكتسابكم التكامل اللازم سترجعون إلى مكانكم الأصلي وهو الدار الآخرة.

وَ إِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَ هذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَ هُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَ يَقُولُونَ مَتَى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَ لَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَ لَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَ لَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)

نواجه في هذه الآيات مرّة اخرى، بحوثاً اخرى حول موقف المشركين من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، حيث يتّضح نمط تفكيرهم المنحرف في المسائل الاصولية، فتقول أوّلًا: «وَإِذَا رَءَاكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا». فهؤلاء لا عمل لهم إلّاالسخرية والإستهزاء، ويشيرون إليك بعدم إكتراث ويقولون: «أَهذَا الَّذِى يَذْكُرُ ءَالِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كفِرُونَ».

ممّا يثير العجب هو إنّه لو إزدرى أحدٌ هذه الأصنام الخشبية والحجرية (وما هو بمزدرٍ لها، بل يُفصح عن حقيقتها) فيقول: إنّ هذه موجودات لا روح

فيها ولا شعور ولا قيمة لها، لتعجّبوا منه، أمّا إذا جحد أحدهم ربّه الرحمن الرحيم الذي عمّت آثار رحمته وعظمته الأرض والسماء وما من شي ء إلّاوفيه دليل على عظمته ورحمته، لما أثار إعجابهم.

ثم تشير إلى أمر آخر من الامور القبيحة لدى هذا الإنسان المتحلّل، فتقول: «خُلِقَ الْإِنسنُ مِنْ عَجَلٍ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 257

إنّ المراد من الإنسان هنا نوع الإنسان؛ والمراد من «عجل» هي العجلة والتعجيل.

إنّ تعبير «خُلِقَ الْإِنسنُ مِنْ عَجَلٍ» نوع من التأكيد، أي إنّ الإنسان عجول إلى درجة كأنّه خلق من العجلة، وتشكّلت أنسجته ووجوده منها! وفي الواقع، فإنّ كثيراً من البشر العاديين هم على هذه الشاكلة، فهم عجولون في الخير وفي الشر.

وتضيف الآية في النهاية: «سَأُرِيكُمْ ءَايتِى فَلَا تَسْتَعْجِلُونَ».

التعبير ب (آياتي) هنا يمكن أن يكون إشارة إلى آيات العذاب وعلاماته والبلاء الذي كان يهدّد به النبي صلى الله عليه و آله مخالفيه، ولكن هؤلاء الحمقى كانوا يقولون مراراً: فأين تلك الإبتلاءات والمصائب التي تخوّفنا بها؟ فالقرآن الكريم يقول: لا تعجلوا فلا يمضي زمن طويل حتى تحيط بكم.

ثم يشير القرآن إلى إحدى مطالب اولئك المستعجلين فيقول: «وَيَقُولُونَ مَتَى هذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صدِقِينَ». فهؤلاء غافلون عن أنّ قيام القيامة يعني تعاستهم وشقاءهم المرير.

وتجيبهم الآية التالية فتقول: «لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَايَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ». أي إنّ هذه الأصنام التي يظنّون أنّها ستكون شفيعة لهم وناصرة، لا تقدر على أيّ شي ء.

ممّا يلفت النظر أنّ العقوبة الإلهية لا يعيّن وقتها دائماً «بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا» وحتى إذا استمهلوا، وطلبوا التأخير على خلاف ما كانوا يستعجلون به إلى الآن، فلا يجابون «وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ».

وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ

مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهَارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَ لَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هؤُلَاءِ وَ آبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَ فَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَ فَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَ لَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 258

لاحظنا في الآيات السابقة أنّ المشركين والكفار كانوا يستهزئون برسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فتقول الآية الاولى تسلية للنبي: لست الوحيد الذي يستهزأ به «وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ». ولكن في النهاية نزل بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به «فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ».

وتقول الآية التالية: قل لهم إنّ أحداً لا يدافع عنكم أمام عذاب اللَّه في القيامة، بل وفي هذه الدنيا: «قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمنِ». أي من عذابه، فلو أنّ اللَّه سبحانه لم يجعل السماء- أي الجو المحيط بالأرض سقفاً محفوظاً كما مرّ في الآيات السابقة- لكان هذا وحده كافياً أن تتهاوى النيازك وتُمطركم الأجرام السماوية بأحجارها ليل نهار.

مما يستحق الإنتباه أنّ كلمة «الرحمن» قد استعملت مكان (اللَّه) في هذه الآية، أي انظروا إلى أنفسكم كم إقترفتم من الذنوب حتى أغضبتم اللَّه الذي هو مصدر الرحمة العامة؟!

ثم تضيف: «بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبّهِم مُّعْرِضُونَ» فلا هم يصغون إلى مواعظ الأنبياء ونصحهم، ولا تهزّ قلوبهم نعم اللَّه وذكره، ولا يستعملون عقولهم لحظة في هذا السبيل.

ثم يسأل القرآن الكريم: أيّ شي ء يعتمد عليه هؤلاء الكافرين الظالمين والمجرمين في

مقابل العقوبات الإلهية؟ «أَمْ لَهُمْ ءَالِهَةٌ تَمْنَعُهُم مّن دُونِنَا لَايَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ» «1». فهذه الأصنام لا تستطيع أن تنقذ نفسها من العذاب، ولا تكون مصحوبة بتأييدنا ورحمتنا.

ثم أشارت الآية التالية إلى أحد علل تمرّد وعصيان الكافرين المهمة، فتقول: «بَلْ مَتَّعْنَا هؤُلَاءِ وَءَابَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ». إلّاأنّ هذا العمر الطويل والنعم الوفيرة بدل أن تحرّك فيهم حس الشكر والحمد، ويطأطئوا رؤوسهم لعبودية اللَّه، فإنّها أصبحت سبب غرورهم وطغيانهم.

ولكن ألا يرى هؤلاء أنّ هذا العالم ونعمه زائلة؟ «أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا». فإنّ الأقوام والقبائل تأتي الواحدة تلو الاخرى وتذهب، وحتى العلماء والعظماء

______________________________

(1) «يصحبون»: من باب الإفعال، وفي الأصل يعني أن يجعلوا شيئاً تحت تصرّفهم بعنوان المساعدة والحماية، وهو هنا يعني أنّ هذه الأصنام لا تملك الدفاع ذاتياً، ولا وضعت تحت تصرفها مثل هذه القوّة من قبل اللَّه تعالى، ونحن نعلم أنّ أيّة قوّة دفاعية في عالم الوجود إمّا أن تنبع من ذات الشي ء، أو تمنح له من قبل اللَّه تعالى. أي أنّها إمّا ذاتية أو عرضية.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 259

الذين كان بهم قوام الأرض قد أغمضوا أعينهم وودّعوا الدنيا! ومع هذا الحال «أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ». إنّ الآية تريد أن تبيّن أنّ موت الكبار والعظماء والأقوام درس وعبرة للكافرين المغرورين الجاهلين ليعلموا أنّ محاربة اللَّه تعالى لا تنتج سوى الإندحار.

ثم تقرّر الآية حقيقة أنّ وظيفة النبي صلى الله عليه و آله هي إنذار الناس عن طريق الوحي الإلهي، فتوجّه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله، فتقول: «قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْىِ» وإذا لم يؤثّر في قلوبكم القاسية، فلا عجب من ذلك، وليس ذلك دليلًا على نقص الوحي الإلهي، بل

السبب هو «وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ».

إنّ الاذن السميعة يلزمها أن تسمع كلام اللَّه، أمّا الآذان التي أصمّتها حجب الذنوب والغفلة والغرور فلا تسمع الحقّ مطلقاً.

وَ لَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَ نَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ إِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَ كَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)

بعد أن كانت الآيات السابقة تعكس حالة غرور وغفلة الأفراد الكافرين، تقول الآية الاولى أعلاه: إنّ هؤلاء المغرورين لم يذكروا اللَّه يوماً في الرخاء، ولكن: «وَلَئِنْ مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ».

«نفحة»: تعني الشي ء القليل، أو النسيم اللطيف، وبالرغم من أنّ هذه الكلمة تستعمل غالباً في نسمات الرحمة والنعمة غالباً، إلّاأنّها تستعمل في مورد العذاب أيضاً.

ولو انتبهوا حينئذ، فما الفائدة؟ فإنّ هذه اليقظة الاضطرارية لا تنفعهم.

أمّا الآية الأخيرة التي نبحثها فتشير إلى حساب القيامة الدقيق، وجزائها العادل، ليعلم الكافرون والظالمون أنّ العذاب على فرض أنّه لم يعمّهم في هذه الدنيا، فإنّ عذاب الآخرة حتمي، وسيحاسبون على جميع أعمالهم بدقة، فتقول: «وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيمَةِ».

ونقرأ في الروايات الإسلامية أنّ موازين الحساب في القيامة هم الأنبياء والأئمة

مختصر الامثل، ج 3، ص: 260

والصالحون الذين لا توجد نقطة سوداء في صحيفة أعمالهم.

«القسط»: يعني أحياناً عدم التبعيض، وأحياناً يأتي بمعنى العدالة بصورة مطلقة، وما يناسب المقام هو المعنى الثاني، ولهذا تضيف مباشرةً: «فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيًا» فلا ينقص من ثواب المحسنين شي ء، ولا يضاف إلى عقاب المسيئين شي ء.

إلّا أنّ نفي الظلم والجور هذا لا يعني عدم الدقة في الحساب، بل «وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حسِبِينَ».

«الخردل»:

نبات له حبّة صغيرة جدّاً يضرب المثل بها في الصغر والحقارة.

لمحة من قصص الأنبياء: ذكرت هذه الآيات وما بعدها جوانب من حياة الأنبياء المشفوعة بامور تربوية بالغة الأثر، وتوضّح البحوث السابقة حول نبوة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله ومواجهته المخالفين بصورة أجلى مع ملاحظة الاصول المشتركة الحاكمة عليها. تقول الآية الاولى: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى وَهرُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ».

«الفرقان»: يعني في الأصل الشي ء الذي يميّز الحق عن الباطل، وهو وسيلة لمعرفة الإثنين. إنّ من الممكن أن يكون الفرقان إشارة إلى التوراة، وإلى سائر معجزات ودلائل موسى عليه السلام.

ثم تعرّف الآية التالية المتّقين بأنّهم «الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ».

ولكلمة «الغيب» هنا تفسيران: الأوّل: إنّه إشارة إلى ذات اللَّه المقدّسة، أي مع أنّ اللَّه سبحانه غائب عن الأنظار، فإنّ هؤلاء آمنوا به بدليل العقل.

والآخر: إنّ المتقين لا يخافون اللَّه في العلانية وبين المجتمع فقط، بل يعلمون أنّه حاضر وناظر إليهم حتى في خلواتهم.

فإنّ المتّقين يحبّون يوم القيامة، لأنّه مكان الثواب والرحمة، إلّاأنّهم في الوقت نفسه مشفقون من حساب اللَّه فيه.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 261

وقارنت الآية الأخيرة بين القرآن وباقي الكتب السابقة: «وَهذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ». فهل ينكر مثل هذا الكتاب الذي يستبطن أدلّة أحقّيته فيه، وقد سطعت نورانيته، والذين يسيرون في طريقه سعداء منتصرون؟!

ولكي نعرف مدى أثر القرآن في التوعية وما له من البركات، فيكفي أن نرى حال سكّان جزيرة العرب قبل نزول القرآن عليهم، إذ كانوا يعيشون في جاهلية جهلاء وفقر وتعاسة وتفرّق وتمزّق، ثم نرى حالهم بعد نزول القرآن حيث أصبحوا اسوة ومثلًا حسناً للآخرين، ونرى كذلك حال الأقوام الآخرين قبل وصول القرآن إليهم وبعده.

وَ لَقَدْ آتَيْنَا

إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ مَا هذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَ جِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَ أَنَا عَلَى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)

قلنا: أنّ هذه السورة تحدثت عن جوانب عديدة من حالات الأنبياء، فقد اشير في الآيات السابقة إشارة قصيرة إلى رسالة موسى وهارون عليهما السلام، وعكست هذه الآيات وبعض الآيات الآتية جانباً مهماً من حياة إبراهيم عليه السلام ومواجهته لعبدة الأصنام، فتقول أوّلًا: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا إِبْرهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ علِمِينَ». «الرشد»: في الأصل بمعنى السير إلى المقصد والغاية، ومن الممكن أن يكون هنا إشارة إلى حقيقة التوحيد، وأنّ إبراهيم عرفها واطّلع عليها منذ سني الطفولة، وقد يكون إشارة إلى كل خير وصلاح بمعنى الكلمة الواسع.

والتعبير ب «مِن قَبْلُ» إشارة إلى ما قبل موسى وهارون عليهما السلام.

ثم أشارت إلى أحد أهمّ مناهج إبراهيم عليه السلام، فقالت: إنّ رشد إبراهيم قد بان عندما قال لأبيه وقومه- وهو إشارة إلى عمّه آزر، لأنّ العرب تسمّي العمّ أباً- ما هذه التماثيل التي تعبدونها؟ «إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِى أَنتُمْ لَهَا عكِفُونَ».

وجملة «أَنتُمْ لَهَا عكِفُونَ» بملاحظة معنى «العكوف»: الذي يعني الملازمة المقترنة

مختصر الامثل، ج 3، ص: 262

بالإحترام، توحي بأنّ اولئك كانوا يحبّون الأصنام، وكأنّهم كانوا ملازميها دائماً.

إنّ مقولة إبراهيم عليه السلام هذه إستدلال على بطلان عبادة الأصنام،

لأنّ ما نراه من الأصنام هو المجسمة والتمثال، والباقي خيال وظن وأوهام.

إلّا أنّ عبدة الأصنام لم يكن عندهم- في الحقيقة- جواب أمام هذا المنطق السليم القاطع، سوى أن يبعدوا المسألة عن أنفسهم ويلقوها على عاتق آبائهم، ولهذا «قَالُوا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا لَهَا عبِدِينَ».

ولمّا كانت حجتهم بأنّ «هذه العبادة هي سنة الآباء» غير مجدية نفعاً ... ولا نمتلك دليلًا على أنّ السابقين من الآباء والأجداد أعقل وأكثر معرفة من الأجيال المقبلة، بل القضية على العكس غالباً، لأنّ العلم يتّسع بمرور الزمن، فأجابهم إبراهيم مباشرةً ف «قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُمْ فِى ضَللٍ مُّبِينٍ».

إنّ هذا التعبير المقترن بأنواع التأكيدات، والحاكي عن الحزم التام سبّب أن يرجع عبدة الأصنام إلى أنفسهم قليلًا، ويتوجّهوا إلى التحقق من قول إبراهيم، فأتوا إلى إبراهيم «قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللعِبِينَ» لأنّ اولئك الذين كانوا قد إعتادوا على عبادة الأصنام، وكانوا يظنّون أنّ ذلك حقيقة حتمية، ولم يكونوا يصدّقون أنّ أحداً يخالفها بصورة جدية، ولذلك سألوا إبراهيم هذا السؤال تعجّباً.

إلّا أنّ إبراهيم أجابهم بصراحة: «قَالَ بَلْ رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِى فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذلِكُم مّنَ الشهِدِينَ».

إنّ إبراهيم عليه السلام قد بيّن بهذه الكلمات القاطعة أنّ الذي يستحق العبادة هو خالقهم وخالق الأرض وكل الموجودات.

ومن أجل أن يثبت إبراهيم جديّة هذه المسألة، وأنّه ثابت على عقيدته إلى أبعد الحدود، وأنّه يتقبّل كل ما يترتّب على ذلك بكل وجوده، أضاف: «وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنمَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ».

«أكيدنّ»: مأخوذة من الكيد، وهو التخطيط السري، والتفكير المخفي وكان مراده أن يفهمهم بصراحة بأنّني سأستغلّ في النهاية فرصة مناسبة واحطّم هذه الأصنام.

إنّ إبراهيم من دون أن يحذر من مغبّة هذا العمل، دخل الميدان برجولة وتوجّه إلى

حرب هذه الآلهة الجوفاء بشجاعة خارقة وحطّمها بصورة يصفها القرآن فيقول: «فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا

مختصر الامثل، ج 3، ص: 263

إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ» وكان هدفه من تركه «لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ».

صحيح أنّ أذهاننا تنصرف من لفظ عبادة الأصنام إلى الأصنام الحجرية والخشبية على الأكثر، إلّاأنّ الصنم والصنمية- من وجهة نظر- لها مفهوم واسع يشمل كل ما يُبعد الإنسان عن اللَّه، بأيّ شكل وصورة كان.

قَالُوا مَنْ فَعَلَ هذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَ لِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَ فَلَا تَعْقِلُونَ (67)

وأخيراً عبدة الأصنام دخلوا المعبد وواجهوا منظراً أطار عقولهم من رؤوسهم، فقد وجدوا تلًّا من الأيادي والأرجل المكسّرة المتراكمة بعضها على البعض الآخر في ذلك المعبد المعمور، فصاحوا و «قَالُوا مَن فَعَلَ هذَا بَالِهَتِنَا». ولا ريب أنّ من فعل ذلك ف «إِنَّهُ لَمِنَ الظلِمِينَ» فقد ظلم آلهتنا ومجتمعنا ونفسه، لأنّه عرض نفسه للهلاك بهذا العمل.

إلّا أنّ جماعة منهم تذكّروا ما سمعوه من إبراهيم عليه السلام وإزدرائه بالأصنام وتهديده لها وطريقة تعامله السلبي لهذه الآلهة المزعومة، «قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرهِيمُ».

إنّ إبراهيم كان شاباً، وربّما لم يكن سنّه يتجاوز (16) عاماً.

إنّ المألوف- عادةً- عندما تقع جريمة في مكان ما، فإنّه ومن أجل كشف الشخص الذي قام بهذا العمل،

تبحث علاقات الخصومة والعداء، ومن البديهي أنّه لم يكن هناك شخص في تلك البيئة من يعادي الأصنام غير إبراهيم، ولذلك توجّهت إليه أفكار الجميع، و «قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ» عليه بالجريمة.

فنادى المنادون في نواحي المدينة: «ليحضر كل من يعلم بعداء إبراهيم وإهانته للأصنام».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 264

وأخيراً تشكّلت المحكمة، وكان زعماء القوم قد اجتمعوا هناك، ويقول بعض المفسرين: أنّ نمرود نفسه كان مشرفاً على هذه المحاكمة، وأوّل سؤال وجّهوه إلى إبراهيم عليه السلام هو أن: «قَالُوا ءَأَنتَ فَعَلْتَ هذَا بَالِهَتِنَا يَا إِبْرهِيمُ».

فأجابهم إبراهيم جواباً أفحمهم، وجعلهم في حيرة لم يجدوا منها مخرجاً «قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذَا فَسَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ».

إنّ من اسس علم معرفة الجرائم أن يكون المتّهم بادية عليه آثار الجريمة، والملاحظ هنا أنّ آثار الجريمة كانت باديةً على يد الصنم الكبير، [وفقاً للرواية المعروفة: إنّ إبراهيم جعل الفأس على رقبة الصنم الكبير].

لقد هزّت كلمات إبراهيم الوثنيين وأيقظت ضمائرهم النائمة الغافلة، وأنار فطرتهم التوحيدية من خلف حجب التعصب والجهل.

ورجعوا إلى فطرتهم ووجدانهم، كما يقول القرآن: «فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ». فقد ظلمتم أنفسكم ومجتمعكم الذي تنتمون إليه، وكذلك ساحة اللَّه واهب النعم المقدسة.

ولكن للأسف، فإنّ صدأ الجهل والتعصب والتقليد الأعمى كان أكبر من أن يُصقل ويُمحى تماماً بنداء بطل التوحيد.

ولم تستمر هذه اليقظة الروحية المقدسة، ورجع كل شي ء إلى حالته الاولى، وكم هو لطيف تعبير القرآن حيث يقول: «ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ». ومن أجل أن يأتوا بعذر نيابة عن الآلهة البُكْم قالوا: «لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلَاءِ يَنطِقُونَ». وأرادوا بهذا العذر الواهي أن يخفوا ضعف وذلة الأصنام.

وهنا فُتح أمام إبراهيم الميدان والمجال للاستدلال المنطقي ليوجّه لهم أشدّ هجماته:

«قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَايَنفَعُكُمْ شَيًا وَلَا يَضُرُّكُمْ».

ووسّع معلّم التوحيد دائرة الكلام، وإنهال بسياط التقريع على روحهم التي فقدت الإحساس، فقال: «أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ». إلّاأنّه لم يلحّ في توبيخهم وتقريعهم لئلّا يلجّوا في عنادهم.

ويستفاد من التواريخ أنّ جماعة آمنوا به، وهم وإن قلّوا عدداً، إلّاأنّهم كانوا من الأهمية بمكان، إذ هيّأوا الاستعداد النسبي لفئة اخرى.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 265

قَالُوا حَرِّقُوهُ وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَ أَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)

عندما تصير النار جنة: مع أنّ عبدة الأوثان اسقط ما في أيديهم نتيجة إستدلالات إبراهيم العلمية والمنطقية، إلّاأنّ عنادهم وتعصبهم الشديد منعهم من قبول الحق، ولذلك فلا عجب من أن يتخذوا قراراً صارماً وخطيراً في شأن إبراهيم. يقول القرآن الكريم: «قَالُوا حَرّقُوهُ وَانصُرُوا ءَالِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فعِلِينَ».

فقد قالوا الكثير من أمثال هذه الخزعبلات وأثاروا الناس ضدّ إبراهيم بحيث إنّهم لم يكتفوا بعدّة حزم من الحطب تكفي لإحراق عدّة أشخاص، بل أتوا بآلاف الحزم وألقوها حتى صارت جبلًا من الحطب. فقد القي إبراهيم في النار وسط زغاريد الناس وسرورهم وصراخهم، وقد أطلقوا أصوات الفرح ظانّين أنّ محطّم الأصنام قد فني إلى الأبد وأصبح تراباً ورماداً.

لكن اللَّه الذي بيده كل شي ء حتى النار لا تحرق إلّابإذنه، شاء أن يبقى هذا العبد المؤمن المخلص سالماً من لهب تلك النار الموقدة ليضيف وثيقة فخر جديدة إلى سجل إفتخاراته، وكما يقول القرآن الكريم: «قُلْنَا يَا نَارُ كُونِى بَردًا وَسَلمًا عَلَى إِبْرهِيمَ».

لا شك أنّ أمر اللَّه هنا كان أمراً تكوينياً، كالأمر الذي يصدره في عالم الوجود إلى الشمس والقمر، والأرض

والسماء، والماء والنار، والنباتات والطيور.

والمعروف أنّ النار قد بردت برداً شديداً إصطكّت أسنان إبراهيم منه، وحسب قول بعض المفسرين: إنّ اللَّه سبحانه لو لم يقل: سلاماً، لمات إبراهيم من شدة البرد.

ويقول اللَّه سبحانه في آخر آية من الآيات محل البحث على سبيل الاستنتاج بإقتضاب:

أنّهم تآمروا عليه ليقتلوه ولكن النتيجة لم تكن في صالحهم «وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ».

لا يخفى أنّ الوضع قد إختلف تماماً ببقاء إبراهيم سالماً، وخمدت أصوات الفرح. غير أنّ العناد ظلّ مانعاً من قبول الحق، وإن كان أصحاب القلوب الواعية قد استفادوا من هذه الواقعة، وزاد إيمانهم مع قلّتهم.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 266

وَ نَجَّيْنَاهُ وَ لُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ نَافِلَةً وَ كُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَ إِقَامَ الصَّلَاةِ وَ إِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَ كَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)

هجرة إبراهيم من أرض الوثنيين: لقد هزّت قصة حريق إبراهيم عليه السلام ونجاته الإعجازية من هذه المرحلة الخطيرة أركان حكومة نمرود، وأنّه لو بقي في تلك المدينة والبلاد على هذا الحال، ومع ذلك اللسان المتكلم والمنطق القوي، والشهامة والشجاعة التي لا نظير لها، فمن المحتّم أنّه سيشكّل خطراً على تلك الحكومة الجبارة الغاشمة.

ومن جهة اخرى، فإنّ إبراهيم كان قد أدّى رسالته وبذر بذور الإيمان والوعي في تلك البلاد، فلابد من الهجرة إلى موطن آخر لإيجاد أرضية لرسالته هناك، ولذلك صمّم على الهجرة إلى الشام بصحبة لوط- وكان ابن أخ إبراهيم- وزوجته سارة، وربّما كان معهم جمع قليل من المؤمنين، كما يقول القرآن الكريم: «وَنَجَّيْنهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِى برَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ».

وبالرغم من أنّ اسم هذه الأرض لم

يرد صريحاً في القرآن، إلّاأنّه بملاحظة الآية الاولى من سورة الإسراء يتّضح أنّ هذه الأرض هي أرض الشام ذاتها، التي كانت من الناحية الظاهرية أرضاً غنيّة مباركة خضراء، ومن الجهة المعنوية كانت معهداً لرعاية الأنبياء.

وأشارت الآية التالية إلى أحد أهمّ مواهب اللَّه لإبراهيم، وهي هبته الولد الصالح، والنسل المفيد، فقالت: «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ».

وتشير الآية الأخيرة إلى مقام إمامة وقيادة هذا النبي الكبير، وإلى جانب من صفات الأنبياء ومناهجهم المهمة القيّمة بصورة جماعية.

لقد عُدّت في هذه الآية ستّة أقسام من هذه الخصائص، وإذا اضيف إليها وصفهم بكونهم صالحين- والذي يستفاد من الآية السابقة- فستصبح سبعة.

يقول أوّلًا: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً». أي: إنّنا وهبناهم مقام الإمامة إضافةً إلى مقام النبوة والرسالة، والإمامة هي آخر مراحل سير الإنسان التكاملي، والتي تعني القيادة العامة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 267

ثم يذكر في المرحلة التالية ثمرة هذا المقام، فيقول: «يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا» ولا يعني بالهداية الإرشاد وبيان الطريق الصحيح، والذي هو من شأن النبوّة والرسالة. أمّا الموهبة الثالثة والرابعة والخامسة فقد عبّر عنها القرآن بقوله: «وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَوةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَوةِ».

وفي آخر فصل أشار إلى مقام العبودية، فقال: «وَكَانوا لَنَا عبِدِينَ» «1». والتعبير ب «كانوا» الذي يدلّ على الماضي المستمر في هذا المنهج، ربّما كان إشارة إلى أنّ هؤلاء كانوا رجالًا صالحين موحدين مؤهّلين حتى قبل الوصول إلى مقام النبوة والإمامة، وفي ظلّ ذلك المخطّط وهبهم اللَّه سبحانه مواهب جديدة.

وَ لُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ نَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَ أَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)

نجاة لوط من أرض الفجّار: لمّا كان لوط من أقرباء إبراهيم وذوي

أرحامه، ومن أوائل من آمن به، فقد أشارت الآيتان بعد قصة إبراهيم عليه السلام إلى جانب من إجتهاده وسعيه في طريق إبلاغ الرسالة، والمواهب التي منحها اللَّه سبحانه له، فتقول: «وَلُوطًا ءَاتَيْنهُ حُكْمًا وَعِلْمًا».

لفظة «الحكم» جاءت في بعض الموارد بمعنى أمر النبوة والرسالة.

والمراد من العلم كل العلوم التي لها أثر في سعادة ومصير الإنسان.

لقد كان لوط من الأنبياء العظام وكان معاصراً لإبراهيم، وهاجر معه من أرض بابل إلى فلسطين، ثم فارق إبراهيم وجاء إلى مدينة (سدوم) لأنّ أهلها كانوا غارقين في الفساد والمعاصي، وخاصةً الانحرافات الجنسية، وقد سعى كثيراً من أجل هداية هؤلاء القوم، وتحمل المشاق في هذا الطريق، إلّاأنّه لم يؤثّر في اولئك العُمي القلوب.

وأخيراً، نعلم أنّ الغضب والعذاب الإلهي قد حلّ بهؤلاء، وقلب عالي مدينتهم سافلها، واهلكوا جميعاً، إلّاعائلة لوط باستثناء امرأته.

______________________________

(1) تقديم كلمة (لنا) على (عابدين) يدلّ على الحصر، وإشارة إلى مقام التوحيد الخالص، لهؤلاء المقدّمين الكبار، أي إنّ هؤلاء كانوا يعبدون اللَّه فقط.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 268

ولذلك أشارت الآية إلى هذه الموهبة التي وهبت للوط، وهي: «وَنَجَّيْنهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِى كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فسِقِينَ».

والتعبير ب «الخبائث» بصيغة الجمع، إشارة إلى أنّهم إضافة إلى فعل اللواط الشنيع، كانوا يعملون أعمالًا قبيحة وخبيثة اخرى.

والتعبير ب «الفاسقين» بعد «قوم سوء» ربّما يكون إشارة إلى أنّ اولئك كانوا فاسقين من وجهة نظر القوانين الإلهية، وحتى مع قطع النظر عن الدين والإيمان، فإنّهم كانوا أفراداً حمقى ومنحرفين في نظر المعايير الإجتماعية بين الناس.

ثم أشارت الآية إلى آخر موهبة إلهية للنبي لوط، فقالت: «وَأَدْخَلْنهُ فِى رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ».

وَ نُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَ

نَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)

نجاة نوح من القوم الكافرين: بعد ذكر جانب من قصّة إبراهيم وقصة لوط عليهما السلام، تطرّقت السورة إلى ذكر جانب من قصة نبي آخر من الأنبياء الكبار- أي: نوح عليه السلام- فقالت:

«وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ». أي قبل إبراهيم ولوط.

إنّ هذا النداء- ظاهراً- إشارة إلى الدعاء واللعنة التي ذكرت في الآية (26 و 27) من سورة نوح أو إنّه إشارة إلى الجملة التي وردت في الآية (10) من سورة القمر.

ثم تضيف الآية: «فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ».

إنّ للأهل- هنا- معنى وسيعاً يشمل أهله المؤمنين وخواص أصحابه، وعلى هذا فإنّ الذين اعتنقوا دين نوح يعدّون في الواقع من عائلته وأهله.

«الكرب»: تعني الغمّ الشديد، وهي في الأصل مأخوذة من تقليب الأرض وحفرها، لأنّ الغمّ الشديد يقلب قلب الإنسان، ووصفه بالعظيم يكشف عن منتهى كربه وأساه.

وأيّ كرب أعظم من أن يدعو قومه إلى دين الحق (950) عاماً، كما صرّح القرآن بذلك، لكن لم يؤمن به خلال هذه المدة الطويلة إلّاثمانون شخصاً.

وتضيف الآية التالية: «وَنَصَرْنهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بَايَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ

مختصر الامثل، ج 3، ص: 269

فَأَغْرَقْنهُمْ أَجْمَعِينَ». إنّ هذه الجملة تؤكّد مرّة اخرى على حقيقة أنّ العقوبات الإلهية لا تتّصف بصفة الإنتقام مطلقاً، بل هي على أساس إنتخاب الأصلح، أي إنّ حق الحياة والتنعّم بمواهب الحياة لُاناس يكونون في طريق التكامل والسير إلى اللَّه، أو انّهم إذا ساروا يوماً في طريق الانحراف إنتبهوا إلى أنفسهم ورجعوا إلى جادة الصواب.

وَ دَاوُدَ وَ سُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَ كُلًّا آتَيْنَا حُكْماً وَ

عِلْماً وَ سَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَ الطَّيْرَ وَ كُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَ عَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)

قضاء داود وسليمان عليهما السلام: بعد الحوادث والوقائع المتعلقة بموسى وهارون وإبراهيم ونوح ولوط عليهم السلام، تشير هذه الآيات إلى جانب من حياة داود وسليمان، وفي البداية أشارت إشارة خفية إلى حادث قضاء وحكم صدر من جانب داود وسليمان، فتقول: «وَدَاوُودَ وَسُلَيْمنَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شهِدِينَ» «1».

إنّ القصة كانت كما يلي: إنّ قطيع أغنام لبعض الرعاة دخلت ليلًا إلى بستان فأكلت أوراقه وعناقيد العنب منه فأتلفته، فرفع صاحب البستان شكواه إلى داود، فحكم داود بأن تعطى كل الأغنام لصاحب البستان تعويضاً لهذه الخسارة الفادحة، فقال سليمان- والذي كان طفلًا آنذاك- لأبيه: يا نبي اللَّه العظيم، غيّر هذا الحكم وعدّ له. فقال الأب: وكيف ذاك؟

قال: يجب أن تودع الأغنام عند صاحب البستان ليستفيد من منافعها ولبنها وصوفها، وتودع البستان في يد صاحب الأغنام ليسعى في إصلاحه، فإذا عاد البستان إلى حالته الاولى يُردّ إلى صاحبه، وتردّ الأغنام أيضاً إلى صاحبها؛ وأيّد اللَّه حكم سليمان في الآية التالية: «فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمنَ». ولكن هذا لا يعني أنّ حكم داود كان إشتباهاً وخطأً، لأنّها تضيف مباشرةً: «وَكُلًّا ءَاتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا».

ثم تشير إلى إحدى المواهب والفضائل التي كان اللَّه سبحانه قد وهبها لداود عليه السلام، فتقول:

______________________________

(1) «نفشت»: من مادّة نَفْش على وزن (حرب)، أي التفرّق والتبعثر في الليل، ولمّا كان تفرّق الأغنام في الليل، وفي المزرعة سيقترن بالتهام نباتها حتماً، لذا قال البعض: إنّها الرعي في الليل؛ و «نَفَش» (على وزن علم) تعني الأغنام التي تتفرّق في الليل.

مختصر الامثل،

ج 3، ص: 270

«وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبّحْنَ وَالطَّيْرَ». فإنّ ذلك ليس شيئاً مهمّاً أمام قدرتنا «وَكُنَّا فعِلِينَ».

وأشارت الآية الأخيرة إلى موهبة اخرى من المواهب التي وهبها اللَّه لهذا النبي الجليل، فقالت: «وَعَلَّمْنهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شكِرُونَ».

«اللبوس»: كل نوع من أنواع الأسلحة الدفاعية والهجومية، إلّافي هنا تعني الدرع التي لها صفة الحفظ في الحروب.

وَ لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَ كُنَّا بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَالِمِينَ (81) وَ مِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَ يَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ وَ كُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)

الرياح تحت إمرة سليمان: تشير هاتان الآيتان إلى جانب من المواهب التي منحها اللَّه لنبي آخر من الأنبياء- أي: سليمان عليه السلام- فتقول الآية الاولى منهما: «وَلِسُلَيْمنَ الرّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِى بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا». وهذا الأمر ليس عجيباً، لأنّنا عارفون به «وَكُنَّا بِكُلّ شَىْ ءٍ علِمِينَ». فنحن مطّلعون على أسرار عالم الوجود، والقوانين والأنظمة الحاكمة عليه.

«العاصفة»: تعني الرياح القويّة أو الهائجة، وهنا يمكن أن تكون من باب بيان الفرد الأهمّ، أي ليست الرياح الهادئة لوحدها تحت إمرته، بل حتى العواصف الشديدة كانت رهن إشارته أيضاً، لأنّ الثانية أعجب، وكانت تتحرّك حيث أراد.

ثم تذكر الآية التالية أحد المواهب الخاصة بسليمان عليه السلام، فتقول: «وَمِنَ الشَّيطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ» لإستخراج الجواهر والأشياء الثمينة الاخرى «وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حفِظِينَ» من التمرد والطغيان على أوامر سليمان عليه السلام.

إنّ هذه الجماعة كانوا أفراداً أذكياء نشطين فنّانين صنّاعاً ماهرين في مجالات مختلفة.

وَ أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَ آتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً

مِنْ عِنْدِنَا وَ ذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 271

أيوب ونجاته من المصاعب: تتحدث الآيتان عن نبي آخر من أنبياء اللَّه العظماء وقصّته المُلهمة، وهو «أيّوب» وهو عاشر نبي اشير إلى جانب من حياته في سورة الأنبياء.

إنّ لأيّوب قصّة حزينة، وهي في نفس الوقت عظيمة سامية، فقد كان صبره وتحمله عجيبين، خاصةً أمام الحوادث المرّة، بحيث إنّ صبر أيوب أصبح مضرباً للمثل منذ القدم.

غير أنّ هاتين الآيتين تشيران- بصورة خاصة- إلى مرحلة نجاته وإنتصاره على المصاعب، وإستعادة ما فقده من المواهب، فتقول: «وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ». «الضرّ»: تطلق على كل سوء وأذى يصيب روح الإنسان أو جسمه، وكذلك لنقص عضو، وذهاب مال، وموت الأعزّة وإنهيار الشخصية وأمثال ذلك، وكما سنقول فيما بعد، فإنّ أيوب قد إبتلي بكثير من هذه المصائب.

وتقول الآية التالية: «فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ وَءَاتَيْنهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ» ليعلم المسلمون أنّ المشاكل كلما زادت، وكلما زادت الإبتلاءات، وكلما زاد الأعداء من ضغوطهم وضاعفوا قواهم، فإنّها جميعاً ترفع وتحلّ بنظرة ومنحة من لطف اللَّه، فلا تجبر الخسارة وحسب، بل إنّ اللَّه سبحانه يعطي الصابرين أكثر ممّا فقدوا جزاءً لصبرهم وثباتهم.

وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَ أَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)

إسماعيل وإدريس وذو الكفل عليه السلام: تعقيباً على قصة أيوب عليه السلام التربوية، وصبره وثباته بوجه سيل الحوادث، تشير الآيتان- محلّ البحث- إلى صبر ثلاثة من أنبياء اللَّه الآخرين فتقول الاولى: «وَإِسْمعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَاالْكِفْلِ كُلٌّ مّنَ الصَّابِرِينَ».

ثم تبيّن الآية الاخرى موهبة إلهية لهؤلاء مقابل الصبر والثبات، فتقول: «وَأَدْخَلْنهُمْ فِى رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِنَ الصَّالِحِينَ».

وَ

ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَ نَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَ كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 272

نجاة يونس من السجن المرعب: تبيّن هاتان الآيتان جانباً من قصة النبي الكبير يونس عليه السلام، حيث تقول الاولى واذكر يونس إذ ترك قومه المشركين غاضباً عليهم: «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا». «النون»: تعني السمكة العظيمة. أو بتعبير آخر: تعني الحوت. وبناءً على هذا فإنّ «ذاالنون» معناه صاحب الحوت.

إنّه ذهب مغاضباً «فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ» «1». فقد كان يظنّ أنّه قد أدّى كل رسالته بين قومه العاصين، ولم يترك حتى «الأولى في هذا الشأن، مع أنّ الأولى هو بقاؤه بينهم والصبر والتحمّل والتجلّد، فلعلّهم ينتبهون من غفلتهم ويتّجهون إلى اللَّه سبحانه.

وأخيراً، ونتيجة تركه الأولى هذا، ضيّقنا عليه فابتلعه الحوت «فَنَادَى فِى الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحنَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ». فقد ظلمت نفسي، وظلمت قومي، فقد كان ينبغي أن أتقبّل وأتحمّل أكثر من هذه الشدائد والمصائب، واواجه جميع أنواع التعذيب والآلام منهم فلعلّهم يهتدون.

وتقول الآية التالية: «فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنهُ مِنَ الْغَمّ وَكَذلِكَ نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ».

جملة «كَذلِكَ نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ» العميقة المعنى توحي بأنّ ما أصاب يونس من البلاء والنجاة لم يكن حكماً خاصّاً، بل حكم عام مع حفظ تسلسل الدرجات والمراتب.

إنّ كثيراً من الحوادث المؤلمة والإبتلاءات الشديدة والمصائب نتيجة لذنوبنا ومعاصينا، فمتى ما تنبّه الإنسان إلى ثلاثة امور [التي إنتبه إليها يونس في مثل هذا الظرف فإنّه سينجو حتماً:

1- التوجّه إلى حقيقة التوحيد، وأنّه لا معبود ولا سند إلّااللَّه.

2- تنزيه اللَّه عن كل عيب ونقص وظلم

وجور، وتجنّب كل سوء ظنّ بذاته المقدّسة.

3- الإعتراف بذنبه وتقصيره.

في تفسير الدرّ المنثور عن سعد سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: «اسم اللَّه الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متّى». قلت يا رسول اللَّه هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال: «هي ليونس خاصة وللمؤمنين إذا دعوا بها، ألم تسمع قول اللَّه «وَكَذلِكَ نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ»، فهو شرط من اللَّه لمن دعاه».

______________________________

(1) «نقدر»: من مادّة قدر بمعنى التعسير والتضييق، لأنّ الإنسان عند التضييق يأخذ من كل شي ء قدراًمحدوداً، لا على نطاق واسع وبدون حساب.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 273

وَ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَ وَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَ أَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَ يَدْعُونَنَا رَغَباً وَ رَهَباً وَ كَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)

نجاة زكريا من الوحدة: تبيّن هاتان الآيتان جانباً من قصة شخصيتين اخريين من أنبياء اللَّه العظماء، وهما زكريا ويحيى عليهما السلام، فتقول الاولى: «وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبّ لَاتَذَرْنِى فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ».

لقد مرّت سنين من عمر زكريا، واشتعل رأسه شيباً، ولم يرزق الولد حتى ذلك الحين، ثم أنّ زوجته كانت عقيماً، وقد كان يأمل أن يُرزق ولداً يستطيع أن يُكمل مناهجه الإلهية وأعماله التبليغية.

وعندئذ توجّه إلى اللَّه بكلّ وجوده وسأله ولداً صالحاً.

فاستجاب اللَّه هذا الدعاء الخالص الملي ء بعشق الحقيقة، وحقّق امنيته وما كان يصبوا إليه، كما تقول الآية: «فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى . ومن أجل الوصول إلى هذا المراد أصلحنا زوجته وجعلناها قادرة على الإنجاب «وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ».

ثم أشار اللَّه سبحانه إلى ثلاث صفات من الصفات البارزة لهذه الاسرة فقال:

«إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خشِعِينَ».

«رغباً»: بمعنى الرغبة والميل والعلاقة؛ و «رهباً»: بمعنى الخوف والرعب؛ و «الخشوع»: هو الخضوع المقرون بالإحترام والأدب، وكذلك الخوف المشفوع بالإحساس بالمسؤولية.

إنّ ذكر هذه الصفات الثلاث ربّما تكون إشارة إلى أنّ هؤلاء عندما يصلون إلى النعمة فلا يبتلون بالغفلة والغرور كما في الأشخاص الماديين من ضعفاء الإيمان.

وَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَ جَعَلْنَاهَا وَ ابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)

مريم السيدة الطاهرة: اشير في هذه الآية إلى مقام مريم وعظمتها وعظمة إبنها المسيح عليهما السلام. إنّ ذكر مريم في ثنايا البحوث التي تتكلّم على الأنبياء الكرام؛ إمّا من أجل

مختصر الامثل، ج 3، ص: 274

ولدها عيسى عليه السلام، أو لأنّ ولادته كانت تشبه ولادة يحيى بن زكريا عليهما السلام من جهات متعددة، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في ذيل آيات سورة مريم، أو ليوضّح أنّ العظمة غير مختصة بالرجال، بل هناك نساء عظيمات يدلّ تاريخهن على عظمتهن، وكنّ قدوة ومثلًا أسمى لنساء العالم. تقول الآية: واذكر مريم، «وَالَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنهَا وَابْنَهَا ءَايَةً لّلْعَالَمِينَ».

«الفرج»: معناه في اللغة الفاصلة والشقّ، واستعمل كناية عن العضو التناسلي.

إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَ إِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)

امّة واحدة: لمّا ورد في الآيات السابقة أسماء جمع من أنبياء اللَّه، وكذلك مريم، تلك المرأة التي كانت مثلًا أسمى وجانب من قصصهم، فإنّ هذه الآيات تستخلص نتيجة مما مرّ، فتقول: «إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً». فقد كان منهجهم واحداً، وهدفهم واحداً بالرغم من اختلافهم في الزمان

والمحيط والخصائص والأساليب والطرائق.

إنّ توحيد ووحدة الخطط والأهداف هذه تعود إلى أنّها جميعاً تصدر عن مصدر واحد، عن إرادة اللَّه الواحد، ولهذا تقول الآية مباشرةً: «وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ».

إنّ توحيد الأنبياء الإعتقادي في الواقع يقوم على أساس وحدة منبع الوحي.

«الامّة»: تعني كل جماعة تربطهم جهة مشتركة، وهنا إشارة إلى الأنبياء الذين مرّ ذكرهم في الآيات السابقة.

وأشارت الآية التالية إلى انحراف جماعة عظيمة من الناس عن أصل التوحيد، فقالت:

«وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ». فقد وصل بهم الأمر إلى أن يقف بعضهم ضدّ بعض، ويلعن بعضهم بعضاً ويتبرّأ منه، ولم يكتفوا بذلك، بل شهروا السلاح فيما بينهم، وسفكوا الدماء الكثيرة، وكانت هذه الأحداث نتيجة الإنحراف عن أصل التوحيد ودين اللَّه الحق.

«تقطّعوا»: من مادّة قطع، بمعنى تفريق القطع المتصلة بموضوع واحد. إنّ اولئك قد إستسلموا أمام عوامل التفرقة والنفاق، ورضوا بأن يبتعد أحدهم عن الآخر، وأنهوا

مختصر الامثل، ج 3، ص: 275

إتحادهم الفطري والتوحيدي، فمُنوا- نتيجة ذلك- بكل تلك الهزائم والشقاوة.

وتضيف في النهاية: «كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ». فإنّ هذا الإختلاف عرضي يمكن إقتلاعه، وسيسيرون في طريق الوحدة جميعاً في يوم القيامة. وتبيّن الآية الأخيرة نتيجة الإنسجام مع الامّة الواحدة في طريق عبادة اللَّه، أو الإنحراف عنها وإتخاذ طريق التفرقة، فتقول: «فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ». ومن أجل زيادة التأكيد قالت: «وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ».

إنّ هذه الآية ككثير من آيات القرآن الاخرى قد عدّت الإيمان شرطاً لقبول الأعمال الصالحة.

وَ حَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)

الكافرون

على أعتاب القيامة: كان الكلام في آخر الآيات السابقة عن المؤمنين العاملين للصالحات، وتشير الآية الاولى من هذه الآيات إلى الأفراد في الطرف المقابل لُاولئك، وهم الذين استمرّوا في الضلال والفساد إلى آخر نفس، فتقول: «وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ».

إنّ هؤلاء اناس ترفع الحجب عن أعينهم وأنظارهم بعد مشاهدة العذاب الإلهي، أو بعد فنائهم وإنتقالهم إلى عالم البرزخ، وعندها يأملون أن يرجعوا إلى الدنيا ليصلحوا أخطاءهم ويعملون الصالحات، إلّاأنّ القرآن يقول بصراحة: إنّ رجوع هؤلاء حرام تماماً، ولم يبق طريق لجبران ما صدر منهم.

إنّ هؤلاء المغفلين في غرور وغفلة على الدوام، وتستمرّ هذه التعاسة حتى نهاية العالم، كما يقول القرآن: «حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ».

فتقول مباشرةً: «وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِىَ شَاخِصَةٌ أَبْصرُ الَّذِينَ كَفَرُوا». لأنّ الرعب يسيطر على وجودهم إلى حدّ أنّ عيونهم تتوقف عن الحركة وتصبح جاحظة لدى نظرهم إلى تلك الحوادث.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 276

في هذه الأثناء ترفع عن أبصارهم حجب الغفلة والغرور، فيرتفع صوتهم: «يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍ مّنْ هذَا». ولما كانوا لا يقدرون على تغطية ذنبهم بهذا العذر ليبرّئوا أنفسهم، فإنّهم يقولون بصراحة: «بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ».

كيف يمكن عادةً مع وجود كل هؤلاء الأنبياء، والكتب السماوية، وكل هذه الحوادث المثيرة والعبر والدروس أن يكونوا في غفلة؟ إنّ ما صدر من هؤلاء تقصير وظلم لأنفسهم وللآخرين.

«حدب»: على زنة «أدب» معناه ما إرتفع من الأرض بين منخفضاتها، وقد يطلق على ما إرتفع وبرز من ظهر الإنسان أيضاً.

«ينسلون»: من مادة «نسول» (على وزن فضول)، أي الخروج بسرعة.

«شاخصة»: من الشخوص، وهو في الأصل الخروج من المنزل، أو الخروج من مدينة إلى اخرى، ولما كانت العين عند

التعجب والدهشة كأنّها تريد الخروج من الحدقة، فقد قيل لذلك «شخوص» إنّ هذه هي حالة المذنبين العاصين في القيامة يصبحون حائرين كأنّ أعينهم تريد أن تخرج من أحداقهم.

إِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَ كُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَ هُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَ هُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَ تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)

حصب جهنم: متابعة للبحث السابق عن مصير المشركين الظالمين، فقد وجّهت هذه الآيات الخطاب إليهم، وجسّدت مستقبلهم ومستقبل آلهتهم بهذه الصورة: «إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ». «الحصب»: في الأصل يعني الرمي والإلقاء، وتقال بالذات لإلقاء قطع الحطب في التنور.

إنّكم وآلهتكم ستكوّنون حطب جهنم، وستُلقون الواحد تلو الآخر في نار جهنم كقطع

مختصر الامثل، ج 3، ص: 277

الحطب التي لا قيمة لها، ثم تضيف: «أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ». إنّهم يلقون آلهتكم في النار أوّلًا، ثم تردون عليها، فكأنّ آلهتكم تستقبلكم وتستضيفكم بالنار المنبعثة من وجودها.

ثم تقول كإستخلاص للنتيجة: «لَوْ كَانَ هؤُلَاءِ ءَالِهَةً مَّا وَرَدُوهَا». ولكن اعلموا أنّهم لا يدخلون جهنم وحسب، بل «وَكُلٌّ فِيهَا خلِدُونَ».

ولمزيد الإيضاح عن حال هؤلاء «العابدين الضالين» المؤلمة المخزية قبال «آلهتهم الحقيرة»، تقول الآية محل البحث: «لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ».

«الزفير»: في الأصل يعني الصراخ المقترن بإخراج النفس. وهنا إشارة إلى الصراخ أو الضجيج المنبعث من الحزن وشدة الكرب.

إنّ هذا الزفير أو الأنين المؤلم لا يكون مقتصراً على العباد فحسب، بل إنّ معبوداتهم من الشياطين أيضاً يصطرخون معهم.

ثم تذكّر الجملة

التالية أحد العقوبات الاخرى المؤلمة لهؤلاء، وهي «وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ». وهذه الجملة قد تكون إشارة إلى أنّ هؤلاء لا يسمعون الكلام الذي يسرّهم ويبهجهم، بل يسمعون أنين أهل جهنم المؤلم المنغّص وصراخ ملائكة العذاب فقط.

وقال بعضهم: إنّ المراد هو أنّ هؤلاء يوضعون في توابيت من نار بحيث لا يسمعون صوت أيّ أحد أبداً، فكأنّهم لوحدهم في العذاب، وهذا بنفسه يعتبر عقوبة أشد.

ثم تبيّن الآية التالية حالات المؤمنين الحقيقيين من الرجال والنساء ليتبيّن وضع الفريقين من خلال المقارنة بينهما، فتقول أوّلًا: «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مّنَّا الْحُسْنَى أُولئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ». وهو إشارة إلى أنّنا سنفي بكل الوعود التي وعدنا بها المؤمنين في هذه الدنيا، وأحدها إبعادهم عن نار جهنم.

وتذكر الآيتان الأخيرتان أربع نعم إلهية كبرى تغمر هذه الطائفة السعيدة.

فالاولى: إنّهم «لَايَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا». و «الحسيس»: الصوت المحسوس، وجاءت أيضاً بمعنى الحركة، أو الصوت الناشى ء من الحركة، ونار الجحيم المشتعلة دائماً لها صوت خاص، وهذا الصوت مرعب من جهتين: من جهة أنّه صوت النار، ومن جهة أنّه صوت حركة النار والتهامها.

والثانية: إنّهم «وَهُمْ فِى مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خلِدُونَ». فليس حالهم كما في هذه الدنيا

مختصر الامثل، ج 3، ص: 278

المحدودة، فإنّهم ينالون كل نعمة يريدونها، مادية كانت أو معنوية، وليس ذلك على مدى يوم أو يومين، بل على إمتداد الخلود.

والثالثة: إنّهم «لَايَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ». وقد اعتبر بعضهم أنّ هذا الفزع الأكبر إشارة إلى أهوال يوم القيامة التي هي أكبر من كل هول وفزع.

والرابعة: من ألطاف اللَّه تعالى لهؤلاء هو ما ذكرته الآية محلّ البحث: «وَتَتَلَقهُمُ الْمَلِكَةُ هذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ».

يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)

يوم تطوى السماء:

قرأنا في آخر آية من الآيات السابقة أنّ المؤمنين آمنون من الفزع الأكبر وهمّه، وتجسّم هذه الآية رعب ذلك اليوم العظيم، وفي الحقيقة تبيّن وتجسّد علة عظمة وضخامة هذا الرعب، فتقول: «يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاءَ كَطَىّ السّجِلّ لِلْكُتُبِ» «1».

وفي هذه الآية تشبيه لطيف لطيّ سجل عالم الوجود عند إنتهاء الدنيا، ففي الوقت الحاضر فإنّ هذا السجل مفتوح، وتقرأ كل رسومه وخطوطه، وكل منها في مكان معين، أمّا إذا صدر الأمر الإلهي بقيام القيامة فإنّ هذا السجل العظيم سيطوى بكل رسومه وخطوطه.

ثم تضيف: «كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ».

وفي النهاية تقول الآية: «وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فعِلِينَ».

ويستفاد من بعض الروايات أنّ المراد من رجوع الناس إلى الحالة الاولى، هو أنّهم يرجعون حفاة عراة مرّة اخرى كما كانوا في بداية الخلق. وهذا أحد صور رجوع الخلق إلى الصورة الاولى.

سيحكم الصالحون الأرض: بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى جانب من ثواب المؤمنين الصالحين، فقد أشارت السورة في هاتين الآيتين إلى أحد أوضح المكافآت الدنيوية لهؤلاء،

______________________________

(1) «السَجْل»: الدلو العظيمة؛ و «السّجِلّ» حجر كان يكتب فيه، ثم سمّي كل ما يكتب فيه سجلًا.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 279

فتقول: «وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُونَ».

«الأرض»: تطلق على مجموع الكرة الأرضية. «الإرث»: يعني إنتقال الشي ء إلى شخص بدون معاملة وأخذ وعطاء.

إنّ المراد من الزبور كتاب داود، والذكر بمعنى التوراة.

إنّ كلمة الصالحون لها معنى واسع، فستخطر على الذهن كل المؤهّلات، الأهلية من ناحية التقوى، والعلم والوعي، ومن جهة القدرة والقوة، ومن جانب التدبير والتنظيم والإدراك الاجتماعي.

إنّ الآية التالية تقول من باب التأكيد المشدد: «إِنَّ فِى هذَا لَبَلغًا لّقَوْمٍ عبِدِينَ».

لقد فسّرت هذه الآية في بعض الروايات بأصحاب المهدي عليه السلام، وهو

بيان مصداق عال وواضح، ولا تحدّ من عمومية مفهوم الآية مطلقاً.

إنّ نظام الخلقة سيكون دليلًا واضحاً على قبول نظام اجتماعي صحيح في المستقبل، في عالم الإنسانية، وهذا هو الذي يستفاد من الآية مورد البحث، والأحاديث المرتبطة بقيام المصلح العالمي العظيم، المهدي الموعود.

وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَ يَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَ مَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَ رَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)

النبي رحمة للعالمين: لمّا كانت الآيات السابقة قد بشّرت العباد الصالحين بوراثة الأرض وحكمها، ومثل هذه الحكومة أساس الرحمة لكل البشر، فإنّ الآية الاولى أشارت إلى رحمة وجود النبي صلى الله عليه و آله العامة، فقالت: «وَمَا أَرْسَلْنكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعلَمِينَ». فإنّ عامّة البشر في الدنيا، سواء الكافر منهم والمؤمن، مشمولون لرحمتك، لأنّك تكفّلت بنشر الدين الذي يُنقذ الجميع.

إنّ التعبير ب «العالمين» له إطار واسع يشمل كل البشر وعلى إمتداد الأعصار والقرون،

مختصر الامثل، ج 3، ص: 280

ولهذا يعتبرون هذه الآية إشارة إلى خاتمية نبي الإسلام، لأنّ وجوده رحمة وقدوة لكل الناس إلى نهاية الدنيا.

ولمّا كان أهمّ مظهر من مظاهر الرحمة، وأثبت دعامة لذلك هي مسألة التوحيد وتجلياته، فإنّ الآية التالية تقول: «قُلْ إِنَّمَا يُوحِى إِلَىَّ أَنَّمَا إِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ».

وهذه الآية في الواقع تشير إلى ثلاث نقاط مهمة:

الاولى: إنّ التوحيد هو الدعامة الأساسية للرحمة، التوحيد في الإعتقاد، وفي العمل، والتوحيد في الكلمة، وتوحيد الصفوف، وفي القانون

وفي كل شي ء.

الثانية: إنّ كل دعوات الأنبياء تتلخص في أصل التوحيد، والتوحيد كالروح السارية في البدن.

والنقطة الثالثة: إنّ المشكلة الأساسية في جميع المجتمعات هي التلوّث بالشرك بأشكال مختلفة، لأنّ جملة «فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ» توحي بأنّ المشكلة الأساسية هي الخروج من الشرك ومظاهره، ورفع اليد عن الأصنام وتحطيمها، ليس الأصنام الحجرية والخشبية فحسب، بل كل الأصنام، وفي أيّ شكل كانت، وخاصة طواغيت البشر.

ثم تقول الآية التالية: إنّهم إذا لم يذعنوا ويهتمّوا لدعواتنا ونداءاتنا هذه «فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ ءَاذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ». «آذنت»: من مادة الإيذان، أي الإعلان المقترن بالتهديد، والظاهر أنّ النبي أراد بهذا الكلام أن يعلن تنفّره وإبتعاده عن اولئك، ويبيّن بأنّه قد يئس منهم تماماً.

ثم يبيّن هذا التهديد بصورة أوضح، فيقول بأنّي لا أعلم هل أنّ موعد عذابكم قريب أم بعيد: «وَإِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ». فلا تظنّوا أنّ هذا الوعيد بعيد، فربّما كان قريباً وقريباً جدّاً.

قد يكون المراد من العذاب والعقوبة هنا عذاب القيامة، أو عذاب الدنيا، أو كليهما، ففي الصورة الاولى هو مختص بعلم اللَّه، ولا يعلم أيّ أحد تاريخ وقوع القيامة بدقة حتى أنبياء اللَّه، وفي الصورة الثانية والثالثة يمكن أن يكون إشارة إلى جزئياته وزمانه، وأنا لا أعلم بجزئياته.

ثم إنّكم لا ينبغي أن تتوهّموا أنّ عقوبتكم إذا تأخّرت فهذا يعني أنّ اللَّه غير مطّلع على أعمالكم وأقوالكم، فهو يعلم كل شي ء، ف «إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ».

فإنّ الجهر والإخفاء له معنى بالنسبة لكم حيث إنّ علمكم محدود عادةً، أمّا بالنسبة لمن لا حدود لعلمه، فإنّ الغيب والشهادة، والسرّ والعلن سواء لديه.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 281

وكذلك إذا رأيتم أنّ العقوبة الإلهية لا تحيط بكم فوراً، فلا تظنّوا

أنّ اللَّه سبحانه غير عالم بعملكم، فلا أعلم لعلّه إمتحان لكم: «وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتعٌ إِلَى حِينٍ». ثم يأخذكم أشدّ مأخذ ويعاقبكم أشدّ عقاب.

لقد أوضحت الآية في الواقع حكمتين لتأخير العذاب الإلهي:

الاولى: مسألة الامتحان والاختبار، فإنّ اللَّه سبحانه لا يعجّل في العذاب أبداً حتى يمتحن الخلق بالقدر الكافي، ويُتمّ الحجة عليهم.

والثانية: إنّ هناك أفراداً قد تمّ اختبارهم وحقّت عليهم كلمة العذاب حتماً، إلّاأنّ اللَّه سبحانه يوسّع عليهم النعمة ليشدّد عليهم العذاب، فإذا ما غرقوا في النعمة تماماً، وغاصوا في اللذائذ، أهوى عليهم بسوط العذاب ليكون أشدّ وآلم، وليحسّوا جيّداً بألم وعذاب المحرومين والمضطهدين.

وتتحدث آخر آية هنا- وهي آخر آية من سورة الأنبياء- كالآية الاولى من هذه السورة عن غفلة الناس الجهّال، فتقول حكاية عن النبي صلى الله عليه و آله في عبارة تشبه اللعن، وتعكس معاناته صلى الله عليه و آله من كل هذا الغرور والغفلة، وتقول: إنّ النبي صلى الله عليه و آله بعد مشاهدة كل هذا الإعراض «قَالَ رَبّ احْكُم بِالْحَقّ» «1». وفي الجملة الثانية يوجّه الخطاب إلى المخالفين ويقول:

«وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ».

إنّه ينبّه هؤلاء بكلمة (ربّنا) إلى هذه الحقيقة، وهي أنّنا جميعاً مربوبون ومخلوقون، وهو ربّنا وخالقنا جميعاً.

والتعبير ب «الرّحمن»، والذي يشير إلى الرحمة العامة، يعيد إلى أسماع هؤلاء أنّ الرحمة الإلهية قد عمّت كل وجودنا، فلماذا لا تفكّروا لحظة في خالق كل هذه النعمة والرحمة.

وجملة «الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ» يحذّر هؤلاء بأن لا تظنّوا أنّا وحيدون أمام جمعكم وكثرتكم، ولا تتصوروا أنّ كل إتهاماتكم وأكاذيبكم، سواء كانت على ذات اللَّه المقدسة، أو علينا، ستبقى بدون جواب وجزاء، كلّا مطلقاً، فإنّه تعالى سندنا ومعتمدنا جميعاً، وهو قادر على

أن يدافع عن عباده المؤمنين أمام كل أشكال الكذب والإفتراء والإتهام.

«نهاية تفسير سورة الأنبياء»

______________________________

(1) لا شكّ أنّ حكم اللَّه سبحانه بالحقّ دائماً، وعلى هذا فإنّ ذكر كلمة (بالحقّ) هنا له صبغة التوضيح.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 283

22 سورة الحج

محتوي السورة: سمّيت هذه السورة ب «سورة الحج» لأنّ جزءاً من آياتها تحدّث عن الحج. ويمكن تقسيم مواضيعها إلى عدّة أقسام هي:

1- تضمّنت آيات منها موضوع «المعاد» وأدلته المنطقية، وإنذار الغافلين عن يوم القيامة ونظائر ذلك التي تبدأ هذه السورة بها لتضمّ جزءاً كبيراً منها.

2- يتضمّن جزء ملحوظ من هذه الآيات جهاد الشرك والمشركين.

3- دعا جزء آخر من هذه السورة الناس إلى الاعتبار بمصير الأقوام البائدة، وما لاقت من عذاب إلهي.

4- وتناول جزء آخر منها مسألة الحج وتاريخه منذ عهد إبراهيم عليه السلام.

5- وتضمّن الجزء الآخر مقاومة الظالمين والتصدّي لأعداء الإسلام المحاربين.

6- وإحتوى قسم آخر نصائح في مجالات الحياة المختلفة.

7- التشجيع على أعمال الصلاة والزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتوكل والتوجه إلى اللَّه (سبحانه وتعالى).

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان: قال النبي صلى الله عليه و آله: «من قرأ سورة الحج اعطي من الأجر كحجة حجّها، وعمرة اعتمرها بعدد من حج واعتمر فيما مضى وفيما بقي».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 284

وهذا الثواب والفضل العظيم ليس لمجرد التلاوة اللفظيّة فقط، وإنّما لتلاوة تنير الفكر، وتفكّر يتبعه عمل وتطبيق.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْ ءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَ تَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَ مَا هُمْ بِسُكَارَى وَ لكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)

زلزلة البعث العظيمة: تبدأ هذه السورة بآيتين تشيران إلى يوم البعث ومقدماته، وهما آيتان تبعدان

الإنسان- دون إرادته- عن هذه الحياة المادية العابرة، ليفكّر بالمستقبل المخيف الذي ينتظره، المستقبل الذي سيكون جميلًا وسعيداً إن فكّرت فيه اليوم، ولكنّه مخيف حقّاً إن لم تعدّ العدة له، والآية المباركة: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْ ءٌ عَظِيمٌ». خطاب للناس جميعاً بلا استثناء، فقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ» دليل واضح على عدم التفريق بينهم من ناحية العنصر، واللغة، والزمان، والأماكن الجغرافية، والطوائف، والقبائل، فهو موجّه للجميع: المؤمن والكافر، والكبير والصغير، والشيخ والشاب، والرجل والمرأة، على إمتداد العصور.

ثم بيّنت الآية التالية في عدّة جمل إنعكاس هذا الذعر الشديد، فقالت: «يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ» من شدة الوحشة والرعب.

«وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا».

وثالث إنعكاس لهذا الذعر الشديد: «وَتَرَى النَّاسَ سُكرَى وَمَا هُمْ بِسُكرَى . وعلة ذلك هو شدة العذاب في ذلك اليوم «وَلكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ». هذا العذاب الذي أرعب الناس وأفقدهم صوابهم.

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَ يَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)

أتباع الشيطان: بعد أن أعطت الآيات السابقة صورة لرعب الناس حين وقوع زلزلة

مختصر الامثل، ج 3، ص: 285

القيامة، أوضحت الآيات اللاحقة حالة اولئك الذين نسوا اللَّه، وكيف غفلوا عن مثل هذا الحدث العظيم، فقالت: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجدِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ».

نجد هؤلاء الناس يجادلون مرّة في أساس التوحيد ووحدانية الحق تبارك وتعالى، ومرّة يجادلون في قدرة اللَّه على إحياء الموتى، وفي البعث والنشور، ولا دليل لهم على ما يقولون.

ثم تضيف هذه الآية: «وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطنٍ مَّرِيدٍ». فهؤلاء الأشخاص الذين لا يتّبعون منطقاً أو علماً، وإنّما يتّبعون كل شيطان عنيد ومتمرد، ولا يخضعون

لشيطان واحد، بل لجميع الشياطين! شياطين الإنس والجن، الذين لكل منهم برنامجه وأحابيله وشراكه.

«مريد»: مشتقة من «مَرَدَ» وأصلها الأرض المرتفعة التي لا نبت فيها. وهنا يقصد ب «المريد» الشخص الذي خلا من أيّ خير وسعادة. وطبيعي أن يكون مثل هذا الشخص عنيداً وظالماً وعاصياً.

ومن هنا كانت الآية اللاحقة: «كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ» «1».

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَ تَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (6) وَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)

دليل المعاد في عالم الأجنة والنبات: بما أنّ البحث في الآيات السابقة كان يدور حول

______________________________

(1) «السعير»: مشتقة من «سَعَرَ» بمعنى لهب النّار، وتعني هنا نار جهنّم الحارقة التي تمتاز بأنّها أكثر حرقاً من أيّ نار.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 286

تشكيك المخالفين للمبدأ والمعاد، فالآيات محل البحث طرحت دليلين منطقيين قويين لإثبات المعاد الجسماني: أحدهما التغيّرات التي تحدث في مراحل تكوين الجنين، والآخر هو التغيّرات التي تحدث في الأرض عند خروج النبات. والخطاب القرآني يعمّ جميع الناس بنوره: «يَا أيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ

مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ» «1». كل ذلك من أجل أن نوضّح لكم حقيقة قدرتنا على القيام بأيّ عمل «لِّنُبَيّنَ لَكُمْ». فتبقى الأجنّة في الأرحام إلى مدّة معلومة نحن نحدّدها لتمرّ بمراحل تكاملها، ونسقط ما نريد منها فنخرجها من الأرحام في وسط الطريق قبل أن تكمل «وَنُقِرُّ فِى الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى».

ثم تبدأ الأجنّة مرحلة تطور جديدة، لنخرجكم أطفالًا من أرحام امهاتكم، «ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا» وبهذا تنتهي مرحلة حياتكم المحدّدة في بطون امهاتكم. فتضعون أقدامكم في محيط أوسع مملوء بالنور والصفاء، وإمكانات واسعة جدّاً، إلّاأنّ تكاملكم يستمر في قطع المسافات بسرعة لتبلغوا الهدف، ألا وهو الرشد والكمال الجسمي والعقلي، «ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ». وهنا يتبدل الجهل إلى علم، والضعف إلى قوة، والتبعية إلى الاستقلال، لكن مسيرة حياتكم تطوى وتستمر فبعضكم يودّع الحياة بينما يستمر آخرون حتى المرحلة الأخيرة من الحياة، أي مرحلة الشيخوخة بعد تكاملهم: «وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ».

أجل، فالمرء يصل إلى مرحلة لا يتذكر فيها شيئاً، حيث يسيطر عليه النسيان، ويصبح في وضع وكأنّه طفل «لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيًا». وهذا الضعف والخمول دليل على بلوغ المرء مرحلة إنتقالية جديدة كما نجد ضعف التحام الثمرة بالشجرة حين تبلغ مرحلة النضج مما يدل على وصولها إلى مرحلة الإنفصال.

ثم تتناول الآية بيان الدليل الثاني أي حياة النباتات، فتبيّن ما يلي: انظر إلى الأرض في فصل الشتاء فتجدها جافّة وميتة، فإذا سقط المطر وحلّ الربيع، دبّت الحياة والحركة فيها ونبتت أنواع النباتات فيها ونمت «وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» «2».

______________________________

(1) «المضغة»: مشتقة

من «المضغ» وتعني مقداراً من اللحم يمكن للإنسان مضغه في لقمة واحدة، وهذا تشبيه رائع للجنين في المرحلة التي تعقب مرحلة العلقة.

(2) «الهامدة»: تعني في الأصل النّار التي أطفئت، ويطلق على الأرض التي جفّت نباتاتها وأصبحت دون حركة (مفردات الراغب الاصفهاني). والبعض الآخر قال: إنّ كلمة «هامدة» تطلق على الحد الفاصل بين الموت والحياة (تفسير في ظلال القرآن).

«إهتزّت»: مشتقة من «الهزّ» وتعني تحرّكت بشدة.

«ربت»: مشتقة من «الربو» وتعني الزيادة والنمو، كما أنّ كلمة «ربا» مشتقة أيضاً من «الربو».

«بهيج»: تعني الجميل الساحر السارّ.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 287

الآيتان اللاحقتان تشرحان ما توصّلنا إليه، وذلك بإستعراض خمس ملاحظات:

1- إنّ ما إستعرضته الآيات الخاصة بالمراحل التي تسبق مراحل الحياة للإنسان وعالم النبات، من أجل أن تعلموا أنّ اللَّه تعالى حقّ «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ». وبما أنّه هو الحق، فالنظام الذي خلقه حق أيضاً، لهذا لا يمكن أن يكون هذا الخلق دون هدف.

وبما أنّ هذه الحياة ليست عبثاً، وأنّ لها هدفاً، وأنّنا لا نصل إلى تحقيق ذلك الهدف في حياتنا، إذن نعلم من ذلك وجود المعاد والبعث حتماً.

2- إنّ هذا النظام الذي يسيطر على عالم الحياة يقول لنا «وَأَنَّهُ يُحْىِ الْمَوْتَى . إنّ الذي يلبس الأرض لباس الحياة، ويغيّر النطفة التافهة إلى إنسان كامل، ويمنح الحياة للأرض الميتة، لقادر على أن يمنح الحياة للموتى.

3- الهدف الآخر هو أن نعلم «وَأَنَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ» ولا يستحيل على قدرته شي ء.

هل يمكن لأحد تحويل الأرض الميتة إلى نطفة، ويطوّر هذه النطفة التافهة في مراحل الحياة، أليس القادر على القيام بهذه الأعمال بقادر على أن يحيي الإنسان بعد موته؟!

4- إنّ كل هذا لتعلموا أنّ ساعة نهاية هذا العالم وبداية عالم آخر، ستحلّ بلا

شك فيها «وَأَنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لَّارَيْبَ فِيهَا».

5- ثم إنّ كل هذا مقدمة لنتيجة أخيرة هي «وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِى الْقُبُورِ».

وعلي هذا الأساس أنّ البعث ليس ممكن فحسب، بل إنّه سيقع حتماً.

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لَا هُدًى وَ لَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)

الجدال بالباطل مرّة اخرى: تتحدث هذه الآيات أيضاً عمّن يجادلون في المبدأ والمعاد

مختصر الامثل، ج 3، ص: 288

جدالًا خاوياً لا أساس له، في البداية يقول القرآن المجيد: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجدِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتبٍ مُّنِيرٍ». وعبارة «وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجدِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ» هي ذاتها التي ذكرت في آية سابقة، والآية السابقة الذكر دالة على وضع الأتباع الضالين الغافلين، في وقت تكون فيه هذه الآية دالة على قادة هذه المجموعة الضالة.

إنّ «العلم» إشارة إلى الاستدلال العقلي؛ و «الهدى» إشارة إلى إرشاد القادة الربانيين؛ و «الكتاب المنير» إشارة إلى الكتب السماوية، أي أنّها تعني الأدلة الثلاثة المعروفة «الكتاب» و «السنّة» و «الدليل العقلي».

ثم يتطرّق القرآن المجيد في جملة قصيرة عميقة المعنى إلى أحد أسباب ضلال هؤلاء القادة، فيقول: «ثَانِىَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ». إنّهم يريدون أن يضلّوا الناس عن سبيل اللَّه بغرورهم وعدم إهتمامهم بكلام اللَّه وبالأدلّة العقليّة الواضحة.

«ثاني»: مشتقة من «ثني» بمعنى التواء؛ و «عطف»: تعني «جانب» فالجملة تعني ثني الجانب، أي الإعراض عن الشي ء وعدم الإهتمام به.

ويعقّب القرآن ذلك ببيان عقابهم الشديد في الدنيا والآخرة بهذه الصورة: «لَهُ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ

الْقِيمَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ».

ونقول له: «ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلمٍ لّلْعَبِيدِ». لا يعاقب اللَّه أحداً بلا ذنب، ولا يضاعف عقاب أحد دون سبب، فهو العدل المطلق سبحانه «1».

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَ مَا لَا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَ لَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)

______________________________

(1) «ظلّام»: صيغة مبالغة تعني كثير الظلم. وطبيعي أنّ اللَّه لا يظلم أبداً لا كثيراً ولا قليلًا، ويمكن أن يكون استخدام هذا التعبير هنا إشارة إلى أنّ العقاب دون مبرّر من قبل اللَّه تعالى- جلّ عن ذلك وعلا علوّاً كبيراً- مصداق ظلم كبير.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 289

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: نزلت هذه الآية «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ» في جماعة كانوا يقدمون على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله المدينة. فكان أحدهم إذا صحّ جسمه ونتجت فرسه وولدت إمرأته غلاماً، وكثرت ماشيته، رضي به، واطمأن إليه، وإن أصابه وجع في المدينة، وولدت امرأته جارية، قال: ما أصبت في هذا الدين إلّاشرّاً.

التّفسير

الواقف على حافّة وادي الكفر: تحدثت الآيات السابقة عن مجموعتين: الأتباع الضالين، والقادة المضلين، أمّا هذه الآيات، فتتحدث عن مجموعة ثالثة هم ضعاف الإيمان، قال القرآن المجيد عن هذه المجموعة: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ». أي إنّ بعض الناس يعبد اللَّه بلقلقة لسان،

وإنّ إيمانه ضعيف جدّاً، ولم يدخل الإيمان إلى قلبه.

ثم تناول القرآن الكريم عدم ثبات الإيمان لدى هؤلاء الأشخاص «فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ». إنّهم يطمئنون إذا ضحكت لهم الدنيا وغمرتهم بخيراتها، ويعتبرون ذلك دليلًا على أحقّية الإسلام، إلّاأنّهم يتغيّرون ويتّجهون إلى الكفر إن امتحنوا بالمشاكل والقلق والفقر، فالدين والإيمان لديهم وسيلة للحصول على ما يبتغون في هذه الدنيا، فإن تمّ ما يبغونه كان الدين حقّاً، وإلّا فلا.

ويضيف القرآن المجيد في الختام: «خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةَ» و «ذلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ». مؤكّداً أنّ أفدح الضرر وأفظع الخسران، هو أن يفقد الإنسان دينه ودنياه.

وتشير الآية التالية إلى إعتقاد هذه الفئة الخليط بالشرك، خاصة بعد الإنحراف عن صراط التوحيد والإيمان باللَّه، فتقول: «يَدْعُوا مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَايَضُرُّهُ وَمَا لَايَنفَعُهُ». أي إذا كان هذا الإنسان يسعى إلى تحقيق مصالحه المادية والإبتعاد عن الخسائر ويرى صحّة الدين في إقبال الدنيا عليه، وبطلانه في إدبارها عنه، فلماذا يتوجّه إلى أصنام لا يؤمّل منها خير، ولا يخاف منها ضرر، فهي أشياء لا فائدة فيها، ولا أثر لها في مصير البشر. أجل، «ذلِكَ هُوَ الضَّللُ الْبَعِيدُ». إنّ هؤلاء ليبتعدون عن الصراط المستقيم بُعداً حتى لا ترجى عودتهم إلى الحقّ إلّارجاءً ضعيفاً جدّاً.

ويوسّع القرآن الكريم هذا المعنى فيقول: «يَدْعُوا لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ». لأنّ هذا المعبود المختلق ينزل بفكرهم إلى الحضيض في هذه الدنيا، ويدفعهم نحو الخرافات والجهل، ويدعهم في الآخرة في نار جهنم.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 290

وتضيف الآية في الختام: «لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ». فما أسوأه ناصراً ومعيناً، وما أسوأه مؤنساً ومعاشراً.

وفي ختام الآية المباركة نلحظ مقارنة بين الخير والشرّ كما هو دأب القرآن الكريم لتتّضح

النتائج بشكل أكبر، فتقول الآية: «إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهرُ». فعاقبتهم معلومة ومنهج تفكيرهم وسلوكهم واضح فمولاهم هو اللَّه تعالى، ورفاقهم وجلساؤهم في الآخرة هم الأنبياء والصالحون والملائكة، وأنّ اللَّه سبحانه يُثيب المؤمنين العاملين للصالحات، جنات تجري من تحتها الأنهار، لينعموا بالسعادة والسرور جزاء إستقامتهم على الحق وإستجابتهم له في الحياة الدنيا «إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ». وثوابهم يسير عليه- جلّ وعلا- يُسْرَ عقاب الذين ظلموا أنفسهم بإيثار الباطل على الحق، وبعبادتهم الأصنام من دون اللَّه سبحانه.

مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَ كَذلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَ أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هَادُوا وَ الصَّابِئِينَ وَ النَّصَارَى وَ الْمَجُوسَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (17)

البعث نهاية جميع الخلافات: بما أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن ضعفاء الإيمان، فإنّ الآيات مورد البحث ترسم لنا صورة اخرى عن هؤلاء فتقول: «مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ». هذه الآية تركّز على ملاحظة نفسيّة تخصّ الأشخاص الحادّي المزاج، والضعيفي الإيمان الذين يصابون بالهلع ويرتكبون أعمالًا جنونية كلما بلغت امورهم طريقاً مسدوداً في الظاهر.

وأشارت الآية التالية إلى خلاصة الآيات السابقة، فقالت: «وَكَذلِكَ أَنزَلْنهُ ءَايتٍ بَيّنتٍ».

لقد أوضحت الآيات السابقة أدلّة المعاد والبعث، كالمراحل التي يمرّ بها الجنين الإنساني

مختصر الامثل، ج 3، ص: 291

ونموّ النباتات وإحياء الأرض بعد موتها، ولكن هذه الأدلّة الواضحة والبراهين

الدامغة لا تكفي لتقبّل الحق، بل لابد من إستعداد ذاتي لذلك. ولهذا يقول القرآن المجيد في نهاية الآية:

«وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يُرِيدُ».

وأشارت آخر الآية هنا إلى ستّ فئات، إحداها مسلمة مؤمنة، وخمس منها غير مسلمة:

«إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصبِئِينَ وَالنَّصرَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ شَهِيدٌ».

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ وَ الْجِبَالُ وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُّ وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَ مَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)

الوجود كلّه يسجد للَّه: بما أنّ الحديث في الآيات السابقة كان عن المبدأ والمعاد، فإنّ الآية- موضع البحث- بطرحها مسألة التوحيد، قد أكملت دائرة المبدأ والمعاد، وتخاطب النبي صلى الله عليه و آله فتقول: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِى السَّموَاتِ وَمَن فِى الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ». ولا يقتصر الحال على هذه المخلوقات، بل إنّ الكثير من الناس يشاركون عالم الموجود بالسجود للَّه تعالى سوى بعض الكفار الذين يتحركون من موقع العناد والجحود: «وَكَثِيرٌ مّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ». ثم تضيف: وهؤلاء ليست لهم قيمة عند اللَّه تعالى، ومن كان كذلك فهو مهان: «وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ». أي إنّ من يهينه اللَّه لا يكرمه أحد، وليست له سعادة ولا أجر، حقّاً «إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ». فهو يكرم المؤمنين به، ويذلّ المنكرين له.

إنّ للموجودات مع ملاحظة ما ورد في الآية- موضع البحث- شكلين من السجود:

«سجود تكويني» و «سجود تشريعي».

فالسجود التكويني هو الخضوع والتسليم لإرادة

اللَّه ونواميس الخلق والنظام المسيطر على هذا العالم دون قيد أو شرط، وهو يشمل ذرّات المخلوقات كلها، حتى أنّه يشمل خلايا أدمغة الفراعنة والمنكرين العنودين وذرّات أجسامهم فالجميع يسجدون للَّه تعالى تكويناً.

وحسبما يقوله عدد من الباحثين، فإنّ ذرّات العالم كلها لها نوع من الإدراك والشعور، ولذا يسبّحون اللَّه ويحمدونه ويسجدون له ويصلّون له بلسانهم الخاص (شرحنا ذلك في

مختصر الامثل، ج 3، ص: 292

تفسير الآية 44 من سورة الإسراء) وإذا رفضنا هذا النوع من الإدراك والشعور، فلا مجال لإنكار تسليم الكائنات جميعاً للقوانين الحاكمة على نظام الوجود كله.

أمّا «السجود التشريعي» فهو غاية الخضوع من العقلاء المدركين العارفين للَّه سبحانه.

هذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَ الْجُلُودُ (20) وَ لَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَ هُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَ هُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: نزلت الآية «هذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِى رَبّهِمْ» في ستّة نفر من المؤمنين والكفار، تبارزوا يوم بدر وهم: حمزة بن عبد المطلب قتل عتبة بن ربيعة وعلى بن أبي طالب عليه السلام قتل الوليد بن عقبة، وعبيدة بن الحرث بن عبد المطلب قتل شيبة بن ربيعة.

التّفسير

خصمان متقابلان: أشارت الآية السابقة إلى المؤمنين وطوائف مختلفة من الكفار، وحدّدتهم بستّ فئات. أمّا هنا فتقول: «هذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِى رَبّهِمْ».

ثم تبيّن الآية أربعة أنواع

من عقاب الكافرين المنكرين للَّه تعالى بوعي منهم، والعقاب الأوّل حول لباسهم، فتقول الآية: «فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نَّارٍ».

ويمكن أن تكون هذه العبارة إشارة إلى لباسهم الذي اعدّ لهم من قطع من نار، أو كناية عن إحاطة نار جهنم بهم من كل جانب.

ثم: «يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ». أي يصبّ على رؤوسهم سائل حارق هو حميم

مختصر الامثل، ج 3، ص: 293

النار، وهذا الماء الحارق الفوّار ينفذ إلى داخل أبدانهم ليذيب باطنها وظاهرها «يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ» «1».

وثالث نوع من العقاب هو: «وَلَهُم مَّقمِعُ مِن حَدِيدٍ» «2». أي اعدّت لهم أسواط من الحديد المحرق.

والرابع: «كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ». أي كلّما أرادوا الخروج من جهنم والخلاص من آلامها وهمومها اعيدوا إليها، وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق.

وأوضحت الآيات التالية وضع المؤمنين الصالحين، مستخدمة اسلوب المقارنة، لتكشف بها عن وضع هاتين المجموعتين، وهنا تستعرض هذه الآيات خمسة أنواع من المكافئات للمؤمنين: «إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهرُ».

فخلافاً للمجموعة الاولى الذين يتقلّبون في نار جهنم، نجد أنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات يتمتّعون بنعيم رياض الجنة على ضفاف الأنهر وهذه هي المكافأة الاولى، وأمّا لباسهم وزينتهم فتقول الآية: و «يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبِ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ» «3».

وهاتان مكافأتان يمنّ اللَّه بهما كذلك على عباده العالمين في الجنة، يهبهم أفخر الملابس التي حرموا منها في الدنيا، ويحلّيهم بزينة الأساور التي منعوا عنها في الحياة الاولى، لأنّها كانت تؤدّي إلى إصابتهم بالغرور والغفلة، وتكون سبباً لحرمان الآخرين وفقرهم، أمّا في الجنّة فينتهي هذا المنع ويباح للمؤمنين لباس الحرير والحلي وغيرها.

وأخيراً الهبة الرابعة والخامسة

التي يهبها اللَّه للمؤمنين الصالحين ذات سمة روحانية «وَهُدُوا إِلَى الطَّيّبِ مِنَ الْقَوْلِ» حديث ينمي الروح. وألفاظ تثير حيوية الإنسان، وكلمات ملؤها النقاء والصفاء التي تبلغ بالروح درجة الكمال وتملأ القلب بهجةً وسروراً، «وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ» «4». هكذا يهدون إلى طريق اللَّه الحميد، الجدير بالثناء، طريق معرفة اللَّه

______________________________

(1) «يصهر»: مشتقة من «صهر» على وزن «قهر» وتعني تذويب الشحم؛ أمّا «الصِهر» على وزن «فكر» فتعني النسيب.

(2) «المقامع»: جمع «مقمع» على وزن «منبر» وتعني السوط أو العمود الحديدي يضرب به المذنب عقاباً له.

(3) «أساور»: جمع «أسورة» على وزن «مشورة» وهي بدورها جمع لكلمة «سوار» على وزن «كتاب» وتعني المعضد.

(4) «الحميد»: تعني المحمود، وتطلق على من يستحقّ الثناء، وهنا يقصد بها اللَّه تعالى، وعلى هذا فإنّ «الصراطالحميد» يعني السبيل إلى مقام مقرّب من اللَّه تعالى.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 294

والتقرب المعنوي والروحي إليه، سبيل العشق والعرفان. حقّاً إنّ اللَّه يهدي المؤمنين إلى هذا الطريق الذي ينتهي إلى أعلى درجات اللذة الروحية.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَ الْبَادِ وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)

الذين يصدّون عن بيت اللَّه الحرام: تحدثت الآيات السابقة عن عامة الكفار، وهذه الآية تشير إلى مجموعة خاصّة منهم باءت بمخالفات وذنوب عظيمة، ذات علاقة بالمسجد الحرام ومراسم الحج العظيم. تبدأ هذه الآية ب «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ».

وكذلك يصدّون ويمنعون المؤمنين عن مركز التوحيد العظيم: «وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِى جَعَلْنهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ». أي سواءً المقيمون فيه والذين يقصدونه من مكان بعيد. «وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادِ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ». أي كل من

أراد الانحراف في هذه الأرض المقدسة عن الحق ومارس الظلم والجور أذقناه عذاباً أليماً.

وهذه الفئة من الكفار ترتكب ثلاث جرائم كبيرة، إضافةً إلى إنكارها الحق، وجرائمها هي:

1- صدّ الناس عن سبيل اللَّه والإيمان به والطاعة له.

2- صدّهم عن حج بيت اللَّه الحرام، وتوهّم أنّ لهم إمتيازاً عن الآخرين.

3- ممارستهم للظلم وإرتكابهم الإثم في هذه الأرض المقدسة، واللَّه يعاقب هؤلاء بعذاب أليم.

وَ إِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْقَائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَ عَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَ أَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 295

الدعوة العامة للحج: تناولت الآية السابقة قضيّة المسجد الحرام وحجّاج بيت اللَّه، أمّا هذه الآيات فتستعرض بناء الكعبة على يد إبراهيم الخليل عليه السلام، ووجوب الحج وفلسفته، وبعض أحكام هذه العبادة الجليلة. إذ بدأت بقصة تجديد بناء الكعبة: «وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ». أي تذكّر كيف أعددنا لإبراهيم مكان الكعبة ليقوم ببنائها.

«بوّأ»: مشتقة من بواء، أي الأرض المسطّحة، ثم أطلقت على إعداد المكان مطلقاً.

وتقصد هذه الآية أنّ اللَّه هدى إبراهيم عليه السلام إلى مكان الكعبة بعد أن هدّمت بطوفان نوح وخفيت معالمها، إذ حدثت عاصفة فأزالت التراب وكشفت عن اسس البيت، أو بعث اللَّه سحابة ظلّلت مكان البيت، أو بأيّ اسلوب آخر كشف اللَّه لإبراهيم عليه السلام أسس الكعبة، فقام هو وإبنه إسماعيل عليهما السلام بتجديد بناء بيت اللَّه الحرام.

وتضيف الآية الكريمة أنّه عندما تمّ بناء البيت خوطب إبراهيم عليه السلام:

«أَن لَّاتُشْرِكْ بِى شَيًا وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ».

فمهمّة إبراهيم عليه السلام كانت تطهير البيت وما حوله من أيّ نجس ظاهر أو باطن، ومن أيّ صنم أو مظهر للشرك، من أجل أن يوجّه عباد الرحمن قلوبهم وأبصارهم إليه تعالى وحده في هذا المكان الطاهر، وليقوموا بأهمّ العبادات في هذه البقعة المباركة، ألا وهو الطواف والصلاة في محيط إيمانيّ لا يخالطه شرك.

وبعد إعداد البيت للعبادة، أمر اللَّه تعالى إبراهيم عليه السلام: «وَأَذّن فِى النَّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَمِيقٍ».

«أذّن»: مشتقة من «الأذان» أي «الإعلان»؛ و «رجال»: جمع «راجل» أي «ماشي»؛ و «الضامر»: تعني الحيوان الضعيف؛ و «الفجّ»: في الأصل تعني المسافة بين جبلين، ثم أطلقت على الطرق الواسعة؛ و «العميق»: تعني هنا «البعيد».

في تفسير علي بن إبراهيم القمي: لمّا فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت أمره اللَّه أن يؤذن في الناس بالحج فقال: «يا ربّ وما يبلغ صوتي». فقال اللَّه: «أذن عليك الأذان وعلي البلاغ».

وارتفع على المقام وهو يومئذ ملصق بالبيت فارتفع المقام حتى كان أطول من الجبال فنادى وأدخل اصبعيه في اذنيه وأقبل بوجهه شرقاً وغرباً يقول: أيّها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا ربّكم، فأجابوه من تحت البحور السبعة ومن بين المشرق والمغرب إلى منقطع التراب من أطراف الأرض كلها ومن أصلاب الرجال وأرحام النساء بالتلبية: لبيك

مختصر الامثل، ج 3، ص: 296

اللهم لبيك أوَلا ترونهم يأتون يلبون فمن حج من يومئذ إلى يوم القيامة فهم ممن استجاب للَّه وذلك قوله «فِيهِ ءَايَاتٌ بَيّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرهِيمَ» يعني نداء إبراهيم على المقام بالحج. وتناولت الآية التالية فلسفة الحج فقالت: «لِّيَشْهَدُوا مَنفِعَ لَهُمْ». أي إنّ على الناس الحج

إلى هذه الأرض المقدسة، ليروا منافع لهم بام أعينهم.

إنّ كلمة «المنافع» تشمل جميع المنافع والبركات المعنوية والمكاسب المادية، وكل عائد فردي واجتماعي، ومعطيات سياسية واقتصادية وأخلاقية، فما أحرى بالمسلمين أن يتوجّهوا من أنحاء العالم إلى مكة ليشهدوا هذه المنافع.

ثم تضيف الآية: «وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مّن بَهِيمَةِ الْأَنْعمِ». أي أنّه على المسلمين أن يحجّوا إلى البيت ويقدّموا القرابين من المواشي التي رزقهم اللَّه، وأن يذكروا اسم اللَّه عليها حين الذبح في أيّام معينة تبدأ من العاشر من ذي الحجة وتنتهي بالثالث عشر منه.

وهذا الذكر إشارة إلى توجّه الحاج إلى اللَّه كل التوجه عند تقديم الاضحية، وهمّه كسب رضى اللَّه وقبوله القربان، كما أنّ الاستفادة من لحم الاضحية تقع ضمن هذا التوجه.

ويعتبر تقديم الأضاحي رمزاً لإعلان الحاج إستعداده للتضحية بنفسه في سبيل اللَّه، على نحو ما ذكر من قصة إبراهيم عليه السلام ومحاولة التضحية بإبنه إسماعيل عليه السلام. إنّ الحجاج بعملهم هذا يعلنون إستعدادهم للإيثار والتضحية في سبيل اللَّه حتى بأنفسهم.

وعلى كل حال فإنّ القرآن بهذا الكلام ينفي اسلوب المشركين الذين كانوا يذكرون أسماء الأصنام التي يعبدونها على أضاحيهم، ليحيلوا هذه المراسم التوحيدية إلى شرك باللَّه، وجاء في ختام الآية: «فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ».

تتابع هذه الآيات البحث السابق عن مناسك الحج مشيرةً إلى جانب آخر من هذه المناسك، فتقول أوّلًا: «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ». أي ليطهّروا أجسامهم من

مختصر الامثل، ج 3، ص: 297

الأوساخ والتلوّث، ثم ليوفوا ما عليهم من نذور. «وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ». أي يطوفوا بذلك البيت الذي صانه اللَّه عن المصائب والكوارث وحرّره.

«تفث»: تعني القذارة وما يلتصق بالجسم وزوائده كالأظافر والشعر. بتعبير آخر: تشير هذه العبارة إلى برنامج

«التقصير» الذي يعدّ من مناسك الحج.

إنّما سمّيت الكعبة بالبيت العتيق، و «العتيق»: مشتقة من «العتق»، أي التحرّر من قيود العبودية، وربّما كان ذلك لأنّ الكعبة تحرّرت من قيود ملكية عباد اللَّه، ولم يكن لها مالك إلّا اللَّه، كما حرّرت من قيد سيطرة الجبابرة كأبرهة.

ومن معاني «العتيق» أيضاً الشي ء الكريم الثمين، وهذا المعنى يتجسّد في الكعبة بوضوح.

ومن المعاني الاخرى للعتيق «القديم»، فلا مانع من إطلاق العتيق على بيت اللَّه بعد ملاحظة ما تتضمّنه هذه الكلمة من معان.

والمراد من «الطواف» هنا طواف النساء، ففي حديث عن الإمام الصادق عليه السلام في قول اللَّه عزّ وجل: «وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ» قال: «طواف النساء» «1».

وأشارت الآية الأخيرة إلى خلاصة ما بحثته الآيات السالفة الذكر، حيث تبدأ بكلمة «ذلِكَ» التي لها جملة محذوفة تقديرها «كذلك أمر الحج والمناسك». ثم تضيف تأكيداً لأهميّة الواجبات التي شرحت: «وَمَن يُعَظّمْ حُرُمتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبّهِ».

والمقصود هنا ب «الحرمات»- طبعاً- أعمال ومناسك الحجّ، ويمكن أن يضاف إليها إحترام الكعبة خاصة والحرم المكّي عامة.

ثم تشير هذه الآية وتناسباً مع أحكام الإحرام إلى حلّية المواشي، حيث تقول:

«وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعمُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ».

وفي ختام هذه الآية ورد أمران يخصّان مراسم الحج ومكافحة العادات الجاهلية:

الأوّل يقول: «فَاجْتَنِبُوا الرّجْسَ مِنَ الْأَوْثنِ». و «الأوثان»: جمع «وثن» على وزن «كفن» وتعني الأحجار التي كانت تُعبد زمن الجاهلية، وهنا جاءت كلمة الأوثان إيضاحاً لكلمة «رجس» التي ذكرت في الآية، حيث تقول: «اجْتَنِبُوا الرّجْسَ». ثم تليها عبارة «مِنَ الْأَوْثنِ». أي الرجس هو ذاته الأوثان.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 9/ 390.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 298

والأمر الثاني هو: «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ». أي الكلام الباطل الذي لا أساس له من الصحّة.

إنّ هذه الآية إشارة

إلى كيفيّة تلبية المشركين في مراسم الحج في زمن الجاهلية، لأنّهم يلبّون بشكل يتضمّن الشرك بعينه، ويبعدونه عن صورته التوحيدية.

ومع هذا فإنّ إهتمام الآية المذكورة بأعمال المشركين، لا يمنع من تعميمها على بطلان أيّة عبادة للأصنام بأيّة صورة كانت، وإجتناب أيّ قول باطل مهما كانت صورته.

حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)

عقّبت الآيات هنا المسألة التي أكّدتها آخر الآيات السابقة، وهي مسألة التوحيد، وإجتناب أيّ صنم وعبادة الأوثان، حيث تقول: «حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ». أي أقيموا مراسم الحج والتلبية في حالة تخلصون فيها النية للَّه وحده لا يخالطها أيّ شرك أبداً.

«حنفاء»: جمع «حنيف» أي الذي إستقام وإبتعد عن الضلال والانحراف. أو بتعبير آخر:

هو الذي سار على الصراط المستقيم.

إنّ الآية السابقة اعتبرت الإخلاص وقصد القربة إلى اللَّه محرّكاً أساسياً في الحج والعبادات الاخرى، حيث ذكرت ذلك بشكل عام، فالإخلاص أصل العبادة، والمراد به الإخلاص الذي لا يخالطه أيّ نوع من الشرك وعبادة غير اللَّه.

ثم ترسم الآية- موضع البحث- صورة حيّة ناطقة عن حال المشركين وسقوطهم وسوء طالعهم، حيث تقول: «وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ» «1».

«السماء»: هنا كناية عن التوحيد؛ و «الشرك» هو السبب في السقوط من السماء هذه.

والذي يسقط من السماء يفقد كل قدرة على اتّخاذ قرار ما، ويبتلى بفقدانه هذا المكان

______________________________

(1) «تخطفه»: مشتقة من «الخطف» على وزن فعل، بمعنى الإمساك بالشي ء أثناء تحرّكه بسرعة؛

و «سحيق»: تعني «البعيد» وتطلق على النخلة العالية كلمة «سحوق».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 299

السامي بأهوائه النفسية المعاندة وتزداد سرعة سقوطه لحظة بعد اخرى نحو العدم، ويصبح نسياً منسياً.

وأوجزت الآية التالية مسائل الحج وتعظيم شعائر اللَّه ثانية فتقول «ذلِكَ» أي إنّ الموضوع كما قلناه، وتضيف: «وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ».

«الشعائر»: جمع «شعيرة» بمعنى العلامة والدليل، وعلى هذا فالشعائر تعني علامات اللَّه وأدلّته، وهي تضمّ عناوين لأحكامه وتعاليمه العامة، وأوّل ما يلفت النظر في هذه المراسم مناسك الحج التي تذكّرنا باللَّه سبحانه وتعالى.

ويمكن القول: إنّ شعائر اللَّه تشمل جميع الأعمال الدينية التي تذكّر الإنسان باللَّه سبحانه وتعالى وعظمته، وإنّ إقامة هذه الأعمال دليل على تقوى القلوب.

ويستدلّ من بعض الأحاديث أنّ مجموعة من المسلمين كانوا يعتقدون بعدم جواز الركوب على الاضحية (الناقة أو ما شابهها) حين جلبها من موطنهم إلى منى للذبح، كما يرون عدم جواز حلبها أو الإستفادة منها بأيّ شكل كان، ولكن القرآن نفى هذه العقيدة الخرافية حيث قال: «لَكُمْ فِيهَا مَنفِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى».

وتذكر الآية في ختامها نهاية مسار الاضحية: «ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ».

وعلى هذا يمكن الاستفادة من الانعام المخصّصة للُاضحية ما دامت في الطريق إلى موضع الذبح، وبعد الوصول يجرى ما يلزم.

وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَ بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ الصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَ الْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)

بشّر المخبتين: يمكن أن يتساءل الناس عن الآيات السابقة. ومنها التعليمات الواردة بخصوص الاضحية، كيف شرّع الإسلام تقديم القرابين لكسب رضى اللَّه؟ وهل اللَّه سبحانه بحاجة إلى قربان؟

وهل كان ذلك متّبعاً في الأديان الاخرى، أو يخصّ المشركين وحدهم؟

تقول أوّل آية- من الآيات موضع البحث- لإيضاح هذا الموضوع أنّ هذا الأمر لا يختص بكم، بل إنّ كل امّة لها قرابين: «وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مّن بَهِيمَةِ الْأَنْعمِ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 300

مختصر الامثل ج 3 349

ذبح حيوان باسم اللَّه ولكسب رضاه يبيّن إستعداد الإنسان للتضحية بنفسه في سبيل اللَّه، والاستفادة من لحم الاضحية وتوزيعه على الفقراء أمر منطقي.

ولذا يذكر القرآن في نهاية هذه الآية: «فَإِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ». وبما أنّه إله واحد «فَلَهُ أَسْلِمُوا». وبشّر الذين يتواضعون لأحكامه الربانية و «بَشّرِ الْمُخْبِتِينَ» «1».

ثم يوضّح القرآن المجيد في الآية التالية صفات المخبتين (المتواضعين) وهي أربع: إثنتان منها ذات طابع معنوي، وإثنتان ذات طابع جسماني.

يقول في الأوّل: «الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ». لا يخافون في غضبه دون سبب ولا يشكّون في رحمته، بل إنّ خوفهم ناتج عن عظمة المسؤوليات التي بذمّتهم، واحتمال تقصيرهم في أدائها، وليقينهم بجلال اللَّه سبحانه يقفون بين يديه بكل خشوع.

والثاني: «وَالصبِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ». فهؤلاء يصبرون على ما يكابدونه في حياتهم من مصائب وآلام، ولا يكفرون بأنعم اللَّه أبداً، وبإيجاز نقول: يستقيمون وينتصرون.

والثالث والرابع: «وَالْمُقِيمِى الصَّلَوةِ وَمِمَّا رَزَقْنهُمْ يُنفِقُونَ». فمن جهة توطّدت علاقتهم ببارى ء الخلق وإزدادوا تقرّباً إليه، ومن جهة اخرى إشتدّ إرتباطهم بالخلق بالإنفاق.

وَ الْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَ أَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَ الْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَ لَا دِمَاؤُهَا وَ لكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ

وَ بَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)

لماذا الاضحية؟ عاد الحديث عن مراسم الحج وشعائره الإلهية والاضحية ثانية، ليقول أوّلًا: «وَالْبُدْنَ جَعَلْنهَا لَكُم مّن شَعَائِرِ اللَّهِ». إنّ «البُدن»: وهي الإبل البدينة تعلّقت بكم من جهة، ومن جهة اخرى هي من شعائر اللَّه وعلائمه في هذه العبادة العظيمة، فالاضحية في

______________________________

(1) «المخبتين»: مشتقة من «الإخبات» وأصلها «خبت» وهي الأرض المستوية الواسعة التي يمشي الإنسان فيها بكلّ سهولة، كما جاءت بمعنى الإطمئنان والخضوع، لأنّ السير في هذه الأرض يلازمه الإطمئنان، ولهذا تكون خاضعة مستسلمة للسائرين عليها.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 301

الحج من المظاهر الجليّة لهذه العبادة التي أشرنا إلى فلسفتها من قبل.

ثم تضيف الآية: «لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ» فمن جهة تستفيدون من لحومها وتطعمون الآخرين، ومن جهة اخرى تستفيدون من آثارها المعنوية بإيثاركم وسماحكم وعبادتكم اللَّه، وبهذا تتقرّبون إليه سبحانه وتعالى.

ثم تبيّن الآية كيفية ذبح الحيوان: «فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ». أي: اذكروا اسم اللَّه حين ذبح الحيوان وفي حالة وقوفه مع نظائره في صفوف.

وليس لذكر اللَّه حين ذبح الحيوان أو نحر الناقة صيغة خاصة، بل يكفي ذكر اسم من أسماء اللَّه عليها، كما يبدو من ظاهر الآية.

«صوافّ»: جمع «صافّة» بمعنى الحيوان الواقف في صفّ، وكما ورد في الأحاديث فإنّ القصد من ذلك عقل رجلي الناقة الأماميّتين معاً حين وقوفها من أجل منعها من الحركة الواسعة حين النحر، وطبيعي أنّ أرجل الناقة تضعف حين تنزف مقداراً من الدم، فتتمدّد على الأرض، ويقول القرآن المجيد هنا: «فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ». أي عندما تستقر ويهدأ جانبها (كناية عن لفظ الأنفاس الأخيرة) فكلوا منها وأطعموا الفقير القانع والسائل

المعتر.

الفرق بين «القانع» و «المعتر» هو أنّ القانع يطلق على من يقنع بما يُعطى وتبدو عليه علائم الرضى والإرتياح ولا يعترض أو يغضب، أمّا المعترّ فهو الفقير السائل الذي يطالبك بالمعونة ولا يقنع بما تعطيه، بل يحتجّ أيضاً.

إنّ عبارة «كُلُوا مِنْهَا» توجب أن يأكل الحجّاج من أضاحيهم، ولعلّها ترمي إلى مراعاة المساواة بين الحجّاج والفقراء.

وتنتهي الآية بالقول: «كَذلِكَ سَخَّرْنهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ». وإنّه لمن العجب أن يستسلم حيوان عظيم الجثّة هائل القوّة لطفل يعقل يديه معاً ثم ينحره.

تجيب الآية التالية عن هذه الأسئلة: «لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا». إنّ اللَّه ليس بحاجة إلى لحوم الأضاحي، فما هو بجسم، ولا هو بحاجة إلى شي ء، وإنّما هو موجد كل وجود وموجود. إنّ الغاية من الاضحية كما تقول الآية: «وَلكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ». فالهدف هو أن يجتاز المسلمون مراحل التقوى ليبلغوا الكمال ويتقربوا إلى اللَّه.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 302

إنّ جميع العبادات دروس في التربية الإسلامية، فتقديم الاضحية- مثلًا- فيه درس الإيثار والتضحية والسماح والاستعداد للشهادة في سبيل اللَّه، وفيه درس مساعدة الفقراء والمحتاجين. وعبارة «لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا» مع أنّ دماءها غير قابلة للاستفادة، ربّما تشير إلى الأعمال القبيحة التي كان يمارسها أعراب الجاهلية، الذين كانوا يلطّخون أصنامهم وأحياناً الكعبة بدماء هذه القرابين.

وقد اتّبعهم في ممارسة هذا العمل الخرافي مسلمون جاهلون، حتى نهتهم هذه الآية المباركة.

ثم تشير الآية ثانيةً إلى نعمة تسخير الحيوان قائلة: «كَذلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَيكُمْ».

إنّ الهدف الأخير هو التعرف على عظمة الخالق جلّ وعلا، لهذا تقول الآية في الختام:

«وَبَشّرِ الْمُحْسِنِينَ». اولئك الذين استفادوا من هذه النعم الإلهية في طاعة اللَّه، وأنجزوا واجباتهم على خير وجه، ولم يقصّروا في

الإنفاق في سبيل اللَّه أبداً.

وقد تؤدّي مقاومة خرافات المشركين التي أشارت إليها الآيات السابقة إلى إثارة غضب المتعصبين المعاندين، ووقوع إشتباكات محدودة أو واسعة، لهذا طمأن اللَّه سبحانه وتعالى المؤمنين بنصره: «إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءَامَنُوا».

لتتّحد قبائل عرب الجاهلية مع اليهود والنصارى والمشركين في شبه الجزيرة العربية للضغط على المؤمنين كما يحلو لهم، فلن يتمكّنوا من بلوغ ما يطمحون إليه، لأنّ اللَّه وعد المؤمنين بالدفاع عنهم وعداً تجلّى صدقه في دوام الإسلام حتى يوم القيامة، ولا يختص الدفاع الإلهي عن المؤمنين في الصدر الأوّل للإسلام وحسب، بل هو ساري المفعول أبد الدهر، فإن كنّا على نهج الذين آمنوا. فالدفاع الإلهي عنّا أكيد. ومن ذا الذي لا يلتمس دفاع اللَّه سبحانه عن عباده الصالحين؟

وفي الختام توضّح هذه الآية موقف المشركين وأتباعهم بين يدي اللَّه بهذه العبارة الصريحة: «إِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ». اولئك الذين أشركوا باللَّه حتى أنّهم ذكروا أسماء أوثانهم عند التلبية. فثبتت عليهم الخيانة والكفر لأنعم اللَّه.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 303

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَ لَوْ لَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَوَاتٌ وَ مَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَ آتَوُا الزَّكَاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)

أوّل حكم بالجهاد: في تفسير مجمع البيان (والتفسير الكبير أيضاً) كان المشركون يؤذون المسلمين ولا يزال يجي ء مشجوج ومضروب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله

ويشكون ذلك إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فيقول لهم صلوات اللَّه عليه وآله: «اصبروا فإنّي لم اؤمر بالقتال». حتى هاجر، فأنزل اللَّه عليه هذه الآية بالمدينة، وهي أوّل آية نزلت في القتال.

ولمّا وعد اللَّه المؤمنين بالدفاع عنهم في الآية السابقة يتّضح جيّداً الإرتباط بين هذه الآيات. تقول الآية: إنّ اللَّه تعالى أذن لمن يتعرّض لقتال الأعداء وعدوانهم بالجهاد، وذلك بسبب أنّهم ظلموا: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا». ثم أردفت بنصرة اللَّه القادر للمؤمنين «وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ».

عليكم بالجدّ والعمل بكل ما تستطيعون من قدرة، وعندما تستحقون النصر بإخلاصكم ينجدكم اللَّه وينصركم على أعدائه، وهذا ما حدث للرسول صلى الله عليه و آله في جميع حروبه التي كانت تُكلّل بالنصر.

ثم توضّح هذه الآيات للمظلومين- الذين أذن لهم بالدفاع عن أنفسهم- بواعث هذا الدفاع، ومنطق الإسلام في هذا القسم من الجهاد فتقول: «الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيرِهِم بِغَيْرِ حَقّ». وذنبهم الوحيد أنّهم موحّدون: «إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ».

ثم تستعرض الآية واحداً من جوانب فلسفة تشريع الجهاد فتقول: «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا». أي إنّ اللَّه إن لم يدافع عن المؤمنين، ويدفع بعض الناس ببعضهم عن طريق الإذن بالجهاد،

مختصر الامثل، ج 3، ص: 304

لهدّمت أديرة وصوامع ومعابد اليهود والنصارى والمساجد التي يذكر فيها اسم اللَّه كثيراً.

وكل دعوة لعبادة اللَّه وتوحيده مضادّة للجبابرة الذين يريدون أن يعبدهم الناس تشبّهاً منهم باللَّه تعالى، لهذا يهدّمون أماكن توحيد اللَّه وعبادته، وهذا من أهداف تشريع الجهاد والإذن بمقاتلة الأعداء. «الصوامع»: جمع «صومعة» وهي عادةً مكان خارج المدينة بعيد عن أعين الناس مخصّص لمن ترك الدنيا من الزهّاد والعبّاد. و

«البِيَع»: جمع بيعة بمعنى معبد النصارى، ويطلق عليها كنيسة أيضاً. و «الصلوات»: جمع صلاة، بمعنى معبد اليهود، ويرى البعض أنّها معرّبة لكلمة «صلوتا» العبرية، التي تعني المكان المخصّص بالصلاة. وأمّا «المساجد»: فجمع مسجد، وهو موضع عبادة المسلمين. والصوامع والبيع، رغم أنّها تخصّ النصارى، إلّاأنّ إحداهما معبد عام والاخرى لمن ترك الدنيا.

وفي الختام أكّدت هذه الآية ثانية وعد اللَّه بالنصر: «وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ» ولا شكّ في إنجاز هذا الوعد، لأنّه من رب العزة القائل: «إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ»، من أجل ألّا يتصوّر المدافعون عن خطّ التوحيد أنّهم وحيدون في ساحة قتال الحقّ للباطل، ومواجهة جموع كثيرة من الأعداء الأقوياء.

و آخر آية تفسّر المراد من أنصار اللَّه الذين وعدهم بنصره في الآية السابقة، وتقول:

«الَّذِينَ إِن مَّكَّنهُمْ فِى الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَوةَ وَءَاتَوُا الزَّكَوةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ».

إنّهم فئة لا تلهو ولا تلعب كالجبابرة بعد انتصارها، ولا يأخذها الكبر والغرور، إنّما ترى النصر سلّماً لإرتقاء الفرد والجماعة، إنّها لن تتحوّل إلى طاغوت جديد بعد وصولها إلى السلطة، لإرتباطها القوي باللَّه، والصلاة رمز هذا الإرتباط بالخالق، والزكاة رمز للإلتحام مع الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعامتان قويّتان لبناء مجتمع سليم، وهذه الصفات الأربع تكفي لتعريف هؤلاء الأفراد، ففي ظلّها تتمّ ممارسة سائر العبادات والأعمال الصالحة، وترسم بذلك خصائص المجتمع المؤمن المتطوّر.

وتقول الآية في ختامها: «وَلِلَّهِ عقِبَةُ الْأُمُورِ». وتعني أنّ بداية أيّ قدرة ونصر من اللَّه تعالى، وتعود كلّها في الأخير إليه ثانية.

وقد أشارت هذه الآيات إلى أمرين مهمّين في فلسفة الجهاد:

مختصر الامثل، ج 3، ص: 305

أوّلهما: جهاد المظلوم للظالم، وهو من حقوقه المؤكدة والطبيعية، التي يؤكّدها عقل الإنسان وفطرته. وليس له أن يستسلم للظلم.

وثانيهما: جهاد الطواغيت الذين ينوون

محو ذكر اللَّه من القلوب بتهديم المعابد التي هي مراكز لبثّ الوعي وإيقاظ الناس.

وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عَادٌ وَ ثَمُودُ (42) وَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَ قَوْمُ لُوطٍ (43) وَ أَصْحَابُ مَدْيَنَ وَ كُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَ هِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ (45)

لقد صدر أمر الجهاد للمسلمين بعد أن ذاقوا- كما ذكرت الآيات السابقة- وقد طمأنت الآيات- موضع البحث- الرسول صلى الله عليه و آله والمؤمنين وخفّفت عنهم من جهة، وبيّنت لهم أنّ العاقبة السيئة تنتظر الكفرة من جهة اخرى، فقالت: «وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ». أي إذا كذّبك هؤلاء القوم فلا تبتئس ولا تحزن، فالأقوام السابقة قد كذّبت رسلها أيضاً، وأضافت: «وَقَوْمُ إِبْرهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ».

وكذلك كذّب أهالي مدينة «مدين» نبيّهم «شعيب»، وكذّب فرعون وقومه نبيّهم «موسى» «وَأَصْحبُ مَدْيَنَ وَكُذّبَ مُوسَى .

وإنّ هذه المعارضة والتكذيب لن تؤثّر في روحك الطاهرة ونفسك المطمئنة، مثلما لم تؤثّر في أنبياء كبار قبلك ولم تعق مسيرتهم التوحيدية ودعوتهم إلى الحق والعدل قطّ.

إلّا أنّ هؤلاء الكفرة الأغبياء يتصورون إمكانية مواصلة هذه الأساليب المخزية.

«فَأَمْلَيْتُ لِلْكفِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ». أجل، أمهل اللَّه الكافرين ليؤدّوا إمتحانهم وليتمّ الحجة عليهم فأغرقهم بنِعَمه، ثم حاسبهم حساباً عسيراً. «فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ» «1» ورأيت كيف أنكرت عليهم أعمالهم، وبيّنت لهم أعمالهم القبيحة، لقد سلبت منهم نعمتي وجعلتهم على أسوأ حال ... سلبت سعادتهم الدنيوية وعوّضتهم بالموت.

______________________________

(1) «النكير»: تعني الإنكار وهنا تعني فرض العقاب.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 306

آخر آية موضع البحث يبيّن اللَّه تعالى كيفية عقاب الكفار بجملة موجزة ذات دلالة واسعة: «فَكَأَيّن

مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ». وأضافت الآية أنّ سقف بيوتها قد باتت أسفل البناء: «فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا». أي إنّ الواقعة كانت شديدة حتى أنّ السقوف إنهارت أوّلًا ثم الجدران على السقوف «وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ» فما أكثر الآبار المترعة بمياهها العذبة، ولكنّها غارت في الأرض بعد هلاك أصحابها فأصبحت معطّلة لا نفع فيها.

«وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ» «1». أجل ما أكثر القصور المشيدة التي إرتفعت شاهقة وزُيّنت، إلّاأنّها أضحت خرائب بعد أن هلك أصحابها، والنتيجة إنّهم تركوا مساكنهم وقصورهم المجللة، وأهملوا مياههم وعيونهم التي كانت مصدر حياتهم وعمران أراضيهم وذهبوا، وكذلك الآبار الغنيّة بالماء أصبحت معطّلة لا ماء فيها.

أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَ لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَ هِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)

السير في الأرض والعبرة: تحدثت الآيات السابقة عن الأقوام الظالمة التي عاقبها اللَّه على ما إقترفت أيديهم فدمّر أحياءهم، وأكّدت الآية الاولى هذه القضيّة فقالت: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا».

أجل، تحدّثنا عن خرائب قصور الظلمة، ومنازل الجبابرة المهدّمة، وعبدة الدنيا.

إنّ هذه الخرائب كتب ناطقة تتحدّث عن ماضي هؤلاء الأقوام، ونتائج أعمالهم وسلوكهم في الحياة، وعن أعمالهم المشؤومة، وأخيراً عن العقاب الذي صبّه اللَّه عليهم.

ولإيضاح حقيقة هذا الكلام بشكل أفضل قال القرآن المجيد: «فَإِنَّهَا لَاتَعْمَى الْأَبْصرُ

______________________________

(1) «المشيد»: مشتقة من «شيد» ذات معنيين: أوّلهما الإرتفاع، والثاني الجصّ، فتعني لفظة «قصر مشيد» القصرالمرتفع.

والمعنى الثاني القصر الذي بني على

اسس ثابتة قويّة ليصان من حوادث الزمان، وبما أنّ معظم منازل ذلك العصر تبنى من الطين، فإنّ المنزل الذي يبنى بالجصّ يكون أقوى من هذه البيوت ويكون متميّزاً عنها.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 307

وَلكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ».

إنّ الذين يفقدون بصرهم لا يفقدون بصيرتهم، بل تراهم أحياناً أكثر وعياً من الآخرين. أمّا العمي الحقيقيون فهم الذين تعمى قلوبهم، فلا يدركون الحقيقة أبداً. في تفسير القمي عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «شرّ العمى، عمى القلب». وفي الكافي: «وأعمى العمى عمى القلب».

وترسم الآية الثانية- موضع البحث- صورة اخرى لجهل الأغبياء وعديمي الإيمان فتقول: «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ» فردّ عليهم ألّا تعجلوا «وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ».

فلا فرق عنده بين الساعة واليوم والسنة: «وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ».

وفي آخر آية نجد تأكيداً على ما سبق أن ذكرته الآيات الآنفة الذكر من إنذار الكفار المعاندين بأنّه ما أكثر القرى والبلاد التي أمهلناها ولم ننزل العذاب عليها ليفيقوا من غفلتهم، ولمّا لم يفيقوا وينتبهوا أمهلناهم مرّة اخرى ليغرقوا في النعيم والرفاهية، وفجأةً نزل عليهم العذاب: «وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا».

إنّ اولئك الأقوام كانوا مثلكم يشكون من تأخّر العذاب عليهم، ويسخرون من وعيد الأنبياء، ولا يرونه إلّاباطلًا، إلّاأنّهم ابتلوا بالعذاب أخيراً ولم ينفعهم صراخهم أبداً «وَإِلَىَّ الْمَصِيرُ». أجل كل الامور تعود إلى اللَّه، وتبقى جميع الثروات فيكون اللَّه وارثها.

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)

تحدثت الآيات السابقة عن تعجيل الكفر والعذاب الإلهي، وإنّ ذلك ليس من شأن النبي صلى الله

عليه و آله وإنّما يرتبط بمشيئة اللَّه تعالى، فأوّل آية من الآيات أعلاه تقول: «قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ».

وترسم الآيتان التاليتان صورةً للبشرى واخرى للإنذار، لأنّ رحمة اللَّه واسعة، فتقدم على عقاب اللَّه. تتحدّث أوّلًا عن البشرى: «فَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ». يتطهّرون بماء المغفرة الإلهية أوّلًا، فتطمئن ضمائرهم، ثم تشملهم نعم اللَّه ورحمته.

عبارة «رزق كريم» ذات مفهوم واسع يضمّ جميع الأنعم المادية والمعنوية.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 308

وأضافت الآية اللاحقة: «وَالَّذِينَ سَعَوْا فِى ءَايَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحبُ الْجَحِيمِ» «1». أي إنّ الذين حاولوا تخريب الآيات الإلهية ومحوها، وكانوا يعتقدون بأنّ لهم القدرة على مغالبة إرادة اللَّه المطلقة، فهم أصحاب الجحيم.

«جحيم»: من مادّة «جحم» بمعنى شدّة توقّد النار، وتقال كذلك لشدّة الغضب، فعلى هذا تطلق كلمة (الجحيم) على المكان المشتعل بالنيران، وهي هنا تشير إلى نار الآخرة.

وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)

وساوس الشياطين في مساعي الأنبياء: تناولت الآيات السابقة محاولات المشركين والكفرة لمحو التعاليم الإلهية والإستهزاء بها، أمّا الآيات موضع البحث فقد تضمّنت تحذيراً مهمّاً حيث قالت: إنّ هذه المؤامرات ليست جديدة، فالشياطين دأبوا منذ البداية على إلقاء وساوسهم ضدّ الأنبياء. في البداية تقول الآية: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ

وَلَا نَبِىّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أمراً لصالح الدين والمجتمع وفكّر في خطّة لتطوير العمل «أَلْقَى الشَّيْطنُ فِى أُمْنِيَّتِهِ» إلّاأنّ اللَّه لم يترك نبيّه وحده إزاء إلقاءات الشياطين «فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطنُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ ءَايتِهِ». إنّ هذا العمل يسير على اللَّه تعالى، لأنّه عليم بجميع هذه المؤامرات الدنيئة، ويعرف كيف يحبطها «وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».

إلّا أنّ المؤامرات الشيطانية التي كان يحيكها المشركون والكفرة، كانت تشكّل ساحة لإمتحان المؤمنين والمتآمرين في آنٍ واحد، إذ تضيف الآية: «لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطنُ فِتْنَةً

______________________________

(1) «سعوا»: مشتقة من «السعي» وتعني في الأساس الهرولة، وهنا المحاولة في تخريب الآيات الإلهيةومحوها.

«المعاجزون»: مشتقة من «العجز» وتعني هنا الذي يحاول الغلبة على قدرة اللَّه غير المحدودة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 309

لّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ». «وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ» فهم بعيدون عن الحق لشدّة عداوتهم وعنادهم.

وكذلك الهدف من هذا البرنامج: «وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ». وطبيعي أنّ اللَّه لا يترك المؤمنين الواعين المطالبين بحقوقهم والمدافعين عن الحق وحدهم في هذا الطريق الوعر «وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ».

إنّ كلمة الرسول تطلق على أنبياء لهم رسالات من اللَّه أمروا بنشرها بين الناس.

أمّا كلمة «النبي» وهو الذي ينبأ بالوحي الإلهي رغم أنّه لم يُكلّف بإبلاغه بشكل واسع.

وَ لَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَ الَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَ إِنَّ

اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَ إِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)

تحدثت الآيات السابقة عن محاولات المخالفين في محو الآيات الإلهية، أمّا الآيات التي نقف في ضوئها، فأشارت إلى هذه المحاولات من قبل أشخاص متعصبين قساة. تقول الآية الاولى: «وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ». بديهي أنّ الآية هنا قصدت فئة من الكفار لا الكفار كلّهم، لأنّ الكثير منهم أسلموا والتحقوا بالنبي صلى الله عليه و آله وبصفوف المسلمين، قصدت الآية زعماء الكفار والمعاندين والمتعصبين بقوّة والحاقدين الذين لم يؤمنوا قطّ، واستمرّوا في عرقلة المسيرة الإسلامية.

وتعني كلمة «مرية» الشكّ والترديد، وتبيّن لنا الآية أنّ هؤلاء الكفرة لم يكونوا يوماً على يقين ببطلان الإسلام ودعوة النبي صلى الله عليه و آله بالرغم من إظهارهم لذلك في كلماتهم.

والمراد من «الساعة» ختام العالم وعشيّة يوم القيامة، والتي رافقت كلمة «بغتة».

ويقصد ب «عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ» عقاب يوم القيامة، وقد وصف يوم القيامة بالعقم لأنّه لا

مختصر الامثل، ج 3، ص: 310

يوم يليه لينهض المرء للقيام بأعمال خيّرة تعوّض عمّا فاته وتؤثّر في مصيره. ثم أشارت الآية التالية إلى السيادة المطلقة لربّ العالمين يوم القيامة: «الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ». وهذا أمر ملازم للَّه الحاكم الدائم والمالك المطلق، وليس ليوم القيامة فقط.

ولكن كل هذا يزول وتتّضح حقيقة وحدانية المالك والحاكم يومئذ.

وبما أنّ اللَّه هو المالك الحقيقي، فهو إذن الحاكم الحقيقي، وتعمّ حكومته على المؤمنين والكافرين على السواء، ونتيجة ذلك كما يقول القرآن المجيد: «فَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِى جَنتِ النَّعِيمِ». الجنّات التي تتوفّر فيها جميع المواهب وكل الخيرات والبركات.

ويضيف القرآن الكريم: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بَايَاتِنَا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ».

عذابٌ يذلّ الكفرة والذين كذّبوا

بآيات اللَّه، اولئك الذين عاندوا اللَّه واستكبروا على خلقه يهينهم اللَّه.

وبما أنّ الآيات السابقة تناولت المهاجرين من الذين طردوا من ديارهم وسلبت أموالهم، لأنّهم قالوا: ربّنا اللَّه، ودافعوا عن شريعته، فقد اعتبرتهم الآية التالية مجموعة ممتازة جديرة بالرزق الحسن وقالت: «وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ».

في تفسير القرطبي: سبب نزول هذه الآية أنّه لمّا مات بالمدينة عثمان بن مظعون وأبو سلمة بن عبدالأسد، قال بعض الناس: من قتل في سبيل اللَّه أفضل ممّن مات حتف أنفه، فنزلت هذه الآية مسويّة بينهم، وأنّ اللَّه يرزق جميعهم رزقاً حسناً. وظاهر الشريعة يدلّ على أنّ المقتول أفضل.

وعرضت الآية الأخيرة صورة من هذا الرزق الحسن: «لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ». فإذا طردوا من منازلهم في هذه الدنيا ولاقوا الصعاب، فإنّ اللَّه يأويهم في منازل طيّبة في الآخرة ترضيهم من جميع الجهات.

وتنتهي هذه الآية بعبارة: «وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ». أجل، إنّ اللَّه عالم بما يقوم به عباده، وهو في نفس الوقت حليم لا يستعجل في عقابهم، من أجل تربية المؤمنين في ساحة الإمتحان هذه، وليخرجوا منها وقد صلب عودهم وإزدادوا تقرّباً إلى اللَّه.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 311

ذلِكَ وَ مَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَ يُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: إنّ الآية الاولى نزلت في قوم من مشركي مكة، لقوا قوماً من المسلمين

لليلتين بقيتا من المحرم، فقالوا:

إنّ أصحاب محمّد لا يقاتلون في هذا الشهر. فحملوا عليهم، فناشدهم المسلمون أن لا يقاتلوهم في الشهر الحرام فأبوا، فأظفر اللَّه المسلمين بهم.

التّفسير

من هم المنتصرون؟ حدّثتنا الآيات السابقة عن المهاجرين في سبيل اللَّه، وما وعدهم اللَّه من رزق حسن يوم القيامة. ومن أجل ألّا يتصور المرء أنّ الوعد الإلهي يختص بالآخرة فحسب، تحدّثت الآية- موضع البحث- في مطلعها عن إنتصارهم في ظل الرحمة الإلهية في هذا العالم: «ذلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ». إشارة إلى أنّ الدفاع عن النفس ومجابهة الظلم حق طبيعي لكل إنسان.

وبما أنّ الوعد بالنصر الذي يقوي القلب لابدّ وأن يصدر من مقتدر على ذلك. لهذا تستعرض الآية قدرة اللَّه في عالم الوجود التي لا تنتهي، فتقول: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ». فما أن يقل من أحدهما حتى يزداد في الآخر وفق نظام مدروس.

«يولج»: مشتقة من «الإيلاج» وهو في الأصل من الولوج أي الدخول، وهذه العبارة تشير إلى التغييرات التدريجية المنظّمة تنظيماً تامّاً، كمسألة الليل والنهار، فما يقلّ أحدهما إلّاليزداد الآخر على مدى فصول السنة.

وتنتهي الآية ب «وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ». أجل، إنّ اللَّه يلبّي حاجة المؤمنين، ويطّلع على حالهم وأعمالهم، ويعينهم برحمته عند اللزوم، مثلما يطّلع على أعمال ومقاصد أعداء الحق.

و آخر آية من الآيات السالفة الذكر في الواقع دليل على ما مضى، حيث تقول: «ذلِكَ بِأَنَ

مختصر الامثل، ج 3، ص: 312

اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ».

إن شاهدتم إنتصار الحق وهزيمة الباطل، فإنّ ذلك بلطف اللَّه الذي ينجد المؤمنين ويترك الكافرين لوحدهم. إنّ المؤمنين ينسجمون مع

قوانين الوجود العامة، بعكس الكافرين الذين يكون مآلهم إلى الفناء والعدم بمخالفتهم تلك القوانين.

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ يُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَ هُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)

دلائل اللَّه في ساحة الوجود: تحدّثت الآيات السابقة عن قدرة اللَّه غير المحدودة وأنّه الحق المطلق، وبيّنت هذه الآيات الأدلّة المختلفة على هذه القدرة الواسعة والحق المطلق وتقول أوّلًا: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً».

لقد اخضّرت الأرض المرتدية رداء الحزن- من أثر الجفاف- بعد ما نزل المطر عليها، فأصبحت تسرّ الناظرين. أجل «إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ». «لطيف»: مشتقة من «اللطف» بمعنى العمل الجميل الذي يمتاز برقّته؛ وكلمة «الخبير»: تعني المطّلع على الامور الدقيقة.

يرسل اللَّه المطر بقدرة وبخبرة منه، فإن زاده صار سيلًا، وإن نقصه كثيراً ساد الجفاف في الأرض.

الآية التالية تعرض علامة اخرى على قدرة اللَّه غير المتناهية، وهو قوله سبحانه وتعالى: «لَّهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ».

فهو سبحانه خالق الجميع ومالكهم، وبهذا الدليل يكون قادراً عليهم، لذا فهم يحتاجون إليه جميعاً، ولا يحتاج هو إلى شي ء أو إلى أحد.

ويزداد هذا المعنى إشراقاً في قوله سبحانه: «وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ».

والتحام صفتي الغني والحميد جاء في غاية الإحكام، لأنّ عدداً كبيراً من الناس أغنياء،

مختصر الامثل، ج 3، ص: 313

إلّاأنّهم بخلاء يستغلّون الآخرين ويعملون

لذاتهم فقط، أمّا غنى اللَّه سبحانه فهو مزيج من اللطف والسماح والجود والكرم، لذا استحقّ الحمد والثناء من عباده.

وتشير الآية التالية إلى نموذج آخر من تسخير اللَّه تعالى الوجود للإنسان «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى الْأَرْضِ» وجعل تحت اختياركم جميع المواهب والإمكانات فيها لتستفيدوا منها بأيّ صورة تريدون، وكذلك جعل السفن والبواخر التي تتحرّك وتمخر عباب البحار بأمره نحو مقاصدها. «وَالْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ». إضافةً إلى «وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ». وذلك من رحمة اللَّه لعباده ولطفه بهم، وهذا ما نلمسه في ختام الآية المباركة: «إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ».

وتتناول الآية الأخيرة أهمّ قضية في الوجود، أي قضية الحياة والموت فتقول: «وَهُوَ الَّذِى أَحْيَاكُمْ». أي كنتم تراباً لا حياة فيه فألبسكم لباس الحياة «ثُمَّ يُمِيتُكُمْ» وبعد إنقضاء دورة حياتكم يميتكم «ثُمَّ يُحْيِيكُمْ». أي يمنحكم حياة جديدة يوم البعث.

وتبيّن الآية ميل الإنسان إلى نكران نِعم اللَّه عليه قائلة: «إِنَّ الْإِنسنَ لَكَفُورٌ». فرغم كل ما أغدق اللَّه على الإنسان من أنعم في الأرض والسماء، في الجسم والروح، لا يحمده ولا يشكره عليها، بل يكفر بكلّ هذه النعم. ومع أنّه يرى كل الدلائل الواضحة والبراهين المؤكّدة لوجود اللَّه تبارك وتعالى، والشاهدة بفضله عليه وإحسانه إليه ينكر ذلك. فما أظلمه وأجهله.

لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَ ادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَ إِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)

لكل امّة عبادة: تناولت

البحوث السابقة المشركين خاصة، ومخالفي الإسلام عامة، ممّن جادلوا فيما أشرق به الإسلام من مبادى ء نسخت بعض تعاليم الأديان السابقة، وكانوا يرون من ذلك ضعفاً في الشريعة الإسلامية، وقوة في أديانهم، في حين أنّ ذلك لا يشكّل ضعفاً إطلاقاً، بل هو نقطة قوّة ومنهج لتكامل الأديان ولذا جاء الفصل الرباني جلّياً «لِّكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ». «المناسك»: جمع «منسك» أي مطلق العبادات، ومن

مختصر الامثل، ج 3، ص: 314

الممكن أن تشمل جميع التعاليم الإلهية. لهذا فإنّ الآية تبيّن أنّ لكل امّة شرعة ومنهاجاً يفي بمتطلّباتها بحسب الأحوال التي تعيشها، لكن ارتقاءها يستوجب تعاليم جديدة تلبّي مطامحها المترقية، وهذا ما صدعت به الآية المباركة وأنارته قائلة: «فَلَا يُنزِعُنَّكَ فِى الْأَمْرِ». فبما تقدّم لا ينبغي لهم منازعتك في هذا الأمر. «وَادْعُ إِلَى رَبّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٌ». تخاطب الآية النبي صلى الله عليه و آله أن يا أيّها النبي لا يؤثّر هؤلاء في دعوتك الراشدة باعتراضاتهم الضالة، فالمهتدي إلى الصراط المستقيم أقوى من الضارب في التيه.

ثم أضافت الآية: «وَإِن جدَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ». فلو استمرّوا في جدالهم ومنازعتهم معك، ولم يؤثّر فيهم كلامك.

فقل لهم: إنّ اللَّه أعلم بأعمالكم، وستحشرون إليه في يوم يعود الناس فيه إلى التوحيد، وتحلّ جميع الإختلافات لظهور الحقائق لجميع الناس: «اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ».

وبما أنّ القضاء بين العباد يوم القيامة بحاجة إلى علم واسع بهم وإطّلاع دقيق بأعمالهم، ختمت الآيات هاهنا بقوله تعالى:

«أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ». و «إِنَّ ذلِكَ فِى كِتبٍ». أجل، إنّ جميع ذلك قد ثبت في كتاب علم اللَّه الذي لا حدود له، كتاب عالم الوجود وعالم العلة والمعلول،

عالم لا يضيع فيه شي ء، فهو في تغيير دائم، وكل هذه الموجودات حاضرة بين يدي اللَّه سبحانه بجميع صفاتها وخصائصها، وهذا من معاني القدرة الإلهية التي نلمسها في قوله تعالى: «إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ».

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَ مَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَ فَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 315

معبودات أضعف من ذبابة: تابعت هذه الآيات الأبحاث السابقة عن التوحيد والشرك، فتحدثت ثانية عن المشركين وأفعالهم الخاطئة، فتقول الآية الاولى: «وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطنًا». وهذا يبيّن بطلان عقيدة الوثنيين الذين كانوا يرون أنّ اللَّه سمح لهم بعبادة الأوثان وأنّها تشفع لهم عند اللَّه. وتضيف الآية «وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ». أي: يعبدون عبادةً لا يملكون دليلًا على صحّتها لا من طريق الوحي الإلهي، ولا من طريق الاستدلال العقلي، ومن لا يعمل بدليل يظلم نفسه وغيره، ولا أحد يدافع عنه يوم الحساب، لهذا تقول الآية في ختامها: «وَمَا لِلظلِمِينَ مِن نَّصِيرٍ».

وتشير الآية الثانية- موضع البحث- إلى عناد الوثنيين وإستكبارهم عن الإستجابة لآيات اللَّه تعالى، في جملة وجيزة لكنها ذات دلالات كبيرة: «وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا

بَيّنَاتٍ تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ».

وهنا يسفر التناقض بين المنطق القرآني القويم وتعصب الجاهلية الذي لا يرضخ للحق ولا يفتح قلبه لندائه الرحيم، فما تليت عليهم آيات ربّهم إلّاظهرت علائم الإستكبار عنها في وجوههم حتى إنّهم «يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِنَا».

أي كأنّهم يريدون مهاجمة الذين يتلون عليهم آيات اللَّه عزّ وجل وضربهم بقبضات أيديهم، تنفيساً عن التكبّر البغيض في قرارة أنفسهم.

«يسطون»: مشتقة من «السطوة» أي رفع اليد ومهاجمة الطرف الآخر.

وقد أمر القرآن المجيد الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أن يجيب هؤلاء المتغطرسين هاتفاً «قُلْ أَفَأُنَبّئُكُم بِشَرّ مّن ذلِكُمُ النَّارُ». أي: إن زعمتم أنّ هذه الآيات البينات شرّ، لأنّها لا تنسجم مع أفكاركم المنحرفة، فإنّني اخبركم بما هو شرّ منها، ألا وهو عقاب اللَّه الأليم، النار التي أعدّها اللَّه جزاءً: «وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ».

وترسم الآية الآتية صورة معبّرة لما كان عليه الوثنيون، وما يعبدونه من أشياء ضعيفة هزيلة تكشف عن بطلان آراء المشركين وعقيدتهم، مخاطبةً للناس جميعاً خطاباً هادياً أن «يَا أيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ» وتدبّروا فيه جيّداً «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ». أجل، لو إجتمعت الأوثان كلها، وحتى العلماء والمفكّرين والمخترعين جميعاً، لما استطاعوا خلق ذبابة. فكيف تجعلون أوثانكم شركاء لخالق السماوات والأرض وما فيهن من آلاف مؤلّفة من أنواع المخلوقات في البرّ والبحر، في الصحاري والغابات، وفي أعماق الأرض؟

مختصر الامثل، ج 3، ص: 316

وتستكمل الآية البيان عن ضعف الأوثان وعجزها المطلق وأنّها ليست غير قادرة على خلق ذبابة فحسب، بل «وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيًا لَّايَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ».

ويعلو صدى الحق في تقرير ضعف الوثن وعبدته في قوله تعالى: «ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ».

وبعد أن

عرض القرآن الكريم هذا المثال الواضح، قرّر حقيقة مهمة، وهي: «مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ».

فالمشركون لو كانوا على أدنى معرفة باللَّه تعالى لما أنزلوا قدره إلى مستوى هذه الآلهة الضعيفة العاجزة ولما جعلوا مصنوعاتهم شركاء له، تعالى عما يفعلون علواً كبيراً، ولو كان لديهم أدنى معرفة بقدرة اللَّه لضحكوا من أنفسهم وسخروا من أفكارهم، وتقول الآية في النهاية: «إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ». أجل، إنّ اللَّه قادر على كل شي ء ولا مثيل لقدرته ولا حدّ، فهو ليس كآلهة المشركين التي لو إجتمعت لما تمكّنت من خلق ذبابة، بل ليس لها القدرة على إعادة ما سلبه الذباب منها.

اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَ جَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَ آتُوا الزَّكَاةَ وَ اعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَ نِعْمَ النَّصِيرُ (78)

سبب النّزول

في التفسير الكبير: قال الوليد بن المغيرة: أأنزل عليه الذكر من بيننا؟ فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية «اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 317

التّفسير

بما أنّ الآيات السابقة تناولت بحث التوحيد والشرك وآلهة المشركين الوهميّة، وبما أنّ بعض الناس قد اتّخذوا الملائكة أو بعض الأنبياء آلهة للعبادة، فإنّ أوّل الآيات موضع البحث تقول بأنّ جميع الرسل هم عباد اللَّه وتابعون لأمره: «اللَّهُ

يَصْطَفِى مِنَ الْمَلِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ».

أجل، إختار اللَّه من الملائكة رسلًا كجبرئيل، ومن البشر رسلًا كأنبياء اللَّه الكبار.

وختام الآية: «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ». أي: إنّ اللَّه ليس كالبشر، لا يعلمون أخبار رسلهم في غيابهم، بل إنّه على علم بأخبار رسله لحظة بعد اخرى، يسمع كلامهم ويرى أعمالهم.

وتشير الآية الثانية إلى مسؤولية الأنبياء في إبلاغ رسالة اللَّه من جهة، ومراقبة اللَّه لأعمالهم من جهة اخرى، فتقول: «يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ». إنّه يعلم ماضيهم ومستقبلهم «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ». فالجميع مسؤولون في ساحة قدسه.

ليعلم الناس أنّ ملائكة اللَّه سبحانه وأنبياءه عليهم السلام عباد مطيعون له مسؤولون بين يديه، لا يملكون إلّاما وهبهم من لطفه، وقوله تعالى: «يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» إشارة إلى واجب ومسؤولية رسل اللَّه ومراقبته سبحانه لأعمالهم.

الآيتان التاليتان هما آخر آيات سورة الحج حيث تخاطبان المؤمنين وتبيّنان مجموعة من التعاليم الشاملة التي تحفظ دينهم ودنياهم وإنتصارهم في جميع الميادين، وبهذه الروعة والجمال تختتم سورة الحج. في البداية تشير الآية إلى أربعة تعليمات: «يَا أيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ». وقد بيّنت الآية ركنين من أركان الصلاة، الركوع والسجود لأهميّتهما الاستثنائية في هذه العبادة العظيمة.

ثم يصدر اللَّه أمره الخاص بالجهاد بالمعنى الشامل للكلمة، فيقول عزّ من قائل: «وَجهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ».

والمراد بالجهاد هي كل نوع من الجهاد في سبيل اللَّه والإستجابة له وممارسة أعمال البرّ والجهاد مع النفس (الجهاد الأكبر) وجهاد الأعداء والظلمة (الجهاد الأصغر).

ولا شكّ في أنّ حق الجهاد له معنىً واسع يشمل الكيف والنوع والمكان والزمان وسواها.

ولكن قد يثار سؤال هو: كيف يتحمل الجسم النحيف هذه الأعمال من المسؤوليات

مختصر الامثل، ج 3، ص: 318

والتعليمات الشاملة الواسعة؟

ولهذا تجيب بقية الآية الشريفة فتقول أوّلًا: «هُوَ اجْتَبكُمْ». أي: حمّلكم هذه المسؤوليات بإختياركم من بين خلقه.

والعبارة الاخرى قوله جلّ وعلا: «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ». أي: إذا دقّقتم جيّداً لم تجدوا صعوبة في التكاليف الربّانية لإنسجامها مع فطرتكم التي فطركم اللَّه عليها، وهي الطريق إلى تكاملكم.

وثالث عبارة: «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرهِيمَ».

إنّ إطلاق كلمة «الأب» على إبراهيم عليه السلام، إمّا بسبب كون العرب والمسلمين آنذاك من نسل إسماعيل عليه السلام غالباً، وإمّا لكون إبراهيم عليه السلام هو الأب الروحي للموحدين جميعاً.

ويليها تعبير: «هُوَ سَمكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هذَا». أي هو سمّاكم المسلمين في الكتب السماوية السابقة.

وخامس عبارة خصّ بها المسلمين وجعلهم قدوة للُامم الاخرى هي قوله المبارك: «لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ».

وكون الرسول صلى الله عليه و آله شاهداً على جميع المسلمين يعني إطلاعه على أعمال امّته. فجميع الامة شهداء، والأئمة الطاهرين شهود ممتازون على هذه الامة.

وأعادت الآية في ختامها بشكل مركّز الواجبات الخمسة في ثلاث جمل هي «فَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَءَاتُوا الزَّكَوةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ». فإنّ اللَّه هو قائدكم وناصركم ومعينكم: «هُوَ مَوْلكُمْ» و «فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ». أي: إنّ اللَّه أمركم بالإعتصام به لكونه خير الموالي وأجدر الأعوان.

«نهاية تفسير سورة الحج»

مختصر الامثل، ج 3، ص: 319

23 سورة المؤمنون

محتوي السورة: يمكن تقسيم مواضيع هذه السورة إلى الأقسام التالية:

1- إنّ السورة يبدأ بالآية «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» وينتهي بعدد من الآيات التي تذكر صفات هي مدعاة لفلاح المؤمنين.

2- وأشار هذه السورة إلى علائم اخرى للمؤمنين، التوحيد وآيات عظمة اللَّه وجلاله في عالم الوجود.

3- وشرح ما حدث لعدد من كبار الأنبياء.

4- ووجّه الخطاب سبحانه وتعالى إلى المستكبرين يحذّرهم ببراهين منطقيّة تارةً، واخرى بتعابير دافعة عنيفة، ليعيد

القلوب إلى طريق الصواب بالعودة إليه عزّ وجلّ.

5- ثم بيّن في بحث مركّز المعاد.

6- وتناول قسم آخر سيادة اللَّه على عالم الوجود، وإطاعة العالم ولأوامره.

7- بحثت هذه السورة عن حساب يوم القيامة، وجزاء الخير للمحسنين، وعقاب المذنبين. وينتهي السورة ببيان الغاية من خلق الإنسان.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ سورة المؤمنين ختم اللَّه له بالسعادة إذا كان يدمن قراءتها في كل جمعة، وكان منزله في الفردوس الأعلى مع النبيين والمرسلين».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 320

ونؤكّد أنّ فضيلة السورة، إنّما يجب أن يرافق ذلك التمعّن في معانيها والعمل بما أوجبته، لأنّ هذا الكتاب يبني الذات الإنسانية ويربّيها.

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العَادُونَ (7) وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)

صفات المؤمنين البارزة: اختيار اسم المؤمنين لهذه السورة لأنّه جاء في بدايتها آيات شرحت بعبارات وجيزة معبّرة صفات المؤمنين، ومما يلفت النظر أنّها أشارت إلى مستقبل المؤمنين السعيد قبل بيان صفاتهم، إستنارةً للشوق في قلوب المسلمين للوصول إلى هذا الفخر العظيم بإكتساب صفة المؤمنين. تقول الآية: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ».

«أفلح»: مشتقة من الفلح والفلاح، وتعني في الأصل الحرث والشقّ، ثم اطلقت على أيّ نوع من النصر والوصول إلى الهدف والسعادة بشكل عام، ولكلمة الفلاح معنىً واسعاً يضمّ الفلاح المادي والمعنوي،

ويكون الإثنان للمؤمنين.

ثم تشرح الآية هذه الصفات فتؤكّد قبل كل شي ء على الصلاة فتقول: «الَّذِينَ هُمْ فِى صَلَاتِهِمْ خشِعُونَ». «خاشعون»:

مشتقة من خشوع، بمعنى التواضع وحالة التأدّب يتخذها الإنسان جسماً وروحاً بين يدي شخصية كبيرة، أو حقيقة مهمة تظهر في الإنسان وتبدو علاماتها على ظاهر جسمه.

والقرآن اعتبر الخشوع صفة المؤمنين، وليس إقامة الصلاة، إشارة منه إلى أنّ الصلاة ليست مجرد ألفاظ وحركات لا روح فيها ولا معنى، وإنّما تظهر في المؤمن حين إقامة الصلاة حالة توجّه إلى اللَّه تفصله عن الغير وتلحقه بالخالق.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 321

وروي- في تفسير مجمع البيان- أنّ النبي صلى الله عليه و آله رأى رجلًا يعبث بلحيته في صلاته، فقال: «أما إنّه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه».

إشارة منه صلى الله عليه و آله إلى أنّ الخشوع الباطني يؤثّر في ظاهر الإنسان.

وثاني صفة للمؤمنين بعد الخشوع مما تذكره الآية: «وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ».

حقّاً نرى جميع حركات وسكنات المؤمنين تتجّه لهدف واحد مفيد وبنّاء.

وتشير الآية الرابعة إلى ثالث صفة من صفات المؤمنين الحقيقيين، وهي ذات جانب إجتماعي ومالي حيث تقول: «وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَوةِ فعِلُونَ».

ورابع صفة من صفات المؤمنين هي الطهارة والعفة بشكل تام، وإجتناب أي معصية جنسية، حيث تقول الآية: «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حفِظُونَ» «1». يحفظونها ممّا يخالف العفّة «إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمنُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ».

بما أنّ الغريزة الجنسية أقوى الغرائز عند الإنسان تمرّداً، ولضبط النفس عنها يحتاج المرء إلى التقوى والإيمان القوي، لهذا أكدّت الآية التالية على هذه المسألة: «فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْعَادُونَ».

إنّ عبارة المحافظة على «الفروج» قد تكون إشارة إلى أنّ فقدان المراقبة المستمرة في هذا المجال تؤدّي بالفرد إلى خطر التلوّث بالانحرافات الكثيرة.

وأشارت

الآية الثامنة- موضع البحث- إلى الصفتين الخامسة والسادسة من صفات المؤمنين البارزة، حيث تقول: «وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ».

إنّ المحافظة على «الأمانة» بالمعنى الواسع للكلمة، وكذلك الالتزام بالعهد والميثاق بين يدي الخالق والخلق من صفات المؤمنين البارزة، وتعني الأمانة بمفهومها الواسع أمانة اللَّه ورسوله إضافة إلى أمانات الناس، وكذلك ما أنعم اللَّه على خلقه. وتضمّ أيضاً أمانة اللَّه الدين الحق والكتب السماوية وتعاليم الأنبياء القدماء، وكذلك الأموال والأبناء والمناصب جميعها أمانات اللَّه سبحانه وتعالى بيد البشر.

وهكذا أنّ الحكومة وديعة إلهية مهمة جدّاً يجب إيداعها بيد من هو أهلها.

وبيّنت الآية التاسعة من الآيات موضع البحث آخر صفة من صفات المؤمنين حيث تقول: «وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوتِهِمْ يُحَافِظُونَ».

______________________________

(1) «الفروج»: جمع فرج، وهو كناية عن الجهاز التناسلي.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 322

وممّا يلفت النظر أنّ أوّل صفة للمؤمنين كانت الخشوع في الصلاة، وآخرها المحافظة عليها، لأنّ الصلاة أهمّ رابطة بين الخالق والمخلوق، وأغنى مدرسة للتربية الإنسانية.

وإنّ الصلاة إن اقيمت على وفق آدابها اللازمة، أصبحت أرضية أمينة لأعمال الخير جميعاً.

بعد بيان هذه الصفات الحميدة، بيّنت الآية التالية حصيلة هذه الصفات فقالت: «أُولئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ».

اولئك الذين يرثون الفردوس ومنازل عالية وحياة خالدة: «الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خلِدُونَ». «الفردوس»: الجنة العالية، وأفضل البساتين.

إنّ هذه المنزلة العالية- حسب ظاهر الآيات المذكورة أعلاه- خاصة بالمؤمنين الذين لهم هذه الصفات، ونجد أهل الجنة الآخرين في منازل أقلّ أهمية من هؤلاء المؤمنين.

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15)

ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)

مراحل تكامل الجنين في الرحم: تبيّن الآيات موضع البحث- وقسم من الآيات التالية لها- السبيل لكسب الإيمان والمعرفة، حيث يمسك القرآن بيد الإنسان ليأخذه إلى «عالم النفس» وليكشف له أسرار باطنه وهو «السير الأنفسي»، وتثير الآيات التالية لها إنتباه الإنسان إلى عالم الظاهر والمخلوقات المدهشة في عالم الوجود وسير عالم الآفاق، وهو «السير الآفاقي».

تقول الآيات أوّلًا: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسنَ مِن سُللَةٍ مّن طِينٍ» «1».

وتضيف الآية التالية: «ثُمَّ جَعَلْنهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ».

وفي الواقع فإنّ الآية الاولى تشير إلى بداية وجود جمع البشر من آدم وأبنائه وأنّهم خلقوا جميعاً من التراب، إلّاأنّ الآية التالية تشير إلى تداوم واستمرارية نسل الإنسان بواسطة تركيب نطفة الذكر ببويضة الانثى في الرحم.

______________________________

(1) «السلالة»: تعني الشي ء الذي يستخلص من شي ء آخر، وهي في الحقيقة خلاصة ونتيجة منه.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 323

والتعبير عن الرحم ب «قرار مكين»، أي القرار الآمن، إشارة إلى أهمية الرحم في الجسم، حيث يقع في مكان أمين محفوظ من جميع الجهات، يحفظه العمود الفقري من جهة، وعظم الحوض القوي من جهة اخرى، وأغشية البطن العديدة من جهة ثالثة، ودفاع اليدين يشكّل حرزاً رابعاً له، وكل ذلك شواهد على موضع الرحم الآمن.

ثم تشير الآية الثالثة إلى المراحل المدهشة والمثيرة لتدرّج النطفة في مراحلها المختلفة، واتخاذها شكلًا معيّناً في كل منها في ذلك القرار المكين، حيث تقول: إنّنا جعلنا من تلك النطفة على شكل قطعة دم متخثّر (علقة) ثم بدّلناها على شكل قطعة لحم ممضوغ (مضغة)، ثم جعلنا من هذه المضغة عظاماً، وأخيراً ألبسنا هذه العظام لحماً: «ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظمًا فَكَسَوْنَا الْعِظمَ لَحْمًا».

وفي الختام أشارت الآية إلى آخر

مرحلة والتي تعتبر- في الحقيقة- أهمّ مرحلة في خلق البشر، بعبارة عميقة وذات معنى كبير: «ثُمَّ أَنشَأْنهُ خَلْقًا ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخلِقِينَ». مرحباً بهذه القدرة الفريدة، التي خلقت في ظلمات الرحم هذه الصورة البديعة، وصاغت من قطرة ماء كل هذه الامور المدهشة.

طوبى لهذا العلم والحكمة والتدبير، الذي خلق في هذا الموجود البسيط كل هذه القابليات والجدارة، تعالى اللَّه فقد تجلّت قدرته فيما خلق.

وتنتقل الآية التالية من تناول مسألة التوحيد ومعرفة المبدأ- بشكل دقيق وجميل- إلى مسألة المعاد حيث تقول: «ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذلِكَ لَمَيّتُونَ».

ومن أجل أن لا يعتقد المرء بأنّ الموت نهاية كل شي ء، تقول الآية: «ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ تُبْعَثُونَ». أي إنّ خلقكم بهذه الصورة المدهشة لم يكن عبثاً أو لتعيشوا أيّاماً معدودات، فتضيف الآية أنّكم ستبعثون يوم القيامة في مستوى أعلى وفي عالم أوسع.

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَ مَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَ أَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَ عَلَيْهَا وَ عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 324

مرّة اخرى مع علائم التوحيد: تحدثت الآيات السابقة عن آيات اللَّه العظيمة في وجودنا، وتناولت هذه الآيات بعدها عالم الظاهر وآفاق الكون وعظمة خلق الأرض والسماوات، حيث قالت الآية الاولى: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ».

فإنّ الآية تعني طبقات السماء السبع.

وربّما يتوهّم أنّ العالم

بهذه السعة والعظمة ألا يوجب أن يغفل اللَّه تعالى عن إدارته؟

فتجيب الآية مباشرةً: «وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غفِلِينَ».

وأشارت الآية التالية إلى أحد مظاهر القدرة الإلهية، الذي يعتبر من بركات السماوات والأرض، ألا وهو المطر، حيث تقول:

«وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ».

ثم أشارت الآية إلى قضيّة أكثر أهميّة، هي قضية إحتياطي المياه الجوفية فتقول: «فَأَسْكَنهُ فِى الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقدِرُونَ».

نحن نعلم أنّ القشرة السطحية من الأرض تتكوّن من طبقتين مختلفتين:

إنّ اللَّه الرحيم جعل القشرة الاولى من سطح الأرض نافذةً، وتليها قشرة غير نافذة تحافظ على المياه الجوفية، فتكون احتياطاً للبشر يستخرجها عند الحاجة عن طريق الآبار، أو تخرج بذاتها عن طريق العيون، دون أن تفسد أو توجّه للإنسان أقلّ أذى «1».

وتشير الآية التالية إلى الخير والبركة في نعمة المطر، أي المحاصيل الزراعية الناتجة عنه فتقول: «فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنتٍ مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنبٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ». فمضافاً إلى التمر والعنب اللذين يعتبران أهمّ المحاصيل الزراعية فانّ فيها أنواع اخرى من الفواكه كثيرة.

وممّا يلفت النظر من الآيات أعلاه أنّ منشأ حياة الإنسان في ماء النطفة، ومنشأ حياة النبات من ماء المطر، وفي الحقيقة ينبع هذان النموذجان للحياة من الماء.

ثم تشير الآية التالية إلى شجرة مباركة اخرى نمت من ماء المطر، إضافةً إلى بساتين النخيل والكروم والأشجار والفاكهة الاخرى: «وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لّلْأَكِلِينَ» «2».

إنّ جملة «طُورِ سَينَاءَ» إشارة إلى جبل الطور المعروف في صحراء سيناء أو ذات جانب

______________________________

(1) ويجب ملاحظة أنّ الماء الملوّث يصفى عند مروره من القشرة النافذة في معظم الأوقات.

(2) صبغ الآكلين: غذاء يؤكل مع الخبز.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 325

وصفي يعني الجبل ذي الخيرات، أو الجبل ذي

الأشجار الكثيرة، أو الجبل الجميل (لأنّ «الطور» يعني الجبل، و «سيناء» تعني ذات البركة والجمال والشجر).

«صبغ»: تعني في الأصل اللون، وبما أنّ الإنسان يلوّن خبزه مع المرق، لهذا اطلق على جميع أنواع المرق اسم الصبغ.

بعد بيان جانب من أنعم اللَّه في عالم النبات التي تنمو على المطر، يلي ذلك بحث جانب مهم من أنعم اللَّه وهباته في عالم الحيوان:

«وَإِنَّ لَكُمْ فِى الْأَنْعمِ لَعِبَرةً».

ثم تشرح الآية «العبرة» فتقول: «نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِى بُطُونِهَا». أجل إنّ الحيوان يدرّ حليباً لذيذاً يعتبر غذاءً كاملًا، ويمنح الجسم حرارة كبيرة، ويخرج الحليب من بين الدم على شكل دفعات كما ينزف الدم، لتعلموا قدرة اللَّه حيث يتمكّن من خلق غذاء طاهر لذيذ من بين أشياء تبدو ملوّثة.

ثم تضيف الآية: «وَلَكُمْ فِيهَا مَنفِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ».

كما يستفاد من الحيوانات في الركوب في البرّ، والسفن في البحر «وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ».

كل هذه الخصائص والفوائد في الحيوان تعتبر- حقّاً- عبرة لنا، تعرّف الإنسان على ما خلق اللَّه من أنعم، كما تثير فيه الشعور بالشكر والثناء على اللَّه.

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)

منطق الجبناء المغرورين: تحدثت الآيات السابقة عن التوحيد ومعرفة اللَّه وأسباب عظمته في عالم الخليقة، أمّا الآيات- موضع البحث والآيات المقبلة- فقد تناولت نفس الموضوع على لسان كبار الأنبياء ومن خلال تاريخ حياتهم، حيث بدأت بأوّل أنبياء اولي العزم والمنادي بالتوحيد

نوح عليه السلام: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ». أي: مع هذا البيان الواضح كيف لا تجتنبون عبادة الأوثان؟

مختصر الامثل، ج 3، ص: 326

أمّا الأشراف الأثرياء والمغرورون والملأ من الناس، وهم اللذين يملأون العين في ظاهرهم، والفارغون في واقعهم من قوم نوح عليه السلام: «فَقَالَ الْمَلَؤُا الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هذَا إِلَّا بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ». وبهذا اعتبروا أوّل عيب له كونه إنساناً فاتّهموه بالسلطوية، وحديثه عن اللَّه والتوحيد والدين والعقيدة مؤامرة لتحقيق أهدافه، ثم أضافوا: «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلِكَةً». ولإتمام هذا الاستدلال الخاوي قالوا: «مَّا سَمِعْنَا بِهذَا فِى ءَابَائِنَا الْأَوَّلِينَ».

إلّا أنّ هذا الكلام الفارغ لم يؤثّر في معنويات هذا النبي الكبير، حيث واصل دعوته إلى اللَّه، ولم يكن في عمله دليل على رغبته في الحصول على إمتياز على الآخرين، أو أن يتسلط عليهم، لهذا لجأوا إلى توجيه تهمة اخرى إليه، هي الجنون الذي كان يتّهم به جميع أنبياء اللَّه عبر التاريخ، حيث قالوا: «إِن هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ».

قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَ وَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَ فَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَ لَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَ قُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكاً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)

خاتمة حياة قوم معاندين: استعرضت الآيات السابقة التهم التي وجّهها

أعداء نوح عليه السلام إليه، إلّاأنّه يستدلّ من آيات قرآنية اخرى- بشكل واضح- أن أذى القوم المعاندين لنوح عليه السلام لم يتحدّد بهذه الامور، بل شمل كل وسيلة يمكن بها إيذاؤه، في حين بذل جميع ما في وسعه في سبيل هدايتهم وإنقاذهم من براثن الشرك والكفر. وعندما يئس منهم حيث لم يؤمن بما جاء به إلّامجموعة صغيرة، دعا اللَّه ليعينه، حيث نقرأ في الآية الاولى: «قَالَ رَبّ انصُرْنِى بِمَا كَذَّبُونِ».

هنا نزل الوحي الإلهي، من أجل التمهيد لإنقاذ نوح عليه السلام وأصحابه القلّة وهلاك المشركين المعاندين «فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 327

إنّ عبارة «بأعيننا» إشارة إلى أنّ سعيك في هذا السبيل سيكون تحت حمايتنا.

وإستعمال عبارة «وحينا» يكشف لنا أنّ نوحاً عليه السلام تعلّم صنع السفينة بالوحي الإلهي.

ثم تواصل الآية بأنّه إذا جاء أمر اللَّه، وعلامة ذلك فوران الماء في التنور، فاعلم أنّه قد اقترب وقت الطوفان، فاختر من كل نوع من الحيوانات زوجاً (ذكر وانثى) واصعد به إلى السفينة: «فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ». إشارة إلى زوجة نوح عليه السلام وأحد أبنائه.

ثم أضافت الآية: «وَلَا تُخطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ».

وتقول الآية التالية: «فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى نَجنَا مِنَ الْقَوْمِ الظلِمِينَ».

وبعد الحمد والثناء عليه تعالى على هذه النعمة العظيمة، نعمة النجاة من مخالب الظلمة، ادعوه هكذا: «وَقُلْ رَّبّ أَنزِلْنِى مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ».

وقد أشارت الآية الأخيرة- من الآيات موضع البحث- إلى مجمل هذه القصة فقالت: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيتٍ». ففي هذه الحوادث التي جرت على نوح عليه السلام وإنتصاره على

أعدائه الظالمين، ونزول أشدّ أنواع العقاب عليهم، آيات ودلائل لأصحاب العقول السليمة.

«وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ». أي إنّنا نمتحن الجميع بشكل قاطع.

ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلَا تَتَّقُونَ (32) وَ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَ أَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَ يَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ (34) أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُرَاباً وَ عِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَ نَحْيَا وَ مَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَ مَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 328

المصير المؤلم لقوم ثمود: تحدّثت هذه الآيات عن أقوام آخرين جاؤوا بعد قوم نوح عليه السلام. ومنطقهم يتناغم ومنطق الكفار السابقين، كما شرحت مصيرهم الأليم، فأكملت بذلك ما بحثته الآيات السابقة. فهي تقول أوّلًا: «ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا ءَاخَرِينَ».

«القرن»: مشتقّ من الإقتران، بمعنى القرب، لهذا يطلق على الجماعة التي تعيش في عصر واحد، وقياس زمن القرن بثلاثين أو مائة سنة يتّبع ما تعارفته الأقوام المختلفة.

وبما أنّ البشر لا يمكن أن يعيشوا دون قائد ربّاني، فقد بعث اللَّه أنبياءه يدعون إلى توحيده ويقيمون عدالته بين الناس، حيث تقول الآية التالية: «فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلهٍ غَيْرُهُ».

وهذه هي الركيزة الأساسية

لدعوة الأنبياء، إنّها نداء التوحيد، اسّ جميع الإصلاحات الفردية والاجتماعية، وبعدها أكّد رسول اللَّه لهم القول: إنّكم وبعد هذه الدعوة الصريحة ألا تتركون الشرك وعبادة الأوثان: «أَفَلَا تَتَّقُونَ».

إنّهم قوم ثمود الذين عاشوا شمال الحجاز، وبعث اللَّه النبي «صالح عليه السلام» لهدايتهم، إلّاأنّهم كفروا وطغوا فأهلكهم اللَّه بالصيحة السماوية (الصاعقة القاتلة).

ولننظر الآن ماذا كان ردّ فعل هؤلاء القوم المعاندين إزاء التوحيد الذي أعلنه هذا النبي الكبير؟ يقول القرآن في الآية التالية:

«وقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْأَخِرَةِ وَأَتْرَفْنهُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا مَا هذَا إِلَّا بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ».

أجل إنّ القوم بما كانوا يرون في دعوة نبي اللَّه خلافاً لأهوائهم ومنافسةً لمصالحهم العدوانية فجادلوا نبيّهم بنفس منطق المعاندين من قوم نوح.

ثم قال بعضهم للبعض الآخر: «وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخسِرُونَ».

ومن ثم أنكروا المعاد، الذي كان دوماً سدّاً منيعاً لاتّباع الشهوات وأرباب اللذات، وقالوا: «أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظمًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ». لتعيشون حياة جديدة «هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ». فقد تساءل الكفار: هل يمكن البعث والناس قد أصبحوا تراباً وتبعثرت ذرّاتهم هنا وهناك؟ إنّ ذلك مستحيل.

وبهذا الكلام ازدادوا إصراراً على إنكار المعاد قائلين: إنّنا نشاهد باستمرار موت مجموعة وولادة مجموعة اخرى لتحلّ محلّهم، ولا حياة بعد الموت: «إِنْ هِىَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا

مختصر الامثل، ج 3، ص: 329

نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ».

وأخيراً لخّصوا التّهم التي وجّهوها إلى نبيّهم فقالوا: «إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ».

وعندما طغى عناد الكفار، تجاسروا على اللَّه، وأنكروا رسالته إليهم، وأنكروا معاجز أنبيائه بكل صلافة، وقد أتمّ اللَّه حجّته عليهم، عندها توجّه هذا النبي الكبير إلى اللَّه سبحانه وتعالى و

«قَالَ رَبّ انصُرْنِى بِمَا كَذَّبُونِ». ربّاه: انصرني فقد هتكوا الحرمات، واتّهموني بما شاؤوا وكذّبوا دعوتي.

فأجابه اللَّه عزّ وجل كما ذكرت الآية: «قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ ندِمِينَ». ألا إنّهم سيندمون يوم لا ينفع الندم.

وهكذا جرى «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقّ» حيث نزلت عليهم صاعقة الموت برعبها الهائل ودمارها الماحق، وقلبت مساكنهم ونثرتها حطاماً، وكانت سريعة خاطفة إلى درجة لم تسمح لهم بالفرار، فدفنوا في منازلهم كما بيّنت الآية الكريمة:

«فَجَعَلْنهُمْ غُثَاءً». أي: جعلناهم كهشيم النبات يحمله السيل «فَبُعْدًا لّلْقَوْمِ الظلِمِينَ».

والغثاء، يعني النباتات الجافّة المتراكمة والطافية على مياه السيول، كما يطلق الغثاء على الزبد المتراكم على ماء القدر حين الغليان، وتشبيه الأجسام الميتة بالغثاء دليل على منتهى ضعفها وإنكسارها وتفاهتها.

وهذا إستنتاج نهائي من كل هذه الآيات، فما قيل بصدد إنكار وتكذيب الآيات الإلهية والمعاد والعاقبة المؤلمة والنهاية السيئة لا تختص بجماعة معينة، بل تشمل جميع الظلمة عبر التاريخ.

ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَ مَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّمَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَ جَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)

هلاك الأقوام المعاندين الواحد بعد الآخر: بعد أن تحدّث القرآن عن قصة قوم نوح، أشار إلى أقوام اخرى جاءت بعدهم، وقبل النبي موسى عليه السلام حيث يقول: «ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا ءَاخَرِينَ». لأنّ هذا أمر اللَّه وسنّته في خلقه، فالفيض الإلهي لا ينقطع عن

مختصر الامثل، ج 3، ص: 330

عباده فلو سعى جماعة للوقوف في وجه مسيرة التكامل الإنساني للبشرية لمحقهم ودفع هذه المسيرة إلى أمام. ولهذه الأقوام تأريخ معين وأجل محدود: «مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتْخِرُونَ». فلو صدر الأمر الحتمي بنهاية حياتهم فسيهلكوا فوراً، دون

تأخير لحظة أو تقديم لحظة.

«الأجل»: بمعنى العمر ومدّة الشي ء، فالأجل المحتّم انتهاء عمر الإنسان أو عمر قوم ما، ولا تغيير فيه. إنّ الآية السابقة تشير إلى «الأجل المحتّم».

وتكشف الآية التالية حقيقة استمرار بعث الأنبياء عبر التاريخ بالدعوة إلى اللَّه حيث تقول: «ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا».

«تترا»: مشتقة من «الوتر» بمعنى التعاقب، و «تواتر الأخبار» تعني وصولها الواحد بعد الآخر، ومن مجموعها يتيقّن الإنسان بصدقها.

إنّ معلّمي السماء، كانوا يتعاقبون في إرشاد الناس، إلّاأنّ الأقوام المعاندة كانوا يواصلون الكفر والإنكار، فإنّه: «كُلَّمَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ».

وعندما تجاوز هذا الكفر والتكذيب حدّه وتمّت الحجة عليهم. «فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا». أي: أهلكنا الامم المعاندة الواحدة بعد الاخرى ومحوناهم من الوجود.

وقد تمّ محوهم بحيث لم يبق منهم سوى أخبارهم يتداولها الناس «وَجَعَلْنهُمْ أَحَادِيثَ». إشارة إلى أنّ كل امّة تتعرض للهلاك، ويبقى منهم بعض الأفراد والآثار هنا وهناك، وأحياناً لا يبقى منهم أيّ أثر. وهذه الامم المعاندة والطاغية كانت ضمن المجموعة الثانية.

وتقول الآية في الختام، كما ذكرت الآيات السابقة: «فَبُعْدًا لّقَوْمٍ لَّايُؤْمِنُونَ».

وهؤلاء لم يكونوا بعيدين عن رحمة اللَّه في هذه الدنيا فحسب، بل بعيدون عن هذه الرحمة في الآخرة أيضاً، لأنّ تعبير الآية جاء عامّاً يشمل الجميع.

ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَ أَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَ سُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَ مَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كَانُوا قَوْماً عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَ قَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)

قيام موسى وهلاك الفراعنة: كان الحديث حتى الآن عن أقوام بعث اللَّه لهم رسلًا قبل

مختصر الامثل، ج 3، ص: 331

موسى عليه السلام، وهلكوا. أمّا الآيات موضع البحث فقد تحدّثت باختصار جدّاً عن إنتفاضة موسى

وهارون على الفراعنة ومصير هؤلاء القوم المستكبرين، فقالت:

«ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هرُونَ بَايتِنَا وَسُلْطنٍ مُّبِينٍ».

إنّ «الآيات» تعني المعجزات التي أعطاها اللَّه لموسى بن عمران (الآيات التسع). وتقصد عبارة «سلطان مبين» المنطق القوي والبرهان الدافع لموسى عليه السلام أمام الفراعنة.

أجل بعثنا موسى وأخاه هارون بهذه الآيات وسلطان مبين «إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيهِ».

لعل ذلك إشارة إلى أنّ الفراعنة هم أساس الفساد، ولا يصلح أيّ بلد إلّابصلاح قادته، إلّاأنّهم «فَاسْتَكْبَرُوا» لأنّهم لم يرضخوا لآيات الحق والسلطان المبين.

والفراعنة كانوا مستكبرين طاغين، كما تقول الآية: «وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ».

ومن الدلائل الواضحة على إحساسهم بالإستعلاء، قولهم: «وَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عبِدُونَ» «1». فقد تصدّوا لموسى وأخيه هارون بهذه الأدلة الخاوية، مخالفة منهم للحق «فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ». وهكذا إنتهى أعداء بني إسرائيل الذين كانوا سدّاً مانعاً لدعوة موسى وهارون إلى اللَّه سبحانه.

وبدأت بعدها مرحلة تعليم وتربية بني إسرائيل، فأنزل اللَّه في هذه المرحلة «التوراة» على موسى، الذي دعا بني إسرائيل للإهتداء بهذا الكتاب وتطبيقه على ما ذكرته الآية الأخيرة هنا: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتبَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ».

وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً وَ آوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَ مَعِينٍ (50)

آية اخرى من آيات اللَّه: أشارت الآية في آخر مرحلة من شرحها لحياة الأنبياء إلى السيد المسيح عليه السلام وامه مريم، فقالت:

«وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءَايَةً».

وقد استعملت «الآية» عبارة «ابن مريم» بدلًا من ذكر اسم عيسى، لجلب الإنتباه إلى حقيقة ولادته من ام دون أب بأمر من اللَّه، وهذه الولادة هي بذاتها من آيات اللَّه الكبيرة.

ثم أشارت الآية إلى الأنعم الكبيرة التي أسبغها اللَّه على هذه الامّ الزكية وإبنها فتقول: «وَءَاوَيْنهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ». «الربوة»: مشتقة من «الربا» بمعنى

الزيادة والنمو،

______________________________

(1) يطلق على الإنسان «البشر»، لأنّ بشرته وجلده عارية، خلافاً لما عليه الحيوانات من لباس طبيعي خاص بكلّ نوع منهما.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 332

وتعني هنا المكان المرتفع؛ و «المعين»: مشتق من «المعن» بمعنى جريان الماء. إنّ هذا المكان الآمن هو مولد السيد المسيح عليه السلام في صحراء القدس، وقد جعله اللَّه أمناً لهذه الام والوليد، وفجّر لهما ماء معيناً ورزقهم من النخل الجاف رطباً جليّاً.

فقد كانت الآية دليلًا على حماية اللَّه تعالى الدائمة لرسله ولمن يدافع عنهم.

يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَ اعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)

جميع الامة يد واحدة: تحدثت الآيات السابقة عن ماضي الأنبياء واممهم، أمّا هذه الآيات فخاطبت الجميع فقالت: «يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيّبتِ وَاعْمَلُوا صلِحًا إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ».

بيّنت هذه الآية ثلاثة مؤثّرات في العمل الصالح:

الأوّل: طيب الغذاء الذي يورث صفاء القلب ونقاوته.

والثاني: شكر اللَّه تعالى على ما أنعم به من رحمته.

الثالث: الشعور اليقظ بمراقبة اللَّه سبحانه للأعمال كلها.

ثم دعت الآية جميع الأنبياء وأتباعهم إلى توحيد اللَّه والتزام تقواه: «وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً». فالإختلافات الموجودة بينكم، وكذلك بين أنبيائكم ليست دليلًا على التعدّدية إطلاقاً. «وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ». فنحن بين يدي دعوة واعية إلى وحدة الجماعة والقضاء على ما يثير التفرقة، ليعيش الناس امّة واحدة، كما أنّ اللَّه ربّهم واحد أحد.

ولهذا يجب أن ينتهج الناس ما نهجه الأنبياء عليهم السلام إذ دعوا إلى اتّباع تعاليم موحدة، ذات أساس واحد في كل مكان.

وقد حذّرت الآية التالية البشر من الفُرقة

والاختلاف، بعد أن تمّت في الآية السابقة دعوتهم إلى التمسك بالوحدة، فقالت:

«فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا». وممّا يثير الدهشة أنّ «كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ».

«الزبر»: جمع «زبرة» تعني بعض شعر الحيوان خلف رأسه، يجمعه الراعي ليفصله عن

مختصر الامثل، ج 3، ص: 333

باقي الشعر، ثم أطلقت هذه الكلمة على كل شي ء ينفصل عن أصله، فتقول الآية: «فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا». إشارة منها إلى تفرّق الامّة إلى مجموعات وفئات مختلفة.

تستعرض الآية حقيقة نفسية واجتماعية هي أنّ التعصب الجاهلي للأحزاب والفئات يمنع وصولها إلى الحقيقة، لأنّ كلًّا منها قد اتّخذ سبيلًا خاصّاً به.

وهذه الحالة نتجت عن حبّ الذات المفرط والعناد، وهما أكبر عدوّ للحقيقة، ولوحدة الامة.

ولهذا تقول الآية الأخيرة هنا: «فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ». أي: اتركهم على حالهم حتى يأتي أجلهم، أو يأتيهم اللَّه بعذاب منه، فليس لهم سوى هذا، لأنّهم أصرّوا على البقاء في جهلهم ومتاهتهم.

«حين»: قد تكون إشارة إلى وقت الموت، أو نزول العذاب، أو كليهما.

«الغمرة»: على وزن «ضربة» فهي بالأصل من «غمر» أي إتلاف كل شي ء، ثم أطلق غمر وغامر على الماء الكثير الذي يزيل كل شي ء يواجهه، ويواصل جريانه، ثم أطلق على الجهل والبلايا التي يغرق فيها الإنسان، كما استعملته الآية السابقة بمعنى الغفلة والضياع والجهل والضلال.

أَ يَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَ بَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَ الَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَ الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَ هُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)

تعرّض ما سبق من الآيات المباركة للأحزاب

والمجموعات المعاندة التي غلب عليها التعصب وحبّ الذات، بينما أشارت الآيات موضع البحث إلى بعض تصوراتهم الأنانية: «أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ» «1». هو من أجل أنّنا: «نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الْخَيْرَاتِ».

فهل يتصوّرون أنّ أموالهم الوافرة وكثرة أولادهم دليل على أنّهم على حق، ودليل على

______________________________

(1) وهذا هو ما أشارت إليه معظم آيات القرآن في قضيّة (الإستدراج في النعم).

«نمدّ»: مشتقة من «الإمداد» وهو إتمام النقص والحيلولة دون القطع، وإيصال الشي ء إلى نهايته.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 334

قرب منزلتهم من اللَّه؟ «بَلْ لَّا يَشْعُرُونَ» أنّ كثرة أموالهم وأولادهم نوع من العذاب، أو مقدمة للعذاب ولعقاب اللَّه، إنّهم لا يدركون أنّ ما أغدق عليهم ربّهم من نعم إنّما هو من أجل أن يتورّطوا في العقاب الإلهي، ويمسي عقابهم أشد ألماً. وبعد نفي تصورات هؤلاء الغافلين، تستعرض هذه الآيات وضع المؤمنين والمسارعين في الخيرات، وتبيّن صفاتهم الرئيسية، فتقول: «إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ». و «الخشية»: تعني الخوف المقترن بالتعظيم والتقديس.

ثم تضيف الآية: «وَالَّذِينَ هُم بَايتِ رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ».

وتأتي بعد مرحلة الإيمان بآيات اللَّه، مرحلة تنزيهه عن كل شبهة وشريك، فتقول الآية: «وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَايُشْرِكُونَ».

بعد هذا تأتي مرحلة الإيمان بالمعاد والبعث، والإهتمام الخاص الذي يوليه المؤمنون الحقيقيون لهذه القضية، التي تساعدهم عملياً في السيطرة على أعمالهم وأقوالهم، فتقول الآية: «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءَاتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ».

وبعد شرح الآيات السابقة لهذه الصفات الأربعة تقول الآية: «أُولئِكَ يُسرِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ».

وقد رسمت الآيات السابقة صورة واضحة لصفات هذه القدوة من المؤمنين، فبدأت أوّلًا بالخوف الممتزج بتعظيم اللَّه، وهو الدافع إلى الإيمان به ونفي الشرك عنه، وانتهت بالإيمان بالمعاد حيث محكمة العدل الإلهي، الذي يشكّل الشعور بالمسؤولية، ويدفع

الإنسان إلى كل عمل طيّب، فهي تبيّن أربع خصال للمؤمنين ونتيجةً واحدةً. (فتأمّلوا جيداً).

وَ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَ لَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذَا وَ لَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ (67)

بما أنّ خصال المؤمنين هي سبب القيام بالأعمال الخيّرة التي أشارت إليها الآيات السابقة، فهنا يثار هذا التساؤل بأنّ هذه الخصال والقيام بهذه الأعمال لا تتيسّر لكل أحد.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 335

فتجيب أوّل آية- من الآيات موضع البحث- عن ذلك فتقول: «وَلَا نُكَلّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا». وكل إنسان يكلّف حسب عقله وطاقته.

وهذه إشارة إلى أنّ الواجبات الشرعية هي في حدود طاقة الإنسان، وأنّها تسقط عنه إذا تجاوزت هذه الحدود، وكما يقول علماء اصول الفقه: إنّ هذه القاعدة حاكمة على جميع الواجبات الشرعية ومقدمة عليها.

وقد يُسأل: كيف يُحاسب كل البشر على أعمالهم كلّها صغيرها وكبيرها؟

فتجيب الآية: «وَلَدَيْنَا كِتبٌ يَنطِقُ بِالْحَقّ وَهُمْ لَايُظْلَمُونَ». فهناك صحيفة أعمال الإنسان المحفوظة لدى اللَّه العلي القدير.

ولكون هذه الحقائق مؤثّرة في الواعين من الناس فحسب، أضافت الآية التالية بأنّ هؤلاء الكفار المعاندين غارقون في دوّامة الجهل والغفلة لدرجة أنّهم غافلون عما ينتظرهم من الوعيد: «بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَةٍ مّنْ هذَا».

وتضيف هذه الآية: «وَلَهُمْ أَعْملٌ مِّن دُونِ ذلِكَ هُمْ لَهَا عمِلُونَ».

المهمّ هو الإنتباه إلى أنّ مصدر الأعمال الشريرة يكمن في إنغمار القلوب في الجهالة.

ولكن هؤلاء المترفين يبقون في هذه الغفلة ما داموا في نعيمهم، فإذا جاءهم العذاب

فهم يصرخون كالوحوش من شدة العذاب الإلهي، كما تقول الآية: «حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجَرُونَ».

فيخاطبون: «لَاتَجَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لَاتُنصَرُونَ».

وتكشف الآية التالية عن سبب هذا المصير المشؤوم: «قَدْ كَانَتْ ءَايتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقبِكُمْ تَنكِصُونَ». بدلًا من الاستفادة منها والإنتباه للواقع.

«تنكصون»: مشتقة من النكوص، بمعنى السير بشكل معاكس.

«أعقاب»: جمع «عقب» على وزن «فَعِل» وتعني عقب القدم.

وهذه الجملة كناية عن شخص يسمع كلاماً غير مرغوب فيه، فيرتعب لدرجة يسير فيها القهقرى على عقبي قدميه.

ثم إنّه لا يرجع إلى الوراء لمجرد سماعه آيات اللَّه، وإنّما يصبح ممن وصفتهم الآية: «مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ».

وإضافةً إلى ذلك: «سمِرًا تَهْجُرُونَ». أي يتسامرون في لياليهم ويتحدثون عن النبي والقرآن بالباطل.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 336

«سامراً»: مشتقة من «سَمَرَ» على وزن «نصر» بمعنى التحدّث ليلًا.

«تهجرون»: مشتقة من «هَجْر» وتعني بالأصل الإبتعاد والانفصال، وقد وردت بمعنى الهذيان الصادر من المريض، لأنّ كلامه في تلك الحالة غير سليم، ويبعث على النفور كما أنّ الهُجر (على وزن كُفر) يعني السباب، وهو أيضاً يبعث على الإبتعاد والقطيعة.

وقد جاءت كلمة «تهجرون» في الآية بالمعنى الأخير، فتقول: إنّ المشركين من العرب كانوا يتسامرون حتى ساعات متأخّرة من الليل، وهم يهذون ويكيلون السباب والشتائم كالمرضى.

أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَ إِنَّ الَّذِينَ لَا

يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)

أعذار المنكرين المختلفة: تحدّثت الآيات السابقة عن إعراض الكفار وإستكبارهم إزاء الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله. وتناولت هذه الآيات أعذارهم في هذا المجال والردّ عليهم، وشرحت الدوافع الحقيقية لإعراض المشركين عن القرآن والرسول صلى الله عليه و آله، ويمكن تلخيصها في خمس مراحل:

الاولى: «أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ». فأوّل سبب لتعاستهم هو تعطيل التفكّر في مضمون دعوة النبي صلى الله عليه و آله ولو تفكّروا مليّاً لما بقيت مشكلة لديهم.

وفي المرحلة الثانية تقول الآية: «أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ ءَابَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ». سألت الآية مستنكرةً: أكانت الدعوة إلى التوحيد والمعاد، والهدى إلى الأعمال الصالحة مختصة بهم دون آبائهم الأوّلين، ليحتجّوا بأنّها بدعةً، ويقولوا: لماذا لم يبعثه اللَّه للأوّلين، وهو لطيف بعباده؟

ليس لهم ذلك، لأنّ الإسلام من حيث المبادى ء له مضمون سائر الرسالات التي حملها الأنبياء عليهم السلام فهذا التبرير غير منطقي ولا معنى له.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 337

وفي المرحلة الثالثة تقول الآية: «أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ». أي: إذا كانت هذه الدعوة صادرة من شخص مجهول ومشكوك، فيحتمل أن يقولوا بأنّ كلامه حق، إلّاأنّ هذا الرجل مشكوك وغير معروف لدينا، فيحتمل أن نُخدع بكلامه، ولكنّهم يعرفون ماضيك جيّداً، وكانوا يدعونك محمّداً الأمين، ويعترفون بعقلك وعلمك وأمانك، ويعرفون جيّداً والديك وقبيلتك، فلا حجة لهم.

وفي المرحلة الرابعة تقول الآية: «أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ». أي إنّه مجنون، فبعد إعترافهم بأنّك لست مجهولًا بالنسبة لهم، إلّاأنّهم يشكّكون في سلامة عقلك وينسبونك إلى الجنون، لأنّ ما تدعو إليه لا ينسجم مع عقائدهم، فلذلك اتّخذوا هذا دليلًا على جنونك.

يقول القرآن المجيد لنفي هذه الحجة: «بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقّ». وكلامه شاهد على هذه الحقيقة، ويضيف: «وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقّ

كرِهُونَ».

أجل، إنّ كلمات الرسول راشدة حكيمة، إلّاأنّهم ينكرونها لعدم إنسجامها مع أهوائهم النفسية، فألصقوا به تهمة الجنون في الوقت الذي لا ضرورة في توافق الحق مع رغبات الناس: «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّموَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ».

لأنّه لا يوجد مقياس يحدّد أهواء الناس، مضافاً إلى أنّها تميل إلى الشر والفساد غالباً.

وتأكيداً لذلك تقول الآية: «بَلْ أَتَيْنهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ». أي: منحناهم القرآن الذي هو أساس للذكر والتوجه إلى اللَّه، وسبب لرفعتهم وشرفهم، إلّاأنّهم أعرضوا عن هذا المنار الذي يُضي ء لهم درب السعادة والشرف.

وفي المرحلة الخامسة تقول الآية: هل أنّ عذرهم في فرارهم من الحق هو أنّك تريد منهم أجراً على دعوتك: «أَمْ تَسَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ».

والقرآن الكريم بإيضاحه هذه المراحل الخمس برهن على أنّ هؤلاء الحمقى (المشركين) لا يرضخون للحق، وأنّ أعذارهم في إنكار الحق أعذار واهية.

وجاءت الآية التالية باستنتاج عام لكل ما مضى: «وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ».

ورغم أنّ الروايات الإسلامية تفسّر الصراط المستقيم بولاية علي عليه السلام، إلّاأنّها تكشف عن المصداق الأكمل لذلك، ولا تتنافي مع المصاديق الاخرى كالقرآن والإيمان بالمبدأ والمعاد والتقوى والجهاد والعدل.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 338

وتستعرض الآية التالية النتيجة الطبيعية لهذا الموضوع، فتقول: «وَإِنَّ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالْأَخِرَةِ عَنِ الصّرَاطِ لَنكِبُونَ».

«ناكب»: مشتقة من «النكب» و «النكوب» أي الانحراف عن الطريق. «نكبت الدنيا» تقع في مقابل إقبال الدنيا، وتعني إدبار الدنيا وإعراضها عن المرء.

والصراط يقصد به هنا ما في الآية السابقة.

أوضحت الآيات السابقة عدداً من صفات القادة إلى طريق الحقّ، فهم المعروفون بالصلاح والإستقامة.

ويواصلون عملهم بإصرار دائم لنشر العقيدة الحقّة رغم رفض عدد كبير من الناس لهم وحقدهم عليهم.

والصفة الاخرى للأنبياء أنّهم لم يطلبوا أجراً من

الناس.

وَ لَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَ كَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَ لَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَ مَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصَارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ لَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ أَ فَلَا تَعْقِلُونَ (80)

طرق التوعية الإلهية المختلفة: عرضت الآيات السابقة الحجج التي يتذرّع بها منكرو الحق في رفض الرسالات وإيذاء الأنبياء عليهم السلام، وتناولت هذه الآيات إتمام الحجة عليهم من قبل اللَّه تعالى وتوعيتهم. فتقول أوّلًا: إنّنا تارةً نشملهم برعايتنا ونرزقهم من وفير النعمة لينتبهوا، ولكن: «وَلَوْ رَحِمْنهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِى طُغْينِهِمْ يَعْمَهُونَ».

واللَّه تعالى يبتليهم لعلهم يعون حين لا تجدي بهم رحمته سبحانه، لكن طائفة غالبة منهم لم يستيقظوا حتى بالبلاء المذل:

«وَلَقَدْ أَخَذْنهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 339

فاللَّه تعالى يواصل هذه الرحمة والنعمة والعقوبات، والمشركون يواصلون طغيانهم وعنادهم: «حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ» «1».

الواقع، أنّ نوعين من العقاب الإلهي: أوّلهما «عقاب الإبتلاء»، وثانيهما «عقاب الإستيصال» والإقتلاع من الجذور، والهدف من العقاب الأوّل وضع الناس في صعوبات وآلام ليدركوا مدى ضعفهم وليتركوا مركب الغرور.

أمّا هدف العقاب الثاني الذي ينزل بالمعاندين المستكبرين فهو إزالتهم عن مجرى الحياة، وتطهيرها من عراقيلهم.

ثم تناول القرآن المجيد القضية من باب آخر، فعدّد النعم الإلهية لدفع الناس إلى الشكر: «وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصرَ وَالْأَفِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ».

والتأكيد على (الاذن والعين

والعقل) لأنّها الأجهزة التي بها يتعرف الإنسان على المحسوسات والقضايا، فالأشياء الحسيّة يبلغها بالعين والاذن، والقضايا غير الحسية يدركها بالعقل.

وتناولت الآية اللاحقة خلق اللَّه سبحانه للإنسان من التراب، فتقول: «وَهُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الْأَرْضِ» «2».

وبما أنّه- جلّ إسمه- خلقكم من الأرض، لذلك ستعودون إليها مرّة ثانية، ثم يبعثكم: «وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ».

ولو فكّرتم في خلقكم من تراب لا قيمة له، لدلّكم على خالق الوجود سبحانه، وعرّفكم على كريم لطفه بكم وإحسانه إليكم، وقادكم إلى الإيمان به وبالمعاد.

وبعد ذكر خلق الإنسان، تناولت الآية المذكورة آنفاً دلائل اخرى من بديع صنع اللَّه تعالى «وَهُوَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلفُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ».

وبهذا الترتيب بدأ البيان القرآني من الدافع لإستيقاظ القلب وإنبعاثه على معرفة ربّه سبحانه وإنتهى بذكر بعض أهمّ الآيات الأنفسية والآفاقية.

______________________________

(1) «المبلس»: كلمة مشتقة من «الإبلاس» بمعنى الألم الشديد الناتج عن شدّة أثر الحادثة، وتدفع بالإنسان إلى الصمت والحيرة واليأس.

(2) «ذرأ»: مشتقة من الذرء (على وزن زرع)، وهي في الأصل بمعنى الخلق والإيجاد والإظهار.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 340

بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَ إِذَا مِتْنَا وَ كُنَّا تُرَاباً وَ عِظَاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَ آبَاؤُنَا هذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)

دعت الآيات السابقة

منكري اللَّه والمعاد إلى التفكر في خلق عالم الوجود وآيات الآفاق والأنفس، وأضافت هذه الآيات أنّ هؤلاء تركوا عقولهم واتبعوا أسلافهم وقلّدوهم تقليداً أعمى: «بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ».

ثم إنّ هؤلاء ملكهم التعجب و: «قَالُوا أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظمًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ».

إنّ ذلك لا يُصدّق، «لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءَابَاؤُنَا هذَا مِن قَبْلُ». فكانت وعوداً كاذبة، و «إِنْ هذَا إِلَّا أَسطِيرُ الْأَوَّلِينَ».

ولكون الكفار والمشركين أشدّ خوفاً من اليوم الآخر وما فيه من هول الحساب وعدل الكتاب، وسدّدت الآيات موضع البحث إلى هذا المنطق الواهي من ثلاث طرق.

ومما يلفت النظر أنّ القرآن يأخذ من المشركين إعترافاً بكل مسألة، فيعيد كلامهم ليثبت إقرارهم. يقول أوّلًا: «قُلْ لّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ».

ثم تضيف الآية أنّهم يؤمنون باللَّه خالق الوجود وفق نداء الفطرة النابع من ذاتهم، وسيجيبونك و: «سَيَقُولُونَ لِلَّهِ». فأجبهم:

«قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ». كيف تتصورون إستحالة إحياء الموتى بعد إعترافكم الصريح؟

ثم يأمر رسوله مرّة ثانية أن يسألهم: «قُلْ مَن رَّبُّ السَّموَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ».

فيأتي الجواب نابعاً من الفطرة التي فطر اللَّه الناس عليها، وهي الإعتراف بربوبيته تعالى

مختصر الامثل، ج 3، ص: 341

«سَيَقُولُونَ لِلَّهِ». وبعد هذا الإعتراف الواضح فلماذا لا تخافون اللَّه، ولا تعترفون بالمعاد وبعث الإنسان مرّة ثانية: «قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ».

واسألهم مرّة اخرى عن سيادة اللَّه على السماوات والأرض: «قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْ ءٍ». ومن الذي يجير اللاجئين وجميع المحرومين ولا يحتاج إلى اللجوء إلى أحد: «وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ».

فيعترفون بأنّ العالم ومالكيته وحكومته وإجارة الآخرين يعود للَّه فقط: «سَيَقُولُونَ لِلَّهِ». «قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ». أي: كيف تقولون: إنّ الرسول صلى الله عليه و آله سحركم رغم كل هذا الإعتراف والإقرار منكم؟!

وأخيراً يقول

القرآن في عبارة مختصرة ذات دلالة كبيرة بأنّه ليس سحراً ولا شعبذة ولا شي ء آخر: «بَلْ أَتَيْنهُم بِالْحَقّ وَإِنَّهُمْ لَكذِبُونَ».

«الأساطير»: جمع «اسطورة». قال بعض اللغويين: إنّها مشتقة من «السطر» بمعنى الصفّ، فيطلق على الكلمات التي إصطفّت في خطّ واحد لفظ السطر. فالاسطورة: الكتابة أو السطور التي تركها لنا الآخرون، ولأنّ كتابات القدماء تحتوي على أساطير خرافية، تطلق الأساطير على الحكايات والقصص الخرافية الكاذبة. وقد تكرّرت كلمة الأساطير في القرآن المجيد تسع مرّات، وجميعها جاء على لسان الكفار لتوجيه مخالفتهم لأنبياء اللَّه تعالى.

«الملكوت»: مشتقة من «المُلك» (على وزن كُفر)، بمعنى الحكومة والمالكية.

«العرش»: يعني السرير ذا القوائم العالية، ويطلق أحياناً على السقف وشبهه، وعندما تتعلق هذه الكلمة باللَّه سبحانه، فإنّها تعني عالم الوجود كلّه.

مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِمَا خَلَقَ وَ لَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)

الشرك يجرّ العالم نحو الدمار: تناولت الآيات السابقة بحوثاً في المعاد والملك والحكم والربوبية، أمّا هذه الآيات فقد تناولت نفي الشرك، وإستعرضت جانباً من إنحرافات المشركين، وردّتها عليهم بالأدلة الساطعة، قائلة: «مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 342

إنّ المسيحيين يرون النبي عيسى عليه السلام إبناً للَّه، والمشركون يرون الملائكة بنات للَّه، وهذا أوضح مظهر للشرك.

ثم بيّنت الآية بطلان الشرك: أنّه لو كان هناك آلهة متعدّدة تحكم العالم، فسيكون لكل إله مخلوقاته الخاصة به يحكم عليها ويدبّر امورها.

وسيكون تبعاً لذلك أنظمة متعددة للعالم، لأنّ كل واحد من الآلهة يدير منطقته بنظام خاص: «إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِمَا خَلَقَ».

وهذا ينافي وحدة النظام الحاكم في هذا

العالم.

«وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ». وهذه نتيجة محتومة لكل صراع، إذ يسعى كل طرف فيه لغلبة الآخرين والهيمنة عليهم، وهذا سيكون بذاته سبباً آخر لتفكّك النظام الموحد السائد في العالم.

وجاء في ختام الآية تقديس للَّه سبحانه «سُبْحنَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ». و الآية التالية تردّ على المشركين المغالطين فتقول: «علِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهدَةِ». أي: إنّ اللَّه يعلم ظاهر الأشياء وباطنها، فكيف تتصورون وجود إله آخر تعرفونه أنتم ولا يعرفه الربّ الذي خلقكم والذي يعلم الغيب والشهادة في هذا العالم؟

وبهذه العبارة يبطل تصوراتهم الخرافية: «فَتَعلَى عَمَّا يُشْرِكُونَ».

وختام هذه الآية يشبه ختام الآية (18) من سورة يونس، كما أنّ هذه العبارة تهديد موجّه للمشركين بأنّ اللَّه الذي يعلم السرّ والعلن، يعلم ما تقولونه، وسيحاسبكم عليه يوم القيامة في محكمته العادلة.

قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَ إِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَ قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَ أَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)

مع مخاطبة هذه الآيات للرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، واصلت مقاصد الآيات السابقة في تهديد الكفار والمشركين المعاندين بأنواع العذاب الإلهي: «قُلْ رَّبّ إِمَّا تُرِيَنّى مَا يُوعَدُونَ». «رَبّ فَلَا تَجْعَلْنِى فِى الْقَوْمِ الظلِمِينَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 343

والمراد بهذا العذاب أنّه العقاب الدنيوي الذي ابتلى اللَّه به المشركين.

وتأكيداً لهذا الموضوع ولنفي كل شك لدى الأعداء، ولتسلية خاطر الرسول صلى الله عليه و آله والمؤمنين، أضافت الآية اللاحقة: «وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقدِرُونَ».

ولقد تجلّت قدرة اللَّه سبحانه في ساحات مختلفة بعد ذلك.

ثم يأمر اللَّه الرسول صلى الله عليه و آله باتباع سياسة

اللين في الدعوة إلى الهدى ودين الحق: «ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ السَّيّئَةَ» «1». أي: ادفع عدوانهم وسيئاتهم بالعفو والصفح والإحسان، وكلامهم البذي بالكلام المنطقي الموزون: «نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ». واللَّه يعلم أنّ أعمالهم القبيحة وكلامهم البذي ء وأذاهم القاسي يؤلم الرسول صلى الله عليه و آله، إلّاأنّه عزّ وجل يدعو إلى عدم الردّ بالمثل، بل يوجب أن يكون الردّ بالتي هي أحسن. وهذا خير سبيل لإيقاظ الغافلين والمخدوعين.

ثم نقرأ أمراً ربّانياً بالإستعاذة باللَّه من مكائد الشيطان: «وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيطِينِ». إنّه دعاء بالإنقاذ من تربّص الشيطان ومكره الخفي، ولا يقف الدعاء عند همزات الشياطين بل يستمر في الإستعاذة من حضورهم عنده: «وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَن يَحْضُرُونَ». أي: حضور الشياطين في اجتماعات النبي صلى الله عليه و آله الذي يؤدّي إلى إغفال المجتمعين وإضلالهم، فعلى محبّي الحق والذابّين عنه وناشديه أن يفوّضوا أمرهم إلى اللَّه، ليحفظهم من وساوس الشياطين ومكائدهم.

حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَ مِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)

طلب المستحيل: تابعت هاتان الآيتان ما تناولته الآيات السابقة من عناد المشركين والمذنبين وتمسكهم بالباطل، فتناولت حالهم الوخيم حين الموت. وأنّهم يستمرون في باطلهم: «حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ».

حينما يجبر المذنب والمشرك على ترك الدنيا لينتقل إلى عالم آخر، تزول عنه حجب الغفلة والغرور، فيرى بام عينه مصيره المؤلم، فلا مال ولا جاه، فقد عاد كل ما يعنيه هباءً في

______________________________

(1) والجدير بالذكر أنّ هذا الأمر خاصّ بحالات لا يسي ء العدو الاستفادة من هذا المبدأ.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 344

هباءٍ، وهو يشاهد اليوم عاقبة أمره، وما إرتكبه من ذنوب ومعاص،

فيرتفع صراخه وعويله: «قَالَ رَبّ ارْجِعُونِ». ارجعني يا ربّ «لَعَلّى أَعْمَلُ صلِحًا فِيمَا تَرَكْتُ». ولكن قانون الخلق العادل لا يسمح بمثل هذه العودة، لا يسمح بعودة الصالح ولا الطالح، فيأتيه النداء الدامغ «كَلَّا». «إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا». كلام لم يصدر من أعماقه، ومتى هدأت العاصفة بوجههم عادوا لسابق أعمالهم القبيحة.

وتشير الآية في نهايتها إلى عالم البرزخ الغامض بعبارة قصيرة ذات دلالة كبيرة «وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» «1».

فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَ هُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)

جانب من عقاب المسيئين: تحدّثت الآيات السابقة عن عالم البرزخ، وأعقبتها آيات تناولت القيامة بالبحث، وتناولت كذلك جانباً من وضع المذنبين في عالم الآخرة. فهي تقول أوّلًا: «فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ».

من المعلوم- بالإستناد إلى آيات القرآن الكريم- أنّ النفخ في الصور يجري مرتين: اوليهما في نهاية هذا العالم، حيث يموت مَن في الأرض والسماوات، وفي ثانيتهما يبدأ بعث من في القبور ليعودوا لحياة جديدة وليستعدّوا للحساب والجزاء.

إنّ الآية السابقة أشارت إلى ظاهرتين من ظواهر يوم القيامة:

اوليهما: إنتهاء مسألة النسب، لأنّ رابطة الاسرة والقبيلة التي تسود حياة الناس في هذا العالم تؤدّي في كثير من الحالات إلى نجاة المذنبين من العقاب، إذ يستنجدون بأقربائهم في حلّ مشاكلهم، أمّا الوضع يوم القيامة فيختلف، حيث كل إنسان وعمله، فلا معين له، ولا

______________________________

(1) «البرزخ»: في الأصل الشي ء الذي يقع حائلًا بين شيئين، ثم استعملت لكل ما يقع بين أمرين، ولهذا أتت كلمة البرزخ للدلالة على عالم يقع

بين عالم الدنيا والآخرة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 345

نفع في ولده، أو أخيه، أو والده.

وثانيتهما: سيطرة الخوف على الجميع، فلا يسأل أحد عن حال غيره بسبب الخوف الشديد من العقاب الإلهي، هو يوم كما اطّلعنا عليه في مطلع سورة الحج: «يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكرَى وَمَا هُم بِسُكرَى وَلكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ».

وبعد وقوع القيامة تبدأ مرحلة الحساب وقياس الأعمال بميزان خاص بيوم القيامة: «فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».

«الموازين»: جمع «ميزان» وهو وسيلة للقياس، وكما ورد في الأحاديث المختلفة أنّه ميزان تقاس به الأعمال والناس، وهم قادة الإسلام الكبار، في الحديث: «إنّ أمير المؤمنين والأئمة من ذريته عليهم السلام هم الموازين» «1».

وعلى هذا فإنّ الرسل وأوصياءهم هم الذين يقاس الناس وأعمالهم بهم، ليتبيّن إلى أيّ درجة يشبهونهم.

«وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ». وهم الذين فقدوا الإيمان والعمل الصالح، فوزنهم خفيف يوم القيامة لأنّهم خسروا رأسمال وجودهم: «فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خلِدُونَ».

عبارة «خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ» تصريح بحقيقة خسران المذنبين لأكبر رأسمال لهم- أي وجودهم- في سوق تجارة الدنيا دون أن يحصلوا على مقابل.

وتشرح الآية التالية عذابهم الأليم: «تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ». ألسنة النار ولهيبها المحرق تضرب وجوههم كضرب السيف، «وَهُمْ فِيهَا كلِحُونَ» وهم من شدة الألم وعذاب النار، في عبوس واكفهرار.

«تلفح»: تعني في الأصل ضربة السيف، وقد وردت هنا كناية، لأنّ لهيب النار، أو نور الشمس المحرقة، وريح السموم، تضرب وجه الإنسان كضرب السيف.

«كالح»: بمعنى التعبيس واكفهرار الوجه.

______________________________

(1) بحار الأنوار 7/ 252.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 346

أَ لَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَ كُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا

فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَ لَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَ ارْحَمْنَا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَ كُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)

تحدثت الآيات السابقة عن العذاب الأليم لأهل النار، وتناولت الآيات- موضع البحث- إستعراض جانب من كلام اللَّه مع أهل النار، إذ خاطبهم سبحانه وتعالى بعتاب: «أَلَمْ تَكُنْ ءَايتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ».

وهم يعترفون في ردّهم: «قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالّينَ».

«الشقوة» و «الشقاوة»: نقيض السعادة، وتعني توفّر وسائل العقاب والبلاء. أو بتعبير آخر: هي الشر والبلاء الذي يصيب الإنسان.

ولعلّهم في إعترافهم هذا يودّون نيل رضى اللَّه ورحمته، لهذا يضيفون مباشرةً: «رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظلِمُونَ».

يقولون ذلك وكأنّهم لا يعلمون أنّ القيامة دار جزاء وليست دار عمل، وأنّ العودة إلى الدنيا أمر محال.

لهذا يردّهم اللَّه سبحانه وتعالى بقوة: «قَالَ اخْسُوا فِيهَا وَلَا تُكَلّمُونِ».

وعبارة «اخسؤا» التي هي فعل أمر، تستعمل لطرد الكلاب، فمتى ما استخدمت للإنسان فإنّها تعني تحقيره ومعاقبته.

ثم يبيّن اللَّه عزّ وجل دليل ذلك بقوله: هل نسيتم، «إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَا ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ». ولكنّكم كنتم تستهزئون بهم إلى درجة أنّ كثرة الإستهزاء والسخرية منهم أنساكم ذكري: «فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ» على أعمالهم وعقائدهم وأخلاقهم «إِنّى جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ».

وأمّا أنتم فقد إبتليتم بأسوأ حالة، وبأكثر العذاب ألماً، ولا ينجدكم أحد من مصيركم الذي تستحقونه.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 347

قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ

يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)

الدنيا وعمرها القصير: بما أنّ الآيات السابقة تناولت جانباً من عذاب أهل النار الأليم، عقّبت الآيات- موضع البحث- ذلك بذكر نوع آخر من العذاب، هو العذاب النفسي الموجه من قبل اللَّه تعالى لأهل النار للإستهانة بهم. تقول الآية الاولى: «قَالَ كَمْ لَّبِثْتُمْ فِى الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ». يخاطبهم سبحانه وتعالى يوم القيامة قائلًا: كم سنة عشتم فوق الأرض؟

إلّا أنّهم يرون في هذه المقارنة أنّ الدنيا قصيرة جدّاً: «قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ».

والحقيقة أنّ الأعمار الطويلة في الدنيا كسحابة صيف لو قارناها بحياة الآخرة، حيث النعم الخالدة والعقاب غير المحدود.

وللتأكيد أو للردّ بدقة قالوا: «فَسَلِ الْعَادّينَ». أي: ربّاه اسأل الذين يعرفون أن يعدّوا الأعداد ويحسبوها بدقة حين مقارنة بعضها مع بعض.

وهنا يؤنّبهم اللَّه ويستهزى ء بهم: «قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ».

وإستعملت الآية اسلوباً مؤثراً آخر لإيقاظ هذه الفئة وتعليمها: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَاتُرْجَعُونَ».

هذه العبارة الموجزة والعميقة تبيّن واحداً من أقوى الأدلّة على البعث وحساب الأعمال والجزاء، وتعني أنّ الحياة الدنيا تصبح عبثاً إن لم تكن القيامة والمعاد، فالدنيا بما فيها من مشاكل وما وضع فيها اللَّه من مناهج ومسؤوليات وبرامج، تكون عبثاً وبلا معنى إن كانت لأيّام معدودات فقط، كما سنشرح ذلك في المسائل الآتية.

وبما أنّ عدم عبثيّة الخلق أمر مهم يحتاج إلى دليل رصين، أضافت الآية: «فَتَعلَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ».

وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا

بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَ قُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَ ارْحَمْ وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 348

المفلحون والخائبون: بما أنّ الآيات السابقة تحدثت عن قضية المعاد، واستعرضت الصفات الإلهية، فإنّ الآية الأُولى أعلاه تناولت التوحيد نافيةً الشرك مؤكّدة للمبدأ والمعاد في قوله تعالى: «وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهًا ءَاخَرَ لَابُرْهنَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ».

أجل، إنّ المشركين ينكرون المعاد على الرغم من وضوح أدلته وإشراق حقيقته، ويقبلون الشرك من غير دليل صحيح عليه.

وفي النهاية تقول الآية: «إِنَّهُ لَايُفْلِحُ الْكفِرُونَ».

ما أجمل بداية هذه السورة «قَدْ أَفلح المؤمنون» وما أجمل نهايتها المؤكّدة لبدايتها: «لَايُفْلِحُ الْكفِرُونَ» هذه هي صورة جامعة لحياة المؤمنين والكافرين من البداية إلى النهاية.

وختمت السورة بهذه الآية الشريفة كاستنتاج عام بأن وجّهت الكلام إلى الرسول صلى الله عليه و آله: «وَقُل رَّبّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ».

والآن وقد إختارت فئة الشرك سبيلًا، وجارت فئة اخرى وظلمت، فأنت أيّها الرسول ومن معك تدعون اللَّه ربّكم أن يغفر لكم ويرحمكم بلطفه الواسع الكريم.

«نهاية تفسير سورة المؤمنون»

مختصر الامثل، ج 3، ص: 349

24 سورة النّور

محتوى السورة: يمكن اعتبار هذه السورة خاصة بالطهارة والعفة، وكفاح الإنحطاط الخلقي، والقرآن الكريم يحقق هذا الهدف عبر مراحل، هي:

1- بيان العقاب الشديد للمرأة الزانية والرجل الزاني، وهو ما ورد حاسماً في الآية الثانية من هذه السورة.

2- بيان حد الزنا الذي لا تنبغي إقامته إلّابشروط مشدّدة للغاية.

ثم طرحت الآية بهذه المناسبة الحديث المعروف باسم الإفك، وما فيه من إتهام إحدى نساء النبي صلى الله عليه و آله.

3- وتناولت الآية أحد السبل المهمة لاجتناب التدهور الأخلاقي، من أجل ألا يتصور أنّ الإسلام يهتم فقط بمعاقبة المذنبين.

فطرحت الآية

نظر الرجال إلى النساء بشهوة أو بالعكس، وحجاب المرأة المسلمة، لأنّ أحد أسباب الانحراف الجنسي المهمة ناجم عن هاتين المسألتين.

4- وكخطوة للنجاة من التلوث بما يخلّ بالشرف، دعا القرآن المجيد إلى الزواج اليسير التكاليف.

5- وبيّنت الآيات جانباً من آداب المعاملة، ومبادى ء تربية الأولاد.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 350

مختصر الامثل ج 3 399

6- وجاء ذكر مسائل خاصة بالتوحيد والمبدأ والمعاد والإمتثال لتعاليم النبي صلى الله عليه و آله. كل ذلك خلال البحوث المطروحة.

وتطرقت بحوث هذه الآيات إلى حكومة المؤمنين الصالحين العالمية.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «حصّنوا أموالكم وفروجكم بتلاوة سورة النور وحصّنوا بها نساءكم، فإنّ من أدمن قراءتها في كل ليلة أو في كل يوم لم يزن أحد من أهل بيته أبداً حتى يموت. فإذا مات شيعه إلى قبره سبعون ألف ملك، يدعون ويستغفرون اللَّه له حتى يدخل إلى قبره».

سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَ فَرَضْنَاهَا وَ أَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ الزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)

حدّ الزاني والزانية: سمّيت هذه السورة بالنور لأنّ آية النور فيها من أهم آياتها، واولى آيات هذه السورة المباركة بمثابة إشارة إلى مجمل بحوث السورة: «سُورَةٌ أنزَلْنهَا وَفَرَضْنهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا ءَايتٍ بَيّنتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ».

إنّ «سورة» بناء جميل مرتفع، وهذه الكلمة تطلق أيضاً على قسم من بناء كبير، وتطلق السورة على أقسام القرآن المختلفة المفصولة بعضها عن

بعض.

إنّ هذه العبارة إشارة إلى كون أحكام ومواضيع هذه السورة- من اعتقادات وآداب وأوامر إلهية- ذات أهمية فائقة، لأنّها كلها من اللَّه.

وبعد هذا الإستعراض العام، تناولت السورة أوّل حكم حاسم للزاني والزانية: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ». ولتأكيد هذا الحكم قالت: «وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ».

وأشارت الآية في نهايتها إلى مسألة اخرى لإكمال الاستنتاج من العذاب الإلهي «وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ الْمُؤْمِنِينَ».

وتشتمل هذه الآية على ثلاثة تعاليم:

مختصر الامثل، ج 3، ص: 351

1- الحكم بمعاقبة النساء والرجال الذين يمارسون الزنا.

2- إقامة هذا الحكم الإلهي بعيداً عن الرأفة بمن يقام عليه.

3- أوجب اللَّه حضور عدد من المؤمنين في ساحة معاقبة الزناة ليتعظ الناس بما يرون من إقامة حكم اللَّه العادل على المذنبين.

وبعد بيان حدّ الزنا، جاء بيان حكم الزواج من هؤلاء في الآية الثالثة كما يلي: «الزَّانِى لَايَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ».

إنّ الآية تبيّن واقعة ملموسة، فالمنحطون يختارون المنحطات، وكذلك يفعلن هنّ في اختيارهن، بينما يَسْمو المتطهّرون المؤمنون عن ذلك. كما تبيّن في هذه العبارة حكماً شرعياً وأمراً إلهياً يمنع المؤمنين من الزواج مع الزانيات، ويمنع المؤمنات من الزواج مع الزناة، لأنّ الانحرافات الأخلاقية كالأمراض الجسمية المعدية في الغالب.

وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَ لَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَ أُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

عقوبة البهتان: قد يستغلّ المعترضون ما نصّت عليه الآيات السابقة من عقوبات شديدة للزاني والزانية فيسيئون للمتطهّرين، فبيّنت الآيات اللاحقة هنا عقوبات شديدة

للذين يرمون المحصنات. تقول الآية: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ» «1». فالأشخاص الذين يتّهمون النساء العفيفات بعمل ينافي العفة (أي: الزنا)، ولم يأتوا بأربعة شهود عدول لإثبات إدعائهم. فحكمهم: «فَاجْلِدُوهُمْ ثَمنِينَ جَلْدَةً». وتضيف الآية حكمين أخرين: «وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهدَةً أبَدًا وَأُولئِكَ هُمُ الْفسِقُونَ».

«القذف»: إذا جرى بلفظ صريح، وبأيّ لغة وأيّة صورة فحدّه هو ثمانون جلدة، وإذا لم يكن صريحاً فيعزّر القاذف.

وهذا التشديد في الحكم المشرّع لحفظ الشرف والطهارة، ليس خاصاً بهذه المسألة، ففي كثير من التعاليم الإسلامية نراه ماثلًا أمامنا.

______________________________

(1) «الرّمي» في الأصل هو اطلاق السهم أو قذف الحجر وأمثالهما، وقد استخدمت الكلمة هنا كناية عن اتّهام الأشخاص وسبابهم ووصفهم بما لا يليق.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 352

وفي الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إذا اتّهم المؤمن أخاه انماث الإيمان من قلبه كما ينماث الملح في الماء».

ولكن المولى العزيز الحكيم سبحانه وتعالى لا يسدّ باب رحمته في وجه التائبين، الذين تابوا من ذنوبهم وطهّروا أنفسهم، وندموا على ما فرّطوا، وسعوا في تعويض ما فاتهم من البرّ «إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

فمعنى ذلك قبول شهادتهم بعد التوبة وإزالته الحكم بفسقهم.

وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَ الْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَ يَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَ الْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَ لَوْ لَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس،

قال سعد بن عبادة: لو أتيت لكاع وقد يفخّذها رجل، لم يكن لي أن اهيجه حتى آتي بأربعة شهداء، فواللَّه ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ويذهب، وإن قلت ما رأيت فإنّ في ظهري لثمانين جلدة.

وبنزول الآيات السابقة علم المسلمون الحل السليم لهذه المشكلة.

التّفسير

عقاب توجيه التهمة إلى الزوجة: يستنتج من سبب النّزول أنّ هذه الآيات في حكم الإستثناء الوارد على حدّ القذف، فلا يُطبق حدّ القذف (ثمانين جلدة) على زوج يتّهم زوجته بممارسة الزنا مع رجل آخر، وتقبل شهادته لوحدها ويمكن في هذه الحالة أن يكون صادقاً كما يمكن أن يكون كاذباً في شهادته وهنا يقدم القرآن المجيد حلًا أمثل هو: على الزوج أن يشهد أربع مرات على صدق إدّعائه: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ

مختصر الامثل، ج 3، ص: 353

شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهدَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهدَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْصدِقِينَ وَالْخمِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكذِبِينَ».

وبهذا على الرجل أن يعيد هذه العبارة: «أشهد باللَّه إنّي لمن الصادقين فيما رميتها من الزنا». أربع مرات لإثبات إدعائه من جهة، وليدفع عن نفسه حدّ القذف من جهة اخرى. ويقول في الخامسة: «لعنة اللَّه عليّ إن كنت من الكاذبين».

وهنا تقف المرأة على مفترق طريقين، فإمّا أن تقرّ بالتهمة التي وجهها إليها زوجها، أو تنكرها على وفق ما ذكرته الآيات التالية.

ففي الحالة الاولى تثبت التهمة؛ وفي الثانية: «وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكذِبِينَ وَالْخمِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصدِقِينَ».

وبهذا الترتيب تشهد المرأة خمس مرات مقابل شهادات الرجل الخمس- أيضاً- لتنفي التهمة عنها بأن تكرر أربع شهادات:

«أشهد باللَّه إنّه لمن الكاذبين فيما رماني من الزنا». وفي

الخامسة تقول: «أنّ غضب اللَّه عليّ إن كان من الصادقين».

وهذه الشهادات منهما هي ما يسمّى ب «اللعان»، لاستخدام عبارة اللعن في الشهادة.

وليترتب على هذين الزوجين أربعة أحكام نهائية.

أوّلها: انفصالهما دون طلاق.

وثانيها: تحرم الزوج على الزوجة إلى الأبد، أي لا يمكنهما العودة إلى الحياة الزوجية معاً بعقد جديد.

وثالثها: سقوط حدّ القذف عن الرجل، وحد الزنا عن المرأة.

ورابعها: الطفل الذي يولد بعد هذه القضية لا ينسب إلى الرجل، وتحفظ نسبته للمرأة فقط.

ولم ترد تفاصيل الحكم السابق في الآيات المذكورة أعلاه، وإنّما جاء في آخر الآية موضع البحث: «وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَإِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ».

فهذه الآية إشارة إجمالية إلى تأكيد الأحكام السابقة، لأنّها تدل على أنّ اللعان فضل من اللَّه، إذ يحل المشكلة التي يواجهها الزوجان، بشكل صحيح.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 354

إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْ لَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَ قَالُوا هذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْ لَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَ لَوْ لَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَ لَوْ لَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذَا سُبْحَانَكَ هذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)

حديث الإفك المثير: يستفاد من مجموع الآيات هو أنّه قد اتهم شخص بري ء بعمل مخلّ بالعفة والشرف

حين نزول هذه الآيات، وأنّ الشائعات كانت منتشرة في المدينة، وأنّ مجموعة من المنافقين المتظاهرين بالإسلام أرادوا الاخلال بالمجتمع الإسلامي إلى أخسّ السبل لتلويث سمعة النبي صلى الله عليه و آله والحط من شأنه المقدس لدى الناس، بترويجهم هذه الشائعة، فنزلت هذه الآيات، وتصدّت لهذه الحادثة بقوة، ودفعت المنحرفين والمنافقين الحاقدين إلى جحورهم. وهذه الأحكام نافذة في كل بيئة وزمان. تقول أوّل آية من الآيات موضع البحث، دون أن تطرح أصل الحادثة: «إِنَّ الَّذِينَ جَاءُو بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ».

«الإفك»: على وزن «فكر» يقصد بها كل مصروف عن وجهه، الذي يحق له أن يكون عليه، ومنه قيل للرياح العادلة عن المهاب «مؤتفكة»، ثم اطلقت على كل كلام منحرف عن الحق ومجانب للصواب، ومن ذلك يطلق على الكذب «إفك».

و «العُصبة»: على وزن «فُعْلَة» مشتقة من العَصَبْ، وجمعها أعصاب، وهي التي تربط عضلات الجسم بعضها مع بعض، وعلى شكل شبكة منتشرة في الجسم، ثم أطلقت كلمة «عصبة» على مجموعة من الناس متحدة وذات عقيدة واحدة.

واستخدام هذه الكلمة يكشف عن الإرتباط الوثيق بين المتآمرين المشتركين في ترويج حديث الإفك، حيث كانوا يشكّلون شبكة قوية منسجمة ومستعدة لتنفيذ المؤامرات.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 355

إنّ القرآن طمأن وهدّأ روع المؤمنين الذين آلمهم توجيه هذه التهمة إلى شخصية متطهرة: «لَاتَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ»، لأنّه كشف عن حقيقة عدد من الأعداء المهزومين أو المنافقين الجبناء.

ولو لم تكن هذه الحادثة، لما افتضح أمرهم بهذا الشكل، ولكانوا أكثر خطراً على المسلمين.

إنّ هذا الحادث علّم المسلمين أنّ اتّباع الذين يروّجون الشائعات يجرّهم إلى الشقاء، وأنّ عليهم أن يقفوا بقوّة أمام هذا العمل.

ثم تعقب هذه الآية بذكر مسألتين:

أوليهما: «لِكُلّ امْرِىٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ». إشارة

إلى أنّ المسؤولية الكبرى التي تقع على عاتق كبار المذنبين لا تحول دون تحمل الآخرين لجزء من هذه المسؤولية، ولهذا يتحمل كل شخص مسؤوليته إزاء أية مؤامرة.

والمسألة الثانية: «وَالَّذِى تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ».

وقائد هذه المجموعة سيعاقب عقاباً عظيماً لكبر ذنبه.

ثم توجّهت الآية التالية إلى المؤمنين الذين انخدعوا بهذا الحديث فوقعوا تحت تأثير الشائعات، فلامتهم بشدّة: «لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا». أي: لماذا لم تقفوا في وجه المنافقين بقوة، بل استمعتم إلى أقوالهم التي مسّت مؤمنين آخرين كانوا بمنزلة أنفسكم منكم. ولماذا لم تدفعوا هذه التهمة وتقولوا بأنّ هذا الكلام كذب وافتراء: «وَقَالُوا هذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ».

أنّكم كنتم تعرفون جيداً الماضي القبيح لهذه المجموعة من المنافقين.

ثم تهتم الآيات بالجانب القضائي للمسألة فتقول: «لَّوْلَا جَاءُو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ». أي لماذا لم تطلبوا منهم الإتيان بأربعة شهود. «فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكذِبُونَ».

إنّ هذه الملامة تبيّن أنّ الحكم بأداء أربعة أشخاص لشهادتهم، وكذلك حدّ القذف في حالة عدمه قد نزل قبل الآيات التي تناولت حديث الإفك.

وأخيراً جمعت الآية التالية هذه الملامات، فقالت: «وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِى الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِى مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 356

ونظراً لأن «أفضتم» مشتقة من الإفاضة، بمعنى خروج الماء بكثرة، واستعملت في حالات اخرى للتوغل في الماء، نتج من هذه العبارة أنّ شائعة الإتهام توسعت بشكل شملت المؤمنين مضافاً إلى مروجيها الأصليين (المنافقين).

وتبيّن الآية التالية البحث السابق وهو كيف ابتلي المؤمنون بهذا الذنب العظيم نتيجة تساهلهم، فتقول: «إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ». أي تذكّروا كيف رحّبتم بهذه التهمة الباطلة فتناقلتموها: «وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ».

وتشير

هذه الآية إلى ثلاثة أنواع من ذنوبهم العظيمة في هذا المجال:

الأوّل: تَقبُّل الشائعة: استقبالها وتناقلها.

الثاني: نشر الشائعة دون أي تحقيق أو علم بصدقها.

الثالث: استصغار الشائعة واعتبارها وسيلة للهو وقضاء الوقت. في نهج البلاغة عن الإمام علي عليه السلام قال: «أشدّ الذنوب ما استهان به صاحبه».

ونظراً لهول هذه الحادثة التي استصغرها بعض المسلمين، أكدتها الآية ثانية، فانّبتهم مرّة اخرى ولذعتهم بعباراتها إذ قالت:

«وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهذَا سُبْحنَكَ هذَا بُهْتنٌ عَظِيمٌ».

وسبق لهذه الآية أن وجهت اللوم لهم لسوء ظنهم بالذي وجه إليه الإتهام باطلًا، وهنا تقول الآية: إضافة إلى وجوب حسن الظن بالمتهم يجب ألا تسمحوا لأنفسكم بالتحدث عنه، ولا تتناولوا التهمة الموجهة إليه، فكيف بكم وقد كنتم سبباً لنشرها.

يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَ لَوْ لَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)

حرمة إشاعة الفحشاء: تحدثت هذه الآيات أيضاً عن حديث الإفك، والنتائج المشؤومة والأليمة لاختلاق الشائعات ونشرها، فذكر أوّلًا: «يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ». أي أنّ من علامات الإيمان أن لا يتوجه الإنسان نحو الذنوب العظام، والجملة المذكورة تشكل أحد

مختصر الامثل، ج 3، ص: 357

أركان التوبة، إذ أنّ الندم على الماضي لا يكفي، بل يجب التصميم على عدم تكرار ارتكاب الذنوب في المستقبل، لتكون توبة كاملة.

وللتأكيد أكثر على أنّ هذا الكلام ليس اعتيادياً، بل صادر عن اللَّه العليم الحكيم، ولبيان الحقائق ذات الأثر الفعال في مصير الإنسان،

يقول سبحانه وتعالى: «وَيُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْأَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ». فهو يعلم حاجاتكم وما يضرّكم وما ينفعكم بمقتضى علمه الواسع، ويصدر أحكامه وأوامره المتناسبة لاحتياجاتكم بمقتضى حكمته.

ولتثبيت الأمر نقل الكلام من مورده الخاص إلى بيان عام لقانون شامل دائم، فقال: «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفحِشَةُ فِى الَّذِينَ ءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ».

ولجملة (تشيع الفاحشة) مفهوم واسع يضم كل عمل يساعد في نشر الفحشاء والمنكر.

وتختم الآية بالقول: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ». إنّه يعلم الذين يبيتون في قلوبهم حب هذا الذنب، ويعلم الذين يمارسونه تحت واجهات خداعة، أمّا أنتم فلا تعلمون ذلك ولا تدركونه.

وكررت الآية الأخيرة- مما نحن بصدده من الآيات التي تناولت حديث الإفك ومكافحة إشاعة الفحشاء، وقذف المؤمنين المتطهرين- هذه الحقيقة لتؤكّد القول: «وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَوْ لَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَ لكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَ لَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَ الْمَسَاكِينَ وَ الْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لْيَعْفُوا وَ لْيَصْفَحُوا أَ لَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ الْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَ الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولئِكَ

مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (26)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 358

على الرغم من عدم متابعة هذه الآيات حديث الإفك بصراحة، إلّاأنّها تعتبر مكملة لمضمون ذلك البحث، وتحذّر المؤمنين جميعاً من تأثير الأفكار الشيطانية فعلى هذا حينما يشعر الفرد بأوّل وسوسة شيطانية بإشاعة الفحشاء أو إرتكاب أي ذنب آخر فيجب التصدي له بقوة حاسمة، حتى يمنع من انتشاره وتوسّعه.

وتخاطب الآية الاولى المؤمنين، فتقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطنِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطنِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ».

وحيث لا يمكن جرّ أي إنسان مؤمن متطهر مرّة واحدة إلى الفساد، فإنّ ذلك يتمّ خطوة بعد اخرى في طريق الفساد.

وأخيراً الإبتلاء بالكبائر، وهذه معني جملة «خُطُوَاتِ الشَّيْطنِ».

ثم تشير الآية إلى أهم النعم الكبيرة التي منّ اللَّه بها على الإنسان في هدايته فتقول: «وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكّى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».

ولا شك في أنّ الفضل والرحمة الإلهية ينقذان الإنسان من الإنحطاط والانحراف من الذنوب جميعاً، فاللَّه منحه العقل، ولطف به فأرسل إليه الرسل، ويسّر له سبل الإرتقاء والإهتداء، وأعانه على استكمال الخير، وإضافة إلى هذه المواهب شمل اللَّه الذين تطهروا بتوفيقاته الخاصّة، وإمداداته التي يستحقونها، والتي تعتبر أهم عنصر في تطهير وتزكية النفس.

وذكر عدد من المفسرين- ومنهم الطبرسي في المجمع- سبباً لنزول الآية الثانية- من الآيات موضع البحث- يكشف عن تلاحمها مع الآيات السابقة، قال: نزلت في جماعة من الصحابة أقسموا على أن لا يتصدقوا على رجل تكلّم بشي ء من الإفك ولا يواسوهم. فنزلت هذه الآية لتمنعهم من ردّ فعل قاس، وأمرتهم بالعفو والسماح.

نعود الآن إلى تفسير الآية بملاحظة سبب النزول هذا. يقول القرآن: «وَلَا يَأْتَلِ

أُولُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِى الْقُرْبَى وَالْمَسكِينَ وَالْمُهجِرِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ».

إنّ هذا التعبير يكشف أنّ عدداً ممن تورّط في قضية الإفك كانوا من المهاجرين في سبيل اللَّه إذ خدعهم المنافقون، ولم يجز اللَّه طردهم من المجتمع الإسلامي لماضيهم المجيد، كما لم يسمح بعقابهم أكثر مما يستحقونه.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 359

«يأتل»: مشتقة من «أليّة» أي اليمين.

ثم تضيف الآية: «وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا». لتشجيع المسلمين وترغيبهم في العفو والصفح بقولها: «أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ». فإنّكم مثلما تأملون من اللَّه العفو عنكم وأن يغفر خطاياكم، يجب عليكم العفو والصفح عن الآخرين: «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

وترسم هذه الآيات صورة للتعادل الإسلامي في جذبه ودفعه، وتشكل آيات الإفك والعقوبات الشديدة التي تفرض على الذين يتهمون الآخرين في شرفهم «قوة الدفع». وأمّا الآية موضع البحث التي تتحدث عن العفو والصفح وكون اللَّه غفوراً رحيماً.

فإنّها تكشف عن «قوة الجذب».

ثم تعود الآية إلى قضية القذف واتّهام النساء العفيفات المؤمنات في شرفهن، فتقول بشكل حازم: «إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنتِ الْغفِلتِ الْمُؤْمِنتِ لُعِنُوا فِى الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ».

في تفسير الميزان: هذه الآية أخذ الصفات الثلاث الإحصان والغفلة والإيمان للدلالة على عظم المعصية فإنّ كلًا من الإحصان بمعنى العفة والغفلة والإيمان سبب تام في كون الرمي ظلماً والرامي ظالماً والمرمية مظلومة فإذا اجتمعت كان الظلم أعظم ثم أعظم، وجزاؤه اللعن في الدنيا والآخرة والعذاب العظيم «1».

والمراد من «الغافلات» أنّهن لا يعلمن بما ينسب إليهنّ من بهتان في الخارج، ولهذا لسن في صدد الدفاع عن أنفسهن، وفي النتيجة فإنّ الآية تطرح موضوعاً جديداً للبحث، لأنّ الآيات السابقة تحدثت عن مثيري التهم الذين يمكن التعرف عليهم ومعاقبتهم. إلّاأنّ الحديث هنا يدور حول مثيري الشايعات الذين أخفوا

أنفسهم عن العقاب والحد الشرعي، فتقول الآية: إنّ اللَّه تعالى سيبعدهم عن رحمته في هذه الدنيا، كما ينتظرهم العذاب العظيم في الآخرة.

وتحدد الآية التالية وضع الذين يتهمون الناس بالباطل في ساحة العدل الإلهي، قائلة: «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

تدور ألسنتهم بما لا تشتهي أنفسهم لتستعرض الحقائق.

______________________________

(1) الميزان في تفسير القرآن 15/ 94.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 360

وتشهد أيديهم وأرجلهم، وكما ذكرت الآيات القرآنية: تنطق جلودهم، حقاً إنّه يوم البروز والإفتضاح، ويوم تنكشف فيه السرائر.

ثم تقول الآية: «يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقُّ». واستناداً إلى هذا الدليل أيضاً «وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَ إِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَ مَا تَكْتُمُونَ (29)

لا تدخلوا بيوت الناس حتى يؤذن لكم: بيّنت هذه الآيات جانباً من أدب المعاشرة، والتعاليم الإسلامية الاجتماعية التي لها علاقة وثيقة بقضايا عامة حول حفظ العفة، حيث تقول أوّلًا: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلّمُوا عَلَى أَهْلِهَا». وبهذا الترتيب عندما تعزمون على الدخول لابدّ من إخبار أصحاب البيت بذلك ونيل موافقتهم.

يجب أن يكون محيط المنزل آمناً إلى حدّ كاف؛ حتى أنّ جميع قوانين العالم تمنع الدخول إلى منازل الآخرين دون استئذان وتعاقب عليه. ونصّت الأحكام الإسلامية على تعاليم وآداب خاصة في هذا المجال، لا يشاهد نظيرها إلّانادراً.

روى- في التفسير الكبير- أنّ

أبا سعيد الخدري استأذن على الرسول صلى الله عليه و آله وهو مستقبل الباب فقال: «لا تستأذن وأنت مستقبل الباب».

وفي الدرّ المنثور عن عبداللَّه بن بشر قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول: «السلام عليكم السلام عليكم».

ومما يلفت النظر في هذا الحكم الذي يتصف بأبعاد إنسانية وعاطفية واضحة، مرافقة لجملتين، أولاها: «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ» وثانيتهما: «لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ».

وأردف القرآن هذا الحكم بجملة اخرى في الآية التالية: «فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 361

قد يكون المراد من هذه العبارة أنّه ربّما كان في المنزل أحد، ولكن من لديه حق إعطاء الإذن بالدخول غير موجود، ففي هذه الحالة لا يحق للمرء الدخول إلى المنزل.

ثم تضيف الآية: «وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ».

إشارة إلى أنّه لا لزوم لانزعاج المرء إن لم يؤذن له بالدخول، فلعل صاحب المنزل في وضع غير مريح، أو أنّ منزله لم يهيأ لاستقبال الضيوف.

وبما أنّ بعض الناس قد يدفعهم حبّ الإطلاع والفضول حين رفضهم استقباله على استراق السمع، أو التجسس من ثقب الباب لكشف خفايا أهل المنزل وليطلع على أسرارهم، لهذا قالت الآية: «وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ».

وبما أنّ لكل حكم استثناءً، لرفع المشكلات والضرورات بشكل معقول عن طريقه، تقول آخر آية موضع البحث: «لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتعٌ لَّكُمْ».

وتضيف في الختام: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ». ولعل ذلك إشارة إلى استغلال البعض هذه الاستثناءات، فيتذرّع بأنّ المنزل غير مسكون فيدخله بهدف الكشف عن بعض الأسرار، أو الدخول إلى منازل مسكونة متذرعاً

بعدم علمه بأنّها مسكونة، إلّاأنّ اللَّه يعلم بكل هذه الأعمال، ويعلم الذين يسيئون الاستفادة من هذا الاستثناء.

قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَ قُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَ لَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَ لَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَ لَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 362

سبب النّزول

في الكافي عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «استقبل شابّ من الأنصار امرأة بالمدينة وكان النساء يتقنّعن خلف آذانهن، فنظر إليها وهي مقبلة، فلما جازت نظر إليها ودخل في زقاق قد سمّاه ببني فلان، فجعل ينظر خلفها واعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشقّ وجهه، فلما مضت المرأة نظر فإذا الدماء تسيل على صدره وثوبه، فقال: واللَّه لآتين رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولأخبرنّه». قال: «فأتاه فلما رآه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال له: ما هذا؟ فأخبره، فهبط جبرئيل عليه السلام بهذه الآية: «قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصرِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ»».

التّفسير

مكافحة السفور وخائنة الأعين: قلنا في البداية: إنّ هذه السورة اختصت بالعفة والطهارة وتطهير الناس من جميع الانحرافات الجنسية، ولا يخفى على أحد إرتباط هذا البحث بالبحوث الخاصة

بالقذف. تقول الآية أوّلًا: «قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصرِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ». «يغضوا»: مشتقة من «غضّ» من باب «ردّ» وتعني في الأصل التنقيص، لهذا لم تأمر الآية أن يغمض المؤمنون عيونهم، بل أمرت أن يغضّوا من نظرهم.

إنّ الإسلام نهى عن هذا العمل المندفع مع الأهواء النفسية والشهوات، لأنّ «ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ». كما نصّت عليه الآية- موضع البحث- في ختامها.

ثم تحذر الآية اولئك الذين ينظرون بشهوة إلى غير محارمهم، ويبررون عملهم هذا بأنّه غير متعمّد، فتقول: «إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ».

وتناولت الآية التالية شرح واجبات النساء في هذا المجال، فأشارت أوّلًا إلى الواجبات التي تشابه ما على الرجال، فتقول:

«وَقُلْ لِّلْمُؤْمِنتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصرِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ».

وبهذا حرم اللَّه النظر بريبة على النساء أيضاً مثلما حرّمه على الرجال، وفرض تغطية فروجهنّ عن أنظار الرجال والنساء مثلما جعل ذلك واجباً على الرجال.

ثم أشارت الآية إلى مسألة الحجاب في ثلاث جمل:

أ) «وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا». فلا يحق للنساء الكشف عن زينتهنّ المخفية، وإن كانت لا تُظهر أجسامهنّ، أي لا يجوز لهنّ الكشف عن لباس يتزيّنّ به تحت اللباس

مختصر الامثل، ج 3، ص: 363

العادي أو العباءة، بنص القرآن الذي نهاهن عن ذلك.

ب) وثاني حكم ذكرته الآية هو: «وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ». «خُمُر»: جمع «خِمار» في الأصل تعني «الغطاء»، إلّاأنّه يطلق بصورة اعتيادية على الشي ء الذي تستخدمه النسوة لتغطية رؤوسهنّ؛ و «الجيوب»: جمع «جيب» على وزن «غيب» بمعنى ياقة القميص، وأحياناً يطلق على الجزء الذي يحيط بأعلى الصدر لمجاورته الياقة.

ويستنتج من هذه الآية أنّ النساء كنّ قبل نزولها، يرمين أطراف الخمار على أكتافهن أو خلف الرأس بشكل يكشفن فيه عن الرقبة وجانباً من الصدر، فأمرهن القرآن برمي أطراف الخمار حول

أعناقهن؛ أي فوق ياقة القميص ليسترن بذلك الرقبة والجزء المكشوف من الصدر.

ج) وتشرح الآية في حكمها الثالث الحالات التي يجوز للنساء فيها الكشف عن حجابهن وإظهار زينتهن، فتقول: «وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا». 1- «لِبُعُولَتِهِنَّ». 2- «أَوْ ءَابَائِهِنَّ». 3- «أَوْ ءَابَاءِ بُعُولَتِهِنَّ». 4- «أَوْ أَبْنَائِهِنَّ». 5- «أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ». 6- «أَوْ إِخْوَانِهِنَّ». 7- «أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ». 8- «أَوْ بَنِى أَخَوَاتِهِنَّ». 9- «أَوْ نِسَائِهِنَّ».

10- «أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمنُهُنَّ».

11- «أَوِ التبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الْإِرْبَةِ مِنَ الرّجَالِ». أي: الرجال الذين لا رغبة جنسية عندهم أصلًا بالعنن أو بمرض غيره.

12- «أَوِ الطّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النّسَاءِ».

د) وتبيّن الآية رابع الأحكام فتقول: «وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ». أي: على النساء أن يتحفظن عفتهنّ.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 364

ويجب أن يراقبن تصرفهن بشدة بحيث لا يصل صوت خلخالهن إلى آذان غير المحارم. وانتهت الآية بدعوة جميع المؤمنين رجالًا ونساءً إلى التوبة والعودة إلى اللَّه ليفلحوا: «وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ». وتوبوا أيّها الناس مما ارتكبتم من ذنوب في هذا المجال، بعدما اطلعتم على حقائق الأحكام الإسلامية، وعودوا إلى اللَّه لتفلحوا.

فلسفة الحجاب: مما لا شك فيه أنّ الحديث عن الحجاب للمتغربين في عصرنا الذي سمّوه بعصر التعري والحرية الجنسية، ليس حديثاً سارّاً حيث يتصورونه اسطورة يعود لعصور خلت. إلّاأنّ الفساد الذي لا حدّ له، والمشاكل المتزايدة والناتجة عن هذه الحريات التي لا قيد لها ولا حدود، أدّى بالتدريج إلى إيجاد الاذن الصاغية لهذا الحديث.

والقضية المطروحة (نقولها مع الإعتذار): هل من الصحيح أن تُستغل النساء للتلذذ من جانب الرجال عن طريق السمع والنظر واللمس (باستثناء المجامعة) وأن يكن تحت تصرف جميع الرجال، أو أن تكون هذه الامور

خاصة لأزواجهن؟

يقول الإسلام: إنّ الامور الجنسية سواءً كانت مجامعة أو استلذاذاً عن طريق السمع أو البصر أو اللمس خاص بالأزواج، ومحرّم على غيرهم، لأنّ ذلك يؤدّي إلى تلويث المجتمع وانحطاطه، وعبارة «ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ» التي جاءت في الآية السابقة تشير إلى هذه المسألة.

إنّ فلسفة الحجاب ليست خافية على أحد للأسباب التالية:

1- إنّ تعري النساء وما يرافقه من تجميل ودلال- وما شاكل ذلك- يحرك الرجال- خاصّة الشباب- ويحطّم أعصابهم، وتراهم قد غلب عليهم الهياج العصبي، وأحياناً يكون ذلك مصدراً للأمراض النفسية.

خاصة إذا لاحظنا أنّ الغريزة الجنسية، أقوى الغرائز في الإنسان وأكثرها عمقاً، وكانت عبر التاريخ السبب في أحداث دامية وإجرامية مرعبة، حتى قيل: إنّ وراء كل حادثة مهمة امرأة.

أليس إثارة الغرائز الجنسية لعباً بالنار؟ وهل هذا العمل عقلاني؟

2- تبيّن إحصاءات موثقة ارتفاع نسب الطلاق وتفكّك الاسرة في العالم، بسبب زيادة التعرّي، لأنّ في سوق التعري والحرية الجنسية، حيث المرأة سلعة تباع وتشترى أو في أقل تقدير موضع نظر وسمع الرجال، عندها يفقد عقد الزواج حرمته.

3- انتشار الفحشاء وازدياد الأبناء غير الشرعين يعتبران من أنكى نتائج إلغاء

مختصر الامثل، ج 3، ص: 365

الحجاب، فشواهدها ظاهرة في المجتمع الغربي، واضحة بدرجة لا تحتاج إلى بيان.

4- قضية «ابتذال المرأة» وسقوط شخصيتها في المجتمع الغربي ذات أهمية كبيرة فعندما يرغب المجتمع في تعري المرأة، فمن الطبيعي أن يتبعه طلبها لادوات التجميل والتظاهر الفاضح والإنحدار السلوكي، وتسقط شخصية المرأة في مجتمع يركز على جاذبيتها الجنسية، ليجعلها وسيلةً إعلامية يُروّج بها لبيع سلعة أو لكسب سائح.

وهذا السقوط يفقدها كل قيمتها الإنسانية، إذ يصبح شبابها وجمالها وكأنّه المصدر الوحيد لفخرها وشرفها، حتى لا يبقى لها من إنسانيتها سوى أنّها أداةٌ لإشباع شهوات الآخرين، الوحوش الكاسرة

في صور البشر.

كيف يمكن للمرأة في هذا المجتمع أن تبرز علمياً وتسمو أخلاقياً؟!

وَ أَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَ إِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَ لْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَ آتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَ لَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَ مَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)

الترغيب في زواج يسير التكاليف: طرحت هذه الآية- منذ بدايتها حتى الآن- سبلًا أمينة متعددة للحيلولة دون الإنحطاط الخلقي والفساد إلى عالم أرحب من الطهر والاستقامة، ويحول دون تقهقرها أو انحدارها في مهاوي الرذيلة، وقد أشارت الآيات- موضع البحث- إلى أهم طرق مكافحة الفحشاء، ألا وهو الزواج اليسير الذي يتمّ بعيداً عن أجواء الرياء والبذخ، لأنّ إشباع الغرائز بشكل سليم وشرعي خير سبيل لاقتلاع جذور الذنوب. لهذا تقول بداية الآية موضع البحث: «وَأَنْكِحُوا الْأَيمَى مِنكُمْ وَالصلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ». «الأيامى»: جمع «أيّم» على وزن «قيّم» وتعني في الأصل المرأة التي لا

مختصر الامثل، ج 3، ص: 366

زوج لها، وكذلك تطلق هذه الكلمة على الرجل الذي لا زوجة له، فيدخل في هذا المفهوم كل من ليس له زوج، سواء كان بكراً أم ثيّباً. وعبارة «أنكحوا» أي «زوّجوا» فالمراد من هذا الأمر بالتزويج التمهيد للزواج عن طريق تقديم العون المالي عند الحاجة، أو العثور على زوجة مناسبة، أو التشجيع على الزواج، ولا اختلاف في أنّ

أصل التعاون الإسلامي يوجب تقديم العون من قبل المسلمين بعضهم لبعض.

وجاء ذلك هنا بصراحة ليؤكّد أهمية الزواج الخاصة، وهي أهمية بالغة المدى.

في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: أفضل الشفاعات أن تشفع بين اثنين في نكاح حتى يجمع اللَّه بينهما».

وبما أنّ بعض الأعذار كالفقر أو عدم وجود وتوفّر الإمكانات اللازمة قد تقف حائلًا دون الزواج، أو هو عذر للفرار من الزواج وتشكيل الاسرة. يقول القرآن بهذا الصدد: «إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ».

إنّ المتزوج يكتسب شخصية اجتماعية، حيث يجد نفسه مسؤولًا عن المحافظة على زوجته، وماء وجه اسرته، وتأمين حياةٍ سعيدة ومستقبل زاهر لها، ويستغلّ المتزوج جميع طاقاته للحصول على دخل معتبر، فتراه يقتصد في نفقاته ليتغلّب على الفقر بأسرع وقت ممكن، ولا جدال في أنّ الإمدادات الإلهية والقوى الروحية الخفية تساعد هذا الشخص الذي تزوج ليحفظ نفسه ويطهرها.

ولكن أحياناً بالرغم من بذل الجميع جهودهم لتهيئة مستلزمات زواج إنسان ما لا يفلحون في ذلك، مما يضطره إلى مضي فترة من الزمن محروماً من الزواج، ولكي لا يظن أنّ إقدامه على الفساد أمراً مباحاً تقتضيه الضرورة أسرعت الآية التالية لتأمره بالطهارة والعفّة فقالت: «وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَايَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ».

ويهتم الإسلام كعادته بالعبيد الضعفاء اجتماعياً من أجل تيسير حريتهم، فيتناول القرآن المجيد مسألة المكاتبة «1» فتقول الآية:

«وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتبَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمنُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا».

ولأجل ألا يقع العبيد في مشاكل لا يتمكنون من حلّها ويعجزون عن تسديد ما

______________________________

(1) إنّ عقد المكاتبة نوع من الإتفاقات يتمّ بين المولى وعبده، يلتزم العبد فيه بإعداد مبلغ من المال من عمل حرّ، ليدفع أقساطاً لسيّده، فإذا

دفع آخر قسطينال حريته.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 367

بذمتهم، يدعو القرآن الكريم إلى مساعدتهم فيقول: «وَءَاتُوهُم مّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِى ءَاتكُمْ».

والهدف الحقيقي هو أن يشمل المسلمون هذه الطبقة المستضعفة بمساعداتهم لتتحرر بأسرع وقت ممكن.

وعقّبت هذه الآية بإشارة إلى أحد الأعمال القبيحة التي كان يمارسها عبّاد الدنيا إزاء جواريهم: «وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا».

وهذه الآية تكشف عن مدى الرذيلة والإنحطاط الخلقي الذي كان سائداً في عهد الجاهليه، وقد واصل البعض أعماله القبيحة هذه حتى بعد ظهور الإسلام، حتى نزلت الآية السابقة، وأنهت هذه الأعمال.

ومع بالغ الأسف نجد عصرنا الذي سمي بجاهلية القرن العشرين، تمارس البشرية هذا العمل بقوة وعلى قدم وساق في بلدان تدّعي المدنية والحضارة والدفاع عن حقوق الإنسان.

وفي الختام- على حسب الاسلوب الذي يتبعه القرآن- يفتح طريق التوبة للمذنبين، ويشجعهم على إصلاح أنفسهم: «وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

وعلى نهج القرآن، نجد آخر الآيات- موضع البحث- تستنتج وتلخّص الموضوع المطروح خلال إشارتها إلى البحوث السابقة: «وَلَقَدْ أنزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءَايتٍ مُّبَيّنَاتٍ». وكذلك دروس وعبر من الأقوام الماضية تنفعكم في يومكم هذا: «وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ».

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَ لَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِي ءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَ الْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَ لَا بَيْعٌ

عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقَامِ الصَّلَاةِ وَ إِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 368

آية النور: تحدث الفلاسفة والمفسرون والعرفاء الإسلاميون كثيراً عن مقاصد الآيات أعلاه، وهي مرتبطة بما سبقها من الآيات الشريفة التي عرضت لقضية العفة ومكافحة الفحشاء بمختلف السبل.

وبما أنّ ضمانة تنفيذ الأحكام الإلهية، وخاصة السيطرة على الغرائز الثائرة، ولا سيما الغريزة الجنسية التي هي أقوى الغرائز، لا تتمّ دون الإستناد إلى الإيمان، ومن هنا إمتد البحث إلى الإيمان وأثره القوي، فقالت الآية أوّلًا: «اللَّهُ نُورُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

وإذا أردنا تشبيه الذات المقدسة لربّ العالمين (رغم منزلته العظيمة التي لا نظير لها ولا شبيه) فلا نجد خيراً من النور! اللَّه الذي خلق كل شي ء في عالم الوجود ونوّره، فأحيا المخلوقات الحية ببركته، ورزقها من فضل، ولو انقطعت رحمته عنها لحظة، لأصبح الجميع في ظلمات الفناء والعدم.

ومما يلفت النظر أنّ كل مخلوق يرتبط باللَّه بمقدار معين يكتسب من النور بنفس ذلك المقدار:

القرآن نور لأنّه كلام اللَّه.

والدين الإسلامي نور لأنّه دينه.

الأنبياء أنوار لأنّهم رسله.

والأئمة المعصومون عليهم السلام أنوار إلهية، لأنّهم حفظة دينه بعد النبي صلى الله عليه و آله.

والإيمان نور، لأنّه رمز الإلتحام به سبحانه وتعالى.

والعلم نور، لأنّه السبيل إلى معرفته- عزّ وجل-.

ولهذا: «اللَّه نور السماوات والأرض».

وإذا استعملنا كلمة «النور» بمعناها الواسع، أي الظاهر في ذاته والمظهر لغيره في هذه الحالة يصبح استعمال كلمة النور الذات اللَّه المقدسة حقيقة ولا تشبيه فيها، لأنّه لا يوجد أظهر من اللَّه تعالى في العالم، وكل الأشياء تظهر من بركات وجوده.

وبهذا تأخذ أنوار الوجود نورها من نوره

وتنتهي إلى نوره الطاهر.

وقد أوضح القرآن بعد بيانه الحقائق السالفة ذلك، إذْ ذكر مثالًا رائعاً دقيقاً لكيفية النور الإلهي: «مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَوةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِى زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّىٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّاشَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِى ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ

مختصر الامثل، ج 3، ص: 369

عَلَى نُورٍ يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ».

«المشكاة»: في الأصل تعني الكُوّة التي تخصص في الجدار لوضع المصابيح الزيتية فيها لحفظها من الرياح.

«الزجاجة»: تطلق في الأساس على الأحجار الشفّافة، وهنا تعني الزجاجة التي توضع فوق المصباح لتحفظ شعلته، وتنظّم جريان الهواء، لتزيد من نور الشعلة.

«المصباح»: يتألف من وعاء للزيت وفتيل.

عبارة «زَيْتُونَةٍ لَّاشَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ» تشير إلى الطاقة التي تُجهّز هذا المصباح بوقود لا ينضب معينه، وزيت الزيتون من أجود الوقود المستعمل للمصابيح، ثم إنّ هذا الزيت يُحصل عليه من زيتون شجر يتعرض للشمس من جميع جوانبه بشكل متساو، لا أن تكون الشجره في الجانب الشرقي من البستان وبجانب حائط يمنع وصول أشعة الشمس إليها، كما لا تكون في جهة الغرب ليتعرض جانب واحد منها على أشعة الشمس.

وتوضيح هذا المثال: إنّ نور الإيمان الموجود في قلوب المؤمنين يحتوي على العناصر الأربعة المتوفرة في المصباح المضي ء، هي:

«المصباح» وهو شعلة الإيمان في قلب المؤمن يضي ء طريق الهداية.

و «الزجاجة» هي قلب المؤمن ينظم الإيمان في ذاته ويحفظه من كل سوء.

و «المشكاة» صدر المؤمن. أو بعبارة اخرى: شخصيته بما فيها وعيه وعلمه وفكره الذي يصون إيمانه من الأعاصير والأخطار.

«شجرة مباركة زيتونة» هي الوحي الإلهي الذي يكون بمنتهى الصفاء والطهارة وتوقد شعلة إيمان المؤمنين- في الحقيقة- من نور اللَّه الذي ينير السماوات والأرض وقد

أشرق من قلوب المؤمنين، فأضاء وجودهم ونور وجوههم.

فتراهم يمزجون الأدلة العقلائية بنور الوحي، فيكون مصداق «نور على نور».

ولهذا ترى القلوب المستعدة لاستقبال النور الإلهي تهتدي، وهي المقصودة بعبارة «يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ».

وتجب المحافظة على نور الوحي من التلوث والميول المادية والانحراف إلى الشرق أو الغرب الذي يؤدّي إلى التفسخ والإندثار.

ولتعبي ء قوى الإنسان بشكل سليم بعيداً عن كل فكر مستورد وانحراف، لتكون

مختصر الامثل، ج 3، ص: 370

مصداقاً ل «يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِى ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ». ويجب أن نعرف الآن أين موضع هذا المصباح، وشكل موضعه، ليتّضح لنا ما كان ضرورياً إيضاحه في هذا المجال، لهذا تقول الآية التالية: إنّ هذه المشكاة تقع «فِى بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ» لكي تكون في مأمن من الشياطين والأعداء والانتهازيين، «وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ» ويتلى فيها القرآن والحقائق الإلهية.

ثم تبيّن المقصود من هذه البيوت في آخر الآية حيث تقول: أنّه في هذه البيوت يسبّح أهلها صباحاً ومساءاً: «يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالْأَصَالِ». «رِجَالٌ لَّاتُلْهِيهِمْ تِجرَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَوةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصرُ». إنّ هذه الخصائص تكشف عن أنّ هذه البيوت هي المراكز التي حُصّنت بأمر من اللَّه، وأنّها مركز لذكر اللَّه ولبيان حقيقة الإسلام وتعاليم اللَّه، ويضم هذا المعنى الواسع المساجد وبيوت الأنبياء والأولياء خاصة بيت النبي صلى الله عليه و آله وبيت علي عليه السلام.

وأشارت آخر هذه الآيات إلى الجزاء الوافي لحراس نور الهداية وعشّاق الحق والحقيقة، فقالت: «لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ». أي: أنّ اللَّه يكافي ء جميع أعمالهم بموجب أفضلها، ويشمل ذلك أبسط أعمالهم وأوسطها، حيث يجعلها اللَّه بمستوى أفضل الأعمال حين منحه المكافأة.

ولا عجب في ذلك،

لأنّ الفضل الإلهي لمن كان جديراً به غير محدود: «وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ».

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)

أعمال سرابية: تحدثت الآيات السابقة عن نور اللَّه، نور الإيمان والهداية، ولإتمام هذا البحث ولتوضيح المقارنة بين الذين نوّر اللَّه قلوبهم وبين الآخرين تناولت هذه الآيات عالم الكفر والجهل والإلحاد المظلم. الكلام في الآية الاولى عن الذين يبحثون عن الماء في

مختصر الامثل، ج 3، ص: 371

صحراء جاقّة حارقة، ولا يجدون غير السراب فيموتون عطشاً، في الوقت الذي عثر فيه المؤمنون على نور الإيمان، ومنبع الهداية الرائعة، فاستراحوا بجنبها، فتقول أوّلًا: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمَانُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيًا». ولكن يجد اللَّه عند أعماله: «وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ».

ثم تناولت الآية الثانية مثالًا آخر لأعمال الكفار وقالت: «أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِى بَحْرٍ لُّجِّىّ يَغْشهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ». وبهذا المنوال تكون «ظُلُمتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَيهَا».

أجل، إنّ النور الحقيقي في حياة البشر هو نور الإيمان فقط، ومن دونه تسود الحياة الظلمات، ونور الإيمان هذا إنّما هو لطف من عند اللَّه: «وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ».

فقد شبّهت الآية أعمال غير المؤمنين بنور كاذب كسراب يراه ظمآن في صحراء جافة.

ثم ينتقل القرآن من

الحديث عن هذا النور الكاذب، الذي هو عبارة عن أعمال المنافقين إلى باطن هذه الأعمال، الباطن المظلم والمخيف والموحش حيث تتعطل فيه حواس الإنسان، وتظلم عليه الدنيا حتى لا يرى نفسه.

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ الطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)

الجميع يسبّح للَّه: تحدثت الآيات السابقة عن نور اللَّه، نور الهداية والإيمان، وعن الظلمات المضاعفة للكفر والضلال، أمّا الآيات موضع البحث، فإنّها تتحدث عن دلائل الأنوار الإلهية وأسباب الهداية، وتخاطب الآية النبي صلى الله عليه و آله فتقول: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبّحُ لَهُ مَن فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ». وكذلك الطير يسبّحن للَّه في حال أنّها باسطات اجنحتهنّ في السماء «وَالْطَّيْرُ صفتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ».

وبما أنّ هذا التسبيح العام دليل على خلقه تعالى لجميع المخلوقات، وخالقيته دليل على مالكيته للوجود كله، وكذلك دليل على أنّ كل ما في الوجود يرجع إليه سبحانه، فتضيف الآية: «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 372

إنّ القصد من التسبيح والحمد هما ما نعبر عنه بعبارة «لسان حاله». أي نظام الوجود وأسراره المدهشة الكامنة في كل مخلوق تتحدث بصراحة عن عظمة الخالق وعلمه وحكمته التي لا حدود لها، إذ كل مخلوق جميل، وكل أثر فني بديع يثير الدهشة والإعجاب، حتى أنّ لوحة فنية وقطعة شعرية جميلة، تحمد وتسبّح لمبدعها. فمن جهة تكشف عن صفاته (بحمدها له) ومن جهة اخرى تنفي عنه أي عيب أو نقص (فتسبحه)، فكيف وهذا الكون العظيم بما فيه من عجائب وغرائب لا

تنتهي.

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (45)

جانب آخر من الخلق العجيب: نواجه ثانية- في هذه الآيات- جانباً آخر من مسألة الخلق المدهشة، وما احتوته من آيات العلم والحكمه والعظمة، وكل ذلك من أدلة توحيد ذات اللَّه الطاهرة. يخاطب القرآن المجيد النبيّ صلى الله عليه و آله ثانية ويقول: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِى سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا». وبعد أن تتراكم السحب ترى قطرات المطر تخرج من بين السحاب وتهبط على الجبال والسهول والصحاري، «فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِللِهِ».

«يزجي»: مشتقة من «الإزجاء»، أي سوقه باسلوب لين لترتيب المخلوقات المتبعثرة هنا وهناك بقصد جمعها.

«ركام»: على وزن «غلام»، بمعنى الأشياء المتراكمة بعضها فوق بعض.

«الودق»: على وزن «شرق»، أنّها حبّات المطر.

فهو الذي يحيي الأرض بعد موتها ويبعث الحياة في الأشجار والنباتات، ويروي عطش البشر والحيوان.

وأشار القرآن إلى ظاهرة اخرى من ظواهر السماء المدهشة، وهي السحاب، حيث قال:

مختصر الامثل، ج 3، ص: 373

«وَيُنَزّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ». أي من جبال السحب في السماء تنزل قطرات المطر على شكل ثلج وبرد، فتكون بلاء لمن يريد اللَّه عذابه فتصيب هذه الثلوج المزارع والثمار وتتلفها وقد

تصيب الناس والحيوانات فتؤذيهم، «فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ». ومن لم يرد تعذيبه دفع عنه هذا البلاء، «وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ».

أجل، إنّه هو الذي ينزّل الغيث المخصب من سحابة تارة ... وهو الذي يصيّره برداً بأدنى تغيير بأمره فيصيب به (بالأذى) من يشاء، وربّما يكون مهلكاً أحياناً.

وهذا يدل على منتهى قدرته وعظمته إذ جعل نفع الإنسان وضرره وموته وحياته متقارنة، بل مزج بعضها ببعض.

وفي نهاية الآية يشير إلى ظاهرة أخرى من الظواهر السماوية التي هي من آيات التوحيد فيقول سبحانه: «يَكَادُ سَنَابَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصرِ». فالسحب المؤلفة من ذرات الماء تحمل في طيّاتها الشحنات «الكهربائية»، وتُومض إيماضاً يُذهل برقها (العيون) والأبصار ويصكّ رعدها السمع من صوته، وربّما اهتزت له جميع الاجواء.

إنّ هذه الطاقة الهائلة يبن هذا البخار اللطيف لمثيرةٌ للدهشة حقاً ...

وأشارت الآية التالية إلى إحدى معاجز الخلق ودلائل عظمة اللَّه، وهو خلق الليل والنهار بما فيهما من خصائص، حيث تقول: «يُقَلِّبُ اللَّهُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِى ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِى الْأَبْصرِ».

إنّ لتعاقب الليل والنهار والتغييرات التدريجية الحاصلة منه أثر فعّال في استدامة الحياة وبقاء الإنسان، وفي ذلك عبرة لُاولي الأبصار.

وأشارت آخر الآيات موضع البحث- إلى أوضح دليل على التوحيد، وهي مسألة الحياة بصورها المختلفة، فقالت: «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مّن مَّاءٍ». أي أنّ أصلها جميعاً من ماء، ومع هذا فلها صور مختلفة: «فَمِنْهُم مَّن يَمْشِى عَلَى بَطْنِهِ» كالزواحف؛ «وَمِنْهُم مَّن يَمْشِى عَلَى رِجْلَيْنِ» كالإنسان والطيور؛ «وَمِنْهُم مَّن يَمْشِى عَلَى أَرْبَعٍ» كالدواب.

وليس الخلق محدداً بهذه المخلوقات، فالحياة لها صور اخرى متعددة بشكل كبير، سواء كانت أحياء بحرية أم حشرات بأنواعها المتعددة التي تبلغ آلاف الأنواع، لهذا قالت الآية في الختام: «يَخْلُقُ اللّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ

شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 374

لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ مَا أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان قيل: نزلت الآيات في رجل من المنافقين كان بينه وبين رجل من اليهود حكومة، فدعاه اليهودي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشراف.

التّفسير

الإيمان وقبول حكم اللَّه: تحدثت الآيات السابقة عن الإيمان باللَّه وعن دلائل توحيده وعلائمه في عالم التكوين، بينما تناولت الآيات- موضع البحث- أثر الإيمان وانعكاس التوحيد في حياة الإنسان، وإذعانه للحقّ والحقيقة. تقول أوّلًا: «لَقَدْ أَنزَلْنَا ءَايتٍ مُّبَيّنتٍ». آيات تنور القلوب بنور الإيمان والتوحيد، وتزيد في فكر الإنسان نوراً وبهجة، وتبدّل ظلمات حياته إلى نور على نور. وطبيعي أنّ هذه الآيات المبينات تُمهد للإيمان، إلّاأنّ الهداية الإلهية هي صاحبة الدور الأساسي: «وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ».

وكما نعلم فإنّ إرادة اللَّه ومشيئته ليست دون حساب، فهو سبحانه وتعالى يدخل نور الهداية إلى القلوب المستعدة لتقبله.

ثم استنكرت الآية الثانية وذمّت مجموعة من المنافقين الذين يدّعون الإيمان في الوقت الذي خلت فيه قلوبهم من نور اللَّه، فتقول الآية عن هذه المجموعة: «وَيَقُولُونَ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مّنْهُم مّن بَعْدِ ذلِكَ وَمَا أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ».

ما هذا الإيمان الذي لا يتجاوز حدود

ألسنتهم، ولا أثر له في أعمالهم.

ثم تذكر الآية التي بعدها دليلًا واضحاً على عدم إيمانهم: «وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُم مُّعْرِضُونَ».

ولتأكيد عبادة هذه المجموعة للدنيا وفضح شركهم، تضيف الآية: «وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ» وبكامل التسليم والخضوع.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 375

وبيّنت الآية الأخيرة في ثلاث جمل، الجذور الأساسية ودوافع عدم التسليم إزاء تحكيم الرسول صلى الله عليه و آله، فقالت أوّلًا: «أَفِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ».

هذه صفة من صفات المنافقين يتظاهرون بالإيمان، ولكنّهم لا يسلّمون بحكم اللَّه ورسوله، ولا يستجيبون له، إمّا بسبب انحرافهم قلبياً عن التوحيد أو الشك والتردد: «أَمِ ارْتَابُوا». وطبيعي أنّ الذي يتردد في عقيدته، لن يستسلم لها أبداً.

وثالثها فيما لو لم يلحدوا ولم يشكوا، أي كانوا من المؤمنين: «أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ».

في الوقت الذي يعتبر هذا تناقضاً صريحاً، إذ كيف للذي يؤمن برسالة محمّد صلى الله عليه و آله ويعتبر حكمه حكم اللَّه تعالى أن ينسب الظلم إلى الرسول صلى الله عليه و آله؟!

وهل يمكن أن يظلم اللَّه أحداً؟ أليس الظلم وليد الجهل أو الحاجة أو الكبر؟

إنّ اللَّه تعالى مقدس عن كل هذه الصفات؛ «بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظلِمُونَ». إنّهم لا يقتنعون بحقّهم، وهم يعلمون أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله لا يجحف بحق أحد، ولهذا لا يستسلمون لحكمه.

إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَ أَطَعْنَا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اللَّهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا

تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَ إِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)

الإيمان والتسليم التام إزاء الحقّ: لاحظنا في الآيات السابقة ردّ فعل المنافقين لحكم اللَّه ورسوله صلى الله عليه و آله، أمّا الآيات- موضع البحث- فإنّها تشرح موقف المؤمنين إزاء حكم اللَّه ورسوله، فتقول: «إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا».

كيف يمكن أن يرجّح شخص حكم شخص آخر على حكم اللَّه، وهو يعتقد بأنّ اللَّه عالم بكلّ شي ء، ولا حاجة له بأحد، وهو الرّحمن الرّحيم؟ وكيف له أن يقوم بعمل إزاء حكم اللَّه إلّاالسمع والطاعة؟

مختصر الامثل، ج 3، ص: 376

لهذا تختتم الآية حديثها بالقول: «وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ». ولا شك في أنّ الفلاح نصيب الذي يسلّم أمره إلى اللَّه، ويعتقد بعدله وحكمه في حياته المادية والمعنوية.

وتابعت الآية الثانية هذه الحقيقة بشكل أكثر عمومية، فتقول: «وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ».

لحن الآية التالية- وكذلك سبب نزولها الذي ذكرته بعض التفاسير- يعني أنّ بعض المنافقين تأثروا جداً على ما هم فيه، بعد نزول الآيات السابقة والتي وجّهت اللوم الشديد إليهم، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه و آله وأقسموا يميناً مغلظة أنّنا نسلّم أمرنا إليك، ولهذا أجابهم القرآن بشكل حاسم: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أيْمنِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ» إلى ميدان الجهاد، أو يخرجوا من أموالهم وبيوتهم فقل لهم: لا حاجة إلى القسم، وعليكم عملًا اطاعة اللَّه بصدق واخلاص: «قُل لَّاتُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ».

إنّ كلمة «ليخرجنّ» في هذه الآية يقصد منها عدم التهالك على المال والحياة، وأتباع

الرّسول صلى الله عليه و آله أينما رحل وحلّ وطاعته.

لهذا أكدت الآية التالية- التي هي آخر الآيات موضع البحث- هذا المعنى، وتقول للرسول صلى الله عليه و آله أن: «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ».

ثم تضيف الآية أنّ هذا الأمر لا يخرج عن إحدى حالتين: «فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمّلْتُمْ». ففي صورة العصيان فقد ادّى وظيفته وهو مسؤول عنها كما أنّكم مسؤولون عن أعمالكم حين أنّ وظيفتكم الطاعة، ولكن «وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا» لأنّه قائد لا يدعو لغير سبيل اللَّه والحق والصواب.

في كل الأحوال: «وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلغُ الْمُبِينُ». وإنّه صلى الله عليه و آله مكلّف بإبلاغ الجميع ما أمر اللَّه به، فإن أطاعوه استفادوا، وإن لم يطيعوه خسروا.

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 377

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: لما قدم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأصحابه المدينة، وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة، وكانوا لا يبيتون إلّامع السلاح ولا يصبحون إلّافيه. فقالوا: ترون أنّا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلّااللَّه؟ فنزلت هذه الآية.

التّفسير

حكومة المستضعفين العالمية: تحدثت الآية السابقة عن طاعة اللَّه ورسوله والتسليم له، وقد واصلت الآية- موضع البحث- هذا الموضوع، وبيّنت نتيجة هذه الطاعة ألا وهي الحكومة العالمية التي وعدها اللَّه المؤمنين به. فقالت الآية مؤكّدة: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ

الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ» ويجعله متجذراً وثابتاً وقوياً بين شعوب العالم.

«وَلَيُبَدّلَنَّهُم مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لَايُشْرِكُونَ بِى شَيًا». وبعد سيادة حكم التوحيد في العالم وإجراء الأحكام الإلهية، واستقرار الأمن واقتلاع جذور الشرك، «وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفسِقُونَ».

وعلى كل حال يبدو من مجمل هذه الآية أنّ اللَّه يبشّر مجموعة من المسلمين الذين يتصفون بالإيمان والعمل الصالح بثلاث بشائر:

1- استخلافهم وحكومتهم في الأرض.

2- نشر تعاليم الحق بشكل جذري وفي كل مكان (كما يستفاد من كلمة «تمكين» ...).

3- انعدام جميع عوامل الخوف والإضطراب.

وينتج من كل هذا أن يُعبد اللَّه بكل حرية، وتُطبق تعاليمه ولا يشرك به، ويتمّ نشر عقيدة التوحيد في كل مكان.

الذين وعدهم اللَّه باستخلاف الأرض: لقد وعداللَّه المؤمنين ذوي الأعمال الصالحة بالإستخلاف في الأرض وتمكينهم من نشر دينهم وتمتعهم بالأمن الكامل، فما هي خصائص هؤلاء الموعودين بالإستخلاف؟

إنّ هذه الآية تشمل المسلمين الأوائل، كما أنّ حكومة المهدي عليه السلام مصداق لها، إذ يتفق

مختصر الامثل، ج 3، ص: 378

المسلمون كافة من شيعة وسنة على أنّ المهدي عليه السلام يملأ الأرض عدلًا وقسطاً بعد أن ملئت جوراً وظلماً. ومع كل هذا لا مانع من تعميمها، وينتج من ذلك تثبيت اسس الإيمان والعمل الصالح بين المسلمين في كل عصر وزمان، وأنّ لهم الغلبة والحكم ذا الأسس الثابتة.

إنّ جميع الجهود- من حرب وسلام وبرامج تثقيفية واقتصادية وعسكرية- تنصّب في ظلّ هذه الحكومة في مسيرة العبودية للَّه الخالية من كل شائبة من شوائب الشرك.

وَ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَ آتُوا الزَّكَاةَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ وَ لَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)

استحالة الفرار من حكومته تعالى: وعدت الآية السابقة المؤمنين الصالحين بالخلافة في

الأرض، وتهيى ء هاتان الآيتان الناس للتمهيد لهذه الحكومة، فهي تقول أوّلًا: «وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ». وهي الوسيلة التي توثق الصلة بين الخالق والمخلوق، وتقرّب الناس إلى بارئهم، وتمنع عنهم الفحشاء والمنكر.

«وَءَاتُوا الزَّكَوةَ». وهي الوسيلة التي تربط الإنسان بأخيه الإنسان، وتقلل الفواصل بينهما، وتقوي ارتباطهما العاطفي.

وبشكل عام يكون في كل شي ء تبعاً للرسول: «وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ». طاعة تكونون بسببها من المؤمنين الصالحين الجديرين بقيادة الحكم في الأرض، «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» وتكونون لائقين لحمل راية الحقّ والعدل.

وإذا احتملتم أنّ الأعداء الأقوياء المعاندين يمنعوكم من تحقق ما وعدكم اللَّه إيّاه، فذلك غير ممكن، لأنّه قادر على كل شي ء، ولا يحجب إرادته شي ء، ولهذا: «لَاتَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِى الْأَرْضِ». فهؤلاء الكفار لا يستطيعون الفرار من عقاب اللَّه وعذابه في الأرض، ولا يقتصر ذلك على الدنيا فقط، بل إنّهم في الآخرة، «وَمَأْوَيهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 379

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَ إِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَ الْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)

آداب الدخول إلى المكان الخاص بالوالدين: إنّ أهم مسألة تابعتها هذه السورة هي مسألة العفاف العام ومكافحة كل انحطاط خلقي، بأبعاده

المختلفة. وقد تناولت الآيات- موضع البحث- إحدى المسائل التي ترتبط بهذه المسألة، وشرحت خصائصها. فتقول أوّلًا: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِيَسْتْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمنُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلثَ مَرَّاتٍ».

فيجب على عبيدكم وأطفالكم الإستئذان في ثلاث أوقات: «مّن قَبْلِ صَلَوةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَوةِ الْعِشَاءِ». «ثَلثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ». أي هذه ثلاث أوقات للخلوة خاصة بكم.

«العورة»: مشتقة من «العار»، أي: العيب، وأطلق العرب على العضو التناسلي العورة، لأنّ الكشف عنه عار.

إنّ إطلاق كلمة «العورة» على هذه الأوقات الثلاثة بسبب كون الناس في حالة خاصة خلال هذه الأوقات الثلاثة، حيث لا يرتدون الملابس التي يرتدونها في الأوقات الاخرى.

وطبيعي أنّ المخاطب هنا هم أولياء الأطفال ليعلموهم هذه الاصول، لأنّ الأطفال لم يبلغوا بعد سنّ التكليف لتشملهم الواجبات الشرعية.

كما أنّ عمومية الآية تعني شمولها الأطفال البنين والبنات.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 380

وتختتم الآية بالقول: «لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ». فلا حرج ولا إثم عليكم وعليهم إذا دخلوا بدون إستئذان في غير هذه الأوقات الثلاثة، أجل: «كَذلِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْأَيتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».

وبيّنت الآية التالية الحكم بالنسبة للبالغين، حيث تقول: «وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفلُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتْذِنُوا كَمَا اسْتْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ».

«الحلم»: على وزن «كتب»، بمعنى العقل والكناية عن البلوغ، الذي يعتبر توأماً لطفرة عقلية وفكرية، ومرحلة جديدة في حياة الإنسان.

ويستفاد من الآية السابقة، أنّ الحكم بالنسبة للبالغين يختلف عنه بالنسبة للأطفال غير البالغين، لأنّ أولئك يجب عليهم إستئذان الوالدين في الأوقات الثلاثة فقط، لأنّ حياتهم قد امتزجت مع حياة والديهم بدرجة يستحيل بها الإستئذان كل مرة، وكما أنّهم لم يعرفوا المشاعر الجنسية بعد، أمّا الشباب البالغ، فهم مكلّفون

في جميع الأوقات بالإستئذان حين الدخول على الوالدين.

ويخصّ هذا الحكم المكان المخصّص لاستراحه الوالدين.

وتقول الآية في الختام للتأكيد والإهتمام الفائق: «كَذلِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».

وفي آخر الآيات موضع البحث- استثناء لحكم الحجاب، حيث استثنت النساء العجائز والمسنّات من هذا الحكم، فقال:

«وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ التِى لَايَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرّجتٍ بِزِينَةٍ».

ولهذا الإستثناء شرطان:

أوّلهما: وصول هذه العجائز إلى عمر لا يتوقع أن يتزوجن فيه. أو بعبارة اخرى: أن يفقدن كل جاذبية انثوية.

وثانيهما: ألا يتزيّن بزينة بعد رفع حجابهن.

كما أنّ- من الواضح- أنّه لا يقصد برفع العجائز للحجاب اباحة خلع الملابس كلّها والتعريّ، بل خلع اللباس الفوقاني فقط.

وكما عبّرت عنه بعض الأحاديث بالجلباب والخمار.

وتضيف الآية في ختامها: «وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 381

فالإسلام يرغب في أن تكون المرأة أكثر عفّة وأنقى وأطهر. ولتحذير النساء اللواتي يسئن من سوء الاستفادة من هذه الحرية، بأن يتحدثن أو يتصرفن باسلوب لا يليق بشرفهن، تقول الآية محذرة إيّاهن: «وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» كلما تقولونه يسمعه اللَّه، وما تكتمون في قلوبكم أو في أذهانكم يعلمه اللَّه أيضاً.

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَ لَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ لَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)

البيوت التي يسمح بالأكل فيها: تحدثت الآيات السابقة عن

الإستئذان في أوقات معينة، أو بشكل عام حين الدخول إلى المنزل الخاصّ بالأب والام، أمّا الآية موضع البحث فإنّها استثناء لهذا الحكم، حيث يجوز للبعض وبشروط معينة، الدخول إلى منازل الأقرباء وأمثالهم، وحتى أنّه يجوز لهم الأكل فيها دون إستئذان، حيث تقول هذه الآية أوّلًا: «لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ».

لأنّ أهل المدينة كانوا- كما ورد بصراحة في بعض الأحاديث- وقبل قبولهم الإسلام، يمنعون الأعمى والأعرج والمريض من المشاركة في مائدتهم، ويتنفّرون من هذا العمل.

وقد استفسر من الرسول صلى الله عليه و آله عن هذا الموضوع، فنزلت الآية السابقة التي نصّت على عدم وجود مانع من مشاركة الأعمى والأعرج والمريض للصحيح غذاءه على مائدة واحدة.

ثم يضيف القرآن المجيد: «وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ».

والمقصود بعبارة بيوتكم، الأبناء أو الزوجات.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 382

«أَوْ بُيُوتِ ءَابَائِكُمْ». «أَوْ بُيُوتِ أُمَّهتِكُمْ». «أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ». «أَوْ بُيُوتِ أخَوَاتِكُمْ». «أَوْ بُيُوتِ أَعْممِكُمْ». «أَوْ بُيُوتِ عَمتِكُمْ». «أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ». «أَوْ بُيُوتِ خلتِكُمْ». «أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ». «أَوْ صَدِيقِكُمْ». «الصداقة»: تعني هنا بالتأكيد الأصدقاء الخاصين الذين تربطهم علاقات وثيقة، وهذه العلاقة توجب التزاور فيما بينهم والأكل من طعام الآخر.

بالطبع فإنّ هذا الحكم له شروط وإيضاحات سيأتي ذكرها في آخر تفسير الآية.

ثم تضيف الآية: «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا».

ولا يوجد خلاف بين الفقهاء حول عدم جواز الأكل من غذاء الآخرين دون استئذان الذي نهت عنه الآية بصراحة مع العلم بهذا النهي.

ذكر الشيخ الطوسي رحمه الله في تفسير التبيان أنّ مجموعة من المسلمين كانوا إذا نزل بهم الضيف تحرجوا أن يأكلوا معه، فأباح اللَّه الأكل منفرداً ومجتمعاً.

ثم تشير الآية إلى أحد التعاليم الأخلاقية فتقول:

«فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مّنْ عِندِ اللَّهِ مُبرَكَةً طَيّبَةً».

واختتمت بهذه العبارة: «كَذلِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْأَيتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ».

يجب السلام عند الدخول إلى أيّ منزل كان، ويجب أن يسلم المؤمنون بعضهم على بعض، ويسلّم أهل المنزل أحدهم على الآخر، وأمّا إذا لم يجد أحداً في المنزل فيحيي المرء نفسه «1»، حيث تعود هذه التحيات بالسلامة على الإنسان ذاته.

______________________________

(1) فيقول: «السّلام عليكم من قبل ربّنا». أو: «السّلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 383

سبب النّزول

في تفسير علي بن ابراهيم: نزلت الآية الاولى في قوم كانوا إذا جمعهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لأمر من الأمور في بعث يبعثه أو حرب قد حضرت يتفرقون بغير إذنه فنهاهم اللَّه عزّ وجل عن ذلك وقوله «فَإِذَا اسْتْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ» قال نزلت في حنظلة بن أبي عياش وذلك أنّه تزوج في الليلة التي في صبيحتها حرب احد، فاستأذن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن يقيم عند أهله فأنزل اللَّه هذه الآية «فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ» فأقام عند أهله ثم أصبح وهو جنب فحضر القتال واستشهد، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «رأيت الملائكة تغسل حنظلة بماء المزن في صحايف فضة بين السماء والأرض». فكان يسمى غسيل الملائكة.

التّفسير

لا تتركوا النبي وحده: إنّ الآيات السابقة تحدثت عن ضرورة طاعة اللَّه ورسوله، ومن علائم طاعته عدم تركه أو القيام بعمل ما دون إذن منه، لهذا تحدثت الآيات- موضع البحث- حول هذا الموضوع، فتقول أوّلًا: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتْذِنُوهُ».

والمراد من «أمر جامع» كل عمل يقتضي اجتماع الناس

فيه ويتطلب تعاونهم، سواء كان عملًا استشارياً، أو مسألة حول الجهاد ومقاتلة العدو، أو صلاة جمعة في الظروف الإستثنائية وأمثالها.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 384

وفي الحقيقة إنّ هذا من شروط النظم والتنظيم ولا يمكن لأية مجموعة منظمة منسجمة أن تهمله، فغياب شخص واحد قد تترتب عليه صعوبات ويلحق ضرراً بالهدف النهائي، فإذا وجد القائد أنّ غياب هذا الشخص يلحق ضرراً، فمن حقه أن لا يأذن له، وعليه أن يضحي بمصلحته من أجل هدف أسمى لهذا تضيف الآية: «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتْذِنُونَكَ أُوْلئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ».

وتقول الآية في الختام: «وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

تبيّن هذه العبارة ضرورة عدم الإستئذان بالقدر الممكن، واتباع التضحية والإيثار حتى لا يتورطوا بارتكاب عمل تركه أولى كمغادرة الجماعة لعمل بسيط.

ومن الطبيعي أن لا تخصّ هذه التعاليم التنظيمية الرسول صلى الله عليه و آله وأصحابه فقط، وإنّما هي واجبة الإتباع إزاء كل قائد إلهي، سواء كان نبياً أم إماماً أم عالماً نائباً لهما، حيث يتوقف مصير المسلمين على هذه الطاعة، كما يحتمه- إضافة إلى القرآن- العقل والمنطق.

ثم بيّنت الآية التالية حكماً آخر له علاقة بتعاليم النبي صلى الله عليه و آله حيث تقول: «لَّاتَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا».

إن الرسول صلى الله عليه و آله عندما يدعوكم للاجتماع، فإنّه لابدّ من أن يكون لمسألة إلهية مهمة، لهذا يجب عليكم الإهتمام بدعوته، والإلتزام بتعاليمه، وألّا تهملوها، فأمره من اللَّه ودعوته منه سبحانه وتعالى.

ثم تضيف الآية: «قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

«يتسلّلون»: مشتقة من «تسلل»، وتعني سحب الشي ء من موضعه، كما

يطلق على الذين يفرون سرّاً من مكان تجمع محدد لهم، كلمة «متسللون».

«لواذاً»: مشتقة من «ملاوذة» بمعنى الإختفاء، وتعني هنا اختفاء البعض وراء البعض أو خلف جدار. أو بتعبير آخر:

استغفال الآخرين ثم الفرار من مكان تجمعهم، وهذا ما كان يقوم به المنافقون حينما يوجه الرسول صلى الله عليه و آله الدعوة للجهاد أو لأمر مهم آخر.

و آخر آية من الآيات موضع البحث- والتي هي آخر سورة النور- إشارة بليغة إلى قضية المبدأ والمعاد حيث تقول: «أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

فإنّ اللَّه العالم بكل شي ء، «قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ». أي: يعلم اسلوبكم في التعامل

مختصر الامثل، ج 3، ص: 385

وأعمالكم واعتقادكم ومقاصدكم، فكلّها واضحة له سبحانه وتعالى، وثابتة في لوحة علمه «وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُوا». ويجازيهم بها «وَاللَّهُ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ».

ومما يلفت النظر تأكيد الآية ثلاث مرات على علم اللَّه بأعمال البشر، ليشعر الإنسان أنّه مراقب بشكل دائم، ولا يخفى على اللَّه شي ء من أعمال هذا الإنسان أبداً، ولهذا الإعتقاد أثره التربوي الكبير ويضمن سيطرة الإنسان على نفسه إزاء الانحرافات والذنوب.

«نهاية تفسير سورة النور»

مختصر الامثل، ج 3، ص: 387

25 سورة الفرقان

محتوى السورة: تتألف هذه السورة في مجملها من ثلاثة أقسام:

1- الذي يشكل مطلع هذه السورة، يدحض منطق المشركين بشدّة، ويستعرض ذرائعهم، ويردّ عليها، ويخوفهم من عذاب اللَّه، وحساب يوم القيامة، وعقوبات جهنم الأليمة، ويذكّرهم بمقاطع من قصص الأقوام الماضية.

2- ولأجل إكمال هذا البحث، تبحث الآيات بعض دلائل التوحيد ومظاهر عظمة اللَّه في الأكوان.

3- مختصر جذاب، وجامع لصفات المؤمنين الحقيقيين (عباد الرحمن) وعباد اللَّه المخلصين، في مقايسة مع الكفار المتعصبين الذين ذكروا في القسم الأوّل، فتتحدد منزلة كل من الفريقين تماماً، كما أنّنا سنرى أنّ هذه

الصفات مجموعة من الاعتقاديات والأعمال الصالحة ومكافحة الشهوات، وامتلاك الوعي الكافي، والإحساس والإلتزام بالمسؤولية الإجتماعية.

واسم هذه السورة قد اخذ من آيتها الاولى، التي تعبر عن القرآن ب «الفرقان» (الفاصل بين الحق والباطل).

فضيلة تلاوة السورة: في في تفسير مجمع البيان قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من قرأ سورة الفرقان

مختصر الامثل، ج 3، ص: 388

بعث يوم القيامة وهو يؤمن أنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ اللَّه يبعث من في القبور».

تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2)

المقياس الأعلى للمعرفة: تبدأ هذه السورة بجملة «تبارك» من مادة «بركة»، ونعلم أنّ الشي ء ذو بركة، عبارة عن أنّه ذو دوام وخير ونفع كامل. يقول تعالى: «تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعلَمِينَ نَذِيرًا».

الملفت للإنتباه أنّ ثبوت البركة لذات الخالق عزّ وجل بواسطة نزول الفرقان، يعني أنّه أنزل قرآناً فاصلًا بين الحق والباطل، وهذا يدل على أنّ أعظم الخير والبركة هي أن يمتلك الإنسان بيده وسيلة المعرفة- معرفة الحق من الباطل.

فمقام العبودية والإنقياد التامين هو الذي يحقق اللياقة لنزول الفرقان، ولتلقي موازين الحق والباطل.

وعبارة «للعالمين» كاشفة عن أنّ شريعة الإسلام عالمية، بل إنّ بعضهم قد استدل منها على خاتمية النبي صلى الله عليه و آله.

الآية الثانية تصف اللَّه الذي نزل الفرقان بأربع صفات، صفة منها هي الأساس، والبقية نتائج وفروع لها، فتقول أوّلًا: «الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

وبالإلتفات إلى تقدم «له» على «ملك السماوات» الذي هو دليل الحصر في اللغة العربية يستفاد أنّ الحكومة الواقعية والحاكمية المطلقة في السماوات والأرض

منحصرة به تبارك وتعالى.

ثم يتناول تفنيد عقائد المشركين واحدة بعد الاخرى، فيقول تعالى: «وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا».

وبهذا الترتيب، يدحض اعتقاد النصارى بأنّ «المسيح» ابن اللَّه، أو ما يعتقده اليهود أنّ «العزير» ابن اللَّه، وكذلك يدحض اعتقاد مشركي العرب.

ثم يضيف جلّ ذكره: «وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ».

فإذا كان لمشركي العرب اعتقاد بوجود الشريك أو الشركاء، ويتوهمونهم شركاء للَّه في

مختصر الامثل، ج 3، ص: 389

العبادة، فإنّ القرآن يدين ويدحض كل هذه الأوهام.

ويقول تعالى في العبارة الأخيرة: «وَخَلَقَ كُلَّ شَىْ ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا».

ليس كمثل اعتقاد الثنويين الذين يعتقدون بأنّ قسماً من موجودات هذا العالم مخلوقات «اللَّه»، وأنّ قسماً منها مخلوقات «الشيطان». وبهذا الترتيب كانوا يقسمون الخلق والخلقة بين اللَّه والشيطان.

وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ وَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَ لَا نَفْعاً وَ لَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لَا حَيَاةً وَ لَا نُشُوراً (3) وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَ أَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَ زُوراً (4) وَ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (6)

الإتهامات المتعددة الألوان: هذه الآيات تتمة للبحث الذي ورد في الآيات السابقة، في مسألة المواجهة مع الشرك وعبادة الأوثان. الآية الاولى تجر المشركين إلى المحاكمة، ولتحريك وجدانهم تقول بمنطق واضح وبسيط، وفي نفس الوقت قاطع وداحض:

«وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ ءَالِهَةً لَّايَخْلُقُونَ شَيًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ».

وبعد، فماذا يمكن أن تكون دوافعهم لعبادة الأوثان التي لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً، ولا تملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فما بالك بما تستطيعه للآخرين؛ «وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا

يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَوةً وَلَا نُشُورًا».

والاصول المهمة عند الإنسان هي هذه الامور الخمسة بالذات: النفع والضر، والموت، والحياة، والنشور.

فمن يكن بحق مالكاً أصيلًا لهذه الامور، يكن بالنسبة إلينا جديراً بالعبادة.

هذه الأوثان ليست عاجزة في الدنيا عن حل مشكلة ما لعبدتها فحسب، بل إنّها لا يؤمل منها شي ء في الآخرة أيضاً.

الآية التالية- تتناول تحليلات الكفار- أو حججهم على الأصح- في مقابل دعوة النبي صلى الله عليه و آله، فتقول: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَيهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 390

لكن القرآن يردّ عليهم في جملة واحدة فقط، تلك هي: «فَقَدْ جَاءُو ظُلْمًا وَزُورًا» «1».

«الظلم» هنا لأنّ رجلًا أميناً طاهراً وصادقاً مثل الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله اتّهموه بالكذب والإفتراء على اللَّه، وبالإشتراك مع جماعة من أهل الكتاب، فظلموا أنفسهم والناس أيضاً. و «الزور» هنا أنّ قولهم لم يكن له أساس مطلقاً، لأنّ النبي صلى الله عليه و آله دعاهم عدّة مرات إلى الإتيان بسورة وآيات مثل القرآن، فعجزوا وضعفوا أمام هذا التحدي.

كلمة «زور» في الأصل من «زَور» (على وزن غور) أخذت بمعنى: أعلى الصدر، ثم أطلقت على كل شي ء يتمايل عن حدّ الوسط، وبما أنّ «الكذب» انحرف عن الحق، ومال إلى الباطل، فقد سمّوه «زوراً».

تتناول الآية التالية لوناً آخر من التحليلات المنحرفة والحجج الواهية للمشركين فيما يتعلق بالقرآن، فتقول: «وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا» «2».

وهو يستلهمها من الآخرين طيلة اليوم من أجل الوصول إلى هذا الهدف: «فَهِىَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا».

إنّه يتلقى المعونة لأجل هدفه في الأوقات التي يقلّ فيها تواجد الناس، أي بكرة وعشياً.

لذا فالآية الأخيرة تصرح بصيغة الرد على هذه الإتهامات الواهية، فتقول: «قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السّرَّ

فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

إشارة إلى أنّ محتوى هذا الكتاب، والأسرار المتنوعة فيه من علوم ومعارف وتاريخ الأقوام الأوّلين، والقوانين والاحتياجات البشرية، وحتى أسرار عالم الطبيعة والأخبار المستقبلية، تدل على أن ليس من صنع ومتناول عقل البشر، ولم ينظّم بمساعدة هذا أو ذاك، بل بعلم الذي هو جدير بأسرار السماء والأرض، والمحيط بكل شي ء علماً.

لكن مع كل هذا، فإنّ القرآن يترك طريق التوبة مفتوحاً أمام هؤلاء المغرضين والمنحرفين، فيقول تبارك وتعالى في ختام الآية: «إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا».

فبمقتضى رحمته أرسل الأنبياء، وأنزل الكتب السماوية، وبمقتضى غفوريته سيعفو في ظل الإيمان والتوبة عن ذنوبكم التي لا تحصى.

______________________________

(1) «جاءو»: من مادة «مجي ء»، يراد بها عادة معنى «القدوم»، لكنّها وردت هنا بمعنى «الإتيان».

(2) ففي الواقع إنّ أولئك كانوا يريدون أن يتهموا النبي صلى الله عليه و آله من هذا الطريق، بأنّه يقرأ ويكتب، لكنّه كان يظهر نفسه أمياً عمداً.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 391

وَ قَالُوا مَا لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْ لَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَ قَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَ يَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10)

سبب النّزول

في كتاب الاحتجاج للطبرسي رحمه الله وعن أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام قال: قلت لأبي على بن محمد عليهما السلام هل كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يناظر اليهود والمشركين إذا عاتبوه ويحاجهم؟ قال: مراراً كثيرة وذلك أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان

قاعداً ذات يوم بمكة بفناء الكعبة، إذ اجتمع جماعة من رؤساء قريش .. فابتدأ عبد اللَّه بن أبي أمية المخزومي فقال: يا محمّد زعمت أنّك رسول اللَّه ربّ العالمين، وما ينبغي لربّ العالمين وخالق الخلق أجمعين أن يكون مثلك رسوله بشراً مثلنا، تأكل كما نأكل وتشرب كما نشرب، وتمشي في الأسواق كما نمشي .. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «اللهم أنت السامع لكل صوت، والعالم بكل شي ء، تعلم ما قاله عبادك». فأنزل اللَّه عليه: يا محمّد «وَقَالُوا مَالِ هذَا الرَّسُولِ ...» إلى قوله تعالى: «وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا».

والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.

التّفسير

لم لا يملك هذا الرسول كنوزاً وجنات؟ استعرض القرآن في الآيات السابقة قسماً من إشكالات الكفار فيما يخص نزول القرآن المجيد، وأجاب عليها، ويعرض في هذه الآيات قسماً آخر يتعلق بشخص الرسول ويجيب عنها، فيقول تعالى: «وَقَالُوا مَالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الْأَسْوَاقِ».

وفي الوقت الذي يريد هذا الرسول التبليغ بالدعوة الإلهية، ويريد أيضاً السلطنة على الجميع.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 392

لقد كان المشركون يرون أنّه لا يليق بذوي الشأن الذهاب إلى الأسواق لقضاء حوائجهم، بل ينبغي أن يرسلوا خدمهم ومأموريهم من أجل ذلك.

ثم أضافوا: «لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا». فلِمَ لم يرسل إليه- على الأقل- ملك من عند اللَّه، شاهد على صدق دعوته، وينذر معه الناس؟ حسن جداً، لنفرض أنّنا وافقنا على أنّ رسول اللَّه يمكن أن يكون إنساناً، ولكن لماذا يكون فقيراً فاقداً للثروة والمال؟! «أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا».

ولم يكتفوا بهذا أيضاً، فقد اتهموه آخر الأمر بالجنون بما ابتنوه من استنتاج خاطى ء، كما نقرأ في ختام هذه الآية نفسها:

«وَقَالَ الظلِمُونَ إِن

تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا». ذلك أنّهم كانوا يعتقدون أنّ السحرة يستطيعون أن يتدخلوا في فكر وعقول الأفراد فيسلبونهم قوام عقولهم.

الآية التالية تبيّن جواب جميع هذه الإشكالات في عبارة موجزة: «انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثلَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا».

إنّ (الأمثال) هنا، بمعنى الأقوال الفارغة الواهية.

هذه العبارة الموجزة أداء بليغ عن هذه الحقيقة، فهم من خلال مجموعة من الأقوال الواهية التي لا أساس لها وقفوا أمام دعوة الحق والقرآن- الذي محتواه شاهد ناطق على إرتباطه باللَّه- ليخفوا وجه الحقيقة.

الآية الأخيرة مورد البحث- كالآية التي قبلها- توجّه خطابها إلى النبي صلى الله عليه و آله على سبيل تحقير مقولات اولئك، وأنّها لا تستحق الإجابة عليها. يقول تعالى: «تَبَارَكَ الَّذِى إِن شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مّن ذلِكَ جَنتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهرُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا».

وإلّا، فهل أحد غير اللَّه أعطى الآخرين القصور والبساتين؟ من غير اللَّه خلق جميع هذه النعم والجمال في هذا العالم؟ تُرى أيستحيل على اللَّه القادر المنّان أن يجعل لك أفضل من هذه القصور والبساتين؟!

لكنّه لا يريد أبداً أن يعتقد الناس أنّ مكانتك مردّها المال والثروة والقصور، ويكونوا غافلين عن القيم الواقعية.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 393

بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَ أَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً (12) وَ إِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَ ادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَ مَصِيراً (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْئُولًا (16)

في هذه الآيات- على أثر البحث في الآيات السابقة حول انحراف الكفار في

مسألة التوحيد والنبوة- يتناول القرآن الكريم قسماً آخر من انحرافاتهم في مسألة المعاد، ويتّضح مع بيان هذا القسم أنّهم كانوا أسارى التزلزل والانحراف في تمام أصول الدين. يقول تعالى أوّلًا: «بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ».

ذلك أنّه إذا آمن الإنسان بهكذا محكمة عظمى وبالجزاء الإلهي، فلن يتلقى الحقائق بمثل هذا الإستهزاء واللامبالاة، ولن يتذرع بالحجج الواهية ضد دعوة النبي وبراهينه الظاهرة، لكن القرآن هنا لم يتقدم برد استدلالي، ذلك لأنّ هذه الفئة لم تكن من أهل الاستدلال والمنطق، بل واجههم بتهديد مخيف وجسد أمام أعينهم مستقبلهم المشؤوم والأليم، فهذا الاسلوب قد يكون أقوى تأثيراً لمثل هؤلاء الأفراد يقول أوّلًا: «وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا» «1».

ثم وصف هذه النار المحرقة وصفاً عجيباً، فيقول تعالى: «إِذَا رَأَتْهُم مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا».

في هذه الآية تعبيرات بليغة متعددة، تخبر عن شدّة هذا العذاب الإلهي ويدل على أنّ نار جهنم المحرقة تنتظر هذه الفئة من المجرمين كانتظار الحيوان المفترس الجائع لغذائه «نستجير باللَّه».

هذه حال جهنم حينما تراهم من بعيد، أمّا حالهم في نار جهنم فيصفها تعالى: «وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيّقًا مُّقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا».

لأنّ جهنم مكان واسع، لكن اولئك يُحصرون مكاناً ضيقاً في هذا المكان الواسع، فهم «يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط».

______________________________

(1) «سعير»: من «سَعْر» بمعنى التهاب النار، وعلى هذا يقال للسعير: النار المشتعلة والمحيطة والمحرقة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 394

«مقرنين»: من «قرن» بمعنى قرب واجتماع شيئين أو أكثر مع بعضهما، ويقولون للحبل الذي يربطون به الأشياء «قرن»، ويقولون أيضاً لمن تقيد يده ورجله مع بعضهما بالغل والسلاسل «مقرّن».

«ثبور»: في الأصل بمعنى «الهلاك والفساد». فحينما يجد الإنسان نفسه أمام شي ء مخيف ومهلك، فإنّه يصرخ عالياً «واثبورا» التي

مفهومها ليقع الموت علي.

لكنهم يجابون عاجلًا: «لَّاتَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا».

فلن تنفعكم استغاثتكم في شي ء، ولن يكون ثمّة موت أو هلاك، بل ينبغي أن تظلوا أحياء لتذوقوا العذاب الأليم.

ثم يوجّه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه و آله، ويأمره أن يدعو اولئك إلى المقايسة، فيقول تعالى: «قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا».

تلك الجنة التي «لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ».

تلك الجنة التي سيبقون فيها أبداً «خلِدِينَ».

أجل، إنّه وعد الله الذي أخذه على نفسه: «كَانَ عَلَى رَبّكَ وَعْدًا مَّسُولًا».

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَ مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَ لكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ آبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَ كَانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَ لَا نَصْراً وَ مَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً (19)

المحاكمة بين المعبودين وعبدتهم الضالين: كان الكلام في الآيات السابقة حول مصير كل من المؤمنين والمشركين في القيامة وجزاء هذين الفريقين، وتواصل هذه الآيات نفس هذا الموضوع بشكل آخر، فتبيّن السؤال الذي يسأل اللَّه عنه معبودي المشركين في القيامة وجوابهم، على سبيل التحذير. فيقول تعالى: واذكر يوم يحشر اللَّه هؤلاء المشركين وما يعبدون من دون اللَّه:

«وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ».

والمقصود بالمعبودين إنساناً (مثل المسيح) أو شيطاناً (مثل الجن) أو (الملائكة)، حيث إنّ كل واحد منها كان قد اتخذه فريق من المشركين معبوداً لهم.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 395

فيسأل المعبودين: «فَيَقُولُ ءَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ».

ففي الإجابة: «قَالُوا سُبْحنَكَ مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن

دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ».

فليس فقط أنّنا لم ندعهم إلى أنفسنا، بل إنّنا كنّا نعترف بولايتك وربوبيتك، ولم نقبل غيرك معبوداً لنا ولغيرنا.

وكان سبب انحراف أولئك هو: أنّ اللَّه تعالى رزقهم الكثير من مواهب الدنيا ونعيمها فتمتعوا هم وآباءهم وبدلًا من شكر اللَّه تعالى غرقوا في هذه الملذات ونسوا ذكر اللَّه: «وَلكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَءَابَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذّكْرَ». فالحياة المرفهة لجماعة ضيقة الأفق، ضعيفة الإيمان، تبعث على الغرور، ولهذا هلكوا واندثروا «وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا».

«بور»: من مادة «بوار» وهي في الأصل بمعنى شدّة كساد الشي ء، ولأنّ شدّة الكساد تبعث على الفساد، فهذه الكلمة بمعنى الفساد، ثم اطلقت بعد هذا على الهلاك.

وعلى هذا فإنّ قوله تعالى: «وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا» إشارة إلى أنّ هذا الفريق على أثر انغماسهم في الحياة المادية المرفهة، ونسيانهم اللَّه واليوم الآخر، صاروا إلى الفساد والهلكة.

هنا يوجّه اللَّه تبارك وتعالى الخطاب إلى المشركين فيقول: «فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ».

لأنّ الأمر هكذا، وكنتم أنتم قد أضللتم أنفسكم فليس لديكم القدرة على دفع العذاب عنكم: «فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا».

لا شك أنّ «الظلم» له مفهوم واسع، ومع أنّ موضوع البحث في الآية هو «الشرك» الذي هو أحد المصاديق الجلية للظلم، إلّا أنّه لا يقدح بعمومية المفهوم.

والملفت للنظر أنّ «من يظلم» جاءت بصيغة الفعل المضارع، وهذا يدل على أنّ القسم الأوّل من البحث وإن كان مرتبطاً بمناقشات البعث، لكن الجملة الأخيرة خطاب لهم في الدنيا، لعل قلوب المشركين تصبح مستعدة لقبول الإيمان على أثر سماعها محاورات العبابدين والمعبودين في القيامة، فيحوّل الخطاب من القيامة إلى الدنيا فيقول لهم: «وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا».

وَ مَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَ يَمْشُونَ

فِي الْأَسْوَاقِ وَ جَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَ تَصْبِرُونَ وَ كَانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 396

سبب النّزول

في تفسير القرطبي: هذه الآية نزلت جواباً للمشركين حيث قالوا: مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟

وقال ابن عباس: لما عير المشركون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالفاقة وقالوا: مال هذا الرسول يأكل الطعام الآية، حزن النبي صلى الله عليه و آله لذلك فنزلت تعزية له فقال جبرئيل عليه السلام: السلام عليك يا رسول اللَّه! اللَّه ربّك يقرئك السلام ويقول لك: «وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى الْأَسْوَاقِ». أي يبتغون المعايش في الدنيا.

التّفسير

في عدّة آيات سابقة وردت واحدة من ذرائع المشركين وأجيب عليها بجواب إجمالي أمّا الآية مورد البحث فتعود إلى نفس الموضوع لتعطي جواباً أكثر تفصيلًا. فيقول تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى الْأَسْوَاقِ».

فقد كانوا من البشر ويعاشرون الناس، وفي ذات الوقت: «وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً» وامتحاناً.

وهذا الإمتحان، قد يكون بسبب أنّ اختيار الأنبياء من جنس البشر ومن أوساط الجماهير المحرومة هو امتحان عظيم بذاته، لأنّ البعض يأبون أن ينقادوا لمن هو من جنسهم، خاصة إذا كان في مستوىً واطى ء من حيث الإمكانات المادية.

وعلى أثر هذا القول، جعل الجميع موضع الخطاب فقال تعالى: «أَتَصْبِرُونَ». ذلك لأنّ أهم ركن للنجاح في جميع هذه الامتحانات هو الصبر والاستقامة والشجاعة ...

ويقول تعالى في ختام الآية بصيغة التحذير: «وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا». فينبغي ألا يتصور أحد أن شيئاً من تصرفاته حيال الاختبارات الإلهية يظل خافياً ومستوراً عن عين اللَّه وعلمه الذي لا يخفى عليه شي ء، إنّه يراها بدقة ويعلمها جميعاً.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 397

الإدعاءات الكبيرة: الآيات

الحالية، تطرح شكلين آخرين من ذرائع المشركين وتجيب عليها، فيقول تعالى أوّلًا: «وَقَالَ الَّذِين لَايَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا». فعلى فرض أنّنا سنقبل أنّ النبي يستطيع أن يعيش الحياة العادية مثلنا، لكن أن يتنزل الوحي عليه وحده، ولا نراه نحن، فهذا ما لا يمكن القبول به.

وأفضل دليل على أنّهم لم يكونوا يقولون هذه الأقوال من أجل التحقيق حول نبوّة النبي، هو أنّهم طلبوا أن يشاهدوا الخالق، وأنزلوه إلى حدّ جسم يمكن رؤيته، ذلك الطلب نفسه الذي طلبه مجرمو بني إسرائيل أيضاً، فسمعوا الجواب القاطع على ذلك، حيث ورد شرحه في الآية (143) من سورة الأعراف. لذا يقول القرآن في الإجابة على هذه الطلبات في آخر الآية مورد البحث:

«لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِى أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا». «العتو»: على وزن «غلو»، بمعنى الإمتناع عن الطاعة، والتمرد على الأمر، مصحوباً بالعناد واللجاجة.

وتعبير «في أنفسهم» من الممكن أن يكون بمعنى: أنّ هؤلاء صاروا أسارى الغرور والتكبّر في أنفسهم. ومن الممكن أن يكون أيضاً بمعنى أنّهم أخفوا كبرهم وغرورهم في قلوبهم وأظهروا هذه المعاذير.

ثم يقول تعالى بصيغة التهديد: إنّ هؤلاء الذين يطلبون أن يروا الملائكة، سوف يرونهم آخر الأمر، لكن «يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلِكَةَ لَابُشْرَى يَوْمَئِذٍ لّلْمُجْرِمِينَ».

بلى سوف لن يُسرّوا برؤية الملائكة في ذلك اليوم، لأنّهم سيرون علامات العذاب برؤيتهم الملائكة، وسوف يغمرهم الرعب إلى حد أنّهم سيطلقون صرخات الاستغاثة التي كانوا يطلقونها في الدنيا حال الإحساس بالخطر أمام الآخرين، فيقولون:

الأمان .. الأمان، اعفوا عنّا: «وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا».

«حجر»: على وزن «قشر»، تقال في الأصل للمنطقة التي حجروها وجعلوها ممنوعة الورود، وعندما يقال «حجر إسماعيل» فلأنّ حائطاً انشي ء حوله فحجز داخله. يقولون للعقل أيضاً «حجراً» لأنّه يمنع الإنسان من

الأعمال المخالفة. وأيضاً «اصحاب الحجر» الذين ورد اسمهم في القرآن (الآية 80 من سورة الحجر) وهم قوم صالح الذين كانوا ينحتون لأنفسهم بيوتاً حجرية محكمة في قلوب الجبال، فكانوا يعيشون في أمانها.

أمّا جملة «حجراً محجوراً» فقد كانت اصطلاحاً بين العرب، إذا التقوا بشخص يخافونه، فأنّهم يقولون هذه الجملة أمامه لأخذ الأمان.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 398

الآية التي بعدها تجسد مصير أعمال هؤلاء المجرمين في الآخرة، فتقول: «وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنهُ هَبَاءً مَّنثُورًا». يعني أنّ أعمال اولئك لا قيمة لها ولا اثر إلى حدّ كأنّهم لم يعملوا شيئاً، لأنّ الشي ء الذي يعطي عمل الإنسان الشكل والمحتوى، هو النية وغاية العمل النهائية، فأهل الإيمان يتوجهون لإنجاز أعمالهم بدافع إلهي وعلى أساس أهداف مقدسة طاهرة، في حين أنّ من لا إيمان لهم، فغالباً يقعون أسارى التظاهر والرياء والغرور والعجب، فيكون سبباً في انعدام أية قيمة لأعمالهم.

وبما أنّ القرآن- عادة- يضع الحسن والسي ء متقابلين حتى يتّضح وضع كل منهما بالمقايسة فإنّ الآية التي بعدها تتحدث عن أهل الجنة فتقول: «أَصْحبُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا». «مستقر»: بمعنى محل الإستقرار؛ و «مقيل»: بمعنى محل الإستراحة في منتصف النهار، من مادة «قيلولة»، وقد جاءت بمعنى النوم منتصف النهار.

وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَ نُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَ كَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً (26)

تشقق السماء بالغمام: مرّة اخرى يواصل القرآن في هذه الآيات البحث حول القيامة، ومصير المجرمين في ذلك اليوم، فيقول أوّلًا: إنّ يوم محنة وحزن المجرمين هو ذلك اليوم الذي تنشق فيه السماء بواسطة الغيوم: «وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَممِ وَنُزّلَ الْمَلِكَةُ تَنزِيلًا».

«الغمام»: من «الغم» بمعنى ستر الشي ء، لذلك فالغيم الذي يغطي الشمس

يقال له «الغمام»، وكذلك الحزن الذي يغطي القلب يسمّونه «الغم».

هذه الآية ردّ على طلبات المشركين، وعلى إحدى ذرائعهم، لأنّهم كانوا يتوقعون أن يأتي اللَّه والملائكة طبقاً لأساطيرهم وخرافاتهم من خلال الغيم، فيدعونهم إلى الحق، وفي أساطير اليهود جاء- أيضاً- أنّ اللَّه أحياناً يظهر ما بين الغيوم.

والمقصود من تشقق السماء بالغمام، هو أن ترتفع حجب العالم المادي عن عين الإنسان من جهة، فيشاهد عالم ماوراء الطبيعة، ومن جهة اخرى ستتلاشى الأجرام السماوية، وتظهر الغيوم الانفجارية، فتبرز التشققات ما بينها في ذلك اليوم، يوم نهاية هذا العالم وبداية النشور، يوم أليم جدّاً للمجرمين الظالمين المعاندين الذين لا إيمان لهم.

بعد ذلك يتناول القرآن الكريم أوضح علائم ذلك اليوم فيقول: «الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 399

حتى اولئك الذين كان لهم في هذا العالم نوع من الملك المجازي والمحدود والفاني والسريع الزوال، يخرجون أيضاً من دائرة الملك، فتكون الحاكمية من كل النواحي وجميع الجهات لذاته المقدسة خاصة، وبهذا: «وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكفِرِينَ عَسِيرًا».

في الوقت الذي يكون على المؤمنين سهلًا يسيراً وهيناً جدّاً.

وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَ كَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قال ابن عباس: نزل قوله تعالى «وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ» في عقبة بن أبي معيط، وابي بن خلف، وكانا متخالّين، وذلك أنّ عقبة كان لا يقدم من سفر إلّاصنع طعاماً فدعا إليه أشراف قومه، وكان يكثر مجالسة الرسول فقدم من سفره ذات يوم فصنع طعاماً ودعا الناس، فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى طعامه، فلمّا

قربوا الطعام قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «ما أنا بآكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلّااللَّه وأنّي رسول اللَّه». فقال عقبة: أشهد أن لا إله إلّااللَّه وأشهد أنّ محمّداً رسول اللَّه. وبلغ ذلك ابي بن خلف فقال: صبأت يا عقبة؟ قال: لا واللَّه ما صبأت، ولكن دخل علي رجل فأبى أن يطعم من طعامي إلّاأن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم، فشهدت له فطعم. فقال ابي: ما كنت براض عنك أبداً حتى تأتيه فتبزق في وجهه! ففعل ذلك عقبة وارتدّ، وأخذ رحم دابّة فألقاها بين كتفيه. فقال النبي صلى الله عليه و آله: «لا ألقاك خارجاً من مكة إلّاعلوت رأسك بالسيف». فضرب عنقه يوم بدر صبراً.

وأمّا ابي بن خلف فقتله النبي صلى الله عليه و آله يوم احد بيده في المبارزة.

نزلت الآيات أعلاه لترسم صورة مصير الرجل الذي يُبتلى بخليل ضال، ويجره إلى الضلال.

التّفسير

يوم القيامة له مشاهد عجيبة، حيث ورد بعض منها في الآيات السابقة، وفي هذه الآيات اشارة إلى قسم آخر منها، وهي مسألة حسرة الظالمين البالغة على ماضيهم، يقول

مختصر الامثل، ج 3، ص: 400

مختصر الامثل ج 3 449

تعالى أوّلًا: «وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا».

«يعضّ»: من مادة «عضّ»، ويستخدم هذا التعبير عادة بالنسبة إلى الأشخاص المهووسين من شدّة الحسرة والأسف. وهذا العمل يصدر من هؤلاء الأشخاص حينما يطلعون على ماضيهم، ويعتبرون أنفسهم مقصرين، فيصممون على الإنتقام من أنفسهم بهذا الشكل لتهدئة سورة الغضب في نفوسهم والشعور بالراحة.

ثم يضيف القرآن الكريم أنّ هذا الظالم المعتدي الغارق في عالم الأسف، يقول: «يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا» «1».

والمقصود ب

«فلان» هو ذلك الذي أضله: الشيطان أو صديق السوء أو القريب الضال.

ثم يستمر ويقول: «لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِى».

«الذكر» في الجملة أعلاه، له معنىً واسع، ويشمل كل الآيات الإلهية التي نزلت في الكتب السماوية، بل يدخل في إطاره كل ما يوجب يقظة ووعي الإنسان.

وفي ختام الآية يقول تعالى: «وَكَانَ الشَّيْطنُ لِلْإِنسنِ خَذُولًا». ذلك لأنّه يجر الإنسان إلى مواقع الخطر والطرق المنحرفة، ثم يتركه حيران ويذهب لسبيله.

وحقيقة الخذلان هي أي يعتمد الشخص على صديقه تمام الاعتماد، ولكن هذا الصديق يرفع يده عن مساعدته وإعانته تماماً في اللحظات الحساسة.

نقرأ في حديث عن الإمام محمّد التقي الجواد عليه السلام قال: «ايّاك ومصاحبة الشرير، فإنّه كالسيف المسلول، يحسن منظره ويقبح أثره» «2».

وَ قَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَ كَذلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَ كَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَ نَصِيراً (31) وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَ رَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَ لَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَ أَضَلُّ سَبِيلًا (34)

______________________________

(1) «خليل»: تطلق بمعنى الصديق الخاص الحميم حيث يجعله الإنسان مشاوراً لنفسه.

(2) بحار الأنوار 71/ 198.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 401

إلهي، إنّ الناس قد هجروا القرآن: كما تناولت الآيات السابقة أنواعاً من ذرائع المشركين والكافرين المعاندين، تتناول الآية الاولى في مورد البحث هنا حزن وشكاية الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله بين يدي اللَّه عزّ وجل من كيفية تعامل هذه الفئة مع القرآن، فتقول: «وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْءَانَ مَهْجُورًا».

قول الرسول صلى الله

عليه و آله هذا، وشكواه هذه، مستمران إلى هذا اليوم من فئة عظيمة من المسلمين، يشكو بين يدي اللَّه أنّهم دفنوا القرآن بيد النسيان، القرآن الممتلى ء ببرامج الحياة، هجروا هذا القرآن فمدّوا يد الإستجداء إلى الآخرين، حتى في القوانين المدنية والجزائية.

إنّ القرآن بينهم كتاب للمراسم والتشريفات، يذيعون ألفاظه وحدها بأصوات عذبة عبر محطات البث، ويستخدمونه في زخرفة المساجد بعنوان الفن المعماري، ولافتتاح منزل جديد، أو لحفظ مسافر، وشفاء مريض، وعلى الأكثر للتلاوة من أجل الثواب.

تقول الآية التي بعدها في مواساة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، حيث كان يواجه هذا الموقف العدائي للخصوم: «وَكَذلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ».

لست وحدك قدواجهت هذه العداوة الشديدة لهذه الفئة، فقد مرّ جميع الأنبياء بمثل هذه الظروف، حيث كان يتصدى لمخالفتهم فريق من (المجرمين) فكانوا يناصبونهم العداء.

ولكن إعلم أنّك لست وحيداً، وبلا معين، «وَكَفَى بِرَبّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا». فلا وساوسهم تستطيع أن تضلك، لأنّ اللَّه هاديك، ولا مؤامراتهم تستطيع أن تحطمك، لأنّ الخالق معينك، الخالق الذي علمه فوق كل العلوم، وقدرته أقوى من كل القدرات.

الآية التي بعدها تشير أيضاً إلى ذريعة اخرى من ذرائع هؤلاء المجرمين المتعللين بالمعاذير، فتقول: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً».

واساساً فقد كان الأفضل للنبي صلى الله عليه و آله أيضاً أن يكون ذا اطلاع على جميع هذا القرآن دفعة واحدة، كيما يجيب الناس فوراً على كل ما يسألونه ويريدون منه.

ولكن القرآن في تتمة هذه الآية نفسها يجيبهم: «وَكَذلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنهُ تَرْتِيلًا».

إنّ القرآن مجموعة من أوامر ونواهي، أحكام وقوانين، تاريخ وموعظة، ومجموعة من الخطط ذات المدى الطويل أو القصير في مواجهة الأحداث التي كانت تبرز أمام مسير الامة

مختصر الامثل،

ج 3، ص: 402

الإسلامية، كتاب- كهذا- يبيّن وينفذ جميع مناهجه حتى قوانينه الكلية عن طريق الحضور في ميادين حياة الامة، لا يمكن أن ينظم ويُدوّن دفعة واحدة. وهذا من قبيل أن يقوم قائد عظيم بكتابه ونشر جميع بياناته وإعلاناته وأوامره ونواهيه- التي يصدرها في المناسبات المختلفة- دفعة واحدة من أجل تسيير الثورة، تُرى هل يعتبر هذا العمل عقلائياً؟!

ثم للتأكيد أكثر على هذا الجواب يقول تعالى: «وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنكَ بِالْحَقّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا». أي أنّهم لا يأتون بمثل أو مقولة أو بحث لاضعاف دعوتك ومقابلتها.

وبما أنّ هؤلاء الأعداء الحاقدين استنتجوا- بعد مجموعة من إشكالاتهم- أنّ محمّداً وأصحابه مع صفاتهم هذه وكتابهم هذا وبرامجهم هذه شرّ خلق اللَّه- العياذ باللَّه- ولأنّ ذكر هذا القول لا يتناسب مع فصاحة وبلاغة القرآن، فإنّ اللَّه سبحانه يتناول الإجابة على هذا القول في الآية الأخيرة مورد البحث دون أن ينقل أصل قولهم، يقول: «الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا».

وهذا علامة على مهانتهم وذلتهم، لأنّهم كانوا في الدنيا في غاية الكبر والغرور والإستهانة بخلق اللَّه، هذا من جهة.

ومن جهة اخرى تجسيد لضلالتهم في هذا العالم، ذلك أنّ من يسحبونه بهذه الصورة لا يرى ما أمامه بأي شكل، وغافل عما حوله.

فريق لهم قامات منتصبة كشجر السرو، ووجوه منيرة كالقمر، وخطوات واسعة، يتوجهون بسرعة إلى الجنة.

وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَ جَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً (36) وَ قَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَ جَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَ أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً (37) وَ عَاداً وَ ثَمُودَ وَ أَصْحَابَ الرَّسِّ وَ قُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَ كُلًّا

ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَ كُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيراً (39) وَ لَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَ فَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُوراً (40)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 403

أشار القرآن المجيد في هذه الآيات إلى تاريخ الامم الماضية ومصيرهم المشؤوم مؤكّداً على ست أمم. يقول أوّلًا: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتبَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هرُونَ وَزِيرًا».

فقد القيت على عاتقيهما المسؤولية الثقيلة في جهاد الفراعنة، ويجب عليهما مواصلة هذا العمل الثوري بمساعدة أحدهما الآخر حتى يثمر: «فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بَايَاتِنَا». فإنّهم قد كذبوا دلائل اللَّه وآياته التي في الآفاق وفي الأنفس وفي كل عالم الوجود، ومن جهة أخرى أعرضوا عن تعاليم الانبياء السابقين وكذبوهم.

ولكن بالرغم من جميع الجهود والمساعي التي بذلها موسى وهارون، بالرغم من رؤية كل تلك المعجزات العظيمة والبينات المتنوعة، أصروا أيضاً على طريق الكفر والإنكار، لذا «فَدَمَّرْنهُمْ تَدْمِيرًا». «تدمير»: من مادة «دمار» بمعنى الإهلاك باسلوب يثير العجب.

وكذلك: «وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنهُمْ وَجَعَلْنهُمْ لِلنَّاسِ ءَايَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا».

وكذلك: «وَعَادًا وَثَمُودَا وَأَصْحبَ الرَّسّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذلِكَ كَثِيرًا».

«قوم عاد» هم قوم النبي «هود» العظيم، الذي بعث في منطقة (الأحقاف) أو (اليمن). و «قوم ثمود» قوم نبي اللَّه «صالح» الذي بعث في منطقة وادي القرى (بين المدينة والشام).

«رسّ»: في الأصل بمعنى الأثر القليل، و «أصحاب الرس» كانوا قوماً يعبدون شجرة صنوبر كان يافث بن نوح غرسها وكان لهم إثنتا عشرة قرية معمورة على شاطى ء نهر يقال له «الرسّ»، ولمّا طال منهم الكفر باللَّه وعبادة الشجرة، بعث اللَّه إليهم رسولًا من بني إسرائيل من ولد يهودا، فدعاهم برهة إلى عبادة اللَّه وترك الشرك، فلم يؤمنوا، فدعا على الشجرة فيبست، فلمّا رأوا

ذلك ساءهم، فاجتمعت آراؤهم على قتله فحفروا بئراً عميقاً وألقوه فيها، فأتبعهم اللَّه بعذاب شديد أهلكهم عن آخرهم.

«قرون»: جمع «قرن» وهي في الأصل بمعنى الجماعة الذين يعيشون معاً في زمان واحد، ثم أطلقت على الزمان الطويل (أربعين أو مائة سنة).

لكنّنا لم نجاز أولئك على غفلة أبداً، بل «وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثلَ».

أجبنا على إشكالاتهم، مثل الإجابة على الإشكالات التي يوردونها عليك، أخطرناهم، أنذرناهم، كررنا عليهم مصائر وقصص الماضين، لكن حين لم ينفع أيّ من ذلك أهلكناهم

مختصر الامثل، ج 3، ص: 404

ودمّرناهم تدميراً: «وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا» «1». وفي نهاية المطاف- في الآية الأخيرة مورد البحث- يشير القرآن المجيد إلى خرائب مدن قوم لوط التي تقع على بداية طريق الحجازيين إلى الشام، وإلى الأثر الحي الناطق عن المصير الأليم لُاولئك الملوثين والمشركين، فيقول تعالى: «وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِى أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا».

نعم، لقد كانوا يرون مشهد الخرائب هذه، لكنّهم لم يأخذوا منها العبرة، ذلك لأنّهم: «بَلْ كَانُوا لَايَرْجُونَ نُشُورًا».

وَ إِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْ لَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَ سَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)

الآيات الحالية تتناول لوناً آخر من منطق المشركين وكيفية تعاملهم مع رسول الخاتم صلى الله عليه و آله ودعوته الحقة. يقول تعالى أوّلًا:

«وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا».

ثم يواصل القرآن ذكر مقولات المشركين فينقل عن لسانهم: «إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَن ءَالِهَتِنَا

لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا».

لكن القرآن يجيبهم من عدّة طرق، ففي البداية من خلال جملة واحدة حاسمة يرد على مقولات هذه الفئة التي ما كانت أهلًا للمنطق: «وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا».

يمكن أن يكون هذا العذاب إشارة إلى عذاب القيامة، أو عذاب الدنيا مثل الهزيمة المنكرة يوم «بدر» وأمثالها.

______________________________

(1) «تتبير»: من مادة «تبر» (على وزن ضرر، وعلى وزن صبر) بمعنى الإهلاك التام.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 405

الجواب القرآني الثاني على مقولاتهم ورد في الآية التي بعدها، موجهاً الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله على سبيل المواساة وتسلية الخاطر، وأيضاً على سبيل بيان الدليل على أصل عدم قبول دعوة النبي من قبل اولئك، فيقول: «أَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَيهُ».

فهل أنت قادر مع هذا الحال على هدايته والدفاع عنه، «أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا».

يعني إذا وقف اولئك أمام دعوتك بالإستهزاء والإنكار وأنواع المخالفات، فلم يكن ذلك لأنّ منطقك ضعيف ودلائلك غير مقنعة، وفي دينك شك أو ريبة، بل لأنّهم ليسوا أتباع العقل والمنطق، فمعبودهم أهواؤهم النفسية، واتباع الهوى مصدر الغفلة ومنبع الكفر وعدم الإيمان.

وأخيراً فإنّ الجواب القرآني الثالث لهذه الفئة الضالة، هو قوله: «أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا».

يعني لا يؤذينك استهزاؤهم ومقولاتهم السيئة وغير المنطقية أبداً، لأنّ الإنسان إمّا أن يكون ذا عقل، ويستخدم عقله، فيكون مصداقاً ل «يعقلون». أو أنّه فاقد للعلم ولكنه يسمع قول العلماء، فيكون مصداقاً ل «يسمعون»، لكن هذه الفئة لا من اولئك ولا من هؤلاء، وعلى هذا فلا فرق بينهم وبين الانعام، بل هم أتعس من الأنعام وأعجز، إذ أنّ الأنعام لا تعقل ولا فكر لها، وهؤلاء لهم عقل وفكر،

وتسافلوا إلى حال كهذه.

أَ لَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَ لَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَ النَّوْمَ سُبَاتاً وَ جَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً (47) وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَ أَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَ نُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَ أَنَاسِيَّ كَثِيراً (49) وَ لَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً (50)

حركة الظلال: في هذه الآيات كلام في أقسام مهمّة من النعم الإلهية، وكلام في نعمة «الظلال» ثم في آثار وبركات «الليل» و «النوم والإستراحة» و «ضياء» النهار و «هبوب الرياح» و «نزول المطر» و «إحياء الأراضي الموات» و «سقاية» الأنعام والناس.

يقول تعالى

مختصر الامثل، ج 3، ص: 406

أوّلًا: «أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ الظّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا».

هذا الظل الممتد والمنتشر هو ذلك الظل المنتشر على الأرض بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس، وأهنأ الظلال والساعات هي تلك؛ لأنّه تعالى يقول على أثر ذلك: «ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا». إشارة إلى أنّ مفهوم الظل لم يكن ليتّضح لو لم تكن الشمس.

بعد ذلك يبيّن تعالى: ثم إنّنا نجمعه جمعاً ويئداً، «ثُمَّ قَبَضْنهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا».

من المعلوم أنّ الشمس حينما تطلع فإنّ الظلال تزول تدريجياً، حتى يحين وقت الظهر حيث ينعدم الظل تماماً في بعض المناطق، وفي مناطق اخرى يصل إلى أقل من طول الشاخص، ولهذا فالظل لا يظهر ولا يختفي دفعةً واحدةً، وهذا نفسه حكمة الخالق، ذلك لأنّ الإنتقال من النور إلى الظلمة بشكل فجائي يكون ضاراً بجميع المخلوقات.

بعد ذكر نعمة الظلال، تناول القرآن

الكريم بالشرح نعمتين اخريين متناسبتين معها تناسباً تاماً، فيكشف جانباً آخر من أسرار نظام الوجود الدالة على وجود اللَّه، يقول تعالى: «وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيلَ لِبَاسًا».

هذا الحجاب الظلامي الذي لا يستر الناس فقط، بل كل الموجودات على الأرض ويحفظها كاللباس، ويلتحفه الإنسان كالغطاء الذي يستفيد منه أثناء النوم، أو لإيجاد الظلام.

ثم يشير تعالى إلى نعمة النوم: «وَالنَّوْمَ سُبَاتًا».

«السبات»: في اللغة من «سبت» بمعنى القطع، ثم جاء بمعنى تعطيل العمل للإستراحة.

هذا التعبير إشارة إلى تعطيل جميع الفعاليات الجسمانية أثناء النوم.

النوم في وقته وبحسب الحاجة إليه، مجدد لجميع طاقات البدن، وباعث للنشاط والقوة، وأفضل وسيلة لهدوء الأعصاب.

وفي ختام الآية أشار تعالى إلى نعمة «النهار» فقال تعالى: «وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا».

«النشور»: في الأصل من النشر بمعنى البسط، في مقابل الطي وربّما كان هذا التعبير إشارة إلى انتشار الروح في أنحاء البدن، حين اليقظة التي تشبه الحياة بعد الموت، أو إشارة إلى انتشار الناس في ساحة المجتمع، والحركة للمعاش على وجه الأرض.

فضياء النهار من حيث روح وجسم الإنسان باعث على الحركة حقّاً، كما أنّ الظلام باعث على النوم والهدوء.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 407

بعد بيان هذه المواهب العظيمة- التي هي أهم ركائز الحياة الإنسانية- يتناول القرآن الكريم موهبة اخرى مهمة جدّاً فيقول: «وَهُوَ الَّذِى أَرْسَلَ الرّيحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا».

لا يخفى أنّ دور الرياح هو أنّها الطلائع المتقدمة لنزول الرحمة الإلهية، لأنّ إذا لم تحمل الرياح هذه الغيوم المثقلة من أعالي المحيطات باتجاه الأراضي اليابسة، فستتحول هذه الغيوم إلى مطر وستهطل على نفس ذلك البحر.

إنّ قسماً من هذه الرياح المتقدمة لقطعات الغيوم في حركتها وامتزاجها برطوبة ملائمة، تبعث النسيم المنعش الذي تشم منه رائحة المطر،

هذه الرياح مثل البشير الذي يُنبى ء عن قدوم مسافر عزيز.

التعبير ب «الرياح» بصيغة الجمع لعله إشارة إلى أنواع مختلفة منها، فبعض شمالي، وبعض جنوبي، وبعض يهب من الشرق إلى الغرب، ومنها ما يهب من الغرب إلى الشرق، فتكون سبباً في انتشار الغيوم في كل الآفاق.

المهم هنا هو أنّ «الماء» قد وصف ب «الطهور» التي هي صيغة مبالغة من الطهارة والنقاء ولهذا فمفهوم الطهارة والتطهير يعني أنّ الماء طاهر بذاته ويطهر الأشياء الملوثة.

فمضافاً إلى خاصية الإحياء، فإنّ للماء خاصية كبيرة الأهمية هي التطهير، فلولا الماء فإنّ أجسامنا ونفوسنا وحياتنا تتسخ وتتلوث في ظرف يوم واحد.

مضافاً إلى أنّ تنقية الروح من التلوث بواسطة الغسل والوضوء تكون بالماء، إذن فالماء مطهر للروح والجسم معاً.

لكن خاصية التطهير هذه مع ما لها من الأهمية، اعتبرت في الدرجة الثانية، لذا يضيف القرآن الكريم في الآية التي بعدها بأنّ الهدف من نزول المطر هو الإحياء: «لّنُحِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا». وأيضاً: «وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعمًا وَأَنَاسِىَّ كَثِيرًا».

في الآية الأخيرة- مورد البحث- يشير تعالى إلى القرآن فيقول: جعلنا هذه الآيات بينهم بصور مختلفة ومؤثرة ليتذكروا وليتعرفوا من خلاله على قدرة الخالق، لكن كثيراً من الناس لم يتخذوا موقفاً إزاء ذلك إلّاالإنكار والكفران: «وَلَقَدْ صَرَّفْنهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 408

وَ لَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَ جَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً (52) وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَ هذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَ جَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَ حِجْراً مَحْجُوراً (53) وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كَانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا

لَا يَنْفَعُهُمْ وَ لَا يَضُرُّهُمْ وَ كَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً (55)

الآية الاولى- مورد البحث- أشارت إلى عظمة مقام النبي صلى الله عليه و آله، يقول تعالى: لو أردنا لبعثنا نبيّاً في كل مدينة وبلد، لكنّنا لم نفعل هذا وألقينا مسؤولية هداية العالمين على عاتقك، «وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا». لأنّ تمركز النبوة في وجود فرد واحد يكون باعثاً على وحدة وانسجام الناس، ومانعاً من كل فرقة وتشتت.

إنّ هذه الآية دليل على عظمة مقام النبي صلى الله عليه و آله، فهي دليل كذلك على وجوب وحدة القائد، وعلى ثقل عب ء مسؤوليته.

وبنفس هذا الدليل، يبيّن اللَّه تبارك وتعالى في الآية التالية أمرين إلهيين مهمين يشكلان منهجين أساسيين للانبياء، فيوجه الخطاب أوّلًا إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله ويقول: «فَلَا تُطِعِ الْكفِرِينَ». لا تخطُ أيّة خطوة على طريق التوافق مع انحرافاتهم، فإنّ التوافق مع المنحرفين آفة الدعوة إلى اللَّه.

أمّا القانون الثاني فهو: جاهد اولئك بالقرآن: «وَجهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا».

جهاداً كبيراً بعظمة رسالتك، وبعظمة جهاد كل الأنبياء الماضين، الجهاد الذي يشمل جميع الأبعاد الروحية والفكرية للناس، ويشمل كل الأصعدة المادية والمعنوية.

هذا التعبير يجسد أيضاً عظمة مقام القرآن، ذلك لأنّه وسيلة هذا الجهاد الكبير وسلاحه القاطع، فإنّ قدرته البيانية واستدلاله وتأثيره العميق وجاذبيته فوق تصور وقدرة البشر.

ثم يتناول القرآن الكريم مجدداً الاستدلال على عظمة الخالق عن طريق بيان نعمه في النظام الكوني، فيشير بعد ذكر المطر في الآيات السابقة إلى عدم الإختلاط بين المياه العذبة والمالحة: «وَهُوَ الَّذِى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 409

«مرج»: من مادة «المرج» (على وزن فلج) بمعنى الخلط أو الإرسال،

وهنا بمعنى المجاورة بين الماء العذب والمالح.

«عذب»: بمعنى سائغ وطيب وبارد، و «فرات» بمعنى لذيذ وهني ء.

«ملح»: بمعنى مالح، و «أجاج» بمعنى مُرّ وحار.

«برزخ»: بمعنى حجاب وحائل بين شيئين.

فهذه الآية تصور واحداً من المظاهر المدهشة لقدرة الخالق في عالم مخلوقاته، وكيف يستقر حجاب غير مرئي، وحائل خفي بين البحر المالح والبحر العذب، فلا يسمح لهما بالاختلاط.

وقد اتّضح اليوم أنّ هذا الحجاب اللامرئي، هو ذلك «التفاوت بين كثافة المالح والعذب» وفي الإصطلاح «تفاوت الوزن النوعي» لهما، حيث يكون سبباً في عدم امتزاجهما إلى مدة طويلة.

إنّ جعل هذه الآية وسط آيات تتعلق ب «الكفر» و «الإيمان» ربّما تكون أيضاً إشارة وتمثيلًا لهذا الأمر، ففي المجتمع الواحد أحياناً، وفي المدينة الواحدة، بل حتى في البيت الواحد أحياناً، يتواجد أفراد مؤمنون كالماء العذب والفرات، مع أفراد بلا إيمان كالماء المالح الأجاج ... مع طرازين من الفكر، ونوعين من العقيدة، ونمطين من العمل، طاهر وغير طاهر، دون أن يمتزجا.

في الآية التالية- بمناسبة البحث في نزول المطر، وفي البحرين العذب والأجاج المتجاورين- يتحدث القرآن الكريم عن خلق الإنسان من الماء، فيقول تعالى: «وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا». أي إنّ الإنسان الأوّل خلق من ماء، وأن تكوّن جميع أفراد البشر من ماء النطفة أيضاً، وأنّ الماء يشكل أهم مادة في بناء جسم الإنسان أيضاً ... الماء الذي يعتبر من أبسط موجودات هذا العالم، كيف صار مبدأ إيجاد مثل هذا الخلق الجميل؟! وهذا دليل بيّن على قدرته تبارك وتعالى.

بعد ذكر خلق الإنسان، يورد جلّ ذكره الكلام عن انتشار الأنسان، فيقول: «فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا».

المقصود من «النسب» هو القرابة التي تكون بين الناس عن طريق الذرية والولد، مثل إرتباط الأب والابن، أو الإخوة بعضهم مع

بعض، أمّا المقصود من «صهر» التي هي في

مختصر الامثل، ج 3، ص: 410

الأصل بمعنى «الختن» هو الإرتباط الذي يقام بين طائفتين عن هذا الطريق، مثل إرتباط الإنسان بأقرباء زوجته. في ختام الآية يقول تبارك وتعالى بصيغة التأكيد على المسائل الماضية: «وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا».

ويبيّن القرآن الكريم في نهاية المطاف في الآية الأخيرة- مورد البحث- انحراف المشركين عن أصل التوحيد، من خلال المقايسة بين قدرة الأصنام وقدرة الخالق، حيث مرّت نماذج منها في الآيات السابقة، يقول: «وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَايَنفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ».

من المسلّم أنّ وجود المنفعة والضرر لا يكون وحده معيار العبادة، لكن القرآن يبيّن من خلال هذا التعبير هذه النكتة، وهي أنّهم يفتقدون أية حجة في هذه العبادة، لأنّ الأصنام موجودات عديمة الخاصية تماماً، وفاقدة لأية قيمة، ولأي تأثير سلبي أو إيجابي.

ويضيف القرآن الكريم في ختام الآية: أنّ الكفرة يعين بعضهم بعضاً في مواجهة خالقهم «في طريق الكفر» «وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبّهِ ظَهِيرًا». ويعبئون القوى ويقيمون العراقيل ضد دين اللَّه ونبيّه والمؤمنين الحقيقيين.

وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَ كَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً (59)

أجري هو هدايتكم: كان الكلام في الآيات السابقة حول إصرار الوثنيين على عبادتهم الأصنام التي لا تضرّ ولا تنفع، وفي الآية الحالية الاولى يشير القرآن إلى مهمة النبي صلى الله عليه و آله قبالة هؤلاء المتعصبين المعاندين، فيقول تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنكَ إِلَّا مُبَشّرًا

وَنَذِيرًا».

إذا لم يتقبل هؤلاء دعوتك، فلا جناح عليك، فقد أديت مهمتك في البشارة والإنذار.

هذا الخطاب، كما يشخص مهمّة النبي صلى الله عليه و آله، كذلك يسلّيه، وفيه نوع من التهديد لهذه الفئة الضالة، وعدم المبالاة بهم.

ثم يأمر النبي صلى الله عليه و آله أن يقول لهم أنني لا اريد منكم في مقابل هذا القرآن وابلاغكم رسالة

مختصر الامثل، ج 3، ص: 411

السماء أي أجر وعوض: «قُلْ مَا أَسَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ». ثم يضيف: إنّ الأجر الوحيد الذي أطلبه أن يهتدي الناس إلى طريق اللَّه «إِلَّا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلًا».

يعني أجري وجزائي هو هدايتكم فقط، وبكامل الإرادة والاختيار أيضاً، فلا إكراه ولا إجبار فيه، وكم هو جميل هذا التعبير الكاشف عن غاية لطف ومحبة النبي صلى الله عليه و آله لأتباعه، ذلك لأنّه عدّ أجره وجزاءه سعادتهم.

وتبيّن الآية التي بعدها المعتمد الأساس للنبي صلى الله عليه و آله: «وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَىّ الَّذِى لَايَمُوتُ».

فمع هذا المعتمد والملجأ فلا حاجة لك بأجر وجزاء هؤلاء، ولا خوف عليك من ضررهم ومؤامراتهم.

والآن حيث الأمر على هذه الصورة فسبح اللَّه تنزيهاً له من كل نقص، وأحمده إزاء كل هذه الكمالات: «وَسَبّحْ بِحَمْدِهِ».

ثم يضيف القرآن الكريم: لا تقلق من بهتان ومؤامرات الأعداء، لأنّ اللَّه مطلع على ذنوب عباده وسيحاسبهم: «وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا».

الآية التالية بيان لقدرة الخالق في ساحة عالم الوجود، ووصف آخر لهذا الملاذ الأمين. يقول تعالى: «الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ». «ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ» فأخذ بتدبير العالم.

إنّ من له هذه القدرة الواسعة يستطيع أن يحفظ المتوكلين عليه من كل خطر وحادثة.

وفي ختام الآية يضيف تعالى: «الرَّحْمنُ»: من شملت رحمته العامة جميع الموجودات، فالمطيع

والعاصي والمؤمن والكافر يغترفون من خوان نعمته التي لا انقطاع فيها.

والآن، حيث ربّك الرحمن القادر المقتدر، فإذا أردت شيئاً فاطلب منه فإنّه المطلع على احتياجات جميع عباده: «فَسَلْ بِهِ خَبِيرًا».

وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَ كَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً (59)

البروج السماوية: كان الكلام في الآيات الماضية عن عظمة وقدرة اللَّه، وعن رحمته

مختصر الامثل، ج 3، ص: 412

أيضاً، ويضيف اللَّه تعالى في الآية الاولى هنا: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمنُ». نحن لا نعرف «الرحمن» أصلًا، وهذه الكلمة ليس لها مفهوم واضح عندنا، «أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا». نحن لا نخضع لأيّ أحد، وسوف لن نكون أتباع أمر هذا أو ذاك، «وَزَادَهُمْ نُفُورًا». أي أنّهم يتكلمون بهذا الكلام ويزدادون ابتعاداً ونفوراً عن الحق.

لا شكّ أنّ أنسب اسم من أسماء اللَّه للدعوة إلى الخضوع والسجود بين يديه، هو ذلك الاسم الممتلى ء جاذبية «الرحمن» مع مفهوم رحمته العامّة الواسعة، لكن أولئك بسبب عمى قلوبهم ولجاجتهم، لم يظهروا تأثراً حيال هذه الدعوة، بل تلقوها بالسخرية والاستهزاء، وقالوا على سبيل التحقير: «وَمَا الرَّحْمنُ».

الآية التالية إجابة على سؤالهم حيث كانوا يقولون: «وما الرحمن؟» وإن كانوا يقولون هذا على سبيل السخرية، لكن القرآن يجيبهم إجابة جادة، يقول تعالى: «تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَاءِ بُرُوجًا». «البروج»: جمع «برج» في الأصل بمعنى «الظهور» ولذا يسمون ذلك القسم الأعلى والأظهر من جدار أطراف المدينة أو محل

تجمع الفرقة العسكرية «برج». فالبروج السماوية إشارة إلى الصور الفلكية الخاصة حيث تستقر الشمس والقمر في كل فصل وكل موضع من السنة إزاء واحد منها، يقولون مثلًا: استقرت الشمس في برج «الحمل» يعني أنّها تكون بمحاذاة «الصورة الفلكية»، «الحمل»، أو القمر في «العقرب» يعني وقفت كرة القمر أمام الصورة الفلكية «العقرب».

بهذا الترتيب، أشارت الآية إلى منازل الشمس والقمر السماوية، وتضيف على أثر ذلك: «وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا».

مع هذه الدلائل الواضحة، ومع هذه المنازل البديعة والدقيقة للشمس والقمر، فهل مازلتم تجهلونه وتقولون: «وما الرحمن؟!»

في الآية الأخيرة يواصل القرآن الكريم التعريف بالخالق سبحانه، ويتحدث مرّة اخرى في قسم آخر من نظام الوجود، فيقول تعالى: «وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا».

هذا النظام البديع الحاكم على الليل والنهار، لولاه لانعدمت حياة الإنسان نتيجةً لشدة النور والحرارة أو الظلمة والعتمة، وهذا دليل رائع للذين يريدون أن يعرفوا اللَّه عزّ وجل.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 413

وَ عِبَادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً (63) وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِيَاماً (64) وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَ مُقَاماً (66) وَ الَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَاماً (67)

الصفات الخاصة لعباد الرحمن: هذه الآيات- فما بعد- تستعرض بحثاً جامعاً فذاً حول الصفات الخاصة لعباد الرحمن، وتبيّن اثنتي عشر صفة من صفاتهم الخاصّة، إكمالًا للآيات الماضية حيث كان المشركون المعاندون حينما يذكر اسم اللَّه «الرحمن» يقولون ومل ء رؤوسهم استهزاء وغرور «وما الرحمن؟» ورأينا أنّ القرآن يعرّف لهم «الرحمن» ضمن آيتين، وجاء الدور

الآن ليعرّف «عباد الرحمن».

إنّ أوّل صفة ل «عباد الرحمن» هو نفي الكبر والغرور والتعالي، الذي يبدو في جميع أعمال الإنسان حتى في طريقة المشي، لأنّ الملكات الأخلاقية تظهر نفسها في حنايا أعمال وأقوال وحركات الإنسان بحيث إنّ من الممكن تشخيص قسم مهم من أخلاقه- بدقة- من أسلوب مشيته. يقول تعالى: «وَعِبَادُ الرَّحْمنِ الَّذِين يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا» «1».

نعم، إنّهم متواضعون، والتواضع مفتاح الإيمان، في حين يعتبر الغرور والكبر مفتاح الكفر.

الصفة الثانية ل «عباد الرّحمن» الحلم والصبر، كما يقول القرآن في مواصلته هذه الآية: «وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجهِلُونَ قَالُوا سَلمًا». السلام الذي هو علامة اللامبالاة المقترنة بالعظمة، وليس الناشي ء عن الضعف؛ وليس سلام التحية الذي هو علامة المحبة ورابطة الصداقة، بل السلام الذي هو علامة الحلم والصبر والعظمة.

وتتناول الآية الثانية، خاصيتهم الثالثة التي هي العبادة الخالصة للَّه، فيقول تعالى:

______________________________

(1) «هون»: مصدر، وهو بمعنى الناعم والهادي المتواضع، واستعمال المصدر في معنى اسم الفاعل هنا للتوكيد؛ يعني أنّهم في ما هم عليه كأنّهم عين الهدوء والتواضع.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 414

«وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّدًا وَقِيمًا».

في عتمة الليل حيث أعين الغافلين نائمة، وحيث لا مجال للتظاهر والرياء، حرّموا على أنفسهم لذة النوم، ونهضوا إلى ما هو ألذّ من ذلك، حيث ذكر اللَّه والقيام والسجود بين يدي عظمته عزّ وجلّ. الصفة الرابعة لهم هي الخوف من العذاب الإلهي: «وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا». أي شديداً ومستديماً. «إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا».

ومع أنّهم مشتغلون بذكر اللَّه وعبادته في الليالي، ويقضون النهار في إنجاز تكاليفهم، فإنّ قلوبهم أيضاً مملوءة بالخوف من المسؤوليات.

«غرام»: في الأصل بمعنى المصيبة والألم الشديد الذي لا يفارق الانسان. وتطلق هذه الكلمة على «جهنم» لأنّ عذابها

شديد ودائم لا يزول.

في الآية الأخيرة يشير جل ذكره إلى الصفة الممتازة الخامسة ل «عباد الرحمن» التي هي الإعتدال والإبتعاد عن أي نوع من الإفراط والتفريط في الأفعال، خصوصاً في مسألة الإنفاق، فيقول تعالى: «وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَامًا».

الملفت للإنتباه أنّه يورد الكلام في كيفية إنفاقهم فيقول: إنّ إنفاقهم إنفاق عادل (معتدل) بعيد عن أي إسراف وبخل، فلا يبذلون بحيث تبقى أزواجهم وأولادهم جياعاً، ولا يقترون بحيث لا يستفيد الآخرون من مواهبهم وعطاياهم.

إنّ «الإسراف» هو أن ينفق المسلم أكثر من الحد، وفي غير حق، وبلا داع، و «الإقتار» هو أن ينفق أقل من الواجب.

«قوام»: لغة بمعنى العدل والإستقامة والحد والوسط بين شيئين.

وَ الَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ لَا يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صَالِحاً فَأُولئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَ كَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَ مَنْ تَابَ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً (71)

ميزة «عباد الرحمن» السادسة التي وردت في هذه الآيات هي التوحيد الخالص الذي

مختصر الامثل، ج 3، ص: 415

يبعدهم عن كل أنواع الشرك والثنوية والتعددية في العبادة، فيقول تعالى: «وَالَّذِينَ لَايَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا ءَاخَرَ».

الصفة السابعة: طهارتهم من التلوث بدم الأبرياء: «وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقّ».

ويستفاد جيداً من الآية أعلاه أنّ جميع الأنفس الإنسانية محترمة في الأصل، ومحرم إراقة دمائها إلّاإذا تحققت أسباب ترفع هذا الإحترام الذاتي فتبيح إراقة الدم.

صفتهم الثامنة: هي أنّ عفافهم لا يتلوث أبداً: «وَلَا

يَزْنُونَ».

إنّهم على مفترق طريقين: الكفر والإيمان، فينتخبون الإيمان، وعلى مفترق طريقين: الأمان واللاأمان في الأرواح، فهم يتخيرون الأمان، وعلى مفترق طريقين: الطهر والتلوث، فهم يتخيرون النقاء والطهر. إنّهم يهيئون المحيط الخالي من كل أنواع الشرك والتعدي والفساد والتلوث، بجدهم واجتهادهم.

وفي ختام هذه الآية يضيف تعالى من أجل التأكيد أكثر: «وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَامًا».

«الإثم» و «آثام»: في الأصل بمعنى الأعمال التي تمنع من وصول الإنسان إلى المثوبة، ثم أطلقت على كل ذنب، لكنها هنا بمعنى جزاء الذنب.

تتكي ء الآية التالية أيضاً على ما سبق، من أنّ لهذه الذنوب الثلاثة أهمية قصوى فيقول تعالى: «يُضعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيمَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا».

والمقصود من مضاعفة العذاب أنّ كل ذنب من هذه الذنوب الثلاثة المذكورة في هذه الآية سيكون له عقاب منفصل، فتكون العقوبات بمجموعها عذاباً مضاعفاً.

فضلًا عن أنّ ذنباً ما يكون أحياناً مصدر الذنوب الاخرى، مثل الكفر الذي يسبب ترك الواجبات وارتكاب المحرمات، وهذا نفسه موجب لمضاعفة العذاب الإلهي.

لكن القرآن المجيد كما مرّ سابقاً، لم يغلق طريق العودة أمام المجرمين في أي وقت من الأوقات، بل يدعو المذنبين إلى التوبة ويرغبهم فيها، ففي الآية التالية يقول تعالى هكذا: «إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا».

تبديل السيئات حسنات: هنا عدّة تفاسير، يمكن القبول بها جميعاً:

1- حينما يتوب الإنسان ويؤمن باللَّه، تتبدل سيئات أعماله في المستقبل حسنات، فإذا كان قاتلًا للنفس المحترمة في الماضى، فإنّه يتبنى مكانها في المستقبل الدفاع عن المظلومين

مختصر الامثل، ج 3، ص: 416

ومواجهة الظالمين. وهذا التوفيق الإلهي يناله العبد في ظل الإيمان والتوبة.

2- إنّ اللَّه تبارك وتعالى بلطفه وكرمه وفضله وإنعامه يمحو سيئات أعمال العبد بعد التوبة،

ويضع مكانها حسنات. 3- والمقصود من السيئات آثارها السيئة التي تنطبع بها روح ونفس الإنسان، فحينما يتوب ويؤمن تجتث تلك الآثار السيئة من روحه ونفسه.

الآية التالية تشرح كيفية التوبة الصحيحة، فيقول تعالى: «وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا» «1». يعني أنّ التوبة وترك الذنب ينبغي ألّا تكون بسبب قبح الذنب، بل ينبغي- إضافة إلى ذلك- أن يكون الدافع إليها خلوص النية، والعودة إلى اللَّه تبارك وتعالى.

الصفة التاسعة ل «عباد الرحمن»، هي احترام وحفظ حقوق الآخرين: إنّ هؤلاء لا يشهدون بالباطل مطلقاً: «وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ». والمقصود من «الشهود» هو «الحضور» يعني أنّ عباد الرّحمن لا يتواجدون في مجالس الباطل. فعباد الرّحمن لا يؤدون الشهادة الكاذبة، ولا يشهدون مجالس اللهو والباطل والخطيئة، ذلك لأنّ الحضور في هذه المجالس- فضلًا عن ارتكاب الذنب- فإنّه مقدمة لتلوث القلب والروح.

ثم يشير تعالى في آخر الآية إلى صفتهم الرفيعة العاشرة، وهي امتلاك الهدف الإيجابي في الحياة، فيقول: «وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا».

إنّهم لا يحضرون مجالس الباطل، ولا يتلوثون باللغو والبطلان.

وَ الَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَ إِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً (72) وَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَ عُمْيَاناً (73) وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَ ذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً (74) أُولئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَ يُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَ سَلَاماً (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَ مُقَاماً (76)

الصفة الحادية عشر لهذه النخبة امتلاك العين الباصرة والاذن السامعة حين مواجهتهم

______________________________

(1) «متاب»: مصدر ميمي بمعنى التوبة، ولأنّه مفعول مطلق هنا، فهو للتوكيد.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 417

لآيات الخالق، فيقول تعالى:

«وَالَّذِينَ إِذَا ذُكّرُوا بَايَاتِ رَبّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا

صُمًّا وَعُمْيَانًا».

من المسلّم أنّ المقصود ليس الإشارة إلى عمل الكفار، ذلك لأنّهم لا اعتناء لهم بآيات اللَّه أصلًا، بل إنّ المقصود: فئة المنافقين أو مسلمو الظاهر، الذين يقعون على آيات اللَّه بأعين وآذان موصدة، دون أن يتدبّروا حقائقها، ويستهدوه في أعمالهم.

التلقي الواعي عن الدين هو المعين الأساس للمقاومة والثبات والصمود، لأنّ من اليسير خداع من يقتصر على ظواهر الدين، وبتحريفه يتم الإنحراف عن الخط الأصيل، فيهوي بهم ذلك إلى وادي الكفر والضلالة وعدم الإيمان.

الصفة الثانية عشر الخاصّة لهؤلاء المؤمنين الحقيقيين، هي التوجه الخاص إلى تربية أبنائهم وعوائلهم، وإيمانهم بمسؤوليتهم العظيمة إزاء هؤلاء: «وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِن أَزْوَاجِنَا وَذُرّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ».

بديهي أنّ معنى هذا ليس أن يقبعوا في زاوية ويتضرعوا بالدعاء، بل إنّ الدعاء دليل شوقهم وعشقهم الداخلي لهذا الأمر، ورمز جدهم واجتهادهم.

والصفة الثالثة عشر ل «عباد الرحمن»، التي هي أهم هذه الصفات من وجهة نظر معينة: هي أنّهم لا يقنعون أبداً أنّهم على طريق الحق، بل إنّ همتهم عالية بحيث يريدون أن يكونوا أئمة وقدوات للمؤمنين، ليدعوا الناس إلى هذا الطريق أيضاً. إنّهم ليسوا كالزهاد المنزوين في الزوايا، وليس همّهم انقاذ أنفسهم من الغرق، بل إنّ سعيهم هو أن ينقذوا الغرقى. لذا يقول في آخر الآية، إنّهم الذين يقولون: «وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا».

نعم، إنّهم عباد الرحمن، وكما أنّ رحمة اللَّه العامة تشمل الجميع فإنّ رحمة اللَّه بهؤلاء العباد عامة أيضاً من أكثر من جهة، فعلمهم وفكرهم وبيانهم وقلمهم ومالهم وقدرتهم تخدم بلا انقطاع في طريق هداية خلق اللَّه.

اولئك نماذج الإنسان الكامل والاسوة في المجتمع الإنساني.

اولئك قدوات المتقين.

بعد إكمال هذه الصفات الثلاثة عشرة، يشير تعالى إلى عباد الرحمن هؤلاء مع جميع هذه الخصائص، وفي صورة

الكوكبة الصغيرة، فيبيّن جزاءهم الإلهي: «أُولئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا». «غرفة»: من مادة «غرف» (على وزن حرف) بمعنى رفع الشي ء وتناوله، ويقال لما يغترف ويتناول «غرفة»، ثم اطلقت على الأقسام العليا من البناء، ومنازل

مختصر الامثل، ج 3، ص: 418

الطبقات العليا، وهي هنا كناية عن أعلى منازل الجنة.

المهم أنّ الصبر ليس وصفاً جديداً لهم، بل هو ضمانة تطبيق جميع الصفات السابقة، وعلى هذا فللصبر هنا مفهوم واسع، فالتحمل والصمود أمام مشكلات طريق الحق، والجهاد والمواجهة ضد العصاة، والوقوف أمام دواعي الذنوب، تجتمع كلها في ذلك المفهوم.

ثم يضيف تعالى: «وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلمًا».

أهل الجنّة يحيي بعضهم بعضاً، وتسلم الملائكة عليهم، وأعلى من كل ذلك أنّ اللَّه يحييهم ويُسلم عليهم.

ثم يقول تبارك وتعالى للتأكيد أكثر: «خلِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا».

لولا دعاؤكم، لما كانت لكم قيمة: هذه الآية التي هي الآية الأخيرة في سورة الفرقان، جاءت في الحقيقة نتيجة لكل السورة، وللأبحاث التي بصدد صفات «عباد الرحمن» في الآيات السابقة، فيقول تبارك وتعالى مخاطباً النبي صلى الله عليه و آله: «قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ». وبناء على هذا، إنّ ما يعطيكم الوزن والقيمة والقدر عند اللَّه هو الإيمان باللَّه والتوجه إليه، والعبودية له.

ثم يضيف تعالى: «فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا».

يعني: أنّكم قد كذبتم فيما مضى بآيات اللَّه وبأنبيائه، فإذا لم تتوجهوا إلى اللَّه، ولم تسلكوا طريق الإيمان به والعبودية له، فلن تكون لكم أية قيمة أو مقام عنده، وستحيط بكم عقوبات تكذيبكم.

«نهاية تفسير سورة الفرقان»

مختصر الامثل، ج 3، ص: 419

26 سورة الشّعراء

محتوى السورة: إنّنا نعلم أنّ السور المكية التي أنزلت في بداية دعوة الإسلام، تستند على بيان الاصول الاعتقادية:

التوحيد والمعاد، ودعوة أنبياء اللَّه، وأهمية القرآن.

وتدور جميع موضوعات سورة الشعراء

حول هذه المسائل تقريباً.

ويمكن تلخيص محتوى هذه السورة في عدة أقسام:

1- مطلع هذه السورة الذي يتكون من الحروف المقطعة، ثم يتحدث في عظمة القرآن، وتسلية النبي صلى الله عليه و آله في مواجهة إصرار وحماقة المشركين، والإشارة إلى بعض دلائل التوحيد، وصفات اللَّه تبارك وتعالى.

2- يحكي جوانب من قصص سبعة أنبياء عظام ومواجهاتهم مع أقوامهم، والذي يشبه كثيراً منطق مشركي عصر النبي صلى الله عليه و آله، فكان هذا سبباً في تسلية النبي صلى الله عليه و آله والمؤمنين الأوائل.

وفيه بشكل خاص أيضاً، تركيز على العذاب العظيم والإبتلاءات المروعة التي حلّت بهذه الأمم، والذي هو بذاته تهديد مؤثر لأعداء النبي في تلك الشرائط.

3- وتغلب عليه جنبه الإستنتاج من القسمين الأوليين، يتناول الحديث حول النبي صلى الله عليه و آله، وعظمة القرآن، وتكذيب المشركين، والأوامر الصادرة إلى النبي صلى الله عليه و آله فيما يتعلق بطريقة الدعوة، وكيفية التعامل مع المؤمنين، ويختم السورة بالبشرى للمؤمنين الصالحين، وبالتهديد الشديد للظالمين.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 420

وبالمناسبة، فإنّ اسم هذه السورة أخذ من مجموعة الآيات الأخيرة التي تتحدث حول الشعراء غير المؤمنين.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بنوح عليه السلام وكذّب به، وهود وشعيب وصالح وابراهيم عليهم السلام وبعدد من كذّب بعيسى عليه السلام وصدّق بمحمّد صلى الله عليه و آله».

والمراد من التلاوة هي ما كانت مقدمة للتفكر، ثم العزم والعمل.

طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَنْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَ مَا

يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (6)

مرّةً اخرى نواجه في بداية هذه السورة مثلًا آخر من الحروف المقطعة وهو: «طسم».

ورد في روايات متعددة عن النبي صلى الله عليه و آله أو بعض أصحابه في تفسير «طسم» أنّ هذه الحروف علامات «مختصرة» عن أسماء اللَّه تعالى، أو أسماء القرآن، أو الأمكنة المقدسة، أو بعض أشجار الجنة.

وهذه الرّوايات تؤيد التّفسير الذي نقلناه في مستهلّ سورة الأعراف في هذا الصدد، كما أنّها في الوقت ذاته لا تنافي ما قلناه في مستهل سورة البقرة من أنّ المراد من هذه الحروف بيان إعجاز القرآن وعظمته، حيث إنّ هذا الكلام العظيم مؤلف من حروف بسيطة وصغيرة.

و الآية التالية تبيّن عظمة القرآن بهذا النحو: «تِلْكَ ءَايتُ الْكِتبِ الْمُبِينِ».

ووصف القرآن ب «المبين» المشتق من «البيان»، هو إشارة إلى كونه جليّاً بيّناً عظيماً معجزاً- فكلّما أمعن الإنسان النظر في محتواه تعرّف على إعجازه أكثر فأكثر ... ثم بعد هذا فإنّ القرآن يبيّن الحق ويميزه عن الباطل، ويوضّح سبيل السعادة والنصر والنجاة من الضلال.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 421

وتتحرك الآية التالية لتُسرّي عن قلب النبي صلى الله عليه و آله وتثبته فتقول: «لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ». «باخع»:

مشتقة من «البَخْع»، ومعناه إهلاك النفس من شدة الغمّ.

أجل، كان جميع الأنبياء على هذه الشاكلة من الإشفاق على اممهم ولا سيما الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله الذي ورد في شأنه هذا التعبير القرآني أكثر من مرّة ...

قال بعض المفسرين: إنّ سبب نزول الآية الآنفة الذكر هو أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان يدعو أهل مكة إلى توحيد اللَّه باستمرار، إلّاأنّهم لم

يؤمنوا، فأسف النبي وتأثر تأثراً بالغاً حتى بدت أماراته في وجهه، فنزلت الآية آنفة الذكر لتسرّي عن قلب النبي صلى الله عليه و آله «1».

ولبيان أنّ اللَّه على كل شي ء قدير حتى أنّه يستطيع أن يسوقهم إلى الإيمان به سوقاً ويضطرّهم إلى ذلك، فإنّ الآية التالية تقول: «إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِم مّنَ السَّمَاءِ ءَايَةً فَظَلَّتْ أَعْنقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ».

وهي إشارة إلى أنّ اللَّه قادر على إنزال معجزة مذهلة- من السماء- أو أن يرسل عليهم عذاباً شديداً فيذعنوا له، ويطأطئوا برؤوسهم خضوعاً له، ويستسلموا لأمره وحكمه، إلّاأنّ الإيمان بإكراه لا قيمة له. فالمهم أن يخضعوا للحق عن إرادة ووعي وإدراك وتفكر.

ثم يتحدث القرآن عن مواقف المشركين والكفار من آيات القرآن فيقول: «وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ».

والتعبير ب «الرّحمن» إشارة إلى أنّ نزول هذه الآيات من قبل اللَّه إنّما هو من رحمته العامة، إذ تدعو جميع الناس دون استثناء إلى السعادة والكمال.

والتعبير ب «محدث»- أي جديد- إشارة إلى أنّ آيات القرآن تنزل واحدةً تلو الاخرى، وكل منها ذو محتوى جديد.

ثم يضيف القرآن: أنّ هؤلاء لا يقفون عند حدود الإعراض، بل يتجاوزون إلى مرحلة التكذيب، بل إلى أشدّ منه ليصلوا إلى الإستهزاء به، فيقول: «فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبؤُا مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ». «الأنباء»: جمع «انبأ»، أي الخبر المهم، والمراد من هذه الكلمة ما سيصيبهم من العقاب الشديد الدنيوي والأخروي.

والتحقيق في هذه الآية والآية السابقة يكشف أنّ الإنسان حين ينحرف عن الجادة المستقيمة فإنّه يفصل نفسه عن الحق- بشكل مستمر.

______________________________

(1) تفسير روح الجنان 8/ 324.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 422

ففي المرحلة الاولى يعرض عن الحق ويصرف بوجهه عنه ... ثم بالتدريج يبلغ مرحلة الإنكار والتكذيب

.. ثم يتجاوز هذه المرحلة إلى السخرية والإستهزاء ... ونتيجةً لذلك ينال عقاب اللَّه وجزاءه (وقد ورد نظير هذا التعبير في الآيتين 4 و 5 من سورة الأنعام).

أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)

الزوجية في النباتات: كان الكلام في الآيات المتقدمة عن إعراض الكفار عن الآيات التشريعية (أي القرآن المجيد)، أمّا في الآيات محل البحث فالكلام عن الآيات التكوينية ودلائل اللَّه في خلقِه وما أوجده سبحانه؛ فتقول الآية الاولى من هذه الآيات:

«أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ». «كريم»: في الأصل تعني كل شي ء قيّم وثمين.

والمراد من «كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ» هو النباتات المهمّة ذوات الفائدة.

وتأتي الآية التالية لتقول مؤكّدة بصراحة: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً». إلّاأنّ اولئك الذين طُبع على قلوبهم في غفلة وجهل إلى درجة يرون معها آيات اللَّه بأعينهم، ومع ذلك يجحدونها ويكفرون بها، ويترسخ في قلوبهم العناد والجدل. لذلك فإنّ الآية هذه تعقّب قائلة: «وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ». أي إنّ عدم الإيمان لدى اولئك أمسى كالصفة الراسخة فيهم، فلا عجب أن لا ينتفعوا من هذه الآيات.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث يرد الخطاب في تعبير يدل على التهديد والترهيب والتشويق والترغيب، فيقول سبحانه: «وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ».

«العزيز»: معناه المقتدر الذي لا يغلب ولا يُقهر، فهو قادر على إظهار الآيات العظمى، كما أنّه قادر على إهلاك المكذبين وتدميرهم .. إلّاأنّه مع كل ذلك رحيم، ورحمته وسعت كل شي ء، ويكفي الرجوع بإخلاص إليه في لحظة قصيرة، لتشمل رحمته من أناب إليه

وتاب، فيعفو عنه بلطفه ورحمته.

وَ إِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَ لَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَ يَضِيقُ صَدْرِي وَ لَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 423

بداية رسالة موسى: قلنا إنّ في هذه السورة بياناً لقصص سبعة من الأنبياء الكرام العظام، ليكون درس اعتبار لعامّة المسلمين، ولا سيما المسلمين الأوائل في عصر النبي صلى الله عليه و آله ... فأوّل قصّة تتناولها هذه السورة هي قصة موسى عليه السلام، وتشرح جوانب مختلفة من حياته ومواجهته لفرعون وأتباعه حتى هلاكهم بالغرق في النيل.

وممّا يلفت النظر تكرار عبارة: «وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ»، بعد تمام الحديث عن كل نبي ...

وهو التعبير ذاته الوارد في بداية هذه السورة في شأن النبي محمّد صلى الله عليه و آله .. وهذا الإتساق في التعبير شاهد حيّ على أنّ ذكر هذه الجوانب من قصص الأنبياء إنّما هو للظروف المتشابهة التي أكتنفت المسلمين من حيث الحالة النفسية والإجتماعية كما كان عليها الأنبياء السابقون ...

فتقول الآيتان الاوليان من الآيات محل البحث: «وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ».

ويتركون ظلمهم وفسادهم وعنادهم للحق.

وينبغي الإلتفات إلى أنّ الصفة الوحيدة المذكورة عن قوم فرعون هنا هي الظلم، ومن الواضح أنّ الظلم له معنى جامع واسع ومن مصاديقه الشرك كما تقول الآية (13) من سورة لقمان: «إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ».

كما أنّ استعباد بني إسرائيل واستثمارهم وما قارنهما من زجر وتعذيب من المصاديق الاخرى أيضاً، ثم بعد هذا

كلّه فإنّ قوم فرعون ظلموا أنفسهم بأعمالهم المخالفة، وهكذا يمكن تلخيص أهداف دعوة الأنبياء جميعهم بمبارزة الظلم بجميع أبعاده ...

ويحكي القرآن مقالة موسى الكليم لربّ العزة وما طلبه منه من مزيد القوة والعون لحمل الرسالة العظمى، فيقول في الآية التالية: «قَالَ رَبّ إِنّى أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ». وأخشى أن اطرد قبل أن أكمل أداء رسالتي بما الاقيه من صخب وتكذيب فلا يتحقق الهدف المنشود ...

وكان لموسى الحق في كلامه هذا تماماً، لأنّ فرعون وأتباعه وحاشيته كانوا مهيمنين على مصر، بحيث لم يكن لأحد أن يخالفهم ولو برأيه، وإذا أحسّوا بأدنى نغمة مخالفة لأي شخص بادروا إلى الإجهاز عليه فوراً ..

وإضافة إلى ذلك فإنّ صدري لا يتّسع لاستيعاب هذه الرسالة الإلهية: «وَيَضِيقُ صَدْرِى».

ثم بعد هذا كلّه فلساني قد يعجز عن بيانها: «وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِى» ...

مختصر الامثل، ج 3، ص: 424

فلذلك فإنّي أطلب أن تشدّ أزري بأخي: «فَأَرْسِلْ إِلَى هرُونَ». لنؤدّي رسالتك الكبرى بأكمل وجه بتعاضدنا في مواجهة الظالمين والمستكبرين.

وبغض النظر عن كل ذلك فإنّ قوم فرعون يطاردونني «وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنبٌ» كما يعتقدون لأنّي قتلت واحداً منهم- حين كان يتنازع مع إسرائيلي مظلوم- بضربة حاسمة، وأنا قلق من ذلك: «فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ».

إنّ موسى لم يكن خائفاً على نفسه، بل كان خوفه أن لا يصل إلى الهدف والمقصد للأسباب آنفة الذكر، لذلك فقد كان يطلب من اللَّه سبحانه مزيد القوة لهذه المواجهة ...

فاستجاب اللَّه طلب موسى ودعوة الصادقة و «قَالَ كَلَّا». فلن يستطيعوا قتلك، أو كلّا لن يضيق صدرك وينعقد لسانك، وقد أجبنا دعوتك أيضاً في شأن أخيك، فهو مأمور معك في هذه المهمة: «فَاذْهَبَا بَايَاتِنَا» لتدعوا فرعون وقومه إلى توحيد اللَّه.

ولا تظنّا بأنّ اللَّه بعيد عنكم أو لا يسمع ما

تقولان: «إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ» ...

فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَ لَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)

مواجهة فرعون مواجهةً منطقية وقاطعة: انتهت في الآيات المتقدمة المرحلة الاولى لمأمورية موسى عليه السلام وهي موضوع الوحي والرسالة وطلبه أسباب الوصول إلى هذا الهدف الكبير ... وتعقيباً على المرحلة الآنفة تأتي الآيات- محل البحث- لتمثل المرحلة الثانية، أي مواجهة موسى وهارون لفرعون، والكلام المصيري الذي جرى بينهم. تقول الآية الاولى من هذه الآيات مقدمة لهذه المرحلة: «فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ».

وضمن دعوتكما لفرعون بأنّكما رسولا ربّ العالمين اطلبا منه أن يُرسل بني إسرائيل ويرفع يده عنهم: «أَن أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ».

وبديهي أنّ المراد من الآية أن يرفع فرعون عن بني إسرائيل نير العبودية والقهر

مختصر الامثل، ج 3، ص: 425

والإستعباد، ليتحرروا ويأتوا مع موسى وهارون، وليس المراد هو إرسال بني إسرائيل معهما فحسب.

وهنا يلتفت فرعون فيتكلم بكلمات مدروسة وممزوجة بالخبث والشيطنة لينفي الرسالة ويقول لموسى «أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيدًا ...». إذْ التقطناك من أمواج النيل الهادرة فانقذناك من الهلاك، وهيّأنا لك مرضعة، وعفونا عن الحكم الصادر في قتل أبناء بني إسرائيل الذي كنت مشمولًا به، فتربّيت في محيط هادى ء آمن منعّماً ... وبعد أن تربيت في بيتنا عشت زماناً «وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ».

ثم توجه إلى موسى وذكره بموضوع قتل القبطي فقال: «وَفَعَلْتَ

فَعْلَتَكَ الَّتِى فَعَلْتَ».

ثم بعد هذا كلّه: «وَأَنتَ مِنَ الْكفِرِينَ».

وعندما سمع موسى كلمات فرعون الممزوجة بالخبث والشيطنة أجاب على إشكالات فرعون الثلاثة، إلّاأنّه قدّم الإجابة على الإشكال الثاني نظراً لأهميته. (أو أنّه أساساً لم يجد الإشكال الأوّل يستحق الإجابة، لأنّ تربية الشخص لا تكون دليلًا على عدم جواز هداية مربّيه إن كان المربي ضالًا، ليسلك سبيل الرشاد) وأجابه موسى عليه السلام: «قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالّينَ».

إنّ موسى عليه السلام استخدم التورية في تعبيره جواباً على كلام فرعون، فقال كلاماً ظاهره أنّه لم يعرف طريق الحق في ذلك الزمان ... لكن اللَّه عرّفه إيّاه بعدئذ، ووهب له حكماً- فجعله من المرسلين، إلّاأنّه كان يقصد في الباطن أنّه لم يدر أن عمله حينئذ سيؤدّي إلى هذه النتيجة من الجهد والعناء واضطراب البال- مع أنّ أصل عمله كان حقاً ومطابقاً لقانون العدالة.

ثم يضيف موسى قائلًا: «فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِى رَبّى حُكْمًا وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُرْسَلِينَ».

ثم يردّ موسى عليه السلام على كلام فرعون الذي يمنّ به عليه في أنّه ربّاه وتعهده منذ طفولته وصباه، معترضاً عليه بلحن قاطع فيقول: «وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِى إِسْرَاءِيلَ».

حتى أمرت أن يُقتل الأطفال الذكور وتستحيا النساء للخدمة.

فهذا الظالم المفرط من قبلك، كان سبباً لأن تضعني امي في الصندوق حفاظاً علي، وتلقيني في أمواج النيل، وكانت مشيئة اللَّه أن تسوق الأمواج «زورقي» الصغير حتى توصله إلى قصرك ... أجل إنّ ظلمك الفاحش هو الذي جعلني رهين منّتك وحرمني من بيت أبي الكريم، وصيرني في قصرك الملوّث ...

مختصر الامثل، ج 3، ص: 426

قَالَ فِرْعَوْنُ وَ مَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ

حَوْلَهُ أَ لَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)

حين واجه موسى عليه السلام فرعون بلهجة شديدة وأجابه بضرس قاطع، وأفحم فرعون في ردّه، غيّر فرعون مجرى كلامه، وسأل موسى عن معنى كلامه أنّه رسول رب العالمين، و «قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ». وفرعون قد سأل موسى عليه السلام هذا السؤال متجاهلًا ومستهزئاً.

إلّا أنّ موسى لم يجد بُداً أن يجيب على فرعون بجدّ ... وحيث إنّ ذات اللَّه سبحانه بعيدة عن متناول أفكار الناس، فإنّه أخذ يحدثه عن آيات اللَّه في الآفاق وآثاره الحية إذ: «قَالَ رَبُّ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ».

وينبغي الإلتفات إلى أن عبدة الأوثان كانوا يعتقدون أنّ لكل موجود في هذا العالم ربّاً، وكانوا يعدّون العالم تركيباً من نُظُمٍ متفرقة، إلّاأنّ كلام موسى عليه السلام يشير إلى أنّ هذا النظام الواحد المتحكم على هذه المجموعة في عالم الوجود دليل على أنّ له ربّاً واحداً ...

وجملة «إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ» لعلها إشارةً إلى أنّ موسى عليه السلام يريد أن يفهم فرعون ومن حوله- ولو تلويحاً- أنّه يعرف أنّ الهدف من هذا السؤال ليس إدراك الحقيقة ... لأنّه لو أراد إدراك الحقيقة والبحث عنها لكان استدلاله كافياً .. لتصححوا نظرتكم نحو الكون.

إلّا أنّ فرعون عاد لمواصلة الاستهزاء والسخرية، واتبع طريقة المستكبرين القديمة بغرور، و «قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ».

ومعلوم من هم الذين حول فرعون، فهم أشخاص من نسيجه وجماعة من أصحاب القوة والظلم والقهر والمال.

وكان الهدف من كلام فرعون أن لا يترك

كلام موسى المنطقي يؤثر في القلوب المظلمة لُاولئك الرهط ... فعدّه كلاماً بلا محتوى وغير مفهوم.

إلّا أنّ موسى عليه السلام عاد مرّةً اخرى إلى كلامه المنطقي دون أي خوف ولا وهن ولا إيهام، فواصل كلامه و «قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 427

إنّ موسى عليه السلام بدأ في المرحلة الاولى ب «الآيات الآفاقية»، وفي المرحلة الثانية أشار إلى «الآيات الأنفسية»، إلّاأنّ فرعون تمادى في حماقته، وتجاوز مرحلة الاستهزاء إلى اتهام موسى بالجنون، ف «قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ».

وذلك ما اعتاده الجبابرة والمستكبرون على مدى التاريخ من نسبة الجنون إلى المصلحين الرّبانيين، إلّاأنّ هذه التهمة لم تؤثر في روح موسى عليه السلام ومعنوياته العالية، وواصل بيان آثار اللَّه في عالم الإيجاد في الآفاق والأنفس، مبيناً خط التوحيد الأصيل ف «قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ».

فإذا كنت- يا فرعون- تحكم حكما ظاهريّاً في أرض محدودة تدعى مصر، فإنّ حكومة ربّي الواقعية تسع المشرق والمغرب وما بينهما جميعاً، وآثاره تشرق في وجوه الموجودات.

غير أنّ هذا المنطق المتين الذي لا يتزعزع غاظ فرعون بشدة، فالتجأ إلى استعمال «حربة» يفزع إليها المستكبرون عند الإندحار، فجابه موسى و «قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهًا غَيْرِى لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ».

إنّ فرعون يريد أن يسكت موسى بهذا المنطق الإرهابي، لأنّ مواصلة موسى عليه السلام بمثل هذه الكلمات ستكون سبباً في إيقاظ الناس.

قَالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْ ءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَا ذَا تَأْمُرُونَ

(35) قَالُوا أَرْجِهْ وَ أَخَاهُ وَ ابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)

رأينا في الآيات المتقدمة أنّ فرعون يلجأ إلى التهديد بالسجن والإعدام، وهنا يقلب موسى عليه السلام صفحة جديدة، فعليه أن يسلك طريقةً اخرى يخذل فيها فرعون ويعجزه. عليه أن يلجأ إلى القوة أيضاً، القوة الإلهية التي تنبع من الإعجاز، فالتفت إلى فرعون متحدّياً و «قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَىْ ءٍ مُّبِينٍ».

وهنا وجد فرعون نفسه في طريق مغلق مسدود، لأنّ موسى عليه السلام أشار إلى خطّة جديدة ولفت انظار الحاضرين نحوه، إذ لو أراد فرعون أن لا يعتدّ بكلامه، لإعترض عليه الجميع.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 428

فاضطر فرعون إلى الإستجابة لاقتراح موسى عليه السلام و «قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصدِقِينَ». «فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ» «بأمر اللَّه».

ثم أظهر إعجازاً آخر حيث أدخل يده في جيبه (أعلى الثوب) وأخرجها فإذا هي بيضاء منيرة: «وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ».

إنّ هاتين المعجزتين الكبيرتين، إحداهما كانت مظهر الخوف، والاخرى مظهر الأمل، فالاولى تناسب مقام الإنذار، والثانية للبشارة.

غير أنّ فرعون اضطرب لهذا المشهد المهول وغرق في وحشة عميقة ولكي يحافظ على قدرته الشيطانية التي أحدق بها الخطر بظهور موسى عليه السلام، وكذلك من أجل أن يرفع من معنويات أصحابه والملأ من حوله في توجيه معاجز موسى ولفت نظرهم عنها، فقد «قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ».

ذلك الإنسان الذي كان يدعوه مجنوناً إلى لحظات آنفة، وإذا هو الآن يعبر عنه بالعليم.

ومن أجل أن يعبّى ء الملأ ويُثير حفيظتهم ضد موسى عليه السلام، قال لهم: «يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ».

والغريب في الأمر أنّ فرعون الذي قال هذا الكلام هو الذي كان يقول من قبل:

«أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ». والآن حيث يرى عرشه متزعزعاً ينسى مالكيته المطلقة لهذه الأرض، ويعدّها ملك الناس، فيقول لهم: أرضكم في خطر.

يقول لمن حوله: «ماذا تأمرون؟!» إنّها استشارة عاجزة ومن موقف الضعف فحسب.

وبعد المشاورة فيما بينهم التفت الملأ من قوم فرعون إليه و «قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ» «1». أي: أمهلهما وابعث رسلك إلى جميع المناطق والأمصار، «يَأْتُوكَ بِكُلّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ».

وقالوا: لحسن الحظّ إنّ في بلادنا العريضة سحرةً كثيرين، فلابدّ من جمع السحرة لإحباط سحر موسى عليه السلام.

______________________________

(1) «أرجه»: مشتقة من «الإرجاء» ومعناها التأخير وعدم الإستعجال في القضاء.

«حاشرين»: مأخوذة من مادة «الحشر» ومعناه التعبئة والسوق لميدان الحرب وأمثال ذلك.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 429

فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَ قِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَ إِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)

اجتماع السحرة من كل مكان: في هذه الآيات يُعرض مشهداً آخر من هذه القصة المثيرة، إذ تحرك المأمورون بحسب اقتراح أصحاب فرعون إلى مدن مصر لجمع السحرة والبحث عنهم، وكان الوعد المحدد: «فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ».

وبتعبير آخر: إنّهم هيأوهم من قبل لمثل هذا اليوم.

وطُلب من الناس الحضور في هذا المشهد: «وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ».

وقيل للناس: إنّ الهدف من هذا الحضور والاجتماع هو أنّ السحرة إذا انتصروا فمعنى ذلك انتصار الآلهة وينبغي علينا اتباعهم: «لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ». فلابدّ من تهييج الساحة للمساعدة في هزيمة عدو الآلهة إلى الأبد.

كل هذا من جهة، ومن جهة اخرى كان السحرة يحلمون بالجائزة من قبل فرعون: «فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ

قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ».

وكان فرعون قلقاً مضطرب البال، لأنّه في طريق مسدود، وكان مستعدّاً لأن يمنح السحرة أقصى الإمتيازات، لذلك فقد أجابهم بالرضا و «قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ».

قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَ عِصِيَّهُمْ وَ قَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَ هَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)

حين اتفق السحرة مع فرعون ووعدهم بالأجر والقرب منه، وشدّ من عزمهم، فإنّهم

مختصر الامثل، ج 3، ص: 430

بدأوا بتهيئة المقدمات ووفروا خلال ماسنحت لهم الفرصة عصيّهم وحبالهم، ويظهر أنّهم صيّروها جوفاء وطلوها بمادة كيميائية كالزئبق- مثلًا- بحيث تتحرك وتلمع عند شروق الشمس عليها. وأخيراً كان اليوم الموعود والميقات المعلوم، وانثال الناس إلى ساحة العرض ليشهدوا المبارزة التاريخية: «قَالَ لَهُمْ مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ».

وأمّا السحرة الغارقون بغرورهم، والذين بذلوا أقصى جهودهم لانتصارهم في هذا «الميدان»، فقد كانوا مستعدين ومؤمّلين لأن يغلبوا موسى عليه السلام: «فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغلِبُونَ» «1».

وهنا- كما يبيّن القرآن في الآية (66) من سورة طه- تحركت العصيّ كأنّها الأفاعي والثعابين و «يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى .

فتهللت أسارير وجوه الناس ووجه فرعون فرحاً، وأشرق الأمل في عيني فرعون وأتباعه، إلّاأنّ موسى عليه السلام لم يمهل الحاضرين

ليستمر هذا المشهد ويدوم هذا الفصل المثير، فتقدم: «فَأُلْقِىَ مُوسَى عَصَاهُ» فتحولت إلى ثعبان عظيم وبدأت بالتهام وسائل وأدوات السحرة بسرعة بالغة: «فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ» «2».

وهنا فر جماعة من مكانهم وبقي آخرون يترقبون نهاية المشهد، وأفواه السحرة فاغرة من الدهشة ...

وتبدّل كل شي ء، وثاب السحرة إلى رشدهم بعد أن كانوا- إلى تلك اللحظة- مع فرعون غارقين في الشيطنة، ولأنّهم كانوا عارفين بقضايا السحر ودقائقه، فإنّهم تيقنوا أنّ عصا موسى لم تكن سحراً، بل هي معجزة إلهية كبرى: «فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سجِدِينَ».

واقترن هذا العمل العبادي- وهو السجود- بالقول بلسانهم ف «قَالُوا ءَامَنَّا بِرَبّ الْعَالَمِينَ». ولئلّا يبقى مجال للإبهام والغموض والتردد، ولئلّا يفسر فرعون ذلك تفسيراً آخر فإنّهم قالوا: «رَبّ مُوسَى وَهرُونَ».

______________________________

(1) «الحبال»: جمع «حبل» على وزن (طبل) ومعناها واضح؛ و «العصي»: جمع العصا.

(2) «تلقف»: مشتق من «اللقف» على زنه (السقف) ومعناه إمساك الشي ء بسرعة، سواء كان ذلك باليد أم الفم، ومعلوم أنّ المراد هنا الإمساك بالفم والإبتلاع.

«يأفكون» مشتق من «الإفك» ومعناه الكذب، وهي إشارة إلى وسائلهم الباطلة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 431

أمّا فرعون، فحيث وجد نفسه مهزوماً معنوياً ويرى من جانب آخر أنّ وجوده وسلطانه في خطر، وخاصة أنّه كان يعرف أيّ تأثير عميق لإيمان السحرة في قلوب سائر الناس، ومن الممكن أن يسجد جماعة آخرون كما سجد السحرة، فقد تذرع بوسيلة جديدة وابتكار ماكر، فالتفت إلى السحرة و «قَالَ ءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ».

لقد تربع على عرش الإستبداد سنين طوالًا، كان ترقّبه أن تكون قلوب الناس وأفكارهم مرهونةً به وبأمره، إلّاأنّ فرعون لم يقنع بهذا المقدار، بل أضاف جملتين اخريين ليُثبت موقعه كما يتصوّر أوّلًا، وليحول بين أفكار الناس اليقظين فيعيدهم غفلةً نياماً.

فاتّهم السحرة

أوّلًا بأنّهم تآمروا مع موسى عليه السلام على أهل مصر جميعاً، فقال: «إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السّحْرَ».

إلّا أنّني لا أدعكم تنتصرون في هذه المؤامرة، وسأخنق المؤامرة في مهدها «فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مّنْ خِلفٍ وَلَأُصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ».

إلّا أنّ فرعون لم يحقق هدفه هنا، لأنّ السحرة قبل لحظة- والمؤمنين في هذه اللحظة- قد غمر قلوبهم الإيمان، بحيث لم يهزّهم تهديد فرعون، فأجابوه بضرس قاطع واحبطوا خطته و «قَالُوا لَاضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ».

ثم أضافوا بأنّهم واجهوا النبي موسى عليه السلام من قبل بالتكذيب وأذنبوا كثيراً، ولكن مع ذلك ف «إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ».

إنّنا لا نستوحش اليوم من أي شي ء، لا من تهديداتك، ولا من تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف ولا من الصلب على جذوع النخل.

وَ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَ إِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَ إِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (57) وَ كُنُوزٍ وَ مَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَ أَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)

في الآيات المتقدمة رأينا كيف أنّ موسى خرج منتصراً من تلك المواجهة وهذه الامور هيأت أرضية ملائمة لأن ينشر موسى عليه السلام دعوته بين الناس، ويتمّ الحجة عليهم.

ومرّت سنون طوال على هذا المنوال، وموسى عليه السلام يظهر المعاجز تلو المعاجز، ولمّا أتمّ موسى على أهل مصر الحجة البالغة، وامتازت صفوف المؤمنين من صفوف المنكرين، نزل الوحي على موسى أن يخرج بقومه من مصر، والآيات التالية تجسد هذا المشهد فتقول أوّلًا:

مختصر الامثل، ج 3، ص: 432

«وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ». وفعلًا امتثل موسى عليه السلام هذا

الأمر، وعبأ بني إسرائيل بعيداً عن أعين أعدائهم، وأمرهم بالتحرك، إلّاأنّ من البديهي أنّ حركة جماعة بهذا الشكل ليس هيناً يسيراً يمكن إخفاؤه لزمان طويل، فما كان أسرع أن رفع جواسيس فرعون هذا الخبر إليه، وكما يحدثنا القرآن عن ذلك أنّ فرعون أرسل رسله وأعوانه إلى المدن لجمع القوات: «فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِى الْمَدَائِنِ حشِرِينَ».

ولتعبئة الناس- ضمناً- وتهيئة الأرضية لإثارتهم ضد موسى وقومه، أمر فرعون أن يُعلَن «إِنَّ هؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ».

فبناء على ذلك فنحن منتصرون عند مواجهتنا لهذه الفئة القليلة حتماً.

«الشرذمة»: في الأصل تعني القلة من الجماعة، كما تعني ما تبقى من الشي ء، ويطلق على اللبوس الممزق الخلق «شراذم»، فبناء على هذا يكون المعنى أنّ هؤلاء «أي موسى وقومه» بالإضافة إلى أنّهم قليلون فهم متفرقون، فكأنّ فرعون، بهذا التعبير أراد أن يجسد عدم انسجام بني إسرائيل من حيث إعداد الجيش فيهم ...

ثم تضيف الآية الاخرى حاكية عن لسان فرعون: «وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ». فمن يسقي مزارعنا غداً، ومن يخدم في البيوت والقصور غيرهم؟!

ثم إنّا من مؤامرتهم يجب أن نكون على حذر سواء أقاموا أم رحلوا: «وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حذِرُونَ» ومستعدون جميعاً لمواجهتهم.

ثم يذكر القرآن النتيجة الإجمالية لعاقبة فرعون وقومه وزوال حكومته، وقيام حكومة بني إسرائيل، فيقول: «فَأَخْرَجْنهُم مّن جَنتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ».

أجل، «كَذلِكَ وَأَوْرَثْنهَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ».

فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَ أَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَ أَنْجَيْنَا مُوسَى وَ مَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَ إِنَّ

رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 433

عاقبة فرعون وأتباعه الوخيمة: في هذه الآيات يبرز المشهد الأخير من قصة موسى وفرعون، وهو كيفية هلاك فرعون وقومه، ونجاة بني إسرائيل وانتصارهم، وكما قرأنا في الآيات المتقدمة فإنّ فرعون أرسل المدائن حاشرين، وهيأ مقداراً كافياً من «القوّة» والجيش.

تحركوا في جوف الليل ليدركوهم بسرعة، فبلغوهم صباحاً كما تقول الآية الاولى من الآيات محل البحث: «فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءَا الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحبُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ». فأمامنا بحر خضم متلاطم بالأمواج، ومن ورائنا بحر من الجيوش المتعطشة للدماء بتجهيزاتها الكاملة ... هؤلاء الغاضبون علينا.

وهنا مرّت لحظات عسيرة على بني إسرائيل ... لحظات مُرّة لا يمكن وصف مرارتها ... ولعل جماعة منهم تزلزل إيمانهم وفقدوا معنوياتهم وروحياتهم، إلّاأنّ موسى عليه السلام كان مطمئناً هادى ء البال، وكان يعرف أنّ وعد اللَّه في هلاك فرعون وقومه ونجاة بني إسرائيل لا يتخلف أبداً ولن يخلف اللَّه وعده رسله ...

لذلك التفت إلى بني إسرائيل الفزعين بكمال الإطمئنان والثقة و «قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ».

وفي هذه الحال التي قد يكون البعض سمعوا كلامه دون أن يصدقوه، وكانوا ينتظرون آخر لحظات حياتهم، صدر أمر اللَّه كما يقول القرآن: «فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ ...». فامتثل موسى عليه السلام أمر ربّه فضرب البحر، فإذا أمامه مشهد رائع عجيب، تهللت له أسارير وجوه بني إسرائيل، إذا انشقّ البحر «فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ».

«انفلق»: مأخوذ من «الفَلَق» ومعناه الإنشقاق؛ و «فَرَقَ» من مادة «فرْق» على زنة «حلق» ومعناه الإنفصال.

وبتعبير آخر، كما يقول الراغب في مفرداته: إنّ الفرق بين (فلق) و (فرق) هو أنّ الأوّل يشير إلى الإنشقاق (أو الإنشطار) والثاني يشير إلى الإنفصال.

«الطّود»: معناه الجبل

العظيم، ووصف الطود بالعظمة في الآية تأكيد آخر على معناه.

إلّا أنّ فرعون وأتباعه بالرغم من مشاهدتهم هذه المعجزة الكبرى الواضحة لم يذعنوا للحق، ولم ينزلوا عن مركب غرورهم، فاتبعوا موسى ورهطه ليبلغوا مصيرهم المحتوم، كما يقول القرآن في هذا الشأن: «وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْأَخَرِينَ».

وهكذا ورد فرعون وقومه البحر أيضاً.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 434

وتقول الآية التالية: «وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ».

وحين خرج آخر من كان من بني إسرائيل من البحر، ودخل آخر من كان من أتباع فرعون البحر، صدر أمر اللَّه فعادت الأمواج إلى حالتها الاولى.

ويبيّن القرآن هذه الحالة بعبارة موجزة متينة فيقول: «ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْأَخَرِينَ».

وهكذا إنتهى كل شي ء في لحظة واحدة ... فالأرقاء أصبحوا أحراراً، وهلك الجبابرة، وانتهت تلك الحضارة المشيدة على دماء المستضعفين، وورث الحكومة والملك المستضعفون بعدهم.

أجل، «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ». فكأنّ في أعينهم عمىً، وفي آذانهم وقراً، وعلى قلوب أقفالًا.

فحيث لا يؤمن فرعون وقومه مع ما رأوا من المشاهد العجيبة، فلا تعجب إذاً ألّا يؤمن بك المشركون- يا محمّد- ولا تحزن عليهم لعدم إيمانهم.

والتعبير ب «أكثرهم» إشارة إلى أنّ جماعة من قوم فرعون آمنوا بموسى والتحقوا بأصحابه.

أمّا آخر آية من هذه الآيات فتشير إلى قدرة اللَّه ورحمته المطلقة واللامتناهية، فتقول: «وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ».

فمن عزّته أنّه متى شاء أن يهلك الأمم المسرفة الباغية أصدر أمره فأهلكها، فيكفي أن يهلكها بما هو سبب حياتها، كما أهلك فرعون وقومه بالنيل الذي كان أساس حياتهم وثروتهم وقدرتهم، فإذا هو يقبرهم فيه.

ومن رحمته أنّه لا يعجل في الأمر أبداً، بل يمهل سنين طوالًا، ويرسل معاجزه إتماماً للحجة، ومن رحمته أن يخلص هؤلاء المستعبدين من قبضة الجبابرة الظالمين.

وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69)

إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَ فَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَ الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ (79) وَ إِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَ الَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 435

تعقّب هذه الآيات على قصة موسى وفرعون المليئة بالدروس لتبيّن قصة إبراهيم ومواجهاته المشركين، وتبدأ هذه الآيات بمحاورة إبراهيم لعمه آزر فتقول: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرهِيمَ».

ومن بين جميع الأخبار المتعلقة بهذا النبيّ العظيم يركّز القرآن الكريم على هذا القسم: «إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ».

فأجابوه مباشرةً: «قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عكِفِينَ». وهذا التعبير يدلّ على أنّهم يحسّوا بالخجل من عملهم هذا، بل يفتخرون به، إذا كان كافياً أن يجيبوه: نعبد أصناماً، إلّاأنّهم أضافوا هذه العبارة: «فَنَظَلُّ لَهَا عكِفِينَ».

إنّ إبراهيم لما سمع كلامهم رشقهم بنبال الإشكال والإعتراض بشدّة، وقمعهم بجملتين حاسمتين جعلهم في طريق مغلق، ف «قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ».

إنّ أقلّ ما ينبغي توفره في المعبود هو أن يسمع نداء عابده، وأن ينصره في البلاء، أو يضره عند مخالفة أمره ... إلّاأنّ هذه الأصنام ليس فيها ما يدل على أنّ لها أقل إحساس أو شعور أو أدنى تأثير في عواقب الناس.

إلّا أنّ عبدة الأصنام الجهلة المتعصبين واجهوا سؤال إبراهيم بجوابهم القديم الذي يكررونه دائماً، ف «قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ».

وهذا

الجواب الذي يكشف عن تقليدهم الأعمى لأسلافهم الجهلة هو الجواب الوحيد الذي استطاعوا أن يردّوا به على إبراهيم عليه السلام، وهو جواب دليل بطلانه كامن فيه.

فالتفت إبراهيم مُوبّخاً لهم ومبيناً موقفة منهم و «قَالَ أَفَرَءَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لّى إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ».

أجل ... إنّهم جميعاً أعدائي وأنا معاديهم، ولا أسالمهم أبداً ...

ثم يصف إبراهيم الخليل ربّ العالمين ويذكر نعمه المعنوية والمادية، ويقايسها بالأصنام التي لا تسمع الدعاء ولا تنفع ولا تضرّ، ليتّضح الأمر جليّاً ...

فيبدأ بذكر نعمة الخلق والهداية فيقول: «الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 436

وبعد بيان أولى مراحل الربوبية، وهي الهداية بعد الخلق، يذكر إبراهيم الخليل عليه السلام النعم المادية فيقول: «وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ».

ولست مشمولًا بنعمة في حال الصحة فقط، بل في كل حال، «وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ». ومع أنّ المرض أيضاً قد يكون من اللَّه، إلّاأنّ إبراهيم نسبه إلى نفسه رعاية للأدب في الكلام ...

ثم يتجاوز مرحلة الحياة الدنيا إلى مرحلة أوسع منها ... إلى الحياة الدائمة في الدار الآخرة، فيقول: «وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ».

وحين أرِدُ عرصات يوم القيامة اعلقّ حبل رجائي على كرمه: «وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيَتِى يَوْمَ الدّينِ».

وممّا لا شك فيه أنّ الأنبياء معصومون من الذنب، وليس عليهم وزر كي يغفر لهم ... إلّاأنّه- كما قلنا سابقاً- قد تعدّ حسنات الأبرار سيئات المقربين أحياناً، وقد يستغفرون أحياناً من عمل صالح لأنّهم تركوا خيراً منه ... فيقال عندئذ في حق أحدهم: ترك الأولى.

فإبراهيم عليه السلام لا يعوّل على أعماله الصالحة، فهي لا شي ء بإزاء كرم اللَّه، ولا تقاس بنعم اللَّه المتواترة، بل يعوّل على لطف اللَّه فحسب، وهذه هي آخر مرحلة من

مراحل الإنقطاع إلى اللَّه ...

رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَ اجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَ اجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَ اغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَ لَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)

دعاء إبراهيم عليه السلام: من هنا تبدأ أدعية إبراهيم الخليل وسؤالاته من اللَّه، فكأنّه بعد أن دعا قومه الضالين نحو اللَّه، يتجه بوجهه نحو اللَّه ويعرض عنهم، فأوّل ما يطلبه إبراهيم من ساحته المقدسة هو «رَبّ هَبْ لِى حُكْمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ».

إنّ إبراهيم عليه السلام يطلب من اللَّه قبل كل شي ء المعرفة العميقة الصحيحة المقرونة بالحاكمية، لأنّ أي منهج لا يتحقق دون هذا الأساس.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 437

وبعد هذا الطلب يسأل من اللَّه إلحاقه بالصالحين، وهو إشارة إلى الجوانب العملية، أو كما يصطلح عليها ب «الحكمة العملية» في مقابل الطلب السابق وهو «الحكمة النظرية» ...

وبما أنّه ليس للحكمة حد معين، ولا لصلاح الإنسان حدّ، فهو يطلب ذلك ليبلغ المراتب العليا من العلم والعمل يوماً بعد يوم، حتى وهو في موقع النبوة، وأنّه من أولي العزم .. لا يكتفي بهذه العناوين.

وبعد هذين الطلبين يطلب موضوعاً مهماً آخر بهذه العبارة: «وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الْأَخِرِينَ». أي: اجعلني بحال تذكرني الأجيال الآتية بخير.

فاستجاب اللَّه دعاء إبراهيم كما يقول سبحانه في الآية (50) من سورة مريم: «وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا».

ثم ينظر إبراهيم إلى أفق أبعد من أفق الدنيا، ويتوجه إلى الدار الآخرة، فيدعو بدعاء رابع فيقول: «وَاجْعَلْنِى مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ».

«جنة النعيم» التي تتماوج فيها النعم المعنوية والمادية، النعم التي لا زوال لها ولا اضمحلال ... النعم التي لا يمكن أن نتصورها.

إنّ التعبير بالإرث في شأن الجنة إمّا

لأنّ معنى الإرث الحصول على الشي ء دون مشقة وعناء، أو أنّ ذلك- طبقاً لما ورد في بعض الروايات- لأنّ كل إنسان له بيت في الجنة وآخر في النار، فإذا دخل النار ورث الآخرون بيته في الجنة.

وفي خامس أدعيته يتوجه نظره إلى عمّه الضالّ، وكما وعده أنّه سيستغفر له، فإنّه يقول في هذا الدعاء: «وَاغْفِرْ لِأَبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالّينَ».

وأخيراً فإنّ دعاءه السادس من ربّه في شأن يوم التغابن، يوم القيامة، بهذه الصورة: «وَلَا تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ». «تخزني»:

مأخوذ من مادة «خزي» على زنة (حزب)، وكما يقول الراغب في مفرداته، معناه الذل والإنكسار الروحي الذي يظهر على وجه الإنسان من الحياء المفرط، أو من جهة الآخرين حين يحرجونه ويخجلونه.

وهذا التعبير من إبراهيم، بالإضافة إلى أنّه درس للآخرين، هو دليل على منتهى الإحساس بالمسؤولية والإعتماد على لطف اللَّه العظيم.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 438

يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَ لَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَ الْغَاوُونَ (94) وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَ هُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَ مَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَ لَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)

اشير في آخر آية من البحث السابق إلى يوم القيامة ومسألة المعاد، أمّا في هذه الآيات

فنلحظ تصوير يوم القيامة ببيان جامع، كما نلاحظ فيها أهم المتاع «في تلك السوق»، وعاقبة المؤمنين وعاقبة الكافرين والضالين وجنود إبليس، فأوّل ما تبدأ به هذه الآيات هو: «يَوْمَ لَايَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ».

إنّ هاتين الدعامتين المهمتين في الحياة الدنيا «المال والبنون» ليس فيهما أدنى نفع لصاحبهما يوم القيامة.

وبديهي أنّ المراد من المال والبنين هنا ليس هو ما يكون- من المال والبنين- في مرضاة اللَّه، بل المراد منه الإستناد إلى الامور الماديّة، فالمراد إذاً هو أنّ هذه الدعامات المادية لا تحلّ معضلًا في ذلك اليوم.

ثم يضيف القرآن في ختام الآية، على سبيل الإستثناء: «إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ».

وياله من تعبير رائع جامع، تعبير يتجسد فيه الإيمان والنية الخالصة، كما يحتوي على كل ما يكون من عمل صالح، ولم لا يكون لمثل هذا القلب من ثمر سوى العمل الصالح.

ثم يبيّن القرآن الجنة والنار بالنحو التالي فيقول: «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ». أي الضالين.

وهذا الأمر قبل ورود كل من أهل الجنة والنار إليهما، فكل طائفة ترى مكانها من قريب .. فيفرح المؤمنون ويستولي الرعب على الغاوين، وهذا أوّل جزائهما هناك.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 439

ثم يتحدث القرآن عن ملامة هؤلاء الضالين، وما يقال لهم من كلمات التوبيخ أو العتاب، فيقول: «وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ». فهل يستطيعون معونتكم في هذه الشدة التي أنتم فيها، أو أن يطلبوا منكم أو من غيركم النصر والمعونة، «هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ» «1».

إلّا أنّهم لا يملكون جواباً لهذا السؤال، كما لا يتوقع أحد منهم ذلك ... «فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالغَاوُونَ».

كما يقول بعض المفسرين: إنّ كلًا منهم سيُلقى على الآخر يوم القيامة: «وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ».

وفي الحقيقة أنّ هذه الفرق

الثلاث، الأصنام والعابدين لها وجنود إبليس الدالين على هذا الإنحراف، يساقون جميعاً إلى النار ... ولكن بهذه الكيفية ... وهي أن تلقي الفرق فرقةً بعد أخري في النار.

إلّا أنّ الكلام لا يقف عند هذا الحدّ، بل يقع النزاع والجدال بين هذه الفرق أو الطوائف الثلاث، فيجسم القرآن مخاصمتهم هنا، فيقول: «قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ».

أجل ... إنّ العبدة الضالين الغاوين يقسمون باللَّه فيقولون: «تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِى ضَللٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوّيكُم بِرَبّ الْعَالَمِينَ وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ».

المجرمون الذين كانوا سادة مجتمعاتنا ورؤساءنا وكبراءنا، فأضلونا حفظاً لمنافعهم، وجرّونا إلى طريق الشقوة والغواية.

«فَمَا لَنَا مِن شفِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ». والخلاصة أنّ الأصنام لا تشفع لنا كما كنّا نتصور ذلك في الدنيا، ولا يتأتى لأي صديق أن يعيننا هنالك.

إلّا أنّهم ما أسرع أن يلتفتوا إلى واقعهم المرّ، إذ لا جدوى هناك للحسرة ولا مجال للعمل في تلك الدار لجبران ما فات في دنياهم، فيتمنون العودة إلى دار الدنيا ... ويقولون: «فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ».

وأخيراً بعد الإنتهاء من هذا القسم من قصّة إبراهيم، يكرر اللَّه آيتين مثيرتين بمثابة النتيجة لعباده جميعاً، وهاتان الآيتان وردتا في ختام قصة موسى وفرعون، كما وردتا في

______________________________

(1) قد يكون المراد من «ينتصرون» هو أن يطلبوا العون والنصر لأنفسهم أو لغيرهم ... أو مجموعهما، لأنّنا سنلاحظ في الآيات المقبلة أنّ العَبدَةَ ومعبوديهم يساقون إلى النار.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 440

قصص الأنبياء الآخرين من السورة ذاتها فيقول: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ». وتكرار هاتين الآيتين، هو للتسرية عن قلب النبي صلى الله عليه و آله وتسليته ومن معه من الصحابة القلة وكذلك المؤمنين في كل عصر

ومصر لئلا يستوحشوا في الطريق من قلة أهله وكثرة الأعداء ... وليطمئنوا إلى رحمة اللَّه وعزته، كما أنّ هذا التكرار بنفسه تهديد للغاوين الضالين، وإشارة إلى أنّه لو وجدوا الفرصة في حياتهم وأمهلهم اللَّه إمهالًا فليس ذلك عن ضعف منه سبحانه، بل هو من رحمته وكرمه.

كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَ لَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (108) وَ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَ مَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَ مَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)

يتحدث القرآن الكريم بعد الإنتهاء ممّا جرى لإبراهيم وقومه الضالين عن قوم نوح عليه السلام حديثاً للعبرة والإتعاظ ... فيذكر عنادهم وشدّتهم في موقفهم من نوح عليه السلام وعدم حيائهم وعاقبتهم الأليمة ضمن عدّة آيات ... فيقول أوّلًا: «كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ».

وواضح أنّ قوم نوح إنّما كذبوا نوحاً فحسب ... ولكن لما كانت دعوة المرسلين واحدة من حيث الأصول، فقد عدّ تكذيب نوح تكذيباً للمرسلين جميعاً.

ثم يشير القرآن الكريم إلى هذا الجانب من حياة نوح عليه السلام، الذي سبق أن أشار إليه في كلامه حول إبراهيم وموسى عليهما السلام، فيقول: «إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ».

والتعبير بكلمة «أخ» تعبير يبيّن منتهى المحبة والعلاقة الحميمة على أساس المساواة، وهو يلهم جميع القادة والأدلاء على طريق الحق أن يراعوا في دعواتهم منتهى المحبة المقرونة بالاجتناب عن طلب التفوق لجذب النفوس نحو مذهب الحق، ولا

يستثقله الناس.

وبعد دعوة نوح قومه إلى التقوى التي هي أساس كل أنواع الهداية والنجاة، يضيف

مختصر الامثل، ج 3، ص: 441

القرآن فيقول على لسان نوح وهو يخاطب قومه: «إِنّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» فإنّ إطاعتي من إطاعة اللَّه سبحانه.

ومرّة اخرى يتمسك نوح عليه السلام بحقانية دعوته، ويأتي بدليل آخر يقطع به لسان المتذرعين بالحجج الواهية، فيقول: «وَمَا أَسَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى رَبّ الْعَالَمِينَ».

ثم يذكر القرآن ذلك التعبير نفسه الذي جاء على لسان نوح، بعد التأكيد على رسالته وأمانته، إذ يقول: «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ».

إلّا أنّ المشركين الحمقى، حين رأوا سبل ما تذرّعوا به من الحجج الواهية موصدة، تمسكوا بهذه المسألة، ف «قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ».

وصحيح أنّهم كانوا صادقين ومصيبين في أنّ الزعيم يعرف عن طريق أتباعه، إلّاأنّ خطأهم الكبير هو عدم معرفتهم مفهوم الشخصية ومعيارها ... إذ كانوا يرون معيار القيم في المال والثروة والألبسة والبيوت والمراكب الغالية والجميلة، وكانوا غافلين عن النقاء والصفاء والتقوى والطهارة وطلب الحق، والصفات العليا للإنسانية الموجودة في الطبقات الفقيرة والقلّة من الأشراف.

إلّا أنّ نوحاً عليه السلام جابههم وردّهم بتعبير متين، وجرّدهم من سلاحهم و «قَالَ وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

فما مضى منهم مضى، والمهم هو أنّهم اليوم استجابوا لدعوة النبي، وقالوا له: لبيك، وتوجهوا لبناء شخصياتهم، ومكنوا الحق من أن ينفذ إلى قلوبهم.

وإذا كانوا في ما مضى من الزمن قد عملوا صالحاً أو طالحاً، فلست محاسباً ولا مسؤولًا عنهم آنئذ: «إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبّى لَوْ تَشْعُرُونَ».

وإنّما عليّ أن أبسط جناحي لجميع طلّاب الحق: «وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ».

وهذه العبارة جواب ضمني لطلب هؤلاء المثرين الأغنياء المغرورين، الذين كانوا يطلبون من نوح أن يطرد طائفة

الفقراء من حوله.

ولكن المسؤولية الملقاة على عاتقي هي أن أنذر الناس فحسب «إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ».

فمن سمع إنذاري وعاد إلى الصراط المستقيم بعد ضلاله، فهو من أتباعي كائناً من كان، وفي أي مستوى طبقي ومقام اجتماعي أو مادي.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 442

قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ فَتْحاً وَ نَجِّنِي وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)

نجاة نوح وغرق المشركين: كان ردّ فعل هؤلاء القوم الضالين في مواجهة نبيّهم نوح عليه السلام، هو منهج المستكبرين على امتداد التاريخ وهو الإعتماد على القوّة والتهديد بالموت والفناء: «قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ ينُوحُ لِتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ».

«الرجم»: مأخوذ من «رجام» على وزن (كتاب) وهو جمع «رجمة» على وزن (لقمة) ومعناها القطعة من الحجر التي توضع على القبر، أو ما يطوف حوله عبدة الأوثان، كما يعني الرجم القذف بالحجارة حتى القتل، كما يأتي أحياناً بمعنى القتل بأيّ شكل كان، لأنّ القتل كان بالحجر سابقاً.

والتعبير ب «من المرجومين» يدلّ على أنّ الرجم بالحجارة بينهم كان جارياً في شأن المخالفين.

ونوح شكا إلى ربّه أخيراً، وضمن بيان حاله، سأل ربّه أن ينجيّه من قبضة الظالمين، وأن يُبعده عنهم ... إذ: «قَالَ رَبّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ».

ثم يلتفت إلى ربّه فيقول: والآن حيث لم يبق طريق لهداية هؤلاء القوم فاقض بيننا وأفصل بيني وبينهم: «فَافْتَحْ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا».

«الفتح»: معناه واضح، وهو ما يقابل الغلق ويضاده، وله استعمالان: فتارة يستعمل في القضايا

المادية كفتح الباب مثلًا، وتارة يستعمل في القضايا المعنوية كفتح الهمّ ورفع الغم.

ثم يضيف فيقول: «وَنَجّنِى وَمَن مَّعِىَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ».

وهنا يعبر القرآن عن إدراك رحمة اللَّه نوحاً، وإهلاك المكذبين بعاقبة وخيمة مفجعة، إذ يقول: «فَأَنجَيْنهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ». أي الملي ء بالناس وانواع الحيوانات: «ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ». «المشحون»: مأخوذ من مادة «شحن» على وزن «صحن» ومعناه المل ء، وقد يستعمل بمعنى التجهيز؛ و «الشحناء» تطلق على العداوة التي تستوعب جميع

مختصر الامثل، ج 3، ص: 443

جوانب الإنسان، والمراد من «المشحون» هنا هو أنّ ذلك الفلك [/ أي السفينة] كان مملوءاً من البشر وجميع الوسائل ... ولم يكن فيه أي نقص ... أي إنّ اللَّه بعد ما جهز السفينة وأعدّها للحركة، أرسل الطوفان لئلا يبتلى نوح وجميع من في الفلك بأيّ نوع من أنواع الأذى ... وهذا بنفسه إحدى نعم اللَّه عليهم.

وفي ختام هذه القصة القصيرة، يقول القرآن ما قاله في ختام قصة موسى وإبراهيم عليهما السلام، فيكرر قوله: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً». أي في ما جرى لنوح عليه السلام ودعوته المستمرة وصبره ونجاته وغرق مخالفيه: «وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ».

ولهذا فلا تحزن يا رسول اللَّه من إعراض المشركين وعنادهم، واستقم كما امرت ... فإنّ عاقبتك وعاقبة أصحابك عاقبة نوح وأصحابه، وعاقبة الضالين من قومك كعاقبة الضالين من قوم نوح.

«وَ» اعلم «إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ».

فرحمته تقتضي أن يمهلهم ويتمّ عليهم الحجة بإعطاء الفرصة الكافية، وعزته تستلزم أن ينصرك عليهم، وتكون عاقبة أمرهم خسراً.

كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَ لَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (126) وَ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ

الْعَالَمِينَ (127) أَ تَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَ تَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَ إِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (131) وَ اتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَ بَنِينَ (133) وَ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)

جنايات عاد وأعمالهم العدوانية: والآن يأتي الكلام عن «عاد» قوم «هود» إذ يعرض القرآن جانباً من حياتهم وعاقبتهم، وما فيها من دروس العبر، ضمن ثماني عشرة آية من آياته. فيقول القرآن: «كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ».

بالرغم من أنّهم كذبوا هوداً فحسب، إلّاأنّه لمّا كانت دعوة هود هي دعوة الأنبياء جميعاً، فكأنّهم كذبوا الأنبياء جميعاً.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 444

وبعد ذكر هذا الإجمال يقع التفصيل، فيتحدث القرآن عنهم فيقول: «إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ».

لقد دعاهم إلى التوحيد والتقوى في منتهى الشفقة والعطف والحرص عليهم، لذلك عبّر عنه القرآن بكلمة «أخوهم».

ثم أضاف قائلًا: «إِنّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ». وما سبق من حياتي بين ظهرانيكم يدل على هذه الحقيقة، فإنّي لم أخنكم أبداً ولم تجدوا منّي غير الصدق والحق.

ثم يضيف مؤكّداً: لما كنتم تعرفونني جيداً «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ». لأنّ إطاعتكم إيّاي إطاعة للَّه سبحانه ... ولا تتصوروا بأنّي أدعوكم لأنتفع من وراء دعوتي إيّاكم في حياتي الدنيا وأنال المال والجاه، فلست كذلك، «وَمَا أَسَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى رَبّ الْعَالَمِينَ». فجميع النعم والبركات من عنده سبحانه، وإذا أردت شيئاً طلبته منه، فهو ربّ العالمين جميعاً.

والقرآن الكريم يستند في هذا القسم من سيرة «هود» في قومه إلى أربعة امور على الترتيب:

فالأمر الأوّل: هو محتوى دعوة «هود» الذي يدور حول توحيد اللَّه وتقواه، وقرأنا ذلك بجلاء في ما مضى من الآي.

أمّا

الامور الثلاثة الأخر فيذكرها القرآن حاكياً عن لسان هود في ثوب الإستفهام الإنكاري، فيقول: «أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ ءَايَةً تَعْبَثُونَ».

«الريع»: في الأصل يطلق على المكان المرتفع؛ و «تعبثون»: مأخوذ من «العبث» ومعناه العمل بلا هدف صحيح، ومع ملاحظة كلمة «آية» التي تدل على العلامة، يتّضح معنى العبارة بجلاء، وهو أنّ هؤلاء القوم المثرين، كانوا يبنون على قمم الجبال والمرتفعات الاخر مباني عالية للظهور والتفاخر على الآخرين، وهذه المباني (كالأبراج وما شاكلها) لم يكن من ورائها أي هدف سوى لفت أنظار الآخرين.

وأمّا الأمر الثالث الذي ذكره القرآن حاكياً على لسان هود منتقداً به قومه، فهو قوله: «وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ».

«المصانع»: جمع «مصنع» ومعناه المكان أو البناء المجلل المحكم، والنبي هود لا يعترض عليهم لأنّ لديهم هذه البنايات المريحة الملائمة، بل يريد أن يقول لهم: إنّكم غارقون في أمواج

مختصر الامثل، ج 3، ص: 445

الدنيا، ومنهمكون بعبادة الزينة والجمال والعمل في القصور حتى نسيتم الدار الآخرة.

في تفسير مجمع البيان روى عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «إنّ لكل بناء يبنى وبال على صاحبه يوم القيامة، إلّاما لابدّ منه».

ثم ينتقد النبي (هود) قومه على قسوتهم وبطشهم عند النزاع والجدال فيقول: «وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ».

يدل هذه الآيات الثلاث أعلاه على أنّ عشق الدنيا كان قد هيمن عليهم، وأغفلهم عن ذكر اللَّه حتى ادعوا الألوهية.

والقسم الثالث من حديث هود مما بيّنه لقومه، هو ذكر نعم اللَّه على عباده ليحرك فيهم- عن هذا الطريق- الإحساس بالشكر لعلهم يرجعون نحو اللَّه.

وفي هذا الصدد يتبع النبي هود أسلوبي الإجمال والتفصيل، وهما مؤثران في كثير من الأبحاث، فيلتفت نحوهم أوّلًا فيقول:

«وَاتَّقُوا الَّذِى أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ» «1».

وبعد هذا التعبير المجمل يذكر تفصيل نعم اللَّه

عليهم، فيقول: «أَمَدَّكُم بِأَنْعمٍ وَبَنِينَ».

ثم يضيف بعد ذلك: «وَجَنتٍ وَعُيُونٍ».

وهكذا فقد وفر اللَّه لكم سبل الحياة جميعاً، من حيث الأبناء أو القوّة الإنسانية، والزراعة والتدجين ووسائل الحمل والنقل.

وأخيراً، فإنّ هوداً في آخر مقطع من حديثه مع قومه ينذرهم ويهددهم بسوء الحساب وعقاب اللَّه لهم، فيقول: «إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ».

وعادة- يستعمل لفظ (اليوم العظيم) في القرآن، ويراد منه يوم القيامة العظيم من كل وجه، إلّاأنّه قد يستعمل في القرآن في اليوم الصعب الموحش المؤلم على الامم. فبناء على هذا قد يكون التعبير ب «يوم عظيم» في الآية محل البحث، إشارة إلى اليوم الذي ابتلي به المعاندون من قوم هود (عاد) بالعذاب الأليم.

كما يمكن أن يكون إشارة إلى يوم القيامة وعذابه، أو إلى العذابين معاً، فيوم الاعصار يوم عظيم، ويوم القيامة يوم عظيم أيضاً.

______________________________

(1) «أمدّ»: مأخوذ من «الإمداد»، ويطلق في الأصل على أمور توضع بعضها بعد بعض بشكل منظم، وحيث إنّ اللَّه يرسل نعمه بشكل منظم إلى عباده استعملت هذه الكلمة هنا أيضاً.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 446

لا تتعب نفسك في نصحنا: رأينا في الآيات المتقدمة أحاديث النبي هود المحترق القلب شفقةً على قومه المعاندين «عاد» وما حملته هذه الأحاديث من معان غزيرة سامية، والآن ينبغي أن نعرف جواب قومه الجارح وغير المنطقي ولا المعقول، يقول القرآن في هذا الصدد: «قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مّنَ الْوَاعِظِينَ». فلن يؤثر ذلك فينا، فلا تتعب نفسك.

أمّا اعتراضك علينا بهذه الامور فلا محل له من الاعراب: «إِنْ هذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ».

وليس الأمر كما تقول، فإنّه لا شي ء بعد الموت، «وَمَا نَحْنُ بِمُعَذّبِينَ»، لا في هذا العالم، ولا في العالم الآخر.

«الخُلُق»:- بضم الخاء واللام- معناه العادة والسلوك والأخلاق

لأنّ هذه الكلمة جاءت بصيغة الإفراد بمعنى الطبع والسجيّة والعادة الأخلاقية، وهي هنا إشارة إلى الأعمال التي كانت تصدر منهم كعبادة الأصنام، وبناء القصور العالية الجميلة، وحب الذات، والتفاخر عن طريق تشييد الأبراج على النقاط المرتفعة، وكذلك البطش عند الإنتقام أو الجزاء، أي إنّ ما نقوم به من أعمال هو ما كان يقوم به السلف فلا مجال للاعتراض والانتقاد.

ويبيّن القرآن عاقبة قوم هود الوبيلة فيقول: «فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنهُمْ».

وفي ختام هذه الأحداث يذكر القرآن تلكما الجملتين المعبّرتين، اللتين تكررتا في نهاية قصص نوح وإبراهيم وموسى عليهم السلام، فيقول: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً» على قدرة اللَّه، واستقامة الأنبياء وعاقبة المستكبرين السيئة، ولكن مع ذلك «وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ».

فيمهل إمهالًا كافياً، ويمنح الفرصة، ويبيّن الدلائل الواضحة للمضلين ليهتدوا، إلّاأنّه عند المجازاة والعقاب، وبعد إتمام الحجة يأخذ أخذاً عسيراً لا مفرّ لأحد منه أبداً.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 447

كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَ لَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (144) وَ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَ تُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (147) وَ زُرُوعٍ وَ نَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (150) وَ لَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لَا يُصْلِحُونَ (152)

القسم الخامس من قصص الأنبياء في هذه السورة، هو قصة «ثمود» الموجزة القصيرة، ونبيّهم «صالح» الذين كانوا يقطنون في «وادي القرى» بين المدينة والشام، وكانت حياتهم مترفة مرفهة.

وبداية القصة هذه مشابهة لبداية قصة عاد (قوم هود) وبداية قصة

نوح وقومه، وهي تكشف كيف يتكرر التاريخ، فتقول:

«كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ».

وبعد ذكر هذا الإجمال يفصّل القرآن ما كان بين صلاح وقومه، فيقول: «إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صلِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ».

ثم يقول لهم معرفاً نفسه: «إِنّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ» وسوابقي معكم شاهد مبين على هذا الأمر «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ». إذ لا أريد إلّارضا اللَّه والخير والسعادة لكم.

ولذلك فأنا لا أطلب عوضاً منكم في تبليغي إيّاكم، «وَمَا أَسَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى رَبّ الْعَالَمِينَ»، فأنا أدعوكم له، وأرجو الثواب منه سبحانه.

ثم يضع «صالح» اصبعه على نقاط حساسة من حياتهم، فيتناولها بالنقد ويحاكمهم محاكمة وجدانية، فيقول: «أَتُتْرَكُونَ فِى مَا ههُنَا ءَامِنِينَ».

وتتصورون أنّ هذه الحياة المادية التي تستغفل الإنسان دائمة له.

وبالأسلوب المتين، اسلوب الإجمال والتفصيل، يشرح النبي صالح لقومه تلك الجملة المغلقة والمجملة بقوله: وتحسبون أنّكم مخلّدون «فِى جَنتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ» «1».

______________________________

(1) «الطلع»: مأخوذ من مادة «الطلوع» ويستعمل في ما يكون منه الرطب بعدئذ، وقد يستعمل الطلع في الثمرة الاولى للنخل؛ و «الهضيم»: من مادة «هضم»، وله معان مختلفة، فتارة يراد منه الثمرة الناضجة، وتارة يطلق على الثمر اللين القابل للهضم، وتارة يطلق على المهضوم، وقد يستعمل بمعنى المنظوم المنضد، فإذا كان الطلع في الآية محل البحث بمعنى العذق أوّل طلوعه، فالهضيم معناه المنضود، وإذا كان الطلع أوّل الثمر فالهضيم معناه الناضج اللين اللطيف.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 448

ثم ينتقدهم على بيوتهم المرفهة المحكمة فيقول: «وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فرِهِينَ». «الفاره»: مشتق من «فره» ومعناه في الأصل السرور المقرون باللامبالاة وعبادة الهوى.

وبعد ذكر هذه الإنتقادات يتحدث النبي صالح عليه السلام في القسم الثالث من كلامه مع قومه، فيقول: «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ

يُفْسِدُونَ فِى الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ». «الإسراف»: هو التجاوز عن حدّ قانون التكوين وقانون التشريع ... وأيّ تجاوز عن الحد موجب للفساد والاختلال. بتعبير آخر: إنّ مصدر الفساد هو الإسراف، ونتيجة الإسراف هي الفساد أيضاً.

قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَ لَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَ لَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)

عناد قوم صالح ولجاجتهم: لقد استمعتم إلى منطق صالح عليه السلام المتين والمحب للخير، مع قومه المضلين- في الآيات المتقدمة- والآن لنستمع إلى جواب قومه في هذه الآيات.

إنّهم واجهوه بكلام خشن و «قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ». فلذلك فقدت عقلك وتتكلم بكلمات غير موزونة ولا معقولة.

ثم بعد هذا كلّه «مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مّثْلُنَا». وكل عاقل لا يبيح لنفسه أن يطيع إنساناً مثله «فَأْتِ بَايَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصدِقِينَ» لكي نؤمن بك ونتبعك.

«المسحّر»: مشتقة من «السحر» ومعناها المسحور، أي المصاب بالسحر، إذ كانوا يعتقدون أنّ السحرة كانوا عن طريق السحر يعطلون عمل العقل. أجل، إنّهم كانوا يرون بمعيار العقل أن يكون الإنسان متوافقاً مع البيئة والمحيط، ويطبّق نفسه على جميع المفاسد ...

مختصر الامثل، ج 3، ص: 449

فلو أنّ رجلًا مصلحاً إلهياً دعا الناس للقيام والنهوض بوجه العقائد الفاسدة وإصلاحها، عدّوه- بحسب منطقهم- مجنوناً «مسحّراً».

إنّ هؤلاء المعاندين من قوم صالح، طلبوا منه معجزة لا من أجل معرفة الحق، بل تذرعاً بالحجة الواهية، وعلى نبيّهم أن يُتم الحجة عليهم، فاستجاب لهم- وبأمر اللَّه-: «قَالَ هذِهِ

نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ».

هذه الناقة لم تكن ناقة كسائر النياق الطبيعية، كانت هذه الناقة بحالة من الإعجاز بحيث خرجت من قلب الجبل، ومن خصائصها أنّها كانت تشرب ماء الحيّ في يوم، واليوم الآخر لأهل الحي «أو القرية».

وكان على صالح عليه السلام أن يعلمهم أنّ هذه الناقة ناقة عجيبة وخارقة للعادة، وهي آية من آيات عظمة اللَّه المطلقة فعليهم أن يَدَعوها على حالها، وقال: «وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ».

وبديهي أنّ المترفين قوم صالح المعاندين كانوا يعلمون أن يقظة الناس ستؤدّي إلى الإضرار بمنافعهم الشخصية فتآمروا على نحر الناقة: «فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا ندِمِينَ» «1». لأنّهم رأوا أنفسهم قاب قوسين من العذاب الإلهي.

ولما تجاوز طغيانهم الحدّ، وأثبتوا بأعمالهم أنّهم غير مستعدين لقبول الحق، اقتضت إرادة اللَّه ومشيئته أنّ يطهر الأرض من وجودهم الملوّث «فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ».

ويقول القرآن في ختام هذه الحادثة ما قاله في ختام حوادث قوم هود وقوم صالح وقوم نوح وقوم إبراهيم، فيعبّر تعبيراً بليغاً موجزاً يحمل بين ثناياه عاقبة أولئك الظالمين: إنّ في قصة قوم صالح، وفي صبره وتحمله واستقامته ومنطقه القويم من جهة، وعناد قومه وغرورهم وانكارهم للمعجزة البيّنة، والمصير الأسود الذي آلو إليه دروس وعبر: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ».

أجل، ليس لأحد أن يغلب ربّه؛ فما فوق قوّته من قوة، وهذه القوة وهذه القدرة العظيمة لا تمنع أن يرحم أولياءه، بل أعداءه أيضاً: «وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ».

______________________________

(1) «عقروها»: مأخوذة من مادة «عُقر» ومعناها في الأصل أساس الشي ء وجذره، وقد تأتي بمعنى حز الرأس، وتأتي بمعنى قطع الأرجل من الحيوان، وما إلى ذلك.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 450

مختصر الامثل ج 3 499

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ

قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَ لَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (163) وَ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَ تَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَ تَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)

السفلة المعتدون: سادس نبيّ- ورد جانب من حياته وحياة قومه المنحرفين في هذه السورة- هو لوط عليه السلام. يقول القرآن أوّلًا في هذا الصدد: «كَذَّبْت قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ».

ثم يشير القرآن الكريم إلى دعوة لوط التي تنسجم مع دعوة الأنبياء الآخرين الماضين، فيقول: «إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ».

ولحن كلماته وقلبه المتحرق لهم، العميق في تودّه إليهم، يدل على أنّه بمثابة «الأخ» لهم.

ثم أضاف لوط قائلًا: «إِنّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ». فلم تعرفوا عنّي خيانة حتى الآن ... وسأرعى الأمانة في إيصال رسالة اللَّه إليكم أبداً ... «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ». فأنا زعيمكم إلى السعادة والنجاة.

ولا تتصوروا أنّ هذه الدعوة وسيلة اتخذها للحياة والعيش، وأنّ وراءها هدفاً مادياً، كلّا: «وَمَا أَسَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى رَبّ الْعَالَمِينَ».

ثم يتناول بالنقد أعمالهم القبيحة، وقسماً من انحرافاتهم الأخلاقية ... وحيث إنّ أهم نقطة في انحرافاتهم ... هي مسألة الانحراف الجنسي، لذلك فإنّه ركّز عليها وقال: «أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ». فتختارون الذكور من بين الناس لاشباع شهواتكم.

أي، إنّكم على الرغم مما خلق اللَّه لكم من الجنس المخالف «النساء» حيث تستطيعون أن تعيشوا معهن بالزواج المشروع عيشاً طاهراً هادئاً، إلّاأنّكم تركتم نعمة اللَّه هذه وراءكم، ولوّثتم أنفسكم بمثل هذا العمل القبيح المخزي ...

ثم أضاف قائلًا: «وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مّن أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ».

فالحاجة والغريزة الطبيعية، سواءً كانت

روحية أم جسمية لم تجرّكم إلى هذا العمل الانحرافي الشنيع أبداً، وإنّما جرّكم الطغيان والتجاوز، فتلوثتم وخزيتم به ...

مختصر الامثل، ج 3، ص: 451

قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَ أَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَ أَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)

عاقبة قوم لوط: إنّ قوم لوط الغارقين بالغرور والمتمادية بهم رياح الشهوة، بدلًا من أن يذعنوا لنصائح هذا القائد الإلهي، فتدخل مواعظه في قلوبهم ويخلصوا من تلك الأمواج الرهيبة، فإنّهم نهضوا لمواجهته و «قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ».

إنّ فعل هؤلاء الضالين- بلغ بهم أن يعدوا التقوى والتطهر بينهم أكبر عيب، وأن يفخروا بالرجس وعدم الطهارة.

ويستفاد من عبارة «لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ» أنّ هذه الجماعة الفاسدة كانوا قد أخرجوا اناساً طاهرين من حيّهم.

إلّا أنّ لوطاً لم يكترث بتهديدهم، وواصل نصحه لهم و «قَالَ إِنّى لِعَمَلِكُم مّنَ الْقَالِينَ».

إنّه يريد أن يقول: سأواصل انتقادي إيّاكم ... فافعلوا ما شئتم ... فأنا لا أترك مواجهة هذه الأعمال القبيحة بالإعتراض والنقد ...

والتعبير ب «من القالين» يدلّ أيضاً على أنّ جماعة كانوا مثل النبي لوط يرفضون هذه الأعمال ويعترضون عليها.

«القالين»: جمع «قال» من مادة «قَلَى أو «قَلِيَ» (على وزني حَلَقَ وشَرِكَ) ومعناها العداوة الشديدة التي تترك أثرها في قلب الإنسان، وهذا التعبير يكشف عن شدّة تنفّر لوط من أعمالهم.

وأخيراً بدّل الفساد مجتمعهم كله إلى مستنقع عفن ... وتمّت الحجة عليهم بمقدار كاف، وبلغت رسالة لوط

مرحلتها النهائية.

فسأل لوط ربّه أن يخلّصه من قومه، فقال: «رَبّ نَجّنِى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ».

فاستجاب اللَّه دعاؤه كما تقول الآية التالية: «فَنَجَّيْنهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزًا فِى الْغَابِرِينَ» «1». وهذه العجوز لم تكن سوى زوج النبي لوط التي لم تؤمن به أبداً.

______________________________

(1) «الغابر»: من مادة (الغبور) ومعناه الباقي، ومتى ما تحركت جماعة وبقي شخص في المكان فإنّه يدعى (غابراً)، ولهذا السبب سمي التراب الباقي غباراً ... والغبرة: الباقي من اللبن في ثدي الحيوان.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 452

أجل، لقد نجّى اللَّه لوطاً والمؤمنين القلّة معه، فأمر أن يخرج بهم ليلًا من تلك المدينة- أو القرية- فترك قومه الغارقين بالفسق والفجور على حالهم، فنزل عذاب اللَّه في الغداة، فتزلزلت بهم الأرض وانهارت عليهم الأبنية والقصور الجميلة حتى أصبح عاليها سافلها وهلكوا جميعاً في ديارهم، وقد عبّر القرآن عن كان ذلك بعبارة موجزة بليغة، فقال: «ثُمَّ دَمَّرْنَا الْأَخَرِينَ»، ولم يكف ذلك بل «وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا». وأيّ مطر، إنّه وابل من احجار نزل على تلك الخرائب ليمحو أثرها من الانظار، «فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ».

والأمطار عادة تمنح الحياة، إلّاأنّ هذا المطر كان موحشاً مهلكاً مخرّباً ...

ويستفاد من الآية (82) من سورة هود أنّ قرى قوم لوط ومدنهم قُلب عاليها سافلها أوّلًا، ثم أمطرت بالحجر النضيد المتراكم.

ومرّة اخرى نواجه في نهاية هذه القصة الجملتين اللتين تكررتا في القصص المشابهة لها في هذه السورة، في شأن خمسة أنبياء كرام آخرين، إذ يقول القرآن: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ». «وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ». وأيّة رحمة أعظم من أنّه لا يعاقب أقواماً فاسقين كقوم لوط فوراً، بل يمهلهم إمهالًا كافياً لعلّهم يهتدون، ويجددوا نظرهم في أعمالهم.

وأيّة رحمة أعظم من أن لا يخلط

عقابه «الأخضر باليابس» بل لو كان في ألف ألف اسرة غير صالحة أسرة واحدة صالحة، فإنّه ينجيها منها وينزل العذاب على اولئك.

وأيّة عزّة أعظم من أن ترى بطرفة عين واحدة ديار الفاسقين قد دُمرت تدميراً ولم يبق منها أي أثر.

كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَ لَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (179) وَ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ لَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَ زِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَ لَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَ لَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَ اتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)

شعيب وأصحاب الأيكة: هذه هى القصة السابعة، والحلقة الأخيرة من قصص الأنبياء

مختصر الامثل، ج 3، ص: 453

الواردة في هذه السورة، وهي قصة شعيب عليه السلام وقومه المعاندين.

كان هذا النبي يقطن في «مدين»، وهي مدينة تقع جنوب الشامات.

تقول الآية الاولى من الآيات محل البحث: «كَذَّبَ أَصْحبُ لَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ».

«أيكة»: على وزن (ليلة)، قرية أو أرض معمورة على مقربة من مدين.

ثم يتحدث القرآن إجمالًا عن شعيب عليه السلام وعنهم فيقول: «إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ».

إنّ دعوة شعيب عليه السلام انطلقت من النقطة التي ابتدأها سائر الأنبياء، وهي التقوى ومخافة اللَّه التي تعدّ أساس المناهج الإصلاحية والتغييرات الأخلاقية والاجتماعية جمعاء.

ثم أضاف شعيب قائلًا: «إِنّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ». فطاعتكم لي طاعة للَّه.

واعلموا أنّي أبتغي ثوابه ووجهه، «وَمَا أَسَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى رَبّ الْعَالَمِينَ».

و «شعيب» كسائر الأنبياء الذين ورد جانب من تأريخ حياتهم في هذه السورة، فهو يدعو قومه بعد الدعوة العامّة للتقوى وطاعة اللَّه، إلى إصلاح

انحرافاتهم الأخلاقية والاجتماعية وينتقدهم على هذه الإنحرافات، وحيث إنّ أهم انحراف عند قومه كان الاضطراب الاقتصادي، والاستثمار والظلم الفاحش في الأثمان والسلع، والتطفيف في الكيل، لذلك فقد اهتم بهذه المسائل أكثر من غيرها، وقال لهم: «أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِى الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ».

«تبخسوا»: مأخوذة من «البخس» وهو في الأصل النقص ظلماً من حقوق الناس ... وقد يأتي أحياناً بمعنى الغش أو التلاعب المنتهي إلى تضييع حقوق الآخرين ... فبناء على ما تقدم، فإنّ الجملة الآنفة «وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ» لها معنى واسع يشمل جميع أنواع الغش والتزوير والتضليل، والتلاعب في المعاملات، وغمط حقوق الآخرين.

وأمّا جملة «وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ» فمعناه واسع أيضاً، إذ يشمل بالإضافة إلى البخس والتطفيف كل ما من شأنه أن يكون سبباً للخسارة وإيذاء الطرف الآخر في المعاملة.

ثم إنّ «شعيباً» في آخر تعليماته- في هذا القسم- يدعوهم مرد اخرى إلى تقوى اللَّه فيقول: «وَاتَّقُوا الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 454

«الجبلة»: مأخوذة من «الجبل» وهو معروف «ما ارتفع من الأرض كثيراً» ويسمى الطود أحياناً، فالجبلة تطلق على الجماعة الكثيرة التي هي كالجبل في العظمة.

قال بعضهم: الجبلة مقدار عددها عشرة آلاف. كما تطلق الجبلة على الطبيعة والفطرة الإنسانية، لأنّها لا تتغير، كما أنّ الجبل لا يتغير عادةً.

والتعبير المتقدم لعله إشارة إلى أنّ شعيباً يقول: إنّما أدعوكم إلى ترك الظلم والفساد، وأداء حقوق الناس ورعاية العدل، لأنّ ذلك موجود في داخل الفطرة الإنسانية منذ الخلق الأوّل، وأنا جئتكم لإحياء هذه الفطرة.

قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَ إِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ

إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)

عاقبة الحمقى: لما رأى قوم شعيب الظالمون- أنّهم لا يملكون دليلًا ليواجهوا به منطقه المتين، ومن أجل أن يسيروا على نهجهم ويواصلوا طريقهم، رشقوه بسيل من التُهم والأكاذيب. فالتهمة الاولى هي ما يلصقها الجبابرة دائماً والمجرمون بالأنبياء، وهي السحر فاتّهموه بها و «قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ» «1».

ثم ما الفارق بينك وبيننا لنتّبعك؟! ولا مزيّة لك علينا، «وَمَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكذِبِينَ».

وبعد إلقاء هذا الكلام المتناقض، إذ تارةً يدعونه (من الكاذبين) ورجلًا انتهازياً، وتارةً يدعونه مجنوناً أو من المسحّرين، وكان كلامهم الأخير هو: إن كنت نبيّاً «فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ إِن كُنتَ مِنَ الصدِقِينَ». حيث كنت تهددنا دائماً بهذا اللون من العذاب.

«كِسَف»: جمع «كِسْفَة» على وزن (قطعة)، ومعناها قطعة أيضاً، والمراد من هذه «القطع من السماء» هي قطع الأحجار التي تهوي من السماء.

______________________________

(1) «المسحّر»: هو المسحور ... أو الذي يقع عليه السحر من قبل السَحَرة لينفذوا في عقله ويبطلوا عمله.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 455

إلّاأنّ شعيباً عليه السلام، وهو يواجه هذه التعبيرات غير الموزونة والكلمات القبيحة وطلبهم عذاب اللَّه، كان جوابه الوحيد لهم أن «قَالَ رَبّى أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ».

فإذا لم تنفع المواعظ وتمّت الحجة اللازمة، فإنّ عذابه لا مرد له.

إنّ عذاب اللَّه أزف موعده- وكما يعبر القرآن عنه في الآية التالية قائلًا: «فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ».

«الظلة»: في الأصل معناها القطعة من السحاب المظلّل: أي ذي الظل.

إنّ حرّاً

شديداً محرقاً حلّ في أرضهم سبعة أيام، ولم يهب نسيم بارد مطلقاً، فإذا قطعة من السحاب تظهر في السماء- بعد السبعة أيام- وتحرك نسيم عليل فخرجوا من بيوتهم، واستظلّوا تحت السحاب من شدّة الحرّ.

وفجأة سطعت من بين السحابة صاعقة مميتة بصوتها المذهل، واحرقتهم بنارها وزلزلت الأرض وهلكوا جميعاً.

وتُختتم القصة هذه بما خُتمت القصص الست السابقة عن أنبياء اللَّه الكرام، إذ يقول القرآن: إنّ في حكاية أصحاب الايكة ودعوة نبيّهم شعيب وعنادهم وتكذيبهم، وبالتالي نزول العذاب على هؤلاء المتكبرين درس وعبرة لمن اعتبر «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ».

ومع ذلك كلّه فإنّ اللَّه رحيم ودود يمهلهم لعلّهم يرجعون ويصلحون أنفسهم، فإذا تمادوا في الغي واستوجبوا عذاب اللَّه، أخذهم أخذ عزيز مقتدر.

أجل، «وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ».

في ختام قصص هؤلاء الأنبياء السبعة ينبغي أن نلتفت إلى هذه «اللطيفة» وهي أنّ قصص هؤلاء الأنبياء جميعاً جاءت في سور اخر من القرآن أيضاً، إلّاأنّها لم تعرض بهذا العرض بحيث نجد أنّ بداية دعوتهم منسجمة، كما أنّ نهاياتها منسجمة أيضاً.

وهذا الإنسجام- قبل كل شي ء- يدل على تجلي مفهوم وحدة دعوات الأنبياء، بحيث كانوا ذوي منهج واحد وبداية واحدة ونهاية واحدة.

وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَ إِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 456

عظمة القرآن في كتب السابقين: بعد بيان سبع قصص عن الأنبياء السابقين، والعبر الكامنة في تأريخ حياتهم، يعود القرآن مرّة اخرى إلى البحث الذي شرعت به السورة، بحث عظمة القرآن وحقانية هذا الكلام الإلهي المبين، إذ يقول:

«وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ الْعَالَمِينَ».

لذلك تضيف الآية التالية قائلة: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ».

ولو كان القرآن لم يُنزله ملك الوحي «الروح الأمين من قِبَل اللَّه» لم يكن بهذا الإشراق والصفاء والخلو من الخرافات والأساطير والأباطيل.

فالروح هي أساس الحياة، والأمانة، هي شرط أصيل في الهداية والقيادة.

أجل، إنّ هذا الروح الأمين نزل بالقرآن «عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ».

إنّ الهدف من بيان تأريخ السالفين لم يكن مجرّد شرفاً فكرياً ولمل ء الفراغ، بل إيجاد الإحساس بالمسؤولية واليقظة، والهدف هو التربية وبناء شخصية الإنسان.

ولئلا تبقى حجة لأحد ولا عذر، فإنّ القرآن انزل «بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ».

والجدير بالذكر أنّ أحد معاني «عربي» هو ذو الفصاحة والبلاغة؛ وفي هذه الصورة فإنّه ليس المعوّل على لسان العرب، بل الأساس صراحة القرآن ووضوح مفاهيمه.

و الآية التالية تشير إلى دليل آخر من دلائل حقانية القرآن فتقول: «وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الْأَوَّلِينَ».

وخاصة أنّ أوصاف هذا النبي العظيم وأوصاف هذا الكتاب السماوي الخالد، جاءت في توراة موسى عليه السلام بحيث أنّ علماء بني إسرائيل كانوا يعرفون كل ذلك. لذا فإنّ القرآن يضيف هنا قائلًا: «أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ ءَايَةً أن يَعْلَمَهُ عُلَمؤُا بَنِى إِسْرَاءِيلَ».

وواضح أنّه مع وجود اولئك العلماء من بني إسرائيل في ذلك المحيط الملي ء بالمشركين، لم يكن من الممكن أن يتحدث القرآن عن نفسه «جزافاً» واعتباطاً؛ لأنّه كان سيردّ عليه من كل حدب وصوب بالإنكار، وهذا بنفسه دليل على أنّ هذا الموضوع كان جليّاً في ذلك المحيط، بحيث لم يبق مجال للإنكار حين نزول الآيات- محل البحث.

وَ لَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لَا يَشْعُرُونَ

(202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 457

لو نُزل القرآن على الأعاجم: في هذه الآيات يتكلم القرآن على واحدة من الذرائع الإحتمالية من قبل الكفار وموقفه منها، ويستكمل البحث السابق في نزول القرآن بلسان عربي مبين، فيقول: «وَلَوْ نَزَّلْنهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ».

بعض العرب ممن يتمسك بالعرقية ويعبد القومية كانوا متعصبين إلى درجة بحيث لو نزل القرآن على غير العرب لما آمن به ورغم أنّ القرآن نزل على عربي شريف من أسرة كريمة، في بيان رائع رائق بليغ وقد بشرت به الكتب السماوية السابقة، وشهد بذلك علماء بني إسرائيل، ومع ذلك كلّه لم يؤمن به الكثير من العرب، فكيف إذا كان نبيّهم ليس فيه أية صفة من الصفات المذكورة.

ثم تضيف الآية لمزيد التأكيد: «كَذلِكَ سَلَكْنهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ».

في بيان بليغ وبلسان رجل من بينهم، وهم يعرفونه ويعرفون سيرته وأخلاقة، وبمحتوى بشرت به الكتب السماوية السابقة.

والخلاصة إنّنا نسلكه بجميع هذه الأوصاف في قلوب المجرمين ليكون مقبولًا سهلًا مطبوعاً إلّاأن هذه القلوب المرضى تمتنع عن قبوله، فمثله كمثل الطعام الطيب النافع الذي تلفظه المعدة السقيمة.

ولذلك تقول الآية: «لَايُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ». أي: إنّ هؤلاء المجرمين المعاندين، يظلون على حالهم حتى نزول العذاب.

أجل، إنّهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب «فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَايَشْعُرُونَ».

لا شك أنّ المراد من هذا العذاب، هو عذاب الدنيا والبلاء المهلك وعقاب الإستئصال.

لذا فإنّ القرآن يحكي عن حالهم فيقول: إنّهم في هذه الحال يرجعون إلى أنفسهم، ويندمون على أفعالهم، ويتملكهم الخوف من المصير المرعب، ويودون بأن يعطوا فرصة لجبران ما فات والإيمان بالرسالة الإلهية: «فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ».

أَ فَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ

(205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَ مَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَ مَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَ مَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَ مَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَ مَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 458

تهمة اخرى للقرآن: حيث إنّ الآيات المتقدمة ختمت بجملة «هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ» التي يقولها المجرمون عندما يأتيهم العذاب بغتة وهم على أبواب الهلاك، طالبين الإمهال والرجوع للتعويض عما فاتهم من الأعمال، فالآيات محل البحث تردّ عليهم عن طريقين:

الأوّل قوله تعالى: «أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ».

والآخر أنّه: «أَفَرَءَيتَ إِن مَّتَّعْنهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ». فعلى فرض أنّهم امهلوا ثانية (ولن يُمهلوا بعد إتمام الحجة عليهم) الا يكون عملهم التمتع والتلذذ بالمواهب الماديّة فحسب. وهل يعوّضون عمّا فاتهم؟! كلّا أبداً.

وهنا يثار سؤال وهو أنّه مع الإلتفات إلى أنّ اللَّه عالم بمستقبل كل قوم وجماعة، فما الحاجة إلى الإمهال؟

ثم أنّ الامم السالفة كذبت أنبياءها واحداً بعد الآخر، فعلام يأتي الأنبياء منذرين ومبشرين؟!

فالقرآن يجيب على هذا السؤال بأنّ ذلك سنة اللَّه: «وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ». فنرسل الأنبياء لهم لإتمام الحجة وتقديم النصح والموعظة ليتذكروا ويستيقظوا من غفلتهم «ذِكْرَى .

ولو كنّا نأخذهم بدون إتمام الحجة، وذلك بإرسال المنذرين والمبشرين- من قِبَل اللَّه- لكان ظلماً منّا «وَمَا كُنَّا ظلِمِينَ».

فمن الظلم أن نُهلك غير الظالمين، أو نهلك الظالمين دون إتمام الحجة عليهم.

ثم يردّ القرآن على إحدى الذرائع أو التُهم الباطلة من قِبَل اعداء القرآن وهي أنّ النبي مرتبط ببعض الجن، وهو يعلمه هذه الآيات، والحال أنّ القرآن يؤكّد أنّ هذه الآيات هي من

«تنزيل ربّ العالمين».

فيضيف هنا قائلًا: «وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيطِينُ».

ثم يبيّن جواب هذه التهمة الواهية التي اختلقها الأعداء، فيقول: «وَمَا يَنبَغِى لَهُمْ». أي: أنّ محتوى هذا الكتاب العظيم الذي يدعو إلى الحق والطهارة والعدل والتقوى، ونفي كل أنواع الشرك، يدلّ دلالة واضحة على أنّه لا شباهة له بأفكار الشياطين وما يلقونه.

ثم إنّ الشياطين ليست لهم القدرة على ذلك «وَمَا يَسْتَطِيعُونَ».

فإذا كانت لهم القدرة فينبغي على سائر من كان في محيط نزول القرآن كالكهنة المرتبطين

مختصر الامثل، ج 3، ص: 459

بالشياطين أن يأتوا بمثل هذا القرآن، مع أنّهم عجزوا عن الإتيان بمثله. «إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ».

ويستفاد من سائر آيات القرآن أنّ الشياطين كانوا يصعدون إلى السماء ويسترقون السمع من الملائكة، فينقلون ما يدور بين الملائكة من مطالب إلى أوليائهم، إلّاأنّه بظهور نبي الخاتم صلى الله عليه و آله وولادته انقطع استراق السمع تماماً، وزال الإرتباط الخبري بين الشياطين وأوليائهم.

فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَ اخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَ تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)

وأنذر عشيرتك الأقربين: تعقيباً على الأبحاث الواردة في الآيات السابقة في شأن مواقف المشركين من الإسلام والقرآن، فإنّ اللَّه سبحانه يبيّن لنبيّه- في الآيات محل البحث- منهجه وخطّته في خمسة أوامر، في مواجهة المشركين.

وقبل كل شي ء فإنّ اللَّه يدعو النبي صلى الله عليه و آله إلى الإعتقاد التام بالتوحيد؛ التوحيد الذي هو أساس دعوات الأنبياء جميعاً. يقول سبحانه: «فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهًا ءَاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ».

ثم يأمره اللَّه

في مرحلة اخرى أن ينطلق إلى مدى أرحب في دعوته قائلًا: «وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» «1».

ولا شك أنّه للوصول إلى منهج تغييري ثوري واسع، لابدّ من الابتداء من الحلقات الأدنى والأصغر.

أمّا المرحلة الثالثة، فإنّ اللَّه يوصي النبي في دائرة أوسع فيقول: عليك أن تعامل أتباعك

______________________________

(1) «العشيرة»: مشتقة من «العشرة» العدد المعروف [10] وحيث إنّ العشرة تعتبر في نفسها عدداً كاملًا، فقد سمي أقرباء الرجل الذين يكمل بهم عشيرة، ولعلّ المعاشرة مأخوذة من هذا المعنى، لأنّها تجعل الناس بصورة مجموعة كاملة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 460

باللطف والمحبة: «وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ». وهذا التعبير الجميل الرائع كناية عن التواضع المشفوع بالمحبة واللطف، كما أنّ الطيور تخفض أجنحتها لأفراخها محبة منها لها، وتجعلها تحت أجنحتها لتكون مصانةً من الحوادث المحتملة، ولتحفظها من التشتت والتفرّق، فكذلك الأمر بالنسبة للنبي إذ امر أن يخفض جناحه للمؤمنين الصادقين.

ثم تأتي المرحلة الرابعة وهي أنّ الأعداء لم يقبلوا دعوتك وعصوا أوامرك. فلا تبتئس ولا تحزن: «فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّى بَرِى ءٌ مّمَّا تَعْمَلُونَ». أي إذا لم يذعنوا بعد دعوتك إياهم للحق، وواصلوا شركهم وعنادهم، فعليك أن تبيّن موقفك منهم.

وأخيراً فالأمر الالهي الخامس للنبي صلى الله عليه و آله لإكمال مناهجه السابقة، هو: «وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ».

ذلك اللَّه «الَّذِى يَرَيكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِى السجِدِينَ».

أجل، «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».

وهكذا تذكر الآيات ثلاث صفات للَّه بعد وصفه بالعزيز الرحيم وكل منها يمنح الأمل ويشدّ من عزم النبي على مواصلة طريقة، إذ أنّ اللَّه يرى جهوده وأتعابه وحركاته وسكناته، وقيامه وسجوده وركعاته.

ذلك اللَّه الذي يسمع صوته.

اللَّه الذي يعلم حاجاته وطلباته حاجته.

«التقلب»: معناه الحركة والإنتقال من حال إلى حال، وهذا التعبير لعله إشارة إلى سجود النبي صلى الله

عليه و آله بين الساجدين في أثناء الصلاة، أو إلى حركة النبي صلى الله عليه و آله وتنقله بين أصحابه وهم مشغولون بالعبادة، وكان يتابع أحوالهم ويسأل عنهم.

وفي المجموع فإنّ هذا التعبير إشارة إلى أنّ اللَّه سبحانه لا يخفى عليه شي ء من حالاتك وسعيك، سواءً كانت شخصية فردية، أم كانت مع المؤمنين في صورة جماعية، لتدبير امور العباد ولنشر مبدأ الحق.

إنذار الأقربين (حديث يوم الدار): وفقاً لما ورد في التواريخ الإسلامية، امر النبي في السنة الثالثة بدعوته الأقربين من عشيرته، فدعا النبي صلى الله عليه و آله «عشيرته» إلى بيت عمّه أبي طالب، وكانوا في ذلك اليوم حوالي أربعين رجلًا.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 461

وبعد أن تناولوا الطعام، قال صلى الله عليه و آله: «يا بني عبد المطّلب، إنّي واللَّه ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم بخير الدنيا والآخرة ... وقد أمرني اللَّه أن أدعوكم إليه فأيّكم يؤازرني على أمري هذا، على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟» فأحجم القوم عنها غير علي، وكان أصغرهم (سناً)، فقال: «يا نبيّ اللَّه، أنا أكون وزيرك عليه»، فأخذ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله برقبته، وقال: «إنّ هذا وصييّ وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا».

هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَ أَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَ الشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَ ذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَ انْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)

هذه الآيات- محل البحث- هي آخر الآيات من

سورة الشعراء، تعود ثانية لتردّ على الإتهام السابق- من قبل الأعداء- بأنّ القرآن من إلقاء الشياطين، تردهم ببيان أخاذ بليغ مفحم، فتقول: «هَلْ أُنَبّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ». أي الكاذب المذنب، حيث يلقون إليهم ما يسمعونه مع اضافة أكاذيب كثيرة عليه «يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كذِبُونَ» «1».

وملخص الكلام أنّ ما تلقيه الشياطين له علائم واضحة، ويمكن معرفته بعلائمه أيضاً. فالشيطان موجود مؤذٍ ومخرب، وما يلقيه يجري في مسير الفساد والتخريب، وأتباعه هم الكذابون المجرمون، وليس شي ء من هذه الامور ينطبق على القرآن، ولا على مبلّغه، وليس فيها أي شبهٍ بهما.

وفي الآية الرابعة- من الآيات محل البحث- يردّ القرآن على إتهام آخر كان الكفار يرمون به النبي فيدعونه شاعراً، كما في الآية (5) من سورة الأنبياء: «بَلْ هُوَ شَاعِرٌ». وربّما

______________________________

(1) «أفّاك»: من «الإفك» والإفك هو الكذب الكبير، فمعنى الأفلاك من يكذب كثيراً أكاذيب كبيرة ... و «أثيم»: من مادة «إثم» على وزن (إسم) ومعناه في الأصل: العمل الذي يؤخر صاحبه عن الثواب، ويطلق عادة على الذنب، فالأثيم هو المذنب.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 462

دعوه بالشاعر المجنون، كما جاء في الآية (36) من سورة الصافات:

«وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا ءَالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ».

فالقرآن يردهم هنا ببيان بليغ منطقي، بأنّ منهج النبي يختلف عن منهج الشعراء؛ فالشعراء يتحركون في عالم من الخيال، وهو يتحرك على أرض الواقع والواقعيات، لتنظيم العالم الإنساني.

والشعراء يبحثون عن العيش واللذة والغزل (كما هي الحال بالنسبة لشعراء ذلك العصر في الحجاز خاصة حيث يظهر ذلك من أشعارهم بوضوح).

ولذا فإنّ أتباعهم هم الضالون: «وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ».

ثم يضيف القرآن على الجملة آنفة الذكر معقّباً: «أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ».

فهم غارقون في أخيلتهم وتشبيهاتهم الشعرية،

حتى أنّ القوافي تجرهم إلى هذا الإتجاه أو ذاك، ويهيمون معها في كل واد.

ومتى سخطوا على أحد هجوه هجواً مراً وأنزلوه في شعرهم إلى أسفل السافلين، وإن كان موجوداً سماوياً.

ثم إنّ الشعراء عادةً هم رجال خطابة وجماهير لا أبطال قتال، وكذلك أصحاب أقوال لا أعمال، لذلك فإنّ الآية التالية تضيف فتقول عنهم: «وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَايَفْعَلُونَ».

غير أنّ النبي الكريم صلى الله عليه و آله رجل عمل من قرنه إلى قدمه، وقد اعترف بعزمه الراسخ واستقامته العجيبة حتى أعداؤه، فأين الشاعر من النبي صلى الله عليه و آله.

ولما كان بين الشعراء اناس مخلصون هادفون وأهل أعمال لا أقوال، ودعاة نحو الحق والصدق «وإن كان مثل هؤلاء الشعراء قليلًا يومئذ». فالقرآن من أجل أن لا يضيع حق هؤلاء الشعراء المؤمنين المخلصين الصادقين، استثناهم عن بقية الشعراء، فقال عنهم: «إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ».

هؤلاء المستثنون من الشعراء لم يكن هدفهم الشعر فحسب، بل يهدفون في شعرهم أهدافاً الهية وإنسانية، ولا يغرقون في الأشعار فيغفلون عن ذكر اللَّه، بل كما يقول القرآن: «وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا».

وأشعارهم تذكر الناس باللَّه أيضاً ... وإذا ما ظُلموا كان شعرهم انتصاراً للحق «وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 463

وهكذا فقد بيّن القرآن أربع صفات للشعراء الهادفين، وهي الإيمان، والعمل الصالح، وذكر اللَّه كثيراً، والانتصار للحق من بعدما ظلموا، مستعينين بشعرهم في الذب عنه.

وحيث إنّ معظم آيات هذه السورة هو للتسلية عن قلب النبي، والتسرية عنه، وعن المؤمنين القلة في ذلك اليوم في قبال كثرة الأعداء، وحيث إنّ كثيراً من آيات هذه السورة في مقام الدفاع عن النبي صلى الله عليه و آله ضد التهم الموجهة إليه من قبل أعدائه، وغير اللائقة به،

فإنّ السورة تختتم بجملة ذات معنى غزير، وفيها تهديد لأولئك الأعداء الألدّاء، إذ تقول: «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ».

«نهاية تفسير سورة الشعراء»

مختصر الامثل، ج 3، ص: 465

27 سورة النّمل

محتوى السورة: محتوى هذه السورة- بصورة عامة- كمحتوى سائر السور المكية، فأكثر إهتمامها- من الوجهة الاعتقادية- ينصبّ على المبدأ والمعاد.

وأمّا من ناحية المسائل العملية والأخلاقية، فالقسم الكبير منها يتحدث عن قصص خمسة أنبياء كرام ومواجهاتهم لُاممهم المنحرفة، لتكون هذه السورة تسلية للمؤمنين القلة بمكة في ذلك اليوم، وفي الوقت ذاته تكون إنذاراً للمشركين المعاندين الظالمين ليروا عواقب أمرهم في صفحات تاريخ الظلمة الماضين، فلعلهم يحذرون ويرجعون إلى الرشد.

وأحد خصائص هذه السورة هي بيان قسم مهم من قصة النبي سليمان عليه السلام وملكة سبأ، وكيفية إيمانها بالتوحيد، وكلام الطير- كالهدهد، والحشرات كالنمل- مع سليمان عليه السلام.

وهذه السورة سمّيت سورة «النمل» لورود ذكر النمل فيها، والعجيب أنّها سمّيت بسورة «سليمان» كما في بعض الروايات.

وتتحدث هذه السورة ضمناً عن علم اللَّه غير المحدود، وهيمنته وسلطانه على كل شي ء في عالم الوجود، وحاكميته على عباده ... والإلتفات إلى ذلك له أثره الكبير في المسائل التربوية للإنسان.

وتبدأ هذه السورة بالبشرى وتنتهي بالتهديد، فالبشرى للمؤمنين، والتهديد للناس بأنّ اللَّه غير غافل عن أعمالكم.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 466

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «ومن قرأ طس سليمان كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بسليمان وكذّب به، وهود وشعيب وصالح وإبراهيم ويخرج من قبره وهو ينادي لا إله إلّااللَّه».

طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَ كِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَ بُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ

الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَ هُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)

القرآن مُنزَل من لدن حكيم عليم: نواجه مرّة اخرى- في بداية هذه السورة- الحروف المقطعة من القرآن «طس» وبملاحظة أنّ ما بعدها مباشرة هو الكلام عن عظمة القرآن، فيبدو أنّ واحداً من أسرار هذه الحروف هو أنّ هذا الكتاب العظيم والآيات البينات منه، كل ذلك يتألف من حروف بسيطة ... وإنّ الجدير بالثناء هو الخالق العظيم الموجد لهذا الأثر البديع من حروف بسيطة كهذه الحروف.

ثم يضيف القرآن قائلًا: «تِلْكَ ءَايتُ الْقُرْءَانِ وَكِتبٍ مُّبِينٍ».

والإشارة للبعيد بلفظ (تلك) لبيان عظمة هذه الآيات السماوية، والتعبير ب (المبين) تأكيد على أنّ القرآن واضح بنفسه وموضح للحقائق أيضاً.

وفي الآية التالية وصفان آخران للقرآن إذ تقول: «هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ». لأنّه إذا لم يكن في قلب الإنسان أدنى مرحلة من التقوى والتسليم والإيمان بالواقع، فإنّه لا يتجه نحو الحق، ولا يبحث عنه، ولا يفيد من نور هذا الكتاب المبين. «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَهُم بِالْأَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ».

وهكذا فإنّ اعتقاد المؤمنين راسخ في شأن المبدأ والمعاد، وإرتباط متين باللَّه وخلقه أيضاً ... فالأوصاف المتقدمة تشير إلى اعتقادهم الكامل ومنهجهم العملي الجامع.

وتتحدث الآية التالية عن الأشخاص في المقابلة للمؤمنين، وتصف واحدة من أخطر حالاتهم فتقول: «إِنَّ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالْأَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ». أي: حيارى في حياتهم.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 467

فهم يرون الملوّث نقيّاً، والقبيح حسناً، والعيب فخراً، والشقاء سعادةً وانتصاراً.

وهذا التغير في القِيم، أو اضطراب المعايير في نظر الإنسان، يؤدّي إلى الحيرة في متاهات الحياة ... وهو من أسوأ الحالات التي

تصيب الإنسان.

ثم تبيّن الآية التالية نتيجة «تزيين الأعمال» وعاقبة اولئك الذين شغفوا بها فتقول: «أُولئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ». فهم في الدنيا سيمسون حيارى آيسين نادمين، وسينالون العقاب الصارم في الآخرة «وَهُمْ فِى الْأَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ».

وأمّا الآية الأخيرة- من الآيات محل البحث- فهي بمثابة إكمال البيانات السابقة في صدد عظمة محتوى القرآن، ومقدمة لقصص الأنبياء التي تبدأ بعدها مباشرة فتقول: «وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءَانَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ».

وبالرغم من أنّ الحكيم والعليم كلاهما إشارة إلى علم اللَّه سبحانه، إلّاأنّ الحكمة تبيّن الجوانب العملية، والعلم يبيّن الجوانب النظرية ... وبتعبير آخر: إنّ العليم يخبر عن علم اللَّه الواسع، والحكيم يدل على الهدف من إيجاد هذا العالم وإنزال القرآن على قلب النبي (محمّد صلى الله عليه و آله).

إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَ مَنْ حَوْلَهَا وَ سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَ أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَ قَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَ جَحَدُوا بِهَا وَ اسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)

موسى يقتبس النور: يجري الكلام في هذه السورة- كما أشرنا من قبل- بعد بيان أهمية القرآن، عن قصص خمسة

أنبياء عظام، وذكر اممهم، والوعد بانتصار المؤمنين وعقاب

مختصر الامثل، ج 3، ص: 468

الكافرين. فأوّل نبيّ تتحدث عنه هذه السورة، هو موسى عليه السلام أحد الأنبياء «أولي العزم» وتبدأ مباشرة بأهم نقطة من حياته وأكثرها «حسّاسية» وهي لحظة نزول الوحي على قلبه وإشراقه فيه، وتكليم اللَّه إيّاه، إذ تقول الآية: «إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنّى ءَانَسْتُ نَارًا» «1». أي رأيت ناراً من بعيد، فامكثوا هنيئة «سَاتِيكُم مّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ ءَاتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» «2».

في تلك الليلة الظلماء، كان موسى عليه السلام يسير بزوجته بنت النبي شعيب عليه السلام في طريق مصر- وفي الصحراء- فهبت ريح باردة، وكانت زوجته (أهله) مقرّباً، فأحسّت بوجع الطلق، فوجد موسى عليه السلام نفسه بمسيس الحاجة إلى النار لتصطلي المرأة بها، لكن لم يكن في الصحراء أيّ شي ء، فلمّا لاحت له النّار من بعيد سُرّ كثيراً، وعلم أنّها دليل على وجود إنسان أو أناس، فقال: سأمضي وآتيكم منها بخبر أو شعلة للتدفئة.

وهكذا فقد ترك موسى أهله في ذلك المكان واتّجه نحو «النار» التي آنسها «فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِىَ أَن بُورِكَ مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحنَ اللَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ».

إنّ المراد من «مَن فِى النَّارِ» هو موسى نفسه، حيث كان قريباً منها ومن الشجرة الخضراء التي عندها، فكأنّ موسى كان في النار نفسها؛ وأنّ المراد من «مَنْ حَوْلَهَا» هم الملائكة المقربون من ساحة القدس، الذين كانوا يحيطون بتلك الأرض المقدسة في ذلك الوقت. أو أنّ المراد- على عكس ما ذكرنا آنفاً- فمن في النار: هم الملائكة المقربون، ومن حولها هو موسى عليه السلام.

ومرّة اخرى نودي موسى بالقول: «يمُوسَى إِنّى أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

وذلك يزول عن موسى عليه السلام كل شك وتردد، وليعلم أنّ

الذي يكلمه هو رب العالمين، لا شعلة النار ولا الشجرة، الربّ القوي العزيز الذي لا يغلب ولا يُقهر، والحكيم ذو التدبير في جميع الامور.

وحيث إنّ الصدع بالرسالة والبلاغ (وأية رسالة وبلاغ ... رسالة إلى جبار مستكبر ظالم

______________________________

(1) «آنستُ»: فعل ماض مأخوذ من «الإيناس»، وهو الرؤية المقرونة بالراحة النفسية والسكينة وإنّما يطلق على الإنسان فهو لهذا المعنى.

(2) «الشهاب»: هو النور الذي ينبثق من النّار كالعمود، وكل نور له عمود يدعى شهاباً؛ و «القبس»: شعلة من النّار تنفصل عنها؛ و «تصطلون»: من الاصطلاء وهو الدف ء (بالنّار).

مختصر الامثل، ج 3، ص: 469

كفرعون)، لابدّ له من قوة ظاهرية وباطنية وسند على حقانيّته ... فلذا أمر موسى بأن يلقي عصاه: «وَأَلْقِ عَصَاكَ».

فألقى موسى عصاه، فتبدلت ثعباناً عظيماً، فلمّا رآه موسى يتحرك بسرعة كما تتحرك الحيّات الصغار خاف وولّى هارباً ولم يلتفت إلى الوراء: «فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقّبْ».

وهنا خوطب موسى مرّة اخرى أن «يمُوسَى لَاتَخَفْ إِنّى لَايَخَافُ لَدَىَّ الْمُرْسَلُونَ».

ومعنى الآية: أن يا موسى إنّك بين يدي خالق الوجود العظيم، والحضور عنده ملازم للأمن المطلق.

إلّا أنّ في الآية التالية استثناءاً للجملة السابقة، حيث ذكره القرآن فقال: «إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

أمّا المعجزة الثانية التي أمر موسى أن يظهرها، فهي اليد البيضاء، إذ تقول الآية: «وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ».

والقيد «مِنْ غَيْرِ سُوءٍ» إشارة إلى أنّ بياض اليد ليس من برص ونحوه، بل هو بياض نوراني يلفت النظر، وهو بنفسه كاشف عن إعجاز وأمر خارق للعادة.

ومن أجل أن يظهر اللَّه تعالى عنايته ولطفه لموسى أكثر، وكذلك منح الفرصة للمنحرفين للهداية أكثر، قال لموسى بأنّ معاجزه ليست منحصرة بالمعجزتين

الآنفتين، بل «فِى تِسْعِ ءَايتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فسِقِينَ».

ويستفاد من ظاهر الآية أنّ هاتين المعجزتين من مجموع تسع معاجز «آيات» موسى المعروفة.

وأخيراً تعبّأ موسى بأقوى سلاح- من المعاجز- فجاء إلى فرعون وقومه يدعوهم إلى الحق، كما يصرح القرآن بذلك في آية التالية: «فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ ءَايَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ».

و معلوم أنّ هذا الإتهام «بالسحر» لم يكن خاصاً بموسى عليه السلام، بل اتخذه المعاندون ذريعة بوجه الأنبياء، ليجعلوه سدّاً في طريق الآخرين، والإتهام بنفسه دليل واضح على عظمة ما يصدر من الأنبياء خارقاً للعادة، بحيث اتّهموه بالسحر.

ومما يلفت النظر أنّ القرآن يضيف في آخر الآية- محل البحث- قائلًا: إنّ هذا الإتهام لم

مختصر الامثل، ج 3، ص: 470

يكن لأنّهم كانوا في شك من أمرهم ومترددين فعلًا، بل كذبوا معاجز أنبيائهم مع علمهم بحقانيتها، «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا». ويستفاد من هذا التعبير أنّ الإيمان له حقيقة وواقعية غير العلم واليقين، ويمكن أن يقع الكفر جحوداً وإنكاراً بالرغم من العلم بالشي ء.

إنّ القرآن يذكر عاقبة فرعون وقومه على أنّه درس من دروس العبرة، في جملة موجزة ذات معنى كبير، مشيراً إلى هلاكهم وغرقهم فيقول: «فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ».

وَ لَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَ سُلَيْمَانَ عِلْماً وَ قَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَ وَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَ قَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ إِنَّ هذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)

حكومة داود وسليمان عليهما السلام: بعد الكلام عن جانب من قصة موسى عليه السلام في هذه السورة، يتحدث القرآن الكريم عن نبيّين آخرين من الأنبياء العظام، وهما «داود» و «سليمان» ... لأنّهما كانا من أنبياء

بني إسرائيل أيضاً، وما نجده من اختلاف بين تاريخهما وتاريخ الأنبياء الآخرين، هو أنّهما- ونتيجة للإستعداد الفكري وملائمة المحيط الاجتماعي في عهدهما- قد وفّقا إلى تأسيس حكومة عظيمة، وأن ينشرا بالإستعانة والإفادة من حكومتهما دين اللَّه، لذلك لا نجد هنا أثراً أو خبراً عمّا عهدناه من أسلوب في تلك الآيات التي كانت تتكلم عن الأنبياء الآخرين، وهم يواجهون قومهم المعاندين، وربّما نالوا منهم الأذى والطرد والاخراج من مدنهم وقراهم .. فالتعابير هنا تختلف عن تلكم التعابير تماماً.

والطريف، أنّ القرآن يبدأ من مسألة «موهبة العلم» التي هي أساس الحكومة الصالحة القوية، فيقول: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمنَ عِلْمًا».

إنّ من الواضح أنّ العلم هنا له مفهوم واسع، بحيث يحمل في نفسه علم التوحيد والإعتقادات المذهبية والقوانين الدينية، وكذلك علم القضاء، وجميع العلوم التي ينبغي توفرها لمثل هذه الحكومة الواسعة القوية.

وبعد هذه الجملة ينقل القرآن ما قاله داود وسليمان من ثناء للَّه: «وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 471

والذي يجلب النظر هو أنّه بعد بيان هذه الموهبة الكبيرة «العلم» يجري الكلام عن «الشكر» مباشرة ... ليكون واضحاً أنّ كل نعمة لابدّ لها من شكر، وحقيقة الشكر هو أن يستفاد من النعمة في طريقها الذي خلقت من أجله.

و الآية التالية تتكلم على إرث سليمان أباه داود أوّلًا، فتقول: «وَوَرِثَ سُلَيْمنُ دَاوُودَ».

ثم تضيف الآية حاكية عن لسان سليمان: «وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَىْ ءٍ إِنَّ هذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ».

وجملة «أُوتِينَا مِن كُلّ شَىْ ءٍ» فهي تشمل جميع الأسباب اللازمة لإقامة حكومة اللَّه في ذلك الحين.

وَ حُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ الطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا

عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلَى وَالِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)

سليمان في وادي النمل: يستفاد من آيات هذه السورة، وآيات سورة سبأ أنّ «حكومة سليمان» لم تكن حكومة مألوفة، بل حكومة مقرونة بما يخرق العادات والمعاجز المختلفة. وفي الحقيقة فإنّ اللَّه أظهر قدرته في هذه الحكومة وما سخّر لها من قوى.

وأوّل ما تبدأ هذه الآيات بقوله تعالى: «وَحُشِرَ لِسُلَيْمنَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ».

وكانت جنوده من الكثرة بحيث كانوا عند التحرك والمسير، ومن أجل المحافظة على النظم، يؤمرون بتوقف مقدمة الجيش لتلحق بها مؤخرتها «فَهُمْ يُوزَعُونَ». «يوزعون»: من مادة «وزع» على وزن (جمَعَ) ومعناه الحبس والإيقاف، وهذا التعبير متى اطلق على الجند أو الجيش فيعني إيقاف أوّل الجيش ليلحق به آخره، لكي يحفظ من التشتت والتفرق.

ويستفاد من هذا التعبير أنّ جنود سليمان كانوا كثيرين، كما كانوا يخضعون للنظم والانضباط.

«حشر»: فعل ماض من «الحشر» على وزن (نشر) ومعناه إخراج الجمع من المقرّ، والتحرك نحو الميدان للقتال، وما أشبه ذلك.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 472

إنّ سليمان عليه السلام تحرك بهذا الجيش العظيم «حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِى النَّمْلِ». فخاطبت نملة من النمل أصحابها محذرة، كما تقول الآية: «قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسكِنَكُمْ لَايَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمنُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَايَشْعُرُونَ».

ويستفاد ضمناً من جملة «لَايَشْعُرُونَ» أنّ عدل سليمان كان ظاهراً وواضحاً حتى عند النمل، لأنّ مفهوم الجملة أنّ سليمان وجنوده لو شعروا والتفتوا إلى النملة الضعيفة لما وطأوها بالأقدام، وإذا وطأوها فإنّما

ذلك لعدم توجههم والتفاتهم: «فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا».

إنّ سليمان توجه نحو اللَّه .. داعياً وشاكراً مستزيداً فضله: «وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ» «1». أي، لتكون لي القدرة أن استعمل هذه النعم جميعها في ما أمرتني به وما يرضيك، ولا أنحرف عن طريق الحق «وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضهُ». وهو يشير إلى أنّ بقاء هذا الجيش وحكومته وتشكيلاتها الواسعة غير مهم بالنسبة إليه، بل المهم أن يؤدّي عملًا صالحاً يرضي به ربّه.

والطلب الثالث الذي طلبه سليمان من ربّه، كما حكته الآية، هو أن يجعله في زمرة الصالحين، إذ قال: «وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ».

وَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ لَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَ قَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَنْ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَ مَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)

قصة الهدهد وملكة سبأ: يشير القرآن في هذا القسم من الآيات إلى جانب آخر من

______________________________

(1) «أوزعني»: من مادة «إيزاع» ومعناه «الإلهام»، أو المنع عن الانحراف، أو إيجاد العشق والتعلق، إلّاأنّ أغلب المفسرين إختاروا المعنى الأوّل.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 473

حياة سليمان عليه السلام المدهشة، وما جرى له مع الهدهد وملكة سبأ. فيقول أوّلًا: «وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ».

وهذا التعبير يكشف هذه

الحقيقة، وهي أنّه كان يراقب وضع البلاد بدقّة، وكان يتحرى أوضاع حكومته لئلا يخفى عليه غياب شي ء، حتى لو كان طائراً واحداً.

وما لا شك فيه أنّ المراد من الطير هنا هو الهدهد، لأنّ القرآن يضيف استمراراً للكلام: «فَقَالَ مَا لِىَ لَاأَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ».

ومن أجل أن لا يكون حكم سليمان غيابياً، وأن لا يؤثر غياب الهدهد على بقية الطيور، فضلًا عن الأشخاص الذين يحملون بعض المسؤوليات، أضاف «سليمان» قائلًا: «لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَاذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنّى بِسُلْطنٍ مُّبِينٍ».

إنّ سليمان قبل أن يقضي غيابياً ذكر تهديده اللازم في صورة ثبوت التخلف.

وقد برهن «سليمان» ضمناً أنّه- حتى بالنسبة للطائر الضعيف- يستند في حكمه إلى المنطق والدليل، ولا يعوّل على القوة والقدرة أبداً.

ولكن غيبة الهدهد لم تطل «فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ» عاد الهدهد وتوجه نحو سليمان: «فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ».

إنّ الهدهد أخذ يفصّل لسليمان ما حدث فقال: «إِنّى وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْ ءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ».

لقد بيّن الهدهد لسليمان بهذه الجمل الثلاث جميع مواصفات هذا البلد تقريباً، وأسلوب حكومته.

ولما سمع سليمان عليه السلام كلام الهدهد غرق في تفكيره، إلّاأنّ الهدهد لم يمهله طويلًا فأخبره بخبر جديد ... خبر عجيب، مزعج مريب، إذ قال: «وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطنُ أَعْملَهُمْ». فكانوا يفخرون بعبادتهم للشمس وبذلك صدّهم الشيطان عن طريق الحق «فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ». وقد غرقوا في عبادة الأصنام حتى أنّي لا أتصور أنّهم يثوبون إلى رشدهم «فَهُمْ لَايَهْتَدُونَ».

ثم أضاف الهدهد قائلًا: «أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ».

«خب ء»: على وزن (صبر) معناها كل شي ء خفي مستور، وهي

هنا إشارة إلى إحاطة علم اللَّه بغيب السماوات والأرض، أي:

لِمَ لا يسجدون للَّه الذي يعلم غيب السماوات

مختصر الامثل، ج 3، ص: 474

والأرض وما فيهما من أسرار؟! وأخيراً يختتم الهدهد كلامه هكذا: «اللَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ».

وهكذا يختتم الهدهد كلامه مستنداً إلى «توحيد العبادة» و «توحيد الربوبية» للَّه تعالى، مؤكداً نفي كل أنواع الشرك عنه سبحانه.

قَالَ سَنَنْظُرُ أَ صَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَا ذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَنْ تَعْلُوا عَلَيَّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَ أُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَ الْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَا ذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)

الملوك مفسدون مخرّبون: لقد أصغى سليمان عليه السلام إلى كلام الهدهد بكل اهتمام .. وفكّر مليّاً، فينبغي أن لا يكتفي بمخبر واحد، بل ينبغي التحقيق أكثر في هذا المجال: «قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكذِبِينَ».

سليمان عليه السلام لم يتّهم الهدهد فيحكم عليه بالكذب .. ولم يصدّق كلامه دون أي دليل ... بل جعله أساساً للتحقيق.

وعلى كل حال، فقد كتب كتاباً وجيزاً ذا مغزى عميق، وسلّمه إلى الهدهد وقال له: «اذْهَب بّكِتبِى هذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ».

يستفاد من التعبير «أَلْقِهْ إِلَيْهِمْ» أن يلقي الكتاب عندما تكون ملكة سبأ حاضرة بين قومها، لئلا تعبث

به يد النسيان أو الكتمان.

ففتحت ملكة سبأ كتاب سليمان، واطّلعت على مضمونه، وحيث إنّها كانت من قبل قد سمعت بأخبار سليمان واسمه، ومحتوى الكتاب يدل على إقدامه وعزمه الشديد في شأن بلدة «سبأ»، لذلك فكّرت مليّاً، ولما كانت في مثل هذه المسائل المهمة تستشير من حولها، لذلك

مختصر الامثل، ج 3، ص: 475

فقد دعتهم وتوجهت إليهم و «قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَؤُا إِنّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتبٌ كَرِيمٌ».

وقول الملكة: «إِنّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتبٌ كَرِيمٌ» «أي قيم» لعلّه لمحتواه العميق، أو لأنّه بُدى ء باسم اللَّه أو لأنّه ختم بإمضاء صحيح.

ثم إنّ «ملكة سبأ» تحدثت عن مضمون الكتاب فقالت: «إِنَّهُ مِن سُلَيْمنَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَىَّ وَأْتُونِى مُّسْلِمِينَ».

وبعد أن ذكرت ملكة سبأ محتوى كتاب سليمان لقومها ... التفتت إليهم و «قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ». «أفتوني»: مشتقة من «الفتوى»، معناها في الأصل الحكم الدقيق والصحيح في المسائل الغامضة والصعبة.

«تشهدون»: مأخوذ من مادة «الشهود»، ومعناه الحضور ... الحضور المقرون بالتعاون والمشورة.

فالتفت إليها أشراف قومها وأجابوها على استشارتها ف «قَالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ».

وهكذا فقد أظهروا لها تسليمهم وإذعانهم لأوامرها ... كما أبدوا رغبتهم في الإعتماد على القوة والحضور في ميدان الحرب.

ولما رأت الملكة رغبتهم في الحرب خلافاً لميلها الباطني، ومن أجل إطفاء هذا الظمأ وأن تكون هذه القضية مدروسة، لذلك:

«قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً».

ولمزيد التأكيد أردفت قائلةً: «وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ».

إنّ ملكة سبأ التي كانت بنفسها ملكةً، كانت تعرف نفسية الملوك بصورة جيدة، وأنّ سيرتهم تتلخص في شيئين:

1- الإفساد والتخريب.

2- وإذلال الأعزة ...

لأنّهم يفكرون في مصالحهم الشخصية، ولا

يكترثون بمصالح الامة وعزتها ... وهما على طرفي نقيض دائماً.

ثم أضافت الملكة قائلةً: علينا أن نختبر سليمان وأصحابه، لنعرف من هم وما يريدون؟ وهل سليمان نبيّ حقاً أو ملك؟ وهل هو مصلح أو مفسد؟ وهل يذلّ الناس أم يحترمهم ويعزّهم؟

مختصر الامثل، ج 3، ص: 476

فينبغي أن نرسل شيئاً إليه «وَإِنّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ».

فالملوك لهم علاقة شديدة بالهدايا، ونقطة الضعف كامنة في هذا الأمر، فيمكن أن يذعنوا للهدايا الغالية ... فإذا أذعن سليمان بهذه الهدية فهو ملك، وينبغي أن نواجهه بالقوة فنحن أقوياء ... وإذا ألح على كلامه ولم يكترث بنا فهو نبي، وفي هذه الصورة ينبغي التعامل معه بالحكمة والتعقل.

فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَ تُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَ هُمْ صَاغِرُونَ (37)

لا تخدعوني بالمال: خرج رسل ملكة سبأ بقافلة الهدايا وتركوا اليمن وراءهم قاصدين مقر سليمان «في الشام» ظنّاً منهم أنّ سليمان سيكون مسروراً بمشاهدته هذه الهدايا ويرحب بهم، لكن ما إن حضروا عند سليمان حتى رأوا ما يدهش الإنسان ... فإنّ سليمان عليه السلام مضافاً إلى عدم استقباله واكتراثه بتلك الهدايا، «قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا ءَاتنِىَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا ءَاتكُمْ».

فما قيمة المال، ازاء مقام النبوة والعلم والهداية والتقوى، «بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ».

وهكذا فقد حقّر سليمان عليه السلام معيار القيم عندهم، وأوضح لهم أنّ هناك معياراً آخر للقيمة تضمحلّ عنده معايير عبدة الدنيا ولا تساوي شيئاً.

ومن أجل أن يريهم سليمان موقفه الحاسم من الحق والباطل، قال لرسول ملكة سبأ الخاص: «ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مّنْهَا أَذِلَّةً

وَهُمْ صغِرُونَ».

لأنّهم لم يذعنوا- ويُسلموا- للحق ... وإنّما قصدوا الخداع والمكر.

قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 477

حضور العرش في طرفة عين: وأخيراً عاد رسل ملكة سبأ بعد أن جمعوا هداياهم وأمتعتهم إلى بلدهم، وأخبروا ملكة سبأ بما شاهدوه من عظمة مُلك سليمان عليه السلام المعجز وجهازه الحكومي، وكل واحد من هذه الامور دليل على أنّه لم يكن كسائر الأفراد ولا ملكاً كسائر الملوك، بل هو مُرسل من قبل اللَّه حقّاً، وحكومته حكومة إلهية. لذلك قررت الملكة أن تأتي بنفسها مع أشراف قومها إلى سليمان، ويتفحصوا عن هذه المسألة ليتعرفوا على دين سليمان؟

فوصل هذا الخبر- عن أيّ طريق كان- إلى سمع سليمان عليه السلام، فعزم على إظهار قدرته العجيبة- والملكة وأصحابها في الطريق إليه- ليعرفهم قبل كل شي ء على إعجازه، ليذعنوا له ويسلّموا لدعوته ... لذلك التفت إلى من حوله و «قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ».

وهنا أظهر شخصان استعدادهما لإمتثال طلب سليمان عليه السلام، وكان أمر أحدهما عجيباً والآخر أعجب، إذ «قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنّ أَنَا ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ». فهذا الأمر عليّ يسير، ولا أجد فيه مشقّة، كما أنّي لا أخونك أبداً، لأنّي قادر على ذلك «وَإِنّى

عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ». «العفريت»: معناه المارد الخبيث.

وجملة «وَإِنّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ» المشفوعة بالتأكيدات من عدّة جهات تشر إلى احتمال خيانة هذا العفريت ... لذلك فقد أظهر الدفاع عن نفسه بأنّه أمين وفيّ.

أمّا الشخص الآخر فقد كان رجلًا صالحاً له علم ببعض ما في الكتاب، ويتحدث عنه القرآن فيقول: «قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتبِ أَنَا ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ».

فلما وافق سليمان عليه السلام على هذا الأمر، أحضر عرش بلقيس بطرفة عين بالإستعانة بقوته المعنوية: «فَلَمَّا رَءَاهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هذَا مِن فَضْلِ رَبّى لِيَبْلُوَنِى ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ».

ثم أضاف قائلًا: «وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ».

الفرق بين «علم من الكتاب» و «علم الكتاب»: في كتاب ينابيع المودة للقندوزي عن أبي سعيد الخدري قال: سألت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن هذه الآية «قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ» قال: «ذاك وزير أخي سليمان بن داود عليه السلام». وسألته عن قول اللَّه عزّ وجلّ «قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَمَن عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ» قال: «ذاك أخي عليّ بن أبي طالب».

والإلتفات إلى الفرق بين «علم من الكتاب» الذي يعني (العلم الجزئي) و «علم الكتاب»

مختصر الامثل، ج 3، ص: 478

الذي يعني (العلم الكلي)، يكشف البون الشاسع بين آصف وعلي عليه السلام.

نور الإيمان في قلب الملكة: نواجه في هذه الآيات مشهداً آخر، مما جرى بين سليمان عليه السلام وملكة سبأ فسليمان من أجل أن يختبر عقل ملكة سبأ ودرايتها، ويهي ء الجوّ لإيمانها باللَّه، أمر أن يغيروا عرشها وينكّروه ف «قَالَ نَكّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِى أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَايَهْتَدُونَ». والمراد من جملة «أَتَهْتَدِى» هي معرفة عرشها.

«فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهكَذَا

عَرْشُكِ» إنّ ملكة سبأ أجابت جواباً دقيقاً و «قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ».

ومع كل ذلك فإنّ ملكة سبأ استطاعت أن تعرف عرشها رغم كل ما حصل له من تغييرات ... فقالت مباشرة: «وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ». أي: إذا كان مراد سليمان عليه السلام من هذه المقدمات هو اطلاعنا على معجزته لكي نؤمن به، فإنّنا كنّا نعرف حقانيته بعلائم أخر ... كنّا مؤمنين به حتى قبل رؤية هذا الأمر الخارق للعادة فلم تكن حاجة إلى هذا الأمر.

وهكذا فإنّ سليمان عليه السلام منعها «وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ» بالرغم من «إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كفِرِينَ».

وفي آخر آية من الآيات محل البحث يجري الكلام عن مشهد آخر من هذه القصّة، وهو دخول ملكة سبأ قصر سليمان الخاص.

وكان سليمان عليه السلام قد أمر أن تصنع إحدى ساحات قصوره من قوارير، وأن يجري الماء

مختصر الامثل، ج 3، ص: 479

من تحتها، فلما وصلت ملكة سبأ إلى ذلك المكان «قِيلَ لَهَا ادْخُلِى الصَّرْحَ» «1». فلما رأته ظنته نهراً جارياً فرفعت ثوبها لتمر وسط الماء وهي متعجبة عن سبب وجود هذا الماء الجاري، وكما يقول القرآن: «فَلَّمَا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا» «2».

إلّا أنّ سليمان عليه السلام التفت إليها و «قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ» «3». فلا حاجة إلى الكشف عن ساقيك فلا يمس الماء قدميك.

وهنا ينقدح سؤال هام، وهو أنّ سليمان نبي كبير، فلم كان لديه هذا البناء الفائق والتزيّن الرائق ... والصرح الممرّد والبساط الممهّد .. وصحيح أنّه كان حاكماً مبسوط اليد، إلّاأنّ الأنسب أن يكون له بساط مألوف كسائر الأنبياء.

إلّا أنّه، ما يمنع أن يُري سليمان ملكة سبأ التي كانت ترى قدرتها وعظمتها بالعرش والتاج والقصر العظيم

والزينة .. يريها هذا المشهد لتذعن لأمره، ولتحتقر ما عندها؟! وهذه نقطة انعطاف في حياتها لتعيد النظر في ميزان القيم ومعيار الشخصية.

وبتعبير آخر: إنّ هذه النفقات المالية إزاء أمن منطقة واسعة، وقبول دين الحق، والوقاية عن الإنفاق المفرط للحرب- لم تكن أمراً مسرفاً. ولذلك حين رأت ملكة سبأ هذا المشهد الرائع: «قَالَتْ رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمنَ لِلَّهِ رَبّ الْعلَمِينَ».

لقد كنت في ما مضى أسجد للشمس وأعبد الأصنام، وكنت غارقة في الزينة والتجميل، وكنت أتصور أنّي أعلى الناس في الدنيا. أمّا الآن فإنّني أفهم أنّني ضعيفة جدّاً.

ربّاه ... أتيت إليك مسلمة مع سليمان نادمة عن سالف عمري، خاضعة عنقي إليك.

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَ بِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)

______________________________

(1) «صرح»: معناه الفضاء الواسع، وقد يأتي بمعنى البناء العالي والقصر وفي الآية المشار إليها آنفاً معناه ساحة القصر أي فضاءه الواسع ظاهراً.

(2) «اللّجة»: في الأصل مأخوذة من اللجاج، ومعناه الشدة، ثم أطلق على ذهاب الصوت وإيابه في الحنجرة تعبير «لجة»، أمّا الأمواج المتلاطمة في البحر فتسمى «لُجة» وهي هنا في الآية بهذا المعنى الأخير.

(3) «الممرّد»: معناه الصافي؛ و «القوارير»: جمع قارورة وهي الزجاجة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 480

صالح في ثمود: بعد ذكر جانب من قصص موسى وداود وسليمان عليهم السلام فإنّ هذه الآيات تتحدث عن قصة رابع نبي- وتبيّن جانباً من حياته مع قومه- في هذه السورة، وهي ما جاء عن صالح عليه السلام وقومه «ثمود»، إذ يقول القرآن: «وَلَقَدْ

أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صلِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ». وكما قيل من قبل: إنّ التعبير ب «أخاهم» الوارد في قصص كثير من الأنبياء، هو إشارة إلى منتهى المحبة والإشفاق من قبل الأنبياء لُاممهم، كما أنّ في بعض المواطن إشارة إلى علاقة القربى «الروابط العائلية للأنبياء بأقوامهم».

إنّ جميع دعوة هذا النبي العظيم تلخصت في جملة «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ». أجل، إنّ عبادة اللَّه هي عصارة كل تعليمات رسل اللَّه تعالى.

ثم يضيف قائلًا: «فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ».

فأخذ صالح عليه السلام ينذرهم ويحذرهم من عذاب اللَّه الأليم ... إلّاأنّ اولئك لم يستجيبوا له وتمسكوا بعنادهم وطلبوا منه باصرار أن إذا كنت نبيّاً فليحل بنا عذاب اللَّه «وقد صرحت الآية (77) من سورة الأعراف بأنّهم سألوا نبيّهم نزول العذاب»: «وَقَالُوا يَا صلِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ».

إلّا أنّ صالحاً أجابهم محذراً و «قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ».

إنّ عذاب اللَّه إذا حلّ بساحتكم ختم حياتكم ولا يبقى مجال للإيمان.

تعالوا واختبروا صدق دعوتي في البعد الإيجابي والأمل في رحمة اللَّه في ظل الإيمان به «لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ».

وهذا أمر عجيب حقّاً أن يريد الإنسان اختبار صدق دعوة نبيّه عن طريق العقاب المهلك، لا عن طريق طلب الرحمة.

إنّ هؤلاء القوم المعاندين بدلًا من أن يصغوا لنصيحة نبيّهم ويستجيبوا له، واجهوه باستنتاجات واهية وكلمات باطلة ... منها أنّهم «قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ». ولعل تلك السنة كانت سنة قحط وجدب، فقالوا: إنّ هذا البلاء والمشاكل والعقبات كلها بسبب قدوم هذا النبي وأصحابه.

لكنه ردّ عليهم و «قَالَ طئِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ» فهو الذي يبتليكم بسبب أعمالكم بهذه المصائب التي أدّت إلى هذه العقوبات.

في الحقيقة إنّ ذلك اختبار وامتحان إلهي كبير لكم،

أجل: «بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 481

هذه امتحانات وفتن إلهية ... هذه إنذارات وتنبيهات لينتبه- من فيهم اللياقة من غفلتهم، ويصلحوا انحرافهم ويتجهوا نحو اللَّه.

وَ كَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَ أَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَ إِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنَا مَكْراً وَ هُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَ قَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ (53)

تآمر تسعة رهط في وادي القرى: نقرأ هنا قسماً آخر من قصة صالح وقومه، حيث يكمل القسم السابق ويأتي على نهايته، وهو ما يتعلق بالتآمر على قتل صالح من قِبل تسعة «رهط» من المنافقين والكفار، وفشل هذا التآمر في وادي القرى منطقة النبي صالح وقومه. يقول القرآن في هذا الشأن: «وَكَانَ فِى الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِى الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ». «الرهط»: يعني في اللغة الجماعة التي تقلّ عن العشرة أو تقلّ عن الأربعين، فإنّه يتّضح أنّ كلّا من المجموعات الصغيرة التسع كان لها منهج خاص، وقد اجتمعوا على أمر واحد، وهو الإفساد في الأرض والاخلال بالمجتمع (ونظامه الاجتماعي) ومبادى ء العقيدة والأخلاق فيه.

ولا ريب أنّ ظهور «صالح» بمبادئه السامية قد ضيّق الخناق عليهم، ولذلك تقول الآية التالية في حقّهم: «قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصدِقُونَ».

الطريف أنّ اولئك كانوا يقسمون باللَّه، ويعني هذا أنّهم كانوا يعتقدون باللَّه، مع أنّهم يعبدون الأصنام، وكانوا يبدأون باسمه في المسائل المهمة.

جاء في التواريخ أنّ المؤامرة كانت

بهذه الصورة، وهي أنّ جبلًا كان في طرف المدينة وكان فيه غار يتعبّد فيه صالح، وكان يأتيه ليلًا بعض الأحيان يعبد اللَّه فيه ويتضرع إليه،

مختصر الامثل، ج 3، ص: 482

فصمّموا على أن يكمنوا له هناك ليقتلوه عند مجيئه في الليل، ويحملوا على بيته بعد استشهاده ثم يعودوا إلى بيوتهم، وإذا سئلوا أظهروا جهلهم وعدم معرفتهم بالحادث.

فلما كمنوا في زاوية واختبأوا في ناحية من الجبل انثالت صخور من الجبل تهوي إلى الأرض، فهوت عليهم صخرة عظيمة فأهلكتهم في الحال. لذلك يقول القرآن في الآية التالية: «وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَايَشْعُرُونَ».

ثم يضيف قائلًا: «فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ».

وكلمة «مكر» تستعملها العرب في كل حيلة وتفكير للتخلص أو الإهتداء إلى أمر ما .. ولا تختص بالامور التي تجلب الضرر، بل تستعمل بما يضر وما ينفع .. فإذا نسبت هذه الكلمة إلى اللَّه فإنّها تعني إحباط المؤامرات الضارة من قبل الآخرين.

ثم يعبّر القرآن عن كيفية هلاكهم وعاقبة أمرهم فيقول: «فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا». أجل، لقد أذهبهم ريح عتوّهم وظلمهم، واحترقوا بنار ذنوبهم فهلكوا جميعاً «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ».

إلّا أنّ الأخضر لم يحترق باليابس، والأبرياء لم يؤخدوا بجرم الأشقياء ... بل سلم المتقون «وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ».

وَ لُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)

انحراف قوم لوط: إنّ النبي الخامس الذي وردت الإشارة إليه في هذه السورة: نبي اللَّه العظيم «لوط». يقول القرآن في الآيتين محل البحث أوّلًا: «وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ». «الفاحشة»: تعني الأعمال السيئة القبيحة، والمراد منها الإنحراف الجنسي وعمل

اللواط المخزي.

ثم يضيف القرآن قائلًا: «أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النّسَاءِ».

ولكي يتّضح بأنّ الدافع على هذا العمل هو الجهل، فالقرآن يضيف قائلًا: «بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 483

تجهلون باللَّه، وتجهلون هدف الخلق ونواميسه، وتجهلون آثار هذا الذنب وعواقبه الوخيمة.

فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَ أَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَ أَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَ سَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ يُشْرِكُونَ (59)

عندما تعدّ الطهارة عيباً كبيراً: والآن، لنستمع إلى جواب هؤلاء المنحرفين بماذا أجابوا منطق «لوط». يقول القرآن: «فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا ءَالَ لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ». فجوابهم كاشف عن انحطاطهم الفكري والسقوط الأخلاقي البعيد.

جاء في الروايات أنّ لوطاً كان يبلغ قومه حوالي ثلاثين عاماً وينصحهم، إلّاأنّه لم يؤمن به إلّاأسرته وأهله باستثناء زوجته فإنّها كانت من المشركين وعلى عقيدتهم.

بديهي أنّ مثل هؤلاء القوم لا أمل في إصلاحهم في عالم الدنيا، فينبغي أن يطوى «طومار» حياتهم، لذلك تقول الآية التالية في هذا الشأن: «فَأَنجَيْنهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنهَا مِنَ الْغبِرِينَ» «1».

وبعد أن خرج آل لوط في الموعد المعين «سحر ليلة كانت المدينة غارقة فيها بالفساد» فلما أصبح الصباح نزلت عليهم الحجارة من السماء، وتزلزت الأرض بهم، فدفنوا جميعاً تحت الحجارة والأنقاض، وإلى هذا تشير الآية التالية: «وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ».

وفي آخر آية من الآيات محل البحث، وبعد بيان ما جرى على لوط وقومه المنحرفين، يتوجه الخطاب إلى النبي الكريم «محمّد صلى الله عليه و آله» ليستنتج ممّا سبق، فيقول له: «قُلِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ».

الحمد والثناء الخاص للَّه، لأنّه أهلك امماً مفسدين كقوم لوط، لئلا تتلوث الأرض من وجودهم.

ثم يضيف قائلًا: «وَسَلمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى .

سلام على موسى وصالح ولوط وسليمان وداود، وسلام على جميع الأنبياء والمرسلين

______________________________

(1) «الغابرين»: جمع الغابر ومعناه هنا الباقي من الذاهبين من المكان.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 484

وعباد اللَّه الصالحين، ومن والاهم بإحسان.

ثم يقول: «ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ».

أَمْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَ جَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَ جَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَ جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ مَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)

أمع كل هذه الأدلة ما تزالون مشركين: في آخر آية من آيات البحث السابق، القي هذا السؤال الوجيز المتين: «ءَاللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ». أمّا في الآيات محل البحث فتفصّل السؤال .. وتوجه للمشركين خمس آيات تبدأ بخمسة أسئلة، لتناقش المشركين وتحاكمهم، وتكشف دلائل التوحيد في الآيات الخمس في اثني عشر مثلًا.

فالآية الاولى من هذه الآيات تتحدث عن خلق السماوات والأرض، ونزول الماء من السماء والبركات الناشئة عنه، فتقول:

هل أنّ معبوداتكم أفضل «أَمَّنْ خَلَقَ

السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ».

«الحدائق»: جمع «الحديقة»، وهي البستان الذي يحيطه الجدار أو الحائط، وله ماء كاف؛ و «البهجة»: معناها الجمال وحسن الظاهر الذي يسر الناظرين.

ويتوجه الخطاب نحو العباد في ختام الآية فيقول: «مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا».

فأنتم تستطيعون أن تنثروا البذور وتسقوا الأرض، لكن الذي جعل الحياة في قلب البذرة، وأمر الشمس أن تشرق على الأرض، والماء ينزل من السماء حتى تنبت البذرة

مختصر الامثل، ج 3، ص: 485

فتكون شجراً، هو اللَّه فحسب.

وبتعبير آخر: فإنّ التوحيد في الخلق يؤدّي إلى «توحيد الخالق»، والتوحيد في الربوبية «توحيد مدبّر هذا العالم» باعث على «توحيد العبادة».

ولذلك فالقرآن يقول في نهاية الآية: «أَءِلهٌ مَّعَ اللَّهِ» ولكن هؤلاء جهلة عدلوا عن اللَّه وعبدوا ما لا ينفعهم ولا يضرهم «بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ» «1».

والسؤال الثاني بحث عن موهبة استقرار الأرض وثباتها، وأنّها مقر الإنسان في هذا العالم، فيقول: هل أنّ أصنامكم أفضل، «أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِللَهَا أَنْهرًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ» «2». كما تحافظ على القشرة الأرضية من الزلازل، كما «وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا» ومانعاً من اختلاط البحر المالح بالبحر العذب.

وهكذا فقد ورد في هذه الآية ذكر أربع نعم عظيمة، ثلاث منها تتحدث عن استقرار الأرض.

ترى هل يمكن أن يكون هذا النظام قد وُلد عن طريق الصدفة العمياء الصمّاء، والمبدأ الفاقد للعقل والحكمة؟! وهل للأصنام تأثير في هذا النظام البديع المثير للدهشة؟!

حتى عبدة الأصنام لا يدعون مثل هذا الإدعاء! لذلك يكرر القرآن في ختام الآية هذا السؤال: «أَءِلهٌ مَّعَ اللَّهِ». حاش للَّه «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَايَعْلَمُونَ».

السؤال الثالث من هذه الأسئلة الخمسة التي تحكي عن محاورة ومحاكمة المعنوية يتحدث عن حلّ المشكلات، وفتح الطرق الموصدة،

وإجابة الدعاء، إذ تقول الآية التالية: «أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ».

أجل، عندما تُغلق جميع أبواب عالم الأسباب بوجه الإنسان، ويغدو مضطراً حيراناً لا حيلة له، فإنّ الذي يحلّ المعضلة، ويفتح أبواب الرحمة بوجه الناس المتحيرين، هو اللَّه لا غير.

وحيث إنّ الناس يدركون هذه الحقيقة بالفطرة في أعماق نفوسهم جميعاً، فإنّ المشركين

______________________________

(1) قد يكون «يعدلون» من مادة «العدول» أي الإنحراف والرجوع من الحق إلى الباطل، أو أنّه مادة «عِدْل» على وزن (قِشر) ومعناه المعادل والنظير .. ففي الصورة الاولى مفهوم الآية أنّهم ينحرفون عن اللَّه الواحد إلى غيره، وفي الصورة الثانية مفهومها أنّهم يجعلون له عديلًا.

(2) «الخلال»: في الأصل معناه الشق بين الشيئين؛ و «الرواسي»: جمع «راسية» وهي الثابتة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 486

حين يقعون بين أمواج البحر المتلاطمة ينسون جميع معبوديهم ويتوجهون نحو لطف اللَّه، كما نقرأ في الآية (65) من سورة العنكبوت: «فَإِذَا رَكِبُوا فِى الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ». لذلك تضيف الآية قائلة: إنّه لا ينقذكم من هذه المآزق والشدائد فحسب، بل: «وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَءِلهٌ مَّعَ اللَّهِ» ولكنّكم لا تتعضون بهذه الدلائل .. «قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ».

ويثير القرآن في السؤال الرابع مسألة الهداية فيقول: هل أنّ الأصنام أفضل، «أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِى ظُلُمتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ» بواسطة النجوم «وَمَن يُرْسِلُ الرّيحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ».

فالرياح التي تدل على نزول الغيث، وكأنّها رسل البشرى تتحرك قبل نزول الغيث.

ويخاطب القرآن في ختام الآية المشركين مرّة اخرى فيقول: «أَءِلهٌ مَّعَ اللَّهِ».

ثم يضيف دون أن ينتظر الجواب قائلًا: «تَعلَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ».

أمّا في آخر آية من الآيات محل البحث، فيثير القرآن السؤال الخامس في شأن المبدأ والمعاد بهذه الصورة، فيقول: هل أنّ أصنامكم أفضل، «أَمَّن يَبْدَؤُا الْخَلْقَ

ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَءِلهٌ مَّعَ اللَّهِ» .. فهل بعد ذلك تعتقدون بوجود معبود غير اللَّه «قُلْ هَاتُوا بُرْهنَكُمْ إِن كُنتُمْ صدِقِينَ».

والمراد من (الرزق السماوي) هو الغيث ونور الشمس وأمثال ذلك، أمّا (الرزق الأرضي) فالنباتات والمواد الغذائية المختلفة التي تنمو على الأرض مباشرة، أو عن طريق غير مباشر كالأنعام والمعادن والمواد المختلفة التي يتمتع بها الإنسان في حياته.

قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَ مَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَ إِذَا كُنَّا تُرَاباً وَ آبَاؤُنَا أَ إِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هذَا نَحْنُ وَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)

لما كان البحث في آخر الآيات السابقة عن القيامة والبعث، فإنّ الآيات- محل البحث-

مختصر الامثل، ج 3، ص: 487

تعالج هذه المسألة من جوانب شتى، فتجيب أوّلًا على السؤال الذي يثيره المشركون دائماً، وهو قولهم: متى تقوم القيامة؟ ومتى هذا الوعد؟ فتقول: «قُلْ لَّايَعْلَمُ مَن فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ».

لا شك أنّ علم الغيب- ومنه تاريخ وقوع القيامة- خاص باللَّه، إلّاأنّه لا منافاة في أن يجعل اللَّه بعض ذلك العلم عند من يشاء من عباده، كما نقرأ في الآيتين (26 و 27) من سورة الجن: «علِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا* إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ».

ثم يتكلم القرآن عن عدم علم المشركين بيوم القيامة وشكهم وجهلهم، فيقول: «بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِى الْأَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مّنْهَا بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ».

«ادّارك»: في الأصل «تدارك» ومعناه التتابع أو لحوق الآخر بالأوّل، فمفهوم جملة

«بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِى الْأَخِرَةِ»: أنّهم لم يصلوا إلى شي ء بالرغم مما بذلوه من تفكير، وجمعوا المعلومات في هذا الشأن، لذلك فإنّ القرآن يضيف مباشرة بعد هذه الجملة:

«بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مّنْهَا بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ». لأنّ دلائل الآخرة ظاهرة في هذه الدنيا، فعودة الأرض الميتة إلى الحياة في فصل الربيع، وإزهار الأشجار وإثمارها مع أنّها كانت في فصل الشتاء جرداء ... ومشاهدة عظمة قدرة الخالق في مجموعة الخلق والوجود، كلها دلائل على إمكان الحياة بعد الموت، إلّاأنّهم كالعُمي الذين لا يبصرون كل شي ء.

و الآية التالية توجز منطق منكري القيامة والبعث في جملة واحدة، فتقول: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَءِذَا كُنَّا تُرَابًا وَءَابَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ».

مع أنّهم كانوا أوّل الأمر تراباً وخلقوا من التراب، فما يمنع أن يعودوا إلى التراب، ثم يرجعون أحياءً بعد أن كانوا تراباً.

ثم يحكي القرآن عمّا يضيفه المشركون من قول: «لَقَدْ وُعِدْنَا هذَا نَحْنُ وَءَابَاؤُنَا مِن قَبْلُ»، ولكن لم نجد أثراً لهذا الوعد ولن يوجد، «إِنْ هذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ»، فما هي سوى خرافات وخزعبلات القدماء.

فبناءً على هذا فإنّهم يبدأون من الاستبعاد ثم يجعلونه أساساً للإنكار المطلق.

ويستفاد- ضمناً من هذا التعبير- أنّهم أرادوا أن يسخروا من كلام النبي في شأن يوم القيامة، ويطعنوا عليه، فيقولوا: إنّ هذه الوعود الباطلة سبقت لأسلافنا، فلا جديد فيها يستحق بذل التفكير والمراجعة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 488

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَ لَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَ يَقُولُونَ مَتَى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا

يَشْكُرُونَ (73) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ مَا يُعْلِنُونَ (74) وَ مَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)

لا يضيق صدرك بمؤامراتهم: كان الكلام في الآيات السابقة عن إنكار المعاندين الكفار للمعاد، واستهزائهم وتكذيبهم باليوم الآخر. ولما كان البحث المنطقي غير مُجد لهؤلاء القوم المعاندين والأعداء الألدّاء، بالإضافة إلى ما أقامته الآيات الأخر من الدلائل الوافرة على المعاد مما يُرى كل يوم في عالم النباتات وفي عالم الأجنة، وما إلى ذلك، فإنّ الآيات محل البحث بدلًا من أن تأتيهم بدليل، هددتهم بعذاب اللَّه الذي شمل من سبقهم من الكفار، وأنذرتهم بعقابه المخزي ... فوجهت الخطاب للنبي صلى الله عليه و آله قائلةً:

«قُلْ سِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ».

فأنتم تعترفون أنّ هذه الوعود تلقّاها أسلافكم، فلم يكترثوا بها، ولم يروا ضرراً.

وحيث إنّ الرسول صلى الله عليه و آله كان يشفق عليهم لإنكارهم، ويحزن لعنادهم، ويحترق قلبه من أجلهم، إذ كان حريصاً على هدايتهم، وكان يواجه مؤامراتهم أيضاً .. فإنّ الآية التالية تسري عن قلب النبي فتقول له: «وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ» ولا تقلق من مؤآمراتهم «وَلَا تَكُن فِى ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ».

إلّا أنّ هؤلاء المنكرين المعاندين، بدلًا من أن يأخذوا إنذار النبي المشفق عليهم مأخذ الجد فيتعظوا بوعظه ويسترشدوا بنصحه، أخذوا يسخرون منه «وَيَقُولُونَ مَتَى هذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صدِقِينَ».

وهنا يردّ القرآن على استهزائهم وسخريتهم بلهجة موضوعية، فيقول مخاطباً نبيّه: «قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ».

والمراد من العذاب الذي كانوا يستعجلون به، فقيل: هو ما أصابهم يوم بدر من هزيمة كبرى.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 489

كما ويحتمل أنّ المراد منه العقاب العام الذي دفع أخيراً، ببركة وجود

النبي إذ كان رحمة للعالمين، والآية (33) من سورة الأنفال شاهدة عليه: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ».

ثم يتحدث القرآن في الآية التالية عن هذه الحقيقة وهي أنّ اللَّه إذا لم يعجل في عقابكم، فذلك بفضله وبرحمته، حيث يمهل عباده الإمهال الكافي لإصلاح أنفسهم، فيقول: «وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَايَشْكُرُونَ».

وإذا كانوا يتصورون أنّ تأخير العقاب لعدم علم اللَّه سبحانه لما يدور في خلدهم من نيات سيئة وأفكار ضالة، فهم في غاية الخطأ: «وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ» «1». فهو يعلم خفاياهم بمقدار ما يعلم من ظاهرهم وما يعلنون، والغيب والشهادة عنده سيّان.

ثم يضيف القرآن قائلًا: إنّه ليس علم اللَّه منحصراً بما تكنّ القلوب وما تعلن، بل علمه واسع مطلق. «وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِى كِتبٍ مُّبِينٍ».

إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَ إِنَّهُ لَهُدًى وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَ لَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَ مَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)

كان الكلام في الآيات السابقة عن المبدأ والمعاد، أمّا في الآيات- محل البحث- فيقع الكلام على مسألة النبوة، وحقانية القرآن، ليكتمل بهما هذا البحث.

أضف إلى ذلك أنّ الخطاب كان فيما سبق من الآيات موجهاً للمشركين، وهنا يوجه الخطاب نحو الكفار الآخرين كاليهود واختلافاتهم. فتقول الآيات أوّلًا: «إِنَّ هذَا الْقُرْءَانَ يَقُصُّ عَلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ أَكْثَرَ الَّذِى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ».

______________________________

(1) «تكنّ»: مأخوذ من كَنّ (على وزن

جَنّ)، وهذا الفعل يطلق على ما تستر فيه الأشياء وتحفظ، وهنا كناية عن ما يخطر في قلوب الكفار من خواطر وأفكارعدوانية.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 490

لقد اختلف بنو إسرائيل فيما بينهم في مسائل كثيرة، فقد اختلفوا في شأن مريم وعيسى عليهما السلام. وفي شأن النبي الذي بشّرت به «التوراة» من هو؟ كما أنّهم اختلفوا في ما بينهم في كثير من المسائل الدينية والأحكام الشرعية ... فجاء القرآن موضحاً هذه الامور بجلاء.

ولما كانت مواجهة الاختلافات والوقوف بوجهها مدعاة للهدى والرحمة، فإنّ الآية التالية تشير إلى هذا «الأصل الكلي» وتقول: «وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ».

إنّه هدى ورحمة من حيث حسم الخلافات ومبارزة الخرافات.

وحيث إنّ جماعة من بني إسرائيل وقفت بوجه القرآن والحقائق الواردة فيه، لأوامر اللَّه، فإنّ الآية التالية تقول في شأنهم:

«إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ». وهذا الكلام إضافة إلى أنّه يبيّن عظمة القرآن، وهو تهديد لبني إسرائيل، فهو في الوقت ذاته تسلية عن قلب النبي وتسرية عنه، لذا فالآية التالية تقول: «فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ».

توكّل على اللَّه العزيز الذي لا يغلب، والعليم بكل شي ء .. فتوكّل عليه ولا تقلق من المشركين والمعاندين، لأنّه يرعاك و «إِنَّكَ عَلَى الْحَقّ الْمُبِينِ».

وهنا ينقدح هذا السؤال، وهو: إذا كان القرآن حقاً مبيناً فلماذا خالفوه؟ فالآيات التالية تجيب على هذا السؤال، فتقول: إذا كان اولئك لا يذعنون للحق المبين، ولا يؤثر في قلوبهم هذا الكلام المتين، فلا مجال للعجب .. ل «إِنَّكَ لَاتُسْمِعُ الْمَوْتَى .

بل تسمع الأحياء الذين يبحثون عن الحق وأرواحهم توّاقة إليه، أمّا إحياء الموتى- أو موتى الأحياء- لتعصبهم وعنادهم واستمرارهم على الذنب، فلاترهق فكرك ونفسك من أجلهم وحتى لو كانوا احياء فإنّهم صمّ لا يسمعون فلايمكنهم أن يسمعوا

صوتك، وخاصة إذا أداروا إليك ظهورهم وابتعدوا عنك، «وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ».

كما أنّهم لو كانوا مع هذه الحال يبصرون بأعينهم لاهتدوا إلى الصراط المستقيم، ولو ببعض العلامات، إلّاأنّهم عمي «وَمَا أَنتَ بِهدِى الْعُمْىِ عَن ضَللَتِهِمْ».

وهكذا فقد أوصدت جميع طرق إدراك الحقيقة بوجوههم، فقلوبهم ميتة، وآذانهم صمّ موقرة، وأعينهم عمي.

فأنت يا رسول اللَّه: «إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بَايَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ» ويشعرون في أنفسهم بالاذعان للحق.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 491

وَ إِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَ كَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَ لَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً أَمْ ذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَ وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85)

لما كانت الآية السابقة تتحدث عن استعجال الكفار بالعذاب ونزوله، فإنّ الآيات- محل البحث- تشير إلى بعض الحوادث التي تقع بين يدي القيامة، وتجسد عاقبة المنكرين الوخيمة، فتقول: «وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بَايَاتِنَا لَايُوقِنُونَ». «الدّابة»: معناها ما يدب ويتحرك. وقد طبق هذا المفهوم في روايات كثيرة على أمير المؤمنين عليه السلام، والروايات الكثيرة في تفسير الآية، تدل على أنّ المراد من «دابّة الأرض» هنا إنسان نشط فعال بما ذكرنا له من خصائص آنفاً، فهو يميز الحق من الباطل والمؤمن من المنافق والكافر.

إنسان يخرج في آخر الزمان قبيل يوم القيامة، وهو بنفسه آية من آيات عظمة الخالق.

ثم تشير الآيات إلى علامة اخرى من علامات القيامة، فتقول: «وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلّ أُمَّةٍ فَوْجًا مّمَّن يُكَذّبُ بَايَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ». «الحشر»: معناه

إخراج جماعة ما من مقرّها والسير بها نحو ميدان الحرب أو غيره؛ «الفوج»: الجماعة التي تتحرك بسرعة؛ و «يوزعون»: معناه حبس الجماعة وإيقافها حتى يلحق الآخر منها بالأوّل.

فبناء على هذا يستفاد من مجموع الآية أنّ يوماً سوف سيأتي يحشر اللَّه فيه من كل امة جماعة، ويهيؤهم للحساب والجزاء على أعمالهم.

والكثير من الأعاظم يعتقدون بأنّ هذه الآية تشير إلى مسألة الرجعة وعودة جماعة من الصالحين وجماعة من الطالحين إلى هذه الدنيا قبيل يوم القيامة.

«حَتَّى إِذَا جَاءُو قَالَ أَكَذَّبْتُم بَايَاتِى وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

وقائل هذا الكلام هو اللَّه سبحانه. والمراد من «الآيات» هي المعاجز التي يأتي بها الأنبياء، أو أوامر اللَّه، أو الجميع.

وبديهي أنّ هؤلاء المجرمين لا يستطيعون الإجابة على أيّ من هذين السؤالين، لذلك فإنّ الآية الأخيرة من الآيات محل البحث تضيف قائلة: «وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَايَنطِقُونَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 492

وهذا القول أو العذاب دنيوي، إذا فسّرنا الآية بالرجعة، أو هو عذاب الآخرة إذا فسّرنا الآية بيوم القيامة «1».

أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَ النَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَ كُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَ تَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)

حركة الأرض إحدى معاجز القرآن العلمية: مرّة اخرى تتحدث هذه الآيات عن مسألة المبدأ والمعاد، وآثار عظمة اللَّه، ودلائل قدرته في عالم الوجود، وحوادث القيامة، فتقول: «أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا الَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا». وفي ذلك علائم ودلائل واضحة على قدرة

اللَّه وحكمته لمن كان مستعداً للإيمان «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ». و الآية التالية تتحدث عن مشاهد القيامة ومقدماتها، فتقول: «وَ» اذكر «يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِى السَّموَاتِ وَمَن فِى الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ». أي خاضعين.

ويستفاد من مجموع آيات القرآن أنّ النفخ في الصور يقع مرّتين أو ثلاث مرات:

فالمرّة الاولى يقع النفخ في الصور عند نهاية الدنيا وبين يدي القيامة، وبها يفزع من في السماوات والأرض إلّامن شاء اللَّه.

والثانية «عند النفخ» يموت الجميع من سماع الصيحة، ولعلّ هاتين النفختين واحدة.

والمرّة الثالثة ينفخ في الصور عند البعث وقيام القيامة .. إذ يحيا الموتى جميعاً بهذه إلّاأنّ الظاهر من الآية يدل على أنّ النفخة هنا إشارة إلى النفخة الاولى التي تقع في نهاية الدنيا.

و الآية التالية تشير إلى إحدى آيات عظمة اللَّه في هذا العالم الواسع، فتقول: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْ ءٍ».

فمن يكون قادراً على كل هذا النظم والإبداع في الخلق، لا ريب في علمه و «إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ».

______________________________

(1) و «الرجعة» من عقائد الشيعة المعروفة، وتفسيرها في عبارة موجزة بهذا النحو: بعد ظهور المهدي عليه السلام وبين يدي القيامة، يعود طائفة من المؤمنين الخلّص، وطائفة من الكفار الأشرار، إلى هذه الدنيا .. فالطائفة الاولى تصعد في مدارج الكمال ... والطائفة الثانية تنال عقابها الشديد.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 493

إنّ الآية آنفة الذكر من قبيل آيات التوحيد ودلائل عظمة اللَّه في هذه الدنيا، وتشير إلى حركة الأرض التي لا نحس بها، فالآية آنفة الذكر تعدّ من معاجز القرآن العلمية.

مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَ مَنْ

جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَ لَهُ كُلُّ شَيْ ءٍ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَ أَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَ مَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)

كان الكلام في الآيات السابقة عن أعمال العباد وعلم اللَّه بها، أمّا الآيات محل البحث فيقع الكلام في مستهلّها عن جزائهم وثواب أعمالهم وأمنهم من فزع يوم القيامة، إذ يقول سبحانه: «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءَامِنُونَ».

إنّ معنى الآية واسع كما أنّ الحسنة هنا معناها واسع أيضاً، فهي تشمل الصالحات والأعمال الخالصة، ومن ضمنها الإيمان باللَّه وبرسوله وولاية الأئمة من أهل البيت عليهم السلام، التي تعدّ في طليعة الأعمال الحسنة، ولا يمنع أن تكون هناك أعمال صالحة اخرى تشملها الآية.

ثم يتحدث القرآن عن الطائفة الاخرى التي تقابل أصحاب الحسنات فتقول: «وَمَن جَاءَ بِالسَّيّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمُ فِى النَّارِ».

وليس لهذه الطائفة أيّ توقع غيرها «هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

«كُبّت»: مأخوذ من «كبّ» على وزن «جدّ» ومعناه في الأصل إلقاء الشي ء على وجهه على الأرض، فبناء على هذا فإنّ ذكر «وجوههم» في الآية هو من باب التوكيد.

إنّ اولئك حين كانوا يواجهون الحقّ يُلوون وجوههم ورؤوسهم، وكانوا يواجهون الذنوب بتلك الوجوه فرحين ... فالآن لابدّ أن يبتلوا بمثل هذا العذاب.

ثم يوجه الخطاب للنبي صلى الله عليه و آله في الآيات الثلاث من آخر هذه السورة، ويؤكّد له هذه الحقيقة وهي أن يخبر اولئك المشركين بأنّ عليه أن يؤدّي رسالته

ووظيفته، سواءً آمنتم أم لم تؤمنوا؟! فتقول الآية الاولى من هذه الآيات: «إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ».

هذه البلدة المقدسة التي يتلخّص كل وجودكم وشرفكم بها.

أجل، أعبد ربّ هذه البلدة المقدسة «الَّذِى حَرَّمَهَا» وجعل لها خصائص وأحكاماً

مختصر الامثل، ج 3، ص: 494

وحرمة، وأموراً اخر لا تتمتع بها أية بلدة اخرى في الأرض.

لكن لاتتصوروا أنّ هذه البلدة وحدها للَّه، بل له كل شي في عالم الوجود «وَلَهُ كُلُ شَىْ ءٍ».

والأمر الثاني الذي أمرت به، هو أن أسلم وجهي له «وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ».

وهكذا فإنّ الآية بيّنت وظيفتين أساسيتين على النبي وهما (عبادة الواحد الأحد، والتسليم المطلق لأمره).

و الآية التالية تبيّن أسباب الوصول إلى هذين الهدفين فتقول: «وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْءَانَ».

أتلوه فأستضي ء بنوره، وأنتهل من عذب معينه الذي يهب الحياة، وأن أعول في جميع مناهجي على هديه. أجل، فالقرآن وسيلتي للوصول إلى هذين الهدفين المقدسين، والمواجهة لكل أنواع الشرك والإنحراف والضلال ومكافحتها.

ثم تعقب الآية لتحكي عن لسان الرسول وهو يخاطب قومه: لا تتصوروا أنّكم إذا آمنتم انتفعت من وراء ذلك لنفسي، كما أنّ اللَّه غني عنكم، بل: «فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ».

وكل ما يترتب على الهداية من منافع دنيوية، كانت أم اخروية فهي عائدة للمهتدي نفسه والعكس صحيح «وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ».

والأمر الأخير- في آخر آية من هذه السورة- موجه للنبي أن يحمد اللَّه على هذه النعم الكبرى، ولا سيما نعمة الهداية فيقول:

«وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ».

هذا الحمد أو الثناء يعود لنعمة القرآن، كما يعود للهداية أيضاً، ويمكن أن يكون مقدمة للجملة التالية: «سَيُرِيكُمْ ءَايتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا».

وهذا التعبير إشارة إلى أنّه مع مرور الزمان وتقدم العلم والمعرفة، سينكشف كل يوم بعض أسرار عالم الوجود، ويرفع ستار جديد عنها .. وستعرفون نعم اللَّه وعظمة قدرته وعمق حكمته يوماً بعد

يوم .. وإراءة الآيات هذه مستمرة دائماً ولا تنقطع مدى عمر البشر.

إلّا أنّكم إذا واصلتم طريق الخلاف والانحراف، فلن يترككم اللَّه سدى «وَمَا رَبُّكَ بِغفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ».

ولا تتصوروا بأنّ اللَّه إذا أخر عقابكم بلطفه، فهو غير مطلع على أعمالكم، وأنّها لا تسجل في اللوح المحفوظ.

وجملة «وَمَا رَبُّكَ بِغفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» الواردة بنفسها أو مع شي ء من التفاوت اليسير في تسع آيات من القرآن جملة موجزة، وهي تهديد ذو معنى عميق، وإنذار لجميع الناس.

«نهاية تفسير سورة النمل»

مختصر الامثل، ج 3، ص: 495

28 سورة القصص

محتوى السورة: هذه السورة نزلت في مكة، وفي ظروف كان المؤمنون في قبضة الأعداء الأقوياء وبين مخالبهم، الأعداء الذين كانوا أكثر عدداً وأشدّ قدرةً وقوةً ونفيراً.

وبما أنّ هذه الحالة كانت كثيرة الشبه بالحالة التي كان عليها بنو إسرائيل وهم بين مخالب الفراعنة، فإنّ قسماً من محتوى هذه السورة يتحدث عن قصة بني إسرائيل وموسى عليه السلام والفراعنة.

في بداية السورة يبشر المستضعفين بحكومة الحق والعدل لهم وكسر شوكة الظالمين، بشرى تمنحهم الإطمئنان والقدرة.

و «القسم الآخر» من هذه السورة يتحدّث عن «قارون»، ذلك الرجل المستكبر الثري الذي كان يعتمد على علمه وثروته، حتى لقي أثر غروره ما لقيه فرعون من مصير أسود.

احدهما غريق في الماء والآخر دفين في الأرض.

وبين هذين القسمين دروس حيّة وقيّمة من التوحيد والمعاد وأهمية القرآن، وبيان حال المشركين في يوم القيامة، ومسألة الهداية والضلالة، والإجابة على حجج الأفراد الضعاف، وهي «نتيجة» الأوّل و «مقدمة» للقسم الثاني.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ طسم القصص

مختصر الامثل، ج 3، ص: 496

اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بموسى وكذّب به، ولم يبق ملك في

السماوات والأرض إلّاشهد له يوم القيامة أنّه كان صادقاً».

وبديهي أنّ كل هذا الأجر والثواب هو لُاولئك الذين يقرأون ويتفكرون، وعلى ضوء هذه السورة يخططون لحياتهم وعملهم.

طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هَامَانَ وَ جُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)

هذه هي المرّة الرابعة عشرة التي نواجه بها بدايات السورة بالحروف المقطعة في القرآن، وقد تكررت فيها «طسم» ثلاث مرات، وهي هنا- أي «طسم»- ثالث المرات وآخرها.

إنّه يظهر من كثير من الروايات في شأن «طسم» أنّ هذه الحروف إشارات موجزة عن صفات اللَّه سبحانه وتعالى، أو أنّها أماكن مقدسّة، ولكنها في الوقت ذاته لا تمنع من ذلك التّفسير المعروف الذي أكّدنا عليه مراراً، وهو أنّ اللَّه تعالى يريد أن يوضح هذه الحقيقة للجميع، وهي أنّ هذا الكتاب السماوي العظيم الذي هو أساس التغيير الكبير في تأريخ البشرية وحامل المنهج المتكامل للحياة الكريمة للإنسانية يتشكّل من امور بسيطة كهذه الحروف «ألف باء ...» التي يستطيع أن يتلفظ بها كل صبّي.

ومن هنا تتجلى عظمة القرآن وأهميته القصوى، إذ يتألف من هذه الحروف البسيطة التي هي في اختيار الجميع.

ولعل هذا السبب كان داعياً لأن يكون الحديث بعد الحروف المقطعة مباشرةً عن عظمة القرآن، إذ يقول: «تِلْكَ ءَايتُ الْكِتبِ الْمُبِينِ».

والقرآن بعد ذكر هذه المقدمة يحكى قصة «فرعون» و «موسى» فيقول: «نَتْلُوا عَلَيْكَ

مِن

مختصر الامثل، ج 3، ص: 497

نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».

والتعبير «بالحق» إشارة إلى أنّ ما ورد هنا خال من كل خرافة واسطورة، وبعيد عن الأباطيل والأكاذيب، فهي إذن تلاوة مقترنة بالحق والواقعية.

والتعبير ب «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» هو تأكيد على هذه الحقيقة، وهي أنّ مؤمني ذلك العصر الذين كانوا يرزخون تحت ضغوط المشركين والأعداء، عليهم أن يدركوا هذه الحقيقة، وهي أنّ الأعداء مهما تعاظمت قواهم وتزايدوا عَدداً وعُدداً، وأنّ المؤمنين مهما قلّوا وكانوا تحت ضغط أعدائهم وكانوا ضعافاً بحسب الظاهر، فلا ينبغي أن يهنوا وينكصوا عن طريق الحق، فكل شي ء عند اللَّه سهل يسير ..

ثم يفصّل القرآن ما أجمله بقوله: «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِى الْأَرْضِ».

فقد كان عبداً ضعيفاً، وعلى أثر جهله وعدم معرفته أضاع شخصيته ووصل إلى مرحلة من الطغيان حتى أنّه ادّعى الربوبية.

والتعبير ب «الأرض» إشارة إلى أرض مصر وما حولها.

إنّ فرعون- من أجل تقوية قواعده الإستكبارية- قد أقدم على عدّة جرائم كبرى، فالجريمة الأولى، أنّه فرّق بين أهل مصر «وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا».

فلا يمكن أن تحكم الأقلية- التي لا تُعدّ شيئاً- على الأكثرية إلّابالخطة المعروفة «فرّق تَسُدْ» فهم مستوحشون من «كلمة التوحيد» و «توحيد الكلمة» ويخافون منهما أبداً، ويخافون من التفاف الناس بعضهم حول بعض.

إنّ فرعون قسّم أهل مصر إلى طائفتي «الأقباط» و «الأسباط».

فالأقباط هم أهل مصر «الأصليون» الذين كانوا يتمتعون بجميع وسائل الرفاه والراحة، وكانت في أيديهم القصور ودوائر الدولة والحكومة.

و «الأسباط» هم المهاجرون إلى مصر من بني إسرائيل الذين كانوا على هيئة العبيد والخدم «في قبضة الأقباط» وكانوا محاطين بالفقر والحرمان.

والجريمة الثانية هي استضعافه لجماعة من أهل مصر بشكل دموي سافر كما يعبر عن ذلك القرآن بقوله: «يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْىِ

نِسَاءَهُمْ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 498

ولكون ورود جملة «يُذَبّحُ أَبْنَاءَهُمْ» بعد جملة «يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ» فإنّ مسألة اخرى تتجلى أمامنا، وهي أنّ الفراعنة اتخذوا خطة لاستضعاف بني إسرائيل بذبح الأبناء، لئلا يستطيع بنو إسرائيل أن يواجهوا الفراعنة ويحاربوهم، وكانوا يتركون النساء اللاتي لا طاقة لهن على القتال والحرب، ليكبرن ثم يخدمن في بيوتهم. وفي آخر جملة تأتي الآية بتعبير جامع، وفيه بيان العلة أيضاً فتقول: «إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ».

والتعبير ب «يذبّح» المشتق من مادة «المذبح» تدل على معاملة الفراعنة لبني إسرائيل كمعاملة القصابين للأغنام والأنعام الاخرى، إذ كانوا يذبحون هؤلاء الناس الأبرياء ويحتزون رؤوسهم.

ثم تأتي الآية الاخرى لتقول: إنّ إرادتنا ومشيئتنا إقتضت احتواء المستضعفين بلطفنا وكرمنا؛ «وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الْأَرْضِ» وأن تشملهم رعايتنا ومواهبنا تكون بيد الحكومة ومقاليد الأمور: «وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ».

ويكونون اولي قوة وقدرة في الأرض «وَنُمَكّنْ لَهُمْ فِى الْأَرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهمنَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ».

فهي بشارة في صدد إنتصار الحق على الباطل والإيمان على الكفر.

وهي بشارة لجميع الأحرار الذين يريدون العدالة وحكومة العدل وانطواء بساط الظلم والجور.

وحكومة بني إسرائيل وزوال حكومة الفراعنة ما هي إلّانموذج لتحقق هذه المشيئة الإلهية والمثل الأكمل هو حكومة نبي الأعظم صلى الله عليه و آله وأصحابه بعد ظهور الإسلام.

والمثل الأكبر والأوسع هو ظهور حكومة الحق والعدالة على جميع وجه البسيطة- والكرة الأرضية- على يد «المهدي» أرواحنا له الفداء.

ومن الطبيعي أنّ حكومة المهدي عليه السلام العالمية في آخر الأمر لا تمنع من وجود حكومات إسلامية في معايير محدودة قبلها من قبل المستضعفين ضد المستكبرين، ومتى ما تمّت الظروف والشروط لمثل هذه المحكومات الإسلامية فإنّ وعد اللَّه المحتوم والمشيئة الإلهية سيتحققان في شأنها، ولابدّ

أن يكون النصر حليفها بإذن اللَّه.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 499

وَ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَ لَا تَخَافِي وَ لَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَ حَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هَامَانَ وَ جُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَ قَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ هُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)

في قصر فرعون: من أجل رسم مثل حي لانتصار المستضعفين على المستكبرين، يدخل القرآن المجيد في سرد قصة موسى وفرعون. يقول القرآن: «وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى الْيَمّ وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ».

وهذه الآية على إيجازها تشتمل على أمرين ونهيين وبشارتين، وهي خلاصة قصة كبيرة وذات أحداث ومجريات ننقلها بصورة مضغوطة:

كانت سلطة فرعون وحكومته الجائرة قد خططت تخطيطاً واسعاً لذبح «الأطفال» من بني إسرائيل حتى أنّ القوابل [من آل فرعون كنّ يراقبن النساء الحوامل [من بني إسرائيل ، ومن بين هؤلاء القوابل كانت قابلة لها علاقة مودّة مع أمّ موسى عليه السلام «وكان الحمل خفيّاً لم يظهر أثره على امّ موسى» وحين أحسّت امّ موسى بأنّها مقرب وعلى أبواب الولادة أرسلت خلف هذه القابلة وأخبرتها بالواقع، وأنّها تحمل جنيناً في بطنها وتوشك أن تضعه، فهي بحاجة- هذا اليوم- إليها.

وحين ولد موسى عليه السلام سطع نور بهيّ من عينيه فاهتزّت القابلة لهذا النور وطُبع حُبّه في قلبها، وأنار جميع زوايا قلبها، فالتفتت القابلة إلى امّ موسى وقالت لها: كنت أروم أن أخبر الجهاز الفرعوني بهذا الوليد ولكن ما عسى أن أفعل

وقد وقع حبّه الشديد في قلبي، فاهتمي بالمحافظة عليه، وأظنّ أنّ عدوّنا المتوقع سيكون هذا الطفل أخيراً.

ثم خرجت القابلة من بيت ام موسى فرآها بعض الجواسيس من جلاوزة فرعون وصمموا على أن يدخلوا البيت، فعرفت أخت موسى ما أقدموا عليه فأسرعت إلى امّها وأخبرتها بأن تتهيأ للأمر، وفي هذه الحالة من الإرتباك وهي ذاهلة لفت وليدها «موسى» بخرقة وألقته في التنور فإذا بالمأمورين والجواسيس يقتحمون الدار، فلم يجدوا شيئاً إلّا

مختصر الامثل، ج 3، ص: 500

مختصر الامثل ج 3 550

التنور المشتعل ناراً. وقد جعل اللَّه النار عليه برداً وسلاماً «اللَّه الذي نجّى إبراهيم الخليل من نار النمرود» فأخرجت وليدها سالماً من التنور.

لكن الام لم تهدأ إذ أنّ الجواسيس يمضون هنا وهناك ويفتشون البيوت.

وفي هذه الحال اهتدت ام موسى بإلهام جديد، فجاءت إلى نجّار مصري «وكان النجار من الأقباط والفراعنة أيضاً» فطلبت منه أن يصنع صندوقاً صغيراً.

والوقت كان فجراً والناس- بعد- نيام، وفي هذه الحال خرجت ام موسى وفي يديها الصندوق الذي أخفت فيه ولدها موسى، فاتجهت نحو النيل وأرضعت موسى حتى ارتوى، ثم ألقت الصندوق في النيل فتلقفته الأمواج.

ورد في الأخبار أنّ فرعون كانت له بنت مريضة، وكانت هذه البنت تعاني من آلام شديدة لم ينفعها علاج الأطباء، فلجأ إلى الكهنة فقالوا له: نتكهن ونتوقع أنّ إنساناً يخرج من البحر يكون شفاؤها من لعاب فمه حين يدهن به جسدها، وكان فرعون وزوجه «آسية» في إنتظار هذا «الحادث» وفي يوم من الأيام .. فجأة لاح لعيونهما صندوق تتلاطمه أمواج النيل فلفت الأنظار، فأمر فرعون عمّاله أن يأتوا به ليعرفوا ما به؟!

ومثّل الصندوق «المجهول» الخفي أمام فرعون، فلما وقعت عين آسية عليه سطع منه نور فأضاء قلبها، ودخل

حبّه في قلوب الجميع، وحين شفيت بنت فرعون من لعاب فمه زادت محبّته أكثر فأكثر.

ولنعد الآن إلى القرآن الكريم لنسمع خلاصة القصة من لسانه. يقول القرآن في هذا الصدد: «فَالْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا».

«التقط»: مأخوذة من مادة «التقاط» ومعناها في الأصل الوصول إلى الشي ء دون جهد وسعي، وإنّما سميت الأشياء التي يعثر عليها «لقطة» للسبب نفسه أيضاً ..

ثم تختتم الآية بالقول: «إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهمنَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خطِينَ». وأي خطأ أعظم من أن يحيدوا عن طريق العدل والحق، وأن يبنوا قواعد حكمهم على الظلم والجور والشرك.

وأي خطأ أعظم أن يذبحوا آلاف الأطفال ليقتلوا موسى عليه السلام، ولكن اللَّه سبحانه أودعه في أيديهم وقال لهم: خذوا عدوّكم هذا وربّوه ليكبر عندكم.

ويستفاد من الآية التالية أنّ شجاراً حدث ما بين فرعون وامرأته، ويحتمل أنّ بعض

مختصر الامثل، ج 3، ص: 501

أتباعه كانوا قد وقفوا عند رأس الطفل ليقتلوه، لأنّ القرآن الكريم يقول في هذا الصدد: «وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّى وَلَكَ لَاتَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا».

إنّ فرعون وجد في مخايل الطفل والعلائم الاخرى أنّ هذا الطفل من بني إسرائيل، فأراد أن يجري قانون إجرامه عليه. ولكن آسية امرأة فرعون التي لم ترزق ولداً ذكراً، وقفت بوجه فرعون وأعوانه ومنعتهم من قتله.

وإذا أضفنا قصة شفاء بنت فرعون بلعاب فم موسى- على ما قدمناه- فسيكون دليلًا آخر يوضح كيفية انتصار آسية في هذه الازمة.

ولكن القرآن- بجملة مقتضية وذات مغزى كبير- ختم الآية قائلًا: «وَهُمْ لَايَشْعُرُونَ».

أجل، إنّهم لم يشعروا أنّ أمر اللَّه النافذ ومشيئته التي لا تقهر، اقتضت أن يتربى هذا الطفل في أهم المراكز خطراً ... ولا أحد يستطيع أن يردّ هذه المشيئة، ولا يمكن مخالفتها

أبداً ..

وَ أَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَ قَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَ هُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَ حَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَ لَا تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)

عودة موسى إلى حضن امّه: في هذه الآيات تتجسد مشاهد جديدة .. فام موسى التي قلنا عنها: إنّها ألقت ولدها في أمواج النيل، بحسب ما فصّلنا آنفاً .. اقتحم قلبها طوفان شديد من الهمّ على فراق ولدها، فأوشكت أن تصرخ من أعماقها وتذيع جميع أسرارها، لكن لطف اللَّه تداركها، وكما يعبّر القرآن الكريم: «وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ». «الفارغ»: معناه الخالي، والمقصود به هنا أنّ قلب امّ موسى أصبح خالياً من كل شي ء إلّامن ذكر موسى؛ «ربطنا»: من مادة «ربط» ومعناها في الأصل شدّ وثاق الحيوان أو ما أشبهه بمكان ما ليكون محفوظاً في مكانه.

والمقصود من «ربط القلب» هنا تقويته .. أي تثبيت قلب ام موسى، لتؤمن بوعد اللَّه

مختصر الامثل، ج 3، ص: 502

وتتحمل هذا الحادث الكبير. وعلى أثر لطف اللَّه أحست امّ موسى بالاطمئنان، ولكنّها أحبت أن تعرف مصير ولدها، ولذلك أمرت أخته أن تتبع أثره وتعرف خبره: «وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصّيهِ».

«قصّيه»: مأخوذة من مادة «قصّ» ومعناها البحث عن آثار الشي ء، وإنّما سميّت القصة قصةً لأنّها تحمل في طياتها أخباراً مختلفة يتبع بعضها بعضاً.

فاستجابت «اخت موسى» لأمر امّها، وأخذت تبحث

عنه بشكل لا يثير الشبهة، حتى بصرت به من مكان بعيد، ورأت صندوقه الذي كان في الماء يتلقفه آل فرعون .. ويقول القرآن في هذا الصدد: «فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ».

ولكن اولئك لم يلتفتوا إلى أنّ أخته تتعقبه: «وَهُمْ لَايَشْعُرُونَ».

وعلى كل حال، فقد اقتضت مشيئة اللَّه أن يعود هذا الطفل إلى امّه عاجلًا ليطمئن قلبها، لذلك يقول القرآن الكريم:

«وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ» «1».

وطبيعي أنّ الطفل الرضيع حين تمر عليه عدة ساعات فإنّه يجوع ويبكي.

كان عمال القصر يركضون من بيت لآخر بحثاً عن مرضع له، والعجيب في الأمر أنّه كان يأبى أثداء المرضعات.

وهذا هو التحريم التكويني من قبل اللَّه تعالى إذ حرّم عليه المراضع جميعاً.

والطفل يبكي وعمال فرعون يدورون به بحثاً عن مرضع حتى صادفوا بنتاً أظهرت نفسها بأنّها لا تعرف الطفل: «فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهَلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نصِحُونَ».

فسرّ بها هؤلاء وجاءوا بام موسى إلى قصر فرعون، فلمّا شمّ الطفل رائحة امه التقم ثديها بشغف كبير.

في التفسير الكبير: لما قبل ثديها قال هامان إنّك لُامّه. قالت: لا. قال: فما بالك قبل ثديك من بين النسوة؟ قالت: أيّها الملك إنّي إمرأة طيّبة الريح حلوة اللبن ماشم ريحي صبي إلّاأقبل على ثديي. قالوا: صدقت. فلم يبق أحد من آل فرعون إلّاأهدى إليها وأتحفها بالذهب والجواهر.

أجل، إنّ اللَّه أراد لموسى أن يرتضع من لبن طاهر كلبن امّه ليستطيع أن ينهض بوجه

______________________________

(1) «المراضع»: جمع «مُرضِع» ومعناها المرأة التي تسقي الطفل لبنها من ثديها.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 503

الأرجاس ويحارب الآثمين.

وتمّ كل شي ء بأمر اللَّه: «فَرَدَدْنهُ إِلَى أُمّهِ كَى تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَايَعْلَمُونَ».

وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوَى آتَيْنَاهُ

حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17)

موسى عليه السلام وحماية المظلومين: في هذه الآيات نواجه المرحلة الثالثة من قصة موسى عليه السلام وما جرى له مع فرعون، وفيها مسائل تتعلق ببلوغه، وبعض الأحداث التي شاهدها وهو في مصر قبل أن يتوجه إلى «مدين» ثم سبب هجرته إلى مدين. تقول الآيات في البداية: «وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى ءَاتَيْنهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ».

«أشدّ»: مشتقة من مادة «الشدّة» وهي القوة.

«استوى»: مشتقة من «الاستواء» ومعناها كمال الخلقة واعتدالها.

والمراد بالحكم والعلم هنا ليس النبوة والوحي، بل المقصود من الحكم والعلم هما المعرفة والنظرة الثاقبة والقدرة على القضاء الصحيح وما شابه ذلك، وقد منح اللَّه هذه الامور لموسى عليه السلام لطهارته وصدقه وأعماله الصالحة.

وعلى كل حال فإنّ موسى «دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا».

يحتمل أنّ هذه المدينة هي عاصمة مصر.

والمقصود من جملة «عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا» هو أوّل الليل، لأنّ الناس يتركون أعمالهم ويعطلون دكاكينهم ومحلاتهم ابتغاء الراحة والنوم، وجماعة يذهبون للتنزه، وآخرون لأماكن اخرى .. هذه الساعة هي المعبر عنها بساعة الغفلة في بعض الروايات الإسلامية. في معاني الأخبار قال النبي صلى الله عليه و آله: «تنفّلوا في ساعة الغفلة ولو بركعتين خفيفتين فإنّهما تورثان دار الكرامة».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 504

قيل:

يا رسول اللَّه ومتى ساعة الغفلة؟ قال: «ما بين المغرب والعشاء». والحق أنّ هذه الساعة ساعة غفلة وكثيراً ما تحدث الجنايات والفساد والإنحرافات الأخلاقية في مثل هذه لساعة من أوّل الليل .. فلا الناس مشغولون بالكسب والعمل، ولا هم نائمون، بل هي حالة غفلة عمومية تغشى المدينة عادةً في هذه الساعة.

وموسى دخل المدينة، وهنالك واجه مشادّة ونزاعاً، فاقترب من منطقة النزاع «فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هذَا مِن شِيعَتِهِ وَهذَا مِنْ عَدُوّهِ».

والتعبير ب «شيعته» يدلّ على أنّ موسى قبل أن يبعث كان له أتباع وأنصار وشيعة من بني إسرائيل.

فلما بصر الإسرائيلي بموسى استصرخه، «فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِى مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِى مِنْ عَدُوّهِ».

فجاءه موسى عليه السلام لإستنصاره وتخليصه من عدوّه الظالم .. الذي يقال عنه أنّه كان طباخاً في قصر فرعون، وكان يريد من الإسرائيلي أن يحمل معه الحطب إلى القصر، فضرب موسى هذا العدو بقبضة يده القوية على صدره، فهوى إلى الأرض ميتاً في الحال. تقول الآية: «فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ» «1».

ومما لا شك فيه، فإنّ موسى لم يقصد أن يقتل الفرعوني، لذلك فإنّ موسى عليه السلام أسف على هذا الأمر: «قَالَ هذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطنِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ».

فإنّ موسى عليه السلام كان يريد أن يبعد الفرعوني عن الرجل الإسرائيلي، وإن كان الفرعونيون يستحقون أكثر من ذلك، لكن ظروف ذلك الوقت لم تكن تساعد على مثل هذا العمل.

ثم يتحدث القرآن عن موسى عليه السلام فيقول: «قَالَ رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ».

ومن المسلم به أنّ موسى عليه السلام لم يصدر منه ذنب هنا، بل ترك الأولى، فكان ينبغي عليه أن يحتاط لئلا يقع في مشكلة، ولذلك فإنّه استغفر ربّه وطلب

منه العون.

لذلك فإنّ موسى عليه السلام حين نجا بلطف اللَّه من هذا المأزق: «قَالَ رَبّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَىَّ» من عفوك عني وانقاذي من يد الأعداء وجميع ما أنعمت علي منذ بداية حياتي لحدّ الآن «فَلَنْ

______________________________

(1) «وكز»: مأخوذ من «الوكز» ومعناه الضرب بقبضة اليد، وهناك معان اخرى لا تناسب المقام.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 505

أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ»، ومعيناً للظالمين.

ويريد موسى عليه السلام أن يقول: «إنّه لا يكون بعد هذا مع فرعون وجماعته أبداً .. بل سيكون إلى جانب الإسرائيليين المضطهدين ..».

فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَ مَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَ لَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)

موسى يتوجّه إلى مدين خُفية: نواجه في هذه الآيات المقطع الرابع من هذه القصة ذات المحتوى الكبير، حيث إنّ مقتل الفرعوني في مصر انتشر بسرعة، ولعل اسم موسى عليه السلام كان مذكوراً من بين بني إسرائيل المشتبه فيهم. لذلك يقول القرآن في بداية هذا المقطع: «فَأَصْبَحَ فِى الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ» «1». وهو على حال من الترقب والحذر، فوجي ء في اليوم التالي بالرجل الإسرائيلي الذي آزره موسى بالأمس يتنازع مع قبطي آخر وطلب من موسى أن ينصره: «فَإِذَا الَّذِى اسْتَنصَرَهُ

بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ» «2».

ولكن موسى تعجب منه واستنكر فعله و «قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُّبِينٌ». إذ تحدث كل يوم نزاعاً ومشادة مع الآخرين.

ولكنّه كان مظلوماً في قبضة الظالمين (وسواء كان مقصراً في المقدمات أم لا) فعلى موسى عليه السلام أن يعينه وينصره. «فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أن يَبْطِشَ بِالَّذِى هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا» صاح ذلك القبطي: «قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ». ويبدو من عملك هذا أنّك لست إنساناً منصفاً، «إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِى الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ

______________________________

(1) «يترقب»: مأخوذ من «الترقب»، ومعناه الإنتظار، وموسى هنا في انتظار نتائج هذه الحادثة.

(2) «يستصرخ»: مشتقة من مادة «الإستصراخ»، ومعناها الإستغاثة، ولكنّها في الأصل تعني الصياح أو طلب الصياح من الآخر، وهذا عادة ملازم للإعانة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 506

الْمُصْلِحِينَ». وهذه العبارة تدلّ بوضوح على أنّ موسى عليه السلام كان في نيّته الإصلاح من قبل، سواءً في قصر فرعون أو خارجه.

ومن جهة اخرى فإنّ الأخبار وصلت إلى قصر فرعون فأحسّ فرعون ومن معه في القصر أنّ تكرار مثل هذه الحوادث ينذره بالخطر، فعقد جلسة شورى مع وزرائه وانتهى «مؤتمرهم» إلى أن يقتلوا موسى، وكان في القصر رجل له علاقة بموسى فمضى إليه وأخبره بالمؤامرة .. وكما يقول القرآن الكريم: «وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنّى لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ».

وهذا الرجل هو «مؤمن آل فرعون» الذي كان يكتم إيمانه ويدعى «حزقيل» وكان من أسرة فرعون.

أمّا موسى عليه السلام فقد تلقى الخبر من هذا الرجل بجدّية وقبل نصحه ووصيته في مغادرة المدينة، «فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ».

وتضرع إلى اللَّه بإخلاص وصفاء قلب ليدفع عنه شرّ

القوم و «قَالَ رَبّ نَجّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ».

ثم قرر موسى عليه السلام أن يتوجه إلى مدينة «مدين» التي كانت تقع جنوب الشام وشمال الحجاز، وكانت بعيدة عن سيطرة مصر والفراعنة؛ إلّاأنّه كان لديه في هذا الطريق وعواطفه رأس مال كبير وكثير لا ينفد أبداً، وهو الإيمان باللَّه والتوكل عليه، لذا لم يكترث بأي شي ء وواصل السير .. «وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاءَ السَّبِيلِ» «1».

وَ لَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَ أَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَ قَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)

______________________________

(1) «تلقاء»: مصدر أو اسم مكان، ومعناه هنا: الجهة والصوب الذي قصده.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 507

عمل صالح يفتح لموسى أبواب الخير: نواجه هنا المقطع الخامس من هذه القصة، وهي قضية ورود موسى عليه السلام إلى مدينة مدين.

قيل: إنّ هذا الشاب الطاهر قطع الطريق في ثمانية أيام، حتى لقي ما لقي من النصب والتعب، وورمت قدماه من كثرة المشي.

وكان يقتات من نبات الأرض وأوراق الشجر دفعاً لجوعه.

وبدأت معالم «مدين» تلوح له من بعيد شيئاً فشيئاً، وأخذ قلبه يهدأ ويأنس لإقترابه من المدينة. يقول القرآن في هذا الصدد: «وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ» «1».

فحركه هذا المشهد ... حفنة من الشبان الغلاظ يملأون الماء ويسقون الأغنام،

ولا يفسحون المجال لأحد حتى يفرغوا من أمرهم .. بينما هناك امرأتان تجلسان في زاوية بعيدة عنهم، وعليهم آثار العفة والشرف، جاء إليهما موسى عليه السلام ليسألهما عن سبب جلوسهما هناك و «قَالَ مَا خَطْبُكُمَا» «2».

لم يرق لموسى عليه السلام أن يرى هذا الظلم، فلم يتحمل ذلك كلّه، فهو المدافع عن المحرومين ومن أجلهم خرج من وطنه.

فقالت البنتان: إنّهما تنتظران تفرق الناس وأن يسقي هؤلاء الرعاة أغنامهم: «قَالَتَا لَانَسْقِى حَتَّى يُصْدِرَ الرّعَاءُ» «3».

ومن أجل أن لا يسأل موسى: أليس لكما أب؟ ولماذا رضي بإرسال بناته للسقي مكانه، أضافتا مكملتين كلامهما: «وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ».

فتأثر موسى عليه السلام من سماعه حديثهما بشدّة، فتقدم وأخذ الدلو وألقاها في البئر .. يقال: إنّ هذه الدلو كان يجتمع عليها عدّة نفر ليخرجوها بعد امتلائها من الماء، إلّاأنّ موسى عليه السلام استخرجها بقوته وشكيمته وهمّته بنفسه دون أن يعينه أحد: «فَسَقَى لَهُمَا» أغنامهما.

ولكن موسى عليه السلام بالرغم من تعب السير في الطريق والجوع ملأ الدلو وسحبها بنفسه وسقى أغنام المرأتان جميعها .. «ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظّلّ فَقَالَ رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ».

______________________________

(1) «تذودان»: مشتقة من «ذود» ومعناها المنع، فهما إذاً كانتا تذودان أغنامهما لئلا تختلط بالأغنام الاخرى.

(2) ما خطبكما: أي ما شأنكما وما شغلكما هنا؟!

(3) «يصدر»: مأخوذ من مادة «صدر» ومعناه الخروج من الماء؛ و «الرعاء»: جمع راعٍ، وهو سائس الغنم.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 508

أجل .. إنّه متعب وجائع، ولا أحد يعرفه في هذه المدينة. لكن هلمّ إلى العمل الصالح، فكم له من أثر محمود، خطوة نحو اللَّه، فتح لموسى فصلًا جديداً، وهيأ له من عالم عجيب من البركات المادية والمعنوية .. ووجد ضالته التي ينبغي أن يبحث

عنها سنين طوالًا. وبداية هذا الفصل عندما جاءته احدى البنتين تخطو بخطوات ملؤها الحياء والعفة ويظهر منها أنّها تستحي من الكلام مع شاب غريب: رجوعهما إليه بهذه السرعة على غير ما اعتادتا عليه، فقصتا عليه الخبر، فأرسل خلفه «فَجَاءَتْهُ إِحْدَيهُمَا تَمْشِى عَلَى اسْتِحْيَاءٍ» فلم تزد على أن «قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا».

فلمع في قلبه إشراقٌ من الأمل، وكأنّه أحس بأن سيواجه رجلًا كبيراً .. رجلًا عارفاً بالحق وغير مستعد أن يترك أي عمل حتى لو كان مل ء الدلو أن يجزيه عليه.

أجل، لم يكن ذلك الشخص الكبير سوى «شعيب».

تحرك موسى عليه السلام ووصل منزل شعيب، وطبقاً لبعض الروايات، فإنّ البنت كانت تسير أمام موسى لتدله على الطريق، إلّاأنّ الهواء كان يحرّك ثيابها وربّما انكشف ثوبها عنها، ولكن موسى لما عنده من عفّة وحياء طلب منها أن تمشي خلفه وأن يسير أمامها، فإذا ما وصلا إلى مفترق طرق تدله وتخبره من أي طريق يمضي إلى دار أبيها شعيب.

دخل موسى عليه السلام منزل شعيب عليه السلام، يقول القرآن في هذا الصدد: «فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَاتَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ». فالتفت موسى إلى أنّه وجد استاذاً عظيماً .. كما أحسّ شعيب أنّه عثر على تلميذ جدير ولائق.

قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَ مَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذلِكَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)

موسى في دار شعيب: هذا هو

المقطع السادس من قصّة حياة موسى عليه السلام المثيرة، جاء موسى إلى منزل شعيب، وبعد أن قصّ عليه قصّته، بادرت إحدى بنتي شعيب بالقول: إنّني أقترح أن تستأجره لحفظ الأغنام ورعايتها: و «قَالَتْ إِحْدَيهُمَا يَا أَبَتِ اسْتْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ

مختصر الامثل، ج 3، ص: 509

اسْتْجَرْتَ الْقَوِىُّ الْأَمِينُ».

فرضي شعيب عليه السلام باقتراح إبنته، وتوجه إلى موسى و «قَالَ إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَىَّ هتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِى ثَمنِىَ حِجَجٍ». ثم أضاف قائلًا: «فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ».

فلا أريد إيذاءك «وَمَا أَرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِى إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ».

واستجابة لهذا القرار والعقد الذي أنشأه شعيب مع موسى .. وافق موسى و «قَالَ ذلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ». ثم أردف مضيفاً بالقول:

«أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَىَّ». أي سواءً قضيت عشر سنين أو ثماني سنين «حجج» فلا عدوان عليّ.

ومن أجل استحكام العقد بينهما جعل موسى عليه السلام اللَّه كفيلًا وقال: «وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ».

وبهذه البساطة أصبح موسى صهراً لشعيب على إبنته.

فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَ سَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَ لَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَ اضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَ مَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ

مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَ أَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَ مَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 510

الشرارة الاولى للوحي: نصل الآن- إلى المقطع السابع- من هذه القصة ..

لا يعلم أحد- بدّقة- ما جرى على موسى في سنواته العشر مع شعيب، ولا شك أنّ هذه السنوات العشر كانت من أفضل سنوات العمر لموسى عليه السلام. ومن البديهي أنّ موسى عليه السلام لا يقنع في قضاء جميع عمره برعي الغنم، وإن كان وجود «شعيب» إلى جانبه يعدّ غنيمة كبرى، فعليه أن ينهض إلى نصرة قومه، وأن يخلصهم من قيود الأسر، وينقذهم من حالة الجهل وعدم المعرفة.

إنّ القرآن يقول في أوّل من آية هذا المقطع: «فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ ءَانَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا». ثم التفت إلى أهله و «قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنّى ءَانَسْتُ نَارًا لَّعَلّى ءَاتِيكُم مّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ». أي (تتدفؤون).

«آنست»: مشتقة من مادة «إيناس»، ومعناها المشاهدة والرؤية المقترنة بالهدوء والراحة. «جذوة»: هي القطعة من النار.

ويستفاد من قوله «لَّعَلّى ءَاتِيكُم مّنْهَا بِخَبَرٍ» أنّه كان أضاع الطريق، كما يستفاد من جملة «لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» أنّ الوقت كان ليلًا بارداً.

«فَلَمَّا أَتهَا». أي أتى النار التي آنسها ورآها، فتعجب موسى من ذلك: «نُوِدىَ مِن شطِىِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِى الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ».

«الشاطى ء»: معناه الساحل؛ و «الوادي»: معناه الطريق بين الجبلين، أو ممر السيول؛ و «الأيمن»: مشتق من «اليمين» خلاف اليسار، وهو صفة للوادي؛ و «البقعة»: القطعة من الأرض المعروفة

الأطراف.

ولا شك أنّ اللَّه سبحانه قادر على أن يجعل الأمواج الصوتية في كل شى ء، فأوجد في الوادي شجرة ليكلّم موسى.

ومع الإلتفات إلى أنّ موسى عليه السلام سيتحمل مسؤولية عظيمة وثقيلة .. فينبغي أن تكون عنده معاجز عظيمة من قبل اللَّه تعالى مناسبة لمقامه النبوي، وقد أشارت الآيات إلى قسمين مهمين من هذه المعاجز:

الاولى قوله تعالى: «وَأَن أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقّبْ».

في هذه الحال سمع موسى عليه السلام مرّة اخرى النداء من الشجرة: «يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْأَمِنِينَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 511

«الجانّ»: في الأصل معناه الموجود غير المرئي، كما يطلق على الحيات الصغار اسم (جان) أيضاً؛ لأنّها تعبر بين الأعشاب والأحجار بصورة غير مرئية.

كانت المعجزة الاولى آية «من الرعب»، ثم أمر أن يظهر المعجزة الثانية وهي آية اخرى «من ا لنور والأمل» ومجموعهما سيكون تركيباً من «الإنذار» و «البشارة» إذ جاءه الأمر: «اسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ». فالبياض الذي يكون على يده للناس لم يكن ناشئاً عن مرض- كالبرص ونحوه- بل كان نوراً إلهياً جديداً.

لقد هزّت موسى عليه السلام مشاهدته لهذه الامور الخارقة للعادات في الليل المظلم وفي الصحراء الخالية .. ومن أجل أن يهدأ روع موسى من الرهب، فقد أمر أن يضع يده على صدره: «وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ».

وجاء موسى النداء معقّباً: «فَذنِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَبّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فسِقِينَ».

هنا تذكر موسى عليه السلام حادثة مهمّة وقعت له في حياته بمصر، وهي قتل القبطي، وتعبئه القوى الفرعونية لإلقاء القبض عليه وقتله. لذلك فإنّ موسى: «قَالَ رَبّ إِنّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ».

وبعد هذا كلّه فإنّي وحيد ولساني

غير فصيح، «وَأَخِى هرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِىَ رِدْءًا يُصَدّقُنِى إِنّى أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ». «أفصح»: مشتقة من «الفصيح» وهو في الأصل كون الشي ء خالصاً، كما تطلق على الكلام الخالص من كل حشو وزيادة كلمة «الفصيح» أيضاً. و «الردء»: معناه المعين والمساعد.

فأجاب اللَّه دعوته، وطمأنه بإجابة ما طلبه منه و «قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا» فالسلطة والغلبة لكما في جميع المراحل.

وبشرهما بالنصر والفوز، وأنّه لن يصل إليهما سوء من أولئك؛ إذ قال سبحانه: «فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بَايَاتِنَا». فبهذه الآيات والمعاجز لن يستطيعوا قتلكما أو الاضرار بكما «أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ».

فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَ مَا سَمِعْنَا بِهذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَ قَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 512

موسى في مواجهة فرعون: نواجه المقطع الثامن من هذه القصة العظيمة .. لقد تلقى موسى عليه السلام من ربّه الأمر بأن يصدع بالنبوّة والرسالة في تلك الليلة المظلمة والأرض المقدّسة، فوصل إلى مصر، وأخبر أخاه هارون بما حُمّل .. فذهبا معاً إلى فرعون ليبلغاه رسالة اللَّه. يقول القرآن في أوّل آية من هذا المقطع: «فَلَمَّا جَاءَهُم مُّوسَى بَايَاتِنَا بَيّنَاتٍ قَالُوا مَا هذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى».

وأنكروا أن يكونوا سمعوا مثل ذلك، «وَمَا سَمِعْنَا بِهذَا فِى ءَابَائِنَا الْأَوَّلِينَ».

فواجهوا موسى متوسلين بحربة توسل بها جميع الجبابرة والضالون على طول التاريخ، حين رأوا المعاجز من أنبيائهم .. وهي حربة «السحر».

لكن موسى عليه السلام أجابهم بلهجة التهديد والوعيد، حيث يكشف لنا القرآن هذا الحوار «وَقَالَ مُوسَى رَبّى أَعْلَمُ بِمَن جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ

لَهُ عقِبَةُ الدَّارِ».

إشارة إلى أنّ اللَّه يعلم حالي، وهو مطلع علي بالرغم من اتهامكم إيّاي بالكذب ..

ثم بعد هذا، لو كان كلامي كذباً فأنا ظالم و «إِنَّهُ لَايُفْلِحُ الظَّالِمُونَ».

وَ قَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلهِ مُوسَى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَ اسْتَكْبَرَ هُوَ وَ جُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَ أَتْبَعْنَاهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)

كيف كان عاقبة الظالمين: نواجه هنا المقطع التاسع من هذا التاريخ الملي ء بالأحداث والعبر.

فقد شاع خبر إنتصار موسى عليه السلام على السحرة في مصر، وموقع الحكومة الفرعونية أصبح في خطر جدي شديد. فيجب صرف أفكار الناس، واشغالهم بسلسلة من المشاغل الذهنية، لإغفال الناس وتحميقهم. وفي هذا الصدد يتحدث القرآن الكريم عن جلوس

مختصر الامثل، ج 3، ص: 513

فرعون للتشاور في معالجة الموقف، إذ نقرأ في أوّل آية من هذا المقطع: «وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلهٍ غَيْرِى».

فأنا إلهكم في الأرض .. أمّا إله السماء فلا دليل على وجوده، ولكنّني سأتحقق في الأمر ولا أترك الإحتياط، فالتفت إلى وزيره هامان وقال: «فَأَوْقِدْ لِى يَا همنُ عَلَى الطّينِ». ثم أصدر الأوامر ببناء برج أو قصر مرتفع جدّاً لأصعد عليه واستخبر عن إله موسى. «فَاجْعَلْ لِّى صَرْحًا لَّعَلّى أَطَّلِعُ إِلَى إِلهِ مُوسَى وَإِنّى لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكذِبِينَ».

ولمّا بلغ البناء تمامه .. جاء فرعون بنفسه

يوماً وصعده بتشريفات خاصة.

المعروف أنّه رمى سهماً إلى السماء، فرجع السهم مخضباً بالدم على أثر إصابته لأحد الطيور أو أنّها كانت خديعة من قبل فرعون من قبل .. فنزل فرعون من أعلى القصر وقال للناس: اذهبوا واطمأنوا فقد قتلت إله موسى.

ومن المسلم به أنّ جماعة من البسطاء الذين يتبعون الحكومة اتباعاً أعمى وأصم، صدّقوا ما قاله فرعون ونشروه في كل مكان، وشغلوا الناس بهذا الخبر لإغفالهم عن الحقائق.

بعد هذا كلّه يتحدث القرآن عن استكبار فرعون ومن معه، وعدم إذعانهم لمسألتي «المبدأ والمعاد» بحيث كان فرعون يرتكب ما يشاء من إجرام وجنايات بسبب إنكار هذين الأصلين فيقول: «وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَايُرْجَعُونَ».

لكن لننظر إلى أين وصل هذا الغرور بفرعون وجنوده؟ يقول القرآن الكريم: «فَأَخَذْنهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنهُمْ فِى الْيَمّ». أجل، لقد جعلنا سبب موتهم في مصدر معيشتهم، وجعلنا النيل الذي هو رمز عظمتهم وقوّتهم مقبرةً لهم.

إنّ تعبير «نبذناهم» من مادة «نبذ»، ومعناه رمي الأشياء التي لا قيمة لها وطرحها بعيداً.

ثم، يختتم الآية بالتوجه إلى النبي صلى الله عليه و آله قائلًا: «فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عقِبَةُ الظَّالِمِينَ».

ثم يضيف القرآن قائلًا في شأنهم: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيمَةِ لَايُنصَرُونَ». فكما أنّهم كانوا في هذه الدنيا أئمّة الضلال، فهم في الآخرة- أيضاً- أئمة النار، لأنّ ذلك العالم تجسم كبير لهذا العالم.

ولمزيد التأكيد يصور القرآن صورتهم وماهيتهم في الدنيا والآخرة: «وَاتَّبَعْنَاهُمْ فِى

مختصر الامثل، ج 3، ص: 514

هذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيمَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ».

لعنة اللَّه معناها طردهم من رحمته، ولعنة الملائكة والمؤمنين هي الدعاء عليهم صباحاً ومساءً.

وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَ هُدًى وَ رَحْمَةً

لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَ مَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَ مَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَ لكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَ مَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَ لكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَ مَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَ لكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)

نصل في هذا القسم من الآيات إلى «المقطع العاشر» وهو القسم الأخير من الآيات التي تتعلق بقصة موسى وما تحمله من معان كبيرة، وهي تتحدث عن نزول الأحكام، والتوراة، أي إنّها تتحدث عن انتهاء الدور السلبي «الطاغوت» وبداية «الدور الإيجابي» والبناء. يبدأ هذا المقطع بالآية التالية: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتبَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ».

وفي أنّ المقصود من «القرون الاولى» من هم؟ قال بعض المفسرين: هو إشارة إلى الكفار من قوم نوح وعاد وثمود وأمثالهم، لأنّه بتقادم الزمان ومضيّه تمحي آثار السابقين.

وقال بعض المفسرين: هو إشارة إلى هلاك قوم فرعون الذين كانوا بقايا الأقوام السابقين، لأنّ اللَّه سبحانه آتى موسى كتاب «التوراة» بعد هلاكهم.

ولكنّه لا مانع من أن يكون المقصود بالقرون الاولى في الآية شاملًا لجميع الأقوام.

«البصائر»: جمع «بصيرة» ومعناها الرؤية، والمقصود بها هنا الآيات والدلائل التي تستوجب إنارة قلوب المؤمنين ..

و «الهدى» و «الرحمة» أيضاً من لوازم البصيرة .. وعلى أثرها تتيقظ القلوب.

ثم يبيّن القرآن الكريم هذه الحقيقة، وهي أنّ ما ذكرناه لك يا رسول اللَّه، في شأن موسى

مختصر الامثل، ج 3، ص: 515

وفرعون وما جرى بينهما بدقائقه، هو في نفسه دليل على حقانيّة القرآن، لأنّك لم تكن «حاضراً» في هذه «الميادين» التي كان

يواجه موسى فيها فرعون وقومه، ولم تشهدها بعينيك .. بل هو من الطاف اللَّه عليك، إذ أنزل عليك هذه الآيات لهداية الناس .. يقول القرآن: «وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ». أي الأمر بالنبوّة؛ «وَمَا كُنتَ مِنَ الشهِدِينَ».

ثم يضيف القرآن: «وَلكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ». وتقادم الزمان حتى اندرست آثار الأنبياء وهدايتهم في قلوب الناس، لذلك أنزلنا عليك القرآن وبيّنا فيه قصص الماضين ليكون نوراً وهدى للناس.

ثم يضيف القرآن الكريم: «وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِى أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ [/ أي: على أهل مكة] ءَايَاتِنَا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» «1».

وأوحينا إليك هذه ا لأخبار الدقيقة التي تتحدث عن آلاف السنين الماضية .. لتكون عبرة للناس وموعظة للمتقين «2».

وتأكيداً على ما سبق بيانه يضيف القرآن الكريم قائلًا: «وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا». أي: نادينا موسى بأمر النبوة، ولكنّنا أنزلنا إليك بهذه الأخبار رحمة من اللَّه عليك «وَلكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ».

وَ لَوْ لَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْ لَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْ لَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَ قَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)

______________________________

(1) «ثاوي»: مشتق من (ثوى) ومعناه الإقامة المقرونة بالإستقرار، ولذا سمّي المستقر

والمكان الدائم بالمثوى

(2) كان بين ظهور موسى عليه السلام وظهور النبي (محمّد صلى الله عليه و آله) حدود ألفي عام.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 516

ذريعة للفرار من الحق: حيث إنّ الآيات- آنفة الذكر- كانت تتحدث عن إرسال النبي صلى الله عليه و آله لينذر قومه، ففي هذه الآيات يبيّن القرآن ما ترتب من لطف اللَّه على وجود النبي في قومه فيقول: إنّنا وقبل أن نرسل إليهم رسولًا ا ذا أردنا إنزال العذاب عليهم بسبب ظلمهم وسيئاتهم قالوا: لماذا لم ترسل لنا رسول يبيّن لنا أحكامك لنؤمن به: «وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ ءَايَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ». هذه الآية تشير إلى موضوع دقيق، وهو أنّ طريق الحق واضح وبيّن ... وكل «عقل» حاكم ببطلان الشرك وعبادة الأصنام ..

وقبح كثير من الأعمال التي تقع نتيجة الشرك وعبادة الأصنام- كالمظالم وما شاكلها- هي من مستقلات حكم العقل.

ثم تتحدث الآيات عن معاذير أولئك، وتشير إلى أنّهم- بعد إرسال الرسل- لم يكفّوا عن الحيل والذرائع الواهية، واستمروا على طريق الانحراف، فتقول الآية: «فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِىَ مِثْلَ مَا أُوتِىَ مُوسَى .

فلم لم تكن عصا موسى في يده؟ ولم لا تكون يده بيضاء «كيد موسى»؟ ولم لا ينشقّ البحر له كما انشقّ لموسى؟ ولِمَ لَم ... الخ.

فيجيب القرآن على مثل هذه الحجج، ويقول: «أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِىَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا». أي: موسى وهارون، تعاونا فيما بينهما ليضلونا عن الطريق «وَقَالُوا إِنَّا بِكُلّ كفِرُونَ».

إنّ مشركي مكة المعاندين كانوا يصرّون على أنّه لِم لَم يأت النبي صلى الله عليه و آله بمعاجز كمعاجز موسى، ومن جهة اخرى

لم يكونوا يعترفون بما يجدونه في «التوراة» من علائمه وأوصافه ولا يؤمنون بالقرآن المجيد وآياته العظيمة. لذا يخاطب القرآن النبي محمّداً صلى الله عليه و آله ليتحدّاهم بأن يأتوا بكتاب أسمى من القرآن: «قُلْ فَأْتُوا بِكِتبٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صدِقِينَ».

ثم يضيف القرآن: «فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ». ولكن من أضيع منهم، «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَيهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الظلِمِينَ».

ومن الطريف هنا أنّ روايات عديدة تفسّر الآية بأنّ المراد منها من ترك إمامه وقائده

مختصر الامثل، ج 3، ص: 517

الإلهي واتبع هواه.

وهذه الرّوايات هي من قبيل المصداق البارز. وبتعبير آخر: إنّ الإنسان محتاج لهداية اللَّه ... هذه الهداية تارة تنعكس في كتاب اللَّه، واخرى في وجود النبي وسنته، واخرى في أوصيائه المعصومين، واخرى في منطق العقل.

المهم أن يكون الإنسان في خطّ الهداية الإلهية غير متبع لهواه، ليستطيع أن يستضي ء بهذه الأنوار.

وَ لَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَ يَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَ إِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَ قَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَ لَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)

سبب النّزول

نقل المفسرون ورواة الأخبار روايات كثيرة ومختلفة في شأن نزول الآيات المتقدمة، والجامع المشترك فيها واحد، وهو إيمان طائفة من علماء اليهود والنصارى والأفراد الذين يتمتعون بقلوب طاهرة- بالقرآن ونبي الخاتم صلى الله عليه و آله.

قال سعيد بن جبير نزلت في سبعين من

القسيسين بعثهم النجاشي فلما قدموا على النبي صلى الله عليه و آله قرأ عليهم «يس والقرآن الحكيم» حتى ختمها فجعلوا يبكون وأسلموا.

التّفسير

طلاب الحق من أهل الكتاب آمنوا بالقرآن: حيث إنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن حجج المشركين الواهية أمام الحقائق التي يقدّمها القرآن الكريم، فإنّ هذه الآيات محل البحث تتحدث عن القلوب المهيّأة لقبول قول الحق. يقول القرآن في هذا الصدد: لقد أنزلنا لهم آيات القرآن تباعاً، «وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ».

إلّا أنّ (اليهود والنصارى) «الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتبَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ». لأنّهم

مختصر الامثل، ج 3، ص: 518

يرونه منسجماً مع ما ورد في كتبهم السماوية من علامات ودلائل.

ثم يضيف القرآن في وصفهم قائلًا: «وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا ءَامَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّنَا».

ثم يضيف القرآن متحدثاً عنهم: إنّنا مسلمون لا في هذا اليوم فحسب، بل «إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ». ثم يتحدث القرآن الكريم عن هذه الجماعة التي آمنت بالنبي من غير تقليد أعمى، وإنّما طلباً للحق، فيقول: «أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا».

فمرّة لإيمانهم بكتابهم السماوي الذي كانوا صادقين أوفياء لعهدهم معه ... ومرّة اخرى لإيمانهم بنبيّ الإسلام العظيم صلى الله عليه و آله النبي الموعود المذكور عندهم في كتبهم السماوية.

ثم يشير القرآن الكريم إلى بعض أعمالهم الصالحة من قبيل «دفع السيئة بالحسنة» و «الإنفاق مما رزقهم اللَّه» و «المرور الكريم باللغو والجاهلين» وكذلك الصبر والإستقامة، وهي خصال أربع ممتازة. حيث يقول في شأنهم القرآن الكريم: «وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيّئَةَ».

والخصلة الاخرى في هؤلاء الممدوحين بالقرآن أنّهم: «وَمِمَّا رَزَقْنهُمْ يُنفِقُونَ».

وليس الإنفاق من الأموال فحسب، بل من كل ما رزقهم اللَّه من العلم والقوى الفكرية والجسميّة والوجاهة الإجتماعية، وجميع هذه الامور من مواهب اللَّه ورزقه-

فهم ينفقون منها في سبيل اللَّه.

وآخر صفة ممتازة بيّنها القرآن في شأنهم قوله: «وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ».

ولم يردّوا الجهل بالجهل واللغو باللغو، بل «وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ».

ثم يضيف القرآن في شأنهم حين يواجهون الجاهلين يقولون: «سَلمٌ عَلَيْكُمْ لَانَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ». أجل، هؤلاء العظام هم الذين يستطيعون أن يستوعبوا رسالة الإيمان في نفوسهم، والذين بذلوا جهداً وقاوموا أنواع الصعاب ليصلوا إلى معنى «الإيمان».

إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَ قَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْ ءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)

الهداية بيد اللَّه وحده: إنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن طائفتين: طائفة من

مختصر الامثل، ج 3، ص: 519

مشركي أهل مكة المعاندين، كان رسول صلى الله عليه و آله شديد الإصرار على هدايتهم؛ وطائفة من أهل الكتاب والأفراد البعيدين عن مكة، تلقوا هداية اللَّه برحابة صدر، ولم يستوحشوا من الضغوط والعزلة وما إلى ذلك.

فمع الإلتفات إلى كل هذه الامور، نلاحظ أنّ الآية الاولى من هاتين الآيتين تكشف الستار عن هذه الحقيقة فتقول: «إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ».

والمقصود من الهداية ليس «إراءة الطريق»، لأنّ إراءة الطريق هي من وظيفة النبي صلى الله عليه و آله، وتشمل جميع الناس دون استثناء، بل المقصود من الهداية هنا هو «الإيصال للمطلوب والهدف»، والإيصال إلى المطلوب وإلى الهدف هو بيد اللَّه وحده.

إنّ هذه الآية بمثابة التسلية والتثبيت لقلب النبي ليطمئن إلى هذه الحقيقة، وهي إنّه لا إصرار المشركين وعنادهم وإن كانوا من أهل مكة، ولا إيمان

أهل الحبشة ونجران وغيرهما أمثال سلمان الفارسي وبحيرا الراهب من دون دليل وسبب.

فعليه أن لا يكترث لعدم إيمان الطائفة الأولى.

وفي الآية الثانية- من الآيتين محل البحث- يتحدث القرآن الكريم عن طائفة اعترفوا بالإسلام في واقعهم وأيقنت به قلوبهم، إلّا أنّهم لم يظهروا إيمانهم بسبب منافع شخصية وملاحظات ذاتية، حيث يقول: «وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا».

هذا الكلام لا يقوله إلّامن يستضعف قدرة اللَّه ولا يعرف كيف ينصر اللَّه أولياءه ويخذل أعداءه. لذلك يقول القرآن ردّاً على مثل هذه المزاعم: «أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَمًا ءَامِنَّا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلّ شَىْ ءٍ رّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَايَعْلَمُونَ» «1».

اللَّه سبحانه الذي جعل هذه الأرض المالحة والمليئة بالصخور والخالية من الأشجار والأنهار، جعلها حرماً تهفوا إليه القلوب، ويؤتى إليه بالثمرات من مختلف نقاط العالم، كل ذلك بيد قدرته القاهرة.

كيف لا يكون قادراً على أن يحفظكم من هجوم حفنة من الجاهليين عبّاد الأوثان؟

______________________________

(1) «نمكّن»: في الآية بمعنى نجعل؛ و «يجبى»: مشتق من مادة «جباية»، والجبابة معناها الجمع، لذلك يطلق على الحوض الذي يجمع فيه الماء جابية.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 520

فكيف يمكن أن يحرمكم اللَّه منهما بعد الإسلام؟

لتكن قلوبكم قوية وآمنوا بما انزل اليكم فإنّ ربّ الكعبة وربّ مكة معكم.

وَ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَ كُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَ مَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَ مَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَ أَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَ مَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ زِينَتُهَا وَ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقَى أَ فَلَا تَعْقِلُونَ (60)

لا تخدعنكم علائق الدنيا: كان الحديث

في الآيات المتقدمة يدور حول ما يدعيه أهل مكة، وقولهم: إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا بهجوم العرب علينا، وتتكدر حياتنا ويختل وضعنا المعاشي والاقتصادي، وفي هذه الآيات مورد البحث ردّان آخران على كلامهم:

الأوّل: يقول .. على فرض أنّكم لم تؤمنوا، وحييتم في ظل الشرك مرفهين ماديّاً، ولكن لا تنسوا أن تعتبروا بحياة من قبلكم، «وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا» «1».

أجل، إنّ الغرور دعاهم إلى أن يبطروا من النعم، والبطر أساس الظلم، والظلم يجرّ حياتهم إلى النار ... «فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُم لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا».

بلى ... بقيت بيوتهم خالية خربة متهدمة مظلمة لم يزرها ولم يسكنها أحد إلّالفترة قليلة «وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ».

جملة «كُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ» إشارة إلى أنّ مالكها الحقيقي هو اللَّه سبحانه المالك لكل شي ء، وإذا ما أعطى ملكاً «اعتبارياً» لأحد، فإنّه لا يدوم له طويلًا حتى يرثه اللَّه أيضاً.

و الآية الثانية جواب عن سؤال مقدر، وهو: إذا كان الأمر كذلك، بأن يهلك اللَّه الطغاة، فلم لم يهلك المشركين من أهل مكة والحجاز، الذين بلغوا حدّاً عظيماً من الطغيان، ولم يكن إثم ولا جهل إلّاوارتكبوه، ولم لم يعذبهم اللَّه بعذابه الأليم؟

______________________________

(1) «بطرت»: مشتقة من «بطر»، ومعناه الطغيان والغرور على أثر وفرة النعم.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 521

يقول القرآن في هذا الصدد: «وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَاتِنَا».

أجل ... لا يعذب اللَّه قوماً حتى بعد إتمام الحجّة، فما لم يصدر ظلم يستوجب العذاب فإنّ اللَّه لا يعذبهم، وهو يراقب أعمالهم، «وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ».

والتعبير ب «مَا كُنَّا» أو «وَمَا كَانَ رَبُّكَ» دليل على أنّ سنة اللَّه الدائمة والأبدية التي كانت ولا زالت، هي

أن لا يعذب أحداً إلّا بعد إتمام الحجة الكافية.

و آخر آية من هذا المقطع محل البحث تحمل الردّ الثاني على أصحاب الحجج الواهية، الذين كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه و آله: «إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا» ويبعدنا العرب من ديارنا، وهو قوله تعالى: «وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَىْ ءٍ فَمَتعُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى ممّا عندكم من النعيم الفاني .. إذ إنّ نعم الدنيا تشوبها الأكدار والمشاكل المختلفة، وليس من نعمة مادية خالية من الضرر والخطر أبداً.

إضافة إلى ذلك فإنّ النعم التي عند اللَّه «الباقية» لا تقاس مع النعم الدنيوية الزائلة، فنعم اللَّه- إذن- خير وأبقى.

فبموازنة بسيطة يعرف كل إنسان عاقل أنّه لا ينبغي أن يضحي بنعم الآخرة من أجل نعم الدنيا، ولذلك تختتم الآية بالقول:

«أَفَلَا تَعْقِلُونَ».

أَ فَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَ قِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَ رَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64)

كان الحديث في الآيات المتقدمة عن الذين فضّلوا الكفر على الإيمان بسبب منافعهم الشخصية، ورجّحوا الشرك على التوحيد، وفي الآيات التي بين أيدينا يبيّن القرآن حال هذه الجماعة يوم القيامة قبال المؤمنين الصادقين. ففي بداية هذه الآيات يلقي القرآن سؤالًا يقارن فيه بين المؤمنين والكافرين، ويثير الوجدان ويجعله حكماً فيقول: «أَفَمَن وَعَدْنهُ

مختصر الامثل، ج 3، ص: 522

وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنهُ مَتعَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيمَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ».

جملة

«هُوَ يَوْمَ الْقِيمَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ» إشارة إلى الإحضار في محضر اللَّه يوم القيامة للحساب. وجملة «الْحَيَوةِ الدُّنْيَا» التي تكررت في سور مختلفة من القرآن الكريم، إشارة إلى حقارة هذه الحياة بالنسبة للحياة الاخرى، لأنّ كلمة «دنيا» في الأصل مأخوذة من «دنو» ومعناها القرب في المكان أو الزمان أو المنزلة والمقام، ثم توسّع هذا المفهوم ليطلق بلفظ «دنيا» أو «أدنى على الموجودات الصغيرة التي تحت اليد في مقابل الموجودات الكبيرة، وقد يطلق هذا اللفظ على الموضوعات التي لا قيمة لها في مقابل الأشياء ذات القيمة العالية، وربّما استعمل في القرب في مقابل البعد، وحيث إنّ هذه «الحياة» في مقابل العالم الآخر صغيرة ولا قيمة لها وقريبة أيضاً، فإنّ تسميتها بالحياة الدنيا تسمية مناسبة جدّاً.

ثم يأتي الكلام عن عرصات يوم القيامة ومشاهدها ليجسّده أمام الكفار، مشاهد يقشعر منها البدن حين يتصورها الإنسان، فيقول القرآن: «وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَاءِىَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ».

فهذا السؤال في الحقيقة فيه نوع من الإهانة والتوبيخ والعقوبة.

ولكنّهم بدلًا من أن يجيبوا بأنفسهم، فإنّ معبوديهم هم الذين يردّون الجواب، ويتبرؤون منهم، ويتنفرون من عبادة المشركين إيّاهم.

ونعرف أنّ معبودات المشركين وآلهتهم على ثلاثة أنواع: فإمّا أن يكونوا أصناماً «وأحجاراً وخشباً» أو من المقدسين كالملائكة والمسيح، وإمّا أن يكونوا من الشياطين والجنّ. فالذين يردّون على السؤال ويجيبون هم النوع الثالث، كما حكى عنهم القرآن: «قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ».

وتعقيباً على السؤال عن آلهتهم وعجز المشركين عن الجواب، يطلب أن يدعوهم لنصرتهم «وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ» «1».

وحيث يعلم المشركون أنّ دعاءهم غير نافع، وأنّ المعبودين «الشركاء» لا يمكن أن يفعلوا شيئاً من شدّة الهلع والوحشة، أو استجابة

لأمر اللَّه، يتوجهون إلى الشركاء ويدعونهم كما يقول القرآن الكريم: «فَدَعَوْهُمْ».

______________________________

(1) التعبير ب «شركاءكم» مع أنّ هؤلاء الشركاء كانوا قد جعلوا شركاء اللَّه سبحانه، هو إشارة إلى أنّ هؤلاء الشركاء من صنعكم وهم متعلقون بكم لا باللَّه.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 523

ومن الواضح أنّه لا أثر لهذا النداء والطلب، ولا يقال لهم «لبيك» .. «فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ». فحينئذٍ لا ينفعهم شي ء «وَرَأَوُا الْعَذَابَ». ويتمنون «لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ».

وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَا ذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَ يَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَ رَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ مَا يُعْلِنُونَ (69) وَ هُوَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)

تعقب الآيات محل البحث، على ما كان في الآيات السابقة في شأن المشركين وما يسألون يوم القيامة. فبعد أن يُسألوا عن شركائهم ومعبوديهم، يسألون عن مواقفهم وما أبدوه من عمل إزاء أنبيائهم: «وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ».

ومن المسلم به أنّ هؤلاء «المشركين» لا يملكون جواباً لهذا السؤال. فكل ما يقولون كاشف عن فضيحتهم وشقائهم، حتى أنّ الأنبياء والمرسلين في ذلك اليوم يجيبون ربّهم حين يسألون: «مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَاعِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلمُ الْغُيُوبِ» «1».

ما الذي يقوله في ذلك اليوم وفي ذلك المكان عمي القلوب من المشركين؟ لذلك يكشف القرآن عن حالهم هناك فيقول:

«فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَايَتَسَاءَلُونَ». أي يسأل بعضهم بعضاً ولا يعرفون جواباً.

وحيث إنّ اسلوب القرآن هو

ترك الأبواب مفتوحة بوجه الكافرين والآثمين دائماً، لعلّهم يتوبون ويرجعون إلى الحق في أي مرحلة كانوا من الإثم، فإنّه يضيف في الآية التي بعدها: «فَأَمَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ».

فسبيل النجاة- حسب ما يوضحه القرآن- يتلخّص في ثلاث جمل هي العودة والتوبة إلى اللَّه، والإيمان، والعمل الصالح، وعاقبتهما النجاة والفلاح حتماً.

و الآية التي بعدها دليل على نفي الشرك وبطلان عقيدة المشركين، إذ تقول: «وَرَبُّكَ

______________________________

(1) سورة المائدة/ 109.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 524

يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ». فالخلق بيده، والتدبير والإختيار بيده أيضاً، وهو ذو الإرادة.

فمع هذه الحال، كيف يسلك هؤلاء طريق الشرك ويتجهون نحو غير اللَّه؟ لذلك فإنّ الآية تنزه اللَّه عن الشرك وتقول:

«سُبْحنَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ».

أمّا الآية التي بعدها فتتحدث عن علم اللَّه الواسع، وهي تأكيد أو دليل على الإختيار الواسع في الآية السابقة، إذ تقول هذه الآية: «وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ».

فإحاطته بكل شي ء دليل على اختياره لكل شي ء، كما هي- ضمناً- تهديد للمشركين، لئلا يظنوا أنّ اللَّه غير مطلع على سرائرهم ونيّاتهم و «مؤامراتهم».

و الآية الأخيرة من هذا المقطع، هي نتيجة الحكم، وتوضيح للآيات السابقة في مجال نفي الشرك، وهي ذات أربعة أوصاف من أوصاف اللَّه، وجميعها فرع على خالقيته واختياره.

فالأوّل: أنّه «وَهُوَ اللَّهُ لَاإِلهُ إِلَّا هُوَ».

فمن يتوسل بالأصنام لتشفع له عند اللَّه فهو من المضلين الخاطئين.

والثاني: أنّ جميع النعم دنيويةً كانت أم اخروية هي منه، وهي من لوازم خالقيته المطلقة، لذلك يقول القرآن في هذا الصدد:

«لَهُ الْحَمْدُ فِى الْأُولَى وَالْأَخِرَةِ».

الثالث: أنّه «وَلَهُ الْحُكْمُ». فهو الحاكم في هذا العالم، وفي العالم الآخر.

والرابع: «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» للحساب والثواب والعقاب.

فاللَّه الخالق، وهو المطّلع، وهو الحاكم

يوم الجزاء، وبيده الحساب والثواب والعقاب.

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَ فَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَ فَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَ نَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 525

نعمتا الليل والنهار العظيمتان: هذه الآيات- محل البحث- تتحدث عن قسم كبير من مواهب اللَّه سبحانه، التي تدل على التوحيد ونفي الشرك من جهة، كما أنّها تكمّل البحث السابق .. وتذكر مثلًا للنعم التي تستوجب الحمد والثناء. ففي الآية الاولى من هذه الآيات إشارة إلى نعمة النهار والنور الذي هو أساس لأيّة حركة، فتقول الآية: «قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيمَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ».

كما تتحدث الآية الاخرى عن نعمة الظلمة فتقول: «قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ القِيمَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ».

أمّا الآية الثالثة فتحكي عن نتيجة النعمة المشار إليها في الآيتين السابقتين فيقول: «وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

إنّ سعة رحمة اللَّه تستوجب أن تضمن جميع عوامل حياتكم.

ومرّة اخرى- بعد ذكر جانب من دلائل التوحيد ونفي الشرك- يعود القرآن الكريم على السؤال الأوّل الذي أثير

في الآيات السابقة ليقول: «وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَاءِىَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ».

وهذه الآية مكررة في السورة نفسها، إذ وردت بنصّها في الآية (62)، ولعلّ هذا التكرار ناشى ء عن السؤال مرتين في يوم القيامة، مرّة بصورة انفرادية ليعودوا إلى وجدانهم فيخجلوا من أنفسهم، ومرّة بصورة عامّة في محضر الشهود، وهو ما أشير إليه في الآية التي بعدها .. ليخجلوا أيضاً من حضورهم. لذلك تأتي الآية التي بعدها فتقول: «وَنَزَعْنَا مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ» «1». أيّها المشركون الضالون.

وحين تنكشف المسائل وتتجلى الامور لا تبقى خافية، «فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ».

هؤلاء الشهود هم الأنبياء بقرينة الآيات الاخرى في القرآن، إذ أنّ كل نبي شاهد على امته، ونبي الخاتم صلى الله عليه و آله الذي هو خاتم الأنبياء هو شهيد على جميع الأنبياء والامم.

______________________________

(1) التعبير ب «نزعنا» التي تعني جذب الشي ء من مقرّه، هي إشارة إلى إحضار الشهود من بين كل جماعة وامّة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 526

إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَ آتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَ ابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَ لَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَ أَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَ لَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعاً وَ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)

الثّري الإسرائيلي البخيل: جاء تفصيل قصة موسى عليه السلام العجيبة ومواجهاته ومواقفه

مع فرعون في قسم كبير من الآيات السابقة في هذه السورة .. وفي القسم الآخر من آيات هذه السورة، وقع الكلام على مواجهة بني إسرائيل مع رجل ثري منهم يدعى «قارون».

المعروف أنّ «قارون» كان من أرحام موسى وأقاربه (ابن عمه أو ابن خالته) وكان عارفاً بالتوراة، وكان في بداية أمره مع المؤمنين، إلّاأنّ غرور الثروة جرّه إلى الكفر ودعاه إلى أن يقف بوجه موسى عليه السلام وأماته ميتة ذات عبرة للجميع، حيث نقرأ شرح ذلك في الآيات التالية. يقول القرآن في شأنه أوّلًا: «إِنَّ قرُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ». وسبب بغيه وظلمه إنّه كان ذا ثروة عظيمة، ولأنّه لم يكن يتمتع بإيمان قوي وشخصية متينة فقد غرّته هذه الثروة الكبيرة وجرّته إلى الانحراف والاستكبار.

يصف القرآن ما عنده من ثروة فيقول: «وَءَاتَيْنهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِى الْقُوَّةِ». «المفاتح»: جمع «مفتح» معناه المكان الذي يدخّر فيه الشي ء، كالصندوق الذي يحفظ فيه المال، وهو ما يسميه بعض التجار ب «القاصة». فيكون المعنى: إنّ قارون كان ذا مال كثير ووفير من الذهب والفضة، بحيث كان يصعب حمل صناديقها على الرجال الأشداء «أُولِى الْقُوَّةِ». «تنوأُ»:

مشتقة من «النوء» ومعناه القيام بمشقّة وثقل، وتستعمل في حمل الأثقال التي لها ثقل ووزن كبير، بحيث لو حملها الإنسان لمال إلى أحد جانبيه.

والآن لنرى ما قال بنو إسرائيل لقارون، يقول القرآن في هذا الصدد: «إِذ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَاتَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ الْفَرِحِينَ» «1».

______________________________

(1) «الفرحين»: جمع الفرح، وتعني من يكون مغروراً على أثر تملكه الشي ء ومتكبراً بطراً منتشياً من ريح النّصر.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 527

ثم يقدمون له أربع نصائح قيّمة اخرى ذات تأثير مهم على مصير الإنسان، بحيث تتكامل

لديه حلقة خماسية من النصائح مع ما تقدم من قولهم له: «لَاتَفْرَحْ».

فالنصيحة الاولى قولهم له: «وَابْتَغِ فِيمَا ءَاتَيكَ اللَّهُ الدَّارَ الْأَخِرَةَ». وهذا إشارة إلى أنّ المال والثروة ليس أمراً سيئاً كما يتصوره بعض المتوهمين، المهم أن تعرف فيم يستعمل المال، وفي أي طريق ينفق.

وكان قارون رجلًا ذا قدرة على الأعمال الاجتماعية الكبيرة بسبب أمواله الطائلة، ولكن ما الفائدة منها وقد أعماه غروره عن النظر إلى الحقائق.

والنصيحة الثانية قولهم له: «وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا». والآية تشير إلى مسألة واقعية، وهي أنّ لكل فرد منّا نصيباً من الدنيا، فالأموال التي يصرفها على بدنه وثيابه ليظهر بمظهر لائق هي أموال محدودة، وما زاد عليها لا تزيد مظهره شيئاً، وعلى الإنسان أن لا ينسى هذه الحقيقة ... فالإنسان ... كم يستطيع أن يأكل من الطعام؟ وكم يستطيع أن يلبس من الثياب؟ وكم يمكن أن يحوز من المساكن والمراكب؟ وإذا مات وكم يستطيع أن يأخذ معه من الأكفان؟ فالباقي- إذن- رضي أم أبى هو من نصيب الآخرين.

وما أجمل قول الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة حيث يقول: «يابن آدم ما كسبت فوق قوتك فأنت فيه خازن لغيرك».

والنصيحة الثالثة هي: «وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ».

وبتعبير آخر: كما أنّ اللَّه تفضل عليك وأحسن، فأحسن أنت إلى الناس.

والنصيحة الرابعة والأخيرة أن لا تغرنّك هذه الأموال والإمكانات المادية فتجرّك إلى الفساد: «وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ».

وهذا أيضاً حقيقة واقعية اخرى، إنّ كثيراً من الأثرياء وعلى أثر جنون زيادة المال- أحياناً- أو طلباً للاستعلاء، يفسدون في المجتمع، فيجرّون إلى الفقر والحرمان، ويحتكرون جميع الأشياء في أيديهم.

والآن لنلاحظ ما كان جواب هذا الإنسان الباغي والظالم الإسرائيلي لجماعته الواعظين له.

فأجابهم قارون

بتلك الحالة من الغرور والتكبر الناشئة من ثروته الكبيرة، و «قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِى».

هذا لا يتعلق بكم، وليس لكم حق أن ترشدوني إلى كيفية التصرف بمالي.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 528

وهنا يجيب القرآن على قول قارون وأمثاله من المتكبرين الضالين، فيقول: «أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهَ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا».

أتقول: «إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِى» ونسيت من كان أكثر منك علماً وأشدّ قوّة وأثرى مالًا، فهل استطاعوا أن يفروا من قبضة العذاب الإلهي؟!

وفي ختام الآية إنذار ذو معنى كبير آخر لقارون، جاء في غاية الإيجاز: «وَلَا يُسَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ».

بعبارة اخرى: أنّ العلماء من بني إسرائيل نصحوا قارون هذا اليوم وكان لديه مجال والجواب، لكن بعد إتمام الحجة ونزول العذاب الإلهي، عندئذ لا مجال للتفكير والجواب، فإذا حلّ العذاب الإلهي بساحته فهو الهلاك الحتمي.

فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً وَ لَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَ بِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ مَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَ أَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ يَقْدِرُ لَوْ لَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)

جنون الثروة: المعروف أنّ أصحاب الثروة يبتلون بأنواع الجنون ... وواحد منها «جنون عرض الثروة وإظهارها» فهؤلاء يشعرون باللذة عندما يعرضون ثروتهم على الآخرين، فإنّ قارون لم يكن مستثنى من هذا القانون،

بل كان يعدّ مثلًا بارزاً له، والقرآن يتحدث عنه في جملة موجزة في بعض آياته فيقول: «فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ». امام قومه من بني اسرائيل.

وجملة «في زينته» ناطق عن هذه الحقيقة، وهي أنّه أظهر جميع قدرته وقوّته ليبدي ما لديه من زينة وثروة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 529

هنا أصبح الناس طائفتين- بحسب العادة فطائفة وهم الأكثرية- من عبدة الدنيا- أثارهم هذا المشهد، فاهتزت قلوبهم ... «قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قرُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ».

وأمام هذه الطائفة التي ذكرناها آنفاً طائفة اخرى من العلماء والمتقين الورعين، فهؤلاء كانوا هناك، وكان لهم موقف آخر من قارون، وكما يعبر عنهم القرآن «وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لّمَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا». ثم أردفوا مؤكّدين: «وَلَا يُلَقهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ».

في الدر المنثور عن ابن عباس أنّ قارون كان من قوم موسى، قال: كان ابن عمه وكان يبتغي العلم حتى جمع علماً فلم يزل في أمره ذلك حتى بغى على موسى وحسده.

فقال له موسى عليه السلام: إنّ اللَّه أمرني أن آخذ الزكاة فأبى. فقال: إنّ موسى يريد أن يأكل أموالكم جاءكم بالصلاة وجاءكم بأشياء فاحتملتموها فتحتملوه أن تعطوه أموالكم؟ قالوا: لا نحتمل فما ترى؟ فقال لهم: أرى أن ارسل إلى بغي من بغايا بني إسرائيل فنرسلها إليه فترميه بأنّه أرادها على نفسها فأرسلوا إليها فقالوا لها: نعطيك حكمك على أن تشهدي على موسى أنّه فجر بك. قالت:

نعم.

فجاء قارون إلى موسى عليه السلام قال: اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربّك قال: نعم. فجمعهم فقالوا له: بم أمرك ربّك؟ قال:

أمرني أن تعبدوا اللَّه ولا تشركوا به شيئاً وأن تصلوا الرحم وكذا وكذا وقد

أمرني في الزاني إذا زنى وقد أحصن أن يرجم. قالوا: وإن كنت أنت؟ قال: نعم. قالوا: فإنّك قد زنيت، قال: أنا؟

فأرسلوا إلى المرأة فجاءت، فقالوا: ما تشهدين على موسى؟ فقال لها موسى عليه السلام أنشدتك باللَّه إلّاما صدقت. قالت: أمّا إذا نشدتني فإنّهم دعوني وجعلوا لي جعلًا على أن أقذفك بنفسي وأنا أشهد أنّك بري ء وأنّك رسول اللَّه.

فخرّ موسى عليه السلام ساجداً يبكي فأوحى اللَّه إليه: ما يبكيك؟ قد سلطناك على الأرض فمرها فتطيعك، فرفع رأسه فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أعقابهم فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى. فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أعناقهم فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى فقال: خذيهم فغيّبتهم فأوحى اللَّه: «يا موسى سألك عبادي وتضرّعوا إليك فلم تجبهم فو عزّتي لو أنّهم دعوني لأجبتهم» «1».

______________________________

(1) الميزان في تفسير القرآن 16/ 83.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 530

يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: «فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ».

يا للعجب ... ففرعون يهوي في ماء النيل ... وقارون في أعماق الأرض.

الماء الذي هو سرّ الحياة وأساسها يكون مأموراً بهلاك فرعون، والأرض التي هي مهاد الاطمئنان والدعة تنقلب قبراً لقارون واتباعه. ومن البديهي أنّ قارون لم يكن لوحده في ذلك البيت فقد كان معه أعوانه وندماءه ومن أعانه على ظلمه وطغيانه، وهكذا توغلوا في أعماق الأرض جميعاً. «فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ».

أمّا آخر آية- محل البحث- فتحكى عن التبدل العجيب لأولئك الذين كانوا يتفرجون على استعراض قارون بالأمس ويقولون: يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون، وما شابه ذلك. وإذا هم اليوم يقولون: واهاً له، فإنّ الرزق بيد اللَّه؛ «وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن

يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ».

لذلك شكروا اللَّه على هذه النعمة وقالوا: «لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَايُفْلِحُ الْكفِرُونَ». فالآن نرى الحقيقة بأعيننا، وعاقبة الغرور والغفلة ونهاية الكفر والشهوة.

تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَ لَا فَسَاداً وَ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَ مَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)

نتيجة حبّ التسلط والفساد في الأرض: بعد البيان المثير لما حدث لثري مستكبر ومتسلط، وهو قارون، تبدأ الآية الاولى من هذا المقطع ببيان استنتاج كلي لهذا الواقع وهذا الحدث، إذ تقول الآية: «تِلْكَ الدَّارُ الْأَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَايُرِيدُونَ عُلُوًّا فِى الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا».

إنّ ما يكون سبباً لحرمان الإنسان من مواهب الدار الآخرة، هو هذان الأمران: «الرغبة في العلو» أي الاستكبار؛ و «الفساد في الأرض» وهما الذنوب.

ويقول القرآن في نهاية الآية: «وَالْعقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ». و «العاقبة» بمفهومها الواسع هي النتيجة الصالحة، وهي الإنتصار في هذه الدنيا، والجنّة ونعيمها في الدار الاخرى ...

مختصر الامثل، ج 3، ص: 531

وبعد ذكر هذه الواقعية، وهي أنّ الدار الآخرة ليست لمن يحب السلطة والمستكبرين، بل هي للمتقين المتواضعين وطلبة الحق، تأتي الآية الثانية لتبيّن قانوناً كلّياً وهو مزيج بين العدالة والتفضل، ولتذكر ثواب الإحسان. فتقول: «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا».

وهذه هي مرحلة التفضل، أي أنّ اللَّه سبحانه لا يحاسب الناس كما يحاسب الإنسان نظيره بعين ضيّقة، فإذا أراد الإنسان أن يعطي أجر صاحبه فإنّه يسعى أن يعطيه بمقدار عمله، إلّاأنّ اللَّه قد يضاعف الحسنة بعشر أمثالها وقد يضاعفها بمئات الأمثال وربّما بالآلاف، إلّاأنّ أقلّ ما يتفضل اللَّه به على العبد أن يجازيه عشرة أضعاف حسناته، حيث يقول

القرآن في الآية (160) من سورة الأنعام: «مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا».

ثم يعقّب القرآن ليذكر جزاء المسيئين فيقول: «وَمَن جَاءَ بِالسَّيّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

وهذه هي مرحلة العدل الإلهي، لأنّ المسي ء لا يجازى إلّابقدر إساءته، ولا تضاف على إساءته أيّة عقوبة.

إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَ مَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ (86) وَ لَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَ ادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَ لَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَ لَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْ ءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس: لما نزل النبي صلى الله عليه و آله بالجحفة في مسيره إلى المدينة، لما هاجر إليها، اشتاق إلى مكة فأتاه جبرائيل عليه السلام فقال: أتشتاق إلى بلدك وهو مولدك؟! فقال: نعم. قال جبرائيل: فإنّ اللَّه يقول: «إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ» «1». يعني مكة ... ونعلم إنّ هذا الوعد العظيم تحقق أخيراً.

______________________________

(1) راجع تفسير الميزان، تفسير القرطبي، ومجمع البيان، «التّفسير الكبير» للفخر الرازي، وتفاسير غيرها.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 532

فعلى هذا تعدّ الآية آنفة الذكر من الإخبار الإعجازي السابق لوقوعه، إذ أخبر القرآن عن رجوع النبي صلى الله عليه و آله إلى مكة بصورة قطعية ودون أيّ قيد وشرط، ولم تطل المدّة حتى تحقق هذا الوعد الإلهي الكبير.

التّفسير

الوعد بعودة النبي إلى حرم اللَّه الآمن: قلنا: إنّ الآية الاولى من

هذه الآيات طبقاً لما هو مشهور بين المفسرين نزلت في «الجحفة» في مسير النبي صلى الله عليه و آله، إلى المدينة إذ كان متوجهاً إلى يثرب لتتحول بوجوده إلى «مدينة الرسول» ... لكن هذا الحنين والشوق والتعلق بمكة يؤلمه كثيراً، وليس من اليسير عليه الإبتعاد عن حرم اللَّه الآمن.

وهنا يشرق في قلبه الطاهر نور الوحي، ويبشّره بالعودة إلى وطنه الذي ألفه فيقول: «إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ». فلا تكترث ولا تُذهب نفسك حسرات، فاللَّه الذي أعاد موسى إلى امّه هو الذي أرجعه أيضاً إلى وطنه بعد غياب عشر سنوات في مدين.

هو اللَّه سبحانه الذي يردك إلى مكة بكل قوة وقدرة، ويجعل مصباح التوحيد على يدك مشرقاً في هذه الأرض المباركة.

ثم يضيف القرآن في خطابه للنبي صلى الله عليه و آله، أن يجيب على المخالفين الضالين بما علّمه اللَّه: «قُلْ رَّبّى أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِى ضَللٍ مُّبِينٍ».

إنّ طريق الهداية واضح، وضلالهم بيّن، وهم يتعبون أنفسهم عبثاً، فاللَّه يعرف ذلك جيداً، والقلوب التي تعشق الحق تعرف هذه الحقيقة أيضاً.

أمّا الآية التالية فتتحدث عن نعمة اخرى من نعم اللَّه العظيمة على النبي صلى الله عليه و آله فتقول: «وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتبُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبّكَ».

ثم يضيف القرآن في خطابه للنبي صلى الله عليه و آله أن طالما كنت في هذه النعمة: «فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لّلْكفِرِينَ».

ومن المسلّم به أنّ النبي صلى الله عليه و آله لم يكن ظهيراً للكافرين أبداً، إلّاأنّ الآية جاءت في مقام التأكيد على النبي صلى الله عليه و آله وبيان المسؤولية للآخرين.

وفي هاتين الآيتين أربعة أوامر من اللَّه لنبيّه صلى الله عليه و آله، وأربعة

صفات للَّه تعالى، وبها يكتمل ما ورد في هذه السورة من أبحاث.

يقول أوّلًا: «وَلَا يَصُدَّنَّكَ عَن ءَايتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ

مختصر الامثل، ج 3، ص: 533

إِلَيْكَ». وبالرغم من أنّ النهي موجه إلى الكفار، إلّاأنّ مفهوم الآية عدم تسليم النبي صلى الله عليه و آله أمام صدّ الكافرين، وإحباطهم ومؤامراتهم.

وبهذا الأسلوب يأمر اللَّه النبي صلى الله عليه و آله أن يقف راسخ القدم عند نزول الآيات ولا يتردد في الأمر، وأن يزيل الموانع من قارعة الطريق مهما بلغت، ولْيَسر نحو هدفه مطمئناً، فإنّ اللَّه حاميه ومعه أبداً.

وبعد هذا الخطاب الذي فيه جنبة نهي، يأتي الخطاب الثاني وفيه سمة إثبات فيقول: «وَادْعُ إِلَى رَبّكَ» .. فاللَّه الذي خلقك وهو الذي ربّاك ورعاك ...

والأمر الثالث، بعد الأمر بتوحيد اللَّه، هو نفي جميع أنواع الشرك وعبادة الأصنام «وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ».

والأمر الرابع تأكيد آخر على نفي جميع أنواع الشرك، إذ يقول تعالى: «وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهًا ءَاخَرَ».

وهذه الأوامر المتتابعة كل واحد منها يؤكّد الآخر، يوضح أهمية التوحيد في المنهج الإسلامي، إذ بدونه يكون كل عمل زيفاً ووهماً.

وبعد هذه الأوامر الأربعة تأتي أوصاف أربعة للَّه سبحانه، وهي جميعاً تأكيد على التوحيد أيضاً:

فالأوّل قوله: «لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ».

والثاني قوله: «كُلُّ شَىْ ءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ».

والوصف الثالث: «لَهُ الْحُكْمُ» والحاكمية في عالمي التشريع والتكوين.

والرابع: أنّ معادنا إليه «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ».

والأوصاف الثلاثة الأخيرة يمكن أن تكون دليلًا على إثبات التوحيد وترك جميع أنواع عبادة الأصنام، الذي أشير إليه في الوصف الأوّل.

«نهاية تفسير سورة القصص»

مختصر الامثل، ج 3، ص: 535

29 سورة العنكبوت

محتوى السورة: إنّ أبحاث هذه السورة تتلخص في أربعة أقسام:

1- في البداية يتحدث عن مسألة «الامتحان»، وموضوع «المنافقين»، وهذان الأمران متلازمان لا يقبلان الإنفكاك.

2- وقسم آخر من هذه السورة هو

لتسلية قلب النبي صلى الله عليه و آله والمؤمنين القلّة الأوائل، عن طريق بيان جوانب من حياة الأنبياء العظام السابقين، أمثال نوح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم السلام وعواقبهم؛ إذ واجهوا أعداءً ألدّاء أمثال نمرود وطواغيت المال البخلاء.

3- ثم يتحدث عن التوحيد ودلائل اللَّه في عالم خلقه، والمواجهة مع المشركين، ويدعوا الفطرة والوجدان إلى الإحتكام والقضاء الحق.

4- وفي قسم آخر من هذه السورة، ففيه مباحث متنوعة عن عجز الأصنام المصنوعة التي تعبد من دون اللَّه، وعبادها الذين مثلهم كمثل العنكبوت، وبيان عظمة القرآن، ودلائل حقانية نبي الخاتم، ولجاجة المخالفين، كما تتعرض لسلسلة من المسائل التربوية أمثال: الصلاة، والعمل الصالح، والإحسان إلى الوالدين، وأسلوب مناقشة المخالفين، وما إلى ذلك.

وتسمية السورة هذه ب «العنكبوت» مأخوذة من الآية (41) من هذه السورة، التي تشبّه عبدة الأوثان من دون اللَّه بالعنكبوت، التي تبني بيتها من نسيجها، وهو أوهن البيوت.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 536

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل المؤمنين والمنافقين».

وفي ثواب الأعمال عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ سورة العنكبوت والروم في شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين فهو واللَّه من أهل الجنة، لا أستثني فيه أبداً، ولا أخاف أن يكتب اللَّه عليّ في يميني إثماً، وإنّ لهاتين السورتين من اللَّه مكاناً».

ولا شك أنّ محتوى هاتين السورتين الغزير، والدروس العملية المهمة منها في التوحيد، وما إلى ذلك، كلّه كاف لأن يسوق أيّ إنسان ذي لب وفكر وعمل إلى الجنة والخلود فيها.

الم (1) أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَ لَقَدْ فَتَنَّا

الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)

نواجه في بداية هذه السورة الحروف المقطعة «الم» أيضاً .. وقد بيّنا تفسيرها عدة مرات من وجوه مختلفة «1».

وبعد هذه الحروف المقطعة يشير القرآن إلى واحدة من أهم مسائل الحياة البشرية، وهي مسألة الشدائد والضغوط والامتحان الإلهي فيقول أوّلًا: «أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لَايُفْتَنُونَ» «2».

ثم يذكر القرآن هذه الحقيقة- بعد الآية المتقدمة مباشرة- وهي أنّ الامتحان سنة إلهية دائمية جارية في جميع الأمم المتقدمة، إذ يقول: «وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ».

ووقعوا أيضاً- تحت تأثير ضغوط الأعداء القساة والجهلة المعاندين ..

وينبغي أن يكون الأمر كذلك، لأنّه في مقام الإدعاء يمكن لكل أحد أن يذكر عن نفسه أنّه أشرف مجاهد وأفضل مؤمن وأكثر الناس تضحيةً .. فلابدّ من معرفة قيمة هذه الإدعاءات بالامتحان، وينبغي أن تعرف النيات والسرائر إلى أي مدى تنسجم مع هذه الادعاءات.

______________________________

(1) يراجع بداية تفسير سورة البقرة وبداية سورة آل عمران وبداية تفسير سورة الأعراف.

(2) «يفتنون»: مشتق من «الفتنة» وهي في الأصل وضع الذهب في النّار لمعرفة مقدار خلوصه، ثم أطلق هذا التعبير على كل امتحان ظاهري ومعنوي.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 537

أجل: «فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكذِبِينَ».

من البديهي أنّ اللَّه يعرف جميع هذه الامور جيداً- قبل أن يخلق الإنسان- إلّاأنّ المراد من العلم هنا هو ظهور الآثار والشواهد العملية ... ومعناه أنّه ينبغي أن يرى علم اللَّه في هذه المجموعة عملياً في الخارج، وأن يكون لها تحقق عيني.

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَ مَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ

اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)

لا مهرب من سلطان اللَّه: كان الكلام في الآيات السابقة عن امتحان المؤمنين الشامل، والآية الاولى من الآيات أعلاه تهديد شديد للكفّار والمذنبين، لئلا يتصوروا أنّهم حين يضيّقون على المؤمنين ويضغطون عليهم دون أن يعاقبهم اللَّه فوراً، فإنّ اللَّه غافل عنهم أو عاجز عن عذابهم، تقول الآية هذه: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ». فلا ينبغي أن يغرّهم إمهال اللَّه إيّاهم فهو امتحان لهم، كما أنّه فرصة للتوبة والعودة إلى ساحة اللَّه تعالى.

ثم يتحدث القرآن مرّة اخرى عن سير المؤمنين ومناهجهم، ويقدم النصح لهم، فيقول: «مَن كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ». فعليه أن يعمل ما في وسعه على امتثال الأوامر الإلهية والأحكام الشرعية، لأنّ الوقت المعين سيأتي حتماً «فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَأَتٍ».

ثم إنّ اللَّه سبحانه يسمع أحاديثكم، وهو مطلع على أعمالكم ونيّاتكم ... لأنّه «وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».

إنّ «لقاء اللَّه» في يوم القيامة ليس لقاءاً حسيّاً بل نوعاً من الشهود الباطني.

وكما يقول العلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان: إنّ المقصود من لقاء اللَّه، هو أنّ العباد يكونون في موقف لا يكون بينهم وبين اللَّه حجاب، لأنّ طبيعة يوم القيامة هي ظهور الحقائق كما يقول القرآن: «وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ». سورة النور الآية (25).

أمّا الآية التي تليها فهي تعليل لما سبق بيانه في الآية الآنفة، إذ تقول: إنّ على المؤمنين

مختصر الامثل، ج 3، ص: 538

الذين يرغبون في لقاء اللَّه السعي بما اوتوا من قدرة وقابلية من أجل ذلك فإنّ نتيجة كل ذلك السعي والجهاد وتحمل الشدائد ترجع ثمارها للعامل نفسه: «وَمَن جهَدَ فَإِنَّمَا

يُجهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ». إنّ خطة الامتحان الإلهي هي الجهاد، جهاد النفس وهواها، وجهاد الأعداء الألداء، لحفظ الإيمان والتقوى والطهارة، ونفع ذلك يعود للإنسان ...

و آخر آية- محل البحث- توضيح لما تقدم ذكره في الآية السابقة بشكل مبهم تحت عنوان الجهاد، فهنا يكشف القرآن حقيقة الجهاد فيقول: «وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيَاتِهِمْ».

إذن أوّل فائدة كبيرة لهذا الجهاد الكبير (وهو الإيمان والعمل الصالح) هي تكفير الذنوب وسترها على الإنسان، كما أنّ الثواب سيكون من نصيبهم، كما يقول القرآن في نهاية هذه الآية أيضاً: «وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ».

«نكفّر»: مشتقة من مادة «تكفير» ومعناها في الأصل التغطية والستر، والمقصود بتغطية الذنوب هنا عفو اللَّه وصفحه.

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَ مَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)

سبب النّزول

وردت روايات مختلفة في شأن نزول الآية الآنفة الذكر، ومضمون الجميع واحد وهي أنّ بعض الرجال الذين كانوا في مكة وأسلموا «1»، حين سمعت امهاتهم بذلك صممن على أن لا يتناولن طعاماً ولا يشربن ماءً حتى يرجع أبناؤهن عن الإسلام، وبالرغم من أنّ أية واحدة من هؤلاء الامهات لم تف بقولها، ورجعت عن إضرابها عن الطعام، إلّاأنّ الآية المتقدمة نزلت

لتوضح للجميع اسلوب المعاملة بين الأبناء والآباء والامهات، في مجال الكفر والإيمان.

______________________________

(1) ورد في بعض الروايات اسم (سعد بن أبي وقاص) وفي بعضها اسم (عياش بن أبي ربيعة المخزومي).

مختصر الامثل، ج 3، ص: 539

التّفسير

أفضل الوصايا بالنسبة للوالدين: إنّ واحداً من أهم الامتحانات الإلهية، هي مسألة «التضاد» بين خط الإيمان والتقوى وبين علاقة العاطفية والقرابة .. والقرآن في هذا المجال يوضح وظيفة المسلمين بجلاء. في البداية يتحدث عن قانون كلي يستمد من جذور العواطف الإنسانية وردّ الجميل فيقول: «وَوَصَّيْنَا الْإِنسنَ بِوَالِدَيْهِ».

إنّ التعبير ب «الإنسان» هنا يلفت النظر .. فهذا القانون لا يختص بالمؤمنين، بل كل من كان جديراً بأن يحمل اسم الإنسان ينبغي أن يكون عارفاً بحق الأبوين ... وأن لا ينسى تكريمهما واحترامهما والإحسان إليهما طيلة عمره .. وإن كان كل ذلك لا يفي بحقوقهما.

بعد ذلك، ومن أجل أن لا يتبادر إلى الذهن أنّ العلاقة العاطفية بالوالدين يمكن أن تكون حاكمةً على العلاقة بين الإنسان وربّه وإيمانه، يأتي استثناء صريح ليوضّح هذا الموضوع في الآية، فيقول تعالى: «وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا».

جملة «مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» إشارة إلى عدم منطقية الشرك، لأنّ الشرك لو كان صحيحاً واقعاً لكان عليه دليل بيّن.

وبتعبير آخر: متى ما لم يعلم الإنسان بشي ء فلا ينبغي أن يتبعه فكيف إذا كان يعلم ببطلانه؟ فهذا الاتباع هو اتّباع للجهل، فلو أنّ الوالدين أمراك باتباع الجهل فلا تطعهما.

ثم يضيف تعالى في نهاية الآية: «إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

وهذه الجملة تهديد لُاولئك الذين يسيرون في طريق الشرك، والذين يدعون الآخرين إلى هذا الطريق ..

و الآية التي بعدها تؤكّد الحقيقة في اولئك المؤمنين الذين يعملون الصالحات، وتكرر هذا

المضمون أيضاً: «وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى الصَّالِحِينَ».

وأساساً فإنّ عمل الإنسان يترك في الإنسان أثره .. فالعمل الصالح يصبغ الإنسان بلونه ويدخله في زمرة «الصالحين».

كما أنّ العمل السي ء يدخله في زمرة «الخاطئين والمسيئين».

إنّ الكلام في الآيات المتقدمة كان عن غفران الذنوب وتكفير السيئات وما يستحقه المؤمنون من الجزاء، إلّاأنّه هنا إشارة عن مقامهم الرفيع الذي هو في نفسه ثواب آخر.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 540

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَ لَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَ وَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَ لَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَ لْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَ مَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَ أَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَ لَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)

شركاء في الإنتصار أمّا في الشدة فلا: حيث إنّ الآيات المتقدمة تحدثت عن المؤمنين الصالحين والمشركين بشكل صريح، ففي الآيات الاولى من هذا المقطع يقع الكلام على الفريق الثالث- أي المنافقين- فيقول القرآن فيهم: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِىَ فِى اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ». فلا يصبرون على الأذى والشدائد، ويحسبون تعذيب المشركين لهم وأذى الناس أنّه عذاب من اللَّه «وَلَئِن جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ». فنحن معكم في هذا الافتخار والفتح.

ترى هل يظنون أنّ اللَّه خفيّ عليه ما في أعماق قلوبهم فلا يعرف نيّاتهم «أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِى صُدُورِ الْعَالَمِينَ».

ولعل التعبير ب «آمنّا» بصيغة الجمع، مع أنّ الجملة التي تليه جاءت

بصيغة المفرد، هو من جهة أنّ هؤلاء المنافقين يريدون أن يقحموا أنفسهم في صف المؤمنين، فلذلك يقولون «آمنّا» أي آمنّا كسائر الناس الذين آمنوا.

وجملة «أُوذِىَ فِى اللَّهِ» معناه أوذي في سبيل اللَّه، أي إنّهم قد يتعرض لهم العدوّ- أحياناً- وهم في سبيل اللَّه والإيمان فيؤذيهم.

وفي الآية التالية- لمزيد التأكيد- يضيف القرآن قائلًا: «وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ». فلو تصوروا أنّهم إذا أخفوا الحقائق فإنّهم سيكونون في منأى عن علم اللَّه فهم في خطأ كبير جدّاً.

إنّ التعبير بالمنافقين لها معنى واسع، ويشمل حتى الأفراد ضعاف الإيمان الذين يبدّلون عقيدتهم لأدنى مكروه يصيبهم.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 541

و الآية الاخرى بعدها تشير إلى منطق المشركين الخاوي والملتوي، الذي لا يزال موجوداً في طبقات المجتمع الواسعة فتقول: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلَنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ».

واليوم نرى كثيراً من الخبثاء يقولون للآخرين عند دعوتهم إلى أمر: إن كان فيه ذنب فعلى رقابنا في حين أنّنا نعلم أنّه لا يمكن لأحد أن يتحمل وزر أحد، فاللَّه عادل سبحانه ولا يؤاخذ أحداً بجرم الآخر.

لذلك فإنّ القرآن يقول بصراحة في الجملة التالية: «وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَىْ ءٍ إِنَّهُمْ لَكذِبُونَ».

وبعد ذلك، ومن أجل أن لا يتصور أنّ هؤلاء الدعاة للكفر والشرك وعبادة الأصنام والظلم، لا شي ء عليهم من العقاب لهذا العمل، فإنّ القرآن يضيف في الآية التالية قائلًا: «وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ أَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ».

وثقل الذنب هذا ... هو ثقل ذنب الإغراء والإغواء وحث الآخرين على الذنب، وهو ثقل السنّة التي عبّر عنها النبي صلى الله عليه و آله فقال: «من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شي ء» «1».

وتختتم الآية بالقول: «وَلَيُسَلُنَّ يَوْمَ

الْقِيمَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ».

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَ هُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَ أَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَ جَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) وَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَ اعْبُدُوهُ وَ اشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَ إِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)

______________________________

(1) التفسير الكبير 25/ 40.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 542

إشارة لقصّتي نوح وإبراهيم: لما كان الكلام في البحوث السابقة عن الإمتحانات العامة في الناس، فإنّ الكلام هنا- وفي ما بعد- يقع على الإمتحانات الشديدة للأنبياء.

تبدأ الآيات أوّلًا بالكلام على أوّل نبي من أولي العزم وهو نوح عليه السلام وتتحدث عنه بعبارات موجزة، لتُجمل قسماً من حياته التي تناسب- كثيراً- الواقع الراهن للمسلمين- آنئذ- فتقول: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا».

كان نوح مشغولًا ليل نهار بالتبليغ ودعوة قومه إلى توحيد اللَّه- فرادى ومجتمعين، مستفيداً من جميع الفرص في هذه المدة الطويلة (أي تسعمائة وخمسين عاماً) يدعوهم إلى اللَّه ... ولم يشعر بالتعب والنصب من هذا السعي المتتابع ولم يظهر عليه الضعف والفتور.

ومع كل هذا الجهد الجهيد لم يؤمن به إلّاجماعة قليلة في حدود الثمانين شخصاً كما تنقل التواريخ (أي: بمعدّل نفر واحد لكل اثنتي عشرة سنة).

فعلى هذا لا تظهروا الضعف والتعب في سبيل

الدعوة إلى الحق ومواجهة الانحرافات، لأنّ منهجكم أمام منهج «نوح» سهل للغاية.

لكن لاحظوا كيف كانت عاقبة قوم نوح الظالمين الألدّاء: «فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ».

ويضيف القرآن الكريم في الآية الاخرى: «فَأَنجَيْنهُ وَأَصْحبَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا ءَايَةً لّلْعَالَمِينَ».

ثم يعقّب على قصة نوح وقومه التي وردت بشكل مضغوط، ويأتي بقصة إبراهيم عليه السلام، ثاني الأنبياء الكبار من أولي العزم فيقول: «وَإِبْرهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ». إذ ينجيكم من دنياكم الملوّثة بالذنوب والشقاء، وتكون آخرتكم هي السعادة الأبدية.

ثم يذكر إبراهيم عليه السلام أدلة بطلان عبادة الأصنام والأوثان، ويبيّن في تعابير مختلفة يتضمن كل منها دليلًا على فساد مذهبهم وبطلانه فيقول أوّلًا: «إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا».

الأصنام التي ليس لها إرادة، ولا عقل، وهي فاقدة لكل شي ء، بحيث إنّ شكلها بنفسه هو دليل على بطلان عقيدة «عبادة الأوثان».

ثم يتوسع في حديثه ويمضي إلى مدى أبعد فيقول: ليست هذه الأوثان بهيئتها تدل على أنّها لا تستحق العبادة فحسب، بل أنتم تعلمون بأنّكم تكذبون وتضعون اسم الآلهة على هذه الأوثان: «وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 543

ثم يبيّن الدليل الثالث وهو أنّ عبادتكم لهذه الأوثان إمّا لأجل المنافع المادية، أو لعاقبتكم في «الاخرى» وكلا الهدفين باطل ... وذلك: «إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَايَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا».

وأنتم تعتقدون بأنّ هذه الأصنام لم تكن خلقتكم، بل الخالق هو اللَّه، فالذي يتكفل بالرزق هو اللَّه، «فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرّزْقَ».

ولأنّه هو الذي يرزقكم فتوجهوا إليه «وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ».

وإذ كنتم تبتغون الدار الاخرى فإنّه «إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ».

فالأصنام لا تصنع شيئاً هنا ولا هناك.

وبهذا الأدلة الموجزة والواضحة ألجم منطقهم الواهي وأفحمهم.

ثم يلتفت إبراهيم عليه السلام مهدّداً لهم ومبدياً عدم اكتراثه بهم

قائلًا: «وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ» كذبوا أنبياءهم فنالوا الخزي بتكذيبهم والعاقبة الوخيمة «وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلغُ الْمُبِينُ» سواءً استجاب له قومه، أم لم يستجيبوا له دعوته وبلاغه.

والمقصود بالامم قبل امة إبراهيم عليه السلام، امة نوح عليه السلام وما بعده من الامم.

والقرآن يترك قصة إبراهيم هنا مؤقتاً، ويكمل البحث الذي كان لدى إبراهيم في صدد التوحيد وبيان رسالته بدليل المعاد، فيقول: «أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ». أي كيف لا يعرف هؤلاء خلق اللَّه؟ فالذي له القدرة على الإيجاد أوّلًا قادر على إعادته أيضاً.

ويضيف في آخر الآية على سبيل التأكيد: «إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ». لأنّ تجديد الحياة قبال الإيجاد الأوّل يُعدّ أمراً بسيطاً.

وطبيعي أنّ هذا التعبير يناسب منطق الناس وفهمهم، وإلّا فإنّ اليسير والعسير لا مفهوم لهما عند من قدرته غير محدودة والمطلقة.

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ لَا فِي السَّمَاءِ وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لَا نَصِيرٍ (22) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَ لِقَائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 544

الآيسون من رحمة اللَّه: هذه الآيات تواصل البحث في المعاد أيضاً، فإنّ القرآن يدعو في الآية الاولى من هذا المقطع الناس إلى «السير في الآفاق» في مسألة المعاد ... في حين أنّ الآية السابقة كانت السمة فيها «السير في الأنفس» أكثر. يقول القرآن:

«قُلْ سِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ». انظروا إلى أنواع الموجودات

الحية، والاقوام والامم المتنوعة والمختلفة، وكيف أنّ اللَّه تعالى خلقها أولًا، ثم إنّ اللَّه نفسه الذي أوجدها في البداية من العدم قادر أيضاً على ايجادها في الآخرة: «ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْأَخِرَةَ» ولأنّه أثبت قدرته على كل شي ء حين خلق الخلق أوّلًا، إذن ف «إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

فهذه الآية والآية التي قبلها- أيضاً- أثبتتا بواسطة قدرته الواسعة إمكان المعاد ..

«النشأة»: في الأصل، تعني إيجاد الشي ء وتربيته، وقد يعبر أحياناً عن الدنيا بالنشأة الاولى، كما يعبر عن الاخرى بالنشأة الآخرة.

ثم يتعرض القرآن الكريم إلى إحدى المسائل المتعلقة بالمعاد، وهي مسألة الرحمة والعذاب، فيقول: «يُعَذّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ».

ومع أنّ رحمة اللَّه مقدمة على غضبه، إلّاأنّ الآية هنا تبدأ أوّلًا بذكر العذاب ثم الرحمة، لأنّها في مقام التهديد، وما يناسب مقام التهديد هو هذا الاسلوب.

وإكمالًا لهذا البحث الذي يبيّن أنّ الرحمة والعذاب هما بيد اللَّه والمعاد إليه، يضيف القرآن: إذا كنتم تتصورون أنّكم تستطيعون أن تهربوا من سلطان اللَّه وحكومته ولا يمسّكم عذابه، فأنتم في خطأ كبير ... فليس الأمر كذلك؛ «وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى السَّمَاءِ» «1».

وإذا كنتم تتصورون أنّكم تجدون من يدافع عنكم وينصركم هناك، فهذا خطأ محضٌ أيضاً: «وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِىّ وَلَا نَصِيرٍ».

وهكذا يغلق القرآن جميع أبواب الفرار بوجه هؤلاء المجرمين .. لذلك يقول في الآية التي بعدها بشكل قاطع: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَايتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولئِكَ يِسُوا مِنْ رَّحْمَتِى». ثم يضيف مؤكداً: «وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

هذا «العذاب الأليم» هو لزم اليأس من رحمة اللَّه.

______________________________

(1) «معجزين»: مشتقة من مادة «عجز»، ومعناها في الأصل التخلّف والتأخر عن الشي ء، ولذلك تستعمل هذه الكلمة في الضعف الباعث

على التخلف والتأخر؛ «المعجزة»: معناه الذي يجعل الآخر عاجزاً، وحيث إنّ الأفراد الذين يفرون من سلطان أحد وقدرته، يعجزونه عن ملاحقتهم، لذلك استعملت كلمة «معجز» في هذا الصدد أيضاً.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 545

والمراد ب «آيات اللَّه» هي جميع الآيات في عالم الوجود والتشريع.

فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَ قَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَ مَأْوَاكُمُ النَّارُ وَ مَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ جَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَ الْكِتَابَ وَ آتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)

اسلوب المستكبرين في جوابهم لإبراهيم: والآن علينا أن نعرف ماذا قال هؤلاء القوم الضالون لإبراهيم عليه السلام ردّاً على أدلته الثّلاثة في مجال التوحيد والنبوة والمعاد؟!

إنّهم- قطعاً- لم يكن لديهم جواب منطقي وكجميع الأقوياء المستكبرين فقد توسلوا بقدراتهم الشيطانية وأصدروا أمراً بقتله، حيث يصرّح بذلك القرآن الكريم فيقول: «فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرّقُوهُ».

وأخيراً رُجح الرأى الأوّل، لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ أشدّ حالات الإعدام هو الإحراق بالنار.

وفي هذه الآية الكريمة لم يرد كلام عن كيفية إحراق إبراهيم عليه السلام بالنار سوى هذا المقدار الذي استكملت به الآية الكريمة، وهو «فَأَنجهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ».

غير أنّ تفصيل ما جرى عليه من الإحراق ورد في سورة الأنبياء الآيات (68- 70) وقد بيّنا ذلك هناك، فلا بأس بمراجعته.

ويضيف القرآن في الختام: «إِنَّ

فِى ذلِكَ لَأَيتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».

إنّ ابراهيم عليه السلام نجّي من النار بصورة خارقة للعادة وبلطف اللَّه سبحانه، غير أنّه لم يترك أهدافه .. بل نهض بالأمر وازداد همّة وأعطى لأهدافه حرارة أكثر.

ثم توجه إبراهيم إلى المشركين، «وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِى

مختصر الامثل، ج 3، ص: 546

الْحَيَوةِ الدُّنْيَا». ولكن هذه المودة والمحبة تتلاشى في الآخرة، «ثُمَّ يَوْمَ الْقِيمَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَيكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نصِرِينَ».

إنّ عبادة الصنم أو الوثن كانت رمزاً للوحدة لكل قوم ولكل قبيلة، كما تربط بينهم وبين اسلافهم. ثم بعد هذا كلّه فإنّ سراة الكفار كانوا يدعون أتباعهم إلى عبادة الأوثان، وكان هذا الأمر بمثابة «حلقة الاتصال» بين السراة والأتباع.

ولكن هذه العلائق والوشائج والإرتباطات الخاوية تتقطع جميعها يوم القيامة.

وفي الآية التي بعد تلك الآية إشارة إلى إيمان لوط وهجرة إبراهيم، إذ تقول: «فَامَنَ لَهُ لُوطٌ».

«لوط» نفسه من الأنبياء العظام، وكانت له مع إبراهيم علاقة قربى «يقال إنّه كان ابن أخت ابراهيم عليه السلام» وحيث إنّ اتّباع شخص عظيم- لإبراهيم- بمنزلة أفراد امة كاملة فقد تحدث سبحانه- خاصةً- عن إيمان «لوط» وشخصيته الكبرى المعاصرة لإبراهيم عليه السلام، ليتّضح أنّه إذ لم يؤمن الآخرون، فإنّ ذلك ليس مهماً.

ثم تضيف الآية عن هجرة إبراهيم عليه السلام، فتقول: «وَقَالَ إِنّى مُهَاجِرٌ إِلَى رَبّى إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

فلذلك تحرك ابراهيم عليه السلام وزوجه سارة- بمعيّة لوط- من بابل إلى أرض الشام مهد الأنبياء والتوحيد، ليستطيع أن يكتسب جماعة هناك ويوسع دعوة التوحيد.

وفي آخر آية من هذا المقطع يقع الكلام على المواهب الأربع التي منحها اللَّه لإبراهيم عليه السلام بعد الهجرة العظيمة:

الموهبة الاولى: الأبناء الصالحون، من أمثال إسحاق ويعقوب،

ليسرجوا مصباح الإيمان والنبوة في بيته وأسرته ويحافظوا عليه، إذ يقول القرآن: «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحقَ وَيَعْقُوبَ». وهما نبيّان كبيران واصل كل منهما السير على منهاج إبراهيم محطم الأصنام.

الموهبة الثانية: «وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتبَ».

الموهبة الثالثة: «وَءَاتَيْنهُ أَجْرَهُ فِى الدُّنْيَا». فما هو هذا الأجر الذي لم يوجهه القرآن؟ لعلّه إشارة إلى امور مختلفة مثل الاسم الحسن، ولسان الصدق والثناء بين جميع الامم، لأنّ الامم كلها تحترم إبراهيم عليه السلام على أنّه نبي عظيم الشأن، ويفتخرون بوجوده ويسمونه «شيخ

مختصر الامثل، ج 3، ص: 547

الأنبياء».

الموهبة الرابعة، هي: «وَإِنَّهُ فِى الْأَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ». وهكذا تشكّل هذه المواهب مجموعة كاملة من المفاخر.

وَ لُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَ تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَ تَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)

المنحرفون جنسياً: بعد بيان جانب مما جرى لإبراهيم عليه السلام يتحدث القرآن عن قسم من قصة حياة النبي المعاصر لإبراهيم «لوط عليه السلام» فيقول: «وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ». «الفاحشة»: مشتقة من مادة «فَحَشَ» وهي في الأصل تعني كل فعل أو كلام سي ء للغاية، والمراد بها هنا الانحراف الجنسي. (اللواط).

لوط عليه السلام هذا النبي العظيم، كشف أخيراً ما في نفسه وقال لقومه: «أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ». أفتريدون أن تقطعوا النسل «وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ».

ولا ترعوون عن الأعمال المخزية في مجالسكم العامة «وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ».

«النادي»: مشتق من «النداء» وهو يعني المجلس العام، كما يأتي أحياناً بمعنى مكان التنزّه، لأنّ الأفراد هناك ينادي بعضهم بعضاً

وترتفع أصواتهم.

ورد في التواريخ: إنّهم كانوا يتسابون بكلمات الفحش والإبتذال، أو يضرب أحدهم الأخر على ظهره، أو يلعبون القمار، ويستعملون أنواع الآلات الموسيقية، ويكشفون عوراتهم في مجتمعهم ويغدون عراة ... الخ «1».

والآن فلنلاحظ ماذا كان جواب هؤلاء القوم الضالين المنحرفين، على كلمات النبي لوط عليه السلام المنطقية. يقول القرآن: «فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصدِقِينَ».

وهنا لم يكن للوط عليه السلام بدّ إلّاأن يلتفت إلى اللَّه بقلب حزين مهموم ... و «قَالَ رَبّ انصُرْنِى

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 548

عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ». القوم المنحرفين، المتمادين في الأرض فساداً، والذين تركوا تقواهم وأخلاقهم الإنسانية وألقوا العفة والطهارة خلف ظهورهم، ومزجوا عبادة الأوثان بفسد الأخلاق والظلم، وهددوا نسل الإنسان بالفناء والزوال.

وَ لَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَ أَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَ لَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِي ءَ بِهِمْ وَ ضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قَالُوا لَا تَخَفْ وَ لَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَ لَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)

وهذه هي عاقبة المنحرفين: لقد استجيب دعاء لوط أخيراً، وصدر الأمر من اللَّه تعالى بالعقاب الصارم والشديد لهؤلاء القوم المنحرفين والمفسدين، فمرّ الملائكة المأمورون بعذاب قوم لوط بالأرض التي فيها إبراهيم عليه السلام لأداء رسالة اخرى قبل أن ينزلوا العقاب بقوم لوط، وهذه الرسالة التي سبقت العذاب، هي بشارتهم

لإبراهيم عليه السلام بالولد: «بشروه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب».

والآيات المتقدمة تذكر أوّلًا قصة مرورهم بإبراهيم عليه السلام فتقول: «وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ».

والتعبيرب «هذه القرية» يدل على أنّ مُدن قوم لوط كانت قريبة من أرض إبراهيم عليه السلام.

والتعبير ب «الظالمين» هو لأجل كونهم يظلمون أنفسهم باتخاذهم سبيل الشرك والفساد الأخلاقي وعدم العفة، وظلمهم الآخرين حتى شمل العابرين والقوافل التي كانت تمرّ على طريقهم.

فلمّا سمع «إبراهيم» هذا النبأ حزن على لوط النبي العظيم و «قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 549

فما عسى أن تكون عاقبته؟

إلّا أنّهم أجابوه على الفور: «قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا» فلا تحزن عليه، لأنّنا لا نحرق «الأحضر واليابس» معاً، وخطتنا دقيقة ومحسوبة تماماً ... ثم أضافوا: «لَنُنَجّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ».

إنتهى كلام الملائكة مع إبراهيم هنا، وتوجهوا إلى ديار لوط عليه السلام وقومه، يقول القرآن في هذا الشأن: «وَلَمَّا أَن جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِى ءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا».

فقد جاؤوا إليه بهيئة فتيان ذي وجوه مليحة، ومجي ء أمثال هؤلاء الضيوف في مثل هذا المحيط الملوّث، ربّما كان يجرّ على لوط الوبال.

«سي ء»: مشتقة من «ساء» ومعناه سوء الحال؛ و «الذرع»: معناه «القلب» «الخلق»، فعلى هذا يكون معنى «ضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا» أي ضاق قلبه وانزعج.

إلّا أنّ الضيوف حين أدركوا عدم إرتياحه كشفوا عن «هويّتهم» وعرفوا أنفسهم ورفعوا عنه الحزن: «وَقَالُوا لَاتَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ».

وبعد هذا، ولكي تتضح خطة عملهم في شأن عاقبة هؤلاء القوم المنحرفين أكثر، أضافوا: «إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ».

والمراد ب «القرية» هي «سدوم» من

قرى قوم لوط عليه السلام.

والمراد من «الرجز» هنا هو العذاب.

وهنا لم يذكر القرآن كيفية العذاب الأليم، سوى أنّه قال: «وَلَقَدْ تَّرَكْنَا مِنْهَا ءَايَةً بَيّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ».

إلّا أنّ في سورة هود الآية (82) منها وكذلك سورة الأعراف الآية (84) منها، تفصيلًا في بيان العذاب، وهو أنّه أصابت قراهم في البداية زلزلة شديدة فجعلت عاليها سافلها، ثم أمطرت عليها حجارة من السماء.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 550

وَ إِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ ارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ لَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَ عَاداً وَ ثَمُودَ وَ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ كَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَ قَارُونَ وَ فِرْعَوْنَ وَ هَامَانَ وَ لَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَ مَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)

تنوع العذاب للظالمين: بعد بيان قصّة لوط وقومه يقع الكلام عن أقوام آخرين أمثال قوم شعيب وعاد وثمود، وقارون وفرعون، وقد أشير في هذه الآيات- محل البحث- إلى كل منهم إشارة موجزة «مكثفة» للإستنتاج والعبرة. في البداية تقول الآية:

«وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا».

والتعبير بكلمة «أخاهم»، هو إشارة إلى منتهى محبّة هؤلاء الأنبياء إلى اممهم، وإلى عدم طلبهم السلطة، وبالطبع فإنّ هؤلاء الأنبياء كانت لهم علاقة قرابة بقومهم أيضاً.

و «مدين» مدينة واقعة جنوب غربي الأردن، وتدعى اليوم ب «معان» وهي في شرق خليج العقبة، وكان شعيب عليه السلام وقومه يقطنون فيها.

وشعيب

كسائر أنبياء اللَّه العظام، بدأ بالدعوة إلى الاعتقاد بالمبدأ والمعاد، وهما أساس كل دين وطريقة: «فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْأَخِرَ».

فالإيمان بالمبدأ يكون سبباً لإحساس الإنسان بأنّ اللَّه يراقبه مراقبةً دقيقةً بشكل دائم ويسجّل أعماله؛ والإيمان بالمعاد يذكّر الإنسان بمحكمة عظيمة يحاسب فيها عن كل شي ء وكل عمل مهما كان تافهاً ...

مختصر الامثل، ج 3، ص: 551

مختصر الامثل ج 3 593

والمبدأ الثالث هو بمثابة خطّة عمل جامعة، تحمل بين طياتها جميع الخطط الإجتماعية، إذ قال: «وَلَا تَعْثَوْا فِى الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ».

وللفساد مفهوم واسع يشمل كل نقص انحراف، وتدمير، وظلم .. الخ .. ويقابله الصلاح والإصلاح، ومفهومهما يشمل جميع الخطط البنّاءة.

«تعثوا»: من مادة «عثى» ومعناه إحداث الفساد أو الإفساد، غاية ما في الأمر أنّ هذا التعبير كثيراً ما يستعمل في الموارد التي تكون فيها «مفاسد أخلاقية»، فعلى هذا يكون ذكر كلمة «مفسدين» بعدها تأكيداً على هذا المفهوم.

إلّا أنّ تلك الجماعة بدلًا من أن تصغي لمواعظه ونصائحه بآذان القلوب، خالفته ولم تصغ إليه «فكذبوه».

وكان هذا التكذيب سبباً في أن تصيبهم زلزلة شديدة «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِى دَارِهِمْ جثِمِينَ». أي مكبوبين على وجوههم ميتين.

«الجاثم»: مشتق من «جثم» ومعناه الجلوس على الركبة والتوقف في مكان ما ... ولا يبعد أن يكونوا نائمين عند وقوع هذه الزلزلة الشديدة .. فهذا التعبير إشارة إلى أنّهم عند وقوع هذه الحادثة نهضوا وجثوا على الركب، إلّاأنّ الحادثة لم تمهلهم حيث انهارت الجدران عليهم ونزلت عليهم الصاعقة التي تزامنت معها فماتوا.

أمّا الآية التي بعده فتتحدث عن «عاد» و «ثمود» قومي (هود وصالح)، دون أن تذكر ما قاله نبيّاهما لهما، وما ردّ عليهما قومهما المعاندون، لأنّهما مذكوران في آيات عديدة من القرآن، وهما أي قوم

هود وقوم صالح معروفان، فلذلك، تقول الآية: «وَعَادًا وَثَمُودَا».

ثم تضيف الآية: «وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ» المتهدمة والتي هي على طريقكم في منطقة الحجر واليمن.

ثم تشير الآية إلى السبب الأصلي لشقائهم وسوء حظّهم، إذ تقول: «وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطنُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ».

وكانت فطرتهم على فطرة اللَّه وتقواه، ولم يأل الأنبياء جهداً في هدايتهم، وبذلوا قدراً كافياً من النصح والإرشاد لهم، لكنّهم حادوا «وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ». و الآية الاخرى تذكر أسماء ثلاثة من الجبابرة الذين كان كل واحد منهم بارزاً للقدرة الشيطانية، فتقول: «وَقرُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهمنَ».

فقارون كان مظهر الثروة المقرونة بالغرور وعبادة «الذات» والأنانية والغفلة.

وفرعون كان مظهر القدرة الإستكبارية المقرونة بالشيطنة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 552

وأمّا هامان، فهو مثل لمن يعين الظالمين المستكبرين.

ثم يضيف القرآن: «وَلَقَدْ جَاءَهُم مُّوسَى بِالْبَيّنَاتِ» والدلائل «فَاسْتَكْبَرُوا فِى الْأَرْضِ». فاعتمد قارون على ثروته وخزائنه وعلمه، واعتمد فرعون وهامان على جيشهما وعلى القدرةالعسكرية، وعلى قوّة إعلامهم وتضليلهم لطبقات الناس المغفّلين الجهلة. لكن .. برغم كل ذلك لم يفلحوا «وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ».

كلمة «سابقين» تعني من يتقدم ويكون أمام الآخرين، فمفهوم قوله تعالى: «وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ». أي إنّهم لم يستطيعوا أن يهربوا من سلطان اللَّه برغم ما كان عندهم من إمكانات، بل أهلكهم اللَّه في اللحظة التي أراد، وأرسلهم إلى ديار الفناء والذلة والخزي.

كما يذكر في الآية التي بعدها: «فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ».

فإنّه يذكر في هذه الآية بحسب الترتيب أنواع عذابهم فيقول: «فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا». «الحاصب»: معناه الاعصار الذي يحمل حصى كثيرة معه.

والمقصود ب «منهم» هنا هم «عاد» قوم هود.

«وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ» وهذا هو العذاب الذي عذب اللَّه به ثمود «قوم هود» كما عذب آخرين ...

«وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ». وهذا هو عقاب قارون الثري

المغرور المستكبر من بني إسرائيل.

«وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا». وهذا الكلام إشارة إلى عقاب فرعون وهامان وجنودهما.

ويبيّن في ختام الآية التأكيد على هذه الحقيقة، وهي أنّ ما أصابهم هو بسبب أعمالهم، «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ».

أجل، إنّ عقاب هذه الدنيا والآخرة هو تجسيد أعمالهم، حيث يغلقون جميع طرق الإصلاح في وجوههم، فاللَّه أكثر عدلًا وأسمى من أن يظلم الإنسان أدنى ظلم.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 553

دعامة واهية كبيت العنكبوت: بيّنت الآيات السابقة ما آل إليه المشركون والمفسدون الظلمة والأنانيون من مصير وخيم وعاقبة سوداء وعذاب أليم ... وبهذه المناسبة، ففي الآيات التي بين أيدينا، يبيّن القرآن الكريم مثالًا بليغاً ومؤثراً يعبدون غير اللَّه ويتخذون من دونه أولياء، وكلّما أمعنا النظر في هذا المثال وفكرنا فيه مليّاً انقدحت في أذهاننا منه لطائف دقيقة، يقول تعالى: «مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ».

والجدير بالذكر، أنّ بيت العنكبوت ونسيج خيوطه المضروب به المثل، هو نفسه من عجائب الخلق، والتدقيق فيه يعرف الإنسان على عظمة الخالق أكثر.

فلو دققنا النظر في بيوت العنكبوت لرأينا منظراً طريفاً مثل الشمس وأشعتها مستقرةً على قواعد هذا «البناء النسيجي»، وبالطبع فإنّ هذا البيت مناسب للعنكبوت وكاف، ولكنه في المجموع لا يمكن تصور بيت أوهن منه، وهكذا بالنسبة إلى آلهة الضالين ومعبوديهم، إذ تركوا عبادة اللَّه والتجأوا إلى الأصنام والأحجار والأوثان.

أمّا الآية التالية ففيها تهديد لهؤلاء المشركين الغفلة الجهلة .. إذ تقول: «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَىْ ءٍ» ولا يخفى على اللَّه شركهم الظاهر ولا شركهم الخفي «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» على الإطلاق.

وإذا أمهلهم، فليس بسبب العجز والضعف، أو عدم العلم،

أو أنّ قدرته محدودة، بل كل ذلك من حكمته التي توجب أن يمنحوا الفرصة الكافية لتتم الحجة البالغة للَّه عليهم، فيهتدي من هو جدير بالهدى.

و الآية الثالثة- من الآيات محل البحث- لعلها تشير إلى ما استشكله أعداء الإسلام على النبي صلى الله عليه و آله في هذه الأمثلة التي ضربها اللَّه، وكانوا يقولون: اللَّه الذي خلق السماوات والأرض كيف يضرب الأمثال بالعنكبوت والذباب والحشرات وما شاكلها؟

فيردّ القرآن بقوله: «وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ».

وفي آخر آية- من الآيات محل البحث- يضيف القرآن الكريم: «خَلَقَ اللَّهُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقّ إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ». ليس في عمل اللَّه باطل أو عبث ... فإذا التشبيه بالعنكبوت وبيته الخاوي هو أمر محسوب بدقّة، وإذا ما إختار موجوداً صغيراً للتمثيل به فهو لبيان الحق، وإلّا فهو خالق أعظم المجرّات والمنظومات الشمسية وغيرها.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 554

اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَ أَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)

إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر: بعد الفراغ من بيان أقسام مختلفة من قصص الامم السابقة وأنبيائهم العظام، يتوجه الخطاب- على سبيل تسلية الخاطر، وإراءة الخط الكلي أو الخطوط العامة- للنبي صلى الله عليه و آله ويأمره بما ينبغي عليه أن يفعل. فيبدأ أوّلًا بقوله: «اتْلُ مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتبِ» ... أي إقرأ هذه الآيات فسوف تجد فيها ما تبتغيه وتطلبه من العلم والحكمة والنصح، ومعيار معرفة الحق من الباطل.

وبعد بيان هذا الأمر الذي يحمل طابعاً تعليمياً، يأتي الأمر الثاني الذي هو محور أصيل للتربية فيقول تعالى: «وَأَقِمِ الصَّلَوةَ».

ثم يبيّن فلسفة الصلاة الكبرى فيقول: «إِنَّ الصَّلَوةَ تَنْهَى

عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ» «1».

طبيعة الصلاة- حيث إنّها تذكر بأقوى رادع للنفس، وهو الإعتقاد بالمبدأ والمعاد- فإنّها تردع عن الفحشاء والمنكر.

إنّ النهي عن الفحشاء والمنكر له سلسلة درجات ومراتب كثيرة، وكل صلاة مع رعاية الشروط لها نسبة من هذه الدرجات.

في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من أحبّ أن يعلم أقبلت صلاته أم لم تقبل، فلينظر هل منعت صلاته عن الفحشاء والمنكر، فبقدر ما منعته قبلت منه».

ويقول القرآن تعقيباً على ما ذكره ومن شأن الصلاة: «وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ».

وظاهر الجملة هو بيان غاية وحكمة اخرى في الصلاة، أي أنّ أثراً آخر من آثار الصلاة وبركاتها أهم من كونها تنهى عن الفحشاء والمنكر هو تذكير الإنسان بربّه، هذا الذكر هو أساس السعادة والخير، بل العامل الأصلي للنهي عن الفحشاء والمنكر أيضاً هو ذكر اللَّه، وكونه أكبر لأنّه العلة والأساس للصلاة.

وحيث إنّ نيّات الناس، وميزان حضور القلب منهم في الصلاة وسائر العبادات، كل ذلك متفاوت جدّاً، فإنّ الآية تختتم بالقول: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ». أي يعلم ما تصنعون

______________________________

(1) إنّ الفحشاء هي إشارة للذنوب الكبيرة الخفية، وأمّا المنكر فهو الذنوب الكبيرة الظاهرة، أو أنّ الفحشاء هي الذنوب التي تنتج بغلبة القوى الشهوانية، والمنكر من أثر القوى الغضبية.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 555

من أعمال في الخفاء أو العلن، والنيّات التي في قلوبكم أو الكلمات التي تجري على ألسنتكم.

وَ لَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَ قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ إِلهُنَا وَ إِلهُكُمْ وَاحِدٌ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَ كَذلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مِنْ هؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ مَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا

إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَ مَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَ لَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ مَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)

اتّبعوا أحسن الأساليب في البحث والجدال: كان أكثر الكلام في الآيات المتقدمة في كيفية التعامل مع المشركين المعاندين وكان مقتضى الحال أن يكون الكلام شديد اللهجة حادّاً، أمّا في هذه الآيات- محل البحث- فيقع الكلام في شأن مجادلة أهل الكتاب الذين ينبغي أن يكون الكلام معهم لطيفاً، فيقول القرآن في هذا الصدد: «وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتبِ إِلَّا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ».

«تجادلوا»: مشتق من «جدال» ومعناه في الأصل فتل الحبل وإحكامه، كما تستعمل هذه المفردة في البناء المحكم وما أشبهه، وحين يتناقش اثنان في بحث معين فكل واحد منهما يريد أن يلوي صاحبه عن عقيدته وفكرته .. لذا فقد سمّي هذا النقاش جدالًا.

والمراد من قوله «وَلَا تُجَادِلُوا»، المناقشات المنطقية.

والتعبير ب «الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ» تعبير جامع يشمل الأساليب والطرق الصحيحة والمناسبة للتباحث أجمع.

فعلى هذا إنّ ألفاظكم ينبغي أن تكون بطريقة مؤدّبة، والكلام ذا مودّة، والمحتوى مستدلًا، وصوتكم هادئاً غير خشن.

وبالطبع فإنّ هذا الأصل الكلي في البحث والمجادلة الإسلامية، فقد يُعدّ في بعض الموارد ضعفاً، أو يكون الطرف الآخر مغروراً إلى درجة أنّ هذا التعامل الإنساني يزيده جرأة وعدواناً وتكبراً، لذلك فإنّ القرآن يضيف مستثنياً: «إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ».

وهم الذين ظلموا أنفسهم وظلموا الآخرين، وكتموا كثيراً من الآيات، لئلا يطلع الناس

مختصر الامثل، ج 3، ص: 556

على أوصاف النبي محمّد صلى الله عليه و آله. ويختتم الآية بمصداق بارز من «المجادلة بالتي هي أحسن» ويمكنه أن يكون قدوة لأي بحث، فيقول القرآن الكريم: «وَقُولُوا ءَامَنَّا بِالَّذِى أُنزِلَ

إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنَا وَإِلهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ».

وهذا مثل واحد من المجادلة بالتي هي أحسن التي ينجذب إليها كل من يسمعها، ويدلّ على أنّ الإنسان يجب أن يكون بعيداً عن التحزب أو طلب التفرقة.

و الآية الاخرى تؤكّد على الاصول الأربعة التي سبق ذكرها في الآية المتقدمة، فتقول: «وَكَذلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتبَ». أي القرآن.

أجل ... نزل هذا القرآن على أساس توحيد المعبود، وتوحيد دعوة جميع الأنبياء إلى الحق، والتسليم دون قيد أو شرط لأمر اللَّه؛ والمجادلة بالتي هي أحسن.

ثم يضيف القرآن الكريم: «فَالَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتبَ يُؤْمِنُونَ بِهِ» ويعتقدون بصدقه إذ أنّهم وجدوا علائمه في كتبهم، كما أنّ محتواه من حيث الاصول العامة والكلية منسجم مع كتبهم.

ويضيف القرآن بعدئذ: «وَمِنْ هؤُلَاءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ». أي أهل مكة والمشركون العرب.

ثم يقول القرآن في كفر الطائفتين من اليهود والنصارى: «وَمَا يَجْحَدُ بَايَاتِنَا إِلَّا الْكفِرُونَ».

ومع الإلتفات إلى أنّ مفهوم الجحود، هو أن يعتقد الإنسان بشي ء بقلبه وينكره بلسانه، فإنّ مفهوم الجملة المتقدمة أنّ الكفار يعترفون في قلوبهم بعظمة هذه الآيات، ويرون علامات الصدق عليها، إلّاأنّهم ينكرون ذلك عناداً وتعصباً، وتقليداً أعمى لأسلافهم ولآبائهم، ولحفظ منافعهم الشخصية.

ثم يضيف القرآن مشيراً إلى علامة اخرى من علائم حقانية دعوة النبي صلى الله عليه و آله الجلية والواضحة، وهي تأكيد على محتوى الآية السابقة، فيقول: «وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتبٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ». وقالوا إنّ ما جاءنا به هذا النبي هو حصيلة مطالعاته لكتب الماضين.

وفي الآية التالية علامة اخرى أيضاً على حقانية القرآن، إذ تقول: «بَلْ هُوَ ءَايتٌ بَيّنَاتٌ فِى صُدُور الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ».

والتعبير ب «الآيات البيّنات» كاشف عن هذه الحقيقة وهي أنّ دلائل حقانية القرآن

مختصر الامثل،

ج 3، ص: 557

تتجلى بنفسها عياناً، وتشرق في أرجائه، فدليلها معها.

ثم بعد هذا كلّه، فإنّ أتباع هذه الآيات وطلابها المشدودة قلوبهم إليها هم أولوا العلم والإطلاع، بالرغم من أن أيديهم خالية وأرجلهم حافية.

وتُختتم الآية بقوله تعالى: «وَمَا يَجْحَدُ بَايَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ» ... لأنّ دليلها واضح، وقد وردت علائمها في الكتب المتقدمة.

وَ قَالُوا لَوْ لَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَ إِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَ ذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَ كَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَ لَوْ لَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَ لَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَ يَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)

أليس القرآن كافياً في إعجازه: الأشخاص الذين لم يذعنوا ويسلّموا للبيان الاستدلالي والمنطقي الذي جاء به القرآن بسبب عنادهم وإصرارهم على الباطل، ولم يقبلوا بكتاب كالقرآن ... تذرّعوا بحجّة اخرى على سبيل الاستهزاء والسخرية، وهي أنّه لم لا تأت- يا محمّد- بمعجزة من المعاجز التي جاء بها موسى وعيسى: «وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايتٌ مِّن رَّبّهِ».

ومن دون شك فإنّ النبي صلى الله عليه و آله كانت لديه معاجز غير القرآن الكريم، إلّاأنّ اولئك لم يكن قصدهم من وراء كلامهم الحصول على معجزة.

إنّ القرآن، للردّ على ذرائع هؤلاء المحتالين ذوي الحجج الواهية، يدخل من طريقين:

فيقول أوّلًا في خطابه لنبيّه: «قُلْ إِنَّمَا الْأَيتُ عِندَ

اللَّهِ». أي قل لُاولئك المعاندين أنّ اللَّه يدري أية معجزة تناسب أي زمان وأي قوم.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 558

ثم يضيف القرآن معقباً أن قل: «وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ».

والجواب الآخر هو قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتبَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ».

فهم يطلبون معاجز مادية «جسمانية»، والقرآن بحدّ ذاته أعظم معجزة معنوية ...

معجزة خالدة تتلى آياته ليل نهار عليهم وعلى الأجيال من بعدهم.

وفي نهاية الآية يضيف القرآن للتأكيد والتوضيح بصورة أجلى، فيقول: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ». «ذلك» هنا إشارة إلى الكتاب المنزل من السماء، وهو القرآن.

أجل، إنّ القرآن رحمة «وسيلة» للذكرى والتذكر أيضاً، فهو للمؤمنين الذين فتحوا قلوبهم بوجه الحقيقة.

ولعل الفرق بين «الرحمة» و «الذكرى» أنّ القرآن ليس معجزة وذكرى فحسب، بل هو إضافة إلى كل ذلك يحتوي على القوانين التي تمنح الرحمة والمناهج التربوية والإنسانية.

فمثلًا كانت عصى موسى معجزة فحسب، إلّاأنّها لم يكن لها أثر في حياة الناس اليومية، غير أنّ القرآن معجزة، هو في الوقت ذاته منهج كامل الحياة ورحمة أيضاً.

ولما كان كل مدعٍ بحاجة إلى الشاهد، فالقرآن يبيّن في الآية الاخرى أنّ خير شاهد هو اللَّه: «قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا».

وبديهي أنّه كلّما كان إطلاع الشاهد وشهادته أكثر، فإنّ قيمة الشهادة تكون أهم، لذلك يضيف القرآن بعدئذ قائلًا: «يَعْلَمُ مَا فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

يحتمل أن تكون هذه الشهادة شهادة عملية، لأنّه حين يؤتي اللَّه نبيّه معجزة كبرى كالقرآن، فقدوقع على سند حقانيته وأمضاه.

وإضافةً للشهادة العملية المتقدمة، نقرأ في آيات كثيرة من القرآن شهادة قولية في نبوة النبي صلى الله عليه و آله.

ويمكن أنّ المراد من شهادة اللَّه في الآية هي ما سبق من الوعد والذكر في كتب اللَّه السابقة «كالتوراة والإنجيل» ويعلم

بذلك علماء أهل الكتاب بصورة جيدة.

وتختتم الآية بنحو من الوعيد والتهديد لُاولئك الكفار باللَّه، فيقول: «وَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْبطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخسِرُونَ». وأي خسران أعظم من أن يعطوا جميع قواهم الجسمانية والإمكانات الاجتماعية والفردية في سبيل الإعلام والتبليغ لمذهبهم الوثني وأهملوا ذكر اللَّه، فلم يُعد عليهم هذا إلّابالضرر والخسران.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 559

أمّا في الآية التالية فإشارة إلى الذريعة الثالثة إذ تقول: «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ». إذ يقولون: لو كان عذاب اللَّه حقّاً على الكافرين فلم لا يأتينا؟!

فيجيب القرآن على هذه الذريعة بثلاثة أجوبة.

الأوّل: «وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَّجَاءَهُمُ الْعَذَابُ».

وهذا الزمان المعين (الأجل) إنّما هو لهدف أصلي، للإرعواء عن باطلهم وتيقظهم، أو إتمام الحجة عليهم.

والثاني: إنّ اولئك الذين يتذرّعون بهذا القول ما يدريهم لعلّ العذاب يأخذهم على حين غرةٍ من أنفسهم «وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَايَشْعُرُونَ» «1».

وبالرغم من أنّ موعد العذاب معين ومقرّر إلّاأنّ المصلحة تقتضي ألّا يطّلعوا عليه، وأن يأتيهم دون مقدمات، لأنّه لو عرف وقته لكان باعثاً على تجرؤ الكفار والمذنبين وجسارتهم .. وحين يأزف الوعد بالعذاب فإنّهم سيتجهون بالتوبة إلى اللَّه وينيبون إليه.

والحكمة التربوية لمثل هذا العقاب تقتضي أن يكتم موعده، لتكون كل لحظة ذات أثر بنفسها، ويكون الخوف والإستيحاش منها عاملًا على الردع.

وأخيراً فإنّ الجواب القرآني الثالث يتبيّن في الآية إذ يقول: «يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكفِرِينَ».

فإذا تأخر عنهم عذاب الدنيا، فإنّ عذاب الآخرة واقع لا محالة، ومحيط بهم تماماً وسيصيبهم حتماً بحيث إنّ القرآن يذكره بصورة أمر فعليّ (وكأنّ جهنم الآن محيطة بهم).

ويوجد تفسير آخر أكثر دقّةً لهذه الآية، وهو أنّ جهنم محيطة، الآن فعلًا بالكافرين، من جهتين- بالمعنى الواقعي للكلمة.

الجهة الاولى: إنّها جهنم الدنيا، إذ هم على أثر شركهم وتلوثهم بالذنب

يحترقون بجهنم التي أعدّوها لأنفسهم.

و الجهة الثانية: طبقاً لظاهر الآيات في القرآن فإنّ جهنم موجودة فعلًا، فإنّ جهنم موجودة في باطن الدنيا، وبهذا فهي محيطة بهم على نحو الحقيقة.

ثم يضيف القرآن: «يَوْمَ يَغْشهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا

______________________________

(1) «البغتة»: مشتقة من «البغت» ومعناه التحقق المفاجى ء وغير المنتظر لأمر.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 560

كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

يمكن أن تكون هذه الآية توضيحاً لإحاطة عذاب جهنم في يوم القيامة بالكفار، ويمكن أن تكون بياناً مستقلًا لذلك العذاب الأليم لهم الذي يحيط بهم اليوم على أثر أعمالهم، وفي غدٍ يتجلى هذا العذاب بوضوح ويكون محسوساً ظاهراً. أمّا جملة «ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ» التي يظهر أنّ قائلها هو اللَّه تعالى، فهي بالإضافة إلى أنّها نوع من العقوبة النفسية لمثل هؤلاء الأشخاص، فهي كاشفة عن هذه الحقيقة، وهي أنّ عذاب اللَّه ليس إلّاانعكاساً للأعمال التي يقوم بها الإنسان نفسه في النشأة الآخرة.

يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَ إِيَّاكُمْ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: نزلت الآية الاولى في المستضعفين من المؤمنين بمكة امروا بالهجرة عنها.

ونزل قوله «وَكَأَيّن مِّن دَابَّةٍ لَاتَحْمِلُ رِزْقَهَا» في جماعة كانوا بمكة يؤذيهم المشركون فأمروا بالهجرة إلى المدينة فقالوا: كيف نخرج إليها وليس لنا بها دار، ولا غفار ومن يطعمنا ومن يسقينا؟

التّفسير

لابدّ من الهجرة: حيث إنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن مواقف

المشركين المختلفة من الإسلام والمسلمين، ففي الآيات محل البحث يقع الكلام عن حال المسلمين ومسؤولياتهم قبال المشاكل المختلفة، أي مشاكل أذى الكفار وضغوطهم وقلّة عدد المسلمين وما إلى ذلك، فتقول الآية الاولى: «يَا عِبَادِىَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ فَإِيىَ فَاعْبُدُونِ».

لأنّ الهدف من خلق الإنسان أن يكون عبداً للَّه، فمتى ما أصبح هذا الهدف الأساسي

مختصر الامثل، ج 3، ص: 561

والنهائي مستحيلًا، فلا سبيل عندئذ إلّا الهجرة.

وحيث إنّ البعض بقوا في ديار الشرك، ولم يرغبوا بالهجرة بذريعة أنّهم يخشون الخروج من ديارهم ويخافون أن يحدق بهم الموت بسبب الأعداء أو الجوع أو العوامل الاخرى التي تهددهم ... إضافة إلى فراق الأحبّة والمتعلقين والأبناء والأصدقاء، فإنّ القرآن يردّهم بجواب جامع قائلًا: «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ».

لا تظنوا أنّ الموت نهاية كل شي ء، لأنّكم جميعاً «إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ» ... إلى اللَّه العظيم، وإلى نعمه التي لا حدّ لها ولا انتهاء لأمدها.

و الآية التالية تبيّن جانباً من هذه النعم فتقول: «وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنهرُ» «1».

والامتياز الآخر لغرف الجنة أنّها دائمة «خلِدِينَ فِيهَا».

ويضيف القرآن معقباً في ختام الآية: «نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ».

والمراد بالعاملين هنا مع قرائن الجمل السابقة، هم الذين يعملون الصالحات المقرونة بإيمانهم، وإن كانت كلمة العاملين مطلقة.

و الآية التالية تصف أهمّ ما يتحلّى به المؤمنون العاملون فتقول: «الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ».

إذ يبتعدون عن الزوجة والأولاد والأهل والبيت والأحباب والأصدقاء وكل شي ء عزيز عليهم، لكنّهم يصبرون برغم الفراق يذوقون مرارة الغربة والتهجير عن أوطانهم ويصبرون.

وإذ أمعنا النظر وفكّرنا جيداً رأينا أنّ الصبر والتوكل هما أساس جميع الفضائل الإنسانية، فالصبر هو عامل الاستقامة أمام العوائق والمشاكل، والتوكل هو الهدف والباعث على

الحركة في هذا الطريق المديد الملتوي.

وفي آخر آية- من الآيات محل البحث- جواب لُاولئك الذين كان لسان حالهم أو لسان مقالهم يقول إذا خرجنا عن ديارنا وأهلينا، فمن سيطعمنا ويرزقنا؟ يخاطبهم القرآن أن لا تحزنوا على الرزق ولا تحملوا ثقل الذلة والأسر، فالرازق هو اللَّه، لا لكم فحسب بل: «وَكَأَيّن مِّن دَابَّةٍ لَاتَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ».

______________________________

(1) «لنبوئنّهم»: من مادة «تبوئة»، معناها إعطاء السكنى للإقامة والبقاء الدائم.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 562

فالقرآن يؤكّد في نهاية الآية قائلًا: «وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».

يسمع كلامكم كلّه، ويعرف لسان حالكم، ولسان حال جميع الدواب، وهو خبير بحاجات الجميع، ولا يخفى على علمه الذي لا حدّ له شي ء أبداً.

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (62) وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَ مَا هذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَ لِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)

الإقرار بالتوحيد في الباطن والشرك في الظاهر: كان الحديث في الآيات السابقة موجّهاً إلى المشركين الذين أدركوا حقانيّة الإسلام، إلّاأنّهم لم يكونوا مستعدين للإيمان والهجرة، خوفاً من انقطاع الرزق عليهم، أمّا في هذه الآيات، فالحديث موجه للنّبي صلى الله عليه و آله، وفي الواقع لجميع المؤمنين، وهو يبيّن دلائل التوحيد عن طرق «الخلقة»،

و «الربوبيّة»، و «الفطرة»، أي عن ثلاث طرائق متفاوتة، ويريهم أنّ مصيرهم وعاقبة أمرهم بيد اللَّه الذي يجدون آثاره في الآفاق وفي أنفسهم، لا بأيدي الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع.

فتبدأ الآية الاولى من هذه الآيات محل البحث، مشيرةً إلى خلق السماوات والأرض وتستعين باعتقاداتهم الباطنية ...

فتقول: «وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ».

لأنّ من المسلم به أنّه لا عبدة الأصنام ولا غيرهم ولا أي أحد آخر يقول: إنّ خالق السماوات والأرض ومسخر الشمس والقمر حفنة من الأحجار والخشب المصنوعة بيد الإنسان.

وبتعبير آخر: لايشك في «توحيد الخالق» حتى عبدة الأصنام حيث كانوا مشركين في عبادة الخالق، وكانوا يقولون: إنّما نعبد أوثاناً ليقربونا إلى اللَّه زلفى، فهم الوسطاء بيننا وبين اللَّه.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 563

وهم غافلون عن أنّه لا تفصل بين الخالق والمخلوق أيّة فاصلة.

إنّ الآية بعد ذكر هذا الدليل الواضح تتساءل: «فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ». أي مع هذا المال كيف يعرضون عن عبادة خالقهم ويستبدلونها بعبادة مجموعة من الأحجار والأخشاب؟!

«يؤفكون»: مشتقة من «إفك» ومعناها إعادة الشي ء من صورته الواقعية والحقيقية.

والتعبير ب «يؤفكون» بصيغة المجهول إشارة إلى أنّهم لا قدرة لهم على التصميم، فكأنّهم منجذبون إلى عبادة الأوثان دون إرادة.

والمراد من تسخير الشمس والقمر النظم التي أقرها اللَّه تعالى، وجعل الشمس والقمر في دائرة هذه النظم في خدمة الإنسان، ومنافعه.

ثم يضيف القرآن تأكيداً لهذا المعنى، وهو أنّ اللَّه خالق الخلق ورازقهم، فيقول: «اللَّهُ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ». فمفتاح الرزق بيده لا بيد الناس ولا بيد الأصنام.

وإذا كانوا يتصورون أنّ اللَّه قادر، إلّاأنّه غير مطّلع على حالهم، فهذا خطأ كبير ل «إِنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ».

وفي المرحلة الثانية يقع الكلام

عن «التوحيد الربوبي» ونزول مصدر الأرزاق من قبله عليهم، فيقول: «وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ». فهذا هو ما يعتقده عبدة الأصنام في الباطن، ولا يتأبون من الاعتراف على ألسنتهم، فهم يعرفون أنّ الخالق هو اللَّه، وأنّه ربّ العالم ومدبره.

ثم يضيف القرآن مخاطباً نبيّه: «قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ». فالحمد والثناء لمن أنعم جميع النعم.

وحيث إنّ أقوال المشركين من جهة، وأعمالهم وأفعالهم وكلماتهم من جهة اخرى، يناقض بعضها بعضاً، فإنّ الآية تختتم بإضافة الجملة التالية: «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَايَعْقِلُونَ».

وإلّا فكيف يمكن للإنسان العاقل أن يتناقض في كلماته، فتارةً يرى أنّ الخالق والرازق والمدبر للعالم هو اللَّه، وتارة يسجد للأوثان التي لا تأثير لها بالنسبة لعواقب الناس.

ومن أجل أن يحوّل القرآن أفكارهم من أفق هذه الحياة المحدودة إلى عالم أوسع من خلال منظار العقل، فإنّه يبيّن في الآية التالية كيفية الحياة الدنيا قياساً إلى الحياة الاخرى الخالدة، في عبارة موجزة ومليئة بالمعاني، فيقول: «وَمَا هذِهِ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْأَخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ». «اللهو»: معناه الإنشغال، أو كل عمل يصرف الإنسان إليه ويشغله عن مسائل الحياة الأساسية. أمّا «اللعب»: فيطلق على الأعمال التي

مختصر الامثل، ج 3، ص: 564

فيها نوع من النظم الخيالي، والهدف الخيالي أيضاً. فالقرآن في هذا الصدد يشرح حال الدنيا وحال الآخرة، مبيّناً أنّ الحياة الدنيا هي نوع من الإنشغال واللعب، ثم يطوى كل شي ء ويغدو في سلة النسيان.

أمّا الحياة الحقيقية التي الافناء بعدها، فهي الحياة الآخرة فحسب.

وينبغي الإلتفات إلى أنّ المراد من «الحيوان» هو الحياة، فهذه الكلمة تحمل معنى مصدرياً. وهذا التعبير: «وَإِنَّ الدَّارَ الْأَخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ» إشارة إلى أنّ الحياة الحقيقية هي

في الاخرى، لا في هذه الدار الدنيا- فكأنّ الحياة في الاخرى تفور من جميع أبعادها، ولا شي ء هناك إلّاالحياة.

وبديهي أنّ القرآن لا يريد أن ينسى وينفي مواهب اللَّه في هذه الدار الدنيا، بل يريد أن يجسد قيمة هذه الدنيا بالقياس إلى الاخرى قياساً صريحاً وواضحاً ... وإضافةً إلى كل ذلك فإنّه ينذر الإنسان لئلا يكون أسيراً لهذه المواهب، بل ينبغي أن يكون أميراً عليها، ولا يؤثرها على القيم الأصيلة أبداً.

وفي المرحلة الثالثة ... يتجه القرآن نحو الفطرة والجبلّة الإنسانية، ونحو تجلّي نور التوحيد في أشدّ الأزمات في أعماق روح الإنسان، وضمن مثالٍ بديع جدّاً وبليغ فيقول: «فَإِذَا رَكِبُوا فِى الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ فَلَمَّا نَجهُمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ».

أجل، إنّ الشدائد والأزمات هي التي تهي ء الأرضية لتفتح الاجتماعية «الفطرة» الإنسانية، لأنّ نور التوحيد مخفي في أرواح الناس جميعاً.

إلّا أنّ التعليمات الخاطئة والغفلة والغرور- وخاصة عند السلامة ووفور النعمة- تلقي عليها أستاراً، غير أنّ طوفان الحوادث يزيل هذه الأستار، وتتجلى نقطة النور آنذاك.

وفي آخر آية- من الآيات محل البحث- وبعد ذكر جميع هذه الدلائل على التوحيد وعبادة اللَّه، يواجه القرآن المشركين والكفار بتهديد شديد فيقول: إنّ هؤلاء أنكروا آياتنا وكفروا بما رزقناهم من النعم فليتمتعوا بها أيّاماً قلائل: «لِيَكْفُرُوا بِمَا ءَاتَيْنهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» عاقبة كفرهم وشركهم.

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَ فَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَ الَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 565

سبب

النّزول

في الدرّ المنثور عن ابن عباس أنّ جماعة من المشركين قالوا: يا محمّد ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلّامخافة أن يتخطفنا الناس لقلّتنا والعرب أكثر منّا فمتى بلغهم أنّا قد دخلنا في دينك اختطفنا فكنّا أكلة رأس، فأنزل اللَّه: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا ءَامِنًا» الآية.

التّفسير

أشارت الآيات- التي سبق ذكرها- إلى بعض الحجج الواهية للمشركين، وهي أنّنا نخاف على حياتنا إذا أظهرنا الإيمان ثم هاجرنا معك يا رسول اللَّه، وقد ردّ عليها القرآن بطرق مختلفة، وفي الآيات- محل البحث- يردّ القرآن عليهم بطريق آخر فيقول:

«أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا ءَامِنًا». أي أرض مكة المكرمة.

في حين أنّ العرب كانوا يعيشون في حالة غير آمنة خارج مكة، وكانت قبائلهم مشغولة بالنهب والسلب والغارات، إلّاأنّ هذه الأرض باقية على أمنها «وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ».

فاللَّه المقتدر على أن يجعل في هذا البحر المتلاطم والطوفان المحدق بأرض الحجاز «من الفتن» حرم مكة كالجزيرة الهادئة الآمنة وسط البحر، كيف لا يمكنه أن يحفظهم من أعدائهم؟! وكيف يخافون الناس الضعاف قبال قدرة اللَّه العظيمة جلّ وعلا؟

«أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ».

وبعد ذكر هذا الدليل الواضح ينتهي القرآن إلى هذه النتيجة في الآية التالية: «وَمَن أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقّ لَمَّا جَاءَهُ». لقد قدمنا دلائل واضحة لكم على أنّه لا شي ء أحق بالعبادة وأحرى بها من اللَّه، لكنّكم كذبتم على اللَّه، وصنعتم له شركاء بأيديكم.

إنّ الشرك مصدر جميع المفاسد الإجتماعية، وفي الواقع إنّ المظالم الاخرى تسترفد منه، عبادة الهوى، عبادة المقام، عبادة الدنيا، كل منها نوع من الشرك.

ولكن اعلموا أنّ عاقبة الشؤم والخزي للمشركين «أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لّلْكفِرِينَ». و آخر آية- من الآيات محل البحث- وهي في

الوقت ذاته آخر آية سورة العنكبوت، تبيّن واقعاً مهماً، وهي عصارة جميع هذه السورة، وتنسجم مع بدايتها. تقول الآية ... بالرغم من أنّ المشاكل المتعددة تحيط بطريق المسير إلى اللَّه، من قبيل مشكلة معرفة الحق، ومشكلة وساوس الشياطين من الإنس والجن، ومشكلة عناد الأعداء الألداء الظالمين الذين لا

مختصر الامثل، ج 3، ص: 566

يرحمون، ومشكلة الانحرافات الاحتمالية، لكن هنا حقيقة ثابتة، وهي أنّ اللَّه يمنحكم القوة والاطمئنان قبال المشاكل ويدافع عنكم، تقول الآية: «وَالَّذِينَ جهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ».

إنّ التعبير بالجهاد له معنى واسع مطلق، ومثله التعبير بكلمة «فينا» فالتعبير يشمل كل سعي وجهاد في سبيل اللَّه ومن أجله، وللوصول إلى الأهداف الإلهية، كل ذلك يصدق عليه «جهَدُوا فِينَا» سواءٌ كان في سبيل كسب المعرفة، أو جهاد النفس، أو مواجهة الأعداء، أو الصبر على الطاعة، أو الصبر على المعصية، أو في إعانة الضعفاء، أو في الإقدام على أي عمل حسن وصالح.

وعلى هذا أنّنا إذا أصبنا بأي نوع من الهزيمة عدم الموفقية، فسبب ذلك وعلته أحد أمرين: إمّا أنا قصّرنا في جهادنا، أو لم يكن لدينا إخلاص في العمل.

«نهاية تفسير سورة العنكبوت»

مختصر الامثل، ج 3، ص: 567

30 سورة الرّوم

محتوى السورة: يمكن تلخيص مضامين هذه السورة في سبعة أقسام:

1- التنبؤ بانتصار الروم على الفُرس في معركة تحدث في المستقبل.

2- جانب من طريقة التفكير عند غير المؤمنين وكيفية أحوالهم.

3- قسم مهم من آيات «عظمة اللَّه» في الأرض والسماء، وفي وجود الإنسان.

4- الكلام عن التوحيد «الفطري» بعد بيان دلائله في الآفاق وفي الأنفس لمعرفة اللَّه سبحانه.

5- العودة إلى شرح أحوال غير المؤمنين والمذنبين وتفصيل حالاتهم، وظهور الفساد في الأرض نتيجة لآثامهم وذنوبهم.

6- إشارة إلى مسألة التملك، وحق ذوي القربى، وذم الربا.

7-

العودة- مرّة اخرى- إلى دلائل التوحيد، وآيات اللَّه وآثاره، والمسائل المتعلقة بالمعاد.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأها كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل ملك سبّح للَّه ما بين السماء والأرض، وأدرك ما ضيع في يومه وليلته».

ومن البديهي أنّ من جعل محتوى هذه السورة في روحه وقلبه، وراقب اللَّه في كل لحظة،

مختصر الامثل، ج 3، ص: 568

فإنّ تقوى اللَّه تملأ قلبه حتى يكون حقيقاً بهذا الأجر والثواب.

الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قال المفسرون: غلبت فارس الروم وظهروا عليهم على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وفرح بذلك كفار قريش من حيث إنّ أهل فارس لم يكونوا أهل كتاب وساء ذلك المسلمين. وكان بيت المقدس لأهل الروم، كالكعبة للمسلمين. فدفعتهم فارس عنه. فنزلت الآيات الآنفة وقالت: لئن غلب الفرس الروم ليأتينّ النصر والغلبة للروم خلال فترة قصيرة، وقد حدّدت الفترة لانتصار الروم على الفرس «فِى بِضْعِ سِنِينَ».

وهذا الكلام السابق لأوانه، هو من جهة دليل على إعجاز القرآن، هذا الكتاب السماوي الذي يستند علمه إلى الخالق غير المحدود، ومن جهة اخرى كان فألًا حسناً للمسلمين في مقابل فأل المشركين، حتى أنّ أبابكر ناحب بعض المشركين قبل أن يحرم القمار

على شي ء، إن لم تغلب فارس في سبع سنين. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «لم فعلت فكل ما دون العشرة بضع». فكان ظهور فارس على الروم في تسع سنين ثم أظهر اللَّه الروم على فارس زمن الحديبية ففرح المسلمون بظهور أهل الكتاب.

التّفسير

تنبؤ عجيب: هذه السورة ضمن مجموع تسع وعشرين سورة تبدأ بالحروف المقطعة «الم». وقد بحثنا مراراً في تفسير هذه الحروف المقطعة وخاصة في بداية سورة البقرة وآل عمران والأعراف. والفارق الوحيد الذي نلاحظه هنا عن بقية السور، ويلفت النظر، هو أنّه خلافاً لكثير من السور التي تبدأ بالحروف المقطعة، التي يأتي الحديث بعدها على عظمة

مختصر الامثل، ج 3، ص: 569

القرآن الكريم، بل بحثاً عن اندحار الروم وانتصارهم في المستقبل، ولكن مع التدقيق يتّضح أنّ هذا البحث يتحدث عن عظمة القرآن الكريم أيضاً ... لأنّ هذا الخبر الغيبي المرتبط بالمستقبل هو من دلائل إعجاز القرآن، وعظمة هذا الكتاب السماوي.

يقول القرآن بعد الحروف المقطعة: «غُلِبَتِ الرُّومُ فِى أَدْنَى الْأَرْضِ».

والمراد ب «أدنى الأرض» المكان القريب من بلاد فارس، أي إنّ المعركة وقعت في أقرب نقطة بين الفرس والروم.

ثم يضيف القرآن: «وَهُمْ مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ». وهم أي الروم.

ثم يبيّن الفترة القصيرة من هذه السنين بهذا التعبير: «فِى بِضْعِ سِنِينَ». والمعلوم أنّ «بضع» ما يكون أقله الثلاث وأكثره التسع.

وإذا أخبر اللَّه عن المستقبل، فلأنّه «لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ».

إنّ هذه العبارة تريد أن توضح هذه اللطيفة، وهي أنّ القادر بالذات والمالك على الإطلاق هو اللَّه، وكل من لديه شي ء فهو منه.

ثم يضيف القرآن: أنّه إذا فرح المشركون اليوم بانتصار الفرس على الروم فإنّه ستغلب الروم «وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ».

أجل، يفرحون «بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ

الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ».

إنّ المسلمين «المؤمنين» فرحوا في ذلك اليوم لجهات متعددة:

1- من إنتصار أهل الكتاب على المجوس، لأنّه ساحة لإنتصار الموحدين على المشركين.

2- من الإنتصار المعنوي لظهور إعجاز القرآن.

3- ومن الإنتصار المقارن لذلك الإنتصار، ويحتمل أن يكون صلح الحديبية، أو بعض فتوحات المسلمين الاخر.

ولزيادة التأكيد يضيف أيضاً: «وَعَدَ اللَّهِ لَايُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ». والسبب في عدم علم الناس، هو عدم معرفتهم باللَّه وقدرته، فهم لم يعرفوا اللَّه حق معرفته، فهم لا يعلمون هذه الحقيقة، وهي أنّ اللَّه محال عليه أن يتخلف عن وعده، لأنّ التخلف عن الوعد إمّا للجهل، أو للضعف وعدم القدرة، لكن اللَّه لا يتخلف عن الوعد، لأنّه يعرف عواقب الامور، وقدرته فوق كل شي ء.

ثم يضيف القرآن معقباً: «يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْأَخِرَةِ هُمْ غفِلُونَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 570

ولو كانوا يعلمون باطن الحياة وواقعها في هذه الدنيا، لكان ذلك كافياً لمعرفة الآخرة، لأنّ التدقيق في هذه الحياة العابرة، يكشف أنّها حلقة من سلسلة طويلة ومرحلة من مسير مديد كبير، كما أنّ التدقيق في مرحلة تكوين الجنين يكشف عن أنّ الهدف النهائي ليس هو هذه المرحلة من حياة الجنين فحسب، بل هي مقدمة لحياة أوسع. إعجاز القرآن من جهة علم الغيب: إنّ واحداً من طرق إثبات إعجاز القرآن، هو الإخبار بالمغيبات، ومثله الواضح في هذه الآيات- محل البحث- ففي عدّة آيات يخبر بأنواع التأكيدات عن إنتصار كبير لجيش منهزم بعد بضع سنين .. ويعدّ ذلك وعداً إلهياً غير مكذوب ولا يتخلف أبداً.

ويحدثنا التاريخ أنّه لم تمض تسع سنوات حتى تحققت هاتان الحادثتان ... فقد انتصر الروم في حربهم الجديدة على الفرس، واقترن زمان هذا الإنتصار ب «صلح الحديبية» وطبقاً

لرواية اخرى أنّه كان مقارناً لمعركة بدر، إذ حقق المسلمون إنتصاراً ملحوظاً على الكفار.

أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ أَثَارُوا الْأَرْضَ وَ عَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَ كَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ (10)

كان الكلام في آخر آية من البحث السابق عن السطحيين وأصحاب الظاهر، حيث كان أفق فكرهم لا يتجاوز حدود الدنيا والعالم المادي .. وكانوا جاهلين بماوراء الطبيعة ويوم القيامة، أمّا في هذه الآيات- محل البحث- والآيات المقبلة، فيقع الكلام على مطالب متنوعة حول المبدأ والمعاد، فتبدأ هذه الآيات أوّلًا على صورة استفهام فتقول: «أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِى

مختصر الامثل، ج 3، ص: 571

أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى». أي: لو أنّهم فكروا جيداً ورجعواإلى عقلهم في الحكم و وجدانهم، لكانوا يطلعون جيداً على هذين الأمرين:

أوّلًا: إنّ العالم خلق على أساس الحق، وتحكمه أنظمة هي دليل على أنّ الخالق لهذا العالم ذو علم مطلق وقدرة كاملة.

وثانياً: هذا العالم يمضي إلى الزوال، وحيث إنّ الخالق الحكيم لا يمكن أن يخلقه عبثاً، فيدل ذلك على وجود عالم آخر هو الدار الباقية بعد هذه الدنيا.

لذلك يضيف القرآن في نهاية الآية قائلًا: «وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاىِ رَبّهِمْ لَكفِرُونَ» فينكرون لقاء اللَّه؛ أو إنّهم ينكرون المعاد أصلًا؛ أو إنّهم لا ينكرون

بلسانهم، لكن أعمالهم «ملوثة» ومخزية تدل على أنّهم غير معتقدين بالمعاد، إذ لو كانوا يعتقدون بالمعاد لم يكونوا فاسدين أو مفسدين.

وحيث إنّ التعبير ب «أَجَلٍ مُّسَمًّى» كاشف عن أنّ هذه الحياة على كل حال لا تدوم، وهذا إنذار لجميع عبدة الدنيا، فإنّ القرآن يضيف في الآية التالية قائلًا: «أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ». أي بالدلائل الواضحات ... إلّاأنّهم أهملوا ذلك، ولووا رؤوسهم، ولم يستسلموا للحق، فابتلوا بعقاب اللَّه الأليم، «فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ».

أمّا آخر آية- من الآيات محل البحث- فتبيّن آخر مرحلة من كفرهم فتقول: «ثُمَّ كَانَ عقِبَةَ الَّذِينَ أَسؤُا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بَايتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ».

أجل، إنّ الذنب أو الإثم يقع على روح الإنسان كالمرض الخبيث، فيأكل إيمانه ويعدمه، ويبلغ الأمر حدّاً يكذب الإنسان فيه آيات اللَّه، وأبعد من ذلك أيضاً إذ يحمل الذنب صاحبه على الإستهزاء بالأنبياء، والسخرية بآيات اللَّه، ويبلغ مرحلة لا ينفع معها وعظ ونصيحة أبداً، ولا تؤثر فيه أيّة حكمة وأيّة آية، ولا يبقى طريق سوى أسواط عذاب اللَّه المؤلمة له.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 572

اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَ كَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَ لِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)

مصير المجرمين ومآلهم يوم القيامة: كان الكلام في الآيات المتقدمة عن الذين

يكذّبون ويستهزؤون بآيات اللَّه، وفي الآيات- محل البحث- تستكمل البحوث السابقة عن المعاد، مع بيان جوانب منه، ومآل المجرمين في القيامة. فتبدأ الآيات بالقول: «اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ». ويبيّن في هذه الآية استدلال قصير موجز، وذو معنى كبير، على مسألة المعاد، وقد ورد هذا المعنى بعبارة اخرى في بعض آيات القرآن الاخرى ومنها: «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِى جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مّنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلقُ الْعَلِيمُ» «1». و الآية الاخرى تجسد حالة المجرمين يوم القيامة: «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ».

«يبلس»: مأخوذ من مادة «إبلاس» وتعني في الأصل الغم والحزن المترتبان على أثر شدة اليأس والقنوط.

فيحق للمجرمين أى ييأسوا ويبلسوا في ذلك اليوم، إذ ليس لديهم إيمان وعمل صالح فيشفع لهم في عرصات المحشر، ولا صديق حميم، ولا مجال للرجوع إلى الدنيا وتدارك ما مضى. لذلك يضيف القرآن في الآية التالية قائلًا: «وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعؤُا». فلذلك يكفرون بهذا المعبودات من دون اللَّه ويبرأون منها «وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كفِرِينَ».

ثم يشير القرآن إلى الجماعات المختلفة من الناس في يوم القيامة، فيقول: «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِى رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ».

______________________________

(1) سورة يس/ 79- 81.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 573

«يحبرون»: مأخوذة من مادة «حبر» على زنة «قشر» ومعناها الأثر الرائق الرائع، كما يطلق هذا التعبير على حالة السرور والفرح التي يظهر أثرها على الوجه أيضاً.

و «الروضة»: معناها المكان الذي تكثر فيه الأشجار والماء، ولذلك تطلق هذه الكلمة على البساتين النضرة بأشجارها واخضرارها.

«وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا بَايَاتِنَا وَلِقَاىِ الْأَخِرَةِ

فَأُولئِكَ فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ».

فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ عَشِيّاً وَ حِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَ كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19)

التسبيح والحمد في جميع الأحوال للَّه: بعد الأبحاث الكثيرة التي وردت في الآيات السابقة في شأن المبدأ والمعاد، وقسم من ثواب المؤمنين، وجزاء المشركين وعقابهم، ففي الآيات محل البحث يذكر التسبيح والحمد والتقديس والتنزيه للَّه من جميع أنواع الشرك والنقص والعيب، إذ تقول الآية: «فَسُبْحنَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ».

وعلى هذا فقد ورد في هاتين الآيتين ذكر لأربع أوقات لتسبيح اللَّه:

1- بداية الليل «حِينَ تُمْسُونَ».

2- وطلوع الفجر «حِينَ تُصْبِحُونَ».

3- وعصراً «عَشِيًّا».

4- وعند الزوال- في الظهر- «حِينَ تُظْهِرُونَ».

وفي الآية التالية عودة إلى المعاد، ويرد القرآن المنكرين له عن طريق آخر، فيقول: «يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيّتَ مِنَ الْحَىّ وَيُحْىِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ». أي: إنّ ميدان «المعاد» وميدان «نهاية الدنيا» المتمثّل أحدهما بخروج «الحي من الميت» والآخر «خروج الميت من الحي» يتكرران أمام أعينكم، فلا مجال للتعجب من أن تحيا الكائنات جميعاً، ويعودالناس في يوم القيامة إلى الحياة مرّة اخرى.

أمّا التعبير ب «يخرج الحي من الميت» المستعمل للأراضي الموات، واضح أنّ الأرض تبدوا ميتة في فصل الشتاء، ولكن في فصل الربيع مع سقوط الغيث واعتدال الهواء، تدبّ

مختصر الامثل، ج 3، ص: 574

الحركة في الأرض، وهذا ميدان المعاد الذي نراه في هذه الدنيا. وأمّا مسألة «إخراج الميت من الحي» فهي ليست شيئاً خافياً ولا مستتراً.

وأمّا ما يتعلق ب «إخراج الحي من الميت» فبالرغم من أنّه من المسلّم به-

في العصر الحاضر على الأقل- أنّه لم يُر في المختبرات والمشاهدات اليومية أنّ موجوداً حيّاً يتولد من موجود ميّت، غير أنّ الثابت علمياً والمسلّم به أنّه كانت الأرض في البداية قطعة ملتهبة من النّار، ولم يوجد عليها أي موجود حي، ثم وفقاً لظروف خاصة لم يكتشفها العلم- حتى الآن- بصورة دقيقة، تولدت الموجودات الحيّة من مواد لا روح فيها بقفزة كبيرة.

لكن الذي نلمسه وندركه، هو أنّ الموجودات الميتة دائماً تكون جزءاً من الموجودات الحيّة وتكسى ثوب الحياة، فالماء والطعام اللذان نتناولهما ليسا من الموجودات الحية، لكنّهما حين يكونان في البدن ويصيران جزءاً منه يتحولان إلى موجود حي وتضاف كريات جديدة وخلايا جديدة إلى كريات البدن وخلاياه.

فعلى هذا يمكن القول بأنّ في نظام الطبيعة دائماً يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، وبهذا الدليل فإنّ اللَّه الذي خلق الطبيعة قادر على إحياء الموتى في العالم الآخر.

وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَ مِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)

آيات اللَّه في الآفاق وفي الأنفس: تحدثت هذه الآيات- وبعض الآيات الأخر التي تليها- عن طرائف ولطائف من دلائل التوحيد، وآيات اللَّه وآثاره في نظام عالم الوجود، وهي تكمل البحوث السابقة.

ويتحدث القرآن هنا أوّلًا عن خلقة الإنسان التي تعد أوّل موهبة إلهيّة له، وأهمهما أيضاً، فيقول: «وَمِن ءَايتِهِ أَن خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ».

في هذه الآية إشارة دليلين من أدلة عظمة اللَّه.

الأوّل: خلق

الإنسان من التراب، وربّما كان إشارة إلى الخلق الأوّل للإنسان، أي آدم عليه السلام، أو خلق جميع الناس من التراب، لأنّ المواد الغذائية التي تشكل وجود الإنسان، جميعها من التراب بشكل مباشرة أو غير مباشر.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 575

الثاني: كثرة النسل «الآدمي» وانتشار أبناء «آدم» على سطح المعمورة.

و الآية الثانية من الآيات محل البحث تتحدث أيضاً عن قسم آخر من الآيات في الأنفس، التي تمثل مرحلة ما بعد خلق الإنسان، فتقول: «وَمِن ءَايتِهِ أَن خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا». أي من جنسكم والغاية هي السكينة الروحية والهدوء النفسي.

وحيث إنّ استمرار العلاقة بين الزوجين خاصة، وبين جميع الناس عامة، يحتاج إلى جذب قلبي وروحاني، فإنّ الآية تعقب على ذلك مضيفة: «وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً».

ولمزيد التأكيد تختتم الآية بالقول: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».

ومن هنا يمكن الإستنتاج بأنّ الذين يهملون هذه السنّة الإلهية وجودهم ناقص، لأنّ مرحلة تكاملية منهم متوقفة، (إلّا أن توجب الظروف الخاصة والضرورة في بقائهم عزّاباً).

أمّا آخر آية- من الآيات محل البحث- فهي مزيج من آيات الآفاق وآيات الأنفس، فتبدأ بالإشارة إلى خلق السماء والأرض، فتقول: «وَمِن ءَايتِهِ خَلْقُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

السماوات بجميع ما فيها من كرات، وبجميع ما فيها من منظومات ومجرّات، السماوات التي مهما حلّق فيها الفكر عجز عن إدراك عظمتها ومطالعتها ... وكلّما تقدم علم الإنسان تتجلى له نقاط جديدة من عظمتها.

ثم ينتقل القرآن إلى آية من آيات الأنفس الكبيرة فيقول: «وَاخْتِلفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ». لذلك خلق اللَّه الأصوات والألوان واختلاف الألسنة لتنظيم المجتمع البشري.

ويقول القرآن في نهاية الآية الآنفة الذكر: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيتٍ لّلْعَالِمِينَ».

فالعلماء يعرفون هذه الأسرار قبل كل أحد.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 576

آيات عظمته- مرّةً اخرى: تعقيباً

على الأبحاث السابقة حول آيات اللَّه في الآفاق وفي الأنفس، تتحدث هذه الآيات- محل البحث- حول قسم آخر من هذه الآيات العظيمة. فتتحدث في البداية عن ظاهرة «النوم» على أنّها ظاهرة مهمة من ظواهر الخلق ومثل بارز من نظام الحكيم الخالق، فتقول: «وَمِن ءَايتِهِ مَنَامُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ».

وتختتم الآية بإثارة العبرة بالقول: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيتٍ لّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ».

هذه الموهبة العظيمة تؤدّي إلى أن يحصل جسم الإنسان وروحه على الراحة اللازمة، فيرتفع التعب بطرو النوم الذي بمثابة وقفة لعمل البدن، ونوع من التعطيل له.

ومن المسلّم به أنّه لولا النوم لتصدّعت روح الإنسان وذبل جسمه وانهار بسرعة، ولعجل عليه العجز والشيخوخة.

و الآية التي تلتها، والتي تبيّن خامس آية من آيات عظمة اللَّه، تتجه أيضاً إلى «الآيات في الآفاق» وتتحدث عن البرق والرعد والغيث وحياة الأرض بعد موتها، فتقول: «وَمِن ءَايتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا».

«الخوف»: مما يخطر على البال من احتمال نزول الصاعقة مع البرق؛ و «الطمع»: من جهة نزول الغيث الذي ينزل بعد البرق والرعد على هيئة قطر أو مزنة.

وعلى هذا فإنّ البرق السماوي مقدمة لنزول الغيث.

ثم يضيف القرآن معقباً: «وَيُنَزّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْىِ بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا».

ويؤكّد القرآن في نهاية هذه الآية مضيفاً: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» ويفهمون أنّ وراء هذه الخطة المدروسة يداً قادرة تقودها وتهديها، ولا يمكن أن تكون المسألة وليدة الصدفة والضرورة العمياء الصّماء أبداً.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث، يقع الكلام عن آية اخرى من الآيات الآفاقية، وذلك عن تدبير نظام السماء والأرض وبقائهما ودوامهما، إذ تقول: «وَمِن ءَايتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ». أي إنّ خلق السماوات- المشار إليه في الآيات السابقة- ليس آية وحدة

فحسب، بل بقاؤها ودوام نظامها أيضاً آية اخرى، فهذه الأجرام العظيمة في دورانها المنظّم حول نفسها تحتاج إلى امور كثيرة، وأهمّها المحاسبة المعقدة للقوة الجاذبة والدافعة.

وفي نهاية الآية وبالاستفادة من عامل التوحيد لإثبات المعاد، ينقل القرآن البحث إلى هذه المسألة فيقول: «ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 577

والتعبير ب «دعاكم» إشارة إلى أنّه كما أنّ أمراً واحداً منه كاف للتدبير ولنظم العالم، فإنّ دعوة واحدة منه كافية لأن تبعثكم من رقدتكم وتنشركم من قبوركم ليوم القيامة.

وَ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَ مَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)

المالكية للَّه وحده: كانت الآيات المتقدمة تتحدث حول توحيد الخالق، وتوحيد الرّب، أمّا الآية الاولى من هذه الآيات محل البحث فتتحدث عن فرع آخر من فروع التوحيد، وهو توحيد الملك فتقول: «وَلَهُ مَن فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

ولأنّهم ملك يده ف «كُلٌّ لَهُ قنِتُونَ» وخاضعون.

أي إنّ زمام أمر الجميع من جهة القوانين التكوينية كله في يده، وهم مستسلمون لقانون عالم التكوين وفق مشيئة اللَّه، شاؤوا أم أبوا.

والدليل على هذه «المالكية» هو الخالقية والربوبية، فإنّ من خلق الموجودات في البداية وتكفلها بالتدبير، فمن المسلم أنّه هو المالك الأصلي لها لا سواه.

وحيث إنّ المسائل المرتبطة بالمبدأ والمعاد هي كالنسيج

الواحد في انسجامها في سلسلة الآيات الآنفة، والتي ستأتي في ما بعد، ففي الآية التالية يعود القرآن إلى موضوع المعاد، فيقول: «وَهُوَ الَّذِى يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ».

إنّ القرآن يثبت في هذه الآية- بأوجز الإستدلال- مسألة إمكان المعاد، إذ يقول لهم: إنّكم تعتقدون أنّ بداية الخلق من قبل اللَّه، فعودة الخلق مرّة اخرى أيسر وأهون من بداية الخلق.

ولكن من الضروري أن نلتفت إلى هذه «اللطيفة»، وهي أنّ التعبير بالهيّن والصعب، هو

مختصر الامثل، ج 3، ص: 578

من خلال نافذتنا الفكرية، وأمّا بالنسبة للقادر المطلق فلا فرق عنده بين «الصعب والسهل». وربّما كان لهذا السبب أن عقّب القرآن في ذيل الآية مباشرة بالقول: «وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

لأنّنا لو تصورنا أي وصف كمالي لأي موجود في السماء والأرض، من علمٍ وقدرة وملك وعظمة وجود وكرم، فمصداقه الأتم والأكمل هو عند اللَّه، لأنّ الجميع لديهم المحدود من الصفات، إلّاهو وحده فإنّ لديه الأوصاف غير المحدودة، والجميع لديهم أوصاف عارضة، أمّا أوصاف اللَّه فذاتية، وهو مصدر الكمالات وأساسها.

وتنتهي الآية بما هو ضرب من التأكيد أو الدليل، إذ يقول سبحانه: «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ». هو عزيز لا يقهر، إلّاأنّه وفي منتهى قدرته غير المحدودة لا يصدر منه فعل غير دقيق، فكلّ أفعاله وفق حكمته.

وبعد بيان قسم آخر من دلائل التوحيد والمعاد في الآيات المتقدمة، يتناول القرآن موضوع «نفي الشرك» في مثال بيّن فيقول:

«ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِّنْ أَنفُسِكُمْ».

هذا المثال هو لو كان لديكم- أيّها المشركون- عبيد ومماليك ف «هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمنُكُم مِّن شُرَكَاءَ فِى مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ». أي إنّ عبيدكم هؤلاء يشاركونكم في أموالكم وفي ما رزقناكم، بحيث تكونون أنتم وعبيدكم سواء في

مالكية هذه الأموال والنعم وتخافون أن يتصرفوا في هذه الأموال بشكل مستقل كما هو الحالة في تصرف شركاءكم الأحرار فيها أو في الميراث مثلًا ... فأنتم غير مستعدين لأن يتصرفوا في أموالكم.

فلو كان لكم عبيد وملك يمين «وهو ملك مجازي» لما رضيتم بمثل هذا الفعل منهم، فكيف تتصورون المخلوقات التي هي ملك حقيقي للَّه شركاءه، أو تزعمون أنّ بعض الأنبياء كالمسيح أو ملائكة اللَّه أو بعض المخلوقات الاخرى كالجن أو الأصنام الحجرية والخشبية شركاءه، ألا ساء ما تحكمون.

والتعبير ب «مَا رَزَقْنَاكُمْ» يشير إلى هذه اللطيفة، وهي أنّكم لستم المالكين الحقيقيين لهؤلاء العبيد والمماليك، ولا المالكين الواقعيين للمال، لأنّ كل ذلك للَّه وحده.

ويعقب القرآن في ختام الآية للتأكيد والدقة على مضمون السؤال، فيقول: «كَذلِكَ

مختصر الامثل، ج 3، ص: 579

نُفَصّلُ الْأَيتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ». أجل، نذكر لكم الحقائق من الأمثلة الواضحة في حياتكم لتفكروا فيها، ولكيلا تنسبوا للَّه- على الأقل- ما لا ترضون أن تنسبوه لأنفسكم.

غير أنّ هذه الآيات البينات وهذه الأمثلة الواضحة هي لأولي الألباب، لا للظالمين عبدة الهوى الجهلة الذين قلوبهم أسدال الجهل، واستوعبت آفاقهم الخرافات والعصبيات، لذلك يضيف القرآن في الآية التالية قائلًا: «بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ». ولذلك فإنّ اللَّه خلّى بينهم وبين أنفسهم بسبب أعمالهم السيئة، فتاهوا في وادي الضلالة «فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ».

ولا شك أنّ من يتركهم اللَّه ويخلّي بينهم وبين أنفسهم «وَمَا لَهُم مِّن نصِرِينَ»

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَ اتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَ لَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ

بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)

كان لدينا حتى الآن أبحاث كثيرة حول التوحيد ومعرفة اللَّه، عن طريق مشاهدة نظام الخلق، وتعقيباً على الآيات الآنفة الذكر، فإنّ الآية الاولى- من هذه الآيات محل البحث- تتحدث عن التوحيد الفطري، أي الإستدلال على التوحيد عن طريق المشاهدة الباطنية والدرك الضروري والوجداني، إذ يقول القرآن في هذا الصدد: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفًا»، لأنّها «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَاتَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ». «الوجه»: معناه معروف، وهو مقدم الرأس. والمراد به هنا الوجه الباطني، ووجه القلب والروح؛ وكلمة «أقم»: مشتقة من الإقامة، ومعناه الاستقامة والوقوف بثبات (على قدم راسخة) ... وكلمة «حنيف»: مشتقة من «حَنَف»، ومعناها الميل من الباطل نحو الحق، ومن الاعوجاج نحو الاستواء والاستقامة. فمعنى الدين الحنيف هو الدين المائل نحو العدل والاستواء عن كل انحراف وباطل وخرافة وضلال.

إنّ جملة «لَاتَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ» وبعدها جملة «ذلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ» تأكيدان آخران على مسألة كون الدين فطرياً، وعدم إمكان تغيير هذه الفطرة ...

مختصر الامثل، ج 3، ص: 580

ويضيف القرآن في الآية التالية: ينبغي أن يكون التفاتكم للدين الحنيف والفطري حالة كونكم «مُنِيبِينَ إِلَيْهِ» فأصلكم وأساسكم على التوحيد، وينبغي أن تعودوا إليه أيضاً.

«منيبين»: من مادة «إنابة» وهي في الأصل تعني الرجوع المكرر، وتعني هنا الرجوع نحو اللَّه والعودة نحو الفطرة (التوحيدية).

ويعقب على الأمر بالإنابة والعودة إليه، بالأمر بالتقوى، وهي كلمة تجمع معاني أوامر اللَّه ونواهيه، إذ يقول: «وَاتَّقُوهُ» أي اتقوا مخالفة أوامره.

ثم يؤكّد القرآن على موضوع الصلاة من بين جميع الأوامر فيقول: «وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ». لأنّ الصلاة في جميع أبعادها، هي أهم منهج لمواجهة الشرك، وأشدّ الوسائل تأثيراً في تقوية أسس التوحيد والإيمان باللَّه سبحانه.

كما أنّه يؤكّد في

نهيه عن «الشرك» من بين جميع النواهي فيقول: «وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ». لأنّ الشرك أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، فإنّ اللَّه لا يغفره.

وفي آخر آية- من الآيات محل البحث- يبيّن القرآن واحداً من آثار الشرك وعلائمه في عبارة موجزة ذات معنى كبير، فيقول:

لا تكونوا من المشركين الذين انقسموا في دينهم على فرق واحزاب كثيرة: «مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا».

والعجيب في الأمر أنّهم على تضادّهم واختلافهم فإنّ «كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ».

أجل، إنّ واحدة من علائم الشرك هي التفرقة، لأنّ المعبودات المختلفة هي منشأ الأساليب المتفاوتة وهي أساس الانفصال والتفرق.

بحث

التوحيد باعث داخلي قوي: كما أنّ الدلائل العقلية والمنطقية توجّه الإنسان، فإنّ في داخله دوافع وموانع أيضاً .. بحيث تعين له الجهة «أحياناً» من حيث يدري أو لا يدري.

وفلسفة وجودها في داخل الإنسان، هي أنّ الإنسان لا يستطيع- دائماً- أن ينتظر إيعاز العقل والمنطق، لأنّ هذا العمل قد يعطل الأهداف «الحياتية» بعض الأحيان.

فمثلًا لو أراد الإنسان أن يستلهم من منطق «لزوم بدل ما يتحلل» ضرورة تناول الطعام .. أو «لزوم استمرار النسل عن طريق التوالد والتناسل» ضرورة الممارسة الجنسية، وأن يعمل ويتحرك وفق المنطق في كل ذلك، لكان ينبغي أن ينقرض الإنسان- قبل هذا الزمان بكثير- إلّاأنّ الغريزة الجنسية من جهة وجاذبيتها، والإشتهاء للطعام من جهة

مختصر الامثل، ج 3، ص: 581

اخرى، يجرانه نحو هذا الهدف شاء أم أبى. وكلّما كانت الأهداف حياتيةً أكثر وعمومية، كانت هذه «الدوافع» أشدّ وأقوى أيضاً.

لكن ينبغي الإلتفات إلى أنّ هذه الدوافع على نحوين:

فبعضها باطنية (غير واعية) لا تحتاج إلى وساطة العقل والشعور، كما ينجذب الحيوان نحو الطعام والجنس دون الحاجة إلى التفكير.

وقد يكون تأثير الدوافع عن طريق الوعي، أي إنّ هذه الدوافع

الداخلية تترك أثرها في العقل والتفكير وتدفعه إلى انتخاب الطريق.

وعادة يطلق على النوع الأوّل من هذه الدوافع «الغريزة» وعلى النوع الثاني «الفطرة» (فلاحظوا بدقّة).

عبادة اللَّه والإتجاه نحوه لهما مكانه في نفوس جميع الناس، وهو ما يصطلح عليه ب «الفطرة».

إنّ لدينا دلائل وشواهد مختلفة توضح بجلاء كون «الميل إلى اللَّه» فطرياً، بل تؤكّد هذا الميل في جميع اصول الدين وأبعاده:

1- إنّ دوام الإعتقاد الديني والإيمان باللَّه على إمتداد التاريخ البشري بنفسه دليل على الفطرة، لأنّه إذا كان ذلك على سبيل العادة، لما كانت له جنبة عمومية ولا جنبة دائمية، فهذا العموم وهذا الدوام دليل على فطرية الحالة.

2- إنّ المشاهدات عياناً في العالم المعاصر تكشف أنّه مع جميع ما بذل الطغاة والمستبدون- وأنظمتهم الجائرة من جهود وسعي لمحو الدين وآثاره وعن طرق مختلفة- لم يستطيعوا أن يستأصلوا الدين وجذوره من أعماق هذه المجتمعات.

3- الكشوفات الأخيرة من قبل النفسانيين وعلماء النفس في مجال أبعاد الروح الإنسانية، شاهد آخر على هذا المدعى، إذ أنّهم يقولون: «إنّ التحقيقات في المجالات النفسية تشير إلى بعد أصيل هو «البعد الديني». أو بتعبير آخر: «بعد قدسي» أو «رباني» وربّما عدّوا هذا البعد أساساً للأبعاد الثلاثة الاخرى وهي «البعد العلمي» و «البعد الجمالي» و «البعد الخيّر».

إذ يدّعون بأنّ البواعث الأساسية للروح البشرية هي هذه:

أ) دافع البحث عن الحقيقة (الشعور العلمي) وهو مصدر أنواع العلوم، والأهداف التحقيقية المستمرة، والمتابعات في معرفة عالم الوجود.

ب) حس «الإحسان والعمل الصالح» الذي يجذب الإنسان نحو المفاهيم الأخلاقية

مختصر الامثل، ج 3، ص: 582

كالتضحية والإيثار والعدل والشهامة وأمثالها. ج) الحس «الجمالي»: وهو يجذب الإنسان نحو الفن الأصيل والأدب والمسائل الذوقية، وربّما أصبح مصدر التحول في حياة الفرد أو المجتمع أحياناً.

د) الحس «الديني»،

أي الإيمان بمبدأ عال وعبادته واتّباعه.

4- إنّ التجاء الإنسان في الشدائد والمحن إلى قوة خفية وراء الطبيعة، وطلب حل المشاكل والازمات من قبل هذه القوة، لهو أيضاً شاهد آخر على أصالة هذا الدافع الباطني والإلهام الفطري، ويمكن- بضمها إلى مجموع الشواهد التي ذكرناها آنفاً- أنّ توقفنا على مثل هذا الدافع الباطني في داخلنا نحو اللَّه سبحانه.

وَ إِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَ إِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)

إنّ الآية الاولى من المقطع الذي بين أيدينا، هي في الحقيقة استدلال وتأكيد على البحث السابق في مجال كون التوحيد فطرياً، وتفتح هذا النور الإلهي عند الشدائد والصعاب، إذ تقول الآية: «وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ».

إلّا أنّهم إلى درجة من السطحية والغباء التعصب والتقليد الأعمى لأسلافهم المشركين، بحيث أنّه بمجرد انتهاء المشكلة وهبوب نسيم الرحمة الإلهية ... «ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ».

جملة «مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ» إشارة لطيفة للمعنى التالي، وهو أنّ الأساس في الفطرة هو توحيد اللَّه وعبادته، والشرك أمر عارض، حيث متى ما يئسوا منه فهم يعودون نحو الإيمان والتوحيد، شاؤوا أم أبوا.

والطريف هنا أنّ «الرحمة» في الآية مسندة إلى «اللَّه»، فهو سبحانه مصدر الرحمة للعباد، سواء بطريق مباشر أو غير مباشر إلّا أنّ الضرّ لم يسند إليه سبحانه، لأنّ كثيراً من الإبتلاءات والمشاكل التي تحوطنا هي من نتائج أعمالنا وذنوبنا.

و كلمة «ربّهم» التي تكررت في الآية

تكررت في الآية مرّتين، تؤكّد على أنّ الإنسان

مختصر الامثل، ج 3، ص: 583

يحسّ بالتدبير الإلهي وربوبية اللَّه على وجوده ما لم تؤثر عليه التعليمات الخاطئة فتسوقه نحو الشرك والضلال.

أمّا الآية الاخرى فجاءت بعنوان التهديد لُاولئك المشركين، الذين ينسون ربّهم عند نيل النعم، إذ تقول: اتركهم «لِيَكْفُرُوا بِمَا ءَاتَيْنهُمْ» وليفعلوا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. ثم يخاطب المشركين بأن يتمتعوا بهذه النعم والمواهب الدنيوية الفانية. وسوف يرون العاقبة السيئة لذلك: «فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ».

والقرآن في الآية الاخرى يصوغ الكلام في صيغة الاستفهام المقرون بالتوبيخ فيقول: «أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ». «السلطان»: معناه ما يدل على السلطة وينتهي إلى الإنتصار عادةً، ومعناه هنا هو الدليل المحكم المقنع.

أمّا آخر آية من الآيات محل البحث، فهي ترسم طريقة تفكير وروحية هؤلاء الجهلة الاغبياء الذين يقنطون ويحزنون لأقل مصيبة، فتقول: «وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ».

في حين أنّ المؤمنين الصادقين هم الذين لا يغفلون عن ذكر اللَّه عند النعم، ولا يقنطون عند الشدائد والمصيبة، إذ هم يشكرون اللَّه على نعمه، ويرون المصيبة امتحاناً واختباراً، أو يعدونها نتيجة أعمالهم، فيصبرون ويتّجهون إلى اللَّه تعالى.

ويستفاد ضمناً من هذه الآية بصورة جيدة أنّ قسماً من المصائب والإبتلاءات التي تحل بالإنسان هي- على الأقل- نتيجة أعماله وذنوبه.

إنّ جملة «فَرِحُوا بِهَا» ليس المراد منها هنا السرور بالنعمة فحسب، بل السرور المقرون بالغرور ونوع من السكر والنشوة.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 584

الآية الاولى من الآيات محل البحث تتحدث عن التوحيد والربوبية أيضاً، وانسجاماً مع سياق الآيات السابقة التي كانت تتحدث عن غرور بعض الناس الماديين عند إقبال النعمة عليهم، ويأسهم وقنوطهم عند مواجهتهم الشدائد

والبلاء، فإنّها تقول: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ».

إنّ العالم هو عالم الأسباب، لكن هذه القاعدة في الوقت ذاته ليست دائمية ولا كلية، إذ يتفق أن نرى أناساً جديرين وجادّين يركضون من هنا وهناك، إلّاأنّهم لا يصلون إلى نتيجة يبلغون هدفهم، وعلى العكس منهم قد نشاهد أناساً لا يسعون ولا يجدّون وتتفتح عليهم أبواب الرزق من كل حدب وصوب.

وهذه الاستثناءات كأنّها لبيان أنّ اللَّه بالرغم من جميع ما جعل للأسباب من تأثير، لا ينبغي أن يُنسى في عالم الأسباب، ولا ينبغي للإنسان أن يغفل أنّ وراء هذا العالم يداً قوية اخرى تديره كيف شاءت.

لذلك يقول القرآن في نهاية الآية: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».

وحيث إنّ كل نعمة وموهبة ينالها الإنسان تحمّله وظائف ومسؤوليّات وعليه أداؤها، فإنّ القرآن يوجه الخطاب للنّبي صلى الله عليه و آله في الآية التالية قائلًا: «فَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ».

والتعبير ب «حقّه» كاشف عن أنّهم شركاء في أموال الإنسان، وإذا دفع المرء شيئاً من ماله إليهم فإنّما يؤدّي حقّهم، وليس له منّ عليهم.

إنّ القرآن يبيّن في نهاية الآية ترغيباً للمحسنين، وشرط القبول ضمناً، فيقول: «ذلِكَ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».

ومع الإلتفات إلى أنّ المراد من «وَجْهَ اللَّهِ» ذاته المقدّسة، فإنّ هذه الآية تشير إلى أنّ الإنفاق وإيتاء حقّ الأقارب وأصحاب الحق الآخرين ليس كافياً، بل المهم هو الإخلاص والنية الطاهرة والخالية من أي أنواع الرياء والمنة والتحقير وانتظار الأجر والثواب.

وتشير الآية التالية- بمناسبة البحث المتقدم عن الإنفاق الخالص- إلى نوعين من الإنفاق: أحدهما للَّه، والآخر يراد منه الوصول إلى مال الدنيا، فتقول: «وَمَا ءَاتَيْتُم مِّن رّبًا لّيَرْبُوَا فِى أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُوا

عِندَ اللَّهِ وَمَا ءَاتَيْتُم مّن زَكَوةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ».

«الربا»: معناه في الأصل «الزيادة»، وهنا أنّ المراد من الربا هو الهدايا التي يقدمها بعض

مختصر الامثل، ج 3، ص: 585

الأفراد للآخرين، ولا سيما إلى أصحاب الثروة والمال، كي ينالوا منهم أجراً أحسن وأكثر.

وبديهي أنّه في مثل هذه الهدايا لا يؤخذ بنظر الإعتبار استحقاق الطرف الآخر ولا الجدارة والأولوية، بل كل ما يهدف إليه أن تصل الهدية إلى مكان، تعود على مُهديها بمبلغ أوفر ومن الطبيعي أنّ مثل هذه الهدايا ليس فيها «جنبة» إخلاص، فلا قيمة لها من الجهة الأخلاقية والمعنوية.

فعلى هذا يكون معنى «الربا» في هذه الآية هو «الهدية والعطية»، والمراد من جملة «لّيَرْبُوَا فِى أَمْوَالِ النَّاسِ» هو أخذ الأجر الوافر من الناس. ولا شك أنّ أخذ مثل هذه الأجرة ليس حراماً، إذ ليس فيه شرط أو قرار، إلّاأنّه فاقد للقيمة الأخلاقية والمعنوية ...

وفي الآية الأخيرة- من الآيات محل البحث- عودة اخرى إلى مسألة المبدأ والمعاد، وهي الموضوع الأساس الذي ورد في كثير من آيات هذه السورة ... وتصف الآية «اللَّه» بأربعة أوصاف لتكون إشارة للتوحيد ومواجهة الشرك، ودليلًا على المعاد أيضاً فتقول: «اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذلِكُم مِّن شَىْ ءٍ سُبْحنَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ».

و من المسلّم به أنّ المشركين لم يكن أيّ منهم يعتقد بأنّ الخلق كان من قِبل الأوثان، أو أنّ أرزاقهم بيد الأوثان والأصنام، أو أنّ نهاية حياتهم بأيدي هذه الأوثان كذلك، فعلى هذا يكون الجواب على هذه الأسئلة هو النفي، والاستفهام هنا استفهام إنكاري.

إنّ القرآن يقول: عندما يكون الخلق والرزق والموت والحياة بيد اللَّه، فالعبادة ينبغي أن تكون له فقط،

ويكشف هذه الحقيقة بقوله: «سُبْحنَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ» وهي أنّ المشركين أهانوا كثيراً مقام رب العزة إذ أشركوه في العبادة مع أوثانهم.

ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 586

أساس الفساد ومصدره أعمال الناس أنفسهم: كان الكلام في الآيات االسابقة عن الشرك، ونعلم أنّ أساس جميع المفاسد هو الغفلة عن أصل التوحيد والتوجه نحو الشرك، لذلك فإنّ القرآن- في هذه الآيات محل البحث- يتحدث عن ظهور الفساد في الأرض بسبب أعمال الناس أنفسهم، فيقول: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ». واللَّه يريد أن يريهم ما قدموه و «لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِى عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ».

والآية الآنفة الذكر تبيّن المعنى الواسع حول إرتباط الفساد بالذنب، الذي لا يختص بأرض «مكة» والحجاز، ولا بعصر النبي صلى الله عليه و آله.

وفي الآية التالية يأمر اللَّه الناس بالسير في الأرض ليروا شواهد كثيرة «حيّة» من مسألة ظهور الفساد في الأرض بسبب المعاصي والذنوب من قبل الناس. ويوصي نبيّه صلى الله عليه و آله أن يأمرهم بذلك، فيقول: «قُلْ سِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ».

أجل «كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ». والشرك أساس الفساد والانحراف والضلال.

وحيث إنّ التصور والوعي والإنتباه، ثم العودة والإنابة إلى اللَّه، كل ذلك لا يكون- دائماً-

مفيداً ومؤثراً، ففي الآية التالية يوجه القرآن الخطاب للنبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله قائلًا: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ الْقَيّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لَّامَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ».

أي يتفرقون «فريق في الجنّة وفريق في السعير».

ووصف الدين بأنّه «قيّم» مع ملاحظة أنّ «القيّم»: معناه الثابت والقائم، هو إشارة إلى أنّ هذا التوجه المستمر «أو الإقامة» هي للدين .. أي لأنّ الإسلام دين ثابت ومستقيم وذو نظام قائم في الحياة المادية والمعنوية للناس، فلا تمل عنه أبداً، بل أقم وجهك للدين القيم.

وإنّما وجه الخطاب للنبيّ صلى الله عليه و آله ليعرف الآخرون واجبهم ووظيفتهم أيضاً.

والتعبير ب «يصّدّعون» من مادة «صدع» معناه في الأصل: كسر الإناء، ثم انتقل بالتدريج إلى أي نوع من أنواع التفرق والتشتت، وهنا إشارة إلى انفصال صفوف أهل الجنان عن صفوف أهل النيران.

و الآية التالية بيان لهذا الإنفصال في يوم القيامة، إذ تقول: «مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ».

«يمهدون»: مشتقة من «المهد» وكما يقول الراغب في مفرداته فإنّ معناه السرير المعدّ

مختصر الامثل، ج 3، ص: 587

للطفل، ثم توسعوا في المعنى فصار المهد والمهاد لكل مكان مهيأ ومعد «وفيه منتهى الدعة والراحة» وقد انتخب هذا التعبير لأهل الجنّة والمؤمنين الصالحين، من هذه الجهة.

ومن الطريف أنّ القرآن اكتفى في شأن الكفار بالتعبير ب «مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ» ولكن بالنسبة للمؤمنين تضيف الآية التالية: أنّ المؤمنين لا يرون أعمالهم فحسب، بل يوليهم اللَّه من مواهبه وفضله فيقول: «لِيَجْزِىَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ».

وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا

إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَ كَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَ إِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (50)

ومن المسلّم به أنّ هذا الفضل لا يشمل الكفار إذ: «إِنَّهُ لَايُحِبُّ الْكفِرِينَ».

قلنا: إنّ في هذه السورة قسماً مهمّاً «يستلفت النظر» من دلائل التوحيد وآيات اللَّه، مبيناً في سبع آيات تبدأ كل منها بقوله:

«وَمِن ءَايَاتِهِ» قرأنا ستّ آيات منها بصورة متتابعة، والآية الاولى من الآيات أعلاه هي سابع الآيات التي مرّت، وآخرها.

وحيث كان الكلام في الآيات السابقة عن الإيمان والعمل الصالح، فبيان دلائل التوحيد- أيضاً- تأكيداً على ذلك. تقول هذه الآية: «وَمِنْ ءَايتِهِ أَن يُرْسِلَ الرّيَاحَ مُبَشّرَاتٍ». فهي تمضي سابقةً للغيث في حركتها، فتجمع القطع المتفرقة من الغيوم وتربط بينها وتؤلفها وتحملها إلى الأرض اليابسة العطشى، وتغطي صفحة السماء، ومع تغير درجة حرارة الجو تهي ء المطر للنزول من هذه الغيوم.

ولذلك فنحن نقرأ في تعقيب الآية قوله تعالى: «وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِىَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 588

أجل، إنّ الرياح هي وسيلة لتكاثر النعم العديدة في مجال الزراعة والتدجين، وهي وسيلة للحمل والنقل أيضاً، وأخيراً فهي سبب للإزدهار التجاري. وفي الآية التالية يقع الكلام عن إرسال الأنبياء إلى قومهم، في حين أنّ الآية التي بعدها تتحدث عن هبوب الرياح مرّة اخرى، ولعل وجود هذه

الآية بين آيتين تتحدثان عن نعمة هبوب الرياح له جانب اعتراضي.

ولعل ذكر النبوة إلى جانب هذه المسائل، إنّما هو لإكمال البحث المتعلق بالمبدأ والمعاد.

إنّ الآية تقول: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيّنَاتِ». أي المعجزات والدلائل الواضحة والبراهين العقلية، فاستجاب جماعة منهم لهذه الدلائل، ولم يستجب آخرون لها برغم النصائح «فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا» ونصرنا المؤمنين «وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ».

وبالمجموع تعطي الآية هذا المعنى: «إنّ نصر المؤمنين من المسلّم به هو في عهدتنا وهذا الوعد سنجعله عملياً دون الحاجة إلى نصر من الآخرين».

أمّا الآية الاخرى فتعود ثانية لذكر نعمة هبوب الرياح فتقول: «اللَّهُ الَّذِى يُرْسِلُ الرّيحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِى السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا» «1». أي القطع الصغيره المتراكمة ثم تخرج قطرات المطر منها على شكل حبات صغيرة: «فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِللِهِ» «2».

ويضيف القرآن في نهاية الآية قائلًا: «فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ».

ثم تأتي الآية الاخرى بعدها فتقول: «وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ» «3».

وإنّما يدرك هذا اليأس أو تلك البشارة أمثال العرب الذين يعيشون في رحلاتهم وتنقّلهم في الصحراء، ولحياتهم علاقة وصلة قريبة مع هذه القطرات.

______________________________

(1) «الكِسَف»: جمع «كسفَة» ومعناها القطعة، وهي هنا- كما يبدو- إشارة إلى القطعات (من الغيوم) المتراكمة بعضها فوق بعض فتجعلها غليظة وشديدة، وذلك حين تكون الغيوم مهيأة لنزول المطر.

(2) «الودق»: على وزن (الحلق)، وتطلق على ذرات الماء الصغيرة كمثل الغبار أحياناً، إذ تتناثر عند نزول الغيث في السماء، كما تطلق على قطرات «المطر» المتفرقة أحياناً.

(3) «مبلس»: مأخوذة من مادة الإبلاس، ومعناها اليأس وعدم الرجاء.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 589

وفي آخر آية- من الآيات محل البحث- يتوجه

الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله قائلًا: «فَانظُرْ إِلَى ءَاثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْىِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا».

والتعبير ب «رَحْمَتِ اللَّهِ» في شأن المطر هو إشارة الآثار المباركة فيه من جهات مختلفة.

ومع الإلتفات إلى العلاقة بين المبدأ والمعاد في المسائل المختلفة، فإنّ «القرآن» يضيف قائلًا في نهاية الآية: «إِنَّ ذلِكَ لَمُحْىِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

وَ لَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَ لَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَ مَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)

حيث إنّ الكلام كان- في الآيات السابقة- عن الرياح المباركة التي كانت مبشرات بالغيث والرحمة، ففي أوّل آية من الآيات أعلاه إشارة إلى الرياح المدمرّة والتي تجلب الضرر، إذ يقول القرآن في هذا الصدد: «وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَّظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ».

اولئك هم الضعفاء الحمقى فهم قبل نزول الغيث مبلسون آيسون، وبعد نزوله مستبشرون، وإذا هبت ريح صفراء في بعض الأيام وابتلوا مؤقتاً تراهم يتصارخون وبالكفر يجأرون ويتجرأون.

على العكس من المؤمنين الصادقين الذين هم بنعمة اللَّه مستبشرون وعليها يشكرون، وعند نزول المصائب والمشاكل تراهم صابرون.

«مصفراً»: مشتقة من «الصُفرة» وهي لون معروف؛ ويعتقد أكثر المفسرين أنّ الضمير في «رأوه» يعود على الشجر والنباتات التي تصفر وذبل على أثر هبوب الرياح المخربة.

وفي الآيتين التاليتين بمناسبة البحث الوارد في الآية السابقة- فإنّ الناس يقسمون إلى أربعة طوائف:

مختصر الامثل، ج 3، ص: 590

1- طائفة «الموتى» الذين

لا يدركون أيّة حقيقة، وإن كانوا أحياء في الظاهر.

2- وطائفة «الصُم» الذين هم غير مستعدين للاستماع إلى الكلام الحق.

3- وطائفة «العمي» الذي حُرموا من رؤية وجه الحق.

4- وأخيراً طائفةالمؤمنين الصادقين الذين لهم قلوب يفقهون بها، ولهم أعين يبصرون بها، ولهم آذان يسمعون بها.

فتقول الآية الاولى: «فَإِنَّكَ لَاتُسْمِعُ الْمَوْتَى ، ولذلك لا تؤثر مواعظك في أصحاب القلوب الميتة. وكذلك «وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ».

وتأتي الآية الثانية لبيان بقية الطوائف فتقول: «وَمَا أَنتَ بِهدِ الْعُمْىِ عَن ضَللَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بَايَاتِنَا فَهُمْ مُّسْلِمُونَ».

إنّ القرآن لديه ما هو أفضل من «الحياة والموت الماديين والجسمانيين» وأفضل من السمع والبصر الظاهريين فلديه نوع اسمى من هذه الحياة والموت والسمع والبصر، وتكمن فيها سعادة الإنسان أو شقاؤه.

وفي آخر آية- من الآيات محل البحث- يشير القرآن إلى دليل آخر من أدلة التوحيد، وهو دليل الفقر والغنى، ويكمل البحوث التي تدور حول التوحيد في هذه السورة، فيقول: «اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً».

كنتم في البداية ضعافاً إلى درجة أنّكم لم تكن لكم القدرة على طرد الذباب عنكم، أو أن تحافظوا على لعاب أفواهكم أن يسيل، هذا من الناحية الجسمية، أمّا من الناحية الفكرية فمصداقة قوله تعالى: «لَاتَعْلَمُونَ شَيًا» بحيث لم تعرفوا حتى أبويكم المشفقين عليكم. لكن- قليلًا قليلًا- صرتم ذوي رشد وقوة، وصار لكم جسم قوي، وفكر جيد، وعقل مقتدر إدراك واسع. ومع هذه الحال لم تستطيعوا أن تحافظوا على هذه القوة، فمثلكم كمن يصعد من طرف الجبل إلى قمته، ثم يبدأ بالإنحدار من القمة إلى قعر الوادي، الذي يمثل «مرحلة ضعف الجسم والروح».

هذا التغير والصعود والنزول

خير دليل لهذه الحقيقة، وهي أنّه لم تكن القوة من عندكم ولا الضعف، فكل منهما كان من جهة اخرى.

أمّا آخر جملة في الآية فهي إشارة إلى علم اللَّه الواسع وقدرته المطلقة: «يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ». وهي بشارة وإنذار في الوقت ذاته، أي إنّ اللَّه مطلع على جميع نيّاتكم، وهو قدير على مجازاتكم وثوابكم.

وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَ لكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَ لَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَ لَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)

مختصر الامثل، ج 3، ص: 591

في هذه الآيات- محل البحث- يعقب القرآن على البحوث التي كانت حول المبدأ والمعاد أيضاً، فيعود إلى بيان مشهد من مشاهد يوم القيامة الأليمة، وذلك بتجسيمه حالة المجرمين في ذلك اليوم، إذ يقول: «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ» في عالم البرزخ. أجل، «كَذلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ» فإنّهم فيما سبق كانوا محرومين من إدراك الحقائق ومصروفين عنها.

والتعبير ب «الساعة» عن يوم القيامة هو إمّا لأنّ يوم القيامة يقع في لحظة مفاجئة، أو لأنّه من جهة أنّ أعمال العباد تحاسب بسرعة هناك، لأنّ اللَّه سريع الحساب.

أمّا الآية التالية فتتحدث عن جواب المؤمنين المطلعين على كلام المجرمين الغافلين عن حالة البرزخ والقيامة فتقول: «وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا

الْعِلْمَ وَالْإِيمنَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتبِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ».

وتقديم العلم على الإيمان هو لأنّ العلم أساس الإيمان.

وجملة «فِى كِتَابِ اللَّهِ» لعلّه إشارة إلى الكتاب التكويني، أو إلى الكتاب السماوي، أو إشارة إليهما معاً، أي كان- بأمر اللَّه التكويني والتشريعي- مقدّراً أن تلبثوا مثل هذه المدّة في البرزخ، ثم تحشرون في يوم القيامة.

فحين يواجه المجرمون واقعهم المرير المؤلم يظهرون ندمهم ويتوبون ويعتذرون ممّا صنعوا، لكن القرآن يقول في هذا الصدد:

«فَيَوْمَئِذٍ لَّايَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ».

مختصر الامثل، ج 3، ص: 592

وواحد من أعذارهم أنّهم يلقون تبعات ذنوبهم على أشياخهم في الكفر والنفاق.

وأحياناً يلقون اللوم على الشيطان في تضليلهم وانحرافهم وأنّه وسوس لهم.

وفي الآية التالية إشارة لجميع المواضيع الوارد بيانها في هذه السورة ... إذ تقول: «وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلّ مَثَلٍ». لقد ذكرنا فيه الوعد والوعيد، الأمر والنهي، البشارة والإنذار، الآيات الآفاقية والأنفسية، دلائل المبدأ والمعاد والأخبار الغيبية والخلاصة ذكرنا فيه كل شى ء يمكن أن يؤثر في نفوس الناس.

وفي الحقيقة، إنّ في القرآن- بشكل عام- وسورة الروم- بشكل خاص- حيث نحن الآن في مراحلها النهائية، مجموعة من المسائل والدروس الموقظة لكل فئة، ولكل طبقة، ولكل جماعة، ولكل فكر وأسلوب.

ومع هذه الحال، فهناك طائفة لا يؤثر في قلوبهم المظلمة السوداء أي من هذه الامور، لذلك يقول القرآن في شأنهم: «وَلَئِن جِئْتَهُم بَايَةٍ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ».

والتعبير ب «مبطلون» تعبير جامع يحمل كل معاني الدجل والإفتراء والنسب الكاذبة والفاسدة من قبل المشركين.

والآية التي بعدها تبيّن السبب في مخالفة هذه الطائفة، فتقول: إنّ لجاجة هؤلاء التي لا حدّ لها وعداءهم للحق، إنّما هو لفقدانهم الإحساس والإدراك

بسبب كثرة ذنوبهم، ولأنّهم لا يعلمون شيئاً ... إذ تقول: «كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَايَعْلَمُونَ».

«يطبع»: مأخوذة من الطبع، ومعناها ختم الشي ء، وهي إشارة إلى ما كان يجري في السابق، وهو جار أيضاً اليوم إذ يختم على الشي ء كيلا يتصرف به ويُغلق بإحكام، وقد يضعون عليه القفل ويضربون عليه مادة لزجة مختومة بإشارة معينة كما بيّنا بحيث لا يمكن فتح ذلك الشي ء إلّابكسره، فيفتضح أمره بسرعة.

وكان القرآن استعمل هذا التعبير كناية عن القلوب التي لا ينفذ إليها النصح، والذين فقدوا الوجدان والعقل والعلم، ولا أمل في هدايتهم.

ومما يسترعي الإنتباه أنّ في الآيات السابقة ذكر العلم أساساً للإيمان، وفي هذه الآية ذُكر الجهل أساساً للكفر وعدم التسليم للحق.

أمّا آخر آية من السورة الروم، فهي تأمر النبي صلى الله عليه و آله أمرين مهمين، وتبشره بشارة كبرى، لتحثه على مواصلة الوقوف والتصدي للمشركين والجاهلين والسفهاء بالاستقامة والصبر.

مختصر الامثل، ج 3، ص: 593

تقول أوّلًا: إذا كان الأمر كذلك، فعليك بالصبر والاستقامة أمام الحوادث المختلفة، وفي مقابل أنواع الأذى والبهتان والمصاعب «فَاصْبِرْ».

لأنّ الصبر والإستقامة هما مفتاح النصر الأصيل.

وليكون النبي صلى الله عليه و آله أكثر اطمئناناً، فإنّ الآية تضيف: «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ». فقد وعدك والمؤمنين بالنصر، والاستخلاف في الأرض، وغلبة الإسلام على الكفر، والنور على الظلمة، والعلم على الجهل، وسوف يُلبس هذا الوعد ثوب العمل.

وتأمر ثانياً بضبط الأعصاب والهدوء وعدم الانحراف في المواجهة الشديدة والمتتابعة، حيث تقول الآية: «وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَايُوقِنُونَ».

«يستخفّنّك»: مشتقة من «الخفة» وهي خلاف الثقل. أي: كن رزيناً قائماً على قدميك لئلا يهزك مثل هؤلاء الأفراد ويحركوك من مكانك، وكن ثابتاً ومواصلًا للمسيرة باطمئنان، إذ أنّهم فاقدوا اليقين، وأنت مركز اليقين والإيمان.

هذه السورة بدأت بوعد

إنتصار المؤمنين على الأعداء، وانتهت أيضاً بهذا الوعد، إلّاأنّ شرطها الأساس هو الصبر والاستقامة.

«نهاية تفسير سورة الروم»

الجزء الرابع

31. سورة لقمان

محتوى السورة: إنّ محتوى هذه السورة يتلخص في خمسة أقسام:

1- يشير- بعد ذكر الحروف المقطعة- إلى عظمة القرآن وكونه هدىً ورحمة للمؤمنين الذين يتمتّعون بصفات خاصة.

2- يتحدث عن آيات اللَّه في خلق السماء ورفعها بدون أي عمد، وخلق الجبال، والأحياء المختلفة، ونزول المطر، ونموّ النباتات.

3- ينقل جانباً من كلام لقمان الحكيم والمتألّه في وصيته لابنه، وتسمية هذه السورة بسورة «لقمان» بسبب هذا البحث المهم العميق المحتوى.

4- ثم تعود السورة إلى أدلة وعلامات التوحيد مرّة اخرى فتتحدث عن تسخير السماء والأرض ونعم اللَّه الوفيرة، وذمّ منطق الوثنيين الذين سقطوا في وادي الضلال والانحراف نتيجة التقليد واتّباع الآباء والأجداد.

وتكشف الستار عن علم اللَّه المطلق بذكر مثال واضح.

5- إنّه يشير إشارة قصيرة مؤثرة تهزّ الوجدان إلى مسألة المعاد والحياة بعد الموت، وتحذّر الإنسان من الإغترار بهذه الدنيا.

ثم تنهي هذا المبحث بذكر جانب من علم اللَّه بالغيب بما يتعلق بالإنسان، ومن جملة

مختصر الامثل، ج 4، ص: 6

ذلك لحظة موته، وحتى على الجنين في بطن امّه، وبذلك تنتهي السورة.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ سورة لقمان، كان لقمان له رفيقاً يوم القيامة، واعطي من الحسنات عشراً بعدد من عمل بالمعروف وعمل بالمنكر».

وفي ثواب الأعمال عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «من قرأ سورة لقمان في ليلة وكّل اللَّه به في ليلته ثلاثين ملكاً يحفظونه من إبليس وجنوده حتى يصبح، فإذا قرأها بالنهار لم يزالوا يحفظونه من إبليس وجنوده حتى يمسي».

وكل هذا الفضل والثواب والإمتياز لتلاوة سورة من القرآن لأنّ التلاوة مقدمة للتفكر،

والتفكر مقدمة للعمل.

الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَ رَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) «الم» تبدأ هذه السورة بذكر أهمية وعظمة القرآن، وبيان الحروف المقطعة في بدايتها إشارة لطيفة إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ هذه الآيات التي تتركّب من حروف الألف باء البسيطة، لها محتوى ومفهوم سام يغيّر مصير البشر بصورة تامة، ولذلك فإنّها تقول بعد ذكر الحروف المقطعة: «تِلْكَ ءَايتُ الْكِتبِ الْحَكِيمِ».

«تلك»: في لغة العرب إشارة للبعيد، وهذا التعبير كناية عن عظمة وأهمية هذه الآيات.

إنّ وصف «الكتاب» ب «الحكيم» إمّا لقوّة ومتانة محتواه، لأنّ الباطل لا يجد إليه طريقاً وسبيلًا، ويطرد عن نفسه كل نوع من الخرافات والأساطير؛ أو بمعنى أنّ القرآن كالعالم الحكيم الذي يتكلّم بألف لسان في الوقت الذي هو صامت لا ينطق، فيعلّم، ويعظ وينصح، ويرغّب ويرهّب، ويحذّر ويتوعّد، ويبيّن القصص ذات العبرة. وخلاصة القول فإنّه حكيم بكل معنى الكلمة. ولهذه البداية علاقة مباشرة بكلام لقمان الحكيم الذي ورد البحث فيه في هذه السورة.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 7

ثم تذكر الآية التالية الهدف النهائي من نزول القرآن، فتقول: «هُدًى وَرَحْمَةً لّلْمُحْسِنِينَ».

إنّ الهداية مقدّمة لرحمة اللَّه، لأنّ الإنسان يجد الحقيقة أوّلًا في ظلّ نور القرآن، ويعتقد بها ويعمل بها، وبعد ذلك يكون مشمولًا برحمة اللَّه الواسعة ونعمه التي لا حدّ لها.

ثم تصف الآية التالية المحسنين بثلاث صفات، فتقول: «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَهُم بِالْأَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ».

فإنّ إرتباط هؤلاء بالخالق عن طريق الصلاة، وبخلق اللَّه عن طريق الزكاة، ويقينهم بمحكمة القيامة باعث قوي على الإبتعاد عن الذنب والمعصية، ودافع لأداء الواجبات.

وتبيّن

الآية الأخيرة- من الآيات مورد البحث- عاقبة عمل المحسنين، فتقول: «أُولئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».

جملة «أُولئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبّهِمْ» توحي بأنّ هداية اولئك قد ضُمنت من قبل ربّهم.

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزل قوله «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ»: في النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد الدار بن قصي بن كلاب، كان يتّجر فيخرج إلى فارس، فيشتري أخبار الأعاجم ويحدث بها قريشاً ويقول لهم: إنّ محمّداً يحدّثكم بحديث عاد وثمود وأنا احدثكم بحديث رستم، واسفنديار، وأخبار الأكاسرة. فيستمعون حديثه ويتركون استماع القرآن.

التّفسير

الغناء أحد مكائد الشياطين الكبيرة: الكلام في هذه الآيات عن جماعة يقعون تماماً في الطرف المقابل لجماعة المحسنين والمؤمنين الذين ذكروا في الآيات السابقة. الكلام والحديث

مختصر الامثل، ج 4، ص: 8

هنا عن جماعة يستخدمون طاقاتهم من أجل بثّ اللاهدفية وإضلال المجتمع، ويشترون شقاء وبؤس دنياهم وآخرتهم. فتقول أوّلًا: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا». ثم تضيف أخيراً: «أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ».

إنّ شراء لهو الحديث والكلام الأجوف إمّا أن يتمّ عن طريق دفع المال في مقابل سماع الخرافات والأساطير، أو أن يكون عن طريق شراء المغنّيات لعقد مجالس اللهو والباطل والغناء. ويحتمل أيضاً أن يكون للشراء هنا معنى كنائي، والمراد

منه كل أنواع السعي للوصول إلى هذه الغاية.

وأمّا «لَهْوَ الْحَدِيثِ» فإنّ له معنىً واسعاً يشمل كل نوع من الكلام أو الموسيقى أو الترجيع الذي يؤدّي إلى اللهو والغفلة، ويجرّ الإنسان إلى اللاهدفية أو الضلال، سواء كان من قبيل الغناء والألحان والموسيقى المهيّجة المثيرة للشهوة والغرائز والميول الشيطانية، أو الكلام الذي يسوق الإنسان إلى الفساد عن طريق محتواه ومضامينه.

ولجملة «لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ» مفهوم واسع أيضاً، يشمل الإضلال العقائدي، كما قرأنا ذلك في قصة النضر بن الحرث وأبي جهل، وكذلك يشمل الإفساد الأخلاقي كما جاء في أحاديث الغناء.

والتعبير ب «بِغَيْرِ عِلْمٍ» إشارة إلى أنّ هذه الجماعة الضالة المنحرفة لا تؤمن حتى بمذهبها الباطل، بل يتّبعون الجهل والتقليد الأعمى لا غير.

أمّا وصف العذاب ب (المهين) فلأنّ العقوبة متناغمة مع الذنب، فإنّ هؤلاء قد استهزؤوا بآيات اللَّه وأهانوها، ولذلك فإنّ اللَّه سبحانه قد أعدّ لهم عذاباً مهيناً، إضافة إلى كونه أليماً.

وأشارت الآية التالية إلى ردّ فعل هذه الفئة أمام آيات اللَّه، وتوحي بالمقارنة بردّ فعلهم تجاه لهو الحديث، فتقول: «وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْرًا». أي ثقلًا يمنعه من السماع ..

ثم تذكر أخيراً عقاب مثل هؤلاء الأفراد الأليم فتقول: «فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ».

إنّ التعبير ب «وَلَّى مُسْتَكْبِرًا» إشارة إلى أنّ إعراضه لم يكن نابعاً من تضرّر مصالحه الدنيوية والحدّ من رغباته وشهواته فحسب، بل إنّ الأمر أكبر من ذلك، فإنّ فيه دافع التكبر أمام عظمة اللَّه وآياته، وهو أعظم ذنب فيه.

إنّ تعبير (بشّر) في مورد العذاب الإلهي الأليم، يتناسب مع عمل المستكبرين الذين كانوا يتخذون آيات اللَّه هزواً.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 9

ثم تعود الآيات التالية إلى شرح وتبيان حال المؤمنين الحقيقيين، وقد

بدأت السورة في مقارنتها هذه بذكر حالهم أوّلًا ثم ختمت به في نهاية هذا المقطع أيضاً، فتقول: «إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ».

والأهم من ذلك أنّ هذه الجنان الوافرة النعم خالدة لهؤلاء: «خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا» واللَّه سبحانه لا يعد كذباً، وليس عاجزاً عن الوفاء بوعوده «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

وللنعيم معنىً واسع يشمل كل أنواع النعم المادية والمعنوية.

بحثان

1- تحريم الغناء: لا شك في أنّ الغناء بصورة إجمالية حرام على المشهور بين علماء الشيعة، وتصل هذه الشهرة إلى حد الإجماع.

والذي يمكن استفادته من مجموع كلمات فقهاء في هذا المجال، أنّ الغناء هو الأصوات والألحان التي تناسب مجالس الفسق والفجور، وأهل المعصية والفساد، ويحرّك القوى الشهوانية في الإنسان.

والملفت للنظر أنّ بعض الألحان تعدّ أحياناً غناءً ولهواً باطلًا بذاتها ومحتواها، مثال ذلك أشعار العشق والغرام والأشعار المفسدة التي تُقرأ بألحان وموسيقى راقصة.

وقد تكون الألحان بذاتها غناءً أحياناً اخرى، مثال الأشعار الجيدة، أو آيات القرآن والدعاء والمناجاة التي تُقرأ بلحن يناسب مجالس الفاسدين والفساق، وهو حرام في كلتا الصورتين «فتأمل».

ومن الطبيعي أن يكون للغناء موارد شك- ككل المفاهيم الاخرى- وأنّ الإنسان لا يعلم حقّاً هل أنّ الصوت الفلاني يناسب مجالس الفسق والفجور، أم لا؟ وفي هذه الصورة يحكم بالحلّية بحكم أصل البراءة.

والكلام الأخير هو أنّ ما ذُكر أعلاه يتعلق بالغناء، وأمّا استعمال الآلات الموسيقية وحرمتها، فهو بحث آخر خارج عن هذا الموضوع.

2- فلسفة تحريم الغناء: فبنظرة سريعة إلى معطيات الغناء سنواجه المفاسد أدناه:

أوّلًا: الترغيب والدعوة إلى فساد الأخلاق:

لقد بيّنت التجربة أنّ كثيراً من الأفراد الواقعين تحت تأثير موسيقى وألحان الغناء قد تركوا طريق التقوى، واتّجهوا نحو الشهوات والفساد.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 10

إنّ مجلس الغناء- عادةً- يُعدّ

مركزاً لأنواع المفاسد، والدافع على هذه المفاسد هو الغناء.

وينقل في تفسير روح المعاني حديثاً عن أحد زعماء بني امية أنّه قال لهم: إيّاكم والغناء فإنّه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنّه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السكر. وهذا يبيّن أنّه حتى اولئك كانوا مطّلعين على مفاسده أيضاً.

ثانياً: الغفلة عن ذكر اللَّه:

إنّ التعبير باللهو الذي فسّر بالغناء في بعض الروايات الإسلامية إشارة إلى حقيقة أنّ الغناء يجعل الإنسان عبداً ثملًا من الشهوات حتى يغفل عن ذكر اللَّه.

في الأمالي للطوسي رحمه الله عن علي عليه السلام قال: «كلّما ألهى عن ذكر اللَّه فهو من الميسر».

ثالثاً: الإضرار بالأعصاب:

إنّ الغناء والموسيقى أحد العوامل المهمة في تخدير الأعصاب، ولهذا فإنّ كثيراً من مفاسد المخدّرات موجودة في الغناء، سواء كان تخديره خفيفاً أم قوياً.

ويستفاد من الإحصاءات المعدّة للوفيّات في عصرنا الحالي بأنّ معدّل موت الفجأة قد ازداد بالمقارنة مع السابق، وقد ذكروا أسباباً مختلفة كان من جملتها الغناء والموسيقى.

رابعاً: الغناء أحد وسائل الإستعمار:

إنّ مستعمري العالم يخافون دائماً من وعي الشعوب، وخاصة الشباب، ولذلك فإنّ جانباً من برامجهم الواسعة لاستمرار وإدامة الاستعمار هو إغراق المجتمعات بالغفلة والجهل والضلال، وتوسعة وسائل اللهو المفسدة.

إنّ المخدّرات لا تتّصف اليوم بصفة تجارية فقط، بل هي أحد الوسائل السياسية المهمة، فإنّ السياسات الاستعمارية تسعى إلى إيجاد مراكز الفحشاء ونوادي القمار ووسائل اللهو الفاسدة الاخرى، ومن جملتها توسعة ونشر الغناء والموسيقى، وهي من أهم الوسائل التي يصرّ عليها المستعمرون لتخدير أفكار الناس، ولهذا فإنّ الموسيقى تشكّل القسم الأكبر من وقت إذاعات العالم ووسائل الإعلام الأساسية.

خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَ أَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ بَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ أَنْزَلْنَا

مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَا ذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 11

هذا خلق اللَّه: مواصلة للبحث حول القرآن والإيمان به في الآيات السابقة، تتحدث الآيتان أعلاه عن أدلة التوحيد الذي هو أهمّ الاصول العقائدية. تشير الآية الاولى إلى خمسة أقسام من مخلوقات اللَّه التي ترتبط مع بعضها إرتباطاً وثيقاً لا ينفصل، وهي: خلق السماء، وكون الكواكب معلقة في الفضاء، وخلق الجبال لتثبيت الأرض، ثم خلق الدواب، وبعد ذلك الماء والنباتات التي هي وسيلة تغذيتها، فتقول: «خَلَقَ السَّموَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا».

«العَمَد»: جمع «عمود» وتقييد بنائها وإقامتها ب «تَرَوْنَهَا» دليل على أنّه ليس لهذه السماء أعمدة مرئيّة، ومعنى ذلك أنّ لها أعمدة إلّاأنّها غير قابلة للرؤية، فإنّ هذا التعبير إشارة لطيفة إلى قانون الجاذبية الذي يبدو كالعمود القوي جدّاً، إلّاأنّه غير مرئي، يحفظ الأجرام السماوية.

إنّ الجملة أعلاه أحد معاجز القرآن المجيد العلميّة، وقد أوردنا تفصيلًا أكثر عنها في ذيل الآية (2) من سورة الرعد.

ثم تقول الآية في الغاية من خلق الجبال: «وَأَلْقَى فِى الْأَرْضِ رَوَاسِىَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ».

وبعد ذكر نعمة استقرار السماء بأعمدة الجاذبية، واستقرار وثبات الأرض بواسطة الجبال، تصل النوبة إلى خلق الكائنات الحية واستقرارها، بحيث تستطيع أن تضع أقدامها في محيط هادي ء مطمئن، فتقول: «وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّةٍ».

إنّ التعبير ب «مِن كُلّ دَابَّةٍ» إشارة إلى تنوع الحياة في صور مختلفة.

إلّا أنّ من المعلوم أنّ هذه الحيوانات تحتاج إلى الماء والغذاء، ولذلك فإنّ الجملة التالية أشارت إلى هذا الموضوع، فقالت: «وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ».

فالكرة الأرضية تعتبر سماطاً واسعاً ذا أغذية متنوعة

يمتدّ في جميع أنحائها، ويصلح لكل نوع منها حسب خلقته، مما يدل على عظمة الخالق جل وعلا.

ثم تشير هذه الآية مرّة اخرى إلى مسألة (الزوجية في عالم النباتات) وهي أيضاً من معجزات القرآن العلمية، لأنّ الزوجية- أي وجود الذكر والانثى- في عالم النباتات لم تكن ثابتة في ذلك الزمان بصورة واسعة، والقرآن كشف الستار عنها.

بعد ذكر عظمة اللَّه في عالم الخلقة، وذكر صور مختلفة من المخلوقات، وجّهت الآية الخطاب إلى المشركين، وجعلتهم موضع سؤال واستجواب، فقالت: «هذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِى

مختصر الامثل، ج 4، ص: 12

مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ». من المسلم أنّ اولئك لم يكونوا يستطيعون إدّعاء كون أيّ من المخلوقات من خلق الأصنام، وعلى هذا فإنّهم كانوا يقرّون بتوحيد الخالق، مع هذا الحال كيف يستطيعون تعليل الشرك في العبادة؛ لأنّ توحيد الخالق دليل على توحيد الرب وكون مدبّر العالم واحداً، وهو دليل على توحيد العبودية.

ولذلك اعتبرت الآية عمل اولئك منطبقاً على الظلم والضلال، فقالت: «بَلِ الظَّالِمُونَ فِى ضَللٍ مُّبِينٍ».

ومعلوم أنّ «الظلم» له معنىً واسعاً يشمل وضع كل شي ء في غير موضعه، ولما كان المشركون يربطون العبادة، وتدبير العالم أحياناً بالأصنام، فإنّهم كانوا مرتكبين لأكبر ظلم وضلالة.

وَ لَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَ إِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَ فِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَ إِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَ صَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا

مَعْرُوفاً وَ اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) لتكميل البحوث السابقة حول التوحيد والشرك، وأهميّة وعظمة القرآن، والحكمة التي استعملت واتّبعت في هذا الكتاب السماوي، فقد ورد الكلام في هذه الآيات التي نبحثها والآيات الاخرى التالية عن لقمان الحكيم، وعن جانب من المواعظ المهمة لهذا الرجل المتألّه في باب التوحيد ومحاربة الشرك.

إنّ هذه المواعظ العشرة التي ذكرت ضمن ستّ آيات، قد بيّنت باسلوب رائع المسائل العقائدية، إضافةً إلى اصول الواجبات الدينية والمباحث الأخلاقية.

لقد ورد اسم «لقمان» في آيتين من القرآن في هذه السورة، وأنّ اسلوب القرآن في شأن

مختصر الامثل، ج 4، ص: 13

لقمان يوحي بأنّه لم يكن نبيّاً.

في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «حقّاً أقول: لم يكن لقمان نبيّاً، ولكن كان عبداً كثير التفكّر، حسن اليقين، أحبّ اللَّه فأحبّه ومنّ عليه بالحكمة».

تقول الآية الاولى: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمنَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌ».

إنّ الحكمة التي يتحدث عنها القرآن، والتي كان اللَّه قد آتاها لقمان، كانت مجموعة من المعرفة والعلم، والأخلاق الطاهرة والتقوى ونور الهداية.

فإنّ لقمان بامتلاكه هذه الحكمة كان يشكر اللَّه، فقد كان يعلم الهدف من وراء هذه النعم الإلهية، وكيفية استغلالها والاستفادة منها، وكان يضعها بدقة وصواب كامل في مكانها المناسب لتحقيق الهدف الذي خلقت من أجله، وهذه هي الحكمة، وهي وضع كل شي ء في موضعه، وبناءً على هذا فإنّ الشكر والحكمة يعودان إلى نقطة واحدة.

والتعبير ب «غَنِىٌّ حَمِيدٌ» إشارة إلى أنّ شكر الناس للأفراد العاديين إمّا أن يؤدّي إلى النفع المادّي للمشكور، أو زيادة مكانة صاحبه في أنظار الناس، إلّاأنّ

أيّاً من هذين الأمرين لا معنى له ولا مصداق في حق اللَّه تعالى، فإنّه غني عن الجميع، وهو أهل لحمد كل الحامدين وثنائهم.

وبعد تعريف لقمان ومقامه العلمي والحِكَمي، أشارت الآية التالية إلى اولى مواعظه، وهي في الوقت نفسه أهم وصاياه لولده، فقالت: «وَإِذْ قَالَ لُقْمنُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَىَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ».

وأي ظلم أعظم منه، حيث جعلوا موجودات لا قيمة لها في مصافّ اللَّه ودرجته، وهم يظلمون أنفسهم أيضاً حيث ينزلونها من قمّة عزّة العبودية للَّه ويهوون بها إلى منحدر ذلة العبودية لغيره.

والآيتان التاليتان جمل معترضة ذكرها اللَّه تعالى في طيّات مواعظ لقمان، لكن هذا الإعتراض لا يعني عدم الإتصال والإرتباط، بل يعني الصلة الواضحة لكلام اللَّه عزّ وجل بكلام لقمان، لأنّ في هاتين الآيتين بحثاً عن نعمة وجود الوالدين ومشاقّهما وخدماتهما وحقوقهما، وجعل شكر الوالدين في درجة شكر اللَّه.

إضافةً إلى أنّهما تعتبران تأكيداً على كون مواعظ لقمان لابنه خالصة، لأنّ الوالدين مع

مختصر الامثل، ج 4، ص: 14

هذه العلاقة القوية وخلوص النية لا يمكن أن يذكرا في مواعظهما إلّاما فيه خير وصلاح الولد، فتقول أوّلًا: «وَوَصَّيْنَا الْإِنسنَ بِوَالِدَيْهِ». وعندئذ تشير إلى جهود ومتاعب الام العظيمة، فتقول: «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ». وهذه المسألة قد ثبتت من الناحية العلمية، إذ أوضحت التجارب أنّ الامّهات في فترة الحمل يُصبن بالضعف والوهن، لأنّهن يصرفن خلاصة وجودهن في تغذية وتنمية الجنين، ويقدّمن له من موادهن الحياتية أفضلها.

وهذا الأمر يستمر حتى في فترة الرضاعة، لأنّ اللبن عصارة وجود الام، ولهذا تضيف بعد ذلك فترة رضاعه سنتان: «وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ». كما اشير إلى ذلك في الآية (233) من سورة البقرة: «وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ». والمراد فترة

الرضاعة الكاملة، وإن كانت تتمّ أحياناً بفترة أقلّ.

ثم تقول: «أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوَالِدَيْكَ». فاشكرني لأنّي خالقك والمنعم الأصليّ عليك، ومنحتك مثل هذين الأبوين العطوفين الرحيمين، واشكر والديك لأنّهما واسطة هذا الفيض وقد تحمّلا مسؤولية إيصال نعمي إليك.

ويقول اللَّه تعالى في نهاية الآية بنبرة لا تخلو من التهديد والعتاب: «إِلَىَّ الْمَصِيرُ».

فإنّك إذا قصّرت هنا فستحاسب على كل هذه الحقوق والمصاعب والخدمات بدقة فيجب على الإنسان أن يؤدّي ما عليه من شكر مواهب اللَّه.

إنّ الوصية بالإحسان إلى الأبوين قد توجد الإشتباه والوهم عند البعض وذلك حينما يظنّ أنّه يجب مداراتهما واتّباعهما حتى في مسألة العقيدة والكفر والإيمان، لكن الآية التالية تقول: «وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا».

فيجب أن لا تكون علاقة الإنسان بامّه وأبيه مقدمة على علاقته باللَّه مطلقاً، وأن لا تكون عواطف القرابة حاكمة على عقيدته الدينية أبداً.

ولما كان من الممكن أيضاً أن يوجد هذا الأمر توهّم وجوب استخدام الخشونة مع الوالدين المشركين وعدم إحترامهما، ولذلك أضافت الآية إنّ عدم طاعتهما في مسألة الشرك ليس دليلًا على وجوب قطع العلاقة معهما، بل تأمره الآية أن: «وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفًا».

فلأطفهما وأظهر المحبة لهما في الحياة الدنيوية والمعاشرة، ولا تستسلم لأفكارهما

مختصر الامثل، ج 4، ص: 15

واقتراحاتهما من الناحية العقائدية والبرامج الدينية، وهذه بالضبط نقطة الإعتدال الأصلية التي تجمع فيها حقوق اللَّه والوالدين، ولذا يضيف بعد ذلك: «وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ».

لأنّ المصير إليه سبحانه: «ثُمَّ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

إنّ الآية أعلاه تشبه ما جاء في الآية (8) من سورة العنكبوت، حيث تقول: «وَوَصَّيْنَا الْإِنسنَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُم

بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ اصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَ لَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَ لَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) كانت اولى مواعظ لقمان عن مسألة التوحيد ومحاربة الشرك، وثانيتها عن حساب الأعمال والمعاد، والتي تكمّل حلقة المبدأ والمعاد، فيقول: «يَا بُنَىَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى السَّموَاتِ أَوْ فِى الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ». أي في يوم القيامة.

ويضعها للحساب: «إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ».

«الخردل»: نبات له حبّات سوداء صغيرة جدّاً يضرب المثل بصغرها؛ وهذا التعبير إشارة إلى أنّ أعمال الخير والشر مهما كانت صغيرة لا قيمة لها، ومهما كانت خفية كخردلة في بطن صخرة في أعماق الأرض، أو في زاوية من السماء، فإنّ اللَّه اللطيف الخبير المطّلع على كل الموجودات، صغيرها وكبيرها في جميع أنحاء العالم، سيحضرها للحساب والعقاب والثواب، ولا يضيّع شيئاً في هذا الحساب.

إنّ الإلتفات والتوجه إلى هذا الإطلاع التام من قبل الخالق سبحانه على أعمال الإنسان وعلمه بها، هو أساس كل الإصلاحات الفردية والاجتماعية، وهو قوة وطاقة محركة نحو الخيرات، وسدّ منيع من الشرور والسيئات.

وبعد تحكيم اسس المبدأ والمعاد، والتي هي أساس كل الإعتقادات الدينية، تطرّق لقمان

مختصر الامثل، ج 4، ص: 16

إلى أهمّ الأعمال، أي مسألة الصلاة، فقال: «يَا بُنَىَّ أَقِمِ الصَّلَوةَ». لأنّ

الصلاة أهم علاقة وإرتباط مع الخالق، والصلاة تنوّر قلبك، وتصفّي روحك، وتضي ء حياتك، وتطهّر روحك من آثار الذنب، وتقذف نور الإيمان في أنحاء وجودك، وتمنعك عن الفحشاء والمنكر. وبعد الصلاة يتطرّق لقمان إلى أهم دستور اجتماعي، أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيقول: «وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ».

وبعد هذه الأوامر العملية المهمة الثلاثة، ينتقل إلى مسألة الصبر والإستقامة، والتي هي من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فيقول: «وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ».

«العزم»: بمعنى الإرادة المحكمة القوية، والتعبير ب «عَزْمِ الْأُمُورِ» هنا إمّا بمعنى الأعمال التي أمر اللَّه بها أمراً مؤكّداً، أو الامور والأعمال التي يجب أن يمتلك الإنسان فيها إرادة فولاذية وتصميماً راسخاً، وأيّاً من هذين المعنيين كان فإنّه يشير إلى أهمية تلك الأعمال.

والتعبير ب «ذلك» إشارة إلى الصبر والتحمل.

ثم انتقل لقمان إلى المسائل الأخلاقية المرتبطة بالناس والنفس، فيوصي أوّلًا بالتواضع والبشاشة وعدم التكبر، فيقول: «وَلَا تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ». أي لا تعرض بوجهك عن الناس «وَلَا تَمْشِ فِى الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ».

«تُصعّر»: من مادة (صعّر)، وهي في الأصل مرض يصيب البعير فيؤدّي إلى إعوجاج رقبته؛ و «المرح»: يعني الغرور والبطر الناشي ء من النعمة؛ و «المختال»: من مادة «الخيال» و «الخيلاء» وتعني الشخص الذي يرى نفسه عظيماً وكبيراً، نتيجة سلسلة من التخيلات والأوهام؛ و «الفخور»: من مادة «الفخر» ويعني الشخص الذي يفتخر على الآخرين.

وعلى هذا، فإنّ لقمان الحكيم يشير هنا إلى صفتين مذمومتين جدّاً وأساس توهين وقطع الروابط الاجتماعية الصميمية: إحداهما التكبر وعدم الاهتمام بالآخرين، والاخرى الغرور والعجب بالنفس، وهما مشتركتان من جهة دفع الإنسان إلى عالم من التوهم والخيال ونظرة التفوق على الآخرين، وإسقاطه في هذه الهاوية،

وبالتالي تقطعان علاقته بالآخرين وتعزلانه عنهم.

إنّ مراد لقمان محاربة كل مظاهر التكبر والغرور.

في ثواب الأعمال عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: من مشى على الأرض

مختصر الامثل، ج 4، ص: 17

اختيالًا لعنته الأرض ومن تحتها ومن فوقها».

ثم بيّن في الآية التالية أمرين وسلوكين أخلاقيين إيجابيين في مقابل النهيين عن سلوكين سلبيين في الآية السابقة فيقول: إبتغ الإعتدال في مشيك: «وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ». وابتغ الإعتدال كذلك في كلامك ولا ترفع صوتك عالياً، «وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ».

إنّ هاتين الآيتين في الحقيقة أمرتا بصفتين، ونهتا عن صفتين:

فالنهي عن «التكبر» و «العجب»، فإنّ أحدهما يؤدّي إلى أن يتكبر الإنسان على عباد اللَّه، والآخر يؤدّي إلى أن يظنّ الإنسان أنّه في مرتبة الكمال وأسمى من الآخرين، وبالتالي سيغلق أبواب التكامل بوجهه، وإن كان لا يقارن بينه وبين الآخرين.

أمّا الأمر بصفتين، فهما رعاية الإعتدال في العمل والكلام، لأنّ التأكيد على الإعتدال في المشي أو إطلاق الصوت هو من باب المثال في الحقيقة.

والحق أنّ الإنسان الذي يتّبع هذه النصائح الأربع موفق وسعيد وناجح في الحياة، ومحبوب بين الناس، وعزيز عند اللَّه.

في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: أكثر ما تلج به امتي الجنة تقوى اللَّه وحسن الخلق».

أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَ بَاطِنَةً وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لَا هُدًى وَ لَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَ وَ لَوْ

كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَ مَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَ إِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَ مَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) بعد انتهاء مواعظ لقمان العشر حول المبدأ والمعاد وطريقة الحياة، وخطط وبرامج القرآن

مختصر الامثل، ج 4، ص: 18

الأخلاقية والاجتماعية، ولأجل إكمال البحث، تتّجه الآيات إلى بيان نعم اللَّه تعالى لتبعث في الناس حسن الشكر ... الشكر الذي يكون منبعاً لمعرفة اللَّه وطاعة أوامره، فيوجّه الخطاب لكل البشر، فيقول: «أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ».

ثم تضيف الآية: «وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظهِرَةً وَبَاطِنَةً».

«أسبغ»: من مادة «سَبغ» وهي في الأصل بمعنى الثوب أو الدرع العريض الكامل، ثم اطلق على النعم الكثيرة الوفيرة أيضاً.

وتتحدث الآية في النهاية عمّن يكفر بالنعم الإلهية الكبيرة العظيمة، والتي تحيط الإنسان من كل جانب، ويهبّ إلى الجدال ومحاربة الحق، فتقول: «وَمِنَ الْنَّاسِ مَن يُجدِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ». وبدل أن يعرف ويقدّر هبة وعطاء كل هذه النعم الظاهرة والباطنة، فإنّه يتّجه إلى الشرك والجحود نتيجة الجهل.

والملفت للنظر هو أنّ «العلم»: إشارة إلى الإدراكات التي يدركها الإنسان عن طريق عقله؛ و «الهدى»: إشارة إلى المعلمين والقادة الربانيين والسماويين، والعلماء الذين يأخذون بيده في هذا المسير ويوصلونه إلى الغاية والهدف؛ والمراد من «الكتاب المنير»: الكتب السماوية التي تملأ قلب الإنسان نوراً عن طريق الوحي.

إنّ هذه الجماعة العنيدة لا يمتلكون علماً، ولا يتّبعون مرشداً وهادياً، ولا يستلهمون من الوحي الإلهي، ولما كانت طرق الهداية منحصرة

بهذه الامور الثلاثة فإنّ هؤلاء لما تركوها سقطوا في هاوية الضلال والضياع ووادي الشياطين.

وتشير الآية التالية إلى المنطق الضعيف السقيم لهذه الفئة، فتقول: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا». ولمّا لم يكن اتّباع الآباء الجهلة المنحرفين جزءاً من أيّ واحد من الطرق الثلاثة المذكورة أعلاه للهداية، فإنّ القرآن ذكره بعنوان الطريق الشيطاني، وقال: «أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطنُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ».

ثم تطرّقت الآية التالية إلى بيان حال مجموعتين: المؤمنين الخلّص، والكفار الملوّثين، وتجعلهم مورد اهتمامها في المقارنة بينهم، فقالت: «وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى .

مختصر الامثل، ج 4، ص: 19

والإستمساك بالعروة الوثقى تشبيه لطيف لهذه الحقيقة، وهي أنّ الإنسان يحتاج لنجاته من منحدر الماديّة والإرتقاء إلى أعلى قمم المعرفة والمعنويات وتسامي الروح، إلى واسطة ووسيلة محكمة مستقرّة ثابتة، وليست هذه الوسيلة إلّاالإيمان والعمل الصالح، وكل سبيل ومتّكأ غيرهما متهرّي ء متخرّق هاوٍ وسبب للسقوط والموت، إضافة إلى أنّ ما يبقى هو هذه الوسيلة، وكل ماعداها فانٍ، ولذلك فإنّ الآية تقول في النهاية: «وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ».

في تفسير البرهان: من طريق العامة عن الرضا عليه السلام عن آبائه عليهم السلام، قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ستكون بعدي فتنة مظلمة، الناجي منها من تمسّك بالعروة الوثقى. فقيل: يا رسول اللَّه، وما العروة الوثقى؟ قال: ولاية سيد الوصيين. قيل: يا رسول اللَّه، ومن سيد الوصيين؟ قال: أمير المؤمنين. قيل: يا رسول اللَّه ومن أمير المؤمنين؟ قال: مولى المسلمين وإمامهم بعدي. قيل: يا رسول اللَّه، ومن مولى المسلمين وإمامهم بعدك؟ قال: أخي علي بن أبي طالب».

وقد رويت روايات اخرى في هذا الباب تؤيّد أنّ

المراد من العروة الوثقى مودّة أهل البيت عليهم السلام، أو حبّ آل محمّد صلى الله عليه و آله، أو الأئمة من ولد الحسين عليهم السلام.

وقد قلنا مراراً: إنّ هذه التفاسير بيان للمصاديق الواضحة، ولا تتنافي مع المصاديق الاخرى كالتوحيد والتقوى وأمثال ذلك.

ثم تطرقت الآية التالية إلى بيان حال الفئة الثانية، فقالت: «وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ و». لأنّك قد أدّيت واجبك على أحسن وجه، وهو الذي قد ظلم نفسه.

فلا تحزن أن تكفر جماعة من الناس، ويظلموا ويجوروا وهم متنعمون بالنعم الإلهية ولا يعاقبون، فلا عجلة في الأمر، إذ: «إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُوا». فإنّنا مطّلعون على أسرارهم ونيّاتهم كاطّلاعنا على أعمالهم، ف: «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ».

ثم يضيف بأنّ تمتّع هؤلاء بالحياة لا ينبغي أن يثير عجبك، لأنّا «نُمَتّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ» ذلك العذاب الأليم المستمر.

إنّ هذا التعبير لعله إشارة إلى أنّ هؤلاء لا يتصوروا أنّهم خارجون عن قبضة قدرة اللَّه سبحانه، بل إنّه يريد أن يمهل هؤلاء للفتنة وإتمام الحجة والأهداف الاخرى.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 20

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَ لَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَ لَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَ يُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ

خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) عشر صفات للَّه سبحانه: بيّنت الآيات الستة أعلاه مجموعة من صفات اللَّه سبحانه، وهي عشر صفات رئيسية، أو عشرة أسماء من الأسماء الحسنى: الغني، الحميد، العزيز، الحكيم، السميع، البصير، الخبير، الحق، العلي، والكبير.

هذا من جهة، ومن جهة اخرى فإنّ الآية الاولى تتحدث عن «خالقية» اللَّه، والآية الثانية عن «مالكيته» المطلقة، والثالثة عن «علمه» اللامتناهي، والآية الرابعة والخامسة عن «قدرته» اللامتناهية، والآية الأخيرة تخلص إلى هذه النتيجة، وهي أنّ الذي يمتلك هذه الصفات ويتمتّع بها هو اللَّه تعالى، وكل ما دونه باطل أجوف حقير.

مع ملاحظة هذا البحث الإجمالي نعود إلى شرح الآيات، فتقول الآية الاولى: «وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ».

هذا التعبير يدل من جهة على أنّ المشركين لم يكونوا منكرين لتوحيد الخالق مطلقاً، ومن جهة اخرى يدل على كون التوحيد فطريّاً وأنّ هذا النور كامن في طينة وطبيعة كل البشر.

ثم تقول: إذا كان هؤلاء معترفين بتوحيد الخالق ف «قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ».

ثم تتطرق إلى «مالكية» اللَّه، لأنّه بعد ثبوت كونه خالقاً لا حاجة إلى دليل على كونه مالكاً، فتقول: «لِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 21

ومن البديهي أنّ الخالق والمالك يكون مدبّراً لأمر العالم أيضاً.

ولذلك تقول الآية في النهاية: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ».

إنّه غنيّ على الإطلاق، وحميد من كل جهة، لأنّ كل موهبة في هذا العالم تعود إليه، وكل ما يملكه الإنسان فإنّه صادر منه وخزائن كل الخيرات بيده، وهذا دليل حي على غناه.

ولما كان «الحمد» بمعنى الثناء على العمل الحسن الذي يصدر عن المرء باختياره، وكل

حسن نراه في هذا العالم فهو من اللَّه سبحانه، فإنّ كل حمد وثناء منه.

ثم تجسّد الآية التالية علم اللَّه اللامحدود من خلال ذكر مثال بليغ جدّاً فيقول: «وَلَوْ أَنَّمَا فِى الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».

«يمدّه»: من مادة «المداد» وهي بمعنى الحبر أو المادة الملوّنة التي يكتبون بها، وهي في الأصل من «مدّ» بمعنى الخطّ، لأنّ الخطوط تظهر على صفحة الورق بواسطة جرّ القلم.

«الكلمات»: جمع «كلمة» وهي في الأصل الألفاظ التي يتحدث ويتكلم بها الإنسان، ثم اطلقت على معنى أوسع، وهو كل شي ء يمكنه أن يبيّن المراد والمطلب، ولمّا كانت مخلوقات هذا العالم المختلفة يبيّن كل منها ذات اللَّه المقدسة وعظمته، فقد أطلق على كل موجود (كلمة اللَّه)، ثم استعملت كلمات اللَّه بمعنى علم اللَّه لهذه المناسبة.

بعد ذكر علم اللَّه اللامحدود، تتحدث الآية الاخرى عن قدرته اللامتناهية، فتقول: «مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ».

الآية التالية تأكيد وبيان آخر لقدرة اللَّه الواسعة، وقد وجّهت الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله فقالت: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» لخدمة الناس وتأمين احتياجاتهم «كُلٌّ يَجْرِى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ».

«الولوج»: في الأصل بمعنى «الدخول»، ودخول الليل في النهار والنهار في الليل قد يكون إشارة إلى طول وقصر الليل والنهار التدريجي على مدار السنة، حيث ينقص شي ء من أحدهما تدريجياً، ويضاف على الآخر بصورة غير محسوسة، لتتكوّن الفصول الأربعة للسنة بخصائصها وآثارها المباركة.

وجملة «كُلٌّ يَجْرِى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى» إشارة إلى أنّ هذا النظام الدقيق لا يستمر إلى الأبد،

بل إنّ له نهاية بانتهاء الدنيا.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 22

وتقول الآية الأخيرة كاستخلاص نتيجة جامعة كلية: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ».

إنّ مجموع البحوث التي وردت في الآيات السابقة حول كون اللَّه خالقاً ومالكاً، وعن علمه وقدرته اللامتناهيين، أثبتت هذه الامور، وأنّ الحق هو اللَّه وحده، وكل شي ء غيره زائل وباطل ومحدود ومحتاج؛ والعلي والكبير الذي يسمو على كل شي ء، ويجلّ عن كل وصف، هو ذاته المقدسة.

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَ إِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يدور البحث والحديث في هاتين الآيتين أيضاً عن نعم اللَّه سبحانه، وأدلّة التوحيد في الآفاق والأنفس، فالحديث في الآية الاولى عن دليل النظام، وفي الآية الثانية عن التوحيد الفطري، وهما في المجموع تكمّلان البحوث التي وردت في الآيات السابقة. تقول الآية الاولى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ ءَايتِهِ إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَاتٍ لِكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ».

لا شك أنّ حركة السفن على سطح المحيطات تتمّ بمجموعة من قوانين الخلقة.

وبعد بيان نعمة حركة السفن في البحار، والتي كانت ولا تزال أكبر وأنفع وسائل حمل ونقل البضائع والبشر، أشارت هذه الآية إلى صورة اخرى لهذه المسألة، فقالت: «وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ». «الظلل»: جمع ظُلّة بمعنى سحابة تظلّ.

أي إنّ أمواج البحر العظيمة تهيج فتحيط بهم كأنّ سحاباً قد أظلّهم بظل مرعب مهول.

هنا يجد الإنسان نفسه ضعيفاً وعاجزاً

رغم كل تلك القوى والإمكانيات الظاهرية التي أعدّها لنفسه.

هنا يحيط التوحيد الخالص بكل قلبه ويغمره، ويعتقد بأنّ الدين والعبادة مختصة به سبحانه.

ثم تضيف الآية إنّ اللَّه سبحانه لما نجّاهم من الهلكة إنقسم الناس قسمين: «فَلَمَّا نَجهُمْ إِلَى الْبَرّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 23

«مقتصد»: من مادة «قصد» بمعنى الإعتدال في العمل، والوفاء بالعهد.

وهؤلاء وفوا بعهدهم ولم ينقضوه، ولم ينسوا منّة اللَّه عليهم في تلك اللحظات الحساسة.

وتضيف الآية في النهاية: «وَمَا يَجْحَدُ بَايَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ».

«ختّار»: من «الختر» بمعنى نقض العهد، وهذه الكلمة صيغة مبالغة، لأنّ المشركين والعاصين يتوجّهون إلى اللَّه مراراً، ويقطعون على أنفسهم العهود، وينذرون النذور، إلّاأنّهم بمجرّد أن يهدأ طوفان الحوادث ينقضون عهودهم بصورة متلاحقة، ويكفرون بنعم اللَّه عليهم.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَ اخْشَوْا يَوْماً لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَ لَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَ مَا تَدْرِي نَفْسٌ مَا ذَا تَكْسِبُ غَداً وَ مَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) في هاتين الآيتين اللتين هما آخر آيات سورة لقمان، تلخيص للمواعظ والنصائح السابقة ولأدلة التوحيد والمعاد، وتوجيه الناس إلى اللَّه واليوم الآخر وتحذير من الغرور الناشي ء من الدنيا والشيطان، ثم الحديث عن سعة علم اللَّه سبحانه وشموله لكل شي ء، فتقول: «يَا أَيُّهَا الْنَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَايَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيًا».

إنّ الدستور الأوّل هو التوجه إلى المعاد، فالدستور الأوّل يحيي في الإنسان قوة المراقبة، والثاني ينمّي روح الثواب والعقاب،

ولا شك أنّ الإنسان الذي يعلم أنّ شخصاً خبيراً ومطّلعاً على كل أعماله يراه ويعلم به ويسجّل كل أعماله، ومن ناحية اخرى يعلم أنّ محكمة عادلة ستتشكّل للتحقيق في كل جزئيات أعماله، لا يمكن أن يتلوّث بأدنى فساد ومعصية.

جملة «لَايَجْزِى» من مادة الجزاء، و «الجزاء» ورد بمعنيين من الناحية اللغوية:

أحدهما: المكافأة والمعاقبة مقابل شي ء، كما يقال: جزّاه اللَّه خيراً.

والآخر: الكفاية والنيابة والتحمل للشي ء عن الآخرين، كما جاء في الآية مورد البحث:

«لَا يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 24

ومن الممكن أن يعود كلا المعنيين إلى أصل واحد، لأنّ الثواب والعقاب يحلّان محل العمل وينوبان عنه، وهما بمقداره أيضاً- تأمّلوا ذلك-.

على كل حال، فإنّ كل إنسان في ذلك اليوم مشغول بنفسه، ومبتلى بمعطيات أعماله وآثارها إلى درجة أنّه لا ينظر إلى أحد ولا يهتم به، حتى وإن كان أبوه، أو إبنه الذي كانت تربطه به أقرب الروابط، فلا يفكّر أحد بآخر مطلقاً.

وتحذّر الآية في النهاية البشر من شيئين، فتقول: «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ». أي الشيطان.

في الواقع، يلاحظ هنا نهيان في مقابل الأمرين اللذين كانا في بداية الآية، فإنّ الإنسان إذا نمت فيه مسألة التوجه إلى اللَّه، والخوف من الحساب والجزاء، فلا يخاف عليه من الإنحراف والفساد، إلّامن طريقين:

أحدهما: أن تقلب زخارف الدنيا وزبرجها الحقائق في عينيه بصور اخرى، وتسلب منه القدرة على التشخيص، لأنّ حبّ الدنيا رأس كل الخطايا وأساسها.

والآخر: أن تخدعه وساوس الشيطان وتغرّه، وتبعده عن المبدأ والمعاد.

فإذا أغلق طريقي نفوذ المعصية والذنب هذين، فسوف لا يهدّده أيّ خطر، وعلى هذا فإنّ الدساتير والبنود الأربعة أعلاه تمثّل مجموعة كاملة من برنامج نجاة وخلاص الإنسان.

وفي آخر آية من

هذه السورة، وبمناسبة البحث الذي جاء في الآية السابقة حول يوم القيامة، يدور الكلام عن العلوم المختصة باللَّه سبحانه، فتقول: «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزّلُ الْغَيْثَ» ومطّلع على جميع جزئياته وتفاصيله ...

«وَيَعْلَمُ مَا فِى الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ».

فكأنّ مجموع هذه الآية جواب عن سؤال يطرح في باب القيامة، وهو نفس السؤال الذي سأل المشركون به النبي صلى الله عليه و آله مراراً وتكراراً، وقالوا: «مَتَى هُوَ» «1». فيجيبهم القرآن عن سؤالهم، ويقول: «إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا» «2».

«نهاية تفسير سورة لقمان»

______________________________

(1) سورة الإسراء/ 51.

(2) سورة طه/ 15.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 25

32. سورة السجدة

محتوى السورة: هذه السورة بحكم كونها من السور المكية تتابع بقوة الخطوط الأصلية للسور المكية، أي البحث في المبدأ والمعاد، والبشارة والإنذار، وعلى العموم تنقسم مباحثها إلى عدّة أقسام:

1- الكلام عن عظمة القرآن، ونزوله من قبل رب العالمين.

2- ثم البحث حول آيات اللَّه سبحانه في السماء والأرض، وتدبير هذا العالم.

3- بحث آخر حول خلق الإنسان من «التراب» و «النطفة» و «الروح الإلهية»، ومنحه وسائل تحصيل العلم، أي العين والاذن والعقل من قبل اللَّه تعالى.

4- ثم تتحدث بعد ذلك عن القيامة والحوادث التي تسبقها، أي الموت، وما بعدها.

5 و 6- بحوث مؤثرة تهزّ الوجدان عن البشارة والإنذار.

وبهذا فإنّ الهدف الأصلي للسورة تقوية اسس الإيمان بالمبدأ والمعاد، وإيجاد دفعة قوية في المحتوى الداخلي للإنسان نحو التقوى.

أسماء هذه السورة: اسم هذه السورة في بعض الروايات، وكذلك المشهور على لسان المفسرين: سورة (السجدة)، أو (الم السجدة)، ويسمّونها أحياناً (سجدة لقمان) لتمييزها عن سورة (حم السجدة)، لأنّها جاءت بعد سورة لقمان.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 26

وذكرت

في بعض الروايات باسم (الم تنزيل).

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ الم تنزيل، وتبارك الذي بيده الملك، فكأنّما أحيا ليلة القدر».

وروي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ سورة السجدة في كل ليلة جمعة أعطاه اللَّه كتابه بيمينه، ولم يحاسبه بما كان منه، وكان من رفقاء محمّد صلى الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام».

فلا شك أنّ تلاوتها- التلاوة التي تكون مصدراً للتفكير، وبالتالي مبدءاً للتصميم والحركة- قادرة على أن تصنع من الإنسان مثالًا متكاملًا تشمله كل هذه الفضيلة والفخر.

الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لَا شَفِيعٍ أَ فَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) عظمة القرآن، والمبدأ والمعاد: مرّة اخرى نواجه الحروف المقطعة «الم» في هذه السورة، وهذه هي المرّة الخامسة عشرة التي نرى فيها مثل هذه الحروف في بداية السور القرآنية.

والبحث الذي جاء بعد هذه الحروف مباشرة حول أهمية القرآن يبيّن مرّة اخرى هذه الحقيقة، وهي أنّ «الم» إشارة إلى عظمة القرآن، والقدرة على إظهار عظمة اللَّه سبحانه، وهذا الكتاب العظيم الغني المحتوى، والذي هو معجزة محمّد صلى الله عليه و آله الخالدة يتكوّن من حروف المعجم البسيطة التي يعرفها الجميع. تقول الآية: «تَنزِيلُ الْكِتبِ لَارَيْبَ فِيهِ مِن رَّبّ

الْعَالَمِينَ».

هذه الآية جواب عن سؤالين: الأوّل عن محتوى هذا الكتاب السماوي، فتقول في الجواب: إنّ محتواه حقّ ولا مجال لأدنى شك فيه؛ والسؤال الثاني يدور حول مبدع هذا الكتاب، وفي الجواب تقول: إنّ هذا الكتاب من قبل رب العالمين.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 27

ثم يشير إلى التهمة التي طالما وجهها المشركون والمنافقون إلى هذا الكتاب السماوي العظيم حيث قالوا: إنّ هذا الكتاب من تأليف محمّد. وقد إدّعى كذباً بأنّه من اللَّه: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَيهُ». فيقول جواباً على إدّعاء هؤلاء الزائف: «بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبّكَ». وأدلّة أحقّيته واضحة وبيّنة فيه من خلال آياته.

ثم يتطرق إلى الهدف من نزوله، فيقول: «لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ».

جملة «لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» إشارة إلى أنّ القرآن يهيّ ء أرضية الهداية، إلّاأنّ التصميم واتّخاذ القرار النهائي موكول ومرتبط بنفس الإنسان.

إنّ المراد من «النذير» هنا النبي الكبير الذي يوضّح ويبيّن دعوته مقرونة بالمعجزات وفي محيط واسع، ومعلوم أنّ مثل هذا النذير لم يقم في الجزيرة العربية وبين قبائل مكة.

بعد بيان عظمة القرآن ورسالة النبي صلى الله عليه و آله تطرقت الآية التالية إلى أساس آخر من أهم اسس ودعائم العقائد الإسلامية، فتقول: «اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ». والمراد من «سِتَّةِ أَيَّامٍ» في هذه الآيات: ستّ مراحل.

وبعد مسألة الخلق تتطرق الآية إلى مسألة حاكمية اللَّه سبحانه على عالم الوجود، فتقول: إنّ اللَّه تعالى بعد ذلك استوى على عرش قدرته وسيطر على جميع الكائنات: «ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ».

«العرش»: تعني في الأصل الكراسي الطويلة القوائم، وتأتي عادة كناية عن القدرة.

إنّ استواء اللَّه على العرش بمعنى أنّه خالق عالم الوجود، وكذلك الحاكم على كل العالم.

وتكمّل الآية مراحل التوحيد بالإشارة

إلى توحيد «الولاية» و «الشفاعة»، فتقول: «مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِىّ وَلَا شَفِيعٍ».

والمراد من «الشفيع» هنا: الناصر والمعين، ونحن نعلم أنّ الناصر والولي والمعين هو اللَّه وحده.

فمع هذا الدليل الواضح، فلماذا تنحرفون وتضلّون وتتمسّكون بالأصنام؟ «أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ».

إنّ المراحل الثلاث للتوحيد التي انعكست في الآية أعلاه يعتبر كل منها دليلًا على الاخرى، فتوحيد الخالقية دليل على توحيد الحاكمية، وتوحيد الحاكمية دليل على توحيد

مختصر الامثل، ج 4، ص: 28

الولي والشفيع والمعبود. وتشير الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث إلى توحيد اللَّه سبحانه في البداية، ثم إلى مسألة «المعاد»، وبهذا تكمل هنا فروع وأركان التوحيد الثلاثة التي اتّضحت في الآيات السابقة- (توحيد الخالقية والحاكمية والعبودية)- بذكر توحيد الربوبية، أي تدبير عالم الوجود من قبل اللَّه سبحانه فقط، فتقول: إنّ اللَّه يدبّر امور العالم من مقام القرب منه إلى الأرض: «يُدَبّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ».

ثم تضيف: «ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ و أَلْفَ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ».

والمراد من هذا اليوم يوم القيامة.

والمراد من الآية هو أنّ اللَّه سبحانه خلق هذا العالم، ونظّم ودبّر السماء والأرض بتدبير خاصّ، إلّاأنّه يطوى هذا التدبير في نهاية العالم، وبعد طيّ هذا العالم سيبدأ إبداع برنامج ومشروع عالمي جديد أوسع، أي سيبدأ عالم آخر بعد إنتهاء هذه الدنيا.

ذلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصَارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) مراحل خلق الإنسان العجيبة: إنّ الآيات- مورد البحث- إشارة وتأكيد في البداية على بحوث التوحيد التي مرّت في

الآيات السابقة، والتي كانت تتلخص في أربع مراحل: توحيد الخالقية، والحاكمية، والولاية، والربوبية، فتقول: «ذلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ».

ثم تشير الآية التالية إلى نظام الخلقة الأحسن والأكمل بصورة عامة، ومقدمة لبيان خلق الإنسان ومراحل تكامله بشكل خاص: «الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْ ءٍ خَلَقَهُ». وأعطى كل شي ء ما يحتاجه. وبتعبير آخر: فإنّ تشييد صرح الخلقة العظيم قد قام على أساس النظام الأحسن، أي قام على نظام دقيق سالم لا يمكن تخيّل نظام أكمل منه.

بعد هذه المقدّمة الآفاقية يدخل القرآن بحث الأنفس، وكما تحدّث في بحث الآيات

مختصر الامثل، ج 4، ص: 29

الآفاقية عن عدة أقسام للتوحيد، فإنّه يتحدث هنا عن عدة مواهب عظيمة في مورد البشر: يقول أوّلًا: «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسنِ مِن طِينٍ». ليبيّن عظمة وقدرة اللَّه سبحانه، هذا من جانب، ومن جانب آخر يحذّر الإنسان ويذكّره من أين أتيت، وإلى أين ستذهب؟!

ومن المعلوم أنّ هذه الآية تتحدث عن خلق آدم، لا كل البشر، لأنّ استمرار نسله قد ذكر في الآية التالية، وظاهر هذه الآية دليل واضح على خلق الإنسان بشكل مستقل، قد تمّ من الطين مباشرة وبدون واسطة.

ثم تشير الآية بعدها، إلى خلق نسل الإنسان، وكيفية تولد أولاد آدم في مراحل، فتقول:

«ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِّن سُللَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ».

«جعل»: هنا بمعنى الخلق؛ و «النسل»: بمعنى الأولاد والأحفاد في جميع المراحل.

«السلالة»: في الأصل، بمعنى العصارة الخالصة لكل شي ء، والمراد منها هنا نطفة الإنسان التي تعتبر عصارة كل وجوده، ومبدأ حياة وتولد الذرية واستمرار النسل.

«مهين»: التي تعني الضعيف إشارة إلى وضعه الظاهري، وإلّا فإنّه من أعمق أسرار الموجودات.

وتشير الآية التالية إلى مراحل تكامل الإنسان المعقّدة في عالم الرحم، وكذلك المراحل التي طواها آدم عند خلقه من التراب، فتقول:

«ثُمَّ سَوَّيهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصرَ وَالْأَفِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ».

«سوّيه»: من التسوية، أي الإكمال، وهذه إشارة إلى مجموع المراحل التي يطويها الإنسان من حال كونه نطفة إلى المرحلة التي تتّضح فيها جميع أعضاء بدنه، وكذلك المراحل التي طواها آدم بعد خلقه من التراب حتى نفخ الروح.

والتعبير ب «النفخ» كناية عن حلول الروح في بدن الإنسان، لأنّ النطفة عندما تنعقد في البداية ليس لها إلّانوعاً من «الحياة النباتية»، أي التغذية والنمو فقط، أمّا الحس والحركة التي هي علامة «الحياة الحيوانية»، وكذلك قوة الإدراكات التي هي علامة الحياة الإنسانية، فلا أثر عن كل ذلك.

إنّ تكامل النطفة في الرحم تصل إلى مرحلة تبدأ عندها بالحركة، وتحيا وتنبعث فيها القوى الإنسانية الاخرى تدريجياً، وهذه هي المرحلة التي يعبّر عنها القرآن بنفخ الروح.

أمّا إضافة «الروح» إلى «اللَّه» فهي «إضافة تشريفية»، أي إنّ روحاً ثمينة وشريفة بحيث

مختصر الامثل، ج 4، ص: 30

إنّ من المناسب أن تسمّى «روح اللَّه» قد دبّت في الإنسان ونفخت فيه.

وَ قَالُوا أَ إِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَ لَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَ سَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَ لَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَ لكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَ ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) الندم وطلب الرجوع: تبدأ هذه الآيات ببحث واضح جلي حول المعاد، ثم تبيّن وتبحث حال المجرمين في العالم الآخر،

وهي في المجموع تتمة للبحوث السابقة التي تحدثت حول المبدأ، إذ إنّ البحث عن المبدأ والمعاد مقترنان غالباً في القرآن المجيد فتقول: إنّ هؤلاء الكفار يتساءلون باستغراب بأنّنا إذا متنا وتحوّلت أبداننا إلى تراب واندثرت تماماً فهل سوف نُخلق من جديد: «وَقَالُوا أَءِذَا ضَلَلْنَا فِى الْأَرْضِ أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ».

إنّ التعبير ب «ضَلَلْنَا فِى الْأَرْضِ» إشارة إلى أنّ الإنسان يصبح تراباً بعد موته كسائر الأتربة ويتفرّق هذا التراب نتيجة العوامل الطبيعية وغير الطبيعية، ولا يبقى منه شي ء حتى يعيده اللَّه سبحانه في القيامة مرّة اخرى.

إلّا أنّ هؤلاء ليسوا بمنكرين قدرة اللَّه «بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبّهِمْ كَافِرُونَ» فإنّهم ينكرون مرحلة لقاء اللَّه والحساب والثواب والعقاب لتبرير حرية العمل وليعملوا ما يريدون.

وهذه الآية تشبه كثيراً الآيات (3- 6) من سورة القيامة التي تقول: «أَيَحْسَبُ الْإِنسنُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قدِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ بَلْ يُرِيدُ الْإِنسنُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيمَةِ».

بناء على هذا، فإنّ هؤلاء ليسوا قاصرين من ناحية الاستدلال، ولكن شهواتهم حجبت قلوبهم، ونيّاتهم السيئة منعتهم من قبول مسألة المعاد.

وتجيب الآية هؤلاء عن طريق آخر، فتقول: لا تتصوّروا أنّ شخصيتكم بأبدانكم وأجسامكم، بل بأرواحكم، وهي باقية ومحفوظة: «قُلْ يَتَوَفكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وُكّلَ بِكُمْ

مختصر الامثل، ج 4، ص: 31

ثُمَّ إِلَى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ».

إذا لاحظنا أنّ معنى «يتوفّاكم» من مادة «توفّي» (على وزن تصدّي)، هو الإستيفاء، فإنّ الموت سوف لا يعني الفناء، بل نوع من قبض الملائكة لروح الإنسان التي تشكّل أهم من وجود الإنسان.

إنّ الآيتين أعلاه تجيبان منكري المعاد بهذا الجواب: إذا كان إشكالكم في تفرق الأجزاء الجسمية، فإنّكم تقرّون بقدرة اللَّه سبحانه ولا تنكرونها، وإذا كان إشكالكم في اضمحلال وفناء شخصية الإنسان على أثر

تناثر تلك الذرات، فلا يصحّ ذلك لأنّ أساس شخصية الإنسان يستند إلى الروح.

ثم تجسّد وضع هؤلاء المجرمين الكافرين ومنكري المعاد الذين يندمون في القيامة أشدّ الندم على ما كان منهم لدى مشاهدة مشاهدها ومواقفها المختلفة، فتقول: «وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ».

ستعجب حقّاً! أهؤلاء النادمون الناكسو الرؤوس هم اولئك المتكبرون العتاة العصاة الذين لم يكونوا يذعنون في الدنيا لأيّة حقيقة؟

«الناكس»: من مادة «نكس» على وزن (كلب) بمعنى إنقلاب الشي ء، وهنا يعني خفض الرأس إلى الأسفل وطأطأته.

تقديم «أبصرنا» على «سمعنا» لأنّ الإنسان يرى المشاهد والمواقف أوّلًا، ثم يسمع إستجواب اللَّه والملائكة.

إنّ المراد من «المجرمين» هنا الكافرون، وخاصة منكري القيامة.

ولما كان كل هذا الإصرار والتأكيد على قبول الإيمان قد يوهم عجز اللَّه سبحانه عن أن يلقي نور الإيمان في قلوب هؤلاء، فإنّ الآية التالية تضيف: «وَلَوْ شِئْنَا لَأَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَيهَا».

فمن المسلم أنّ اللَّه تعالى يمتلك مثل هذه القدرة، إلّاأنّ الإيمان الذي يتحقق ويتم بالإجبار لا قيمة له، ولذا فالمشيئة الإلهية أرادت أن ينال الإنسان شرف كونه مختاراً، وأن يسير في طريق التكامل بحريته واختياره، ولذلك تضيف في النهاية: لقد قرّرت أن أخلق الإنسان مختاراً «وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنّى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».

أجل ... إنّ المجرمين سلكوا هذا الطريق بسوء اختيارهم، ولذلك فهم مستحقون للعقاب،

مختصر الامثل، ج 4، ص: 32

ونحن قد قطعنا على أنفسنا أن نملأ جهنم منهم.

ولذلك تقول الآية التالية: إنّا سنقول لأصحاب النار «فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ». مرّة اخرى يستفاد من هذه الآية أنّ نسيان محكمة القيامة العادلة هو الأساس لكل تعاسة وشقاء للإنسان،

لأنّه سيرى نفسه في هذه الصورة حرّاً إزاء ارتكاب القبائح والظلم والعدوان.

وكذلك يستفاد من الآية بوضوح أنّ العقاب الأبدي للفرد معلول لما إرتكبه من أعمال في دار الدنيا، لا لشي ء آخر.

وضمناً يتّضح أنّ المراد من «نسيان اللَّه» هو عدم رعايته ونصرته لهم.

إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ هُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَ فَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَ أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَ قِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) جوائز عظيمة لم يطّلع عليها أحد: إنّ طريقة القرآن هي أنّه يبيّن كثيراً من الحقائق من خلال مقارنتها مع بعضها، لتكون مفهومة ومستقرّة في القلب تماماً، وهنا أيضاً بعد الشرح والتفصيل الذي مرّ في الآيات السابقة حول المجرمين والكافرين، فإنّه يتطرق إلى صفات المؤمنين الحقيقيين البارزة، ويبيّن اصولهم العقائدية، وبرامجهم العملية بصورة مضغوطة ضمن آيتين بذكر ثمان صفات، فيقول أوّلًا: «إِنَّمَا يُؤْمِنُ بَايَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكّرُوا بِهَا خَرُّوا

مختصر الامثل، ج 4، ص: 33

سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَهُمْ لَايَسْتَكْبِرُونَ» «1».

«خرّوا»: في الأصل من مادة «الخرير» أي صوت الماء وأمثاله حين انحداره من مرتفع إلى منخفض، واستعماله هذا التعبير في شأن الساجدين إشارة إلى أنّ هؤلاء ترتفع أصواتهم بالتسبيح في لحظة هويّهم إلى الأرض للسجود.

لقد بيّنت في هذه الآية أربع صفات:

1- أنّهم يسجدون

بمجرد سماعهم آيات اللَّه. لقد ذكرت هذه الصفة والخاصية في سورة مريم الآية (58) كأحد أبرز صفات الأنبياء، كما يقول اللَّه سبحانه في شأن جمع من الأنبياء العظام: «إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا».

وبالرغم من أنّ الآيات هنا ذكرت بصورة مطلقة، ولكن من المعلوم أنّ المراد منها غالباً الآيات التي تدعو إلى التوحيد ومحاربة الشرك.

2 و 3- فهم ينزّهون اللَّه تعالى عن النقائص من جهة، ومن جهة اخرى فإنّهم يحمدونه ويثنون عليه لصفات كماله وجماله.

4- والصفة الاخرى لهؤلاء هي التواضع وترك كل أنواع التكبر.

ثم أشارت الآية الثانية إلى أوصاف هؤلاء الاخرى، فقالت: «تَتَجَافِى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ» «2». فيقومون في الليل، ويتّجهون إلى ربّهم ومحبوبهم ويشرعون بمناجاته وعبادته.

إنّ هؤلاء يستيقظون ويحيون قدراً من الليل في حين أنّ عيون الغافلين تغطّ في نوم عميق، وحينما تتعطّل برامج الحياة العادية، وتقلّ المشاغل الفكرية إلى أدنى مستوى، ويعمّ

______________________________

(1) ينبغي الإلتفات إلى أنّ الآية الاولى هي اولى السجدات الواجبة في القرآن الكريم، وإذا ما تلاها أحد بتمامها، أو سمعها من آخر فيجب أن يسجد. طبعاً لا يجب فيها الوضوء، لكن يجب الإحتياط في وضع الجبهة على ما يصحّ السجود عليه.

(2) «تتجافي»: من مادة «جفا» وهي في الأصل بمعنى القطع والحمل والإبعاد؛ و «الجنوب»: جمع جنب، وهوالجانب؛ و «المضاجع»: جمع مضجع، وهو محل النوم، وإبعاد الجانب عن محلّ النوم كناية عن النهوض من النوم والتوجّه إلى عبادة اللَّه في جوف الليل.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 34

الهدوء والظلام كل الأرجاء، ويقلّ خطر التلوّث بالرياء في العبادة. والخلاصة: عند توفّر أفضل الظروف لحضور القلب، فإنّهم يتّجهون بكل وجودهم إلى معبودهم، ويخبرونه بما في قلوبهم، فهم أحياء بذكره، وكؤوس قلوبهم طافحة بحبّه

وعشقه.

ثم تضيف: «يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا».

وهنا تذكر الآية صفتين اخريين لهؤلاء هما: «الخوف» و «الرجاء»، فلا يأمنون غضب اللَّه عزّ وجل، ولا ييأسون من رحمته، والتوازن بين الخوف والرجاء هو ضمان تكاملهم وتوغّلهم في الطريق إلى اللَّه سبحانه، والحاكم على وجودهم دائماً، لأنّ غلبة الخوف تجرّ الإنسان إلى اليأس والقنوط، وغلبة الرجاء تغري الإنسان وتجعله في غفلة، وكلاهما عدوّ للإنسان في سيره التكاملي إلى اللَّه سبحانه. وثامن صفاتهم، وآخرها في الآية أنّهم: «وَمِمَّا رَزَقْنهُمْ يُنفِقُونَ».

فهم لا يهبون من أموالهم للمحتاجين وحسب، بل ومن علمهم وقوّتهم وقدرتهم ورأيهم الصائب وتجاربهم ورصيدهم الفكري، فيهبون منها ما يحتاج إليه الغير.

ثم تطرقت الآية التالية إلى الثواب العظيم للمؤمنين الحقيقيين الذين يتمتعون بالصفات المذكورة في الآيتين السابقتين، فتقول بتعبير جميل يحكي الأهمية الفائقة لثوابهم: «فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

التعبير ب «فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ» وكذلك التعبير ب «قُرَّةِ أَعْيُنٍ» مبيّن لعظمة هذه المواهب والعطايا التي لا عدّ لها ولا حصر.

وفي حديث- رواه البخاري ومسلم جميعاً- عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إنّ اللَّه يقول: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا اذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر».

وتبيّن الآية التالية المقارنة التي مرّت في الآيات السابقة بصيغة أكثر صراحة، فتقول:

«أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّايَسْتَوُونَ».

لقد جعل «الفاسق» في مقابل «المؤمن» في هذه الآية، وهذا دليل على أنّ للفسق مفهوماً واسعاً يشمل الكفر والذنوب الاخرى.

وتبيّن الآية التالية عدم المساواة هذه بصورة أوسع وأكثر تفصيلًا، فتقول: «أَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى «1». ثم تضيف الآية بأنّ هذه الجنّات قد أعدّها اللَّه تعالى لاستقبالهم في مقابل أعمالهم الصالحة:

«نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

إنّ التعبير ب «نزلًا»، والذي يقال عادةً للشي ء الذي يهيّئونه لاستقبال وإكرام الضيف، إشارة لطيفة إلى أنّ المؤمنين يُستقبلون ويُخدمون دائماً.

______________________________

(1) «المأوى»: من مادة «أوى» بمعنى إنضمام شي ء إلى شي ء آخر، ثم قيلت للمكان والمسكن والمستقرّ.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 35

وتطرقت الآية التالية إلى النقطة التي تقابل هؤلاء، فتقول: «وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَيهُمُ الْنَّارُ». فهؤلاء مخلّدون في هذا المكان المرعب بحيث إنّهم: «كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِى كُنتُم بِهِ تُكَذّبُونَ».

مرّة اخرى نرى هنا العذاب الإلهي قد جعل في مقابل «الكفر والتكذيب»، والثواب والجزاء في مقابل «العمل»، وهذا إشارة إلى أنّ الإيمان لا يكفي لوحده، بل يجب أن يكون حافزاً وباعثاً على العمل، إلّاأنّ الكفر كافٍ لوحده للعذاب، وإن لم يرافقه ويقترن به عمل.

وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) عقوبات تربوية: بعد البحث الذي مرّ في الآيات السابقة حول المجرمين وعقابهم الأليم، فإنّ الآيات مورد البحث تشير إلى أحد الألطاف الإلهية الخفيّة، وهي موارد العذاب الخفيف في الدنيا ليتّضح أنّ اللَّه سبحانه لا يريد أن يبتلي عبداً بالعذاب الخالد أبداً، ولذلك يستخدم كل وسائل التوعية لنجاته. تقول الآية: «وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ».

من المسلّم أنّ «العذاب الأدنى» له معنىً واسع يتضمّن أغلب الاحتمالات التي كتبها المفسرون بصورة مفصلة:

فمن جملتها، أنّ المراد المصائب والآلام والمشقّة؛ أو القحط والجفاف الشديد الذي دام سبع سنين وابتلي به المشركون في مكة حتى اضطروا إلى أكل أجساد الموتى؛ أو الضربة القاصمة التي نزلت عليهم في غزوة بدر،

وأمثال ذلك.

وأمّا «العذاب الأكبر» فيعني عذاب يوم القيامة الذي يفوق كل عذاب حجماً وألماً.

ولما لم تنفع أيّة وسيلة من وسائل التوعية والتنبيه، حتى العذاب الإلهي، لم يبق طريق إلّا انتقام اللَّه من هؤلاء القوم الذين هم أظلم الناس، وكذلك تقول الآية التالية: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بَايَاتِ رَبّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ».

وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَ جَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَ جَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَ كَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 36

شرط الإمامة، الصبر والإيمان: تشير الآيات مورد البحث إشارة قصيرة إلى قصة «موسى عليه السلام» وبني إسرائيل لتسلّي نبيّ الإسلام صلى الله عليه و آله والمؤمنين الأوائل وتطيّب خواطرهم، وتدعوهم إلى الصبر والتحمّل والثبات أمام تكذيب وإنكار المشركين التي اشير إليها في الآيات السابقة. تقول الآية أوّلًا: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتبَ فَلَا تَكُن فِى مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ».

أي: فلا تشكّ أو تتردّد في أنّ «موسى» قد تلقّى آيات اللَّه، وقد جعلنا كتاب موسى «التوراة» وسيلة لهداية بني إسرائيل «وَجَعَلْنهُ هُدًى لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ».

ثم تشير الآية التالية إلى الأوسمة والمفاخر التي حصل عليها بنو إسرائيل في ظلّ الإستقامة والإيمان لتكون درساً للآخرين، فتقول: «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بَايَاتِنَا يُوقِنُونَ».

لقد ذكرت الآية هنا شرطين للإمامة: أحدهما: الإيمان واليقين بآيات اللَّه عزّوجل؛ والثاني: الصبر والإستقامة والصمود.

ولمّا كان بنو إسرائيل- كسائر الامم- قد اختلفوا بعد هؤلاء الأئمّة الحقيقيين، وسلكوا مسالك مختلفة، فإنّ الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث تقول بلحن التهديد: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ

فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ».

أجل ... إنّ مصدر ومنبع الاختلاف دائماً هو مزج الحق بالأهواء والميول، ولما كانت القيامة يوماً لا معنى فيه للأهواء والميول، حيث تمحى ويتجلّى الحق بأجلى صوره، فهناك ينهي اللَّه سبحانه الاختلافات بأمره، وهذه أيضاً إحدى فلسفات المعاد.

أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ أَ فَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ أَ فَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَ يَقُولُونَ مَتَى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَ لَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ انْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) يوم إنتصارنا: كانت الآيات السابقة ممزوجة بتهديد المجرمين من الكفار، وتقول الآية الاولى من الآيات مورد البحث إكمالًا لهذا التهديد: «أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ

مختصر الامثل، ج 4، ص: 37

الْقُرُونِ». فهؤلاء يسيرون بين الخرائب ويرون آثار اولئك الأقوام الذين هلكوا من قبلهم «يَمْشُونَ فِى مَسَاكِنِهِمْ».

تقع مساكن «عاد» و «ثمود» المدمّرة، ومدن «قوم لوط» الخربة في طريق هؤلاء إلى الشام، وكان المشركون يمرّون على تلك الخرائب فكأنّ لبيوت هؤلاء وقصورهم المتهدمة مئة لسان، وتبيّن لهم وتحدثهم بنتيجة الكفر والإنحطاط، ولذلك تضيف الآية في النهاية:

«إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ».

وتشير الآية التالية إلى أحد أهم النعم الإلهية التي هي أساس عمران كل البلدان، ووسيلة حياة كل الكائنات الحية، ليتّضح من خلالها أنّ اللَّه سبحانه كما يمتلك القدرة على تدمير بلاد الضالين المجرمين، فإنّه قادر على إحياء الأراضي المدمّرة والميتة، ومنح عباده كل نوع من المواهب، فتقول: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ المَاءَ

إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ».

«الجُرُز»: تعني الأرض القاحلة التي لا ينبت فيها شي ء قطّ.

ولما كانت الآيات السابقة تهدّد المجرمين بالإنتقام، وتبشّر المؤمنين بالإمامة والنصر، فإنّ الكفار يطرحون هذا السؤال غروراً واستكباراً وتعلّلًا بأنّ هذه التهديدات متى ستتحقق، كما يذكر القرآن ذلك: «وَيَقُولُونَ مَتَى هذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صدِقِينَ».

فيجيبهم القرآن مباشرةً، ويأمر النبي صلى الله عليه و آله أن: «قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَايَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ». أي: إذا كان مرادكم أن تروا صدق الوعيد الإلهي الذي سمعتموه من النبي لتؤمنوا، فإنّ الوقت قد فاتكم، فإذا حلّ ذلك اليوم لا ينفعكم إيمانكم فيه شيئاً.

والمراد من «يوم الفتح» يوم نزول «عذاب الإستئصال»؛ أي العذاب الذي يقطع دابر الكافرين، ولا يدع لهم فرصة الإيمان. وبتعبير آخر: فإنّ عذاب الإستئصال نوع من العذاب الدنيوي، الذي يُنهي حياة المجرمين بعد إتمام الحجة.

وأخيراً تنهي الآية الأخيرة هذه السورة- سورة السجدة- بتهديد بليغ عميق المعنى، فتقول: «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ».

الآن، حيث لم تؤثّر في هؤلاء البشارة ولا الإنذار، فأعرض عنهم، وانتظر رحمة اللَّه سبحانه، ولينتظروا عذابه فإنّهم لا يستحقون سواه.

«نهاية تفسير سورة السجدة»

مختصر الامثل، ج 4، ص: 39

33. سورة الأحزاب

محتوى السورة: إنّ هذه السورة من أغنى سور القرآن المجيد وأجناها ثماراً، وتتابع وتبحث مسائل متنوعة وكثيرة جدّاً في باب اصول الإسلام وفروعه.

ويمكن تقسيم الأبحاث التي وردت في هذه السورة إلى سبعة أقسام:

1- بداية السورة التي تدعو الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله إلى طاعة اللَّه وترك اتّباع الكافرين ومقترحات المنافقين.

2- أشار إلى بعض خرافات زمان الجاهلية، كالظهار، وكذلك مسألة التبنّي، وأكّدت على بطلانها، وحصرت العلاقات والروابط العائلية والسببية بالروابط الواقعية والطبيعية.

3- وهو أهم

أقسام هذه السورة، ويرتبط بمعركة «الأحزاب» وحوادثها المرعبة، وإنتصار المسلمين المعجز على الكفار.

4- يرتبط بزوجات النبي، حيث يجب أن يكنّ اسوة وانموذجاً أسمى لكل نساء المسلمين، ويصدّر لهن في هذا الباب أوامر مهمة.

5- يتطرق إلى قصة «زينب بنت جحش» التي كانت يوماً زوجة لزيد، وهو ابن النبي بالتبنّي، وافترقت عنه، فتزوّجها النبي صلى الله عليه و آله بأمر اللَّه سبحانه.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 40

6- يتحدث عن مسألة الحجاب، والتي ترتبط بالبحوث السابقة، ويوصي كل النساء المؤمنات بمراعاة هذا القانون الإسلامي.

7- يشير إلى مسألة المعاد المهمة، وطريق النجاة في ذلك الموقف العظيم، وكذلك يشرح مسألة أمانة الإنسان العظمى، أي مسألة التعهد والتكليف والمسؤولية.

لما كان جزء مهم من هذه السورة يتحدث عن أحداث غزوة الأحزاب (الخندق) فإنّ هذا الإسم قد اختير لها.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ سورة الأحزاب وعلّمها أهله، وما ملكت يمينه، اعطي الأمان من عذاب القبر».

وروي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من كان كثير القراءة لسورة الأحزاب كان يوم القيامة في جوار محمّد وآله وأزواجه».

إنّ هذه الفضائل لا تُنال بالتلاوة الخالية من الروح، بل التلاوة التي تكون مبدأً للتفكر الذي يضي ء آفاق الإنسان يظهر آثاره في أعماله وسلوكه.

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَ لَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَ الْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَ اتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَ كَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: إنّ هذه الآيات نزلت في أبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل، وأبي أعور السلمي، قدموا المدينة ونزلوا على

عبد اللَّه بن ابي بعد غزوة احد بأمان من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ليكلّموه فقاموا وقام معهم عبداللَّه بن ابي وعبد اللَّه بن أبي سرح وطعمة بن ابيرق فدخلوا على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالوا: يا محمّد! ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزى ومنات، وقل إنّ لها شفاعة لمن عبدها وندعك وربّك. فشقّ ذلك على النبي صلى الله عليه و آله فقال عمر بن الخطاب: ائذن لنا يا رسول اللَّه في قتلهم؟ فقال: «إنّي أعطيتهم الأمان». وأمر صلى الله عليه و آله فاخرجوا من المدينة ونزلت الآية: «وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ» وأمرته أن لا يصغي لمثل هذه الإقتراحات.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 41

التّفسير

اتّبع الوحي الإلهي فقط: إنّ من أخطر المنعطفات والمنحدرات التي تعترض طريق القادة الكبار قضية اقتراحات الصلح والتنازل والوفاق التي تطرح من قبل المخالفين.

لقد بذل مشركو «مكة» ومنافقو «المدينة» كل ما في وسعهم ليحرّفوا الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله عن خط التوحيد من خلال طرح مقترحات السلام والإتّفاق، إلّاأنّ اولى آيات سورة الأحزاب نزلت فأنهت مؤامراتهم، ودعت النبي صلى الله عليه و آله إلى الإستمرار في اسلوبه الحاسم في خط التوحيد بدون أدنى تراجع وتنازل ومسالمة.

إنّ هذه الآيات بمجموعها تأمر النبي صلى الله عليه و آله بأربعة أوامر مهمة:

الأوّل: في مجال التقوى، والتي تهيّ ء الأرضية لكل برنامج آخر، فتقول: «يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ اتَّقِ اللَّهَ».

إنّ حقيقة التقوى هي ذلك الإحساس الداخلي بالمسؤولية، ولولا هذا الإحساس فإنّ الإنسان لا يندفع ولا يتحرّك باتّجاه أي برنامج بنّاء.

الثاني: نفي ورفض طاعة الكافرين: «وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ».

وتقول الآية في النهاية تأكيداً لهذا الموضوع: «إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا».

فإنّه تعالى حينما يأمرك بعدم إتّباع

هؤلاء، فإنّ ذلك صادر عن حكمته اللامتناهية، لأنّه يعلم ما اخفي في هذ الإتّباع والمهادنة من المصائب، الأليمة، والمفاسد الجمّة.

الثالث: نثر بذور التوحيد واتّباع الوحي الإلهي، فيقول: «وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ» واحذر ف «إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا». وبناءً على هذا، فإنّ الواجب الأوّل هو طرد الشياطين من أعماق الروح لتحلّ محلّها الملائكة.

ولما كانت هناك مشاكل كثيرة، وتهديدات ومؤامرات، ومعوّقات في الاستمرار في سلوك هذا الطريق، فإنّه تعالى يصدر الأمر الرابع بأن: «وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا». فلو أنّ الف عدوّ يسعى لقتلك، فلا تخش ولا تخف منهم لأنّي ناصرك ومعينك.

ومع أنّ المخاطب في هذه الآيات هو النبي صلى الله عليه و آله، إلّاأنّه خطاب لكل المؤمنين، ولعامة المسلمين في كل عصر وزمان.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 42

مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَ مَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَ مَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَ اللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَ مَوَالِيكُمْ وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَ لكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَ كَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَ أُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً كَانَ ذلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً (6) إدعاءات جوفاء: تعقيباً للآيات السابقة التي كانت تأمر النبي صلى الله عليه و آله أن يتّبع الوحي الإلهي فقط، ولا يتّبع الكافرين والمنافقين، تعكس هذه الآيات التي نحن بصددها عاقبة اتّباع هؤلاء وأنّه يدعو الإنسان إلى

مجموعة من الخرافات والأباطيل، وقد ذكرت الآية الاولى من الآيات مورد البحث ثلاث منها، فتقول أوّلًا: «مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ».

إنّ للجملة معنى عميق، وهو: أنّه ليس للإنسان إلّاقلب واحد، ولا يحتوي هذا القلب ولا يختزن إلّاعشق معبود واحد، وعلى هذا فإنّ اولئك الذين يدعون إلى الشرك والآلهة المتعدّدة ينبغي أن تكون لهم قلوب متعدّدة، ليجعلوا كل واحد منها بيتاً لعشق معبود واحد.

في تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الباقر عليه السلام في قوله «مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ» قال علي بن أبي طالب عليه السلام: «لا يجتمع حبّنا وحبّ عدوّنا في جوف إنسان، إنّ اللَّه لم يجعل لرجل من قلبين في جوفه، فيحبّ بهذا ويبغض هذا، فأمّا محبّنا فيخلص الحبّ لنا كما يخلص الذهب بالنار لا كدر فيه، فمن أراد أن يعلم فليمتحن قلبه، فإن شاركه في حبّنا حبّ عدوّنا فليس منّا ولسنا منه واللَّه عدوّهم وجبرئيل وميكائيل واللَّه عدوّ للكافرين».

وبناءً على هذا، فإنّ القلب مركز الإعتقاد الواحد، وينفّذ برنامجاً عملياً واحداً، لأنّ الإنسان لا يستطيع أن يعتقد بشي ء حقيقة وينفصل عنه في العمل.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 43

ثم يتطرق القرآن إلى خرافة اخرى من خرافات الجاهلية، وهي خرافة «الظهار»، حيث إنّ المشركين كانوا إذا غضبوا على نسائهم، وأرادوا أن يبدوا تنفّرهم وعدم ارتياحهم، قالوا للزوجة: «أنت عليّ كظهر امّي». فيعتبرها بمثابة امّه، وكان يعدّ هذا الكلام بمنزلة الطلاق.

يقول القرآن الكريم في تتمة هذه الآية: «وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ الِى تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ». فلم يمض الإسلام هذا القانون الجاهلي، ولم يصادق عليه، بل جعل عقوبة لمن يتعاطاه، وهي: أنّ من نطق بهذا الكلام فلا يحق له أن يقرب زوجته حتى

يدفع الكفارة، وإذا لم يدفعها ولم يأت زوجته فإنّ لها الحق في أن تستعين بحاكم الشرع ليجبره على أحد أمرين: إمّا أن يطلّقها وفقاً لأحكام الإسلام ويفارقها، أو أن يكفّر ويستمر في حياته الزوجية كالسابق.

ثم تطرقت الآية إلى ثالث خرافة جاهلية، فقالت: «وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ».

وتوضيح ذلك: أنّه كان من المتعارف في زمن الجاهلية أنّهم كانوا ينتخبون بعض الأطفال كأولاد لهم، ويسمّونهم أولادهم، وبعد هذه التسمية يعطونه كل الحقوق التي يستحقها الولد من الأب، فيرث الولد من تبنّاه، كما يرث المتبنّي الولد.

وقد نفى الإسلام هذه العادات غير المنطقية والخرافية أشد النفي. ولذلك يقول القرآن الكريم بعد هذه الجملة: «ذلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ».

إنّكم تقولون: إنّ فلاناً ولدي، وأنتم تعلمون علم اليقين أنّ الأمر ليس كذلك، فإنّ الأمواج الصوتية فقط هي التي تخرج من أفواهكم ولا تنبع مطلقاً من إعتقاد قلبي، وهذا كلام باطل ليس إلّا «وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ».

إنّ «قول الحق» يطلق على القول الذي ينطبق على الواقع الموضوعي تماماً، أو أن يكون من الامور الاعتبارية التي تنسجم مع مصالح كل أطراف القضية، ونعلم أنّ مسألة «الظهار» في الجاهلية، أو «التبنّي» الذي كان يسحق حقوق الأبناء الآخرين إلى حد كبير- لم يكونا من الموضوعات العينية، ولا من الاعتباريات الحافظة لمصلحة عامة الناس.

ثم يضيف القرآن مؤكّداً وموضّحاً الخط الصحيح والمنطقي للإسلام: «ادْعُوهُمْ لِأَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ».

وتقول الآية لرفع الأعذار والحجج: «فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا ءَابَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِى الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ». أي إنّ عدم معرفة آبائهم لا يكون دليلًا على أن تضعوا اسم شخص آخر كأب

مختصر الامثل، ج 4، ص: 44

لهذا الإبن، بل يمكنكم أن تخاطبوهم كإخوانكم في الدين أو أصدقائكم ومواليكم.

«الموالي»: جمع «مولى»، وقد ذكر المفسرون له

معاني عديدة، فالبعض فسّره هنا بمعنى الصديق والصاحب، والبعض الآخر بمعنى الغلام المعتق والمحرّر. ولكن ربّما يدعو الشخص إنساناً لغير أبيه لاعتياده ذلك سابقاً، أو لسبق لسانه، أو لاشتباهه في تشخيص نسب الأفراد، وهذا خارج عن حدود اختيار الإنسان، فإنّ اللَّه العادل الحكيم لا يعاقب مثل هذا الإنسان، ولذا أردفت الآية: «وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا».

إنّه تعالى يغفر لكم ما سبق، ويعفو عن السهو والنسيان والإشتباه.

ثم تتطرق الآية التالية إلى مسألة مهمة اخرى، أي إبطال نظام «المؤاخاة» بينهم.

وتوضيح ذلك: أنّ المسلمين لمّا هاجروا من مكة إلى المدينة وقطع الإسلام كل روابطهم وعلاقاتهم بأقاربهم وأقوامهم المشركين الذين كانوا في مكة تماماً، فقد أجرى النبي صلى الله عليه و آله بأمر اللَّه عقد المؤاخاة بينهم وعقد عهد المؤاخاة بين «المهاجرين» و «الأنصار»، وكان يرث أحدهم الآخر كالأخوين الحقيقيين، إلّاأنّ هذا الحكم كان مؤقّتاً وخاصّاً بحالة استثنائية جدّاً، فنزلت الآية أعلاه وألغت نظام المؤاخاة الذي كان يحلّ محلّ النسب، وجعل حكم الإرث وأمثاله مختّصاً باولي الأرحام الحقيقيين.

غاية ما في الأمر أنّ الآية قبل أن تذكر هذا الحكم ذكرت حكمين آخرين- أي كون النبي صلى الله عليه و آله أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وكون نساء النبي صلى الله عليه و آله كامهاتهم- كمقدمة، فقالت:

«النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ» «1». «وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ» «2».

ومع أنّ النبي صلى الله عليه و آله بمنزلة الأب، وأزواجه بمنزلة امهات المؤمنين إلّاأنّهم لا يرثون منهم

______________________________

(1) إنّ النبي صلى الله عليه و آله أولى من كل إنسان مسلم في المسائل الاجتماعية والفردية، وكذلك في المسائل المتعلقة بالحكومة والقضاء والدعوة، وإنّ إرادته ورأيه مقدم على إرادة أي

مسلم ورأيه، وهذا لأنّ النبي صلى الله عليه و آله معصوم ووكيل للَّه سبحانه، ولا يفكّر ويقرّر إلّافي صالح المجتمع والفرد.

(2) وهي طبعاً امومة معنوية وروحية، كما أنّ النبي صلى الله عليه و آله أب روحي ومعنوي للُامة.

إنّ تأثير هذا الإرتباط المعنوي كان منحصراً في مسألة حفظ احترام أزواج النبي صلى الله عليه و آله وحرمة الزواج منهن، كما جاء الحكم الصريح بتحريم الزواج منهن بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله، أي إنّ المسلمين كان من حقهم أن يتزوجوا بنات النبي، في حين أنّ أيّ أحد لا يستطيع الزواج من ابنة امه، وكذلك مسألة كونهن أجنبيات، وعدم جواز النظر إليهن إلّاللمحارم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 45

مطلقاً، فكيف يُنتظر أن يرث الإبن المتبنّي؟!

ثم تضيف الآية: «وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ». ولكن مع ذلك، ومن أجل أن لا تغلق الأبواب بوجه المسلمين تماماً وليكون بإمكان المؤمنين تعيين شيئاً من الإرث لإخوانهم- وإن كان بأن يوصوا بثلث المال- فإنّ الآية تضيف في النهاية: «إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا».

وتقول في آخر جملة تأكيداً لكل الأحكام السابقة، أو الحكم الأخير: «كَانَ ذلِكَ فِى الْكِتَابِ مَسْطُورًا»- في اللوح المحفوظ أو في القرآن الكريم-.

وَ إِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسَى وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَ أَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً (8) ميثاق اللَّه الغليظ: لما كانت الآيات السابقة قد بيّنت الصلاحيات الواسعة للرسول الأكرم صلى الله عليه و آله تحت عنوان (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم)، فإنّ هذه الآيات تبيّن واجبات النبي وسائر الأنبياء العظام الثقيلة العظيمة، لأنّا

نعلم أنّ الصلاحيات تقترن دائماً بالمسؤوليات. تقول الآية الاولى: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا».

وعلى هذا فإنّها تذكر أوّلًا جميع الأنبياء في مسألة الميثاق، ثم تخصّ بالذكر منهم خمسة أنبياء هم اولوا العزم، وعلى رأسهم نبي ااخاتم صلى الله عليه و آله لعظمته وجلالته وشرفه.

هذا الميثاق هو تأدية مسؤولية التبليغ والرسالة والقيادة وهداية الناس في كل الأبعاد والمجالات.

إنّ الأنبياء كانوا مكلفين بأن يؤيّد بعضهم بعضاً، كما أنّ الأنبياء اللاحقين يصدّقون ويؤكّدون صحّة دعوة الأنبياء السابقين.

وتبين الآية التالية الهدف من بعثة الأنبياء والميثاق الغليظ الذي اخذ منهم، فتقول:

«لّيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا».

إنّ المراد من الصادقين: هم الذين أثبتوا صدقهم وإخلاصهم في ميادين حماية دين اللَّه والجهاد والثبات والصمود أمام المشاكل وبذل الأرواح والأموال.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 46

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيداً (11) الإمتحان الإلهي العظيم في مواجهة الأحزاب: تتحدث هذه الآيات والآيات الاخرى التالية، والتي تشكّل بمجموعها سبع عشرة آية، عن أعسر الامتحانات والاختبارات الإلهية للمؤمنين والمنافقين، واختبار مدى صدقهم في العمل، الذي بحث في الآيات السابقة.

إنّ هذه الآيات تبحث أحد أهم حوادث تاريخ الإسلام، أي عن «معركة الأحزاب».

إنّ حرب الأحزاب- وكما يدل عليها إسمها- كانت مجابهة شاملة من قبل عامة أعداء الإسلام والفئات المختلفة التي تعرّضت مصالحها ومنافعها اللامشروعة للخطر نتيجة توسّع وانتشار

هذا الدين.

لقد اشعلت أوّل شرارة للحرب من قبل يهود «بني النظير» الذين جاؤوا إلى مكة وأغروا «قريش» بحرب النبي صلى الله عليه و آله، ووعدوهم بأن يساندوهم ويقفوا إلى جانبهم حتى النفس الأخير، ثم أتوا قبيلة «غطفان» وهيّئوهم لهذا الأمر أيضاً.

ثم دعت هذه القبائل حلفاءها كقبيلة «بني أسد» و «بني سليم»، ولما كان الجميع قد أحسّ بالخطر فإنّهم اتّحدوا واتّفقوا على أن يقضوا على الإسلام إلى الأبد.

أمّا المسلمون اجتمعوا للتشاور بأمر النبي صلى الله عليه و آله، وقبل كل شي ء أخذوا برأي «سلمان الفارسي» وحفروا حول المدينة خندقاً حتى لا يستطيع العدو عبوره بسهولة ويهجم على المدينة، ولهذا كان أحد أسماء هذه المعركة «معركة الخندق».

لقد مرّت لحظات صعبة وخطرة جدّاً على المسلمين، وكانت القلوب قد بلغت الحناجر، وكان المنافقون من جهة اخرى قد شمّروا عن السواعد وجدّوا في تآمرهم على الإسلام، وكذلك ضخامة عدد الأعداء وقلة عدد المسلمين- (ذكروا أنّ عدد الكفار كان عشرة آلاف، أمّا المسلمون فكانوا ثلاثة آلاف) وإستعداد الكفار من ناحية المعدّات الحربية، كل ذلك قد رسم صورة كالحة للمصير المجهول في أعين المسلمين. إلّاأنّ اللَّه سبحانه أراد أن

مختصر الامثل، ج 4، ص: 47

ينزل هنا آخر ضربة بالكفر، ويميّز صفّ المنافقين عن صفوف المسلمين.

وأخيراً انتهت هذه الغزوة بانتصار المسلمين فقد هبّت بأمر اللَّه عاصفة هوجاء إقتلعت خيام الكفار وأتلفت وسائلهم، وألقت في قلوبهم الرعب الشديد، وأرسل سبحانه قوى الملائكة الغيبية لعون المسلمين.

وقد اضيف إلى ذلك تجلّي قدرة وعظمة أمير المؤمنين علي عليه السلام أمام عمرو بن عبد ودّ، فلاذ المشركون بالفرار من دون القدرة على القيام بأيّ عمل.

نزلت الآيات السبع عشرة من هذه السورة، واستطاعت بتحليلاتها الدقيقة والفاضحة أن تستفيد من هذه

الحادثة المهمة من أجل إنتصار الإسلام النهائي وقمع المنافقين بأفضل وجه.

يلخّص القرآن الكريم هذه الحادثة في آية واحدة أوّلًا، ثم يتناول تبيان خصوصياتها في الستّ عشرة آية الاخرى، فيقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ [كثيرة جدّاً] فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا».

ويعلم أعمال كل جماعة وما قامت به في هذا الميدان الكبير.

إنّ التعبير ب «الجنود» إشارة إلى مختلف الأحزاب الجاهلية كقريش وغطفان وبني سليم وبني أسد وبني فزارة وبني أشجع وبني مرّة، وكذلك إلى طائفة اليهود في داخل المدينة.

إنّ المراد من «جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا» والتي نزلت لنصرة المسلمين، هو «الملائكة» التي ورد نصرها للمؤمنين في غزوة بدر في القرآن المجيد بصراحة.

والملائكة نزلت لرفع معنويات المؤمنين وشدّ عزيمتهم وإثارة حماسهم.

وتقول الآية التالية تجسيداً للوضع المضطرب في تلك المعركة، وقوّة الأعداء الحربية الرهيبة، والقلق الشديد لكثير من المسلمين: «إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الْظُّنُونَا».

إنّ الجملة أعلاه إشارة إلى محاصرة هذه المدينة من قبل أعداء الإسلام.

إنّ جملة «زَاغَتِ الْأَبْصَارُ»- بملاحظة أنّ «زاغت» من مادة الزيغ، أي الميل إلى جانب واحد- إشارة إلى الحالة التي يشعر بها الإنسان عند الخوف والإضطراب، حيث تميل عيناه إلى جهة واحدة، وتتسمّر وتثبت على نقطة معيّنة، ويبقى متحيّراً حينذاك.

وجملة «وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الْظُّنُونَا» إشارة إلى أنّ بعض المسلمين خطرت على أفكارهم ظنون شيطانية.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 48

هنا كان الامتحان الإلهي قد بلغ أشدّه كما تقول الآية التالية: «هُنَالِكَ ابْتُلِىَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا».

من الطبيعي أنّ الإنسان إذا احيط بالعواصف الفكرية، فإنّ جسمه لا يبقى بمعزل عن هذا الإبتلاء، بل ستظهر عليه آثار الإضطراب

والتزلزل.

وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (12) وَ إِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَ مَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً (13) وَ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَ مَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً (14) وَ لَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَ كَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَ إِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَ لَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَ لَا نَصِيراً (17) المنافقون في عرصة الأحزاب: فار تنوّر امتحان حرب الأحزاب، وابتلي الجميع بهذا الامتحان الكبير العسير، وهنا انقسم المسلمون إلى فئات مختلفة: فمنهم المؤمنون الحقيقيون، وفئة خواص المؤمنين، وجماعة ضعاف الإيمان، وفرقة المنافقين، وجمع المنافقين العنودين المتعصّبين، وبعضهم كان يفكّر في بيته وحياته والفرار، وجماعة كانوا يسعون إلى صرف الآخرين عن الجهاد، والبعض الآخر كان يسعى إلى تحكيم أواصر الودّ مع المنافقين.

وتعكس اولى الآيات مورد البحث مقالة المنافقين ومرضى القلوب، فتقول: «وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا».

جاء في تاريخ حرب الأحزاب: أنّه خلال حفر الخندق، وبينما كان المسلمون يعملون فخرجت عليهم صخرة كسرت المِعوَل فأعلموا النبي صلى الله عليه و آله فهبط إليها ومعه سلمان فأخذ المعول وضرب الصخرة ضربة صدعها، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتي المدينة حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت

مظلم فكبّر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والمسلمون ثم الثانية كذلك، ثم

مختصر الامثل، ج 4، ص: 49

الثالثة كذلك ثم خرج وقد صدعها فسأله سلمان عما رأى من البرق فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«أضاءت الحيرة وقصور كسرى في البرقة الاولى، وأخبرني جبرئيل أنّ امّتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثانية القصور الحُمر من أرض الشام والروم، وأخبرني أنّ امّتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثالثة قصور صنعاء، وأخبرني أنّ امّتي ظاهرة عليها، فأبشروا» فاستبشر والمسلمون.

وقال المنافقون: ألا تعجبون يعدكم الباطل ويخبركم أنّه ينظر من يثرب الحيرة ومدائن كسرى وإنّها تُفتَح لكم، وأنتم تحفرون الخندق ولا تستطيعون أن تبرزوا فأنزل اللَّه: «وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا» «1».

ثم تتطرق الآية الاخرى إلى بيان حال طائفة اخرى من هؤلاء المنافقين مرضى القلوب، والذين كانوا أخبث وأفسق من الباقين، فمن جانب تقول الآية عنهم: واذكر إذ قالت مجموعة منهم للأنصار: يا أهل المدينة (يثرب) ليس لكم في هذا المكان موقع فلا تتوقفوا هنا وارجعوا إلى بيوتكم: «وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَامُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا».

وبذلك كانوا يريدون أن يعزلوا الأنصار عن جيش الإسلام.

ومن جانب آخر: «وَيَسْتْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا».

«عورة»: مأخوذة من مادة «عار»، وتقال للشي ء الذي يوجب ظهوره العار، وتقال أيضاً للشقوق والثقوب التي تظهر في اللباس أو جدران البيت، وكذلك للثغور الضعيفة والنقاط الحدودية التي يمكن اختراقها وتدميرها، وعلى ما يخافه الإنسان ويحذره، والمراد هنا البيوت التي ليس لها جدار مطمئن وباب محكم، ويخشى عليها من هجوم العدو.

و «يثرب»: هو الإسم القديم للمدينة قبل

أن يهاجر إليها النبي صلى الله عليه و آله، وبعد هجرته أصبح إسمها تدريجياً «مدينة الرسول»، ومخفّفها المدينة.

وتشير الآية التالية إلى ضعف إيمان هذه الفئة، فتقول: إنّ هؤلاء بلغ بهم ضعف الإيمان إلى درجة أنّ جيش الكفر لو دخل المدينة من كل جانب وصوب، واستولى عليها، ثم دعاهم إلى الشرك والكفر فسوف يقبلون ذلك ويسارعون إليه: «وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سِلُوا الْفِتْنَةَ لَأَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا».

______________________________

(1) الكامل في التّاريخ لابن الأثير 2/ 70 (ذكر غزوة الخندق وهي غزوة الأحزاب). مختصر الامثل، ج 4، ص: 50

مختصر الامثل ج 4 99

من المعلوم أنّ اناساً بهذا الضعف والتزلزل وعدم الثبات غير مستعدّين للقاء العدو ومحاربته، ولا هم متأهّبون لتقبّل الشهادة في سبيل اللَّه، بل يستسلمون بسرعة ويغيّرون مسيرهم. وبناءً على هذا، فإنّ المراد من كلمة «الفتنة» هنا هي الشرك والكفر.

ثم يستدعي القرآن الكريم فئة المنافقين إلى المحاكمة، فيقول: «وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَايُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسُولًا». وعليه فإنّهم مسؤولون أمام تعهّدهم.

إنّ كل من يؤمن ويبايع النبي صلى الله عليه و آله يعاهده على أن يدافع عن الإسلام والقرآن ولو كلّفه ذلك حياته.

وبعد أن أفشى اللَّه سبحانه نيّة المنافقين وبيّن أنّ مرادهم لم يكن حفظ بيوتهم، بل الفرار من ميدان الحرب، يجيبهم بأمرين:

الأوّل: أنّه يقول للنبي صلى الله عليه و آله: «قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا».

إنّ هذا البيان يشبه ما ورد في غزوة احد، حيث أشار القرآن في الآية (153) من سورة آل عمران إلى فئة اخرى من المنافقين المثبّطين للعزائم، والمفرّقين لوحدة الصف.

والثاني: ألم تعلموا أنّ مصائركم بيد اللَّه، ولن

تقدروا أن تفرّوا من حدود حكومة اللَّه وقدرته ومشيئته: «قُلْ مَن ذَا الَّذِى يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا».

بناءً على هذا، فإنّكم إذا علمتم أنّ كل مقدّراتكم بيده سبحانه، فأطيعوا أمره في الجهاد الذي هو أساس العزة والكرامة والشموخ في الدنيا وعند اللَّه، وحتى إذا تقرّر أن تنالوا وسام الشهادة فعليكم أن تستقبلوا ذلك برحابة صدر.

قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَ الْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَ لَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَ كَانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَ إِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَ لَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 51

فئة المعوّقين: أشارت هذه الآيات إلى وضع فئة اخرى من المنافقين الذين اعتزلوا حرب الأحزاب، وكانوا يدعون الآخرين أيضاً إلى اعتزال القتال، فقالت: «قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا».

«المعوّقين»: من مادة «عوق» على زنة (شوق) تعني منع الشي ء ومحاولة صرف الآخرين عنه؛ و «البأس»: في الأصل يعني (الشدّة)، والمراد منه هنا الحرب.

وتضيف الآية التالية: إنّ الدافع لكل تلك العراقيل التي وضعوها أمامكم هو أنّهم بخلاء:

«أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ» «1». لا في بذل الأرواح في ساحة الحرب، بل هم بخلاء حتى في المعونات الماديّة لتهيئة مستلزمات الحرب، وفي المعونة البدنية في حفر الخندق، بل ويبخلون حتى في المساعدة

الفكرية، بخلًا يقترن بالحرص المتزايد يومياً.

وبعد تبيان بخل هؤلاء وامتناعهم عن أيّ نوع من المساعدة والإيثار، تتطرق الآية إلى بيان صفات اخرى لهم، والتي لها صفة العموم في كل المنافقين، وفي كل العصور والقرون، فتقول: «فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِى يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ».

فلأنّهم لما لم يذوقوا طعم الإيمان الحقيقي، ولم يستندوا إلى عماد قوي في الحياة، فإنّهم يفقدون السيطرة على أنفسهم تماماً عندما يواجهون حادثاً صعباً ومأزقاً حرجاً، وكأنّهم يواجهون الموت.

ثم تضيف الآية: «فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ». فيأتون إليكم كأنّهم هم الفاتحون الأصليون والمتحمّلون أعباء الحرب، فيعربدون ويطلبون سهمهم من الغنائم، وهم كانوا أبخل من الجميع في المشاركة في الحرب والثبات فيها.

«سلقوكم»: من مادة «سَلْق»، وهي في الأصل بمعنى فتح الشي ء بعصبية وغضب، سواء كان هذا الفتح باليد أو اللسان، وهذا التعبير يستعمل في شأن من يطلب الشي ء بالزجر واسلوب الأمر؛ و «الألسنة الحداد» تعني الألسنة الجارحة المؤذية، وهي هنا كناية عن الخشونة في الكلام.

وتشير الآية في النهاية إلى آخر صفة لهؤلاء، والتي هي أساس كل شقائهم وتعاستهم، فقالت: «أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أعْمَالَهُمْ». لأنّها لم تكن منبعثة عن الإخلاص والدافع الديني الإلهي: «وَكَانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا».

______________________________

(1) «أشحّة»: جمع شحيح، من مادة (الشحّ)، أي البخل المقترن بالحرص.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 52

وتجسّد الآية التالية بتصوير أبلغ جبن وخوف هذه الفئة، فتقول: «يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا».

ثم تضيف الآية: «وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِى الْأَعْرَابِ». أي: منتشرون في الصحراء بين أعراب البادية، فيختفون هناك ويتتبعون أخباركم: «يَسَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ». فيسألون من كل مسافر آخر الأخبار لئلّا تكون الأحزاب قد اقتربت منهم، وهم مع

ذلك يمنّون عليكم بأنّهم كانوا يتابعون أخباركم دائماً.

وتضيف الآية في آخر جملة: وعلى فرض أنّهم لم ينهزموا ويفرّوا من الميدان، بل بقوا معكم، «وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا». فلا تحزنوا وتقلقوا لذهابهم، ولا تفرحوا بوجودهم بينكم، فإنّهم اناس لا قيمة لهم ولا صفة تحمد، وعدمهم أفضل من وجودهم.

لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَ لَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ مَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَ تَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ مَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَ يُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَ رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَ كَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً (25) دور المؤمنين المخلصين في معركة الأحزاب: يستمرّ الكلام إلى الآن عن الفئات المختلفة ومخطّطاتهم وأدوارهم في غزوة الأحزاب، ويتحدّث القرآن المجيد في نهاية المطاف عن المؤمنين الحقيقيين، ومعنوياتهم العالية ورجولتهم وثباتهم وسائر خصائصهم في الجهاد الكبير.

ويبدأ مقدمة هذا البحث بالحديث عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، حيث كان إمامهم وقدوتهم، فيقول: «لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْأَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 53

فإنّ النبي صلى الله عليه و آله خير نموذج لكم، لا في هذا المجال وحسب، بل وفي كل مجالات الحياة، فإنّ كلّاً من معنوياته العالية، وصبره واستقامته وصموده، وذكائه

ودرايته، وإخلاصه وتوجهه إلى اللَّه، وتسلّطه وسيطرته على الحوادث نموذج يحتذي به كل المسلمين.

«الاسوة»: تعني في الأصل الحالة التي يتلبّسها الإنسان لدى اتّباعه لآخر. وبتعبير آخر:

هي التأسي والإقتداء. وبناءً على هذا فإنّ لها معنى المصدر لا الصفة، ومعنى جملة: «لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»، هو أنّ لكم في النبي صلى الله عليه و آله تأسّياً واقتداءً جيّداً، فإنّكم تستطيعون بالإقتداء به واتباعه أن تصلحوا اموركم وتسيروا على الصراط المستقيم.

وتجدر الإشارة إلى أنّ علياً عليه السلام مع شهامته وشجاعته في كل ميادين الحرب، والتي تمثّل معركة الأحزاب نموذجاً منها، يقول في نهج البلاغة فيما روي عنه: «كنّا إذا احمرّ البأس اتّقينا برسول اللَّه صلى الله عليه و آله فلم يكن أحد منّا أقرب إلى العدوّ منه».

بعد ذكر هذه المقدمة تطرقت الآية التالية إلى بيان حال المؤمنين الحقيقيين، فقالت:

«وَلَمَّا رَءَا الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا».

هذا الوعد إشارة إلى الكلام الذي كان رسول اللَّه قد تكلّم به من قبل بأنّ قبائل العرب ومختلف أعدائكم سيتّحدون ضدّكم قريباً ويأتون إليكم، لكن اعلموا أنّ النصر سيكون حليفكم في النهاية.

إنّهم قيل لهم من قبل: إنّكم ستخضعون لامتحان عسير، فلمّا رأوا الأحزاب تيقّنوا صدق إخبار اللَّه ورسوله، وزاد إيمانهم وتسليمهم.

وتشير الآية التالية إلى فئة خاصة من المؤمنين، وهم الذين كانوا أكثر تأسّياً بالنبي صلى الله عليه و آله من الجميع، وثبتوا على عهدهم الذي عاهدوا اللَّه به، وهو التضحية في سبيل دينه حتى النفس الأخير، وإلى آخر قطرة دم، فتقول: «مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ». من دون أن

يتزلزل أو ينحرف ويبدّل العهد ويغيّر الميثاق الذي قطعه على نفسه «وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا».

«نحب»: على زنة «عهد» تعني العهد والنذر والميثاق.

إنّ للآية مفهوماً واسعاً يشمل كل المؤمنين المخلصين الصادقين في كل عصر وزمان، سواء من ارتدى منهم ثوب الشهادة في سبيل اللَّه، أم من ثبت على عهده مع ربّه ولم يتزعزع، وكان مستعدّاً للجهاد والشهادة.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 54

وتبيّن الآية التالية النتيجة النهائية لأعمال المؤمنين والمنافقين في جملة قصيرة، فتقول:

«لّيَجْزِىَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا». فلا يبقى صدق وإخلاص ووفاء المؤمنين بدون ثواب، ولا ضعف وإعاقات المنافقين بدون عقاب.

وتطرح الآية الأخيرة من هذه الآيات- والتي تتحدث عن غزوة الأحزاب وتنهي هذا البحث، فتقول في الجملة الاولى: «وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا».

«الغيظ»: يعني (الغضب) ويأتي أحياناً بمعنى (الغمّ)، وهنا جاء مزيجاً من المعنيين، فإنّ جيوش الأحزاب قد بذلت قصارى جهدها للإنتصار على جيش الإسلام، لكنّها خابت، ورجع جنود الكفر إلى أوطانهم يعلوهم الغمّ والغضب.

والمراد من «الخير» هنا الإنتصار في الحرب، ولم يكن إنتصار جيش الكفر خيراً أبداً، بل إنّه شرّ، ولمّا كان القرآن يتحدّث من وجهة نظرهم الفكرية عبّر عنه بالخير، وهو إشارة إلى أنّهم لم ينالوا أيّ نصر في هذا المجال.

وتضيف في الجملة التالية: «وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ». فقد هيّأ عوامل بحيث انتهت الحرب من دون حاجة إلى إلتحام واسع بين الجيشين، ومن دون أن يتحمّل المؤمنون خسائر فادحة، لأنّ العواصف الهوجاء القارصة قد مزّقت أوضاع المشركين من جهة، ومن جهة اخرى فإنّ اللَّه تعالى قد ألقى الرعب والخوف في قلوبهم من جنود اللَّه التي لا ترى، ومن جهة ثالثة فإنّ الضربة

التي أنزلها علي بن أبي طالب عليه السلام بأعظم بطل من أبطالهم، وهو «عمرو بن عبد ودّ»، قد تسبّبت في تبدّد أحلامهم وآمالهم، ودفعتهم إلى أن يلملموا أمتعتهم ويتركوا محاصرة المدينة ويرجعوا إلى قبائلهم تقدمهم الخيبة والخسران.

وتقول الآية في آخر جملة: «وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا». فمن الممكن أن يوجد اناس أقوياء، لكنّهم ليسوا بأعزّاء لا يُقهرون، بل هناك من يقهرهم ومن هو أقوى منهم، إلّاأنّ القوي العزيز الوحيد في العالم هو اللَّه عزّ وجل الذي لا حدّ لقدرته وقوّته ولا انتهاء.

نتائج حرب الأحزاب: لقد كانت حرب الأحزاب نقطة انعطاف في تاريخ الإسلام، قلبت كفّة التوازن العسكري والسياسي لصالح المسلمين إلى الأبد.

ويمكن تلخيص النتائج المثمرة لهذه المعركة في عدّة نقاط:

أ) فشل مساعي العدو، وتحطّم قواه.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 55

ب) كشف المنافقين، وفضح الأعداء الداخليين الخطرين.

ج) جبران الذكرى الأليمة لهزيمة احد.

د) قوة المسلمين، وازدياد هيبتهم في قلوب الأعداء.

ه) إرتفاع معنويات المسلمين نتيجة للمعجزات العظيمة التي رأوها في هذه المعركة.

و) تثبيت مركز النبي صلى الله عليه و آله في داخل المدينة وخارجها.

ز) تهيؤ الأرضية لتصفية المدينة وإنقاذها من شرّ بني قريظة.

وَ أَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَ تَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِيَارَهُمْ وَ أَمْوَالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَئُوهَا وَ كَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً (27) غزوة بني قريظة إنتصار عظيم آخر: كان في المدينة ثلاث طوائف معروفة من اليهود، وهم: بنو قريظة، وبنو النضير، وبنو قينقاع، وكانت هذه الطوائف قد عاهدت النبي صلى الله عليه و آله على أن لا تعين عدوّاً له ولا يتجسّسوا لذلك العدوّ، إلّاأنّ «بني قينقاع» قد نقضوا عهدهم في

السنة الثانية للهجرة، و «بنو النضير» في السنة الرابعة للهجرة بأعذار شتّى، وصمّموا على مواجهة النبي صلى الله عليه و آله وانهارت مقاومتهم في النهاية، وطردوا إلى خارج المدينة. بناءً على هذا، فإنّ «بني قريظة» كانوا آخر من بقي في المدينة إلى السنة الخامسة للهجرة حيث وقعت غزوة الأحزاب، فإنّهم اتّصلوا بمشركي العرب، وشهروا السيوف بوجه المسلمين.

بعد انتهاء غزوة الأحزاب فإنّ النبي صلى الله عليه و آله عاد إلى منزله، فنزل عليه جبرئيل بأمر اللَّه وقال: لماذا ألقيت سلاحك وهذه الملائكة قد استعدّت للحرب؟ عليك أن تسير الآن نحو بني قريظة وتنهي أمرهم.

كان المسلمون في حرارة الإنتصار، وبنو قريظة يعيشون لوعة الهزيمة المرّة، وهم في طريقهم إلى ديارهم يجرّون أذيال الخيبة.

هنا نادى مناد من قبل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بأن توجّهوا إلى بني قريظة قبل أن تصلّوا العصر، فاستعدّ المسلمون بسرعة وتهيّئوا للمسير إلى الحرب، وما كادت الشمس تغرب إلّاوكانت حصون بني قريظة المحكمة محاصرة تماماً.

لقد استمرت هذه المحاصرة خمسة وعشرين يوماً، وأخير سلّموا جميعاً فقُتل بعضهم، واضيف إلى سجل إنتصارات المسلمين إنتصار عظيم آخر.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 56

وقد أشارت الآيات- مورد البحث- إلى هذه الحادثة، وأوضحت أنّ هذه الحادثة كانت نعمة وموهبة إلهية عظيمة، فتقول الآية أوّلًا: «وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ».

«الصياصي»: جمع (صيصية)، أي: القلعة المحكمة، ثم اطلقت على كل وسيلة دفاعية.

ويتّضح هنا أنّ اليهود كانوا قد بنوا قلاعهم وحصونهم إلى جانب المدينة في نقطة مرتفعة.

ثم تضيف الآية: «وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ». وأخيراً بلغ أمرهم أنّكم «فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا* وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ».

والتعبير عن هذه الغنائم ب «الإرث» لأنّ المسلمين لم يبذلوا كثير جهد للحصول عليها،

وسقطت في أيديهم بسهولة كل تلك الغنائم التي كانت حصيلة سنين طويلة من ظلم وجور اليهود واستثماراتهم في المدينة.

وتقول الآية في النهاية: «وَأَرْضًا لَّمْ تَطُوهَا».

وهذا إشارة إلى البساتين والأراضي الخاصّة ببني قريظة، والتي لم يكن لأحد الحق في دخولها، لأنّ اليهود كانوا يبذلون قصارى جهودهم في سبيل الحفاظ على أموالهم وحصرها فيما بينهم.

وأخيراً فإنّ التأكيد على قدرة اللَّه عزّ وجل في آخر آية: «وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرًا». إشارة إلى أنّه سبحانه قد هزم الأحزاب بالرياح والعواصف والجنود الغيبيين يوماً، وهزم ناصريهم- أي يهود بني قريظة- بجيش الرعب والخوف يوماً آخر.

نتائج غزوة بني قريظة: إنّ الإنتصار على اولئك القوم الظالمين العنودين قد حمل معه نتائج مثمرة للمسلمين، ومن جملتها:

أ) تطهير الجبهة الداخلية للمدينة، واطمئنان المسلمين وتخلّصهم من جواسيس اليهود.

ب) سقوط آخر دعامة لمشركي العرب في المدينة، وقطع أملهم من إثارة القلاقل والفتن داخلياً.

ج) تقوية بنية المسلمين المالية بواسطة غنائم هذه الغزوة.

د) فتح آفاق جديدة للإنتصارات المستقبلية، وخاصة فتح «خيبر».

ه) تثبيت مكانة الحكومة الإسلامية وهيبتها في نظر العدوّ والصديق، في داخل المدينة وخارجها.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 57

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَ زِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلًا (28) وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَ كَانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَ أَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً (31)

سبب النّزول

في تفسير علي بن إبراهيم: لمّا رجع رسول اللَّه صلى الله عليه و

آله من غزاة خيبر وأصاب كنز آل أبي الحقيق، قلن أزواجه أعطنا ما أصبت، فقال لهن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قسمته بين المسلمين على ما أمر اللَّه فغضبن من ذلك وقلن لعلّك ترى أنّك إن طلقتنا أن لا نجد الأكفاء من قومنا يتزوجونا فانف اللَّه لرسوله فأمره أن يعتزلهن فاعتزلهن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في مشربة أم إبراهيم تسعة وعشرين يوماً حتى حضن وطهرن ثم أنزل اللَّه هذه الآية وهي آية التخيير فقال «يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لِأَزْوَاجِكَ» إلى قوله «أَجْرًا عَظِيمًا» فقامت أم سلمة وهي أوّل من قامت وقالت قد اخترت اللَّه ورسوله فقمن كلهن فعانقنه وقلن مثل ذلك فأنزل اللَّه «تُرْجِى مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ» الآية.

التّفسير

أمّا السعادة الخالدة أو زخارف الدنيا: لم يعزب عن أذهانكم أنّ الآيات الاولى من هذه السورة قد توّجت نساء النبي بتاج الفخر حيث سمّتهن ب «أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ». ومن البديهي أنّ المناصب والمقامات الحساسة التي تبعث على الفخر تصاحبها مسؤوليات ثقيلة، فكيف يمكن أن تكون نساء النبي امّهات المؤمنين وقلوبهن وأفكارهن مشغولة بحبّ الدنيا ومغرياتها؟

وبغضّ النظر عن ذلك، فإنّ النبي صلى الله عليه و آله يجب أن لا يكون لوحده اسوةً للناس بحكم الآيات السابقة، بل يجب أن تكون عائلته اسوة لباقي العوائل أيضاً، ونساؤه قدوة للنساء المؤمنات حتى تقوم القيامة.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 58

فخاطبت الآية الاولى من الآيات أعلاه النبي صلى الله عليه و آله وقالت: «يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لِأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ وَأُسَرّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا».

«امتّعكن»: من مادة متعة، تعني الهدية التي تلائم أحوال المرأة، والمراد هنا المقدار المناسب الذي يضاف على المهر،

وإن لم يكن المهر معيّناً فإنّه يعطيها هدية لائقة بحالها بحيث ترضيها، ويتمّ طلاقها وفراقها في جوّ هادي ء مفعم بالحبّ.

«السراح»: في الأصل من مادة «سرح» أي الشجرة التي لها ورق وثمر. والمراد من «السراح الجميل» في الآية طلاق النساء وفراقهن فراقاً مقترناً بالإحسان، وليس فيه جبر وقهر.

وتضيف الآية التالية: «وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْأَخِرَةِ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا».

وبناءً على هذا، فإنّ إظهار عشق اللَّه وحبّه، والتعلق بالنبي واليوم الآخر لا يكفي لوحده، بل يجب أن تنسجم البرامج العملية مع هذا الحبّ والعشق.

وبهذا فقد بيّن اللَّه سبحانه تكليف نساء النبي وواجبهن في أن يكنّ قدوة واسوة للمؤمنات على الدوام.

ومع أنّ المخاطب في هذه الآية هو نساء النبي إلّاأنّ محتوى الآيات ونتيجتها تشمل الجميع، وخاصة من كان في مقام قيادة الناس وإمامتهم واسوة لهم.

ثم تتناول الآية التالية بيان موقع نساء النبي أمام الأعمال الصالحة والطالحة، وكذلك مقامهنّ الممتاز، ومسؤولياتهنّ الضخمة بعبارات واضحة، فتقول: «يَا نِسَاءَ النَّبِىّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا».

فأنتنّ تعشن في بيت الوحي ومركز النبوّة، والآخرين ينظرون إليكن ويتخذون أعمالكن نموذجاً وقدوة لهم. بناءً على هذا، فإنّ ذنبكن أعظم عند اللَّه، لأنّ الثواب والعقاب يقوم على أساس المعرفة، ومعيار العلم، وكذلك مدى تأثير ذلك العمل في البيئة.

والمراد من «الفاحشة المبيّنة» الذنوب العلنية.

أمّا قوله عزّ وجل: «وَكَانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا» فهو إشارة إلى أن لا تظنّن أنّ عذابكن وعقابكن عسير على اللَّه تعالى، وأنّ علاقتكن بالنبي صلى الله عليه و آله ستكون مانعة منه.

أمّا في الطرف المقابل، فتقول الآية: «وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا

رِزْقًا كَرِيمًا».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 59

«يقنت»: من القنوت، وهو يعني الطاعة المقرونة بالخضوع والأدب، والقرآن يريد بهذا التعبير أن يأمرهن بأن يطعن اللَّه ورسوله، ويراعين الأدب مع ذلك تماماً.

«الرزق الكريم» له معنى واسع يتضمّن كل المواهب المادية والمعنوية، وتفسيره بالجنة باعتبارها مجمعاً لكل هذه المواهب.

يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً (32) وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَ أَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَ آتِينَ الزَّكَاةَ وَ أَطِعْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَ اذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَ الْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) هكذا يجب أن تكون نساء النبي: كان الكلام في الآيات السابقة عن موقع نساء النبي ومسؤولياتهن الخطيرة، ويستمرّ هذا الحديث في هذه الآيات، وتأمر الآيات نساء النبي صلى الله عليه و آله بسبعة أوامر مهمة؛ فيقول سبحانه في مقدّمة قصيرة: «يَا نِسَاءَ النَّبِىّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ». فإنّ انتسابكن إلى النبي قد منحكن موقعاً خاصاً بحيث تقدرن على أن تكنّ نموذجاً وقدوة لكل النساء، سواء كان ذلك في مسير التقوى أم مسير المعصية.

وبعد هذه المقدمة التي هيّأتهن لتقبّل المسؤوليات وتحمّلها، فإنّه تعالى أصدر أوّل أمر في مجال العفّة، فيقول: «فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ». بل تكلّمن عند تحدثكنّ بجدّ وباسلوب عادي.

إنّ التعبير ب «الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ» تعبير بليغ جدّاً، ومؤدّ لحقيقة أنّ الغريزة الجنسية عندما تكون في حدود الإعتدال والمشروعية فهي عين السلامة، أمّا عندما تتعدّى هذا الحدّ فإنّها ستكون مرضاً قد يصل

إلى حد الجنون.

ويبيّن الأمر الثاني في نهاية الآية فيقول عزّ وجل: يجب عليكن التحدّث مع الآخرين بشكل لائق ومرضي للَّه ورسوله، ومقترناً مع الحق والعدل: «وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 60

إنّ جملة «لَاتَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ» إشارة إلى طريقة التحدّث؛ وجملة: «وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا» إشارة إلى محتوى الحديث.

«القول المعروف» له معنى واسع يتضمّن كل ما قيل، إضافةً إلى أنّه ينفي كل قول باطل لا فائدة فيه ولا هدف من ورائه، وكذلك ينفي المعصية وكل ما خالف الحق.

ثم يصدر الأمر الثالث في باب رعاية العفة، فيقول: «وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى .

«قرن»: من مادة «الوقار»، أي الثقل، وهو كناية عن التزام البيوت؛ و «التبرّج»: يعني الظهور أمام الناس، وهو مأخوذ من مادة (برج)، حيث يبدو ويظهر لأنظار الجميع.

والمراد من «الجاهلية» أنّها الجاهلية التي كانت في زمان النبي صلى الله عليه و آله، ولم تكن النساء محجّبات حينها- كما ورد في التواريخ- وكنّ يلقين أطراف خمرهن على ظهورهن مع إظهار نحورهن وجزء من صدورهن وأقراطهن وقد منع القرآن الكريم أزواج النبي من مثل هذه الأعمال.

ولا شك أنّ هذا الحكم عام، والتركيز على نساء النبي من باب التأكيد الأشدّ.

وأخيراً يصدر الأمر الرابع والخامس والسادس فيقول سبحانه: «وَأَقِمْنَ الصَّلوةَ وَءَاتِينَ الزَّكوةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ».

إنّ هذه الأوامر الثلاثة تشير إلى أنّ الأحكام المذكورة ليست مختصة بنساء النبي، بل هي للجميع، وإن أكّدت عليهن.

ويضيف اللَّه سبحانه في نهاية الآية: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرًا».

إنّ التعبير ب (إنّما)- والذي يدل على الحصر عادةً- دليل على أنّ هذه المنقبة خاصة بأهل بيت النبي صلى الله عليه و آله؛ وجملة (يريد) إشارة إلى إرادة اللَّه التكوينية.

وبتعبير آخر: فإنّ

المعصومين نتيجة للرعاية الإلهية وأعمالهم الطاهرة، لا يقدمون على المعصية مع امتلاكهم القدرة والاختيار في إتيانها.

«الرجس»: تعني الشي ء القذر، سواء كان نجساً وقذراً من ناحية طبع الإنسان، أو بحكم العقل أو الشرع، أو جميعها؛ و «التطهير»: الذي يعني إزالة النجس، هو تأكيد على مسألة إذهاب الرجس ونفي السيئات.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 61

فإنّ الرّوايات الكثيرة جدّاً الواردة في كتب الفريقين تنفي شمول الآية لكل أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله، وتقول: إنّ المخاطبين في الآية والمقصود بأهل بيت النبي هم خمسة أفراد فقط، وهم: محمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام.

وبيّنت الآية الأخيرة- من الآيات مورد البحث- سابع وظيفة وآخرها من وظائف نساء النبي، ونبّهتهن على ضرورة استغلال أفضل الفرص التي تتاح لهن في سبيل الإحاطة بحقائق الإسلام والعلم بها وبأبعادها، فتقول: «وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ».

وفيما هو الفرق بين «آيات اللَّه» و «الحكمة»؟ قال بعض المفسرين: إنّ كليهما إشارة إلى القرآن، غاية ما في الأمر أنّ التعبير ب (الآيات) يبيّن الجانب الإعجازي للقرآن، والتعبير ب (الحكمة) يتحدث عن المحتوى العميق والعلم المخفي فيه.

وأخيراً تقول الآية: «إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا». وهي إشارة إلى أنّه سبحانه مطّلع على أدقّ الأعمال وأخفاها، ويعلم نيّاتكم تماماً، وهو خبير بأسراركم الدفينة في صدوركم.

جاهلية القرن العشرين: مرّت الإشارة إلى أنّ جمعاً من المفسرين تورّطوا في تفسير (الجاهلية الاولى) وكأنّهم لم يقدروا أن يصدّقوا ظهور جاهلية اخرى في العالم بعد ظهور الإسلام، وأنّ جاهلية العرب قبل الإسلام ضئيلة تجاه الجاهلية الجديدة، إلّاأنّ هذا الأمر قد تجلّى للجميع اليوم، حيث نرى مظاهر جاهليّة القرن العشرين المرعبة، ويجب أن تعدّ تلك إحدى تنبؤات القرآن الإعجازية.

إذا كان العرب

في زمان الجاهلية يغيرون ويحاربون، وإذا كان سوق عكاظ- مثلًا- ساحة لسفك الدماء لأسباب تافهة عدّة مرّات، وقتل على أثرها أفراد معدودون، فقد وقعت في جاهلية عصرنا حروب ذهب ضحيّتها عشرون مليون إنسان، وجرح وتعوّق أكثر من هذا العدد.

وإذا كانت النساء «تتبرّج» في زمن الجاهلية ويلقين خمرهنّ عن رؤوسهن بحيث كان يظهر جزء من صدورهن ونحورهن وقلائدهن وأقراطهن، ففي عصرنا تشكّل نواد تسمّى بنوادي العراة- ونموذجها مشهور في بريطانيا.

وإذا كانت في الجاهلية «زانيات من ذوات الأعلام»، حيث كنّ يرفعن أعلاماً فوق بيوتهن ليدعين الناس إلى أنفسهن، ففي جاهلية قرننا اناس يطرحون اموراً ومطالب في هذا

مختصر الامثل، ج 4، ص: 62

المجال عبر صحف خاصة، يندى لها الجبين، ولجاهلية العرب مئة مرتبة من الشرف على هذه الجاهلية. إنّ ما قلناه كان جانباً من العب ء الملقى على عاتقنا لبيان حياة الذين يبتعدون عن اللَّه تعالى، فإنّهم وإن امتلكوا آلاف الجامعات والمراكز العلمية والعلماء المعروفين، فهم غارقون في وحل الفساد ومستنقع الرذيلة، بل إنّهم قد يضعون هذه المراكز العلمية وعلماءها في خدمة هذه الفجائع والمفاسد أحياناً.

إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِمَاتِ وَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَاتِ وَ الْقَانِتِينَ وَ الْقَانِتَاتِ وَ الصَّادِقِينَ وَ الصَّادِقَاتِ وَ الصَّابِرِينَ وَ الصَّابِرَاتِ وَ الْخَاشِعِينَ وَ الْخَاشِعَاتِ وَ الْمُتَصَدِّقِينَ وَ الْمُتَصَدِّقَاتِ وَ الصَّائِمِينَ وَ الصَّائِمَاتِ وَ الْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ الْحَافِظَاتِ وَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَ الذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً (35)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: لمّا رجعت أسماء بنت عميس من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب، دخلت على نساء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالت: هل نزل فينا شي ء من القرآن؟ قلن: لا.

فأتت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله

فقالت: يا رسول اللَّه! إنّ النساء لفي خيبة وخسار. فقال: «وممّ ذلك»؟ قالت: لأنّهن لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال. فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.

التّفسير

شخصية المرأة ومكانتها في الإسلام: بعد البحوث التي ذكرت في الآيات السابقة حول واجبات أزواج النبي صلى الله عليه و آله، فقد ورد في هذه الآية كلام جامع عميق المحتوى في شأن كل النساء والرجال وصفاتهم، وبعد أن ذكرت عشر صفات من صفاتهم العقائدية والأخلاقية والعملية، بيّنت الثواب العظيم المعدّ لهم في نهايتها. تقول الآية: «إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ». أي المطيعين لأوامر اللَّه والمطيعات.

وهو إشارة إلى أنّ «الإسلام» هو الإقرار باللسان الذي يجعل الإنسان في صف المسلمين، ويصبح مشمولًا بأحكامهم، إلّاأنّ «الإيمان» هو التصديق بالقلب والجنان.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 63

«قانت»: من مادة «القنوت»، وهي الطاعة المقترنة بالخضوع، وهذه إشارة إلى الجوانب العملية للإيمان وآثاره.

ثم تطرقت إلى أحد أهمّ صفات المؤمنين الحقيقيين، أي حفظ اللسان فتقول:

«وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ».

ولمّا كان الصبر والتحمل والصلابة أمام المشاكل والعقبات هو أساس الإيمان، ودوره ومنزلته في معنويات الإنسان بمنزلة الرأس من الجسد، فقد وصفتهم الآية بصفتهم الخامسة، فقالت: «وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ».

ونعلم أنّ أحد أسوأ الآفات الأخلاقية هو الكبر والغرور وحبّ الجاه، والنقطة التي تقع في مقابله هي «الخشوع»، لذلك كانت الصفة السادسة: «وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ».

وإذا تجاوزنا حبّ الجاه، فإنّ حبّ المال أيضاً آفةً كبرى، وعبادته والتعلّق به ذلّة خطيرة مرّة، ويقابله الإنفاق ومساعدة المحتاجين، لذلك كانت صفتهم السابعة: «وَالْمُتَصَدّقِينَ وَالْمُتَصَدّقَاتِ».

قلنا: إنّ ثلاثة أشياء إذا تخلّص الإنسان من شرّها، فإنّه سيبقى في مأمن من كثير من الآفات والشرور الأخلاقية، وهي: اللسان والبطن والشهوة الجنسية، وقد اشير إلى الأوّل في الصفة الرابعة، أمّا الشي ء الثاني والثالث فقد أشارت إليهما

الآية في الصفتين الثامنة والتاسعة، فقالت: «وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ».

وأخيراً تطرقت الآية إلى الصفة العاشرة التي يرتبط بها الإستمرار في كل الصفات السابقة والمحافظة عليها، فقالت: «وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ».

إنّ هؤلاء يجب أن يكونوا مع اللَّه ويذكروه في كل حال، وفي كل الظروف، وأن يزيحوا عن قلوبهم حجب الغفلة والجهل، ويبعدوا عن أنفسهم همزات الشياطين ووساوسهم، وإذا ما بدرت منهم عثرة فإنّهم يهبون لجبرانها في الحال لئلّا يحيدوا عن الصراط المستقيم.

ثم تبيّن الآية في النهاية الأجر الجزيل لهذه الفئة من الرجال والنساء الذين يتمتعون بهذه الخصائص العشرة بأنّهم قد «أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا».

فإنّه تعالى قد غسل ذنوبهم التي كانت سبباً في تلوّث أرواحهم، بماء المغفرة، ثم كتب لهم الثواب العظيم الذي لا يعرف مقداره إلّاهو.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 64

وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِيناً (36) وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اتَّقِ اللَّهَ وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَ كَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ كَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت في زينب بنت جحش الأسدية وكانت بنت اميمة بنت عبد المطلب، عمة رسول اللَّه صلى الله عليه و

آله فخطبها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على مولاه زيد بن حارثة، ورأت أنّه يخطبها على نفسه، فلما علمت أنّه يخطبها على زيد، أبت وأنكرت وقالت: أنا ابنة عمتك فلم أكن لأفعل. وكذلك قال أخوها عبداللَّه بن جحش فنزل: «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ» الآية. يعني عبداللَّه بن جحش واخته زينب.

فلما نزلت الآية، قالت: رضيت يا رسول اللَّه وجعلت أمرها بيد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وكذلك أخوها فأنكحها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله زيداً.

التّفسير

نعلم أنّ روح الإسلام التسليم، ويجب أن يكون تسليماً لأمر اللَّه تعالى بدون قيد أو شرط، وقد ورد هذا المعنى في آيات مختلفة من القرآن الكريم، وبعبارات مختلفة، ومن جملتها الآية أعلاه، والتي تقول: «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ».

بل يجب أن يجعلوا إرادتهم تبعاً لإرادة اللَّه تعالى، كما أنّ كل وجودهم من الشعر حتى أخمص القدمين مرتبط به ومذعن له. ولذلك أشارت الآية إلى هذه المسألة في نهايتها، حيث تقول: «وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَللًا مُّبِينًا».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 65

ثم تناولت الآية التالية قصة «زيد» وزوجته «زينب» المعروفة، والتي هي إحدى المسائل الحساسة في حياة النبي صلى الله عليه و آله، ولها إرتباط بمسألة أزواج النبي التي مرّت في الآيات السابقة، فتقول: «وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ».

والمراد من نعمة اللَّه تعالى هي نعمة الهداية والإيمان التي منحها لزيد بن حارثة، ومن نعمة النبي صلى الله عليه و آله أنّه كان قد أعتقه وكان يعامله كولده الحبيب العزيز.

ويستفاد من هذه الآية أنّ شجاراً قد وقع

بين زيد وزينب، وقد استمرّ هذا الشجار حتى بلغ أعتاب الطلاق، ويستفاد أنّ النبي كان ينصحه دائماً ويمنعه من الطلاق.

ثم تضيف الآية: «وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشهُ».

إنّ مسألة خشية اللَّه سبحانه توحي بأنّ هذا الزواج قد تمّ كتنفيذ لواجب شرعي، يجب عنده طرح كل الاعتبارات الشخصية جانباً من أجل اللَّه تعالى ليتحقق هدف مقدس من أهداف الرسالة، حتى وإن كان ثمن ذلك جراحات اللسان التي يلقيها جماعة المنافقين في اتّهاماتهم للنبي. لهذا تقول الآية في متابعة المسألة: إنّ زيداً لمّا أنهى حاجته منها وطلّقها زوّجناها لك: «فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَىْ لَايَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا». وكان لابدّ أن يتمّ هذا الأمر: «وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا».

بناءً على هذا، فإنّ هذه المسألة كانت مسألة أخلاقية وإنسانية، وكذلك كانت وسيلة مؤثرة لكسر سنّتين جاهليتين خاطئتين، وهما: الإقتران بمطلّقة الإبن المتبنّى والزواج من مطلّقة عبد معتق.

«الأدعياء»: جمع «دعي»، أي الإبن المتبنّى؛ و «الوطر» هو الحاجة المهمة.

والتعبير ب «زَوَّجْنَاكَهَا» دليل على أنّ هذا الزواج كان زواجاً بأمر اللَّه.

وتقول الآية الأخيرة في تكميل المباحث السابقة: «مَّا كَانَ عَلَى النَّبِىّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ». فحيث يأمره اللَّه سبحانه لا تجوز المداهنة في مقابل أمره تعالى، ويجب تنفيذه بدون أيّ تردّد.

وأساساً فإنّ مخالفة السنن والأعراف، واقتلاع الآداب والعادات الخرافية وغير

مختصر الامثل، ج 4، ص: 66

الإنسانية يقترن عادةً بالضجيج والغوغاء والصخب، وينبغي أن لا يهتمّ الأنبياء بهذا الضجيج والصخب مطلقاً، ولذلك تعقب الجملة التالية فتقول: «سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ». فلست الوحيد المبتلى بهذه المشكلة، بل إنّ الأنبياء جميعاً كانوا يعانون هذه المصاعب عند مخالفتهم سنن

مجتمعاتهم، وعند سعيهم لإجتثاث اصول الأعراف الفاسدة منها.

ويقول اللَّه سبحانه في نهاية الآية تثبيتاً لاتّباع الحزم في مثل هذه المسائل الأساسية:

«وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا».

إنّ التعبير ب «قَدَرًا مَّقْدُورًا» قد يكون إشارة إلى كون الأمر الإلهي حتمياً، ويمكن أن يكون دالًّا على رعاية الحكمة والمصلحة فيه، إلّاأنّ الأنسب في مورد الآية أن يراد منه كلا المعنيين.

الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَ كَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) من هم المبلّغون الحقيقيون: تشير الآية مورد البحث، ومناسبة للبحث الذي مرّ حول الأنبياء السابقين في آخر آية من الآيات السابقة، إلى أحد أهم برامج الأنبياء العامة، فتقول: «الَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ».

وكذلك الحال بالنسبة إليك، فينبغي أن لا تخش أحداً في تبليغ رسالات اللَّه.

إنّ عمل الأنبياء عليهم السلام في كثير من المراحل هو كسر مثل هذه السنن والأعراف عادةً، ولو أنّهم سمحوا لأقلّ خوف وتردّد أن ينفذ إلى نفوسهم فسوف يفشلون في أداء رسالاتهم، فيجب على هذا أن يسيروا بحزم وثبات، ويستوعبوا كلمات المسيئين الجارحة غير المتزنة، ويستمرّوا في طريقهم دون أن يهتّموا بإصطناع الأجواء ضدهم، وضجيج العوام، وتآمر الفاسدين والمفسدين وتواطئهم، لأنّ كل الحسابات بيد اللَّه سبحانه، ولذلك تقول الآية في النهاية: «وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا».

إنّه يحسب إيثار الأنبياء وتضحياتهم في هذا الطريق ويجزيهم عليها، كما يحفظ كلمات الأعداء البذيئة وثرثرتهم ليحاسبهم عليها ويجازيهم.

إنّ الآية المذكورة دليل واضح على أنّ الحزم والإخلاص وعدم الخوف من أي أحد إلّا اللَّه تعالى، شرط أساسي في التقدم والرقي في مجال الإعلام والتبليغ.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 67

مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَ

كَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (40) مسألة الخاتمية: هذه الآية هي آخر ما بيّنه اللَّه سبحانه فيما يتعلق بمسألة زواج النبي صلى الله عليه و آله بمطلّقة زيد لكسر عرف جاهلي خاطي ء، وتبيّن في نهايتها حقيقة مهمة اخرى- وهي مسألة الخاتمية- بمناسبة خاصة. تقول أوّلًا: «مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رّجَالِكُمْ». لا زيد ولا غيره، وإذا ما أطلقوا عليه يوماً إنّه «ابن محمّد» فإنّما هو مجرد عادة وعرف ليس إلّا، وما إن جاء الإسلام حتى اجتثّت جذوره، وليس هو رابطة طبيعية عائلية.

ثم تضيف: بأنّ علاقة النبي صلى الله عليه و آله معكم إنّما هي من جهة الرسالة والخاتمية فقط: «وَلكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيينَ». وبهذا قطع صدر الآية الإرتباط والعلاقة النسبية بشكل تام وقطعي، وأثبت ذيلها العلاقة المعنوية الناشئة من الرسالة والخاتمية، ومن هنا يتّضح ترابط صدر الآية وذيلها.

ولا شك أنّ اللَّه العليم الخبير قد وضع تحت تصرفه كل ما كان لازماً في هذا الباب، من الاصول والفروع، والكليات والجزئيات في جميع المجالات، ولذلك يقول سبحانه في نهاية الآية: «وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمًا».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَ كَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) تحية اللَّه والملائكة فرج للمؤمنين: لما كان الكلام في الآيات السابقة عن مسؤوليات نبي الخاتم صلى الله عليه و آله وواجباته الثقيلة الملقاة على عاتقه، فإنّ الآيات مورد البحث تبيّن جانباً من وظائف المؤمنين من أجل تهيئة الأرضية اللازمة لهذا التبليغ، وتوسعة أطرافه في جميع الأبعاد، فوجّهت الخطاب إليهم جميعاً

وقالت: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا». ونزّهوه صباحاً ومساءاً «وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا».

لما كانت عوامل الغفلة في الحياة المادية كثيرة جدّاً، وسهام وسوسة الشياطين ترمى من كل جانب صوب الإنسان، فلا طريق لمحاربتها إلّابذكر اللَّه الكثير.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 68

إنّ «الذكر الكثير»- بالمعنى الواقعي للكلمة- يعني التوجه إلى اللَّه سبحانه بكل الوجود، لا بلقلقة اللسان وحسب.

في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من أكثر ذكر اللَّه أظلّه اللَّه في جنته».

والآية التالية بمثابة نتيجة وعلّة غائيّة للتسبيح في الواقع، فهي تقول: «هُوَ الَّذِى يُصَلّى عَلَيْكُمْ وَمَلِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ». أي: من ظلمات الشرك والكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم والتقوى: «وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا». وبسبب هذه الرحمة كتب على نفسه هداية البشر وإرشادهم، وأمر ملائكته أن تعينهم في ذلك.

«يصلّي»: من مادة «صلاة» وهي هنا تعني الرعاية والعناية الخاصة، وهذه العناية بالنسبة للَّه تعني نزول الرحمة، وبالنسبة للملائكة تعني الاستغفار وطلب الرحمة.

هذه هي رحمة اللَّه الخاصة التي تخرج المؤمنين من ظلمات الأوهام والشهوات والوساوس الشيطانية، وتهديهم إلى نور اليقين والإطمئنان والسيطرة على النفس، ولولا رحمته سبحانه فإنّ هذا الطريق الملي ء بالمنعطفات والعراقيل لا يكون سالكاً.

وتجسّد الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث مقام المؤمنين وثوابهم بأروع تجسيد وأقصر عبارة، فتقول: «تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلمٌ».

«التحية»: من مادة «حياة»، وهي تعني الدعاء لسلامة وحياة اخرى.

هذا السلام يعني السلامة من العذاب، ومن كل أنواع الألم والعذاب والمشقة، سلام ممتزج بالهدوء والإطمئنان.

بعد هذه التحية، التي ترتبط ببداية الأمر، أشارت الآية إلى نهايته فقالت: «وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا».

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (45) وَ دَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِرَاجاً مُنِيراً (46) وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ

بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً (47) وَ لَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَ الْمُنَافِقِينَ وَ دَعْ أَذَاهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَ كَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) السراج المنير: الخطاب في هذه الآيات موجّه إلى النبي صلى الله عليه و آله، إلّاأنّ نتيجته لكل المؤمنين، وبذلك فإنّها تكمل الآيات السابقة التي كانت تبحث في بعض وظائف المؤمنين وواجباتهم.

لقد جاءت في الآيتين الأوليين من هذه الآيات الأربع «خمس صفات» للنبي صلى الله عليه و آله وجاء

مختصر الامثل، ج 4، ص: 69

في الآيتين الاخريين بيان خمس واجبات يرتبط بعضها ببعض، وتكمل إحداها الاخرى.

تقول الآية أوّلًا: «إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا». فهو من جانب شاهد على أعمال امّته، لأنّه يرى أعمالهم.

وهو من جانب آخر شاهد على الأنبياء الماضين الذين كانوا شهوداً على اممهم: «فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هؤُلَاءِ شَهِيدًا» «1».

ومن جهة ثالثة فإنّ وجودك بما لك من الصفات والأخلاق والبرامج والتعليمات البنّاءة، إضافةً إلى تاريخك المشرق وأعمالك المشرّفة، شاهد على أحقّية دينك، وشاهد على عظمة اللَّه وقدرته.

ثم تطرقت الآية إلى الصفتين الثانية والثالثة فقالت: «وَمُبَشّرًا وَنَذِيرًا». فهو مبشّر للمحسنين بثواب اللَّه اللامتناهي ... بالسلامة والسعادة الخالدة ... بالظفر والتوفيق الملي ء بالفخر والإعتزاز ... ونذير للكافرين والمنافقين من عذاب اللَّه الأليم ... من خسران كل رأسمال الوجود، ومن السقوط في شراك التعاسة في الدنيا والآخرة.

وأشارت الآية التالية إلى الصفة الرّابعة والخامسة، فقالت: «وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا».

إنّ كون النبي صلى الله عليه و آله (سراجاً منيراً) إشارة إلى المعجزات وأدلة أحقية دعوة الرسول، وعلامة صدقها، فهو سراج منير شاهد بنفسه على نفسه.

إنّ وجود النبي صلى الله عليه و آله أساس الهدوء والإطمئنان، ونمو روح الإيمان والأخلاق، والخلاصة:

أساس

الحياة والحركة، وتأريخ حياته شاهد حي على هذا الموضوع.

وفي الآيتين الاخريين من الآيات مورد البحث بياناً لخمسة واجبات من واجبات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله فتقول أوّلًا: «وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا». وهي إشارة إلى أنّ مسألة تبشير النبي صلى الله عليه و آله لا يحدّ بالثواب الإلهي بمقدار أعمال المؤمنين الصالحة، بل إنّ اللَّه سبحانه يفيض عليهم من فضله بحيث تضطرب المعادلة بين العمل والجزاء تماماً.

ثم تناولت الواجب الثاني والثالث، فقالت: «وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ».

لا شك أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لم يطع الكافرين والمنافقين مطلقاً، إلّاأنّ هذا الموضوع من

______________________________

(1) سورة النّساء/ 41.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 70

الأهمية بمكان، ولذلك أكّدت الآية على هذا الموضوع بالخصوص من باب التأكيد على النبي صلى الله عليه و آله والتحذير والقدوة للآخرين. ثم تقول في الأمر الرابع والخامس: «وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا».

إنّ هذا الجزء من الآية يوحي بأنّهم قد وضعوا النبي صلى الله عليه و آله تحت ضغط شديد لحمله على الإستسلام، واستخدموا ضدّه وضدّ أصحابه كل أنواع الأذى، سواء كان عن طريق جرح اللسان والكلام الفاحش والإهانة، أم عن طريق الأذى الجسمي، أو عن طريق الحصار الإقتصادي.

يقول التاريخ: إنّ النبي صلى الله عليه و آله والمؤمنين الأوائل قد وقفوا كالجبل الأشمّ أمام أنواع الأذى، ولم يقبلوا عار الإستسلام والهزيمة قطّ، وأخيراً انتصروا في حركتهم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَ سَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلًا (49) جانب من أحكام الطلاق: إنّ آيات هذه السورة- الأحزاب- جاءت على شكل مجموعات مختلفة، والخطاب في

بعضها موجّه إلى النبي صلى الله عليه و آله، وفي بعضها الآخر إلى كل المؤمنين، وهذا يعني أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان مراداً بهذه التعليمات، كما أنّ عموم المؤمنين يرادون بها أيضاً. تقول الآية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا».

لقد بيّن اللَّه سبحانه هنا حكماً استثنائياً من حكم عدة النساء المطلّقات، وهو أنّ الطلاق إن وقع قبل الدخول فلا تلزم العدّة، ومن هذا التعبير يفهم أنّ حكم العدة كان قد بُيّن قبل هذه الآية.

ثم تتطرق الآية إلى حكم آخر من أحكام النساء اللاتي يطلّقن قبل المباشرة الجنسية- والذي سبقت الإشارة إليه في سورة البقرة أيضاً- فتقول: «فَمَتّعُوهُنَّ». أي اعطوهن هدية مناسبة.

ولا شك أنّ تقديم هدية مناسبة إلى المرأة يكون واجباً في حالة عدم تعيين المهر من قبل.

أمّا مقدار هذه الهدية، فقد بيّنه القرآن المجيد في الآية (236) من سورة البقرة إجمالًا بقوله: «مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ». وكذلك قال في نفس تلك الآية: «عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ و وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ و».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 71

وآخر حكم في الآية مورد البحث هو: «وَسَرّحُوهُنَّ سِرَاحًا جَمِيلًا».

«السراح الجميل» هو الطلاق المقترن بالمحبّة والإحترام، وترك كل خشونة وظلم وجور واحتقار.

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَ بَنَاتِ عَمِّكَ وَ بَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَ بَنَاتِ خَالِكَ وَ بَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَ كَانَ اللَّهُ غَفُوراً

رَحِيماً (50) يمكنك الزواج من هذه النسوة: بعد ذكر جانب من الأحكام المتعلقة بطلاق النساء، وجّهت الخطاب هنا إلى النبي صلى الله عليه و آله، وفصّلت الموارد السبعة التي يجوز للنبي الزواج فيها من تلك النسوة:

1- فقالت أوّلًا: «يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجِكَ التِى ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ». والمراد من هؤلاء النساء- بقرينة الجمل التالية- النساء اللاتي لم يكنّ يرتبطن بالنبي صلى الله عليه و آله برابطة قرابة وقد تزوّجنه، وربّما كانت مسألة دفع المهر لهذا السبب، لأنّ العرف المتّبع آنذاك هو أنّهم كانوا يدفعون المهر نقداً عند زواجهم من الأجنبيات، إضافةً إلى أفضلية التعجيل في هذا الدفع، وخاصة إذا كانت الزوجة بحاجة إليه إلّاأنّ هذا الأمر ليس من الواجبات على أي حال، إذ يمكن أن يبقى المهر ديناً في ذمة الزوج إذا ما اتّفق الطرفان على ذلك.

2- «وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ».

«أفاء»: من مادة «الفي ء»، وتقال للأموال التي يحصل عليها الإنسان بدون جهد ومشقة، ولذلك يطلق (الفي ء) على الغنائم الحربية، وكذلك الأنفال.

3- «وَبَنَاتِ عَمّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالتِكَ التِى هَاجَرْنَ مَعَكَ».

إنّ التحديد بهذه الفئات الأربع واضح، إلّاأنّ شرط الهجرة من أجل أنّها كانت دليلًا على الإيمان في ذلك اليوم، وعدم الهجرة دليل على الكفر، أو لأنّ الهجرة تمنحهنّ امتيازاً أكبر وفخراً أعظم، والهدف من الآية هو بيان النساء الفاضلات المؤهّلات لأن يصبحن زوجات للنبي صلى الله عليه و آله.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 72

4- «وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىّ من دون مهر إِنْ أَرَادَ النَّبِىُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ». أي أنّ هذا الحكم خاص للنبي صلى الله عليه و آله ولا يشمل سائر المؤمنين «قَدْ عَلِمْنَا مَا

فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِى أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ».

وبناءً على هذا، فإذا كنّا قد حدّدنا بعض المسائل فيما يتعلق بالزواج من هؤلاء النسوة، فقد كان ذلك استناداً إلى مصلحة حاكمة في حياتك وحياتهن، ولم يكن أيّ من هذه الأحكام والمقررات اعتباطياً وبدون حساب.

ثم تضيف الآية: «لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ». وبالتالي ستكون قادراً على أداء المسؤوليات الملقاة على عاتقك في القيام بهذا الواجب «وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا».

إنّ الجملة الأخيرة في الآية أعلاه إشارة في الواقع إلى فلسفة هذه الأحكام الخاصة بنبينا الأكرم صلى الله عليه و آله، حيث تقول: إنّ للنبي ظروفاً لا يعيشها الآخرون، وهذا التفاوت في الظروف أصبح سبباً للتفاوت في الأحكام.

إنّ الهدف من هذه الأحكام رفع بعض المشاكل والصعوبات من كاهل النبي صلى الله عليه و آله.

تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَ مَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَ لَا يَحْزَنَّ وَ يَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51)

سبب النّزول

نزلت الآية حين غار بعض امّهات المؤمنين على النبي صلى الله عليه و آله وطلب بعضهن زيادة النفقة فهجرهن شهراً حتى نزلت آية التخيير، فأمره اللَّه تعالى أن يخيرهن بين الدنيا والآخرة ...

وعلى أنّه يؤوي من يشاء منهن ويرجي من يشاء منهن ويرضين به، قسم لهنّ، أو لم يقسم، أو قسم لبعضهنّ ولم يقسم لبعضهن أو فضل بعضهن على بعض في النفقة والقسمة والعشره أو سوّى بينهن، والأمر في ذلك إليه يفعل ما يشاء وهذه من خصائصه صلى الله عليه و آله، فرضين بذلك كله واخترنه على هذا الشرط.

التّفسير

حل مشكلة اخرى في حياة النبي: إنّ قائداً

ربّانياً عظيماً كالنبي صلى الله عليه و آله خاصة يجب أن

مختصر الامثل، ج 4، ص: 73

يكون له هدوء نسبي في حياته الداخلية ليقوى على التفرغ لحل سيل المشاكل التي أحاطت به من كل جانب.

إنّ الإختلاف بين زوجات النبي، والمنافسة النسوية المعروفة بينهن، قد أثار في الوقت نفسه عاصفة من الإضطراب داخل بيت النبي ممّا شغل فكره وزاد في همّه.

هنا منح اللَّه سبحانه نبيّه إحدى الخصائص الاخرى، وأنهى هذه الحوادث والأخذ والعطاء في الجدل إلى الأبد، وأراح فكر النبي صلى الله عليه و آله من هذه الجهة، وهدأ خاطره وروعه، فقال سبحانه في هذه الآية: «تُرْجِى مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ».

«ترجي»: من «الإرجاء»، أي: التأخير؛ و «تؤوي»، من «الإيواء» ويعني إستضافة شخص في بيتك.

ونعلم أنّ أحكام الإسلام في شأن الزوجات المتعددة تقضي بأن يقسّم الزوج أوقاته بينهن بصورة عادلة، ويعبّرون عن هذا الموضوع في الكتب الفقهية الإسلامية ب «حق القسْم».

فكانت إحدى مختصات النبي صلى الله عليه و آله هي سقوط رعاية حق القسم منه بحكم الآية أعلاه، وبسقوط هذا الواجب عنه فقد كان قادراً على أن يقسّم أوقاته كيف يشاء، غير أنّه صلى الله عليه و آله كان يراعي تحقيق العدالة ما أمكن رغم هذه الظروف.

ثم تضيف الآية: وعندما ترغب عن إحداهن وتعتزلها، ثم ترغب فيها فلا تثريب عليك: «وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ».

وبهذا فليس الخيار بيدك في البداية وحسب، بل إنّه بيدك حتى في الأثناء أيضاً، ولذلك يضيف سبحانه: «ذلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا ءَاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ».

وذلك أوّلًا: لأنّ هذا الحكم عام يشملهنّ جميعاً ولا يتفاوتن فيه، وثانياً: إنّ الحكم الذي يشرّع من جانب اللَّه سبحانه إنّما يشرّع

لمصلحة مهمة. وبناءً على هذا فيجب الإذعان له برغبة ورضا.

وأخيراً ينهي المطلب بهذه الجملة: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا».

لا يستعجل في إنزال العقاب بالمذنبين.

أجل إنّ اللَّه يعلم بأي حكم قد رضيتم، وله أذعنتم بقلوبكم، وعن أي حكم لم ترضوا.

وهو سبحانه يعلم أيّاً من أزواجكم تحبّون أكثر، ومن منهن تحظى باهتمام أقل، ويعلم كيف تراعون حكمه وتنفّذوه مع هذا الإختلاف في الميول والرغبات.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 74

لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَ لَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَ كَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ رَقِيباً (52) حكم مهم آخر فيما يتعلق بأزواج النبي: لقد بيّن اللَّه سبحانه في هذه الآية حكماً آخر من الأحكام المتعلقة بزوجات النبي، فقال عزّ وجل: «لَّايَحِلُّ لَكَ النّسَاءُ مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ». فالآية منعت الرسول من الزواج الجديد إلّاالإماء والجواري: «وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ رَقِيبًا».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَ لكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَ لَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَ اللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَ إِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ وَ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَ لَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (54)

أسباب النّزول

نزلت آية الحجاب لما بنى رسول اللَّه صلى الله عليه و

آله بزينب بنت جحش، وأولم عليها. قال أنس: أولم عليها بتمر وسويق، وذبح شاة، وبعثت إليه امي ام سليم بحَيْس في تور من حجارة، فأمرني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن أدعو أصحابه إلى الطعام، فدعوتهم، فجعل القوم يجيئون ويأكلون ويخرجون. ثم يجي ء القوم فيأكلون ويخرجون. قلت: يا نبي اللَّه! قد دعوت حتى ما أجد أحداً أدعوه؟ فقال: ارفعوا طعامكم فرفعوا طعامهم، وخرج القوم، وبقي ثلاثة نفر يتحدثون في البيت، فأطالوه المكث. فقام صلى الله عليه و آله وقمت معه، لكي يخرجوا. فمشى حتى بلغ حجرة عائشة.

ثم ظن أنّهم قد خرجوا، فرفع ورجعت معه، فإذا هم جلوس مكانهم، فنزلت الآية.

قيل: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يطعم معه بعض أصحابه، فأصابت يد رجل منهم يد عائشة وكانت معهم، فكره صلى الله عليه و آله ذلك، فنزلت آية الحجاب.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 75

وقيل: إنّ رجلين قالا: أينكح محمّد نساءنا ولا ننكح نساءه واللَّه لئن مات لنكحنا نساءه فنزلت الآية أعلاه وحرّمت الزواج بنساء النبي من بعده مطلقاً، وأنهت هذه المؤامرة.

التّفسير

مرّة اخرى يوجّه الخطاب إلى المؤمنين، لتبيّن الآية جانباً آخر من أحكام الإسلام، وخاصة ما كان مرتبطاً بآداب معاشرة النبي صلى الله عليه و آله وبيت النبوة، فتقول أوّلًا: لا ينبغي لكم دخول بيوت النبي إلّاإذا دعيتم إلى طعام واذِن لكم بالدخول بشرط أن تدخلوا في الوقت المقرر، لا أن تأتوا قبل ذلك بفترة وتجلسون في انتظار وقت الغذاء، «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِىّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرِ نَاظِرِينَ إِنَاهُ» «1».

ومن المسلم أنّ هذا الحكم لا يختص ببيت النبي صلى الله عليه و آله، إذ ينبغي أن

لا تدخل دار أي إنسان بدون إذنه كما نقرأ- في الكافي- في أحوال النبي صلى الله عليه و آله أنّه عندما كان يريد دخول بيت إبنته فاطمة عليها السلام كان يستأذن، وكان معه جابر بن عبداللَّه يوماً، فاستأذن له بعد أن استأذن لنفسه.

إضافةً إلى أنّهم إذا دُعوا إلى طعام فينبغي أن يكونوا عارفين بالوقت، لئلّا يوقعوا صاحب البيت في جهد وإحراج في غير مكانه.

ثم تناولت الحكم الثاني فقالت: «وَلكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا».

وتقول في الحكم الثالث: «وَلَا مُسْتْنِسِينَ لِحَدِيثٍ» فلا تجلسوا حلقاً تتحدثون بعد تناول الطعام، سواء كان ذلك في بيت النبي، أم في بيت أي صاحب دعوة.

طبعاً، قد يرغب المضيفون في مثل هذه الحلقات والمجالس، فهذه الحالة مستثناة.

ثم تبيّن الآية علة هذا الحكم فتقول: «إِنَّ ذلِكُمْ كَانَ يُؤْذِى النَّبِىَّ فَيَسْتَحْىِ مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْىِ مِنَ الْحَقّ».

من المسلّم أنّ النبي صلى الله عليه و آله لم يكن يتردد لحظة، ولا يخشى شيئاً، أو يستحيي من شي ء في بيان الحقّ في الموارد التي لم يكن لها بعد شخصي وخاصّ، إلّاأنّ بيان الحق إذا كان يعود على القائل نفسه ليس بالأمر الجميل الحسن، أمّا تبيانه من قبل الآخرين فانّه رائع ومستحسن، ومورد الآية من هذا القبيل أيضاً.

______________________________

(1) «إناه»: من مادة «أنّى- يأني» أي حلول وقت الشي ء، وتعني هنا تهيئة الطعام للتناول.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 76

ثم تبيّن الآية الحكم الرابع في باب الحجاب، فتقول: «وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَسَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ».

ومن الواضح أنّ جعل نساء النبي عرضة لأنظار الناس- وإن كنّ يرتدين الحجاب الإسلامي- لم يكن بالأمر الحسن، ولذلك صدر الأمر إلى الناس إذا سألتم أزواج النبي صلى الله عليه و آله شيئاً تحتاجون إليه، فاسألوهنّ

من وراء الستر.

ولذلك بيّن القرآن فلسفة هذا الحكم فقال: «ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ».

ثم تبيّن الآية الحكم الخامس بأنّه: «وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ». فبالرغم من أنّ هذا العمل قد ذكر في نفس الآية، ولكن معنى الآية فهو يشمل كل نوع من الأذى.

وأخيراً تبيّن الآية الحكم السادس والأخير في مجال حرمة الزواج بنساء النبي صلى الله عليه و آله من بعده، فقالت: «وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا».

وحذّرت الآية الثانية الناس بشدة، فقالت: «إِن تُبْدُوا شَيًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمًا». فلا تظنّوا أنّ اللَّه سبحانه لا يعلم ما خططتم له في سبيل ايذاء النبي صلى الله عليه و آله سواء ما ذكرتموه، أو الذي أضمرتموه، فإنّه تعالى يعلم كل ذلك جيداً، ويعامل كل إنسان بما يناسب عمله.

لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَ لَا أَبْنَائِهِنَّ وَ لَا إِخْوَانِهِنَّ وَ لَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَ لَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَ لَا نِسَائِهِنَّ وَ لَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَ اتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً (55)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: لما نزلت آية الحجاب قال: الآباء والأبناء والأقارب يا رسول اللَّه، ونحن أيضاً نكلمهن من وراء الحجاب؟ فأنزل اللَّه تعالى قوله: «لَّاجُنَاحَ عَلَيْهِنَّ» الآية. أن يروهن ولا يحتجبن عنهم.

التّفسير

الموارد المستثناة من قانون الحجاب: لما كان الحكم الذي ورد في الآية السابقة حول حجاب نساء النبي مطلقاً، ويمكن أن يوهم هذا الإطلاق بأنّ المحارم مكلفون بتنفيذه أيضاً، وأن يحدّثوهن من وراء حجاب كالأجانب، فقد نزلت هذه الآية وفصلت حكم هذه

مختصر الامثل، ج 4، ص: 77

المسألة. تقول الآية: «لَّاجُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِى ءَابَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ

وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ».

وبتعبير آخر: فإنّ محارمهن الذين استثنوا في الآية هم هؤلاء الستّة فقط.

ويتغيّر اسلوب الآية في نهايتها من الغائب إلى المخاطب، فتخاطب نساء النبي صلى الله عليه و آله وتقول: «وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ شَهِيدًا». فإنّ الحجاب والستر وأمثالهما وسائل للحفظ والإبعاد عن الذنب والمعصية ليس إلّا، والدعامة الأساسية هي التقوى فحسب، ولولاها فسوف لا تنفع كل هذه الوسائل.

إِنَّ اللَّهَ وَ مَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً (57) وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (58) الصلاة على النبي والسلام عليه: بعد البحوث التي مرّت في الآيات السابقة حول وجوب حفظ حرمة النبي صلى الله عليه و آله وعدم إيذائه، فإنّ هذه الآيات تتحدث أوّلًا عن محبة اللَّه وملائكته للنبي صلى الله عليه و آله وتعظيمهم له، وبعد ذلك تأمر المؤمنين بذلك، ثم تذكر العواقب المشؤومة الأليمة لُاولئك الذين يؤذون النبي صلى الله عليه و آله ثم تبيّن أخيراً عظم ذنب الذين يؤذون المؤمنين باتّهامهم والإفتراء عليهم. تقول أوّلًا: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ».

إنّ مقام النبي صلى الله عليه و آله ومنزلته من العظمة بمكان، بحيث إنّ خالق عالم الوجود، وكل الملائكة الموكّلين بتدبير أمر هذا العالم بأمر اللَّه سبحانه يصلّون عليه، وإذا كان الأمر كذلك فضمّوا أصواتكم إلى نداء عالم الوجود هذا، ف «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلّمُوا تَسْلِيمًا».

إنّه جوهرة نفيسة لعالم الخلقة، وقد

جُعل بينكم بلطف اللَّه، فلا تستصغروا قدره، ولا تنسوا مقامه ومنزلته عند اللَّه وملائكة السماوات ...

«الصلاة»: وجمعها «صلوات»، كلّما نسبت إلى اللَّه سبحانه فإنّها تعني «إرسال الرحمة»، وكلّما نسبت إلى الملائكة فإنّها تعني «طلب الرحمة».

إنّ التعبير ب «يصلّون» وهو فعل مضارع يدل على الاستمرار، يعني أنّ اللَّه وملائكته يصلّون عليه دائماً وباستمرار صلاة دائمة خالدة.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 78

إنّ «صلّوا» أمر بطلب الرحمة والصلاة على النبي، أمّا «سلّموا» فتعني التسليم لأوامر نبي الأكرم صلى الله عليه و آله، أو أن يكون بمعنى «السلام» على النبي صلى الله عليه و آله ب (السلام عليك يا رسول اللَّه) وما أشبه ذلك، والذي يعني طلب سلامة النبي من اللَّه سبحانه.

مما يلفت النظر أنّه قد ورد صريحاً في كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه و آله وفي روايات لا تحصى من طرق العامة وأهل البيت، أن يضاف (آل محمّد) عند الصلوات على محمّد صلى الله عليه و آله، وكيفية الصلاة هي: أللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.

ثم تبيّن الآية التالية النقطة المقابلة للآية السابقة، فتقول: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا».

والمراد من أذى اللَّه سبحانه هو الكفر والإلحاد الذي يُغضِب اللَّه عزّ وجل.

وأمّا ايذاء نبي الخاتم صلى الله عليه و آله فله معنى واسع، ويشمل كل عمل يؤذيه.

بل ويستفاد من الرواية الواردة في ذيل الآية أنّ ايذاء أهل بيت النبي وخاصة علي وفاطمة عليهما السلام، يدخل ضمن الآية، وقد جاء في المجلد الرابع من صحيح البخاري، أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني».

وورد هذا الحديث في المجلد السابع من صحيح مسلم بهذه

العبارة: «إنّما فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما آذاها».

وروي هذا المعنى في حق علي عليه السلام عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله «1».

وتتحدث الآية الأخيرة عن ايذاء المؤمنين، وتهتمّ به جدّاً بعد ايذاء اللَّه ورسوله صلى الله عليه و آله فتقول: «وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا». لأنّ للمؤمن علاقة باللَّه ورسوله عن طريق الإيمان، ولهذا جعل في مرتبة اللَّه ورسوله هنا.

وتعبير «بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا» إشارة إلى أنّ هؤلاء لم يرتكبوا ذنباً حتى يؤذوا.

وفي عيون أخبار الرضا عن الإمام الرضا عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: من بهت مؤمناً أو مؤمنة، أو قال فيه ما ليس فيه أقامه اللَّه تعالى يوم القيامة على تلّ من نار حتى يخرج مما قاله فيه».

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 79

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَ بَنَاتِكَ وَ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَ كَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)

سبب النّزول

في تفسير علي بن إبراهيم في سبب نزول الآية الاولى: فإنّه كان سبب نزولها أنّ النساء كن يخرجن إلى المسجد ويصلّين خلف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وإذا كان بالليل خرجن إلى صلاة المغرب والعشاء الآخرة والغداة، يقعد الشبّان لهن في طريقهن فيؤذونهن ويتعرّضون لهنّ فأنزل اللَّه: «يَا أَيُّهَا

النَّبِىُّ قُل لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلبِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا».

التّفسير

تحذير شديد للمؤذين ومختلقي الإشاعات: بعد النهي عن ايذاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والمؤمنين الذي ورد في الآية السابقة، أكّدت الآية هنا على أحد موارد الأذى، ومن أجل الوقوف أمامه سلكت طريقين، فتقول الآية في الجزء الأوّل: «يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلبِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ».

إنّ الهدف هو أن لا تتساهل المسلمات في أمر الحجاب كبعض النساء المتحلّلات والمتبرجات المسلوبات الحياء رغم التظاهر بالحجاب، هذا التبرّج يغري السفلة والأراذل ويلفت إنتباههم.

ولما كان نزول هذا الحكم قد أقلق بعض المؤمنات مما كان منهن قبل ذلك، فقد أضافت الآية في نهايتها: «وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا».

فكل ما بدر منكنّ إلى الآن كان نتيجة الجهل فإنّ اللَّه سيغفره لكن فتبن إلى اللَّه وارجعن إليه، ونفذن واجب العفة والحجاب جيداً.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 80

بعد الأمر الذي صدر في الآية السابقة للمؤمنات، تناولت هذه الآية بُعداً آخر لهذه المسألة، أي أساليب الأراذل والأوباش في مجال الإيذاء، فقالت: «لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِى الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكِ بِهِمْ ثُمَّ لَايُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا». «المرجفون»: من مادة «إرجاف»، وهي إشاعة الأباطيل بقصد ايذاء الآخرين وإحزانهم؛ و «نغرينّك» من مادة «الإغراء»، ويعني الدعوة إلى تنفيذ عمل، أو تعلّم شي ء، دعوة تقترن بالترغيب والتحريض.

ويستفاد من سياق الآية أنّ ثلاث فئات في المدينة كانت مشتغلة بأعمال التخريب والهدم، وكل منها كان يحقّق أهدافه باسلوب خاصّ، فظهر ذلك كتيار ومخطّط جماعي، ولم تكن له صبغة فردية:

فالفئة الاولى: هم «المنافقون» الذين كانوا يسعون لإقتلاع

جذور الإسلام عبر مؤامرتهم ضدّه.

و الثانية: هم «الأراذل» الذين يعبّر عنه القرآن: «الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ».

والفئة الثالثة: هم الذين كانوا يبثّون الإشاعات في المدينة، وخاصةً عندما كان النبي صلى الله عليه و آله وجيش المسلمين يتّجهون إلى الغزوات، لإضعاف معنوياتهم.

وعندما يطردون من هذه المدينة، ويخرجون عن حماية الحكومة الإسلامية، فإنّهم سيكونون «مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتّلُوا تَقْتِيلًا».

«ثقفوا»: من مادة «ثقف» و «ثقافة»، وهي: السيطرة على الشي ء بدقّة ومهارة، وهذا التعبير إشارة إلى أنّهم سوف لا يجدون مكاناً آمناً بعد هذا الهجوم، بل سيبحث عنهم المؤمنون بدقة حتى يجدوهم ويرسلوهم إلى ديار الفناء.

ثم تضيف الآية الأخيرة من هذه الآيات أنّ هذا الأمر ليس جديداً، بل: «سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ» فكلما زادت صلافة المفسدين وتجاوزت مؤامراتهم الحدود، يصدر الأمر بالهجوم عليهم.

ولما كان هذا الحكم سنّة إلهية، فإنّه سوف لا يتغير ولا يتبدل أبداً، حيث إنّ سنّة اللَّه ثابتة «وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا».

إنّ هذا التعبير يجسّد كون هذا التهديد حقيقياً وجدياً، ليعلموا أنّ هذا المطلب والمصير

مختصر الامثل، ج 4، ص: 81

حتمي، وله جذوره ونظائره في التاريخ، ولا سبيل إلى تغييره وتبديله، فإمّا أن ينتهوا عن أعمالهم المخزية، أو أن ينتظروا هذا المصير المؤلم.

إنّ هذا الحكم كسائر الأحكام الإسلامية لا يختص بزمان أو مكان أو أشخاص.

إذا كان نفث السموم والتآمر قد تجاوز الحد على أرض الواقع، وأصبح كتيار جارف يهدّد المجتمع الإسلامي بأخطار حقيقية، فما المانع من أن تنفّذ الحكومة الإسلامية أوامر الآيات أعلاه، والتي انزلت على النبي صلى الله عليه و آله ومنحته هذه الصلاحية، وتعبى ء الناس للقضاء على جذور الفساد.

والمراد من السنّة في مثل هذه الموارد: القوانين الإلهية الثابتة والأساسية، سواء التكوينية منها أم

التشريعية، التي لا تتغيّر مطلقاً.

يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَ مَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَ لَا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَ أَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَ قَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَ كُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَ الْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) يسألون أيّان يوم القيامة: كانت الآيات السابقة تتحدث عن مؤامرات المنافقين والأشرار، وقد اشير في هذه الآيات التي نبحثها إلى واحدة اخرى من خططهم الهدّامة، وأعمالهم المخرّبة، حيث كانوا يطرحون أحياناً هذا السؤال: متى تقوم القيامة التي يخبر بها محمّد ويذكر لها كل هذه الصفات؟ وذلك إمّا استهزاءً، أو لزرع الشك فيها في قلوب البسطاء، فتقول الآية: «يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ».

ثم تقول الآية- مورد البحث- في مقام جوابهم: «قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ» ولا يعلمها حتى المرسلون والملائكة المقربون.

ثم تضيف بعد ذلك: «وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا».

ثم تطرقت الآية إلى تهديد الكافرين، وتناولت جانباً من عقابهم الأليم، فقالت: «إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا* خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّايَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 82

الفرق بين «الولي» و «النصير» هنا هو: أنّ «الولي» من يتولّى القيام بكل الأعمال وتنفيذها، أمّا «النصير» فهو الذي يعين على الوصول إلى الهدف المطلوب، إلّاأنّ هؤلاء الكافرين لا وليّ لهم في القيامة ولا نصير. ثم بيّنت جزءاً آخر من عذابهم الأليم في القيامة فقالت: «يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ». وهذا التقليب إمّا أن يكون في لون البشرة والوجه حيث تصبح حمراء أو سوداء

أحياناً، أو من جهة تقلّبهم في النار ولهيبها حيث تكون وجوههم في مواجهة النار أحياناً، وأحياناً جوانب اخرى (نعوذ باللَّه من ذلك).

هنا ستنطلق صرخات حسرتهم، و «يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا». فإنّا لو كنّا أطعناهما لم يكن ينتظرنا مثل هذا المصير الأسود الأليم.

«وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا».

«السادة»: جمع «سيّد»، وهو المالك العظيم الذي يتولّى إدارة المدن المهمة أو الدول؛ و «الكبراء» جمع «كبير» وهو الفرد الكبير سواء من ناحية السنّ، أو العلم، أو المركز الاجتماعي وأمثال ذلك. وبهذا فإنّ السادة إشارة إلى رؤساء البلاد العظام، والكبراء هم الذين يتولّون إدارة الامور تحت إشراف اولئك السادة، ويعتبرون معاونين ومشاورين لهم، وكأنّهم يقولون: إنّنا قد جعلنا طاعة السادة محل طاعة اللَّه، وطاعة الكبراء مكان طاعة الأنبياء، فابتلينا بأنواع الإنحرافات والتعاسة والشقاء.

هنا تثور ثائرة هؤلاء الجهنميين الضالين، ويطلبون من اللَّه سبحانه أن يزيد في عذاب مضلّيهم وعقابهم أشدّ عقاب فيقولون: «رَبَّنَا ءَاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا»- عذاب لضلالهم وعذاب لإضلالهم-.

من المسلم أنّ هؤلاء يستحقون العذاب واللعن، واستحقاقهم للعذاب المضاعف واللعن الكبير بسبب سعيهم في سبيل إضلال الآخرين، ودفعهم إلى طريق الإنحراف. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ قُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 83

بماذا رموا موسى عليه السلام واتّهموه: بعد البحوث التي مرّت في الآيات السابقة حول وجوب إحترام مقام النبي صلى الله عليه و آله، وترك كل ما يؤذيه والإبتعاد عنه،

فقد وجّهت هذه الآيات الخطاب للمؤمنين، وقالت: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَكُونُوا كَالَّذِينَ ءَاذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا».

إنّ اختيار موسى عليه السلام من جميع الأنبياء الذين طالما اوذوا، بسبب أنّ المؤذين من بني إسرائيل قد آذوه أكثر من أي نبيّ آخر.

والمراد من ايذاء موسى عليه السلام هو بيان حكم كلي عام جامع، لأنّ بني إسرائيل قد آذوا موسى عليه السلام من جوانب متعددة ... ذلك الأذى الذي لم يكن يختلف عن أذى بعض أهل المدينة (لنبيّنا صلى الله عليه و آله) كإشاعة بعض الأكاذيب وإتّهام زوج النبي بتهم باطلة، وقد مرّ تفصيلها في تفسير سورة النور، ذيل الآيات (11- 20).

ويستفاد من هذه الآية أنّ من كان عند اللَّه وجيهاً وذا منزلة، فإنّ اللَّه سبحانه يدافع عنه في مقابل من يؤذيه ويتّهمه بالأباطيل.

قولوا الحق لتصلح أعمالكم: بعد البحوث السابقة حول ناشري الإشاعات والذين يؤذون النبي، تصدر الآية التالية أمراً هو في الحقيقة علاج لهذا المرض الإجتماعي الخطير، فتقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا».

«القول السديد»: يعني القول الذي يقف كالسدّ المنيع أمام أمواج الفساد والباطل.

ثم تبيّن الآية التالية نتيجة القول السديد، فتقول: «يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْملَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ».

إنّ التقوى في الواقع هي دعامة إصلاح اللسان وأساسه، ومنبع قول الحق، والقول الحق أحد العوامل المؤثرة في إصلاح الأعمال، وإصلاح الأعمال سبب مغفرة الذنوب، وذلك ل «إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ» «1».

ثم تضيف الآية في النهاية: «وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا».

وأي فوز وظفر أسمى من أن تكون أعمال الإنسان صالحة، وذنوبه مغفورة، وهو عند اللَّه من المبيضّة وجوههم الذين رضي اللَّه عنهم.

______________________________

(1) سورة هود/ 114.

0

مختصر الامثل، ج 4، ص:

84

إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَ أَشْفَقْنَ مِنْهَا وَ حَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَ الْمُنَافِقَاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكَاتِ وَ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَاتِ وَ كَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73) حمل الأمانة الإلهية أعظم افتخارات البشر: تكمل هاتان الآيتان- اللتان هما آخر آيات سورة الأحزاب- المسائل المهمة التي وردت في هذه السورة في مجالات الإيمان، والعمل الصالح، والجهاد، والإيثار، والعفة والأدب والأخلاق، وتبيّن كيف أنّ الإنسان يحتل موقعاً سامياً جدّاً بحيث يستطيع أن يكون حامل رسالة اللَّه العظيمة.

تبيّن الآية أوّلًا أعظم إمتيازات الإنسان وأهمّها في كل عالم الخلقة، فتقول: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنِ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا».

ممّا لا شك فيه أنّ إباءها تحمل المسؤولية وامتناعها عن ذلك لم يكن استكباراً منها، بل إنّ إباءها كان مقترناً بالإشفاق، أي الخوف الممتزج بالتوجه والخضوع.

إلّا أنّ الإنسان، اعجوبة عالم الخلقة، قد تقدم: «وَحَمَلَهَا الْإِنسنُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا».

إنّ الأمانة الإلهية هي قابلية التكامل غير المحدودة والممتزجة بالإرادة والإختيار، والوصول إلى مقام الإنسان الكامل، وعبودية اللَّه الخاصة وتقبّل ولاية اللَّه.

والمراد من عرض هذه الأمانة على السماوات والأرض والجبال هو المقارنة، أي أنّها عندما قارنت حجم هذه الأمانة مع ما لديها من القابليات والإستعدادات أعلنت عدم لياقتها وإستعدادها عن تحمّل هذه الأمانة العظيمة.

وبهذا فإنّ السماوات والأرض والجبال قد صرخت جميعاً بأنّا لا طاقة لنا بحمل هذه الأمانة.

ولأنّ الإنسان كان قد خلق بشكل يستطيع معه تحمّل المسؤولية والقيام بها، وأن يتقبّل ولاية اللَّه، ويسير في طريق العبودية والكمال ويتّجه نحو المعبود الدائم، وأن يطوي هذا الطريق بقدمه وإرادته، وبالإستعانة بربّه.

وهذا لم يكن

قبول اتفاق وعقد، بل كان قبولًا تكوينياً حسب عالم الإستعداد.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 85

أمّا وصف الإنسان بهاتين الصفتين- ظلوماً، جهولًا- بسبب نسيان غالب البشر وظلمهم أنفسهم، وعدم العلم بقدر الإنسان ومنزلته ... وبسبب الفعل الذي بدأ منذ ابتداء نسل آدم من قِبل قابيل وأتباعه، ولا يزال إلى اليوم.

وتبيّن الآية التالية علة عرض هذه الأمانة على الإنسان، وبيان حقيقة أنّ أفراد البشر قد انقسموا بعد حمل هذه الأمانة إلى ثلاث فئات: المنافقين والمشركين والمؤمنين، فتقول:

«لّيُعَذّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا».

«نهاية تفسير سورة الأحزاب»

مختصر الامثل، ج 4، ص: 87

34. سورة سبأ

محتوى السورة: إنّ محتوى هذه السورة يندرج في خمسة مواضيع:

1- التوحيد وبعض الآثار الدالة عليه في عالم الوجود، وبعض صفات اللَّه المقدسة كالوحدانية، والربوبية، والالوهية.

2- قضية المعاد التي نالت النصيب الأوفي من العرض في هذه السورة.

3- نبوّة الأنبياء السابقين وبالأخص رسول الخاتم صلى الله عليه و آله والرد على تخرّصات أعدائه حوله، وذكر جانب من معجزات من سبقه من الأنبياء.

4- التعرض لذكر بعض النعم الإلهية العظيمة، ومصير الشاكرين والجاحدين من خلال استعراض جانب من حياة النبي سليمان عليه السلام وحياة قوم سبأ.

5- الدعوة إلى التفكر والتأمل والإيمان والعمل الصالح، وبيان تأثير هذه العوامل في سعادة وموفقية البشر.

سمّيت السورة بهذا الاسم (سبأ) لذكرها قصة قوم سبأ.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأ سورة سبأ لم يبق نبي ولا رسول إلّاكان له يوم القيامة رفيقاً ومصافحاً».

وروى عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ الحمدين جميعاً، سبأ وفاطر، في ليلة لم يزل

مختصر الامثل، ج 4، ص: 88

ليلته في حفظ اللَّه تعالى وكلائه،

فإن قرأهما في نهاره لم يصبه في نهاره مكروه، واعطي من خير الدنيا وخير الآخرة ما لم يخطر على قلبه ولم يبلغ مناه».

وهذا الثواب العظيم لا يكون نصيب من يكتفي من قراءته بلقلقة اللسان وحسب، بل يجب أن تكون القراءة مقدمة للتفكير الذي يكون بدوره باعثاً على العمل الصالح.

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَ مَا يَعْرُجُ فِيهَا وَ هُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) هو المالك لكل شي ء والعالم بكل شي ء: خمس سور من القرآن الكريم افتتحت «بحمد اللَّه»، وإرتبط (الحمد) في ثلاثة منها بخلق السموات والأرض وهي (سبأ وفاطر والأنعام) بينما كان مقترناً في سورة الكهف بنزول القرآن على قلب الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، وجاء في سورة الفاتحة تعبيراً جامعاً شاملًا لكل هذه الإعتبارات: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ».

إنّ الحمد والشكر للَّه تعالى في مطلع سورة سبأ هو في قبال مالكيته وحاكميته تعالى في الدنيا والآخرة.

يقول تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِى الْأَخِرَةِ».

لذا فإنّ الحاكمية والمالكية في الدنيا والآخرة له سبحانه، وكل موهبة، وكل نعمة، ومنفعة وبركة، وكل خلقة سوية عجيبة مذهلة، تتعلّق به تعالى، ولذا فإنّ كل مدح وثناء يصدر من أحدٍ على شي ء في هذا العالم، فإنّ مرجعه في النهاية إلى اللَّه سبحانه وتعالى.

ثم يضيف تعالى قائلًا: «وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ».

فقد اقتضت حكمته البالغة أن يُخضع الكون لهذا النظام العجيب، وأن يستقرّ- بعلمه وإحاطته- كل شي ء في محلّه من الكون، فيجد كل مخلوق- كل ما يحتاج

إليه- في متناوله.

إنّ هذا الحمد والثناء لا ينطلق من ألسنة الناس والملائكة فقط، بل تُسمع همهمة الحمد والتسبيح من كل ذرّة في عالم الوجود بإدراك العقل، فليس من موجود إلّاويحمده ويسبّحه تعالى.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 89

تنتقل الآية التي بعدها إلى التوسّع في إظهار جانب من علم اللَّه اللامحدود، تناسباً مع وصف الآية السابقة له تعالى بالحكيم والخبير، فيقول سبحانه: «يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا».

نعم، فقد أحاط علماً بكل حبّة مطر وقطرة ماء تنفذ وتلج في أعماق الأرض حتى إذا وصلت طبقة صلدة تجمّعت هناك وصارت ذخيرة للإنسان.

ويعلم بالبذور التي تنتقل على سطح الأرض لتنبت في مكان ما وتصبح شجرة باسقة أو عشباً طريّاً.

يعلم بجذور الأشجار عند توغلها في أعماق التربة بحثاً عن الماء والغذاء.

يعلم بالموجات الكهربائية والغازات المختلفة، بذرّات الهواء التي تنفذ في الأرض.

وكذلك، يعلم بالكنوز والدفائن وأجساد الموتى من الإنسان وغيره ... نعم إنّه مطّلع على كل هذا.

وكذلك فهو عارف وعالم بالنباتات التي تخرج من الأرض، والناس الذين يبعثون منها، بالعيون التي تفور بالماء منها، بالغازات التي تتصاعد منها، بالبراكين التي تلوّح بجحيمها.

والخلاصة، فهو عالم بكل الموجودات التي تلج الأرض وتخرج منها أعم مما نعلمه أو ما لا نعلمه.

ثم يضيف قائلًا: «وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا».

فهو يعلم بحبّات المطر، وبأشعة الشمس التي تنثر الحياة، بأمواج الوحي والشرائع السماوية العظيمة، وبالملائكة التي تهبط إلى الأرض لإبلاغ الرسالات أو أداء الأوامر الإلهية المختلفة، بالأشعة الكونية التي تدخل جو الأرض من الفضاء الخارجي، بالشهب والذرات المضطربة في الفضاء والتي تهوي نحو الأرض، فهو تعالى محيط بهذا كله.

وكذلك فإنّه يعلم بأعمال العباد التي تعرج إلى السماء، والملائكة التي تقفل صاعدة إلى السماء بعد

أداء تكاليفها، وبالشياطين الذين يرتقون إلى السماء لاستراق السمع، وبالأبخرة التي تتصاعد من البحار إلى أعالي السماء لتتكاثف مكونةً سحباً، وبالآهات التي تنطلق من قلب المظلوم متصاعدة إلى السماء ... نعم هو عالم بكل ذلك.

وفي ختام الآية يضيف تعالى: «وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 90

وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَ لَا فِي الْأَرْضِ وَ لَا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) أقسم باللَّه لتأتينكم القيامة: تتعرض الآيات مورد البحث إلى موضع التوحيد وصفات اللَّه في نفس الوقت الذي تهي ء أرضية لموضوع المعاد، لأنّ مشكلات (بحث المعاد) لا يمكن حلّها إلّاعن طريق العلم اللامتناهي للباري عزّ وجل، كما سنرى. لذا فإنّ الآيات مورد البحث تبدأ أوّلًا بقوله تعالى: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَاتَأْتِينَا السَّاعَةُ».

ويريدون بذلك الفكاك والتحرّر من قيود هذه الإعتقادات؛ الحساب والكتاب والعدل والجزاء، ليرتكبوا ما يحلوا لهم من الأعمال.

ولكن القرآن بناءً على وضوح أدلة القيامة يخاطب الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله بصورة حاسمة وفي معرض بيان النتيجة، فيقول: «قُلْ بَلَى وَرَبّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ».

والتركيز على كلمة «ربّ» لأنّ القيامة في الأصل من شؤون الربوبية، فكيف يمكن أن يكون اللَّه مالكاً ومربّياً للبشر يقودهم في سيرهم التكاملي، ثم يتخلّى عنهم في منتصف الطريق لينتهي بالموت كل شي ء.

وبما أنّ أحد إشكالات الكافرين بالمعاد، هو شكّهم- من جانب- في إمكانية جمع وإعادة بناء أعضاء الإنسان الميّت بعد تبعثرها وتفسّخها في

التراب، وكذلك- من جانب آخر- في إمكانية وجود من يمكنه النظر في جميع أعمال العباد التي عملوها في السر والعلن والظاهر والباطن، لذا فإنّ اللَّه تعالى يضيف في تتمة الآية الكريمة: «عَالِمِ الْغَيْبِ لَايَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السَّموَاتِ وَلَا فِى الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ».

والمقصود من «الكتاب المبين» هو «لوح العلم الإلهي اللامتناهي» ضُبط وقُيّد كل شي ء، بدون أن يجد التغيير والتبديل طريقه إليه.

ثم يوضّح تعالى الهدف من قيام القيامة في آيتين، أو بتعبير آخر: إعطاء الدليل على لزوم

مختصر الامثل، ج 4، ص: 91

مثل ذلك العالم بعد عالمنا الحالي لمنكري القيامة، فيقول تعالى: «لِيَجْزِىَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ».

فإن لم يُجاز المؤمنين بصالح عملهم ثواباً، أفلا يعني ذلك تعطيل أصل العدالة الذي هو أهم أصل من اصول الخلقة؟

«الرزق الكريم» يشمل كل رزق ذي قيمة، ومفهوم ذلك واسع.

وبتعبير آخر: فإنّ «الجنة» بكل نعمها المعنوية والماديّة جمعت في هذه الكلمة.

ثم تضيف الآية التالية، موضّحة نوعاً آخر من العدالة فيما يخصّ عقاب المذنبين والمجرمين، فيقول تعالى: إنّ الذين كذّبوا آياتنا وسعوا في إنكارها وإبطالها وتصوروا أنّهم يستطيعون الخلاص من دائرة قدرتنا ... «وَالَّذِينَ سَعَوْ فِى ءَايَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ».

«الرّجز»: في الأصل بمعنى الإضطراب وعدم القدرة على حفظ التوازن، ثم اطلقت الكلمة على كل ذنب ورجس. فالمقصود من (الرجز) هنا، أسوأ أنواع العذاب- الذي يتأكّد بإرداف كلمة «الأليم» أيضاً.

«سعو»: من «السعي»، بمعنى كل جهد وجدّ في أمر، والمقصود منها هنا، الجدّ والجهد في تكذيب وإنكار آيات الحق وصدّ الناس عن طريق اللَّه سبحانه وتعالى.

«معاجزين»: من «المعاجزة»، بمعنى معجّزين، أي مثبّطين، أنّ هذا الوصف يستخدم

للمجرمين لتوّهمهم بأنّه يستطيع القيام بأيّة جناية يشاء، ثم يستطيع الفرار من سلطة القدرة الإلهية.

وَ يَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَ يَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَ الضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 92

العلماء يرون دعوتك إنّها حق: كان الحديث في الآيات السابقة عن عمي البصائر، المغفّلين الذين أنكروا المعاد، والآيات مورد البحث، تتحدث عن العلماء والمفكرين الذين صدّقوا بآيات اللَّه وسعوا سعيهم لتشجيع الآخرين على التصديق بها. يقول تعالى: «وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِى إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ».

إنّ عبارة «الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ»، يشمل كل العلماء والمفكرين في كل عصر وزمان ومكان.

واليوم، فإنّ هناك كتباً متنوّعة كتبها مفكّرون غربيون وشرقيون حول الإسلام والقرآن، تحوي إعترافات ظاهرة على عظمة الإسلام وصدق الآية مورد البحث.

ويعود تعالى إلى مسألة القيامة والبعث في الآية التي بعدها، ويكمل البحوث السابقة بطريقة اخرى، فيقول تعالى: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبّئُكُمْ إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ».

يبدو أنّ إصرار- هؤلاء الكفار- على إنكار مسألة المعاد يعتمد على أمرين:

الأوّل: توهمّهم أنّ المعاد الذي تحدّث عنه رسول الأكرم صلى الله عليه و آله وهو «المعاد الجسماني»، أمر يسهل الإشكال عليه

والطعن فيه.

الثاني: أنّ الإعتقاد بالمعاد، أو حتى القبول باحتماله- على كل حال- إنّما يفرض على الإنسان مسؤوليات وتعهدات، وهذا ما اعتبره رؤوس الكفر خطراً حقيقياً.

والعجيب أنّهم: «افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ».

ولكن القرآن يردّ عليهم بشكل حاسم قائلًا: «بَلِ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالْأَخِرَةِ فِى الْعَذَابِ وَالضَّللِ الْبَعِيدِ».

والحقيقة أنّ الحياة لو حُدّت بهذه الأيام القليلة من عمر الدنيا لكان تصور الموت بالنسبة لكل إنسان كابوساً مرعباً، لهذا السبب نرى أنّ منكري المعاد في قلق دائم منغّص وعذاب أليم، بينما المؤمنين بالمعاد يعتبرون الموت قنطرة إلى عالم البقاء.

ثم ينتقل القرآن الكريم لتقديم دليل آخر عن المعاد، مقترن بتهديد الغافلين المعاندين، فيقول تعالى: «أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ».

فإنّ هذه السماء بكواكبها الثابتة والسيّارة، وكذلك الأرض بكل مدهشاتها وأنواع موجوداتها الحية، وبركاتها ومواهبها، لأوضح دليل على قدرة الخلّاق العظيم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 93

وهذا هو «برهان القدرة» الذي استدلّ به القرآن الكريم في آيات اخرى في مواجهة منكري المعاد، ومن جملة هذه الآيات، الآية (82) من سورة يس، والآية (99) من سورة الإسراء، والآيتين (6 و 7) من سورة ق.

ونشير إلى أنّ هذه الجملة كانت مقدمة لتهديد تلك الفئة المتعصبة من ذوي القلوب السوداء، الذين يصّرون على عدم رؤية كل هذه الحقائق، لذا يضيف تعالى قائلًا: «إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ». فنأمر الأرض فتنشقّ بزلزلة مهولة وتبتلعهم، أو نأمر السماء فترميهم بقطعات من الحجر وتدمّر بيوتهم وتهلكهم «أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ». أجل، إنّ في هذا الأمر دلائل واضحة على قدرة اللَّه تعالى على كل شي ء، ولكن يختص بإدراك ذلك كل إنسان يتدبر في مصيره ويسعى في الإنابة إلى اللَّه: «إِنَّ فِى ذلِكَ

لَأَيَةً لِكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ».

ونحن المحكومون بقدرته في كل طرفة عين إنكار قدرته على البعث بعد الموت، أو كيف نستطيع الفرار من سلطة حكومته.

وَ لَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَ اعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) المواهب الإلهية العظيمة لداود: بناء على ما مرّ ذكره في آخر المجموعة السابقة من الآيات وما قلناه حول «العبد المنيب» والثواب، ولعلمنا بأنّ هذا الوصف قد ذكر للنبي داود عليه السلام (في الآية 24 من سورة ص)- كما سيرد شرحه بإذن اللَّه- فالأفضل من أن نتعرّض لجانب من حياة هذا النبي عليه السلام كمثال للإنابة والتوبة وإكمال البحث السابق، وهي أيضاً تنبيه لكل من يغمط نعم اللَّه ويتناساها، ويتخلّى عن عبوديته للَّه عند جلوسه على مسند القدرة والسلطة. في الآية الاولى يقول تعالى: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا».

فبعد هذه الإشارة الإجمالية العامة، تبدأ الآية بشرح وتوضيح جوانب من الفضائل المعنوية والمادية التي تمتّع بها داود، فيقول تعالى: «يَا جِبَالُ أَوّبِى مَعَهُ وَالطَّيْرَ».

«أوّبي»: في الأصل من «التأويب» بمعنى الترجيع وإعادة الصوت في الحلق، وهذا الأصل يستعمل أيضاً بمعنى «التوبة» لأنّ حقيقتها الرجوع إلى اللَّه.

وفي كتاب كمال الدين وتمام النعمة عن الصادق عليه السلام أنّه قال في حديث يذكر فيه قصة داود عليه السلام: «إنّه خرج يقرأ الزبور، وكان إذا قرأ الزبور لا يبقى جبل ولا حجر ولا طائر إلّاجاوبته».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 94

وبعد ذكر هذه الفضيلة المعنوية، تذكر الآية فضيلة مادية اخرى فتقول: «وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ». إنّ ظاهر الآية يدلّل على أنّ ليونة الحديد تمّت لداود بأمر إلهي.

وروي- في تفسير مجمع البيان- عن

الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّ اللَّه أوحى إلى داود عليه السلام:

نعم العبد أنت إلّاأنّك تأكل من بيت المال! فبكى داود أربعين صباحاً، فألان اللَّه له الحديد، وكان يعمل كل يوم درعاً فيبيعها بألف درهم فعمل ثلاثمائة وستّين درعاً فباعها بثلاثمائة وستّين ألفاً فاستغنى عن بيت المال».

الآية التي بعدها تتعرض لشرح صناعة داود للدروع والأمر الإلهي العميق المعنى بهذا الخصوص. يقول تعالى: «أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدّرْ فِى السَّرْدِ».

«سابغات»: جمع «سابغ» وهو الدرع التامّ الواسع؛ و «سرد»: في الأصل بمعنى حياكة ما يخشن ويغلظ كنسج الدرع وخرز الجلد، واستعير لنظم الحديد، وجملة «وَقَدّرْ فِى السَّرْدِ» معناها مراعاة المقاييس المتناسبة في حلقات الدرع وطريقة نسجها، وفي الواقع فإنّ اللَّه تعالى قد أمر داود بأن يكون مثالًا يحتذى لكل الحرفيين والعمّال المؤمنين في العالم، بمراعاته للإتقان والدقة في العمل من حيث الكمّ والكيف في المصنوعات، ليستطيع بالتالي مستهلكوها استعمالها براحة وبشكل جيّد، والإفادة من متانتها.

ثم تُختم الآية بخطاب لداود وأهل بيته: «وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».

فالهدف ليس صناعة الدروع وتحقيق الربح، بل إنّ ذلك كله وسيلة في المسير باتّجاه العمل الصالح، وليستفيد أيضاً داود وأهل بيته.

وَ لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَ رَوَاحُهَا شَهْرٌ وَ أَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَ مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَ تَمَاثِيلَ وَ جِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَ قُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي

الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 95

هيبة سليمان وموته العبرة: بعد الحديث عن المواهب التي أغدق اللَّه بها على داود عليه السلام تنتقل الآيات إلى الحديث عن إبنه سليمان عليه السلام، فهذه الآيات تشير إلى ثلاث مواهب عظيمة خُصّ بها إبنه سليمان عليه السلام. يقول تعالى: «وَلِسُلَيْمنَ الرّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ».

الملفت هنا أنّ اللَّه تبارك وتعالى حينما سخّر للأب جسماً خشناً وصلباً جدّاً وهو الحديد، نرى أنّه قد سخّر للإبن موجوداً لطيفاً للغاية، ولكنّ العملين كانا نافعين وإعجازيين.

أمّا كيف تحمل الريح مقعد سليمان، (سواء أكانت كرسياً أم بساطاً)؟ فليس بواضح لنا، والقدر المتيقّن هو أن لا شي ء يمثّل مشكلة أو عقبة أمام قدرة اللَّه.

بعدئذ تنتقل الآية إلى الموهبة الثانية التي خصّ اللَّه بها سليمان عليه السلام، فتقول الآية الكريمة:

«وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ».

«أسلنا»: من مادة «سيلان» بمعنى الجريان؛ و «القطر» بمعنى النحاس، والمقصود أنّنا أذبنا له هذا الفلز وجعلناه كعين الماء.

والأمر ليس واضحاً لدينا وما نعلمه هو أنّ ذلك أيضاً كان من الألطاف الإلهية على هذا النبي العظيم.

أخيراً تنتقل الآية إلى بيان الموهبة الإلهية الثالثة لسليمان عليه السلام وهي تسخير مجموعة كبيرة من الجن لخدمته فتقول الآية: «وَمِنَ الْجِنّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ».

الآية التالية، تشير إلى جانب من الأعمال الإنتاجية الهامة، التي كان يقوم بها فريق الجن بأمر سليمان. يقول تعالى: «يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ».

فكل ما أراده سليمان من معابد وتماثيل وأواني كبيرة للغذاء والتي كانت كالأحواض الكبيرة، وقدور واسعة ثابتة، كانت تهيّأ له، فبعضها يرتبط بالمسائل المعنوية والعبادية، وبعضها الآخر يرتبط بالمسائل الجسمانية، وكانت متناسبة مع

أعداد جيشه وعمّاله الهائلة.

«محاريب»: جمع محراب، ويعني «مكان العبادة» أو «القصور والمباني الكبيرة» التي بنيت كمعابد.

فإنّ هؤلاء العمّال النشطين المهرة، قاموا ببناء المعابد الضخمة والجميلة في ظلّ حكومته الإلهية والعقائدية، حتى يستطيع الناس أداء وظائفهم العبادية بسهولة.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 96

«تماثيل»: جمع تمثال، بمعنى الرسم والصورة والمجسمة؛ «جفان»: جمع «جفنة» بمعنى إناء الطعام؛ «جوابي»: جمع «جابية» بمعنى حوض الماء.

وهنا يستفاد أنّ المقصود من التعبير الوارد في الآية الكريمة، أنّ هؤلاء العمّال قد صنعوا لسليمان عليه السلام أواني للطعام كبيرة جدّاً، بحيث إنّ كلّاً منها كان كالحوض، لكي يستطيع عدد كبير من الأفراد الجلوس حوله وتناول الطعام منه.

«قدور»: جمع «قدر» على وزن «قشر». بنفس معناه الحالي، أي الإناء الذي يطبخ فيه الطعام؛ و «راسيات»: جمع «راسية» بمعنى ثابتة، والمقصود أنّ القدور كانت من العظمة بحيث لا يمكن تحريكها من مكانها.

وتعرج الآية في الختام وبعد ذكر هذه المواهب الإلهية، إلى آل داود فتخاطبهم: «اعْمَلُوا ءَالَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ».

والمقصود من (الشكر) هو (الشكر العملي)، أي الإستفادة من تلك المواهب في طريق الأهداف التي خلقت لأجلها، والمسلّم به أنّ الذين يستفيدون من المواهب الإلهية في طريق الأهداف التي خلقت لأجلها هم الندرة النادرة.

آخر آية من هذه الآيات، وهي آخر حديث عن النبي سليمان عليه السلام، يخبرنا اللَّه سبحانه وتعالى فيها بطريقة موت ذلك النبي العجيبة والداعية للإعتبار. يقول تعالى: «فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ» «1».

وتضيف الآية بعد ذلك: «فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِى الْعَذَابِ الْمُهِينِ». «تبيّنت»: من مادة «بيّن» بمعنى «العلم والإطّلاع». يعنى أنّ الجن لم يعلموا بموت سليمان إلى ذلك

الوقت، ثم علموا وفهموا أنّهم لو كانوا يعلمون الغيب لما بقوا حتى ذلك الحين في تعب وآلام الأعمال الشاقة التي كلّفوا بها.

لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَ بَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ وَ شَيْ ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَ هَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)

______________________________

(1) «منسأته»: من مادة «نسأ» وهو التأخير في الوقت؛ والمنسأة: عصا يُنسأ بها الشي ء، أي يؤخّر.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 97

المدينة الراقية التي أضاعها الكفران: بعد أن تطرّقت الآيات السابقة إلى توضيح النعم الإلهية العظيمة التي أولاها اللَّه داود وسليمان عليهما السلام، وأداء هذين النّبيين العظيمين وظيفتهما بالشكر، تنتقل الآيات أعلاه إلى الحديث عن قوم آخرين يمثّلون الموقف المقابل للموقف السابق .. قوم شملهم اللَّه بأنواع النعم، ولكنهم سلكوا طريق الكفران. يقول تعالى: «لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِى مَسْكَنِهِمْ ءَايَةٌ».

والمشهور أنّ «سبأ» اسم «أبي العرب» في اليمن.

ومن الممكن أن يكون «سبأ» اسم شخص ابتداءً، ثم بعدئذ سمّي كل أولاده وقومه من بعده باسمه، ثم انتقل الاسم ليشمل مكان سكناهم.

تنتقل الآية بعد ذلك لتجلّي الموقف عن تلك الموهبة الإلهية التي وضعت بين يدي قوم سبأ. فيقول تعالى: «جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ».

ما حصل هو أنّ قوم سبأ استطاعوا- ببناء سدّ عظيم بين الجبال الرئيسية في منطقتهم- حصر مياه السيول المدمّرة أو الضائعة هدراً على الأقل، والإفادة منها ... وبإحداث منافذ في ذلك السدّ سيطروا تماماً على ذلك الخزّان المائي الهائل، وبالتحكّم فيه تمكّنوا من زراعة مساحات شاسعة من الأرض.

ثم يضيف القرآن: «كُلُوا مِن رّزْقِ رَبّكُمْ

وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيّبةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ».

فبلحاظ النعم المادية هواء نقي، ونسيم يبعث على السرور، أرض معطاءة وأشجار وافرة الثمر، وبلحاظ النعم المعنوية فمغفرة اللَّه التي شملتهم، والتغاضي عن تقصيرهم، وصرف البلاء والعذاب عنهم وعن بلدتهم.

ولكن هؤلاء الجاحدين غير الشكورين، لم يخرجوا من بوتقة الامتحان بسلام.

قال تعالى: «فَأَعْرَضُوا» استهانوا بنعمة اللَّه، توهّموا بأنّ العمران والمدنية والأمن أشياء عادية، نسوا اللَّه، وأسكرتهم النعمة.

وهنا مسّهم سوط الجزاء، يقول تعالى: «فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ». فدمّر بيوتهم ومزارعهم وحوّلها إلى خرائب ..

«العرم»: من «العرامة» وهي شراسة وصعوبة في الخلق تظهر بالفعل، ووصف «السيل» بالعرم إشارة إلى شدّته وقابليته على التدمير.

بعدئذٍ يصف القرآن الكريم عاقبة هذه الأرض كما يلي: «وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ

مختصر الامثل، ج 4، ص: 98

ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْ ءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ». «اكل»: بمعنى الطعام؛ و «خمط»: بمعنى النبات المرّ وهو «الأراك»؛ و «أثل»: شجر معروف.

وبذا يكون قد نبت محل تلك الأشجار الخضراء المثمرة، أشجار صحراوية غليظة ليست ذات قيمة.

يقول تعالى في الآية التالية بصراحة وكتلخيص واستنتاج لهذه القصة: «ذلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا».

ويجب أن لا يتبادر إلى الذهن بأنّ هذا المصير يخصّ هؤلاء القوم، بل إنّ من المسلم أنّه يعمّ كل من كانت لهم أعمال شبيهة بأعمال هؤلاء. وهكذا تضيف الآية:

«وَهَلْ نُجَازِى إِلَّا الْكَفُورَ».

وَ جَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَ قَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَ أَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَ مَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) «فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ»: تعود هذه الآيات إلى قصة قوم سبأ مرّة اخرى، وتعطي شرحاً وتفصيلًا أكثر حولهم وحول العقاب الذي

حلّ بهم، ليكون درساً بليغاً وتربوياً لكل سامع. يقول تعالى: لقد عمّرنا أرضهم إلى حدّ أنّ النعمة لم تغطّها وحدها، بل «وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةٍ». فقد جعلنا بينهم وبين الأرض المباركة مدائن وقرىً اخرى متّصلة بفواصل قليلة إلى درجة أنّ القرية ترى من القرية الثانية.

والمقصود من «الأرض المباركة» هو «صنعاء» أو «مأرب» وكلتاهما كانتا في اليمن.

ولكن العمران وحده لا يكفي، بل إنّ شرطه الأساسي هو «الأمان»، ولذلك تضيف الآية: «وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ». أي جعلنا بينها فواصل معتدلة: «سِيُروا فِيهَا لَيَالِىَ وَأَيَّامًا ءَامِنِينَ».

وبهذا فإنّ الفواصل والمسافات بين القرى كانت متناسقة محسوبة، وكذلك فإنّها طرق محفوظة من حملات الضواري أو السرّاق أو قطّاع الطرق.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 99

ولكن هؤلاء جحدوا نعم اللَّه العظيمة ولبسهم الغرور، وأحاطت بهم الغفلة ونشوة النعيم وعدم لياقتهم له، فأسلكتهم طريق الكفران وعدم الشكر، وانحرفوا عن الصراط وتركوا أوامر اللَّه خلف ظهورهم.

فمن جملة مطالبهم العجيبة من اللَّه، «فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا». أي طلبوا أن يجعل اللَّه المسافات بين قراهم طويلة، كي لا يستطيع الفقراء السفر جنباً إلى جنب مع الأغنياء، ومقصودهم هو أن تكون بين القرى- كما أسلفنا- فواصل صحراوية شاسعة، حتى لا يستطيع الفقراء ومتوسّطو الحال الإقدام على السفر بلا زاد أو ماء أو مركب، وبذا يكون السفر أحد مفاخر الأغنياء وعلامة على القدرة والثروة.

فإنّهم بهذا العمل أوقعوا الظلم على أنفسهم «وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ».

فإن كانوا يظنّون أنّهم إنّما يظلمون غيرهم فقد اشتبهوا، إذ أنّهم قد استلّوا خنجراً ومزّقوا به صدورهم.

ويا له من تعبير رائع، ذلك الذي أوضح به القرآن الكريم مصيرهم المؤلم، حيث يقول:

إنّنا جازيناهم ودمّرنا بلادهم ومعيشتهم بحيث: «فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ».

فلم يبق من تلك الحياة المرفّهة، والتمدّن

العريض المشرق، إلّاأخبار على الألسن، وذكريات في الخواطر، وكلمات على صفحات التاريخ «وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ».

كيف دمّرنا أرضهم بحيث سلبت منهم معها قدرة البقاء فيها، وبذا أصبحوا مجبرين على أن يتفرّقوا كل مجموعة إلى جهة لإدامة حياتهم، حتى أضحى تفرّقهم مثلًا يضرب فقيل:

«تفرّقوا أيادي سبأ».

و في ختام الآية يقول تعالى: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَاتٍ لِّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ».

ذلك لكونهم بصبرهم واستقامتهم يتمكّنون من الإمساك بزمام مركب الهوى والهوس الجموح، ويقفون بوجه المعاصي، وبشكرهم للَّه تعالى في طريق طاعته فإنّهم مرتبطون به ويقظون، وعليه فإنّهم يأخذون العبرة بشكل جيّد.

وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَ رَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ (21)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 100

مختصر الامثل ج 4 149

لا أحد مجبر على اتّباع الشيطان: هذه الآيات في الحقيقة تمثّل نوعاً من الإستنتاج العام من قصة «قوم سبأ» التي مرّت في الآيات السابقة. يقول تعالى في الآية الاولى من هذه الآيات: «وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ».

بتعبير آخر: فإنّ إبليس بعد امتناعه من السجود لآدم وطرده من محضر الكبرياء الإلهي، توقّع وقال: «وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» «1».

وتشير الآية التالية إلى مطلبين فيما يخصّ الوساوس الشيطانية، والأشخاص الذين يقعون تحت سلطته، والأشخاص الذين ليس له عليهم سلطان، فتقول الآية المباركة: «وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ».

وذلك هو عين ما ينقله القرآن عن لسان الشيطان نفسه: «وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى» «2». ولكن من الواضح أنّه بعد إجابة دعوته من قبل عديمي الإيمان، وعبيد الهوى، لا

يهدأ له بال، بل يسعى إلى إحكام سلطته على وجودهم.

لذا فإنّ الآية تؤكّد أنّ الهدف من إطلاق يد إبليس في وسوساته، إنّما هو لأجل معرفة المؤمنين من غيرهم ممّن هم في شك: «إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْأَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِى شَكّ».

والمقصود من الجملة أعلاه هو التحقق العيني لعلم اللَّه، لأنّ اللَّه سبحانه وتعالى لا يعاقب أحداً بناءً على علمه بالبواطن، والأعمال المستقبلية لذلك الشخص، بل يجب توفّر ميدان للإمتحان، ومن خلال وساوس الشياطين وهوى النفس يُظهر الإنسان ما بداخله- بكامل الإرادة والإختيار- إلى الواقع الفعلي، ويتحقق علم اللَّه سبحانه وتعالى عيناً.

ثم تختتم الآية بتنبيه للعباد: «وَرَبُّكَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ حَفِيظٌ». حتى لا يتصوّر أتباع الشيطان بأنّ أعمالهم وأقوالهم تتلاشى في هذه الدنيا، أو أنّ اللَّه ينسى.

______________________________

(1) سورة الحجر/ 39 و 40.

(2) سورة إبراهيم/ 22.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 101

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَ لَا فِي الْأَرْضِ وَ مَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَ مَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَا ذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَ لَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَ هُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) قلنا في بداية السورة بأنّ هناك مجموعة من آياتها تتحدث حول المبدأ والمعاد والإعتقادات

الحقّة، ومن ربطها مع بعضها نحصل على حقائق جديدة. في هذا المقطع من الآيات يجرّ القرآن المشركين في الواقع إلى المحاكمة، ثم يبيّن تفسّخ منطقهم الواهي بخصوص شفاعة الأصنام.

في الآية الاولى يقول تعالى: «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ». ولكن اعلموا أنّ هذه الأصنام أو الشركاء لا يستجيبون لدعائكم أبداً، ولا يحلّون لكم مشكلة.

ثم تنتقل الآية إلى عرض الدليل على هذا القول، فيقول تعالى: لأنّهم «لَايَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِى السَّموَاتِ وَلَا فِى الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ».

وللإجابة على هذا التساؤل تقول الآية التي بعدها: لو كان هناك شفعاء لدى اللَّه تعالى فإنّهم لا يشفعون إلّابإذنه وأمره: «وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ».

وعليه فإنّ العذر الذي يتعلّل به الوثنيون بقولهم: «هؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ» «1». ينتهي بهذا الجواب، وهو أنّ اللَّه سبحانه وتعالى، لم يجز شفاعتها أبداً.

لذا تقول العبارة بعدها بأنّه في ذلك اليوم تهيمن الوحشة والإضطراب على القلوب، ويستولي القلق على الشافعين والمشفوع لهم بانتظار أن يروا لمن يأمر اللَّه بجواز الشفاعة؟

وعلى من ستجوز تلك الشفاعة؟ وتستمر حالة القلق والإضطراب، حتى حين ... فيزول

______________________________

(1) سورة يونس/ 18.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 102

ذلك الفزع والإضطراب عن القلوب بصدور الأمر الإلهي: «حَتَّى إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ».

هنا وحينما يتواجه الفريقان ويتساءلان، (أو أنّ المذنبين يسألون الشافعين): «قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ». فيجيبونهم: «قَالُوا الْحَقَّ». وما الحق إلّاجواز الشفاعة لمن لم يقطعوا إرتباطهم تماماً مع اللَّه.

وتضيف الآية في الختام: «وَهُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ».

وهذه العبارة متمّمة لما قاله «الشفعاء»، حيث يقولون: لأنّ اللَّه عليّ وكبير فأي أمر يصدره هو عين الحق، وكل حق ينطبق مع أوامره.

في الآية التالية يلج القرآن الكريم طريقاً آخر

لإبطال عقائد المشركين، ويجعل مسألة «الرازقية» عنواناً بعد طرحه لمسألة «الخالقية» التي مرّت معنا في الآيات السابقة. يقول تعالى: «قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

بديهي أن لا أحد منهم يستطيع القول بأنّ هذه الأصنام الحجرية والخشبية هي التي تنزل المطر من السماء، أو تنبت النباتات في الأرض.

الجميل أنّه- بدون إنتظار الجواب منهم- يردف تعالى قائلًا: «قُلِ اللَّهُ».

آخر الآية تشير إلى موضوع يمكنه أن يكون أساساً لدليل واقعي ومتوائم مع غاية الأدب والإنصاف، بطريقة تستنزل الطرف المقابل من مركب الغرور والعناد الذي يمتطيه، وتدفعه إلى التفكر والتأمل. يقول تعالى: «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَللٍ مُّبِينٍ».

وهذا إشارة إلى: أنّ عقيدتنا وعقيدتكم متضادّتان، وعليه- بناءً على إستحالة الجمع بين النقيضين- فلا يمكن أن تكون الدعوتان على حقّ.

وتستمر الآية التي بعدها بالاستدلال بشكل آخر- ولكن بنفس النمط المنصف الذي يستنزل الخصم من مركب العناد والغرور. يقول تعالى: «قُل لَّاتُسَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ».

وهنا أنّ الرسول صلى الله عليه و آله مأمور باستعمال تعبير «جرم» فيما يخصّه، وتعبير «أعمال» فيما يخصّ الطرف الآخر، وبذا تتّضح أنّ كل شخص مسؤول أن يعطي تفسيراً لأعماله وأفعاله، لأنّ نتائج أعمال أي إنسان تعود عليه، حسنها وقبيحها.

الآية التالية توضيح لنتيجة الآيتين السابقتين، فبعد أن نبّه إلى أنّ أحد الفريقين على الحق والآخر على الباطل، وإلى أنّ كلّاً منهما مسؤول عن أعماله، إنتقل إلى توضيح كيفية

مختصر الامثل، ج 4، ص: 103

التحقّق من وضع الجميع، والتفريق بين الحق والباطل ومجازاة كل فريق طبق مسؤوليته، فيقول تعالى، قل لهم بأنّ اللَّه سوف يجمعنا في يوم البعث، ويحكم بيننا بالحق، ويفصل بعضنا عن بعض، حتى يعرف المهتدون من الضالين، ويبلغ كل فريق بنتائج أعماله.

«قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقّ».

وإذا كنتم اليوم ترون أنّكم مخلوطون بعضكم البعض، وكلّاً يدّعي بأنّه على الحق وبأنّه من أهل النجاة، فإنّ هذا الوضع لن يدوم إلى الأبد، ولابدّ أن يأتي يوم التفريق بين الصفوف، فربوبية اللَّه إقتضت فصل «الطيب» من «الخبيث» و «الخالص» من «المشوب» و «الحق» عن «الباطل» في النهاية. ويستقرّ كل منهما في مكانه اللائق.

فكّروا الآن ماذا ستعملون في ذلك اليوم، وفي أي صفّ ستقفون، وهل أحضرتم إجابة لمساءلة اللَّه في ذلك اليوم؟

وفي آخر الآية يضيف ليؤكّد حتمية ذلك التفريق فيقول: «وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ».

هذان الاسمان- وهما من أسماء اللَّه الحسنى- أحدهما يشير إلى قدرة اللَّه تعالى على عملية فصل الصفوف، والآخر إلى علمه اللامتناهي، إذ إنّ عملية تفريق صفوف الحق عن الباطل لا يمكن تحقّقها بدون هاتين الصفتين.

واستخدام كلمة «الربّ» في الآية أعلاه إشارةً إلى أنّ اللَّه هو المالك والمربّي للجميع، وذلك ممّا يقتضي أن يكون برنامج مثل ذلك اليوم معدّاً، وهي إشارة لطيفة إلى إحدى دلائل «المعاد».

«فتح»: كما يشير الراغب في مفرداته، الفتح إزالة الإغلاق والإشكال. وذلك ضربان:

أحدهما: يدرك بالبصر كفتح الباب ونحوه، وكفتح القفل، والغلق والمتاع؛ والثاني: يدرك بالبصيرة كفتح الهم وهو إزالة الغمّ، وذلك ضروب: أحدها: في الامور الدنيوية كغمّ يُفرج وفقر يزال بإعطاء المال ونحوه، والثاني: فتح المستغلق من العلوم، ... إلى أن يقول: و «فتح القضية فتاحاً» فصل الأمر فيها وأزال الإغلاق عنها». وعليه فإنّ استخدام هذه المفردة هنا لأنّ الحكم والقضاء يتمّ أيضاً هناك، فضلًا عن الفصل والتفريق بينهما الذي هو أحد معاني كلمة «فتح»- ومجازاة كل بما يستحق.

في الآية الأخيرة من هذه الآيات والتي هي عبارة عن الأمر الخامس للرسول صلى الله

عليه و آله يعود القرآن إلى الحديث مرّة اخرى في مسألة التوحيد التي ابتدأ بها ليختمه بها. يقول تعالى:

«قُلْ أَرُونِى الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاءَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 104

فبعد هذه الجملة مباشرة، وبكلمة واحدة يشطب على هذه الأباطيل فيقول: «كَلَّا».

فهذه الأشياء لا تستحق أن تعبد أبداً وهذه الأوهام والتصورات ليس لها شي ء من الواقعية.

ثم لأجل تأكيد وتثبيت هذا المعنى يقول مختتماً الحديث: «بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ». فعزته وقدرته الخارقة، تقتضي الدخول في حريم ربوبيته، وحكمته تقتضي توجيه هذه القدرة في محلها.

وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَ يَقُولُونَ مَتَى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَ لَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) الدعوة العالمية: الآية الاولى من هذه الآيات، تتحدث في نبوّة الرسول صلى الله عليه و آله، والآيات التي تليها تتحدث حول الميعاد.

أشارت الآيات ابتداءً إلى شمولية دعوة الرسول صلى الله عليه و آله وعمومية نبوّته لجميع البشر فقالت: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ».

«كافّة»: من مادة «كفّ» وتعني الكفّ من يد الإنسان، وبما أنّ للإنسان يقبض على الأشياء بكفّه تارةً ويدفعها عنه بكفّه تارةً اخرى، فلذا تستخدم هذه الكلمة للقبض أحياناً، وللمنع اخرى. وهنا بمعنى «الجمع» وفي هذه الحالة يكون مفهوم الآية «إنّنا لم نرسلك إلّا لجميع الناس». أي عالمية دعوة الرسول صلى الله عليه و آله.

وبناءً على ما أشارت إليه الآيات السابقة من أنّ اللَّه سبحانه وتعالى يجمع الناس ويحكم بينهم تورد هذه الآية سؤال منكري المعاد كما يلي: «وَيَقُولُونَ مَتَى هذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».

ولكن القرآن الكريم يمتنع دائماً عن الإجابة

الصريحة على هذا السؤال وتعيين زمان وقوع البعث، ويؤكّد أنّ هذه الامور هي من علم اللَّه الخاصّ به سبحانه وتعالى، وليس لأحد غيره الإطّلاع عليها.

لذا فقد تكرّر في الآية التي بعدها، هذا المعنى بعبارة اخرى. يقول تعالى: «قُل لَّكُم مّيعَادُ

مختصر الامثل، ج 4، ص: 105

يَوْمٍ لَّاتَسْتْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ».

إنّ إخفاء تأريخ قيام الساعة- حتى على شخص الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله- كما أسلفنا- لأنّ اللَّه سبحانه وتعالى أراد لعباده نوعاً من حرية العمل مقترنة بحالة من التهيّؤ الدائم، لأنّه لو كان تاريخ قيام القيامة معلوماً فإنّ الجميع سيغطّون في الغفلة والغرور والجهل حينما يكون بعيداً عنهم، أمّا حين إقترابه منهم فستكون أعمالهم ذات جنبة اضطرارية، وفي كلتا الحالتين تتحجّم الأهداف التربوية للإنسان.

وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَ لَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَ نَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَ قَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ نَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً وَ أَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَ جَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) لمناسبة البحث الوارد في الآيات السابقة حول مواقف المشركين إزاء مسألة المعاد، تعرّج هذه الآيات إلى تصوير بعض فصول المعاد المؤلمة لهؤلاء المشركين كي يقفوا على خاتمة أعمالهم. أوّلًا يقول تعالى: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْءَانِ وَلَا بِالَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ».

أي ولا بالكتب السماوية السابقة.

فإنّ إنكار الإيمان

بكتب الأنبياء السابقين، يحتمل أن يكون المقصود به، نفي نبوّة الرسول صلى الله عليه و آله من خلال نفي الكتب السماوية الاخرى، باعتبار أنّ القرآن أكّد على موضوع ورود دلائل على نبوّة الرسول صلى الله عليه و آله في التوراة والإنجيل، ولهذا يقولون: نحن لا نؤمن لا بهذا الكتاب ولا بالكتب التي سبقته.

ثم تنتقل إلى الحديث حول وضع هؤلاء في القيامة من خلال مخاطبة الرسول صلى الله عليه و آله فيقول تعالى: «وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 106

في حين أنّ «المستضعفين» الذين اتّبعوا بجهلهم «المستكبرين» وهم الذين سلكوا طريق الغرور والتسلط على الآخرين ورسموا لهم منهجهم الشيطاني، هناك: «يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ». إنّهم يريدون بذلك إلقاء مسؤولية ذنوبهم على عاتق هؤلاء «المستكبرين»، مع أنّهم لم يكونوا حاضرين للتعامل معهم بمثل هذه القاطعية في دار الدنيا.

لكن «المستكبرين» لا يبقون على صمتهم بل: «قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم».

كلّا، فلسنا بمسؤولين، فمع إمتلاككم حرية الإرادة، استسلمتم لأحاديثنا الباطلة، وكفرتم وألحدتم متناسين أحاديث الأنبياء المنطقية، «بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ».

ولكن المستضعفين لا يقتنعون بهذا الجواب، ويعاودون القول مرّة اخرى لإثبات جرم المستكبرين: «وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَروا بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا».

فصحيح أنّنا كنّا أحراراً في القبول بذلك، ولكن باعتباركم عامل الفساد فأنتم مسؤولون ومجرمون، خاصة وأنّكم كنتم تتحدثون معنا دائماً من موقع القدرة والسلطة.

لذا فإنّ الفريقين يندمون على ما قدّمت أيديهم، المستكبرون على إضلالهم للآخرين، والمستضعفون على إيمانهم وقبولهم بتلك الأباطيل المشؤومة، ولكن لكي لا يفتضحوا أكثر فانّهم يكتمون الندم حينما

يواجهون العذاب الإلهي ... «وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْللَ فِى أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا».

فهم في الدنيا حينما يلتفتون إلى إشتباههم ويندمون لم يكونوا يمتلكون الشجاعة لإظهار ندمهم الذي هو أوّل طريق التوبة وإعادة النظر، وتلك هي الخصلة الأخلاقية الخاصة بهم والتي يمارسونها في الآخرة أيضاً.

فإنّ هؤلاء قد وجدوا نتائج أعمالهم: «هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

فالآية تشير أيضاً إلى قضية تجسم الأعمال.

التعبير ب «الذين كفروا» يشير إلى أنّ فريقي الغاوين والمغويين المستضعفين وكل الكفار يلقون ذلك المصير.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 107

وَ مَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَ قَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَ أَوْلَاداً وَ مَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَقْدِرُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَ مَا أَمْوَالُكُمْ وَ لَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَ هُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَ الَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) بعد أن كان الحديث في الآيات السابقة في الغاوين من المستكبرين، فإنّ جانباً آخر من هذا المبحث تعكسه الآيات أعلاه بطريقة اخرى، فتقول الآية المباركة: «وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ».

«نذير»: من «الإنذار» وهو الإخبار الذي فيه تخويف، وإشارة إلى أنبياء اللَّه الذين ينذرون الناس من عذاب اللَّه في قبال الانحرافات والظلامات والذنوب والفساد.

«مترفوها»: جمع «مترف» من مادة «ترف» بمعنى «التوسّع في النعمة» و (المترف) الذي قد أبطرته النعمة وسعة العيش، وأترفته النعمة أي أطغته.

تشير الآية التالية إلى المنطق الأجوف الذي يتمسك به

هؤلاء لإثبات أفضليتهم ولاستغفال العوام فتقول: «وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلدًا».

إنّ اللَّه يحبّنا، فقد أعطانا المال الوفير، والقوّة البشرية، وذلك دليل على لطفه بحقّنا وإشارة إلى مقامنا وموقعنا عنده، ولذلك لن نعاقب أبداً «وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ».

الآية التي بعدها تردّ بأرقى اسلوب على هذا المنطق الأجوف الخدّاع وتنسفه من الأساس، وبطريق مخاطبة الرسول صلى الله عليه و آله تقول الآية الكريمة: قل لهم: إنّ ربّي يرزق من يشاء ويقدر لمن يشاء، وذلك أيضاً طبق مصالح مرتبطة بامتحان الخلق وبنظام حياة الإنسان، وليس له أي ربط بقدر ومقام الإنسان عند اللَّه سبحانه وتعالى: «قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ».

وعليه فلا يجب إعتبار سعة الرزق دليلًا على السعادة، وقلّته على الشقاء، «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ». طبعاً أكثر الجهّال المغفّلين هم كذلك.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 108

ثم تتابع الآيات هذا المعنى بصراحة أكثر. تقول: «وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلدُكُم بِالَّتِى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى .

ولكن ليس معنى هذا هو حثّ الإنسان على ترك السعي والدأب اللازم لإقامة الأود، بل المقصود هو التأكيد على أنّ امتلاك الإمكانات الاقتصادية والقوة البشرية الواسعة لا يمثّل أبداً أيّة قيمة معنوية للإنسان عند اللَّه.

ثم تتناول الآية موضوع المعيار الأصلي لتقييم الناس، وما يسبّب قربهم منه (على شكل استثناء منفصل) فتقول: «إِلَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِى الْغُرُفَاتِ ءَامِنُونَ».

وعليه فجميع المعايير تعود أصلًا إلى هذين الأمرين «الإيمان» و «العمل الصالح».

هنا يشطب القرآن وبصراحة قلّ نظيرها على كل الظنون المنحرفة والخرافات بخصوص عوامل القرب من اللَّه.

كلمة «ضعف» ليست بمعنى «مضاعفة الشي ء مرتين» فقط، بل بمعنى «أضعاف مضاعفة لأكثر من مرتين»، وقد وردت في هذه الآية بهذا المعنى.

«غرفات»: جمع «غرفة» بمعنى

الحجرات العلوية من البناء، والتي غالباً ما تكون إضاءتها أكثر وهواؤها أفضل، وبعيدة عن الآفات.

التعبير ب «آمنون» فيما يخصّ أهل الجنة، تعبير جامع يعكس حالة الطمأنينة الروحية والجسدية لهم من كافّة النواحي.

الآية التالية تصف الفريق المقابل لهؤلاء، فتقول: أمّا هؤلاء الذين يسعون ويجتهدون لتسفيه آياتنا، لا يؤمنون ولا يتركون غيرهم يسيرون في طريق الإيمان، ويتوهّمون أنّهم يستطيعون الفرار من يد قدرتنا، هؤلاء يحضرون في عذاب أليم يوم القيامة «وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِى ءَايَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولئِكَ فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ».

هؤلاء هم الذين اعتمدوا على أموالهم وأولادهم وكثرة عددهم لتكذيب الأنبياء، وعملوا على إغواء عباد اللَّه.

«معاجزين»: كما ذهب بعض أرباب اللغة إلى أنّ معناه أنّ هؤلاء تصوروا أنّهم يستطيعون الفرار من دائرة قدرة اللَّه تعالى وجزائه وعقابه، إلّاأنّ هذا التوهّم باطل وسراب خادع.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 109

قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ وَ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَ هؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَ لَا ضَرّاً وَ نَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) نفور المعبودين من عابديهم: تعود هذه الآيات لتؤكّد مرّة اخرى خطأ الذين يتوهمون بأنّ أموالهم وأولادهم سبب لقربهم من اللَّه فتقول: «قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ».

ثم تضيف الآية: «وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَىْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ».

وفي الكافي: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من أيقن بالخلف سخت نفسه بالنفقة».

والجدير بالتذكير هو أنّ

الإنفاق يجب أن يكون من المال الحلال والكسب المشروع، وإلّا فلا قبول لغيره عند اللَّه ولا بركة فيه.

فمع أنّ محتوى هذه الآية يؤكّد ما عرضته الآيات السابقة إلّاأنّ هناك ما هو جديد من جهتين:

الاولى: أنّ الآية السابقة التي عرضت نفس المفهوم، كانت تتحدث عن أموال وأولاد الكفار، بينما الآية محل البحث باحتوائها على كلمة «عباد» تشير إلى المؤمنين.

الثانية: الآية السابقة أشارت إلى سعة الرزق وضيقه بالنسبة إلى مجموعتين مختلفتين، في حين أنّ هذه الآية تشير إلى حالتين مختلفتين بالنسبة لشخص واحد، حيناً يتّسع رزقه وحيناً يضيق.

ولأنّ فريقاً من الأثرياء الظالمين الطغاة كانوا في صفّ المشركين، وادّعوا بأنّهم يعبدون الملائكة وأنّهم شفعاؤهم يوم القيامة، فقد ردّ القرآن على هذا الإدعاء الباطل فقال: «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلِكَةِ أَهؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ».

والهدف من هذا السؤال هو أن تظهر الحقائق من إجابة الملائكة، لكي يخسأ هؤلاء الضالّون ويخيب ظنّهم، ويعلموا بأنّ الملائكة متنفّرين من أعمالهم، فيصيبهم اليأس إلى

مختصر الامثل، ج 4، ص: 110

الأبد. ذكر (الملائكة) من بين المعبودات التي كان المشركون يعبدونها، إمّا لأنّ الملائكة أشرف المخلوقات التي عبدها الضالّون، أو أنّه من قبيل أنّ عبدة الأوثان كانوا يعتقدون بأنّ الأحجار والأخشاب هي مظهر ونموذج لموجودات علوية (كالملائكة وأرواح الأنبياء)، ولذا عبدوها.

والآن لننظر ماذا تقول الملائكة للإجابة على سؤال الباري ء عزّ وجل؟ لقد اختارت الملائكة في الحقيقة أكثر الأجوبة شمولية وأعظمها أدباً: «قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُؤْمِنُونَ».

والمقصود (بالجن) هو (الشيطان) وسائر الموجودات الخبيثة التي شجّعت عبدة الأوثان على ذلك العمل، وعليه فإنّ المراد من عبادة الجن هي تلك الطاعة والإنقياد لأوامرها والرضى بأضاليلها.

لذا- وكاستخلاص للنتيجة- تقول الآية الكريمة التي

بعدها: «فَالْيَوْمَ لَايَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفَعًا وَلَا ضَرًّا». وبناءً على ذلك فلا الملائكة- الذين هم ظاهراً معبودون- يستطيعون الشفاعة لهم، ولا هم يستطيعون مساعدة بعضهم البعض.

«وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ».

التعبير عن «الكفر» ب «الظلم». أو عن «الكافرين والمشركين» ب «الظالمين»، ذلك لأنّهم قبل كل شي ء ظلموا أنفسهم بخلعهم تاج العبودية للَّه عن رؤوسهم.

وفي الحقيقة فإنّهم سيعاقبون يوم القيامة على شركهم وعلى إنكارهم للمعاد.

وَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَ قَالُوا مَا هذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَ مَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَ مَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ مَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) بأيّ منطق ينكرون آيات اللَّه: تعود هذه الآيات لتكمل البحث الذي تناولته الآيات

مختصر الامثل، ج 4، ص: 111

السابقة حول المشركين الكفار وأقوالهم يوم القيامة، فتتحدث حول وضع هؤلاء في الدنيا ومواقفهم عند سماعهم القرآن حتى يتّضح أنّ مصيرهم الاخروي المشؤوم إنّما هو نتاج تلك المواقف الخاطئة التي اتّخذوها إزاء آيات اللَّه في الدنيا. تقول الآية الكريمة الاولى: «وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالُوا مَا هذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَاؤُكُمْ».

فهذا أوّل ردّ فعل لهم إزاء «الآيات البينات» وهو السعي إلى تحريك حس العصبية في هؤلاء القوم المتعصبين.

ثم توضّح الآية مقولتهم الثانية التي قصدوا بها إبطال دعوة النبي صلى الله عليه و آله فتقول: «وَقَالُوا مَا هذَا إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى».

«إفك»: بمعنى كل مصروف عن وجهه الذي يحق

أن يكون عليه.

وأخيراً، كان الإتّهام الثالث الذي ألصقوه بالرسول صلى الله عليه و آله هو (السحر) كما نرى ذلك في آخر هذه الآية: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ».

في الآية التي بعدها، يشطب القرآن الكريم على جميع تلك الإدّعاءات الواهية، فيقول:

«وَمَا ءَاتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ».

وهي إشارة إلى أنّ هذه الإدّعاءات يمكنها أن تكون مقبولة فيما لو جاءهم رسول من قبل بكتاب سماوي يخالف مضمونه الدعوة الجديدة، فلا بأس أن ينبروا لتكذيبها. أمّا من لا يعتمد إلّاعلى فكره الشخصي- بدون أي وحي من السماء- وبدون أن يكون له نصيب من علم، فلا يحق له الحكم لمجرد تلفيقه الخرافات والأوهام.

الآية الأخيرة من هذه الآيات، تهدّد تلك المجموعة المتمردة بكلمات بليغة مؤثرة فتقول:

«وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ» في حين أنّ هؤلاء لم يبلغوا في القوة والقدرة عشر ما كان لُاولئك الأقوام «وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا ءَاتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِى فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ».

فمدنهم المدمّرة بضربات العقوبة الإلهية الساحقة ليست ببعيدة عنكم ... فهي في الشام القريب منكم، فليكونوا لكم مرآةً للعبرة، واستمعوا إلى النصائح التي يقولها الدمار، وقارنوا مصيركم بمصيرهم، فلا السنّة الإلهية قابلة للتغيير ولا أنتم أقوى منهم.

قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَ فُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 112

الثورة الفكرية أساس لأي ثورة أصيلة: في هذا المقطع من الآيات والآيات التالية، والتي تشكّل أواخر سورة سبأ المباركة، يُؤمر الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله مرّة اخرى بدعوة هؤلاء بالأدلة المختلفة ليؤمنوا بالحق، ويرجعوا عن ضلالهم. ففي الآية الاولى إشارة إلى اللبنة

الأساسية في كل التحولات والتبدّلات الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية والثقافية، فتقول: «قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ».

الملفت للنظر أنّ القرآن الكريم يقول هنا «تتفكّروا» دون أن يذكر بماذا؟ فحذف المتعلق دليل على العموم، أي في كل شي ء، في الحياة المعنوية والمادية، في الامور الكبيرة والصغيرة، وبكلمة: في كل أمر يجب التفكر أوّلًا، وأهمّ من ذلك كله هو التفكر للعثور على الإجابة للأسئلة الأربعة التالية: من أين جئت؟ لأيّ شي ء أتيت؟ إلى أين أذهب؟ وأين أنا الآن؟

تعبير «صاحبكم» إشارة إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وإنّه ليس نكرة بالنسبة لكم، لقد عرفتموه بالأمانة والصدق والإستقامة.

«جنّة»: بمعنى «جنون» وفي الأصل من مادة «جن» بمعنى ستر الشي ء عن الحاسّة، ومن كون أنّ (المجنون) سُتر عقله، فقد اطلق عليه هذا التعبير، والجدير بالملاحظة هنا هو أنّ العبارة تريد الكشف عن هذه الحقيقة، وهي أنّ من يدعو إلى التفكر والإنتباه كيف يكون هو مجنوناً.

جملة «إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم» تلخص رسالة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله في مسألة «الإنذار» أي:

التحذير من المسؤولية، ومن المحكمة الإلهية، والعقاب الإلهي.

فالآية السابقة كانت دعوة للتفكر ونفي أي حالة من عدم التوازن الروحي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، وفي مطلع هذه الآيات، يتحدث القرآن في عدم مطالبة الرسول صلى الله عليه و آله بأي أجر مقابل تبليغ الرسالة. تقول الآية الاولى: «قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ».

أنا دعوتكم للتفكر، والآن تأمّلوا، واسألوا وجدانكم، أي سبب يدعوني لأن أنذركم من العذاب الإلهي الشديد؟، وأي ربح

سوف أجنيه من هذا العمل، لأنّي أساساً لم اطالبكم بأي أجر أو جزاء.

وأنّكم إن لاحظتم أنّي في بعض ما أخبرتكم به عن اللَّه سبحانه وتعالى، قلت لكم: «لَّا

مختصر الامثل، ج 4، ص: 113

أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى «1». فهذا أيضاً يعود نفعه إليكم، لأنّ مودّة ذي القربى ترتبط بمفهوم (الإمامة والولاية) واستمرار خطّ النبوّة، الذي هو ضروري لإدامة هدايتكم.

ثم تختم الآية بالقول: «وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ شَهِيدٌ». فإن كنت اريد أجري من اللَّه وحده فلأنّه وحده عالم بكل أعمالي ومطّلع على نواياى.

بالإلتفات إلى ما قيل حول حقانية دعوة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، تضيف الآية التي بعدها قائلة أنّ القرآن واقع غير قابل للإنكار لأنّه ملقى من اللَّه سبحانه وتعالى على قلب الرسول صلى الله عليه و آله: «قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلمُ الْغُيُوبِ».

«يقذف»: من مادة «قذف» وهو الرمي البعيد. والمقصود ب «يقذف بالحق» هو الكتب السماوية والوحي الإلهي على قلوب الأنبياء والمرسلين، ولأنّه سبحانه وتعالى هو علّام الغيوب، فهو يعلم بالقلوب المهيّأة، فينتخبها ويقذف الوحي فيها حتى ينفذ إلى أعماقها.

ويحتمل أن يكون المقصود بتعبير «القذف» هنا هو نفوذ حقّانية القرآن إلى نقاط العالم القريبة والبعيدة، وهي إشارة إلى أنّ هذا الوحي السماوي سيضي ء جميع العالم بنوره في نهاية الأمر.

بعدئذ ولزيادة التأكيد يضيف سبحانه وتعالى: «قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ». وعليه فلن يكون للباطل أي دور مقابل الحق، لا خطّة اولى جديدة، ولا خطّة معادة، ولهذا السبب فلم يتمكّن الباطل من طمس نور الحق ومحو أثره من القلوب.

ثم يضيف تعالى لأجل إيضاح أنّ ما يقوله صلى الله عليه و آله هو من اللَّه، وأنّ كل هداية منه، وأن

ليس هناك أدنى خطأ أو نقص في الوحي الإلهي: «قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِى وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبّى». أي: إنّني لو اتّكلت على نفسي فسوف أضلّ، لأنّ الإهتداء إلى طريق الحق من بين أكداس الباطل ليس ممكناً بغير إمداد اللَّه، ونور الهداية الذي ليس فيه ضلال وتيه هو نور الوحي الإلهي.

وفي ختام الآية يضيف تعالى: «إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ».

______________________________

(1) سورة الشورى 23.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 114

قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَ مَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَ مَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَ إِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) ليس للكافرين مفرّ: الآيات الأخيرة من سورة سبأ تعود إلى الحديث في المشركين المعاندين الذين مرّ الحديث فيهم في الآيات السابقة عن طريق مخاطبة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله فتصوّر حال تلك المجموعة عند وقوعها في قبضة العذاب الإلهي، كيف تفكّر في الإيمان، حين لا يكون لإيمانهم أدنى فائدة. يقول تعالى: «وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ».

وذلك الصراخ والفزع والإضطراب تتحدث عن الدنيا وعذاب الإستئصال، أو لحظة تسليم الروح، إذ يقول تعالى في الآية الأخيرة من هذا المقطع: «وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ».

والمقصود من جملة «أُخِذُوا مِن مَكَانٍ قَرِيبٍ» هو أنّ هؤلاء الأفراد الكافرين والظالمين، ليس فقط لا يمكنهم الفرار من يد القدرة الإلهية فحسب، بل إنّ اللَّه سبحانه وتعالى يأخذهم بالعذاب من مكان قريب منهم جدّاً.

الآية التي بعدها، تعرض

وضع هؤلاء بعد أن أخذهم العذاب الإلهي تقول الآية الكريمة:

«وَقَالُوا ءَامَنَّا بِهِ». ولكن «أَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ».

نعم فبحلول الموت وعذاب الإستئصال اغلقت أبواب العودة كليّاً، وحيل كالسدّ المحكم بين الإنسان وبين أن يكفّر عن ذنوبه، لذا فإنّ إظهار الإيمان في ذلك الحين، كأنّه كائن من مكان بعيد، وهو إيمان إضطراري بسبب الخوف الشديد من العذاب الذي يعاين هناك، مثل ذلك الإيمان أصلًا لا قيمة له.

«التناوش»: من مادة «نوش» بمعنى التناول، وبعضهم اعتبروا أنّها بمعنى «التناول بسهولة». أي كيف يتناولون الإيمان من مكان بعيد ولم يكونوا يتناولونه من قريب.

كيف يستطيعون الآن وبعد أن انتهى كل شي ء أن ينبروا لجبران خطاياهم ويؤمنوا، في حين أنّهم قبل هذا كفروا: «وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 115

ولم يكتفوا بالكفر فقط، بل إنّهم ألصقوا بالرسول صلى الله عليه و آله وبتعاليمه مختلف أنواع التّهم، وحكموا أحكاماً خاطئة فيما يخصّ (عالم الغيب- والقيامة- والنبوّة): «وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ».

«القذف»: الرمي من بعيد؛ و «الغيب» هو عالم ماوراء الحس، والجملة كناية لطيفة عمّن يطلق أحكامه على عالم ما وراء الطبيعة بلا سابق علم أو معرفة، كمن يرمي شيئاً من نقطة بعيدة، فقلّما يصيب الهدف، فظنونهم وأمانيهم وأحكامهم لا تصيب أهدافها أيضاً.

ثم يضيف تعالى: «وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ».

ففي لحظة مؤلمة فصل بينهم وبين كل ثرواتهم وأموالهم، وقصورهم ومقاماتهم، وأمانيهم، فكيف سيكون حالهم؟ هؤلاء الذين كانوا يعشقون الدرهم والدينار، والذين كانت قلوبهم لا تطاوعهم في التخلّي عن أبسط الإمكانات المادية ... كيف سيكون حالهم في تلك اللحظة التي يجب عليهم فيها أن يودّعوا كل ذلك وداعاً أخيراً، ثم يغمضون عيونهم ويسيرون باتّجاه مستقبل مظلم

موحش.

«نهاية تفسير سورة سبأ»

مختصر الامثل، ج 4، ص: 117

35. سورة فاطر

محتوى السورة: يمكن تلخيص آيات هذه السورة في خمسة أقسام:

1- قسم مهم من آيات هذه السورة يتحدث حول آثار عظمة اللَّه في عالم الوجود، وأدلة التوحيد.

2- قسم آخر من آياتها يبحث في ربوبية اللَّه، وعن خالقيته ورزاقيته، وخلق الإنسان من التراب ومراحل تكامل الإنسان.

3- قسم آخر يتحدث حول المعاد ونتائج الأعمال في الآخرة، ورحمة اللَّه الواسعة في الدنيا، وسنّته الثابتة في المستكبرين.

4- قسم من الآيات يشير إلى مسألة قيادة الأنبياء وجهادهم الشديد والمتواصل ضدّ الأعداء المعاندين، ومواساة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله في هذا الخصوص.

5- القسم الأخير منها يتعرّض للمواعظ والنصائح الإلهية فيما يخصّ المواضيع المذكورة أعلاه، ويعتبر مكمّلًا لها.

سمّيت هذه السورة ب «فاطر» أو «الملائكة» لابتداء آياتها بآية ذكر فيها «فاطر» و «الملائكة».

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأ سورة الملائكة،

مختصر الامثل، ج 4، ص: 118

دعته يوم القيامة ثلاثة أبواب من الجنة أن ادخل من أيّ الأبواب شئت».

ومع الإلتفات إلى ما نعلمه من أنّ أبواب الجنة هي تلك العقائد والأعمال الصالحة التي سبّبت الوصول إلى الجنة، فيمكن أن تكون الرواية السالف ذكرها إشارة إلى أبواب القاعدة الإعتقادية الثلاثية الأساس «التوحيد- المعاد- النبوّة».

ونقول كما قلنا سابقاً بأنّ القرآن برنامج عمل، وتلاوته بداية للتفكر والإيمان الذي هو بدوره وسيلة للعمل بمحتوى الآيات، وكل هذا الثواب العظيم يتحقق بهذه الشروط.

الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَ ثُلَاثَ وَ رُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَ مَا

يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) فاتح مغاليق الأبواب: تبدأ هذه السورة بحمد اللَّه والثناء عليه لخلقه هذا الكون الفسيح.

يقول تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

«فاطر»: من مادة «فطر» وأصله الشقّ طولًا، لأنّ خلق الموجودات يشبه شقّ ظلمة العدم وظهور نور الوجود، استخدم هذا التعبير فيما يخصّ الخلق.

ولأنّ تدبير امور هذا العالم قد نيطت من قبل الباري ء عزّ وجل- بحكم كون عالمنا عالم أسباب- بعهدة الملائكة، فالآية تنتقل مباشرةً إلى الحديث في خلق الملائكة وقدراتها العظيمة التي وهبها اللَّه إيّاها. «جَاعِلِ الْمَلِكَةِ رُسُلًا أُولِى أجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِى الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

إنّ المقصود من الرسالة مفهوم واسع يشمل كلًا من «الرسالة التشريعية» و «الرسالة التكوينية».

«أجنحة»: جمع «جناح» ما يستعين به الطائر على الطيران، وهو بمثابة اليد في الإنسان،

مختصر الامثل، ج 4، ص: 119

ولأنّ الجناح في الطائر يستخدم كوسيلة مساعدة على الإنتقال والحركة والفعالية، فقد استخدمت هذه الكلمة كناية عن وسيلة الحركة ذاتها وعامل القدرة والاستطاعة؛ والمقصود في الآية هو القدرة على الإنتقال والتمكن من الفعل.

بعد الحديث عن خالقية اللَّه سبحانه وتعالى، ورسالة الملائكة الذين هم واسطة الفيض الإلهي، تنتقل الآيات إلى الحديث عن رحمة اللَّه سبحانه، والتي هي الأساس لكل عالم الوجود. تقول الآية الكريمة: «مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

الخلاصة أنّ تمام خزائن الرحمة عنده، وهو يفيض منها على كل من يراه أهلًا لها.

وتشير الآية التالية

إلى «توحيد العبادة» على أساس «توحيد الخالقية والرازقية» فتقول الآية الكريمة: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ».

فكّروا ملياً ما هو منشأ كل هذه المواهب والبركات والإمكانيات الحياتية التي قيّضت لكم ... «هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ».

فإذا علمتم أنّ مصدر كل هذه البركات هو اللَّه، فاعلموا أنّ: «لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ».

وعليه فكيف تنحرفون عن طريق الحقّ إلى الباطل، وتسجدون للأصنام بدلًا من السجود للَّه سبحانه؟ «فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ».

وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَ لَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) لا يغرنّكم الشيطان والدنيا: بعد أن كان الحديث حول توحيد الخالقية والرازقية ينتقل القسم الثاني من هذه المجموعة من الآيات إلى الحديث في تفصيل البرامج العملية للرسول صلى الله عليه و آله ويوجّه الخطاب إليه أوّلًا، ثم لعموم الناس، وبيان المناهج العملية لهم بعد تفصيل البرامج العقائدية سابقاً.

في البداية تقدم الآيات للرسول درس الإستقامة على الصراط السوي، والذي هو أهمّ

مختصر الامثل، ج 4، ص: 120

الدروس له، فتقول الآية الكريمة: «وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ». فهؤلاء الرسل الذين سبقوك قاوموا، ولم يهدأ لهم بال في أداء رسالتهم، وأنت أيضاً يجب أن تقف بصلابة، وتؤدّي رسالتك، والبقية بعهدة اللَّه: «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ». فهو الناظر والرقيب على كل شي ء، وسوف يحاسب على جميع الأعمال. فهو تعالى لا يتغافل عن المشاق التي تتحمّلها في هذا الطريق،

كما أنّه لن يترك هؤلاء المكذبين المخالفين المعاندين يمضون دون عقاب.

ثم تنتقل الآيات لتوضيح أهم البرامج للبشرية، فتقول الآية الكريمة: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ». فالقيامة والحساب والكتاب والميزان والجزاء والعقاب والجنة والنار كلّها وعود إلهية لا يمكن أن يُخلفها اللَّه تعالى.

ومع الإنتباه إلى هذه الوعود الحقّة: «فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ». فلا ينبغي أن تخدعكم الحياة الدنيا، ولا يخدعكم الشيطان بعفو اللَّه ورحمته ..

أجل، إنّ عوامل الإثارة، وزخارف الدنيا وزبارجها، إنّما تريد أن تملأ قلوبكم، وتلهيكم عن تلك الوعود الإلهية العظيمة.

«غَرور»: صيغة مبالغة بمعنى الخدّاع، والظاهر أنّه إشارة الشيطان.

الآية التالية تنذر وتنبّه جميع المؤمنين فيما يخصّ مسألة وساوس الشيطان ومكائده والتي تعرّضت لها الآية السابقة فتقول: «إِنَّ الشَّيْطنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا».

تلك العداوة التي شرع بها الشيطان من أوّل يوم خُلق فيه آدم عليه السلام.

في آخر الآية يضيف تعالى للتأكيد أكثر: «إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ». «حزب»: في الأصل بمعنى الجماعة التي لها فعالية، ولكنّها تطلق عادةً على كل مجموعة تتبع برنامجاً وهدفاً خاصاً.

إنّ الشيطان يدعو حزبه إلى المعاصي والذنوب ولوث الشهوات إلى الشرك والطغيان والإضطهاد، وبالنتيجة إلى جهنم وبئس المصير.

آخر آية من هذه الآيات توضّح عاقبة «حزب اللَّه» السعيدة وخاتمة «حزب الشيطان» المريرة، فتقول: «الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ».

إنّ الكفر وحده يكفي للخلود في عذاب السعير، بينما الإيمان بدون العمل لا يكفي لتحقيق النجاة.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 121

أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) وَ اللَّهُ الَّذِي

أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَ الَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَ مَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) تبيّن ممّا مرّ تقسيم الناس إلى مجموعتين «المجموعة المؤمنة» و «المجموعة الكافرة» أو «حزب اللَّه» و «حزب الشيطان»، وتنتقل هذه الآيات إلى بيان إحدى الخصائص المهمة لهاتين المجموعتين والتي هي في الواقع المصدر لسائر برامجهما. تقول الآية الاولى: «أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَنًا». هل هو كمن يرى الحقائق كما هي من حيث الحسن والقبح؟!

إنّ هذه القضية هي المفتاح لكل مصائب الأقوام الضالة والمعاندة، الذين يرون أعمالهم القبيحة أعمالًا جميلة، وذلك لإنسجامها مع شهواتهم وقلوبهم المعتمة.

أمّا من الذي زيّن سوء أعمال هؤلاء في أنظارهم؟

مما لا شك فيه أنّ العامل الأصلي لذلك هو الهوى والشيطان، ولكن لأنّ اللَّه هو الخالق لذلك الأثر في أعمالهم، فيمكن نسبة ذلك إلى اللَّه تعالى، لأنّ الإنسان وفي بداية طريق المعاصي يشعر بعدم الإرتياح حين إرتكاب المعصية، لسلامة فطرته وحيوية وجدانه وسلامة عقله، ولكن بتكرار تلك الأعمال يقلّ عدم الإرتياح إلى أن يصل إلى درجة عدم الإكتراث. ثم إذا استمرّ في ذلك الطريق يمسي القبيح جميلًا في نظره، حتى يصل إلى أن يتوهّم أنّ ذلك من مفاخره وفضائله، والحال أنّه يغطّ في بِركة آسنةٍ من التعاسة والشقاء.

ثم يضيف القرآن موضّحاً علّة الفرق بين الفريقين فيقول: «فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ».

وواضح أنّ هذه المشيئة الإلهية توأم لحكمته تعالى، وإنّما تعطى لكل ما يناسبه، لذا فإنّ الآية تضيف في الختام: «فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ».

ذلك

لأجل: «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 122

واستناداً إلى البحوث التي سبقت حول الهداية والضلالة والإيمان والكفر، تنتقل الآية التالية إلى بحث المبدأ والمعاد بعبارات مضغوطة، وتقرن آيات المبدأ بإثبات المعاد بدليل واحد ملفت للنظر، تقول الآية الكريمة: «وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذلِكَ النُّشُورُ». نظام دقيق يتحكّم في حركة الرياح، ثم في حركة السحاب، ثم في نزول قطرات المطر الباعثة للحياة، ثم في حياة الأرض الميتة، وهو أحسن دليل على أنّ يد القدرة الحكيمة هي من وراء ذلك النظام تقوم على تدبير اموره.

الآن، وبعد هذا المبحث التوحيدي، تشير الآية إلى الإشتباه الخطير الذي وقع فيه المشركون لإعتقادهم بأنّ العزّة تأتيهم من أصنامهم، فتقول الآية: «مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا».

«العزّة»: حالة مانعة للإنسان من أن يُغلب ... من قولهم: أرض عزاز، أي صُلبة.

ولأنّ اللَّه سبحانه وتعالى هو الذات الوحيدة التي لا تُغلب، وجميع المخلوقات بحكم محدوديتها قابلة لأن تُغلب، وعليه فإنّ العزّة جميعها من اللَّه، وكل من اكتسب عزّة فمن بحر عزّته اللامتناهي.

في كتاب كفاية الأثر عن جنادة بن أبي اميّة قال: دخلت على الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام في مرضه الذي توفّي فيه وبين يديه طشت يقذف فيه الدم ويخرج كبده قطعة قطعة، من السم الذي أسقاه معاوية (لعنه اللَّه)، فقلت: يا مولاي ما لك لا تعالج نفسك؟

فقال: «يا عبد اللَّه، بماذا اعالج الموت؟»

قلت: إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون.

ثم التفت إليّ فقال: «لقد عهد إلينا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّ هذا الأمر يملكه اثنا عشر إماماً من ولد علي وفاطمة، ما منّا إلّامسموم أو مقتول».

ثم رفعت الطشت وبكى صلوات اللَّه عليه وآله قال: فقلت له: عظني يابن رسول اللَّه قال: «نعم ... وإذا أردت عزّاً بلا عشيرة، وهيبة بلا سلطان، فاخرج من ذلّ معصية اللَّه إلى عزّ طاعة اللَّه عزّ وجل ...» الحديث.

ثم توضّح الآية طريق الوصول إلى (العزة)، فيقول تعالى: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ».

فقد فسّر «الكلم الطيب» بأنّه العقائد الصحيحة فيما يخصّ المبدأ والمعاد والنبوّة.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 123

ثم تنتقل الآية إلى ما يقابل كل ذلك فتقول: «وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ».

«يبور»: من مادة «بوار» و «بوران» في الأصل بمعنى الكساد المفرط، ولأنّ مثل هذا الكساد يكون سبباً للهلاك، فقد استخدمت هذه الكلمة للتعبير عن الهلاك والفناء. وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَ مَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَ لَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَ مَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَ مَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَ هذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَ تَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) مع الإلتفات إلى ما كان من حديث في الآيات السابقة حول التوحيد والمعاد وصفات اللَّه، تتعرض هذه الآيات أيضاً إلى قسم آخر من آيات «الأنفس والآفاق» التي تدلّل على قدرة اللَّه من جانب، وعلى علمه من جانب آخر، وقضية إمكانية المعاد من جانب ثالث.

في البداية تشير إلى خلق الإنسان في مراحله المختلفة فتقول: «وَاللَّهُ خَلَقَكُم مّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا».

وهذه ثلاث مراحل من مراحل خلق

الإنسان: الطين- والنطفة- ومرحلة الزوجية.

بديهي أنّ الإنسان من التراب، إذ إنّ آدم عليه السلام خلق من تراب، كما أنّ جميع المواد سواء التي يتشكّل منها جسم الإنسان، أو التي يتغذّى عليها، أو التي تنعقد منها نطفته، جميعها تنتهي إلى مواد هي ذاتها التي يحتويها التراب.

ثم ينتقل إلى المرحلة الرابعة والخامسة، «حمل النساء» و «الولادة» فيقول تعالى: «وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ».

أين ذلك التراب الميّت الجامد من الإنسان الحي العاقل الفطن المبتكر؟! وأين تلك النطفة الحقيرة التي تتكوّن من بضع قطرات من الماء المتعفن من ذلك الإنسان الراشد الجميل والمجهز بالحواس والأجهزة العضوية المختلفة.

ثم تشير الآية إلى المرحلتين السادسة والسابعة من هذا البرنامج المذهل بانتقالها إلى

مختصر الامثل، ج 4، ص: 124

حلقة اخرى، فتذكر مراحل العمر المختلفة والعوامل المؤثّرة في زيادته ونقصانه فتقول الآية الكريمة: «وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِى كِتَابٍ». «معمّر»: من مادة «عُمْر» في الأصل من «العمارة» نقيض الخراب، والعمر اسم لمدّة عمارة البدن بالحياة خلال مدة معيّنة.

المقصود من «الكتاب» هو العلم الإلهي اللامحدود.

وأخيراً تختم الآية بهذه الجملة: «إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ».

فخلق هذا الموجود العجيب من التراب، وبدء خلق إنسان كامل من «ماء النطفة» وكذلك المسائل المرتبطة بتحديد الجنس، ثم الزوجية، والحمل، والولادة، وزيادة أو نقص العمر سواء بلحاظ القدرة أو بلحاظ العلم والحسابات كلها بالنسبة إليه تعالى سهلة وبسيطة، وذلك بمجموعه يمثّل جانباً من «آيات الأنفس» التي تربطنا ببداية عالم الوجود والتعرّف عليه من جهة، كما تعتبر أدلّة حيّة على مسألة إمكانية المعاد من جهة اخرى.

إنّ هناك سلسلة من العوامل الطبيعية التي تؤثّر على طول أو قصر العمر، والتي أصبح أكثرها معروفاً عند الناس، كالتغذية

الصحيحة بعيداً عن الإفراط والتفريط، العمل وإدامة الحركة، تحاشي المواد المخدّرة، والإدمانات الخطرة والمشروبات الكحولية، الإبتعاد عن المهيّجات المستمرة، التمسك بإيمان قوي يساعد الإنسان على العيش بإطمئنان وهدوء في الملمّات، ويعطيه القدرة على مواجهة ذلك.

وإضافة إلى ذلك، فإنّ هناك عوامل اخرى والروايات أكّدت عليها، وكنموذج نورد الروايات التالية:

أ) في مكارم الأخلاق للطبرسي عن الرسول صلى الله عليه و آله قال: «إنّ الصدقة وصلة الرحم تعمران الديار وتزيدان في الأعمار».

ب) وفي وسائل الشيعة عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «البر وصدقة السرّ ينفيان الفقر ويزيدان في العمر، ويدفعان عن سبعين ميتة سوء».

تشير الآية التالية- التي تعتبر قسماً آخر من آيات الآفاق الدالة على عظمته وقدرته سبحانه وتعالى- إلى خلق البحار وبركاتها وفوائدها، فتقول الآية الكريمة: «وَمَا يَسْتَوِى الْبَحْرَانِ هذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ».

فمع أنّ كلا البحرين في الأصل كانا بصورة قطرات من الماء الصافي والسائغ نزلت من

مختصر الامثل، ج 4، ص: 125

السماء إلى الأرض، وأنّ كليهما من أصل واحد، إلّاأنّهما يظهران على هيئتين متفاوتتين تماماً وبفوائد متفاوتة أيضاً.

والعجيب أنّ الإنسان يحصل على السمك الطازج من كل منهما: «وَمِن كُلّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا». علاوة على إمكانية الإفادة من كليهما للنقل والإنتقال «وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

يستخرج من البحار وسائل الزينة المختلفة من أمثال (اللؤلؤ- والمرجان- والصدف- والدرّ)، وتركيز القرآن على ذكر هذه المسألة لأنّ روح الإنسان تختلف عن الحيوان باحتوائها على أبعاد مختلفة منها «الحس الجمالي» الذي هو منبع ظهور جميع المسائل الذوقية والفنيّة والأدبية التي يؤدّي إشباعها بصورة صحيحة إلى إشاعة السرور في النفس.

إنّ البضائع التي يتمّ حملها ونقلها عبر البحار، وكذا أعداد المسافرين الذين يتمّ

نقلهم من مكان إلى آخر، على درجة من الكثرة بحيث لا يمكن مقايستها مع أيّة من وسائل النقل الاخرى.

وتأكيد القرآن الكريم على مفهوم «لحماً طريّاً» إشارة عميقة المحتوى لفوائد التغذية بهذه اللحوم في مقابل أضرار اللحوم القديمة والمعلّبة وأمثال ذلك.

جملة «لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ» لها معنى واسع وشامل لكل فعالية اقتصادية تعتمد على البحر.

يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَ يُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَ لَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَ لَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) تعاود هذه الآيات الإشارة إلى قسم آخر من آيات التوحيد والنعم الإلهية اللامتناهية، لكي تدفع الإنسان مع تعريفه بتلك النعم إلى شكرها ومعرفة المعبود الحقيقي، وليرجع عن أي شرك أو عبادة خرافية. يقول تعالى: «يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ».

«يولج»: من مادة «إيلاج» بمعنى الدخول في مضيق. ويمكن أن يكون إشارة إلى أحد

مختصر الامثل، ج 4، ص: 126

المعنيين أو كليهما، أي: الزيادة والنقص التدريجي في الليل والنهار على مدار السنة، مما يؤدي إلى حصول الفصول المختلفة بكل آثارها وبركاتها، أو الإنتقال التدريجي من الليل إلى النهار وبالعكس، وذلك بواسطة الشفق والغسق الذي يقلّل من مخاطر الإنتقال المفاجى ء من النور إلى الظلام وبالعكس. ثم يشير إلى مسألة تسخير الشمس والقمر فيقول تعالى: «وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ».

وأي تسخير أفضل من حركة هذين الكوكبين باتّجاه تحقيق المنافع المختلفة للبشر، وهذا التسخير يعتبر مصدراً لمختلف أنواع البركات في حياة البشر.

ومع ما تتمتّع به الشمس والقمر في أفلاكها من مسير دقيق ومنتظم لتؤدّي

المنفعة المناسبة والجيّدة للبشر، فإنّ النظام الذي يحكمها ليس بخالد. لذا يشير تعالى إلى ذلك بعد ذكر التسخير فيقول: «كُلٌّ يَجْرِى لِأَجَلٍ مُّسَمًّى».

ثم يقول تعالى مسلّطاً الضوء على نتيجة هذا البحث التوحيدي: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ».

اللَّه الذي قرّر نظام النوم والظلام والحركات الدقيقة للشمس والقمر بكل بركاتها. «لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ».

«قطمير»: هو الأثر في ظهر النواة، وهنا كناية عن موجودات حقيرة تافهة.

ثم تضيف الآية: «إِن تَدْعُوهُمْ لَايَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ»، لأنّها قطع من الحجر والخشب لا أكثر، جمادات لا شعور لها، «وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ».

إذ اتّضح أنّها لا تملك نفعاً ولا ضرّاً حتى بمقدار (قطمير).

وأدهى من ذلك «وَيَوْمَ الْقِيمَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ».

ما ورد في هذه الآية شبيه بما ورد في الآية (28) من سورة يونس حيث يقول تعالى:

«وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ».

ثم يقول تعالى في ختام الآية من أجل تأكيد أكثر أن لا أحد يخبرك عن جميع الحقائق كما يخبرك اللَّه تعالى: «وَلَا يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ».

فإذا قالت الآية أنّ الأصنام تتنكّر لكم في يوم القيامة، وتتضايق منكم، فلا تتعجبوا من هذا القول، فإنّ من يخبركم هو الذي يعلم بكل ما في هذا الكون بالتفصيل.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 127

يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَ مَا ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَ إِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ ءٌ وَ لَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَ مَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا

يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) بعد الدعوة المؤكّدة إلى التوحيد ومحاربة أيّ شكل من أشكال الشرك وعبادة الأوثان، يحتمل أن يتوهّم البعض فيقول: ما هي حاجة اللَّه لأن يُعبد بحيث يصرّ كل هذا الإصرار، فتقول الآية الكريمة: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ».

فالقائم بذاته غير المحتاج لسواه، واحد أحد، وهو اللَّه تعالى، وكل البشر بل كل الموجودات محتاجة إليه في جميع شؤونها وفقيرة إليه ومرتبطة بذلك الوجود المستقل بحيث لو قطع إرتباطها به لحظة واحدة لأصبحت عدم في عدم.

فنحن المحتاجون والفقراء إلى اللَّه ونسلك سبيل تكاملنا عن طريق عبادته وطاعته، ونقترب بذلك من مصدر الفيض اللامتناهي، ونغترف من أنوار ذاته وصفاته.

وعليه فهو «غني» كما أنّه «حميد» أي إنّه في عين إستغنائه عن كل أحد، فهو رحيم وعطوف وأهل بكل حمد وشكر.

الإلتفات إلى هذه الحقيقة له أثران إيجابيان على المؤمنين، فهي تستنزلهم من مركب الغرور والأنانية والطغيان من جانب، وتنبههم إلى أنّهم لا يملكون شيئاً من أنفسهم يستقلّون به، وأنّهم مؤتمنون على كل ما في أيديهم من جانب آخر، لكي لا يمدّوا يد الحاجة إلى غيره، ولا يضعوا طوق العبودية لغير اللَّه في أعناقهم.

ولتأكيد هذا الفقر والحاجة في الإنسان، يقول تعالى في الآية التالية: «إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ». فهو تعالى ليس محتاجاً لطاعتكم ولا خائفاً من معصيتكم.

وفي الآية الثالثة أيضاً يعود التأكيد مرّةً ثانية فيقول تعالى: «وَمَا ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ».

نعم، فإنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، وهذا يصدق على جميع عالم الوجود.

الآية الأخيرة من هذه الآيات تشير إلى خمسة مواضيع فيما يتعلق بما سبق بحثه في الآيات السابقة:

مختصر الامثل، ج 4، ص: 128

الأوّل:

من الممكن أن يثير ما ورد في الآية الماضية من قوله تعالى: «إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ». سؤالًا في أذهان البعض من أنّ المقصودين في هذه الآية ليس المذنبين فقط، فهل يمكن أن يكون هؤلاء أيضاً معرضين للعقوبات المترتبة على أعمال الطالحين، ويُحكمون بالفناء على حد سواء؟ هنا يجيب: «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى .

«وزر»: بمعنى الثقل، وقد اخذ من «وَزر» (على زنة كرب) بمعنى الملجأ في الجبل، وأحياناً يأتي بمعنى المسؤولية.

وهذه الجملة ترتبط من جانب بالعدل الإلهي، بحيث يرتهن كل بعمله، ومن جانب آخر فإنّ فيها إشارة إلى شدّة العقوبة يوم القيامة.

هذه المسألة تطرح في الجملة الثانية من الآية بشكل آخر، يقول تعالى: «وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَايُحْمَلْ مِنْهُ شَىْ ءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى «1».

وفي الجملة الثالثة من الآية، ترفع الستارة عن حقيقة أنّ إنذارات الرسول صلى الله عليه و آله لها أثرها في القلوب المهيّأة لذلك فقط، تقول الآية الكريمة: «إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَّبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ».

فإن لم يكن خوف اللَّه متمكّناً من القلب، ولم يكن هناك إحساس بمراقبة قوة غيبية في السرّ أو العلن، ولم تنفع الصلاة التي تؤدّي إلى إحياء القلب والتذكير باللَّه في تقوية ذلك الإحساس ... فلن يكون لإنذارات الأنبياء أثر يذكر.

وفي الجملة الرابعة يعود مرّة اخرى إلى حقيقة (إنّ اللَّه غير محتاج لأحد) فتضيف: «وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ».

وفي الختام ينبّه في الجملة الخامسة إلى أنّ المحسنين والمسيئين إن لم ينالوا جزاء أعمالهم في الدنيا فليس لذلك أهمية ما دام المصير إلى اللَّه: «وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ».

وَ مَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَ الْبَصِيرُ (19) وَ لَا الظُّلُمَاتُ وَ لَا النُّورُ (20) وَ لَا الظِّلُّ وَ لَا الْحَرُورُ

(21) وَ مَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَ لَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَ مَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)

______________________________

(1) «مثقلة»: بمعنى «الحامل لحمل ثقيل» ويقصد بها هنا حامل الوزر على عاتقه.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 129

وما تستوي الظلمات ولا النور: تذكر الآيات مورد البحث- بما يتناسب مع البحوث التي مرّت حول الإيمان والكفر في الآيات السابقة- أربعة أمثلة جميلة للمؤمن والكافر، توضّح بأجلى شكل آثار الإيمان والكفر.

في المثال الأوّل: شبّه «الكافر والمؤمن» ب «الأعمى والبصير» حيث تقول الآية الكريمة:

«وَمَا يَسْتَوِى الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ».

الإيمان نور وإشراق، يعطي البصيرة والمعرفة للإنسان في النظرة إلى العالم، وفي الإعتقاد، والعمل وفي كل الحياة، أمّا الكفر فظلمة كالحة، فلا إعتقاد صحيح ونظرة سليمة عن العالم، ولا عمل صالح.

وبما أنّ العين المبصرة وحدها لا تكفي لتحقق الرؤية، فيجب توفّر النور والإضاءة أيضاً لكي يستطيع الإنسان الإبصار بمساعدة هذين العاملين، تضيف الآية التالية: «وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ».

لأنّ الظلام منشأ الضلال، الظلام سبب السكون والركود، الظلام مسبّب لكل أنواع المخاطر، أمّا النور والضياء فهو منشأ الحياة والمعيشة والحركة والرشد والنمو والتكامل.

ثم تضيف الآية: «وَلَا الظّلُّ وَلَا الْحَرُورُ». فالمؤمن يستظل في ظل إيمانه بهدوء وأمن وأمان، أمّا الكافر فلكفره يحترق بالعذاب والألم.

ثم يقول تعالى في آخر تشبيه: «وَمَا يَسْتَوِى الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ». المؤمنون حيويون، سعاة متحركون، أمّا الكافر فمثل الخشبة اليابسة، لا فيها طراوة ولا ورق ولا ورد ولا ظل لها، ولا تصلح إلّاحطباً للنار.

وفي ختام الآية يضيف تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ». لكي يسمع دعوة الحق ويلبّي نداء التوحيد ودعوة الأنبياء «وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى الْقُبُورِ».

فمهما بلغ صراخك، ومهما كان حديثك قريباً من القلب، ومهما كان

بيانك معبّراً، فإنّ الموتى لا يسعهم إدراك شي ء من ذلك، ومن فقد الروح الإنسانية نتيجة الإصرار على المعاصي، وغرق في التعصب والعناد والظلم والفساد، فبديهي أن ليس لديه الإستعداد لقبول دعوتك.

وعليه فلا تقلق من عدم إيمانهم، ولا تجزع، فليس عليك من وظيفة إلّاالإبلاغ والإنذار «إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 130

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) لا عجب من عدم إيمان: توصّلنا في الآيات السابقة إلى أنّ هناك أفراداً كالأموات والعميان لا تترك مواعظ الأنبياء في قلوبهم أدنى أثر، وعلى ذلك فإنّ الآيات مورد البحث تقصد مواساة الرسول صلى الله عليه و آله بهذا الخصوص وتخفيف آلامه لكي لا يغتمّ كثيراً.

أوّلًا تقول الآية الكريمة: «إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحقّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ».

أوصل نداءك إلى مسامعهم، بشّرهم بثواب اللَّه، وأنذرهم عقابه، سواء استجابوا أو لم يستجيبوا.

ويضيف تعالى في الآية التالية: «وَإِن يُكَذّبُوكَ». فلا عجب من ذلك، ولا تحزن بسبب ذلك، لأنّه «فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ».

«البيّنات»: بمعنى الدلائل الواضحة والمعجزات التي تثبت حقانية النبي؛ والمقصود ب «الزبر»: ذلك القسم من كتب الأنبياء التي تحتوي على العبرة والموعظة والنصيحة والمناجاة (كزبور داود)؛ وأمّا «الكتاب المنير» فتلك المجموعة من الكتب السماوية التي تحتوي على الأحكام والقوانين والتشريعات الاجتماعية والفردية المختلفة مثل التوراة والإنجيل والقرآن.

تشير الآية الأخيرة من هذه الآيات إلى العقاب الأليم لتلك المجموعة فتقول: «ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا» «1». فهم لم يكونوا

بمنأى عن العقاب الإلهي، وإن استطاعوا أن يستمروا بتكذيبهم إلى حين.

فبعض عاقبناهم بالطوفان، وبعض بالريح العاصفة المدمّرة، وآخرون بالصيحة والصاعقة والزلزلة.

أخيراً لتأكيد وبيان شدّة وقسوة العقوبة عليهم يقول: «فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ». ذلك تماماً

______________________________

(1) «أخذت»: من مادة «أخذ» بمعنى حيازة الشي ء وتحصيله، لكنّها هنا كناية عن المجازاة، لأنّ الأخذ مقدّمةللعقاب.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 131

مثلما يقوم شخص بإنجاز عمل مهم ثم يسأل الحاضرين: كيف كان عملي؟

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَ مِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَ غَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَ مِنَ النَّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) العجائب المختلفة للخلقة: مرّة اخرى تعود هذه الآيات إلى مسألة التوحيد، وتفتح صفحة جديدة من كتاب التكوين أمام ذوي البصائر من الناس، لكي ترد بعنف على المشركين المعاندين ومنكري التوحيد المتعصبين. أوّلًا تقول الآية الكريمة: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا».

شروع هذه الجملة بالإستفهام التقريري، وبتحريك حس التساؤل لدى البشر، إشارة إلى أنّ هذا الموضوع جلي إلى درجة أنّ أي شخص إذا نظر من موقع طلب الحقيقة أبصرها.

نعم، يبصر هذه الفواكه والزهور الجميلة والأوراق والبراعم المختلفة بأشكال مختلفة تتولّد من ماء وتراب واحد.

«ألوان»: قد يكون المراد «الألوان الظاهرية للفواكه» أو كناية عن التفاوت في المذاق والتركيب والخواص المتنوّعة لها.

ثم تشير الآية إلى تنوع أشكال الجبال والطرق الملوّنة التي تمرّ من خلالها وتؤدي إلى تشخيصها وتفريقها الواحدة عن الاخرى، فتقول: «وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ».

«جدد»: جمع «جدّة» بمعنى الجادة والطريق.

«بيض»: جمع «أبيض» كما أنّ

«حمر» جمع «أحمر» وهو إشارة إلى الألوان.

«غرابيب»: جمع «غربيب»- على وزن كبريت- وهو الشبيه للغراب في السواد.

فإنّ تشكيل الجبال بألوان مختلفة من جهة، وتلوين الطرق الجبلية بألوان متفاوتة، من جهة اخرى، دليل آخر على عظمة وقدرة وحكمة اللَّه سبحانه وتعالى والتي تتجلّى وتتزيّن كل آن بشكل جديد.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 132

وفي الآية التالية تطرح مسألة تنوع الألوان في البشر والأحياء الاخرى، فيقول تعالى:

«وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ».

فالبشر مع كونهم جميعاً لأب واحد وام واحدة، إلّاأنّهم عناصر وألوان متفاوتة تماماً، فالبعض أبيض البشرة كالوفر، والبعض الآخر أسود كالحبر، وحتى في العنصر الواحد فإنّ التفاوت في اللون شديد أيضاً.

ناهيك عن التفاوت والإختلاف الكامل في بواطنهم عدا أشكالهم الظاهرية، وفي خلقهم ورغباتهم وخصوصيات شخصياتهم وإستعداداتهم وذوقهم.

وبعد عرض تلك الأدلة التوحيدية يقول تعالى في الختام جامعاً: نعم إنّ الأمر كذلك «كَذلِكَ».

ولأنّ إمكانية الإنتفاع من آيات الخلق العظيمة هذه تتوفّر أكثر عند العباد العقلاء والمفكرين يقول تعالى في آخر الآية: «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمؤُا».

نعم فالعلماء من بين جميع العباد، هم الذين نالوا المقام الرفيع من الخشية «وهي الخوف من المسؤولية متوافق مع إدراك لعظمة اللَّه سبحانه»، حالة (الخشية) هذه تولّدت نتيجة سبر أغوار الآيات الآفاقية والأنفسية، والتعرّف على حقيقة علم وقدرة اللَّه وغاية الخلق.

الراغب في مفرداته يقول: «الخشية خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يُخشى منه، ولذلك خصّ العلماء بها».

روي- في تفسير مجمع البيان- عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «يعني بالعلماء من صدق قوله فعله ومن لم يصدق فعله قوله فليس بعالم».

وفي ختام الآية يقول تعالى، كدليل موجز على ما مرّ: «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ».

«عزّته» وقدرته اللامتناهية منبع للخوف والخشية عند

العلماء، و «غفرانه» سبب في الرجاء والأمل عندهم، وبذا فإنّ هذين الاسمين المقدّسين يحفظان عباد اللَّه بين الخوف والرجاء، ونعلم بأنّه لا يمكن إدامة الحركة باتّجاه التكامل بدون الإتصاف بهاتين الصفتين بشكل متكافي ء.

إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَ عَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 133

التجارة المربحة مع اللَّه: بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى مرتبة الخوف والخشية عند العلماء، تشير الآيات مورد البحث إلى مرتبة «الأمل والرجاء» عندهم أيضاً. يقول تعالى أوّلًا: «إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ».

إنّ «التلاوة» هنا لا تعني مجرّد القراءة السطحية الخالية من التفكر والتأمل، بل قراءة تكون سبباً وباعثاً على التفكّر، الذي يكون بدوره باعثاً على العمل الصالح، الذي يربط الإنسان باللَّه من جهة، ومظهر ذلك الصلاة، ويربطه بخلق اللَّه من جهة ثانية، ومظهر ذلك الإنفاق من كل ما تفضّل به اللَّه تعالى على الإنسان.

هذا الإنفاق تارةً يكون (سرّاً)، فيكون دليلًا على الإخلاص الكامل؛ وتارةً يكون (علانية) فيكون تعظيماً لشعائر اللَّه ودافعاً للآخرين على سلوك هذا الطريق.

الآية الأخيرة من هذه الآيات، توضّح هدف هؤلاء المؤمنين الصادقين فتقول: إنّهم يعملون الخيرات والصالحات «لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ».

هذه الجملة تشير إلى منتهى إخلاصهم، لأنّهم لا ينظرون إلّاإلى الأجر الإلهي.

وَ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ

الْكَبِيرُ (32) بعد أن كان الحديث في الآيات السابقة عن المؤمنين المخلصين الذين يتلون الكتاب الإلهي ويطبّقون وصاياه، تتحدث هذه الآيات عن ذلك الكتاب السماوي وأدلّة حقانيته، وكذلك عن الحملة الحقيقيين لذلك الكتاب، وبذا يستكمل الحديث الذي إفتتحته الآيات السابقة حول التوحيد، بالبحث الذي تثيره هذه الآيات حول النبوّة. تقول الآية الكريمة:

«وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ».

جملة «مُصَدّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ» دليل آخر على صدق هذا الكتاب السماوي.

جملة «إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ» توضّح علة حقانية القرآن وإنسجامه مع الواقع جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَ قَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 134

والحاجات البشرية، لأنّه نازل من اللَّه سبحانه وتعالى الذي يعرف عباده خير معرفة، وهو البصير الخبير فيما يتعلق بحاجاتهم. «الخبير»: العالم بالبواطن والعقائد والنيات والبُعد الروحي في الإنسان؛ و «البصير»:

العالم بالظواهر والبعد الجسماني للإنسان.

الآية التالية تتحدث في موضوع مهم بالنسبة إلى حملة هذا الكتاب السماوي العظيم، اولئك الذين رفعوا مشعل القرآن الكريم بعد نزوله على الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، في زمانه وبعده على مرّ القرون والعصور، وهم يحفظونه ويحرسونه، فتقول: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا».

والمقصود من «الكتاب» هنا، «القرآن الكريم».

إنّ «الإرث» يطلق على ما يستحصل بلا مشقّة أو جهد، واللَّه سبحانه وتعالى أنزل هذا الكتاب السماوي العظيم للمسلمين هكذا بلا مشقّة أو جهد.

ثم تنتقل الآية إلى تقسيم مهمّ بهذا الخصوص، فتقول: «فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ

ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ».

إنّ اللَّه سبحانه وتعالى قد أوكل مهمّة حفظ هذا الكتاب السماوي، بعد الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله إلى هذه الامة، الامة التي إصطفاها اللَّه سبحانه، غير أنّ في تلك الامة مجاميع مختلفة: بعضهم قصّروا في وظيفتهم العظيمة في حفظ هذا الكتاب والعمل بأحكامه، وفي الحقيقة ظلموا أنفسهم، وهم مصداق «ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ».

ومجموعة اخرى، أدّت وظيفتها في الحفظ والعمل بالأحكام إلى حدّ كبير، وإن كان عملها لا يخلو من بعض الزلّات والتقصيرات أيضاً.

وأخيراً مجموعة ممتازة، أنجزت وظائفها العظيمة بأحسن وجه، وسبقوا الجميع في ميدان الإستباق.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 135

الحمد للَّه الذي أذهب عنا الحزن: هذه الآيات نتيجة لما ورد ذكره في الآيات الماضية.

يقول تعالى: «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا».

«جنات»: جمع «جنّة» بمعنى (الروضة) وكل بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض؛ و «عدن»: بمعنى الإستقرار والثبات، وعليه فإنّ «جنات عدن» بمعنى «جنات الخلد والدوام والإستقرار». فإنّ هذا التعبير يشير إلى أنّ نعم الجنة العظيمة خالدة وثابتة.

ثم تشير الآية إلى ثلاثة أنواع من نعم الجنة، بعضها إشارة إلى جانب مادي وبعضها الآخر إلى جانب معنوي وباطني، وبعض أيضاً يشير إلى عدم وجود أي نوع من المعوّقات.

فتقول الآية: «يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ».

فهؤلاء لم يلتفتوا في هذه الدنيا إلى بريقها وزخرفها، ولم يكونوا أسرى التفكير باللباس الفاخر، واللَّه سبحانه وتعالى يعوّضهم عن كل ذلك، فيلبسهم في الآخرة أفخر الثياب.

بعد ذكر تلك النعمة المادية، تنتقل الآية مشيرة إلى نعمة معنوية خاصة فتقول: «وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ».

«الحزن»: (على وزن عدم)، و «الحزن»- على وزن عُسر- كليهما لمعنىً واحد، وأصله الوعورة والخشونة في الأرض واطلق على الخشونة في النفس لما يحصل فيها من

الغم ويضادّه الفرح.

ثم يضيف أهل الجنة هؤلاء: «إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ».

فبغفرانه أزال عنّا حسرة الزلّات والذنوب، وبشكره وهبنا المواهب الخالدة التي لن يلقى عليها الغم بظلاله المشؤومة.

أخيراً تنتقل الآية مشيرة إلى آخر النعم، وهي عدم وجود عوامل الإزعاج والمشقة والتعب والعذاب، فتحكي عن ألسنتهم «الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَايَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ».

«النصب»: بمعنى التعب؛ و «اللغوب»: يطلق على المشاقّ الروحية.

وبذا فلا وجود هناك لعوامل التعب والمشقّة، سواء كانت نفسية أو جسمانية.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 136

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَ هُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَ جَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) ربّنا أخرجنا نعمل صالحاً: القرآن الكريم يقرن (الوعيد) (بالوعود) ويذكر «الإنذارات»، إلى جانب «البشارات» لتقوية عاملي الخوف والرجاء الباعثين للحركة التكاملية في الإنسان. فمتابعة للحديث الذي كان في الآيات السابقة عن المواهب الإلهية، ينتقل الحديث هنا إلى العقوبات الأليمة للكفار، والحديث هنا أيضاً عن العقوبات المادية والمعنوية. تبتدى ء الآيات بالقول: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ»، فكما أنّ الجنة دار المقامة والخلد للمؤمنين، فإنّ النار أيضاً مقام أبدي للكافرين.

ثم تضيف: «لَايُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا». فالموت بالنسبة إلى هؤلاء ليس سوى منفذ للخلاص من العذاب، لكن اللَّه تعالى أوصد دونهم ذلك المنفذ.

يبقى منفذ آخر هو أن يبقوا على قيد الحياة ويخفّف عنهم العذاب شيئاً فشيئاً، أو أن يزداد تحمّلهم للعذاب فينتج عن ذلك تخفيف العذاب عنهم،

ولكن تتمّة الآية أغلقت هذا المنفذ أيضاً: «وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مّنْ عَذَابِهَا».

ثم تضيف الآية وللتأكيد على قاطعية هذا الوعد الإلهي: «كَذلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ».

فجزاء الكفار ليس سوى الحريق والعذاب الأليم، الحريق بالنار التي أشعلوها بأيديهم في الحياة الدنيا واحتطبوا لها من أفكارهم وأعمالهم ووجودهم.

وتنتقل الآية التالية إلى وصف نوع آخر من العذاب الأليم، وتشير إلى بعض النقاط الحسّاسة في هذا الخصوص، فتقول الآية الكريمة: «وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ» «1».

______________________________

(1) «يصطرخون»: من مادة «صرخ» بمعنى الصياح الشديد الذي يطلقه الإنسان من القلب للإستغاثة وطلب النجدة، للتخلّص من الألم أو العذاب أو أي مشكل آخر.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 137

فهم بمشاهدة نتائج أعمالهم السيّئة، يغرقون في ندم عميق، ويصرخون من أعماق قلوبهم ويطلبون المحال، العودة إلى الدنيا للقيام بالأعمال الصالحة.

ففي قبال ذلك الطلب الذي يطلبه اولئك من اللَّه سبحانه وتعالى، يصدر ردّ قاطع عنه سبحانه وتعالى حيث يقول: «أَوَلَمْ نُعَمّرْكُم مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ». فإذا لم تنتفعوا بكل ما توفّر بين أيديكم من وسائل النجاة تلك ومن كل الفرص الكافية المتاحة «فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ».

في الآية الأخيرة- من هذه الآيات- يرد الجواب على طلب الكفار في العودة إلى الدنيا فتقول الآية: «إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ».

فهو سبحانه وتعالى يعلم أنّه لو استجاب لما طلبه منه أهل جهنم، وأعادهم إلى الدنيا فسوف يعاودون نفس المسيرة المنحرفة التي كانوا عليها.

إضافةً إلى ذلك فالآية تنبيه للمؤمنين على أن يسعوا لتحقيق الإخلاص في نيّاتهم، وأن لا يأخذوا بنظر الاعتبار غير اللَّه سبحانه وتعالى.

هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ لَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ

كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَ لَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَاراً (39) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَا ذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَ لَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) تنتقل الآيات إلى مرحلة اخرى من تشخيص عوامل ضعف وبطلان مناهج الكفار والمشركين في التعامل أو التفكير لتكمل البحوث التي مرّت في الآيات السابقة، فتقول أوّلًا:

«هُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلِفَ فِى الْأَرْضِ».

«خلائف»: هنا سواء كانت بمعنى خلفاء وممثّلي اللَّه في الأرض، أم بمعنى خلفاء الأقوام السابقين، فهي دليل على منتهى اللطف الإلهي على البشر حيث إنّه قيّض لهم جميع إمكانات

مختصر الامثل، ج 4، ص: 138

الحياة، أعطاهم العقل والشعور والإدراك، وعلّمه طريقة الاستفادة من تلك الإمكانات، فكيف نسي الإنسان والحال هذه ولي نعمته الأصلي. هذه الجملة بيان ل «توحيد الربوبية» الذي هو دليل على «توحيد العبادة». وهذه الجملة أيضاً تنبيه للبشر جميعاً ليعلموا بأنّ مكثهم ليس أبديّاً ولا خالداً، فكما أنّهم خلائف لأقوام آخرين، فما هي إلّامدّة حتى ينتهي دورهم ويكون غيرهم خلائف لهم.

لذا تردف الآية قائلة: «فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا».

فغضبه بمعنى رفع الرحمة ومنع اللطف الإلهي من شمول اولئك الذين ارتكبوا السيئات.

الآية التالية ترد على المشركين بجواب قاطع حازم، وتذكّرهم بأنّ الإنسان إذا اتّبع أمراً أو تعلّق بأمر، فيجب أن يكون هناك دليل عقلي على هذا الأمر، أو دليل نقلي ثابت،

وأنتم أيّها الكفار حيث لا تملكون أيّاً من الدليلين فليس لديكم سوى المكر والغرور. تقول الآية الكريمة: «قُلْ أَرَءَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّموَاتِ». فهل خلقوا شيئاً في الأرض، أم شاركوا اللَّه في خلق السماوات؟!

ومع هذا الحال فما هو سبب عبادتكم لها، لأنّ كون الشي ء معبوداً فرع كونه خالقاً.

والآن بعد أن ثبت أنّكم لا تملكون دليلًا عقلياً على ادّعائكم، فهل لديكم دليل نقلي؟

«أَمْ ءَاتَيْنهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيّنَتٍ مِّنْهُ».

كلّا، فليس لديهم أيّ دليل أو بيّنة أو برهان واضح من الكتب الإلهية، إذاً فليس لديهم سوى المكر والخديعة: «بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا».

وتنتقل الآية التي بعدها إلى الحديث عن حاكمية اللَّه سبحانه وتعالى على مجموعة السماوات والأرض، وفي الحقيقة فإنّها تنتقل إلى إثبات توحيد الخالقية والربوبية بعد نفي اشتراك المعبودات الوهمية في عالم الوجود فتقول: «إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا».

فليس بدء الخلق- فقط- مرتبطاً باللَّه، فإنّ حفظ وتدبير الخلق مرتبط بقدرته أيضاً، بل إنّ المخلوقات في كل لحظة لها خلق جديد، وفيض الوجود يغمر الخلق لحظة بعد اخرى من مبدأ الفيض. ولو قطعت الرابطة بين الخلق وبين ذلك المبدأ العظيم الفيّاض، فليس إلّاالعدم والفناء.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 139

وللتأكيد تضيف الآية قائلة: «وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مّن بَعْدِهِ».

فلا الأصنام التي صنعتموها ولا الملائكة، ولا غير ذلك، لا أحد غير اللَّه قادر على ذلك.

وفي ختام الآية- لكي يبقى طريق الأوبة والإنابة أمام المشركين الضالّين مفتوحاً- يقول تعالى محبّذاً لهم التوبة في كل مرحلة من الطريق: «إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا».

فبمقتضى (حلمه) لا يتعجّل عقابهم، وبمقتضى (غفرانه) يتقبّل توبتهم- بشرائطها- في أي

مرحلة من مراحل مسيرهم.

وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (42) اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَ مَكْرَ السَّيِّئِ وَ لَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ ءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَ لَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً (44)

سبب النّزول

في تفسير الدرّ المنثور: بلغ قريشاً قبل مبعث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّ أهل الكتاب كذّبوا رسلهم فقالوا: لعن اللَّه اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذّبوهم، فواللَّه لئن أتانا رسول لنكوننّ أهدى من إحدى الامم. فلّما أشرقت شمس الإسلام من افق بلادهم، وجاءهم النبي صلى الله عليه و آله بالكتاب السماوي، رفضوا، بل كذّبوا، وحاربوا، ومارسوا أنواع المكر والخديعة.

فنزلت الآيات أعلاه تلومهم وتوبّخهم على إدّعاءاتهم الفارغة.

التّفسير

إستكبارهم ومكرهم سبب شقائهم: تواصل هذه الآيات الحديث عن المشركين ومصيرهم في الدنيا والآخرة. الآية الاولى تقول: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ».

فعندما طالعوا صفحات التاريخ، تعجّبوا كثيراً وادّعوا لأنفسهم الإدّعاءات وتفاخروا على هؤلاء بأن يكون حالهم أفضل منهم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 140

حيث أشار القرآن إلى ذلك بعد الجملة الاولى من الآية بالقول: «فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا».

هذا التعبير يدلّل على أنّهم كانوا قبل بعثة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله- وعلى خلاف ما يدّعون- بعيدين عن دين اللَّه سبحانه وتعالى، فقد كانت حنيفية إبراهيم معروفة بينهم، إلّاأنّهم

لم يكونوا يحترمونها.

الآية التالية توضيح لما في الآية السابقة، تقول: إنّ بُعدهم عن الحق لأنّهم سلكوا طريق الاستكبار في الأرض، ولم تكن لديهم أهلية الخضوع لمنطق الحق: «اسْتِكْبَارًا فِى الْأَرْضِ». وكذلك لأنّهم كانوا يحتالون ويسيئون «وَمَكْرَ السَّيّىِ».

ولكن «وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السّيّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ».

جملة «لا يحيق»: الفعل (يحيق) من (حاق) بمعنى نزل وأصاب، والجملة معناها «لا ينزل ولا يصيب ولا يحيط»؛ إشارة إلى أنّ الاحتيال قد يؤدي- مؤقتاً- إلى الإحاطة بالآخرين، ولكنّه في النهاية يعود على صاحبه، فهو مفضوح وضعيف وعاجز أمام خلق اللَّه، وسيندمون حتماً أمام اللَّه سبحانه وتعالى، وذلك هو المصير المشؤوم الذي انتهى إليه مشركو مكة.

هذه الآية تريد القول بأنّهم لم يكتفوا فقط بالإبتعاد عن النبي صلى الله عليه و آله، بل إنّهم استعانوا بكل قدرتهم واستطاعتهم لأجل إنزال ضربة قوية به وبدعوته، والسبب في كل ذلك لم يكن سوى الكبر والغرور وعدم الرضوخ للحق.

ختام الآية تهديد لتلك المجموعة المستكبرة الماكرة والخائنة، وبجملة عميقة المعنى وبكلمات تهزّ المشاعر، يقول تعالى: «فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ».

هذه الجملة تشير إلى جميع المصائر المشؤومة التي أحاقت بالأقوام السالفة كقوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم فرعون، حيث أصاب كلًا منهم بلاء عظيم.

ثم تضيف الآية لزيادة التأكيد قائلة: «فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا».

الآية التالية تدعو هؤلاء المشركين والمجرمين إلى مطالعة آثار الماضين والمصير الذي وصلوا إليه، حتى يروا بامّ أعينهم في آثارهم ومواطنهم السابقة جميع ما سمعوه، وبذا يتحول البيان إلى العيان، فتقول الآية الكريمة: «أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 141

فإذا كانوا يتصورون أنّهم أشد قوة من اولئك فهم على إشتباه عظيم، لأنّ الأقوام السالفة

كانت أقوى منهم: «وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً».

إضافةً إلى أنّ الإنسان مهما بلغ من القوة والقدرة، فإنّ قدرته وقوته لا شي ء إزاء قوة اللَّه، لماذا؟ لأنّه «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ و مِن شَىْ ءٍ فِى السَّموَاتِ وَلَا فِى الْأَرْضِ». فهو العليم القدير: «إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا»، لا يخفى عليه شي ء، ولا يستعصي على قدرته شي ء، ولا يغلبه أحد.

وَ لَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً (45) لولا لطف اللَّه ورحمته: الآية مورد البحث وهي الآية الأخيرة من آيات سورة فاطر، وبعد تلك البحوث الحادّة والتهديدات الشديدة التي مرّت في الآيات المختلفة للسورة، تنهي هذه الآية السورة ببيان اللطف والرحمة الإلهية بالبشر، تماماً كما ابتدأت السورة بذكر إفتتاح اللَّه الرحمة للناس.

زيادة على ذلك، فإنّ الآية السابقة التي تهدّد المجرمين والكفار بمصير الأقوام الغابرين، تطرح كذلك السؤال التالي، وهو إذا كانت السنّة الإلهية ثابتة على جميع الطغاة والعاصين، فلماذا لا يُعاقب مشركو مكة؟! وتجيب على السؤال قائلة: «وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا». ولا يمنحهم فرصة لإصلاح أنفسهم والتفكّر في مصيرهم وتهذيب أخلاقهم: «مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ» «1».

نعم لو أراد اللَّه مؤاخذتهم على ذنوبهم لأنزل عليهم عقوبات متتالية، صواعق، وزلازل، وطوفانات، فيدمّر المجرمين ولا يبقى أثراً للحياة على هذه الأرض. «وَلكِن يُؤَخّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى» ويعطيهم فرصة للتوبة وإصلاح النفس.

هذا الحلم والإمهال الإلهي له أبعاد وحسابات خاصة، فهو إمهال إلى أن يحلّ أجلهم «فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا».

«نهاية تفسير سورة فاطر»

______________________________

(1) «دابّة»: من مادة «دبّ» والدبّ والدبيب مشي خفيف، ويستعمل ذلك في الحيوان وفي الحشرات أكثر،

ويستعمل في كل حيوان وإن اختّصت في التعارف بالخيل.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 143

36. سورة يس

محتوى السورة: يلاحظ في هذه السورة أربعة أقسام رئيسية:

1- تتحدث السورة أوّلًا عن رسالة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله والقرآن المجيد والهدف من نزول ذلك الكتاب السماوي العظيم.

2- قسم آخر من السورة يتحدث عن رسالة ثلاثة من أنبياء اللَّه، وكيف كانت دعوتهم للتوحيد، وجهادهم المتواصل المرير ضد الشرك.

3- قسم آخر منها، والذي يبدأ من الآية (33) وحتى الآية (44)، مملوء بالنكات التوحيدية الملفتة للنظر.

4- قسم مهم آخر منها يتحدث حول المواضيع المرتبطة بالمعاد والأدلة المختلفة عليه، وكيفية الحشر والنشر، والسؤال والجواب في يوم القيامة، ونهاية الدنيا، ثم الجنة والنار.

وخلال هذه البحوث الأربعة ترد آيات محركة ومحفّزة لأجل تنبيه وإنذار الغافلين والجهال، لها الأثر القوي في القلوب والنفوس.

فضيلة تلاوة السورة: سورة يس من أهمّ السور القرآنية، إلى حد أنّ الأحاديث لقّبتها ب «قلب القرآن». ففي المجمع عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «إنّ لكل شي ء قلباً، وقلب القرآن يس».

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّ لكل شي ء قلباً وقلب القرآن يس، فمن

مختصر الامثل، ج 4، ص: 144

قرأ يس في نهاره قبل أن يمسي كان في نهاره من المحفوظين والمرزوقين حتى يمسي، ومن قرأها في ليله قبل أن ينام وكّل به ألف ملك يحفظونه من كل شيطان رجيم ومن كل آفة».

إنّ عظمة فضيلة هذه السورة إنّما هي لعظمة محتواها .. محتوىً يوقظ من الغفلة ويضخّ في النفس الإيمان، ويولد روح المسؤولية ويدعو إلى التقوى، بحيث إنّ الإنسان إذا تفكّر في هذه الآية وجعل ذلك التفكر يلقي بظلاله على أعماله، فإنّه يفوز بخير الدنيا والآخرة.

يس (1) وَ الْقُرْآنِ

الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَ جَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) هذه السورة تبدأ- كما هو الحال في ثمان وعشرين سورة اخرى- بحروف مقطعة وهي «يس».

في تفسير علي بن إبراهيم: قال الصادق عليه السلام: «يس اسم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والدليل عليه قوله: «إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ»».

بعد هذه الحروف المقطعة- وكما هو الحال في أغلب السور التي تبدأ بالحروف المقطعة- يأتي الحديث عن القرآن المجيد، فيورد هنا قسماً بالقرآن، إذ يقول: «وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ».

الملفت للنظر أنّه وصف «القرآن» هنا ب «الحكيم»، في حين أنّ الحكمة عادةً صفة للعاقل، كأنّه سبحانه يريد طرح القرآن على أنّه موجود حي وعاقل ومرشد، يستطيع فتح أبواب الحكمة أمام البشر.

بديهي أنّ اللَّه سبحانه وتعالى ليس بحاجة لأن يقسم، ولكن الأقسام القرآنية تتضمن- دائماً- فائدتين أساسيتين: الاولى التأكيد على الموضوع اللاحق للقسم، والثانية بيان عظمة الشي ء الذي يقسم به اللَّه تعالى.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 145

الآية التي بعدها توضّح الأمر الذي من أجله أقسم اللَّه تعالى في مقدمة السورة الكريمة:

«إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ».

بعد ذلك تضيف الآية: «تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ».

فإنّ عزّته ورحمته إحداهما مظهر للإنذار والاخرى للبشارة، وبإقترانهما جعل هذا الكتاب السماوي العظيم في متناول البشرية.

الآية التالية تشرح الهدف الأصلي لنزول القرآن كما يلي: «لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ ءَابَاؤُهُمْ فَهُمْ

غَافِلُونَ». أي إنّه لم يأت نذير لآبائهم.

إنّ الهدف من نزول القرآن الكريم كان تنبيه الناس الغافلين، وتذكيرهم بالمخاطر المحيطة بهم، والذنوب والمعاصي التي إرتكبوها، والشرك وأنواع المفاسد التي تلوّثوا بها.

ثم يتنبّأ القرآن الكريم بما يؤول إليه مصير الكفار والمشركين فيقول تعالى: «لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَايُؤْمِنُونَ».

والمراد من «القول» هنا الوعيد الإلهي لكل أتباع الشيطان بالعذاب في جهنم.

فإنّ ذلك يخصّ اولئك الذين قطعوا كل إرتباط لهم باللَّه سبحانه وتعالى، وأغلقوا عليهم منافذ الهداية بأجمعها، فهم لن يؤمنوا أبداً.

الآية التي بعدها تواصل وصف تلك الفئة المعاندة، فتقول: «إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنَاقِهِمْ أَغْللًا فَهِىَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ». أي: مرفوعي الرأس لوجود الغلّ حول الأعناق.

«أغلال»: جمع «غل» من مادة «غلل» ويعني تدرع الشي ء وتوسطه، ومنه الغلل (على وزن عمل) للماء الجاري بين الشجر. و «الغل» الحلقة حول العنق أو اليدين وتربط بعد ذلك بسلسلة، وبما أنّ العنق أو اليدين تقع في ما بينها فقد استعملت هذه المفردة في هذا المورد.

ويا له من تمثيل رائع حيث شبّه القرآن الكريم حال عبدة الأوثان المشركين بحال هذا الإنسان، فقد طوّقوا أنفسهم بطوق «التقليد الأعمى»، وربطوا ذلك بسلسلة «العادات والتقاليد الخرافية» فكانت تلك الأغلال من العرض والإتّساع أنّها أبقت رؤوسهم تنظر إلى الأعلى وحرمتهم بذلك من رؤية الحقائق، وبذلك فإنّهم أسرى لا يملكون القدرة والفعّالية والحركة، ولا قدرة الإبصار.

فإنّ الآية أعلاه، تعتبر شرحاً لحال تلك الفئة الكافرة في الدنيا وحالهم في عالم الآخرة الذي هو تجسيد لمسائل هذا العالم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 146

الآية التالية تتناول وصفاً آخر لحالة تلك المجموعة، وتمثيلًا ناطقاً عن عوامل وأسباب عدم تقبّلهم الحقائق فتقول: «وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا». وحوصروا بين هذين

السدّين وأمسوا لا يملكون طريقاً لا إلى الأمام ولا إلى الوراء، آنئذ: «فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَايُبْصِرُونَ». فكذلك حال المستكبرين المعاندين العمي الصمّ في قبال الحقائق.

لهذا فإنّه تعالى يقول في آخر آية من هذه المجموعة: «وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ». فمهما كان حديثك نافذاً في القلوب ومهما كان أثر الوحي السماوي، فإنّه لن يؤثّر ما لم يجد الأرضية المناسبة.

إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَ أَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَ نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَ آثَارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) من هم الذين يتقبّلون إنذارك: كان الحديث في الآيات السابقة عن مجموعة لا تملك أي إستعداد لتقبّل الإنذارات الإلهية ويتساوى عندهم الإنذار وعدمه، أمّا هذه الآيات فتتحدّث عن فئة اخرى هي على النقيض من تلك الفئة، وذلك لكي يتّضح المطلب بالمقارنة بين الفئتين كما هو اسلوب القرآن. تقول الآية الاولى من هذه المجموعة: «إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذّكْرَ وَخَشِىَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ».

التعبير ب «الغيب» هنا إشارة إلى معرفة اللَّه عن طريق الاستدلال والبرهان.

جملة «فبشّره» تكميل للإنذار، إذ إنّ الرسول صلى الله عليه و آله في البدء ينذر، وحين يتحقق للإنسان اتّباع الذكر والخشية وتظهر آثارها على قوله وفعله، هنا يبشّره الباري ء عزّ وجل.

يبشّره بأنّ اللَّه العظيم سيغفر له تلك الزلّات جميعها، ويبشّره بعدئذ بأجر كريم وثواب جزيل لا يعلم مقداره ونوعه إلّااللَّه سبحانه.

بعد ذلك وبما يتناسب مع البحث الذي كان في الآية السابقة حول الأجر والثواب العظيم للمؤمنين، تنتقل الآية التالية إلى الإشارة إلى مسألة المعاد والبعث والكتاب والحساب والمجازاة، تقول الآية الكريمة: «إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ الْمَوتَى .

مختصر الامثل، ج 4،

ص: 147

«وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَءَاثَارَهُمْ». وعليه فإنّ صحيفة الأعمال لن تغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا وتحفظها إلى يوم الحساب.

جملة «ما قدّموا» إشارة إلى الأعمال التي قاموا بها ولم يبق لها أثر، أمّا التعبير «وآثارهم» فإشارة إلى الأعمال التي تبقى بعد الإنسان وتنعكس آثارها على المحيط الخارجي، من أمثال الصدقات الجارية (المباني والأوقاف والمراكز التي تبقى بعد الإنسان وينتفع منها الناس).

ثم تضيف الآية لزيادة التأكيد: «وَكُلَّ شَىْ ءٍ أَحْصَيْنهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ».

وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَ مَا أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْ ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَ مَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَ لَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) واضرب لهم مثلًا أصحاب القرية: لمتابعة البحوث الماضية في الآيات السابقة حول القرآن ونبوّة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، والمؤمنين الصادقين، والكفار المعاندين، تطرح هذه الآيات نموذجاً من موقف الامم السابقة بهذا الصدد، وتتحدث حول تأريخ عدد من الأنبياء السابقين لتكون تنبيهاً لمشركي مكة من جهة، وتسلية للرسول الأكرم صلى الله عليه و آله ولفئة المؤمنين القليلة به في ذلك اليوم، فإنّ التأكيد على إيراد هذه القصة في قلب هذه السورة التي تعتبر هي بدورها قلب القرآن الكريم، بسبب تشابه ظروف تلك القصة مع ظروف المسلمين في ذلك اليوم.

أوّلًا تقول الآية الكريمة: «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ».

«القرية»: في الأصل اسم للموضع الذي يجتمع

فيه الناس، وتطلق أحياناً على نفس الناس أيضاً، لذا فمفهومها يتّسع حتى يشمل المدن والنواحي، وأطلقت في لغة العرب وفي القرآن المجيد مراراً على المدن المهمة مثل «مصر» و «مكة» وأمثالهما.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 148

والمراد من القرية هنا «أنطاكية» إحدى مدن بلاد الشام، فإنّه يظهر جيداً من آيات هذه السورة أنّ أهل تلك المدينة كانوا يعبدون الأصنام، وأنّ هؤلاء الرسل جاؤوا يدعونهم إلى التوحيد ونبذ الشرك.

ثم تنتقل الآيات إلى تفصيل الأحداث التي جرت فتقول: «إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ».

وفي أسماء هؤلاء الرسل قال بعض المفسرين: إنّ أسماء الإثنين «شمعون» و «يوحنا» والثالث «بولس».

الآن لننظر ماذا كان ردّ فعل هؤلاء القوم الضالين قبال دعوة الرسل. القرآن الكريم يقول: إنّهم تعلّلوا بنفس الأعذار الواهية التي يتذّرع بها الكثير من الكفار دائماً في مواجهة الأنبياء «قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمنُ مِن شَىْ ءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ».

فإذا كان مقرّراً أن يأتي رسول من قبل اللَّه سبحانه، فيجب أن يكون ملكاً مقرّباً وليس إنساناً مثلنا. هذه هي الذريعة التي تذرّعوا بها لتكذيب الرسل وإنكار نزول التشريعات الإلهية.

فإنّ هؤلاء الأنبياء لم ييأسوا جرّاء مخالفة هؤلاء القوم الضالين ولم يضعفوا، وفي جوابهم:

«قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ». ومسؤوليتنا إبلاغ الرسالة الإلهية بشكل بيّن فحسب.

«وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلغُ الْمُبِينُ».

ويستفاد من تعبير «البلاغ المبين» إجمالًا أنّهم أظهروا دلائل ومعاجز تشير إلى صدق ادّعائهم، إذ أنّ البلاغ المبين يجب أن يكون بطريقة تجعل من الميسّر للجميع أن يدركوا مراده، وذلك لا يمكن تحقّقه إلّامن خلال بعض الدلائل والمعجزات الواضحة.

وقد ورد في بعض الرّوايات أيضاً أنّ هؤلاء الرسل كانت لهم القدرة على شفاء بعض المرضى المستعصي

علاجهم- بإذن اللَّه- كما كان لعيسى عليه السلام.

ولكن الوثنيين لم يسلموا أمام ذلك المنطق الواضح وتلك المعجزات، بل إنّهم زادوا من عنفهم في المواجهة، وإنتقلوا من مرحلة التكذيب إلى مرحلة التهديد والتعامل الشديد «قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ».

ويحتمل حدوث بعض الوقائع السلبية لهؤلاء القوم في نفس الفترة التي بعث فيها هؤلاء الأنبياء، وكانت إمّا نتيجة معاصي هؤلاء القوم، أو كإنذارات إلهية لهم.

وإنّهم اعتبروا تلك الحوادث مرتبطة ببعثة هؤلاء الرسل، وأظهروا سوء نواياهم من

مختصر الامثل، ج 4، ص: 149

خلال التهديد الصريح والعلني، وقالوا: «لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ».

ومن الممكن أنّ ذكر «العذاب الأليم» إشارة إلى أنّنا سنرجمكم إلى حد الموت.

هنا ردّ الرسل الإلهيون بمنطقهم العالي على هذيان هؤلاء: «قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكّرْتُم». فإذا أصابكم سوء الحظّ وحوادث الشؤم، ورحلت بركات اللَّه عنكم، فإنّ سبب ذلك في أعماق أرواحكم، وفي أفكاركم المنحطّة وأعمالكم القبيحة المشؤومة، وليس في دعوتنا.

وفي الختام قال الرسل لهؤلاء: «بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ».

فإذا أنكرتم التوحيد وأشركتم فسبب ذلك هو الإسراف وتجاوز الحق، وإذا أصاب مجتمعكم المصير المشؤوم فبسبب ذلك الإسراف في المعاصي والتلوّث بالشهوات. وَ جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَ هُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَ مَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَ لَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَ مَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ

مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَ مَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (30) المجاهدون الذين حملوا أرواحهم على الأكف: تشير هذه الآيات إلى جانب آخر من جهاد الرسل الذي وردت الإشارة إليه في هذه القصة. والإشارة تتعلق بالدفاع المدروس للمؤمنين القلائل وبشجاعتهم في قبال الأكثرية الكافرة المشركة ... وكيف وقفوا حتى الرمق الأخير متصدّين للدفاع عن الرسل. تشرع هذه الآيات بالقول: «وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 150

مختصر الامثل ج 4 199

هذا الرجل الذي يذكر أغلب المفسرين أنّ اسمه «حبيب النجار»، وحينما بلغه بأنّ مركز المدينة مضطرب ويحتمل أن يقوم الناس بقتل هؤلاء الأنبياء، أسرع وأوصل نفسه إلى مركز المدينة ودافع عن الحق بما إستطاع؛ بل إنّه لم يدّخر وسعاً في ذلك.

التعبير ب «رجل» بصورة النكرة إشارة إلى أنّه كان فرداً عادياً، ليس له قدرة أو إمكانية متميّزة في المجتمع، لكي يأخذ المؤمنين في عصر الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله درساً بأنّهم وإن كانوا قلّة في عصر صدر الإسلام، إلّاأنّ المسؤولية تبقى على عواتقهم، وأنّ السكوت غير جائز حتى للفرد الواحد.

والآن لننظر إلى هذا الرجل المجاهد، بأي منطق وبأي دليل خاطب أهل مدينته؟

فقد أشار أوّلًا إلى هذه القضية: «اتَّبِعُوا مَن لَايَسْئَلُكُمْ أَجْرًا». فتلك القضيّة بحدّ ذاتها الدليل الأوّل على صدق هؤلاء الرسل، فهم لا يكسبون من دعوتهم تلك أيّة منفعة مادية شخصية، ولا يريدون منكم مالًا ولا جاهاً ولا مقاماً، وحتى أنّهم لا يريدون منكم أن تشكروهم. والخلاصة: لا يريدون منكم أجراً ولا أي شي ء آخر.

وهذا

ما أكّدت عليه الآيات القرآنية مراراً فيما يخصّ الأنبياء العظام، كدليل على إخلاصهم وصفاء قلوبهم، وفي سورة الشعراء وحدها تكرّرت هذه الجملة خمس مرّات «وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِن أَجْرٍ».

ثم يضيف: إنّ هؤلاء الرسل كما يظهر من محتوى دعوتهم وكلامهم انّهم أشخاص مهتدون: «وَهُمْ مُّهْتَدُونَ».

ثم ينتقل إلى ذكر دليل آخر على التوحيد الذي يعتبر عماد دعوة هؤلاء الرسل، فيقول:

«وَمَا لِىَ لَاأَعْبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى».

فإنّ من هو أهل لأن يُعبد هو الخالق والمالك والوهّاب، وليس الأصنام التي لا تُضرّ ولا تنفع.

وبعد ذلك ينبّه إلى أنّ المرجع والمآل إلى اللَّه سبحانه فيقول: «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ». أي: لا تتصوروا أنّ اللَّه له الأثر والفاعلية في حياتكم الدنيا فقط، بل إنّ مصيركم في العالم الآخر إليه أيضاً، فتوجّهوا إلى من يملك مصيركم في الدارين.

وفي ثالث استدلال له ينتقل إلى الحديث عن الأصنام وإثبات العبودية للَّه بنفي العبودية للأصنام، فيكمل قائلًا: «ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ ءَالِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرّ لَّاتُغْنِ عَنّى شَفَاعَتُهُمْ شَيًا وَلَا يُنقِذُونِ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 151

هنا أيضاً يتحدث عن نفسه حتى لا يظهر من حديثه أنّه يقصد الإمرة والإستعلاء عليهم، وهو يحدّد الذريعة الأساس لعبدة الأوثان حينما يقولون: نحن نعبد الأصنام لكي تكون شفيعاً لنا أمام اللَّه.

ثم يقول ذلك المؤمن المجاهد للتأكيد والتوضيح أكثر: إنّي حين أعبد هذه الأصنام وأجعلها شريكاً للَّه فإنّي سأكون في ضلال بعيد: «إِنّى إِذًا لَّفِى ضَللٍ مُّبِينٍ».

فأيّ ضلال أوضح من أن يجعل الإنسان العاقل تلك الموجودات الجامدة جنباً إلى جنب خالق السماوات والأرض.

وعندما انتهى هذا المؤمن المجاهد المبارز من إستعراض تلك الاستدلالات والتبليغات المؤثرة أعلن لجميع الحاضرين: «إِنّى ءَامَنتُ بِرَبّكُمْ فَاسْمَعُونِ».

أمّا من هو المخاطب في هذه الجملة «فَاسْمَعُونِ»؟

لكن لننظر ماذا كان ردّ فعل هؤلاء القوم إزاء ذلك

المؤمن الطاهر؟

القرآن لا يصرّح بشي ء حول ذلك، ولكن يستفاد من طريقة الآيات التالية بأنّهم ثاروا عليه وقتلوه.

ولقد أوضح القرآن الكريم هذه الحقيقة بعبارة جميلة مختصرة هي: «قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ».

إنّ هذا التعبير يدلّل على أنّ دخوله الجنة كان مقترناً باستشهاد هذا الرجل المؤمن.

والمقصود من الجنة هنا، هي (جنة البرزخ) لأنّه يستفاد من الآيات ومن الروايات أنّ الجنة الخالدة يوم القيامة ستكون نصيب المؤمنين، كما أنّ جهنم ستكون نصيب المجرمين.

فإنّ روح ذلك المؤمن الطاهرة، عرجت إلى السماء إلى جوار رحمة اللَّه وفي نعيم الجنان، وهناك لم تكن له سوى امنية واحدة: «قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ».

يا ليت قومي يعلمون بأي شي ء «بِمَا غَفَرَ لِى رَبّى وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِينَ». أي: ليت أنّ لهم عين تبصر الحق، لهم عين غير محجوبة بالحجب الدنيوية الكثيفة والثقيلة، فيروا ما حُجب عنهم من النعمة والإكرام والإحترام من قبل اللَّه، ويعلموا أي لطف شملني به اللَّه في قبال عدوانهم عليّ .. لو أنّهم يبصرون ويؤمنون، ولكن يا حسرةً.

رأينا كيف أصرّ أهالي مدينة أنطاكية على مخالفة الإلهيين، والآن لننظر ماذا كانت نتيجة عملهم؟

مختصر الامثل، ج 4، ص: 152

القرآن الكريم يقول في هذا الخصوص: «وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ».

فلسنا بحاجة إلى تلك الامور، لأنّ إشارة واحدة كانت كافية لتبديل عوامل حياتهم ومعيشتهم إلى عوامل موت وفناء.

ثم يضيف تعالى: «إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ».

فإنّها لم تكن سوى صيحة لم تتجاوز اللحظة الخاطفة في وقوعها، صيحة أسكتت جميع الصيحات، هزّة أوقفت كل شي ء عن التحرك.

الآية الأخيرة تتعرّض إلى طريقة جميع متمردي التاريخ إزاء الدعوات الإلهية لأنبياء اللَّه بلهجة جميلة تأسر القلوب فتقول: «يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا

يَأْتِيهِم مّن رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ».

هؤلاء الضالون المحرومون من السعادة لم يكتفوا بعدم الإستماع بآذان قلوبهم لنداء قادة البشرية العظام فقط، بل إنّهم أصرّوا على السخرية والإستهزاء منهم.

أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَ إِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) الغفلة الدائمة: تتحدث هاتان الآيتان- استناداً إلى ما مرّ في الآيات السابقة- عن الغفلة المستمرّة لمجموعة كبيرة من البشر في هذا العالم على مرّ العصور والقرون، فتقول الآية:

«أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مّنَ الْقُرُونِ».

فهؤلاء الكفار ليسوا بدعاً من الأمر، فقد كان قبلهم أقوام آخرون تمرّدوا على الحقّ مثلهم عاشوا في هذه الدنيا، ومصائرهم الأليمة التي ملأت صفحات التاريخ، فهل يكفي ذلك المقدار لتحقّق العبرة والاعتبار؟

في آخر الآية يضيف تعالى: «أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَايَرْجِعُونَ». أي: أنّ رجوعهم إلى هذه الدنيا لجبران مافاتهم وتبديل ذنوبهم حسنات، فلم يبق لهم سبيل للرجوع أبداً.

هذا التفسير يشبه بالضبط ما قاله علي بن أبي طالب عليه السلام في نهج البلاغة حينما تحدّث في أخذ العبرة من الموتى فقال: «لا عن قبيح يستطيعون انتقالًا ولا في حسن يستطيعون ازدياداً».

وتضيف الآية التالية: «وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ». أي: أنّ المسألة لا تنتهي

مختصر الامثل، ج 4، ص: 153

بهلاكهم وعدم استطاعتهم العودة إلى هذه الدنيا، كلّا، فعاجلًا سيحضر الجميع في عرصة المحشر للحساب، ثم العقاب الإلهي المتلاحق والمستمر في إنتظارهم.

وَ آيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَ أَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَ جَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنَابٍ وَ فَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَ مَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَ فَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ

أَنْفُسِهِمْ وَ مِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) آيات اخرى: مما مرّ بحثه في الآيات السابقة حول جهاد الرسل ضد الشرك وعبادة الأوثان، وكذلك التعرض إلى مسألة المعاد في الآية الأخيرة من المقطع السابق، توضّح الآيات- مورد البحث- مسألتي التوحيد والمعاد معاً لإيقاظ المنكرين لهاتين المسألتين ودفعهم إلى الإيمان. تتعرض الآية الاولى إلى قضية إحياء الأرض الميتة والبركات التي تعود على الإنسان من ذلك فتقول: «وَءَايَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ».

قضية الحياة والبقاء من أهمّ دلائل التوحيد، فبرغم التطور والتقدم الحاصل في وسائل الدراسة وفي العلوم بشكل عام، لا زال الكثير من الأسرار تنتظر الحل، وحتى الآن لم يُعلم تحت تأثير أي العوامل تتحول موجودات ميتة إلى خلايا حية؟

جملة «فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ» إشارة إلى أنّ الإنسان يستفيد من بعض بذور النباتات للتغذية، بينما بعضها غير قابل للأكل، ولكن له فوائد اخرى كتغذية الحيوانات، وصناعة الأصباغ، والأدوية، والامور الاخرى التي لها أهميّة في حياة الإنسان.

الآية التالية توضيح وشرح للآية الاولى من هذه الآيات، فهي توضّح كيفية إحياء الأرض الميتة، فتقول: «وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ».

كان الحديث في الآية الاولى عن الحبوب الغذائية، بينما الحديث هنا عن الفواكه المقوّية والمغذّية والتي يعدّ «التمر» و «العنب» أبرز وأهمّ نماذجها حيث يعتبر كل منهما غذاءً كاملًا.

الآية التالية تشرح وتوضّح الهدف من خلق تلك الأشجار المباركة المثمرة فتقول: إنّ الغرض من خلقها لكي يأكلوا من ثمارها دون حاجة إلى بذل جهد في ذلك ودون تدخّل

مختصر الامثل، ج 4، ص: 154

الإنسان في صناعتها ... «لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ».

ثمار على شكل غذاء كامل تظهر على أغصان أشجارها، قابلة للأكل بمجرد جنيها من

أغصانها، ولا تحتاج إلى طبخ أو أيّة تغييرات اخرى. ذلك إشارة إلى غاية لطف اللَّه بهذا الإنسان وكرمه. فالهدف هو تحريك حس تشخيص الحق، والشكر في الإنسان، لكي يضعوا أقدامهم على أوّل طريق معرفة اللَّه عن طريق الشكر، لأنّ شكر المنعم أوّل قدم في طريق معرفته.

الآية الأخيرة من الآيات موضع البحث، تتحدث عن تسبيح اللَّه وتنزيهه، وتشجب شرك المشركين الذي ذكرته الآيات السابقة، وتوضّح طريق التوحيد وعبادة الأحد الصمد للجميع فتقول: «سُبْحَانَ الَّذِى خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ».

بديهي أنّ اللَّه سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى أن يسبّحه أحد، إنّما ذلك تعليم للعباد ومنهاج عملي من أجل طي طريق التكامل.

إنّ هذه الآية واحدة من الآيات التي توضّح محدودية علم الإنسان، وتدلّل على أنّ هناك الكثير من الحقائق الخافية علينا وعن معلوماتنا حتى الآن.

وَ آيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَ الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَ الْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَ لَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) هذه الآيات تتحدث في قسم آخر من آثار عظمة اللَّه في عالم الوجود. تقول الآية الكريمة الاولى: «وَءَايَةٌ لَهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ».

«نسلخ»: من مادة «سلخ» وتعني في الأصل نزع جلد الحيوان، والتعبير في الآية تعبير لطيف، فكأنّ نور النهار لباس أبيض ألبسه جسد الليل، يُنزع عنه إذا حلّ الغروب ليبدو لونه الذاتي، والتأمّل في هذا التعبير يوضّح هذه الحقيقة، وهي أنّ الظلام هو الطبيعة الأصل للكرة الأرضية، وأنّ النور والإضاءة صفة عارضة عليها تأتيها من مصدر

آخر، فهو

مختصر الامثل، ج 4، ص: 155

كاللباس الذي يرتدى، وحينما يُخلع ذلك الثوب، يظهر اللون الطبيعي للبدن.

الآية التي بعدها تتعرض إلى النور والإضاءة وتذكر الشمس، فتقول: «وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا».

هذه الآية تبيّن بوضوح حركة الشمس بشكل مستمر. أمّا ما هو المقصود من تلك الحركة؟ أحدث التفاسير التي ظهرت بخصوص هذه الآية، هو ما كشفه العلماء أخيراً من حركة الشمس مع منظومتها باتّجاه معيّن ضمن المجرة التي تكون المجموعة الشمسية جزءاً منها، وقيل أنّ حركتها باتّجاه نجم بعيد جدّاً أطلقوا عليه اسم «وجا».

فإنّ حركة كوكب الشمس الذي يعادل مليون ومائتي الف مرّة حجم الأرض، بحركة دقيقة ومنظمة في هذا الفضاء اللامتناهي، ليس مقدوراً لغير اللَّه سبحانه الذي تفوق قدرته كل قدرة وبعلمه اللامتناهي، لذا فإنّ الآية تضيف في آخرها: «ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ».

أمّا آخر ما قيل في تفسير هذه الآية فهو أنّ تعبير الآية يشير إلى نظام السنّة الشمسية الناشى ء عن حركة الشمس عبر الأبراج المختلفة، ذلك النظام الذي يعطي لحياة الإنسان نظاماً وبرنامجاً معيّناً يؤدّي إلى تنظيم حياته من مختلف النواحي. لذا فإنّ الآية التالية تتحدث عن حركة القمر ومنازله التي تؤدي إلى تنظيم أيام الشهر، وذلك لأجل تكميل البحث السابق، فتقول الآية: «وَالْقَمَرَ قَدَّرْنهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ».

المقصود ب (المنازل) تلك المستويات الثمانية والعشرون التي يطويها القمر قبل الدخول في «المحاق» والظلام المطلق.

هذا النظام العجيب ينظّم حياة الإنسان من جهة، ومن جهة اخرى فهو تقويم سماوي طبيعي لا يحتاج إلى تعلّم القراءة والكتابة لمتابعته.

الآية الأخيرة من هذه الآيات، تتحدث عن ثبات ودوام ذلك النظم في السنين والشهور، والنهار والليل، فقد وضع اللَّه سبحانه وتعالى لها نظاماً وبرنامجاً لا يقع بسببه أدنى اضطراب أو إختلال

في وضعها وحركتها، وبذا ثبت تاريخ البشر وإنتظم بشكل كامل، تقول الآية:

«لَا الشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ».

من المعلوم أنّ الشمس تطوي في دورانها خلال العام الأبراج الإثني عشر، في حين أنّ القمر يطوي منازله خلال شهر واحد، وعليه فحركة القمر أسرع من حركة الشمس في مدارها إثنتي عشرة مرّة، لذا فإنّ الآية تقول بأنّ الشمس بحركتها لا يمكنها أن تدرك القمر

مختصر الامثل، ج 4، ص: 156

في حركته فتقطع في شهر واحد ما تقطعه في سنة واحدة. وبذا يختلّ النظام السنوي لها.

يتّضح ممّا قلنا أنّ المقصود من حركة الشمس في هذا البحث، هي الحركة بحسب حِسّنا بها.

وَ آيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَ خَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَ إِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَ لَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَ مَتَاعاً إِلَى حِينٍ (44) حركة السفن في البحار آية إلهية: تحدّثت الآيات السابقة عن دلالة قدرة الباري ء عزّ وجل في خلق الشمس والقمر والليل والنهار وكذلك الأرض وبركاتها، وفي هذه الآيات التي أمامنا يتحدث الباري ء عزّ وجل عن البحار وقسم من بركات ونعم ومواهب البحار، يعني حركة السفن التجارية والسياحية على سطحها. لذا فإنّ الآيات الكريمة تقول أوّلًا:

«وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ».

فإنّ حركة السفن والبواخر التي هي من أهم وأضخم وسائل الحمل والنقل البشري، وما يمكنها إنجازه يعادل آلاف الأضعاف لما تستطيعه المركّبات الاخرى، كل ذلك ناجم عن خصائص الماء ووزن الأجسام التي تصنع منها السفن، والطاقة التي تحرّكها، سواء كانت الريح أو البخار أو الطاقة النووية. وكل هذه القوى والطاقات التي سخّرها اللَّه للإنسان،

كل واحدة منها وكلها معاً آية من آيات اللَّه سبحانه وتعالى.

ولكي لا يتوهم أنّ المركب الذي أعطاه اللَّه للإنسان هو السفينة فقط، تضيف الآية التالية قائلة: «وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ».

المراكب التي تسير على الأرض، أو في الهواء وتحمل البشر وأثقالهم.

الآية التالية- لأجل توضيح هذه النعمة العظيمة- تتعرّض لذكر الحالة الناشئة من تغيير هذه النعمة فتقول: «وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ».

فنصدّر أمرنا لموجة عظيمة فتقلب سفنهم، أو يتقاذفهم الطوفان بموجة في كل إتّجاه بأمرنا، ولكننا نحفظ هذا النظام الموجود ليستفيدوا منه. وإذا وقعت بين الحين والحين حوادث من هذا القبيل فإنّ ذلك لينتبهوا إلى أهميّة هذه النعمة الغامرة.

وأخيراً تضيف الآية لتكمل الحديث فتقول: «إِلَّا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ».

نعم فهم لا يستطيعون النجاة بأية وسيلة إلّابرحمتنا ولطفنا بهم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 157

وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَ مَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَ مَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) بعد أن كان الحديث في الآيات السابقة عن الآيات الإلهية في عالم الوجود، تنتقل هذه الآيات لتتحدث عن ردّ فعل الكفار المعاندين في مواجهة هذه الآيات الإلهية، وكذلك توضّح دعوة النبي صلى الله عليه و آله لهم وإنذارهم بالعذاب الإلهي الأليم. يفتتح هذا المقطع بالقول: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ».

إنّ المقصود ب «ما بين أيديكم» العقوبات الدنيوية التي أوردت الآيات السابقة نماذج منها؛ والمقصود ب «ما خلفكم» عقوبات الآخرة،

وكأنّه يراد القول بأنّها خلفهم ولم تأت إليهم وسوف تصل إليهم في يوم ما وتحيط بهم؛ والمقصود ب «التقوى» من هذه العقوبات، هو عدم إيجاد العوامل التي تؤدي إلى وقوع هذه العقوبات.

الآية التالية تؤكّد نفس المعنى وتشير إلى لجاجة هؤلاء الكفار وإعراضهم عن آيات اللَّه وتعاليم الأنبياء، تقول الآية الكريمة: «وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءَايَةٍ مّنْ ءَايَاتِ رَبّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ».

فلا الآيات الأنفسية تؤثّر فيهم، ولا الآفاقية، ولا التهديد والإنذار، ولا البشارة والتطمين بالرحمة الإلهية، فهم مبتلون بالعمى الكلي بحيث لا يتمكّنون حتى من رؤية أقرب الأشياء إليهم، وحتى أنّهم لا يفرّقون بين ظلمة الليل وشمس الظهيرة.

ثم يشخّص القرآن الكريم أحد الموارد المهمة لعنادهم وإعراضهم فيقول: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِى ضَللٍ مُّبِينٍ».

ذلك المنطق الضعيف الذي يتمسك به الأنانيون والبخلاء في كل عصر وزمان ويقولون:

إنّ فلاناً أصبح فقيراً بسبب عمل إرتكبه وأدّى به إلى الفقر، مثلما أنّنا أغنياء بسبب عمل عملنا فشملنا لطف اللَّه ورحمته، وعليه فليس فقره ولا غنانا كانا بلا حكمة. غافلين عن أنّ

مختصر الامثل، ج 4، ص: 158

الدنيا إنّما هي دار امتحان وإبتلاء، واللَّه سبحانه وتعالى إنّما يمتحن البعض بالفقر كما يمتحن البعض الآخر بالغنى والثروة، وربّما يضع اللَّه الإنسان وفي وقتين مختلفين في بوتقة الامتحان:

الغنى والفقر، وينظر هل يؤدّي الأمانة حال فقره ويتمتع بمناعة الطبع ويلج مراتب الشكر اللائقة، أم أنّه يطأ كل ذلك بقدمه ويمرّ؟ وفي حال الغنى هل ينفق مما تفضّل اللَّه به عليه، أم لا؟

وَ يَقُولُونَ مَتَى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَ هُمْ

يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَ لَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) صيحة النشور: بعد ذكر المنطق الأجوف والذرائع التي تشبّث بها الكفار في مسألة الإنفاق في الآيات السابقة، تتعرض هذه الآيات إلى الحديث عن إستهزائهم بالقيامة، لتنسف بجواب قاطع منطقهم الفارغ حول إنكار المعاد.

مضافاً إلى أنّها تكمل بحوث التوحيد التي مرّت في الآيات السابقة بالبحث حول المعاد.

تقول الآية الكريمة الاولى: «وَيَقُولُونَ مَتَى هذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ». فإذا لم تستطيعوا تشخيص زمان دقيق لقيام الساعة، فمعنى هذا أنّكم لستم بصادقين في حديثكم.

الآية التالية ترد على هذا التساؤل المقرون بالسخرية بجواب قاطع حازم، وتخبرهم بأنّ قيام الساعة ليس بالأمر المعقّد أو المشكل بالنسبة إلى اللَّه سبحانه وتعالى: «مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ».

فكل ما يقع هو صيحة سماوية كافية لأن تقبض فيها أرواح جميع المتبقّين من الناس على سطح الأرض بلحظة واحدة وهم على حالهم، وتنتهي هذه الحياة المليئة بالصخب والدعاوى والمعارك والحروب، ليتخلّف وراءها صمت مطبق، وتخلو الأرض من أيّ صوت أو إزعاج.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 159

في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه فما يطويانه حتى تقوم، والرجل يرفع أكلته إلى فيه فما تصل إلى فيه حتى تقوم، والرجل يليط حوضه ليسقي ماشيته فما يسقيها حتى تقوم».

«صيحة» صاح: رفع الصوت، وأصله تشقيق الصوت من قولهم انصاح الخشب أو الثوب إذا انشقّ فسمع منه

صوت، وصيح الثوب كذلك.

«يخصّمون»: من مادة «خصم» بمعنى النزاع.

والمقصود هو التخاصم على أمر الدنيا والامور المعيشية الاخرى.

فإنّ القرآن بهذا التعبير القصير والحازم إنّما أراد تنبيههم إلى أنّ القيامة ستأتي وبشكل غير متوقّع، هذا أوّلًا. وأمّا ثانياً فإنّ قيام الساعة ليس بالموضوع المعقّد بحيث يختصمون ويتنازعون فيه، فبمجرّد صيحة واحدة ينتهي كل شي ء وتنتهي الدنيا بأسرها. لذا فهو تعالى يضيف في الآية التالية قائلًا: «فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ».

في العادة فإنّ الإنسان حينما تلم به حادثة ويحسّ بعدها بقرب أجله، يحاول جاهداً أن يوصل نفسه إلى أهله ومنزله ويستقرّ بين عياله، ثم يقوم بإنجاز بعض الامور المعلّقة، ويعهد بأبنائه أو متعلّقيه إلى من يثق به عن طريق الوصية أو غير ذلك. ويوصي بإنجاز بعض الامور الاخرى.

ولكن هل تترك الصيحة السماوية فرصة لأحد؟ ولو سنحت الفرصة فرضاً فهل يبقى أحد حيّاً ليستمع الوصية.

ثم تشير الآيات إلى مرحلة اخرى، مرحلة الحياة بعد الموت، فتقول: «وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَإِذَا هُم مّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبّهِمْ يَنسِلُونَ».

التراب والعظام الرميم تلبس الحياة من جديد، وتنتفض من القبر بشراً سويّاً، ليحضر المحاكمة والحساب في تلك المحكمة العظيمة المهولة، وكما أنّهم ماتوا جميعاً بصيحة واحدة، فبنفخة واحدة يبعثون أحياء من جديد، فلا هلاكهم يشكّل عقبة أمام قدرة اللَّه سبحانه وتعالى، ولا حياتهم كذلك.

«أجداث»: جمع «جدث» وهو القبر، والتعبير يشير بوضوح إلى أنّ للمعاد جنبة جسمانية بالإضافة إلى الجنبة الروحية، وأنّ الجسد يعاد بناؤه جديداً من نفس المواد السابقة.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 160

وقوله تعالى: «رَبّهِمْ» كأنّها تلميح إلى أنّ ربوبية ومالكية وتربية اللَّه كلها توجب أن يكون هناك حساب وكتاب ومعاد.

تضيف الآية التالية: «قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرقَدِنَا هذَا مَا وَعَدَ

الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ».

نعم فإنّ المشهد مهول ومذهل إلى درجة أنّ الإنسان ينسى جميع الخرافات والأباطيل ولا يتمكّن إلّامن الإعتراف الواضح الصريح بالحقائق، الآية تصوّر القبور «بالمراقد» والنهوض من القبور (بالبعث) كما ورد في الحديث: «كما تنامون تموتون وكما تستيقظون تبعثون».

ثم تقول الآية لبيان سرعة النفخة: «إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ».

وعليه فإحياء الموتى وبعثهم من القبور وإحضارهم في محكمة العدل الإلهي لا يحتاج إلى مزيد وقت، كما كان الأمر عند هلاكهم، فالصيحة الاولى للموت، والصيحة الثانية للحياة والحضور في محكمة العدل الإلهي.

فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ لَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَ أَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَ لَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) هنا يبدأ البحث حول كيفية الحساب في المحشر، ثم ينتقل في الختام إلى تفصيل وضع المؤمنين الصلحاء والكفار الطالحين، فتقول الآية الكريمة الاولى: «فَالْيَوْمَ لَاتُظْلَمُ نَفْسٌ شَيًا». فلا ينقص من أجر وثواب أحد شيئاً، ولا يزاد على عقوبة أحد شيئاً.

ثم تنتقل الآية لتوضّح تلك الحقيقة وتعطي دليلًا حيّاً عليها فتقول: «وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

ثم تنتقل الآيات لتتعرض إلى جانب من مثوبة المؤمنين العظيمة، وقبل كل شي ء تشير إلى مسألة الطمأنينة وراحة البال فتقول: «إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِى شُغُلٍ فَاكِهُونَ».

«شغل»:- على وزن سرر- و «شغل»- على وزن لطف-: كليهما بمعنى العارض الذي

مختصر الامثل، ج 4، ص: 161

يذهل الإنسان ويصرفه عن سواه، سواء كان مما يبعث على المسرّة أو الحزن، ولكن لإلحاقه كلمة «فاكهون» التي هي جمع «فاكه» وهو المسرور الفرح الضاحك، يمكن إستنتاج أنّ

المعنى إشارة إلى الإنسان المشغول بنفسه والمنصرف تماماً عن التفكير في أي قلق أو ترقّب، والغارق في السرور والسعادة والنشاط بشكل لا يترك أي مجال للغمّ والحسرة أن تعكّر عليه صفوه، وحتى أنّه ينسى تماماً هول قيام القيامة والحضور في محكمة العدل الإلهية، تلك المواقف التي لولا نسيانها فإنّها حتماً ستلقي بظلالها الثقيلة من الغمّ والقلق على القلب، وبناءً على ذلك فإنّ أحد الآثار المترتبة على إنشغال الذهن بالنعمة هو نسيان أهوال المحشر.

وبعد التعرض إلى نعمة الطمأنينة وراحة البال التي هي أساس جميع النعم الاخرى وشرط الاستفادة من جميع المواهب والنعم الإلهية الاخرى، ينتقل إلى ذكر بقية النعم، فيقول تعالى: «هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِى ظِللٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكُونَ».

«أزواج» تشير إلى الزوجة التي يعطيها اللَّه في الجنة، أو الزوجة المؤمنة التي كانت معه في الدنيا.

التعبير ب «ظلال» يدلّل على وجود الشمس هناك، ولكنّها ليست شمساً مؤذية.

إضافةً إلى ذلك فإنّ: «لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ».

«يدعون»: أي يطلبون، والمعنى أنّ كل ما يطلبونه ويتمنّونه يحصلون عليه.

وعليه فإنّ كل ما يخطر على بال الإنسان وما لا يخطر من المواهب والنعم الإلهية موجود هناك معدّ ومهيّأ، واللَّه عنده حسن الثواب.

وأهمّ من كل ذلك، المواهب المعنوية التي أشارت إليها آخر آية بقولها: «سَلمٌ قَوْلًا مّن رَّبّ رَّحِيمٍ».

هذا النداء الذي تخفّ له الروح، فيملؤها بالنشاط، هذا النداء المملوء بمحبة اللَّه، يجعل الروح الإنسانية تتسلّق الأفراح نشوى بالمعنويات التي لا يرقى إليها وصف ولا تعادلها أيّة نعمة اخرى. نعم فسماع نداء المحبوب، النداء الندي بالمحبّة، المعطّر باللطف، يغمر سكّان الجنة بالحبور ... الحبور الذي تعادل اللحظة منه جميع ما في الدنيا، بل ويفيض عليه.

ففي الدرّ المنثور قال النبي صلى الله عليه و آله:

«بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الربّ قد أشرف من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، وذلك قول اللَّه تعالى: «سَلَامٌ قَوْلًا مّن رَبّ رَّحِيمٍ» قال فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتوا إلى شي ء من النعيم ماداموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 162

وَ امْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَ فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) لماذا عبدتم الشيطان: مرّ في الآيات السابقة جانب من المصير المشوّق لأهل الجنة، وفي هذه الآيات مورد البحث جانب بئيس من مصير أهل النار وعبدة الشيطان.

أوّلًا: يخاطبون في ذلك اليوم خطاباً تحقيرياً: «وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ».

فأنتم ربّما دخلتم في صفوف المؤمنين في الدنيا وتلوّنتم بلونهم تارةً، واستفدتم من حيثيتهم واعتبارهم، أمّا اليوم «فامتازوا عنهم» وأظهروا بشكلكم الأصلي الحقيقي.

الآية التالية تشير إلى لوم اللَّه تعالى وتوبيخه المجرمين في يوم القيامة قائلًا: «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِى ءَادَمَ أَن لَّاتَعْبُدُوا الشَّيْطنَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ».

جرى هذا التحذير وبشكل متكرر على لسان الأنبياء والرسل.

ومن جانب آخر فإنّ هذا العهد اخذ على الإنسان في عالم التكوين، وبلسان إعطاء العقل له، إذ إنّ الدلائل العقلية تشير بشكل واضح إلى أنّ على الإنسان أن لا يطيع من تصدّى لعداوته منذ اليوم الأوّل وأخرجه من الجنة، وأقسم على إغواء أبنائه من بعده.

ومن جانب ثالث فقد اخذ هذا العهد على الإنسان بالفطرة الإلهية للناس على التوحيد، وإنحصار الطاعة في اللَّه سبحانه، وبهذا لم تتحقق التوصية

الإلهية هذه بلسان واحد، بل بعدة ألسنة وأساليب، وامضي هذا العهد والميثاق.

الآية التالية تأكيد أشد وبيان لوظيفة بني آدم، تقول الآية الكريمة: «وَأَنِ اعْبُدُونِى هذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ».

اخذ على الإنسان العهد بأن لا يطيع الشيطان، إذ أنّه أعلن له عن عداوته بشكل واضح منذ اليوم الأوّل، فهل يطيع عاقل أوامر عدوّه؟! .. هذا من جانب.

ومن جانب آخر، اخذ عليه العهد بطاعة اللَّه سبحانه وتعالى، لأنّ سبيله هو الصراط المستقيم، وهذا في الحقيقة أعظم محرّك للبشر.

ويستفاد كذلك من هذا التعبير ضمناً بأنّ الدنيا ليست بدار القرار، إذ إنّ الطريق لا يُرسم لأحد إلّالمن يريد الذهاب إلى مقصد آخر.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 163

وللتعريف بهذا العدو القديم أكثر فأكثر يضيف تعالى: «وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ».

ألا ترون ماذا أحلّ بأتباعه من المصائب.

ألم تطالعوا تأريخ من سبقكم لتروا بأعينكم أي مصير مشؤوم وصل إليه من عبد الشيطان؟

إذن لماذا أنتم غير جادّين في معاداة من أثبت أنّه عدو لكم مرّات ومرّات؟ ولا زلتم تتخذونه صديقاً بل قائداً ووليّاً وإماماً.

هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَ لَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَ لَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيّاً وَ لَا يَرْجِعُونَ (67) وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَ فَلَا يَعْقِلُونَ (68) تعرّضت الآيات السابقة إلى قسم من التوبيخات والتقريعات الإلهية وإلى مخاطبته سبحانه المجرمين في يوم القيامة، هذه الآيات تواصل البحث حول الموضوع نفسه أيضاً.

نعم، ففي ذلك اليوم وحينما تظهر جهنم للمجرمين الكافرين يذكّرهم اللَّه بوعده، والآية تشير إلى ذلك فتقول:

«هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ».

فقد بُعث إليكم الأنبياء واحداً بعد واحد، وحذّروكم من مثل هذا اليوم ومن مثل هذه النار، ولكنكم لم تأخذوا أقوالهم إلّاعلى محمل السخرية والاستهزاء: «اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ».

ثم يشير تعالى إلى شهود يوم القيامة ... الشهود الذين هم جزء من جسد الإنسان، حيث لا مجال لإنكار شهادتهم، فيقول تعالى: «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ».

ففي ذلك اليوم لا تكون أعضاء الإنسان طوع إرادته وميوله، فهي بأجمعها تتخلّى عن إمتثال أمره وتستسلم لأمر اللَّه سبحانه، ويالها من محكمة عجيبة تلك المحكمة التي شهودها

مختصر الامثل، ج 4، ص: 164

نفس أعضاء الإنسان. تلك الأعضاء التي كانت الوسائل لإرتكاب المعاصي والذنوب. في الكافي عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «وليست تشهد الجوارح على مؤمن، إنّما تشهد على من حقّت عليه كلمة العذاب، فأمّا المؤمن فيعطى كتابه بيمينه، قال اللَّه عزّ وجل: «فَمَن أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا»».

الآية التالية تشير إلى أحد ألوان العذاب التي يمكن أن يبتلي اللَّه تعالى بها المجرمين في هذه الدنيا، تقول الآية الكريمة: «وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ» «1».

وفي تلك الحالة التي يبلغ فيها الرعب الذروة عندهم: «فَاسْتَبَقُوا الصّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ». فهم عاجزون حتى عن العثور على الطريق إلى بيوتهم، ناهيك عن العثور على طريق الحق وسلوك الصراط المستقيم.

وعقوبة مؤلمة اخرى لهم: إنّنا لو أردنا لمسخناهم في مكانهم على شكل تماثيل حجرية فاقدة للروح والحركة، أو على أشكال الحيوانات بحيث لا يستطيعون التقدّم إلى الأمام، ولا الرجوع إلى الخلف: «لَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ» «2».

إنّ الآيتين أعلاه تتحدّثان عن عذاب الدنيا.

الآية الأخيرة من هذه المجموعة تشير إلى

وضع الإنسان في آخر عمره من حيث الضعف والعجز العقلي والجسمي، لتكون إنذاراً لهم وليختاروا طريق الهداية عاجلًا، ولتكون جواباً على الذين يلقون بمسؤولية تقصيرهم على قصر أعمارهم، وكذلك لتكون دليلًا على قدرة اللَّه سبحانه وتعالى، فالقادر على أن يعيد ذلك الإنسان القوي إلى ضعف وعجز الوليد الصغير ... قادر على مسألة المعاد بالضرورة، وعلى الطمس على عيون المجرمين ومنعهم عن الحركة، كذلك تقول الآية الكريمة: «وَمَن نُّعَمّرْهُ نُنَكّسْهُ فِى الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ».

«ننكّسه»: من مادة «تنكيس» وهو قلب الشي ء على رأسه، وهي هنا كناية عن الرجوع الكامل للإنسان إلى حالات الطفولة.

______________________________

(1) «طمسنا»: من «طمس»- على وزن شمس- بمعنى إزالة الأثر بالمحو، وهذه إشارة إلى إزالة ضوء العين أو صورتها بشكل كلّي بحيث لا يبقى منها أثر.

(2) «مكانتهم»: بمعنى محل التوقّف، وهي إشارة إلى أنّ اللَّه سبحانه وتعالى قادر على أن يخرجهم عن إنسانيتهم في محلّ توقّفهم، يغيّر أشكالهم، ويفقدهم القدرة على الحركة، تماماً كالتمثال الخالي من الروح.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 165

وَ مَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَ مَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَ يَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) إنّه ليس بشاعر ... بل نذير: قلنا أنّ في هذه السورة بحوثاً حيّة وجامعة حول اصول الإعتقادات: التوحيد، والمعاد، والنبوّة، وتنتقل الآيات من بحث إلى آخر ضمن مقاطع مختلفة من الآيات.

طرحت في الآيات السابقة بحوث مختلفة حول التوحيد والمعاد، وتعود هاتان الآيتان إلى البحث في مسألة النبوّة، وقد أشارتا إلى أكثر الإتّهامات رواجاً والتي اثيرت بوجه الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، وردّت عليهم ردّاً قويّاً، منها اتّهام الرسول بكونه شاعراً، فقالت: «وَمَا عَلَّمْنهُ الشّعْرَ وَمَا يَنبَغِى لَهُ».

كان

ذلك بسبب الجاذبية الخاصّة للقرآن الكريم ونفوذه في القلوب، الأمر الذي كان محسوساً للجميع، بالإضافة إلى عدم إمكانية إنكار جمال ألفاظه ومعانيه وفصاحته وبلاغته، وقد كانت جاذبية القرآن الكريم الخاصّة قد أثّرت حتى في نفوس الكفار الذين كانوا أحياناً يأتون إلى جوار منزل النبي صلى الله عليه و آله بشكل خفي ليلًا لكي يستمعوا إلى تلاوته للقرآن في عمق الليل.

وهنا حاول الكفار من أجل تفسير هذه الظاهرة العظيمة، ولغرض إستغفال الناس وصرف أنظارهم من كون ذلك الكلام وحياً إلهيّاً، فأشاعوا تهمة الشعر في كل مكان، والتي كانت بحدّ ذاتها تمثّل إعترافاً ضمنياً بتميّز كلام القرآن الكريم.

وأمّا لماذا لا يليق بالرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله أن يكون شاعراً، فلأنّ طبيعة الشعر تختلف تماماً عن الوحي الإلهي، للأسباب التالية:

1- إنّ أساس الشعر- عادةً- هو الخيال والوهم، والحال أنّ الوحي يُستمدّ وجوده من مبدأ الوجود ويدور حول محور الحقيقة.

2- الشعر يفيض من العواطف الإنسانية المتغيّرة، وهي في حال تغيّر وتبدّل مستمرين، أمّا الوحي الإلهي فمرآة الحقائق الكونية الثابتة.

3- لطافة الشعر تنبع في الغالب من الإغراق في التمثيل والتشبيه والمبالغة، إلى درجة أن قيل: «أحسن الشعر أكذبه»، أمّا الوحي فليس إلّاالصدق.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 166

4- وأخيراً يقول أحد المفسّرين: إنّ الشعر مجموعة من الأشواق التي تحلّق منطلقة من الأرض باتّجاه السماء، بينما الوحي حقائق نازلة من السماء إلى الأرض، وهذان الإتّجاهان واضح تفاوتهما.

وهنا يجب أن لا ننسى تقدير مقام اولئك الشعراء الذين يسلكون هذا الطريق باتّجاه أهداف مقدسة، ويصونون أشعارهم من كل ما لا يرضي اللَّه.

ثم يضيف تعالى في آخر الآية لنفي الشعر عن الرسول صلى الله عليه و آله: «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُّبِينٌ».

والهدف هو

الإنذار وإتمام الحجة: «لّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ».

هذه الآيات «ذكر» ووسيلة تنبيه، هذه الآيات «قرآن مبين» يوضّح الحق بلا أدنى تغطية أو غمط، بل بقاطعية وصراحة، ولذا فهو عامل إنتباه وحياة وبقاء.

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَ ذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَ مِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَ لَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَ مَشَارِبُ أَ فَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَ هُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَ مَا يُعْلِنُونَ (76) فوائد الأنعام للإنسان: يعود القرآن الكريم مرّة اخرى في هذه الآيات إلى مسألة التوحيد والشرك، ويشير- ضمن تعداد قسم من آثار عظمة اللَّه في حياة البشر، وحلّ مشكلاتهم ورفع حاجاتهم- إلى ضعف وعجز الأصنام، وبمقارنة واضحة يشطب على الشرك ويثبت بطلانه، وفي نفس الوقت يثبت حقّانية خطّ التوحيد. تقول الآية الكريمة الاولى: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ».

ولكي يستفيدوا بشكل جيّد من هذه الحيوانات: «وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ».

ولا تنتهي منافعها إلى هذا الحد، بل «وَلَهُمْ فِيهَا مَنفِعُ وَمَشَارِبُ». وعليه: «أَفَلَا يَشْكُرُونَ». الشكر الذي هو وسيلة معرفة اللَّه وتشخيص وليّ النعمة.

جملة «وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ» إشارة إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي تذليل هذه الحيوانات

مختصر الامثل، ج 4، ص: 167

للإنسان. فتلك الحيوانات القوية والتي تنسى في بعض الأحيان ذلك التذليل الإلهي، وتثور وتغضب وتعاند فتصبح خطرة إلى درجة أنّ عشرات الأشخاص لا يمكنهم الوقوف أمامها؟

وفي حالاتها الاعتيادية فإنّ قافلة كاملة من الجمال يقودها تارةً صبي لم يبلغ الحلم، ويدفعها في الطريق الذي يرتئيه.

جملة

«لَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ» إشارة إلى فوائد الحيوانات الكثيرة الاخرى التي تتحقّق للإنسان، ومن جملتها الأصواف والأوبار التي تصنع منها مختلف الملابس والخيم والفرش، والجلود التي تصنع منها الحقائب والملابس والأحذية ووسائل اخرى مختلفة.

«مَشَارِبُ» إشارة إلى الحليب الذي يؤخذ من تلك الدواب ويؤمّن مع منتجاته قسماً مهمّاً من المواد الغذائية للإنسان.

لذا فإنّ الآية التالية، تنتقل إلى الحديث عن المشركين ووصف حالهم فتقول: «وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ ءَالِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ».

فيا له من خيال باطل وفكر ضعيف؟ ذلك الذي يعتقد بهذه الموجودات الضعيفة التافهة التي لا تملك لنفسها- ناهيك عن الآخرين- ضرّاً ولا نفعاً، ويجعلونها إلى جانب اللَّه سبحانه وتعالى ويقرنونها به تعالى، ويلجأون إليها لحل مشاكل حياتهم؟

وعليه تضيف الآية التالية: إنّ المعبودات لا تستطيع نصرة المشركين، وسيكون هؤلاء المشركون جنوداً مجنّدة يتقدمونها إلى جهنم: «لَايَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ».

وياله من أمر أليم أن يصطف هؤلاء المشركون بصفوف تتقدّمها تلك الأصنام ليدخلوا جهنم زمراً في ذلك اليوم العظيم، دون أن يستطيعوا حل عقدة مشكلة واحدة من مشكلات هؤلاء المشركين في ذلك الموقف الرهيب.

التعبير ب «مُّحْضَرُونَ» يكون عادةً للتحقير، لأنّ إحضار الأفراد دون أن يكون لموافقتهم أو عدمها أثر إنّما يدلّل على حقارتهم.

أخيراً- وفي آخر آية من هذه الآيات، ولمواساة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وتثبيت فؤاده إزاء مكر المشركين، والفتن والأعمال الخرافية- تقول الآية الكريمة: «فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ». تارةً يقولون شاعر، واخرى ساحر، وأمثال ذلك من التهم: «إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ».

فلا تخفى علينا نواياهم، ولا مؤامراتهم في الخفاء، ولا جحودهم وتكذيبهم لآياتنا في

مختصر الامثل، ج 4، ص: 168

العلن، نعلم بكل ذلك، ونحفظ لهم جزاءهم إلى يوم الحساب، وستكون أنت أيضاً في أمان من

شرّهم في هذه الدنيا.

أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَ ضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: إنّ ابيّ بن خلف، أو العاص بن وائل، جاء بعظم بال متفتت، وقال: يا محمّد أتزعم أنّ اللَّه يبعث هذا؟ فقال: «نعم». فنزلت الآية «أَوَ لَمْ يَرَ الْإِنسَانُ» إلى آخر السورة.

التّفسير

هذه السورة ابتدأت بمسألة النبوّة، واختتمت بسبعة آيات تمثّل أقوى البيانات حول المعاد. فتقول: «أَوَ لَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ» «1».

فهذا الموجود الضعيف العاجز، يصبح قويّاً إلى درجة أن يجيز لنفسه النهوض لمحاربة الدعوات الإلهية، وينسى ماضيه ومستقبله، ليكون مصداقاً حيّاً لقوله تعالى: «فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ».

ويكفي لمعرفة مدى غفلته وحمقه أنّه جاء: «وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْىِ الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ» «2».

المقصود من ضرب المثل هنا الاستدلال وذكر مصداق لإثبات مطلب معيّن.

والجميل أنّ القرآن الكريم أجابه بجملة وجيزة مقتضبة وهي قوله تعالى: «وَنَسِىَ خَلْقَهُ». ثم أردفها بتوضيح أكثر.

فكأنّه يقول: لو لم تنس بدء خلقك لما إستدللت بهذا الإستدلال الواهي الفارغ أبداً.

أيّها الإنسان الكثير النسيان، عد قليلًا إلى الوراء وانظر في خلقك، كيف كنت نطفة تافهة

______________________________

(1) «خصيم»: بمعنى المصرّ على الخصومة والجدال؛ و «الرؤية» بمعنى العلم.

(2) «رميم»: من مادة «رم»، وهو إصلاح الشي ء البالي.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 169

وكل يوم أنت في لبس جديد من مراحل الحياة، فأنت في حال موت وبعث مستمرين، فمن جماد أصبحت رجلًا بالغاً، وبكميّة من عالم النبات الجامد، ومن عالم الحيوان الميّت أيضاً

أصبحت إنساناً، ولكنّك نسيت كل ذلك وصرت تسأل: من يحيي العظام وهي رميم؟ ألم تكن أنت في البدء تراباً كما هو حال هذه العظام بعد تفسّخها؟!

لذا فإنّ اللَّه سبحانه وتعالى يأمر الرسول صلى الله عليه و آله بأن يقول لهذا المغرور الأحمق الناسي: «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ».

وإذا كنت تعتقد بأنّ هذه العظام بعد تفسّخها تصبح تراباً وتنتشر في الأصقاع، فمن يستطيع عند ذلك أن يجمع تلك الأجزاء المبعثرة من نقاط إنتشارها؟ فإنّ الجواب على ذلك أيضاً واضح: «وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ».

فمن كان له مثل هذا (العلم) وهذه (القدرة) فإنّ مسألة المعاد وإحياء الموتى لا تشكّل بالنسبة إليه أيّة مشكلة.

الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) تتابع هذه الآية البحوث المختلفة حول المعاد وتقول: «الَّذِى جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ».

ثمّة تفسير عميق، والذي ظهر إلى الواقع نتيجة جهود العلماء في عصرنا الحاضر وقد اخترنا أن نطلق عليه تسمية «إنبعاث الطاقة».

وتوضيح ذلك كما يلي: إنّ من أهمّ الوظائف التي تقوم بها النباتات هي عملية «التركيب الضوئي» والتي تعتمد أساساً على أخذ غاز «ثاني اوكسيد الكربون» من الهواء، والإفادة منه بواسطة «المادّة الخضراء» أو ما يسمّى «بالكلورفيل» لصنع الغذاء بمساعدة الماء وضوء الشمس. ذلك الغذاء الذي يؤدّي إلى تكوّن حلقات السليلوز في النباتات من ذوات الفلقتين، ويكون ناتج عملية التركيب الضوئي الأوكسجين الذي يطلق في الهواء مرّة اخرى.

ولو نظرنا إلى العملية بطريقة اخرى فإنّ النباتات تأخذ الغاز (ثاني أوكسيد الكاربون) وتجزّئه أثناء عملها لتحتفظ بالكاربون مركّباً مع غيره من الماء لتكوّن الخشب وتطلق الأوكسجين.

والمهمّ هنا أنّ العلماء يقولون: بأنّ أيّة عملية تركيب كيمياوي تحتاج إلى طاقة

ما لكي

مختصر الامثل، ج 4، ص: 170

يتمّ ذلك التفاعل الكيمياوي، أو أنّ ذلك التفاعل يؤدّي إلى إطلاق طاقة كناتج عنه، وبناءً عليه فإنّ التفاعل الذي يتمّ نتيجة التركيب الضوئي إنّما يستفيد من الشمس كمصدر للطاقة لإتمام التفاعل. وعليه فالشجرة إنّما تقوم بإدّخار هذه الطاقة في الخشب الذي يتكوّن نتيجة لهذه العملية. وعندما نقوم نحن بحرق هذا الخشب فإنّنا إنّما نقوم بإطلاق عقال هذه الطاقة المدّخرة. وبذا فإنّنا نقوم بإعادة تركيب (الكاربون) مع (الأوكسجين) لينتج (ثاني أوكسيد الكاربون) الذي ينطلق في الهواء مرّة اخرى، بالإضافة إلى بخار الماء.

ويقال إنّ كل الطاقات في الكرة الأرضية تعود إلى الشمس أساساً، وواحد من مظاهره ما ذكرنا.

وهنا وحيث بلغنا «إنبعاث الطاقات» نلاحظ أنّ النور والحرارة المبعثرة في الجو والتي تقوم الأشجار بجمعها في أخشابها لتنمو فإنّها لا تفنى أبداً، بل إنّها تتبدّل شكلًا. وتختفي بعيداً عن أعيننا في كل ذرّة من ذرّات الخشب، وعندما نقوم بإيقاد النار بقطعة من الحطب، فإنّ إنبعاثها يبدأ، وجميع ما كان في ذرّات الخشب من النور والحرارة وطاقة الشمس، في تلك اللحظة- لحظة الحشر والنشر- تظهر من جديد. بدون أن ينقص منه حتى بمقدار إضاءة شمعة واحدة (تأمل بدقة).

أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) هو المالك والحاكم على كل شي ء: بعد ذكر دلائل المعاد والفات الأنظار إلى الخلق الأوّل، ونشوء النار من الشجر الأخضر في الآيات السابقة، تتابع الآية الاولى هنا بحث ذلك الموضوع من طريق ثالث وهو قدرة اللَّه اللامتناهية،

فتقول الآية الاولى: «أَوَلَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الخَلقُ الْعَلِيمُ».

الآية اللاحقة تأكيد على ما ورد في الآيات السابقة، وتأكيد على حقيقة أنّ أي خلق وإيجاد بالنسبة للَّه سبحانه وتعالى وقدرته سهل وبسيط، وخلق السماوات العظيمة والكرة

مختصر الامثل، ج 4، ص: 171

الأرضية يعادل في سهولته إيجاد حشرة صغيرة، فكلاهما بالنسبة له تعالى أمر هيّن بسيط.

يقول تعالى: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ».

فإنّ اللَّه سبحانه وتعالى ما إن يرد شيئاً إلّاتحقق فوراً، وليس بين إرادته ووجود ذلك الشي ء أيّة فاصلة، وعليه فإنّ «أمره» و «قوله» وجملة «كن» كلّها توضيح لمسألة الخلق والإيجاد. وتوضيح للتحقّق السريع بوجود كل ما أراده سبحانه وتعالى.

الآية الأخيرة من هذه الآيات وهي في ذات الوقت آخر آية من سورة «يس» تنهي البحث في مسألة المبدأ والمعاد بشكل جميل وبطريقة الإستنتاج الكلي فتقول: «فَسُبْحَانَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْ ءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ».

«ملكوت»: من أصل «ملك» بمعنى الحكومة والمالكية. ومعنى الآية كما يلي: إنّ الحاكمية والمالكية المطلقة بدون أدنى قيد أو شرط بيد قدرته المطلقة، وكذلك فإنّ اللَّه سبحانه منزه ومبرّأ عن أي عجز أو نقص في القدرة، وبهذا الشكل فإنّ إحياء الموتى وإلباس العظام المتفسّخة لباس الحياة من جديد، كل ذلك لن يشكّل لديه أية مشكلة، ولذلك فاعلموا يقيناً أنّكم إليه ترجعون وأنّ المعاد حق.

بحوث

1- الإعتقاد بالمعاد أمر فطري: إذا كان الإنسان قد خلق للفناء فيجب أن يكون عاشقاً للفناء، وأن يلتذّ بنهاية عمره وبموته في حين أنّنا نرى أنّ الموت بمعنى الفناء لم يكن سارّاً للإنسان في أي وقت، وهو يفرّ منه بكل وجوده.

إنّ السعي لإبقاء أجسام الموتى عن طريق التحنيط، وبناء المقابر الخالدة

كأهرام مصر، والجري وراء ما يسمّى بماء الحياة ودواء الشباب وما يطيل العمر، كل ذلك دليل على عشق الإنسان لمفهوم البقاء.

فإذا كنّا قد خلقنا للفناء فما معنى حبّ البقاء سوى أنّها علاقة شاغلة بلا جدوى ولا فائدة.

لا تنسوا أنّنا نتابع البحث في مسألة المعاد بعد الإتفاق على الإعتقاد بوجود اللَّه الحكيم العالم، ونحن نعتقد بأنّ كل ما خلقه اللَّه سبحانه وتعالى في وجودنا إنّما هو وفقاً لحساب وغرض، وبناءاً عليه فإنّ عشق البقاء لابد أن يكون له حساب خاص، منسجم مع الخلق والعالم بعد الدنيا.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 172

وبتعبير آخر: فلو أنّ نظام الخلق أوجد فينا عطشاً، فإنّ ذلك دليل على أنّ للماء وجوداً في العالم الخارجي، كذلك فإنّ وجود الغريزة الجنسية والميل إلى الجنس الآخر يدلّل على وجود الجنس الآخر في العالم الخارجي، وإلّا فإنّ الإنجذاب بدون أن يكون له مدلول وموضوع خارجي لا يتفق مع حكمة الخلق.

ومن جهة اخرى فعندما نبحث في التاريخ البشري منذ أيام نشأة ذلك التاريخ فإنّنا نجد دلائل كثيرة على الإعتقاد الراسخ لدى الإنسان بالحياة بعد الموت، فالآثار التي وصلت إلينا من البشر الغابرين- وحتى إنسان ما قبل التاريخ- وبالأخص طريقة دفن الموتى، وكيفية بناء القبور، وحتى دفن الأشياء المختلفة مع الموتى، كلها دليل على ما ترسّخ في وجدانهم من الإعتقاد بالحياة بعد الموت.

«صاموئيل كنيك» أحد علماء النفس المعروفين يقول: «إنّ التحقيقات الدقيقة تشير إلى أنّ المجموعات البشرية الاولى على سطح الأرض، كانت لهم إعتقادات معينة، لأنّهم كانوا يلحدون موتاهم بطريقة معينة في الأرض، ويضعون معهم وسائل وآلات أعمالهم التي كانوا يمارسونها قبل الموت إلى جانبهم، وبهذه الطريقة فإنّهم يثبتون إعتقادهم بوجود عالم ما بعد الموت» «1».

فهؤلاء اعتقدوا بالحياة

بعد الموت، وإن كانوا قد سلكوا طريقاً خاطئاً في إعتقادهم كتوهّمهم أنّ تلك الحياة شبيهة بهذه الحياة تماماً.

على كل حال، فلا يمكن قبول أنّ ذلك الإعتقاد القديم مجرد وهم أو نتيجة للتلقين والعادة.

ومن جهة ثالثة، فإنّ وجود محكمة «الوجدان»، دليل آخر على فطرية الإعتقاد بالمعاد.

فكلّ إنسان عندما ينجز عملًا حسناً فإنّه يستشعر في أعماقه وفي وجدانه الطمأنينة التي لا يمكن أحياناً وصفها بأي بيان أو كلام.

وعلى العكس عندما يرتكب الذنوب وخصوصاً الجنايات الكبرى، فإنّه يستشعر عدم الراحة، إلى حد تصل الحالة في البعض إلى الإنتحار، أو يسلّموا أنفسهم إلى المحاكم لنيل العقاب والتعلق على أعواد المشانق.

______________________________

(1) علم الإجتماع، ساموئيل كنيك/ 192.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 173

كل ذلك دليل على عذاب الضمير والوجدان.

وللإنسان أن يسأل نفسه: كيف يمكن أن يكون عالم صغير كعالم النفس له تلك المحكمة، ولا يكون لهذا العالم العظيم مثل هذا الوجدان وهذه المحكمة؟!

وبهذا الشكل يتّضح أنّ الإعتقاد بمسألة المعاد أمر فطري، ومن عدّة طرق:

من طريق العشق البشري العام للبقاء.

ومن طريق وجود ذلك الإعتقاد بالحياة بعد الموت على طول التاريخ البشري.

ومن طريق وجود النموذج المصغّر لها في داخل الإنسان.

2- أثر الإعتقاد بالمعاد على حياة البشر: إنّ الإعتقاد بعالم ما بعد الموت وبقاء آثار الأعمال البشرية، وخلود الأعمال- سواء كانت خيراً أو شرّاً- يترك أثره العميق على فكر وأعصاب وجسد الإنسان، ويمكنه أن يكون عاملًا مؤثّراً في التشجيع على الأعمال الحسنة.

إنّ تأثير الإيمان بالحياة بعد الموت في إصلاح الأفراد الفاسدين والمنحرفين وتشجيع الأفراد المضحّين والمجاهدين، أكثر بكثير من تأثير المحاكم والعقوبات المعمول بها عادةً في الدنيا، للمزايا التي يتمتّع بها ذلك الإيمان عن المحاكم العادية، ففي محكمة المعاد لا وجود لإعادة النظر، ولا أثر للإضطهاد

الفكري على صاحبها، ولا فائدة من إعطاء وثائق كاذبة ومزوّرة، ولا تستغرق- عبر روتينها- مدة من الزمن.

القرآن الكريم يقول: «وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّاتَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ» «1».

كذلك يقول تعالى: «وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِى الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَايُظْلَمُونَ» «2».

كذلك قوله تعالى: «لِيَجْزِىَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ» «3».

وإنّ حسابه تعالى سريع وحاسم كما ورد في الخبر: «أنّه تعالى يحاسب الخلائق كلّهم في مقدار لمح البصر».

ولهذا السبب فقد اعتبر القرآن الكريم أنّ سبب الكثير من الذنوب هو نسيان يوم الجزاء،

______________________________

(1) سورة البقرة/ 48.

(2) سورة يونس/ 54.

(3) سورة إبراهيم/ 51.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 174

فقال تعالى: «فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذَا» «1».

حتى أنّه يستفاد من بعض الآيات أنّ الإنسان إذا كان معتقداً بالقيمة فإنّه يمتنع عن القيام بالكثير من الأعمال المخالفة، فقد ورد في وصفه تعالى للمطفّفين في الميزان، قوله تعالى:

«أَلَا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ» «2».

والحماسة الخالدة لمجاهدي الإسلام سابقاً وحاضراً في ميادين الجهاد، والتضحية والفداء والإيثار الذي يظهره الكثير من المسلمين في الدفاع عن بلدان الإسلام وعن المحرومين والمستضعفين، يدلّل على أنّه بجميعه إنعكاس لحالة الإعتقاد بالحياة الخالدة في الدار الآخرة، وقد دلّت الدراسات من قبل المفكرين، والتجارب المختلفة على أنّ تلك المظاهر لا يمكن أن تكون- في المقياس الواسع الشامل- إلّاعن طريق العقيدة بالحياة بعد الموت.

فإنّ المجاهد الذي منطقه: «قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ» «3». أي: الوصول إلى إحدى السعادتين، إمّا النصر أو الشهادة، هو قطعاً مجاهد لا يقبل الهزيمة.

إنّ الموت الذي يبعث على الوحشة

لدى كثير من الناس، وحتى أنّهم يحاذرون من ذكر إسمه أو كل ما يذكّر به، ليس موحشاً ولا قبيحاً قطّ بالنسبة إلى المعتقدين بالحياة بعد الموت، بل إنّه بالنسبة إليهم نافذة على عالم رحيب، وتحطّم القفص الدنيوي وكسر القيود المادّية التي تأسر الروح، وبلوغ الحريّة المطلقة.

إنّ مسألة المعاد تعتبر الخط الفاصل بين الإلهيين والماديين، لوجود نظرتين مختلفتين هنا:

فالمادي يرى الموت فناءً مطلقاً، ويفرّ منه بكل وجوده، لأنّ كل شي ء سينتهي به.

والإلهي يرى الموت ولادة جديدة، وولوجاً في عالم واسع كبير مشرق، والإنطلاق في السماء اللامحدودة. ومن الطبيعي فإنّ المعتقدين بهذا المذهب لا يفسحون المجال للخوف والوحشة للدخول إلى أنفسهم عند سلوكهم طريق الموت والشهادة. بل إنّهم يستلهمون من قول علي بن أبي طالب عليه السلام: «واللَّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي امّه» «4».

______________________________

(1) سورة السجدة/ 14.

(2) سورة المطفّفين/ 4 و 5.

(3) سورة التوبة/ 52.

(4) نهج البلاغة، الخطبة 5.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 175

ويستقبلون الموت في سبيل الهدف برحابة صدر. ولهذا فإنّ أمير المؤمنين حينما تلقّى الضربة السامّة من اللعين الخاسر «عبد الرحمن بن ملجم» لم يقل سوى «فزت وربّ الكعبة».

خلاصة القول: فإنّ الإيمان بالمعاد يجعل من الإنسان الخائف الضائع، إنساناً شجاعاً شهماً هادفاً، تمتلى ء حياته بالحماسة والتضحية والصدق والتقوى.

3- الدلائل العقليّة على المعاد: فضلًا عن الدلائل النقلية الكثيرة على المعاد سواء الواردة في القرآن المجيد، والتي تشمل مئات الآيات بهذا الخصوص، فإنّ هناك أدلّة عقلية واضحة أيضاً على هذه المسألة، والتي نحاول ذكرها هنا بشكل مختصر:

أ) برهان الحكمة: إذا نظرنا إلى هذا العالم بدون العالم الآخر، فسيكون فارغاً وبلا معنى تماماً، كما لو افترضنا بوجود الحياة في الأطوار الجنينية بدون الحياة في هذه

الدنيا.

فلو كان قانون الخلق يقضي بأنّ جميع المواليد الجدد يختنقون بمجرد نزولهم من بطون امّهاتهم ويموتون، فإنّ الدور الجنيني سيكون بلا معنى؟ كذلك لو كانت الحياة في هذا العالم مبتورة عن الحياة في العالم الآخر، فسنواجه نفس الاضطراب والحيرة، فما ضرورة أن نعيش سبعين عاماً أو أكثر أو أقل في هذه الدنيا وسط كل هذه المشكلات؟ فنبدأ الحياة ونحن لا نملك تجربة معيّنة، وحين بلوغ تلك المرتبة يهجم الموت وينتهي العمر ... نسعى مدة لتحصيل العلم والمعرفة، وحينما نبلغ درجة منه بعد إشتعال الرأس شيباً يستقبلنا الموت.

ثم لأجل ماذا نعيش؟ الأكل واللبس والنوم والإستيقاظ المتكرر يومياً، وإستمرار هذا البرنامج المتعب لعشرات السنين، لماذا؟

فهل حقّاً إنّ هذه السماء المترامية الأطراف وهذه الأرض الواسعة، وكل هذه المقدمات والمؤخّرات وكل هؤلاء الأساتذة والمعلمين والمربين وكل هذه المكتبات الضخمة وكل هذه الامور الدقيقة والأعمال التي تداخلت في خلقنا وخلق باقي الموجودات، كل ذلك لمجرّد الأكل والشرب واللبس والحياة المادية هذه؟

هنا يعترف الذين لا يعتقدون بالمعاد بتفاهة هذه الحياة، ويقدم بعضهم على الإنتحار للتخلّص من هذه الحياة الخاوية، بل قد يفتخر به.

وكيف يمكن لمن يؤمن باللَّه وبحكمته المتعالية أن يعتبر هذه الحياة الدنيا وحدها بدون إرتباطها بحياة اخرى ذات قيمة وذات شأن؟

مختصر الامثل، ج 4، ص: 176

يقول تعالى: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَاتُرْجَعُونَ» «1». أي: أنّه لو لم يكن رجوع بعد هذه الدنيا إلى اللَّه، فإنّ الحياة في هذه الدنيا ليست سوى عبث في عبث.

نعم فإنّ الحياة في هذه الدنيا تجد معناها ويكون لها مفهوماً ينسجم مع حكمة اللَّه سبحانه وتعالى عندما تعتبر هذه: «الدنيا مزرعة للآخرة» و «الدنيا قنطرة» ومكان تعلّم، وجامعة للإستعداد للعالم الآخر ومتجر لذلك العالم،

تماماً كما يقول أمير المؤمنين علي عليه السلام في نهج البلاغة في كلماته العميقة المعنى: «إنّ الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، ودار موعظة لمن اتّعظ بها. مسجد أحبّاء اللَّه، ومصلّى ملائكة اللَّه، ومهبط وحي اللَّه، ومتجر أولياء اللَّه».

خلاصة القول، إنّ الفحص والمطالعة في وضع هذا العالم يؤدّي إلى الإعتقاد بعالم آخر وراء هذا العالم: «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ» «2».

ب) برهان العدالة: التدقيق في نظام الوجود وقوانين الخلق، يستنتج منه أنّ كل شي ء منها محسوب بدقّة متناهية. ففي مؤسسة البدن البشري، يحكم نظام عادل دقيق، بحيث أنّه لو تعرّض لأدنى تغيير أو عارض ما لأدّى إلى إصابته بالمرض أو حتى الموت، حركات القلب، دوران الدم، أجفان العين، وكل جزء من خلايا الجسم البشري مشمول بهذا النظام الدقيق، الذي يحكم العالم بأسره و «بالعدل قامت السماوات والأرض». فهل يستطيع الإنسان أن يكون وحده النغمة النشاز في هذا العالم الواسع؟!

صحيح أنّ اللَّه سبحانه وتعالى أعطى للإنسان بعض الحرية في الإرادة والاختيار لكي يمتحنه ولكي يتكامل في ظل تلك الحرية ويطوي مسير تكامله بنفسه، ولكن إذا أساء الإنسان الاستفادة من تلك الحرية فماذا سيكون؟! ولو أنّ الظالمين الضالين المضلين بسوء استفادتهم من هذه الموهبة الإلهية استمرّوا على مسيرهم الخاطى ء فماذا يقتضي العدل الإلهي؟!

وصحيح أنّ بعضاً من المسيئين يعاقبون في هذه الدنيا ويلقون مصير أعمالهم- على

______________________________

(1) سورة المؤمنون/ 115.

(2) سورة الواقعة/ 62.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 177

الأقل قسم منهم- ولكن المسلّم أنّ جميعهم لا ينال جميع ما يستحق، كما أنّ جميع المحسنين الأطياب لا يتلقّون جزاء أعمالهم الطيبة في الدنيا، فهل من الممكن أن تكون كلتا المجموعتين في

كفّة عدالة اللَّه سواء؟!

ويقول القرآن الكريم: «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» «1».

وفي موضع آخر يقول تعالى: «أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ» «2».

على كل حال، فلا شك في تفاوت الناس وإطاعة أوامر اللَّه سبحانه وتعالى، كما أنّ محاكم «القصاص والثواب الدنيوية» و «محكمة الوجدان» و «الآثار الوضعية للذنوب» كل ذلك لا يكفي لإقرار العدالة على ما يبدو، وعليه يجب القبول بأنّه لأجل إجراء العدالة الإلهية يلزم وجود محكمة عدل عامة تراعي بدقة الخير أو الشر في حساباتها، وإلّا فإنّ أصل العدالة لا يمكن تأمينه أبداً.

وبناءً على ما تقدّم يجب الإقرار بأنّ قبول العدل الإلهي مساوٍ بالضرورة لوجود المعاد والقيامة، القرآن الكريم يقول: «وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيمَةِ» «3».

ويقول: «وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَايُظْلَمُونَ» «4».

ج) برهان الهدف: على خلاف ما يتوهمه الماديون، فإنّ الإلهيين يرون أنّ هناك هدفاً من خلق الإنسان، والذي يعبّر عنه الفلاسفة ب «التكامل» وفي لسان القرآن والحديث فهو «القرب إلى اللَّه» أو «العبادة»: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونَ» «5».

فهل يمكن تحقيق هذا الهدف إذا كان الموت نهاية لكل شي ء؟!

يجب أن يكون عالم بعد هذا العالم ويستمر فيه سير الإنسان التكاملي، وهناك يحصد ما زرع في هذا العالم، وكما قلنا في موضع آخر فإنّه في ذلك العالم الآخر يستمر سير الإنسان التكاملي ليبلغ هدفه النهائي.

الخلاصة: أنّ تحقيق الهدف من الخلق لا يمكن بدون الإعتقاد بالمعاد، وإذا قطعنا الإرتباط بين هذا العالم وعالم ما بعد الموت، فكل شي ء سيتحوّل إلى ألغاز، وسوف نفقد الجواب على الكثير من التساؤلات.

______________________________

(1) سورة القلم/ 35 و 36.

(2) سورة ص/ 28.

(3) سورة الأنبياء/ 47.

(4) سورة يونس/ 54.

(5) سورة الذاريات/ 56.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 178

د) برهان نفي الإختلاف: لا

شك أنّنا جميعاً نتعذّب كثيراً من الاختلافات بين المذاهب والعقائد في هذا العالم، وكلّنا نتمنّى أن تحلّ هذه الاختلافات، في حين أنّ جميع القرائن تدلّل على أنّ هذه الاختلافات هي من طبيعة الحياة، ويستفاد من عدة دلائل بأنّه حتى بعد قيام المهدي عليه السلام- وهو المقيم لحكومة العدل العالمية والمزيل لكثير من الاختلافات- ستبقى بعض الاختلافات العقائدية بلا حلّ تامّ، وكما يقول القرآن الكريم، فإنّ اليهود والنصارى سيبقون على اختلافاتهم إلى قيام القيامة: «فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوِم الْقِيمَةِ» «1».

ولكن اللَّه سبحانه وتعالى الذي يقود كل شي ء باتّجاه الوحدة سينهي تلك الاختلافات حتماً، ولوجود الحجب الكثيفة لعالم المادة في الدنيا فإنّه لا يمكن حلّ هذا الأمر بشكل كامل فيها، ونعلم أنّ العالم الآخر هو عالم الظهور والإنكشاف، إذن فنهاية هذه المسألة ستكون نهاية عملية، وستكون الحقائق جلية واضحة إلى درجة أنّ الاختلافات العقائدية ستحلّ بشكل نهائي تام.

الجميل أنّه تمّ التأكيد في آيات متعددة من القرآن الكريم على هذه المسألة، يقول تعالى في الآية (113) من سورة البقرة: «فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ».

وفي الآيات (38 و 39) من سورة النحل يقول تعالى: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَايَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ لِيُبَيّنَ لَهُمُ الَّذِى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ».

4- القرآن ومسألة المعاد: تعتبر مسألة المعاد المسألة الثانية بعد مسألة التوحيد والتي تعتبر المسألة الأساس في تعليمات الأنبياء بخصائصها وآثارها التربوية، لذا ففي بحوث القرآن الكريم نجد أنّ أكثر الآيات اختصّت ببحث مسألة المعاد، بعد الكثرة الكاثرة التي اختصّت ببحث مسألة التوحيد.

والمباحث القرآنية حول المعاد تارةً تكون بشكل إستدلالات منطقية، واخرى بشكل

بحوث خطابية وتلقينية شديدة الوقع بحيث إنّ سماعها في بعض الأحيان يؤدّي إلى قشعريرة شديدة في البدن بأسره. والكلام الصادق- كالاستدلالات المنطقية- ينفذ إلى أعماق الروح الإنسانية.

______________________________

(1) سورة المائدة/ 14.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 179

في القسم الأوّل، أي الاستدلالات المنطقية، فإنّ القرآن الكريم يؤكّد كثيراً على موضوع إمكانية المعاد، إذ إنّ منكري المعاد غالباً ما يتوهمون إستحالته، ويعتقدون بعدم إمكانية المعاد بصورة معاد جسماني يستلزم عودة الأجسام المهترئة والتراب إلى الحياة مرّة اخرى.

ففي هذا القسم، يلج القرآن الكريم طرقاً متنوعة ومتفاوتة تلتقي كلها في نقطة واحدة، وهي مسألة «الإمكان العقلي للمعاد».

فتارةً يجسّد للإنسان النشأة الاولى، وبعبارة واضحة تقول الآية: «كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» «1».

وتارةً يجسّد حياة وموت النبات، وبعثه الذي نراه بامّ أعيننا كل عام، وفي الختام يقول إنّ بعثكم تماماً كالنبات: «وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ* وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ* رّزْقًا لّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذلِكَ الْخُرُوجُ» «2».

وفي موضع آخر يقول تعالى: «وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذلِكَ النُّشُورُ» «3».

وحيناً يطرح مسألة قدرة اللَّه سبحانه وتعالى على خلق السموات والأرض فيقول:

«أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِىَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ» «4».

وحيناً آخر يعرض عملية إنبعاث الطاقة وإشتعال الشجر الأخضر كنموذج على قدرته، وجعل النار في قلب الماء فيقول: «الَّذِى جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا» «5».

وتارةً يجسّد أمام ناظري الإنسان الحياة الجنينية فيقول: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ

مُّخَلَّقَةٍ لِّنُبَيّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا» «6».

وأخيراً فإنّ القرآن تارةً يدلّل على البعث بالنوم الطويل- النوم الذي هو قرين الموت

______________________________

(1) سورة الأعراف/ 29.

(2) سورة ق/ 9- 11.

(3) سورة فاطر/ 9.

(4) سورة الأحقاف/ 33.

(5) سورة يس/ 80.

(6) سورة الحجّ/ 5.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 180

وأخوه، بل إنّه الموت بعينه من بعض الجوانب- كنوم أصحاب الكهف الذي استمر ثلاثمائة وتسع سنين، وبعد تفصيل جميل حول النوم واليقظة يقول: «وَكَذلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَارَيْبَ فِيهَا» «1».

تلك هي الأساليب الستّة المختلفة التي طرحتها آيات القرآن الكريم لبيان إمكانية المعاد.

علاوةً على قصة إبراهيم عليه السلام والطيور الأربعة (البقرة- 260) وقصة عزير (البقرة- 259) وقصة الشهادة من بني إسرائيل (البقرة- 73)، والتي تشكّل كل واحدة منها نموذجاً تأريخياً على هذه المسألة وهي من الشواهد والدلائل الاخرى التي ذكرها القرآن بهذا الخصوص.

خلاصة القول، إنّ ما يعرضه القرآن الكريم عن المعاد ومظاهره المختلفة ومعلوماته ونتائجه، والدلائل الرفيعة التي يطرحها بهذا الخصوص، حيّة ومقنعة بحيث إنّ أيّ إنسان إذا كان لديه ذرّة من الوجدان فإنّه يتأثّر بعمق ما يطرحه القرآن الكريم.

5- المعاد الجسماني: المقصود من المعاد الجسماني ليس إعادة الجسم وحده في العالم الآخر، بل إنّ الهدف هو بعث الروح والجسم معاً، وبتعبير آخر فإنّ عودة الروح أمر مسلّم به، والحديث حول عودة الجسم.

جمع من الفلاسفة القدماء كانوا يعتقدون بالمعاد الروحي فقط، وينظرون إلى الجسد على أنّه مركّب، يكون مع الإنسان في هذه الدنيا فقط، وبعد الموت يصبح الإنسان غير محتاج إليه فينزل من الجسد ويندفع نحو عالم الأرواح.

ولكن العلماء المسلمين الكبار يعتقدون بأنّ المعاد يشمل الروح والجسم، وهنا لا

يقيّد البعض بعودة الجسم السابق، ويقولون بأنّ اللَّه قيّض للروح جسداً، ولكن شخصية الإنسان بروحه فإنّ هذا الجسد يعدّ جسده.

في حال أنّ المحققين يعتقدون بأنّ هذا الجسد الذي يصبح تراباً ويتلاشى، يتلبّس بالحياة مرّة اخرى بأمر اللَّه الذي يجمعه ويكسوه بالحياة، هذه العقيدة نابعة من متون الآيات القرآنية الكريمة.

إنّ الشواهد على المعاد الجسماني في الآيات القرآنية الكريمة كثيرة جدّاً، بحيث يمكن

______________________________

(1) سورة الكهف/ 21.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 181

القول قطعاً بأنّ الذين يعتقدون بإقتصار المعاد على المعاد الروحي فقط لا يملكون أدنى إطّلاع على الآيات العديدة التي تبحث في موضوع المعاد، وإلّا فإنّ جسمانية المعاد واضحة في الآيات القرآنية إلى درجة تنفي أدنى شك في هذه المسألة.

فهذه الآيات التي قرأناها في آخر سورة يس، توضّح هذه الحقيقة فحينما تساءل الإنسان: «قَالَ مَن يُحْىِ الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ» أجابه القرآن بصراحة ووضوح: «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ».

إنّ كل تعجّب المشركين والمخالفين لمسألة المعاد هو هذه القضية، وهي كيف يمكن إحياؤنا بعد الموت وبعد أن نصبح تراباً متناثراً وضائعاً في هذه الأرض؟ «وَقَالُوا أَءِذَا ضَلَلْنَا فِى الْأَرْضِ أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ» «1».

إنّهم يقولون: «أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرِجُونَ» «2».

وتعجّبوا من هذه المسألة إلى درجة أنّهم اعتبروا إظهارها دليلًا على الجنون أو الكذب على اللَّه: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبّئُكُمْ إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ» «3».

لهذا السبب فإنّ إستدلالات القرآن الكريم حول إمكانية المعاد عموماً تدور حول هذا المحور وهو «المعاد الجسماني» وما عرضناه في الفصل السابق في ستّة طرق كانت دليلًا وشاهداً على هذا الادّعاء.

علاوةً على أنّ القرآن الكريم يذكر مراراً وتكراراً بأنّكم ستخرجون يوم القيامة من

قبوركم والقبور مرتبطة بالمعاد الجسماني.

والأوصاف التي يذكرها القرآن الكريم عن المواهب المادية والمعنوية للجنة، كلها تدلّل على أنّ المعاد معاد جسمي ومعاد روحي أيضاً، وإلّا فلا معنى للحور والقصور وأنواع الأغذية والنعيم في الجنة إلى جنب المواهب المعنوية.

على كل حال، فلا يمكن أن يكون الإنسان على جانب يسير من المنطق والثقافة القرآنية وينكر المعاد الجسماني. وبتعبير آخر: فإنّ إنكار المعاد الجسماني بنظر القرآن الكريم مساوٍ لإنكار أصل المعاد.

______________________________

(1) سورة السجده/ 10.

(2) سورة المؤمنون/ 35.

(3) سورة سبأ/ 7.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 182

علاوةً على هذه الأدلة النقلية، فإنّ هناك أدلّة عقلية بهذا الخصوص لو أردنا إيرادها لاتّسع البحث كثيراً.

6- الجنة والنار: الكثيرون يتوهّمون بأنّ عالم ما بعد الموت يشبه هذا العالم تماماً ولكنّه بشكل أكمل وأجمل، غير أنّ لدينا قرائن عديدة تدلّل على الفروق الكبيرة بين العالمين من حيث الكيفية والكميّة، لو أردنا تشبيهها بالفروق بين العالم الجنيني وهذه الدنيا لظلّت المقايسة أيضاً غير كاملة.

فوفقاً لصريح الروايات الواردة في هذا الشأن فإنّ في عالم ما بعد الموت ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على فكر بشر، القرآن الكريم يقول: «فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ» «1».

الأنظمة الحاكمة في ذلك العالم أيضاً تتفاوت تماماً مع الأنظمة في هذا العالم، ففي حين يستفاد في هذا العالم من أفراد يسمّون «الشهود» في المحاكمات، نرى أنّ هناك تشهد الأيدي والأرجل وحتى الجلد: «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» «2». «وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْ ءٍ» «3».

على كل حال، فما قيل عن العالم الآخر لا يرسم أمامنا سوى صورة باهتة، وعادةً فإنّ اللغة التي نتحدث

بها والثقافة التي لدينا غير قادرة جميعها على الوصف الحقيقي لما هو موجود هناك، ولكن لا يترك الميسور بالمعسور. فالمقدار المتيقن هو أنّ الجنة هي مركز كل النعم والمواهب الإلهية سواء المادية أو المعنوية، وجهنم هي مركز لكل أنواع العذاب الأليم المادي والمعنوي أيضاً.

«نهاية تفسير سورة يس»

______________________________

(1) سورة السجده/ 17.

(2) سورة يس/ 65.

(3) سورة فصّلت/ 21.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 183

37. سورة صافَّات

محتوى السورة: يمكن تلخيص محتوى سورة الصافات في خمسة أقسام:

1- يبحث حول مجاميع من ملائكة الرحمن، ومجموعة من الشياطين المتمردين ومصيرهم.

2- يتحدث عن الكافرين، وإنكارهم للنبوّة والمعاد، والعقاب الذي ينتظرهم يوم القيامة، والعذاب الإلهي الذي سيشملهم، كما يشرح هذا القسم جوانب من النعم الموجودة في الجنة إضافةً إلى ملذّاتها وجمالها وسرور أهلها.

3- يشرح تأريخ الأنبياء أمثال (نوح) و (إبراهيم) و (إسحاق) و (موسى) و (هارون) و (إلياس) و (لوط) و (يونس) ويتحدث هذا القسم بشكل مفصل عن إبراهيم محطّم الأصنام وعن جوانب مختلفة من حياته.

4- يعالج صورة معيّنة من صور الشرك والذي يمكن إعتباره من أسوأ صور الشرك، وهو الإعتقاد بوجود رابطة القرابة بين اللَّه سبحانه وتعالى والجن والملائكة.

5- يتناول في عدّة آيات قصار إنتصار جيوش الحق على جيوش الكفر والشرك والنفاق، وإبتلاءهم- أي الكافرين والمشركين والمنافقين- بالعذاب الإلهي، وتنزّه آيات هذا القسم اللَّه سبحانه وتعالى وتقدّسه عن الأشياء التي نسبها المشركون إليه.

إنّ تسمية هذه السورة بالصافات جاءت نسبة إلى الآية الاولى فيها.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 184

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «ومن قرأ سورة الصافات اعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد كل جنّي وشيطان، وتباعدت عنه مردة الشياطين، وبرى ء من الشرك، وشهد له حافظاه يوم

القيامة أنّه كان مؤمناً بالمرسلين».

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ سورة الصافات في كل يوم جمعة لم يزل محفوظاً من كل آفة، مدفوعاً عنه كل بليّة في حياته الدنيا، مرزوقاً في الدنيا بأوسع ما يكون من الرزق، ولم يصبه اللَّه في ماله ولا ولده ولا بدنه بسوء من شيطان رجيم، ولا جبار عنيد، وإن مات في يومه أو ليلته بعثه اللَّه شهيداً، وأماته شهيداً، وأدخله الجنة مع الشهداء في درجة من الجنة».

إنّ الهدف من التلاوة هو التفكّر، ومن ثم الإعتقاد، ومن بعد العمل، ومن دون شك فإنّ الذي يتلو هذه السورة بتلك الصورة، سيحفظ من شرّ الشياطين، ويتطهّر من الشرك، ويمتلك الإعتقاد الصحيح القوي، ويمارس أعمالًا صالحة، وإنّه سيحشر مع الشهداء.

وَ الصَّافَّاتِ صَفّاً (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا وَ رَبُّ الْمَشَارِقِ (5) الملائكة المستعدة لتنفيذ المهام: هذه السورة هي أوّل سورة في القرآن الكريم تبدأ بالقسم، القَسَم الملي ء بالمعاني والمثير للتفكّر، القسم الذي يجوب بفكر الإنسان في آفاق و أجواء هذا العالم، ويجعله متهيّئاً لتقبّل الحقائق.

من المسلّم به أنّ اللَّه تبارك وتعالى هو أصدق الصادقين، وليس بحاجة إلى القسم.

ونلفت الإنتباه إلى نقطتين لحل مشكلة القسم في كل آيات القرآن التي سنتناولها من الآن فما بعد.

الاولى: أنّ القسم يأتي دائماً بالنسبة إلى امور مهمة وذات قيمة، ولذلك فإنّ أقسام القرآن تشير إلى عظمة وأهمية الأشياء المقسم بها.

الثانية: أنّ القسم يأتي للتأكيد، وللدلالة على أنّ الامور التي يقسم من أجلها هي امور جديّة ومؤكّدة.

إنّ بداية هذه السورة تذكر أسماء ثلاثة طوائف أقسم بها اللَّه تعالى.

الاولى: «وَالصَّافَّاتِ صَفًّا».

مختصر الامثل، ج 4،

ص: 185

الثانية: «فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا».

الثالثة: «فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا».

إنّ المعروف والمشهور هو أنّ هذه الصفات تخصّ طوائف من الملائكة ...

طوائف اصطفّت في عالم الوجود بصفوف منظمة، وهي مستعدّة لتنفيذ الأمر الإلهي.

وطوائف من الملائكة تزجر بني آدم عن إرتكاب المعاصي والذنوب، وتحبط وساوس الشياطين في قلوبهم، أو الملائكة الموكّلة بتسيير السحاب في السماء وسوقها نحو الأرض اليابسة لإحيائها.

وأخيراً طوائف من الملائكة تتلو آيات الكتب السماوية حين نزول الوحي على الرسل.

«الصافّات»: هي جمع كلمة «صافّة» وهي بدورها تحمل صفة الجمع أيضاً، وتشير إلى مجموعة مصطفّة، إذن ف «الصافّات» تعني الصفوف المتعددة.

و «الزاجرات»: مأخوذة من «الزجر» ويعني الصرف عن الشي ء بالتخويف والصراخ، وبمعنى أوسع فإنّها تشمل كل منع وطرد وزجر للآخرين.

إذن فالزاجرات تعني مجاميع مهمّتها نهي وصرف وزجر الآخرين.

الآن نرى ما هو المراد من هذه الأقسام المفعمة بالمعاني، أي القسم بالملائكة والإنس؟

الآية التالية توضّح ذلك وتقول: «إِنَّ إَلهَكُمْ لَوَاحِدٌ».

قسم بتلك المقدسات التي ذكرناها فإنّ الأصنام ستزول وتدمّر، وإنّه ليس هناك من شريك ولا شبيه ولا نظير للَّه سبحانه وتعالى.

ثم يضيف: «رَّبُّ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ».

فالشمس في كل يوم تشرق من مكان غير المكان الذي أشرقت منه قبل يوم أو بعد يوم، والفواصل الموجودة بين هذه النقاط منظمة ودقيقة للغاية، حيث إنّها لا تزيد ولا تقلّ بمقدار 11000 من الثانية، وهذا التنظيم الدقيق موجود منذ ملايين السنين، كما أنّ هذا النظام ينطبق على ظهور وغروب النجوم.

إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُوراً وَ لَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 186

حفظ السماء من تسلّل

الشياطين: الآيات السابقة تحدثت عن طوائف الملائكة المكلفة بتنفيذ المهام الجسام، والآيات مورد البحث تتحدث عن الطائفة المقابلة لها، أي الشياطين وعن مصيرهم. ويمكن أن تكون هذه الآيات مقدمة لدحض معتقدات مجموعة من المشركين الذين يعبدون الشياطين والجن، وتتضمّن كذلك درساً في التوحيد بين طيّاتها.

تبدأ الآية بالقول: «إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ».

حقّاً إنّ منظر النجوم في السماء رائع الجمال، ولا تملّ أيّ عين من طول النظر إليه، بل إنّ النظر إليه يزيل التعب والهمّ من داخل الإنسان، (ممّا يذكر أنّ أبناء المدن في العصر الحاضر التي يغطّيها دخّان المصانع، لا يستمتعون بمشاهدة السماء وهي مرصّعة بالكواكب كما يشاهدها الإنسان القروي حيث يدركون هذه المقولة القرآنية- أي تزيين السماء بالكواكب- بصورة أفضل).

أمّا الآية: «وَحِفْظًا مّن كُلّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ» فإنّها تشير إلى حفظ السماء من تسلّل الشياطين إليها.

«مارد»: مشتقة من «مرد» التي تعني الأرض المرتفعة الخالية من الزرع، وهنا المقصود هو الشخص الخبيث العاري من الخير.

ثم يضيف القرآن الكريم: إنّ الشياطين لا تتمكّن من سماع حديث ملائكة الملأ الأعلى ومعرفة أسرار الغيب التي عندهم، فكلّما حاولوا عمل شي ء ما لسماع الحديث، رشقوا بالشهب من كل جانب: «لَّايَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلّ جَانِبٍ».

نعم، إنّهم يطردون من السماء بشدّة، وقد أعدّ لهم عذاب دائم، كما جاء في قوله تعالى:

«دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ». «لَّا يَسَّمَّعُونَ» بمعنى (لا يستمعون) ويفهم منها أنّ الشياطين يحاولون معرفة أخبار «الملأ الأعلى» إلّاأنّه لا يسمح لهم بذلك.

«الْمَلَإِ الْأَعْلَى ، تعني ملائكة السماوات العلى، لأنّ كلمة «ملأ» تطلق في الأصل على الجماعة التي لها وجهة نظر واحدة.

وعندما يوصف الملأ ب (الأعلى) فذلك إشارة إلى الملائكة الكرام ذوي المقام الأرفع والأسمى.

«يقذفون»: مشتقة من «قذف»

وتعني رمي الشي ء إلى مكان بعيد، والمقصود هنا طرد الشياطين بواسطة الشهب.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 187

وهنا إشارة إلى أنّ الشياطين لا يطردون ولا يمنعون من الإقتراب من السماء فحسب، بل سيصيبهم في النهاية- مع ذلك- عذاب دائم.

وأشارت الآية أيضاً إلى طائفة من الشياطين الشريرة التي تحاول الصعود إلى السماء العليا لإستراق السمع، وإلى المصير الذي ينتظرها هناك، كما جاء في الآية الشريفة: «إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ».

«الخطفة»: أي اختلاس الشي ء بسرعة.

و «الشهاب»: شي ء مضي ء متولد من النار، ويرى نوره في السماء على شكل خط ممتد.

وكما هو معروف فإنّ الشهب ليست نجوماً، وإنّما تشبه النجوم، وهي عبارة عن قطع صغيرة من الحجر متناثرة في الفضاء، عندما تدخل في مجال جاذبية الأرض، تنجذب نحوها، ونتيجة دخولها بسرعة إلى جوّ الأرض وإحتكاكها الشديد مع الهواء المحيط بالكرة الأرضية فإنّها تشتعل وتحترق.

و «ثاقب»: تعني النافذ والخارق.

وهذه إشارة إلى أنّ الشهاب يثقب كل شي ء يصيبه ويحرقه.

فَاسْتَفْتِهِمْ أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَ يَسْخَرُونَ (12) وَ إِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَ إِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَ قَالُوا إِنْ هذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) الذين لا يقبلون الحق أبداً: هذه الآيات تعالج قضية منكري البعث، وتتابع البحث السابق بشأن قدرة الباري ء عزّ وجل خالق السماوات والأرض، وتبدأ بالإستفسار منهم وتقول: إسألهم هل أنّ معادهم وخلقهم مرّة ثانية أصعب أو خلق الملائكة والسماوات والأرض: «فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا».

نعم، فنحن خلقناهم من مادة تافهة، من طين لزج: «إِنَّا خَلَقْنَاهُم مّن طِينٍ لَّازِبٍ».

فالمشركون الذين ينكرون المعاد، قالوا بعد سماعهم الآيات السابقة بشأن خلق السماوات والأرض والملائكة. إنّ خلق

الإنسان أصعب من خلق السماوات والأرض والملائكة، إلّاأنّ القرآن الكريم أجابهم بالقول: إنّ خلق الإنسان مقابل خلق الأرض

مختصر الامثل، ج 4، ص: 188

والسماء والملائكة الموجودة في هذه العوالم، يعدّ لا شي ء، لأنّ أصل الإنسان يعود إلى حفنة من التراب اللزج. ولأنّ أصل الإنسان كان من التراب الذي خلط بالماء، وبعد فترة أضحى طيناً متجمّعاً ذا رائحة نتنة، ثم تحول إلى طين متماسك (وهذه الصورة هي جمع لحالات متعددة مذكورة في عدّة آيات في القرآن المجيد).

ثم يضيف القرآن الكريم: «بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ».

وما يكمن وراء تلك التصرفات القبيحة ليس هو الجهل- فقط- وعدم المعرفة، بل إنّها اللجاجة والعناد، إذ أنّهم كلّما ذكّروا بدلائل المعاد والعقوبات الإلهية لا يتذكّرون «وَإِذَا ذُكّرُوا لَايَذْكُرُونَ».

والأنكى من ذلك، أنّهم كلّما شاهدوا معجزة من معجزاتك، لا يكتفون بالإستهزاء، وإنّما يدعون الآخرين للإستهزاء أيضاً: «وَإِذَا رَأَوْا ءَايَةً يَسْتَسْخِرُونَ». «وَقَالُوا إِنْ هذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ».

قولهم «هذا» المقصود منه تحقير المعجزات والآيات الإلهية والإنتقاص منها.

أَ إِذَا مِتْنَا وَ كُنَّا تُرَاباً وَ عِظَاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَ وَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَ أَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا هذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْوَاجَهُمْ وَ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) هل نبعث من جديد: الآيات هذه تتابع سرد أقوال منكري المعاد، وتواصل الردّ عليها، فالآية الاولى تعكس إستبعاد البعث من قبل منكريه بهذا النص: «أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ».

وهل سيبعث آباؤنا الأوّلون أيضاً؟ «أَوَ ءَابَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ». فمن يستطيع جمع تلك العظام النخرة وأكوام التراب المتفرّقة

المتبقيّة من الإنسان؟ ومن يتمكّن من إعادة الحياة إليها؟

فهؤلاء ذوي القلوب العمياء نسوا أنّهم كانوا تراباً في اليوم الأوّل، ومن التراب خلقوا، وإذ كانوا يشكّكون في قدرة اللَّه، فعليهم أن يعرفوا أنّ اللَّه كان قد أراهم قدرته، وإن كانوا يشكّكون بإستحالة التراب، فقد أثبت ذلك من قبل.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 189

ثم يردّ القرآن على تساؤلاتهم عندما يقول للرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: قل لهم: نعم أنتم وأجدادكم ستبعثون صاغرين مهانين أذلّاء، «قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ».

فهل تتصورون أنّ عملية إحيائكم والأوّلين تعدّ مستحيلة، أو هي عمل عسير على اللَّه القادر والقوي؟ كلّا، فإنّ صرخة عظيمة واحدة ممّن كلّفهم اللَّه سبحانه وتعالى بذلك كافية لبعث الحياة بمن في القبور، ونهوض الجميع فجأة من دون أيّ تمهيد أو تحضير من قبورهم ليشاهدوا بأعينهم ساحة المحشر التي كانوا بها يكذّبون: «فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ».

تعبير «زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ» مع الإلتفات إلى معنى الكلمتين، يشير إلى أنّ البعث يتمّ بسرعة وعلى حين غرّة، وإلى سهولته في مقابل قدرة الباري ء عزّ وجل.

وهنا تتعالى صرخات المشركين المغرورين وتبيّن ضعفهم وعجزهم وعوزهم، ويقولون: الويل لنا فهذا يوم الدين: «وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هذَا يَوْمُ الدّينِ».

نعم، فعندما تقع أعينهم على محكمة العدل الإلهي وشهودها وقضاتها، وعلى علامات العقاب فإنّهم- من دون أن يشعروا- يصرخون ويبكون، ويعترفون بحقيقة البعث.

وهنا يوجّه إليهم الخطاب من الباري ء عزّ وجل أو من ملائكته: نعم، اليوم هو يوم الفصل الذي كنتم به تكذّبون، «هذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِى كُنتُم بِهِ تُكَذّبُونَ».

وبما أنّ المجرمين لا يفكّرون إلّابالجزاء والعقاب الذي سينالهم، يطلق على يوم القيامة اسم يوم الجزاء، ولكن اللَّه سبحانه وتعالى يشير إلى معنى أوسع من الجزاء الذي يعدّ أحد

أبعاد ذلك اليوم، إذ يعتبر ذلك اليوم هو يوم الفصل.

يوم فصل الحق عن الباطل، فيجب أن تتبيّن كل الخطوط المتضادة والبرامج الحقيقية والكاذبة و يوم المحاكمة.

فطبيعة الدنيا هي إختلاط الحق بالباطل، في حين أنّ طبيعة البعث هو فصل الحق عن الباطل، ولهذا السبب فإنّ أحد أسماء يوم القيامة في القرآن المجيد (يوم الفصل).

ثم يصدر الباري ء عزّ وجل أوامره إلى ملائكته المكلفين بإرسال المجرمين إلى جهنم أن «احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ».

نعم احشروهم وما كانوا يعبدون «مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ».

«احشروا»: مشتقة من «حشر»، ويقول الراغب في مفرداته: إنّها تعني إخراج الجماعة عن مقرّهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 190

(أزواج) هنا إمّا أن تشير إلى زوجات المجرمين والمشركين، أو إلى من يعتقد إعتقادهم ويعمل عملهم ومن هو على شاكلتهم، لأنّ هذه الكلمة تشمل المعنيين.

جملة «مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ» تشير إلى آلهة المشركين، كالأصنام والشياطين والطغاة المتجبّرين والفراعنة والنماردة.

ففي أحد الأيام ارشدوا إلى الصراط المستقيم ولكنّهم لم يقبلوه، واليوم يجب أن يهدوا إلى صراط الجحيم، وهم مجبرون على القبول به، وهذا توبيخ عنيف لهم يجعلهم يتحرّقون ألماً في أعماقهم.

وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَ مَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) الحوار بين القادة والأتباع الضالين: الآيات السابقة إستعرضت كيفية سوق ملائكة العذاب للظالمين ومن يعتقد إعتقادهم برفقة الأصنام والآلهة الكاذبة التي كانوا يعبدونها من

دون اللَّه، إلى مكان معين، ومن ثم هدايتهم إلى صراط الجحيم.

واستمراراً لهذا الإستعراض يقول القرآن: «وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسُولُونَ».

ولكن عمّاذا يسألون؟ هناك روايات يذكرها الشيعة والسنّة في أنّهم يسألون عن ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام «1».

وبالطبع، فإنّ مثل هذه الروايات لا تحدّ من المفهوم الواسع للآيات، بل تعكس مصاديقها الواضحة. بناءً على ذلك فإنّه ليس هناك أي مانع من أن يسأل عن كل شي ء، عن العقائد وعن التوحيد والولاية، وعن الحديث والعمل، وعن النعم والمواهب التي وضعها اللَّه سبحانه وتعالى في إختيار الإنسان.

على أيّة حال، فعندما يساق المجرمون إلى صراط الجحيم، تكون أيديهم مقطوعة عن

______________________________

(1) الرواية هذه وردت في الصواعق المحرقة/ 89، عن الديلمي عن أبي سعيد الخدري نقلًا عن النبي صلى الله عليه و آله كما وردت عن الحاكم بن أبوالقاسم الحسكاني في شواهد التنزيل 2/ 160، نقلًا عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 191

كل شي ء وقاصرة عن تحصيل العون، ويقال لهم: أنتم الذين كان أحدكم يلجأ إلى الآخر في المشكلات ويطلب العون منه، لِمَ لا ينصر بعضكم بعضاً الآن «مَا لَكُمْ لَاتَنَاصَرُونَ».

فكل الدعائم التي تصوّرتم إنّها دعامات مطمئنة في الدنيا ازيلت عنكم، ولا يمكن أن يساعد بعضكم البعض، كما أنّ آلهتكم ليسوا بقادرين على تقديم العون لكم، لأنّهم عاجزون ومنشغلون بأنفسهم.

الآية التي تليها تضيف: إنّهم في ذلك اليوم مستسلمون لأوامر اللَّه وخاضعون له، ولا يمكنهم إظهار المخالفة أو الإعتراض، «بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ».

وهنا يبدأ كل واحد منهم بلوم الآخر، ويسعى إلى إلقاء أوزاره على عاتق الآخر، والتابعون يعتبرون رؤساءهم وأئمّتهم هم المقصّرون، فيقابلونهم وجهاً لوجه، ويبدأ كل منهم بسؤال الآخر، كما تقول الآية: «وَأَقْبَلَ

بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ».

وهنا يقول التابعون لمتبوعيهم: إنّكم شياطين، إذ كنتم تأتوننا بعنوان النصيحة والهداية والتوجيه وإرادة الخير والسعادة لنا، ولكن لم يكن من وراء مجيئكم سوى المكر والضياع «قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ».

إذ أنّنا- بحكم فطرتنا- كنّا نسعى وراء الخير والطهارة والسعادة، ولذا لبّينا دعوتكم. نعم فكل الذنوب التي إرتكبناها أنتم مسؤولون عنها، لأنّنا لم نكن نملك شيئاً سوى حسن النية وطهارة القلب، وأنتم الشياطين الكذّابون لم يكن لديكم سوى الخداع والمكر.

«يمين»: تعني (اليد اليمنى) أو (الجهة اليمنى) والعرب تعتبرها في بعض الأحيان كناية عن الخير والبركة والنصيحة.

وفي المقابل فإنّ المتبوعين والقادة يجيبون تابعيهم بالقول: «قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ».

ودليلنا واضح، إذ لم تكن لنا أي سلطة عليكم، ولم نضغط عليكم ونجبركم لعمل أي شي ء: «وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مّن سُلْطَانٍ».

إنّما أنتم قوم طغاة ومعتدون، وأخلاقكم وطبيعتكم الظالمة صارت سبب تعاستكم «بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ».

وكم هو مؤلم أن يرى الإنسان قائده وإمامه الذي كان قد إرتبط به قلبيّاً طوال عمره، قد تسبّب في تعاسته وشقائه ثم يتبرّأ منه.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 192

في الحقيقة، إنّ كلتا المجموعتين صادقة في قولها.

فجدالكم لا يؤدي إلى نتيجة، وهنا يعترف أئمة الضلال بهذه الحقيقة، ويقولون: بهذا الدليل ثبت أمر اللَّه علينا، وصدر حكم العذاب بحق الجميع، وسينالنا جميعاً عذاب اللَّه «فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبَّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ».

إنّكم كنتم طاغين، وهذا هو مصير الطغاة، أمّا نحن فقد كنا ضالين ومضلين.

فنحن أضللناكم كما كنّا نحن أنفسنا ضالين «فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ».

بناء على ذلك ما الذي يثير العجب في أن نكون جميعاً شركاء في هذه المصائب وهذا العذاب؟

إنّ سبب تأثيرنا عليكم هو وجود روح الطغيان في داخلكم؛ هذا الطغيان هيّأ لديكم أرضية

التأثّر بإغوائنا، وعبر هذا الطريق تمكّنا من نقل الخرافات إليكم.

فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَ يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَ صَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَ مَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) مصير أئمة الضلال وأتباعهم: الآيات السابقة بحثت موضوع التخاصم الذي يدور بين أئمة الضلال وتابعيهم يوم القيامة قرب جهنم، أمّا الآيات أعلاه فقد وضّحت- في موضع واحد- مصير المجموعتين، وشرحت أسباب تعاستهم. ففي البداية تقول: إنّ التابع والمتبوع والإمام والمأموم مشتركون في ذلك اليوم بالعذاب الإلهي، «فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ».

وبالطبع فإنّ إشتراكهم في العذاب لا يمنع من وجود إختلاف في المكان الذي سيلقون منه في جهنم، إضافةً إلى اختلاف نوع العذاب الإلهي؛ إذ من الطبيعي أنّ الذي يتسبّب في انحراف الآلاف من البشر لا يتساوى عذابه مع فرد ضالّ عادي.

وللتأكيد أكثر على تحقق العذاب تقول الآية التي تلتها: «إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ».

إنّ هذه هي سنّتنا، السنّة المستمدّة من قانون العدالة.

ثم توضّح السبب الرئيسي الكامن وراء تعاسة اولئك، وتقول: «إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا

مختصر الامثل، ج 4، ص: 193

إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ».

إنّ التكبر والغرور، وعدم الإنصياع للحق، والعمل بالعادات الخاطئة والتقاليد الباطلة بإصرار ولجاجة، والنظر إلى كل شي ء باستخفاف واستحقار، تؤدّي جميعاً إلى إنحراف الإنسان.

لكن هؤلاء برّروا إرتكابهم للذنوب الكبيرة بتبريرات أسوأ من ذنوبهم، كقولهم: هل نترك آلهتنا وأصنامنا من أجل شاعر مجنون؟ «وَيَقُولُونَ أَئِنّا لَتَارِكُوا ءَالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ».

لقد أطلقوا على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله كلمة (شاعر)

لأنّ كلامه كان ينفذ إلى قلوبهم ويحرّك عواطفهم، فأحياناً كان يتكلّم إليهم بكلام يفوق أفضل الأشعار وزناً، في الوقت الذي لم يكن حديثه شعراً، وكانوا يعتبرونه (مجنوناً) لكونه لم يتلوّن بلون المحيط الذي يعيش فيه، ووقف موقفاً صلباً أمام العقائد الخرافية التي يعتقد بها المجتمع المتعصّب حينذاك، الموقف الذي اعتبره المجتمع الضال في ذاك الوقت نوع من الإنتحار الجنوني، في الوقت الذي كان أكبر فخر لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله، هو عدم إستسلامه للوضع السائد حينذاك.

وهنا تدخل القرآن لردّ إدّعاءاتهم التافهة والدفاع عن مقام الوحي ورسالة النبي صلى الله عليه و آله عندما قال: «بَلْ جَاءَ بِالْحَقّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ».

فمحتوى كتابه من جهة، وتوافق دعوته مع دعوات الأنبياء السابقين من جهة اخرى، هي خير دليل على صدق حديثه.

وأمّا أنتم أيّها المستكبرون الضالون، فإنّكم ستذوقون العذاب الإلهي الأليم: «إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا الْعَذَابِ الْأَلِيمِ».

ولا تتصوّروا أنّ اللَّه منتقم، وأنّه يريد الإنتقام لنبيّه منكم، كلّا ليس كذلك: «وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

وجزاؤكم إنّما هو نتيجة أعمالكم وتكبّركم وكفركم وعدم إيمانكم باللَّه وزعمكم بأنّ آيات اللَّه هي (شعر) ورسوله (مجنون) إضافةً إلى ظلمكم وإرتكابكم القبائح.

آخر آية في هذا البحث، والتي هي مقدمة للبحث المقبل، تستثني مجموعة من العذاب، وهي مجموعة عباد اللَّه المخلصين: «إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ».

وكلمة «عِبَادَ اللَّهِ» يمكنها لوحدها أن تبيّن إرتباط هذه المجموعة باللَّه سبحانه وتعالى، وعندما تضاف إليها كلمة (مخلصين) فإنّها تعطي لتلك الكلمة عمقاً وحياةً.

نعم فهذه المجموعة لا تحاسب على أعمالها، وإنّما يعاملها اللَّه سبحانه وتعالى بفضله

مختصر الامثل، ج 4، ص: 194

وكرمه، ويمنحها من الثواب بغير حساب.

أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَ هُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ

(44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَ لَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَ عِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) جوانب من النعم لأهل الجنة: الآيات الأخيرة في البحث السابق تحدثت عن عباد اللَّه المخلصين، أمّا آيات بحثنا هذا فإنّها تستعرض العطايا والنعم غير المحدودة التي يهبها اللَّه سبحانه وتعالى لأهل الجنة، ويمكن توضيحها في سبعة أقسام:

تقول الآية أوّلًا: إنّ لهم رزقاً معلوماً ومعيّناً «أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ».

وهي الهبات المعنوية والمتع الروحية ودرك مظاهر ذات اللَّه، وتناول الشراب الطاهر والغمرة في عشق اللَّه، اللذة التي لا يمكن أن يدركها العبد ما لم يتذوّقها ويعيش رحابها.

ثم ينتقل إلى بيان نعم اخرى، ويعدّد قبل كل شي ء بعض نعم الجنة التي تقدّم لأهل الجنة بكل إحترام وتكريم: «فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ».

ثم يقول: إنّ أماكنهم في حدائق خضراء مملوءة بنعم الجنة «فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ».

فأيّ نعمة يتمنّونها موجودة هناك، وكل ما يطلبون يجدونه أمامهم.

وأشارت الآيات إلى النعمة الرابعة، وهي إستئناس أهل الجنة بمجالس السّمر التي يعقدونها مع أصدقائهم في جوّ ملؤه الصفاء، إذ يجلسون على سرر متقابلة وينظر كل منهم إلى الآخر: «عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ».

«سرر»: هي جمع «سرير» وهي الأسرّة التي يجلس عليها الناس في مجالس سمرهم.

أمّا القسم الخامس فيتحدث عن نعمة اخرى من النعم التي تغدق على أهل الجنة، إذ تطرّق إلى الشراب الطهور الذي يطاف به عليهم بكؤوس مملوءة بأنواع الخمور الطاهرة، ومتى ما أرادوا فإنّهم يسقون من ذلك الخمر ليغرقوا في عالم من النشاط والروحية: «يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مّن مُّعِينٍ».

وهذه الكؤوس ليست في مكان معيّن يذهبون إليها لأخذها، وإنّما يطاف بها عليهم:

«يُطَافُ عَلَيْهِم».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 195

«كأس»: يطلقها

أهل اللغة على إناء الشراب المملوء، فيما يطلقون كلمة «قدح» عليه إن كان خالياً؛ و «معين»: مشتقة من «معن» على وزن (صحن) وتعني الجاري، إشارة إلى أنّ هناك عيوناً جارية من الخمر الطاهر، تملأ منها- في كل لحظة- الكؤوس، ومن ثم يطاف بها على أهل الجنة.

ثم ينتقل الحديث إلى وصف كؤوس الشراب، إذ يقول: إنّها بيضاء اللون ومتلألئة وتعطي لذة للشاربين بها «بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لّلشَّارِبِينَ».

إنّها أشربة طاهرة، خالية من الألوان الشيطانية، وبيضاء اللون شفّافة.

الآية السابقة التي تطرّقت إلى الشراب والكؤوس ربّما تجلب إلى الأذهان مفاهيم اخرى، أمّا الآية التي تليها فتطرد في جملة قصيرة كافّة تلك المفاهيم عن الأذهان: «لَافِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزِفُونَ».

«غول»: على وزن (قول) تعني الفساد الذي ينفذ إلى الشي ء بصورة غير محسوسة.

«ينزفون»: من مادة «نزف» على وزن (حذف) وتعني فقدان الشي ء تدريجيّاً. والمقصود في هذه الآية ذهاب العقل تدريجيّاً والوصول إلى حالة السكرة، أمّا خمر الجنة الطاهر فإنّه لا يسكر على الإطلاق، إذ لا يذهب بالعقل ولا يسبّب أي مضارّ.

أمّا القسم السادس، فإنّه يشير إلى الحور العين في جنات النعيم: «وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ». أي نرزقهم زوجات لا يعشقن سوى أزواجهن ويقصرن طرفهنّ عليهم فقط، ولهذه الزوجات أعيناً واسعة وجميلة.

«طرف»: في الأصل تعني جفن العين، وهذه الكلمة كناية عن النظر، إذ إنّ أجفان العين تتحرّك عندما ينظر الإنسان إلى شي ء ما؛ إذن فإنّ عبارة «قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ» تعني النساء اللواتي ينظرن نظرة قصيرة، وأنّهنّ ينظرن إلى أزواجهنّ فقط.

هذا التعبير كناية عن كونهنّ لا يعشقن إلّاأزواجهن، وقلوبهم متيّمة بمحبّتهم، ولا توجد محبّة اخرى في قلوبهنّ، وهذا هو أكبر إمتياز للمرأة التي تحبّ زوجها وتتأمل به.

إنّ آخر آية في بحثنا هذا تعطينا وصفاً

آخر لزوجات الجنة، إذ توضّح طهارتهن وقداستهنّ من خلال هذه العبارة: «كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ». أي إنّهن نظيفات وظريفات.

الهبات التي منّ اللَّه تعالى بها على أهل الجنة- المذكورة في الآيات السابقة- هي مجموعة من الهبات الماديّة والمعنوية، وإن كان حقيقة النعم التي تغدق على أهل الجنة خفيّة عن أهل الدنيا، إلّاإذا ذهبوا إلى هناك وشاهدوها عن قرب ليدركوها.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 196

فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَ إِذَا مِتْنَا وَ كُنَّا تُرَاباً وَ عِظَاماً أَ إِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَ لَوْ لَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَ فَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَ مَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) البحث عن رفيق السوء: عباد اللَّه المخلصون الذين إستعرضت الآيات السابقة النعم المادية والمعنوية التي أغدقت عليهم، كالفاكهة، والحور، والأصدقاء الطيبين الذين يجالسونهم ويتحدثون معهم، وفجأة يتذكّرون أصدقاءهم في الدنيا، أصدقاءهم الذين إنفصلوا عنهم في الطريق، ولم يجدوا لهم أي أثر في الجنة، فيسعون إلى معرفة مصيرهم.

نعم، ففي الوقت الذي كانوا فيه منشغلين بالحديث والسؤال عن أحوال بعضهم البعض، «فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ».

فجأةً خطر في ذهن أحدهم أمر، فالتفت إلى أصحابه قائلًا: لقد كان لي صديق في الدنيا «قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنّى كَانَ لِى قَرِينٌ».

ومع الأسف، فإنّه انحرف عن الطريق الصحيح، وصار منكراً ليوم البعث، وكان دائماً يقول لي: هل تصدّق هذا الكلام وتعتقد به؟ «يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدّقِينَ».

هل أنّنا إذا متنا

وكنّا تراباً وعظاماً نحيا مرّة اخرى، لنساق إلى الحساب: «أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَءِنَّا لَمَدِينُونَ» «1».

وهنا يخاطب من كان يتحدث معهم من أهل الجنة، بالقول: ليتني أعرف أين هو الآن؟

وفي أيّة ظروف يعيش؟

ويضيف: أيّها الأصدقاء، هل تستطيعون البحث عنه، ومعرفة حاله، «قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ» «2».

______________________________

(1) «مدينون»: من مادة «دين» وتعني الجزاء، وهنا تعني: هل أنّنا سنجزى؟

(2) «مطّلعون»: من مادة «إطّلاع» وتعني التفتيش والبحث، والإشراف على شي ء من مكان عالٍ، وأخذ المعلومات.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 197

وأثناء بحثه عن قرينه وصديقه ينظر إلى جهنم، ويرى فجأةً صديقه وسط جهنم:

«فَاطَّلَعَ فَرَءَاهُ فِى سَوَاءِ الْجَحِيمِ» «1».

فيخاطبه قائلًا: أقسم باللَّه لقد كدت أن تهلكني وتسقطني فيما سقطت فيه «قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ» «2».

فلولا لطف اللَّه الذي منعني من ذلك ونعمته التي سارعت لمساعدتي، لكنت اليوم من المحضرين للعذاب مثلك في نار جهنم «وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبّى لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ».

وهنا يلقي نظرة اخرى إلى صديقه في جهنم، ويقول له موبّخاً إيّاه: ألم تكن أنت القائل لي في الدنيا بأنّنا لا نموت «أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ». سوى مرّة واحدة في الدنيا، وبعدها لا حياة اخرى ولا عذاب «إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ».

هنا اختتم الحديث بجملة عميقة المعاني: «إِنَّ هذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».

ما أعظم هذا الفوز الذي يغرق فيه الإنسان بنعمة الخلود والحياة الأبدية، وتشمله الألطاف الإلهية.

ثم يقول تبارك وتعالى في ختام البحث جملة توقظ القلوب وتهزّ الأعماق: «لِمِثْلِ هذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ». أي لمثل هذا فليعمل الناس، ومن أجل نيل هذه النعم فليسع الساعون.

فما أجمل التعبير الذي صاغته الآيات القرآنية المذكورة أعلاه، عندما دعت المؤمنين إلى هذا الهدف، أي نيل الجنان المملوءة بالملذّات الروحية والجسمية، التي تشمل الشراب الطاهر الذي يغرق

الإنسان في الظلّ الملكوتي، والقرناء والأصدقاء الطيبين ذوي القلوب الصافية الذين تزيل مجالستهم كل أشكال الغم.

أَ ذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)

______________________________

(1) «سواء»: تعني الوسط.

(2) «تردين»: من مادة «إرداء» وتعني السقوط من مكان عالٍ، وهلاك الساقط.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 198

جوانب من العذاب الأليم لأهل النار: بعد توضيح النعم الكثيرة والخالدة التي يغدقها اللَّه سبحانه وتعالى على أهل الجنة، تستعرض الآيات أعلاه العذاب الأليم والمثير للأحزان الذي أعدّه اللَّه لأهل جهنم، وتقارنه مع النعم المذكورة سابقاً، بحيث تترك أثراً عميقاً في النفوس يردعها عن إرتكاب الأعمال السيّئة والمحرّمة. ففي البداية تقول: «أَذلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ».

«نُزُل»: تعني الشي ء الذي يهيّأ لورود الضيف فيقدّم إليه إذا ورد، والبعض الآخر قال:

إنّها تعني الشي ء الأوّل الذي يقدّم للضيف حين وروده.

و «زقّوم»: اسم نبات مرّ وذي طعم ورائحة كريهة.

و «شجرة»: لا تأتي دائماً بمعناها المعروف، وإنّما تعني في بعض الأحيان (النبات)؛ والقرائن هنا تشير إلى أنّ المراد من الشجرة هو المعنى الثاني أي (النبات). مختصر الامثل ج 4 219

ثم يستعرض القرآن الكريم بعض خصائص هذه النبتة، ويقول: «إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ».

«فتنة»: تعني المحنة والعذاب، كما تعني الامتحان، وهو إشارة إلى أنّ المشركين عندما سمعوا كلمة (الزقّوم) عمدوا إلى السخرية والاستهزاء، فيما كان هذا الأمر إمتحاناً لُاولئك الطغاة.

ويضيف القرآن الحكيم: «إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ».

ولكن الظالمين المغرورين يواصلون إستهزاءهم، ويقولون:

كيف يمكن لنبات أو شجر أن ينبت في قعر جهنم؟ فأين النار وأين الشجر والنبات؟

وكأنّهم كانوا غافلين عن أنّ الاصول التي تحكم في ذلك العالم- أي الآخرة- تختلف كثيراً عن الاصول الحاكمة في العالم الدنيوي.

ثم يضيف القرآن الكريم: «طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ».

إنّ التشبيه هنا استخدم لبيان شدّة قباحة ثمار الزقّوم وشكلها الباعث على النفور والإشمئزاز.

ويواصل القرآن الكريم إستعراض العذاب الذي سينال المشركين والكافرين: «فَإِنَّهُمْ لَأَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ».

هذا هو العذاب والفتنة الذي أشرنا إليه في الآيات السابقة، حيث إنّ أكل هذا النبات

مختصر الامثل، ج 4، ص: 199

الذي ينبت في جهنم ذو الرائحة الكريهة والطعم المرّ واللبن الذي يورم ويحرق الأبدان فور ما يصيبها، وتناوله- وبكميّات كبيرة- يعدّ عذاباً أليماً.

ومن البديهي، فإنّ من يتناول هذا الطعام السي ء الطعم والمرّ، يصيبه العطش، ولكن حينما يشعر بالعطش ماذا يشرب؟ القرآن يجيب على هذا السؤال بالقول: «ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مّنْ حَمِيمٍ».

«الشوب»: هو الشي ء المخلوط أو الممزوج مع شي ء آخر؛ و «حميم»: هو الماء الحار البالغ في حرارته، وهذا هو غذاء أهل جهنم، وهذا هو شرابهم.

وبعد هذه الضيافة إلى أين يذهبون، فيجيب القرآن على هذا السؤال أيضاً بالقول: «ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ».

الآية الأخيرة في بحثنا تناولت السبب الرئيسي الذي أدّى إلى دخول اولئك إلى جهنم ونيلهم العذاب الأليم والشديد هناك، تناولته في آيتين مليئتين بالمعاني والحقائق: «إِنَّهُمْ أَلْفَوْا ءَابَاءَهُمْ ضَالّينَ».

وإنّهم كانوا يسرعون على آثارهم ومن دون أي إرادة، «فَهُمْ عَلَى ءَاثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ».

«يهرعون»: من مادة «هرع» أي أسرع، وهي إشارة إلى أنّهم كانوا يقلّدون آباءهم قلباً وديناً وإنّهم كانوا يحثّون الخطى على آثارهم إلى درجة كأنّهم يسارعون في ذلك من دون أي إرادة وإختيار، وإشارة اخرى إلى

تعصّبهم وتمسّكهم بالخرافات التي كان أجدادهم الضالّون يعتقدون بها.

وَ لَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) الامم الضالة السابقة: بما أنّ المسائل السابقة المتعلقة بالمجرمين والضالين لا تختّص بزمان ومكان معينين، فالقرآن يتوسّع في الآيات التي تبحث بشكل مفصّل عن هذه المسائل، ويهي ء الأرضية في عدة آيات قصيرة ومختصرة لشرح امور كثيرة عن الامم السابقة، والتي بالإطلاع عليها تكون أدلّة ناطقة للبحوث السابقة.

ومن تلك الامم أقوام نوح وإبراهيم وموسى وهارون ولوط ويونس وغيرهم، إذ يقول:

«وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 200

ثم يضيف القرآن المجيد أنّ ضلالتهم لم تكن بسبب إفتقادهم القائد وعدم موعظتهم:

«وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ».

إذ أنّنا أرسلنا إليهم أنبياء لإنذارهم من خطر الشرك باللَّه والكفر به، والظلم والإعتداء، وتقليد الآخرين بصورة عمياء، ولإطّلاعهم على مسؤولياتهم.

ثم يقول في عبارة ذات معان عميقة: «فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ».

إنّ هذه الآية المباركة تشير إلى نهاية أقوام سنستعرض أحوالها وأوضاعها بصورة مفصّلة في الآيات القادمة.

أمّا آخر آية في بحثنا فإنّها تستثني جماعة من العذاب الإلهي: «إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ».

إنّ هذه الآية تشير إلى عاقبة هذه الامم، وتدعو إلى التمعّن في العذاب الأليم الذي ابتلوا به، والذي أهلكهم وأبادهم جميعاً ماعدا عباد اللَّه المؤمنين والمخلصين الذين نجوا من هذا العذاب.

وَ لَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَ نَجَّيْنَاهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَ جَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَ تَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) مقتطفات من قصة نوح: من

هنا يبدأ سرد قصص تسعة أنبياء من أنبياء اللَّه الكبار، والذين كانت الآيات السابقة قد تطرّقت إليهم بصورة خفيّة، وتشرع الآيات بنوح شيخ الأنبياء وأوّل اولي العزم من الرسل. بدأ البحث بالإشارة إلى دعاء نوح الشديد على قومه بعد أن يئس من هدايتهم: «وَلَقَدْ نَادَينَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ».

هذا الدعاء يمكن أن يكون إشارة إلى الدعاء الذي ورد في سورة نوح: «وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا* إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا» «1».

فإنّ اللَّه سبحانه وتعالى يجيبه في الآية التي تليها بالقول: «وَنَجَّيْنهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ».

______________________________

(1) سورة نوح/ 26 و 27.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 201

يمكن أن يكون ذلك الغمّ نتيجة إستهزاء قومه الكافرين المغرورين به، وتجريحهم إيّاه بكلمات نابية وساخرة تستهدف إهانته وأتباعه المؤمنين، أو نتيجة تكذيب قومه اللجوجين إيّاه.

ويضيف القرآن الكريم: «وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ».

وإضافةً إلى ذلك يقول القرآن: أنّنا جعلنا لنوح ثناءً وذكراً جميلًا في الأجيال والامم اللاحقة: «وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الْأَخِرِينَ».

فقد وصفه القرآن المجيد بالنبي المقاوم والشجاع والصبور والرحيم والعطوف، وأطلق عليه لقب شيخ الأنبياء.

فبعد تحمّله كافّة الصعاب والآلام، منحه اللَّه سبحانه وتعالى وساماً خالداً يفتخر به في العالمين «سَلمٌ عَلَى نُوحٍ فِى الْعَالَمِينَ».

ولكي تكون خصوصيات نوح عليه السلام مصدر إشعاع للآخرين، أضاف القرآن الكريم: «إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ». و «إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ».

إنّ درجة عبودية نوح للَّه وإيمانه به- إضافةً إلى إحسانه وعمله الصالح الذي ذكرته الآيتان الأخيرتان- كانت السبب الرئيسي وراء اللطف الإلهي الذي شمل نوحاً وأنقذه من الغمّ الكبير، وبعث إليه بالسلام، السلام الذي يمكن أن يشمل كل من عمل بما عمل به نوح، لأنّ معايير الألطاف الإلهية لا تتخلّف، ولا

تختّص بشخص دون آخر.

أمّا الآية الأخيرة في بحثنا فقد وضّحت بعبارة شديدة اللهجة مصير تلك الامّة الظالمة الشريرة الحاقدة: «ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْأَخَرِينَ».

إذ إنهمر المطر سيلًا من السماء، وتفجّرت الأرض عيوناً، وغطّت المياه اليابسة كبحر هائج دكّ بأمواجه المتلاطمة الشامخة عروش الطغاة ودمّرها، لافظاً إيّاهم بعدئذ أجساداً هامدة لا حياة فيها ولا روح.

وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ مَا ذَا تَعْبُدُونَ (85) أَ إِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَ لَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 202

خطّة إبراهيم الذكية في تحطيم الأصنام: آيات بحثنا هذا تتناول بشي ء من التفصيل حياة النبي الشجاع إبراهيم عليه السلام محطّم الأصنام بعد آيات إستعرضت جوانب من تاريخ نوح عليه السلام الملي ء بالحوادث. الآية الاولى ربطت بين قصة إبراهيم وقصة نوح بهذه الصورة:

«وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرهِيمَ». أي: إنّ إبراهيم كان سائراً على خطى نوح عليه السلام في التوحيد والعدل والتقوى والإخلاص، وكل واحد منهم يواصل تنفيذ برامج الآخر لإكمالها.

بعد هذا العرض المختصر ندخل في التفاصيل. قال تعالى: «إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ».

في الكافي عن الصادق عليه السلام قال: «القلب السليم الذي يلقى ربّه وليس فيه أحد سواه».

واعتبر القرآن الكريم القلب السليم رأس مال نجاة الإنسان يوم القيامة، حيث نقرأ في سورة الشعراء، وفي الآيات (88 و 89) على لسان النبي الكبير إبراهيم عليه السلام قوله تعالى: «يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ

أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ».

نعم، من هنا تبدأ قصة إبراهيم ذي القلب السليم، والروح الطاهرة، والإرادة الصلبة، والعزم الراسخ، مع قومه، إذ كلّف بالجهاد ضدّ عبّاد الأصنام، وبدأ بأبيه وعشيرته: «إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ». ما هذه الأشياء التي تعبدونها؟

أليس من المؤسف على الإنسان الذي كرّمه اللَّه على سائر المخلوقات، وأعطاه العقل أن يعظّم قطعة من الحجر والخشب العديم الفائدة؟ أين عقولكم؟

ثم يكمل العبارة السابقة التي كان فيها تحقير واضح للأصنام، ويقول: «أَئِفْكًا ءَالِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ».

واختتم كلامه في هذا المقطع بعبارة عنيفة: «فَمَا ظَنُّكُم بِرَبّ الْعَالَمِينَ». إذ تأكلون ما يرزقكم به يوميّاً، ونعمه تحيط بكم من كل جانب، ورغم هذا تقصدون موجودات لا قيمة لها من دون اللَّه.

وجاء في كتب التاريخ والتّفسير، أنّ عبدة الأصنام في مدينة بابل كان لهم عيد يحتفلون به سنوياً، يهيّئون فيه الطعام داخل معابدهم، ثم يضعونه بين يدي آلهتهم لتباركه، ثم يخرجون جميعاً إلى خارج المدينة، وفي آخر اليوم يعودون إلى معابدهم لتناول الطعام والشراب.

وحين دعاه قومه ليلًا للمشاركة في مراسمهم نظر إلى النجوم: «فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النُّجُومِ». «فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ». وبهذا الشكل إعتذر عن مشاركتهم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 203

بعد إعتذاره تركوه وأسرعوا لتأدية مراسمهم، «فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ».

إنّ أهل بابل كانوا يستقرئون النجوم، وبالطبع كانت هناك خرافات كثيرة في هذا المجال شائعة في أوساطهم، منها أنّهم كانوا يعتبرون النجوم تؤثّر على حظوظهم، وكانوا يطلبون منها الخير والبركة، كما كانوا يستدلّون بها على الحوادث المستقبلية.

ولكي يوهمهم إبراهيم عليه السلام بأنّه يقول بمثل قولهم، نظر إلى السماء وقال حينذاك: إنّي سقيم، فتركوه ظنّاً منهم أنّ نجمه يدلّ على سقمه.

ولكن روحه متعبة من جرّاء الممارسات التافهة لقومه وكفرهم وظلمهم وفسادهم، رغم أنّهم

تصوّروا شيئاً آخر، واعتقدوا أنّه يعاني من أمراض جسدية.

وبهذه الطريقة بقي إبراهيم عليه السلام وحده في المدينة بعد أن تركها عبدة الأصنام متوجّهين إلى خارجها، فنظر إبراهيم حوله ونور الإشتياق لتحطيم الأصنام ظاهر في عينيه، إذ قربت اللحظات التي كان ينتظرها، وعليه أن يتحرّك لمحاربة الأصنام وإلحاق ضربة عنيفة بها، ضربة تهزّ العقول التافهة لعبدتها وتوقظهم.

فذهب إلى معبد الأصنام، ونظر إلى صحون وأواني الطعام المنتشرة في المعبد، ثم نظر إلى الأصنام وصاح بها مستهزئاً، ألا تأكلون من هذا الطعام الذي جلبه لكم عبدتكم، إنّه غذاء دسم ولذيذ ومتنوع، ما لكم لا تأكلون؟ «فَرَاغَ إِلَى ءَالِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ» «1».

ثم أضاف: لِم لا تتكلّمون؟ لِم تعجز ألسنتكم عن النطق؟ «مَا لَكُمْ لَاتَنطِقُونَ».

بعد ذلك شمر عن ساعديه، فأمسك الفأس وانقضّ على تلك الأصنام بالضرب بكل ما لديه من قوّة: «فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ».

إنّ إنقضاض إبراهيم عليه السلام على الأصنام، حوّل معبد الأصنام المنظّم إلى خربة موحشة.

وفي آخر اليوم عاد عبدة الأصنام إلى مدينتهم، واتّجهوا فوراً إلى معبدهم، فشاهدوا مشهداً رهيباً وغامضاً.

ثم تحوّل جوّ السكوت الذي خيّم عليهم لحظة مشاهدة المشهد، تحوّل إلى صراخ وإستفسار عمّن فعل ذلك بآلهتهم؟

ولم يمرّ وقت طويل، حتى تذكّروا وجود شاب يعبد اللَّه في مدينتهم إسمه إبراهيم، كان يستهزى ء بأصنامهم «فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ».

______________________________

(1) «راغ»: من مادة «روغ» وتعني التوجّه والتمايل بشكل سرّي ومخفي أو بشكل مؤامرة وتخريب.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 204

«يزفّون»: مشتقة من «زفّ» وتستعمل بخصوص هبوب الرياح والحركة السريعة للنعامة الممتزجة ما بين السير والطيران، ثم تستخدم للكناية عن (زفاف العروس) إذ تعني أخذ العروس إلى بيت زوجها.

قَالَ أَ تَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ مَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا

لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَ قَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فشل مخطّطات المشركين: بعد أن حطّم إبراهيم الأصنام، استدعي إبراهيم بهذه التهمة إلى المحكمة، وقد شرح القرآن الكريم في سورة الأنبياء الحادثة بصورة مفصلة، بينما اكتفى القرآن في آيات بحثنا بالإشارة لمقطع حساس واحد من مواقف إبراهيم عليه السلام وهو آخر كلامه معهم في مجال بطلان عقيدتهم في عبادة الأصنام: «قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ».

فهل هناك شخص عاقل يعبد شيئاً من صنع يديه؟

فالمعبود يجب أن يكون خالق الإنسان، وليس صنيعة يده، من الآن فكّروا واعرفوا معبودكم الحقيقي: «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ».

فهو خالق الأرض والسماء، ومالك الوقت والزمان، ويجب السجود لهذا الخالق وحمده وعبادته.

إنّ هذه الحجّة كانت من الوضوح والقوّة إلى حد جعلتهم يقفون أمامها مبهوتين وغير قادرين على ردّهاودحضها.

ومن المعروف أنّ الطغاة والجبابرة لا يفهمون لغة المنطق والدليل.

ولإيقاف إنتشار منطق التوحيد بين أبناء مدينة بابل، عمد الطغاة الذين أحسّوا بخطر إنتشاره على مصالحهم الخاصة إلى استخدام منطق القوّة والنار ضد إبراهيم عليه السلام، حيث هتفوا بالإعتماد على قدراتهم الدنيوية: أن ابنوا له بنياناً عالياً، واشعلوا في وسطه النيران ثم ارموه فيه: «قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِى الْجَحِيمِ».

ومن هذه العبارة يستفاد أنّ الأوامر كانت قد صدرت ببناء أربعة جدران كبيرة، ومن ثم إشعال النيران في داخلها، وبناء الجدران الأربعة الكبيرة، إنّما تمّ- كما يحتمل- للحؤول دون إمتداد النيران إلى خارجها، ومنع وقوع أخطار محتملة قد تنجم عنها، ولإيجاد جهنم واقعية

مختصر الامثل، ج 4، ص: 205

كتلك التي كان إبراهيم يتهدّد ويتوعّد عبدة الأوثان بها.

«الجحيم»: في اللغة هي النار التي تجتمع بعضها على

بعض.

وآيات القرآن الكريم هنا لم تشر إلى تفاصيل هذا الحادث الذي ورد في سورة الأنبياء، وإنّما أنهت هذه الحادثة بخلاصة مركّزة ولطيفة: «فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ».

«كيد»: في الأصل تعني الإحتيال، أكان بطريقة صحيحة أم خطأ، مع أنّها غالباً ما تستعمل في موارد مذمومة، وهي إشارة إلى المخطّط الواسع الذي وضعه طغاة بابل للقضاء على دعوة إبراهيم للناس بقوله وعمله ومحو آثارها.

إبراهيم عليه السلام الذي نجا بإرادة اللَّه من هذه الحادثة الرهيبة والمؤامرة الخطيرة التي رسمها أعداؤه له، صمّم على الهجرة إلى أرض بلاد الشام، إذ إنّ رسالته في بابل قد إنتهت؛ «وَقَالَ إِنّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبّى سَيَهْدِينِ».

من البديهي أنّ اللَّه لا يحويه مكان، والهجرة التي تتمّ في سبيله من المجتمع الملوّث الفاسد إلى المجتمع الطاهر الصافي، فإنّها هجرة إلى اللَّه.

الآيات- هنا- عكست أوّل طلب لإبراهيم عليه السلام من الباري ء عزّ وجل، إذ طلب الولد الصالح، الولد الذي يتمكّن من مواصلة خطّه الرسالي، ويتمم ما تبقّى من مسيرته، وذلك حينما قال: «رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصَّالِحِينَ».

فاستجاب اللَّه لدعاء عبده إبراهيم، ورزقه أولاداً صالحين (إسماعيل وإسحاق).

فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَا ذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَ نَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَ فَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَ تَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) بحثنا في الآيات السابقة إنتهى عند هجرة إبراهيم عليه السلام من بابل

بعد أن أدّى رسالته هناك، وطلبه من اللَّه أن يرزقه ولداً صالحاً، إذ لم يكن له ولد، وأوّل آية في هذا البحث تتحدث عن الإستجابة لدعاء إبراهيم، إذ قالت الآية: «فَبَشَّرْنهُ بِغُلمٍ حَلِيمٍ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 206

في الواقع إنّ ثلاثة بشائر جمعت في هذه الآية، الاولى أنّه سيرزق طفلًا ذكراً، والثانية أنّ هذا الطفل يبلغ سنّ الفتوّة، أمّا الثالثة فهي أنّ صفته حليم.

أخيراً، ولد الطفل الموعود لإبراهيم وفق البشارة الإلهية، وأثلج قلب إبراهيم الذي كان ينتظر الولد الصالح لسنوات طوال، إجتاز الطفل مرحلة الطفولة وأضحى غلاماً، وهنا يقول القرآن: «فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ». يعني أنّه وصل إلى مرحلة من العمر يستطيع فيها السعي وبذل الجهد مع والده في مختلف امور الحياة وإعانته على اموره.

فقد ذهب جمع من المفسرين: إنّ عمر إسماعيل كان (13) عاماً حينما رأى إبراهيم ذلك المنام العجيب المحيّر، والذي يدلّ على بدء امتحان عسير آخر لهذا النبي ذي الشأن العظيم، إذ رأى في المنام أنّ اللَّه يأمره بذبح إبنه الوحيد وقطع رأسه.

امتحان شاقّ آخر يمرّ على إبراهيم الآن، إبراهيم الذي نجح في كافّة الإمتحانات الصعبة السابقة وخرج منها مرفوع الرأس، ولكن قبل كل شي ء، فكّر إبراهيم عليه السلام في إعداد إبنه لهذا الأمر، حيث «قَالَ يَا بُنَىَّ إِنّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى .

الولد الذي كان نسخة طبق الأصل من والده، والذي تعلّم خلال فترة عمره القصيرة الصبر والثبات والإيمان في مدرسة والده، رحّب بالأمر الإلهي بصدر واسع وطيبة نفس، وبصراحة واضحة قال لوالده: «قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ».

ولا تفكّر في أمري، فإنّك «سَتَجِدُنِى إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ».

فما أعظم كلمات الأب والإبن وكم تخفي في بواطنها؛ فمن

جهة، الأب يصارح ولده البالغ من العمر (13) عاماً بقضية الذبح، حيث جعله هنا شخصية مستقلّة حرّة الإرادة.

ومن جهة اخرى، عمد الإبن إلى ترسيخ عزم وتصميم والده في تنفيذ ما أمر به.

وبهذا الشكل يجتاز الأب وإبنه المرحلة الاولى من هذا الإمتحان الصعب بإنتصار كامل.

كتب البعض: إنّ إسماعيل ساعد والده في تنفيذ هذا الأمر الإلهي، وعمل على تقليل ألم وحزن والدته.

يا أبت، أحكم شدّ الحبل كي لا تتحرّك يدي ورجلي أثناء تنفيذك الأمر الإلهي، أخاف أن يقلّل ذلك من مقدار الجزاء الذي سأناله.

والدي العزيز اشحذ السكّين جيّداً، وامرره بسرعة على رقبتي كي يكون تحمّل ألم الذبح سهلًا بالنسبة لي ولك.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 207

والدي قبل ذبحي اخلع ثوبي من على جسدي كي لا يتلوّث بالدم، لأنّي أخاف أن تراه والدتي وتفقد عنان صبرها.

ثم أضاف: أوصل سلامي إلى والدتي، وإن لم يكن هناك مانع أوصل ثوبي إليها كي يسلّي خواطرها ويهدّى ء من آلامها.

قربت اللحظات الحسّاسة، فعندما رأى إبراهيم عليه السلام درجة إستسلام ولده للأمر الإلهي إحتضنه وقبّل وجهه، وفي هذه اللحظة بكى الإثنان.

القرآن الكريم يوضّح هذا الأمر في جملة قصيرة ولكنّها مليئة بالمعاني، فيقول تعالى:

«فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ» «1».

كبّ إبراهيم عليه السلام إبنه على جبينه، ومرّر السكّين بسرعة وقوّة على رقبة إبنه، وروحه تعيش حالة الهيجان، إلّاأنّ السكّين الحادّة لم تترك أدنى أثر على رقبة إسماعيل اللطيفة.

وهنا غرق إبراهيم في حيرته، ومرّر السكّين مرّة اخرى على رقبة ولده، ولكنّها لم تؤثّر بشي ء كالمرّة السابقة. نعم، فإبراهيم الخليل يقول للسكّين: إذبحي، لكن اللَّه الجليل يعطي أوامره للسكّين أن لا تذبحي، والسكّين لا تستجيب سوى لأوامر الباري ء عزّ وجل.

وهنا ينهي القرآن كل حالات الإنتظار وبعبارة قصيرة مليئة بالمعاني العميقة:

«وَنَادَيْنهُ

أَنْ يَا إِبْرهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءْيَا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ».

ثم يضيف القرآن الكريم: «إِنَّ هذَا لَهُوَ الْبَلؤُا الْمُبِينُ».

عملية ذبح الإبن البارّ المطيع على يد أبيه، لا تعدّ عملية سهلة وبسيطة بالنسبة لأب إنتظر فترة طويلة كي يرزقه اللَّه بهذا الإبن.

والذي يثير العجب أكثر هو التسليم المطلق لهذا الغلام أمام أمر اللَّه، إذ استقبل أمر الذبح بصدر مفتوح وإطمئنان يحفّه اللطف الإلهي، وإستسلام في مقابل هذا الأمر.

ولكي لا يبقى برنامج إبراهيم ناقصاً، وتتحقق امنية إبراهيم في تقديم القربان للَّه، بعث اللَّه كبشاً كبيراً إلى إبراهيم ليذبحه بدلًا عن إبنه إسماعيل، ولتصير سنّة للأجيال القادمة التي تشارك في مراسم الحجّ وتأتي إلى أرض (منى): «وَفَدَيْنهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ».

______________________________

(1) «تلّه»: من مادة «تلّ» وتعني في الأصل المكان المرتفع؛ و (تلّه للجبين) تعني أنّه وضع أحد جوانب وجه إبنه على مكان مرتفع من الأرض.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 208

وإحدى دلائل عظمة هذا الذبح، هو إتّساع نطاق هذه العملية سنة بعد سنة بمرور الزمن، وحالياً يذبح في كل عام أكثر من مليون اضحية تيمّناً بذلك الذبح العظيم وإحياءاً لذلك العمل العظيم. النجاح الذي حقّقه إبراهيم عليه السلام في الإمتحان الصعب، لم يمدحه اللَّه فقط ذلك اليوم، وإنّما جعله خالداً على مدى الأجيال: «وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الْأَخِرِينَ».

ولما إمتاز به إبراهيم عليه السلام من صفات حميدة، خصّه الباري ء عزّ وجل بالسلام: «سَلمٌ عَلَى إِبْرهِيمَ».

نعم، إنّا كذلك نجزي ونثيب المحسنين: «كَذلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ». جزاء يعادل عظمة الدنيا، جزاء خالد على مدى الزمان، جزاء يجعل من إبراهيم أهلًا لسلام اللَّه عزّ وجل عليه.

من هو ذبيح اللَّه؟ ظاهر آيات القرآن الكريم المختلفة تؤكّد على أنّ إسماعيل هو ذبيح اللَّه.

وجاء في روايات عن الإمامين المعصومين الباقر والصادق عليهما

السلام، أنّهما أجابا على أسئلة تستفسر عن الذبيح، فأجابا أنّه إسماعيل.

إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَ بَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَ بَارَكْنَا عَلَيْهِ وَ عَلَى إِسْحَاقَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) إبراهيم ذلك العبد المؤمن: الآيات الثلاث المذكورة أعلاه هي آخر الآيات التي تواصل الحديث عن قصة إبراهيم وإبنه وتكملها. في البداية تصف الآية القرآنية إبراهيم:

«إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ».

إنّ هذه الآية دليل على ما ذكر فيما قبل، كما توضّح حقيقة مفادها أنّ إيمان إبراهيم القوي دفعه إلى أن يضع كل وجوده وكيانه وحتى إبنه العزيز البارّ، في صحن الإخلاص فداءً لربّه سبحانه وتعالى.

ثم تتناول هذه الآيات نعمة اخرى من النعم التي وهبها اللَّه تعالى لإبراهيم: «وَبَشَّرْنهُ بِإِسْحقَ نَبِيًّا مّنَ الصَّالِحِينَ».

الآية الأخيرة تتحدث عن البركة التي أنزلها الباري ء جلّ وعلا على إبراهيم وإبنه إسحاق: «وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحقَ».

«بركة»: مشتقة من «برك» على وزن (درك) وتعني صدر البعير، وتدريجياً أعطت هذه

مختصر الامثل، ج 4، ص: 209

الكلمة معنى الثبات وبقاء شي ء ما؛ والآية مورد بحثنا تشير إلى ثبات ودوام النعم الإلهية على إبراهيم وإسحاق وعلى اسرتهم.

وهذه البركات لا تشمل كل أفراد عائلة إبراهيم وعشيرته، وإنّما تشمل- فقط- المؤمنين والمحسنين منهم، إذ تقول الآية في آخرها: «وَمِن ذُرّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لّنَفْسِهِ مُبِينٌ».

«محسن»: جاءت هنا بمعنى المؤمن والمطيع للَّه؛ و «ظالم»: جاءت هنا بمعنى الكافر والمذنب. فالآية المذكورة أعلاه تجيب اليهود والنصارى الذين افتخروا بكونهم من أبناء الأنبياء، وتقول لهم: إنّ صلة القربى لوحدها ليست مدعاة للإفتخار، إن لم ترافقها صلة في الفكر والالتزام بالرسالة.

وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَ هَارُونَ (114) وَ نَجَّيْنَاهُمَا وَ قَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَ نَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ

الْغَالِبِينَ (116) وَ آتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَ هَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَ تَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَ هَارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) النعم التي منّ بها اللَّه على موسى وهارون: الآيات المباركة هذه تشير إلى جوانب من النعم الإلهية التي أغدقها اللَّه جلّ شأنه على موسى وأخيه هارون.

الآية الاولى تشير إلى قوله تعالى: «وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهرُونَ».

«المنّة»: في الأصل من «المنّ» ويعني الحجر الذي يستعمل للوزن، ثم أطلق على النعم الكبيرة والثقيلة، فلو كانت لها جنبة عملية وموضوعية فالمنّة جميلة ومحمودة، ولو إقتصرت على اللفظ والكلام فهي سلبية ومذمومة.

إنّ اللَّه سبحانه وتعالى أنعم على الأخوين موسى وهارون بنعمة عظيمة. أمّا الآيات التي تلتها فتشرح سبعة من هذه النعم، وكل واحدة منها أفضل من اختها. ففي المرحلة الاولى يقول سبحانه وتعالى: «وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ».

فهل هناك قلق أكثر من هذا، وهو أنّ بني إسرائيل يعيشون في قبضة الفراعنة المتجبّرين

مختصر الامثل، ج 4، ص: 210

الطغاة؟ يذبحون أولادهم ويسخّرون نساءهم في خدمتهم، ويستعبدون رجالهم ويستعملونهم في الأعمال الشاقّة. وفي المرحلة الثانية، قال الباري ء عزّ وجل: «وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ».

ففي ذلك اليوم كان جيش الفراعنة ذا قوّة عظيمة ويتقدّمه الطاغية فرعون، فيما كان بنو إسرائيل قوم ضعفاء وعاجزين يفتقدون لرجال الحرب وللسلاح أيضاً، إلّاأنّ المدد الإلهي وصلهم في تلك اللحظات، وأغرق فرعون وجيشه وسط أمواج البحر، وأورث بني إسرائيل قصور وثروات وحدائق وكنوز الفراعنة.

وفي المرحلة الثالثة من مراحل إغداق النعم على بني إسرائيل وشمولهم بعنايته، جاء في محكم كتابه العزيز: «وَءَاتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ».

نعم (التوراة) هو كتاب مستبين، أي يوضّح لهم المجهولات المبهمة، ويجيبهم على كل

ما يحتاجونه في دينهم ودنياهم، كما أكّدت الآية (44) من سورة المائدة ذلك: «إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَيةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ».

وفي المرحلة الرّابعة أشار القرآن الكريم إلى نعمة معنوية اخرى منّ بها جلّ شأنه على موسى وهارون، وهي هدايتهما إلى الصراط المستقيم، «وَهَدَيْنَاهُمَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ».

أمّا المرحلة الخامسة فإنّها أكّدت على استمرار رسالتهما والثناء الجميل عليهما، إذ تقول الآية: «وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِى الْأَخِرِينَ». و المرحلة السادسة تستعرض التحيّة الطيّبة المباركة التي وردت إلى كل من موسى وهارون من عند اللَّه: «سَلمٌ عَلَى مُوسَى وَهرُونَ».

سلام من عند اللَّه، السلام الذي هو رمز لسلامة الدين والإيمان والرسالة والمذهب، السلام الذي يوضّح النجاة والأمن من العقاب والعذاب في هذه الدنيا وفي الآخرة.

وفي المرحلة السابعة- الأخيرة- نصل إلى مرحلة الثواب والمكافأة الكبرى التي يقدّمها الباري ء عزّ وجل إليهما: «إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ».

نعم إنّ حصولهما على كل هذه المفاخر لم يكن من دون دليل أو سبب، إذ كانا من المحسنين والمؤمنين والمخلصين والطيّبين، فمثل هؤلاء جديرون بالثواب والمكافأة.

الآية الأخيرة في بحثنا تشير إلى نفس الدليل الذي ورد في قصة نوح وإبراهيم من قبل:

«إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 211

فالإيمان هو الذي ينير روح الإنسان ويعطيه القوّة، ويدفعه إلى الطهارة والتقوى وعمل الإحسان والخير.

وَ إِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَ لَا تَتَّقُونَ (124) أَ تَدْعُونَ بَعْلًا وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَ تَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) النبي إلياس ومواجهته للمشركين: القصة الرابعة في هذه السورة إستعرضت بصورة مختصرة حياة

نبي اللَّه (إلياس). يقول تعالى: «وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ».

ثم تبدأ الآيات بالتفصيل بعد الإجمال وتقول: واذكر عندما أنذر قومه «إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ». أي: اتّقوا اللَّه واجتنبوا الشرك وعبادة الأصنام وإرتكاب الذنوب والمظالم، وكل ما يؤدّي بالإنسان إلى الباطل والفساد.

أمّا الآية التي تلتها فقد تحدّثت بصراحة أكثر: «أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ».

قيل: (بعل) إسم صنم وكان من ذهب وطوله عشرون ذراعاً وله أربعة أوجه فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن «1».

فقد عمد إلياس إلى توبيخ قومه بشدّة، وقال لهم: «اللَّهُ رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءَابَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ».

وإستخدام كلمة (ربّ) هنا أفضل منبّه للعقل والفكر، لأنّ أهمّ قضية في حياة الإنسان هي أن يعرف من الذي خلقه؟ ومن هو مالكه ومربّيه وولي نعمته اليوم؟

إلّا أنّ قومه اللجوجين والمتكبّرين لم يعطوا اذناً صاغية لنصائحه ومواعظه، ولم يعبأوا بما يقوله لهدايتهم، وإنّما كذّبوه «فَكَذَّبُوهُ».

ومقابل تصرّفاتهم هذه توعّدهم اللَّه سبحانه وتعالى بعذابه بعبارة قصيرة جاء فيها: إنّنا سنحضرهم إلى محكمة العدل الإلهي وسنعذّبهم في جهنم «فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ» لينالوا جزاء أعمالهم القبيحة والمنكرة.

______________________________

(1) روح المعاني 23/ 139.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 212

ولكن يبدو أنّ هناك مجموعة من الأطهار المحسنين والمخلصين قد آمنوا بما جاء به إلياس، ولكي لا يضيع حق هؤلاء، قال تعالى مباشرةً بعد تلك الآية: «إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ».

الآيات الأخيرة من بحثنا إستعرضت نفس القضايا الأربعة التي وردت بحقّ الأنبياء الماضين (نوح، وإبراهيم، وموسى، وهارون) ولأهميّتها نستعرضها مرّة اخرى.

قوله تعالى: «وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الْأَخِرِينَ». أي: إنّ الامم القادمة سوف لن تنسى الجهود الكبيرة التي بذلها الأنبياء الكبار من أجل حفظ خطّ التوحيد.

وفي المرحلة الثانية أثنى اللَّه سبحانه وتعالى وبعث بتحيّاته إلى آل ياسين. قال تعالى:

«سَلمٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ».

وفي المرحلة الثالثة،

قال تعالى: «إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ».

أمّا المرحلة الرابعة فتطرح الإيمان كأمر أساسي يجب أن يتوفّر في الأنبياء الذين إستعرضتهم هذه السورة المباركة فتقول الآية هنا: «إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ».

«الإيمان» و «العبودية» للَّه هما مصدر الإحسان، والإحسان يؤدّي إلى إنضمام المحسن لصفوف المخلصين الذين يشملهم سلام اللَّه.

وَ إِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلَا تَعْقِلُونَ (138) تدمير قوم لوط: «لوط» هو خامس نبي يذكر اسمه في هذه السورة ضمن تسلسل الآيات التي تحدّثت بصورة مختصرة عن تأريخه لإستمداد العبر منه.

وطبقاً لما جاء في آيات القرآن بشأن لوط، يتّضح أنّه كان معاصراً لإبراهيم عليه السلام، وأنّه من أنبياء اللَّه العظام.

بحثنا يبدأ بقوله تعالى: «وَإِنَّ لُوطًا لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ».

ثم يبيّن جوانب من قصة لوط، حيث قال: تذكر تلك الفترة الزمنية التي أنقذنا فيها لوطاً وأهله: «إِذْ نَجَّيْنهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ».

عدا زوجته العجوز التي جعلناها مع من بقي في العذاب: «إِلَّا عَجُوزًا فِى الْغَابِرِينَ». «ثُمَّ دَمَّرْنَا الْأَخَرِينَ».

الجمل القصيرة- التي وردت أعلاه- تشير إلى تأريخ قوم لوط الملي ء بالحوادث، والتي

مختصر الامثل، ج 4، ص: 213

ورد شرحها في سور (هود) و (الشعراء) و (العنكبوت).

وباعتبار أنّ هذه الآيات كانت مقدّمة لإيقاظ الغافلين والمغرورين، فقد أضاف القرآن الكريم: «وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ». أي: إنّكم تمرّون في كل صباح بجانب ديارهم الخربة من جرّاء العذاب.

كما تمرّون من هناك في الليل أفلا تعقلون؟ «وَبِالَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ».

هذه الآيات تخاطب قوافل أهل الحجاز التي كانت تذهب ليلًا ونهاراً إلى بلاد الشام عبر مدن قوم لوط، وتقول: لو كان لهم آذان حيّة لسمعوا الصراخ المذهل والعويل المفزع لهؤلاء

القوم المعذّبين. نعم، إنّه درس ما أكثر العبر فيه، ولكن المعتبرين منه قليل.

وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَ هُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْ لَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ (145) وَ أَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) يونس في بوتقة الإمتحان: الحديث هنا عن قصة نبي اللَّه «يونس» عليه السلام وقومه التائبين، والتي هي سادس وآخر قصة تتناول قصص الأنبياء والامم السابقة.

في البداية، وكما تعوّدنا في القصص السابقة، فإنّ الحديث يكون عن مقام رسالته، إذ تقول الآية: «وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ».

نبي اللَّه «يونس» عليه السلام كسائر الأنبياء العظام بدأ بالدعوة إلى توحيد اللَّه ومجاهدة عبدة الأصنام، ومن ثم محاربة الأوضاع الفاسدة التي كانت منتشرة في مجتمعه آنذاك، إلّاأنّ قومه المتعصّبين الذين كانوا يقلّدون أجدادهم الأوائل رفضوا الإستجابة لدعوته، عدا مجموعة قليلة منهم، يحتمل أن لا تتعدّى الشخصين (أحدهما يسمّى بالعابد والثاني بالعالم) آمنت برسالته.

وبعد فترة طويلة من دعوته إيّاهم إلى عبادة اللَّه وترك عبادة الأصنام، يئس يونس من هدايتهم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 214

وبالفعل فقد دعا عليهم، فنزل عليه الوحي وحدّد له وقت حلول العذاب الإلهي بهم، ومع حلول موعد نزول العذاب، رحل يونس- بمعيّة الرجل العابد- عن قومه وهو غاضب عليهم، ووصل إلى ساحل البحر، وشاهد سفينة عند الساحل غاصّة بالركاب فطلب منهم السماح له بالصعود إليها.

وهذا ما أشارت إليه الآية التالية، حيث قالت: «إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ».

«أبق»: مشتقة من «إباق» والتي تعني فرار العبد من

سيّده، إنّها لعبارة عجيبة، إذ تبيّن أنّ ترك العمل بالأولى من قبل الأنبياء العظام ذوي المقام الرفيع عند اللَّه، مهما كان بسيطاً فإنّه يؤدّي إلى أن يتّخذ الباري ء عزّ وجل موقفاً معاتباً ومؤنّباً للأنبياء، كإطلاق كلمة (الآبق) على نبيّه.

ومن دون أي شك فإنّ نبي اللَّه يونس عليه السلام، معصوم عن الخطأ، ولكن كان الأجدر به أن يتحمّل آلاماً اخرى من قومه، وأن يبقى معه حتى اللحظات الأخيرة قبل نزول العذاب، عسى أن يستيقظوا من غفلتهم ويتوبوا إلى اللَّه سبحانه وتعالى.

ووفق ما ورد في الروايات، فقد صعد يونس عليه السلام إلى السفينة، ثم إنّ حوتاً ضخماً وقف أمام السفينة، فاتحاً فمه وكأنّه يطلب الطعام، فقال ركّاب السفينة أنّ هناك شخصاً مذنباً معنا يجب أن يكون طعام هذا الحوت، ولم يجدوا سبيلًا سوى الإقتراع لتحديد الشخص الذي يرمى للحوت، وعندما إقترعوا خرج اسم يونس.

وقد أشار القرآن المجيد في آية قصيرة إلى هذه الحادثة، قال تعالى: «فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ».

«ساهم»: من مادة «سهم» وتعني إشتراكه في الإقتراع، فالإقتراع تمّ على ظهر السفينة بالشكل التالي، كتبوا اسم كل راكب على (سهم) ثم خلطوا الأسهم وسحبوا سهماً واحداً، فخرج السهم الذي يحمل اسم يونس عليه السلام.

«مدحض»: مشتقة من «دَحْض» وتعني إبطال مفعول الشي ء أو إزالته أو التغلّب عليه؛ والمراد هنا أنّ إسمه ظهر في عملية الإقتراع من بين بقية الأسماء.

وقال القرآن الكريم: «فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ». أي إنّ حوتاً عظيماً التقمه وهو مستحق للملامة.

«التقم»: مشتقة من «الإلتقام» وتعني (البلع).

مختصر الامثل، ج 4، ص: 215

«مليم»: من مادة «لوم» وتعني التوبيخ والعتب.

ومن المسلّم أنّ هذه الملامة لم تكن بسبب إرتكابه ذنباً كبيراً أو صغيراً وإنّما بسبب تركه العمل بالأولى، وإستعجاله في ترك قومه

وهجرانهم.

في تفسير الدرّ المنثور: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «لما أراد اللَّه حبس يونس عليه السلام في بطن الحوت أوحى اللَّه إلى الحوت: أن خذه ولا تخدش له لحماً ولا تكسر له عظماً».

يونس عليه السلام إنتبه بسرعة للحادث، وتوجّه على الفور إلى اللَّه سبحانه وتعالى وتكامل وجوده مستغفراً اللَّه على تركه العمل بالأولى، وطالباً العفو منه.

ونقلت الآية (87) في سورة الأنبياء صورة توجّه يونس عليه السلام بالدعاء الذي يسمّيه أهل العرفان باليونسية. قال تعالى: «فَنَادَى فِى الظُّلُمَاتِ أَن لَّاإِلهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ».

إعتراف يونس الخالص بالظلم، وتسبيحه اللَّه المرافق للندم أدّى مفعوله، إذ إستجاب اللَّه له وأنقذه من الغم، كما جاء في الآية (88) من سورة الأنبياء: «فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنهُ مِنَ الْغَمّ وَكَذلِكَ نُنْجِى الْمُؤْمِنِينَ».

ونلاحظ الآن ماذا تقول الآيات بشأن يونس عليه السلام. قال تعالى: «فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ».

أي لو لم يكن من المسبّحين لأبقيناه في بطن الحوت حتى يوم القيامة، ويعني تبديل سجنه المؤقّت إلى سجن دائم، ومن ثم تبديل سجنه الدائم إلى مقبرة له.

ويضيف القرآن، وقد ألقينا به في منطقة جرداء خالية من الأشجار والنباتات، وهو مريض: «فَنَبَذْنهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ».

فالحوت الضخم لفظ يونس- الذي لم يكن غذاءً صالحاً لذلك الحوت- على ساحل خالٍ من الزرع والنبات، والواضح أنّ ذلك السجن العجيب أثّر على سلامة وصحّة جسم يونس، إذ أنّه تحرّر من هذا السجن وهو منهار ومعتل.

كانت حرارة الشمس تؤذيه، فيحتاج إلى ظلّ لطيف يظلّل جسده. والقرآن هنا يكشف عن هذا اللطف الإلهي بالقول، إنّنا أنبتنا عليه شجرة قرع ليستظلّ بأوراقها العريضة والرطبة: «وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مّن يَقْطِينٍ».

«اليقطين»: تعني كل نبات

لا ساق له وله أوراق كبيرة، مثل نبات البطّيخ والقرع والخيار

مختصر الامثل، ج 4، ص: 216

وما يشابهها؛ و «الشجرة»: تطلق على النباتات التي لها ساق وأغصان والتي ليس لها ساق وأغصان. وبعبارة اخرى: تشمل كل الأشجار والنباتات. فبعد أن ترك يونس قومه وهو غضبان، ظهرت لقومه دلائل تبيّن لهم قرب موعد الغضب الإلهي، هذه الدلائل هزّت عقولهم بقوّة وأعادتهم إلى رشدهم، ودفعتهم إلى اللجوء للشخص (العالم) الذي كان آمن بيونس وما زال موجوداً في المدينة، واتّخاذه قائداً لهم ليرشدهم إلى طريق التوبة.

وجلسوا يبكون، داعين اللَّه سبحانه وتعالى بإخلاص أن يتقبّل توبتهم ويغفر ذنوبهم وتقصيرهم بعدم اتّباعهم نبي اللَّه يونس.

وهنا أزاح اللَّه عنهم سُحُب العذاب وأنزلها على الجبال، وهكذا نجا قوم يونس التائبون المؤمنون بلطف اللَّه.

بعد هذا عاد يونس إلى قومه ولكن ما إن عاد إلى قومه حتى فوجى ء بأمر أثار عنده الدهشة والعجب، وهو أنّه ترك قومه في ذلك اليوم يعبدون الأصنام، وهم اليوم يوحّدون اللَّه سبحانه.

القرآن يقول هنا: «وَأَرْسَلْنهُ إِلَى مِائَةِ الْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ». كانوا قد آمنوا باللَّه، واغدقت عليهم النعم الإلهية المادية والمعنوية لمدّة معيّنة، «فَامَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ».

وبالطبع فإنّهم بعد توبتهم كانوا يتمتعون بإيمان بسيط، وقد إزداد بعد عودة يونس إليهم، أي إزداد إيمانهم باللَّه وبرسوله يونس، وأخذوا ينفّذون تعليماته وأوامره.

دروس كبيره في قصة يونس عليه السلام: من هذه القصة يمكن إستخلاص الدروس التربوية ومن جملتها:

أ) هذه القصة توضّح كيف أنّ قوماً مذنبين مستحقين للعذاب يستطيعون في آخر اللحظات تغيير مسيرتهم التاريخية، بعودتهم إلى أحضان الرحمة الإلهية، وإنقاذ أنفسهم من العذاب.

ب) هذه الحادثة تبيّن أنّ الإيمان باللَّه والتوبة من الذنوب علاوة على أنّها تتسبّب في نزول الآثار والبركات المعنوية، فهي توجد النعم والهبات

الدنيوية وتجعلها في اختيار الإنسان، وتوجد حالة من العمران والبناء، وتطيل الأعمار.

ج) أخيراً فإنّ مجريات هذه القصة تستعرض قدرة الباري ء عزّ وجل العظيمة التي لا

مختصر الامثل، ج 4، ص: 217

يقف أمامها شي ء ولا يصعب عليها شي ء، إلى درجة تستطيع حفظ حياة إنسان في فم وجوف حيوان كبير وحشي، وإخراجه سالماً من هناك.

فَاسْتَفْتِهِمْ أَ لِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَ لَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً وَ هُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَ فَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَ لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) التهم القبيحة: بعد إستعراض ستّ قصص من قصص الأنبياء السابقين، يغيّر القرآن موضوع الحديث، ويتناول موضوعاً آخر يرتبط بمشركي مكة آنذاك.

إنّ مجموعة من المشركين العرب وبسبب جهلهم وسطحية تفكيرهم كانوا يقيسون اللَّه عزّ وجل بأنفسهم، ويقولون: إنّ للَّه عزّ وجل أولاداً، وأحياناً يقولون: إنّ له زوجة.

في البداية يقول: اسألهم هل أنّ اللَّه تعالى خصّ نفسه بالبنات، وخصّهم بالبنين، «فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ».

وكيف تنسبون ما لا تقبلون به لأنفسكم إلى اللَّه، حيث إنّهم طبق عقائدهم الباطلة كانوا يكرهون البنات بشدة ويحبّون الأولاد كثيراً.

فإنّ الولد والبنت من حيث وجهة النظر الإنسانية، ومن حيث التقييم عند اللَّه سبحانه وتعالى متساوون، وميزان شخصيتهم هو التقوى والطهارة.

ثم ينتقل الحديث إلى عرض دليل حسّي على المسألة هذه، وبشكل إستفهام إستنكاري، قال تعالى: «أَمْ خَلَقْنَا الْمَلِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ».

ومن دون أي شك فإنّ جوابهم في

هذا المجال سلبي، إذ لم يستطع أحداً منهم الإدّعاء بأنّه كان موجوداً أثناء خلق الملائكة.

مرّة اخرى يطرح القرآن الدليل العقلي المقتبس من مسلّماتهم الذهنية ويقول: «أَلَا إِنَّهُم مّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ».

هل تدركون ما تقولون وكيف تحكمون: «مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 218

ألم يحن الوقت الذي تتركون فيه هذه الخرافات والأوهام القبيحة والتافهة؟ «أَفَلَا تَذَكَّرُونَ». إذن أنّ هذا الكلام باطل من الأساس بحيث لو أنّ أي إنسان له ذرّة من عقل ودراية، ويتفكّر في الأمر جيّداً، لأدرك بطلان هذه المزاعم.

بعد إثبات بطلان إدّعاءاتهم الخرافية بدليل تجريبي وآخر عقلي، ننتقل إلى الدليل الثالث وهو الدليل النقلي، حيث يقول القرآن الكريم مخاطباً إيّاهم: لو كان ما تزعمونه صحيحاً لذكرته الكتب السابقة، فهل يوجد لديكم دليل واضح عليه، «أَمْ لَكُمْ سُلْطنٌ مُّبِينٌ».

وإذا كنتم صادقين في قولكم فأتوا بذلك الكتاب: «فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».

هذا القول يشبه بقيّة الأقوال التي يخاطب بها القرآن عبدة الأصنام: «وَجَعَلُوا الْمَلِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسَلُونَ وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أَمْ ءَاتَيْنهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ» «1».

الآية اللاحقة تطرّقت إلى خرافة اخرى من خرافات مشركي العرب، والتي تزعم بوجود نسبة بين اللَّه عزّ وجل والجن، فالآية هنا تخاطبهم بضمير الغائب، لأنّهم اناس تافهون، ولا تتوفّر فيهم الكفاءة واللياقة للردّ على زعمهم: «وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ نَسَبًا».

والمراد من كلمة (نسب) كل أشكال الرابطة والعلاقة، حتى ولو لم يكن هناك أي صلة للقرابة فيها، وكما نعلم فإنّ مجموعة من المشركين العرب كانوا يعبدون الجن ويزعمون أنّها شركاء للَّه، ولهذا

كانوا يقولون بوجود علاقة بينها وبين اللَّه. فالقرآن المجيد ينفي هذه المعتقدات الخرافية بشدة، ويقول: «وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ».

ونزّه اللَّه تعالى نفسه عمّا قاله اولئك الضالون في صفاته تعالى، قائلًا: «سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ». وإستثنى وصف عباده المخلصين (الذين وصفوه عن علم ومعرفة ودراية) حيث وصفوه بما يليق بذاته المقدّسة. قال تعالى: «إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ».

العباد الخالصون من كل أشكال الشرك وهوى النفس والجهل والضلال، والذين لا يصفون الباري ء عزّ وجل إلّابما سمح لهم به.

______________________________

(1) سورة الزّخرف/ 19- 21.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 219

نعم، ينبغي لنا مراجعة كلمات الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وخطب علي بن أبي طالب عليه السلام، وأدعية الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام في صحيفته، كي نستنير بضياء وصفهم له جلّ وعلا.

فأمير المؤمنين عليه السلام- في الخطبة 186 في نهج البلاغة- يصف اللَّه عزّ وجل بالقول: «لا تناله الأوهام فتقدّره، ولا تتوهّمه الفطن فتصوّره، ولا تدركه الحواسّ فتحسّه، ولا تلمسه الأيدي فتمسّه، ولا يتغيّر بحال، ولا يتبدّل في الأحوال، ولا تبليه الليالي والأيّام، ولا يغيّره الضياء والظّلام، ولا يوصف بشي ء من الأجزاء، ولا بالجوارح والأعضاء، ولا بعرض من الأعراض، ولا بالغيريّة والأبعاض، ولا يقال: له حدّ ولا نهاية، ولا انقطاع ولا غاية».

أمّا الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام، فقد قال في الدعاء الأوّل في الصحيفة السجّادية: «الحمد للَّه الأوّل بلا أوّل كان قبله، والآخر بلا آخر يكون بعده، الذي قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين وعجزت عن نعته أوهام الواصفين».

فَإِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَ مَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَ

إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَ إِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) الإدّعاءات الكاذبة: الآيات السابقة تحدثت عن الآلهة المختلفة التي كان المشركون يعبدونها، أمّا الآيات- مورد بحثنا الآن- فتتابع ذلك الموضوع، حيث توضّح في كل بضع آيات موضوعاً يتعلق بهذا الأمر.

بداية البحث تؤكّد الآيات على أنّ وساوس عبدة الأصنام لا تؤثّر في الطاهرين والمحسنين، وإنّما قلوبكم المريضة وأرواحكم الخبيثة هي التي تستسلم لتلك الوساوس. قال تعالى: «فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ».

نعم، أنتم وما تعبدون لا تستطيعون خداع أحد بوسائل الفتنة والفساد عن الطريق المؤدّي إلى اللَّه «مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ». إلّااولئك الذين يريدون أن يحترقوا في نار جهنم «إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ».

بعد إنتهاء بحثنا حول الآيات الثلاث السابقة التي وضّحت مسألة إختيار الإنسان في مقابل فتن وإغراءات عبدة الأصنام، نواصل بحثنا حول الآيات الثلاث التالية والتي تتناول

مختصر الامثل، ج 4، ص: 220

مختصر الامثل ج 4 249

المرتبة العالية لملائكة اللَّه، وتقول مخاطبة عبدة الأصنام: إنّ الملائكة التي كنتم تزعمون أنّها بنات اللَّه لها مقام معيّن، والجميل في هذه العبارة أنّ الملائكة هي التي تتحدث عن نفسها «وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ». وتضيف ملائكة الرحمن: وإنّنا جميعاً مصطفون عند اللَّه في إنتظار أوامره، «وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ».

وإنّنا جميعاً نسبّحه، وننزّه عمّا لا يليق بساحة كبريائه: «وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبّحُونَ».

نعم، نحن عباد اللَّه، وقد وضعنا أرواحنا على الأكف بإنتظار سماع أوامره، إنّنا لسنا أبناء اللَّه، إنّنا ننزّه الباري ء عزّ وجل من تلك المزاعم الكاذبة والقبيحة.

إنّ الآيات المذكورة أعلاه أشارت إلى ثلاث صفات من صفات الملائكة:

الاولى: أنّ لكل واحد منهم مقام معيّن ومشخص ليس له

أن يتعدّاه.

والثانية: أنّهم مستعدّون دائماً لإطاعة أوامر اللَّه سبحانه وتعالى وتنفيذها في عالم الوجود.

والثالثة: أنّهم يسبّحون اللَّه دائماً وينزّهونه عمّا لا يليق بساحة كبريائه.

الآيات الأربع الأخيرة من هذا البحث تشير إلى أحد الأعذار الواهية التي تذرّع بها المشركون فيما يخصّ هذه القضية وعبادتهم للأصنام، وتجيب عليهم قائلة: «وَإِن كَانُوا لَيَقُولُونَ». «لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مّنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ».

الآية التالية تقول: لقد تحقق ما كانوا يأملونه، إذ أنزل عليهم القرآن المجيد الذي هو أكبر وأعظم الكتب السماوية، إلّاأنّ هؤلاء الكاذبين في إدّعاءاتهم كفروا به، ولم يفوا بما قالوا، واتّخذوا موقفاً معادياً إزاءه، فسيعلمون وبال كفرهم «فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ».

وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَ إِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَ أَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَ فَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) حزب اللَّه هو المنتصر: لا زلنا نتابع البحث في آيات هذه السورة المباركة، والتي شارفت على الإنتهاء، بعد أن إستعرضنا في الأبحاث السابقة جهاد الأنبياء العظام والمصاعب

مختصر الامثل، ج 4، ص: 221

والعراقيل التي أثارها وأوجدها المشركون، ففي آيات بحثنا الحالي سنتطرّق لأهمّ القضايا الواردة في هذه السورة، إذ زفّت البشرى للمؤمنين بإنتصار جيش الحق على جيش الشيطان. الوعد الإلهي الكبير هذا إنّما جاء لبعث الأمل في صفوف المؤمنين في صدر الإسلام الذين كانوا لحظة نزول هذه الآيات يرزحون تحت ضغوط أعداء الإسلام في مكة، ولكل المؤمنين والمحرومين في كل زمان ومكان، والإستعداد لجهاد ومقاومة جيوش الباطل:

«وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ». «وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ». الوعد الإلهي من أهمّ الامور التي ينتظرها السائرون في طريق الحق

بإشتياق، حيث يستمدّون منه القوى الروحية والمعنوية.

ولمواساة النبي صلى الله عليه و آله والمؤمنين، وللتأكيد على أنّ النصر النهائي سيكون حليفهم، وفي نفس الوقت لتهديد المشركين، جاءت الآية التالية لتقول: «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ».

ويؤكّد القرآن الكريم التهديد الأوّل بتهديد آخر جاء في الآية التي تلتها، إذ تقول: انظر إلى لجاجتهم وكذبهم وإعتقادهم بالخرافات، إضافةً إلى حمقهم، فإنّهم سيرون جزاء أعمالهم القبيحة عن قريب: «وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ».

وسوف ترى في القريب العاجل إنتصارك وإنتصار المؤمنين وإنكسار وهزيمة المشركين المذلّة في الدنيا.

وعن تكرار اولئك الحمقى لهذا السؤال على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أين العذاب الإلهي الذي واعدتنا به؟ وإن كنت صادقاً، فلِم هذا التأخير؟

يردّ القرآن الكريم عليهم بلهجة شديدة مرافقة بالتهديد، قائلًا: اولئك الذين يستعجلون العذاب وأحياناً يتساءلون (متى هذا الوعد؟)، وأحياناً اخرى يقولون متسائلين (متى هذا الفتح؟): «أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ».

فعندما ينزل عذابنا عليهم، ونحيل صباحهم إلى ظلام حالك، فإنّهم في ذلك الوقت سيفهمون كم كان صباح المنذرين سيّئاً وخطيراً «فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ».

استخدام عبارة (ساحة) والتي تعني فناء البيت أو الفضاء الموجود في وسط البيت، جاء ليجسّم لهم نزول العذاب في وسط حياتهم، وكيف أنّ حياتهم الطبيعية ستتحوّل إلى حياة موحشة ومضطربة.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 222

وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَ أَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَ سَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182) تولّ عنهم: كما قلنا، فإنّ الآيات الأخيرة النازلة في هذه السورة جاءت لمواساة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله والمؤمنين الحقيقيين، ولتهديد الكافرين اللجوجين.

الآيتان الأوّليتان في بحثنا هذا، تشبهان الآيات التي وردت في البحث السابق، إذ تقول بلغة

مرفقة بالتهديد: تولّ عنهم واتركهم في شأنهم لمدّة معيّنة «وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ».

وانظر إلى لجاجة اولئك الكافرين وكذبهم وممارساتهم العدائية ونكرانهم لوجود اللَّه، الذين سينالون جزاء أعمالهم عن قريب «وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ».

التكرار جاء للتأكيد، وذلك ليدرك اولئك الكافرون أنّ جزاءهم وهزيمتهم وخيبتهم أمر قطعي لابدّ منه وسيكون ذلك عن قريب، وسيبتلون بالنتائج المريرة لأعمالهم، كما أنّ إنتصار المؤمنين هو أمر قطعي ومسلّم به أيضاً.

ثم تختتم السورة بثلاثة آيات ذات عمق في المعنى بشأن (اللَّه) و (الرسل) و (العالمين)، إذ تنزّه اللَّه ربّ العزّة والقدرة من الأوصاف التي يصفه بها المشركون والجاهلون: «سُبْحَانَ رَبّكَ رَبّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ».

فأحياناً يصفون الملائكة بأنّها بنات اللَّه، وأحياناً يقولون بوجود نسبة بين اللَّه والجن، وأحياناً اخرى يجعلون مصنوعات لا قيمة لها من الحجر والخشب بمرتبة الباري ء عزّ وجل.

وفي الآية الثانية شمل الباري ء عزّ وجل كافّة أنبيائه بلطفه غير المحدود، وقال: «وَسَلمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ». السلام الذي يوضّح السلامة والعافية من كل أنواع العذاب والعقاب في يوم القيامة، السلام الذي هو صمّام الأمان أمام الهزائم ودليل للإنتصار على الأعداء.

وأخيراً إختتمت السورة بآية تحمد اللَّه: «وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ».

الآيات الثلاث الأخيرة يمكن أن تكون إشارة وإستعراضاً مختصراً لكل القضايا والامور الموجودة في هذه السورة، لأنّ الجزء الأكبر منها كان بشأن التوحيد والجهاد ضدّ مختلف أنواع الشرك، فالآية الاولى تعيد ما جاء بشأن تسبيح وتنزيه اللَّه عزّ وجل عن الصفات التي وصف بها من قبل المشركين، والقسم الآخر من السورة يبيّن جوانب من أوضاع سبع أنبياء كبار أشارت إليها هنا الآية الثانية.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 223

والآية الثالثة إستعرضت جزءاً آخر من النعم الإلهية، وبالخصوص أنواع النعم الموجودة في الجنة، وإنتصار جند اللَّه على جنود

الكفر، والحمد والثناء الذي جاء في الآية الأخيرة، فيه إشارة لكل تلك الامور.

روي- في تفسير مجمع البيان- عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من أراد أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه في مجلسه: سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد للَّه ربّ العالمين».

«نهاية تفسير سورة الصافات»

مختصر الامثل، ج 4، ص: 225

38. سورة ص

محتوى السورة: سورة (ص) يمكن إعتبارها مكمّلة لسورة الصافات، فمجمل مواضيعها يشابه كثيراً ما ورد في سورة الصافات.

ويمكن تلخيص محتويات هذه السورة في خمس أقسام:

1- يتحدّث عن مسألة التوحيد والجهاد ضدّ الشرك والمشركين، ومهمّة نبوّة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وعناد ولجاجة الأعداء تجاه الأمرين المذكورين أعلاه.

2- يعكس جوانب من تأريخ تسع من أنبياء اللَّه ومن بينهم (داود) و (سليمان) و (أيّوب) حيث تتحدث عنهم السورة أكثر من غيرهم.

3- يتطرّق إلى مصير الكفرة الطغاة يوم القيامة ومجادلة بعضهم البعض في جهنم، ويبيّن للمشركين وللذين لا يؤمنون باللَّه إلى أين ستؤدّي بهم أعمالهم.

4- يتناول مسألة خلق الإنسان وعلوّ مقامه وسجود الملائكة له.

5- يتوعّد الأعداء المغرورين بالعذاب، ويواسي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ويبيّن هذه الحقيقة، وهي أنّ النبي لا يريد جزاء من أحد مقابل دعوته، ولا يريد الشقاء والأذى لأحد.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأ سورة ص اعطي من الأجر بوزن كل جبل سخّره اللَّه لداود حسنات وعصمه اللَّه أن يصرّ على ذنب صغيراً أو كبيراً».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 226

وفي كتاب ثواب الأعمال عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «من قرأ سورة ص في ليلة الجمعة اعطي من خير الدنيا والآخرة ما

لم يعط أحد من الناس إلّانبي مرسل أو ملك مقرّب، وأدخله اللَّه الجنة وكل من أحبّ من أهل بيته حتى خادمه الذي يخدمه».

والمراد من التلاوة هنا التلاوة التي ترافق التفكير العميق والتصميم الجدّي، الذين يدفعان الإنسان إلى العمل بما جاء في هذه السورة المباركة.

ص وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَ لَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)

سبب النّزول

في الكافي عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «أقبل أبو جهل بن هشام ومعه قوم من قريش فدخلوا على أبي طالب، فقالوا: إنّ ابن أخيك قد آذانا وآذى آلهتنا، فادعه ومره فليكفّ عن آلهتنا ونكفّ عن إلهه».

قال: «فبعث أبو طالب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فدعاه، فلمّا دخل النبي صلى الله عليه و آله لم ير في البيت إلّا مشركاً فقال: السلام على من اتّبع الهدى، ثم جلس فخبّره أبو طالب بما جاؤوا له، فقال: أوَهل لهم في كلمة خير لهم من هذا يسودون بها العرب ويطأون أعناقهم؟ فقال أبو جهل نعم وما هذه الكلمة؟ فقال: تقولون لا إله إلّااللَّه».

قال: «فوضعوا أصابعهم في آذانهم وخرجوا هراباً وهم يقولون: ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلّاإختلاق». فأنزل اللَّه تعالى في قولهم: «ص وَالْقُرْءَانِ ذِى الذّكْرِ» إلى قوله «إنْ هذَا إِلَّا اخْتِلقٌ».

التّفسير

مرّة اخرى تمرّ علينا سورة تبدأ آياتها الاولى بحروف مقطعة وهو حرف «ص» ويطرح نفس السؤال السابق بشأن تفسير هذه الحروف المقطعة، ولكن مجموعة من المفسرين إعتبرت هنا حرف (ص) رمزاً يشير إلى أحد أسماء اللَّه، وذلك لأنّ الكثير من أسمائه تبدأ بحرف الصاد مثل (صادق)، (صمد)، (صانع)؛ أو أنّه إشارة

إلى (صدق اللَّه) التي إختصرت بحرف واحد.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 227

ثم يقسم اللَّه تعالى بالقرآن ذي الذكر والذي هو حقّاً معجزة إلهية: «وَالْقُرْءَانِ ذِى الذّكْرِ».

فالقرآن ذكر ويشتمل على الذكر، والذكر يعني التذكير وصقل القلوب من صدأ الغفلة، تذكّر اللَّه، وتذكّر نعمه، وتذكّر محكمته الكبرى يوم القيامة، وتذكّر هدف خلق الإنسان.

الآية التالية تقول لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إذا رأيت هؤلاء لا يستسلمون لآيات اللَّه الواضحة ولقرآنه المجيد، فاعلم أنّ سبب هذا لا يعود إلى أنّ هناك ستاراً يغطّي كلام الحق، وإنّما هم مبتلون بالتكبر والغرور اللذين يمنعان الكافرين من قبول الحق، كما أنّ عنادهم وعصيانهم- هما أيضاً- مانع يحول دون تقبّلهم لدعوتك: «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ».

«العزّة»: كما قال الراغب في مفرداته، هي حالة تحول دون هزيمة الإنسان (حالة الذي لا يقهر)، وتعطي معنيين، فأحياناً تعني (العزّة الممدوحة) المحترمة، كما في وصف ذات اللَّه الطاهر بالعزيز، وأحياناً تعني (العزّة بالإثم) أي الوقوف بوجه الحق والتكبر عن قبول الواقع، وهذه مذلّة في حقيقة الأمر.

«شقاق»: مشتقة من «شقّ»، ومعناه واضح، ثم استعمل في معنى المخالفة، لأنّ الإختلاف يسبّب في أن تقف كل مجموعة في شقّ، أي في جانب.

القرآن هنا يعدّ مسألة العجرفة والتكبر والغرور وطيّ طريق الإنفصال والتفرقة من أسباب تعاسة الكافرين.

ولإيقاظ اولئك المغرورين المغفّلين، يرجع بهم القرآن الكريم إلى ماضي تأريخ البشر، ليريهم مصير الامم المغرورة والمتكبّرة، كي يتّعظوا ويأخذوا العبر منها «كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ». أي: إنّ امماً كثيرة كانت قبلهم قد أهلكناها (بسبب تكذيبها الأنبياء، وإنكارها آيات اللَّه، وظلمها وإرتكابها للذنوب) وكانت تستغيث بصوت عال عند نزول العذاب عليها، ولكن ما الفائدة فقد تأخّر الوقت! ولم يبق أمامهم متّسع

من الوقت لإنقاذ أنفسهم: «فَنَادَوا وَّلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ».

فعندما كان أنبياء اللَّه في السابق يعظونهم ويحذّرونهم عواقب أعمالهم القبيحة، لم يكتفوا بصمّ آذانهم وعدم الإستماع، وإنّما كانوا يستهزئون ويسخرون من الأنبياء ويعذّبون المؤمنين ويقتلونهم، فبذلك أضاعوا الفرصة ودمّروا كل الجسور التي خلفهم، فنزل العذاب الإلهي ليهلكهم جميعاً، العذاب الذي رافقه إنغلاق باب التوبة والعودة، وفور نزوله تبدأ أصوات الإستغاثة تتعالى، والتي لا تغني عنهم يومئذ شيئاً.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 228

(لات): جاءت للنفي، وهي في الأصل (لا) نافية اضيفت إليها (تاء) التأنيث، لتعطي معنى التأكيد؛ و «مناص»: من مادة «نوص» وتعني الملاذ والملجأ.

وَ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قَالَ الْكَافِرُونَ هذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً وَاحِداً إِنَّ هذَا لَشَيْ ءٌ عُجَابٌ (5) وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَ اصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذَا لَشَيْ ءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)

سبب النّزول

في تفسير علي بن إبراهيم: نزلت بمكة لما أظهر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الدعوة بمكة اجتمعت قريش إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب، إنّ ابن أخيك قد سفّه أحلامنا، وسبّ آلهتنا، وأفسد شبابنا، وفرّق جماعتنا، فإن كان الذي يحمله على ذلك العدم، جمعنا له حالًا حتى يكون أغنى رجل في قريش، ونملّكه علينا. فأخبر أبو طالب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بذلك فقال: «لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما أردته، ولكن يعطوني كلمة يملكون بها العرب وتدين لهم بها العجم ويكونون ملوكاً في الجنة».

فقال لهم أبو طالب ذلك، فقالوا: نعم وعشر كلمات، فقال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «تشهدون أن لا إله إلّااللَّه

وأنّي رسول اللَّه».

فقالوا: ندع ثلاث مائة وستّين إلهاً ونعبد إلهاً واحداً؟

فأنزل اللَّه تعالى: «أَجَعَلَ الْأَلِهَةَ إِلهًا وَاحِدًا»- إلى قوله- «إِلَّا اخْتِلقٌ».

التّفسير

هل يمكن قبول إله واحد بدلًا من كل تلك الآلهة: المغرورون والمتكبرون لا يعترفون بأمر لا يلائم أفكارهم المحدودة والناقصة، إذ يعتبرون أفكارهم المحدودة والناقصة مقياساً لكل القيم. لذا فعندما رفع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لواء التوحيد في مكة، وأعلن الإنتفاضة ضد الأصنام الكبيرة والصغيرة في الكعبة، والبالغ عددها (360) صنماً، تعجّبوا: لماذا جاءهم النذير من بينهم؟ «وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ».

كان تعجّبهم بسبب أنّ محمّداً صلى الله عليه و آله منهم ... أنّهم اعتبروا هذا الإمتياز الكبير نقطة سلبية في دعوة الرسول صلى الله عليه و آله وتعجّبوا من أمر بعثته إليهم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 229

وأحياناً كانوا يجتازون مرحلة التعجّب إلى مرحلة إتّهام رسول اللَّه بالسحر والكذب «وَقَالَ الْكَافِرُونَ هذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ».

إنّ إتّهامهم الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله بالسحر، إنّما نتج من جرّاء رؤيتهم لمعجزاته التي لا تقبل الإنكار وتنفذ بصورة مدهشة إلى أفكار المجتمع، وإتّهامه بالكذب بسبب تحدّثه بامور تخالف سنّتهم الخرافية وأفكارهم الجاهلية التي كانت جزءاً من الامور المسلّم بها في ذلك المجتمع، وإدّعاء الرسالة من اللَّه.

وعندما أظهر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله دعوته لتوحيد اللَّه، أخذ أحدهم ينظر للآخر ويقول له:

تعال واسمع العجب العجاب «أَجَعَلَ الْأَلِهَةَ إِلهًا وَاحِدًا إِنَّ هذَا لَشَىْ ءٌ عُجَابٌ».

نعم، فالغرور والتكبّر إضافة إلى فساد المجتمع، تساهم جميعاً في تغيّر بصيرة الإنسان، وجعله متعجباً من بعض الامور الواقعية والواضحة، في حين يصرّ بشدة على التمسك ببعض الخرافات والأوهام الواهية.

وبعد أن يئس طغاة قريش من توسط أبي طالب في الأمر وفقدوا الأمل، خرجوا

من بيته، ثم إنطلقوا وقال بعضهم لبعض، أو قالوا لأتباعهم: اذهبوا وتمسّكوا أكثر بآلهتكم، واصبروا على دينكم، وتحمّلوا المشاق لأجله، لأنّ هدف محمّد هو جرّ مجتمعنا إلى الفساد والضياع وزوال النعمة الإلهية عنّا بسبب تركنا الأصنام، وإنّه يريد أن يترأس علينا؛ «وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى ءَالِهَتِكُمْ إِنَّ هذَا لَشَىْ ءٌ يُرَادُ».

«إنطلق»: مشتقة من «إنطلاق» وتعني الذهاب بسرعة والتحرّر من عمل سابق، وهنا تشير إلى تركهم مجلس أبي طالب وعلامات الضجر والغضب بادية عليهم.

و (الملأ) إشارة إلى أشراف قريش المعروفين الذين ذهبوا إلى أبي طالب.

وجملة «لَشَىْ ءٌ يُرَادُ» إشارة إلى دعوة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، إذ اعتبرت قريش هذه الدعوة مؤامرة ضدّها، وقالت: إنّ ظاهرها يدعو إلى اللَّه، وباطنها يهدف إلى السيادة والرئاسة علينا وعلى العرب، ودعت الناس إلى التمسك أكثر بعبادة الأصنام، وترك تحليل أمر هذه المؤامرة إلى زعماء القوم.

فإنّ زعماء المشركين أرادوا بهذا القول تقوية المعنويات المنهارة لأتباعهم، والحيلولة دون تزعزع معتقداتهم، ولكن كل مساعيهم ذهبت أدراج الرياح.

ولخداع عوام الناس وإقناع أنفسهم، قال زعماء المشركين: «مَا سَمِعْنَا بِهذَا فِى الْمِلَّةِ الْأَخِرَةِ إِنْ هذَا إِلَّا اخْتِلقٌ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 230

فلو كان ادّعاء التوحيد وترك عبادة الأصنام أمراً واقعياً لكان آباؤنا الذين كانوا بتلك العظمة والشخصية قد أدركوا ذلك، وكنّا قد سمعنا ذلك منهم، لذا فهو مجرد حديث كاذب وليست له سابقة. وعبارة «الْمِلَّةِ الْأَخِرَةِ» تشير إلى آخر الأديان قبل ظهور نبي الخاتم صلى الله عليه و آله.

«إختلاق»: مشتقة من «خلق» وتعني إبداء أمر لم تكن له سابقة، والمراد في الآية- مورد البحث- أنّ التوحيد الذي دعا إليه هذا النبي مجهول بالنسبة لنا ولآبائنا الأوّلين.

أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ

فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) الآيات السابقة تحدثت عن المواقف السلبية التي إتّخذها المعارضون لنهج التوحيد والإسلام، ونواصل في هذه الآيات الحديث عن مواقف المشركين، فمشركو مكة بعد ما أحسّوا أنّ مصالحهم اللامشروعة باتت في خطر، وإثر تزايد إشتعال نيران الحقد والحسد في قلوبهم، ومن أجل خداع الناس وإقناع أنفسهم عمدوا إلى مختلف الإدّعاءات بمنطق زائف لمحاربة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ومنها سؤالهم بتعجب وإنكار: «أَءُنزِلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ مِن بَيْنِنَا».

من البديهي أنّ أشكال التعجب والإنكار المتولّدة عن الخطأ في «تحديد القيم» إضافة إلى الحسد وحبّ الدنيا، لا يمكن أن تكون معياراً منطقياً في القضاء.

لهذا فإنّ تتمّة الآية تقول: إنّ مرض اولئك شي ء آخر، إنّهم في حقيقة الأمر يشكّكون في أمر الوحي وأمر اللَّه «بَلْ هُمْ فِى شَكّ مّن ذِكْرِى».

ملاحظاتهم التي لا قيمة لها على شخصية الرسول ما هي إلّاأعذار واهية، وشكّهم وتردّدهم في هذه المسألة ليس بسبب وجود إبهام في القرآن المجيد، وإنّما بسبب أهوائهم النفسية وحبّ الدنيا وحسدهم.

وفي نهاية الأمر فإنّ القرآن الكريم يهدّدهم بهذه الآية: «بَل لَّمَّا يَذُوقُوا عَذَابَ». أي إنّ هؤلاء لم يذوقوا العذاب الإلهي، ولهذا السبب تجاسروا على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

ويضيف القرآن الكريم في الردّ عليهم: هل يمتلكون خزائن الرحمة الإلهية كي يهبوا أمر

مختصر الامثل، ج 4، ص: 231

النبوّة لمن يرغبون فيه، ويمنعونها عمّن لا يرغبون فيه؟ «أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ».

فاللَّه سبحانه وتعالى بمقتضى كونه (ربّ) هذا الكون ومالكه، وباري ء

عالم الوجود وعالم الإنسانية، ينتخب لتحمل رسالته شخصاً يستطيع قيادة الامة إلى طريق التكامل والتربية.

وبمقتضى كونه (العزيز) فإنّه لا يقع تحت تأثير الآخرين ويسلّم مقام الرسالة إلى أشخاص غير لائقين. ولكونه (الوهّاب) فإنّه ينفذ أيّ شي ء يريده، ويمنح مقام النبوّة لكل من يرى فيه القدرة على تحمّله.

ويمكن الاستفادة من كلمة (رحمة) هنا في أنّ النبوّة إنّما هي رحمة ولطف ربّ العالمين بعالم الإنسانية.

الآية اللاحقة واصلت تناول نفس الموضوع، ولكن من جانب آخر، حيث قالت: «أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِى الْأَسْبَابِ».

هذا الكلام يعدّ مكمّلًا للبحث السابق، إذ جاء في الآية السابقة: إنّكم لا تمتلكون خزائن الرحمة الإلهية، كي تمنحوها لمن تنسجم أهواؤه مع أهوائكم، والآن تقول الآية التالية لها: بعد أن تبيّن أنّ هذه الخزائن تحت تصرف الباري ء عزّ وجل، إذن فليس أمامكم غير طريق واحد، وهو أن ترتقوا إلى السماوات لتمنعوا الوحي أن ينزل على رسول اللَّه وإنّكم تعرفون أنّ تحقيق هذا الأمر شي ء محال، وأنتم عاجزون عن تنفيذه.

الآية الأخيرة في بحثنا جاءت بمثابة تحقير لُاولئك المغرورين السفهاء، قال تعالى: «جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مّنَ الْأَحْزَابِ». فهؤلاء جنود قلائل مهزومون ...

«هنالك» إشارة للبعيد، وبسبب وجودها في الآية، فقد اعتبر بعض المفسرين أنّها إشارة إلى هزيمة المشركين في معركة بدر، التي دارت رحاها في منطقة بعيدة بعض الشي ء عن مكة المكرّمة.

وإستخدام كلمة (الأحزاب) هنا إشارة- حسب الظاهر- إلى كل المجموعات التي وقفت ضدّ رسل اللَّه، والذين أبادهم الباري ء عزّ وجل.

وفي ذلك اليوم لم تكن هنالك الإنتصارات في بدر والأحزاب وحنين قد تحققت.

ولكن القرآن قال بحزم إنّ هؤلاء الأعداء- الذين هم مجموعة صغيرة من تلك المجموعات- سيهزمون في نهاية المطاف.

مختصر الامثل، ج 4، ص:

232

واليوم يبشّر القرآن الكريم مسلمي العالم المحاصرين من كل الجهات من قبل القوى المعتدية والظالمة بنفس البشائر التي بشّر بها المسلمين قبل (1400) عام، في أنّ اللَّه سبحانه وتعالى سينجز وعده في هزيمة جند الأحزاب، إن تمسك مسلمو اليوم بعهودهم تجاه اللَّه كما تمسّك بها المسلمون الأوائل.

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عَادٌ وَ فِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَ ثَمُودُ وَ قَوْمُ لُوطٍ وَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَ مَا يَنْظُرُ هؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَ قَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) تكفيهم صيحة سماوية واحدة: تتمة للآية الآنفة الذكر، التي بشّرت بهزيمة المشركين مستقبلًا، تناولت آيات بحثنا الحالي بعض الأحزاب التي كذّبت رسلها، وبيّنت المصير الأليم الذي كان بإنتظارها، إذ تقول: إنّ أقوام نوح وعاد وفرعون ذي الأوتاد كانت قد كذّبت قبلهم بآيات اللَّه ورسله، «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ».

كذلك أقوام ثمود ولوط وأصحاب الأيكة- أي قوم شعيب- كانت هي الاخرى قد كذّبت رسلهم: «وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزَابُ».

فكلّ قوم من هذه الأقوام كذّب بما جاء به رسل اللَّه، وأنزل العذاب الإلهي بحقّه: «إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ».

والتاريخ بيّن كيف أنّ كل قوم من تلك الأقوام ابيد بشكل من أشكال العذاب، وكيف أنّ مدنهم تحوّلت إلى خرائب وأطلال خلال لحظات، وأصبح ساكنوها أجساد بلا أرواح!

فهل يتوقّع مشركو مكة أن يكون مصيرهم أفضل من مصير اولئك من جرّاء الأعمال العدائية التي يقومون بها؟ لذا فإنّ الآية التالية تخاطبهم بلغة التهديد الحازمة والقاطعة: ما ينتظر هؤلاء من جرّاء أعمالهم إلّاصيحة سماوية واحدة تقضي

عليهم وتهلكهم وما لهم من رجوع، «وَمَا يَنظُرُ هؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِن فَوَاقٍ».

يمكن أن تكون هذه الصيحة مماثلة للصيحات السابقة التي نزلت على الأقوام الماضية، كأن تكون صاعقة رهيبة أو زلزالًا عنيفاً يدمّر حياتهم وينهيها.

وقد تكون إشارة إلى صيحة يوم القيامة، التي عبّر عنها القرآن الكريم ب (النفخة الاولى في الصور).

مختصر الامثل، ج 4، ص: 233

«فواق»: على وزن (رواق) هو الفاصل بين كل رضعتين، إذ بعد فترة معيّنة من حلب الثدي بصورة كاملة يعود فينزل إليه اللبن من جديد. وبما أنّ الثدي يستريح قليلًا بعد كل حلبة، فكلمة (فواق) يمكن أن تعطي معنى الهدوء والراحة. وبما أنّ هذه الفاصلة من أجل عودة الحليب مرّة اخرى إلى الثدي فإنّ هذه الكلمة تعطي مفهوم العودة والرجوع.

فالصيحة الرهيبة ليس بعدها رجوع ولا راحة ولا هدوء ولا إفاقة، ففور شروعها تغلق كل الأبواب أمام الإنسان.

الآية الأخيرة في هذا البحث تشير إلى كلام آخر للكافرين حيث قالوا باستهزاء وسخرية: ربّنا عجّل علينا العذاب قبل حلول يوم الحساب، «وَقَالُوا رَبَّنَا عَجّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ».

«قِط»: على وزن (جِنّ) تعني قطع الشي ء عرضاً، فيما تعني كلمة «قَد» وهي على نفس الوزن السابق، قطع الشي ء طولًا؛ وكلمة «قط» هنا تعني نصيباً أو سهماً.

وهذا الكلام قيل بعد نزول آيات قرآنية تؤكّد على أنّ هناك مجموعة تعطى صحائفها باليد اليمنى، ومجموعة اخرى تستسلم صحائفها باليد اليسرى.

وهنا قالت مجموعة من مشركي مكة وهي تستهزى ء: ما أجمل أن تسلّم إلينا الآن صحف أعمالنا لنقرأها ونشاهد ماذا عملنا؟

اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَ اذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْرَاقِ (18) وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ

(19) وَ شَدَدْنَا مُلْكَهُ وَ آتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطَابِ (20) تعلّم من داود: تتمة للبحوث السابقة التي إستعرضت فيها آيات القرآن أذى المشركين لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله ونسبتهم إليه ما لا يليق به، فإنّ القرآن الكريم لمواساة رسول اللَّه وأصحابه المؤمنين القلائل، طرح قصة داود عليه السلام. ففي البداية تقول آيات بحثنا: «اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ».

«الأيد»: بمعنى القدرة، وتأتي أيضاً بمعنى النعمة.

وقد توفّر المعنيان المذكوران أعلاه في داود، إذ كان يتمتّع بقوّة جسدية مكّنته من أن يقتل الطاغية جالوت بضربة قويّة واحدة بواسطة حجر رماه من مقلاعه على جالوت،

مختصر الامثل، ج 4، ص: 234

فأسقطه من فرسه مضرّجاً بدمه خلال إحدى المعارك. أمّا من حيث قدرته السياسية، فقد كانت حكومته قويّة ومستعدّة دائماً لمواجهة الأعداء، بكل قوّة وإقتدار، حتى قيل أنّ الآلاف من جنده كانت تقف على أهبة الإستعداد من المساء حتى الصباح في أطراف محراب عبادته.

ومن حيث قدرته الأخلاقية والمعنوية والعبادية، فإنّه كان يقوم معظم الليل في عبادة اللَّه، ويصوم نصف أيّام السنة.

وأمّا من حيث النعم الإلهية، فقد أنعم عليه الباري ء عزّ وجل بالكثير من النعم الظاهرية والباطنية.

خلاصة الحديث، إنّ داود كان رجلًا ذا قوّة وقدرة في الحروب والعبادات والعلم والمعرفة وفي السياسة، وكان أيضاً صاحب نعمة كبيرة «1».

فإنّ الآيات الآنفة بعد أن تطرّقت بصورة موجزة إلى نعم اللَّه على داود، تشرح أنواعاً من تلك النعم. قال تعالى: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبّحْنَ بِالْعَشِىّ وَالْإِشْرَاقِ».

كذلك سخّرنا له مجاميع الطيور كي تسبّح اللَّه معه: «وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً».

فكل الطيور والجبال مسخّرة لداود ومطيعة لأوامره، وتسبّح معه الباري ء عزّ وجل، وتعود إليه، «كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ».

إنّ تسبيحها كان توأماً مع

صوت ظاهري، مرافقاً لنوع من الإدراك والشعور الذي هو في باطن ذرّات العالم، وطبقاً لهذا الإحتمال، فإنّ كل موجودات العالم تتمتّع بنوع من العقل والشعور، وحينما تسمع صوت مناجاة هذا النبي الكبير تردّد معه المناجاة، ليمتزج تسبيحها مع تسبيح داود عليه السلام.

وتواصل الآية التالية إستعراض نعم اللَّه على داود عليه السلام، قال تعالى: «وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ».

أي: ثبّتنا وأحكمنا مملكته، بحيث كان العصاة والطغاة من أعدائه يحسبون لمملكته ألف حساب لقوّتها.

وإضافة إلى هذا فقد آتيناه الحكمة والعلم والمعرفة «وَءَاتَيْنهُ الْحِكْمَةَ».

(الحكمة) هنا تعني العلم والمعرفة وحسن تدبير امور البلاد، أو مقام النبوّة، أو جميعها.

______________________________

(1) «أيد»: جمع «يد»، وقد إستعملت هنا لكونها مظهر القوّة والنعمة والملك، وقد حملت كل هذه المعاني هنا.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 235

وآخر نعمة إلهية انعمت على داود هي تمكّنه من القضاء والحكم بصورة صحيحة وعادلة «وَفَصْلَ الْخِطَابِ».

وهناك إحتمال آخر لتفسير هذه العبارة، وهو أنّ اللَّه سبحانه وتعالى أعطى داود منطقاً قويّاً يدلّل على سمو وعمق تفكيره، ولم يكن هذا خاصّاً بالقضاء وحسب، بل في كل أحاديثه.

وَ هَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَ لَا تُشْطِطْ وَ اهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَ عَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَ قَلِيلٌ مَا هُمْ وَ ظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ رَاكِعاً وَ أَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذلِكَ وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنَا

لَزُلْفَى وَ حُسْنَ مَآبٍ (25) داود والإمتحان الكبير: تتمة للآيات السابقة التي إستعرضت الصفات الخاصة بداود والنعم الإلهية التي أنزلها الباري ء عزّ وجل عليه، يبيّن القرآن المجيد أحداث قضية عرضت على داود. ففي البداية يخاطب القرآن المجيد الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «وَهَلْ أَتَيكَ نَبَؤُا الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ».

«الخصم»: تطلق على الطرفين المتنازعين.

«تسوّروا»: مشتقة من «سور» وهو الحائط العالي الذي يبنى حول البيت أو المدينة؛ وتعني هذه الكلمة في الأصل القفز أو الصعود إلى الأعلى.

فرغم أنّ داود عليه السلام كان محاطاً بأعداد كبيرة من الجند والحرس، إلّاأنّ طرفي النزاع تمكّنا- من طريق غير مألوف- تسوّر جدران المحراب، والظهور أمام داود عليه السلام فجأةً، ففزع عند رؤيتهما، إذ دخلا عليه بدون إستئذان ومن دون إعلام مسبق، وظنّ داود عليه السلام أنّهم يكنّون له السوء: «إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 236

إلّا أنّهما عمدا بسرعة إلى تطييب نفسه وإسكان روعه، وقالا له: لا تخف نحن متخاصمان تجاوز أحدنا على الآخر؛ «قَالُوا لَاتَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ».

فاحكم الآن بيننا ولا تتحيّز في حكمك وأرشدنا إلى الطريق الصحيح: «فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصّرَاطِ». «تشطط»: مشتقة من «شطط» على وزن (فقط)، وتعني البعيد جدّاً، ولكون الظلم والطغيان يبعدان الإنسان كثيراً عن الحقّ، فكلمة (شطط) تعني الإبتعاد عن الحق، كما تطلق على الكلام البعيد عن الحقيقة.

ولذلك تقدّم أحدهما وطرح المشكلة على داود، وقال: هذا أخي، يمتلك (99) نعجة، وأنا لا أمتلك إلّانعجة واحدة، وإنّه يصرّ عليّ أن أعطيه نعجتي ليضمّها إلى بقية نعاجه، وقد شدّد عليّ في القول وأغلظ: «إِنَّ هذَا أَخِى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِىَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا

وَعَزَّنِى فِى الْخِطَابِ».

«النعجة»: هي الانثى من الضأن، وقد تطلق على انثى البقر الوحشي والخراف الجبلية.

«اكفلنيها»: مشتقة من «الكفالة»، وهي هنا كناية عن التخلي (ومعنى الجملة: إجعلها لي وفي ملكيتي وكفالتي، أي إمنحني إيّاها).

«عزّني»: مشتقة من «العزّة» وتعني التغلّب، وبذا يكون معنى الجملة إنّه تغلّب عليّ.

وهنا التفت داود عليه السلام إلى المدّعي قبل أن يستمع كلام الآخر (كما يوضّحه ظاهر الآية) وقال: من البديهي أنّه ظلمك بطلبه ضمّ نعجتك إلى نعاجه؛ «قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ».

وهذا الأمر ليس بجديد، إذ إنّ الكثير من الأصدقاء والمخالطين بعضهم لبعض يبغي على صاحبه، إلّاالذين آمنوا وعملوا الصالحات وهم قلّة: «وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ» «1».

فالأشخاص الذين يراعون بصورة كاملة في معاشرتهم وصداقتهم الطرف المقابل، ولا

______________________________

(1) «خلطاء»: جمع «خليط» وتعني الأشخاص أو الأشياء المخلوطة بعضها مع بعض، كما تطلق على الصديق والشريك والجار، ورغم أنّ الظلم والإعتداء لم يختصّ بالخلطاء، إلّاأنّ ذكر هذه المجموعة بسبب وجود الإتّصالات المتكرّرة فيما بينهم، وإحتمال حدوث سوء تفاهم فيما بينهم، أو بسبب عدم توقّع حدوث أي ظلم وطغيان من قبل اولئك.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 237

يعتدون عليه أدنى إعتداء ويؤدّون حقوق أصدقائهم ومعارفهم بصورة كاملة قليلون جدّاً، وهم المتزودّون بالإيمان والعمل الصالح.

على أيّة حال، فالظاهر أنّ طرفي الخصام إقتنعا بكلام داود عليه السلام وغادرا المكان.

ولكن داود غرق في التفكير بعد مغادرتهما، رغم أنّه كان يعتقد أنّه قضى بالعدل بين المتخاصمين، فلو كان الطرف الثاني مخالفاً لإدّعاءات الطرف الأوّل- أي المدّعي- لكان قد إعترض عليه، إذن فسكوته هو خير دليل على أنّ القضية هي كما طرحها المدّعي.

ولكن آداب مجلس القضاء تفرض على داود

أن يتريّث في إصدار الأحكام ولا يتعجّل في إصدارها، وكان عليه أن يسأل الطرف الثاني أيضاً ثم يحكم بينهما، فلذا ندم كثيراً على عمله هذا، وظنّ أنّما فتنه الباري ء عزّ وجل بهذه الحادثة: «وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنهُ».

وهنا أدركته طبيعته، وهي أنّه أوّاب، إذ طلب العفو والمغفرة من ربّه وخرّ راكعاً تائباً إلى اللَّه العزيز الحكيم: «فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ».

«خرّ»: مشتقة من «خرير» وتعني سقوط شي ء من علو ويسمع منه الصوت مثل صوت الشلالات، كما أنّها كناية عن السجود.

و «راكعاً»: إمّا أنّها تعني السجود كما جاءت في اللغة، أو لكون الركوع مقدمة للسجود.

فاللَّه سبحانه وتعالى شمل عبده داود بلطفه وعفا عن زلّته من حيث ترك العمل بالأولى، كما توضّحه الآية التالية: «فَغَفَرْنَا لَهُ ذلِكَ». وإنّ له منزلة رفيعة عند اللَّه «وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَابٍ».

«زلفى»: تعني المنزلة (والقرب عند اللَّه)؛ و «حسن مآب»: إشارة إلى الجنة ونعم الآخرة.

يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَ مَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَ الْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) احكم بالعدل ولا تتّبع هوى النفس: نواصل استعراض قصة داود، ونقف هنا على

مختصر الامثل، ج 4، ص: 238

أعتابها النهائية، حيث إنّ آيات بحثنا هذا هي آخر الآيات الواردة في هذه السورة بشأن داود، إذ تخاطبه بلهجة حازمة وبعبارات

مفعمة بالمعاني، شارحة له وظائفه ومسؤولياته الجسيمة بعد أن وضّحت مقامه الرفيع، إذ تقول: «يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الْأَرْضِ».

محتوى هذه الآية التي تتحدث عن مقام داود الرفيع والوظائف المهمّة التي كلّف بها، تبيّن أنّ القصص الخيالية والكاذبة التي نسجت بشأن زواج داود من زوجة (أوريا) كلّها كاذبة ولا أساس لها من الصحة. فهل يمكن أن ينتخب الباري ء عزّ وجل شخصاً ينظر إلى شرف المؤمنين والمقربين منه بعين خؤونة ويلوّث يده بدم الأبرياء، خليفة له في الأرض، ويمنحه حكم القضاء المطلق؟!

هذه الآية تضمّ خمس جمل كل واحدة منها تتحدث عن حقيقة معيّنة:

الاولى: خلافة داود في الأرض.

هذه الآية تبيّن أنّ الحكومة في الأرض يجب أن تستلهم شرعيّتها من الحكومة الإلهية، وأيّ حكومة لا تستلهم شرعيّتها من الحكومة الإلهية فإنّها حكومة ظالمة وغاصبة.

الجملة الثانية: تأمر داود قائلة: بعد أن منحك اللَّه سبحانه وتعالى هذه النعمة الكبيرة، أي الخلافة، فإنّك مكلّف بأن تحكم بين الناس بالحقّ «فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقّ».

وفي واقع الأمر فإنّ إحدى ثمار خلافة اللَّه هي ظهور حكومة تحكم بالحق.

أمّا الجملة الثالثة: فإنّها تشير إلى أهمّ خطر يهدّد الحاكم العادل، ألا وهو اتّباع هوى النفس «وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى .

نعم، فهوى النفس ستار سميك يغطّي بصيرة الإنسان، ويباعد بينه وبين العدالة.

لهذا فإنّ الجملة الرابعة تقول: «فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ».

فأينما وجد الضلال كان لهوى النفس ضلع في ذلك، وأينما اتّبع هوى النفس فإنّ عاقبته الضلال.

والجملة الخامسة تشير إلى أنّ كل ضلال عن سبيل اللَّه لا ينفكّ عن نسيان يوم الحساب، ومن ينسى يوم الحساب فإنّ عذاب اللَّه الشديد ينتظره: «إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ».

وتتمّة للبحث الذي إستعرض حال داود

وخلافته في الأرض، تتطرق الآيات لأهداف خلق عالم الوجود، كي تشخّص أسباب الحكومة على الأرض التي هي جزء من ذلك العالم،

مختصر الامثل، ج 4، ص: 239

فيقول تعالى: «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ».

هناك مسألة مهمّة تعدّ مصدراً لكل الحقوق، وهي: ما الهدف من وجود الخلق؟ فعندما ننظر إلى هذا العالم الوسيع، ونوافق على أنّ هذا العالم الوسيع لم يخلقه اللَّه عبثاً، نتابع الهدف من وراء ذلك الخلق، الهدف الذي يمكن إيجازه في كلمات قصيرة وعميقة، وهي (التكامل) و (التعليم) و (التربية) ومن هنا نستنتج أنّ الحكومات عليها أن تسير وفق هذا الخطّ، فعليها أن تثبت اسس التربية والتعليم لتكون أساس التكامل المعنوي عند الإنسان.

الآية التالية تضيف: «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ».

كما أنّ عدم وجود هدف من خلق العالم يعدّ أمراً مستحيلًا، فمن المستحيل أيضاً المساواة بين الصالحين والطالحين، لأنّ المجموعة الاولى كانت تخطو خطواتها وفق أهداف خلق العالم للوصول إلى الغاية النهائية، بينما كانت المجموعة الثانية تسير بإتّجاه مخالف لمسير المجموعة الاولى.

وبعبارة اخرى: فلإثبات مسألة المعاد- أحياناً- يمكن الاستدلال عليها عن طريق برهان (الحكمة) وأحياناً اخرى عن طريق برهان (العدالة)، فالآية السابقة استدلال بالحكمة، والآية التي بعدها إستدلال بالعدالة.

الآية الأخيرة في بحثنا هذا تشير إلى موضوع يوضّح- في حقيقة الأمر- الهدف من الخلق، إذ جاء في الآية الكريمة: «كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا ءَايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبَابِ».

فتعليماته خالدة، وأوامره عميقة وأصيلة، ونظمه باعثة للحياة وهادية للإنسان إلى الطريق المؤدّي إلى إكتشاف هدف الخلق.

فالهدف من نزول هذا الكتاب العظيم لم يقتصر- فقط- على تلاوته وتلفّظ اللسان به، بل لكي

تكون آياته منبعاً للفكر والتفكّر وسبباً ليقظة الوجدان، لتبعث بدورها الحركة في مسير العمل.

وَ وَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ الْأَعْنَاقِ (33)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 240

سليمان عليه السلام يستعرض قوّاته القتالية: هذه الآيات تواصل البحث السابق بشأن داود عليه السلام. فالآية الاولى تزفّ البشرى لداود في أنّه سيرزق بولد صالح هو سليمان، وسيتولّى الحكم وأعباء الرسالة من بعده، وتقول: «وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمنَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ».

هذه الجملة تبيّن عظمة مقام سليمان، ويحتمل كونها ردّاً على الإتّهامات القبيحة والعارية من الصحّة الواردة في التوراة المحرّفة عن ولادة سليمان من زوجة أوريّا، والتي كانت شائعة في المجتمع قبل نزول القرآن.

الآية التالية تبدأ بقصّة خيل سليمان، التي فسّرت بأشكال مختلفة، حيث إنّ البعض فسّرها بصورة سيّئة ومعارضة لموازين العقل، إذ يقول القرآن: «إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِىّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ».

«صافنات»: جمع «صافنة» وتطلق على الجياد التي تقوم على ثلاث قوائم وترفع أحد قوائمها الأمامية قليلًا ليمسّ الأرض على طرف الحافر، وهذه الحالة تخصّ الخيول الأصيلة التي هي على أهبّة الإستعداد للحركة في أيّة لحظة.

«الجياد»: جمع «جواد» وتعني الخيول السريعة السير، وكلمة «جياد» مشتقة في الأصل من (جود)، والجود عند الإنسان يعني بذل المال، وعند الخيول يعني سرعة سيرها.

ويستشف من الآية مع القرائن المختلفة المحيطة بها، أنّه في أحد الأيّام وعند العصر إستعرض سليمان عليه السلام خيوله الأصيلة التي كان قد أعدّها لجهاد أعدائه.

فقد جاء هذا الوصف في القرآن بعد ذكر مقام سليمان باعتباره نموذجاً من أعماله.

ولكي يطرد سليمان التصوّر عن أذهان الآخرين في

أنّ حبّه لهذه الخيول القوية ناتج من حبّه للدنيا، جاء في قوله تعالى: «فَقَالَ إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبّى».

إنّي احبّ هذه الخيل من أجل اللَّه وتنفيذ أمره، واريد الإستفادة منها في جهاد الأعداء.

وإستمرّ سليمان عليه السلام ينظر إلى خيله الأصيلة المستعدّة لجهاد أعداء اللَّه، وهو يعيش حالة من السرور، حتى توارت عن أنظاره: «حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ».

كان هذا المشهد جميلًا ولطيفاً لقائد كبير مثل سليمان، بحيث أمر بإعادة عرض الخيل مرّة اخرى: «رُدُّوهَا عَلَىَّ». وعندما نفّذت أوامره بإعادة الخيل، عمد سليمان عليه السلام إلى مسح سوقها وأعناقها: «فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ».

وبهذا الشكل أشاد بجهود مدربي تلك الخيول، وأعرب لهم عن تقديره لها، لأنّ من

مختصر الامثل، ج 4، ص: 241

الطبيعي لمن أراد أن يعرب عن تقديره للجواد أن يمسح رأس ذلك الجواد ووجهه ورقبته وشعر رقبته، أو يمسح على ساقه، وأبرز في نفس الوقت تعلقه الشديد بخيله التي تساعده في تحقيق أهدافه العليا السامية، وتعلق سليمان الشديد بخيله ليس بأمر يبعث على العجب.

«طفق»: بإصطلاح النحويين من أفعال المقاربة، وتأتي بمعنى (شرع)؛ و «سوق»: هي جمع (ساق)؛ و «أعناق»: جمع (عنق) ومعنى الآية هو أنّ سليمان شرع بمسح سوق الجياد وأعناقها.

وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَ أَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَ الشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَ غَوَّاصٍ (37) وَ آخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَ حُسْنَ مَآبٍ (40) الإمتحان الصعب لسليمان وملكه الواسع: هذه الآيات تتحدث

عن أحداث اخرى من قصة سليمان. القسم الأوّل من الآيات يتطرّق إلى أحد الإمتحانات التي إمتحن اللَّه بها عبده سليمان، الإمتحان في ترك العمل بالأولى، وكيف توجّه بعدها سليمان بقلب خاشع إلى اللَّه سبحانه وتعالى طالباً منه العفو والتوبة لتركه العمل بالأولى

الآية الاولى في بحثنا هذا تقول: «وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمنَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ».

إنّ سليمان عليه السلام كان متزوجاً من عدّة نساء، وكان يأمل أن يُرزق بأولاد صالحين شجعان ليساعدوه في إدارة شؤون البلاد وجهاد الأعداء، فحدّث نفسه يوماً قائلًا: لأطوفنّ على نسائي كي ارزق بعدد من الأولاد لعلّهم يساعدونني في تحقيق أهدافي، ولكونه غفل عن قول (إن شاء اللَّه) بعد تمام حديثه مع نفسه، تلك العبارة التي تبيّن توكّل الإنسان على اللَّه سبحانه وتعالى في كل الامور والأحوال، فلم يرزق سوى ولد ميّت ناقص الخلقة جي ء به والقي على كرسي سليمان عليه السلام.

سليمان عليه السلام غرق- هنا- في تفكير عميق، وتألّم لكونه غفل عن اللَّه لحظة واحدة وإعتمد على قواه الذاتية، فتاب إلى اللَّه وعاد إليه.

فإنّ القرآن الكريم- من خلال الآية التالية- يكرّر الحديث بصورة مفصلة حول قضية توبة سليمان التي وردت في آخر عبارة تضمّنتها الآية السابقة: «قَالَ رَبّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى

مختصر الامثل، ج 4، ص: 242

مُلْكًا لَّايَنبَغِى لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِى إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ».

إنّ سليمان طلب من الباري ء عزّ وجل أن يهب له ملكاً مع معجزات خاصة، لأنّنا نعرف أنّ لكل نبي معجزة خاصة به. وهذا الأمر لا يعدّ عيباً أو نقصاً بالنسبة للأنبياء الذين يطلبون من اللَّه أن يؤيّدهم بمعجزة خاصة.

الآيات التالية تبيّن موضوع إستجابة اللَّه سبحانه وتعالى لطلب سليمان ومنحه ملكاً يتميّز بإمتيازات خاصة ونعم كبيرة، يمكن

إيجازها في خمسة أقسام:

1- تسخير الرياح له بعنوان واسطة سريعة السير، كما تقول الآية: «فَسَخَّرْنَا لَهُ الرّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ».

تفاصيل هذه التساؤلات ليست واضحة بالنسبة لنا، وكل ما نعرفه أنّ تلك الامور الخارقة توضع تحت تصرّف الأنبياء لتسهّل لهم القيام بمهامهم.

2- النعمة الاخرى التي أنعمها الباري ء عزّ وجل على عبده سليمان عليه السلام، هي تسخير الموجودات المتمردة ووضعها تحت تصرّف سليمان لتنجز له بعض الأعمال التي يحتاجها «وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ». أي: إنّ مجموعة منها منشغلة في البرّ ببناء ما يحتاج إليه سليمان من أبنية، واخرى منشغلة بالغوص في البحر.

وبهذا الشكل فإنّ اللَّه وضع تحت تصرّف سليمان قوّة مستعدّة لتنفيذ ما يحتاج إليه، فالشياطين- التي من طبيعتها التمرّد والعصيان- سخّرت لسليمان لتبني له، ولتستخرج المواد الثمينة من البحر.

3- النعمة الاخرى التي أنعمها الباري ء عزّ وجل على سليمان، هي سيطرته على مجموعة من القوى التخريبيّة، لأنّ هناك من بين الشياطين من لا فائدة فيه، ولا سبيل أمام سليمان سوى تكبيلهم بالسلاسل، كي يبقى المجتمع في أمان من شرورهم، كما جاء في القرآن المجيد «وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى الْأَصْفَادِ».

«مقرّنين»: مشتقة من (قرن) وهي تشير إلى ربط الأيدي والأرجل أو الرقاب بالسلاسل.

«أصفاد»: جمع «صفد» على وزن (مطر) وتعني القيود التي تكبّل بها أيدي السجناء.

وقال البعض: إنّ عبارة «مُقَرَّنِينَ فِى الْأَصْفَادِ» تعني الجامعة التي تجمع بين الرقبة

مختصر الامثل، ج 4، ص: 243

واليدين، وهذا المعنى قريب من معنى «مقرنين» اللغوي وأكثر مناسبة له.

4- النعمة الرّابعة التي أنعمها اللَّه سبحانه وتعالى على نبيّه سليمان هي إعطاؤه الصلاحيات الواسعة والكاملة في توزيع العطايا والنعم على من يريد، ومنعها عمّن يريد حسب ما تقتضيه المصلحة، «هذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ».

عبارة «بِغَيْرِ

حِسَابٍ» إمّا أن تكون إشارة إلى أنّ الباري ء عزّ وجل قد أعطى لسليمان صلاحيات واسعة لن تكون مورد حساب أو مؤاخذة، وذلك لصفة العدالة التي كان يتمتّع بها سليمان في مجال استخدام تلك الصلاحيات، أو أنّ العطاء الإلهي لسليمان كان عظيماً بحيث إنّه مهما منح منه فإنّه يبقى عظيماً وكثيراً.

5- والنعمة الخامسة التي منّ اللَّه سبحانه وتعالى بها على سليمان، هي المراتب المعنوية اللائقة التي شملته، كما ورد في آخر آية من آيات بحثنا: «وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَابٍ».

إنّ عبارة «حُسْنَ مَابٍ» التي تبشّره بحسن العاقبة والمنزلة الرفيعة عند اللَّه، هي- في نفس الوقت- إشارة إلى زيف الادّعاءات المحرّفة التي نسبتها كتب التوراة إليه، والتي تدّعي أنّ سليمان انجرّ في نهاية الأمر إلى عبادة الأصنام إثر زواجه من امرأة تعبد الأصنام، وعمد إلى بناء معبد للأصنام، إلّاأنّ القرآن الكريم ينفي ويدحض كل تلك البدع والخرافات.

بحث

من جملة الامور التي رسمتها قصة سليمان، ما يلي:

إنّ إمساكه بزمام امور مملكة قويّة ذات إمكانيات ماديّة واقتصادية واسعة وحضارة ساطعة لا تتنافي مع المقامات المعنوية والقيم الإلهية والإنسانية.

وَ اذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَ عَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَ شَرَابٌ (42) وَ وَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَ ذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) حياة أيّوب المليئة بالحوادث والعبر: إنّ أيّوب هو ثالث نبي من أنبياء اللَّه تستعرض هذه السورة (سورة ص) جوانب من حياته، وهي بذلك تدعو رسولنا الأكرم صلى الله عليه و آله إلى تذكّر هذه القصة، وحكايتها للمسلمين، كي

يصبروا على المشاكل الصعبة التي كانت تواجههم، ولا ييأسوا من لطف ورحمة اللَّه.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 244

اسم «أيّوب» أو قصّته وردت في عدّة سور من سور القرآن المجيد، منها الآية (163) في سورة النساء، والآية (84) في سورة الأنعام، التي ذكرت إسمه في قائمة أنبياء اللَّه الآخرين، وبيّنت وأثبتت مقام نبوّته، بخلاف كتاب التوراة الحالي الذي لم يعتبره من الأنبياء، وإنّما اعتبره أحد عباد اللَّه المحسنين والأثرياء وذا عيال كثيرين.

كما أنّ الآيات (83 و 84) في سورة الأنبياء إستعرضت بصورة مختصرة جوانب من حياة أيّوب عليه السلام. أمّا آيات بحثنا هذه فإنّها تستعرض حياته بصورة مفصلة أكثر من أيّ سورة اخرى من خلال أربعة آيات:

فالاولى تقول: «وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ الشَّيْطنُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ».

هذه الآية تبيّن أوّلًا علوّ مقام أيّوب عند الباري ء عزّ وجل، وذلك من خلال كلمة «عبدنا»، وثانياً فإنّها تشير بصورة خفيّة إلى الإبتلاءات الشديدة التي لا تطاق، وإلى الألم والعذاب الذي مسّ أيّوب عليه السلام.

ففي تفسير علي بن إبراهيم نقرأ أنّ أبا بصير سأل الإمام الصادق عليه السلام عن بليّة أيّوب التي ابتلي بها في الدنيا لأيّ علة كانت؟ قال: «لنعمة أنعم اللَّه عليه بها في الدنيا وأدّى شكرها، وكان في ذلك الزمان لا يحجب إبليس من دون العرش فلمّا صعد ورأى شكر نعمة أيّوب حسده إبليس وقال: يا ربّ، إنّ أيّوب لم يؤدّ إليك شكر هذه النعمة إلّابما أعطيته من الدنيا، ولو حرمته دنياه ما أدّى إليك شكر نعمة أبداً، فسلّطني على دنياه حتى تعلم أنّه لم يؤدّ إليك شكر نعمة أبداً».

(ولكي يوضّح الباري ء عزّ وجل إخلاص أيّوب للجميع، ويجعله نموذجاً حيّاً للعالمين حتى يشكروه حين النعمة ويصبروا

حين البلاء، سمح الباري ء عزّ وجل للشيطان في أن يتسلّط على دنيا أيّوب).

«فقيل له: قد سلّطتك على ماله وولده. قال: فانحدر إبليس فلم يبق له مالًا ولا ولداً إلّا أعطبه [أي أهلكه فازداد أيّوب شكراً للَّه وحمداً. قال: فسلّطني على زرعه، قال: قد فعلت فجاء مع شياطينه فنفخ فيه فاحترق فازداد أيوب للَّه شكراً وحمداً. فقال: يا ربّ! سلّطني على غنمه، فسلّطه على غنمه فأهلكها فإزداد أيوب للَّه شكراً وحمداً، وقال: يا ربّ سلّطني على بدنه، فسلّطه على بدنه ما خلا عقله وعينه، فنفخ فيه إبليس فصار قرحة واحدة من قرنه إلى قدمه، فبقي في ذلك دهراً طويلًا يحمد اللَّه ويشكره ...».

(ولكن وقعت حادثة كسرت قلبه وجرحت روحه جرحاً عميقاً، وذلك عندما زارته مجموعة من رهبان بني إسرائيل).

مختصر الامثل، ج 4، ص: 245

«... قالوا: يا أيّوب لو أخبرتنا بذنبك لعل اللَّه كان يهلكنا إذا سألناه؟ وما نرى إبتلاك بهذا البلاء الذي لم يبتل به أحد إلّامن أمر كنت تستره؟ فقال أيوب: وعزّة ربّي أنّه ليعلم أنّي ما أكلت طعاماً إلّاويتيم أو ضيف يأكل معي وما عرض لي أمران كلاهما طاعة للَّه إلّاأخذت بأشدهما على بدني».

حقّاً إنّ شماتة أصحابه كانت أكثر ألماً عليه من أيّة مصيبة اخرى حلّت به، ورغم هذا لم يفقد أيّوب صبره، وإنّما توجّه إلى الباري ء عزّ وجل وذكر العبارة التي ذكرناها آنفاً، أي قوله تعالى: «أَنّى مَسَّنِىَ الشَّيْطنُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ». ولكونه خرج من الإمتحان الإلهي بنتيجة جيّدة، فتح الباري ء عزّ وجل- مرّة اخرى- أبواب رحمته على عبده الصابر المتحمل أيوب، وأعاد عليه النعم التي إفتقدها الواحدة تلو الاخرى، لا بل أكثر مما كان يمتلك من المال والزرع والغنم والأولاد، وذلك كي يفهم الجميع العاقبة الحسنة للصبر والتحمل

والشكر.

في النهاية خرج أيّوب عليه السلام سالماً من بودقة الامتحان الإلهي، ونزول الرحمة الإلهية عليه يبدأ من هنا، إذ صدر إليه الأمر: «ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ».

«اركض»: مشتقة من «ركض» على وزن (فقر) وتعني دكّ الأرض بالرجل، وأحياناً تأتي بمعنى الركض، وهنا تعطي المعنى الأوّل.

عين باردة لأيوب ليشرب منها ويغتسل بمائها للشفاء من كافّة الأمراض التي أصابته (الظاهرية والباطنية).

فإنّ وصف ذلك الماء بالبارد، قد يكون إشارة إلى التأثيرات الخاصة التي يتركها الماء البارد على سلامة الجسم، وذلك ما أثبته الطب الحديث اليوم.

النعمة المهمة الاولى التي اعيدت على أيوب هي العافية والشفاء والسلامة، أمّا بقية النعم التي اعيدت عليه، فاستعرضها القرآن المجيد: «وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مّنَّا وَذِكْرَى لِأُولِى الْأَلْبَابِ».

المشكلة الوحيدة التي بقيت لأيوب عليه السلام هي قسمه بضرب زوجته، إذ كان قد أقسم أيام مرضه لئن برى ء من مرضه ليجلدنّ امرأته مائة جلدة أو أقل لأمر أنكره عليها، ولكن بعدما برى ء من مرضه رغب أيوب في العفو عنها إحتراماً وتقديراً لوفائها ولخدماتها التي قدّمتها إليه أيام مرضه، ولكن مسألة القسم باللَّه كانت تحول دون ذلك.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 246

وهنا شمل الباري ء عزّ وجل أيوب عليه السلام مرّة اخرى بألطافه ورحمته، وذلك عندما أوجد حلّاً لهذه المشكلة المستعصية على أيوب: «وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ».

«ضغث»: تعني مل ء الكفّ من الأعواد الرقيقة، كسيقان الحنطة والشعير أو الورد وما شابهها.

الآية الأخيرة في بحثنا هذا- التي هي بمثابة عصارة القصة من أوّلها حتى آخرها- تقول:

«إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ».

في هذه الآية أنّها أعطت ثلاثة أوصاف لأيّوب، كل واحد منها إن توفّر في أي إنسان فهو إنسان كامل.

أوّلًا: مقام عبوديته.

ثانياً: صبره وتحمله وثباته.

ثالثاً:

إنابته المتكررة إلى اللَّه.

الفرج بعد الشدة نقطة اخرى تكمن في مجريات هذه القصة، فعندما تشتدّ أمواج الحوادث والبلاء على الإنسان وتحيط به من كل جانب، عليه أن لا ييأس ويفقد الأمل، وإنّما عليه أن يدرك أنّها بداية تفتح أبواب الرحمة الإلهية عليه، كما يقول علي بن أبي طالب عليه السلام في نهج البلاغة: «عند تناهي الشدة تكون الفرجة، وعند تضايق حلق البلاء يكون الرخاء».

وَ اذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَ الْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَ اذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ ذَا الْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) الأنبياء الستّة: متابعة للآيات السابقة تستعرض آيات بحثنا هذا أسماء ستّة من أنبياء اللَّه، وتوضّح بصورة مختصرة بعض صفاتهم البارزة التي يمكن أن تكون انموذجاً حيّاً لكل بني الإنسان. ففي البداية تخاطب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرهِيمَ وَإِسْحقَ وَيَعْقُوبَ».

فالعبودية للَّه تعني التبعية المطلقة له، وتعني الاستسلام الكامل لإرادته، والإستعداد لتنفيذ أوامره في كل الأحوال.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 247

العبودية للَّه تعني عدم الاحتياج لغيره، وعدم التوجه لسواه، والتفكير بلطفه ورحمته فقط، هذا هو أوج تكامل الإنسان وأفضل شرف له.

ثم تضيف الآية: «أُولِى الْأَيْدِى وَالْأَبْصَارِ».

وقد وصف الباري ء عزّ وجل أنبياءه بأنّهم ذوو إدراك وتشخيص وبصيرة قويّة، وذوو قوّة وقدرة كافية لإنجاز أعمالهم.

إنّهم قدوة لكل السائرين في طريق الحق، فبعد مقام العبودية الكامل للَّه تعالى، تسلّحوا بهذين السلاحين القاطعين.

وعلى هذا أنّه ليس المراد من اليد والعين أعضاء الحس التي يمتلكها غالبية الناس، وإنّما هي كناية عن صفتين هما (العلم والقدرة).

أمّا الصفة الرابعة لهم فيقول القرآن بشأنها: «إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ».

إنّهم يتطلّعون إلى عالم

آخر، وافق نظرهم لا ينتهي عند الحياة الدنيا ولذاتها المحدودة، بل يتطلّعون إلى ما وراءها من حياة أبدية ونعيم دائم، ولهذا يبذلون الجهد ويسعون غاية السعي لنيلها.

الصفتان الخامسة والسادسة جاءتا في الآية التالية: «وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ».

إنّ إيمانهم وعملهم الصالح كانا السبب في إصطفاء الباري ء عزّ وجل لهم من بين الناس لأداء مهام النبوّة وحمل الرسالة.

وبعد أن أشارت الآية السابقة إلى مقام ثلاثة أنبياء بارزين، تشير الآية التالية، إلى ثلاثة آخرين، إذ تقول: «وَاذْكُرْ إِسْمعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ».

فكل واحد منهم كان مثالًا واسوة في الصبر والإستقامة وطاعة أوامر الباري ء عزّ وجل، خاصة «إسماعيل» الذي كان على إستعداد كامل للتضحية بروحه في سبيل اللَّه، ولهذا السبب اطلق عليه لقب (ذبيح اللَّه).

وإستعراض آيات القرآن الكريم لحياة اولئك العظام ليستلهم منها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وكل المسلمين العبر، وتبعث فيه روح التقوى والتضحية والإيثار، وتجعله في نفس الوقت صابراً صامداً أمام المشاكل والحوادث الصعبة.

الآية (86) من سورة الأنعام بيّنت أنّ (اليسع) من ذرية إبراهيم، وأنّه من الأنبياء الكبار؛

مختصر الامثل، ج 4، ص: 248

وأمّا (ذو الكفل) فهو أيضاً معروف بأنّه أحد أنبياء اللَّه، وذكره ورد مع أنبياء آخرين في الآية (85) من سورة الأنبياء.

هذَا ذِكْرٌ وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَ شَرَابٍ (51) وَ عِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) هذا ما وُعد به المتّقون: آيات هذه السورة إنتقلت بنا إلى شكل آخر من الحديث، إذ أخذت تقارن بين المتّقين والعصاة المتجبّرين، وتشرح مصير كل منهما يوم القيامة،

وهي بصورة عامّة تكمل بحوث الآيات السابقة. في البداية، وكخلاصة لشرح حال الأنبياء السابقين والنقاط المضيئة في حياتهم، تقول الآية: «هذَا ذِكْرٌ».

لم يكن الهدف من بيان مقاطع من تاريخ اولئك الأنبياء الرائع والمثير سرد بعض القصص، وإنّما الهدف الذكر والتذكّر، كما أكّدت عليه بداية هذه السورة.

فالهدف هو إيقاظ الأفكار، ورفع المستوى العلمي، وزيادة قوّة المقاومة والصمود لدى المسلمين الذي نزلت إليهم هذه الآيات.

ثم أخرجت الامور من طابعها الخاصّ وبيان أوضاع وأحوال الأنبياء، إلى طابعها العام، لتشرح بصورة عامة مصير المتقين، إذ تقول: «وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَابٍ».

بعد هذه الآية القصيرة، يعمد القرآن المجيد مجدّداً إلى اتّباع اسلوبه الخاص، وهو اسلوب الإيجاز والتفصيل، ليشرح ما فاز به المتقون: «جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ».

عبارة «مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ» إشارة إلى أنّهم لا يتكلّفون حتى بفتح أبواب الجنة، إذ أنّها تنفتح بدون عناء لإستقبال أهل الجنة، إذ إنّ الجنة بإنتظارهم، وعندما تراهم تفتح لهم أبوابها وتدعوهم للدخول إليها.

ثم تبيّن الهدوء والسكينة التي تحيط بأهل الجنة، إذ تقول: «مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ».

بعد هذا تتطرّق الآيات للزوجات الصالحات في الجنة، إذ تقول: «وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 249

«الطرف»: جفن العين، وأحياناً يأتي بمعنى النظر، ووصف آخر نساء الجنة بقاصرات الطرف (أي ذوات النظرات القصيرة) يشير إلى إقتصار نظرهن على أزواجهن فقط، وحبّهن وعشقهن لهم وعدم تفكيرهم بسواهم، وهذه من أفضل مزايا وحسنات الزوجات.

الآية الأخيرة في هذا البحث تشير إلى النعم السبع التي يغدقها الباري ء عزّ وجل على أهل الجنة، والتي وردت في الآيات السابقة. قال تعالى: «هذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ».

وعدٌ لا يُخلف، ويبعث في نفس الوقت على النشاط لمضاعفة الجهد، نعم إنّه وعد من اللَّه العظيم.

وللتأكيد

على خلود هذه النعم، جاء في قوله تعالى: «إِنَّ هذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ».

أي: أنّ النعم في الجنان خالدة ولا تنفد ولا تزول كما في الحياة الدنيا، ولا يظهر عليها أيّ نقص، لأنّ اللَّه أراد ذلك.

هذَا وَ إِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَ غَسَّاقٌ (57) وَ آخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وهذه هي عاقبة الطغاة: الآيات السابقة إستعرضت النعم السبع وغيرها من النعم التي يغدقها الباري ء عزّ وجل على عباده المتقين، أمّا آيات بحثنا فإنّها تستخدم اسلوب المقارنة الذي كثيراً ما استخدمه القرآن الكريم، لتوضيح المصير المشؤوم والعقوبات المختلفة التي ستنال الطغاة والعاصين. قال تعالى: «هذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَابٍ».

ثم تعمد آيات القرآن المجيد إلى الاستفادة من اسلوب الإيجاز والتفصيل، إذ تقول:

«جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ». أي إنّ جهنم هي المكان المشؤوم الذي سيردونه، وإنّهم سيحترقون بنيرانها، فيا لها من فراش سي ء.

«مهاد»: تعني الفراش، وهو مكان إستراحة، ويجب أن يكون مناسباً- في كل الأحوال- لوضع الشخص وملائماً لرغبته، ولكن كيف سيكون حال الذين خصّصت لهم نار جهنم فراشاً؟!

مختصر الامثل، ج 4، ص: 250

مختصر الامثل ج 4 280

ثم تتطرّق الآيات إلى أنواع اخرى من العذاب الإلهي، إذ تقول: «هذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ». أي يجب عليهم أن يشربوا الحميم والغسّاق.

«الحميم»: هو الماء الحارّ الشديد الحرارة، والذي هو أحد أنواع أشربة أهل جهنم.

و «غسّاق»: من «غسق» على وزن (رمق) وتعني شدّة ظلمات الليل.

وقال الراغب في

مفرداته: إنّ (غسّاق) تعني القيح الذي يسيل من جلود أهل جهنم ومن الجراحات الموجودة في أجسامهم.

آيات بحثنا تشير مرّة اخرى إلى نوع آخر من أنواع العذاب الأليم: «وَءَاخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ». أي أنّ هناك عذاب آخر غير ذلك العذاب.

«أزواج»: تعني الأنواع والأقسام، وهذه إشارة موجزة إلى أنواع اخرى من العذاب لا تختلف عن أنواع العذاب السابقة، ولكن آيات القرآن لم تفصح هنا عن أنواعها وقد لا يستطيع أحد في هذه الدنيا فهمها وإدراكها.

وآخر عذاب لهم أنّ جلساءهم في جهنم ذوو ألسنة بذيئة لا تنطق إلّابالقبيح من الكلام، فعندما يرد رؤساء الضلال النار، ويرون بأعينهم تابعيهم يساقون نحو جهنم يخاطب بعضهم البعض ويقول له: «هذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ».

فيجيبونهم: «لَامَرْحَبًا بِهِمْ».

ثم يضيفون: «إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ».

«مقتحم»: من «إقتحام» وتعني الدخول في شي ء بمشقّة وبصعوبة وخوف، وغالباً ما تعطي معنى الدخول في شي ء من دون أي إطلاع وعلم مسبق.

وتوضّح هذه العبارة أنّ متّبعي سبيل الضلال يردون نار جهنم الرهيبة نتيجة تركهم البحث والتفكير، واتّباعهم لأهوائهم، إضافة إلى تقليدهم الأعمى لآبائهم الأوّلين.

فإنّ الصوت يصل إلى مسامع الأتباع الذين يغضبون من كلام أئمّة الضلال، ويلتفتون إليهم قائلين: «قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَامَرْحَبًا بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ».

وأراد الأتباع من جوابهم القول: بأنّ من حسن الحظّ أنّكم (أي أئمّة الضلال والشرك) مشتركون معنا في هذا الأمر. وهذا يشفي غليل قلوبنا (وكأنّهم شامتون بأئمّتهم).

لكن الأتباع لا يكتفون بهذا المقدار من الكلام، لأنّ أئمة الضلال هم الذين كانوا السبب المباشر لإرتكابهم الذنوب، ولذا فإنّهم يعتبرونهم أصحاب الجريمة الحقيقيين، وهنا يلتفتون

مختصر الامثل، ج 4، ص: 251

إلى الباري ء عزّ وجل قائلين: «قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِى النَّارِ».

العذاب الأوّل لأنّهم أضلّوا أنفسهم،

والثاني لأنّهم أضلّونا.

هذه هي نهاية كل من عقد الصداقة مع المنحرفين وبايعهم على السير في طرق الضلال والإنحراف، فإنّهم عندما يرون نتائج أعمالهم الوخيمة يلعن بعضهم بعضاً ويتخاصمون فيما بينهم.

والملفت للنظر هنا أنّ الآيات التي تذكر النعم التي يغدقها الباري ء عزّ وجل على المتّقين كانت أكثر تنوّعاً من الآيات التي إستعرضت عذاب الطغاة المتجبّرين، إذ أشارت آيات القسم الأوّل إلى سبع نعم، بينما أشارت آيات القسم الثاني إلى خمسة أنواع من العذاب، يحتمل أن يكون السبب هو سبق رحمة اللَّه لغضبه، «يامن سبقت رحمتُه غضبَه».

وَ قَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) تخاصم أهل النار: آيات بحثنا تواصل إستعراض الجدال الدائر بين أهل جهنم. تقول اولى تلك الآيات: «وَقَالُوا مَا لَنَا لَانَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مّنَ الْأَشْرَارِ».

فعندما يبحث أفراد اتّبعوا أئمّة الضلال، أمثال أبي جهل وأبي لهب، عن أشخاص آخرين مثل عمّار بن ياسر وخباب وصهيب وبلال، في نار جهنم يرجعون إلى ذاتهم متسائلين، ويستفسرون من الآخرين: أين اولئك الأشخاص؟

وتضيف الآيات نقلًا عن أهل جهنم: «أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ».

إنّنا كنّا نسخر من هؤلاء الرجال العظماء ذوي المقام الرفيع، ونعتبرهم اناساً حقراء لا يستحقّون أن ننظر إليهم، ولكن اتّضح لنا الآن أنّ جهلنا وغرورنا وأهواءنا هي التي أسدلت على أعيننا ستائر حجبت الحقيقة عنّا، فهؤلاء كانوا من المقربين للَّه ومكانهم الآن في الجنة.

ومن الضروري الإلتفات إلى أنّ أحد أسباب عدم إدراك الحقائق هو عدم أخذها بطابع الجدّ، إضافة إلى الإستهزاء بها، إذ يجب على الدوام مناقشة الحقائق بشكل جدّي للوصول إليها.

ثم تخرج الآية الأخيرة بالنتيجة التي تمخّض

عنها الجدال بين أهل جهنم، وتؤكّد على ما مضى بالقول: «إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 252

فأهل جهنم مبتلون في هذه الدنيا بالخصام والنزاع والحروب. فالنزاع والجدال يتحكّم بهم، وفي كل يوم يتخاصمون مع هذا وذاك.

وفي يوم القيامة، ذلك اليوم الذي تبرز فيه الأسرار وما تخفيه الصدور، تراهم يتنازعون فيما بينهم في جهنم.

الجدير بالذكر أنّ أهل الجنة متكئون على الأسرّة، ويتحدثون فيما بينهم بكلام ملؤه المحبة والصدق، كما ورد في آيات مختلفة من آيات القرآن الحكيم، بينما تجد أهل النار يعيشون حالة من الصراع والجدال، إذن فتلك نعمة كبيرة، وهذا عذاب أليم.

قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَ مَا مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إنّما أنا نذير: البحوث السابقة كانت تحمل طابع إنذار وتهديد للمشركين والعاصين والظالمين، أمّا آيات بحثنا فتتابع ذلك البحث، إذ جاء في اولى آياتها: «قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ».

صحيح أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مبشّر أيضاً، ولكن بما أنّ البشرى تخصّ المؤمنين فإنّ الإنذار يخصّ المشركين والمفسدين، والحديث هنا يخصّ المجموعة الأخيرة، وإعتمد فيه على الإنذار.

ثم يضيف: «وَمَا مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ».

كلمة (القهّار) وردت في هذه العبارة، كي لا يغترّ أحد بلطف اللَّه، ويظنّ أنّه يعيش في مأمن من قهر اللَّه، ولكي لا يغرق في مستنقع الكفر وإرتكاب الذنب.

وتطرح دلائل توحيد الخالق جلّ وعلا في الالوهية والعبودية بشكل مباشر، وتضيف:

«رَبُّ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ».

في

الواقع هناك ثلاث صفات من صفات الباري ء عزّ وجل ذكرت في هذه الآية، وكل واحدة منها جاءت لإثبات مفهوم ما. الاولى: «ربوبيته» لعالم الوجود، ومالكيته لكل هذا العالم، المالك المدبّر لشؤون عالم الوجود.

والصفة الثانية والثالثة وصف الباري ء عزّ وجل ب (العزيز) و (الغفّار) وهو دليل آخر على

مختصر الامثل، ج 4، ص: 253

توحّده تعالى في الالوهية، لأنّه الوحيد الذي يستحق العبادة والطاعة، وإضافة إلى ربوبيته فإنّه يمتلك القدرة على المعاقبة، وإضافةً إلى إمتلاكه للقدرة على المعاقبة، فإنّ أبواب رحمته ومغفرته مفتوحة للجميع.

ثم يخاطب الباري ء عزّ وجل نبيّه الأكرم في عبارة قصيرة وقويّة: «قُلْ هُوَ نَبَؤٌا عَظِيمٌ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ».

ثم تقول الآية، مقدمةً لسرد قصة خلق آدم، والمكانة الرفيعة التي يحتلّها الإنسان الذي سجدت له كافّة الملائكة: «مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ».

أي: لا علم لي بالمناقشات التي دارت بين الملأ الأعلى وملائكة العالم العلوي بخصوص خلق الإنسان، حيث إنّ العلم يأتيني عن طريق الوحي، والشي ء الوحيد الذي يوحى إليّ هو أنّني نذير مبين: «إِن يُوحَى إِلَىَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ».

ورغم أنّ الملائكة لم تناقش وتجادل الباري ء عزّ وجل، ولكنّهم قالوا عندما أخبرهم الباري ء عزّ وجل بأنّه سيجعل في الأرض خليفة، فقالوا: أتخلق فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟

مثل هذا النقاش أطلق عليه اسم (التخاصم) وهي تسمية مجازية.

إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ

نَارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) تكبّر الشيطان وطرده من رحمة اللَّه: هذه الآيات توضيح لإختصام (الملأ الأعلى) و (إبليس) وبحث حول مسألة خلق آدم عليه السلام. الآية الاولى تذكّر بإخبار اللَّه عزّ وجل

مختصر الامثل، ج 4، ص: 254

ملائكته بأنّه سيخلق بشراً من الطين: «إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلِكَةِ إِنّى خَالِقٌ بَشَرًا مّن طِينٍ».

ولكي لا يتصور البعض أنّ أصل خلق الإنسان هو ذلك الطين وحسب، أضافت الآية التالية: «فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ».

وبهذا الشكل إنتهت عملية خلق الإنسان، وذلك بعد إمتزاج روح الباري ء عزّ وجل الطاهرة مع التراب. فخُلق موجود عجيب لم يسبق له مثيل، ولم توضع لرقيّه وإنحطاطه أيّة حدود. الموجود الذي زوّده الباري ء عزّ وجل بإستعدادات خارقة تجعله لائقاً لخلافة اللَّه، والذي سجدت له الملائكة بأجمعها فور إكتمال عملية خلقه: «فَسَجَدَ الْمَلِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ».

إلّا أنّ إبليس كان الوحيد الذي أبى أن يسجد لآدم لتكبّره وتمرده وطغيانه، ولهذا السبب أنزل من مقامه الرفيع إلى صفوف الكافرين: «إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ».

نعم، فالتكبر والغرور من أقبح الامور التي يبتلى بها الإنسان، ويحرماه من إدراك الحقائق وفهمها، ويؤدّيان به إلى التمرد والعصيان، ويخرجانه أيضاً من صفوف المؤمنين المطيعين للَّه إلى صفّ الكافرين الباغين والطاغين، ذلك الصفّ الذي يترأسه إبليس ويقف في مقدّمته.

وهنا إستجوب الباري ء عزّ وجل إبليس: «قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ».

وبما أنّ الباري ء عزّ وجل منزّه

عن كافّة أشكال الجسم والتجسيم، فعبارة (يدي) هنا كناية عن القدرة، ومن الطبيعي أنّ الإنسان يستعمل يديه ليظهر قدرته على إنجاز العمل.

ثم تضيف الآية: «أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ». أي أكان عدم سجودك لأنّك استكبرت، أم كنت من الذين يعلو قدرهم عن أن يؤمروا بالسجود؟!

ومن دون أي شك فإنّه لا أحد يستطيع أن يدّعي أنّ قدرته ومنزلته أكبر من أن يسجد للَّه (أو لآدم بأمر من اللَّه).

إلّا أنّ إبليس إختار- بكل تعجب- الشقّ الثاني، وكان يعتقد بأنّه أعلى من أن يؤمر بذلك، لذلك قال- بكل وقاحة- أثناء تبيانه أسباب معارضته لأوامر الباري ء عزّ وجل:

«قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 255

وخطأ إبليس أنّ النار أشرف من التراب، ولا يحقّ لأحد أن يأمر مخلوقاً بالسجود لمخلوق آخر دنى منه.

ولكن أوّلًا: إنّ آدم لم يكن تراباً فقط، وإنّما نفخت فيه الروح الإلهية، وهذا هو سبب عظمته.

ثانياً: التراب ليس بأدنى من النار، وإنّما هو أفضل منها بكثير، لأنّ كل الحياة أصلها من التراب، فالنباتات وكل الموجودات الحية بأجمعها تستمدّ غذاءها ومصدر حياتها من التراب.

والنار إنّما يستفاد منها في الوسائل الترابية، وقد تكون أداة خطرة ومدمّرة.

ولو أمعنا النظر في أدلّة إبليس لرأينا فيها كفراً عجيباً، لأنّه بكلامه أراد نفي حكمة اللَّه، والتقليل من شأن أوامره (نعوذ باللَّه).

وهنا وجب إخراج هذا الموجود الخبيث من صفوف الملأ الأعلى وملائكة العالم العلوي، فخاطبه الباري ء عزّ وجل بالقول: «قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ».

فهذا المكان مكان الطاهرين والمقربين، وليس بمكان المذنبين والعاصين ذوي القلوب المظلمة.

«رجيم»: من «رجم»، وبما أنّ لازمها الطرد، فقد وردت بهذا المعنى هنا.

ثم أضاف الباري ء عزّ وجل: «وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إِلَى يَوْمِ الدّينِ».

المهم أنّ الإنسان

عندما يرى النتائج الوخيمة لأعماله السيّئة عليه أن يستيقظ من غفلته، وأن يفكّر في كيفية إصلاح ذلك الخطأ، ولا شي ء أخطر من بقاءه راكباً لموج الغرور واللجاجة واستمراره في السير نحو حافّة الهاوية، لأنّه في كل لحظة يبتعد أكثر عن الصراط المستقيم، وهذا هو نفس المصير المشؤوم الذي وصل إليه إبليس.

وهنا تحوّل (الحسد) إلى (عداء)، كما قال القرآن: «قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ».

إنّه طلب من الباري ء عزّ وجل أن يمهله إلى يوم يبعثون كي ينتقم من أبناء آدم عليه السلام ويدفعهم جميعاً إلى طريق الضلال.

وفي الحقيقة، إنّه كان يريد الإستمرار في إغواء بني آدم حتى آخر فرصة متاحة له، لأنّ في يوم البعث تسقط التكاليف عن الإنسان، ولا معنى هناك للوساوس والإغواءات، إضافةً إلى هذا فقد طلب من اللَّه عزّ وجل أن يبقيه حيّاً إلى يوم القيامة، رغم أنّ كل الموجودين في العالم يموتون في هذه الدنيا.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 256

وهنا إقتضت مشيئة اللَّه سبحانه- بدلائل سنشير إليها- أن يستجيب اللَّه لطلب إبليس، ولكن هذه الإستجابة كانت مشروطة وليست مطلقة، كما توضّحه الآية التالية: «قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ».

ولكن ليس إلى يوم البعث الذي تبعث فيه الخلائق، وإنّما إلى زمان معلوم. قال تعالى:

«إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ».

وهذا إشارة إلى يوم نهاية العالم، لأنّ كل الموجودات الحيّة في ذلك اليوم تموت، وتبقى ذات اللَّه المقدسة فقط، كما ورد في الآية (88) من سورة القصص: «كُلُّ شَىْ ءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ».

هنا كشف إبليس عما كان يضمره في داخله، وعن الهدف الحقيقي لطلبه البقاء خالداً إلى زمن معيّن إذ: «قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ».

القسم بالعزّة تبيّن أنّه مصمّم بصورة جديّة على المضي في عمله، وأنّه سيبقى إلى آخر لحظة من عمره

ثابتاً على عهده بإغواء بني آدم.

وبعد قسمه إنتبه إبليس إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ هناك مجموعة من عباد اللَّه المخلصين لا يمكن كسبهم بأي طريقة إلى داخل منطقة نفوذه، لذلك اعترف بعجزه في كسب اولئك فقال:

«إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ».

اولئك الذين يسيرون في طريق المعرفة والعبودية لك بصدق وإخلاص وصفاء، إنّك دعوتهم إليك، وأخلصتهم لك، وجعلتهم في منطقة أمنك.

سؤال: لماذا تمّت الباري ء عزّ وجل الموافقة على طلب إبليس في البقاء حيّاً؟

في الجواب نقول: إنّ عالم الدنيا هذا هو ساحة للإختبار والإمتحان (الإختبار الذي هو وسيلة لتربية وتكامل الإنسان) وكما هو معروف فإنّ الاختبار لا يتمّ من دون مواجهة عدو شرس ومجابهة مختلف أنواع الأعاصير والمشاكل.

وبالطبع، إن لم يكن هناك شيطان، فإنّ هوى النفس ووساوسها هي التي تضع الإنسان في بودقة الإختبار، ولكن حرارة هذه البودقة تزداد بوجود الشيطان، لأنّ الشيطان سيكون في هذه الحالة العامل الخارجي المؤثّر على الإنسان، وهوى النفس والوساوس ستكون العامل الداخلي.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 257

قَالَ فَالْحَقُّ وَ الْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ مَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) آخر حديث بشأن إبليس: آيات بحثنا هي آخر آيات سورة (ص)، وهي خلاصة لكل محتوى هذه السورة، ونتيجة للأبحاث المختلفة التي تناولتها السورة.

في البداية ردّاً على تهديد إبليس في إغواء كل بني آدم عدا المخلصين منهم، يجيبه الباري ء عزّ وجل بالقول: «قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ». أقسم بالحق، ولا أقول إلّاالحق: «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ».

فما ورد في بداية السورة إلى هنا حق، والذي ورد بشأن أحوال الأنبياء

الكبار في هذه السورة بسبب حروبهم وجهادهم حقّ، والحديث في هذه السورة عن القيامة والعذاب الأليم الذي سينزل بالطغاة والنعم التي سيغدقها الباري ء عزّ وجل على أهل الجنة حقّ، ونهاية السورة حقّ، واللَّه سبحانه يقسم بالحق ويقول الحق بأنّه سيملأ جهنم بالشيطان وأتباعه.

إنّ هاتين الجملتين تشتملان على الكثير من التأكيد، لكي لا يبقى لأحد أدنى شك وترديد بهذا الشأن، إذ لا سبيل لنجاة الشيطان وأتباعه، والاستمرار بالسير على خطاه يؤدّي إلى جهنم.

وفي نهاية هذا البحث يشير الباري ء عزّ وجل إلى أربعة امور:

ففي المرحلة الاولى يقول: «قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ».

إنّما أجري على اللَّه، كما ذكرت ذلك آيات اخرى في القرآن المجيد كالآية (47) من سورة سبأ، والتي تقول: «إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ».

وهذه هي إحدى دلائل صدق رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

وفي المرحلة الثانية يقول: أنا لست من المتكلّفين، فكلامي مستند على الأدلّة والمنطق، ولا يوجد فيه أي تكلّف، وعباراتي واضحة وكلامي خالٍ من الغموض واللفّ والدوران «وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلّفِينَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 258

أمّا المرحلة الثالثة فتبيّن الهدف الأصلي من هذه الدعوة الكبيرة من نزول هذا الكتاب السماوي «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ».

المهمّ هو أن يوقظ الناس من غفلتهم ويجعلهم يتعمّقون في التفكير.

هذه العبارة تبيّن أنّ محتوى دعوة الأنبياء في كل المراحل يتناسب مع الفطرة التي فطرنا عليها الباري ء عزّ وجل.

وأمّا في المرحلة الرابعة، فإنّه يهدّد المعارضين والمخالفين بعبارة قصيرة غزيرة المعنى:

«وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ و بَعْدَ حِينٍ».

يقول: من الممكن أن لا تأخذوا هذا الكلام مأخذ الجدّ، إلّاأنّه سيثبت لكم عاجلًا صدق كلامي، سيثبت في هذا العالم في ساحات قتال الإسلام ضدّ الكفر، وفي ساحات العمل الاجتماعي والفكري، وفي العالم الآخر بواسطة العذاب الإلهي

الأليم الذي ستعذّبون به.

«إنتهت تفسير سورة ص»

مختصر الامثل، ج 4، ص: 259

39. سورة الزمر

محتوى السورة: إنّ هذه السورة تضمّ عدّة أقسام مهمة:

1- تتطرق السورة إلى مسألة الدعوة إلى توحيد اللَّه.

2- الأمر المهم الآخر الذي تكرر في عدّة آيات في هذه السورة من بدايتها حتى نهايتها، هو مسألة (المعاد) والمحكمة الإلهية الكبرى، ومسألة الثواب والعقاب، وغرف الجنة، وكور النار في جهنم، ومسألة الخوف والرهبة من يوم القيامة، وظهور نتائج الأعمال في ذلك اليوم، وتجسّدها في ذلك المشهد الكبير، وهذه الامور التي تدور حول محور المعاد ممزوجة مع قضايا التوحيد بشكل كبير وكأنّها تشكّل معها نسيجاً واحداً.

3- قسم آخر من السورة يتناول أهمية القرآن المجيد، وتأثيره القوي على القلوب والأرواح.

4- قسم آخر أيضاً يبيّن مصير الأقوام السابقين والعذاب الإلهي الأليم الذي نزل بهم من جرّاء تكذيبهم لآيات اللَّه تعالى.

5- وقسم آخر من هذه السورة يتحدث عن مسألة التوبة، وكون أبواب التوبة مفتوحة لمن يرغب في العودة إلى اللَّه.

هذه السورة معروفة باسم سورة (الزمر) وهذا الاسم مأخوذ من الآيتين (71) و (73) من هذه السورة.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 260

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأ سورة الزمر لم يقطع اللَّه رجاه، وأعطاه ثواب الخائفين الذين خافو اللَّه تعالى».

وفي ثواب الأعمال عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ سورة الزمر أستخفها من لسانه أعطاه اللَّه من شرف الدنيا والآخرة، وأعزه بلا مال ولا عشيرة، حتى يهابه من يراه وحرّم جسده على النار وبنى له في الجنة ألف مدينة».

مقارنة فضائل تلاوة سورة الزمر مع محتوياتها، يوضّح أنّ هذه المكافآت إنّما تعطى لمن كانت تلاوته مقدمة للتفكر والتفكر مقدمة للإيمان والعمل.

تَنْزِيلُ الْكِتَابِ

مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) عليك الإخلاص في الدين: هذه السورة تبدأ بآيتين تتحدثان عن نزول القرآن المجيد:

الأولى تقول: إنّ اللَّه هو الذي أنزل القرآن، و الثانية: تبيّن محتوى وأهداف القرآن.

في البداية تقول: «تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ».

من الطبيعي أنّ كل كتاب تتمّ معرفته من خلال مؤلفه أو منزله، وعندما ندرك أنّ هذا الكتاب السماوي الكبير مستلهم من علم اللَّه القادر والحكيم، الذي لا يقف أمام قدرته المطلقة شي ء، ولا يخفى على علمه المطلق أمر، لأيقنّا بلا عناء أنّ محتوياته حق وكلها حكمة ونور وهداية.

ثم تنتقل السورة إلى عرض محتويات هذا الكتاب السماوي وأهدافه: «إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ».

ولكون هدف نزول القرآن يتحدد في إعطاء الدين الخالص للبشرية، فإنّ آخر الآية يقول: «فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدّينَ».

إنّ (الدين) يتناول مجموعة شؤون الحياة المادية والمعنوية للإنسان، ويجب على عباد اللَّه المخلصين أن يخلصوا كل حياتهم للَّه.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 261

الآية التالية تؤكّد مرّة اخرى على مسألة الإخلاص، وتقول: «أَلَا لِلَّهِ الدّينُ الْخَالِصُ».

وهذه العبارة ذات معنيين:

الأوّل: هو أنّ الباري ء عزّ وجل لا يقبل سوى الدين الخالص، والاستسلام الكامل له من دون أيّ قيد أو شرط.

والثاني: هو أنّ الدين والشريعة الخالصة يجب أخذها من اللَّه فقط، لأنّ أفكار الإنسان ناقصة وممزوجة بالأخطاء والأوهام.

إنّ هذه الآية في الواقع استدلال للآية التي جاءت قبلها، فهناك تقول: «فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدّينُ». وهنا تقول:

«أَلَا لِلَّهِ الدّينُ الْخَالِصُ».

ثم تنتقل الآية إلى إبطال المنطق الواهي الضعيف للمشركين الذين تركوا طريق الإخلاص، وضاعوا في طرق الشرك والإنحراف: «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ».

وهنا سيتّضح للجميع فساد أفكارهم وأعمالهم وبطلان عقائدهم ..

هذه الآية هي تهديد قاطع للمشركين في أنّ الباري ء عزّ وجل سيحاكمهم في يوم القيامة، اليوم الذي تنكشف فيه الإلتباسات وتظهر فيه الحقائق، ليجزوا ويعاقبوا على ما ارتكبوه من الأعمال المحرّمة، إضافة إلى فضيحتهم أمام الجميع في ساحة المحشر.

والقرآن المجيد يؤكّد بصورة خاصة على أنّ الإنسان يستطيع أن يتصل باللَّه من دون أيّ واسطة، وأن يتحدث معه ويناجيه ويطلب منه حاجته.

وبهذا الشكل فالباري ء عزّ وجل ليس ببعيد عنّا، ولسنا بعيدين عنه كي تكون هناك حاجة للوساطة بين الطرفين، إنّه أقرب إلينا من كل قريب، وموجود في كل مكان وفي أعماق قلوبنا.

وفقاً لهذا فإنّ عبادة الوسطاء من الملائكة والجن ونظائرهم، أو الأصنام الحجرية والخشبية، عمل باطل لا صحّة له، إضافة إلى أنّه يعدّ كفراً بنعمة اللَّه، لأنّ الذي يهب النعم أجدر بالعبادة من تلك الموجودات الميتة، أو المحتاجة إلى الآخرين من أعلى رأسها إلى أخمص قدمها. لذا يقول القرآن المجيد في نهاية الآية: «إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِى مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ».

لأنّه أوصد بكلتا يديه أبواب الهداية أمامه.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 262

لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَ يُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) ما حاجة اللَّه

إلى الأولاد: المشركون إضافة إلى أنّهم يعتبرون الأصنام وسيطاً وشفيعاً لهم عند اللَّه- كما استعرضت ذلك الآيات السابقة- فقد اعتقدوا- أيضاً- أنّ بعض المخلوقات- كالملائكة- هي بنات اللَّه، والآية الاولى في بحثنا تجيب على هذا الإعتقاد الخاطى ء والتصور القبيح بالقول: «لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ».

والأفضل هو القول بأنّ الآية تريد القول: إنّ الإبن مطلوب إمّا لتقديم العون أو لمؤانسة الروح، وبفرض المحال فإنّ اللَّه عزّ وجل لو كان محتاجاً لمثل هذا الأمر، لاصطفى لهذا بعضاً ممّن يشاء من أشرف خلقه، فلم يتخذ ولداً؟

ولكن لكونه الواحد الذي لا نظير له والقاهر والغالب لكل شي ء والأزلي والأبدي، فإنّه لا يحتاج إلى مساعدة أيّ أحد، ولا يستوحش من وحدانيته حتى يزيلها عن طريق الانس مع الآخرين، لهذا فهو منزّه ومقدس عن الولد، حقيقياً كان أو منتخباً.

ولإثبات حقيقة أنّ اللَّه لا يحتاج إلى مخلوقاته، ولبيان دلائل توحيده وعظمته، يقول الباري ء عزّ وجل: «خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقّ».

كون تلك الامور حقّاً دليل على وجود هدف كبير من وراء خلقها، وذلك لتكامل المخلوقات وفي مقدّمتها الإنسان، ثم لا تنتهي عند البعث.

بعد عرض هذا الخلق الكبير، تشير الآية إلى جوانب من تدبيره العجيب، والتغيّرات التي تطرأ بحسابات دقيقة، والأَنظمة الدقيقة أيضاً التي تحكم اولئك، إذ يقول القرآن المجيد:

«يُكَوّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوّرُ النَّهَارَ عَلَى الَّيْلِ».

من هذه الآية يتجلّى لنا أنّ الأرض كروية وتدور حول نفسها، ومن جرّاء هذا الدوران، يطوق الأرض دائماً شريطان، أحدهما سواد الليل، والثاني بياض النهار، ولا يبقى هذان الشريطان ثابتين، وإنّما يغطي الشريط الأسود الأبيض من جهة والشريط الأبيض يغطي

مختصر الامثل، ج 4، ص: 263

الأسود من جهة اخرى،

أثناء حركة الأرض حول نفسها.

فإنّ القرآن المجيد يبيّن ظاهرة الليل والنهار و (النور) و (الظّلمات) في عدّة آيات مختلفة، كل واحدة منها تشير إلى نقطة معيّنة، وتنظر إلى هذه الظاهرة من زاوية خاصة.

ثم تنتقل إلى جانب آخر، ألا وهو التدبير والنظام الدقيق المسيّر لشؤون هذا العالم. قال تعالى: «وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لِأَجَلٍ مُّسَمًّى».

فلا يظهر في حركة الشمس التي تدور حول نفسها، أو التي تتحرك مع بقيّة كواكب المجموعة الشمسية نحو نقطة خاصة في مجرة درب التبانة، أدنى خلل، فهي تتحرك وفق نظام خاص ودقيق جدّاً، ولا يظهر أيّ خلل في حركة القمر أثناء دورانه حول الأرض أو حول نفسه، فالكل يخضع لقوانين (الخالق) ويتحرك وفقها، وسيستمر في التحرك وفق هذه القوانين حتى آخر يوم من أجله.

نهاية الآية كانت بمثابة تهديد وترغيب للمشركين، إذ تقول: «أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ».

فبحكم عزّته وقدرته المطلقة لا يمكن لأيّ مذنب ومشرك أن يهرب من قبضة عذابه، وبمقتضى كونه الغفار، فإنّه يستر عيوب وذنوب التائبين، ويظللهم بظل رحمته.

«غفار»: صيغة مبالغة مشتقة من المصدر «غفران» وتعني في الأصل لبس الإنسان لشي ء يقيه من التلوّث، وعندما تستخدم بشأن الباري ء عزّ وجل فإنّها تعني ستره لعيوب وذنوب عباده النادمين وحفظهم من عذابه وجزائه.

والهدف من ذكر هاتين الصفتين في آخر الآية، هو إيجاد حالة من «الخوف» و «الرجاء» عند العباد، وهما عاملان رئيسيان وراء كل تحرك نحو الكمال.

خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَ لَا يَرْضَى

لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) الجميع مخلوقون من نفس واحدة: مرّة اخرى تستعرض آيات القرآن الكريم عظمة

مختصر الامثل، ج 4، ص: 264

خلق اللَّه، وتبيّن في نفس الوقت بعض النعم الاخرى التي منّ بها اللَّه سبحانه وتعالى على الإنسان. في البداية تتحدث عن خلق الإنسان وتقول: «خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا».

خلق كل بني آدم من نفس واحدة إشارة إلى مسألة خلق آدم أبي البشر، إذ إنّ كل البشر وبتنوع خلقتهم وأخلاقهم وطبائعهم وإستعداداتهم وأذواقهم المختلفة يعودون في الأصل إلى آدم عليه السلام.

وعبارة: «ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا» إشارة إلى أنّ اللَّه خلق آدم في البداية، ثم خلق حواء ممّا تبقى من طينته التي خلق منها، وذلك كما ورد في الرّوايات الإسلامية.

بعد هذا ينتقل الحديث إلى مسألة خلق أربعة أنواع من الأنعام تؤمّن للإنسان ضروريات الحياة، حيث يستفيد من جلودها لملابسه، ومن حليبها ولحمها لغذائه، ومن جهة اخرى يصنع من جلودها وأصوافها عدّة امور يستفيد منها في حياته، ومن جهة ثالثة يستخدمها كوسيلة لتنقّله وحمل أثقاله: «وَأَنزَلَ لَكُم مّنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ».

والمقصود من (الأزواج الثمانية) الذكر والانثى لكل من الإبل والبقر والضأن والمعز.

وعبارة «أَنزَلَ لَكُمْ» والتي تخص هنا الأنعام الأربعة- كما بيّنا ذلك من قبل- لا تعني فقط إنزال الشي ء من مكان عال، وإنّما في مثل هذه الحالات تعني (تدنّي المقام) والنعم من مقام أعلى إلى أدنى.

ثم تتطرّق الآيات إلى حلقة اخرى من حلقات خلق اللَّه، وهي عملية نمو الجنين، إذ تقول الآية: «يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِى ظُلُمَاتٍ ثَلثٍ».

«يخلقكم»: فعل

مضارع يعطي معنى الاستمرارية، وهو هنا بمثابة إشارة إلى التحولات العجيبة والصور المختلفة التي تطرأ على الجنين في مراحل وجوده المختلفة في بطن الام.

وقوله «ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ» إشارة إلى ظلمة بطن الامّ وظلمة الرحم وظلمة المشيمة (الكيس الخاص الذي يستقر فيه الجنين) التي هي ثلاثة أغلفة سميكة تغطّي الجنين.

الإمام الحسين عليه السلام- في دعائه المعروف بدعاء عرفه الذي يعدّ دورة دراسية كاملة وعالية في التوحيد- عند استعراضه للنعم التي منّ بها الباري ء عزّ وجل عليه يقول:

«وابتدعت خلقي من مني يمنى، ثم أسكنتني في ظلمات ثلاث: بين لحم وجلد ودم لم تشهدني

مختصر الامثل، ج 4، ص: 265

خلقي، ولم تجعل إليّ من أمري ثم أخرجتني للذي سبق لي من الهدى إلى الدنيا تامّاً سويّاً».

وفي نهاية الآية، بعد ذكر الحلقات التوحيدية الثلاث الخاصة بخلق الإنسان والأنعام ومراحل خلق الجنين، يقول الباري ء عزّ وجل: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ».

فأحياناً يصل الإنسان بعد مشاهدته لهذه الآثار التوحيدية العظيمة إلى مقام الشهود، ثم أشار تعالى إلى ذاته القدسية حيث يقول: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ».

عبارتي «ربّكم» و «له الملك» تدلان على حصر الربوبية بذاته الطاهرة المقدسة، والذي اتّضح بصورة جيّدة في عبارة: «لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ».

بعد ذكر هذه النعم الكبيرة التي منّ بها الباري ء عزّ وجل على عباده، تتطرق الآية التالية إلى مسألة الشكر والكفر، وتناقش جوانب من هذه المسألة. في البداية تقول: «إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنكُمْ». أي إن تكفروا أو تشكروا فإنّ نتائجه تعود عليكم، واللَّه غني عنكم في حال كفركم وشكركم.

ثم تضيف، إنّ غناه وعدم احتياجه لا يمنعان من أن تشكروا وتتجنبوا الكفر، لأنّ التكليف إنّما هو لطف ونعمة إلهية. قال تعالى: «وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ

وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ».

وبعد استعراض هاتين النقطتين تستعرض الآية نقطة ثالثة وهي تحمل الشخص مسؤولية أعماله، لأنّ قضية التكليف لا يكتمل معناها بدون هذا الأمر. قال تعالى: «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى .

ولأنّه لا معنى للتكليف إن لم يكن هناك عقاب وثواب، فالآية تشير في المرحلة الرابعة إلى قضية المعاد، وتقول: «ثُمَّ إِلَى رَبّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

ولكون مسألة الحساب والعقاب لا يمكن أن تتمّ ما لم يكن هناك إطلاع وعلم كاملين بالأسرار الخفية للإنسان، تختتم الآية بالقول: «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ».

بهذا الشكل، ومن خلال جمل قصار، استعرضت فلسفة التكليف وخصوصياته ومسؤولية الإنسان ومسألة العقاب والثواب.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 266

وَ إِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَ جَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَ قَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَ يَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) الآيات السابقة تحدثت بالأدلة والبراهين عن توحيد ومعرفةالباري ء عزّ وجل، وذلك من خلال عرض بعض الظواهر العظيمة له في الآفاق والأنفس، أمّا آيات بحثنا فتتحدث في البداية عن التوحيد الفطري وتوضّح أنّ ما يدركه الإنسان عن طريق العقل أو الفهم أو المطالعة في شؤون الخلق موجود بصورة فطرية في أعماقه، وأنّه يظهر أثناء المشاكل وأعاصير الحوادث التي تعصف به. تقول الآية الكريمة: «وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ». ونادماً من ذنوبه وغفلته.

وعندما يمنّ اللَّه على الإنسان بالنعم ينسى المشاكل والإبتلاءات السابقة التي دعا اللَّه عزّ وجل من أجل

كشفها عنه، قال تعالى: «ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِن قَبْلُ».

إذ يجعل للَّه أنداداً وشركاء ويعمد إلى عبادتها، ولا يكتفي بعبادتها بل يعمد- أيضاً- لإضلال وحرف الناس عن سبيل اللَّه: «وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ».

المقصود هنا من (الإنسان) هم الناس العاديون الذين لم يتربّوا في ظل إشعاعات أنوار تعاليم الأنبياء، ولا يشمل هذا الكلام المؤمنين الذين يذكرون اللَّه في السّراء والضّراء ويطلبون العون من لطفه دائماً.

نهاية الآية تخاطب مثل اولئك الأشخاص بلغة ملؤها التهديد الصريح والحازم والقاطع:

«قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ».

الآية التالية استخدمت اسلوب المقارنة، الاسلوب الذي طالما استخدمه القرآن المجيد لإفهام الآخرين القضايا المختلفة، حيث تقول: هل أنّ مثل هذا الشخص انسان لائق وذو قيمة: «أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَاءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْأَخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبّهِ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 267

«قانت»: من مادة «قنوت» بمعنى ملازمة الطاعة المقرونة بالخشوع والخضوع.

«آناء»: هي جمع «انا»- على وزن كذا- وتعني ساعة أو مقداراً من الوقت.

التأكيد هنا على ساعات الليل، لأنّ تلك الساعات يحضر فيها القلب أكثر، وتقلّ نسبة تلوّثه بالرياء أكثر من أيّ وقت آخر.

وتتمة الآية تخاطب الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله بالقول: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ». كلّا، إنّهم غير متساوين: «إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبَابِ».

لا شك في أنّ السؤال المذكور أعلاه سؤال شامل، ولكن إشارة إلى سؤال آخر قد طرح، وهو: هل يستوي المشركون والمؤمنون الذين يحيون الليل بالعبادة، فالسؤال الثاني يشير أكثر إلى هذه المسألة وهو: هل أنّ الذين يعلمون بأنّ المشركين المعاندين لا يتساوون مع المؤمنين الطاهرين، يتساوون مع الذين لا يعلمون بهذه الحقيقة الواضحة!

فهذه العبارة أحد شعارات الإسلام الأساسية وهو سمو

وعلوّ منزلة العلم والعلماء في مقابل الجهل والبديهي أن تكون هاتان المجموعتان غير متساويتين عند الباري ء عزّ وجل، وغير متساويين لدى العقلاء، ولا يقفون في صفّ واحد لا في الدنيا، ولا في الآخرة وأنّهم مختلفون ظاهراً وباطناً.

العلم في هذه الآية وبقية الآيات لا يعني معرفة مجموعة من المصطلحات، أو العلاقة المادية بين الأشياء، وإنّما يقصد به المعرفة الخاصة التي تدعو الإنسان إلى (القنوت) أي إلى طاعة الباري ء عزّ وجل والخوف من محكمته وعدم اليأس من رحمته، هذه هي حقيقة العلم، فإذا كانت العلوم الدنيوية تؤدّي إلى ما ذكرناه آنفاً، فهي علم أيضاً، وإلّا فهي سبب الغفلة والظلم والغرور والفساد في الارض، ولا يحصل منها سوى «القيل والقال».

قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَ أُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَ مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 268

الخطوط الرئسية لمناهج العباد المخلصين: تتمة لما جاء في بحث الآيات السابقة التي قارنت بين المشركين المغرورين والمؤمنين المطيعين للَّه، وبين العلماء والجهلة، فإنّ آيات بحثنا هذا تبحث الخطوط الرئيسية لمناهج عباد اللَّه الحقيقيين المخلصين وذلك ضمن سبعة مناهج وردت في عدّة آيات تبدأ بكلمة (قل).

الآية الاولى تحثّ

النبي صلى الله عليه و آله على التقوى: «قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ».

نعم، فالتقوى هي الحاجز الذي يصدّ الإنسان عن الذنوب، وتجعله يحسّ بالمسؤولية وبتكاليفه أمام الباري ء عزّ وجل، وهي المنهج الأوّل لعباد اللَّه المؤمنين والمخلصين، وهي ميزان شخصية وكرامة الإنسان عند الباري ء عزّ وجل.

المنهج الثاني يختص بالإنسان والعمل الصالح في هذه الدنيا التي هي دار العمل، وقد شجعت الآية الناس وحثّتهم على عمل الإحسان، من خلال بيان نتيجة ذلك العمل:

«لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِى هذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ».

نعم فالإحسان بصورة مطلقة في هذه الدنيا- سواء كان في الحديث، أو في العمل، أو في نوع التفكر والتفكير بالأصدقاء والغرباء- يؤدّي إلى نيل ثواب عظيم في الدنيا والآخرة، لأنّ جزاء الإحسان هو الإحسان.

وفي الواقع فإنّ التقوى عامل ردع، والإحسان عامل صلاح، وكلاهما يشمل (ترك الذنب) و (أداء الفرائض والمستحبات).

المنهج الثالث يدعو إلى الهجرة من مواطن الشرك والكفر الملوّثة بالذنوب، قال تعالى:

«وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ».

هذه الآية ردّ على ذوي الإرادة الضعيفة والمتذرعين بمختلف الذرائع الذين يقولون: إنّنا عاجزون عن أداء الأحكام الإلهية، لأنّنا في أرض مكة التي يحكمها المشركون. والقرآن يردّ عليهم بأنّ أرض اللَّه لا تقتصر على مكة، هاجروا من المواطن الملوّثة بالشرك والكفر والظلم التي لا يمكنكم فيها أداء الأحكام الإلهية بحرية إلى آخر.

وهذا يوضّح- بصورة جيّدة- أنّ المؤمن الذي تحيط به الضغوط والكبت، ويستطيع أن يهاجر في سبيل اللَّه عليه أن يهاجر، وإلّا فإنّه غير معذور أمام اللَّه.

ولأنّ الهجرة ترافقها بصورة طبيعية مشكلات كثيرة في مختلف جوانب الحياة، فالمنهج الرابع إذن يتعلّق بالصبر والإستقامة. قال تعالى: «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 269

وعبارة (بغير حساب) تبيّن أنّ للصابرين أفضل الأجر والثواب عند اللَّه،

ولا يوجد عمل آخر يبلغ ثوابه حجم ثواب الصبر والإستقامة.

أمّا المنهج الخامس فقد ورد فيه أمر بالإخلاص والتوحيد الخالي من شوائب الشرك، وهنا تتغير لهجة الكلام بعض الشي ء، ويتحدث الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله عن وظائفه ومسؤولياته، إذ يقول: «قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أعْبُدَ اللَّهِ مُخْلِصًا لَّهُ الدّينَ».

ثم يضيف: «وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ». وهذا هو المنهج السادس الذي يعترف بأنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله هو أوّل الناس إسلاماً وتسليماً لأوامر الباري ء عزّ وجل.

أمّا المنهج السابع والأخير فيتناول مسألة الخوف من عقاب الباري ء عزّ وجل يوم القيامة. قال تعالى: «قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ».

التأمل في هذه الآيات يكشف بوضوح عن أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هو عبد من عباد اللَّه، وهو مكلف أيضاً بعبادة اللَّه بإخلاص، لأنّه- هو أيضاً- يخاف العذاب الإلهي.

وهذا دليل على عظمته وأحقّيته.

بعد استعراض المناهج السبعة المذكورة في الآيات أعلاه (التقوى، الإحسان، الهجرة، الصبر، الإخلاص، التسليم، الخوف).

ولكون مسألة الإخلاص لها ميزات خاصة في مقابل العلل المختلفة للشرك، تعود الآيات لتؤكّد عليها مرّة اخرى، إذ تقول وبنفس اللهجة السابقة: «قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِى».

أمّا أنتم فاعبدوا ما شئتم من دون اللَّه: «فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مّن دُونِهِ».

ثم تضيف: «قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ».

أي: إنّهم لم يستثمروا طاقاتهم وعمرهم، ولا استفادوا من عوائلهم وأولادهم لإنقاذهم، ولا لإعادة ماء الوجه المراق إليهم، وهذا هو الخسران العظيم: «أَلَا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ».

الآية الأخيرة في بحثنا هذا تصف إحدى صور الخسران المبين، إذ تقول: «لَهُم مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ».

وبهذا الشكل فإنّ أعمدة النيران تحيط بهم من كل جانب،

فهل هناك أعظم من هذا؟

وهل هناك عذاب أشدّ من هذا؟

«ظلل»: جمع «ظلّة» على وزن «سنّة» وتعني الستر الذي ينصب في الجهة العليا، وطبقاً

مختصر الامثل، ج 4، ص: 270

لهذا فإنّ إطلاق هذه الكلمة على ما يفرش تحت اهل النار اطلاق مجازي ومن باب التوسّع في معنى الكلمة. هذا تجسيد لأحوالهم وأوضاعهم في هذه الدنيا، إذ أنّ الجهل والكفر والظلم محيط بكل وجودهم، ومستحوذ عليهم من كل جانب.

ثم تضيف الآية مؤكّدة وواعظة إيّاهم: «ذلِكَ يُخَوّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ».

إضافة كلمة (العباد) إلى لفظ الجلالة في هذه الآية، ولعدّة مرّات إشارة إلى أنّ تهديد الباري ء عزّ وجل لعباده بالعذاب إنّما هو لطف ورحمة منه، وذلك كي لا يبتلى عباده بمثل هذا المصير المشؤوم.

وَ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَ أَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) عباد اللَّه الحقيقيون: استخدم القرآن الكريم مرّة اخرى أسلوب المقارنة في هذه الآيات، إذ قارن بين عباد اللَّه الحقيقيين والمشركين المعاندين الذين لا مصير لهم سوى نار جهنم. قال تعالى: «وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى .

عبارة «اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ» تعني الإبتعاد عن كل أشكال الشرك وعبادة الأصنام وهوى النفس والشيطان، وتجنّب الإنصياع والاستسلام للحكّام المتجبرين الطغاة.

أمّا عبارة «أَنَابُوا إِلَى اللَّهِ» فإنّها تجمع روح التقوى والزهد والإيمان، وأمثال هؤلاء يستحقون البشرى.

ثم تعرّج الآية على تعريف العباد الخاصّين فتقول:

«فَبَشّرْ عِبَادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَيهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبَابِ».

الآيتان المذكورتان بمثابة شعار إسلامي، وقد بيّنتا حرية الفكر عند المسلمين، وحرية الإختيار في مختلف الامور.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 271

ولكون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان يرغب- بشدّة- في هداية المشركين والضالين، و كان يتألّم كثيراً لإنحراف اولئك الذين لم يعطوا آذاناً صاغية للحقائق، فإنّ الآية التالية عمدت إلى مواساته بعد أن وضّحت له حقيقة أنّ عالمنا هذا هو عالم الحرية والامتحان، ومجموعة من الناس- في نهاية الأمر- يجب أن تدخل جهنم، إذ قالت: «أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى النَّارِ».

ومن البديهي أنّ حتمية تعذيب هذه المجموعة لا تحمل أيّ طابع إجباري، بل إنّهم يعذبون بسبب الأعمال التي إرتكبوها.

ولبعث السرور في قلب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولزيادة الأمل في قلوب المؤمنين، جاء في آخر الآية: «لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ».

فإن كان أهل جهنم مستقرين في ظلل من النار، كما ورد في الآية السابقة: «لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ».

فإنّ لأهل الجنة غرفاً من فوقها غرف اخرى، وقصور فوقها قصور اخرى، لأنّ منظر الورود والماء والأنهار والبساتين من فوق الغرف يبعث على اللذة والبهجة بشكل أكثر.

وكشفت الآية أيضاً عن أنّ غرف أهل الجنة الجميلة قد زيّنت بأنهار تجري من تحتها «تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ». نعم، هذا وعد اللَّه: «وَعْدَ اللَّهِ لَايُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ».

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَ فَمَنْ

شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) في هذه الآيات يستعرض القرآن الكريم مرّة اخرى دلائل التوحيد والمعاد، ليكمل البحوث التي تناولت مسألة الكفر والإيمان الواردة في الآيات السابقة، إذ تقول موجّهة الخطاب إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله باعتباره القدوة لجميع المؤمنين: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الْأَرْضِ».

قطرات المطر التي تبعث الحياة حينماتنزل من السماء تمتصها الطبقة الاولى من طبقات

مختصر الامثل، ج 4، ص: 272

الأرض، وعندما تنفذ إلى داخل هذه الطبقة تقف عند طبقة اخرى في الأرض ولا تتمكن من النفوذ خلالها، لتبعث مرّة اخرى إلى سطح الأرض بصورة عيون وقنوت وآبار. وتضيف الآية فيما بعد: «ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ» ذات الأشكال المختلفة.

أي: مختلف الأنواع كالحنطة والشعير والرز والذرة، ذات الأشكال المختلفة و الألوان الظاهرية المتعددة، فمنها الأخضر الغامق، والأخضر الفاتح، وبعضها ذو أوراق عريضة وكبيرة، والبعض الآخر ذو أوراق دقيقة وصغيرة.

ثم تنتقل الآية إلى مرحلة اخرى من مراحل حياة هذه النباتات، إذ تقول: «ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَيهُ مُصْفَرًّا» «1». حيث تعصف به الرياح من كل جانب لتقلعه من مكانه بسبب ضعف سيقانه، ويضيف تعالى: «ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا».

نعم، إنّ في هذا لذكرى لأصحاب العقول وأهل العلم: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِى الْأَلْبَابِ».

هذا المشهد يذكّر الإنسان بالنظام الدقيق والعظيم الذي وضعه الباري ء عزّ وجل لعالم الوجود، وإنّه تذكير بنهايةالحياة وانطفاء شعلتها، ومن ثم بمسألة البعث وعودة الأموات إلى الحياة.

وكتتمة لهذا الدرس الكبير في التوحيد والمعاد، تنتقل الآيات إلى المقارنة بين المؤمنين والكافرين، كي توضّح حقيقة أنّ القرآن والوحي السماوي هما كقطرات المطر التي

تهطل على الأرض، وكما أنّ الأرض التي لها الإستعداد هي التي تستفيد من قطرات المطر، فكذلك القلوب المستعدة لبناء ذاتها بالاستعانة بلطف اللَّه، هي- فقط- التي تستفيد من آيات اللَّه، وذلك طبقاً لقوله تعالى: «أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ و لِلإِسْلمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مّن رَّبّهِ».

كمن هو قاسي القلب لا يهتدي بنور. «فَوَيْلٌ لّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مّن ذِكْرِ اللَّهِ».

أمّا القاسية قلوبهم، فهم الذين لا تؤثّر بهم المواعظ ولا الوعيد ولا البشرى، ولا الآيات القرآنية المؤثرة. نعم، «أُولئِكَ فِى ظَللٍ مُّبِينٍ».

ويقال للقلوب التي لا تظهر أيّ استجابة لنور الحق والهداية، ولا تسمح بنفوذ نور الحق والهداية إليها (قلوب قاسية).

______________________________

(1) «يهيج»: من مادة «هيجان» ولها معنيان في اللغة، الأوّل هو جفاف النبات واصفراره، والثاني هو التحرك والإنتفاض، ومن الممكن أو يعود المعنيان إلى أصل واحد، لأنّ النبات حينما يجفّ فإنّه يستعد للإنفصال والإنتشار والتحرك والهيجان.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 273

في تفسير القرطبي: روي عن ابن مسعود قال: قلنا يا رسول اللَّه قوله تعالى «أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ و لِلإِسْلمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مّن رَّبّهِ» كيف انشرح صدره؟ قال: «إذا دخل النور القلب انشرح وانفتح». قلنا يا رسول اللَّه وما علامة ذلك؟ قال صلى الله عليه و آله: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والإستعداد للموت قبل نزوله».

اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَ فَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ قِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ

اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ لَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)

سبب النّزول

نقل بعض المفسرين عن عبد اللَّه بن مسعود: مل أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ملة، فقالوا: يا رسول اللَّه حدثنا، فنزلت أوّل آية من الآيات أعلاه معرّفة القرآن ب (أحسن الحديث).

التّفسير

الآيات السابقة تحدثت عن العباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، كما تحدثت عن الصدور الرحبة المستعدة لتقبّل الحق.

الآيات التي يدور حولها البحث تواصل التطرّق إلى هذا الأمر، كي تكمل حلقات البحوث السابقة الخاصة بالتوحيد والمعاد مع ذكر بعض دلائل النبوة، إذ تقول الفقرة الاولى من الآية: «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ».

ثم تستعرض خصائص القرآن الكريم، حيث تشرح الخصائص المهمة للقرآن من خلال بيان ثلاث صفات له:

أمّا الخاصية الاولى فهي: «كِتَابًا مُّتَشَابِهًا». والمقصود من (متشابه) هنا هو الكلام المتناسق الذي لا تناقض فيه ويشبه بعضه البعض، فلا تعارض فيه ولا تضاد، وكل آية فيه

مختصر الامثل، ج 4، ص: 274

أفضل من الاخرى والمتماثل من حيث اللطف والجمال والعمق في البيان.

وهذا بالضبط على عكس العبارات التي يصوغها الإنسان، والتي مهما اعتنى بصياغتها فإنّها لن تخلو من الاخطاء والاختلافات والتناقضات، ودراسة آثار الكتّاب الكبار المعروفين في مجالي النثر والشعرهي خير شاهد على هذا الموضوع. أمّا الخاصية الثانية فهي: «مَّثَانِىَ»- أي المكرر- وهذه الكلمة تشير إلى تكرار بحوثه المختلفة وقصصه ومواعظه، التكرار الذي لا يملّ منه الإنسان، وإنّما على العكس من ذلك، إذ يتشوّق لتلاوته أكثر، وهذه إحدى اسس الفصاحة.

أمّا الخاصية الثالثة فهي: «تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ». وهذه الخاصية للقرآن فتتجلّي في مسألة نفوذه وتأثيره العميقين والخارقين في اعماق النفوس؛ «تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ».

إنّه لوصف وتجسيد

لطيف وجميل لنفوذ آيات القرآن العجيب إلى أعماق القلوب، إذ أنّه في بداية الأمر يبعث في القلب شيئاً من الخوف والرهبة، الخوف الذي يكون أساساً للصحوة ولبدء الحركة، والرهبة التي تجعل الإنسان يتحسس مسؤولياته المختلفة، ثم تأتي مرحلة الهدوء وقبول آيات اللَّه وتتبعها السكينة والإستقرار.

في تفسير مجمع البيان روي عن العباس بن عبد المطلب أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال: «إذا اقشعرّ جلد العبد من خشية اللَّه، تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها».

وفي نهاية الآية يقول تعالى بعد أن بيّن تلك الخصائص: «ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاءُ».

حقاً إنّ القرآن نزل لهداية الجميع، لكن المتقين وطلّاب الحق والحقيقة هم المستفيدون- فقط- من نوره، أمّا اولئك الذين تعمّدوا إغلاق كافة نوافذ قلوبهم أمام نور القرآن الكريم، والذين تتحكم بأرواحهم ظلمات التعصب والعناد- فقط- لا يستفيدون من نور القرآن، وإنّما يزدادون ضلالة من جرّاء عنادهم وعدائهم، لذلك فإنّ تتمة الآية تقول: «وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ».

فهذه الضلالة هي التي يضع الإنسان حجر أساسها بيده، ويحكم بناء أساسها بواسطة أعماله الخاطئة والسيئة، ولذلك لا تتنافى اطلاقاً مع إرادة الإنسان وحريته.

الآية التالية تقارن بين مجموعة من الظالمين والمجرمين، ومجموعة من المؤمنين الذين

مختصر الامثل، ج 4، ص: 275

استعرضت أوضاعهم فيما قبل، وذلك كي تجعل الحقيقة أكثر وضوحاً في هذه المقارنة، إذ تقول: «أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيمَةِ».

إنّ أوضاع الظالمين في جهنم في ذلك اليوم تجبرهم على استخدام وجوههم كوسيلة دفاعية، لأنّ أيديهم وأرجلهم مقيدة بالسلاسل.

ثم تضيف نهاية الآية: «وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ».

نعم، إنّ ملائكة العذاب هي التي توضّح لهم هذه الحقيقة المرّة والمؤلمة، إذ يقولون لهم: إنّ أعمالكم

ستبقى معكم وستعذبكم، وهذا التوضيح هو تعذيب روحي آخر لهؤلاء.

إنّ ما قيل لحدّ الآن هو إشارة بسيطة لعذابهم الأليم في يوم القيامة، و الآية التالية تتحدث عن العذاب الدنيوي لهؤلاء، كي لا يتصور أحد أنّه يعيش في أمان بهذه الدنيا، قال تعالى: «كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَايَشْعُرُونَ».

الآية الأخيرة في بحثنا هذا تبيّن أنّ عذاب هؤلاء الدنيوي لا يقتصر على العذاب الجسدي، وإنّما يشتمل أيضاً على عقوبات نفسية: «فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْىَ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا» «1».

ولكن العار والخزي للإنسان أن يخرج من هذه الدنيا حقيراً وذليلًا، قد ابتلي بعذاب فاضح يريق ماء وجهه، «وَلَعَذَابُ الْأَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ».

كلمة (أكبر) كناية عن شدّة العذاب وقسوته.

وَ لَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَ رَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) قرآن لا عوج فيه: الآيات- هنا- تبحث خصائص القرآن المجيد أيضاً، وتكمل البحوث السابقة في هذا المجال. ففي البداية تتحدث عن مسألة شمولية القرآن، إذ تقول الآية الكريمة:

«وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلّ مَثَلٍ».

______________________________

(1) «خزي»: تعني الذلّ والهوان كما تعني الفضيحة (يراجع لسان العرب).

مختصر الامثل، ج 4، ص: 276

حيث تمّ فيه شرح قصص الطغاة والمتمردين الرهيبة، وعواقب الذنوب الوخيمة، ونصائح ومواعظ، وأسرار الخلق ونظامه، وأحكام وقوانين متينة، وبكلمة أنّه وضّح فيه كل ما هو ضروري لهداية الإنسان على شكل أمثال، لعلهم يتذكرون ويعودون من طريق الضلال إلى الصراط المستقيم: «لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ». ثم

تتطرق الآية إلى وصف آخر للقرآن، إذ تقول: «قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِى عِوَجٍ».

فإنّ الهدف من نزول القرآن الكريم- بكل هذه الصفات التي ذكرناها- هو: «لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ».

ثم يستعرض القرآن المجيد أحد الأمثال التي ضربت ليرسم من خلاله مصير الموحّد والمشرك، وذلك ضمن إطار مثل ناطق وجميل، إذ يقول: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ» «1».

كل واحد منهم يأمره بتنفيذ أمر معيّن.

والأدهى من كل ذلك أنّه عندما يطلب من أحدهم توفير مستلزمات حياته، يرميه على الآخر، والآخر يرميه على الأوّل، وهكذا يبقى محروماً محتاجاً عاجزاً تائهاً. وفي مقابله هناك رجل سلم لرجل واحد «وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ».

فهذا الشخص خطه ومنهجه واضح، وولي أمره معلوم فلا تردد ولا حيرة ولا تضاد ولا تناقض، يعيش بروح هادئة ويخطو خطوات مطمئنة، فهل أنّ هذين الرجلين متساويان:

«هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا».

هذا المثال ينطبق على (المشرك) و (الموحّد) فالمشرك يعيش في وسط المتضادات والمتناقضات، وكل يوم يتعلق قلبه بمعبود جديد، أمّا الموحّدون فإنّهم يعشقون اللَّه وحده.

وفي نهاية الآية يقول تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ».

ولكن أكثرهم لا يعلمون رغم وجود هذه الدلائل الساطعة، إذ إنّ حبّ الدنيا والشهوات الطاغية عليهم يجعلهم يضلون عن طريق الحقيقة: «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَايَعْلَمُونَ».

وتتمة لبحث الآيات السابقة بشأن التوحيد والشرك، تتحدث الآية التالية عن نتائج

______________________________

(1) «متشاكسون»: أصلها من «شكاسة» وتعني سوء الخلق والتنازع والاختصام، ولهذا يقال «متشاكس» لمن يتخاصم ويتنازع بعصبية وسوء خلق.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 277

الشرك والتوحيد في موقف القيامة، إذ تبدأ بمسألة الموت الذي هو بوّابة القيامة، وتبيّن لكل البشرية أنّ قانون الموت عامّ وشامل للجميع: «إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُم مَّيّتُونَ».

قال بعض المفسرين: إنّ أعداء رسول اللَّه كانوا ينتظرون وفاته، وكانوا في نفس الوقت فرحين مسرورين لكون رسول اللَّه صلى الله

عليه و آله يموت في نهاية الأمر، فالقرآن- هنا- أجابهم بالقول: إن مات رسول اللَّه فهل تبقون أنتم خالدين، هذا ما نصّت عليه الآية (34) من سورة الأنبياء: «أَفَإِين مّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ».

ثم ينتقل البحث إلى محكمة يوم القيامة، ليجسم المجادلة بين العباد في ساحة المحشر: «ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ».

«تختصمون»: مشتقة من «اختصام» وتعني النزاع والجدال بين شخصين أو مجموعتين تحاول كل منهما تفنيد كلام الآخر.

ولكن الآيات التالية تبيّن أنّ المخاصمة تقع بين الأنبياء والمؤمنين من جهة، والمشركين المكذّبين من جهة اخرى.

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَ كَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَ يَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) هذه الآيات تواصل البحث الخاص بموقف الناس في ساحة المحشر، وتخاصمهم في تلك المحكمة الكبرى، وتقسّم آيات بحثنا إلى مجموعتين هما (المكذبون) و (المصدقون)، والقرآن الكريم يعطي صفتين لأصحاب المجموعة الاولى، أي «المكذبين». قال تعالى: «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصّدْقِ إِذْ جَاءَهُ و».

الكافرون والمشركون يكذبون كثيراً على الباري ء عزّ وجل، فأحياناً يعتبرون الملائكة بنات اللَّه، وأحياناً يقولون: عيسى هو ابن اللَّه، وأحياناً اخرى يعتبرون الأصنام شفعاء لهم عند اللَّه، وأحياناً يبتدعون أحكاماً كاذبة في الحلال والحرام وينسبونها إلى اللَّه، وما شابه ذلك.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 278

وأمّا الكلام الصادق الذي أنزل إليهم وكذّبوه فهو القرآن المجيد.

خاتمة الآية تبيّن في جملة قصيرة جزاء أمثال هؤلاء الأفراد. قال تعالى: «أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ» «1».

أمّا المجموعة الثانية فقد وصفها القرآن الكريم

بوصفين، إذ قال: «وَالَّذِى جَاءَ بِالصّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ».

عبارة «الَّذِى جَاءَ بِالصّدْقِ» يشمل كل الذين يبلّغون نهج الأنبياء ويروّجون كلام اللَّه.

وبهذا الشكل فإنّ الآية تتحدث عن أناس هم من حملة الرسالة ومن العاملين بها، وتتحدث عن أولئك الذين ينشرون في العالم ما ينزل به الوحي من كلام الباري ء عزّ وجل وهم يؤمنون به ويعملون به، وهكذا فإنّ الآية تضم الأنبياء والأئمة المعصومين والدعاة لنهج الأنبياء.

الآية التالية تبيّن أنّ هناك ثلاث مثوبات بانتظار أفراد هذه المجموعة، أي المصدقين، إذ تقول في البداية: «لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبّهِمْ ذلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ».

لهذه الآية مفهوم واسع بحيث يشمل كل النعم المادية والمعنوية.

أمّا المكافأتان الثانية والثالثة اللتان يمنحهما الباري ء عزّ وجل للمصدقين، فيقول القرآن المجيد بشأنهما: «لِيُكَفّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ».

كم هي عبارة جميلة ولطيفة! فمن جانب يدعون اللَّه سبحانه وتعالى ليكفّر عنهم أسوأ ما عملوا بظل لطفه، ويطهّرهم من تلك البقع السوداء بماء التوبة، ومن جهة اخرى يدعون اللَّه ليجعل أفضل وأحسن أعمالهم معياراً للمكافأة، وأن يجعل بقية أعمالهم ضمن ذلك العمل.

إنّ ما يتّضح من الآيات الكريمة هو أنّ اللَّه استجاب لدعواهم، عندما غفر لهم وعفا عن أسوء أعمالهم، وجعل أفضل الأعمال معياراً للمكافأة.

أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَ لَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)

______________________________

(1) «مثوى : من مادة (ثواء) وتعني الإقامة المستمرة في مكان ما ولهذا فإنّ (مثوى هنا تعني المكان والمنزل الدائم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 279

سبب النّزول

الكثير من المفسرين قالوا: إنّ مشركي قريش كانوا يخوّفون

رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من آلهتهم ويحذّرونه من غضبها على أثر وصفه تلك الأوثان بأوصاف مزرية، ويوعدونه بأنّه إن لم يسكت عنها فستصيبه بالأذى، وللرد على كلامهم نزلت الآية المذكورة أعلاه.

التّفسير

إنّ اللَّه كاف: تتمة لتهديدات الباري ء عزّ وجل التي وردت في الآيات السابقة للمشركين، والوعد لأنبيائه. تتطرق الآية الاولى في بحثنا لتهديد الكفار: «أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ».

إنّ قدرة الباري ء عزّ وجل أقوى وأعظم من كل القدرات الاخرى، وهو الذي يعلم بكل احتياجات ومشكلات عباده، والذي هو رحيم بهم غاية الرحمة واللطف، كيف يترك عباده المؤمنين لوحدهم أمام أعاصير الحوادث وعدوان بعض الأعداء!

إنّ في هذه الآية بشرى لكل السائرين في طريق الحق والمؤمنين الحقيقيين، خاصة أولئك الذين يعيشون أقلية في بعض المجتمعات، والمحاطين بمختلف أشكال التهديد من كل جانب.

وكتتمة للآية السابقة، تشير الآية التالية إلى مسألة (الهداية) و (الضلالة) وتقسّم الناس إلى قسمين: (ضالين) و (مهتدين) وكل هذا من اللَّه سبحانه وتعالى، كي تبيّن أنّ جميع العباد محتاجون لرحمته، ومن دون إرادته لا يحدث شي ء في هذا العالم. قال تعالى: «وَمَن يُظْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ». «وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلّ».

ومن البديهي أنّ الضلالة لا تأتي من دون سبب، وكذلك الهداية بل إنّ كل حالة منهما هي استمرار لإرادة الإنسان وجهوده.

وما أشدّ جهل الذين فصلوا بين مثل هذه الآيات وبقية آيات القرآن واعتبروها شاهداً على ما ورد في المذهب الجبري، وكأنّهم لا يعلمون أنّ آيات القرآن تفسّر إحداها الاخرى، بل إنّ القرآن الكريم يقول في نهاية هذه الآية: «أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِى انتِقَامٍ». وهو خير شاهد على هذا المعنى.

وكما هو معروف فإنّ الإنتقام الإلهي هو بمعنى

الجزاء على الأعمال المنكرة التي اقترفها الإنسان، وهذا يشير إلى أنّ إضلاله سبحانه وتعالى للإنسان هو بحدّ ذاته نوع من أنواع

مختصر الامثل، ج 4، ص: 280

الجزاء وردّ فعل لأعمال الإنسان نفسه، وبالطبع فإنّ هدايته سبحانه وتعالى للإنسان هي بحدّ ذاتها نوع من أنواع الثواب، وهي ردّ فعل للأعمال الصالحة والخالصة التي يقوم بها الإنسان.

الهداية والإضلال من اللَّه: «الهداية»: في اللغة تعني التوجيه والإرشاد بلطف ودقّة، وتنقسم إلى قسمين (بيان الطريق) و (الإيصال إلى المطلوب). وبعبارة اخرى: (هداية تشريعية) و (هداية تكوينية).

ولتوضيح ذلك نقول: إنّ الإنسان يصف أحياناً الطريق للسائل بدقّة ولطف وعناية ويترك السائل معتمداً على الوصف في قطع الطريق والوصول إلى المقصد المطلوب، وأحياناً اخرى يصف الإنسان الطريق للسائل ومن ثم يمسك بيده ليوصله إلى المكان المقصود.

و (الإضلال) هو النقطة المقابلة ل (الهداية).

فلو ألقينا نظرة عامة على آيات القرآن لاتّضح لنا- بصورة جيّدة- أنّ القرآن يعتبر أنّ الظلالة والهداية من اللَّه؛ أي أنّ الإثنين ينسبان إلى اللَّه.

الدراسة السطحية لهذه الآيات وعدم إدراك معانيها العميقة أدّى إلى زيغ البعض خلال تفسيرهم لها ووقوعهم في فخاخ المذهب الجبري.

إنّ أدقّ تفسير يتناسب مع كل آيات الهداية والضلال، ويفسرها جميعاً هو أنّ الهداية التشريعية التي تعني (إراءة الطريق) لها خاصية عامة وشاملة، ولا توجد فيها أي قيود وشروط، كما ورد في الآية (3) من سورة الإنسان: «إِنَّا هَدَيْنهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا». وفي الآية (52) من سورة الشورى: «وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ». ومن البديهي أنّ دعوة الأنبياء هي مظهر دعوة اللَّه تعالى، لأنّ كل ما عند النبي هو من اللَّه.

وبالنسبة إلى مجموعة من المنحرفين والمشركين ورد في الآية (23) من سورة النجم:

«وَلَقَدْ جَاءَهُم مّن رَّبّهِمُ الْهُدَى

.

أمّا الهداية التكوينية فتعني الإيصال إلى الغرض المطلوب، والأخذ بيد الإنسان في كل منعطفات الطريق، وحفظه وحمايته من كل الأخطار التي قد تواجهه في تلك المنعطفات حتى إيصاله إلى ساحل النجاة، وهي- أي الهداية التكوينية- موضع بحث الكثير من آيات القرآن الاخرى التي لا يمكن تقييدها بأيّة شروط، فالهداية هذه تخصّ مجموعة ذكرت أوصافهم في القرآن، أمّا الضلال الذي هو النقطة المقابلة للهداية فإنّه يخص مجموعة اخرى ذكرت أوصافهم أيضاً في القرآن الكريم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 281

مختصر الامثل ج 4 319

القرآن المجيد يقول في الآية (26) من سورة البقرة: «يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِى بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الفَاسِقِينَ». وفي الآية (258) من سورة البقرة: «وَاللَّهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».

وهذا يبيّن أنّ الظلم مقدمة للظلال. ومن هنا يتّضح أنّ الفسق، أي عدم إطاعة أوامر الباري ء تعالى هو مصدر الضلال.

وفي الآية (264) من سورة البقرة نقرأ: «وَاللَّهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ».

وهنا اعتبر الكفر هو الذي يهيّ ء أرضية الضلال.

وقد ورد في الآية (3) من سورة الزمر: «إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِى مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ».

يعني أنّ الكذب والكفر هما مقدمة الضلال.

والآية (28) من سورة غافر تقول: «إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِى مَن هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ».

أي إنّ الإسراف والكذب يسببان الضلالة.

إنّ ما يمكن استنتاجه هو أنّ القرآن الكريم يؤكّد على أنّ الضلالة الإلهية تشمل كل من توفرت فيه هذه الصفات (الكفر) و (الظلم) و (الفسق) و (الكذب) و (الإسراف).

أمّا فيما يخصّ الهداية، فقد وردت في القرآن المجيد شروط وأوصاف تبيّن أنّ الهداية لا تقع من دون سبب وخلاف الحكمة الإلهية.

وقد استعرضت الآيات التالية بعض الصفات التي تجعل الإنسان مستحقاً للهداية ومحاطاً باللطف الإلهي؛ منها ما ورد في الآية (16) من سورة المائدة:

«يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلمِ وَيُخْرِجُهُم مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ».

إذن فإتباع أمر اللَّه، وكسب مرضاته يهيئان الأرضية للهداية الإلهية.

وفي الآية (27) من سورة الرعد نقرأ: «إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ».

إذن فالتوبة والإنابة تجعلان الإنسان مستحقاً للهداية.

وورد في الآية (69) من سورة العنكبوت: «وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا».

فالجهاد، وخاصة (الجهاد الخالص في سبيل اللَّه) هو من الشروط الرئيسية للهداية.

وأخيراً نقرأ في الآية (17) من سورة محمّد: «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى».

أي أنّ قطع مقدار من طريق الهداية هو شرط للإستمرار فيه بلطف الباري ء عزّ وجل.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 282

نستنتج من ذلك أنّه لو لم تكن هناك توبة وإنابة من العبد، ولا اتباع لأوامر اللَّه، ولا جهاد في سبيله ولا بذل الجهد وقطع مقدار من طريق الحق، فإنّ اللطف الإلهي لا يشمل ذلك العبد، وسوف لا يمسك الباري ء بيده لإيصاله إلى الغرض المطلوب. فهل أنّ شمول هؤلاء الذين يتحلّون بهذه الصفات بالهداية هو أمر عبث، أو أنّه دليل على هدايتهم بالإجبار؟

من الملاحظ أنّ آيات القرآن الكريم في هذا المجال واضحة جدّاً ومعناها ظاهر، ولكن الذين عجزوا عن الخروج بنتيجة صحيحة من آيات الهداية والضلال ابتلوا بمثل هذا الإبتلاء (لأنّهم لم يشاهدوا الحقيقة فقد ساروا في طريق الخيال).

إذن يجب القول بأنّهم هم الذين إختاروا لأنفسهم سبيل (الضلال).

على أيّة حال، فإنّ المشيئة الإلهية في آيات الهداية والضلال لم تأت عبثاً ومن دون أيّ حكمة، وإنّما تتمّ بشرائط خاصة، بحيث تبيّن تطابق حكمة الباري ء عزّ وجل مع ذلك الأمر.

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَ فَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ

بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) هل إنّ آلهتكم قادرة على حلّ مشاكلكم: الآيات السابقة تحدثت عن العقائد المنحرفة للمشركين والعواقب الوخيمة التي حلّت بهم، أمّا آيات بحثنا هذا فإنّها تستعرض دلائل التوحيد كي تكمل البحث السابق بالأدلة، كما تحدّثت الآيات السابقة عن دعم الباري ء عزّ وجل لعباده وكفاية هذا الدعم، والآيات أعلاه تتابع هذه المسألة مع ذكر الدليل.

في البداية تقول الآية: «وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ».

العقل والوجدان لا يقبلان أن يكون هذا العالم الكبير الواسع بكل هذه العظمة مخلوق من قبل بعض الكائنات الأرضية، فكيف يمكن للعقل أن يقبل أنّ الأصنام التي لا روح فيها ولا

مختصر الامثل، ج 4، ص: 283

عقل ولا شعور هي التي خلقت هذا العالم، وبهذا الشكل فإنّ القرآن يحاكم اولئك إلى عقولهم وشعورهم وفطرتهم، كي يثبّت أوّل أسس التوحيد في قلوبهم، وهي مسألة خلق السماوات والأرض.

وفي المرحلة التالية تتحدث الآيات عن مسألة الربح والخسارة، وعن مدى تأثيرها على نفع أو ضرر الإنسان، كي تثبت لهم أنّ الأصنام لا دور لها في هذا المجال، وتضيف: «قُلْ أَفَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِىَ اللَّهُ بِضُرّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرّهِ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ».

والآن بعد أن اتّضح أنّ الأصنام ليس بإمكانها أن تخلق شيئاً ولا باستطاعتها أن تتدخل في ربح الإنسان وخسارته، إذن فلم نعبدها ونترك الخالق الأصلي لهذا الكون، وكنتيجة نهائية وشاملة يقول الباري ء عزّ وجل: «قُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ

الْمُتَوَكّلُونَ».

آيات القرآن المجيد أكّدت- ولعدّة مرات- على أنّ المشركين يعتقدون بأنّ اللَّه سبحانه وتعالى هو خالق السماوات والأرض. وهذا الأمر يبيّن أنّ الموضوع كان بالنسبة للمشركين من المسلّمات، وهذا أفضل دليل على بطلان الشرك، لأنّ توحيد خالق الكون والاعتراف بمالكيته وربوبيته أفضل دليل على (توحيد المعبود) ومن كل هذا نخلص إلى أنّ التوكّل لا يكون إلّاعلى اللَّه فكيف بعبادة غيره؟!

الآية التالية تخاطب اولئك الذين لم يستسلموا لمنطق العقل والوجدان بتهديد إلهي مؤثر، إذ تقول: «قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنّى عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ».

ستعلمون بمن سيحل عذاب الدنيا المخزي والعذاب الخالد في الآخرة: «مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ».

وبهذا الشكل فإنّ آخر كلام يقال لُاولئك هو: إمّا أن تستسلموا لمنطق العقل و الشعور وتستجيبوا لنداء الوجدان، أو أن تنتظروا عذابين سيحلان بكم، أحدهما في الدنيا وهو الذي سيخزيكم ويفضحكم، والثاني في الآخرة وهو عذاب دائمي خالد، وهذا العذاب أنتم اعددتموه لأنفسكم، وأشعلتم النيران في الحطب الذي جمعتموه بأيديكم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 284

إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَ مَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَ وَ لَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَ لَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) بعد ذكر دلائل التوحيد، وبيان مصير المشركين والموحدين، تبيّن الآية الاولى- في هذا البحث- حقيقة، مفادّها أنّ قبول ما جاء في

كتاب اللَّه أو عدم قبوله إنّما يعود بالفائدة أو الضرر عليكم، وإن كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يصرّ عليكم في هذا المجال، فإنّه لم يكن يبتغي جني الأرباح من وراء ذلك، وإنّما كان يؤدّي واجباً إلهيّاً: «إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقّ».

وتضيف الآية: «فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا».

فإنّك لست مكلّفاً بإدخال الحق إلى قلوبهم بالإجبار، وإنّما عليك إبلاغهم وإنذارهم فقط: «وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ».

ثم لتوضّح أنّ الحياة والموت وكل شؤون الإنسان هي بيد اللَّه سبحانه وتعالى، قالت الآية: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا».

وبهذا الشكل فإنّ (النوم) يعد شقيق (الموت) لكن بأحد أشكاله الضعيفة.

وتضيف الآية: «فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى».

نعم، «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».

وبعدما أصبحت حاكمية (اللَّه) على وجود الإنسان وتدبير أمره عن طريق نظام الحياة والموت والنوم واليقظة، أمراً مسلّماً من خلال الآيات السابقة، تناولت الآية اللاحقة خطأ اعتقاد المشركين فيما يخص مسألة الشفاعة، كي تثبت لهم أنّ مالك الشفاعة هو مالك حياة وموت الإنسان، وليس الأصنام الجامدة التي لا شعور لها: «أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 285

وكما هو معروف فإنّ إحدى الأعذار الواهية لعبدة الأوثان بشأن عبادتهم للأوثان، هي ما ورد في مطلع هذه السورة: «مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى .

إذ أنّهم كانوا يعدّونها تماثيل وهياكل للملائكة و الأرواح المقدسة، ويزعمون أنّ هذه الأحجار والأخشاب الميتة لها قدرة هائلة.

ولكون الشفاعة تحصل من الشفيع الذي هو، أوّلًا: يشعر ويدرك ويفهم؛ وثانياً: قدير ومالك وحكيم. فإنّ تتمة الآية تجيبهم: «قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَايَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ».

إذا كنتم تتخذون من الملائكة والأرواح المقدسة

شفعاء لكم، فإنّهم لا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً، لأنّ كل ما عندهم هو من اللَّه، وإذا كنتم تتخذون من الأصنام المصنوعة من الخشب والحجارة شفعاء لكم، فإنّهم علاوة على عدم امتلاكهم شيئاً لأنفسهم، فهم لا يمتكلون أدنى عقل أو شعور.

لذا فإنّ اللَّه جلّ وعلا يضيف في الآية التالية: «قُلْ لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا». لأنّه: «لَّهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ».

وكما يقول بعض المفسرين: إنّ حقيقة الشفاعة، هي التوسل بأسماء اللَّه الحسنى، التوسل برحمته وغفرانه وستره، طبقاً لهذا فإنّ كافة أشكال الشفاعة تعود في النهاية إلى ذاته المقدسة، إذن كيف يمكن طلب الشفاعة من غيره وبدون إذنه «1».

وَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ إِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَ لَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ بَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَ بَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَ حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (48) الذين يخافون من اسم اللَّه: مرّة اخرى يدور الحديث عن التوحيد والشرك، إذ

______________________________

(1) الميزان في تفسير القرآن 17/ 286.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 286

عكست الآية الاولى إحدى الصور القبيحة والمشوّهة للمشركين ولمنكري المعاد من خلال تعاملهم مع التوحيد، قال تعالى: «وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالْأَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» «1». فأحياناً يستحسن الإنسان القبائح ويستقبح الحسنات بحيث ينزعج إذا سمع اسم الحق ويستبشر إذا سمع اسم الباطل.

وفي المقابل نرى المؤمنين لدى سماعهم اسم اللَّه ينجذبون إليه بدرجة أنّهم على استعداد لبذل كل ما لديهم في سبيله.

وعندما يصل الأمر إلى درجة أنّ مجموعة من اللجوجين والجهلة المغرورين ينفرون ويشمئزون حتى من سماع اسم اللَّه، يوحي الباري ء عزّ وجل إلى نبيّه الكريم صلى الله عليه و آله أن يتركهم ويتوجّه إلى الباري ء عزّ وجل ويشتكي إليه من هؤلاء بلحن ملي ء بالعواطف الرفيعة والعشق الإلهي لكي يبعث على تسكين قلبه الملي ء بالغم من جهة، وعلى تحريك العواطف الهامدة عند اولئك من جهة اخرى: «قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِى مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ».

نعم أنت الحاكم المطلق في يوم القيامة، وهناك يدرك المعاندون مدى خطئهم، ويفكّرون في إصلاح ما مضى، ولكن ما الفائدة؟

الآية التالية تقول: «وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيمَةِ». ولكن هذا الأمر غير ممكن.

«الظلم»: هنا له معان واسعة تشمل الشرك أيضاً وبقية المظالم.

ثم تضيف الآية: «وَبَدَا لَهُم مّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ».

وسيرون العذاب بأعينهم، العذاب الذي لم يكن يتوقعه أحد منهم.

الآية التالية توضيح أو تتمة لموضوع طرحته الآية السابقة، إذ تقول: «وَبَدَا لَهُمْ سَيَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ».

______________________________

(1) «اشمأزت»: من مادة «اشمئزاز» وتعني الإنقباض والنفور عن الشي ء.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 287

فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَ

مَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) في الشدائد يذكرون اللَّه، ولكن ...: الآيات هنا تتحدث مرّة اخرى عن المشركين والظالمين، وتعكس صورة اخرى من صورهم القبيحة. في البداية يقول: «فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا». لكن هذا اللجوء مؤقت، إذ ما إن يتفضّل عليه الباري ء عزّ وجل ويكشف عنه الضر والشدائد، حتى يتبجح ناكراً لهذه النعم، وزاعماً بأنّه هو الذي أنقذ نفسه من ذلك الضر: «ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ» «1».

إنّ أمثال هؤلاء الغافلين لا يتصورون أنّ العلوم والمعارف التي يمتلكها الإنسان إنّما هي نعمة إلهية.

ثم يجيب القرآن الكريم على أمثال هؤلاء المغرورين، الذين ينسون أنفسهم وخالقهم بمجرّد زوال المحنة وتوفّر النعمة، قائلًا: «بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَايَعْلَمُونَ».

فالهدف من إبتلائهم بالحوادث الشديدة والصعبة، ومن ثم إغداق النعم الكبيرة عليهم هو اظهار خباياهم والكشف عن بواطنهم.

وتضيف الآية التالية: «قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ».

نعم، فقارون وأمثاله من المغرورين يتصورون أنّهم حصلوا على الأموال بسبب لياقتهم وغفلوا عن أنّ اللَّه سبحانه وتعالى هو الذي منّ بهذه النعم عليهم وأنّه المصدر الأصل للنعم والواهب الحقيقي لها، وأنّهم كانوا ينظرون فقط للأسباب الظاهرية.

ثم يقول: «فَأَصَابَهُمْ سَيَاتُ مَا كَسَبُوا».

فكلّ واحد منهم ابتلي بنوع من العذاب الإلهي وهلك، كابتلائهم بالطوفان والسيل والزلزال والصيحة السماوية.

______________________________

(1) «خول»: من مادة «تخويل» و تعنى الإعطاء على نحو الهبة.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 288

ويضيف: إنّ هذا المصير لا ينحصر باولئك الاقوام وحسب بل إنّ مشركي مكة سيبتلون في القريب العاجل بعواقب أعمالهم السيئة، ولا يستطيع أحد منهم أن يفرّ من

قبضة العذاب الإلهي الذي سينزل بهم جميعاً: «وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ».

وسينال هذا العذاب والإبتلاء كل الطغاة والمغرورين والمشركين، وفي كل العصور والقرون.

القرآن الكريم أجاب على ادعاءات الذين يزعمون أنّهم حصلوا على النعم الدنيوية بعلمهم وقدرتهم، عندما دعاهم إلى مراجعة تاريخ الأوّلين للإطّلاع على أنواع الإبتلاءات والعذاب الذي ابتلوا به بسبب مزاعمهم الباطلة، وهذا هو ردّ تأريخي وواقعي.

ثم يرد القرآن الكريم عليهم بردّ عقلي، إذ يقول: «أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ».

فالكثير من الأشخاص الكفوئين نراهم يعيشون حياة المستضعفين والبسطاء، في حين نرى أنّ الكثير من الأشخاص غير الكفوئين يعيشون أثرياء ومتنعمين من كل النواحي، فلو كان الظفر المادي كلّه يأتي عن طريق جهد وسعي الإنسان إضافة إلى كفاءته، لما كنّا نرى مثل هذه المشاهد.

لذا تضيف الآية: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».

الآيات التي وضّحها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام عندما قال: «عرفت اللَّه بفسخ العزائم وحلّ العقود ونقض الهمم» «1». وهي كلمة سامية تدلّ على ضعف وعجز الإنسان كي لا يتيه ولا يبتلى بالغرور والتكبر.

إنّ اللَّه يغفر الذنوب جميعاً: بعد التهديدات المتكررة التي وردت في الآيات السابقة قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَ أَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَ اتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَ أَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55)

______________________________

(1) نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 250.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 289

بشأن المشركين والظالمين، فإنّ آيات بحثنا فتحت الأبواب أمام

المذنبين وأعطتهم الأمل، لأنّ الهدف الرئيسي من كل هذه الأمور هو التربية والهداية وليس الإنتقام والعنف، فبلهجة مملوءة باللطف والمحبة يفتح الباري ء أبواب رحمته أمام الجميع ويصدر أوامر العفو عنهم، عندما يقول: «قُلْ يَا عِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَاتَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا».

التدقيق في عبارات هذه الآية يبيّن أنّها من أكثر آيات القرآن الكريم التي تعطي الأمل للمذنبين، فشموليتها وسعتها وصلت إلى درجة قال بشأنها أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: «ما في القرآن آية أوسع من يا عبادي الّذين أسرفوا» الآية «1».

إنّ الوعد الذي أعطاه اللَّه بغفران الذنوب مشروط بأن يعودوا إلى أنفسهم بعد إرتكاب الذنب، ويتوجّهوا في مسيرهم نحو الباري ء عزّ وجل، ويستسلموا لأوامره، ويظهروا صدق توبتهم وإنابتهم بالعمل.

الآية التاليه ترشد المجرمين والمذنبين إلى الطريق للدخول إلى بحر الرحمة الإلهية الواسع إذ تقول: «وَأنِيبُوا إِلَى رَبّكُمْ». واصلحوا اموركم ومسير حياتكم: «وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَاتُنصَرُونَ».

بعد طي هاتين المرحلتين «الإنابة» و «التسليم»، تتحدث الآية عن المرحلة الثالثة وهي مرحلة (العمل)، إذ تقول: «وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبّكُم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَاتَشْعُرُونَ».

وبهذا الشكل فإنّ مسيرة الوصول إلى الرحمة الإلهية لا تتعدى هذه الخطوات الثلاث:

الخطوة الاولى: التوبة والندم على الذنب والتوجه إلى اللَّه تعالى.

الخطوة الثانية: الإيمان باللَّه والإستسلام له.

الخطوة الثالثة: العمل الصالح.

أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَ إِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَ اسْتَكْبَرْتَ وَ

كُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان 8/ 407.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 290

الندم لا ينفع في ذلك اليوم: الآيات السابقة أكّدت على التوبة وإصلاح الذات وإصلاح الأعمال السابقة، وآيات بحثنا الحالي تواصل التطرّق لذلك الموضوع؛ ففي البداية تقول: «أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِى جَنْبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ».

نعم، فعندما يرد الإنسان إلى ساحة المحشر، ويرى بامّ عينيه نتائج إفراطه وإسرافه ومخالفته، يصرخ فجأة (واحسرتاه) إذ يمتلى ء قلبه في تلك اللحظات بغمّ كبير مصحوب بندم عميق، وهذه الحالة النفسية التي وردت في الآيات المذكورة.

عبارة «جَنْبِ اللَّه» تعني أنّ الامور ترجع إلى جانب اللَّه، فأوامره وإطاعته والتقرّب إليه، والكتب السماوية كلها نزلت من جانبه، وكلها مجموعة في هذا المعنى

ثم تضيف الآية: «أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَينِى لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ».

يبدو أنّ هذا الكلام يقوله الكافر عندما يوقف أمام ميزان الحساب، حيث يرى البعض يقادون إلى الجنة وهم محمّلون بأعمالهم الحسنة، وهنا يتمنى الكافر لو أنّه كان أحد هؤلاء المتوجهين إلى جنة الخلد.

وتضيف الآية مرّة اخرى: «أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ».

وهذا ما يقوله الكافر- أيضاً- حينما تقوده الملائكة الموكلة بالنار نحو جهنم، وترى عيناه نار جهنم ومنظر العذاب الأليم فيها، وهنا يتأوه من أعماق قلبه ويتوسل لكي يسمح له بالعودة مرّة اخرى إلى الحياة الدنيا ليطهّر نفسه من الأعمال السيئة والقبيحة ويستبدلها بأعمال صالحة.

القرآن المجيد يردّ على القول الثاني من بين الأقوال الثلاثة، إذ يقول: «بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ ءَايَاتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ».

إنّ قولك: لو كانت الهداية قد شملتني لأصبحت من المتقين، فما هي الهداية الإلهية؟ هل هي غير الكتب السماوية ورسل اللَّه،

وآياته وعلاماته الصادقة في الآفاق والأنفس؟ إنّك سمعت باذنيك وشاهدت بعينيك كل هذه الآيات، فما كان ردّ فعلك إزاءها غير التكذيب والتكبّر والكفر.

فمن بين تلك الأعمال الثلاثة يعد (الاستكبار) الجذر الرئيسي، ومن بعد يأتي التكذيب بآيات اللَّه، وحصيلة الاثنين هو الكفر وعدم الإيمان.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 291

وَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) الآيات السابقة تتحدث عن المشركين الكذّابين والمستكبرين الذين يندمون يوم القيامة على ما قدّمت أيديهم ويتوسلون لإعادتهم إلى الدنيا، ولكن هيهات أن يستجاب لهم طلبهم، وآيات بحثنا هذه تواصل الحديث عن هذا الأمر، إذ تقول: «وَيَوْمَ الْقِيمَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ».

ثم تضيف: «أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبّرِينَ».

إنّ عبارة «كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ» تستهدف اولئك الذين قالوا بوجود شريك للَّه، أو باتخاذ اللَّه ولداً من الملائكة، أو الذين يزعمون أنّ المسيح عليه السلام هو ابن اللَّه، وأمثال هذه المزاعم والإدّعاءات.

الآية التالية تتحدث عن طائفة تقابل الطائفة السابقة، حيث تتحدث عن المتقين وابتهاجهم في يوم القيامة، إذ تقول: «وَيُنَجّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ» «1».

ثم توضّح فوزهم وانتصارهم من خلال جملتين قصيرتين مفعمتين بالمعاني: «لَايَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ».

نعم، إنّهم يعيشون في عالم لا يوجد فيه سوى الخير والطهارة والسرور، وهذه العبارة القصيرة جمعت- حقّاً- كل الهبات الإلهية فيها.

الآية التالية تتطرق من جديد إلى مسألة

التوحيد والجهاد ضد الشرك، وتواصل مجادلة المشركين، حيث تقول: «اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَىْ ءٍ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ وَكِيلٌ».

العبارة الاولى في هذه الآية تشير إلى (توحد اللَّه في الخلق) والثانية تشير إلى (توحده في الربوبية).

______________________________

(1) «مفازة»: مصدر ميمي بمعنى الفوز والظفر.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 292

فمسألة (توحده في الخلق) هي حقيقة اعترف بها حتى المشركون، ولكنّهم ابتلوا بالانحراف فيما يتعلق بمسألة (توحده في الربوبية)، ففي بعض الأحيان اعتبروا الأصنام هي التي تحفظهم وتحميهم وتدبّر أمرهم، وكانوا يلجؤون إليها عندما يواجهون أيّ مشكلة.

أمّا الآية التالية فقد تطرّقت إلى (توحيد اللَّه في المالكية) لتكمل بحث التوحيد الذي ورد في الآيات السابقة، إذ تقول: «لَّهُ مَقَالِيدُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

ولهذا السبب قررت الآية المذكورة بمثابة استنتاج: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَايَاتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ».

لأنّهم تركوا المصدر الرئيسي والمنبع الحقيقي لكل الخيرات والبركات وتاهوا في صحاري الضلال عندما أعرضوا بوجوههم عن مالك مفاتيح السماوات والأرض، وتوجّهوا نحو موجودات عاجزة تماماً عن تقديم أدنى عمل لهم.

من مجموع كل الامور التي ذكرناها في الآيات السابقة بشأن فروع التوحيد، يمكن الحصول على نتيجة جيّدة، وهي أنّ التوحيد في العبادة هو حقيقة لا يمكن نكرانها وعلى كل إنسان عاقل أن لا يسمح لنفسه بالسجود للأصنام، ولهذا فإنّ البحث ينتهي بآية تتحدث بلهجة حازمة ومتشددة: «قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ».

هذه الآية- وبالنظر إلى أنّ المشركين والكفرة كانوا أحياناً يدعون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى احترام آلهتهم وعبادتها، أو على الأقل عدم الانتقاص منها أو النهي عن عبادتها- أعلنت وبمنتهى الصراحة أنّ مسألة توحيد اللَّه وعدم الإشراك به هي مسألة لا تقبل المساومة والاستسلام أبداً، إذ يجب أن تزال كافة أشكال الشرك وتمحى من على وجه

الأرض.

وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ السَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) الشرك محبط للاعمال: آيات بحثنا تواصل التطرّق للمسائل المتعلقة بالشرك والتوحيد والتي كانت قد استعرضت في الآيات السابقة أيضاً.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 293

الآية الاولى تتحدث بلهجة قاطعة وشديدة حول أخطار الشرك، وتقول: «وَلَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ».

وبهذا الترتيب، فإنّ للشرك نتيجتين خطيرتين، تشملان حتى أنبياء اللَّه فيما لو أصبحوا مشركين، على فرض المحال.

النتيجة الاولى: إحباط الأعمال، والثانية: الخسران والضياع.

وإحباط الأعمال يعني محو آثار ثواب الأعمال السابقة، وذلك بعد كفره وشركه باللَّه، لأنّ شرط قبول الأعمال هو الاعتقاد بأصل التوحيد، ولا يقبل أيّ عمل بدون هذا الاعتقاد.

وأمّا خسارتهم فإنّها بسبب بيعهم أكبر ثروة يمتلكونها، ألا وهي العقل والإدراك والعمر في سوق التجارة الدنيوية، وشراؤهم الحسرة والألم بثمنها.

الآية التالية تضيف للتأكيد أكثر: «بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مّنَ الشَّاكِرِينَ».

تقديم اسم الجلالة للدلالة على الحصر، وذلك يعني أنّ ذات اللَّه المنزهة يجب أن تكون معبودك الوحيد.

الآية الأخيرة في بحثنا هذا تكشف عن الجذر الرئيسي لانحرافهم، وتقول: «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ». ولهذا تنزّلوا باسمه المقدس حتى جعلوه رديفاً للأوثان.

ثم يأتي القرآن بعبارتين كنائيتين بعد العبارة السابقة، وذلك لبيان عظمة وقدرة الباري ء عزّ وجل، إذ يقول كلام اللَّه المجيد: «وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيمَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ».

«القبضة»: الشي ء الذي يقبض عليه بجميع الكف، تستخدم- عادة- للتعبير عن القدرة المطلقة والتسلّط التام؛ و «مطويّات»:

من مادة «طي» وتعني الثني، والتي تستعمل أحياناً كناية عن الوفاة وانقضاء العمر، أو عن عبور شي ء ما.

فالذي يثني طوماراً ويحمله بيده اليمنى يسيطر بصورة كاملة على الطومار الذي يحمله بتلك اليد، وانتخبت اليد اليمنى هنا لأنّ أكثر الأشخاص يؤدّون أعمالهم المهمة باليد اليمنى ويحسّون بأنّها ذات قوّة وقدرة أكثر.

خلاصة الكلام، أنّ كل هذه التشبيهات والتعابير هي كناية عن سلطة اللَّه المطلقة على عالم الوجود في العالم الآخر، حتى يعلم الجميع أنّ مفتاح النجاة وحلّ المشاكل يوم القيامة هو بيد القدرة الإلهية، كي لا يعمدوا إلى عبادة الأصنام وغيرها من الآلهة بذريعة أنّها ستشفع لهم في ذلك اليوم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 294

إنّ السماء والأرض أيضاً في قبضته في الحياة الدنيا ولكن في ذلك اليوم أكثر من أيّ وقت مضى وكل إنسان يدرك ويشعر أنّ كل شي ء هو من عند اللَّه وتحت تصرفه.

فبعد التوضيحات التي ذكرت آنفاً، يعطي الباري ء عزّ وجل في آخر الآية نتيجة مركّزة وظاهرية، إذ يقول: «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ».

فلو لم يكن بنو آدم قد أصدروا أحكامهم على ذات اللَّه المقدسة المنزهة وفق مقاييس تفكيرهم الصغيرة والمحدودة، لما انجر أحد منهم إلى حبائل الشرك وعبادة الأصنام.

وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) (النفخ في الصور) وموت وإحياء جميع العباد: الآيات الأخيرة في البحث السابق تحدثت عن يوم القيامة، وآية بحثنا الحالي تواصل الحديث عن ذلك اليوم مع ذكر إحدى الميزات المهمة له، إذ تبدأ الحديث بنهاية الحياة في الدنيا، وتقول: «وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّموَاتِ وَمَن فِى الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ».

يستفاد من

الروايات إنّ هذه المجموعة المتبقية تموت في نهاية الأمر، ولا يبقى أحد حيّاً في هذا العالم سوى الباري ء عزّ وجل إذ هو: «حَىٌّ لَايَمُوتُ».

يتّضح بصورة جيّدة من هذه الآية أنّ حادثتين تقعان مع نهاية العالم وعند البعث، في الحادثة الاولى يموت الأحياء فوراً، وفي الحادثة الثانية- التي تقع بعد فترة من وقوع الحادثة الاولى- يعود كل الناس إلى الحياة مرّة اخرى، يقفون بانتظار الحساب. وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَ وُضِعَ الْكِتَابُ وَ جِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَدَاءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) اليوم الذي تشرق الأرض بنور ربّها: آيتا بحثنا تواصلان استعراض الحديث عن القيامة والذي بدأ قبل عدّة آيات. في البداية تقول: «وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبّهَا».

وقد اختلف المفسرون في معنى إشراق الأرض بنور ربّها، إذ ذكروا تفسيرات عديدة، اخترنا إثنين منها، وهي:

1- قالت طائفة: إنّ المراد من نور الرب هو الحق والعدالة، الذي ينير بهما ربّ العالمين الأرض في ذلك اليوم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 295

2- أمّا المفسر الكبير العلّامة الطباطبائي رحمه الله، صاحب تفسير الميزان، فقد قال: إنّ المراد من إشراق الأرض بنور ربّها هو ما يخصّ يوم القيامة من انكشاف الغطاء وظهور الأشياء بحقائقها وتجلّي الأعمال من خير أو طاعة أو معصية أو حق أو باطل للناظرين. وقد استدل العلّامة الطباطبائي على هذا الرأي بالآية (22) من سورة «ق»: «لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مّنْ هذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ». وهذا الإشراق وإن كان عاماً لكل شي ء يسعه النور، لكن لمّا كان الغرض بيان ما للأرض وأهلها يومئذٍ من الشأن، خصّها بالبيان.

ومن دون شك فإنّ هذه

الآية تتعلق بيوم القيامة، وإن وجدنا بعض روايات أهل البيت الأطهار عليهم السلام تفسّرها على أنّها تعود إلى ظهور القائم المهدي المنتظر (عج)، فهي في الواقع نوع من التطبيق والتشبيه، وتأكيد لهذا المعنى وهو عند ظهور المهدي (عج) تصبح الدنيا نموذجاً حيّاً من مشاهد القيامة، إذ يملأ هذا الإمام بالحق ونائب الرسول الأكرم وخليفة اللَّه، الأرض بالعدل إلى الحد الذي ترتضيه الحياة الدنيا.

العبارة الثانية في هذه الآية تتحدث عن صحائف الأعمال، إذ تقول: «وَوُضِعَ الْكِتَابُ».

الصحائف التي تتضمن جميع صغائر وكبائر أعمال الإنسان.

وتضيف العبارات التي تتحدث عن الشهود: «وَجِاى ءَ بِالنَّبِيّينَ وَالشُّهَدَاءِ».

فالأنبياء يحضرون ليسألوا عن أدائهم لمهام الرسالة، كما ورد في الآية (6) من سورة الأعراف: «وَلَنَسَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ».

كما يحضر شهداء الأعمال في محكمة العدل الإلهية ليدلوا بشهاداتهم، صحيح أنّ الباري ء عزّ وجل مطّلع على كل الامور، ولكن للتأكيد على مقام العدالة يدعو شهداء الأعمال للحضور في تلك المحكمة.

العبارة الرّابعة تقول: «وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقّ».

والخامسة تضيف: «وَهُمْ لَايُظْلَمُونَ».

فمن البديهيات، عندما يكون الحاكم هو الباري ء عزّ وجل، فلا يحكم إلّابالحق، وفي مثل هذه المحاكم لا وجود للظلم والاستبداد مطلقاً.

العبارة السادسة في الآية التالية أكملت الحديث بالقول: «وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ».

إنّ جزاء الأعمال وعواقبها سترد إليهم، وهل هناك مكافأة ومجازاة أعلى من أن يردّ عمل الإنسان بصورة كاملة إلى الإنسان نفسه.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 296

فالذي يتمكن من تنفيذ مثل هذه المناهج العادلة بدقّة، هو الذي أحاط علمه بكل شي ء، لهذا فإنّ العبارة السابعة والأخيرة في هذا البحث تقول: «وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ».

إذن فلا حاجة حتى للشهود، لأنّ اللَّه هو أعلم من كل أولئك الشهود، ولكن لطفه وعدله يقتضيان إحضار الشهود.

وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ

أَبْوَابُهَا وَ قَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذَا قَالُوا بَلَى وَ لكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) الّذين يدخلون جهنم زمراً: تواصل الآيات هنا بحث المعاد، وتستعرض بالتفصيل ثواب وجزاء المؤمنين والكافرين، الذي استعرض بصورة مختصرة في الآيات السابقة.

وتبدأ بأهل جهنم، إذ تقول: «وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا».

عبارة «زمر» تعني الجماعة الصغيرة من الناس، وتوضّح أنّ الكافرين يساقون إلى جهنم على شكل مجموعات صغيرة ومتفرقة.

و «سيق»: من مادة «سوق» وتعني (الحث على السير).

ثم تضيف: «حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءَايَاتِ رَبّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذَا» «1».

يتّضح بصورة جيّدة من خلال هذه العبارة، أنّ أبواب جهنم كانت مغلقة قبل سوق اولئك الكفرة، وهي كأبواب السجون المغلقة التي تفتح أمام المتهمين الذين يراد سجنهم، وهذا الحدث المفاجي ء يوجد رعباً ووحشة كبيرة في قلوب الكافرين، وقبل دخولهم يتلقاهم خزنة جهنم باللوم والتوبيخ، الذين يقولون استهجاناً وتوبيخاً لهم: لم كفرتم وقد هيأت لكم كافة أسباب الهداية، فكيف وصل بكم الحال إلى هذه الدرجة رغم إرسال الأنبياء إليكم؟

فإنّ الكافرين يجيبون خزنة جهنم بعبارة قصيرة ملؤها الحسرات، قائلين: «قَالُوا بَلَى

______________________________

(1) «خزنة»: جمع (خازن) من مادة «خزن» وتعني حافظ الشي ء، و (خازن) تطلق على المحافظ والحارس.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 297

وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ».

وبهذا الشكل اعترفوا بأنّهم كذّبوا الأنبياء وانكروا آيات اللَّه، وبالطبع فإنّ مصيرهم لن يكون أفضل من هذا.

هذا النقاش القصير ينتهي مع اقترابهم من عتبة جهنم: «قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ».

فأبواب جهنم-

كما أشرنا إليها من قبل- يمكن أن تكون قد نظّمت حسب أعمال الإنسان، وإنّ كل مجموعة كافرة تدخل جهنم من الباب الذي يتناسب مع أعمالها، وذلك مثل أبواب الجنة التي يطلق على أحد أبوابها اسم «باب المجاهدين».

والذي يلفت النظر هو أنّ ملائكة العذاب تؤكّد على مسألة التكبر من بين بقية الصفات الرذيلة التي تؤدّي بالإنسان إلى السقوط في نار جهنم، وذلك إشارة إلى أنّ التكبر والغرور وعدم الإنصياع والاستسلام أمام الحق هو المصدر الرئيسي للكفر والإنحراف وإرتكاب الذنب. ولهذا نقرأ في رواية- في الكافي- عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام قالا: «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرّة من كبر».

وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَ قَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَ قَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَ تَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ قِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75) المتقون يدخلون الجنة افواجاً: هذه الآيات- التي هي آخر آيات سورة (الزمر)- تواصل بحثها حول موضوع المعاد، حيث تتحدث عن كيفية دخول المؤمنين المتقين الجنة، بعد أن كانت الآيات السابقة قد استعرضت كيفية دخول الكافرين جهنم، لتتوضح الامور أكثر من خلال هذه المقارنة. في البداية تقول: «وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا».

عبارة (سيق) أثار التساؤل، لأنّ هذا التعبير يستخدم في موارد يكون تنفيذ العمل فيها من دون أيّ اشتياق ورغبة في تنفيذه، ولذلك فإنّ هذه العبارة صحيحة بالنسبة لأهل

مختصر الامثل، ج 4، ص: 298

جهنم، ولكن لم استعملت بشأن أهل الجنة

الذين يتوجّهون إلى الجنة بتلهّف واشتياق؟

إنّ التفسير الأصح لهذه العبارة هي: مهما كان حجم عشق المتقين للجنة، فإنّ الجنة وملائكة الرحمة مشتاقة أكثر لوفود اولئك عليهم، كما هو الحال بالنسبة إلى المستضيف المشتاق للضيف والمتلهّف لوفوده عليه إذ أنّه لا يجلس لانتظاره وإنّما يذهب لجلبه بسرعة قبل أن يأتي هو بنفسه إلى بيت المستضيف، فملائكة الرحمة هي كذلك مشتاقة لوفود أهل الجنة.

«زمر»: تعني هنا المجموعات الصغيرة؛ وتبيّن أنّ أهل الجنة يساقون إلى الجنة على شكل مجموعات مجموعات كل حسب مقامه.

ثم تضيف الآية: «حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ».

الملفت للنظر أنّ القرآن الكريم يقول بشأن أهل جهنم: إنّهم حينما يصلون إلى قرب جهنم تفتح لهم الأبواب، ويقول بشأن أهل الجنة، إنّ أبواب الجنة مفتحة لهم من قبل، وهذه إشارة إلى الاحترام والتبجيل الذي يستقبلون به من قبل ملائكة الرحمة.

وقد قرأنا في الآيات السابقة أنّ ملائكة العذاب يستقبلون أهل جهنم باللوم والتوبيخ الشديدين، أمّا ملائكة الرحمة فإنّها تبادر أهل الجنة بالسلام المرافق للاحترام والتبجيل.

الملاحظ أنّ «الخلود» استخدم بشأن كل من أهل الجنة وأهل النار، وذلك لكي لا يخشى أهل الجنة من زوال النعم الإلهية، ولكي يعلم أهل النار بأنّه لا سبيل لهم للنجاة من النار.

الآية التالية تتكون من أربع عبارات قصار غزيرة المعاني تنقل عن لسان أهل الجنة السعادة والفرح اللذين غمراهم، حيث تقول: «وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ و».

وتضيف في العبارة التالية: «وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ».

المراد من الأرض هنا أرض الجنة؛ واستخدام عبارة (الإرث) هنا، إنّما جاء لكونهم حصلوا على كل هذه النعم في مقابل جهد قليل بذلوه، إذ- كما هو معروف- أنّ الميراث هو الشي ء الذي يحصل عليه الإنسان من

دون أيّ عناء مبذول.

العبارة الثالثة تكشف عن الحرية الكاملة التي تمنح لأهل الجنة في الاستفادة من كافة ما هو موجود في الجنة الواسعة، إذ تقول: «نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ».

أمّا العبارة الأخيرة فتقول: «فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 299

وهذه إشارة إلى أنّ هذه النعم الواسعة إنّما تعطى في مقابل العمل الصالح (المتولد من الايمان طبعاً) ليكون صاحبه لائقاً ومستحقاً لنيل مثل هذه النعم.

وفي النهاية تخاطب الآية الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله قائلة: «وَتَرَى الْمَلِكَةَ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ». يسبحون اللَّه ويقدّسونه ويحمدونه.

إذ تشير إلى وضع الملائكة الحافين حول عرش اللَّه، أنّها تعبّر عن إستعداد اولئك الملائكة لتنفيذ الأوامر الإلهية، ولهذا تقول العبارة التالية: «وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقّ».

وباعتبار أنّ هذه الامور دلائل على ربوبية الباري ء عزّ وجل واستحقاق ذاته المقدسة والمنزهة لكل أشكال الحمد والثناء، فإنّ الجملة الأخيرة تقول: «وَقِيلَ الْحَمْدُلِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ».

إنّ الحمد والثناء على اللَّه هو منهاج كل اولي الألباب، ومنهاج كل الخواص والمقربين.

«نهاية تفسير سورة الزمر»

مختصر الامثل، ج 4، ص: 301

40. سورة غافر

محتوى السورة: سورة غافر هي طليعة الحواميم، والحواميم في القرآن الكريم سبع سور متتالية يلي بعضها بعضاً، نزلت جميعاً في مكة، وهي تبتدأ ب «حم».

يمكن النظر إلى محتوى السورة في إطار ما تثيره النقاط والأقسام الآتية:

1- تتحدث عن بعض أسماء اللَّه الحسنى خصوصاً تلك التي ترتبط باحياء معاني الخوف والرجاء في القلوب، مثل قوله تعالى: «غَافِرِ الذَّنبِ» و «شَدِيدِ الْعِقَابِ».

2- تهديد الكفار والطواغيت بعذاب في هذه الدنيا، بالإضافة إلى التعرّض لعذاب الآخرة، وتتناول بعض الصور والمشاهد التفصيلية فيه.

3- بعد أن وقفت السورة على قصة موسى وفرعون، بدأت بالحديث- بشكل واسع- عن قصة ذلك الرجل المؤمن الواعي الشجاع الذي

اصطلح عليه ب «مؤمن آل فرعون» وكيف واجه البطانة الفرعونية وخلّص موسى عليه السلام من كيدها.

4- تتعرض السورة المباركة فيه إلى قضيتي التوحيد والشرك، بوصفهما دعامتين لوجود الإنسان وحياته، وفي ذلك تتناول جانباً من دلائل التوحيد، بالإضافة إلى ما تقف عليه من مناقشة لبعض شبهات المشركين.

5- تنتهي السورة بدعوة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله للتحمل والصبر، ثم تخلص السورة في خاتمتها إلى ذكر بعض النعم الإلهية.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 302

إنّ تسمية السورة ب «غافر» يعود إلى كون هذه الكلمة هي بداية الآية الثالثة من آيات السورة المباركة، أمّا تسميتها ب «المؤمن» فيعود إلى اختصاص قسم منها بالحديث عن «مؤمن آل فرعون».

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «الحواميم ديباج القرآن».

وروى أبو بصير عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «الحواميم ريحان القرآن، فاحمدوا اللَّه واشكروه بحفظها وتلاوتها. وإنّ العبد ليقوم يقرأ الحواميم فيخرج من فيه أطيب من المسك الأذفر والعنبر. وإنّ اللَّه ليرحم تاليها وقارءها، ويرحم جيرانه وأصدقاءه ومعارفه وكل حميم أو قريب له، وإنّه في القيامة يستغفر له العرش والكرسي وملائكة اللَّه المقرّبون».

ومن الواضح أنّ هذه الفضائل الجزيلة ترتبط بالمحتوى الثمين للحواميم، هذا المحتوى الذي إذا واظب الإنسان على تطبيقه في حياته والعمل به، والإلتزام بما يستلزمه من مواقف وسلوك، فإنّه سيكون مستحقاً للثواب العظيم والفضائل الكريمة التي قرأناها.

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَ قَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) تواجهنا في مطلع السورة الحروف المقطعة وهي هنا من نوع جديد لم نعهده في السور السابقة، حيث افتتحت السورة ب «حم».

إنّ الحروف

التي تبدأ بها سورة غافر- كما يستفاد ذلك من بعض الروايات ومن آراء المفسرين- تشير إلى أسماء اللَّه التي تبدأ بحروف هذه السورة، أي «حميد» و «مجيد» كما ورد ذلك عن الإمام الصادق عليه السلام «1».

البعض الآخر ذهب إلى أنّ «ح» إشارة إلى أسمائه تعالى مثل «حميد» و «حليم» و «حنان»، بينما «م» إشارة إلى «ملك» و «مالك» و «مجيد».

وهناك احتمال في أنّ «ح» يشير إلى الحاكمية، فيما يشير «م» إلى المالكية الإلهية.

ويتّضح في نهاية الفقرة عدم وجود تناقض بين الآراء والتفاسير الآنفة الذكر، بل هي تعمد جميعاً إلى تفسير الحروف المقطعة بمعنى واحد.

______________________________

(1) يلاحظ معاني الأخبار، للشيخ الصدوق/ 22 (باب: معنى الحروف المقطعة في أوائل السور من القرآن).

مختصر الامثل، ج 4، ص: 303

في الآية الثانية- كما جرى على ذلك الاسلوب القرآني- حديث عن عظمة القرآن، وإشارة إلى أنّ هذا القرآن بكل ما ينطوي عليه من عظمة وإعجاز وتحدّ، إنّما يشتكّل في مادته الخام من حروف الألف باء ... وهنا يكمن معنى الإعجاز. يقول تعالى: «تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ».

إنّ قدرته تعالى تجعل الأشياء الاخرى عاجزة عن الوقوف إزاءها، فقدرته ماضية في كل شي ء، وعزّته مبسوطة، أمّا علمه تعالى فهو في أعلى درجات الكمال، بحيث يستوعب كل احتياجات الإنسان ويدفعه نحو التكامل.

و الآية التي بعدها تعدّد خمساً من صفاته تعالى، يبعث بعضها الأمل والرجاء، بينما يبعث البعض الآخر منها على الخوف والحذر. يقول تعالى: «غَافِرِ الذَّنبِ». «وَقَابِلِ التَّوْبِ». «شَدِيدِ الْعِقَابِ». «ذِى الطَّوْلِ». «لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ».

أجل إنّ من له هذه الصفات هو المستحق للعبادة وهو الذي يملك الجزاء في العقاب والثواب.

مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ

(4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَ جَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَ كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) بعد أن تعرّضت الآيات السابقة إلى نزول القرآن، وإلى بعض الصفات الإلهية التي تستهدف بعث الخوف والرجاء، ورد كلام في الآيات التي بين أيدينا عن قوم امتازوا بالمجادلة والمنازعة حيال آيات اللَّه ... الآية الكريمة توضّح مصير هذه المجموعة ضمن تعبير قصير وقاطع، فتقول: «مَا يُجَادِلُ فِى ءَايَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا».

صحيح أنّ هذه المجموعة قد تملك العدّة والعدد، إلّاأنّ ذلك لن يدوم إلّالفترة، فلا تغتر

مختصر الامثل، ج 4، ص: 304

وتنخدع إذاً لتحرّكهم في البلاد وتنقّلهم في المدن المختلفة، واستعراضهم لقوّتهم: «فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى الْبِلدِ». «يجادل»: مشتقة من «جدل» وهي في الأصل تعني لفّ الحبل وإحكامه، ثم عمّ استخدامها في الأبنية والحديد وما شابه، ولهذا فإنّ كلمة (مجادلة) تطلق على عمل الاشخاص المتقابلين ويريد كل شخص أن يلقي حجته ويثبت كلامه ويغلب خصمه.

«تقلب»: مشتقة من «قلب» وتعني التغيير، و «تقلّب» هنا بمعنى التصرّف في المناطق والبلاد المختلفة للسيطرة والتسلّط عليها، وتعني الذهاب والإياب فيها أيضاً.

إنّ هدف الآية تحذير للرسول صلى الله عليه و آله والمؤمنين به- في بداية البعثة- من الذين كانوا من الطبقة المستضعفة المحرومة، بأن لا يركنوا إلى الإمكانات المالية أو القوة السياسية والاجتماعية للكفار، ويعتبرونها دليلًا على حقانيتهم أو سبباً لقوتهم الحقيقية، إذ هناك الكثير منهم في تاريخ هذه الدنيا، وقد انكشف ضعفهم وسقطت عنهم سرابيل القوة المزعومة ليبيّن عجزهم حيال العقاب الإلهي.

لذلك توضّح الآية التي بعدها عاقبة بعض الامم السابقة التي ضلّت الطريق

وانكفأت عن جادّة الحق والصواب، فتقول في عبارات قاطعة واضحة تحكي عاقبة قوم نوح وحالهم ومن تلاهم من أقوام وجماعات: «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ».

هؤلاء هم «الأحزاب» الذين تآزروا ووقفوا ضدّ دعوات الأنبياء الإلهيين، لتعارض مصالحهم مع روح هذه الدعوات ومضامينها الربانية.

إنّهم لم يقتنعوا بمجرّد الوقوف ضدّ الدعوات النبوية الكريمة، بل خططت كل امّة منهم لأن تمسك بنبيّها فتسجنه وتؤذيه، بل وحتى تقتله: «وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ».

ثم لم يكتفوا بهذا القدر أيضاً، بل لجأوا إلى الكلام الباطل لأجل القضاء على الحق ومحوه، وأصرّوا على إضلال الناس وصدّهم عن شريعة اللَّه: «وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ» «1».

إلّا أنّ هذا الوضع لم يستمر طويلًا، ولم يبق لهم الخير دوماً، إذ حينما حان الوقت المناسب جاء الوعد الإلهي: «فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ».

______________________________

(1) «ليدحضوا»: مصدرها ثلاثي «إدحاض» وتعني الإزالة والإبطال.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 305

لكم- أيّها الناس- أن تشاهدوا خرائب مدنهم حين سفركم وأثناء تجوالكم ... انظروا عاقبتهم المشؤومة المظلمة مدوّنة على صفحات التاريخ وفي صدور أهل العلم، فانظروا واعتبروا.

الآية الأخيرة- في المقطع الذي بين أيدينا- تشير إلى الجزاء الاخروي الذي ينتظر هؤلاء، بالإضافة إلى قسطهم من العقاب الدنيوي: «وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أصْحَابُ النَّارِ».

إنّ المعنى الظاهري للآية واسع، يشمل جميع الكفار والمعاندين من جميع الأقوام.

إنّ حتمية العقاب الإلهي لهؤلاء القوم يعود إلى ذنوبهم المستمرة، والأعمال التي يقومون بها بمل ء إرادتهم خلافاً لرسالة اللَّه.

الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَ قِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي

وَعَدْتَهُمْ وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَ أَزْوَاجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَ قِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَ مَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) دعاء حملة العرش للمؤمنين: يتضح من اسلوب الآيات السابقة أنّها نزلت في فترة كان فيها المسلمون قلّة محرومة، بينما كان الأعداء في أوج قوّتهم، بعد ذلك نزلت الآيات التي نحن بصددها لتكون بشرى للمؤمنين الحقيقيين والصابرين، بأنّكم لستم وحدكم. فالقرآن يقول: «الَّذِى يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا».

أمّا قولهم ودعاؤهم فهو: «رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْ ءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا». فأنت عالم بذنوب عبادك المؤمنين ورحيم بهم: «فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ».

يوضّح هذا الكلام للمؤمنين بأنّكم لستم وحدكم الذين تعبدون اللَّه وتسبحونه

مختصر الامثل، ج 4، ص: 306

وتحمدونه، فقبلكم الملائكة المقربون وحملة العرش ومن يطوف حوله، يسبحون الخالق جلّ وعلا ويحمدونه. وهي من جانب آخر تحذّر الكفار وتقول لهم: إنّ إيمانكم أو عدمه ليس مهماً.

ومن جانب ثالث، في الآية إخبار للمؤمنين بأنّكم لستم وحدكم في هذا العالم- بالرغم من أنّكم أقلية في محيطكم- فأعظم قوّة غيبية في العالم وحملة العرش هم معكم ويساندونكم ويدعون لكم.

في الآية التي تليها استمرار دعاء حملة العرش للمؤمنين. يقول تعالى: «رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدتَّهُمْ».

وأيضاً: «وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرّيَّاتِهِمْ».

لماذا؟ ل «إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

والوعد الإلهي الذي أشارت إليه الآية فهو نفس الوعد الذي ورد مراراً على لسان الأنبياء لعامة الناس.

أمّا تقسيم المؤمنين إلى مجموعتين، فهو في الواقع يكشف عن حقيقة أنّ هناك مجموعة تأتي بالدرجة الاولى، وهي تحاول أن تتبع الأوامر الإلهية بشكل كامل.

أمّا المجموعة الاخرى فهي ليست بدرجة المجموعة الاولى

ولا في مقامها، وإنّما بسبب انتسابها إلى المجموعة الاولى ومحاولتها النسبية في اتباعها سيشملها دعاء الملائكة.

بعد ذلك تذكر الآية الفقرة الرابعة من دعاء الملائكة للمؤمنين: «وَقِهِمُ السَّيَاتِ وَمَن تَقِ السَّيَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ».

ثم ينتهي الدعاء بهذه الجملة ذات المعنى الكبير: «وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».

هل هناك فوز أعظم من أن تغفر ذنوب الإنسان، ويبتعد عنه العذاب لتشمله الرحمة الإلهية ويدخل الجنة الخالدة، وثم يلتحق به أقرباؤه الذين يودّهم؟

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 307

اعترفنا بذنوبنا فهل من خلاص: تحدثت الآيات السابقة عن شمول الرحمة الإلهية للمؤمنين، أمّا مجموعة الآيات التي بين أيدينا فهي تتحدث عن «غضب» اللَّه تعالى على الكافرين، كي يكون بالمستطاع المقارنة بين صورتين ومشهدين متقابلين. في البداية تقول الآية: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ».

من الذي ينادي هؤلاء بهذا النداء؟

يبدو أنّ ملائكة العذاب ينادونهم بهذا النداء لتوبيخهم وفضحهم، في مقابل ما تفعله ملائكة الرحمة من إكرام المؤمنين والصالحين.

«المقت»: تعني في اللغة البغض والعداوة الشديدة. وهذه الآية تبيّن أنّ غضب اللَّه تعالى على الكافرين هو أشدّ من عداوتهم لأنفسهم.

أمّا فيم يتعلّق مقت الكفار لأنفسهم، يتمثل في ارتكاب هؤلاء في الحياة الدنيا لأكبر عداوة إزاء أنفسهم برفضهم لنداء التوحيد، فهل ثمّة عداء للنفس أكثر من أن يغلق الإنسان أمامه أبواب السعادة الأبدية، ويفتح على نفسه أبواب العذاب.

عندما يشاهد المجرمون أوضاع يوم

القيامة وأهوالها، ويرون مشاهد الغضب الإلهي حيالهم، سينتبهون من غفلتهم الطويلة ويفكّرون بطريق للخلاص، فيعترفون بذنوبهم ويقولون: «قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنَ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ».

عندما تزول حجب الغرور والغفلة، وينظر الإنسان بالعين الحقيقية، فلا سبيل عندها سوى الإعتراف بالذنوب.

والمقصود من «أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ» هو الموت في نهاية العمر والموت في نهاية البرزخ؛ أمّا المقصود من «أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنَ» فهي الإحياء في نهاية البرزخ والإحياء في القيامة.

وعلى هذا الأساس فإنّ هناك حياة جسمانية وحياة برزخية، ففي نهاية العمر يحل الموت بحياتنا الجسمانية؛ لكن في نهاية العالم يحل بحياتنا البرزخية.

يترتب على ذلك أن تكون هناك حياتان بعد هذين الموتتين: حياة برزخية، وحياة في يوم القيامة.

من الطبيعي أن يكون الجواب على طلب الكافرين بالعودة إلى هذه الدنيا للتكفير عمّا

مختصر الامثل، ج 4، ص: 308

فاتهم هو الرفض. وهذا الرفض من الوضوح بحيث لم تشر إليه الآيات التي نبحثها، لكن نستطيع أن نعتبر الآية التي بعدها دليلًا على ما نقول، إذ تقول: «ذلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا». فعندما يدور الكلام عن التوحيد والتقوى والأوامر الحقّة تشمئزون وتحزنون، أمّا إذا دار الحديث عن الكفر والنفاق والشرك فستفرحون وتنبسط أساريركم، لذلك ستكون عاقبتكم ما رأيتم.

وفي نهاية الآية، ومن أجل أن لا ييأس هؤلاء المشركون ذوو القلوب المظلمة، تقول الآية إنّ الحاكمية تختص بذات اللَّه سبحانه وتعالى: «فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِىّ الْكَبِيرِ». إذ لا يوجد غيره قاض وحاكم في محكمة الآخرة، ولا يوجد غيره علي وكبير، فلا يستطيع أحد أن يغلبه، ولا يوجد طريق للهروب من حكمه.

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَ يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً وَ مَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ

لَهُ الدِّينَ وَ لَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) ادع اللَّه وحده رغماً على الكافرين: هذه الآيات المتضمنة للنصيحة والتهديد والإنذار، استدلال على المسائل المطروحة في الآيات السابقة، فهي استدلال على التوحيد والربوبية ونفي الشرك وعبادة الأصنام. تقول الآية أوّلًا: «هُوَ الَّذِى يُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ».

ثم توضّح واحدة من هذه الآيات: «وَيُنَزّلُ لَكُم مّنَ السَّمَاءِ رِزْقًا».

قطرات المطر تهب الحياة، ونور الشمس يحيي الكائنات، والهواء سرّ الوجود والحياة؛ حياة جميع الكائنات، حيوانات، نباتات، اناس ... كلّها تنزل من السماء.

وأخيراً تضيف الآية الكريمة: برغم جميع هذه الآيات البينات التي تسود هذا العالم الواسع، وتغمر الوجود بضيائها، إلّاأنّ العيون العمياء والقلوب المحجوبة لا تكاد ترى شيئاً، وإنّما يتذكّر- فقط- من ينيب إلى خالقه ويغسل قلبه وروحه من الذنوب: «وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 309

الآية التي بعدها ترتب نتيجة على ما سبق فتقول: «فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ».

وأخلصوا نيّاتكم: «وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ».

تصف الآية التي تليها خالق الكون ومالك الحياة والموت، وبعض الصفات المهمة، فتقول: «رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ».

فهو رفيع في علمه، وفي قدرته، وفي جميع أوصافه الكمالية والجمالية، هو تعالى رفيع في أوصافه بحيث إنّ عقل الإنسان برغم قابليته واستعداده لا يستطيع أن يدركها.

تضيف الآية بعد ذلك قوله تعالى: «ذُو الْعْرشِ».

فكلّ عالم الوجود تحت حكومته وفي قبضته.

وفي وصف ثالث تضيف الآية أنّه هو تعالى الذي: «يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ». وهذه الروح هي نفس القرآن ومقام النبوة والوحي، حيث تحيي هذه الامور القلوب، وتكون في الانسان كالروح لجسد الإنسان.

والملفت للنظر هنا أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن رزق الأجساد من مطر

ونور وهواء، فيما تتحدث هذه الآيات عن الرزق «الروحي» والمعنوي المتمثل في نزول الوحي.

والآن لنرى ما هو الهدف من إنزال روح القدس على الأنبياء عليهم السلام؟

الإجابة يقدّمها القرآن في نهاية الآية بقوله: «لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ».

إنّه اليوم الذي يلتقي فيه العباد بخالقهم ...

إنّه اليوم الذي يلتقي فيه السابقون باللاحقين ...

إنّه اليوم الذي يجمع على ساحة القيامة بين رموز الحق وقادته، ورموز الباطل وزعامته وأنصاره ...

إنّه يوم لقاء المستضعفين بالمستكبرين ...

إنّه يوم التقاء الظالم والمظلوم ...

هو يوم التقاء الإنسان والملائكة ...

وأخيراً، يوم التلاق، هو يوم التقاء الإنسان مع أعماله وأقواله في محكمة العدل الإلهي.

يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ ءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 310

يوم التلاقي: هذه الآيات والتي تليها، هي توضيح وتفسير (ليوم التلاق) وهو اسم ليوم القيامة. يبيّن تعالى أنّ يوم التلاقي، هو: «يَوْمَ هُم بَارِزُونَ» ... إنّه اليوم الذي تزول فيه جميع الحجب والأستار، ثم تنكشف الأسرار الباطنية والمخفية.

الوصف الثاني لذلك اليوم المهول، هوانكشاف أمر الناس بحيث لا يخفى شي ء منها على اللَّه تعالى: «لَايَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَىْ ءٌ».

بالطبع ... في هذه الحياة لا يخفى من أمر الإنسان شي ء على اللَّه العالم المطلق، ولكن «البروز» في ذلك اليوم يكون مؤكّداً أكثر بحيث إنّ الآخرين سيطّلعون على أسرار بعضهم البعض؛ أمّا بالنسبة للَّه فالمسألة لا تحتاج إلى بحث أو كلام.

الخصوصية الثالثة ليوم التلاقي هو انبساط الحاكمية المطلقة للَّه تعالى، ويظهر ذلك من خلال نفس الآية التي تسأل عن الحكم والملك في ذلك اليوم: «لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ».

يأتي الجواب: «لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ».

إنّ هذا السؤال وجوابه لا يطرحان

من قبل فرد معيّن، بل هو سؤال يطرحه الخالق والمخلوق، الملائكة والإنسان، المؤمن والكافر، تطرحه جميع ذرّات الوجود، وكلّهم يجيبون عليه بلسان حالهم، بمعنى أنّك أينما تنظر تشاهد آثار حاكميته، وأينما تدقق ترى علائم قاهريته واضحة.

الخصوصية الرابعة لذلك اليوم، هو كونه يوم جزاء: «الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ».

أجل، إنّ ظهور وبروز الاحاطة العلمية للَّه تعالى وحاكميته ومالكيته وقهاريته كلّها أدلة واضحة على هذه الحقيقة العظيمة المخيفة من جهة، والمفرحة من جهة اخرى.

أمّا الخصوصية الخامسة لذلك اليوم، فهي ما يختصره قوله تعالى: «لَاظُلْمَ الْيَوْمَ».

وكيف يمكن أن يحصل الظلم، في حين أنّ الظلم إمّا أن يكون عن جهل، واللَّه عزّ وجل قد أحاط بكل شي ء علماً.

وإمّا أن يكون عن عجز، واللَّه عزّ وجل هو القاهر والمالك والحاكم على كل شي ء.

الصفة السادسة والأخيرة ليوم التلاقي، هي سرعة الحساب لأعمال العباد، كما نقرأ ذلك في قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ».

وسرعة الحساب بالنسبة للَّه تعالى تجري كلمح البصر. ورد في الخبر: «أنّه تعالى يحاسب للخلائق كلّهم في مقدار لمح البصر».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 311

وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَ مَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَ اللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْ ءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) يوم تبلغ القلوب الحناجر: هذه الآيات تستمر، كالآيات السابقة، في وصف القيامة.

يقول تعالى: «وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْأَزِفَةِ».

«الآزفة»: باللغة بمعنى (القريب). وإذا نظرنا بتأمّل فسنجد أنّ عمر الدنيا بأجمعه لا يعادل سوى لحظة زائلة حيال يوم القيامة، ولأنّ اللَّه تبارك وتعالى لم يذكر أىّ تاريخ لهذا اليوم المهول، حتى للأنبياء عليهم السلام، لذا يجب الإستعداد

دائماً لاستقبال ذلك اليوم.

الوصف الثاني ليوم الآزفة هو: «إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ» من شدة الخوف.

الصفة الثالثة لذلك اليوم تعبّر عنها الآية ب «كَاظِمِينَ». أي إنّ الهمّ والغمّ سيشمل كل وجودهم، إلّاأنّهم لا يستطيعون إظهار ذلك أو إبداءه.

«كاظم»: مشتقة من «كظم» وهي في الأصل تعني غلق فوهة القربة المملوءة بالماء، ثم أطلقت بعد ذلك على الأشخاص المملوئين غضباً إلّاأنّهم لا يظهرونه لسبب من الأسباب.

الصفة الرابعة ليوم التلاقي هو يوم: «مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ». أي صديق، نعم إنّ تلك المجموعة من الأصدقاء الكذابين التي تحيط بالشخص كذباً وتملّقاً- كما يحيط الذباب بالحلويات- طمعاً في مقامه وقدرته وجاهه وماله.

الصفة الخامسة تقول عنها الآية: «وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ».

ذلك أنّ شفاعة الشفعاء الحقيقيين كالأنبياء والأولياء إنّما تكون بإذن اللَّه تعالى، وعلى هذا الأساس لا مجال لتلك التصورات السقيمة لعبدة الأصنام، الذين كانوا يعتقدون في الحياة الدنيا أنّ أصنامهم ستشفع لهم في حضرة اللَّه جلّ وعلا.

وفي المرحلة السادسة تذكر الآية أحد صفات الخالق جلّ وعلا، والتي تعتبر في نفس الوقت وصفاً لكيفية القيامة، حيث تقول: «يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ».

إنّ اللَّه تبارك وتعالى يعلم الحركات السرية للعيون وما تخفيه الصدور من أسرار، وسيقوم تعالى بالحكم والقضاء العادل عليها.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 312

الآية التي تليها تتحدث عن صفة سابعة للقيامة تتمثل في قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَقْضِى بِالْحَقّ». أمّا غيره: «وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَايَقْضُونَ بِشَىْ ءٍ».

في ذلك اليوم يختص اللَّه وحده بالقضاء، وهو جلّ جلاله لا يقضي إلّابالحق.

وفي الختام وللتأكيد على المطالب المذكورة في الآيات السابقة تضيف الآية: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ».

فهو تعالى سميع وبصير بمعنى الكلمة، أي إنّ كل المسموعات والمبصرات حاضرة عنده، وهذا تأكيد على إحاطته وعلمه بكل شي ء، وقضاوته

بالحق، فإنّه لو لم يكن سميعاً وبصيراً مطلقاً فلا يستطيع أن يقضي بالحق.

أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ آثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) اعتبروا بعاقبة أسلافكم الظالمين: إنّ اسلوب القرآن الكريم في كثير من الآيات أنّه بعد أن يتعرض لكليات القضايا الحساسة والمهمة يمزجها ببعض المسائل الجزئية والمحسوسة ويأخذ بيد الإنسان ليريه الحوادث الماضية والحالية، لذلك فإنّ الآيات التي بين أيدينا تتحدث عن أحوال الامم الظالمة السابقة ومنهم فرعون والفراعنة وما حلّ بهم من جزاء أليم، وتدعوا الناس للاعتبار بمصير اولئك، بعد ما كانت الآيات السابقة قد حدّثتنا عن يوم القيامة وصفاته وطبيعة الحساب الدقيق الذي ينطوي عليه. يقول تعالى: «أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ».

إنّ الذي تحكيه الآيات وتدعونا للاعتبار به ليس تاريخاً مدوّناً نستطيع أن نشكّك في طبيعة الوثائق والنصوص المكوّنة له، فهذه قصور الظالمين الخربة، وها هي عظامهم النخرة التي يطويها التراب، والقصور المدفونة تحت الأرض ... ها هي كلّها تحكي عظة الدرس، وعظيم العبرة، خصوصاً وأنّ القرآن يزيدنا معرفة بهؤلاء فيقول عنهم: «كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَءَاثَارًا فِى الْأَرْضِ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 313

كانوا يملكون السلطات القوية، والجيوش العظيمة، والمدنية الباهرة التي لا يمكن مقايستها بحياة مشركي مكة.

ولكن عاقبة هؤلاء القوم، بكل ما انطوت عليه حياتهم من مظاهر قوّة وحياة ونماء، هي كما يقول تعالى: «فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ».

فلم تنفعهم كثرتهم

ولم تمنعهم أموالهم وقدرتهم وشوكتهم من العذاب الإلهي عندما نزل بساحتهم.

الآية التي بعدها فيها تفصيل لما قيل سابقاً بإيجاز. يقول تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا». فلم يكن الأمر أنّهم كانوا غافلين ولم يعرفوا الأمر، ولم يكن كفرهم وارتكابهم الذنوب بسبب عدم إتمام الحجّة عليهم، فلقد كانت تأتيهم رسلهم تترا، كما يستفاد من قوله تعالى: «كَانَت تَّأْتِيهِمْ» إلّاأنّهم لم يخضعوا للأوامر الإلهية.

وحينئذ: «فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ». وعاقبتهم أشدّ العقاب: «إِنَّهُ قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ».

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَ سُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَ هَامَانَ وَ قَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَ اسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَ مَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَ قَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَ قَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى العاقبة الأليمة للأقوام السابقة، فقد شرعت الآيات التي بين أيدينا بشرح واحدة من هذه الحوادث، من خلال قصة موسى وفرعون، وهامان وقارون. يقول تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بَايَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ».

أرسله تعالى: «إِلَى فِرْعَوْنَ وَهمنَ وَقرُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ».

إنّ «آيات» في الآية التي نحن بصددها تشير إلى «معجزات موسى» بينما يشير «سلطان مبين» إلى منطق موسى عليه السلام القوي وأدلته القاطعة في مقابل الفراعنة.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 314

وبذلك كانت دعوة موسى عليه السلام تستهدف القضاء على الحاكم الظالم، والمخططات الشيطانية لرموز السياسة في حاشية السلطان الظالم، وبتر تجاوزات الأثرياء المستكبرين، وبناء مجتمع جديد يقوم على قواعد العدالة الكاملة في المجالات

السياسية والثقافية والاقتصادية.

الآية التي بعدها تتعرض إلى بعض مخططات هؤلاء الظلمة في مقابل دعوة النبي موسى عليه السلام: «فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْحَقّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ».

وما نستفيده من الآية هو أنّ قضية قتل الأبناء والإبقاء على النساء فقط لم يقتصر- كاسلوب طاغوتي- على الفترة التي سبقت ولادة موسى عليه السلام فحسب، وإنّما تمّ تكرار هذه الممارسة أثناء نبوة موسى عليه السلام.

ويعبّر هذا الاسلوب عن واحدة من الممارسات والخطط المشؤومة الدائمة للقدرات الشيطانية الظالمة التي تستهدف إبادة وتعطيل الصاقات الفعالة، وترك غير الفاعلين للإستفادة منهم في خدمة النظام.

القرآن يجيب: «وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِى ضَللٍ».

لقد قضى اللَّه تعالى بمشيئته أن ينتصر الحق وأهله، وأن يزهق الباطل وأنصاره.

لقد اشتد الصراع بين موسى عليه السلام وأصحابه من جانب، وبين فرعون وأنصاره من جانب آخر. يقول تعالى: «وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ».

نستفيد من الآية أنّ أكثرية مستشاريه أو بعضهم على الأقل كانوا يعارضون قتل موسى، لخوفهم أن يطلب عليه السلام من ربّه نزول العذاب بساحتهم، لما كانوا يرون من معجزاته وأعماله غير العادية.

وقد استدل فرعون على تصميمه في قتل موسى عليه السلام بدليلين، الأوّل ذو طابع ديني ومعنوي، والآخر ذو طابع دنيوي ومادي، فقال في الأوّل، كما يحكي القرآن ذلك: «إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ».

وفي الثاني: «أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الْأَرْضِ الْفَسَادَ».

والآن لنر كيف كان رد فعل موسى عليه السلام والذي يبدو أنّه كان حاضراً في المجلس؟

يقول القرآن في ذلك: «وَقَالَ مُوسَى إِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُم مّن كُلّ مُتَكَبّرٍ لَّايُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 315

ويستفاد من قول موسى عليه السلام أيضاً أنّ من تحلّ فيه صفتا «التكبر» و «عدم الإيمان بيوم

الحساب» فهو إنسان خطر، علينا أن نستعيذ باللَّه من شرّه وكيده.

وَ قَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَ قَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَ إِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَ مَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) أتقتلون رجلًا أن يقول ربّي اللَّه: مع هذه الآيات تبدأ مرحلة جديدة من تاريخ موسى عليه السلام وفرعون، لم تطرح في أيّ مكان آخر من القرآن الكريم. المرحلة التي نقصدها هنا تتمثل بقصة «مؤمن آل فرعون» الذي كان من المقربين إلى فرعون، ولكنه اعتنق دعوة موسى التوحيدية من دون أن يفصح عن إيمانه الجديد هذا، وإنّما تكتم عليه واعتبر نفسه- من موقعه في بلاط فرعون- مكلفاً بحماية موسى عليه السلام من أيّ خطر يمكن أن يتهدد من فرعون أو من جلاوزته.

فعندما شاهد أنّ حياة موسى في خطر بسبب غضب فرعون، بادر باسلوبه المؤثّر للقضاء على هذا المخطط. يقول تعالى: «وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبّىَ اللَّهُ». أتقتلوه في حين أنّه: «وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيّنَاتِ مِن رَّبّكُمْ».

ثم إنّ للقضية بعد ذلك جانبين: «وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ».

ثم تضيف الآيات: «إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ».

فإذا كان موسى سائراً في طريق الكذب والتجاوز فسوف لن تشمله الهداية الإلهية، وإذا كنتم أنتم كذلك فستحرمون من هدايته.

ولم يكتف «مؤمن آل فرعون»

بهذا القدر، وإنّما استمرّ يحاول معهم بلينٍ وحكمة، حيث

مختصر الامثل، ج 4، ص: 316

قال لهم- كما يحكي ذلك القرآن-: أنّ بيدكم حكومة مصر الواسعة مع خيراتها ونعيمها فلا تكفروا بهذه النعم فيصيبكم العذاب الالهي. «يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِى الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَاءَنَا». ويظهر أنّ هذا الكلام أثّر في حاشية فرعون وبطانته، فقلّل من غضبهم وغيظهم، لكن فرعون لم يسكت ولم يقتنع، فقطع الكلام بالقول: «قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى .

وهو إنّي أرى من المصلحة قتل موسى ولا حلّ لهذه المشكلة سوى هذا الحل.

ثم إنّني: «وَ مَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ».

وهذه هو حال كافة الطواغيت والجبارين على طول التاريخ، فهم يعتبرون كلامهم الحق دون غيره.

وَ قَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَ عَادٍ وَ ثَمُودَ وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ (31) وَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) التحذير من العاقبة: كان الشعب المصري آنذاك يمتاز نسبياً بمواصفات التمدّن والثقافة، وقد اطّلع على أقوال المؤرخين بشأن الأقوام السابقة، أمثال قوم نوح وعاد وثمود الذين لم تكن أرضهم تبعد عنهم كثيراً، وكانوا على علم بما آل إليه مصيرهم. لذلك كلّه فكّر مؤمن آل فرعون بتوجيه أنظار هؤلاء إلى أحداث التاريخ وأخذ يحذّرهم من تكرار العواقب الأليمة التي نزلت بغيرهم، عساهم أن يتيقظوا ويتجنّبوا قتل موسى عليه السلام. يقول القرآن الكريم حكاية على لسانه: «وَقَالَ الَّذِى ءَامَنَ يقَوْمِ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُم مّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ».

ثم

أوضح مراده من هذا الكلام بأنّني خائف عليكم عن العادات والتقاليد السيئة التي كانت متفشّية في الأقوام السالفة: «مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ».

هل عندكم ضمان بأنّكم لستم مثل أولئك؛ أو أنّ العقوبات الإلهية لا تشملكم؛ ترى ماذا عمل اولئك حتى أصابهم ما أصابهم، لقد اعترضوا على دعوة الأنبياء الإلهيين، وفي بعض الأحيان عمدوا إلى قتلهم ... لذلك كلّه فإنّي أخاف عليكم مثل هذا المصير المؤلم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 317

ولكن ينبغي أن تعلموا أنّ ما سيصيبكم ويقع بساحتكم هو من عند أنفسكم وبما جنت أيديكم: «وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ».

ثم تضيف الآية على لسانه: «وَيَا قَوْمِ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ». أي يوم تطلبون العون من بعضكم البعض، إلّاأصواتكم لا تصل إلى أيّ مكان.

«التناد»: مأخوذة أصلًا من كلمة «ندا» وتعني «المناداة» والمشهور بين المفسرين أنّ (يوم التناد) هو من أسماء يوم القيامة. يعني (يوم مناداة البعض للبعض الآخر). وهذا المعنى يعبّر عن ضعف الإنسان وعجزه عندما تنزل به المحن وتحيطه المصاعب والملمّات، وينقطع عنه العون وأسباب المساعدة، فيبدأ بالصراخ ولكن بغير نتيجة.

وفي عالمنا هذا ثمّة أمثلة عديدة على «يوم التناد» مثل الأيام التي ينزل فيها العذاب الإلهي، أو الأيام التي يصل فيها المجتمع إلى طريق مسدود لكثرة ما إرتكب من ذنوب وخطايا، وقد نستطيع أن نتصور صوراً اخرى عن يوم التناد في حياتنا من خلال الحالات التي يمرّ بها الناس بالمشاكل والصعاب المختلفة حيث يصرخ الجميع عندها طالبين للحلّ والنجاة.

الآية التالية تفسّر يوم التناد بقولها: «يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ».

ومثل هؤلاء حق عليهم القول: «وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ». إنّ هؤلاء الذين ضلّوا في الحياة الدنيا

بابتعادهم عن سبل الرشاد والهداية وتنكّبهم عن الطريق المستقيم، سيظلّون في الآخرة عن الجنة والرضوان والنعم الإلهية الكبرى.

وَ لَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) عجز المتكبرين عن الإدراك الصحيح: هذا المقطع من الآيات الكريمة يستمر في عرض كلام مؤمن آل فرعون، ومن خلال نظرة فاحصة في سياق الآيات، يظهر أنّ مؤمن آل فرعون طرح كلامه في خمسة مقاطع.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 318

المقطع الأوّل: راعى فيه مؤمن آل فرعون الإحتياط، ودعا القوم إلى الحذر من الأضرار المحتملة.

المقطع الثاني: وفيه وجّه مؤمن آل فرعون الدعوة إلى التأمل بما حلّ بالأقوام السابقة.

المقطع الثالث: كامن في الآيات القرآنية التي بين أيدينا، إذ تذكّرهم الآيات- من خلال خطاب مؤمن آل فرعون- بجزء من تأريخهم، هذا التاريخ الذي لا يبعد كثيراً عنهم، ولم تُمح بعد أواصر الإرتباط الذهني والتاريخي فيما بينهم وبينه؛ وهذا الجزء يتمثّل في نبوّة يوسف عليه السلام، الذي يعتبر أحد أجداد موسى، حيث يبدأ قصة التذكير معهم بقوله تعالى:

«وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيّنَاتِ». وبالدلائل الواضحة لهدايتكم ولكنّكم: «فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ».

وشكّكم هنا ليس بسبب صعوبة دعوته أو عدم اشتمالها على الأدلة والعلائم الكافية، بل بسبب غروركم حيث أظهرتم الشك والتردد فيها.

ولأجل أن تتنصلوا من المسؤولية، وتعطوا لأنفسكم الذرائع والمبررات، قلتم: «حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا».

بناء على ذلك كلّه لم

تشملكم الهداية الإلهية بسبب أعمالكم ومواقفكم: «كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ».

لقد سلكتم سبيل الإسراف والتعدّي على حدود اللَّه تعالى كما قمتم بالتشكيك في كل شي ء، حتى غدا ذلك كلّه سبباً لحرمانكم من اللطف الإلهي في الهداية، فسدرتم في وادي الضلال والغي، كي تنتظركم عاقبة هذا الطريق الغاوي.

الآية التي تليها تعرّف «المسرف المرتاب» بقول اللَّه تبارك وتعالى: «الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى ءَايَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ».

وللكشف عن قبح هذه المواقف عند اللَّه وعند الذين آمنوا، تقول الآية: «كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ ءَامَنُوا».

ذلك لأنّ الجدال بالباطل (الجدال السلبي) واتخاذ المواقف ضدّ الوقائع والآيات القائمة على أساس الدليل المنطقي، يعتبر أساساً لضلال المجادلين وتنكّبهم عن جادة الهداية والصواب، وكذلك في اغواء الآخرين.

في النهاية، وبسبب عدم تسليم هؤلاء أمام الحق، تقرّر الآية قوله تعالى: «كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 319

إنّ العناد في مقابل الحق يشكّل ستاراً مظلماً حول فكر الإنسان، ويسلب منه قابليته على التشخيص الهادي الصحيح.

وَ قَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلهِ مُوسَى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً وَ كَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَ صُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَ مَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) أريد أن أطّلع إلى إله موسى: بالرغم من النجاح الذي أحرزه مؤمن آل فرعون في إثناء عزم فرعون عن قتل الكليم عليه السلام، إلّاأنّه لم يستطع أن يثنيه عن غروره وتكبّره وتعاليه إزاء الحق. يقول تعالى في وصف هذا الموقف: «وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا همنُ ابْنِ لِى صَرْحًا لَّعَلّى أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ». أي لعلي أحصل على وسائل وتجهيزات توصلني إلى السماوات.

«أَسْبَابَ السَّموَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلهِ مُوسَى

وَإِنّى لَأَظُنُّهُ كذِبًا».

ولكن ماذا كانت النتيجة؟! «وَكَذلِكَ زُيّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِى تَبَابٍ».

«الصرح»: في الأصل تعني الوضوح؛ و «التصريح»: بمعنى التوضيح، ثم عُمّم معنى الكلمة على الأبنية المرتفعة والقصور الجميلة العالية؛ و «تباب»: تعني الخسارة والهلاك.

فمن خلال عملية التأمّل والتمحيص، يمكن أن تنتهي إلى ثلاثة أهداف كانت تكمن وراء هذا التصرف. والأهداف هذه هي:

أوّلًا: أراد فرعون أن يختلق وضعاً يعمد من خلاله إلى إلهاء الناس وصرف أذهانهم عن قضية نبوّة موسى عليه السلام وثورة بني إسرائيل.

ثانياً: استهدف فرعون من خلال تنفيذ مشروع الصرح اشتغال أكبر قطّاع من الناس، وعلى الأخص العاطلين منهم، لكي يجد هؤلاء في هذا الشغل عزاءً- ولو مؤقتاً- عن مظالم فرعون وينسون جرائمه وظلمه، ومن ناحية ثانية فإنّ اشتغال مثل هذا العدد الكثير يؤدّي إلى إرتباطهم بخزانة فرعون وأمواله، وبالتالي إرتباطهم بنظامه وسياساته.

ثالثاً: لقد كان من خطة فرعون بعد انتهاء بناء الصرح، أن يصعد إلى أعلى نقطة فيه، ويرمق السماء ببصره، أو يرمي سهماً نحو السماء، ويرجع إلى الناس فيقول لهم: لقد انتهى كل

مختصر الامثل، ج 4، ص: 320

مختصر الامثل ج 4 349

شي ء بالنسبة لإله موسى، والآن انصرفوا إلى أعمالكم براحة بال.

طبعاً، يمكن للخطط السياسية والمواقف المضلّلة أن تخدع الناس شطراً من الزمان، وتؤثّر فيهم لفترة من الوقت، إلّاأنّها تنتهي بالفشل على المدى البعيد.

وَ قَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَ إِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) اتّبعوني

أهدكم سبيل الرشاد: أشرنا آنفاً إلى أنّ مؤمن آل فرعون أوضح كلامه في مجموعة من المقاطع، وفي هذه المجموعة من الآيات الكريمة نقف على المقطع الرابع بعد أن أشرنا في الآيات السابقة إلى ثلاثة منها.

إنّ هذا المقطع من كلام مؤمن آل فرعون ينصبّ في مضمونه على إلفات نظر القوم إلى الحياة الدنيوية الزائلة، وقضية المعاد والحشر والنشر، إذ إنّ تركيز هذه القضايا في حياة الناس له تأثير جذري في تربيتهم.

يقول تعالى: «وَقَالَ الَّذِى ءَامَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ».

ثم تضيف الآية: «يَا قَوْمِ إِنَّمَا هذِهِ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْأَخِرَةَ هِىَ دَارُ الْقَرَارِ».

إنّ القضية ليست فناء هذه الدنيا وبقاء الآخرة وحسب، بل الأهم من ذلك هي قضية الحساب والجزاء، حيث يقول تعالى: «مَنْ عَمِلَ سَيّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ».

إنّ مؤمن آل فرعون- بكلامه هذا أثار أوّلًا قضية عدالة اللَّه تبارك وتعالى، حيث يقاضي الإنسان بما اكتسبت يداه خيراً أو شرّاً.

و من جهة ثانية أشار في كلامه إلى الثواب والفضل الإلهي لذوي العمل الصالح.

ومن جهة ثالثة أشار للتلازم القائم بين الإيمان والعمل الصالح.

ورابعة يشير أيضاً إلى مساواة الرجل والمرأة في محضر اللَّه تبارك وتعالى، وفي القيم الإنسانية.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 321

لقد استخلص مؤمن آل فرعون من خلال طرحه الآنف الذكر في أنّ الحياة الدنيا وإن كانت متاعاً لا يغني شيئاً عن الحياة الاخرى، إلّاأنّه يمكن أن يكون وسيلة للجزاء اللامتناهي والعطايا التي تصدر عن المطلق جلّ وعلا.

إنّ عبارة «مثلها» تشير إلى أنّ العقاب في العالم الآخر يشبه نفس العمل الذي قام به الإنسان في هذه الدنيا.

وَ يَا قَوْمِ مَا

لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَ تَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ أُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَ لَا فِي الْآخِرَةِ وَ أَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَ أَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَ حَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَ عَشِيّاً وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) الكلام الأخير: في خامس وآخر- مرحلة يزيل مؤمن آل فرعون الحجب والأستار عن هويته، إذ لم يستطع التكتم ممّا فعل، فقد قال كل ما هو ضروري، أمّا القوم من ملإ فرعون، فكان لهم- كما سنرى ذلك- قرارهم الخطير بشأنه.

يفهم من خلال القرائن أنّ اولئك المعاندين والمغرورين لم يسكتوا حيال كلام هذا الرجل الشجاع المؤمن، وإنّما قاموا بطرح «مزايا» الشرك في مقابل كلامه، ودعوه كذلك إلى عبادة الأصنام. لذا فقد صرخ قائلًا: «وَيَا قَوْمِ مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَوةِ وَتَدْعُونَنِى إِلَى النَّارِ».

نعم، إنّكم: «تَدْعُونَنِى لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ».

لقد ذكّرهم مؤمن آل فرعون من خلال مقارنة واضحة أنّ دعوتهم إلى الشرك لا تستند على دليل صحيح.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 322

إنّ عبارة (العزيز) و (الغفار) تشير من جانب إلى مبدأ (الخوف والرجاء) ومن جانب ثانٍ تشير إلى إلغاء الوهية الأصنام والفراعنة، حيث لا يملكون العزّة ولا العفو.

ينتقل الخطاب القرآني- على لسان مؤمن آل فرعون- إلى قوله تعالى: «لَاجَرَمَ أَنَمَّا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ

دَعْوَةٌ فِى الدُّنْيَا وَلَا فِى الْأَخِرَةِ».

إنّ هذه الموجودات لا تملك الحس والشعور، إنّها أصنام لا تتكلم ولا تضر ولا تنفع، وإنّ عليكم أن تعلموا: «وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ». فهو سبحانه وتعالى الذي أرسل رسله إلى الناس لأجل هدايتهم، وهو الذي يثيبهم ويعاقبهم على أعمالهم.

ويجب أن تعلموا أيضاً: «وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ».

وهكذا كشف مؤمن آل فرعون ما كان يخفي من إيمانه، وبذلك فقد انكشف هنا خطّه الإيماني التوحيدي، وانفصل علناً عن خط الشرك الملوّث.

في آخر كلامه- وبتهديد ذي مغزى- يقول لهم: «فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ».

إنّ ما قلته لكم ستذكرونه في الدنيا والآخرة، وستعلمون صدقي عندما تصيبكم المصائب، وينزل بساحتكم الغضب الإلهي، لكن سيكون ذلك كلّه بعد فوات الأوان، فإن كان في الآخرة فلا طريق للرجوع، وإن كان في الدنيا فهو لا يتمّ إلّاحين يحلّ بكم العذاب الإلهي، وعندها ستغلق جميع أبواب التوبة.

ثم تضيف الآية على لسان الرجل المؤمن: «وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ».

لهذا كلّه لا أخشى تهديداتكم.

اللَّه تبارك وتعالى لم يترك عبده المؤمن المجاهد وحيداً وإنّما: «فَوَقهُ اللَّهُ سَيَاتِ مَا مَكَرُوا».

أمّا القوم الظالمون فقد كان مصيرهم ما يرسمه لنا القرآن الكريم: «وَحَاقَ بَالِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ».

إنّ العذاب والعقاب الإلهي أليم بمجمله، إلّاأنّ تعبير «سوء العذاب» يظهر أنّ اللَّه تبارك وتعالى انتخب لهم عذاباً أشدّ إيلاماً من غيره، وهو ما تشير إليه الآية التي بعدها، حيث قوله تعالى: «النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا». ثم: «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 323

وهنا نلفت النظر إلى الملاحظتان الآتيتان:

أوّلًا: تقول الآية: إنّهم يعرضون على النار صباحاً ومساءً، ثم تقول: في يوم القيامة يكون العذاب أشد ما يمكن، وهذا دليل على أنّ

العذاب الأوّل يختص بعالم البرزخ، وهو ممّا يلي موت الإنسان ومغادرة روحه جسده، ويقع قبل يوم القيامة، إنّ العرض على نار جهنم يهزّ الانسان ويجعله يرتعد خوفاً وهلعاً.

ثانياً: إنّ تعبير ب (الغدو) و (العشي) قد تكون فيه إشارة إلى استمرار العذاب. أو قد يفيد انقطاع العذاب البرزخي ليقتصر على (الغدو) و (العشي) أي الصبح والمساء، وهو الوقت الذي يقترن في حياة الفراعنة وأصحابهم مع أوقات لهوهم واستعراضهم لقوّتهم وجبروتهم في حياتهم الدنيا.

وَ إِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَ قَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَ وَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَ مَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) نقاش الضعفاء والمستكبرين في جهنم: لقد لفت مؤمن آل فرعون في نهاية كلامه نظر القوم إلى القيامة والعذاب وجهنم، لذلك جاءت هذه المجموعة من الآيات الكريمة وهي تقف بشكل رائع دقيق على تحاجج وتخاصم أهل النار فيما بينهم، وبالذات تحاجج المتستضعفين مع المستكبرين. يقول تعالى: «وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِى النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفؤُا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مّنَ النَّارِ».

المراد من «الضعفاء» هنا هم اولئك الذين يفتقدون العلم الكافي والإستقلال الفكري، إذ كان هؤلاء يتبعون زعماء الكفر الذي يطلق عليهم القرآن اسم المستكبرين، وكانت التبعية مجرد انقياد أعمى بلا تفكير أو وعي.

وهؤلاء الأتباع يلجأون إليهم كي يتحملوا عنهم قسطاً من العذاب؟

مختصر الامثل، ج 4، ص: 324

وهي نوع من السخرية والإستهزاء واللوم، يوم

يثبت أنّ كل ادعاءات المستكبرين مجرد تقوّلات زائفة عارية عن المضمون والحقيقة.

إنّ المستكبرين لم يسكتوا على هذا الكلام وذكروا جواباً يدل على ضعفهم الكامل وذلّتهم في ذلك الموقف المهول، إذ يحكي القرآن على لسانهم قولهم: «قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ».

وعندما تغلق في وجههم السبل، سبل النجاة والخلاص، يتوجّه الجميع إلى خزنة النار:

«وَقَالَ الَّذِينَ فِى النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفّفْ عَنَّا يَوْمًا مّنَ الْعَذَابِ» «1».

إنّهم يعلمون أنّ العذاب الإلهي لا يرتفع، لذلك يطلبون أن يتوقف عنهم ولو ليوم واحد كي يرتاحوا قليلًا ... إنّهم قانعون بهذا المقدار!

لكن إجابة الخزنة تأتي منطقية واضحة: «قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيّنَاتِ».

وفي الجواب: «قَالُوا بَلَى .

فيستطرد الخزنة: «قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعؤُا الْكَافِرِينَ إِلَّا فِى ضَللٍ».

إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَ أَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَ ذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكَارِ (55) الوعد بنصر المؤمنين: بعد أن تحدثت الآيات التي سبقتها عن مؤمن آل فرعون، عادت هذه المجموعة من الآيات البينات تتحدث عن شمول الحماية والنصر الإلهي لأنبياء اللَّه ورسله وللذين آمنوا في هذه الدنيا وفي الآخرة.

إنّها تتحدث عن قانون عام تنطق بمضمونه الآية الكريمة: «إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهدُ».

إنّها الحماية المؤكّدة بأنواع التأكيد، والتي لا ترتبط بقيد أو شرط، والتي يستتبعها الفوز

______________________________

(1) «خزنة»: جمع خازن، وتعني الحارس.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 325

والنصر، النصر في

المنطق والبيان؛ وفي الحرب والميدان؛ وفي إرسال العذاب الإلهي على القوم الظالمين، وفي الإمداد الغيبي الذي يقوي القلوب ويشدّ الأرواح ويجذبها إلى بارئها جلّ وعلا.

«أشهاد»: جمع «شاهد» أو «شهيد» وهي تعني الذي يشهد على شي ء ما. والمقصود بالأشهاد، هم الملائكة والأنبياء والمؤمنون الذين يشهدون على أعمال الناس.

إنّ يوم الأشهاد يوم افتضاح الكافرين وسوء عاقبة الظالمين، هو: «يَوْمَ لَايَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ».

تنتقل الآيات الكريمة بعد ذلك للحديث عن أحد الموارد التي إنتصر فيها الرسل نتيجة الحماية الإلهية والدعم الرباني لهم، فتتحدث عن النبي الكليم عليه السلام: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ الْكِتَابَ».

إنّ هداية اللَّه لموسى تنطوي على معاني واسعة، إذ تشمل مقام النبوّة والوحي، والكتاب السماوي (التوراة) والمعاجز التي وقعت على يديه عليه السلام أثناء تنفيذه لرسالات ربّه وتبليغه إيّاها.

الآية التي بعدها تضيف: «هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِى الْأَلْببِ».

الفرق بين «الهداية» و «الذكرى» أنّ الهداية تكون في مطلع العمل وبدايته، أمّا التذكير فهو يشمل تنبيه الإنسان بامور سمعها مسبقاً وآمن بها لكنّه نسيها.

وبعبارة اخرى: إنّ الكتب السماوية تعتبر مشاعل هداية ونور في بداية انطلاقة الإنسان، وترافقه في أشواط حياته تبثّ من نورها وهداها عليه.

ولكن الذي يستفيد من مشاعل الهدى هذه هم «أولوا الألباب» وأصحاب العقل، وليس الجهلة والمعاندون المتعصّبون.

الآية الأخيرة- من المقطع الذي بين أيدينا- تنطوي على وصايا وتعليمات مهمة للرسول صلى الله عليه و آله وهي في واقعها تعليمات عامة للجميع، بالرغم من أنّ المخاطب بها هو شخص الرسول الكريم صلى الله عليه و آله. يقول تعالى: «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ».

عليك أن تصبر على عناد القوم ولجاجة الأعداء.

عليك أن تصبر حيال جهل بعض الأصدقاء والمعارف، وتتحمل أحياناً أذاهم وتخاذلهم.

وعليك أيضاً

أن تصبر إزاء العواطف النفسية.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 326

إنّ جميع انتصارات الرسول صلى الله عليه و آله والمسلمين الأوائل إنّما تمّت بفضل الصبر والإستقامة، واليوم لابدّ أن نسير على خطى رسول اللَّه ونصبر كما صبر الرسول وأصحابه إذ لولاه لما حالفنا النصر مقابل أعدائنا الألداء.

الفقرة الاخرى من التعليمات الربانية تقول: «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ».

واضح أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله معصوم لم يرتكب ذنباً ولا معصية، لكنّا قد أشرنا في غير هذا المكان إلى أنّ أمثال هذه التعابير في القرآن الكريم، والتي تشمل في خطابها الرسول الأكرم وسائر الأنبياء، إنّما تشمل ما نستطيع تسميته ب «الذنوب النسبية» لأنّ الغفلة- مثلًا- لا تليق بمقامهم، ولو للحظة واحدة، إذ إنّ منزلتهم الرفيعة ومعرفتهم العالية تستوجب أن يحذروا هذه الامور ويستغفروا منها متى ما صدرت عنهم.

الفقرة الأخيرة في الآية الكريمة تقول: «وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ بِالْعَشِىّ وَالْإِبْكَارِ».

«العشي»: فترة ما بعد الظهر إلى قبل غروب الشمس؛ أمّا «الإبكار»: فهو ما بين الطلوعين.

إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَ مَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَ الْبَصِيرُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَ لَا الْمُسِي ءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) ما يستوي الأعمى والبصير: دعت الآيات السابقة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى الصبر والإستقامة أمام المعارضين وأكاذيبهم ومخططاتهم الشيطانية، والآيات التي نحن بصددهاتذكر سبب مجادلتهم للحق. يقول تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى ءَايَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ

سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ».

«المجادلة»: تعني العناد في الكلام وإطالته بأحاديث غير منطقية، وإن كانت تشمل

مختصر الامثل، ج 4، ص: 327

أحياناً في معناها الواسع الحق والباطل.

أمّا «آتاهم» فهي إشارة إلى الأدلة والبراهين التي أوحى اللَّه بها إلى أنبيائه عليهم السلام.

أمّا المقصود ب «آيات اللَّه» التي كانوا يجادلون فيها، فهي معجزات وآيات القرآن والأحاديث المختصة بالمبدأ والمعاد، حيث كانوا يعتبرونها سحراً، أو أنّها علامات الجنون، أو أساطير الأوّلين.

من ذلك يتبيّن أن ليس لهؤلاء من دليل حي ومنطقي في المجادلة سوى التعالي والغرور والتكبر عن الإنصياع إلى الحق.

ثم تضيف الآية: «مَّا هُم بِبَالِغِيهِ».

إنّ هدفهم أن يروا أنفسهم كباراً، يفاخرون بذلك ويفتخرون على غيرهم، لكنّهم لن يحصدوا سوى الذلة والخسران.

في نهاية الآية تعليمات قيمة لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله بأن يستعيذ باللَّه من شرّ هؤلاء المتكبرين المغرورين الذين لا منطق لهم، حيث يقول تعالى: «فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ».

فهو- تعالى- يسمع أحاديثهم الباطلة الواهية، وينظر إلى مؤامراتهم وأعمالهم القبيحة وخططهم الشريرة.

إنّ قضية المعاد وعودة الروح للإنسان بعد موته، تعتبر من أكثر القضايا التي يجادل فيها الكفار، ويعاندون بها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لذلك تنتقل الآية التالية إلى التذكير بهذه القضية، وإعادة طرحها وفق منطق قرآني آخر، إذ يقول تعالى: «لَخَلْقُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ».

إنّ خالق هذه المجرّات العظيمة ومدبّرها يستطيع- بطريق أولى أن يحيي الموتى، وإلّا كيف يتّسق القول بخلقه السماوات والأرض وعجزه من إعادة الإنسان إلى الحياة بعد الموت؟

لقد تضمّنت الآية الكريمة سبباً آخر من أسباب المجادلة متمثلًا ب «الجهل» في حين طرحت الآيات السابقة عامل «الكبر». والعاملان يرتبطان مع بعضهما، لأنّ أصل

وأساس «الكبر» هو «الجهل» وعدم معرفة الإنسان لحدوده وقدره، ولعدم تقديره لحجم علمه ومعرفته.

الآية التي بعدها، وفي إطار مقارنة واضحة تكشف عن الفرق بين حال المتكبرين الجهلة

مختصر الامثل، ج 4، ص: 328

وبين المؤمنين الواعين، حيث تقول: «وَمَا يَسْتَوِى الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِى ءُ». إلّا أنّكم بسبب جهلكم وتكبّركم: «قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ».

إنّ المبصرين يرون صغر أنفسهم إزاء عظمة العالم المحيط بهم، وبذلك فهم يعرفون قدر أنفسهم ومعرفتهم وموقعهم، إلّاأنّ الأعمى لا يدرك موقعه أو حجمه في الزمان والمكان وفي عموم الوجود المحيط به، لذلك فهو يخطى ء دائماً في تقييم أبعاد وجوده، ويصاب بالكبر والغرور والوهم الذي يدفعه إلى ما هو قبيح وسيّ ء.

الآية الأخيرة في المجموعة القرآنية التي بين أيدينا تتعرّض إلى وقوع القيامة وقيام الساعة حيث يقول تعالى: «إِنَّ السَّاعَةَ لَأَتِيَةٌ لَّارَيْبَ فِيهَا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايُؤْمِنُونَ».

أمّا سبب القول: ب «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايُؤْمِنُونَ» فلا يعود إلى أنّ قيام القيامة من القضايا المجهولة والمبهمة، بل ثمّة ميل في الإنسان نحو «الحرية» في الاستفادة غير المشروطة أو المقيدة من ملذّات الدنيا وشهواتها، بالإضافة إلى الأمل الطويل العريض الذي يلازم الإنسان فينساق مع الحياة، ويغفل عن التفكير بالقيامة، أو الإستعداد لها.

وَ قَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ النَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) ادعوني أستجب لكم: لقد تضمّنت الآيات السابقة ألوان الوعيد والتهديد لغير المؤمنين من المتكبرين والمغرورين، المجموعة التي

بين أيدينا من الآيات الكريمة تفيض حبّاً إلهيّاً ولطفاً، وتنبجس بالرحمة الشاملة للتائبين. يقول تعالى: «وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ».

الدعاء في نفسه نوع من العبادة، لأنّ الآية أطلقت في نهايتها صفة العبادة على الدعاء.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 329

تتضمّن الآية في نهايتها تهديداً قويّاً للذين يستنكفون عن الدعاء، حيث يقول تعالى:

«إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ» «1».

في الكافي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: «إنّ عند اللَّه عزّ وجل منزلة لا تنال إلّابمسألة، ولو أنّ عبداً سدّ فاه ولم يسأل لم يعط شيئاً فسل تعط يا ميسر إنّه ليس من باب يقرع إلّايوشك أن يفتح لصاحبه».

فبما أنّ الدعاء وطلب الحوائج من اللَّه تعالى يعتبر فرعاً لمعرفته، لذا تتحدث الآية التي تليها عن حقائق تؤدّي إلى ارتقاء مستوى المعرفة لدى الإنسان، وتزيد شرطاً جديداً لإجابة الدعاء، متمثلًا بالأمل في الإجابة، بل وانتظار تنجز الحاجة وتمامها. يقول تعالى:

«اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ».

إنّ ظلمة الليل وهدوءه وسكونه يعتبر- من جانب- سبباً قهرياً لتعطيل الحركة اليومية لعمل الإنسان السوي ونشاطه، ومن ناحية اخرى تمحو عن الإنسان تعب النهار، وتدفعه إلى الإستقرار والرأفة لجسده وأعصابه، في حين يعتبر النور والنهار أساس الحياة والحركة.

لذلك يضيف تعالى: «وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا».

ثم تضيف الآية: «إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَشْكُرُونَ».

إنّ طبع الإنسان الجاهل هو كفران النعم وترك الشكر، كما نقرأ ذلك في الآية (34) من سورة إبراهيم، في قوله تعالى: «إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ».

الآية التي تليها تبدأ من توحيد الربوبية وتنتهي بتوحيد الخالقية والربوبية. فتقول أوّلًا:

«ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ». ومربيكم الذي من صفاته أنّه: «خَالِقُ كُلّ شَىْ ءٍ».

ولا معبود إلّااللَّه: «لَّاإِلهَ إِلَّا هُوَ».

في الواقع إنّ وجود كل هذه النعم

دليل على الربوبية والتدبير، وخالق كل شي ء عنوان لصفة التوحيد في الربوبية، لأنّ الخالق هو المالك والمربي. ومن المعلوم أنّ الخلق يستدعي الرعاية الدائمة لأنّ الخالقية لا تعني أنّ اللَّه يخلق الخلق ويتركها وشأنها، بل لابدّ وأن يكون الفيض الإلهي مستمراً في كل لحظة على جميع الموجودات. ولذلك فهذه الخالقية لا تنفصل عن الربوبية.

______________________________

(1) «داخر»: من «دخور» وتعني الذلة، وهذه الذلة هي عقوبة ذلك التكبّر والإستعلاء.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 330

وتتساءل الآية في نهايتها: كيف يسوّغ الإنسان لنفسه الإنحراف والتنكّب عن الجادة المستقيمة؟ فيقول تعالى: «فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ».

والملاحظ أنّ «تؤفكون» صيغة مجهول، بمعنى أنّها تحرفكم عن طريق الحق، وكأنّ المراد هو أنّ المشركين فاقدون للإرادة إلى درجة أنّهم يساقون في هذا المسير دون أيّ نسبة من الحرية والإرادة والإختيار في هذا المجال!

الآية الأخيرة- من مجموعة الآيات التي نبحثها- تأتي وكأنّها تأكيد لمواضيع الآيات السابقة، فيقول تعالى: «كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بَايَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ».

«يجحدون»: مشتقة من مادة «جحد» وهي في الأصل تعني إنكار الشي ء الموجود في القلب والنفس. بمعنى أنّ الإنسان يقر في نفسه وقلبه بعقيدة أو بشي ء ما، وفي نفس الوقت ينفيه ويتظاهر بعكسه أو يعتقد بعدمه في نفسه ويثبته في لسانه.

ويطلق وصف الجحود على البخلاء والذين لا يؤمّل منهم الخير ويتظاهرون بالفقر دائماً.

بعض علماء اللغة أوجز في تفسير «جحد» و «جحود» بقولهم: الجحود الإنكار مع العلم.

وبناءً على ما تقدّم فإنّ الجحود يتضمّن في داخله نوعاً من معاني العناد في مقابل الحق.

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَ السَّمَاءَ بِنَاءً وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ

لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِي الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَ أُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) ذلكم اللَّه ربّكم: تستمر هذه المجموعة من الآيات الكريمة بذكر المواهب الإلهية العظيمة وشمولها للعباد، كي تهب لهم المعرفة، وتُربّي في نفوسهم الأمل بالدعاء والتسليم وطلب الحوائج من اللَّه تعالى.

والطريف في الأمر هنا أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن «النعم الزمانية» من ليل ونهار، بينما تتحدث هذه المجموعة عن «النعم المكانية» أي الأرض المستقرة، والسقف المرفوع (السماء) حيث تقول: «اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 331

إنّه المكان الخالي من المعوّقات الصعبة، متناسق في تشكيلته مع تكوين الإنسان الروحي والجسدي، حيث تتوفر في الأرض المصادر المختلفة للحياة والوسائل المتنوعة والمجانية التي يحتاجها لمعيشته.

ثم تضيف الآية: «وَالسَّمَاءَ بِنَاءً». أي كالسقف والقبة فوقكم.

والمقصود بالسماء هنا الغلاف الجوي الذي يحيط بالأرض.

ثم ينتقل الحديث من آيات الآفاق إلى آيات الأنفس، فيقول تعالى: «وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ».

لقد ذهب بعض المفسرين في تفسير: «وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ» إلى معنى أوسع من الصورة والشكل الظاهري والتكوين الداخلي، فقال: إنّ المعنى يتضمّن كل الإستعدادات والأذواق التي خلقها اللَّه في الإنسان وأودعها فيه، ففضّله بها على كثير ممن خلق.

وفي آخر الحديث عن سلسلة هذه العطايا والمواهب الإلهية، تتحدث الآية عن النعمة الرابعة، وهي الرزق الطيّب بقوله تعالى: «وَرَزَقَكُم مّنَ الطَّيّبَاتِ».

«الطيبات» تشتمل على معنى وسيع جدّاً، وهي تشمل الجيّد من الطعام واللباس والزوجة والمسكن والدواب، وهي أيضاً تشمل الكلام والحديث الطيّب الزكي النافع.

بعد بيان هذه المجموعة الرباعية من النعم الإلهية، تعود الآية للقول: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ» «1».

الآية التي بعدها تستمر في إثارة قضية توحيد العبودية

من طريق آخر، فتؤكّد انحصار الحياة الواقعية باللَّه تعالى وتقول: «هُوَ الْحَىُّ».

إنّ حياته عين ذاته، ولا تحتاج إلى الغير. حياته (جلّ وتعالى) أبدية لا يطالها الموت، بينما جميع الكائنات الحية تتمتع بحياة مقرونة بالموت وحياتها محدودة وموقتة تسترفد هذه الحياة من الذات المقدسة.

لذلك ينبغي للإنسان الفاني المحدود المحتاج أن يرتبط في عبادته بالحي المطلق، من هنا تنتقل الآية مباشرة إلى تقرير معنى الوحدانية في العبودية من خلال قوله تعالى: «لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ».

______________________________

(1) «ذلكم»: اسم إشارة للبعيد، واستخدامها في مثل هذه الموارد كناية على العظمة وعلوّ المقام.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 332

وعلى أساس هذه الوحدانية تتقرّر قضية اخرى يتضمّنها قوله تعالى: «فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينِ». ثم تنتهي الآية بقوله تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ».

والتعبير القرآني درس للعباد بأن يتوجّهوا بالشكر والحمد إلى الخالق جلّ وعلا دون غيره، فهو جزيل العطايا كثير المواهب متواصل النعم على عباده، خاصة نعمة الحياة والوجود بعد العدم.

الآية الأخيرة من المجموعة القرآنية، هي في الواقع خلاصة لكل البحوث التوحيدية الآنفة، وجاءت لكي تقضي على أدنى بارقة أمل قد يحتمل وجودها في نفوس المشركين، إذ يقول تعالى موجّهاً كلامه إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله: «قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِىَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبّى».

ولم ينهاني ربّي عن عبادة غيره فحسب، بل: «وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ».

إنّ أمثال هذه الصيغ والأساليب المؤثّرة يمكن أن نلمسها في كل مكان من كتاب اللَّه العزيز، فهي تجمع الليونة والأدب حتى إزاء الأعداء والخصوم، بحيث لو كانوا يملكون أدنى قابلية لقبول الحق فسيتأثرون بالاسلوب المذكور.

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ

ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَ لِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) المراحل السبع لخلق الإنسان: تتميماً لما تحدّثت به الآيات السابقة عن قضية التوحيد، تستمر الآيات التي بين أيدينا في إثارة نفس الموضوع من خلال الحديث عن «الآيات الأنفسية» والمراحل التي تطوي خلق الإنسان وتطوّره، من البدء إلى النهاية.

الآية الكريمة تتحدث عن سبع مراحل تكشف عن عظمة الخالق جلّ وعلا وجزيل مواهبه ونعمه على العباد. يقول تعالى: «هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 333

يتّضح من سياق الآية الكريمة أنّ المرحلة الاولى أو بداية الإنسان في مسيرة الخلق والوجود تكون من التراب، حيث خلق اللَّه أبانا الأوّل آدم عليه السلام من تراب، أو أنّ جميع البشر خلقوا من التراب، ذلك أنّ المواد الغذائية التي تشكّل قوام الإنسان ووجوده، بما في ذلك النطفة- سواء كانت حيوانية أم نباتية- كلّها تستمد أساسها واصولها من التراب.

المرحلة الثانية، هي مرحلة النطفة التي تشمل جميع البشر كأصلٍ ثانٍ في وجودهم عدا آدم وزوجته حوّاء.

المرحلة الثالثة التي تتكامل فيها النطفة وتنمو بشكلٍ مستمر وتتحوّل إلى قطعة دم فتسمى بمرحلة «العلقة».

بعد ذلك تتحوّل «العلقة» إلى «مضغة» أشبه ما تكون باللحم «الممضوغ» وهي مرحلة ظهور الأعضاء، ثم مرحلة الحس والحركة، والآية لا تشير هنا إلى هذه المراحل الثلاث، لكن الآيات الاخرى أشارت إلى ذلك بشكل واضح.

المرحلة الرابعة تتمثل في ولادة الجنين، بينما تتمثل المرحلة الخامسة في تكامل

القوّة الجسمية التي قيل إنّها تتم في سن الثلاثين، حيث سيحرز الجسم الإنساني أكبر قدر ممكن من نموه وتكامل قواه.

وقال البعض: إنّ الإنسان يصل هذه المرحلة قبل هذا السن، ومن الممكن أن تختلف هذه المرحلة عند الأشخاص إلى أن يحرز الإنسان فيها مرحلة «بلوغ الأشد» حسب التعبير القرآني.

بعد ذلك تبدأ مرحلة الرجوع القهقري إلى الوراء، فيفقد الإنسان قواه تدريجياً، فيصل إلى الشيب الذي يعتبر المحطة السادسة من محطات حياة الإنسان.

أخيراً، تنتهي حياة كل إنسان في الأرض بالموت والإنتقال إلى العالم الآخر.

بعد كل هذه التغيّرات والتطوّرات، هل ثمّة من شك في قدرة وعظمة مبدى ء عالم الوجود، وألطاف اللَّه ومواهبه على الخلق؟!

الآية الأخيرة في هذا البحث تتحدث عن أهم مظهر من مظاهر قدرة اللَّه تبارك وتعالى متمثلة بقضية الحياة والموت، هاتان الظاهرتان اللتان لا تزالان- بالرغم من تقدّم العلم وتطوّره- في نطاق الامور الغامضة والمجهولة في معرفة الإنسان وعلمه. قوله تعالى: «هُوَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 334

إنّ نماذج الحياة تعتبر أكثر النماذج تنوّعاً في عالم الوجود وكل الكائنات تنتهي بأجلٍ معيّن إلى الموت، سواء في ذلك الكائن ذو الخليّة الواحدة أو الحيوانات الكبيرة، أو التي تعيش في الأعماق المظلمة للمحيطات والبحار، أو الطيور التي تعانق السماء، ومن الأحياء احادية الخليّة السابحة في امواج المحيطات إلى الأشجار التي يبلغ طولها عشرات الأمتار، فإنّ لكل واحد منها حياة خاصة وشرائط معيّنة، وبهذه النسبة تتفاوت عملية موتها، وبدون شك فإنّ أشكال الحياة هي أكثر أشكال الخلقة تنوّعاً وأعجبها.

وكل واحدة من هذه القضايا المعقّدة والمتنوعة لا تعتبر مشكلة وعسيرة بالنسبة إلى قدرة الخالق جلّ وعلا، حيث تتحقق بمجرد إرادته. لذلك تقول الآية في نهايتها بياناً لهذه الحقيقة: «فَإِذَا قَضَى

أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ».

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَ بِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَ السَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ بِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) عاقبة المعاندين المغرورين: مرّةً اخرى تعود آيات اللَّه البينات للحديث عن الذين يجادلون في آيات اللَّه، فتقول: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى ءَايَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ».

إنّ هذه المجادلة بالباطل المقترنة مع التعصب الأعمى جعلتهم يحيدون عن الصراط المستقيم، لأنّ الحقائق لا تظهر أو تبيّن إلّافي الروح الباحثة عن الحقيقة ومن ثم الإذعان لمنطقها.

ثم تنتقل الآيات إلى بيان أمرهم عندما تقول: «الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 335

من الضروري أن نشير أوّلًا إلى أنّ السورة التي بين أيدينا تحدّثت أكثر من مرّة عن «الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى ءَايَاتِ اللَّهِ» جاء ذلك في الآيتين (35) و (56) وهذه الآية، ونستفيد من القرائن أنّ المقصود ب «آيات اللَّه» هي دلائل النبوّة وعلائمها على الأكثر، بالإضافة إلى ما تحويه الكتب السماوية، وطالما تتضمّن الكتب السماوية آيات التوحيد، والمسائل الخاصة بالمبدأ والمعاد، لذا فإنّ هذه القضايا مشمولة بجدال القوم وخصومتهم للحق.

وتنتهي الآية بتهديد من خلال قوله تعالى: «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ». أي سوف يعلمون نتيجة أعمالهم وعاقبة أعمالهم السيئة وذلك في وقت «إِذِ الْأَغْللُ فِى أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلسِلُ يُسْحَبُونَ

فِى الْحَمِيمِ». أي يلقي بهم في الماء المغلي: «ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ» «1».

إضافة إلى هذا العذاب الجسماني سيعاقبون بمجموعة من أنواع العذاب الروحي والنفسي كما تشير إليه الآية التالية، حيث يقول تعالى: «ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ اللَّهِ». أي: أين شركاؤكم من دون اللَّه كي ينقذوكم من هذا العذاب الأليم وأمواج النار المتلاطمة؟ ألم تقولوا: إنّكم تعبدونهم وتطيعونهم وتتخذونهم أرباباً ليشفعوا لكم، إذاً أين شفاعتهم الآن؟!

فيجيبون بخضوع يغشاهم وذلّ يعلوهم: «قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا». أي اختفوا وهلكوا وابيدوا بحيث لم يبق منهم أثر.

وعندما يرى هؤلاء أنّ اعترافهم بعبادة الأصنام أصبح عاراً عليهم وعلامةً تميّزهم، فإنّهم يبدأون بالإنكار فيقولون: «بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُوا مِن قَبْلُ شَيًا».

لقد كانت الأصنام مجرّد أوهام، لكنّا كنّا نظن أنّها تمثل حقائق ثابتة، لكنّها أصبحت كالسراب الذي يتصوّره العطشان ماءً، أمّا اليوم فقد ثبت لنا أنّها لم تكن سوى أسماء من غير مسمى وألفاظ ليس لها معنى، وأنّ عبادتها لم تنفعنا بشي ء سوى الضلال. لذلك فهؤلاء اليوم يواجهون الواقع الذي لا سبيل إلى إنكاره.

هناك احتمال آخر في تفسير الآية، هو أنّهم سيكذبون لينقذوا أنفسهم من الفضيحة، كما نقرأ ذلك في الآيتين (23 و 24) من سورة الأنعام: «ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا وَاللَّهِ رَبّنَا

______________________________

(1) «الأغلال»: جمع «غل» وتعني الطوق حول العنق أو الرجل، وهي في الأصل مأخوذة من كلمة «غلل» على وزن «أجل» بمعنى الماء الذي يجري بين الأشجار.

«السلاسل»: جمع «سلسلة»؛ و «يسحبون» من كلمة «سحب» على وزن (سهو).

مختصر الامثل، ج 4، ص: 336

مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ».

وأخيراً يقول تعالى: «كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ». إنّ كفرهم وعنادهم سيكون حجاباً على

قلوبهم وعقولهم، ولذلك سيتركون طريق الحق ويسلكون سبيل الباطل، فيحرمون يوم القيامة من الجنة وينتهي مصيرهم إلى النار.

وهكذا يضل اللَّه الكافرين.

الآية التي بعدها تشير إلى علة مصائب هذه المجموعة، حيث يقول تعالى: «ذلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ».

كانوا يفرحون بمعارضة الأنبياء وقتل المؤمنين والتضييق على المحرومين، وكانوا يشعرون بالعظمة عند إرتكاب الذنوب وركوب المعاصي واليوم عليهم أن يتحمّلوا ضريبة كل ذلك الفرح والغفلة والغرور من خلال هذه النيران والسلاسل والسعير.

ولمثل هؤلاء يصدر الخطاب الإلهي: «ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ».

هذه الآية تؤكّد مرّة اخرى على أنّ التكبّر هو أساس المصائب.

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَ مَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَ خَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) فاصبر ... حتى يأتيك وعد اللَّه: بعد سلسلة البحوث السابقة عن جدال الكافرين وغرورهم وتكذيبهم الآيات الإلهية والدلائل النبوية، تأتي هاتان الآيتان لمواساة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وتأمرانه بالصبر والإستقامة في مواجهة المشاكل والصعاب. يأتي الأمر أوّلًا في قوله تعالى: «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ».

إنّ وعده بالنصر حق، ووعده بمعاقبة المستكبرين المغرورين حق، وكلاهما سيتحققان، فعلى أعداء الحق أن لا يظنّوا بأنّهم يستطيعون الهروب من العذاب الإلهي بسبب تأخّر عقابهم، لذلك تضيف الآية: «فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 337

إنّ مسؤوليتك هي التبليغ البليغ وإتمام الحجة على الجميع، حتى تتنوّر القلوب اليقظة ببلاغك، ولا يبقى للمعاندين عذر.

ثم تشير

الآية الكريمة إلى الوضع المشابه الذي واجهه الرسل والأنبياء قبل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كي تكون في هذه الذكرى مواساة أكثر للرسول الكريم، حيث واجه الأنبياء السابقين مثل هذه المشاكل، إلّاأنّهم استمروا في طريقهم واحتفظوا بمسارهم المستقيم.

يقول تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ».

ورد في الروايات والمصادر الإسلامية المختلفة أنّ عدد الأنبياء كان (124) ألف نبي. لقد واجه كل منهم ما تواجهه أنت اليوم، فصبروا وكان حليفهم النصر والغلبة على الظالمين.

ومن جهة ثانية كان الجميع يطلبون من الرسل الإتيان بالمعجزة، ومشركو مكة لم يشذّوا على غيرهم في طلب المعاجز من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لذلك يخاطب اللَّه تعالى رسوله الكريم صلى الله عليه و آله بقوله: «وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بَايَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ».

ثم تهدّد الآية من كان يقول: لماذا لا يشملنا العذاب الإلهي إذا كان هذا الرسول صادقاً؟

فتقول الآية: «فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِىَ بِالْحَقّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ».

في ذلك اليوم المهول تغلق أبواب التوبة، ويخسر أهل الباطل صفقتهم.

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَ لِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَ عَلَيْهَا وَ عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَ يُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) منافع الأنعام المختلفة: تعود الآيات التي بين أيدينا للحديث مرّة اخرى عن علائم قدرة الخالق (جلّ وعلا) ومواهبه العظيمة لبني البشر، وتشرح جانباً منها كي تزيد من وعي الإنسان ومعرفته باللَّه تعالى، وليندفع نحو الثناء والشكر فيزداد معرفة بخالقه. يقول تعالى: «اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ».

فبعضها يختص بالغذاء كالأغنام، وبعضها للركوب والغذاء

كالجمال.

«أنعام»: جمع «نعم» على وزن «قلم» وتطلق في الأصل على الجمال، لكنّها توسّعت فيما بعد لتشمل الجمال والبقر والأغنام.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 338

إضافة لما سبق تقول الآية التي بعدها: إنّ هناك منافع اخرى: «وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ».

الإنسان يستفيد من لبنها وصوفها وجلدها وسائر أجزائها الاخرى، بل يستفيد حتى من فضلاتها في تسميد الأرض وإخصاب الزرع.

ثم تضيف الآية: «وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِى صُدُورِكُمْ».

وهذا إشارة إلى الترفيه والهجرة والسياحة والتسابق والتفاخر، وما إلى ذلك من رغبات تنطوي عليها نفس الإنسان.

ولأنّ الأنعام تعتبر وسيلة سفر على اليابسة، لذلك تقول الآية في نهايتها: «وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ».

لقد جعلت للسفينة صفة خاصة بحيث تستطيع أن تبقى على سطح الماء بالرغم من الأثقال والأوزان الكبيرة التي عليها، وجعل اللَّه تعالى الحركة في الريح بحيث تستطيع الفلك الاستفادة منها في حركتها و ايصال الإنسان و البضائع إلى مناطق مختلفة في العالم.

الآية الأخيرة هي قوله تعالى: «وَيُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ فَأَىَّ ءَايَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ».

أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَ أَشَدَّ قُوَّةً وَ آثَاراً فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَ حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَ خَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85) هذه الآيات هي آخر مجموعة من سورة غافر، ونستطيع أن نعتبرها نوعاً من الاستنتاج للبحوث السابقة. فأوّلًا تقول: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ».

فاولئك: «كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً

وَءَاثَارًا فِى الْأَرْضِ».

عبارة: «ءَاثَارًا فِى الْأَرْضِ» لعلّها إشارة إلى تقدّمهم الزراعي- كما جاء في الآية (9) من

مختصر الامثل، ج 4، ص: 339

سورة الروم- أو إشارة إلى البناء العظيم للأقوام السابقين في قلب الجبال والسهول.

ومع هذه القوّة والعظمة التي كانوا يتمتعون بها، فإنّهم لم يستطيعوا مواجهة العذاب الإلهي: «فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ».

الآية التي بعدها تنتقل للحديث عن تعاملهم مع الأنبياء ومعاجز الرسل البيّنة، حيث يقول تعالى: «فَلَمَّا جَاءَتْهمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ». أي إنّهم فرحوا بما عندهم من المعلومات والأخبار، وصرفوا وجوههم عن الأنبياء وأدلتهم. وكان هذا الأمر سبباً لأن ينزل بهم العذاب الالهي: «وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ».

والمقصود من العلم الذي كان عندهم، هو اعتماد البشر على ما لديهم، واستعلاءهم بهذه «المعرفة» على دعوات الرسل ومعاجز الأنبياء، بل واندفع هؤلاء حتى إلى السخرية بالوحي والمعارف السماوية.

لكنّ القرآن الكريم يذكر مآل غرور هؤلاء وعلوّهم وتكبّرهم إزاء آيات اللَّه، حينما يقول: «فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ و وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ».

ثم تأتي النتيجة سريعاً في قوله تعالى: «فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا».

لماذا؟ لأنّه عند نزول «الإستئصال» تغلق أبواب التوبة.

وهذا الحكم لا يختص بقوم دون غيرهم، بل هو: «سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِهِ».

ثم تنتهي الآية بقوله تعالى: «وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ».

ففي ذلك اليوم عندما ينزل العذاب بساحتهم، سيفهم هؤلاء بأنّ رصيدهم في الحياة الدنيا لم يكن سوى الغرور والظنون والأوهام.

وهكذا تنتهي السورة المباركة (غافر) التي بدأت بوصف حال الكافرين المغرورين، ببيان نهاية هؤلاء وما آل إليه مصيرهم من العذاب والخسران.

«نهاية تفسير سورة غافر»

مختصر الامثل، ج 4، ص: 341

41. سورة فصلت

محتوى السورة: يمكن الحديث عن محتويات السورة من خلال الخطوط

العريضة التالية:

1- التركيز على موضوع القرآن وما يتصل به من بحوث.

2- إثارة قضية خلق السماء والأرض، خاصة ما يتعلق ببداية العالم الذي خلق من مادة (الدخان) ثم مراحل نشوء الكرة الأرضية والجبال والنباتات والحيوانات.

3- ثمة في السورة إشارات إلى عاقبة الأقوام المغرورين الأشقياء من الامم السابقة، مثل قوم عاد وثمود، وهناك إشارة قصيرة إلى قصة موسى عليه السلام.

4- تتضمّن السورة تهديد المشركين وإنذار الكافرين، مع ذكر آيات القيامة وما يتعلّق بشهادة أعضاء جسم الإنسان عليه، وتوبيخ اللَّه تبارك وتعالى لأمثال هؤلاء.

5- تتناول السورة قسماً من أدلة البعث والقيامة وخصوصياتهما.

6- تنتهي السورة ببحث لطيف عن آيات الآفاق والأنفس، وتعود كرّةً اخرى إلى قضية المعاد.

إنّ تسمية السورة ب «فصّلت» مشتق من الآية الثالثة فيها، وإطلاق «حم السجدة» عليها لأنّها تبدأ ب «حم» والآية (37) فيها هي آية السجدة.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأ حم السجدة اعطي

مختصر الامثل، ج 4، ص: 342

بعدد كل حرف منها عشر حسنات».

و أخرج البيهقي في شعب الايمان عن الخليل بن مرة أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان لا ينام حتى يقرأ تبارك وحم السجدة «1».

و طبيعي أنّ هذه السورة المباركة بكل ما تتضمّن في مضامينها العالية من أنوار ومعارف ومواعظ إنّما تكون مؤثّرة فيما لو تحوّلت تلاوتها إلى نور ينفذ إلى أعماق النفس، فتتحوّل في حياة الإنسان المسلم إلى دليل من نور يقوده في يوم القيامة نحو الصراط والخلاص، لأنّ التلاوة مقدمة للتفكير، والتفكير مقدمة للعمل.

حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَ نَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4)

وَ قَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَ فِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنَا وَ بَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) عظمة القرآن: في الدرّ المنثور عن جابر بن عبداللَّه قال: اجتمع قريش فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي قد فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه؟ فقالوا: ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة قالوا:

أنت يا أبا الوليد. فأتاه فقال: يا محمّد أنت خير أم عبداللَّه؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله. قال: فإن كنت تزعم أنّ هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت وإن كنت تزعم أنّك خير منهم فتكلم حتى نسمع منك. أما واللَّه ما رأينا سلحة قط أشأم على قومك منك فرقت جماعتنا وشتت أمرنا وعبت ديننا وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم أنّ في قريش ساحراً وأنّ في قريش كاهناً واللَّه ما ننتظر إلّامثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف. يا أيّها الرجل إن كان نما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلًا واحداً وإن كان نما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشراً. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «فرغت»؟ قال: نعم. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم

______________________________

(1) روح المعاني 24/ 94.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 343

* تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصّلَت ءَايَاتُهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» حتى بلغ «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ» فقال عتبة: حسبك ما عندك غير هذا؟ قال: لا. فرجع إلى قريش فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما

تركت شيئاً أرى أنّكم تكلمون به إلّاكلمته قالوا: فهل أجابك؟ قال: والذي نصبها بنية ما فهمت شيئاً مما قال غير أنّه قال: «أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ» قالوا: ويلك يكلمك الرجل بالعربية وما تدري ما قال؟ قال لا واللَّه ما فهمت شيئاً مما قال غير ذكر الصاعقة.

نعود الآن إلى المجموعة الاولى من آيات هذه السورة المباركة، التي تطالعنا بالحروف المقطعة في أوّلها «حم».

إنّ البعض اعتبر (حم) اسماً للسورة، أو أنّ (ح) إشارة إلى «حميد»، و (م) إشارة إلى «مجيد» وحميد ومجيد هما من أسماء اللَّه العظمى.

ثم تتحدث عن عظمة القرآن فتقول: «تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ».

إنّ «الرحمة العامة» و «الرحمة الخاصة» للَّه تعالى هما باعث نزول هذه الآيات الكريمة التي هي رحمة للعدو والصديق، ولها بركات خاصة للأولياء.

بعد التوضيح الاجمالي الذي أبدته الآية الكريمة حول القرآن، تعود الآيات التالية إلى بيان تفصيلي حول أوصاف هذا الكتاب السماوي العظيم، وذكرت له خمسة صفات ترسم الوجه الأصلي للقرآن: فتقول أوّلًا: إنّه كتاب ذكرت مطاليبه ومواضيعه بالتفصيل كل آية في مكانها الخاص، بحيث يلبّي احتياجات الإنسان في كل المجالات والأدوار والعصور، فهو:

«كِتَابٌ فُصّلَت ءَايَاتُهُ». وهو كتاب فصيح وناطق: «قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ».

وهذا الكتاب بشير للصالحين، نذير للمجرمين: «بَشِيرًا وَنَذِيرًا». إلّاأنّ أكثرهم:

«فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَايَسْمَعُونَ».

بناءً على ذلك فإنّ أوّل خصائص هذا الكتاب هو أنّه يتضمّن في تشريعاته وتعاليمه كل ما يحتاجه الإنسان وفي جميع المستويات، ويلبّي ميوله ورغباته الروحية.

الصفة الثانية أنّه متكامل، لأنّ «قرآن» مشتق من القراءة، وهي في الأصل بمعنى جمع أطراف وأجزاء الكلام.

الصفة الثالثة تتمثل بفصاحة القرآن وبلاغته، حيث يذكر الحقائق بدقّة بليغة دون أيّ نواقص، وفي نفس الوقت يعكسها بشكل جميل وجذّاب.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 344

الصفتان الرابعة والخامسة

تكشفان عن عمق التأثير التربوي للقرآن الكريم، عن طريق اسلوب الإنذار والوعيد والتهديد والترغيب، فآية تقوم بتشويق الصالحين والمحسنين بحيث إنّ النفس الإنسانية تكاد تطير وتتماوج في آفاق الملكوت والرحمة، وأحياناً تقوم آية بالتهديد والإنذار بشكل تقشعر منه الأبدان لهول الصورة وعنف المشهد. ومع ذلك فإنّ المتعصّبين المعاندين لا يتفاعلون مع حقائق الكتاب المنزل، وكأنّهم لا يسمعونها أبداً بالرغم من السلامة الظاهرية لأجهزتهم السمعية، إنّهم في الواقع يفتقدون لروح السماع وإدراك الحقائق، ووعي محتويات النذير والوعيد القرآني.

وهؤلاء- كمحاولة منهم لثني الرسول صلى الله عليه و آله عن دعوته، وايغالًا منهم في الغي وفي زرع العقبات- يتحدّثون عند رسول اللَّه بعناد وعلو وغرور حيث يحكي القرآن عنهم: «وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءَاذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ».

مادام الأمر كذلك فاتركنا وشأننا، فاعمل ما شئت فإنّنا عاكفون على عملنا: «فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ».

«أكنّة»: جمع «كنان» وتعني الستار.

هكذا ... بمنتهى الوقاحة والجهل، يهرب الإنسان بهذا الشكل الهازل عن جادة الحق.

عبارة «فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ» محاولتهم زرع اليأس عند النبي صلى الله عليه و آله. أو قد يكون المراد نوعاً من التهديد له. والتعبير يمثّل منتهى العناد والتحدّي الأحمق للحق ولرسالاته.

قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَ اسْتَغْفِرُوهُ وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) من هم المشركون: الآيات التي بين أيدينا تستمر في الحديث عن المشركين والكافرين، وهي في الواقع إجابة لما صدر عنهم في الآيات السابقة، وإزالة لأيّ وهمّ قد يلصق بدعوة النبي صلى الله عليه و آله. يقول تعالى لرسوله

الكريم: «قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَا إِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ».

ثم تستمر الآية: «فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ».

ثم تضيف الآية محذّرة: «وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 345

الآية التي تليها تقوم بتعريف المشركين، وتسلّط الضوء على جملة من صفاتهم وتختص هذه الآية بذكرها، حيث يقول تعالى: «الَّذِينَ لَايُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَهُم بِالْأَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ».

إنّ هؤلاء يعرّفون بأمرين: ترك الزكاة، وإنكار المعاد.

والمقصود من الزكاة في الآية هو المعنى العام للإنفاق، أمّا كون ذلك من علائم الشرك، فيكون بسبب أنّ الإنفاق المالي في سبيل اللَّه يعتبر من أوضح علامات الإيثار والحب للَّه، لأنّ المال يعتبر من أحبّ الأشياء إلى قلب الإنسان ونفسه، وبذلك فإنّ الإنفاق- وعدمه- يمكن أن يكون من الشواخص الفارقة بين الإيمان والشرك، خصوصاً في تلك المواقف التي يكون فيها المال بالنسبة للإنسان أقرب إليه من روحه ونفسه، كما نرى ذلك واضحاً في بعض الأمثلة المنتشرة في حياتنا.

بعبارة اخرى: إنّ المقصود هنا هو ترك الإنفاق الذي يعتبر أحد علامات عدم إيمانهم بالخالق جلّ وعلا، والأمر من هذه الزاوية بالذات يقترن بشكل متساوي مع عدم الإيمان بالمعاد، أو يكون ترك الزكاة ملازماً لإنكار وجوبه.

في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّ اللَّه عزّ وجل فرض للفقراء في أموال الأغنياء فريضة لا يحمدون إلا بأدائها، وهي الزكاة، بها حقنوا دماءهم وبها سمّوا مسلمين».

الآية الأخيرة تقوم بتعريف مجموعة تقف في الجانب المقابل لهؤلاء المشركين البخلاء، وتتعرّض إلى جزائهم حيث يقول تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ». «ممنون»: مشتق من «منّ» وتعني هنا القطع أو النقص، لذا فإنّ غير ممنون تعني هنا غير مقطوع أو منقوص.

قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ

أَنْدَاداً ذلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَ جَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَ بَارَكَ فِيهَا وَ قَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَ هِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَ أَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَ حِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) مراحل خلق السماوات والأرض: الآيات أعلاه نماذج للآيات الآفاقية، وعلائم العظمة،

مختصر الامثل، ج 4، ص: 346

وقدرة الخالق جلّ وعلا في خلق الأرض والسماء، وبداية خلق الكائنات، حيث يأمر تعالى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بمخاطبة الكافرين والمشركين. يقول تعالى: «قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الْأَرْضَ فِى يَوْمَيْنِ». وتجعلون للَّه تعالى شركاء ونظائر: «وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا».

إنّه لخطأ كبير، وكلام يفتقد إلى الدليل: «ذلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ». إنّ الذي يدبّر امور هذا العالم، أليس هو خالق السماء والأرض؟ فإذا كان سبحانه وتعالى هو الخالق، فلماذا تعبدون هذه الأصنام وتجعلونها بمنزلته؟!

الآية التي تليها تشير إلى خلق الجبال والمعادن وبركات الأرض والمواد الغذائية، حيث تقول: «وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ». وهذه المواد الغذائية هي بمقدار حاجة المحتاجين: «سَوَاءً لّلسَّائِلِينَ».

وبهذا الترتيب فإنّه تبارك وتعالى قد دبّر لكل شي ء قدره وحاجته.

المقصود من «السائلين» هنا هم الناس، أو أنّها تشمل بشكل عام الإنسان والحيوان والنبات.

ووفق هذا التفسير فإنّ اللَّه تعالى لم يحدّد احتياجات الإنسان لوحده منذ البداية وحسب، وإنّما فعل ذلك للحيوانات والنباتات أيضاً.

بعد الإنتهاء من الكلام عن خلق الأرض ومراحلها التكاملية، بدأ الحديث عن خلق السماوات حيث تقول الآية: «ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ

ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا». فكانت الإجابة: «قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ». وفي هذه الأثناء: «فَقَضهُنَّ سَبْعَ سَموَاتٍ فِى يَوْمَيْنِ». ثم: «وَأَوْحَى فِى كُلّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا». وأخيراً: «وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا». نعم: «ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ».

إنّ هذه المجموعة من الآيات الكريمة تكشف بوضوح أنّ دحو وتوسيع الأرض وتفجّر العيون ونبات الأشجار والمواد الغذائية، قد تمّ جميعاً بعد خلق السماوات.

ملاحظات

تبقى أمامنا ملاحظات ينبغي أن نشير إليهم:

1- عبارة «بَارَكَ فِيهَا» إشارة إلى المعادن والكنوز المستودعة في باطن الأرض، وما على الأرض من أشجار وأنهار ونباتات ومصادر للماء الذي هو أساس الحياة والبركة، حيث تستفيد منها جميع الاحياء الأرضية.

2- عبارة «فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ» تشمل الأقسام الثلاثة المذكورة في الآية (أي خلق الجبال،

مختصر الامثل، ج 4، ص: 347

خلق المصادر وبركات الأرض، خلق المواد الغذائية).

3- جملة «هي دخان» تبيّن أنّ بداية خلق السماوات كان من سحب الغازات الكثيفة الكثيرة، وهذا الأمر يتناسب مع آخر ما توصّلت إليه البحوث العلمية بشأن بداية الخلق والعالم.

4- قوله تعالى: «فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا» لا تعني أنّ كلاماً قد جرى باللفظ، وإنّما قول الخالق وأمره هو نفسه الأمر التكويني، وهو عين إرادته في الخلق. أمّا التعبير ب «طوعاً أو كرهاً» فهو إشارة إلى أنّ الإرادة الإلهية الحتمية قد ارتبطت بتكوّن السماوات والأرض. والمعنى أنّه يجب أن يحدث هذا الأمر شاءت أم أبت.

5- قوله تعالى: «فَقَضهُنَّ سَبْعَ سَموَاتٍ فِى يَوْمَيْنِ» يشير إلى وجود مرحلتين في خلق السماوات، كل مرحلة استمرت لملايين أو مليارات السنين، وكل مرحلة تتضمن مراحل اخرى، ومن المحتمل أن تكون هاتان المرحلتان هما مرحلة تبديل الغازات المضغوطة إلى سوائل ومواد مذابة، ثم مرحلة تبديل المواد المذابة إلى مواد جامدة.

6- إنّ العدد «سبع»

ربّما جاء هنا للكثرة، بمعنى أنّ هناك سماوات كثيرة وأجرام كثيرة.

ومن المحتمل أن يكون الرقم للعدد، أي إنّ عدد السماوات هي سبع بالتحديد. ومع هذا التقييد، فإنّ جميع ما نرى من كواكب ونجوم ثابتة وسيّارة هي من السماء الاولى، وبذلك يكون عالم الخلقة متشكّلًا من سبع مجموعات كبرى، واحدة منها فقط أمام أنظار البشرية.

7- قوله تعالى: «وَزَيَّنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ» تدلّ على أنّ جميع النجوم زينة للسماء الاولى، وهي ليست للزينة وحسب، بل في الليالي المعتمة تكون مصابيح للتائهين وأدلة لمن يسير في الطريق، تعينهم على تعيين اتجاه الحركة.

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَ ثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ أَنْ تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ قَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ لَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَ هُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 348

احذّركم صاعقة مثل صاعقة عادٍ وثمود: بعد البحث المهم الذي تضمّنته الآيات السابقة حول التوحيد ومعرفة الخالق جلّ وعلاه تنذر الآيات- التي بين أيدينا- المعارضين والمعاندين الذين تجاهلوا كل هذه الدلائل الواضحة والآيات البينات، وتحذّرهم أنّ نتيجة الإعراض، نزول العذاب بهم. يقول تعالى: «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ». «الصاعقة»: تعني الصوت المهيب في السماء، ويشتمل على النار أو الموت أو العذاب.

يواصل الحديث القرآني سياقه بالقول: «إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ

خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ».

إنّ الأنبياء قد استخدموا جميع الوسائل والأساليب لهدايتهم، حتى ينفذوا إلى قلوبهم المظلمة.

لكن لنرى ماذا كان جوابهم حيال هذه الجهود العظيمة الواسعة لرسل اللَّه تعالى. يقول تعالى: «قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلِكَةً» لإبلاغ رسالته بدلًا من إرسال الناس، والآن ومادام الأمر كذلك: «فَإنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ». وما جئتم به لا نعتبره من اللَّه.

إنّها نفس الذريعة التي ينقلها القرآن مراراً على لسان منكري النبوات ورسالات اللَّه ومكذبي الرسل، من الذين كانوا يتوقعون أن يكون الأنبياء دائماً ملائكة، وكأنّما البشر لا يستحقون مثل هذا المقام.

مثال ذلك قولهم في الآية (7) من سورة الفرقان: «وَقَالُوا مَالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا».

إنّ قائد البشر يجب أن يكون من صنف البشر، كي يعرف مشاكل الإنسان واحتياجاته ويتفاعل مع قضاياهم، وكي يستطيع أن يكون القدوة والاسوة، لذلك يصرّح القرآن في الآية (9) من سورة «الأنعام» بقوله تعالى: «وَلَوْ جَعَلْنهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنهُ رَجُلًا».

بعد المجمل الذي بيّنته الآيات أعلاه، تعود الآيات الآن- كما هو اسلوب القرآن الكريم- إلى تفصيل ما اوجز من خبر قوم عاد وثمود فتقول: «فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً».

لكنّ القرآن يردّ على هؤلاء ودعواهم بالقول: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 349

تضيف الآية في النهاية قوله تعالى: «وَكَانُوا بَايَاتِنَا يَجْحَدُونَ».

نعم، إنّ الإنسان الضعيف المحدود سوف يطغى بمجرّد أن يشعر بقليل من القدرة والقوّة، وأحياناً بدافع من جهله، فيتوهم أنّه يصارع اللَّه جلّ وعلا.

لكن ما أسهل أن يبدل اللَّه عوامل حياته إلى موت ودمار، كما تخبرنا الآية عن مآل قوم عاد: «فَأَرْسَلْنَا

عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا».

إنّ هذه الريح الصرصر، وكما تصرّح بذلك آيات اخرى، كانت تقتلعهم من الأرض بقوّة ثم ترطمهم بها، بحيث أصبحوا كأعجاز النخل الخاوية- يلاحظ الوصف في سورة القمر الآيتين (19 و 20) وسورة الحاقّة الآية (6) فما بعد.

لقد استمرت هذه الريح سبع ليال وثمانية أيّام، وحطّمت كيانهم وكل وسائل عيشهم، نكالًا بما ركبوا من حماقة وعلو وغرور، ولم يبق منهم سوى أطلال تلك القصور العظيمة، وآثار تلك الحياة المرفهة.

هذا في الدنيا، وهناك في الآخرة: «وَلَعَذَابُ الْأَخِرَةِ أَخْزَى .

إنّ العذاب الدنيوي هو في الواقع كالشرارة في مقابل بحر لجّي من النار في عذاب الآخرة.

والأنكى من ذلك أن ليس هناك من ينصرهم: «وَهُمْ لَايُنصَرُونَ».

وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَ نَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ (18) عاقبة قوم ثمود: بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن قوم عاد، تبحث هاتان الآيتان في قضية قوم ثمود ومصيرهم، حيث تقول: إنّ اللَّه قد بعث الرسل والأنبياء لهم مع الدلائل البيّنة، إلّاأنّهم: «وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى .

لذلك: «فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ».

وهؤلاء مجموعة تسكن «وادى القرى (منطقة بين الحجاز والشام) وقد وهبهم اللَّه أراضي خصبة خضراء مغمورة، وبساتين ذات نعم كثيرة، وكانوا يبذلون الكثير من جهدهم في الزراعة، ولقد وهبهم اللَّه العمر الطويل والأجسام القوية، وكانوا مهرة في البناء القوي المتماسك.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 350

مختصر الامثل ج 4 398

لقد جاءهم نبيّهم بمنطق قوي، ومعه المعاجز الإلهية، إلّاأنّ هؤلاء القوم المغرورين المستعلين لم يرفضوا دعوته وحسب، بل آذوه وأتباعه القليلين، لذلك شملهم اللَّه بعقابه في

الدنيا، ولن يغني ذلك عن عذاب الآخرة شيئاً.

القرآن يجيبنا على ذلك بقول اللَّه عزّ وجل: «وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ».

قال بعض المفسرين: لقد آمن بالنبي صالح (110) أشخاص من بين مجموع القوم.

لقد أنجى هذه المجموعة إيمانها وتقواها، بينما شمل العذاب تلك الكثرة الطاغية بسبب كفرها وعنادها؛ والمجموعتان يمكن أن تكونا نموذجاً لفئات من هذه الأمة.

وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصَارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَ قَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَ مَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لَا أَبْصَارُكُمْ وَ لَا جُلُودُكُمْ وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) كانت الآيات السابقة تتحدث عن الجزاء الدنيوي للكفار المغرورين والظالمين والمجرمين، أمّا الآيات التي نبحثها الآن فتتحدث عن العذاب الاخروي، وعن مراحل مختلفة من عقاب أعداء اللَّه. يقول تعالى: «وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ».

ولكي تتصل الصفوف ببعضها يتمّ تأخيرالصفوف الاولى حتى تلتحق بها الصفوف الاخرى: «فَهُمْ يُوزَعُونَ» «1». وحينذاك: «حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

يا لهم من شهود؟ فأعضاء الإنسان تشهد بنفسها عليه ولا يمكن إنكار شهادتها، لأنّها كانت حاضرة في جميع المشاهد والمواقف وناظرة لكل الأعمال، وهي إذ تتحدث فبأمر اللَّه تعالى.

______________________________

(1) «يوزعون»: من «وزع» وهي بمعنى المنع، وعندما تستخدم للجنود أو الصفوف الاخرى، فإنّ مفهومها يعني أن يبقى المجموع إلى أن يلتحق بهم آخر نفر.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 351

إنّ قوله

تعالى «حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا» يبيّن أنّ المحكمة تنعقد بالقرب من النار.

المجرمون يستغربون هذه الظاهرة، وآية استغرابهم قوله تعالى: «وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا».

وفي الجواب يقولون: «قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْ ءٍ».

ثم تستمر الآية بقوله تعالى: «وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ».

ومرّة اخرى تضيف: «وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ».

وإنّ سبب إخفائكم لأعمالكم هو: «وَلكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَايَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ».

كنتم غافلين عن أنّ اللَّه يسمع ويرى، يشهد أعمالكم في كل حال ومكان، ثم هناك عناصر الرقابة التي ترافقكم وهي معكم في كل مكان، فهل تستطيعون إنجاز عمل مخفي عن أعينكم وآذانكم وجلودكم؟

ثم يقول تعالى: «وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِى ظَنَنُتم بِرَبّكُمْ أَرْدَيكُمْ فَأَصْبَحْتُم مّنَ الْخَاسِرِينَ».

توضّح الآيات بشكل قاطع خطورة سوء الظن باللَّه تعالى، ومآل ذلك إلى الهلاك والخسران.

وبعكس ذلك فإنّ حسن الظن باللَّه تعالى سبب للنجاة في الدنيا والآخرة.

فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَ قَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) قرناء السوء: في أعقاب البحث السابق حيث تحدّثت الآيات الكريمة عن مصير «أعداء اللَّه» جاءت الآيتان أعلاه لتشيران إلى نوعين من العقاب الأليم الذي ينتظر هؤلاء في الدنيا والآخرة. يقول تعالى: «فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ». ولا يمكنهم الخلاص منها لأنّها مصيرهم سواء صبروا أم لم يصبروا.

«مثوى»: من «ثوى» على وزن «هوى» وتعني المقرّ ومحل الاستقرار.

وللتأكيد على هذا الأمر تضيف الآية: «وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مّنَ الْمُعْتَبِينَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 352

«يستعتبون»: مأخوذة في الأصل من «العتاب» وتعني إظهار

الخشونة، ومفهوم ذلك أنّ الشخص المذنب سيستسلم للوم صاحب الحق كي يعفو عنه ويرضى عنه، لذلك فإنّ كلمة (استعتاب) تعني الإسترضاء وطلب العفو. ثم تشير الآية الثانية إلى العذاب الدنيوي لهؤلاء فتقول: «وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ». حيث قام هؤلاء الجلساء بتصوير المساوي ء لهم حسنات.

«قيضنا»: من «قيض» على وزن (فيض) وتعني في الأصل قشرة البيضة الخارجية، ثم قيلت لوصف الأشخاص الذين يسيطرون على الإنسان بشكل كامل، كسيطرة القشرة على البيضة.

وهذه إشارة إلى أنّ أصدقاء السوء والرفاق الفاسدين يحيطون بهم من كل مكان، حيث يصادرون أفكارهم، ويهيمنون عليهم بحيث يفقدون معه قابلية الإدراك والإحساس المستقل، وعندها ستكون الامور القبيحة السيئة جميلة حسنة في نظرهم.

لقد ورد هذا المعنى بشكلٍ أوضح في الآيتين (36 و 37) من سورة الزخرف في قوله تعالى: «وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ».

وبسبب هذا الوضع تضيف الآية بأنّ الأمر الالهي صدر بعذابهم وأنّ مصيرهم هو مصير الامم السالفة: «وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مّنَ الْجِنّ وَالْإِنسِ».

ثم تنتهي الآية بقوله تعالى: «إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ».

وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) الضجيج في مقابل صوت القرآن: بعد أن تحدّثت الآيات السابقة عن الأقوام الماضين كقوم عاد وثمود، وتحدّثت عن جلساء السوء

وقرناء الشر، تتحدث المجموعة التي بين أيدينا

مختصر الامثل، ج 4، ص: 353

من الآيات البينات عن جانب من جوانب الإنحراف لمشركي عصر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

القرآن الكريم يشير إلى هذا المعنى في هذه الآيات، حيث يقول: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ».

هذا الاسلوب في مواجهة تأثير الحق ونفوذه بالرغم من كونه اسلوباً قديماً، إلّاأنّه يستخدم اليوم بشكلٍ أوسع وأخطر لصرف أفكار الناس وخنق أصوات المنادين بالحق والعدالة، فهؤلاء يقومون بمل ء المجتمع بالضوضاء حتى لا يسمع صوت الحق.

فتارة يتمّ اللغو بواسطة الضجة والضوضاء والصفير.

واخرى بواسطة القصص الكاذبة والخرافية.

وثالثة بواسطة قصص الحب والعشق المثيرة للشهوات.

وقد يتجاوز مكرهم مرحلة القول فيقومون بتأسيس مراكز خاصة بالفساد وأنواع الأفلام المبتذلة والمطبوعات المنحرفة الرخيصة، والألاعيب السياسية الكاذبة والمثيرة، إنّهم يعمدون إلى الإستعانة بأي أسلوب يؤدّي إلى حرف أفكار الناس واهتماماتهم عن الحق.

الآية الاخرى تشير إلى عذاب هؤلاء فتقول: «فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا».

خاصة اولئك الذين يمنعون الناس من سماع آيات اللَّه.

وهذا العذاب يمكن أن يشملهم في الدنيا بأن يقتلوا على أيدي أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أو يقعوا في أسرهم، وقد يكون في الآخرة، أو يكون العذاب في الدنيا والآخرة معاً.

قوله تعالى: «وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ».

كما أنّ قوله تعالى: «كَانُوا يَعْمَلُونَ» دليل على أنّه سيتمّ التأكيد على الأعمال التي كانوا يقومون بها دائماً.

وللتأكيد على قضية العذاب، يأتي قوله تعالى: «ذلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ».

وهذه النار ليست مؤقتة زائلة بل: «لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ». نعم، فذلك: «جَزَاءً بِمَا كَانُوا بَايَاتِنَا يَجْحَدُونَ».

«يجحدون»: من «جحد» إشارة إلى إنكار الحقائق مع العلم بها، وهذا من أسوأ أنواع الكفر.

لذلك تشير الآية التالية إلى هذا المعنى الذي

سيشمل الكفار وهم في الجحيم فيقول:

مختصر الامثل، ج 4، ص: 354

«وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذِينَ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ». إنّ اولئك كانوا ينهونا عن سماع قول النبي وكانوا يقولون: إنّه ساحر مجنون.

والمقصود من الجن والإنس- في الآية- هم الشياطين، والناس الذين يقومون بالغواية مثل الشياطين، وليس هما شخصان معيّنان.

إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَنْ تَخَافُوا وَ لَا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ لَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَ لَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) نزول الملائكة على المؤمنين الصامدين: بعد أن تحدّث القرآن الكريم عن المنكرين المعاندين الذين يصدّون عن آيات اللَّه، وأبان جزاءهم وعقوبتهم، بدأ الآن (في الصورة المقابلة) في الحديث عن المؤمنين الراسخين في إيمانهم، وأشار إلى سبعة أنواع من الثواب الذي يشملهم جزاء ومثوبة لهم. يقول تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا».

فلا تقلقوا من الصعوبات التي تنتظركم، ولا تحزنوا على ذنوبكم الماضية.

هناك الكثير من الذين يدّعون محبة اللَّه، إلّاأنّنا لا نرى الإستقامة واضحة في عملهم وسلوكهم، فهم ضعفاء وعاجزون بحيث عندما يشملهم طوفان الشهوة يودّعون الإيمان ويشركون في عملهم.

وينبغي أن ننتبه هنا إلى أنّ «الاستقامة» مثلها مثل «العمل الصالح» هي ثمرة لشجرة الإيمان، إذ الإيمان يدعو الإنسان إلى الاستقامة متى ما نفذ إلى عمق الإنسان، وتأسست قواعد وجوده النفسي على التقوى، كما أنّ الاستقامة تقوي في الإنسان ملكة التقوى والسير في طريق الحق والإيمان.

روي أنّ سفيان بن عبداللَّه الثقفي قال: قلت: يا رسول اللَّه! حدثني بأمر

أعتصم به. قال:

مختصر الامثل، ج 4، ص: 355

«قل ربّي اللَّه ثم استقم» «1».

فبعد البشارتين الاولى والثانية والمتمثلتين بعدم (الخوف) و (الحزن) تصف الآية المرحلة الثالثة بقوله تعالى: «وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ».

والبشارة الرّابعة يتضمّنها قوله تعالى: «نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَفِى الْأَخِرَةِ».

فلن نترككم وحيدين، بل نعينكم في الخير وتعصمكم عن الانحراف حتى تدخلوا الجنة.

وهذا- أي البشارة الرابعة- دليل على أنّ المؤمنين من ذوي الاستقامة يسمعون هذا الكلام من الملائكة في الدنيا عندما يكونون أحياء، إلّاأنّ ذلك لا يكون باللسان واللفظ، بل يسمعون ذلك باذُن قلوبهم، بما يشعرون به من هدوء واستقرار وسكينة وإحساس كبير بالراحة عند المشاكل والصعاب، وتثبّت أقدامهم من السقوط والإنحراف.

والبشارة الخامسة قوله تعالى: «وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ». أي: في الجنة.

أمّا البشارة السادسة فلا تختص بالنعم المادية وما تريدونه. بل الاستجابة إلى العطايا والمواهب المعنوية: «وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ».

أمّا البشارة السابعة والأخيرة فهى أنّكم ستحلون ضيوفاً لدى الباري ء عزّ وجل وفي جنته الخالدة، وستقدّم لكم كل النعم تماماً مثلما يتمّ الترحيب بالضيف العزيز من قبل المضيف: «نُزُلًا مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ».

وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَ عَمِلَ صَالِحاً وَ قَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَ لَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَ مَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَ مَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) ادفع السيّئة بالحسنة: مازالت هذه المجموعة من الآيات الكريمة تتحدث عن الصورة الاخرى عن المؤمنين الذين يتبعون أحسن القول. يقول تعالى: «وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ

وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ».

______________________________

(1) سنن ابن ماجة 2/ 1314؛ سنن ترمذي 4/ 32.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 356

إنّ الآية الكريمة هذه ترسم ثلاث صفات لذي القول الحسن هي: الدعوة إلى اللَّه، والعمل الصالح، والتسليم حيال الحق. بعد بيان الدعوة إلى اللَّه وأوصاف الدعاة إلى اللَّه، شرحت الآيات اسلوب الدعوة وطريقتها، فقال تعالى: «وَلَا تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيّئَةُ».

في الوقت الذي لا يملك فيه أعداؤكم سوى سلاح الإفتراء والإستهزاء والسخرية والكلام البذي ء وأنواع الضغوط والظلم؛ يجب أن يكون سلاحكم- أنتم الدعاة- التقوى والطهر وقول الحق واللين والرفق والمحبة.

وبالرغم من أنّ (الحسنة) و (السيّئة) تنطويان على مفهومين واسعين، إذ تشمل الحسنة كل إحسان وجميل وخير وبركة، والسيئة تشمل كل انحراف وقبح وعذاب، إلّاأنّ الآية تقصد ذلك الجانب المحدّد من السيّئة والحسنة، الذي يختص بأساليب الدعوة.

ثم تضيف الآية: «ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ».

إدفع الباطل بالحق، والجهل والخشونة بالحلم والمداراة، وقابل الإساءة بالإحسان، فلا ترد الإساءة بالإساءة، والقبح بالقبح، لأنّ هذا اسلوب من همّه الانتقام، ثم إنّ هذا الاسلوب يقود إلى عناد المنحرفين أكثر.

وتشير الآية في نهايتها إلى فلسفة وعمق هذا البرنامج في تعبير قصير، فتقول: إنّ هذا التعامل سيقود إلى: «فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ».

«ولي»: هنا بمعنى الصديق؛ و «حميم»: تعني في الأصل الماء الحار المغلي، ويقال للأصدقاء المخلصين والمحبين للشخص «حميم» والآية تقصد هذا المعنى.

إنّ هذا الاسلوب من التعامل مع المعارضين والأعداء ليس بالأمر العادي السهل، والوصول إليه يحتاج إلى بناء أخلاقي عميق، لذلك فإنّ الآية التي بعدها تبيّن الاسس الأخلاقية لمثل هذا التعامل في تعبير قصير ينطوي على معاني كبيرة، حيث يقول تعالى:

«وَمَا يُلَقهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا».

و كذلك: «وَمَا يُلَقهَا إِلَّا ذُو حَظّ عَظِيمٍ».

إنّ

هناك- بلا شك- موانع تحول دون الوصول إلى هذا الهدف العظيم، وإنّ وساوس الشيطان تمنع الإنسان من تحقيق ذلك بوسائل مختلفة، لذلك نرى الآية الأخيرة تخاطب الرسول صلى الله عليه و آله بوصفه الاسوة والقدوة فتقول له: «وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطنِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».

«نزغ»: تعني الدخول في عملٍ ما لإفساده، ولهذا السبب يطلق على الوساوس

مختصر الامثل، ج 4، ص: 357

الشيطانية «نزغ»، وهذا التحذير بسبب ما يراود ذهن الإنسان من مفاهيم مغلوطة خطرة، إذ يقوم بعض أدعياء الصلاح بتوجيه النصائح على شاكلة قولهم: لا يمكن إصلاح الناس إلّا بالقوّة، وأمثال ذلك من الوساوس التي تنتهي إلى مقابلة السيئة بالسيئة.

القرآن الكريم يقول: إيّاكم والسقوط في مهاوي هذه الوساوس، ولا تلجأوا إلى القوّة إلّا في موارد معدودة.

وأخيراً، تتضمّن الآية الدعوة إلى الاستعاذة باللَّه في دائرة واسعة.

وَ مِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَ النَّهَارُ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لَا لِلْقَمَرِ وَ اسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ النَّهَارِ وَ هُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (39) السجود للَّه تعالى: تعتبر هذه الآيات بداية فصل جديد في هذه السورة، فهي تختص بقضايا التوحيد والمعاد، ودلائل النبوة وعظمة القرآن، وهي في الواقع مصداق واضح للدعوة إلى اللَّه في مقابل دعوة المشركين إلى الأصنام. تبدأ أوّلًا من قضية التوحيد، فتدعو الناس إلى الخالق عن طريق الآيات الآفاقية: «وَمِنْ ءَايَاتِهِ الَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ» «1».

فالليل وظلمته للراحة، والنهار وضوءه للحركة. أمّا الشمس فهي مصدر

كل البركات المادية في منظومتنا، فالضوء والحرارة والحركة ونزول المطر، ونمو النباتات ونضج الفواكه، وحتى ألوان الورود الجميلة، كل ذلك يدين في وجوده إلى الشمس.

القمر يقوم بدوره بإضاءة الليالي المظلمة، وضوءه دليل السائرين في دروب الصحراء، وهو يجلب الخيرات بتأثيره على مياه البحار وحدوث الجزر والمد فيه.

ولعل البعض قام بالسجود لهذين الكوكبين السماويين وبعبادتهما بسبب الخيرات

______________________________

(1) ينبغي الإلتفات إلى أنّ السجدة هنا واجبة في حال سماع الآية أو تلاوتها.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 358

والبركات الآنفة الذكر، فتاهوا في عالم الأسباب. ولذلك نرى القرآن بعد هذا البيان يقول مباشرة: «لَاتَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ». إنّ هذه الآية تستدل على وجود الخالق الواحد عن طريق النظام الواحد الذي يتحكّم بالشمس والقمر والليل والنهار، وإنّ حاكميته تعالى على هذه الموجودات تعتبر دليلًا على وجوب عبادته.

فاللَّه تعالى يخاطبهم بعد ذلك بقوله: «فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبّكَ يُسَبّحُونَ لَهُ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَايَسَمُونَ» «1».

فليس مهماً أن لا تسجد مجموعة من الجهلة والغافلين حيال جبروت اللَّه وذاته المقدسة الطاهرة، فهذا العالم الواسع ملي ء بالملائكة المقربين الذين يركعون ويسجدون ويسبحون له دائماً ولا يفترون أبداً.

ثم إنّ هؤلاء هم بحاجة إلى عبادة اللَّه ولا يحتاج تعالى لعبادتهم، لأنّ فخرهم وكمالهم لا يتمّ إلّافي ظل العبودية له سبحانه وتعالى.

نعود مرّة اخرى إلى آيات التوحيد التي تعتبر الأرضية للمعاد. يقول تعالى: «وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ».

ثم تنتقل الآية من قضية التوحيد المتمثلة هنا بالحياة التي ما زالت تحيطها الكثير من الأسرار والخفايا والغموض، إلى قضية المعاد، حيث يقول تعالى: «إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَى .

نعم: «إِنَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

فدلائل قدرته

واضحة في كل مكان، فكيف نشكّك بالمعاد ونعتبره محالًا؟

«خاشعة»: من «الخشوع» وتعني في الأصل التضرّع والتواضع الملازم للأدب؛ واستخدام هذا التعبير بخصوص الأرض الميتة اليابسة، يعتبر نوعاً من الكناية.

«ربت»: من «ربو» على وزن (غلو) وتعني الزيادة والنمو، والربا مشتق من نفس هذه الكلمة، لأنّ المرابي يطلب دينه مع الزيادة.

«اهتزت»: من «هز» على وزن «حظ» وتعني التحريك الشديد.

______________________________

(1) «يسأمون»: من كلمة «السئامة» وتعني التعب من الإستمرار في العمل أو في موضوع معيّن.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 359

إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَ فَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَ إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) محرّفو آيات الحق: المجموعة التي بين أيدينا من آيات السورة الكريمة، بدأت بتهديد الذين يقومون بتحريف علائم التوحيد، وتضليل الناس، حيث يقول تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى ءَايَاتِنَا لَايَخْفَوْنَ عَلَيْنَا».

من الممكن لهؤلاء أن يضلّوا الناس باسلوب المغالطة وباستخدام السفسطة الكلامية، ويخفوا ذلك عن الناس؛ إلّاأنّه ليس بوسعهم إخفاء ذرّة ممّا يقومون به عن اللَّه تبارك وتعالى.

«يلحدون»: من «إلحاد» وهي في الأصل من «لحد» على وزن (عهد) وتعني الحفرة الواقعة في جانب واحد، ولهذا السبب يطلق على الحفرة في جانب القبر اسم «اللحد». ثم اطلقت كلمة (إلحاد) على أيّ عمل يتجاوز الحد الوسط إلى الإفراط أو التفريط، وهي لذلك تطلق لوصف الشرك وعبادة الأصنام، ويقال لمن لا يؤمن باللَّه تعالى (الملحد).

والمقصود من «الإلحاد في آيات اللَّه» هو إيجاد الوساوس والتمويه في أدلة التوحيد والمعاد التي ذكرتها الآيات السابقة

بعنوان «ومن آياته».

القرآن الكريم أوضح جزاء هؤلاء في إطار مقارنة واضحة فقال تعالى: «أَفَمَن يُلقَى فِى النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِى ءَامِنًا يَوْمَ الْقِيمَةِ».

الأشخاص الذين يحرقون ايمان الناس وعقائدهم بنيران الشبهات والتشكيكات سيكون جزاؤهم نار جهنم، بعكس الذين أوجدوا المحيط الآمن للناس بهدايتهم إلى التوحيد والإيمان، فإنّهم سيكونون في أمان يوم القيامة أليس ذلك اليوم هو يوم تتجسد فيه أعمال الإنسان في هذه الدنيا؟

وعندما ييأس الإنسان من هداية شخص يخاطبه بقوله: افعل ما شئت. لذا فالآية تقول لأمثال هؤلاء: «اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ».

لكن عليكم أن تعلموا: «إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 360

لكن هذا الأمر لا يعني أنّ لهم الحرية في أن يعملوا ما يشاؤون، أو أن يتصرّفوا بما يرغبون، بل هو تهديد لهم لإعراضهم عن كلام الحق.

الآية التي بعدها تتحوّل من الحديث عن التوحيد والمعاد إلى القرآن والنبوّة، وتحذّر الكفار المعاندين بقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ».

إنّ إطلاق وصف «الذكر» على القرآن يستهدف تذكير الإنسان وإيقاظه، وشرح وتفصيل الحقائق له بشكلٍ إجمالي عن طريق فطرته.

ثم تنطلق الآية لبيان عظمة القرآن فتقول: «وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ».

إنّه كتاب لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله أو أن يتغلّب عليه، منطقه عظيم واستدلاله قوي، وتعبيره بليغ منسجم وعميق، تعليماته جذرية، وأحكامه متناسقة متوافقة مع الاحتياجات الواقعية للبشر في أبعاد الحياة المختلفة.

ثم تذكر الآية صفة اخرى مهمة حول عظمة القرآن وحيويته، فيقول تعالى: «لَّايَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ».

يعني عدم وجود تناقض في مفاهيمه، ولا ينقض بشي ء من العلوم، أو بحقائق الكتب السابقة، ولا يعارض كذلك بالإكتشافات العلمية المستقبلية.

لا يستطيع أحد أن يبطل حقائقه، ولا يمكن أن ينسخ في المستقبل.

لم تصل إليه يد التحريف بزيادة أو

نقص في آية أو كلمة، ولن يطاله ذلك مستقبلًا.

لأنّه: «تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ».

أفعال اللَّه عزّ وجل لا تكون إلّاوفق الحكمة وفي غاية الكمال. لذا فهو أهل للحمد دون غيره.

مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَ ذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَ لَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْ لَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَ شِفَاءٌ وَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَ مَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 361

كتاب الهداية والشفاء: قام الكفار والمشركون بمحاربة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وتكذيبه، والتصدّي للاسلام والقرآن. والآيات السابقة كانت تحكي عن إلحادهم وكفرهم بآيات اللَّه لذلك جاءت الآية الاولى من الآيات التي بين أيدينا لمواساة النبي صلى الله عليه و آله وارشاد المسلمين الذين يواجهون الأذى بأن لا محيص لهم عن الاستقامة والصبر. يقول تعالى: «مَّا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ».

فإذا كانوا يتهمونك بالجنون والكهانة والسحر، فقد أطلقوا هذه الأوصاف على من قبلك من الأنبياء والمرسلين.

إنّ دعوتك لدين الحق ليست جديدة، وإنّ ما تواجهه وأنت تدعو للدين الجديد ليس جديداً أيضاً، لذلك ما عليك- يا رسول اللَّه- إلّاأن ترابط بقوّة وتلزم ما أنت عليه ولا تهتم بكلام هؤلاء، لأنّ اللَّه معك.

يقول اللَّه تبارك وتعالى في نهاية الآية: «إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ».

فرحمته

ومغفرته للمصدّقين، وعذابه للمكذبين والمعارضين.

الآية التي بعدها تتحدث عن ذرائع هؤلاء المعاندين، وترد على واحدة منها، إذ كانوا يقولون: لماذا لم ينزل القرآن بلسان الأعاجم حتى نهتم به أكثر ويستفيد منه غير العرب؟

وهنا يجيب القرآن على هذا القول بقوله: «وَلَوْ جَعَلْنهُ قُرْءَانًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصّلَتْ ءَايَاتُهُ».

ثم يضيفون: يا للعجب قرآن أعجمي من رسول عربي؟: «ءَأَعْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ».

أو يقولون: كتاب أعجمي لُامّة تنطق بالعربية؟!

«أعجمي»: من «عجمة» وتعني عدم الفصاحة والإبهام في الكلام، وتطلق «عجم» على غير العرب لأنّ العرب لا يفهمون كلامهم بوضوح، وتطلق «أعجم» على من لا يجيد الحديث والكلام سواء كان عربياً أم غير عربي.

ثم يخاطب القرآن الرسول صلى الله عليه و آله بالقول: «قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ».

أمّا لغيرهم: «وَالَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ فِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ». أي «ثقل» ولذلك لا يدركونه.

ثم إنّه: «وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى». أي إنّهم لا يرونه بسبب عماهم، فهؤلاء كالأشخاص الذين ينادون من بعيد: «أُولئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ».

الآية التالية تستمر في مواساة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والمؤمنين معه وتقول لهم: إنّ للعناد

مختصر الامثل، ج 4، ص: 362

والإنكار تاريخ طويل في حياة النبوّات: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ». وإذ ترى أنّنا لا نعجل في عقاب هؤلاء الأعداء المعاندين، فذلك لأنّ المصلحة تقتضي أن يكونوا أحراراً حتى تتمّ الحجة عليهم: «وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ». أي لكان العقاب قد شملهم بسرعة.

إنّ التأجيل الإلهي إنّما يتم هنا لمصلحة الناس ومن أجل المزيد من فرص الهداية والنور، وبغية إتمام الحجة عليهم، وهذه السنّة كانت نافذة في جميع الأقوام السابقة، وهي تجري في قومك أيضاً.

لكنّهم لم يصدّقوا بهذه الحقيقة بعد: «وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكّ مّنْهُ مُرِيبٍ».

«مريب»: من «ريب» بمعنى الشك الممزوج

بسوء الظن والقلق، لذلك فمعنى الآية: إنّ المشركين لا يشكّون في كلامك وحسب، بل يزعمون وجود القرائن على بطلانه والتي تؤدّي بزعمهم إلى الريب.

في الآية الأخيرة- من المجموعة- نقف أمام قانون عام يرتبط بأعمال الناس، وقد أكّده القرآن مراراً، وهذا القانون يكمل البحث السابق بشأن استفادة المؤمنين من القرآن، بينما يحرم غير المؤمنين أنفسهم من فيض النور الإلهي والهدى الرباني. يقول تعالى في هذا القانون: «مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلمٍ لّلْعَبِيدِ».

لذا فإنّ من لم يؤمن بهذا الكتاب والدين العظيم فسوف لن يضروا اللَّه تعالى ولا يضروك، لأنّ الحسنات والسيئات تعود إلى أصحابها، وهم الذين سينالون حلاوة أعمالهم ومرارتها.

كلمة «ظلّام» والتي هي صيغة مبالغة بمعنى «كثير الظلم»، يمكن أن تشير- هنا وفي آيات قرآنية اخرى- إلى أنّ العقاب دون سبب من قبل الخالق العظيم يعتبر مصداقاً للظلم الكثير، لأنّه تعالى منزّه عن هذا الفعل.

وذهب بعضهم إلى أنّ اللَّه تعالى له عباد كثيرون، فلو أراد أن يظلم كل واحد منهم بجزء يسير قليل، عندها سيكون مصداقاً ل «ظلّام».

إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ مَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَ مَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَ لَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَ ظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 363

اللَّه العالم بكل شي ء: الآية الأخيرة- في المجموعة السابقة- تحدثت عن قانون تحمّل الإنسان مسؤولية أعماله خيراً كانت أم شراً، وعودة آثار أعماله على نفسه، وهي إشارة ضمنية لقضية الثواب والعقاب في يوم القيامة.

وهنا يطرح المشركون هذا السؤال: متى تكون هذه القيامة التي تتحدث

عنها؟ الآيتان اللتان نبحثهما تجيبان أوّلًا عن هذا السؤال، إذ يقول القرآن: إنّ اللَّه وحده يختص بعلم قيام الساعة: «إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ».

ثم تضيف الآية: ليس علم الساعة وحده من مختصات العلم الإلهي فحسب، بل يندرج معه أشياء اخرى مثل أسرار هذا العالم، وما يختص بالكائنات الظاهرة والمخفية: «وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مّنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ».

«أكمام»: جمع «كم» على وزن «جم» وتعني الغلاف الذي يغطّي الفاكهة و «كم» على وزن «قُم» تعني الجزء من الرداء الذي يغطّي اليد.

وبما أنّ أدقّ المراحل في عالم الكائن الحي هي مرحلة النمو في الرحم والولادة، لذلك أكّد القرآن على هاتين القضيتين، سواء في عالم الإنسان والحيوان، أم في عالم النبات.

ثم يضيف السياق القرآني: إنّ هذه المجموعة التي تنكر القيامة وتستهزى ء بها، ستتعرض إلى مشهد يقال لهم فيه: «وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَاءِى قَالُوا ءَاذَنكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ».

فما كنّا نقوله هو كلام باطل، كان كلاماً نابعاً من الجهل والعناد والتقليد الأعمى، واليوم عرفنا مدى بطلان ادعاءاتنا الواهية.

وهؤلاء في نفس الوقت الذي يسجّلون اعترافهم السابق، فهم أيضاً لا يشاهدون أثراً للمعبودات التي كانوا يعبدونها من دون اللَّه من قبل: «وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ».

إنّ مشهد القيامة مشهد موحش مهول بحيث يأخذ منهم الألباب، فينسون خواطر تلك الأصنام والمعبودات التي كانوا يعبدونها ويسجدون لها ويذبحون لها القرابين.

ففي ذلك اليوم سيعلمون: «وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ».

«محيص»: من «حيص» على وزن «حيف» وتعني العدول والتنازل عن شي ء، ولأنّ (محيص) اسم مكان، فهي تعني هنا الملجأ والمفر.

«ظنوا»: من «ظنّ» ولها في اللغة معنىً واسع، فهي أحياناً بمعنى اليقين، وتأتي أيضاً بمعنى الظن، وفي الآية مورد البحث جاءت

بمعنى اليقين.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 364

لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَ إِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَ لَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذَا لِي وَ مَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَ إِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَ نَأَى بِجَانِبِهِ وَ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) في نفس الاتجاه الذي تحدثت فيه الآيات السابقة، نلتقي مع مضمون المجموعة الجديدة من الآيات التي بين أيدينا. يقول تعالى: «لَّايَسَمُ الْإِنسنُ مِن دُعَاءِ الْخَيْرِ».

ولكنّه: «وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيُوسٌ قَنُوطٌ».

والمقصود بالإنسان هنا الإنسان غير المتربي بعدُ باصول التربية الإسلامية، والذي لم يتنور قلبه بالمعرفة الإلهية والإيمان باللَّه، ولم يحسّ بالمسؤولية بشكل كامل.

الآية التالية تشير إلى صفة اخرى من صفات الإنسان الجاهل البعيد عن العلم والإيمان متمثلة بالغرور: «وَلَئِنْ أَذَقْنهُ رَحْمَةً مّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذَا لِى».

أي: إنّني مستحق ولائق لمثل هذه المواهب والمقام.

تضيف الآية بعد ذلك أنّ هذا الغرور يقود الإنسان في النهاية إلى إنكار الآخرة حيث يقول: «وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً». ولنفرض أنّ هناك قيامة فإنّ حالي سيكون أحسن من هذا: «وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ و لَلْحُسْنَى .

لكنّ اللَّه يحذّر أمثال هؤلاء بقوله تعالى: «فَلَنُنَبّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ». «العذاب الغليظ»: هو العذاب الشديد المتراكم.

الآية التي بعدها تذكر حالة ثالثة لمثل هؤلاء، هي حالة النسيان عند النعمة والفزع والجزع عند المصيبة. يقول تعالى: «وَإِذَا أَنْعَمْنَا

عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَا بِجَانِبِهِ». أمّا:

«وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ».

«نا»: من «نأي» على وزن «رأي» وتعني الابتعاد، وعندما تقترن مع كلمة «بجانبه» فتكون كناية عن التكبّر والغرور، لأنّ المتكبرين ينأون بوجوههم دون اهتمام ويبتعدون.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 365

«العريض»: مقابل الطويل، ويستخدم العرب هاتين الكلمتين للدلالة على الزيادة والكثرة.

إنّ الإنسان الذي يفتقد الإيمان والتقوى يكون عرضة لمثل هذه الحالات، فهو مع إقبال النعم مغرور ناسٍ للَّه، وإذا أدبرت عنه فقنوط يائس كثير الجزع.

وفي الجانب المقابل نرى أنّ رجال الحق وأتباع الأنبياء والرسل لا يتغيّرون إذا أقبلت عليهم النعم، ولا يهنون أو ييأسون أو يجزعون عند إدبارها.

الآية الأخيرة تتضمن الخطاب الأخير لهؤلاء، وتبيّن لهم- بوضوح- الأصل العقلي المعروف بدفع الضرر المحتمل، حيث تخاطب النبي صلى الله عليه و آله فتقول: «قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ».

إنّه نفس الاسلوب الذي نقرأ عنه في محاججة أئمة المسلمين لأمثال هؤلاء الأفراد، كما نرى ذلك واضحاً في الحادثة التي ينقلها العلّامة الكليني رحمه الله في الكافي حيث يذكر فيه الحوار الذي دار بين الإمام الصادق عليه السلام وابن أبي العوجاء.

فمن المعروف أنّ عبد الكريم بن أبي العوجاء كان من ملاحدة عصره ودهرييه، وقد حضر الموسم الحج أكثر من مرّة والتقى مع الإمام الصادق عليه السلام في مجالس حوار، انتهت إلى رجوع بعض أصحابه عنه إلى الإسلام، ولكن ابن أبي العوجاء لم يسلم، وقد صرّح الإمام عليه السلام بأنّ سبب ذلك: «هو أعمى من ذلك لا يسلم».

والحادثة موضع الشاهد هنا، هي أنّ الإمام بضُر بابن أبي العوجاء في الموسم فقال له:

«ما جاء بك إلى هذا الموضع»؟ فقال: عادة الجسد، وسنّة

البلد ولننظر ما الناس فيه من الجنون والحلق ورمي الحجارة؟ فقال له عليه السلام: «أنت بعد على عتوك وضلالك يا عبد الكريم» «1».

فذهب يتكلم فقال له عليه السلام: «لا جدال في الحج». ونفض ردائه من يده وقال: «إن يكن الأمر كما تقول وليس كما تقول نجونا ونجوت وإن يكن الأمر كما نقول وهو كما نقول نجونا وهلكت».

فأقبل عبد الكريم على من معه فقال: وجدت في قلبي حزازة (ألم) فردّوني، فردّوه فمات.

______________________________

(1) يناديه الإمام بهذا الاسم، وهو اسمه الحقيقي مع كونه منكراً للَّه لكي يشعره مهانة ما هو عليه وهذا اسمه.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 366

سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطٌ (54) علائم الحق في العالم الكبير والصغير: الآيتان الختاميتان في هذه السورة تشيران إلى موضوعين مهمين، وهما بمثابة الخلاصة الأخيرة لبحوث هذه السورة المباركة.

فالآية الاولى تتحدث عن التوحيد (أو القرآن)، والثانية عن المعاد. يقول تعالى:

«سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِى الْأَفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ».

«آيات الآفاق» تشمل خلق الشمس والقمر والنجوم والنظام الدقيق الذي يحكمها، وخلق أنواع الأحياء والنباتات والجبال والبحار وما فيها من عجائب وأسرار لا تعد ولا تحصى وما في عالم الأحياء من عجائب لا تنتهي، إنّ كل هذه الآيات هي دليل على التوحيد وعلى وجود اللَّه.

أمّا «الآيات النفسية» مثل خلق أجهزة جسم الإنسان، والنظام المحيّر الذي يتحكّم بالمخ وحركات القلب المنتظمة والشرايين والعظام والخلايا، وانعقاد النطفة ونمو الجنين في ظلمات الرحم. ثم أسرار الروح العجيبة. إنّ كل ذلك هي كتاب مفتوح لمعرفة الإله الخالق العظيم.

نعود

الآن إلى الآية التي تنتهي بجملة ذات مغزى حيث يقول تعالى: «أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ شَهِيدٌ».

وهل هناك شهادة أفضل وأعظم من هذه التي كتبت بخط القدرة التكوينية على ناصية جميع الكائنات، على أوراق الشجر، في الأوراد والزهور، وبين طبقات المخ العجيبة، وعلى الأغشية الرقيقة للعين، وفي آفاق السماء وبواطن الأرض، وفي كل شي ء من الوجود تجد أثراً يدل على الخالق، وشهادة تكوينية على وحدانيته وقدرته وحكمته وعلمه (سبحانه وتعالى).

الآية الأخيرة في السورة تشير إلى الأساس والسبب في شقاء هذه المجموعة المشركة الفاسدة، إذ يقول تعالى عنهم: «أَلَا إِنَّهُمْ فِى مِرْيَةٍ مّن لِّقَاءِ رَبّهِمْ».

ولأنّهم لا يؤمنون بيوم الحساب والجزاء، فهم يقومون بأنواع الجرائم والمعاصي مهما

مختصر الامثل، ج 4، ص: 367

كانت. ولكنّهم يجب أن يعلموا: «أَلَا إِنَّهُ بِكُلّ شَىْ ءٍ مُّحِيطٌ».

إنّ جميع أعمالهم ونواياهم حاضرة في علم اللَّه، وكل ذلك يسجّل لمحكمة القيامة والحشر.

«مرية»: تعني التردّد في اتخاذ القرار، والبعض اعتبرها بمعنى الشك والشبهة العظيمة.

والآية- في هذا الجزء منها- ردّ على شبهات الكفار بخصوص المعاد، فهؤلاء يقولون:

كيف يمكن لهذا التراب المتناثر المختلط مع بعضه البعض أن ينفصل؟

والأكثر من ذلك: من الذي يحيط بنيات الناس وأعمالهم على مدى تاريخ البشرية؟

القرآن يجيب على كل ذلك بالقول: كيف يمكن للخالق المحيط بكل شي ء أن لا تكون هذه الامور طوع قدرته وواضحة بالنسبة له؟

ثم إنّ دليل إحاطة علمه بكل شي ء، هو تدبيره لكل هذه الامور، فكيف يجوز له أن لا يعلم بامور ما خلق ودبّر.

إنّ إحاطة الخالق جلّ وعلا بالموجودات والكائنات تتضمن معنى دقيقاً ولطيفاً يتمثل في ارتباط كل الكائنات والموجودات بالذات المقدسة.

وبعبارة اخرى: لا يوجد في عالم الوجود سوى وجود أصيل واحد قائم بذاته، وبقية الموجودات والكائنات تعتمد عليه

وترتبط به، بحيث لو زال هذا الإرتباط لحظة واحدة فلا يبقى شي ء منها.

«نهاية تفسير سورة فصّلت»

مختصر الامثل، ج 4، ص: 369

44. سورة الشورى

محتوى السورة: إنّ هذه السورة تتناول قضايا يمكن الإشارة إليها بما يلي:

1- في القسم الأوّل وهو أهم أقسام السورة، يشتمل البحث فيه على قضية الوحي الذي يمثل طريق ارتباط الأنبياء عليهم السلام باللَّه تبارك وتعالى.

2- ثم يشير إلى دلائل التوحيد، وآيات اللَّه في الآفاق والأنفس التي تكمّل البحث في موضوع الوحي.

3- في السورة إشارات إلى قضية المعاد ومصير الكفار في القيامة، وهو محدود قياساً إلى الأقسام الاخرى.

4- تشتمل السورة على مجموعة من البحوث الأخلاقية.

إنّ إطلاق اسم «الشورى» على هذه السورة المباركة يعود إلى محتوى الآية (38) منها والتي تدعو المسلمين إلى المشورة في امورهم.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ حم عسق بعثه اللَّه يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر، حتى يقف بين يدي اللَّه عزّ وجل فيقول:

عبدي أدمنت قراءة حم عسق ولم تدر ما ثوابها، أمّا لو دريت ما هي وما ثوابها لما مللت من قراءتها، ولكن سأجزيك جزاءك، أدخلوه الجنة». وعندما يدخل الجنة يرفل بأنواع النعم

مختصر الامثل، ج 4، ص: 370

الإلهية التي ذكرها الإمام الصادق عليه السلام في الحديث الآنف بشكل مفصّل «1».

حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَ الْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) مرّة اخرى تواجهنا الحروف المقطعة في مطلع السورة، وهي هنا تنعكس بشكل

مفصّل، إذ بين أيدينا خمسة حروف.

«حم» موجودة في بداية سبع سور قرآنية (المؤمن، فصّلت، الشورى، الزخرف، الدخان، الجاثية، والأحقاف) ولكن في سورة الشورى اضيف إليها مقطع «عسق».

بعد الحروف المقطعة تتحدث الآية الكريمة عن الوحي، فتقول: «كَذلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

«كذلك» إشارة إلى محتوى السورة ومضامينها.

ومصدر الوحي واحد، وهو علم اللَّه وقدرته، ومحتوى الوحي في الاصول والخطوط العريضة واحد أيضاً بالنسبة لجميع الأنبياء والرسالات.

وضروري أن نشير إلى أنّ الآيات التي نبحثها أشارت إلى سبع صفات من صفات اللَّه الكمالية، لكل منها دور في قضية الوحي بشكل معيّن، ومن ضمنها الصفتان اللتان نقرؤهما في هذه الآية: «الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

فعزّته تعالى وقدرته المطلقة تقتضي سيطرته على الوحي ومحتواه العظيم. وحكمته تستوجب أن يكون الوحي الإلهي حكيماً متناسقاً مع حاجات الإنسان التكاملية في جميع الامور والشؤون.

قوله تعالى: «لَهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ».

إنّ مالكيته تعالى لما في السماء والأرض تستوجب ألّا يكون غريباً عن مخلوقاته وما

______________________________

(1) ثواب الأعمال، نقلًا عن تفسير نور الثقلين 4/ 556.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 371

يؤول إليه مصيرها، بل يقوم بتدبير امورها وحاجاتها عن طريق الوحي، وهذه هي الصفة الثالثة من الصفات السبع.

أمّا «العليّ» و «العظيم» اللذان هما رابع وخامس صفة له- سبحانه وتعالى- في هذه الآيات، فهما يشيران إلى عدم حاجته لأيّ طاعة أو عبودية من عباده.

الآية التي بعدها تضيف: «تَكَادُ السَّموَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ» «1».

وذلك بسبب نزول الوحي من قبل اللَّه، أو بسبب التُهم الباطلة التي كان المشركون والكفار ينسبونها إلى الذات المقدسة ويشركون الأصنام في عبادته.

ويتّضح مما سلف أنّ للجملة معنيين:

الأوّل: أنّها تختص بموضوع الوحي، وهو في الواقع يشبه ما جاء في الآية (21) من سورة

الحشر في قوله تعالى: «لَوْ أَنزَلْنَا هذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدّعًا مّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ».

الثاني: أنّ السماوات تكاد تتفطّر وتتلاشى بسبب شرك المشركين وعبادتهم للأصنام من دون اللَّه، بل هم يساوون بين أدنى الكائنات والموجودات وبين المبدأ العظيم خالق الكون جلّ وعلا.

بقية الآية، قوله تعالى: «وَالْمَلِكَةُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الْأَرْضِ».

أمّا الرابطة بين هذا الجزء من الآية والجزء الذي سبقه، فهو- وفقاً للتفسير الأوّل- أنّ الملائكة الذين هم حملة الوحي العظيم وواسطته، يسبحون ويحمدون اللَّه دائماً، يحمدونه بجميع الكمالات، وينزّهونه عن جميع النواقص، وعندما ينحرف المؤمنون أحياناً، تقوم الملائكة بنصرهم ويطلبون المغفرة لهم من اللَّه تعالى.

أمّا وفق التفسير الثاني، فإنّ تسبيح الملائكة وحمدهم إنّما يكون لتنزيهه تعالى عمّا ينسب إليه من شرك، وهم يستغفرون كذلك للمشركين الذين آمنوا وسلكوا طريق التوحيد ورجعوا إلى بارئهم جلّ جلاله.

وأخيراً تشير نهاية الآية الكريمة إلى سادس وسابع صفة من صفات اللَّه تبارك وتعالى، وتنصب حول الغفران والرحمة، وتتصل بقضية الوحي ومحتواه، وبخصوص وظائف

______________________________

(1) «يتفطّرن»: من كلمة «فطر» على وزن «سطر» وتعني في الأصل الشق الطولي.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 372

المؤمنين، حيث يقول تعالى: «أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ». وبهذا الترتيب أتمّت الآيات الكريمات الإشارة إلى مجموعة متكاملة من الأسماء الحسنى المختصة باللَّه تعالى والمرتبطة بالوحي.

وفي نهاية الآية ثمّة إشارة لطيفة إلى استجابة دعاء الملائكة بخصوص استغفارهم للمؤمنين، بل إنّه تعالى يضيف الرحمة إلى صفة الغفور ممّا يدل على عظيم فضله.

وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَ مَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَ مَنْ حَوْلَهَا وَ تُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي

الْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ لكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ الظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَ لَا نَصِيرٍ (8) انطلاقة من ام القرى: تحدثت الآيات السابقة عن قضية الشرك، لذلك فإنّ الآية الاولى في المجموعة الجديدة، تتناول بالبحث نتيجة عمل المشركين وعاقبة أمرهم، حيث يقول تعالى: «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ».

ثم تخاطب الآية رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بقوله تعالى: «وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ».

إنّ مسؤوليتك هي تبليغ الرسالة وإيصال نداء اللَّه إلى جميع العباد.

يعود القرآن إلى قضية الوحي مرّةً اخرى، وإذا كانت الآيات السابقة قد تحدّثت عن أصل الوحي، فإنّ الكلام هنا ينصب حول الهدف النهائي له، إذ يقول تعالى: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا».

و «امّ القرى» هي مكة المكرمة.

ثم تنذر الناس من يوم القيامة وهو يوم الجمع الذي يجتمع فيه الناس للحساب والجزاء:

«وَتُنذِرُ يَوْمَ الْجَمْعِ لَارَيْبَ فِيهِ».

وفي ذلك اليوم ينقسم الناس إلى مجموعتين: «فَرِيقٌ فِى الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ».

وبما أنّ الآية أعلاه يقسّم الناس إلى فئتين، فإنّ الآية التي بعدها تضيف: «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً»؛ على الهداية. إلّاأنّ الإيمان الإجباري ليست له قيمة، وكيف يمكن لمثل هذا الإيمان أن يكون معياراً للكمال الإنساني.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 373

وكما أنّ ملكة الحرية والإختيار طريق إلى التكامل، فهي أيضاً سنّة إلهية لا تقبل التغيير.

تشير الآية بعد ذلك إلى وصف أهل الجنة والسعادة حيال أهل النار، فيقول تعالى:

«وَلكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مّن وَلِىّ وَلَا نَصِيرٍ».

إنّ كلمة «ولي» تشير إلى المشرف الذي يقوم بالحماية والمساعدة بحكم ولايته ودون أيّ طلب. أمّا

«النصير» فالذي يقوم بنصر الإنسان ومساعدته بعد أن يطلب العون.

أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَ هُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (9) وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْ ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَ مِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (12) الولي المطلق: أوضحت الآيات السابقة أن لا وليّ ولا نصير سوى اللَّه، والآيات التي بين أيدينا تعطي أدلة على هذه القضية، وتنفي الولاية لما دونه سبحانه وتعالى.

تقول الآية باسلوب التعجب والإنكار: «أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ». إلّاأنّه: «فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِىُّ». فلو أراد هؤلاء أن يختاروا ولياً، فعليهم أن يختاروا اللَّه.

ثم تذكر دليلًا آخر فتقول: «وَهُوَ يُحْىِ الْمَوْتَى .

ويجب اللجوء إليه لا لغيره، لأنّ المعاد والبعث بيده، وأنّ أكثر ما يخشاه الإنسان هو مصيره بعدالموت.

ثم تذكر دليلًا ثالثاً فتقول: «وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

وهذه إشارة إلى أنّ الشرط الرئيسي للولي هو امتلاكه للقدرة الحقيقية.

الآية التي بعدها تشير إلى الدليل الرابع لولايته تعالى فتقول: «وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْ ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ». فهو الوحيد الذي يستطيع أن يحل مشاكلكم.

إنّ من اختصاصات الولاية أن يستطيع الولي إنهاء اختلافات من هم تحت ولايته بحكمه الصائب.

وبعد ذكر الدلائل المختلفة على اختصاص الولاية باللَّه، تقول الآيات على لسان

مختصر الامثل، ج 4، ص: 374

النبي صلى الله عليه و آله: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبّى». فهو الذي يتصف بهذه الأوصاف الكمالية ولهذا السبب:

«عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ». أي: أعود إليه في

المشكلات والشدائد والزلات. الآية التي تليها يمكن أن تكون دليلًا خامساً على ولاية اللَّه المطلقة، أو دليلًا على ربوبيته، واستحقاقه دون غيره للتوكل والإنابة، إذ تقول: «فَاطِرُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

«فاطر»: من مادة «فطر» وتعني في الأصل فتق شي ء ما، وكأنّما الآية تشير إلى تفتق ستار العدم المظلم عند خلق الكائنات وخروج الموجودات منه.

والمقصود بالسماوات والأرض هنا جميع السماوات والأرض وما فيها من كائنات وما بينها، لأنّ الخالقية تشملها جميعاً.

ثم تشير الآية إلى وصف آخر من أفعاله تعالى فتقول: «جَعَلَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ».

إنّ الزواج يعتبر أساساً لراحة الروح وسكون النفس، ومن جانب آخر يعتبر الزواج أساساً لبقاء النسل واستمراره، وتكاثره.

الصفة الثالثة التي تذكرها الآية هو قوله تعالى: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ».

إنّ هذا الجزء من الآية يتضمّن حقيقة أساسية في معرفة صفات اللَّه الاخرى، وبدونها لا يمكن التوصّل إلى أيّ صفة من صفات اللَّه، لأنّ أكبر منزلق يواجه السائرين في طريق معرفة اللَّه يتمثل في «التشبيه» حيث يشبّهون الخالق جلّ وعلا بصفات مخلوقاته، وهو أمر يؤدّي للسقوط في وادي الشرك.

إنّ وجود اللَّه تعالى ليس له نهاية ولا يحدّ بحدّ، وكل شي ء غيره له نهاية وحدّ من حيث القدر والعمر والعلم والحياة والإرادة والفعل ...؛ وفي كل شي ء.

وهذا هو خط تنزيه الخالق من نقائص الممكنات.

تشير نهاية الآية إلى صفات اخرى من صفات اللَّه: «وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ».

هو الخالق والمدبّر، والسميع والبصير، وفي نفس الوقت ليس له شبيه أو نظير أو مثيل.

الآية التي بعدها تتحدث عن ثلاثة أقسام اخرى من صفات الفعل والذات حيث توضّح كل واحدة منها قضية الولاية والربوبية في بعدٍ خاص. يقول تعالى: «لَهُ مَقَالِيدُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

فكل ما يملكه مالك هو منه سبحانه

وتعالى، وكل ما يرغب به راغب ينبغي أن يطلبه

مختصر الامثل، ج 4، ص: 375

منه، لأنّ له تعالى خزائن السماوات والأرض وليس «مفاتيحها» وحسب «وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ» «1».

«مقاليد»: جمع «مقليد» وتعني المفتاح، وهي تستخدم ككناية للسيطرة الكاملة على كل شي ء.

وفي الصفة الاخرى، والتي هي في الواقع ثمرة ونتيجة للصفة السابقة تقول الآية: «يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ».

لأنّ بيده تعالى جميع خزائن السماوات والأرض، فإنّ جميع الأرزاق في قبضته، ويقسّمها وفقاً لمشيئته التي تصدر بمقتضى حكمته، ويلاحظ فيها مصلحة العباد.

إنّ من مقتضيات استفادة جميع الكائنات من رزقه تعالى هو العلم بمقدار حاجتها، ومكانها وسائر شؤون حياتها الاخرى، لذا تضيف الآية في آخر صفة قوله تعالى: «إِنَّهُ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ».

وبذلك يتّضح أنّ الآيات الأربع التي بحثناها ذكرت إحدى عشرة صفة من صفات اللَّه الكمالية سواء الذاتية منها أم الفعلية.

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَ مَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسَى وَ عِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَ مَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَ لَوْ لَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) الإسلام عصارة شرائع جميع الأنبياء: بما أنّ العديد من بحوث هذه السورة تتعلّق بالمشركين، وأنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن نفس هذا الموضوع أيضاً، لذا فإنّ الآيات التي نبحثها تبيّن هذه الحقيقة، وهي أنّ دعوة الإسلام إلى التوحيد ليست دعوة جديدة. تقول الآية: «شَرَعَ لَكُم مّنَ الدّينِ مَا وَصَّى بِهِ

نُوحًا». والذي هو أوّل نبيّ من أولي العزم.

______________________________

(1) سورة المنافقون/ 7.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 376

وأيضاً: «وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى .

وبهذا الشكل فما كان موجوداً في شرائع جميع الأنبياء موجود في شريعتك أيضاً.

لذا، وكتعليمات عامّة لجميع الأنبياء العظام، تقول الآية في الجملة الاخرى: «أَنْ أَقِيمُوا الدّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ». وبعد ذلك تقول: «كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ».

فلقد تطبّع هؤلاء على الشرك وعبادة الأصنام بسبب الجهل والتعصّب لسنين طويلة، وعشعش ذلك في أعماقهم بحيث أصبحت الدعوة إلى التوحيد تخيفهم وتوحشهم.

وكما أنّ انتخاب الأنبياء بيد الخالق، كذلك فإنّ هداية الناس بيده أيضاً: «اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ».

لقد أشارت هذه الآية إلى خمسة من الأنبياء الإلهيين فقط (نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد عليهم السلام) لأنّ هؤلاء الخمسة هم الأنبياء اولوا العزم، أي أصحاب الدين والشرائع، وفي الحقيقة فإنّ الآية تشير إلى انحصار الشريعة بهؤلاء الخمسة من الأنبياء.

وبما أنّ أحد أركان دعوة الأنبياء من اولى العزم هو عدم التفرّق في الدين، فقد كانوا يدعون لذلك حتماً، لذا فقد يطرح هذا السؤال: ما هو أساس كل هذه الاختلافات المذهبية؟

وقد أجابت الآية الاخرى على هذا السؤال وذكرت أساس الاختلافات الدينية بأنّه:

«وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ».

وبهذا الترتيب فإنّ أساس التفرّق في الدين لم يكن الجهل، بل كان الظلم والبغي والانحراف عن الحق، والأهواء والآراء الشخصية.

«فالعلماء الذين يطلبون الدنيا» و «الحاقدون من الناس والمتعصبون» إتحدوا معاً لزرع هذه الاختلافات.

وتعتبر هذه الآية ردّاً واضحاً على الذين يقولون بأنّ الدين أوجد الاختلاف بين البشر، وأدّى إلى إراقة دماء كثيرة على مدى التاريخ.

ثم يضيف القرآن الكريم: «وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ إِلَى

أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِىَ بَيْنَهُمْ».

حيث يهلك أتباع الباطل وينصر أتباع الحق.

فالدنيا هي محل الاختبار والتربية والتكامل، ولا يحصل هذا بدون حرية العمل، وهذا

مختصر الامثل، ج 4، ص: 377

هو الأمر التكويني الإلهي الذى كان موجوداً منذ بدء خلق الإنسان ولا يقبل التغيير، إنّ هذه هي طبيعة الحياة الدنيوية، ولكن ما يمتاز به عالم الآخرة هو أنّ جميع هذه الاختلافات ستنتهي وسوف تصل الإنسانية إلى الوحدة الكاملة.

أمّا آخر جملة فتقوم بتوضيح حال الأشخاص الذين جاؤوا بعد هذه المجموعة، أي الذين لم يدركوا عصر الرسل، حيث تقول: «وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِى شَكّ مِّنْهُ مُرِيبٍ».

فَلِذلِكَ فَادْعُ وَ اسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَ لَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَ قُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَ رَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَ لَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) فاستقم كما امرت: بما أنّ الآيات السابقة تحدّثت عن تفرّق الامم بسبب البغي والظلم والانحراف، لذا فإنّ الآية التي نبحثها تأمر النبي بمحاولة حلّ الاختلافات وإعادة الحياة إلى دين الأنبياء، وأن يبذل منتهى الاستقامة في هذا الطريق، فتقول: «فَلِذلِكَ فَادْعُ». أي:

ادعوهم إلى الدين الإلهي الواحد وامنع الإختلافات.

ثم تأمره بالإستقامة في هذا الطريق، فتقول: «وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ».

ولعلّ جملة «كما امرت» إشارة إلى المرحلة العالية من الإستقامة، أو إلى أنّ الاستقامة يجب أن تكون من حيث الكمية والكيفية والزمن والخصوصيات الاخرى مطابقة للقانون الإلهي.

وبما أنّ أهواء الناس تعتبر من الموانع الكبيرة في هذا الطريق، لذا تقول الآية في ثالث أمر لها: «وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ»، لأنّ كل مجموعة ستدعوك إلى أهوائها ومصالحها الشخصية، تلك الدعوة التي يكون مصيرها الفرقة والاختلاف والنفاق.

وبما أنّ لكل دعوة

نقطة بداية، لذا فإنّ نقطة البداية هي شخص الرسول صلى الله عليه و آله، حيث تقول الآية في رابع أمر لها: «وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ».

وبما أنّ رعاية (أصل العدالة) ضروري لإيجاد الوحدة، لذا فإنّ الآية تطرح ذلك في خامس أمر لها فتقول: «وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ». سواء في القضاء والحكم، أو في الحقوق الإجتماعية والقضايا الاخرى.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 378

بعد هذه التعليمات الخمس، تشير إلى المشتركات بين الأقوام والتي تتلخص بخمس فقرات، حيث تقول: «اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ». وكل واحد مسؤول عن أعماله: «لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ». «لَاحُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ».

إضافة إلى ذلك فإنّنا جميعاً سوف نجتمع في مكان واحد: «اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا».

والذي سوف يقضي بيننا في ذلك اليوم هو الأحد الذي: «وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ».

وعلى هذا الأساس فإنّ إلهنا واحد، ونهايتنا ستكون في مكان واحد، والقاضي الذي إليه المصير واحد، وبالرغم من كل هذا فإنّنا مسؤولون جميعاً حيال أعمالنا، وليس هناك فرق لإنسان على آخر إلّابالإيمان والعمل الصالح.

وَ الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ عَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَ الْمِيزَانَ وَ مَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَ الَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) الآيات السابقة كانت تتحدث عن واجبات النبي صلى الله عليه و آله، كاحترامه لمحتوى الكتب السماوية، وتطبيق العدالة بين جميع الناس وترك أيّ محاججة أو خصومة بينه وبينهم، أمّا الآيات التي نبحثها، فلكي تكمّل البحث السابق وتثبت أنّ حقانية نبي الخاتم لا تحتاج إلى دليل، تقول: «وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِى

اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبّهِمْ».

وبما أنّ نقاشهم ومحاججتهم ليس لكشف الحقيقة، بل للعناد والإصرار تقول الآية:

«وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ». «وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ» لعدم وجود غير هذا الجزاء للمعاندين.

والمقصود من جملة «مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ» هو استجابة عامة الناس من ذوي القلوب الطاهرة، والذين ليست لهم نوايا خبيثة، ويستسلمون للحق ويخضعون له مستلهمين ذلك من الفطرة الإلهية ومشاهدة محتوى الوحي والمعاجز المختلفة للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 379

ثم يشير القرآن إلى أحد أدلة التوحيد وقدرة الخالق، وفي نفس الوقت يتضمّن إثبات النبوّة حيال المتحاججين ذوي المنطق الواهي، حيث تقول الآية: «اللَّهُ الَّذِى أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ وَالْمِيزَانَ».

«الحق» كلمة جامعة تشمل المعارف والعقائد الحقة، والأخبار الصحيحة والبرامج المتطابقة مع الحاجة الفطرية والاجتماعية، وما شابه ذلك.

وأمّا «الميزان» فله معنى عام في مثل هذه الموارد، بالرغم من أنّ معناه اللغوي هو وسيلة لقياس الوزن، إلّاأنّه في معناه الكنائي يطلق على أيّ معيار للقياس الصحيح، وحتى شخص الرسول صلى الله عليه و آله والأئمة عليهم السلام، حيث أنّ وجودهم معيار لتشخيص الحق من الباطل وميزان يوم القيامة، والميزان في القيامة يراد به هذا المعنى.

بناءً على هذا فإنّ الخالق أنزل كتاباً على نبي الخاتم صلى الله عليه و آله بحيث يعتبر هو الحق، والميزان للتقييم.

وبما أنّ نتيجة كل هذه الامور، خاصة ظهور الحق بشكل كامل وتحقق العدالة وإقامة الميزان تتّضح في يوم القيامة، لذا فإنّ الآية تقول في نهايتها: «وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ».

ثم يشير القرآن إلى موقف الكفار والمؤمنين حيال القيامة، فتقول الآية: «يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِهَا».

فهؤلاء لا يقولون ذلك بسبب عشقهم للقيامة والوصول إلى لقاء المحبوب، أبداً، إنّ كلامهم هذا

من قبيل الاستهزاء والإنكار.

«وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ».

ومن هنا يتّضح مدى التأثير التربوي العميق للإيمان بالقيامة ومحكمة العدل الإلهي الكبيرة على المؤمنين خاصة وفي احتمالهم حصول هذا الأمر في أيّة لحظة من اللحظات.

وكإعلان عام، تقول الآية في نهايتها: «أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِى السَّاعَةِ لَفِى ضَللٍ بَعِيدٍ». لأنّ نظام هذا العالم يعتبر- بحدّ ذاته- دليلًا على أنّه مقدمة لعالم آخر وبدونه سيكون خلق هذا العالم عبثاً وليس له أيّ معنى، وهذا لا يتناسب مع حكمة الخالق ولا مع عدالته.

اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 380

بما أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن العذاب الإلهي الشديد وعن طلب منكري المعاد للتعجيل بقيام القيامة، لذا فإنّ أوّل آية نبحثها هنا تقرن «الغضب» الالهي مع «اللطف» الالهي في معرض ردّها على استعجال منكري المعاد: «اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ».

ثم تطرح الآية أحد مظاهر لطفه العام وهو الرزق، فتقول: «يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ». وهذا لا يعني أنّ هناك جماعة محرومون من رزقه، بل المقصود البسط في الرزق لمن يشاء.

ونقرأ في الآية (27) من هذه السورة: «وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِى الْأَرْضِ».

وواضح أنّ (الرزق) هنا يشمل الرزق المعنوي والمادي، الجسماني والروحاني.

وتقول الآية في نهايتها: «وَهُوَ الْقَوِىُّ الْعَزِيزُ».

وعندما يعداللَّه تعالى عباده بالرزق واللطف فهو قادر على إنجاز هذا الأمر، ولهذا السبب لا يوجد أيّ تخلّف في وعوده أبداً.

الآية التي بعدها شبّهت أفراد العالم حيال رزق الخالق وكيفية الاستفادة منه بالمزارعين الذين يقوم قسم منهم بالزراعة للآخرة والقسم الآخر

للدنيا، وتحدد عاقبة كل قسم منهم وفق تشبيه لطيف حيث تقول: «مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْأَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِى الْأَخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ».

وعلى هذا الأساس فلا طلّاب الدنيا يصلون إلى ما يريدون، ولا طلّاب الآخرة يحرمون من الدنيا.

أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَ لَوْ لَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَ هُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: ورد في سبب نزول الآيات (23- 26) من هذه السورة، أنّه ذكر

مختصر الامثل، ج 4، ص: 381

أبو حمزة الثمالي في تفسيره: حدّثني عثمان بن عمير عن سعيد بن جبير عن عبداللَّه بن عباس:

أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حين قدم المدينة واستحكم الإسلام قالت الأنصار فيما بينها: نأتي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فنقول له: إن تَعرُك امور فهذه أموالنا تحكم فيها غير حرج ولا محظور عليك. فأتوه في ذلك فنزلت: «قُلْ لَاأَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى . فقرأها عليهم وقال:

«تودّون قرابتي من بعدي». فخرجوا من عنده مسلّمين لقوله. فقال المنافقون: إنّ هذا الشي ء افتراه في مجلسه أراد بذلك أن يذلّلنا لقرابته من بعده. فنزلت: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا». فأرسل

إليهم فتلاها عليهم فبكوا واشتدّ عليهم فأنزل اللَّه: «وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَن عِبَادِهِ» الآية. فأرسل في أثرهم فبشّرهم وقال: «وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءَامَنُوا» وهم الذين سلّموا لقوله.

التّفسير

أجر الرسالة في مودّة أهل البيت عليهم السلام: بما أنّ الآية (13) من هذه السورة كانت تتحدث عن تشريع الدين من قبل الخالق بواسطة الأنبياء اولي العزم، لذا فإنّ أوّل آية في هذا البحث- كاستمرار للموضوع- تقول في مجال نفي تشريع الآخرين، وأنّ جميع القوانين ليست معتبرة قبال القانون الإلهي، وأنّ التقنين يختص بالخالق: «أَمْ لَهُمْ شُرَكؤُا شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ».

وبعد ذلك يقوم القرآن بتهديد المشرّعين بالباطل، حيث تقول الآية: «وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ» حيث يصدر الأمر بعذابهم.

وفي نفس الوقت يجب عليهم أن لاينسوا هذه الحقيقةوهي: «وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

المقصود من (كلمة الفصل) هي المدّة المقررة المعطاة من قبل الخالق لمثل هؤلاء الأفراد، كي تكون لهم حرية العمل وتتم الحجة عليهم.

كما أنّ عبارة (ظالمين) تتحدث عن المشركين الذين لهم عقائد منحرفة قبال القوانين الإلهية وذلك بسبب اتساع مفهوم الظلم، وإطلاقه على أيّ عمل ليس في مورده.

ويظهر أنّ المقصود من (العذاب الأليم) هو عذاب يوم القيامة.

ثم تذكر الآية بياناً مجملًا حول (عذاب الظالمين) ثم بياناً مفصّلًا عن (جزاء المؤمنين)، فتقول: «تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِى رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 382

«روضات»: جمع (روضة) وتعني المكان الذي يشتمل على الماء والشجر الكثير، لذا فإنّ كلمة (روضة) تطلق على البساتين الخضراء، ونستفيد من هذه العبارة بشكل واضح أنّ بساتين الجنة متفاوتة، والمؤمنون من ذوي الأعمال الصالحة في أفضل بساتين الجنة.

إلّا أنّ الفضل الإلهي بخصوص المؤمنين ذوي الأعمال الصالحة لا

ينتهي هنا، فسوف يشملهم اللطف الإلهي بحيث: «لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبّهِمْ».

وبهذا الترتيب لا يوجد أيّ قياس بين (العمل) و (الجزاء)، بل إنّ جزاءهم غير محدود من جميع الجهات.

والأجمل من ذلك عبارة «عِندَ رَبّهِمْ» حيث توضّح اللطف الإلهي اللامتناهي بشأنهم، وهل هناك فوز أكبر من أن يصلوا إلى قرب مقام الخالق.

وليس غريباً أن تقول الآية في نهايتها: «ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ».

ولبيان عظمة هذا الجزاء تقول الآية التي بعدها: «ذلِكَ الَّذِى يُبَشّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ».

يبشرهم حتى لا تَصعُب عندهم آلام الطاعة والعبودية ومجاهدة هوى النفس والجهاد حيال أعداء اللَّه.

وقد يتوهم أنّ نبي الخاتم صلى الله عليه و آله يريد جزاءً وأجراً على إبلاغ هذه الرسالة، لذا فإنّ القرآن يأمر الرسول بعد هذا الكلام ليقول: «قُلْ لَّاأَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى . أي حبّ أهل بيتي.

ومودّة ذوي القربى ومحبّتهم ترتبط بقضية الولاية وقبول قيادة الأئمة المعصومين عليهم السلام من آل الرسول حيث تعتبر في الحقيقة استمراراً لقيادة النبي واستمراراً للولاية الإلهية، وجليّ أنّ قبول هذه الولاية والقيادة كقبول نبوّة النبي صلى الله عليه و آله ستكون سبباً لسعادة البشرية نفسها وستعود نتائجها إليها.

في تفسير القرطبي: في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس: لمّا أنزل اللَّه عزّ وجل: «قُلْ لَّا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى قالوا: يا رسول اللَّه! من هؤلاء الذين نودهم؟

قال: «علي وفاطمة وأبناؤهما».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 383

ومن الضروري الإشارة إلى هذه الملاحظة، وهي أنّه ورد في آخر الآية: «وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حَسَنًا إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ». وهل هناك حسنة أفضل من أن يكون الإنسان دائماً تحت راية القادة الإلهيين، يحبّهم بقلبه، ويستمر على خطهم،

يطلب منهم التوضيح للقضايا المبهمة في كلام الخالق، يعتبرهم القدوة والأسوة وسيرتهم وعملهم هو المعيار.

«اقترف» مأخوذة في الأصل من (قرف) على وزن (حرف) وتعني قطع القشرة الإضافية من الشجرة، أو من الجروح الحاصلة، حيث تكون أحياناً علامة على شفاء الجرح وتحسنه، هذه الكلمة استخدمت فيما بعد في الإكتساب سواء كان حسناً أو سيئاً.

والطريف في الأمر أنّ بعض التفاسير تنقل عن ابن عباس و (السدّي) أنّ المقصود من (اقتراف الحسنة) في الآية الشريفة هو مودة آل محمّد.

وجاء في حديث عن الإمام الحسن بن علي عليه السلام: «اقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت».

وواضح أنّ المقصود من هذه التفاسير أنّ معنى اكتساب الحسنة لايتحدد بمودّة أهل البيت عليهم السلام، بل له معنى أوسع و أشمل ولكن بما أنّ هذه الجملة وردت بعد قضية مودّة ذي القربى لذا فإنّ أوضح مصداق لإكتساب الحسنة هو هذه المودّة.

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَ يَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَ يُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَ يَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَ يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ الْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) هذه الآيات تعتبر استمراراً للآيات السابقة في موضوع الرسالة وأجرها، ومودّة ذوي القربى وأهل البيت عليهم السلام. فأوّل آية تقول: إنّ هؤلاء القوم لا يقبلون الوحي الإلهي، بل: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا». وهذا الإعتقاد وليد أفكارهم حيث ينسبونه إلى الخالق.

في حين: «فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ» ويجرّدك من قابلية إظهار هذه الآيات.

وفي الحقيقة، فإنّ هذا الأمر إشارة إلى الاستدلال المنطقي المعروف، وهو أنّه إذا ادعى شخص

النبوّة، وجاء بالآيات البينات والمعاجز، وشمله النصر الإلهي، فلو كذب على الخالق فإنّ الحكمة الإلهية تقتضي سحب المعاجز منه وفضحه وعدم حمايته.

ثم تقول الآية لتأكيد هذا الموضوع: «وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 384

فهذه هي مسؤولية الخالق في توضيح الحق وفضح الباطل وفقاً لحكمته، وإلّا فكيف يسمح لشخص بالكذب عليه وفي نفس الوقت ينصره ويظهر على يديه المعاجز؟

كما أنّ من الاخطاء الكبيرة أن يتصور بعض المشركين قيام الرسول صلى الله عليه و آله بهذا العمل مخفياً ذلك عن علم الخالق: «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ».

وبما أنّ الخالق يبقي طريق الرجعة مفتوحاً أمام العباد، لذا فإنّ الآيات القرآنية بعد ذم أعمال المشركين والمذنبين القبيحة تشير إلى أنّ الابواب التوبة مفتوحة دائماً، ولذا تقول الآية محل البحث: «وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيّئَاتِ».

إلّا أنّكم إذا تظاهرتم بالتوبة وأخفيتم أعمالًا اخرى، فلا تتصوروا أنّ ذلك يخفى عن علم الخالق، لأنّه: «وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ».

أمّا آخر آية فتوضّح الجزاء العظيم للمؤمنين، والعذاب الأليم للكافرين في جمل قصيرة فتقول: إنّ اللَّه تعالى يستجيب لدعاء المؤمنين وطلباتهم: «وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ». بل: «وَيَزِيدُهُم مّن فَضْلِهِ». وسوف يعطيهم ما لم يطلبوا: «وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ». هذه السورة (سورة الشّورى) من السور المكية إلّاأنّ بعض المفسرين يعتقدون أنّ هذه الآيات الأربع (23- 26) نزلت في المدينة، وسبب النزول الذي ذكرناه في بداية تفسير هذه الآيات يشهد على هذا المعنى.

وأيضاً فإنّ الروايات التي تفسّر أهل البيت بعليّ وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين عليهم السلام تناسب هذا المعنى، لأنّنا نعلم أنّ زواج علي من سيدة النساء عليهما السلام تمّ في المدينة، وولادة الحسن والحسين عليهما السلام كانتا في العام الثالث والرابع

الهجري على ما رواه المؤرخون.

وَ لَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَ لكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَ يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَ هُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَ مِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَ هُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لَا نَصِيرٍ (31)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 385

سبب النّزول

في تفسير القرطبي: قال خباب بن الأرت: أنّ الآية «وَلَوْ بَسَطَ ...» فينا نزلت، نظرنا إلى أموال بني النضير وقريظة وبني قينقاع فتمنيناها فنزلت.

التّفسير

ورد في آخر آية من الآيات السابقة من أنّ الخالق يستجيب دعوة المؤمنين، وفي أعقاب ذلك يطرح هذا السؤال: لماذا نرى البعض منهم فقراء، ولا ينالون ما يرغبونه مهما يدعون؟

تقول الآية: «وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِى الْأَرْضِ وَلكِن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ».

وبهذا الترتيب فإنّ تقسيم الأرزاق يقوم على حساب دقيق من قبل الخالق تجاه عباده، وهذا يحدث بسبب: «إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ».

فهو يعلم بمقدار استيعاب أيّ شخص فيعطيه الرزق وفقاً لمصلحته، فلا يعطيه كثيراً ليطغى، ولا قليلًا فيعيش الضنك من الفقر.

صحيح أنّ الخالق ينزل الرزق بقدر حتى لا يطغي العباد، إلّاأنّه لا يمنعهم أو يحرمهم، لذا فإنّ الآية التي بعدها تقول: «وَهُوَ الَّذِى يُنَزّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ».

ولماذا لا يكون هذا: «وَهُوَ الْوَلِىُّ الْحَمِيدُ».

هذه الآية تتحدث عن آيات وعلائم التوحيد في نفس الوقت الذي تبيّن فيه نعمة ولطف الخالق،

لأنّ نزول المطر يشتمل على نظام دقيق للغاية ومحسوب.

ولهذه المناسبة- أيضاً- فإنّ الآية التي بعدها تتحدث عن أهم آيات علم وقدرة الخالق، حيث تقول: «وَمِن ءَايَاتِهِ خَلْقُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِّن دَابَّةٍ».

وتقول الآية في نهايتها: «وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ».

والمقصود من جمع الأحياء الذي تذكره هذه الآية، فقد ذكر العديد من المفسّرين أنّه الجمع للحساب وجزاء الأعمال في القيامة.

ويحتمل في تفسير الآية أعلاه أنّ المقصود من (الجمع) الجانب المقابل ل (بث)، أي أنّ (بث) تشير إلى خلق أنواع الكائنات الحية باختلافها، ثم إذا شاء الخالق (جمعها) وأفناها.

فكما أنّ العديد من الأحياء- (على مدى التاريخ)- انتشرت بشكل عجيب، ثم انقرضت واختفت فيما بعد، كذلك جمعها وإبادتها يكون بيد الخالق.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 386

وبما أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن الرحمة الإلهية، لذا يُطرح سؤال في هذا المجال، وهو كيف تجتمع الرحمة وكل هذه المصائب التي تصيبنا.

الآية الاخرى تجيب على هذا السؤال وتقول: «وَمَا أَصَابَكُم مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ».

ثم إنّ هذا الجزاء ليس جزاءً على جميع أعمالكم القبيحة، لأنّه «وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ».

تبيّن هذه الآية وبوضوح أنّ فلسفة الحوادث المؤلمة والمشاكل الحياتية التي تصيب الإنسان هي نوع من التحذير والعقاب الإلهي.

في جامع الأخبار عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قال: «إنّ البلاء للظالم أدب، وللمؤمن امتحان، وللأنبياء درجة، وللأولياء كرامة».

على أيّة حال، فقد يتصوّر البعض أنّهم يستطيعون الهروب من هذا القانون الإلهي الحتمي، لذا فإنّ آخر آية في هذا البحث تقول: «وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِى الْأَرْضِ» «1».

وفي السماء بطريق أولى وكيف تستطيعون الهروب من قدرته وحاكميته في حين أنّ كل عالم الوجود هو في قبضته ولا منازع له. وإذا كنتم تعتقدون بوجود

من سيساعدكم وينصركم، فاعلموا: «وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِىّ وَلَا نَصِيرٍ».

وفي الحقيقة فإنّ آخر آية تجسّد ضعف وعجز الإنسان، والآية التي قبلها عدالة الخالق ورحمته.

وَ مِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَ يَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَ يَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)

______________________________

(1) «معجزين»: من كلمة «إعجاز»، إلّاأنّها وردت في العديد من الآيات القرآنية بمعنى الهروب من محيط القدرة الإلهية ومن عذابه، حيث يقتضي معناها ذلك.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 387

هبوب الرياح المنتظمة وحركة السفن: مرّة اخرى نشاهد أنّ هذه الآيات تقوم بتبيان علائم الخالق وأدلة التوحيد، وتستمر في البحث الذي أشارت إليه الآيات السابقة بهذا الخصوص، وهنا تذكر موضوعاً يتعامل معه الإنسان كثيراً في حياته المادية، خصوصاً المسافرين عبر البحار وسكّان السواحل، حيث تقول الآية: «وَمِنْ ءَايَاتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالْأَعْلمِ».

«جوار»: جمع «جارية» وهي صفة للسفن حيث لم تذكر للإختصار، وعادةً فإنّ الآية تقصد حركة السفن، ولذا فقد استخدمت هذه الصفة.

«أعلام»: جمع «علم» تعني الجبل، إلّاأنّها في الأصل بمعنى العلامة والأثر الباقي الذي يخبر عن شي ء معيّن، مثل (علم الطريق) و (علم الجيش) وما شابه.

أمّا سمّي الجبل بالعلم لأنّه ظاهر من بعيد، وأحياناً كانوا يشعلون النار فوق قمّته حتى تكون مناراً للسائرين.

وعلى هذا الأساس فإنّ القرآن يعتبر حركة السفن العملاقة في هذه الآية- كما في الآيات المتعددة الاخرى- بسبب هبوب الرياح المنتظمة، من آيات الخالق.

وللتأكيد أكثر تقول

الآية: «إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ».

وكإستنتاج تضيف الآية في نهايتها: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَاتٍ لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ».

فهبوب الرياح، وحركة السفن، وخلق البحار، والنظام الخاص المتناسق الذي يتحكّم بهذه الامور ... كلّها آيات مختلفة للذات المقدسة.

«صبّار» و «شكور» صيغتا مبالغة، فهاتان الصفتان توضحان حقيقة الإيمان، لأنّ المؤمن صبور في المشاكل والإبتلاءات وشكور في النعم.

في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر».

مرّة اخرى، لتجسيد عظمة هذه النعمة الإلهية، تقول الآية الاخرى: «أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا». أي لو شاء لأباد هذه السفن بسبب الأعمال التي إرتكبها المسافرون.

إلّا أنّه بالرغم من ذلك فإنّ اللطف الإلهي يشمل الإنسان: «وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ».

ونقرأ في الآية (45) من سورة فاطر: «وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلكِن يُؤَخّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى». «وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى ءَايَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ». وما لهم من ملجأ سوى ذاته

مختصر الامثل، ج 4، ص: 388

المنزّهة.

«محيص»، مأخوذة من كلمة «حيص» على وزن (حيف) وتعني الرجوع والعدول عن أمر ما، وبما أنّ (محيص) اسم مكان، لذا وردت هذه الكلمة، بمعنى محل الهروب أو الملجأ.

والكلام في آخر آية موجّه إلى الجميع حيث تقول: «فَمَا أُوتِيتُم مّن شَىْ ءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا».

ولكن «وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ».

فلو استطعتم أن تستبدلوا هذا المتاع الدنيوي الزائل المحدود التافه بمتاع أبدي خالد، فتلك هي التجارة المربحة العديمة النظير.

في صحيح مسلم: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «واللَّه ما الدنيا في الآخرة إلّامثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم، فلينظر بم ترجع»؟

وَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوَاحِشَ وَ

إِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَ أَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) هذه الآيات استمرار للبحث الوارد في الآيات السابقة بخصوص الأجر الإلهي للمؤمنين المتوكلين.

فبعد ذكر الإيمان والتوكل اللذين لهما طبيعة قلبيّة، تشير هذه الآيات إلى سبعة أنواع من البرامج العملية، وهذه البرامج توضّح اسس المجتمع الصالح والحكومة الصالحة القوية.

فأوّل صفة تبدأ من التطهير حيث تقول الآية أنّ الثواب الإلهي العظيم سوف يكون من نصيب المؤمنين المتوكلين: «وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ».

«كبائر»: جمع «كبيرة» وتعني الذنوب الكبيرة. وقد ورد تفسير للكبائر في روايات أهل البيت عليهم السلام بأنّها: «التي أوجب اللَّه عزّ وجل عليها النار» «1».

______________________________

(1) من لا يحضره الفقيه 1/ 175؛ تفسير العياشي 1/ 151؛ ثواب الأعمال/ 197.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 389

وعلى هذا الأساس فإنّ أوّل علائم الإيمان والتوكّل هو الاجتناب عن (الكبائر).

أمّا ثاني صفة، والتي لها طبيعة تطهيرية أيضاً، فهي السيطرة على النفس عند الغضب الذي يعتبر من أشدّ حالات الإنسان حيث تقول الآية: «وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ».

فهؤلاء لا يفقدون السيطرة على أنفسهم عند الغضب ولا يرتكبون الجرائم عنده، والأكثر من ذلك غسل قلوبهم وقلوب الآخرين من الحقد بواسطة مياه العفو والغفران.

وهذه الصفة لا تتوفر إلّافي ظل الإيمان الحقيقي والتوكّل على الحق.

في تفسير على بن إبراهيم عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «ومن ملك نفسه إذا رغب، وإذا رهب، وإذا غضب، حرّم اللَّه جسده على النار».

الآية الاخرى تشير إلى الصفة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة، حيث تقول:

«وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا

لِرَبّهِمْ». «وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ». «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ». «وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ».

فالآية السابقة كانت تتحدث عن تطهير النفس من الذنوب والتغلب على الغضب، إلّا أنّ الآية التي نبحثها تتحدث عن بناء النفس في المجالات المختلفة، ومن أهمها إجابة دعوة الخالق، والتسليم حيال أوامره.

وتقول الآية بخصوص سابع صفة للمؤمنين الحقيقيين: «وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْىُ هُمْ يَنتَصِرُونَ». أي: أنّهم إذا تعرّضوا للظلم لا يستسلمون له، بل يطلبون النصر من الآخرين.

فإنّ المظلوم مكلّف بمقاومة الظالم وطلب النصرة، وأيضاً فإنّ المؤمنين مكلّفون بإجابته.

هذا البرنامج الإيجابي البنّاء يحذّر الظالمين من مغبّة ظلم المؤمنين، حيث إنّهم لا يسكتون على ذلك ويقفون بوجوههم، وهو أيضاً يؤمّل المظلومين بأنّ الآخرين سوف ينصرونكم عند استغاثتكم.

ولكن بما أنّ التناصر يجب أن لا يخرج عن حدّ العدل وينتهي إلى الإنتقام والحقد والتجاوز عن الحد، لذا فإنّ الآية التي بعدها اشترطت ذلك بالقول: «وَجَزَاؤُا سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مِّثْلُهَا».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 390

وعمل الظالم يجب أن يسمى ب (سيّئة) إلّاأنّ جزاءه وعقابه ليس (سيّئة) وإذا وجدنا أنّ الآية عبّرت عن ذلك بالسيئة فبسبب العقاب أليم ومؤذٍ، والألم والأذى بحدّ ذاته (سي ء) بالرغم من أنّ قصاص الظالم ومعاقبته يعتبر عملًا حسناً بحد ذاته.

إنّ هذه العبارة يمكن أن تكون مقدمة للعفو الوارد في الجملة التي بعدها، وكأنّما تريد الآية القول: إنّ العقاب مهما كان فهو نوع من الأذى، وإذا ندم الشخص عندها يستحق العفو.

لذا ففي مثل هذه الموارد ينبغي عليكم العفو، لأنّ «فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ».

وتقول الآية في نهايتها: «إِنَّهُ لَايُحِبُّ الظَّالِمِينَ».

فإنّ كلّاً من العفو والعقاب له موقعه الخاص، فالعفو يكون عندما يستطيع الإنسان الإنتقام، وهذا يسمى العفو البنّاء.

والعقاب والإنتقام والردّ بالمثل يكون عندما يبقى الظالم مستمراً في غيّه وضلاله، والمظلوم لم

يثبّت أركان سيطرته بعد، فالعفو هنا يكون من موقع الضعف فيجب الردّ بالمثل.

وَ لَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَ لَمَنْ صَبَرَ وَ غَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) الظلم والإنتصار: تعتبر هذه الآيات تأكيداً وتوضيحاً وتكميلًا للآيات السابقة بشأن الإنتصار ومعاقبة الظالم والعفو في المكان المناسب. فأوّلًا تقول الآية: «وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ».

لأنّ الإنتصار وطلب العون من الحقوق الطبيعية لأيّ مظلوم، ونصر المظلومين مسؤولية كل إنسان حر ومتيقظ الضمير.

«إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ». وإضافة إلى عقابهم الدنيوي: «أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» ينتظرهم في الآخرة.

«بغى : تعني في الأصل الجد والمثابرة والمحاولة للحصول على شي ء ما، ولكن كثيراً ما تطلق على المحاولات لغصب حقوق الآخرين، والتجاوز عن حدود وحقوق الخالق، لذا فإنّ للظلم مفهوماً خاصاً وللبغي مفهوماً عاماً يشمل أيّ تعدٍ أو تجاوز للحقوق الإلهية.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 391

أمّا آخر آية فتشير مرّة اخرى إلى الصبر والعفو، لكي تؤكّد أنّ الإنتقام والعقاب والقصاص من الظالم لا يمنع المظلوم من العفو، حيث تقول: «وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ».

عبارة (عزم الامور) إشارة إلى أنّ هذا العمل من الأعمال التي أمر اللَّه بها ولا يمكن أن تنسخ، أو أنّه من الأعمال التي يجب أن يشد الإنسان العزم لها.

وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَ تَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَ تَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَ قَالَ

الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) هل من سبيل للرجعة: الآيات السابقة كانت تتحدث عن الظالمين، أمّا الآيات التي نبحثها فتشير إلى عاقبة هذه المجموعة وجوانب من عقابها.

فهي تعتبرهم من الضالين الذين لا يملكون أيّ وليّ، فتقول: «وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِىّ مّن بَعْدِهِ».

إنّه لا الهداية ولا الضلالة مفروضة وجبرية، إنّما هما نتيجتان مباشرتان لأعمال الناس.

فأحياناً يقوم الإنسان بعمل معيّن وبسببه يسلب الخالق منه التوفيق ويطمس على قلبه ويمنع عنه نور الهداية ويتركه سابحاً في الظلمات.

ثم تضيف الآية: «وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدّ مّن سَبِيلٍ».

ولكن مهما كانت هذه الطلبات فإنّها ستواجه بالرفض، لأنّ العودة غير ممكنة أبداً.

الآية الاخرى تذكر ثالث عقاب لهذه المجموعة حيث تقول: «وَتَرَيهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىّ».

هذه صورة لحالة شخص يخشى من شي ء أشدّ خشية ولا يريد أن ينظر إليه بعينين مفتوحتين، وفي نفس الوقت لا يستطيع أن يتغافل عنه، لذا فهو مجبور على النظر إليه، لكن

مختصر الامثل، ج 4، ص: 392

بطرف خفي.

أمّا آخر عقاب ذكر هنا، فهو سماع اللوم والتوبيخ الأليم من المؤمنين، كما جاء في آخر الآية: «وَقَالَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ».

فهل هناك خسارة أعظم من أن يخسر الإنسان نفسه، ثم زوجه، وأبناءه وأقرباءه؟

ونصيبه نار الفراق وهو في داخل العذاب الإلهي؟!

ثم تضيف: يا أهل المحشر: «أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ».

ومن الضروري الإشارة إلى هذه الملاحظة، وهي أنّ (العذاب الخالد) لهؤلاء الظالمين،

يدل على أنّ المقصود هم الكافرون، و الآية التي بعدها تشهد على هذه الحقيقة، حيث تقول:

«وَمَا كَانَ لَهُم مّنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُم مّن دُونِ اللَّهِ».

ولتأكيد هذا المعنى تقول الآية في نهايتها: «وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ».

اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَ مَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَ إِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَ إِنَاثاً وَ يَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) بما أنّ الآيات السابقة ذكرت جانباً من العقاب الأليم الموحش للكافرين والظالمين، فإنّ الآيات أعلاه تحذّر جميع الناس من هذا المصير المشؤوم، وتدعوهم إلى الإستجابة لدعوة الخالق والعودة إلى طريق الحق. فأوّل آية تقول: «اسْتَجِيبُوا لِرَبّكُم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ».

وإذا كنتم تتصورون وجود ملجأ آخر سوى لطفه، وأحداً يحميكم غير رحمته، فإنّكم على خطأ، لأنّ: «مَا لَكُم مّن مَّلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مّن نَّكِيرٍ».

عبارة «يَوْمٌ لَّامَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ» تشير إلى يوم القيامة، وليس إلى يوم الموت. كما أنّ

مختصر الامثل، ج 4، ص: 393

عبارة (من اللَّه) تشير إلى أنّ أحداً لا يستطيع أن يتخذ قراراً بالعودة قبال أمر الخالق جلّ وعلا.

الآية التي بعدها تخاطب الرسول صلى الله عليه و آله وتواسيه قائلة: «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا». فلا تحزن عليهم لأنّك لست مسؤولًا عن حفظهم من الانحراف.

«إِنْ

عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلغُ» سواء قبلوا بذلك أم لم يقبلوا.

ثم ترسم صورة لحال هذه الجماعة غير المؤمنة والمعرضة عن الحق فتقول: «وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا». ويغفل عن ذكر الخالق: «وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ».

فلا النعم الإلهية وشكر المنعم توقظ هذا الإنسان وتجرّه نحو الشكر والمعرفة والطاعة، ولا العقوبات التي تصيبه بسبب الذنوب توقظه من نوم الغفلة، ولا دعوة الرسول تؤثر فيه.

فعوامل الهداية من حيث «التشريع» هي دعوة رسل الخالق، ومن حيث «التكوين» قد تكون النعم وقد تكون المصائب، إلّاأنّ هؤلاء الجهلة ذوي القلوب الميتة لا تؤثّر فيهم أيّ من هذه العوامل.

ثم لبيان حقيقة أنّ أيّ نعمة ورحمة في هذا العالم مصدرها الخالق، ولا يملك الأفراد شيئاً من عندهم، أشارت الآية إلى قضية عامة ومصداق واضح لهذه الحقيقة، حيث تقول: «لِّلَّهِ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ».

و «نموذج» واضح لهذه الحقيقة وأنّ كل ما موجود هو منه، والأفراد لا يملكون شيئاً من عندهم هو أنّه: «يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ* أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا».

وبهذا الترتيب فإنّ الناس يُقسّمون إلى أربع مجاميع: من عنده الأولاد الذكور ويريد البنات، ومن عنده البنات ويريد الذكور، ومن عنده الذكور والإناث، والمجموعة التي تفتقد الأبناء ويأملون ويرغبون فيهم.

«عقيم»: مأخوذة من «عقم» تعني في الأصل الجفاف والتصلب المانع من قبول التأثير، والنساء العقيمات تطلق على اللواتي تكون أرحامهنّ غير مستعدة لتقبّل النطفة ونمو الطفل.

و «اليوم العقيم» يطلق على اليوم الذي ليس فيه سرور وفرح، كما يسمى يوم القيامة باليوم العقيم بسبب عدم وجود يوم بعد ذلك اليوم يمكن فيه التعويض عن الماضي.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 394

إنّ استخدام عبارة

(يهب) تعتبر دليلًا واضحاً على أنّ الإناث والذكور من هدايا الخالق وهباته، وليس صحيحاً للمسلم الحقيقي التفريق بين الإثنين.

كما أنّ استخدام عبارة (يزوّجهم) لا تعني التزويج هنا، بل تعني جمع الهبتين (الإناث والذكور) لبعض الناس. وبعبارة اخرى: فإنّ مصطلح (التزويج) يأتي أحياناً بمعنى الجمع بين الأشياء المختلفة أو الأنواع المتعددة، لأنّ (زوج) تعني في الأصل شيئين أو شخصين متقارنين.

وعلى أيّة حال، فإنّ المشيئة الإلهية هي التي تتحكم في كل شي ء وليس في قضية ولادة الأبناء فحسب، فهو القادر والعليم والحكيم، حيث يقترن علمه بقدرته، لذا فإنّ الآية تقول في نهايتها: «إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ».

وَ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)

سبب النّزول

في تفسير القرطبي: إنّ اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه و آله: ألا تكلم اللَّه وتنظر إليه إن كنت نبياً كما كلمه موسى ونظر إليه، فإنّا لن نؤمن لك حتى تفعل ذلك. فقال النبي صلى الله عليه و آله: «إنّ موسى لن ينظر إليه». فنزل قوله «وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللَّهُ» الآية.

التّفسير

طرق ارتباط الأنبياء بالخالق: هذه السورة، كما قلنا في بدايتها، تهتم بشكل خاص بقضية الوحي والنبوّة، فهي تبدأ بالوحي وتنتهي به، لأنّ الآيات الأخيرة تتحدث عن هذا الموضوع (أي الوحي). وبما أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن النعم الإلهية، لذا فإنّ هذه الآيات تتحدث عن أهمّ نعمة إلهية وأكثرها فائدة لعالم البشرية، ألا وهي قضية الوحي والإرتباط بين الأنبياء والخالق. تقول الآية: «وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا». لأنّ الخالق منزّه عن الجسم والجسمانية.

«أَوْ مِن وَرَاىِ حِجَابٍ» كما كان يفعل موسى حيث إنّه كان

يتحدث في جبل الطور.

«أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا» كما كان يقوم به جبرائيل الأمين وينزل على الرسول صلى الله عليه و آله:

«فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ».

فلا يوجد طريق آخر سوى هذه الطرق الثلاثة لتحدّث الخالق مع عباده ل «إِنَّهُ عَلِىٌ

مختصر الامثل، ج 4، ص: 395

حَكِيمٌ». فهو أعلى وأجل من أن يرى أو يتكلم عن طريق اللسان، وكل أفعاله حكيمة، ويتمّ ارتباطه بالأنبياء وفق برنامج.

هذه الآية تعتبر ردّاً على الذين يتصورون- بجهالة- أنّ الوحي يعني مشاهدة الأنبياء للخالق وهم يتكلمون معه.

وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَ لَا الْإِيمَانُ وَ لكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) القرآن روح من الخالق: بعد البحث العام الذي ورد في الآية السابقة بخصوص الوحي، تتحدث الآيات التي نبحثها عن نزول الوحي على شخص الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله حيث تقول:

«وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا».

والمقصود من كلمة (روح) في هذه الآية هو القرآن الكريم، لأنّه أساس حياة القلوب وحياة جميع الأحياء.

فإنّ الآية تضيف: «مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلكِن جَعَلْنهُ نُورًا نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا». فهذا هو اللطف الإلهي الذي شملك وأنزل عليك هذا الوحي السماوي وآمنت بكل ما يحتويه.

وتضيف الآية في نهايتها: «وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ».

فالقرآن نور للجميع وليس لك فحسب، وهو وسيلة لهداية البشر إلى الصراط المستقيم.

وقد ورد نفس هذا المعنى بعبارة اخرى في الآية (44) من سورة فصّلت حيث تقول الآية: «قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ فِى

ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ».

ثم تقول الآية مفسّرة للصراط المستقيم: «صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ».

أمّا آخر جملة في هذه الآية- وهي آخر آية في سورة الشورى- فهي دليل على أنّ الطريق المستقيم هو الطريق الوحيد الذي يوصل إلى الخالق، حيث تقول: «أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 396

هذه الجملة بُشرى للمتقين، وهي في نفس الوقت تهديد للظالمين والمذنبين، لأنّ الجميع سوف يرجعون إلى الخالق.

وهي دليل على أنّ الوحي يجب أن يكون من الخالق فقط، لأنّ جميع الامور ترجع إليه، وتدبير كل شي ء بيده.

وهكذا نرى أنّ بداية ونهاية هذه الآيات منسجمة فيما بينها ومترابطة، ونهاية السورة- أيضاً- يتلاءم مع بدايتها والموضوع العام الساري عليها.

بحث

ماذا كان دين الرسول الأعظم قبل نبوّته: لا يوجد شك في أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله لم يسجد لصنم قبل بعثته أبداً، ولم ينحرف عن خط التوحيد، فتاريخ حياته يعكس بوضوح هذا المعنى، إلّاأنّ العلماء يختلفون في الدين الذي كان عليه:

فأفضل قول هو: لقد كان الرسول صلى الله عليه و آله يملك برنامجاً خاصاً من قبل الخالق وكان يعمل به، وفي الحقيقة فقد كان له دين خاص حتى زمان نزول الإسلام عليه.

والدليل على هذا الكلام الجملة التي ورد في الخطبة (192) في نهج البلاغة، وهو: «ولقد قرن اللَّه به- صلّى اللَّه عليه وآله- من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره».

فوجود مثل هذا الملك يدل على وجود برنامج خاص.

«نهاية تفسير سورة الشورى»

مختصر الامثل، ج 4، ص: 397

43. سورة الزخرف

محتوى السورة: يمكن تلخيص مباحث هذه السورة في سبعة فصول:

1- في بداية السورة يتحدث عن أهمية القرآن المجيد، ونبوّة

نبي الخاتم صلى الله عليه و آله، ومواجهة المشركين لهذا الكتاب السماوي.

2- يذكر قسماً من أدلة التوحيد في الآفاق، ونعم اللَّه المختلفة على البشر.

3- ثم يكمّل هذه الحقيقة عن طريق محاربة الشرك، ونفي ما ينسب إلى اللَّه عزّ وجل من الأقاويل الباطلة، ومحاربة التقاليد العمياء.

4- وينقل جانباً من قصص الأنبياء الماضين واممهم، وتاريخهم لتجسيد هذه الحقائق. مختصر الامثل ج 4 419

5- ويتعرض إلى مسألة المعاد، وجزاء المؤمنين، ومصير الكفار المشؤوم، ويحذّر المجرمين ويهدّدهم بتهديدات وتحذيرات وإنذارات قوية.

6- ويتناول القيم الباطلة التي كانت ولا تزال حاكمة على أفكار الأشخاص الماديين، ووقوعهم في مختلف الإشتباهات حينما يقيّمون مسائل الحياة ويزنونها بالميزان الدنيوي.

7- وهو فصل المواعظ والنصائح العميقة المؤثّرة حيث يكمل الفصول الاخرى.

وقد أخذ اسم هذه السورة (الزخرف) من الآية (35) منها، والتي تتحدث في القيم المادية.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله: «ومن قرأ سورة الزخرف، كان

مختصر الامثل، ج 4، ص: 398

ممّن يقال له يوم القيامة: يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون، ادخلوا الجنة بغير حساب».

إنّ هذه البشارة العظمى، والفضيلة التي لا تقدّر، لا تحصل بمجرد التلاوة الخالية من التدبر والإيمان والعمل الصالح، لأنّ التلاوة مقدمة للفكر، والإيمان والعمل الصالح ثمرة له.

حم (1) وَ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) وَ كَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَ مَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) مرّة اخرى نواجه الحروف المقطعة في بداية

هذه السورة، وهي حروف «حم». وهذه رابع سورة تبدأ ب (حم).

ويقسم تعالى بالقرآن الكريم في الآية الثانية، فيقول: «وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ».

قسماً بهذا الكتاب الواضحة حقائقه، والبيّنة معانيه ومفاهيمه، والظاهرة دلائل صدقه.

ثم يضيف: «إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ».

إنّ كون القرآن «عربياً»، إمّا بمعنى أنّه نزل بلغة العرب التي هي أوسع لغات العالم في بيان الحقائق، أو بمعنى فصاحته، لأنّ أحد معاني كلمة «عربي» هو (الفصيح) وهي إشارة إلى أنّا قد جعلناه في منتهى الفصاحة وغايتها، لتظهر الحقائق جيّداً من خلال كلماته وجمله، ويدركها الجميع جيداً.

ثم يتطرق القرآن إلى بيان ثلاث صفات اخرى لهذا الكتاب السماوي فيقول: «وَإِنَّهُ فِى أُمّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ».

«الام»: في اللغة تعني أصل كل شي ء وأساسه، وإنّما يقول العرب للأم امّاً لأنّها أساس العائلة ومأوى الأولاد، وعلى هذا فإنّ (ام الكتاب) يعني الكتاب الذي يكون أساساً لكل الكتب السماوية. إنّه كتاب علم اللَّه المحفوظ لديه، والذي ادرجت فيه كل حقائق العالم، وكل

مختصر الامثل، ج 4، ص: 399

حوادث الماضي والمستقبل، وكل الكتب السماوية، ولا يستطيع أي أحد أن يصل إليه ويعلم ما فيه، إلّاإذا أراد اللَّه سبحانه أن يُعلم أحداً بالمقدار الذي يريده عزّ وجل.

وهذا وصف عظيم للقرآن الذي ينبع من علم اللَّه اللامتناهي، وأصله وأساسه لديه سبحانه، ولهذا يقول في الصفة الثانية: (لعليّ) وفي الثالثة (حكيم).

واعتبر البعض الآخر علوّ القرآن لاحتوائه على حقائق لا تدركها أفكار البشر، وهي بعيدة عن مدى ما تستوعبه عقولهم.

وفي الآية التالية يخاطب المنكرين للقرآن والمعرضين عنه فيقول: «أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذّكْرَ صَفْحًا أن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ».

صحيح أنّكم لم تألوا جهداً في مخالفتكم للحق وعدائه، إلّاأنّ رحمة اللَّه سبحانه واسعة بحدّ لا تشكل هذه الأعمال المناوئة حاجزاً في طريقها،

ونظل ننزل باستمرار هذا الكتاب السماوي الذي يوقظكم، وآياته التي تبعث الحياة فيكم، حتى تهتزّ القلوب التي لها أدنى حظ من الإستعداد وتثوب إلى طريق الحق، وهذا هو مقام رحمة اللَّه العامة، أي: رحمانيته التي تشمل العدو والصديق، والمؤمن والكافر.

«الصفح»: في الأصل بمعنى جانب الشي ء وطرفه، ويأتي أيضاً بمعنى العرض والسعة، وهو في الآية بالمعنى الأوّل. أي: أنحول عنكم هذا القرآن الذي هو أساس التذكرة إلى جانب وطرف آخر؟

«المسرف»: من الإسراف، وهو تجاوز الحدّ، إشارة إلى أنّ المشركين وأعداء النبي صلى الله عليه و آله لم يقفوا عند حدّ في خلافهم وعدائهم مطلقاً.

ثم يقول في عبارة قصيرة كشاهد على ما قيل، وتسليةً لخاطر النبي صلى الله عليه و آله وتهديداً للمنكرين المعاندين: «وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِىّ فِى الْأَوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مّن نَّبِىّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ».

إنّ هذه المخالفات وأنواع السخرية لم تكن لتمنع لطف اللَّه ورحمته أبداً، فإنّها فيض متواصل من الأزل إلى الأبد، ووجود يعمّ عطاؤه كل العباد، بل إنّه سبحانه قد خلقهم للرحمة «وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ» «1». ولهذا فإنّ إعراضكم وعنادكم سوف لا يمنع لطفه مطلقاً.

______________________________

(1) سورة هود/ 119.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 400

لكن، ومن أجل أن لا يتصور هؤلاء بأنّ لطف اللَّه اللامتناهي سيحول دون عقابهم في النهاية، لأنّ العقاب بنفسه من مقتضى حكمته، ولذلك يضيف في الآية التالية: «فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ». فالآية تخاطب النبي صلى الله عليه و آله بأنّنا سبق وأن ذكرنا لك نماذج كثيرة من هذه الأقوام العاصية الطاغية، وأوحينا إليك تفصيل حالهم بدون زيادة أو نقصان، وكان من بينهم أقوام أقوى وأشدّ من مشركي العرب كثيراً، ولهم إمكانيّات وثروات وأفراد وجيوش وإمكانات واسعة ... كفرعون وآل

فرعون.

«البطش»: بمعنى أخذ الشي ء بالقوة، وهنا اقترن بكلمة «أشدّ» وتعطي مفهوم شدّة القوة والقدرة أكثر.

والضمير في «مِنْهُم» يعود على مشركي العرب الذين خوطبوا في الآيات السابقة.

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَ جَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَ الَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَ الْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَ تَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هذَا وَ مَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَ أَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَ إِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَ هُوَ كَظِيمٌ (17) أَ وَ مَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَ هُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَ جَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمنِ إِنَاثاً أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَ يُسْأَلُونَ (19) وَ قَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَ كَذلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ

فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَ جَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلَاءِ وَ آبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَ رَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَ لَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هذَا سِحْرٌ وَ إِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَ قَالُوا لَوْ لَا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ رَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَ رَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَ لَوْ لَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَ سُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَ زُخْرُفاً وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَ مَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) بعض أدلّة التوحيد: من هنا يبدأ البحث حول التوحيد والشرك، فتستعين الآيات بفطرة هؤلاء وطينتهم لإثبات التوحيد. يقول سبحانه: «وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ».

إنّ هذا التعبير الذي ورد بتفاوت يسير في أربع آيات من القرآن الكريم- العنكبوت/

61، لقمان/ 25، الزمر/ 38 والزخرف في الآية التي نبحثها- دليل على كون معرفة اللَّه سبحانه أمر فطري مغروس في طينة البشر وطبيعتهم من جانب، ومن جانب آخر يدلّ على

مختصر الامثل، ج 4، ص: 401

أنّ المشركين كانوا مقرّين بأنّ خالق السماوات والأرض هو اللَّه سبحانه.

ثم يشير سبحانه إلى خمس نعم من نعم اللَّه العظيمة، والتي تعتبر كل منها نموذجاً من نظام الخلقة، وآية من آيات اللَّه سبحانه، فيقول أوّلًا: «الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا».

ونعلم أنّ الهدوء النفسي هو الدعامة الأساسيّة للاستفادة من النعم الاخرى والتنعّم بها.

ثم يضيف سبحانه لتبيان النعمة الثانية: «وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ».

إنّا نعلم أنّ التظاريس تعمّ كل اليابسة تقريباً، وفيها الجبال والتلال والهضاب، والبديع أن توجد بين أعظم سلال جبال العالم فواصل يستطيع الإنسان أن يشقّ طريقه من خلالها، وقلّما اتّفق أن تكون هذه الجبال سبباً لإنفصال أقسام الكرة الأرضية عن بعضها تماماً، وهذا واحد من أسرار نظام الخلقة، ومن مواهب اللَّه سبحانه وعطاياه للعباد.

وذكرت الموهبة الثالثة- وهي موهبة نزول المطر، وإحياء الأراضي الميّتة- في الآية التالية: «وَالَّذِى نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذلِكَ تُخْرَجُونَ». من قبوركم يوم البعث.

وبعد ذكر نزول المطر وحياة النباتات، يشير في المرحلة الرابعة إلى خلق أنواع الحيوانات، فيقول سبحانه: «وَالَّذِى خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا».

إنّ التعبير ب «الأزواج» كناية عن أنواع الحيوانات بقرينة ذكر النباتات في الآية السابقة.

ونعلم أنّ قانون الزوجية سنّة حياتية في كل الكائنات الحية، والعيّنات الاستثنائية لا تقدح بجامعية هذا القانون.

وفي المرحلة الخامسة تبيّن الآيات آخر نعمة من هذه السلسلة فيقول سبحانه: «وَجَعَلَ لَكُم مّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ».

إنّ هذه النعمة هي إحدى مواهب اللَّه سبحانه للبشر، وكراماته التي منّ

بها عليهم، وهي لا تلاحظ في الأنواع الاخرى من الموجودات.

وتذكر الآية التالية الهدف النهائي لخلق هذه المراكب فتقول: «لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ».

وتذكر آخر آية- من هذه الآيات- قول المؤمنين لدى ركوبهم المركب، إذ يقولون: «وَإِنَّا إِلَى رَبّنَا لَمُنقَلِبُونَ».

هذه الجملة إشارة إلى مسألة المعاد، لأنّ الإنتباه إلى الخالق والمبدأ، يلفت نظر الإنسان نحو المعاد دائماً.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 402

وهي أيضاً إشارة إلى أن لا تغترّوا عندما تركبون هذه المراكب وتتسلّطون عليها، ولا تغرقوا في مغريات الدنيا وزخارفها، بل يجب أن تذكّرنا بانتقالنا الكبير من هذا العالم إلى العالم الآخر.

وَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَ أَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَ إِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَ هُوَ كَظِيمٌ (17) أَ وَ مَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَ هُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَ جَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمنِ إِنَاثاً أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَ يُسْأَلُونَ (19) كيف تزعمون أنّ الملائكة بنات اللَّه: بعد تثبيت دعائم التوحيد بوسيلة ذكر آيات اللَّه سبحانه في نظام الوجود، وذكر نعمه ومواهبه، تتناول هذه الآيات ما يقابل ذلك، أي محاربة الشرك وعبادة غير اللَّه تعالى، فتطرّقت أوّلًا إلى أحد فروعها، أي عبادة الملائكة فقالت:

«وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا».

إنّ التعبير ب «الجزء» يبيّن من جانب أنّ هؤلاء كانوا يعتبرون الملائكة أولاد اللَّه تعالى، لأنّ الولد جزء من وجود الأب والأمّ، وينفصل عنهما كنطفة تتكوّن وتتلقّح، وإذا ما تلقّحت تَكَوّن الولد من تلك اللحظة. ويبيّن من جانب آخر قبولهم عبادتها، لأنّهم

كانوا يظنّون الملائكة جزءاً من الآلهة في مقابل اللَّه سبحانه.

ثم تضيف: «إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ». فمع كل هذه النعم الإلهية التي أحاطت بوجوده، والتي مرّ ذكر خمس منها في الآيات السابقة، فإنّه بدل أن يطأطي ء رأسه إعظاماً لخالقه، وإجلالًا لولي نعمته، سلك سبيل الكفر واتّجه إلى مخلوقات اللَّه ليعبدها.

في الآية التي بعدها يستثمر القرآن الثوابت الفكرية لدى هؤلاء من أجل إدانة هذا التفكير الخرافي، لأنّهم كانوا يرجّحون جنس الرجل على المرأة، وكانوا يعدّون البنت عاراً- عادةً- يقول تعالى: «أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفكُم بِالْبَنِينَ».

فإذا كان مقام البنت أدنى في اعتقادكم، فكيف ترجّحون أنفسكم وتعلونها على اللَّه، فتجعلون نصيبه بنتاً، ونصيبكم ولداً؟

وتتابع الآية التالية هذا البحث ببيان آخر، فتقول: «وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ

مختصر الامثل، ج 4، ص: 403

مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ».

والمراد من «بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا» هم الملائكة الذين كانوا يعتبرونهم بنات اللَّه، وكانوا يعتقدون في الوقت نفسه أنّها آلهتهم، وأنّها شبيهة به- سبحانه- ومثله.

إنّ لفظة (كظيم) من مادة «كظْم»، وتعني الحلقوم، وجاءت أيضاً بمعنى غلق فم قربة الماء بعد امتلائها، ولذلك فإنّ هذه الكلمة استعملت للتعبير عمّن امتلأ قلبه غضباً أو غمّاً وحزناً، وهذا التعبير يحكي جيّداً عن خرافة تفكير المشركين البله في عصر الجاهليّة فيما يتعلق بولادة البنت، وكيف أنّهم كانوا يحزنون ويغتمّون عند سماعهم بولادة بنت لهم، إلّا أنّهم في الوقت نفسه كانوا يعتقدون بأنّ الملائكة بنات اللَّه سبحانه.

وتضيف في الآية الكريمة: «أَوَمَن يُنَشَّؤُا فِى الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ» «1».

لقد ذكر القرآن هنا صفتين من صفات النساء غالباً، تنبعثان من ينبوع عاطفتهن، إحداهما: تعلّق النساء الشديد بأدوات الزينة، والاخرى: عدم إمتلاكهن القدرة الكافية على إثبات مرادهن

أثناء المخاصمة والجدال لحيائهن وخجلهنّ.

وتذكر الآية الأخيرة- من هذه الآيات- هذا المطلب بصراحة أكثر، فتقول: «وَجَعَلُوا الْمَلِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمنِ إِنَاثًا».

ثم تجيبهم الآية بصيغة الاستفهام الإنكاري فتقول: «أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ».

وتضيف في النهاية: «سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسَلُونَ».

وَ قَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) لا دليل لهم سوى تقليد الآباء الجاهلين: أعطت الآيات السابقة أوّل جواب منطقي على عقيدة عبدة الأوثان الخرافيّة، حيث كانوا يظنون أنّ الملائكة بنات اللَّه، وتتابع هذه الآيات نفس الموضوع، وتسلك مسالك اخرى لإبطال هذه الخرافة القبيحة، فتتعرض أوّلًا لأحد الأدلّة الواهية لهؤلاء ثم تجيب عليه فتقول: «وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرّحْمنُ مَا عَبَدْنَاهُم».

______________________________

(1) «ينشّؤا»: من مادة «الإنشاء»، أي إيجاد الشي ء، وهنا بمعنى تربية الشي ء وتنميته؛ و «الحلية»: تعني الزينة؛ و «الخصام»: هو المجادلة والنزاع على شي ء ما.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 404

إنّ هذا التعبير قد يكون إشارة إلى أنّ هؤلاء كانوا يعتقدون بالجبر، وأنّ كل ما يصدر منا فهو بإرادة اللَّه، وكل ما نفعله فهو برضاه. وتجيب الآية في النهاية على هذا الاستدلال الواهي لعبدة الأصنام، فتقول: «مَّا لَهُم بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ».

إنّ هؤلاء لا علم ولا إيمان لهم حتى بمسألة الجبر أو رضى اللَّه سبحانه عن أعمالهم، بل هم- ككثير من متبعي الهوى والمجرمين الآخرين- يتخذون مسألة الجبر ذريعة لهم من أجل تبرئة أنفسهم من الذنب والفساد، فيقولون: إنّ يد القضاء والقدر هي التي جرتنا إلى هذا الطريق وحتمته علينا.

«يخرصون»: من «الخرص»، وهو في الأصل بمعنى التخمين، وأطلقت هذه

الكلمة أوّلًا على تخمين مقدار الفاكهة، ثم أطلقت على الحدس والتخمين، ولمّا كان الحدس والتخمين يخطي ء أحياناً ولا يطابق الواقع، فقد استعملت هذه الكلمة بمعنى الكذب أيضاً، و «يخرصون» في هذه الآية من هذا القبيل.

وتشير الآية التالية إلى دليل آخر يمكن أن يكونوا قد استدلوا به، فتقول: «أَمْ ءَاتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ». أي: يجب على هؤلاء أن يتمسّكوا بدليل العقل لإثبات هذا الإدّعاء، أو بدليل النقل، في حين لم يكن لهؤلاء دليل لا من العقل ولا من النقل، فإنّ كل الأدلّة العقلية تدعو إلى التوحيد، وكذلك دعا كل الأنبياء والكتب السماوية إلى التوحيد.

وأشارت آخر آية- من هذه الآيات- إلى ذريعتهم الأصلية، وهي في الواقع خرافة لا أكثر، أصبحت أساساً لخرافة اخرى، فتقول: «بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ».

لم يكن لهؤلاء دليل إلّاالتقليد الأعمى للآباء والأجداد، والعجيب أنّهم كانوا يظنون أنّهم مهتدون بهذا التقليد، في حين لا يستطيع أي إنسان عاقل حر أن يستند إلى التقليد في المسائل العقائدية والأساسية التي يقوم عليها بناؤه الفكري، خاصة إذا كان التقليد تقليد «جاهل لجاهل».

وَ كَذلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 405

تواصل هذه الآيات موضوع الآيات السابقة حول الدليل الأصلي للمشركين في عبادتهم للأصنام، وهو تقليد الآباء والأجداد، فتقول: إنّ هذا مجرد ادعاء واهٍ من مشركي العرب: «وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ

إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ».

إنّ هذه الآية نوع من التسلية لخاطر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله والمؤمنين ليعلموا أنّ ذرائع المشركين واستدلالاتهم هذه ليست بالشي ء الجديد، إذ إنّ هذا الطريق سلكه كل المنحرفين الضالين على مر التاريخ.

وتبيّن الآية التالية جواب الأنبياء السابقين على حجج هؤلاء المشركين والمنحرفين بوضوح تام، فتقول: «قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَاءَكُمْ».

هذا التعبير هو أكثر التعابير المؤدبة الممكن طرحها أمام قوم عنيدين مغرورين، ولا يجرح عواطفهم أو يمسها مطلقاً.

إنّ مثل هذه التعبيرات القرآنية تعلمنا آداب المحاورة والمجادلة وخاصة أمام الجاهلين المغرورين.

ومع كل ذلك، فإنّ هؤلاء كانوا غرقى الجهل والتعصب والعناد بحيث لم يؤثّر فيهم حتى هذا المقال المؤدب الرقيق، فكانوا يجيبون أنبياءهم بجواب واحد فقط: «قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ».

من البديهي أنّ مثل هؤلاء الأقوام الطاغين المعاندين، لا يستحقون البقاء، وليست لهم أهليّة الحياة، ولابدّ أن ينزل عذاب اللَّه، ولذلك فإنّ آخر آية- من هذه الآيات- تقول:

«فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ». فبعضهم بالطوفان، وآخرون بالزلزلة المدمرة، وجماعة بالعاصفة والصاعقة، وخلاصة القول: إنّا دمّرنا كل فئة منهم بأمر صارم فأهلكناهم.

وأخيراً وجهت الآية الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله من أجل أن يعتبر مشركو مكة أيضاً، فقالت: «فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ» فعلى مشركي مكة المعاندين أن يتوقعوا مثل هذا المصير المشؤوم.

وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَ جَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلَاءِ وَ آبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَ رَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَ لَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هذَا سِحْرٌ وَ إِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30)

مختصر

الامثل، ج 4، ص: 406

التوحيد كلمة الأنبياء الخالدة: أشارت هذه الآيات إشارة موجزة إلى قصة إبراهيم، وما جرى له مع قوم بابل عبدة الأوثان، لتكمل بذلك بحث ذم التقليد، الذي ورد في الآيات السابقة، وذلك لأنّه:

أوّلًا: إنّ إبراهيم عليه السلام كان الجد الأكبر للعرب، وكانوا يعدونه محترماً ويقدّسونه، ويفتخرون بتأريخه، فإذا كان اعتقادهم وقولهم هذا حقّاً فيجب عليهم أن يتبعوه عندما مزّق حجب التقليد، وإذا كان سبيلهم تقليد الآباء، فلماذا يقلّدون عبدة الأوثان ولا يتّبعون إبراهيم عليه السلام.

ثانياً: إنّ عبدة الأصنام استندوا إلى هذا الاستدلال الواهي- وهو اتّباع الآباء- فلم يقبله إبراهيم منهم أبداً.

ثالثاً: إنّ هذه الآية نوع من التطييب لخاطر الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله والمسلمين الأوائل ليعلموا أنّ مثل هذه المخالفات والتوسّلات بالمعاذير والحجج الواهية كانت موجودة دائماً، فلا ينبغي أن يضعفوا أو ييأسوا.

تقول الآية الاولى: «وَإِذْ قَالَ إِبْرهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِى بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ».

ولمّا كان كثير من عبدة الأصنام يعبدون اللَّه أيضاً، فقد استثناه إبراهيم مباشرة فقال:

«إِلَّا الَّذِى فَطَرَنِى فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ».

إنّه عليه السلام يذكر في هذه العبارة الوجيزة دليلًا على انحصار العبوديّة باللَّه تعالى، لأنّ المعبود هو الخالق والمدبر، وكان الجميع مقتنعين بأنّ الخالق هو اللَّه سبحانه، وكذلك أشار عليه السلام في هذه العبارة إلى مسألة هداية اللَّه التكوينية والتشريعية التي يوجبها قانون اللطف.

ولم يكن إبراهيم عليه السلام من أنصار أصل التوحيد، ومحاربة كل أشكال الشرك طوال حياته وحسب، بل إنّه بذل قصارى جهده من أجل ابقاء كلمة التوحيد في هذا العالم إلى الأبد، كما تبيّن ذلك الآية التالية، إذ تقول: «وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِى عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» «1».

والطريف أنّ كل الأديان التي تتحدث عن التوحيد اليوم تستلهم دعوتها وأفكارها من

تعليمات إبراهيم عليه السلام التوحيدية، وأنّ ثلاثة من أنبياء اللَّه العظام- وهم موسى وعيسى عليهما السلام

______________________________

(1) «العقب»: في الأصل بمعنى كعب القدم، إلّاأنّ هذه الجملة استعملت فيما بعد في الأولاد وأولاد الأولاد بصورة واسعة.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 407

ومحمّد صلى الله عليه و آله- من ذرّيته، وهذا دليل على صدق تنبؤ القرآن في هذا الباب.

والآية التالية جواب عن سؤال وهو: في مثل هذه الحال لِمَ لا يعذّب اللَّه مشركي مكة؟ ألم نقرأ في الآيات السابقة: «فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ».

فتقول الآية مجيبة: «بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلَاءِ وَءَابَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ».

فنحن لم نكتف بحكم العقل ببطلان الشرك والوثنيّة، ولا بحكم وجدانهم بالتوحيد، بل أمهلناهم لإتمام الحجّة عليهم حتى يقوم هذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهذا النبي العظيم محمّد صلى الله عليه و آله بهدايتهم.

إلّا أنّ العجيب أنّه: «وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ».

وَ قَالُوا لَوْ لَا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ رَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَ رَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) لمَ لم ينزل القرآن على أحد الأغنياء: كان الكلام في الآيات السابقة في ذرائع المشركين في مواجهة دعوة الأنبياء، فكانوا يتّهمونهم بالسحر تارة، ويتوسلون تارة أخرى بتقليد الآباء وينبذون كلام اللَّه وراء ظهورهم، وتشير الآيات- مورد البحث- إلى حجّة واهية اخرى من حجج اولئك المشركين، فتقول: «وَقَالُوا لَوْلَا نُزّلَ هذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ». أي: مكة والطائف.

لقد كانوا معذورين بتشبثهم بمثل هذه الذريعة من جهة، إذ كان المعيار في تقييمهم للبشر هو

المال والثروة والمقام الظاهري والشهرة.

وهذا هو السبب في بلاء المجتمعات البشرية العظيم، والعامل الأساس في انحرافها الفكري، حيث تقلب الحقائق تماماً في بعض الأحيان.

ويردّ القرآن الكريم بأجوبة قاطعة على هذا النمط من التفكير المتسافل الخرافي، ويجسد النظرة الإلهية الإسلامية تماماً، فيقول: «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبّكَ». فيمنحوا النبوّة من يشاؤون، وينزلوا عليه الكتاب السماوي.

فضلًا عن ذلك، فإنّ وجود التفاوت والإختلاف بين البشر من ناحية مستوى المعيشة، لا يدلّ على تفاوتهم في المقامات والمنازل المعنويّة مطلقاً، بل: «نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ

مختصر الامثل، ج 4، ص: 408

فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا».

لقد نسي هؤلاء أنّ حياة البشر حياة جماعية، ولا يمكن أن تدار هذه الحياة إلّاعن طريق التعاون والخدمة المتبادلة. بناءً على هذا فينبغي أن لا يخدعهم هذا التفاوت، ويظنّوا أنّه معيار القيم الإنسانية، إذ:

«وَرَحْمَتُ رَبّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ»؛ بل إن كل المقامات والثروات لا تعدل جناح بعوضة في مقابل رحمة اللَّه والقرب منه.

وَ لَوْ لَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَ سُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَ زُخْرُفاً وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) قصور فخمة سُقُفها من فضة! (قيم كاذبة): تستمر هذه الآيات في البحث حول «نظام القيم في الإسلام» وعدم اعتبار كون المال والثروة والمناصب المادية هي المعيار في التقييم، فتقول الآية الاولى: «وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مّن فِضَّةٍ».

ولجعلنا لهم بيوتاً لها عدّة طوابق ولها سلالم جميلة «وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ».

ثم تضيف الآية الاخرى: «وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكُونَ».

ولم

تكتف الآية بهذا، بل استطردت أنّه إضافة إلى كل ذلك فقد جعلنا لهم مباهج وانواع الزينة «وَزُخْرُفًا».

ثم تضيف الآية: «وَإِن كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةُ عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ».

«الزخرف»: في الأصل بمعنى كل زينة مقترنة بالرسم والتصوير، ولما كان الذهب أحد أهم وسائل الزينة، فقد قيل له: زخرف؛ وإنّما قيل للكلام الأجوف الذي لا فائدة فيه: كلام مزخرف، لأنّهم يحيطونه ويلبسونه المزوقات ليصبح مقبولًا.

إنّ هذه الاسس المادية ووسائل الزينة الدنيوية، حقيرة لا قيمة لها عند اللَّه تعالى فلا ينبغي أن تكون إلّامن نصيب الأفراد الذين لا قيمة لهم كالكافرين ومنكري الحق، ولو لم

مختصر الامثل، ج 4، ص: 409

يتأثر الناس من طلاب الدنيا ويميلوا إلى الكفر لجعل اللَّه تعالى هذه الامور من نصيب هذه الفئة فقط، ليعلم الجميع أنّ هذه الامور ليست هي المعيار والمقياس لشخصية الإنسان وقيمته ومقامه.

ومن هنا يتّضح أنّ وجود جماعة من الكفار والظالمين بهذه القدرة المادية ليس دليلًا على رفعة شخصيتهم، ولا أنّ حرمان المؤمنين منها، أو من التمتع بها في حد المعقول كأدوات للزينة، يضر بإيمانهم وتقواهم، وهذا هو التفكير الإسلامي والقرآني الصحيح.

وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَ مَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) أقران الشياطين: لما كان الكلام في الآيات السابقة عن عبدة الدنيا الذين يقيّمون كل شي ء على أساس المعايير المادية، فإنّ الآيات- مورد البحث- تتحدث عن أحد

الآثار المميتة الناشئة عن الإرتباط بالدنيا والتعلق بها، ألا وهو الإبتعاد عن اللَّه سبحانه. تقول الآية الاولى: «وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» «1».

نعم، إنّ الغفلة عن ذكر اللَّه، والغرق في لذات الدنيا، والإنبهار بزخارفها ومغرياتها يؤدّي إلى تسلط شيطان على الإنسان يكون قرينه دائماً، ويلقي لجاماً حول رقبته يشدّه به، ويجرّه إليه ليذهب به حيث يشاء.

ثم أشارت الآية التالية إلى أمر مهم كانت الشياطين تقوم به في شأن هؤلاء الغافلين، فقالت: «وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ».

وتزين الشياطين طريق الضلال لهم إلى الحد الذي يظنون: «وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ».

وهكذا تستمر هذه الحالة على هذا المنوال، فيبقى الإنسان الغافل الجاهل على ضلاله، وتستمر الشياطين في إضلاله، حتى ترفع الحجب، وتنفتح عين رؤيته على الحقيقة: «حَتَّى

______________________________

(1) «نقيّض»: من مادة قيض، وهي في الأصل بمعنى الغشاء الذي يغطي البيضة، ثم جاءت بمعنى جعل شي ء مستولياً على شي ء آخر.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 410

إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنَ فَبِئْسَ الْقَرِينُ». نعم، إنّ عرصة القيامة تجسيد واسع لمشاهد هذه الدنيا، والقرين والرفيق والقائد والدليل هنا وهناك واحد، بل إنّهما- برأي بعض المفسرين- يقرنان بسلسلة واحدة.

إلّا أنّ هذا الأمل لا يتحقق مطلقاً، ولا يمكن أن يقع الإفتراق أو البون بين هؤلاء وبين الشياطين، ولذلك فإنّ الآية التالية تضيف: «وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ». فيجب أن تذوقوا عذاب قرين السوء هذا مع أنواع العذاب الاخرى إلى الأبد.

وبهذا فإنّ القرآن الكريم يبدل أمل هؤلاء في الإفتراق عن الشياطين إلى يأس دائم.

ويترك القرآن هنا هذه الفئة وشأنها، ويوجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله ويتحدث عن الغافلين عمي القلوب الذى كذّبوا

إرتباطه باللَّه، وهم من جنس من تقدم الكلام عنهم في الآيات السابقة، فيقول: «أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِى الْعُمْىَ وَمَن كَانَ فِى ضَللٍ مُّبِينٍ».

إنّ القرآن يقول بنوعين من السمع والبصر والحياة للإنسان: السمع والبصر والحياة الظاهرية، والسمع والبصر والحياة الباطنية، والمهم هو القسم الثاني من الإدراك والنظر والحياة، فإنّها إذا تعطلت فلا ينفع حينئذ موعظة وإرشاد، ولا إنذار وتحذير.

فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَ اسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَ جَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) متابعة للآيات السابقة التي كانت تتحدث عن الكفار المعاندين الظالمين الذين لا أمل في هدايتهم، تخاطب هذه الآيات نبي الأكرم صلى الله عليه و آله مهدّدة الكفار أشدّ تهديد من جانب، ومسليّة خاطر النبي صلى الله عليه و آله فتقول: «فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ».

والمراد من الذهاب بالنبي صلى الله عليه و آله من بين اولئك القوم، وفاته.

ثم تضيف الآية: «أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِى وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ».

فهم في قبضتنا على أية حال، سواء كنت بينهم أم لم تكن، والعقاب والإنتقام الإلهي حتمي في حقّهم إذا ما استمروا في أعمالهم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 411

بعد هذه التحذيرات تأمر الآية النبي صلى الله عليه و آله أن: «فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ». وعدم قبول جماعة من هؤلاء به لا يدل على عدم حقانيتك.

ثم تضيف الآية الاخرى: «وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ». فإنّ الهدف من نزوله إيقاظ البشر، وتعريفهم بتكاليفهم: «وَسَوْفَ تُسَلُونَ».

ثم تطرّقت الآية الأخيرة إلى نفي عبادة

الأصنام وإبطال عقائد المشركين بدليل آخر، فقالت: «وَسَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمنِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ».

إشارة إلى أنّ كل أنبياء اللَّه قد دعوا إلى التوحيد، ووقفوا جميعاً ضد الوثنية بحزم، وعلى هذا فإنّ نبي الخاتم صلى الله عليه و آله في مخالفته الأصنام لم يقم بعمل لم يسبقه به أحد، بل أحيا بفعله سنة الأنبياء الأبدية.

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَ مَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَ مَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَ قَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) الفراعنة المغرورون ونقض العهد: في هذه الآيات إشارة إلى جانب ممّا جرى بين نبي اللَّه موسى بن عمران عليه السلام وبين فرعون، ليكون جواباً لمقالة المشركين الواهية بأنّ اللَّه إن كان يريد أن يرسل رسولًا، فلماذا لم يختر رجلًا من أثرياء مكة والطائف لهذه المهمة العظمى؟

قالت الآية الاولى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بَايَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيهِ فَقَالَ إِنّى رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ».

المراد من «الآيات»: المعجزات التي كانت لدى موسى، والتي كان يثبت حقانيته بواسطتها، وكان أهمها العصا واليد البيضاء.

يقول القرآن الكريم في الآية التالية: «فَلَمَّا جَاءَهُم بَايَاتِنَا إِذَا هُم مّنْهَا يَضْحَكُونَ».

وهذا الموقف هو الموقف الأوّل لكل الطواغيت والجهال المستكبرين.

إلّا أنّنا أرسلنا بآياتنا الواحدة تلو الاخرى لإتمام الحجة: «وَمَا نُرِيهِم مّنْ ءَايَةٍ إِلَّا هِىَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 412

وقد أريناهم بعد معجزتي العصا واليد البيضاء معاجز الطوفان والجراد والقمل والضفادع وغيرها.

ثم تضيف الآية: «وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ

يَرْجِعُونَ».

إنّ هذه الحوادث وإن كانت تنبه هؤلاء بصورة مؤقتة، فيلجأون إلى موسى، غير أنّهم بمجرد أن تهدأ العاصفة ينسون كل شي ء، ويجعلون موسى غرضاً لسهام أنواع التهم، كما نقرأ ذلك في الآية التالية: «وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ».

أي تعبير عجيب هذا! فهم من جانب يسمّونه ساحراً، ومن جانب آخر يلجأون إليه لرفع البلاء عنهم، ومن جانب ثالث يعدونه بتقبل الهداية.

إنّ موسى رغم كل هذه التعبيرات اللاذعة والمحقرة لم يكفّ عن السعي لهدايتهم مطلقاً، ولم ييأس بسبب عنادهم وتعصبهم، بل استمرّ في طريقه، ودعا ربّه مرات كي تهدأ عواصف البلاء، وهدأت، لكنّهم كما تقول الآية التالية: «فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ».

كل هذه دروس حيّة وبليغة للمسلمين، وتسلية للنبي صلى الله عليه و آله لكي لا ينثنوا مطلقاً أمام عناد المخالفين وتصلبهم.

وهي أيضاً تحذير للأعداء اللجوجين المعاندين، بأنّهم ليسوا أقوى من فرعون وآل فرعون ولا أشد، فلينظروا عاقبة أمر اولئك، وليتفكروا في عاقبتهم.

وَ نَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْ لَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَ مَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56) إذا كان نبيّاً فلم لا يملك أسورة من ذهب: لقد ترك منطق موسى عليه السلام من جهة، ومعجزاته المختلفة من جهة اخرى، وزعزعت أفكار الناس واعتقادهم بفرعون.

هنا أراد فرعون بسفسطته ومغالطته أن يمنع نفوذ موسى عليه

السلام عن التأثير في أفكار شعب مصر، كما يذكر ذلك القرآن الكريم حيث يقول: «وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِى

مختصر الامثل، ج 4، ص: 413

مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى أَفَلَا تُبْصِرُونَ».

وبهذا فقد عظّم فرعون القيم المبتدعة السيئة، وجعل المال والمقام والجاه هي معايير الإنسانية، كما هو الحال بالنسبة إلى عبدة الأصنام في عصر الجاهلية في موقفهم أمام نبي الخاتم صلى الله عليه و آله.

ثم يضيف: «أَمْ أَنَا خَيْرٌ مّنْ هذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ».

وبهذا يكون قد خص نفسه بافتخارين عظيمين- حكومة مصر، وملك النيل- وذكر لموسى نقطتي ضعف: الفقر ولكنة اللسان.

هذا في الوقت الذي لم يكن بموسى أيّة لكنة في اللسان، لأنّ اللَّه تعالى قد استجاب دعاءه، ورفع عنه عقدة لسانه، لأنّه سأل ربّه عند البعثة أن: «وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى» «1».

ومن المسلّم أنّ دعاءه قد استجيب، والقرآن شاهد على ذلك أيضاً.

ثم تشبث فرعون بذريعتين أخريين، فقال: «فَلَوْلَا أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلِكَةُ مُقْتَرِنِينَ».

إنّ الفراعنة كانوا يعتقدون أنّ الرؤساء يجب أن يزينوا أنفسهم بالأساور والقلائد الذهبية، ولذلك فإنّهم يتعجبون من موسى إذ لم يكن معه مثل آلات الزينة هذه، وهذا هو حال المجتمع الذي يكون معيار تقييم الشخصية في نظره الذهب والفضة وأدوات الزينة.

أمّا أنبياء اللَّه فإنّهم بطرحهم هذه المسائل- بالذات- جانباً كانوا يريدون أن يبطلوا هذه المقاييس الكاذبة، وأن يزرعوا محلّها القيم الإنسانية الأصيلة- أي العلم والتقوى والطهارة- لأنّ نظام القيم إذا لم يُصلح في مجتمع فسوف لن يرى ذلك المجتمع وجه السعادة أبداً.

وتشير الآية التالية إلى نكتة لطيفة، وهي: إنّ فرعون لم يكن غافلًا عن واقع الأمر تماماً، وكان ملتفتاً إلى أن

لا قيمة لهذه القيم والمعايير، إلّاأنّه: «فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ».

إنّ طريقة كل الحكومات الجبارة الفاسدة من أجل الإستمرار في تحقيق أهدافها وأنانياتها، هي الإبقاء على الناس في مستوى متردٍ من الفكر والثقافة والوعي، وتسعى إلى تركهم حمقى لا يعون ما حولهم باستخدام أنواع الوسائل، لأنّ يقظتها ووعيها، وتنامي رشدها الفكري يشكل أعظم خطر على الحكومات، ويعتبر أكبر عدو للحكومات المستبدة.

والطريف أنّ الآية المذكورة تنتهي بجملة: «إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ» إشارة إلى أنّ

______________________________

(1) سورة طه/ 27.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 414

هؤلاء القوم الضالين لو لم يكونوا فاسقين ومتمردين على طاعة اللَّه عزّ وجل وحكم العقل، لما كانوا يستسلمون لمثل هذه الدعايات والخزعبلات ويصغون إليها.

نعم، كان هؤلاء قوماً فاسقين يتبعون فاسقاً. كانت هذه جنايات فرعون وآل فرعون ومغالطاتهم في مواجهة رسول اللَّه موسى عليه السلام، لكنّنا نرى الآن إلى أين وصلت عاقبة أمرهم بعد كل هذا الوعظ والإرشاد وإتمام الحجج من طرق مختلفة، إذ لم يسلموا للحق. تقول الآية: «فَلَمَّا ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ». فقد اختار اللَّه سبحانه لهؤلاء عقوبة الإغراق بالخصوص من بين كل العقوبات، وذلك لأنّ كل عزّتهم وشوكتهم وافتخارهم وقوّتهم كانت بنهر النيل العظيم وفروعه الكثيرة الكبيرة، والذي كان فرعون يؤكّد عليه من بين كل مصادر قوّته، إذ قال: «أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى».

نعم، يجب أن يكون مصدر حياتهم وقوّتهم، سبب هلاكهم وفنائهم، ويكون قبراً لهم ليعتبر الآخرون.

«آسفونا»: من مادة «الأسف»، وهو الحزن والغم، ويأتي بمعنى الغضب.

والطريف أنّ غضب اللَّه يعني «إرادة العقاب»، ورضاه يعني «إرادة الثواب».

وتقول الآية الأخيرة كاستخلاص لنتيجة مجموع ما مرّ من كلام: «فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْأَخِرِينَ».

«السلف»: في اللغة يعني كل شي ء متقدم، ولذلك يقال للأجيال السابقة:

سلف، وللأجيال الآتية: خلف، ويسمّون المعاملات التي تتمّ قبل الشراء «سلفاً» لأنّ ثمن المشتري يدفع من قبل؛ و «المَثَل»: يقال للكلام الدائر بين الناس كعبرة، ولما كانت قصة فرعون والفراعنة ومصيرهم المؤلم عبرة عظمى فقد ذكرت في هذه القصة كعبرة للأقوام الآخرين.

وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَ قَالُوا أَ آلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَ جَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَ اتَّبِعُونِ هذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَ لَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 415

سبب النّزول

في جامع البيان: جلس رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فيما بلغني يوماً مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلّم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فعرض له النضر بن الحارث، وكلّمه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حتى أفحمه، ثم تلا عليه وعليهم: «إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هؤُلَاءِ ءَالِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ» [أنبياء 98 و 99]. ثم قام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأقبل عبداللَّه بن الزبعري بن قيس بن عدي السهمي حتى جلس، فقال الوليد بن المغيرة لعبداللَّه الزبعري:

واللَّه ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفاً وما قعد، وقد زعم أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم، فقال عبداللَّه بن الزبعري: أما

واللَّه لو وجدته لخصمته، فسلوا محمّداً: أكل من عبد من دون اللَّه في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيراً، والنصارى تعبد عيسى ابن مريم. فعجب الوليد بن المغيرة ومن كان في المجلس من قول عبد اللَّه الزبعري (ورأوا أنّه قد احتج وخاصم. فذكر ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله من قول عبداللَّه بن الزبعري، فقال) رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «نعم كل من أحبّ أن يعبد من دون اللَّه فهو مع من عبده، إنّما يعبدون الشياطين ومن أمرهم بعبادته» «1».

فأنزل اللَّه تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى ...» أنبياء 101 و 102. أي عيسى وعزير ومن عبد من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة اللَّه تعالى ونزل فيما يذكرون أنّهم يعبدون الملائكة وأنّها بنات اللَّه «وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَدًا ...» أنبياء 26- 29 والآيات بعدها. ونزل في إعجاب المشركين بقول ابن الزبعري «وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ...» الزخرف 57 و 58 «2».

التّفسير

أي الآلهة في جهنم: تتحدث هذه الآيات حول مقام عبودية المسيح عليه السلام، ونفي مقولة المشركين بالوهيته والوهية الأصنام، وهي تكملة للبحوث التي مرت في الآيات السابقة حول دعوة موسى ومحاربته للوثنية الفرعونية، وتحذير لمشركي عصر النبي صلى الله عليه و آله وكل مشركي العالم. تقول الآية الاولى: «وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ» «3».

______________________________

(1) جامع البيان 17/ 127.

(2) البداية والنهاية 3/ 110.

(3) «يصدّون»: من مادة «صد»، تعني الضحك والصراخ، وإحداث الضجيج والغوغاء، حيث يضعون يداً بيد عند السخرية والإستهزاء عادة. (يراجع لسان العرب، مادة: صدد).

مختصر الامثل، ج 4، ص: 416

إنّ المثل كان من جانب المشركين، وضرب فيما

يتعلق بالأصنام، لأنّا نقرأ في الآيات التالية: «مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا». إنّ المشركين قالوا أنّ عيسى بن مريم قد كان معبوداً، فينبغي أن يكون في جهنم بحكم هذه الآية، وأي شي ء أفضل من أن نكون نحن وأصنامنا مع عيسى؟! قالوا ذلك وضحكوا واستهزؤوا وسخروا.

ثم استمرّوا: «وَقَالُوا ءَأَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ». فإذا كان من أصحاب الجحيم، فإنّ آلهتنا ليست بأفضل منه ولا أسمى.

ولكن، اعلم أنّ هؤلاء يعلمون الحقيقة، و «مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ».

بل: «إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنهُ مَثَلًا لّبَنِى إِسْرَاءِيلَ».

لقد كان عيسى مقرّاً طوال حياته بالعبودية للَّه، ودعا الجميع إلى عبوديته سبحانه، ولمّا كان موجوداً في امته لم يسمح لأحد بالانحراف عن مسير التوحيد، ولكن المسيحيين أوجدوا خرافة ألوهية المسيح، أو التثليث، بعده.

ولئلا يتوهموا أنّ اللَّه سبحانه محتاج لعبوديتهم، وأنّه يصر عليها، فإنّه تعالى يقول في الآية التالية: «وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلِكَةً فِى الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ». ملائكة تخضع لأوامر اللَّه، ولا تعرف عملًا إلّاطاعته وعبادته.

والآية التالية تشير إلى خصيصة اخرى من خصائص المسيح عليه السلام وتقول: إنّ عيسى سبب العلم بالساعة «وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ». إمّا أنّ ولادته من غير أب دليل على قدرة اللَّه اللامتناهية، فتحل على ضوئها مسألة الحياة بعد الموت، أو من جهة نزول المسيح عليه السلام من السماء في آخر الزمان طبقاً لروايات عديدة، ونزوله هذا دليل على اقتراب قيام الساعة.

ثم تقول الآية بعد ذلك: إنّ قيام الساعة حتم، ووقوعها قريب: «فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا» لا من حيث الإعتقاد بها ولا من حيث الغفلة عنها.

«وَاتَّبِعُونَ هذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ» وأي صراط أكثر استقامة من الذي يخبركم بالمستقبل الخطير الذي ينتظركم، ويحذركم منه، ويدلكم على طريق النجاة

من أخطار يوم البعث؟!

إلّا أنّ الشيطان يريد أن يبقيكم في عالم الغفلة والإرتباط بها، فاحذروا: «وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطنُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ».

لقد أظهر عداءه لكم منذ اليوم الأوّل، مرّة عند وسوسته لأبيكم وأمكم- آدم وحواء-

مختصر الامثل، ج 4، ص: 417

وإخراجهما من الجنة، واخرى عندما أقسم على إضلال بني آدم وإغوائهم، إلّاالمخلَصين منهم.

وَ لَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) مرّت الإشارة إلى جانب من خصائص حياة المسيح عليه السلام في الآيات السابقة، وتكمل هذه الآيات ذلك البحث. تقول الآية أوّلًا: «وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِى تَخْتَلِفُونَ فِيهِ».

إنّ «الحكمة» اطلقت على كل العقائد الحقة، وبرامج الحياة الصحيحة التي تصون الإنسان من أنواع الانحراف في العقيدة والعمل، وتتناول تهذيب نفسه وأخلاقه، وعلى هذا فإنّ للحكمة هنا معنى واسعاً يشمل «الحكمة العلمية» و «الحكمة العملية».

ولهذه الحكمة- إضافة إلى ما مرّ- هدف آخر، وهو رفع الاختلافات التي تخلّ بنظام المجتمع، وتجعل الناس حيارى مضطربين، ولهذا السبب نرى المسيح عليه السلام يؤكّد على هذه المسألة.

وتضيف الآية في النهاية: «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ».

بعد ذلك، ومن أجل أن ترفع كل نوع من الإبهام في مسألة عبوديته، تقول الآية: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبّى وَرَبُّكُمْ».

وأنا مثلكم محتاج في كل وجودي إلى الخالق المدبر، فهو مالكي ودليلي.

وللتأكيد أكثر يضيف: «فَاعْبُدُوهُ». إذ لا يستحق العبادة غيره، ولا تليق إلّابه، فهو الرب والكل مربوبون، وهو المالك والكل مملوكون.

ثم يؤكّد كلامه بجملة اخرى حتى لا تبقى لمتذرع

ذريعة، فيقول: «هذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ».

نعم، إنّ الصراط المستقيم هو طريق العبودية للَّه سبحانه ... ذلك الطريق الذي لا انحراف فيه ولا إعوجاج.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 418

لكن العجب أن يختلف أقوام من بعده مع كل هذه التأكيدات: «فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ».

فالبعض ذهب إلى أنّه الرب الذي نزل إلى الأرض.

وبعض آخر اعتبره ابن ربّه.

وآخرون بأنّه أحد الأقانيم الثلاثة (الذوات المقدسة الثلاثة: الأب، والابن، وروح القدس).

وهناك فئة قليلة فقط هم الذين اعتبروه عبداللَّه ورسوله، غير أنّ عقيدة الأغلبية هي التي هيمنت، وعمت مسألة التثليث والآلهة الثلاثة عالم المسيحية.

وهددهم اللَّه سبحانه في نهاية الآية بعذاب يوم القيامة الأليم، فقال: «فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ».

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَ لَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَ كَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ماذا تنتظرون غير عذاب الآخرة: كان الكلام في الآيات السابقة يدور حول عبدة الأوثان العنودين، وكذلك حول المنحرفين والمشركين في امّة عيسى عليه السلام، والآيات مورد البحث تجسد عاقبة أمرهم. يقول تعالى: «هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ».

في الدرّ المنثور قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «تقوم الساعة والرجلان يحلبان اللقحة، والرجلان يطويان الثوب». ثم قرأ: «هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَايَشْعُرُونَ».

ثم رفعت الآية الغطاء عن حالة الأخلاء الذين يودّ بعضهم بعضاً، ويسيرون معاً في طريق المعصية والفساد، والإغترار بزخارف الدنيا، فتقول: «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» «1».

______________________________

(1) «الأخلاء»: جمع «خليل»- من مادة خلة- بمعنى المودّة والمحبّة، وأصلها من الخلل أي الفاصلة بين جسمين، ولما كانت

المحبّة والصداقة كأنّها تنفذ في أعماق القلب وثناياه، فقد استعملت فيها هذه الكلمة.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 419

إنّ تبدل مثل هذه المودّة إلى عداوة في ذلك اليوم أمر طبيعي، لأنّ كلًا منهم يرى صاحبه أساس تعاسته وسوء عاقبته.

أمّا المتقين تبقى روابط أخوتهم، وأواصر مودّتهم خالدة، لأنّها تدور حول محور القيم والمعايير الخالدة، وتتّضح نتائجها المثمرة في عرصة القيامة أكثر، فتمنحها قوّة إلى قوّتها.

والآية التالية تبيان لأوصاف المتقين وأحوالهم، وبيان لعاقبتهم التي تبعث على الفخر والإعتزاز في ذلك اليوم العصيب. يقول لهم اللَّه تعالى: «يَا عِبَادِ لَاخَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ».

كم هو جميل هذا النداء! نداء مباشر من اللَّه سبحانه من دون واسطة توصله ... نداء يبدأ بأحسن الصفات: يا عبادي! نداء يزيل قلق الإنسان في يوم ليس فيه إلّاالقلق والاضطراب ... نداء يطهر القلب من غم الماضي وحزنه، وينقيه ... نعم، لهذا النداء هذه المزايا الأربعة المذكورة.

وتبيّن آخر آية- من هذه الآيات- هؤلاء المتقين والعباد المكرمين بصورة أكثر وضوحاً، بذكر جملتين اخريين، فتقول: «الَّذِينَ ءَامَنُوا بَايَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ».

ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَ أَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَ أَكْوَابٍ وَ فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَ أَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين: تبيّن هذه الآيات جزاء عباد اللَّه المخلصين، والمؤمنين الصالحين الذين مرّ وصفهم في الآيات السابقة، وتبشرهم بالجنة الخالدة مع ذكر سبع نعم من نعمها النفيسة الغالية. تقول أوّلًا: «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ». وبذلك فإنّ مضيفهم الحقيقي هو اللَّه تعالى الذي يدعو ضيوفه ويقول لهم: ادخلوا الجنة.

ثم أشارت إلى أوّل نعمة من

تلك النعم، فقالت: «أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ». ومن الواضح أنّ كون المؤمنين الرحماء إلى جانب زوجاتهم المؤمنات يمنحهما معاً اللذة والسرور، فإذا كانا شريكين في همّ الدنيا، فإنّهما سيكونان شريكين في سرور الآخرة ونشوتها.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 420

مختصر الامثل ج 4 449

ثم تضيف: «تُحْبَرُونَ».

«تحبرون»: من مادة «حِبْر» أي الأثر المطلوب، وتطلق أحياناً على الزينة وآثار الفرح التي تظهر على الوجه.

وتقول في بيان النعمة الثالثة: «يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ». فهم يضافون ويخدمون بأفضل الأواني، وألذّ الأطعمة، في منتهى الهدوء والإطمئنان والصفاء.

«الصحاف»: جمع «صحفة»، وهي في الأصل من مادة «صحف»، أي التوسع، وتعني هنا الأواني الكبيرة الواسعة والأكواب جمع كوب، وهي أقداح الماء التي لا عروة لها.

وتشير في الرابعة والخامسة إلى نعمتين اخريين جمعت فيهما كل نعم العالم المادية والمعنوية، فتقول: «وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ».

وعلى قول الطبرسي رحمه الله في مجمع البيان: وقد جمع اللَّه سبحانه بقوله «مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ» ما لو اجتمع الخلائق كلهم على أن يصفوا ما في الجنة من أنواع النعيم، لم يزيدوا على ما انتظمته هاتان الصفتان.

ولما كانت قيمة النعمة في كونها خالدة، فقد طمأنت الآية أصحاب النعيم من هذه الجهة عندما ذكرت الصفة السادسة فقالت: «وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ». لئلّا يكدر التفكير في زوال هذه النعمة صفو عيشهم ولذّتهم، فيقلقوا من المستقبل وما يخبئه.

وهنا، من أجل أن يتّضح أنّ كل نعم الجنة هذه تعطى جزاءً لا اعتباطاً وعبثاً، تضيف الآية: «وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

أي أنّ أعمالكم هي أساس خلاصكم ونجاتكم، إلّاأنّ ما تحصلون عليه إذا ما قورن بأعمالكم فهو كالشي ء المجاني المعطى من قبل اللَّه تعالى، وكالهبة حصلتم عليها بفضله.

والكلام في النعمة السابعة والأخيرة في

ثمار الجنة التي هي من أفضل نعم اللَّه، فتقول الآية: «لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مّنْهَا تَأْكُلُونَ».

وجاء في الحديث: «لا ينزع رجل في الجنة ثمرة من ثمرها إلّانبت مثلاها مكانها» «1».

______________________________

(1) تفسير روح البيان 8/ 392.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 421

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَ مَا ظَلَمْنَاهُمْ وَ لكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَ نَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَ نَجْوَاهُمْ بَلَى وَ رُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) نتمنى أن نموت لنستريح من العذاب: لقد فصّلت هذه الآيات القول في مصير المجرمين والكافرين في القيامة، ليتّضح الفرق بينه وبين مصير المؤمنين- المطيعين لأمر اللَّه- المشرف السعيد من خلال المقارنة بين المصيرين. تقول الآية الاولى: «إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ».

«المجرم»: من مادة «جرم»، وهو في الأصل بمعنى القطع الذي يستعمل في قطع الثمار من الشجرة- أي القطف- وكذلك في قطع نفس الشجرة، إلّاأنّه استعمل فيما بعد في القيام بكل عمل سي ء، وربّما كان سبب هذا الاستعمال هو أنّ هذه الأعمال تفصل الإنسان عن ربّه وعن القيم الإنسانية، وتبعده عنهما.

والمراد هنا هم المجرمون الذين اتخذوا سبيل الكفر سبيلًا لهم.

ولما كان من الممكن أن يخفف العذاب الدائمي بمرور الزمان، وتقل شدته تدريجياً، فإنّ الآية التالية تضيف: «لَايُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ».

إنّ هاتين الآيتين قد أكدتا على ثلاث مسائل: مسألة الخلود، وعدم تخفيف العذاب، والحزن واليأس المطلق، وما أشد العذاب الذي تمتزج فيه هذه الامور الثلاثة وتجتمع.

وتنبه الآية التالية إلى أنّ هؤلاء هم الذين

أرادوا هذا العذاب الأليم، واشتروه بأعمالهم وبظلمهم لأنفسهم، فتقول: «وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ».

إنّ القرآن يرى ارادة الإنسان وأعماله السبب الأساسي لكل سعادة أو شقاء، لا المسائل الظنية والوهمية التي اصطنعها البعض لأنفسهم.

ثم تطرقت الآية إلى بيان جانب من مذلة هؤلاء ومسكنتهم، فقالت، «وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ».

فمع أنّ كل امرى ء يهرب من الموت ويريد استمرار الحياة وبقاءها، إلّاأنّه عندما تتوالى

مختصر الامثل، ج 4، ص: 422

عليه المصائب أحياناً ويضيق عليه الخناق يتمنّى على اللَّه الموت، وإذا كانت هذه الأمنية قد تحدث أحياناً لبعض الناس في الدنيا، فإنّها تعمّ جميع المجرمين هناك، فكلّهم يتمنى الموت. ولكن حيث لا فائدة من ذلك، فإنّ مالك النار وخازنها يجيبهم: «قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ» «1».

وتقول الآية الاخرى، وهي تشير إلى علّة خلود هؤلاء في نار جهنم: «لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلّحَقّ كَارِهُونَ».

وللتعبير «بالحق» معنى واسع يشمل كل الحقائق المصيرية، وإن كانت مسألة التوحيد والمعاد والقرآن تأتي في الدرجة الاولى.

وهذا التعبير يشير إلى أنّكم لم تخالفوا الأنبياء فحسب، وإنّما خالفتم الحق في الواقع، وهذه المخالفة هي التي ساقتكم إلى العذاب الخالد الأبدي.

وتعكس الآية التالية جانباً من كراهية هؤلاء للحق واشمئزازهم منه، وكذلك مناصرتهم للباطل والتمسك به، فتقول: «أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ».

فقد حاك هؤلاء الأشرار الدسائس ودبّروا المؤمرات لإطفاء نور الإسلام، وقتل النبي صلى الله عليه و آله ولم يتورعوا في إنزال الضربات بالإسلام والمسلمين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.

وفي المقابل أردنا أن نجازي هؤلاء في هذه الحياة الدنيا، وفي الآخرة بأشد العذاب.

و الآية الاخرى بيان لإحدى علل التآمر، فتقول: «أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَانَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَيهُم».

فإنّ الأمر ليس كذلك، إذ نحن نسمع ورسلنا: «بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ».

«السر»: هو ما

يضمره الإنسان في قلبه، أو ما يودعه من أسراره لدى إخوانه وأصدقائه؛ و «النجوى»: هي الهمس في الاذن.

قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَ تَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا وَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)

______________________________

(1) «ماكثون»: من مادة «مكث»، وهو في الأصل التوقف المقترن بالإنتظار، وربّما كان هذا التعبير من مالك استهزاءً، كما نقول- أحياناً- لمن يطلب شيئاً لا يستحقه انتظر.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 423

لما كان البحث في الآيات السابقة- وخاصة في بداية السورة- عن مشركي العرب واعتقادهم بأنّ للَّه ولداً، وأنّهم كانوا يظنون الملائكة بنات اللَّه، ولما مر البحث في عدة آيات مضت عن المسيح عليه السلام ودعوته إلى الوحدانية الخالصة والعبودية للَّه وحده، فقد ورد البحث في هذه الآيات في نفي هذه العقائد الفاسدة عن طريق آخر. تقول الآية: «قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ».

وعلى هذا، فإنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله يقول: لو كان للَّه ولد لبادرت قبلكم إلى احترامه وتعظيمه، ليطمئن هؤلاء من إستحالة أن يكون للَّه ولد.

بعد هذا الكلام ذكرت الآية دليلًا واضحاً على نفي هذه الإدعاءات، فقالت: «سُبْحَانَ رَبّ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ رَبّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ». فإنّ من كان مالكاً للسماوات والأرض ومدبراً لها، وربّاً للعرش العظيم، لا يحتاج إلى الولد.

ثم تضيف الآية الاخرى كاحتقار لهؤلاء المعاندين وتهديد لهم، وهو بحد ذاته أسلوب آخر من أساليب البحث مع أمثال هؤلاء الأفراد: «فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى

يُلقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ».

إنّه نفس اليوم الموعود الذي أقسم اللَّه تعالى به في الآية (2) من سورة البروج، حيث تقول الآية: «وَالْيَوْمِ الْمُوعُودِ».

وتواصل الآيتان التاليتان البحث حول مسألة التوحيد، وهما تشكلان نتيجة للآيات السابقة من جهة، ومن جهة اخرى دليلًا لتكملتها وإثباتها، وفيهما سبع من صفات اللَّه سبحانه، ولجميعها أثر في تحكيم وتقوية مباني التوحيد.

فتقف الآية الاولى بوجه المشركين الذين كانوا يعتقدون بانفصال إله السماء عن إله الأرض، بل ابتدعوا للبحر إلهاً، وللصحراء إلهاً وآخر للحرب، ورابعاً للصلح والسلم، وآلهة مختلفة ومتعددة بتعدد الموجودات، فتقول: «وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَاءِ إِلهٌ وَفِى الْأَرْضِ إِلهٌ».

وتقول في الصفتين الثانية والثالثة: «وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ». فكلّ أعماله تقوم على أساس الدقّة والحساب والنظم، وهو عليم بكل شي ء ومحيط به، وبذلك فإنّه يعلم أعمال العباد جيداً، ويجازيهم عليها طبقاً لحكمته.

وتتحدث الآية الثانية في الصفتين الرابعة والخامسة، بركات وجوده الدائمة الوفيرة، وعن امتلاكه السماء والأرض وما بينهما، فتقول: «تَبَارَكَ الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ

مختصر الامثل، ج 4، ص: 424

وَمَا بَيْنَهُمَا». «تبارك»: من مادة «بركة»، وتعني امتلاك النعمة الوفيرة، أو الثبات والبقاء، أو كليهما، وكلاهما يصدقان في شأن اللَّه تعالى. وتضيف في الصفتين السادسة والسابعة: «وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ».

وعلى هذا فإذا أردتم الخير والبركة فاطلبوها منه لا من الأصنام، فإنّ مصائركم إليه يوم القيامة، وهو المرجع الوحيد لكم، وبيده كل شي ء.

وَ لَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَ قِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَ قُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) من يملك الشفاعة: لا زال الحديث في هذه

الآيات- وهي آخر آيات سورة الزخرف- حول إبطال عقيدة الشرك وتفنيدها، وعاقبة المشركين المُرّة، وهي توضح بطلان عقيدتهم بدلائل اخرى. تقول الآية الاولى: «وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ».

ولمّا كانت الملائكة وأمثالها من بين آلهة هؤلاء، فقد استثنوا في ذيل الآية، فقالت: «إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقّ».

لكن ليس الأمر كما تتوهمون أنّهم يشفعون لأي كان، حتى وإن كان وثنياً ومشركاً ومنحرفاً عن طريق التوحيد وضالًا عن الصراط المستقيم، بل «وَهُمْ يَعْلَمُونَ». جيداً لمن يشفعون.

ثم تدين المشركين من أفواههم، وتجيبهم جواباً قاطعاً، فتقول: «وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ».

إنّ من النادر أن يوجد من بين مشركي العرب وغيرهم من يعتقد أنّ الأصنام هي الخالقة لهم، فإنّ الأعم الأغلب منهم يعتبرون الأصنام وسائط وشفعاء يقربونهم إلى اللَّه زلفى، أو أنّها دلائل وعلامات لأولياء اللَّه المقدسين، ثم يضمون إليها ذريعة أن معبودنا يجب أن يكون موجوداً ملموساً ومحسوساً لنأنس به، فيعبدونها، ولذا فإنّهم متى ما سئلوا عن خالقهم فسيقولون: اللَّه. ولذلك فإنّ الآية تقول في نهايتها: «فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ». وهو لوم وتوبيخ لهم ... فإنّكم إذا علمتم حقيقة الأمر فلم تعرضون عن اللَّه وتعبدون غيره؟

مختصر الامثل، ج 4، ص: 425

وتحدثت الآية التالية عن شكوى النبي صلى الله عليه و آله إلى اللَّه سبحانه من هؤلاء القوم المتعصبين الذين لا منطق لديهم، فقالت: «وَقِيلِهِ يَا رَبّ إِنَّ هؤُلَاءِ قَوْمٌ لَّايُؤْمِنُونَ».

إنّه يقول: لقد تحدثت مع هؤلاء القوم ليلًا ونهاراً، فأتيتهم من طريق التبشير والإنذار، وذكرت لهم قصص الأقوام الماضين المؤلمة، إلّاأنّ حرارة كلامي لم تؤثر في برودة قلوبهم، فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة، فلم يؤمنوا.

ويأمر اللَّه سبحانه نبيّه في آخر آية أن «فَاصْفَحْ عَنْهُمْ» ولا يكن إعراضك عنهم إعراض افتراق وغضب وأذى وجرح

للمشاعر، بل أعرض عنهم «وَقُلْ سَلمٌ» لا سلام تحيّة ومحبّة، بل سلام وداع وافتراق.

إنّ هذا السلام يشبه ذلك السلام الذي ورد في الآية (63) من سورة الفرقان: «وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا». سلام هو علامة اللامبالاة بهم ممتزجةً بالعلوّ والعزة.

ومع ذلك فإنّه تعالى يهددهم ويحذرهم بجملة عميقة المعنى، لئلا يتصوروا أنّ اللَّه تاركهم بعد هذا الفراق والوداع، فيقول: «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ».

نعم، سوف يعلمون أي نار محرقة قد أوقدوها لأنفسهم بعنادهم، وأي عذاب أليم قد هيأوا أسبابه ليطالهم فيما بعد؟

«نهاية تفسير سورة الزخرف»

مختصر الامثل، ج 4، ص: 427

44. سورة الدخان

محتوى السورة: يمكن تلخيص فصول هذه السورة في سبعة:

1- بداية السورة بالحروف المقطعة، ثم بيان عظمة القرآن، مع تبيان نزوله في ليلة القدر أوّل مرة.

2- وتتحدث عن التوحيد ووحدانية اللَّه سبحانه، وبيان بعض مظاهر عظمته في عالم الوجود.

3- ويتحدث عن مصير الكفار وعاقبتهم، وأنواع العقوبات الأليمة التي نزلت وستنزل بهم.

4- وتتحدث عن قصة موسى عليه السلام وبني إسرائيل مع قوم فرعون، وهزيمة قوم فرعون وهلاكهم وفنائهم، من أجل إيقاظ هؤلاء الغافلين.

5- وتشكل مسألة القيامة وأنواع العذاب الأليم الذي سينال أصحاب الجحيم، والمثوبات العظيمة التي تسر الروح، والتي سينالها المتقون.

6- ومن المواضيع الاخرى التي طرحت في هذه السورة موضوع الغاية من الخلق، وعدم كون خلق السماء والأرض عبثاً.

7- وأخيراً تنتهي السورة ببيان عظمة القرآن الكريم كما بدأت بذلك.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 428

ولمّا كان الكلام في الآية العاشرة من هذه السورة عن «الدخان المبين»، فقد سميت بسورة الدخان.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ سورة الدخان ليلة الجمعة ويوم الجمعة بنى اللَّه له بيتاً في الجنة».

وروى أبو حمزة الثمالي عن الإمام الباقر

عليه السلام قال: «من قرأ سورة الدخان في فرائضه ونوافله بعثه اللَّه من الآمنين يوم القيامة، وأظلّه تحت ظلّ عرشه، وحاسبه حساباً يسيراً، واعطي كتابه بيمينه».

حم (1) وَ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَ يُمِيتُ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) نزول القرآن في الليلة المباركة: نلاحظ في بداية هذه السورة- وكالسور الأربعة السابقة، والسورتين الآتيتين، والتي يكون مجموعها سبع سور هي سور الحواميم- الحروف المقطعة «حم».

إنّ بعض المفسرين فسّر (حم) هنا بالقسم، فيصبح في الآية قَسمان متتابعان: قسم بحروف الهجاء ك (حم)، وقسم بهذا الكتاب المقدس الذي يكون من هذه الحروف.

وكما قلنا، فإنّ الآية الثانية أقسمت بالقرآن الكريم، حيث تقول: «وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ».

لكن لنَر الآن ما هو القصد من وراء ذكر هذا القسم؟ الآية التالية توضح هذا الأمر، فتقول: «إِنَّا أَنزَلْنهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ».

لقد فسّرها أغلب المفسرين بليلة القدر، تلك الليلة العظيمة التي تغيرت فيها مقدرات البشر بنزول القرآن الكريم ... تلك الليلة التي تقدر فيها مصائر الخلائق.

وتجدر الإشارة إلى أنّ ظاهر الآية هو أنّ القرآن كلّه قد نزل في ليلة القدر.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 429

أمّا ما هو الهدف الأساس من نزوله؟ نهاية الآية أشارت إليه إذ قالت: «إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ». فإنّ سنتنا الدائمة هي إرسال الرسل لإنذار الظالمين والمشركين، وكان إرسال نبي الخاتم صلى الله عليه و آله بهذا الكتاب المبين آخر حلقة من هذه السلسلة المباركة المقدسة.

والآية التالية وصف

وتوضيح لليلة القدر، حيث تقول: «فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ».

التعبير ب (يفرق) إشارة إلى أنّ كل الامور والمسائل المصيرية تقدر في تلك الليلة؛ والتعبير ب «الحكيم» بيان لاستحكام هذا التقدير، وعدم تغيره، وكونه حكيماً.

وهذا البيان ينسجم مع الروايات الكثيرة التي تقول: إنّ مقدرات بني آدم بأجمعهم لمدّة سنة تقدر في ليلة القدر، وكذلك تفرق الأرزاق والآجال والامور الاخرى في تلك الليلة.

وتقول الآية الاخرى لتأكيد أنّ القرآن منزل من قبل اللَّه تعالى: «أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ».

ولأجل تبيان العلة الأساسية لنزول القرآن وإرسال النبي صلى الله عليه و آله وكون المقدرات في ليلة القدر، تضيف الآية: «رَحْمَةً مّن رَّبّكَ».

نعم، فإنّ رحمته التي لا تُحدّ توجب أن لا يترك العباد وشأنهم، بل يجب أن ترسل إليهم التعليمات اللازمة لترشدهم في سيرهم إلى اللَّه.

وتذكر نهاية هذه الآية- والآيات التالية- سبع صفات للَّه سبحانه، وكلّها تبين توحيده ووحدانيته، فتقول: «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».

فهو يسمع طلبات العباد، وهو عليم بأسرار قلوبهم.

ثم تقول مبينة للصفة الثالثة: «رَبّ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ».

لما كان كثير من المشركين يعتقدون بوجود آلهة وأرباب عديدين، وكانوا يظنون أنّ لكل موجود من الموجودات إله، فإنّ هذه الآية أبطلت كل هذه الأوهام بجملة: «رَبّ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا». وأثبتت أنّ ربّ كل موجودات العالم واحد.

وتقول في الصفة الرّابعة والخامسة والسادسة: «لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ». فحياتكم ومماتكم بيده، وهو سبحانه ربّكم وربّ العالمين، وعلى هذا فلا إله سواه، أوَ يكون من ليس له مقام الربوبية ولا أهليتها، ولا يملك الحياة والموت ربّاً ومبعوداً؟!

وتضيف في الصفة السابعة: «وَرَبُّ ءَابَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 430

بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)

يَغْشَى النَّاسَ هذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَ قَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ قَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) لما كان الكلام في الآيات السابقة في أنّ هؤلاء إن كانوا طلّاب يقين، فإنّ سبل تحصيله كثيرة، وتضيف أوّل آية من هذه الآيات: «بَلْ هُمْ فِى شَكّ يَلْعَبُونَ» فإنّ شك هؤلاء في حقانية هذا الكتاب السماوي وفي نبوّتك، ليس نابعاً من كون المسألة معقدة صعبة، بل من عدم جديتهم في التعامل معها.

ثم انتقلت الآية التالية إلى تهديد هؤلاء المنكرين المعاندين المتعصبين، في الوقت الذي وجهت الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله فقالت: «فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ يَغشَى النَّاسَ هذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ».

إنّ المراد من «الدخان المبين» هو ذلك الدخان الغليظ الذي سيغطي السماء في نهاية العالم، وعلى أعتاب القيامة، فهو علامة لحلول اللحظات الأخيرة لهذه الدنيا، وبداية عذاب اللَّه الأليم للظالمين والمفسدين.

عند ذلك سيعم الخوف والاضطراب كل وجودهم، وتزول الحجب من أمام أعينهم، فيقفون على خطئهم الكبير، ويتجهون إلى اللَّه تعالى بالقول: «رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ».

إلّا أنّ اللَّه عزّ وجل يرفض طلب هؤلاء ويقول: «أَنَّى لَهُمُ الذّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ». رسول كان واضحاً في نفسه وتعليماته وبرامجه وآياته ومعجزاته، ومبيناً لها جميعاً.

غير أنّ هؤلاء بدل أن يذعنوا له، ويؤمنوا باللَّه الواحد الأحد، ويتقبلوا أوامره بكل وجودهم، أعرضوا عن النبي صلى الله عليه و آله: «ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ».

ثم تضيف الآية التالية: «إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ».

ويقول سبحانه في آخر آية من هذه

الآيات: «يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ».

«البطش»: هو تناول الشي ء بصولة، وهنا بمعنى الأخذ للإنتقام الشديد، ووصف البطشة بالكبرى إشارة إلى العقوبة الشديدة التي تنتظر هذه الفئة.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 431

وَ لَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَ جَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَ أَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) متابعة للآيات السابقة التي كانت تتحدث حول تمرد مشركي العرب وعدم إذعانهم للحق، تشير هذه الآيات إلى نموذج من الأمم الماضية التي سارت في نفس هذا المسير، وابتليت أخيراً بالعذاب الأليم والهزيمة النكراء، ليكون ذلك تسلية للمؤمنين، وتحذيراً للمنكرين المعاندين. وذلك النموذج هو قصة موسى وفرعون، حيث تقول الآية: «وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ».

«فتنّا»: من مادة «فتنة»، وهي في الأصل تعني وضع الذهب في فرن النار لتخليصه من الشوائب، ثم أطلقت على كل امتحان واختبار يجري لمعرفة نسبة خلوص البشر.

ثم تضيف الآية: «وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ».

لقد خاطبهم موسى عليه السلام باسلوبه المؤدب جدّاً، الملي ء بالود والمحبة، فقال: «أَنْ أَدُّوا إِلَىَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ».

وطبقاً لهذا التفسير، فإنّ «عِبَادَ اللَّهِ» بحكم المخاطب، والمراد منهم الفراعنة، وبالرغم من أنّ هذا التعبير يستعمل في آيات القرآن في شأن العباد الصالحين، إلّاأنّه أطلق أيضاً في موارد عديدة على الكفار والمجرمين، من أجل تحريك وجدانهم، وجذب قلوبهم نحو الحق.

بناء على هذا، فإنّ المراد من «أَدُّوا» إطاعة أمر اللَّه سبحانه وتنفيذ أوامره.

ثم يقول لهم موسى عليه السلام بعد أن دعاهم إلى طاعة اللَّه سبحانه، أو إطلاق سراح بني إسرائيل وتحريرهم: إنّ مهمّتي

الاخرى أن أقول لكم: «وَأَن لَّاتَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنّى ءَاتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ» معجزاته بينة، وأدلته منطقية واضحة.

ولما كان المستكبرون وعبيد الدنيا لا يدعون أي تهمة وافتراء، إلّاوألصقوهما بمن يرونه مخالفاً لمنافعهم ومصالحهم اللامشروعة بل لا يتورعون حتى عن قتله وإعدامه، لذا فإنّ موسى عليه السلام يضيف للحد من مسلكهم هذا: «وَإِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ».

وتخاطب الآية الأخيرة هؤلاء القوم فتقول: «وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُوا لِى فَاعْتَزِلُونِ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 432

لأنّ موسى عليه السلام كان واثقاً من نفوذه بين أوساط الناس، ومختلف طبقاتهم، بامتلاكه تلك المعجزات الباهرات، والأدلة القوية، والسلطان المبين.

فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَ اتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (25) وَ زُرُوعٍ وَ مَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَ نَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَ أَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَ الْأَرْضُ وَ مَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) لقد استخدم موسى عليه السلام كل وسائل الهداية للنفوذ إلى قلوب هؤلاء المجرمين الظلمة، إلّا أنّها لم تؤثر فيهم أدنى تأثير، وطرق كل باب ولكن ما من مجيب. لذلك يئس منهم، ولم ير لهم علاجاً إلّالعنهم والدعاء عليهم، لأنّ الفاسدين الذين لا أمل في هدايتهم لا يستحقون الحياة في قانون الخلقة، بل يجب أن ينزل عليهم عذاب اللَّه ويجتثهم ويطهر الأرض من دنسهم. لذلك تقول الآية الاولى من هذه الآيات: «فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلَاءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ».

وقد استجاب اللَّه سبحانه دعاءه، وكمقدمة لنزول العذاب على الفراعنة، ونجاة بني إسرائيل منهم، أمر موسى عليه السلام أن «فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ».

لكن لا تقلق من ذلك، فيجب أن يتبعكم هؤلاء ليلاقوا المصير

الذي ينتظرهم.

إنّ ما حذف هنا من أجل الاختصار وُضّح في آيات اخرى من القرآن بعبارات موجزة، فمثلًا نقرأ في الآية (77) من سورة طه: «وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِى الْبَحْرِ يَبَسًا لَاتَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى .

ثم تضيف الآية التي بعدها: عندما تصل إلى الساحل الآخر عليك أن تترك البحر بهدوء «وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا». والمراد من البحر في هذه الآيات هو نهر النيل العظيم.

من الطبيعي أنّ موسى عليه السلام وبني إسرائيل كانوا راغبين في أن يجتازوا البحر حتى تتصل المياه مرّة اخرى وتملأ هذا الفراغ، ويبتعدوا بسرعة عن منطقة الخطر، ويتجهوا بسلامة إلى الوطن الموعود، إلّاأنّهم امروا أنّ لا يعجلوا أثناء عبورهم نهر النيل، بل ليدعوا فرعون وآخر جندي من جنوده يردون النيل، فإنّ أمر إهلاكهم وإماتتهم قد صدر إلى أمواج النيل المتلاطمة الغاضبة، ولذلك تقول الآية في ختامها: «إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 433

يبيّن القرآن الكريم في الآيات التالية تركة الفراعنة العظيمة التي ورثها بنو إسرائيل، ضمن خمسة مواضيع تكون الفهرس العام لكل حياة الفراعنة، فيقول أوّلًا: «كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ».

لقد كانت البساتين والعيون ثروتين من أهم وأروع ثروات هؤلاء.

ثم يضيف القرآن الكريم: «وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ». وكانت هاتان ثروتين مهمّتين أخريين، فمن جهة كانت الزراعة العظيمة التي تعتمد على النيل، حيث أنواع المواد الزراعية الغذائية وغيرها، والمحصولات التي امتدت في جميع أنحاء مصر، وكانوا يستخدمونها غذاءاً لهم ويصدرون الفائض منها إلى الخارج؛ ومن جهة اخرى كانت القصور والمساكن العامرة، حيث إنّ من أهم مستلزمات حياة الإنسان هو المسكن المناسب.

ولمّا كان هؤلاء يمتلكون وسائل رفاه كثيرة غير الامور الأربعة المهمة التي مرّ ذكرها، فقد أشار القرآن إليها جميعاً

في جملة مقتضبة، فقال: «وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ».

ثم يضيف: «كَذلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا ءَاخَرِينَ».

والمراد من «قَوْمًا ءَاخَرِينَ» هم بنو إسرائيل، حيث صرّح بذلك في الآية (95) من سورة الشعراء.

وقد عادوا إلى مصر بعد غرق الفراعنة وورثوا ميراثهم، وحكموا هناك.

وتقول الآية الأخيرة من هذه الآيات: «فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ».

إنّ عدم بكاء السماء والأرض ربّما كان كناية عن حقارتهم، وعدم وجود ولي ولا نصير لهم ليحزن عليهم ويبكيهم.

وَ لَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَ لَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَ آتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) بنو إسرائيل في بوتقة الاختبار: كان الكلام في الآيات السابقة عن غرق الفراعنة وهلاكهم، وانكسار شوكتهم وانتهاء حكومتهم، وانتقالها إلى الآخرين، وتتحدث هذه

مختصر الامثل، ج 4، ص: 434

الآيات في النقطة المقابلة لذلك أي نجاة بني إسرائيل وخلاصهم، فتقول: «وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ». من العذاب الجسمي والروحي الشاق، من ذبح الأطفال الذكور، واستحياء البنات للخدمة وقضاء المآرب، من السخرة والأعمال الشاقة جدّاً، وأمثال ذلك. لقد نجّى اللَّه سبحانه هذه الامّة المظلومة من قبضة هؤلاء الظالمين، أعظم سفاكي الدماء في التاريخ، في ظل ثورة موسى بن عمران عليه السلام الربانية، لذلك تضيف الآية: «مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مّنَ الْمُسْرِفِينَ».

وتشير الآية التالية إلى نعمة اخرى من نعم اللَّه سبحانه على بني إسرائيل، فتقول: «وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ». إلّاأنّهم لم يعرفوا قدر هذه النعمة، فكفروا وعوقبوا.

وعلى هذا فإنّهم كانوا الامة المختارة في عصرهم، لأنّ المراد من العالمين البشر في ذلك العصر والزمان لا في كل القرون والأعصار.

وتشير آخر آية من هذه

الآيات إلى بعض المواهب الاخرى التي منحهم اللَّه إيّاها، فتقول: «وَءَاتَيْنَاهُم مّنَ الْأَيَاتِ مَا فِيهِ بَلؤٌا مُّبِينٌ».

وهذا تحذير لكل الامم والأقوام فيما يتعلق بالإنتصارات والمواهب التي يحصلون عليها بفضل اللَّه ولطفه، فإنّ الامتحان عندئذ عسير.

إِنَّ هؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَ مَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) لا شي ء بعد الموت: بعد أنّ جسدت الآيات السابقة مشهداً من حياة فرعون والفراعنة، وعاقبة كفرهم وإنكارهم، تكرر الكلام عن المشركين مرّة اخرى، وأعادت هذه الآيات مسألة شكهم في مسألة المعاد- والتي مرّت في بداية السورة- بصورة اخرى، فقالت: «إِنَّ هؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِىَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى . وسوف لا نعود إلى الحياة اطلاقاً وما يقوله محمّد عن المعاد والحياة بعد الموت والثواب والعقاب، والجنة والنار لا حقيقة له.

أي إنّنا نموت مرّة واحدة وينتهي كل شي ء.

ثم تنقل كلام هؤلاء الذين تشبثوا بدليل واه لإثبات مدعاهم، إذا قالوا: «فَأْتُوا بَابَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 435

أَ هُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) قوم تبع: لقد كانت أرض اليمن- الواقعة في جنوب الجزيرة العربية- من الأراضي العامرة الغنية، وكانت في الماضي مهد الحضارة والتمدن، وكان يحكمها ملوك يسمّون «تبّعاً»- وجمعها تبابعة- لأنّ قومهم كانوا يتبعونهم، أو لأنّ أحدهم كان يخلف الآخر ويتبعه في الحكم.

وهذه الآيات تواصل البحث الذي ورد حول مشركي مكة وعنادهم وإنكارهم للمعاد- فتهدد اولئك المشركين من خلال الإشارة إلى قصة قوم تبّع، بأنّ ما ينتظركم ليس العذاب الإلهي في القيامة

وحسب، بل سوف تلاقون في هذه الدنيا أيضاً مصيراً كمصير قوم تبّع المجرمين الكافرين، فتقول: «أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ».

ثم تعود الآية التي بعدها إلى مسألة المعاد مرّة اخرى، وتثبت هذه الحقيقة باستدلال رائع، فتقول: «وَمَا خَلَقْنَا السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لعِبِينَ» «1».

فإذا كان الموت بزعمكم نقطة النهاية فسيكون هذا الخلق لعباً ولهواً وعبثاً، لا فائدة من ورائه ولا هدف.

ثم تضيف الآية التي بعدها لتأكيد الكلام: «مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقّ».

إنّ كون هذا الخلق حقاً يوجب أن يكون له هدف عقلائي، وذلك الهدف لا يتحقق إلّا بوجود عالم آخر. «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَايَعْلَمُونَ»، لأنّهم لا يعملون الفكر في التوصل إلى الحقائق، وإلّا فإنّ أدلة المبدأ والمعاد واضحة بينة.

إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَ لَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)

______________________________

(1) «لاعب»: من مادة «لعب»، ويقول الراغب في المفردات: لعب فلان إذا كان فعله غير قاصد به مقصداً صحيحاً.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 436

يوم الفصل: تمثل هذه الآيات نتيجة الآيات السابقة التي بحثت مسألة المعاد، والتي استدل بها عن طريق حكمة خلق هذا العالم على وجود البعث والحياة الاخرى.

فتستنتج الآية الاولى من هذا الإستدلال: «إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ».

ثم ذكرت الآية التالية شرحاً موجزاً ليوم الفصل هذا، فقالت: «يَوْمَ لَايُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ».

«المولى»: من مادة «ولاء»، وهي في الأصل تعني الإتصال بين شيئين بحيث لا يوجد بينهما حاجز، وله مصاديق كثيرة.

والفرق بين «لا يغني» وبين «لا هم ينصرون» هو: إنّ الأوّل إشارة إلى أنّ أي فرد لا يقدر في ذلك اليوم على حل مشكلة

فرد آخر بصورة إنفرادية مستقلة، والثاني إشارة إلى أنّهم عاجزون عن حلّ المشاكل حتى وإن تعاونوا فيما بينهم.

لكن هناك جماعة واحدة مستثناة فقط، وهي التي أشارت إليها الآية التالية، فقالت: «إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ».

لا شك أنّ هذه الرحمة الإلهية لا تُمنح اعتباطاً، بل تشمل الذين آمنوا وعملوا الصالحات فقط.

إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) شجرة الزقوم: تصف هذه الآيات أنواعاً من عذاب الجحيم وصفاً مرعباً يهز الأعماق، وهي تكمل البحث الذي مرّ في الآيات السابقة حول يوم الفصل والقيامة، فتقول: «إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ». فهؤلاء المجرمون هم الذين يأكلون هذا النبات المر القاتل، والخبيث الطعام النتن الرائحة.

«الزقوم»: اسم شجرة لها أوراق صغيرة وثمرة مرّة خشنة اللمس منتنة الرائحة، تنبت في أرض تهامة من جزيرة العرب، كان المشركون يعرفونها، وهي شجرة عصيرها مرّ، وإذا

مختصر الامثل، ج 4، ص: 437

أصابت البدن تورّم؛ و «الأثيم»: من مادة «إثم»، وهو المقيم على الذنب، والمراد هنا الكفار المعاندون المعتدون، المصرون على الذنوب والمعاصي المكثرون منها.

ثم تضيف الآية: «كَالْمُهْلِ يَغْلِى فِى الْبُطُونِ كَغَلْىِ الْحَمِيمِ».

«المهل»: الفلز المذاب؛ و «الحميم»: هو الماء الحار المغلي.

فعندما يدخل الزّقوم بطون هؤلاء، فإنّه يولد حرارة عالية لا تطاق، ويغلي كما يغلي الماء، وبدل أن يمنحهم هذا الغذاء القوة والطاقة فإنّه يهبهم الشقاء والعذاب والألم والمشقة.

ثم يخاطب سبحانه خزنة النار، فيقول: «خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ».

«فاعتلوه»: من مادة «العَتْل»، وهي الأخذ والسحب والإلقاء؛ و «سواء»: بمعنى الوسط، لأنّ

المسافة إلى جميع الأطراف متساوية، وأخذ أمثال هؤلاء الأشخاص وإلقاؤهم في وسط جهنم باعتبار أنّ الحرارة أقوى ما تكون في الوسط، والنار تحيط بهم من كل جانب.

ثم تشير الآية التالية إلى نوع آخر من أنواع العقاب الأليم الذي يناله هؤلاء، فتقول: «ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ». وبهذا فإنّهم يحترقون من الداخل، وتحيط النار بكل وجودهم من الخارج، وإضافة إلى ذلك يصب على رؤوسهم الماء المغلي في وسط الجحيم.

وبعد كل أنواع العذاب الجسمي هذه، تبدأ العقوبات الروحية والنفسية، فيقال لهذا المجرم المتمرد العاصي الكافر: «ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ».

أنت الذي ركبك الغرور فلم تدع ذنباً لم ترتكبه، ولا موبقة لم تأتها، فذق الآن نتيجة أعمالك التي تجسدت أمامك، وكما أحرقت أجسام الناس وآلمت أرواحهم، فليحترق الآن داخلك وخارجك بنار غضب اللَّه والماء المغلي الذي يصهر ما في بطونهم والجلود.

ويضيف القرآن الكريم في آخر آية- من الآيات مورد البحث- مخاطباً إيّاهم: «إِنَّ هذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ».

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَ إِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَ زَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَ وَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 438

المتقون ومختلف نعم الجنة: لما كان الكلام في الآيات السابقة عن العقوبات الأليمة لأهل النار، فإنّ هذه الآيات تذكر المواهب والنعم المعدّة لأهل الجنة، لتتضح أهمية كل منهما من خلال المقارنة بينهما. وقد لخّصت هذه المواهب في سبعة أقسام:

الاولى هي: «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ أَمِينٍ». على هذا فلا يصيبهم أي إزعاج أو خوف، بل هم في

أمن كامل من الآفات والبلايا، من الغم والأحزان، ومن الشياطين والطواغيت.

ثم تطرقت الآيات إلى النعمة الثانية فقال: «فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ».

إنّ التعبير بالجنات يمكن أن يكون إشارة إلى تعدد الحدائق والبساتين التي يتمتع بها كل فرد من أهل الجنة، فهي تحت تصرّفه، أو تكون إشارة إلى مقاماتهم المختلفة ودرجاتهم المتفاوتة، لأنّ حدائق الجنة وبساتينها غير متساوية، بل تختلف باختلاف درجات أصحاب الجنة.

وتشير الثالثة إلى ملابسهم الجميلة، فتقول: «يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ».

«السندس»: يقال للأقمشة الحريرية الناعمة الرقيقة؛ و «الإستبرق» هي الأقمشة الحريرية السميكة.

طبعاً، ليس في الجنة حرّ شديد أو برد قارص ليتوقاه أهل الجنة بارتداء هذا الملابس، بل هذه إشارة إلى الألبسة المتنوعة المعدة لهم.

وتصل النوبة في النعمة الرابعة إلى أزواجهم، فتقول: «كَذلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ».

«الحور»: جمع حوراء وأحور، وتقال لمن اشتد سواد عينه، واشتد بياض بياضها؛ و «العين»: جمع أعين وعيناء، أي أوسع العين، ولما كان أكثر جمال الإنسان في عينيه، فإنّ الآية تصف عيون الحور العِين الجميلة الساحرة.

ثم تناولت الآية الاخرى النعمة الخامسة لأصحاب الجنة فقالت: «يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلّ فَاكِهَةٍ ءَامِنِينَ».

ولا أثر هنا للأمراض والاضطرابات التي قد تحدث في هذه الدنيا على أثر تناول الفواكه، وكذلك لا خوف من فسادها وقلّتها.

خلود الجنة ونعمها هي النعمة السادسة من نعم اللَّه سبحانه على المتقين، لأنّ الذي يقلق فكر الإنسان عند الوصال واللقاء هو خوف الفراق، ولذلك تقول الآية: «لَايَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى .

مختصر الامثل، ج 4، ص: 439

وأخيراً يبيّن القرآن الكريم السابع من النعم وآخرها، فيقول: «وَوَقهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ». فإنّ كمال هذه النعم إنّما يتم عندما يخلو فكر أصحاب الجنة من احتمال العذاب، وعدم انشغالهم به، لئلا يقلقوا فيتكدر صفوهم فلا تكمل تلك النعم حينئذ.

وهذا

التعبير يشير إلى أنّ المتقين إن كانوا خائفين مما بدر منهم من هفوات، فإنّ اللَّه سبحانه سيعفو عنها بلطفه وكرمه، ويطمئنهم بأن لا يدعوا للخوف إلى أنفسهم سبيلًا.

وأشارت آخر آية- من هذه الآيات- إلى جميع النعم السبعة، وكنتيجة لما مر تقول:

«فَضْلًا مّن رَّبّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».

صحيح، إنّ المتقين قد عملوا الكثير من الصالحات والحسنات، إلّاأنّ من المسلّم أنّ تلك الأعمال جميعاً لا تستحق كل هذه النعم الخالدة، بل هي فضل من اللَّه سبحانه، إذ جعل كل هذه النعم والعطايا تحت تصرّفهم ووهبهم إيّاها.

فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59) قلنا: إنّ سورة الدخان بدأت ببيان عظمة القرآن وعمقه، وتنتهي بهذه الآيات التي تبيّن كذلك التأثير العميق لآيات القرآن الكريم، لتنسجم بذلك بداية السورة مع نهايتها. تقول الآية الاولى: «فَإِنَّمَا يَسَّرْنهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ». فمع أنّ محتواه عميق جداً، وأبعاده مترامية، لكنّه بسيط واضح، يفهمه الجميع، وتقتبس من أنواره كل الطبقات، أمثاله جميلة رائعة، وتشبيهاته واقعية بليغة، وقصصه حقيقية تربوية، دلائله واضحة محكمة، وبيانه مع عمقه بسيط سهل، مختصر عميق المحتوى، وهو في الوقت نفسه ذو حلاوة وجاذبية، ينفذ إلى أعماق قلوب البشر، فينبه الغافلين، ويعلم الجاهلين، ويذكّر من كان له قلب.

وهذه الآية شبيهة بالآية التي تكررت عدّة مرّات في سورة القمر: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ».

لكن لمّا كان هناك جماعة لم يذعنوا لأمر اللَّه، ولم يسلموا ويستسلموا رغم ذكر كل هذه الأوصاف، فقد هددتهم الآية الأخيرة، وحذرتهم فقالت: «فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ». فانتظر ما وعدك اللَّه بالنصر على الكفار، ولينتظروا الهزيمة والخسران ...

انتظر نزول عذاب اللَّه الأليم على هؤلاء المعاندين الظالمين، ودعهم ينتظرون هزيمتك وعدم تحقق أهدافك السامية، ليعلم أي

الإنتظارين هو الصحيح؟

مختصر الامثل، ج 4، ص: 440

«ارتقب»: في الأصل مأخوذة من «الرقبة»، ولما كان من ينتظر شيئاً يمد رقبته نحوه دائماً، فقد جاءت بمعنى انتظار الشي ء ومراقبته.

«نهاية تفسير سورة الدخان»

مختصر الامثل، ج 4، ص: 441

45. سورة الجاثية

محتوى السورة: يمكن تلخيص محتوى هذه السورة في سبعة فصول:

1- عظمة القرآن المجيد وأهميته.

2- بيان جانب من دلائل التوحيد أمام المشركين.

3- ذكر بعض ادّعاءات الدهريين، والرد عليها بجواب قاطع.

4- إشارة وجيزة إلى عاقبة بعض الأقوام الماضين، كبني إسرائيل.

5- تهديد الضالين المصرّين على عقائدهم المنحرفة والمتعصبين لها تهديداً شديداً.

6- الدعوة إلى العفو والصفح، لكن مع الحزم وعدم الانحراف عن طريق الحق.

7- الإشارات البليغة المعبّرة إلى مشاهد القيامة المهولة.

واسمها مقتبس من الآية (28) منها؛ و «الجاثية»: تعني الجثو على الركب، وهي إشارة إلى وضع كثير من الناس في ساحة القيامة، في محكمة العدل الإلهية تلك.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ حم الجاثية ستر اللَّه عورته، وسكن روعته عند الحساب».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 442

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَ فِي خَلْقِكُمْ وَ مَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ وَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَ تَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَ آيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) إنّ هذه السورة هي سادس السور التي تبدأ بالحروف المقطعة «حم» وهي تشكل مع السورة الآتية- أي سورة الأحقاف- سور الحواميم السبعة.

يقول الطبرسي رحمه الله في بداية هذه السورة: إنّ أحسن ما

يقال هو أنّ (حم) اسم هذه السورة، ثم ينقل عن بعض المفسرين، أنّ تسمية هذه السورة ب (حم) للإشارة إلى أنّ هذا القرآن المعجز بتمامه يتكون من حروف الألف باء.

وربّما كان هذا هو السبب في أن تتحدث الآية التالية عن عظمة القرآن مباشرة فتقول:

«تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ».

«العزيز»: هو القوي الذي لا يقهر؛ و «الحكيم»: هو العارف بأسرار كل شي ء، وتقوم كل أفعاله على أساس الحكمة والدقّة.

ثم تناولت الآية التي بعدها بيان آيات اللَّه سبحانه ودلائل عظمته في الآفاق والأنفس، فقالت: «إِنَّ فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ لَأَيَاتٍ لّلْمُؤْمِنِينَ».

إنّ عظمة السماوات من جانب، ونظامها العجيب الذي مرّت عليه ملايين السنين الذي لم ينحرف عما سار عليه قيد أنملة، من جانب آخر، ونظام خلقة الأرض وعجائبها، من جانب ثالث، يكون كل منها آية من آيات اللَّه سبحانه.

غير أنّ علامات التوحيد هذه، وعظمة اللَّه تعالى إنّما يلتفت إليها وينتفع بها المؤمنون، أي طلّاب الحق والسائرون في طريق اللَّه.

ثم انتقلت السورة من آيات الآفاق إلى آيات الأنفس، فقالت: «وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ ءَايَاتٌ لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ».

كل واحد من هذه المخلوقات آية بنفسه، ودليل على علم مبدئ الخلقة وحكمته وقدرته اللامتناهية.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 443

وتذكر الآية التالية ثلاث مواهب اخرى لكل منها أثره الهام في حياة الإنسان والكائنات الحية الاخرى، وكل منها آية من آيات اللَّه تعالى، وهي مواهب «النور» و «الماء» و «الهواء»، فتقول: «وَاخْتِلفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ ءَايَاتٌ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ».

إنّ نظام «النور» و «الظلمة» وحدوث الليل والنهار حيث يخلف كل منهما الآخر نظام موزون دقيق جدّاً، وهو عجيب في وضعه وسنّته وقانونه.

ويحتمل في تفسير

الآية أنّ لا يكون المراد من اختلاف الليل والنهار تعاقبهما، بل هو إشارة إلى اختلاف المدة وتفاوت الليل والنهار، في فصول السنة، فيعود نفعه على الإنسان من خلال ما ينتج عن هذا الإختلاف من المحاصيل الزراعية المختلفة والنباتات والفواكه، ونزول الثلوج وهطول الأمطار والبركات الاخرى.

ثم تتناول الحديث في الفقرة الثانية عن الرزق السماوي، أي «المطر». والماء يشكل الجانب الأكبر والقسم الأساسي من بدن الإنسان، وكثير من الحيوانات الاخرى، والنباتات.

ثم تتحدث في الفقرة الثالثة عن هبوب الرياح .. تلك الرياح التي تنقل الهواء الملي ء بالأوكسجين من مكان إلى آخر، وتضعه تحت تصرف الكائنات الحية، وتبعد الهواء الملوث بالكاربون إلى الصحاري والغابات لتصفيته، ثم إعادته إلى المدن.

والعجيب أنّ هاتين المجموعتين من الكائنات الحية- أي الحيوانات والنباتات- متعاكسة في العمل تماماً، فالاولى تأخذ الأوكسجين وتعطي غاز ثاني أوكسيد الكاربون، والثانية على العكس تتنفس ثاني أوكسيد الكاربون وتزفر الأوكسجين، ليقوم التوازن في نظام الحياة، ولكي لا ينفذ مخزون الهواء النقي المفيد من جو الأرض بمرور الزمان.

إنّ هبوب الرياح، إضافة إلى ذلك فإنّه يلقح النباتات فيجعلها حاملة للأثمار والمحاصيل، وينقل أنواع البذور إلى الأراضي المختلفة لبذرها هناك، وينمي المراتع الطبيعية والغابات، ويهيج الأمواج المتلاطمة في قلوب المحيطات، ويبعث الحركة والحياة في البحار ويثير أمواجها العظيمة، ويحفظ الماء من التعفّن والفساد، وهذه الرياح نفسها هي التي تحرك السفن على وجه المحيطات والبحار وتجريها.

وتقول الآية الأخيرة، إجمالًا للبحوث الماضية، وتبياناً لعظمة آيات القرآن وأهميتها:

«تِلْكَ ءَايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 444

«التلاوة»: من مادة «تلو» أي الإتيان بالكلام بعد الكلام متعاقباً، وبناء على هذا فإنّ تلاوة آيات القرآن تعني قراءتها بصورة متوالية متعاقبة.

والتعبير «بالحق» إشارة إلى محتوى هذه الآيات، وهو أيضاً

إشارة إلى كون نبوّة النبي صلى الله عليه و آله والوحي الإلهي حقّاً. وبعبارة اخرى، فإنّ هذه الآيات بليغة معبرة تضمنت في طياتها الاستدلال على حقانيتها وحقانية من جاءها.

وحقّاً إذا لم يؤمن هؤلاء بهذه الآيات فبأي شي ء سوف يؤمنون؟ ولذلك تعقب الآية:

«فَبِأَىّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَءَايَاتِهِ يُؤْمِنُونَ».

حقّاً إنّ للقرآن الكريم محتوىً عميقاً من ناحية الاستدلال والبراهين على التوحيد، وكذلك فهو يحتوي على مواعظ وإرشادات تجذب العباد إلى اللَّه سبحانه حتى القلوب التي لها أدنى استعداد- أو أرضية صالحة- وتدعو كل مرتبط بالحق إلى الطهارة والتقوى، فإذا لم تؤثر هذه الآيات البينات في أحد فلا أمل في هدايته بعد ذلك.

وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَ إِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً وَ لَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) ويل لكل أفّاك أثيم: رسمت الآيات السابقة صورة عن فريق يسمعون كلام اللَّه مدعماً بمختلف أدلة التوحيد والمواعظ والإرشاد، فلا يترك أثراً في قلوبهم القاسية، أمّا هذه الآيات فتتناول بالتفصيل عواقب أعمال هذا الفريق، فتقول أوّلًا: «وَيْلٌ لِّكُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ».

«الأفّاك»: صيغة مبالغة، وهي تعني الشخص الذي يكثر الكذب جدّاً، وتقال أحياناً لمن يكذب كذبة عظيمة حتى وإن لم يكثر من الكذب.

و «الأثيم»: من مادة إثم، أي المجرم والعاصي، وتعطي أيضاً صفة المبالغة.

ويتّضح من هذه الآية جيداً أنّ الذين يقفون موقف الخصم العنيد المتعصب أمام آيات اللَّه سبحانه هم الذين غمرت المعصية كيانهم، فانغمسوا في الذنوب والآثام والكذب، لا اولئك الصادقون الطاهرون،

فإنّهم يذعنون لها لطهارتهم ونقاء سريرتهم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 445

ثم تشير الآية التالية إلى كيفية اتخاذهم لموضع الخصام هذا، فتقول: «يَسْمَعُ ءَايَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا».

وتهدده الآية في نهايتها بالعذاب الشديد، فتقول: «فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ». فكما أنّه آذى قلب النبي صلى الله عليه و آله والمؤمنين وآلمهم، فإنّنا سنبتليه بعذاب أليم أيضاً.

ثم تضيف الآية التي بعدها: «وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَاتِنَا شَيًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا».

إنّه يتخذ كل آياتنا هزواً، سواء التي علمها والتي لم يعلمها، وغاية الجهل أن ينكر الإنسان شيئاً أو يستهزي ء به وهو لم يفهمه أصلًا، وهذا خير دليل على عناد اولئك وتعصّبهم.

ثم تصف الآية عقاب هؤلاء في النهاية فتقول: «أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ».

وتوضح الآية التالية العذاب المهين، فتقول: «مّن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ».

إن التعبير بالوراء مع أنّ جهنم أمامهم وسيصلونها في المستقبل، يمكن أن يكون ناظراً إلى أنّ هؤلاء قد أقبلوا على الدنيا ونبذوا الآخرة والعذاب وراء ظهورهم.

إنّ الآية تضيف مواصلةً الحديث أنّ هؤلاء إن كانوا يظنون أنّ أموالهم الطائلة وآلهتهم التي ابتدعوها ستحل شيئاً من أثقالهم، وأنّها ستغني عنهم من اللَّه شيئاً، فإنّهم قد وقعوا في اشتباه عظيم، حيث: «وَلَا يُغْنِى عَنْهُم مَا كَسَبُوا شَيًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ».

ولمّا لم يكن هناك سبيل نجاة وفرار من هذا المصير، فإنّ هؤلاء يجب أن يبقوا في عذاب اللَّه ونار غضبه: «وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ».

ولقد استصغر هؤلاء آيات اللَّه سبحانه، ولذلك سيعظم اللَّه عذابهم، وقد اغتر هؤلاء وتفاخروا فألقاهم اللَّه في العذاب الأليم.

هذَا هُدًى وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

(12) وَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 446

مواصلة للبحوث التي وردت في الآيات السابقة حول عظمة آيات اللَّه، تتناول هذه الآيات نفس الموضوع، فتقول: «هذَا هُدًى». فهو يميز بين الحق والباطل، ويضي ء حياة الإنسان، ويأخذ بيد سالكي طريق الحق ليوصلهم إلى هدفهم ومنزلهم المقصود، لكن:

«وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَايَاتِ رَبّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ». «الرجز»: يعني الاضطراب والإهتزاز وعدم الإنتظار، وتطلق هذه الكلمة أيضاً على مرض الطاعون والإبتلاءات الصعبة، أو العواصف الثلجية الشديدة، والوساوس الشيطانية وأمثال ذلك، لأنّ كل هذه الامور تبعث على الإضطراب وعدم الإنتظام والانضباط.

ثم تحول زمام الحديث إلى بحث التوحيد الذي مرّ ذكره في الآيات الاولى لهذه السورة، فتعطي المشركين دروساً بليغة مؤثرة في توحيد اللَّه سبحانه ومعرفته. فتارة تدغدغ عواطفهم، وتقول: «اللَّهُ الَّذِى سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِىَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

بعد بيان السفن التي لها تماس مباشر بحياة البشر اليومية، تطرقت الآية التي بعدها إلى مسألة تسخير سائر الموجودات بصورة عامة، فتقول: «وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا مّنْهُ».

فلماذا يعرض الإنسان عنه ويلجأ إلى غيره، ويتسكع على أعتاب المخلوقات الضعيفة، ويبقى في غفلة وذهول عن المنعم الحقيقي عليه؟ ولذلك تضيف الآية في النهاية: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».

لقد كانت الآية السابقة تلامس عاطفة الإنسان وتحاول إثارتها، وهنا تحاول هذه الآية تحريك عقل الإنسان وفكره، فما أعظم رحمة ربّنا سبحانه! إنّه

يتحدث مع عباده بكل لسان وأسلوب يمكن أن يطبع أثره، فمرّة بحديث القلب، واخرى بلسان الفكر، والهدف واحد من كل ذلك، ألا وهو إيقاظ الغافلين ودفعهم إلى سلوك السبيل القويم.

ثم تطرقت الآية التالية إلى ذكر قانون أخلاقي يحدد كيفية التعامل مع الكفار لتكمل أبحاثها المنطقية السابقة عن هذا الطريق، فحولت الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله وقالت: «قُلْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَايَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ».

فمن الممكن أن تكون معاملة هؤلاء قاسية، وتعبيراتهم خشنة غير مؤدبة، وألفاظهم بذيئة، وذلك لبعدهم عن مبادئ الإيمان وأسس التربية الإلهية، غير أنّ عليكم أن تقابلوهم

مختصر الامثل، ج 4، ص: 447

بكل رحابة صدر لئلا يصروا على كفرهم ويزيدوا في تعصبهم، فتبعد المسافة بينهم وبين الحق.

لكن، ومن أجل أنّ لا يستغل مثل هؤلاء الأفراد هذا الصفح الجميل والعفو والتسامي، فقد أضافت الآية: «لِيَجْزِىَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ».

لقد اعتبر بعض المفسرين هذه الجملة تهديداً للكفار والمجرمين، في حين أنّ البعض الآخر اعتبرها بشارة للمؤمنين لهذا العفو والصفح، لكن لا مانع من أن تكون تهديداً لتلك الفئة من جانب، وبشارة لهذه الجماعة من جانب آخر، كما أشير إلى هذا المعنى في الآية التالية أيضاً. تقول الآية: «مَن عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ».

إنّ هذا التعبير الذي ورد في القرآن الكريم مراراً، وبعبارات مختلفة، يشكل جواباً لمن يقول: ماذا يضر عصياننا اللَّه تعالى، وما تنفعه طاعتنا؟

فتقول هذه الآيات: إنّ كل ضرر ذلك وكل نفعه يعود عليكم، فأنتم الذين تسلكون مراقي الكمال في ظل الأعمال الصالحة، وتحلّقون إلى سماء قرب اللَّه عزّ وجل، كما أنّكم أنتم الذين تهوون إلى الحضيض نتيجة ارتكابكم الآثام والمعاصي، فتبتعدون عن اللَّه عزّ وجل وتستحقون

بذلك اللعنة الأبدية.

وَ لَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ وَ رَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَ فَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَ آتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَ لَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَ هُدًى وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) آتينا بني إسرائيل كل ذلك، ولكن ...: متابعة للبحوث التي وردت في الآيات السابقة حول نعم اللَّه المختلفة وشكرها والعمل الصالح، تتناول هذه الآيات نموذجاً من حياة بعض الأقوام الماضين الذين غمرتهم نعم اللَّه سبحانه، إلّاأنّهم كفروا بها ولم يرعوها حق رعايتها.

تقول الآية الاولى: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مّنَ

مختصر الامثل، ج 4، ص: 448

الطَّيّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ».

تبيّن هذه الآية في مجموعها خمس نعم أنعم اللَّه بها على بني إسرائيل.

النعمة الاولى هي الكتاب السماوي، أي التوراة التي كانت مبينة للمعارف الدينية والحلال والحرام، وطريق الهداية والسعادة؛ والثانية مقام الحكومة والقضاء.

أمّا النعمة الثالثة فقد كانت نعمة مقام النبوّة، حيث اصطفى اللَّه سبحانه أنبياء كثيرين من بني إسرائيل.

وقد ورد في رواية أنّ عدد أنبياء بني إسرائيل بلغ ألف نبي، وفي رواية اخرى: «إنّ عدد أنبياء بني إسرائيل أربعة آلاف نبي».

وتتحدث الآية في الفقرة الرابعة حديثاً جامعاً شاملًا عن المواهب المادية، فتقول:

«وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيّبَاتِ».

النعمة الخامسة، هي تفوقهم وقوّتهم التي لا ينازعهم فيها أحد، كما توضح الآية ذلك في ختامها فتضيف: «وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ».

لا شك أنّ

المراد من «العالمين» هنا هم سكان ذلك العصر.

وتشير الآية التالية إلى الموهبة السادسة التي منحها اللَّه سبحانه لهؤلاء المنكرين للجميل، فتقول: «وَءَاتَيْنَاهُمْ بَيّنَاتٍ مّنَ الْأَمْرِ».

«البيّنات»: يمكن أن تكون إشارة إلى المعجزات الواضحة التي أعطاها اللَّه سبحانه موسى بن عمران عليه السلام وسائر أنبياء بني إسرائيل، أو أنّها إشارة إلى الدلائل والبراهين المنطقية الواضحة، والقوانين والأحكام المتقنة الدقيقة.

فمع وجود هذه المواهب والنعم العظيمة، والدلائل البيّنة الواضحة لا يبقى مجال للاختلاف، إلّاأنّ الكافرين بالنعم هؤلاء ما لبثوا أن اختلفوا، كما يصور القرآن الكريم ذلك في تتمة هذه الآية إذ يقول: «فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ».

ويهددهم القرآن الكريم في نهاية الآية بقوله: «إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ».

وبهذا فقد فقدوا قوّتهم وعظمتهم في هذه الدنيا بكفرانهم النعمة، واختلافهم فيما بينهم، واشتروا لأنفسهم عذاب الآخرة.

بعد بيان المواهب التي منّ اللَّه تعالى بها على بني إسرائيل، وكفرانها من قبلهم، ورد

مختصر الامثل، ج 4، ص: 449

الحديث عن موهبة عظيمة أهداها اللَّه سبحانه لنبي الخاتم صلى الله عليه و آله والمسلمين، فقالت الآية:

«ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مّنَ الْأَمْرِ».

«الشريعة»: تعني الطريق التي تستحدث للوصول إلى الماء الموجود عند ضفاف الأنهر التي يكون مستوى الماء فيها أخفض من الساحل، ثم أطلقت على كل طريق يوصل الإنسان إلى هدفه ومقصوده.

لقد استعملت هذه الكلمة مرّة واحدة في القرآن الكريم، وفي شأن الإسلام فقط.

والمراد من «الأمر» هنا هو دين الحق الذي مرّت الإشارة إليه في الآية السابقة أيضاً، حيث قالت: «بَيّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ».

ولمّا كان هذا المسير مسير النجاة والنصر، فإنّ اللَّه سبحانه يأمر النبي صلى الله عليه و آله بعد ذلك أن «فَاتَّبِعْهَا».

وكذلك لما كانت النقطة المقابلة ليس إلّااتباع

أهواء الجاهلين ورغباتهم، فإنّ الآية تضيف في النهاية: «وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَايَعْلَمُونَ».

وتعتبر الآية التالية تبياناً لعلّة النهي عن الإستسلام أمام مقترحات المشركين وقبول طلباتهم، فتقول: «إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيًا». فإذا ما اتبعت دينهم الباطل وأحاط بك عذاب اللَّه تعالى فإنّهم عاجزون عن أن يهبّوا لنجدتك وإنقاذك، ولو أنّ اللَّه سبحانه سلب منك نعمة فإنّهم غير قادرين على إرجاعها إليك.

ومع أنّ الخطاب في هذه الآيات موجه إلى النبي صلى الله عليه و آله إلّاأنّ المراد منه جميع المؤمنين.

ثم تضيف الآية: «وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ». فكلّهم من جنس واحد، ويسلكون نفس المسير، ونسجهم واحد، وكلّهم ضعفاء عاجزون.

لكن لا تذهب بك الظنون بأنّك وحيد، ومن معك قليل ولا ناصر لكم ولا معين، بل:

«وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُتَّقِينَ».

وكتأكيد لما مرّ، ودعوة إلى اتباع دين اللَّه القويم، تقول آخر آية من هذه الآيات: «هذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ». «البصائر»: جمع «بصيرة»، وهي النظر، ومع أنّ هذه اللفظة أكثر ما تستعمل في وجهات النظر الفكرية والنظريات العقلية، إلّاأنّها تطلق على كل الامور التي هي أساس فهم المعاني وإدراكها.

هذا تعبير جميل يعبر عن عظمة هذا الكتاب السماوي وتأثيره وعمقه.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 450

مختصر الامثل ج 4 479

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَ مَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَ هُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَ فَلَا تَذَكَّرُونَ (23) ليسوا

سواءً محياهم ومماتهم: متابعة للآيات السابقة التي كان الكلام فيها يدور حول فئتين هما: المؤمنون والكافرون، أو المتقون والمجرمون، فإنّ أولى هذه الآيات قد جمعتهما في مقارنة أصولية بينهما، فقالت: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ».

«اجترحوا»: في الأصل من الجرح الذي يصيب بدن الإنسان أثر إصابته بحادث، ولما كان إرتكاب الذنب والمعصية كأنّما يجرح روح المذنب، فقد استعملت كلمة الإجتراح بمعنى إرتكاب الذنب.

فإنّ الآية تقول: إنّه لظن خاطئ أن يتصوروا أنّ الإيمان والعمل الصالح، أو الكفر والمعصية، لا يترك أثره في حياة الإنسان، فإنّ حياة هذين الفريقين ومماتهم يتفاوتان تماماً.

أمّا الآية التالية فإنّه تفسير لسابقتها وتعليل لها، إذ تقول: «وَخَلَقَ اللَّهُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَايُظْلَمُونَ». فكلّ العالم يوحي بأنّ خالقه قد خلقه وجعله يقوم على محور الحق، وأن يحكم العدل والحق كل مكان، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن يجعل اللَّه الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمجرمين الكافرين.

وكذلك فإنّ الآية الأخيرة من هذه الآيات توضيح وتعليل آخر لعدم المساواة بين الكافرين والمؤمنين، إذ تقول: «أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَيهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ».

ولا صنم أخطر من إتباع هوى النفس الذي يوصد كل أبواب الرحمة وطرق النجاة بوجه الإنسان؟

في تفسير القرطبي عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ما عبد تحت السماء إله أبغض إلى اللَّه من الهوى».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 451

لأنّ الأصنام العادية موجودات لا خصائص لها ولا صفات فعالة مهمة، أمّا صنم الهوى، فإنّه يغوي الإنسان ويسوقه إلى إرتكاب أنواع المعاصي،

والإنزلاق في هاوية الإنحراف.

وَ قَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَ نَحْيَا وَ مَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَ مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) عقائد الدهريين: في هذه الآيات بحث آخر حول منكري التوحيد، غاية ما هناك أنّه ذكر هنا اسم جماعة خاصة منهم، وهم «الدهريون» الذين ينكرون وجود صانع حكيم لعالم الوجود مطلقاً، في حين أنّ أكثر المشركين كانوا يؤمنون ظاهراً باللَّه، وكانوا يعتبرون الأصنام شفعاء عند اللَّه، فتقول الآية أوّلًا: «وَقَالُوا مَا هِىَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا».

فكما يموت من يموت منّا، يولد من يولد منّا وبذلك يستمر النسل البشري: «وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ».

وبهذا فإنّهم ينكرون المعاد كما ينكرون المبدأ، والجملة الاولى ناظرة إلى إنكارهم المعاد، أمّا الجملة الثانية فتشير إلى إنكار المبدأ.

إنّ القرآن الكريم أجاب هؤلاء العبثيين بجملة وجيزة عميقة، تلاحظ في موارد اخرى من القرآن الكريم أيضاً، فقال: «وَمَا لَهُم بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ».

وقد ورد نظير هذا المعنى في الآية (28) من سورة النجم في من يظنون أنّ الملائكة بنات اللَّه سبحانه: «وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَايُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيًا».

وقد ورد هذا المعنى أيضاً في القول بقتل المسيح، [النساء 157] وعقيدة مشركي العرب في الأصنام، [يونس 66].

وأشارت الآية التالية إلى إحدى ذرائع هؤلاء الواهية وحججهم الباطلة فيما يتعلق بالمعاد، فقالت: «وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بَابَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».

كان هؤلاء يرددون أنّه إذا كانت حياة الأموات وبعثهم حقّاً فأحيوا آباءنا كنموذج

لإدعائكم، حتى نعرف مدى صدقكم، ولنسألهم عمّا يجري بعد الموت، وهل يصدّقون ما تقولونه أم يكذبونه؟

مختصر الامثل، ج 4، ص: 452

قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَ تَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَ فَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَ كُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) الكل جاثٍ في محكمة العدل الإلهي: هذه الآيات جواب آخر على كلام الدهريين، الذين كانوا ينكرون المبدأ والمعاد، وقد أشير إلى كلامهم، في الآيات السابقة؛ فتقول الآية أوّلًا: «قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيمَةِ لَارَيْبَ فِيهِ».

لم يكن هؤلاء يعتقدون باللَّه ولا باليوم الآخر، ومحتوى هذه الآية استدلال عليهما معاً، حيث أكّدت على مسألة الحياة الاولى.

ومن جهة اخرى، تقول لهم: كيف يكون القادر على إنشاء الحياة الاولى عاجزاً عن إعادتها ثانياً؟

ولمّا كان كثير من الناس لا يتأمل هذه الدلائل ولا يدقق النظر فيها، فإنّ الآية تضيف في النهاية: «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ».

أمّا الآية التالية فهي دليل آخر على مسألة المعاد، وقد قرأنا الشبهة المطروحة حوله في آيات القرآن الاخرى، فتقول: «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ». فلما كان مالكاً لتمام عالم الوجود الواسع وحاكماً عليه، فمن المسلّم أن يكون قادراً على إحياء الموتى، ومع وجود تلك القدرة المطلقة لا تكون عملية الإحياء

بالأمر العسير.

لقد جعل اللَّه سبحانه هذا العالم مزرعة للآخرة، ومتجراً وافر الربح إلى ذلك العالم، ولذلك يقول سبحانه في نهاية الآية: «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ».

إنّ الحياة والعقل والذكاء ومواهب الحياة الاخرى هي رأس مال الإنسان في سوق التجارة هذا، لكن اتباع الباطل يبادلونه بمتاع فانٍ سريع الزوال، ولذلك فإنّهم حين يأتون يوم القيامة، يوم لا ينفع إلّاالقلب السليم والإيمان والعمل الصالح سيرون خسارتهم الباهظة

مختصر الامثل، ج 4، ص: 453

بام أعينهم، ولات ساعة مندم.

«يخسر»: من الخسران، وهو فقدان رأس المال؛ و «المبطل»: من مادة «إبطال»، فلها في اللغة معان مختلفة، كإبطال الشي ء، والكذب، والاستهزاء والمزاح، وطرح أمر باطل وذكره، وكل هذه المعاني يمكن أن تقبل في مورد الآية.

الأشخاص الذين أبطلوا الحق، والذين نشروا عقيدة الباطل وأهدافه، والذين كذبوا أنبياء اللَّه، وسخروا من كلامهم، سيرون خسرانهم المبين في ذلك اليوم.

وتجسّد الآية التالية مشهد القيامة بتعبير بليغ مؤثر جدّاً، فتقول: «وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً».

ثم تبيّن الآية ثاني مشاهد القيامة، فتقول: «كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ». فإنّ هذا الكتاب صحيفة أعمال سجلت فيها كل الحسنات والسيئات، والقبائح والأفعال الجميلة، وأقوال الإنسان وأعماله، وعلى حدّ تعبير القرآن الكريم: «لَايُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا» «1».

وعبارة «كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا» يوحي بأنّ لكل امة كتاباً يتعلق بأفرادها جميعاً، إضافة إلى صحيفة الأعمال الخاصة بكل فرد.

ثم يأتيهم الخطاب من قبل اللَّه مرّة اخرى، فيقول مؤكّداً: «هذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقّ». فقد كنتم تفعلون كل ما يحلو لكم، ولم تكونوا تصدّقون مطلقاً أنّ كل أعمالكم هذه تسجل في مكان ما، ولكن «إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

«نستنسخ»: من مادة «إستنساخ»، وهي في الأصل مأخوذة من النسخ،

وهو إزالة الشي ء بشي ء آخر، ثم استعملت في كتابة كتاب عن كتاب آخر من دون أن يمحى الكتاب الأوّل.

وتبيّن الآية التالية الجلسة الختامية للمحكمة وإصدار قرار الحكم، حيث تنال كل فئة جزاء أعمالها، فتقول: «فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِى رَحْمَتِهِ».

والتعبير ب «ربّهم» يحكي عن لطف اللَّه الخاص، يكتمل بتعبير «الرحمة» بدل «الجنة».

وتبلغ بهم نهاية الآية أوج الكمال حينما تقول: «ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ».

______________________________

(1) سورة الكهف/ 49. مختصر الامثل، ج 4، ص: 454

إنّ ل «رحمة اللَّه» معنى واسعاً يشمل الدنيا والآخرة، وقد أطلقت في آيات القرآن الكريم على معان كثيرة، فتارة تطلق على مسألة الهداية، واخرى على الإنقاذ من قبضة الأعداء، وثالثة على المطر الغزير المبارك، ورابعة على نعم اخرى كنعمة النور والظلمة، وأطلقت في موارد كثيرة على الجنة ومواهب اللَّه سبحانه في القيامة.

«الفوز»: تعني الظفر المقترن بالسلامة، وقد استعملت في (19) مورداً من آيات القرآن المجيد، فوصف الفوز مرّة بالمبين، واخرى بالكبير، أمّا في غالب الآيات فقد وصف بالعظيم، وهو مستعمل عادة في شأن الجنة.

وتذكر الآية الآتية مصير من يقع في الطرف المقابل لُاولئك السابقين، فتقول: «وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ ءَايَاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ».

ومما يلفت النظر أنّ الكلام في هذه الآية عن الكفر فقط، وأمّا أعمال السوء التي هي عامل الدخول في عذاب اللَّه وسببه فلم يجر لها ذكر، وذلك لأنّ الكفر وحده كاف لأنّ يدخل صاحبه العذاب.

وَ إِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ السَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنّاً وَ مَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَ بَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَ حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (33) وَ قِيلَ

الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذَا وَ مَأْوَاكُمُ النَّارُ وَ مَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَ غَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَ لَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَ رَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَ لَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37) يوم تبدو السيّئات: الآية الاولى من هذه الآيات توضيح لما ذكر في الآيات السابقة بصورة مجملة، توضيح لمسألة استكبار الكافرين على آيات اللَّه ودعوة الأنبياء، فتقول:

«وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَارَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَّا نَدْرِى مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ».

وتتحدث الآية التالية عن جزاء هؤلاء وعقابهم، ذلك الجزاء الذي لا يشبه عقوبات

مختصر الامثل، ج 4، ص: 455

المحاكم الدنيوية، فتقول: «وَبَدَا لَهُمْ سَيّئَاتُ مَا عَمِلُوا». فستتجسد القبائح والسيئات أمام أعينهم، وتتّضح لهم، وتكون لهم قريناً دائماً يتأذون من وجوده إلى جانبهم ويتعذبون من صحبته: «وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ».

والأشد ألماً من كل ذلك هو الخطاب الذي يخاطبهم به اللَّه الرحمن الرحيم، فيقول سبحانه: «وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذَا».

لا شك أنّ النسيان لا معنى له بالنسبة إلى اللَّه سبحانه الذي يحيط علمه بكل عالم الوجود، لكنّه هنا كناية لطيفة عن احتقار الإنسان المجرم العاصي وعدم الإهتمام به.

وتتابع الآية الحديث، فتقول: «وَمَأْوَيكُمُ النَّارُ». وإذا كنتم تظنون أنّ أحداً سيهبّ لنصرتكم وغوثكم، فاقطعوا الأمل من ذلك، واعلموا أنّه: «وَمَا لَكُم مّن نَّاصِرِينَ».

أمّا لماذا ابتليتم بمثل هذا المصير؟ ف «ذلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا».

وتكرر الآية ما ورد في الآية السابقة وتؤكّده باسلوب آخر، فتقول: «فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا

هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ».

فقد كان الكلام هناك عن مأواهم ومقرهم الثابت، والكلام هنا عن عدم خروجهم من النار .. حيث قال هناك: ما لهم من ناصرين، وهنا يقول: لا يقبل منهم عذر، والنتيجة هي أنّ لا سبيل لنجاتهم.

وفي نهاية هذه السورة، ولإكمال بحث التوحيد والمعاد، والذي كان يشكل أكثر مباحث هذه السورة، تبيّن الآيتان الأخيرتان وحدة ربوبية اللَّه وعظمته، وقدرته وحكمته، وتذكر خمس صفات من صفات اللَّه سبحانه في هذا الجانب، فتقول أوّلًا: «فَلِلَّهِ الْحَمْدُ». لأنّه «رَبّ السَّموَاتِ وَرَبّ الْأَرْضِ رَبّ الْعَالَمِينَ».

وبعد وصف ذاته المقدسة بمقام الحمد والربوبية، تضيف الآية في الصفة الثالثة: «وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ». لأنّ آثار عظمته ظاهرة في السماء المترامية الأطراف، والأرض الواسعة الفضاء، وفي كل زاوية من زوايا العالم.

وأخيراً تقول الآية في الوصفين الرابع والخامس: «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

وبذلك تكمل مجموعة العلم والقدرة والعظمة والربوبية والمحمودية، والتي هي مجموعة

مختصر الامثل، ج 4، ص: 456

من أهمّ صفات اللَّه، وأسمائه الحسنى.

وبوصف اللَّه سبحانه بالعزيز والحكيم تنتهي سورة الجاثية كما بدأت بهما، وكل محتواها وما تضمنته شاهد على عزّة اللَّه سبحانه وحكمته السامية.

«نهاية تفسير سورة الجاثية»

مختصر الامثل، ج 4، ص: 457

46. سورة الأحقاف

محتوى السورة: إنّ هذه السورة تتابع الأهداف التالية:

1- بيان عظمة القرآن.

2- محاربة كل أنواع الشرك والوثنية بشكل قاطع.

3- توجيه الناس إلى مسألة المعاد ومحكمة العدل الإلهي.

4- إنذار المشركين والمجرمين من خلال بيان جانب من قصة قوم عاد، الذين كانوا يسكنون أرض «الأحقاف»، ومنها اخذ اسم هذه السورة.

5- الإشارة إلى سعة دعوة نبي الخاتم صلى الله عليه و آله وكونها عامة تتخطى حتى حدود البشر، أي إنّها تشمل طائفة الجن أيضاً.

6- ترغيب المؤمنين وترهيب الكافرين وإنذارهم، وإيجاد دوافع الخوف والرجاء.

7- دعوة نبي الخاتم صلى الله عليه و

آله إلى التحلي بالصبر والاستقامة إلى أبعد الحدود، والإقتداء بسيرة الأنبياء الماضين.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ كل ليلة أو كل جمعة سورة الأحقاف لم يصبه اللَّه بروعة في الدنيا، وآمنه من فزع يوم القيامة».

ومن البديهي أنّ كل هذه الحسنات والدرجات لا تمنح لمجرد التلاوة اللفظية، بل التلاوة

مختصر الامثل، ج 4، ص: 458

البنّاءة المؤدّية إلى السير في طريق الإيمان والتقوى، ولمحتوى سورة الأحقاف هذا الأثر حقّاً إذا كان الإنسان طالب حقيقة ومستعداً للعمل والتطبيق.

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ الَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) خلق هذا العالم على أساس الحق: هذه السورة هي آخر سورة تبدأ ب «حم» وتسمى جميعاً الحواميم.

إنّ هذه الآيات التي تهزّ الأعماق، وتحرك الوجدان، والتي تضمنها القرآن الكريم بين دفتيه تتكون من حروف الهجاء البسيطة، من الألف والباء، والحاء والميم وأمثالها، وكفى بها دليلًا على عظمة اللَّه سبحانه إذ أظهر هذا المركّب العظيم من مثل هذه المفردات البسيطة.

وربّما كان هذا هو السبب في أن تضيف الآية مباشرة: «تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ».

إنّه نفس التعبير الذي ورد في بداية ثلاث سور من الحواميم، وهي: المؤمن، والجاثية، والأحقاف.

ولا شك في الحاجة إلى قوّة لا تقهر، وحكمة لا حد لها، لكي تنزل مثل هذا الكتاب.

ثم تحولت الآيات من كتاب التدوين إلى كتاب التكوين، فتحدثت الآية عن عظمة السماوات والأرض وكونهما حقاً، فقالت: «مَا خَلَقْنَا السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى». فلا ترى في كتاب سمائه كلمة تخالف الحق، ولا تجد في مجموع عالم خلقه شيئاً

نشازاً لا ينسجم والحق.

لكن مع أنّ القرآن حق، وخلق العالم حق أيضاً: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ».

فالآيات القرآنية تهددهم وتنذرهم بصورة متلاحقة متوالية، وتحذرهم بأنّ محكمة عظمى أمامهم، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنّ نظام الخلقة بدقته وأنظمته الخاصة يدل بنفسه على أنّ في الأمر حساباً ونظاماً، غير أنّ هؤلاء الغافلين لم يلتفتوا لا إلى هذا ولا إلى ذاك.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 459

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَا ذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَ هُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَ إِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَ كَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) أضلّ الناس: كان الكلام في الآيات السابقة عن خلق السماوات والأرض وأنّها جميعاً من صنع اللَّه العزيز الحكيم، ومن أجل تكملة هذا البحث، تخاطب هذه الآيات النبي صلى الله عليه و آله وتقول: «قُلْ أَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّموَاتِ».

كنتم تقرّون بأنّ الأصنام لا دخل لها في خلق الموجودات الأرضية مطلقاً، فعلام تمدون أكفكم إلى الأصنام التي لا تضرّ ولا تنفع، ولا تسمع ولا تعقل، تستمدون منها العون في حلّ معضلاتكم، ودفع البلاء عنكم، واستجلاب البركات إليكم؟

وإذا قلتم- على سبيل الفرض-: إنّها شريكة في أمر الخلق والتكوين ف «ائْتُونِى بِكِتَابٍ مّن قَبْلِ هذَا أَوْ أَثَارَةٍ مّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».

إنّ جملة «أَرُونِى مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ ...» إشارة إلى دليل العقل؛ وجملة «ائْتُونِى بِكِتَابٍ مّن قَبْلِ هذَا»

إشارة إلى الوحي السماوي، والتعبير ب «أَثَارَةٍ مّنْ عِلْمٍ» إشارة إلى سنن الأنبياء الماضين وأوصيائهم، أو آثار العلماء السابقين.

بعد ذلك تبيّن الآية التالية عمق ضلالة هؤلاء المشركين وانحرافهم، فتقول: «وَمَن أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُوا مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّايَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيمَةِ». ولا يقف الأمر عند عدم إجابتهم وحسب، بل إنّهم لا يسمعون كلامهم: «وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ».

والأشد أسفاً من ذلك أنّه: «وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ».

أمّا المعبودات من العقلاء، فإنّهم سيهبّون لإظهار عدائهم لهؤلاء الضالين، فالمسيح عليه السلام يظهر اشمئزازه وتنفره من عابديه، وتتبرأ الملائكة منهم، بل وحتى الشياطين والجن تظهر عدم رضاها. وأمّا المعبودات التي لا عقل لها ولا حياة، فإنّ اللَّه سبحانه سمنحها العقل والحياة لتنطق بالبراءة من هؤلاء العبدة وتبدي غضبها عليهم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 460

وَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَ مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَ لَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَ مَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ كَفَرْتُمْ بِهِ وَ شَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَ اسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) لم أكن أوّل نبيّ: يستمر الحديث في هذه الآيات عن حال المشركين، وكيفية تعاملهم مع آيات اللَّه، فتقول: «وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقّ لَمَّا جَاءَهُمْ هذَا سِحْرٌ

مُّبِينٌ». فهم لا يستطيعون إنكار نفوذ القرآن السريع في القلوب، وجاذبيته التي لا تقاوم من جهة، وهم من جهة اخرى غير مستعدين لأن يخضعوا أمام عظمته وكونه حقّاً، ولذلك فإنّهم يفسّرون هذا النفوذ القوي بتفسير خاطئ منحرف ويقولون: إنّه سحر مبين، وهذا القول- بحدّ ذاته- اعتراف ضمني واضح بتأثير القرآن الخارق في قلوب البشر.

بناءً على هذا، فإنّ «الحق»- في الآية المذكورة- إشارة إلى آيات القرآن.

غير أنّ هؤلاء لم يكتفوا بإطلاق هذه التهمة وإلصاقها به، بل إنّهم تمادوا فخطوا خطوةً أوسع، وأكثر صراحةً: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَيهُ».

إنّ اللَّه سبحانه يأمر نبيّه هنا بأن يجيبهم بجواب قاطع، ويعطيهم البرهان الجلي بأنّه قل لهم إذا كان كذلك فاللازم أن يفضحني ولا تستطيعون الدفاع عنّي مقابل عقابه: «قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِى مِنَ اللَّهِ شَيًا».

وهذا كما ورد في الآيات (44- 47) من سورة الحاقّة: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ».

ثم يضيف مهدداً: «هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ» وسيعاقبكم في الوقت اللازم.

ثم يقول في الجملة التالية كتأكيد أكبر مقترن بتعامل مؤدب جدّاً: «كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ». فهو يعلم صدق دعوتي، وسعيي وجهدي في إبلاغ الرسالة، كما يعلم كذبكم وافتراءكم والعوائق التي تضعونها في طريقي، وهذا كاف لي ولكم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 461

ومن أجل أن يدلهم على طريق الرجوع إلى الحق، ويعلّمهم بأنّه مفتوح إن أرادوا العودة، يقول: «وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ». فهو يعفو عن التائبين ويغفر لهم، ويدخلهم في رحمته.

ويضيف في الآية التالية: «قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَىَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ».

يقول النبي

صلى الله عليه و آله أنا لست أوّل نبي دعا إلى التوحيد، فقد جاء قبلي أنبياء كثيرون كلّهم كانوا بشراً، وكانوا يلبسون الثياب ويأكلون الطعام، ولم يَدّع أحد منهم أنّه يعلم الغيب المطلق، ولم يستسلم أحد منهم أمام المعاجز التي كان يقترحها الناس، والتي كانت تقوم على أساس الرغبة والميول.

وتضيف آخر آية من هذه الآيات، ولتكملة ما ورد في الآيات السابقة: «قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِى إِسْرَاءِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَامَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».

إنّ الشاهد من بني إسرائيل الذي شهد على كون القرآن المجيد حقّاً هو «عبد اللَّه بن سلام» عالم اليهود المعروف، الذي آمن في المدينة والتحق بصفوف المسلمين.

وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَ رَحْمَةً وَ هذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ بُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)

سبب النّزول

إنّ الإسلام لاقى ترحيباً واسعاً وامتداداً سريعاً بين الطبقات الفقيرة وسكان البوادي، وذلك لأنّهم لم يكونوا يمتلكون منافع غير مشروعة لتهدد بالخطر، ولم يكن الغرور قد ركبهم وملأ عقولهم، وقلوبهم أطهر من قلوب المترفين ومتبعي الشهوات والرغبات.

لقد عدّ الإقبال الواسع على الإسلام من قبل هذه الفئة، والذي كان يشكل أقوى نقاط هذا الدين، نقطة ضعف كبيرة من قبل المستكبرين فقالوا: أي دين هذا الذي يتبعه سكان

مختصر الامثل، ج 4، ص: 462

البوادي والفقراء والحفاة والجواري والعبيد؟ إذا

كان ديناً مقبولًا ومعقولًا فلا ينبغي أن يكون أتباعه من طبقة فقيرة واطئة اجتماعياً، ونتخلف نحن أعيان المجتمع وأشرافه عن اتباعه. وقد أجاب القرآن هؤلاء جواباً شافياً كافياً سيتّضح في تفسير هذه الآيات.

التّفسير

شرط الإنتصار الإيمان والإستقامة: تستمر هذه الآيات في تحليل أقوال المشركين وأفعالهم، ثم تقريعهم وملامتهم بعد ذلك، فتشير أوّلًا إلى ما نطق به هؤلاء من كلام بعيد عن المنطق السليم، مبنيّ على أساس الكبر والغرور، فتقول: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ».

فما هؤلاء إلّاحفنة من الفقراء الحفاة من سكان القرى، والعبيد الذين لاحظ لهم من العلم والمعرفة إلّاالقليل، فكيف يمكن أن يعلم هؤلاء الحق وأن يقبلوا عليه ونحن- أعيان المجتمع وأشرافه- في غفلة عنه؟

ولذلك فإنّ الآية تجيبهم في نهايتها بهذا التعبير اللطيف: «وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ». أي: إنّ هؤلاء ما أرادوا أن يهتدوا بآيات القرآن، لا أنّ القصور في قابلية القرآن على الهداية.

جملة «سيقولون» بصيغة المضارع، تدل على أنّهم كانوا يرمون القرآن بهذه التهمة دائماً، وكانوا يتخذون هذا الإتهام غطاء لعدم إيمانهم.

ثم تطرقت الآية إلى دليل آخر لإثبات كون القرآن حقاً، ولنفي تهمة المشركين إذ كانوا يقولون: هذا إفك قديم، فقالت: إنّ من علامات صدق هذا الكتاب العظيم أنّ كتاب موسى الذي يعتبر إماماً أي قدوة للناس ورحمة قد أخبر عن هذا النبي وصفاته، وهذا القرآن أيضاً كتاب منسجم في آياته وفيه العلائم المذكورة في التوراة: «وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهذَا كِتَابٌ مُّصَدّقٌ». وإذا كان الأمر كذلك، فكيف تقولون: هذا إفك قديم؟

ثم تضيف بعد ذلك: «لِّسَانًا عَرَبِيًّا» يفهمه الجميع ويستفيدون منه.

ثم تبيّن في النهاية الهدف الرئيسي من نزول القرآن في جملتين قصيرتين،

فتقول: «لّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ». وإذا لاحظنا أنّ جملة (ينذر) مضارعة تدل على الاستمرار والدوام، فسيتّضح أنّ إنذار القرآن كبشارته دائمي مستمر، فهو يحذر الظالمين

مختصر الامثل، ج 4، ص: 463

والمجرمين على مدى التأريخ ويخوفهم وينذرهم، ويبشر المحسنين على الدوام.

و الآية التالية تفسير للمحسنين الذين ورد ذكرهم في الآية التي قبلها، فتقول: «إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ».

وبناءً على هذا، فإنّ «المحسنين» هم السائرون على خط التوحيد من الناحية العقائدية، وفي خط الإستقامة والصبر من الناحية العملية.

وتبشر آخر آية من هذه الآيات الموحدين المحسنين بأهم بشارة وأثمنها، فتقول:

«أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

التعبير ب «الأصحاب» إشارة إلى اجتماعهم الدائم وتنعمهم الخالد بنعم الجنة.

وعبارة «جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» يدل من جهة على أنّ الجنة لا تمنح مجاناً، بل إنّ لها ثمناً يجب أن يؤدّى، ويشير من جهة اخرى إلى أصل حرية الإنسان واختياره.

وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلَى وَالِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَ نَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) أيّها الإنسان أحسن إلى والديك: هذه الآيات والتي تليها، توضيح لما يتعلق بالفريقين:

الظالم والمحسن، اللذين أشير إليهما إجمالًا في الآيات السابقة، وتتناول الآية الاولى وضع المحسنين، وتبدأ بمسألة الإحسان إلى الوالدين وشكر جهودهم وأتعابهم التي بذلوها، والذي يعتبر مقدمة

لشكر اللَّه سبحانه، فتقول: «وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا».

«الوصية» و «التوصية» بمعنى مطلق الوصية، ولا ينحصر معناها بالوصايا بما بعد الموت، ولذلك فسّرها جماعة هنا بأنّها الأمر والتشريع.

إنّ مسألة الإحسان إلى الوالدين من الاصول الإنسانية، ينجذب إليها ويقوم بها حتى اولئك الذين لا يلتزمون بدين أو مذهب، وبناءً على هذا، فإنّ الذين يعرضون عن أداء هذه الوظيفة، ويرفضون القيام بهذا الواجب، ليسوا مسلمين حقيقيين، بل لا يستحقون اسم الإنسان.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 464

ثم تطرّقت إلى سبب وجوب معرفة حق الام، فقالت: «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلثُونَ شَهْرًا».

تضحي خلالها الام أعظم التضحيات، وتؤثر ولدها على نفسها أيّما إيثار، لأنّ آلام ومعاناة الام في طريق تربية الطفل محسوسة وملموسة أكثر، ولأنّ جهود الام أكثر أهمية إذا ما قورنت بجهود الأب، كان التأكيد أكثر على قدر الام في الروايات الإسلامية.

ثم إنّه يمكن أن يستفاد من هذا التعبير القرآني أنّه كلّما قصرت فترة الحمل يجب أن تطول فترة الرضاع بحيث يكون المجموع (30) شهراً.

ثم تضيف الآية: إنّ حياة هذا الإنسان تستمر «حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ و وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً».

إنّ بلوغ الأشد إشارة إلى البلوغ الجسمي، وبلوغ الأربعين سنة إشارة إلى البلوغ الفكري والعقلي.

وفي الحديث: «إنّ الشيطان يمر يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب، ويقول: بأبي وجه لا يفلح» «1».

إنّ القرآن الكريم يضيف في متابعة هذا الحديث: إنّ الإنسان العاقل المؤمن إذا بلغ سن الأربعين، يطلب من ربّه ثلاث طلبات، فيقول أولًا: «قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ».

أمّا طلبه الثاني فهو: «وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضهُ».

وأخيراً يقدم طلبه الأخير فيقول: «وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى».

وتبيّن الآية في نهايتها مطلبين، كل منهما تبيان لبرنامج

عملي مؤثر، فتقول: «إِنّى تُبْتُ إِلَيْكَ». فقد بلغت مرحلة يجب أن أعين فيها مسير حياتي، وأسير في ذلك الخط ما حييت.

والآخر: «وَإِنّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ».

والآية التالية بيان بليغ لأجر هؤلاء المؤمنين الشاكرين وثوابهم، وقد أشارت إلى مكافآت مهمّة ثلاث، فقالت أوّلًا: «أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا».

إنّ جملة «وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضهُ» تبيّن أنّ العمل الصالح هو العمل الذي يبعث على رضى اللَّه سبحانه.

______________________________

(1) تفسير روح المعاني 26/ 18.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 465

وتعبير «أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا» والذي ورد في آيات عديدة من القرآن المجيد، يبيّن فضل اللَّه الذي لا يحصى في مقام مكافأة العباد وجزائهم، حيث يجعل أحسن أعمالهم معياراً لكل أعمالهم الحسنة في الحساب والمثوبة.

والهبة الثانية هي تطهيرهم، فتقول: «وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيّئَاتِهِمْ».

والموهبة الثالثة هي أنّهم: «فِى أَصْحَابِ الْجَنَّةِ». فيطهرون من الهفوات التي كانت منهم، ويكونون في جوار الصالحين المطهرين المقربين عند اللَّه سبحانه.

وتضيف الآية في نهايتها- كتأكيد على هذه النعم التي مرّ ذكرها-: «وَعْدَ الصّدقِ الَّذِى كَانُوا يُوعَدُونَ».

وَ الَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَ تَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَ هُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَ لِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَ لِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَ هُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) مضيّعو حقوق الوالدين: كان الكلام في الآيات السابقة عن المؤمنين الذين سلكوا طريق القرب من اللَّه، فبلغوا الغاية ووسعتهم رحمة اللَّه، وكرمهم لطفه، وكل ذلك في ظل الإيمان والعمل الصالح، وشكر نعم اللَّه سبحانه، والإلتفات إلى حقوق الأبوين والذرية وأدائها.

أمّا هذه الآيات،

فيدور الكلام فيها عمّن يقفون في الطرف المقابل، وهم الكافرون المنكرون للجميل والحق، والعاقون لوالديهم، فتقول: «وَالَّذِى قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى».

إلّا أنّ أبويه المؤمنين لم يستسلما أمام هذا الولد العاق الضال، فتقول الآية: «وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ ءَامِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ». غير أنّه يأبى إلّاأن يسير في طريق الضلالة والعناد الذي اختطه لنفسه، ولذلك نراه يجيبهما بكل تكبر وغرور ولا مبالاة: «فَيَقُولُ مَا هذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ»، فما تقولانه عن المعاد والحساب ليس إلّاخرافات وقصص كاذبة أتتكم من الماضين من قبلكم، ولست بالذي يعتقد بها وينقاد لها.

وكما بيّنت الآيات السابقة ثواب المؤمنين العاملين للصالحات، فإنّ هذه الآيات تبيّن

مختصر الامثل، ج 4، ص: 466

عاقبة أعمال الكافرين الضالين المتجرئين على اللَّه، فتقول: «أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مّنَ الْجِنّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ». وأي خسارة أعظم من أنّهم خسروا كل رأس مال وجودهم إذ اشتروا به غضب اللَّه عزّ وجل وسخطه. أمّا الآية الأخيرة من هذه الآيات فإنّها تشير أوّلًا إلى تفاوت درجات كلا الفريقين، فتقول: «وَلِكُلّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا». فليس كل أصحاب الجنة أو أصحاب النار في درجة واحدة، بل إنّ لكل منهما درجات ومراتب تختلف باختلاف أعمالهم، وحسب خلوص نيّتهم وميزان معرفتهم، وأصل العدالة هو الحاكم هنا تماماً.

«الدرجات»: جمع «درجة»، وتقال عادةً للسلالم التي يصعد الإنسان بتسلقها إلى الأعلى؛ و «الدركات» جمع «درك»، وهي تقال للسلّم الذي ينزل منه الإنسان إلى الأسفل، ولذلك يقال في شأن الجنة: درجات، وفي شأن النار: دركات، لكن لما كانت الآية مورد البحث قد تحدثت عنهما معاً، ولأهمية مقام أصحاب الجنة، ورد لفظ (الدرجات) للأثنين،

وهو من باب التغليب.

ثم تضيف الآية: «وَلِيُوَفّيَهُمْ أَعمَالَهُمْ» وهذا التعبير إشارة اخرى إلى مسألة تجسم الأعمال، حيث أنّ أعمال ابن آدم ستكون معه هناك، فتكون أعماله الصالحة باعثاً على الرحمة به واطمئنانه، وأعماله الطالحة سبباً للبلاء والعذاب الأليم.

وتقول الآية أخيراً كتأكيد على ذلك: «وَهُمْ لَايُظْلَمُونَ» لأنّهم سيرون أعمالهم وجزاءها، فكيف يمكن تصور الظلم والجور؟

وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ بِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) الزهد والإدخار للآخرة: تستمر هذه الآية في البحث حول عقوبة الكافرين والمجرمين، وتذكر جانباً من أنواع العذاب الجسمي والروحي الذي سينال هؤلاء، فتقول: «وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا».

نعم، فقد كنتم غارقين في الشهوات، ولم تكونوا تعرفون شيئاً إلّاالتمتع بطيّبات هذا العالم ونعمه المادية، ومن أجل أن تكونوا متحللين من كل القيود في هذا المجال، أنكرتم المعاد لتطلقوا لأنفسكم العنان، وسخرتم هذه المواهب من أجل إنزال كل أنواع الظلم والجور بحق الآخرين.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 467

«فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ». فاليوم ترون جزاء كل ذلك التمتع الباطل، واتّباع الشهوات الأعمى، وعبادة الهوى، والإستكبار والفسق والفجور وتذوقون العذاب المذل والمهين بسبب تلكم الأعمال.

إنّ هذا العرض بحد ذاته نوع من العذاب الأليم المرعب، حيث يرى الكافرون بأعينهم كل أقسام جهنم من الخارج قبل أن يردوها، وليشاهدوا مصيرهم المشؤوم ويتعذبوا ويتألموا له.

لقد ذكر في ذيل هذه الآية ذنبان لأصحاب الجحيم، الأوّل: الإستكبار، و الثاني: الفسق.

ويمكن أن يكون الأوّل إشارة إلى عدم إيمانهم بآيات اللَّه وبعث الأنبياء والقيامة، والثاني

إشارة إلى أنواع الذنوب والمعاصي، فأحدهما يتحدّث عن ترك أصول الدين، والآخر عن تضييع فروع الدين «1».

وَ اذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَ قَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ أَنْ تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَ جِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَ أُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَ لكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْ ءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) قوم عاد والريح المدمرة: لمّا كان القرآن يذكر قضايا كلية، ثم يتطرق إلى بيان مصاديق واضحة لها، ليطبق تلك الكليات. فإنّه هنا يسلك نفس السبيل، فبعد أن فصل حال المستكبرين المتمردين، تطرّق إلى ذكر قصة قوم عاد الذين هم صورة واضحة لأولئك العتاة، فتقول الآية: «وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ».

إنّ التعبير بالأخ يعكس منتهى صفاء هذا النبي العظيم وحرصه على قومه.

ثم تضيف الآية: «إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ».

______________________________

(1) الميزان في تفسير القرآن 18/ 206.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 468

«الأحقاف»: تعني الكثبان الرملية التي تتشكل على هيئة مستطيل أو تعرجات ومنحنيات، على أثر هبوب العواصف في الصحاري، ويتّضح من هذا التعبير أنّ أرض قوم عاد كانت أرضاً حصباء كبيرة. إنّ هذه المنطقة تقع جنوب الجزيرة العربية قرب أرض اليمن.

يقول القرآن الكريم: «أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ». ثم هدّدهم بقوله: «إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ».

إلّا أنّ هؤلاء القوم المتمردين وقفوا بوجه هذه الدعوة الإلهية،

وخاطبوا هوداً: «قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ».

إلّا أنّ هوداً عليه السلام قال في ردّه على هذا الطلب المتهور الذي يدل على الجنون: «قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ». فهو الذي يعلم متى وفي أي ظروف ينزل عذاب الإستئصال، فلا هو مرتبط بطلبكم وتمنيكم، ولا هو تابع لرغبتي، بل يجب أن يتمّ الهدف ويتحقق، ألا وهو إتمام الحجة عليكم، فإنّ حكمته سبحانه تقتضي ذلك.

ثم يضيف: «وَأُبَلّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ». فهو مهمتي الأساسية، ومسؤوليتي الرئيسية، أمّا اتخاذ القرار في شأن طاعة اللَّه وأوامره فهو أمر يتعلق بكم، وإرادة نزول العذاب ومشيئته تتعلق به سبحانه.

«وَلكِنّى أَرَيكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ». وجهلكم هذا هو أساس تعاستكم وشقائكم، فإنّ الجهل المقترن بالكبر والغرور هو الذي يمنعكم من دراسة دعوة رسل اللَّه، ولا يأذن لكم في التحقيق فيها ...

وأخيراً لم تؤثر نصائح هود عليه السلام المفيدة، وإرشاداته الأخوية في قساة القلوب اولئك، وبدل أن يقبلوا الحق لجّوا في غيّهم وباطلهم، وتعصبوا له، وحتى نوح عليه السلام كذّبه قومه بهذا الادّعاء الواهي وهو أنّك إن كنت صادقاً فيما تقول فأين عذابك الموعود؟

والآن، وقد تمّت الحجة بالقدر الكافي، وأظهر اولئك عدم أهليتهم للبقاء، وعدم استحقاقهم للحياة، فإنّ حكمة اللَّه سبحانه توجب أن يرسل عليهم «عذاب الإستئصال» ذلك العذاب الذي يجتث كل شي ء ولا يبقي ولا يذر.

وفجأة رأوا سحاباً قد ظهر في الأفق، واتسع بسرعة: «فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا» «1».

______________________________

(1) «عارض»: من مادة «عرض»، وهنا بمعنى السحاب الذي ينتشر في عرض السماء، وربّما كان هذا أحد علامات السحب الممطرة بأنّها تتسع في ذلك الأفق ثم تصعد؛ و «الأودية»: جمع «واد»، وهو المنخفض ومجرى السيول والمياه.

مختصر

الامثل، ج 4، ص: 469

لكن، قيل لهم سريعاً بأنّ هذا ليس سحاباً ممطراً: «بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ».

والظاهر أنّ المتكلم بهذا الكلام هو اللَّه سبحانه، أو أنّ هوداً لمّا سمع صرخات فرحهم واستبشارهم قال لهم ذلك.

نعم، إنّها ريح مدمّرة: «تُدَمّرُ كُلَّ شَىْ ءٍ بِأَمْرِ رَبّهَا».

قال بعض المفسرين: إنّ المراد من «كُلَّ شَىْ ءٍ» البشر ودوابهم وأموالهم، لأنّ الجملة التالية تقول: «فَأَصْبَحُوا لَايُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ». وهذا يوحي بأنّ مساكنهم كانت سالمة، أمّا هم فقد هلكوا، وألقت الرياح القوية أجسادهم في الصحاري البعيدة، أو في البحر.

روى أنّ الريح كانت تحمل الفسطاط فترفعها في الجوّ حتى يرى كأنّها جرادة، وقيل: أوّل من أبصر العذاب امرأة منهم قالت رأيت فيها كشهب النار، وروى أنّ أوّل ما عرفوا به أنّه عذاب أليم أنّهم رأوا ما كان في الصحراء من رجالهم ومواشيهم يطير به الريح بين السماء والأرض فدخلوا بيوتهم وغلقوا أبوابهم فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم وأحال اللَّه عليهم الأحقاف، فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام لها أنين.

وجاء في الآية (7) من سورة الحاقة: «سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ».

ثم كشف الريح عنهم فاحتملتهم فطرحتهم في البحر «1».

وتشير الآية في النهاية إلى حقيقة، وهي أنّ هذا المصير غير مختص بهؤلاء القوم الضالين، بل: «كَذلِكَ نَجْزِى الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ».

وَ لَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَ جَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَ أَبْصَاراً وَ أَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَ لَا أَبْصَارُهُمْ وَ لَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَ حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (26) وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَ صَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْ لَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ

ضَلُّوا عَنْهُمْ وَ ذلِكَ إِفْكُهُمْ وَ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)

______________________________

(1) التفسير الكبير 28/ 28.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 470

لستم بأقوى من قوم عاد أبداً: إنّ هذه الآيات بمثابة استنتاج للآيات السابقة التي كانت تتحدث عن عقاب قوم عاد الأليم، فتخاطب مشركي مكة وتقول: «وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ».

فقد كانوا أقوى منكم من الناحية الجسمية، وأقدر منكم من ناحية المال والثروة والإمكانات المادية، ولكن عجزوا عن الوقوف أمام عاصفة العذاب الإلهي، فكيف بكم إذن.

ثم تضيف الآية: «وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفِدَةً». فقد كانوا أقوياء في مجال إدراك الحقائق وتشخيصها أيضاً، وكانوا يدركون الامور جيداً، وكانوا يستغلون هذه المواهب الإلهية من أجل تأمين حاجاتهم ومآربهم المادية على أحسن وجه، لكن: «فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفِدَتُهُم مّن شَىْ ءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بَايَاتِ اللَّهِ».

وأخيراً: «وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ».

ثم تخاطب الآية مشركي مكة من أجل التأكيد على هذا المعنى ولزيادة الموعظة والنصيحة، فتقول: «وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مّنَ الْقُرَى .

اولئك الأقوام الذين لا تبعد أوطانهم كثيراً عنكم، وكان مستقرهم في أطراف جزيرة العرب.

ثم تضيف الآية بعد ذلك: «وَصَرَّفْنَا الْأَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ».

وتوبخ الآية الأخيرة من هذه الآيات هؤلاء العصاة، وتذمهم بهذا البيان: «فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا ءَالِهَةً».

حقّاً، إذا كانت هذه الآلة على حق، فلماذا لا تعين أتباعها وعبادها وتنصرهم في تلك الظروف الحساسة، ولا تنقذهم من قبضة العذاب المهول المرعب؟ إنّ هذا بنفسه دليل محكم على بطلان عقيدتهم حيث كانوا يظنّون أنّ هذه الآلهة المخترعة هي ملجأهم وحماهم في يوم تعاستهم وشقائهم.

ثم تضيف: «بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ». فإنّ هذه الموجودات التي لا قيمة لها ولا أهمية، والتي ليست مبدأ لأي أثر، ولا تأتي بأي

فائدة، وهي عند العسر صماء عمياء، فكيف تستحق الألوهية وتكون أهلًا لها؟

وأخيراً تقول الآية: «وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ». فإنّ هذا الهلاك والشقاء، وهذا

مختصر الامثل، ج 4، ص: 471

العذاب الأليم، واختفاء الآلهة وقت الشدّة والعسر، كان نتيجةً لأكاذيب اولئك وأوهامهم وافتراءاتهم.

وَ إِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَ إِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَ مَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَ لَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)

سبب النّزول

في تفسير علي بن إبراهيم: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خرج من مكة إلى سوق عكاظ ومعه زيد بن حارثة يدعو الناس إلى الإسلام فلم يجبه أحد ولم يجد من يقبله، ثم رجع إلى مكة، فلما بلغ موضعاً يقال له وادي مجنة: تهجد بالقرآن في جوف الليل، فمر به نفر من الجن فلمّا سمعوا قراءة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله استمعوا له فلما سمعوا قراءته قال بعضهم لبعض: «أنصتوا». يعني اسكتوا (فلمّا قضي) أي فرغ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من القراءة «وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ» إلى قوله «أُولئِكَ فِى ضَللٍ مُّبِينٍ» فجاؤا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فاسلموا وآمنوا وعلمهم رسول اللَّه شرائع الإسلام فأنزل اللَّه على نبيه «قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنّ» السورة كلها.

التّفسير

إيمان طائفة من الجن: جاء في

هذه الآيات بحث مختصر حول إيمان طائفة من الجن بنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وكتابه السماوي.

لقد كانت قصة قوم عاد تحذيراً لمشركي مكة، وقصة إيمان طائفة من الجن تحذيراً آخر.

تقول الآية أوّلًا: «وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مّنَ الْجِنّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ».

«صرّفنا»: يعني نقل الشي ء وتبديله من حالة إلى اخرى؛ ولعله إشارة إلى أنّ الجن كانوا

مختصر الامثل، ج 4، ص: 472

يصغون إلى أخبار السماء عن طريق استراق السمع، ومع ظهور نبي الخاتم صلى الله عليه و آله رجعوا إليه واتّجهوا نحو القرآن. ثم تضيف الآية: «فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا». وذلك حينما كان النبي صلى الله عليه و آله يتلو آيات القرآن في جوف الليل، أو في صلاة الصبح.

وأخيراً أضاء نور الإيمان قلوب هؤلاء، فلمسوا في أعماقهم كون آيات القرآن حقاً، ولذلك: «فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ».

وتبيّن الآية التالية كيفية دعوة هؤلاء قومهم عند عودتهم إليهم، تلك الدعوة المتناسقة الدقيقة، الوجيزة والعميقة المعنى: «قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى .

ومن صفاته أنّا رأيناه يصدق الكتب السماوية السالفة ويتطابق معها في محتواها، وفيه العلائم الواردة في تلك الكتب: «مُصَدّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ».

وصفته الاخرى أنّه: «يَهْدِى إِلَى الْحَقّ». بحيث إنّ كل من يستند إلى عقله وفطرته يرى آيات حقانيته واضحة جلية.

وآخر صفة أنّه يهدي إلى الرشد: «وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ».

ثم أضافوا: «يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِىَ اللَّهِ وَءَامِنُوا بِهِ». إذ ستمنحون حينها مكافأتين عظيمتين: «يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ» «1».

المراد من: «دَاعِىَ اللَّهِ» نبي الإسلام صلى الله عليه و آله الذي كان يرشدهم إلى اللَّه سبحانه.

وتذكر الآية الأخيرة- من هذه الآيات- كلام مبلغي الجن، فتقول: «وَمَن لَّايُجِبْ دَاعِىَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الْأَرْضِ

وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ». ينصرونه من عذاب اللَّه، ولذلك فإنّ: «أُولئِكَ فِى ضَللٍ مُّبِينٍ».

أي ضلال أشد وأسوأ وأجلى من أن يهبّ الإنسان إلى محاربة الحق ونبي اللَّه، بل حتى إلى محاربة اللَّه الذي لا ملجأ له سواه في كل عالم الوجود، ولا يستطيع الإنسان أن يفر من حكومته إلى مكان آخر؟!

______________________________

(1) «يجركم»: من مادة «إجارة»، وقد وردت بمعان مختلفة: الإغاثة، الإنقاذ من العذاب، الإيواء، والحفظ.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 473

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (33) وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَ لَيْسَ هذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَ رَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَ لَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35) فاصبر كما صبر أولوا العزم: تواصل هذه الآيات البحث حول المعاد، حيث جاءت الإشارة إلى مسألة المعاد في الآيات السابقة حكاية عن لسان مبلغي الجن- هذا من جهة.

ومن جهة اخرى، فإنّ سورة الأحقاف تتحدث في فصولها الاولى عن مسألة التوحيد، وعظمة القرآن المجيد، وإثبات نبوّة نبي الخاتم صلى الله عليه و آله، وتبحث في آخر فصل من هذه السورة مسألة المعاد لتكمل بذلك البحث في الاصول الإعتقادية الثلاثة.

تقول الآية الاولى: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِىَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

هذا أحد أدلة المعاد العدديدة التي يؤكّد عليها القرآن ويستند إليها في آيات مختلفة، ومن جملتها الآية

(81) من سورة يس.

وتجسّد الآية التالية مشهداً من العذاب الأليم المحيط بالمجرمين ومنكري المعاد، فتقول:

«وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ».

وعندما يُعرض الكافرون على النار، ويرون ألسنة لهبها العظيمة المحرقة المرعبة يقال لهم:

«أَلَيْسَ هذَا بِالْحَقّ». وهل تستطيعون اليوم أن تنكروا البعث ومحكمة اللَّه العادلة، وثوابه وعقابه، وتقولون: ما هذا إلّاأساطير الأوّلين؟

غير أنّ اولئك الذين لا حيلة لهم: «قَالُوا بَلَى وَرَبّنَا». فهنا يقول اللَّه سبحانه، أو ملائكة العذاب: «قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ».

وبهذا فإنّهم يرون كل الحقائق بام أعينهم في ذلك اليوم ويعترفون بذلك الإعتراف الذي لن ينفعهم، وسوف لن تكون نتيجته إلّاالهم والحسرة، وتأنيب الضمير والعذاب الروحي.

ويأمر اللَّه سبحانه نبيّه في آخر آية من هذه الآيات، وهي آخر آية في سورة الأحقاف،

مختصر الامثل، ج 4، ص: 474

على أساس ملاحظة ما مرّ في الآيات السابقة حول المعاد وعقاب الكافرين، أن: «فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ» فلست الوحيد الذي واجه مخالفة هؤلاء القوم وعداوتهم، فقد واجه أولوا العزم هذه المشاكل وثبتوا أمامها واستقاموا.

عبارة (من الرّسل) إشارة إلى فئة خاصة من الأنبياء كانوا أصحاب شريعة، وهم الذين أشارت إليهم الآية (7) من سورة الأحزاب: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا».

وقد رويت في هذا الباب روايات كثيرة في مصادر الشيعة والسنّة، تدل على أنّ الأنبياء أولي العزم كانوا خمسة.

ثم يضيف القرآن بعد ذلك: «وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ». أي للكفار لأنّ القيامة ستحل سريعاً، وسيرون بأعينهم ما أطلقوه عليها وادعوه فيها، ويجزون أشد العذاب، وعندها سيطلعون على أخطائهم، ويعرفون ما كانوا عليه من الضلالة والغي.

إنّ عمر الدنيا قصير جدّاً بالنسبة إلى عمر الآخرة، حتى: «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ

لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مّن نَهَارٍ».

ثم تضيف الآية كتحذير لكل البشر: «بَلغٌ» لكل اولئك الذين خرجوا عن خط العبودية للَّه تعالى .. لُاولئك الغارقين في بحر الحياة الدنيا السريعة الزوال والفناء، والعابدين شهواتها .. وأخيراً هو بلاغ لكل سكان هذا العالم الفاني.

وتقول في آخر جملة تتضمن استفهاماً عميق المعنى، وينطوي على التهديد: «فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ».

ملاحظة

كان نبي الخاتم مثال الصبر والإستقامة: إنّ حياة أنبياء اللَّه العظام- وخاصة نبي الأكرم صلى الله عليه و آله- تبيان لمقاومتهم اللامحدودة أمام الحوادث الصعبة والشدائد العسيرة، والعواصف الهوجاء، والمشاكل القاصمة، ولما كان طريق الحق مليئاً بهذه المشاكل دائماً، فيجب على سالكيه أن يستلهموا العبر من أولئك العظماء في هذا المسير.

إنّنا ننظر عادة من نقطة مضيئة في تاريخ الإسلام إلى أيّام مرّت على الإسلام ونبيّه صلى الله عليه و آله صعبة مظلمة، وهذه النظرة من المستقبل إلى الماضي تجسم الوقائع والحقائق بشكل آخر، فينبغي علينا أن ندرك أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان وحيداً فريداً.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 475

فأعداؤه شمروا عن سواعدهم للفتك به، حتى أنّ أقاربه وعشيرته كانوا في الخط الأوّل في هذه المجابهة.

لقد فرضوا عليه الحصار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بحيث أغلقوا جميع الأبواب والطرق بوجهه وبوجه أتباعه، حتى مات بعضهم جوعاً، وأقعد المرض بعضهم الآخر.

لقد مرّت على النبي صلى الله عليه و آله أيّام يصعب على القلم واللسان وصفها، فعندما جاء إلى الطائف ليدعو الناس إلى الإسلام، لم يكتفوا بعدم إجابة دعوته، بل رموه بالحجارة حتى سال الدم من قدميه.

لقد كانوا يحثّون الجهلاء من الناس على أن يصرخوا، ويسيؤوا في كلامهم إليه، فعمد إلى ظل حبلة من عنب، وقال: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي،

وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربّي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدوّ ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي ...» «1».

كانوا يسمونه ساحراً تارة، واخرى يخاطبونه بالمجنون.

كانوا يلقون التراب والرماد على رأسه حيناً، وحيناً يجمعون على قتله، فيحاصرون بيته بالسيوف والرماح.

إلّا أنّه رغم كل تلك الظروف استمر في صبره وصموده واستقامته.

وأخيراً جنى الثمرة الطيبة لهذه الشجرة المباركة، فقد عمّ دينه شرق العالم وغربه، لا جزيرة العرب وحدها، ويدوّي اليوم صوت انتصاره صباح مساء في كل أرجاء الدنيا، وفي قارات العالم الخمسة، وهذا هو معنى: «فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ».

«نهاية تفسير سورة الأحقاف»

______________________________

(1) سيرة النبي صلى الله عليه و آله، لابن هشام 2/ 285؛ تاريخ الطبري 2/ 80.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 477

47. سورة محمد

محتوى السورة: يمكن تلخيص محتوى السورة بصورة عامة في عدة فصول:

1- مسألة الإيمان والكفر، والمقارنة بين أحوال المؤمنين والكفار في هذه الدنيا وفي الحياة الآخرة.

2- بحوث معبرة بليغة وصريحة حول مسألة الجهاد وقتال المشركين، والتعليمات الخاصة فيما يتعلق بأسرى الحرب.

3- شرح أحوال المنافقين الذين كان لهم نشاطات هدّامة كثيرة حين نزول هذه الآيات في المدينة.

4- فصل آخر يتناول مسألة السير في الأرض، وتدبر مصير الأقوام الماضية وعاقبتهم، كدرس للاعتبار والإتعاظ.

5- وفي جانب من آيات هذه السورة ذكرت مسألة الاختبار الإلهي لمناسبتها موضوع القتال والجهاد.

6- ورد الحديث في فصل آخر عن مسألة الإنفاق الذي يعتبر بحدّ ذاته نوعاً من الجهاد، وجاء الحديث عن مسألة البخل الذي يقع في الطرف المقابل.

7- وتناولت بعض آيات هذه السورة- لمناسبة موضوعها- مسألة الصلح مع الكفار- الصلح الذي يكون أساساً لهزيمة المسلمين

وذلّتهم- ونهت عنه.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 478

سمّيت هذه السورة بسورة محمّد صلى الله عليه و آله لأنّ اسمه الشريف قد ذكر في الآية الثانية، واسمها الآخر هو: سورة القتال، والواقع أنّ مسألة الجهاد وقتال أعداء الإسلام هو أهم موضوع ألقى ظلاله على هذه السورة.

فضيلة تلاوة السورة: في ثواب الأعمال عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ سورة الذين كفروا لم يرتب أبداً، ولم يدخله شك في دينه أبداً، ولم يبله اللَّه بفقر أبداً، ولا خوف من سلطان أبداً، ولم يزل محفوظاً من الشك والكفر أبداً حتى يموت، فإذا مات وكّل اللَّه به في قبره ألف ملك يصلون في قبره، ويكون ثواب صلاتهم له ويشيعونه حتى يوقفونه موقف الأمن عند اللَّه عزّ وجل، ويكون في أمان اللَّه، وأمان محمّد صلى الله عليه و آله».

إنّ الذين يعيشون محتوى هذه السورة في نفوسهم و أعماق وجودهم، وتشبّعت به أرواحهم، وهم أشداء في جهاد الأعداء اللدودين القساة، والذين لم يدعوا للشك والتزلزل إلى أنفسهم سبيلًا، تكون أسس دينهم قوية، وإيمانهم صلباً، ولا يملكهم خوف ولا تنالهم ذلّة ولا يعتريهم فقر، وهم في الآخرة منعمون في جوار رحمة اللَّه.

الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَ آمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَ أَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) المؤمنون أنصار الحق، والكافرون أنصار الباطل: إنّ هذه الآيات الثلاث تعتبر في الحقيقة مقدمة لأمر حربي مهم صدر في الآية الرابعة، فبيّنت الاولى منها وضع الكافرين وحالهم،

والثانية حال المؤمنين، وقارنت ثالثتهما بين الإثنين، وذلك لتتهيأ الأرضية والاستعداد للجهاد الديني ضد الأعداء الظالمين العتاة باتضاح حال الفئتين.

تقول الآية الاولى: «الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ».

وهي إشارة إلى زعماء الكفر ومشركي مكة الذين كانوا يشعلون نار الحروب ضد الإسلام، ولم يكتفوا بكونهم كفاراً، بل كانوا يصدون الآخرين عن سبيل اللَّه بأنواع الحيل والخدع والمخططات.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 479

والمراد من: «أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ» أنّه كل أعمالهم التي قاموا بها، وظاهرها معونة للفقراء والضعفاء، أو إقراء للضيف، أو غير ذلك، ستحبط لعدم إيمانهم.

فإنّ اللَّه سبحانه قد أحبط كل مؤامراتهم وما قاموا به من أعمال لمحو الإسلام والقضاء على المسلمين، وحال بينهم وبين الوصول إلى أهدافهم الخبيثة.

والآية التالية وصف لوضع المؤمنين الذين يقفون في الصف المقابل للكافرين الذين وردت صفاتهم في الآية السابقة، فتقول: «وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَءَامَنُوا بِمَا نُزّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ».

والجدير بالإلتفات إليه أنّ الآية تبيّن ثوابين للمؤمنين الذين يعملون الصالحات، في مقابل العقابين اللذين ذكرا للكفار الصادين عن سبيل اللَّه.

لقد جاء «البال» بمعان مختلفة، فجاء بمعنى الحال، العمل، القلب؛ وبناءً على هذا فإنّ إصلاح البال يعني تنظيم كل شؤون الحياة والامور المصيرية، وهو يشمل الفوز في الدنيا.

وبيّنت الآية الأخيرة العلّة الأساسية لهذا الإنتصار وتلك الهزيمة من خلال مقارنة مختصرة بليغة، فقالت: «ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبّهِمْ».

ف «الحق» يعني الحقائق العينية، وأسماها ذات اللَّه المقدّسة، وتليها الحقائق المتعلقة بحياة الإنسان، والقوانين الحاكمة في علاقته باللَّه تعالى، وفي علاقته بالآخرين؛ و «الباطل» يعني الظنون، والأوهام، والمكائد والخدع، والأساطير والخرافات، والأفعال الجوفاء التي لا هدف من ورائها، وكل

نوع من الانحراف عن القوانين الحاكمة في عالم الوجود.

وتضيف الآية في النهاية: «كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ». أي: كما أنّه سبحانه قد بيّن الخطوط العامة لحياة المؤمنين والكفار، وعقائدهم وبرامجهم العملية ونتائج أعمالهم في هذه الآيات، فإنّه يوضح مصير حياتهم وعواقب أعمالهم.

فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَ إِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذلِكَ وَ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَ لكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 480

مختصر الامثل ج 4 520

يجب الحزم في ساحة الحرب: إنّ الآيات السابقة كانت مقدمة لتهيئة المسلمين من أجل إصدار أمر حربي مهم ذكر في الآيات مورد البحث، فتقول الآية: «فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرّقَابِ».

من البديهي أنّ «ضرب الرقاب» كناية عن القتل، فإنّ الهدف هو دحر العدو والقضاء عليه، ولما كان ضرب الرقاب أوضح مصداق له، فقد أكّدت الآية عليه.

فإنّ هذا الحكم مرتبط بساحة القتال، لأنّ «لقيتم»- من مادة اللقاء- تعني الحرب والقتال في مثل هذه الموارد.

ثم تضيف الآية: «حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ».

«أثخنتموهم»: من مادة «ثخن»، بمعنى الغلظة والصلابة، ولهذا تطلق على النصر والغلبة الواضحة، والسيطرة الكاملة على العدو.

فإنّ الآية المذكورة تبيّن تعليماً عسكرياً دقيقاً، وهو أنّه يجب أن لا يُقدم على أسر الأسرى قبل تحطيم صفوف العدو والقضاء على آخر حصن لمقاومته، لأنّ الإقدام على الأسر قد يكون سبباً في تزلزل وضع المسلمين في الحرب، وسيعيق المسلمين الإهتمام بأمر الأسرى ونقلهم إلى خلف الجبهات عن أداء واجبهم الأساسي.

وتبيّن الجملة التالية حكم أسرى الحرب الذي

يجب أن يقام بحقّهم بعد انتهاء الحرب، فتقول: «فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً».

وعلى هذا لا يمكن قتل الأسير الحربي بعد انتهاء الحرب، بل إنّ ولي أمر المسلمين- طبقاً للمصلحة التي يراها- يطلق سراحهم مقابل عوض أحياناً، وبلا عوض أحياناً اخرى، وهذا العوض- في الحقيقة- نوع من الغرامة الحربية التي يجب أن يدفعها العدو.

طبعاً يوجد حكم ثالث في الإسلام فيما يتعلق بهذا الموضوع، وهو استعباد الأسرى، إلّا أنّه ليس أمراً واجباً، بل هو راجع إلى ولي أمر المسلمين ينفّذه عندما يراه ضرورة في ظروف خاصة، ولعلّه لم يرد في القرآن بصراحة لهذا السبب، بل بيّنته الرّوايات الإسلامية فقط.

ثم تضيف الآية بعد ذلك: «حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا». فلا تكفوا عن القتال حتى تحطّموا قوى العدو ويصبح عاجزاً عن مواجهتكم، وعندها سيخمد لهيب الحرب.

ثم تضيف الآية: «ذلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ». بالصواعق السماوية، والزلازل،

مختصر الامثل، ج 4، ص: 481

والعواصف، والإبتلاءات الاخرى، لكن باب الإختبار وميدانه سيغلق في هذه الصورة:

«وَلكِن لّيَبْلُوَا بَعْضَكُم بِبَعْضٍ».

هذه المسألة هي فلسفة الحرب، والنكتة الأساسية في صراع الحق والباطل، ففي هذه الحروب ستتميز صفوف المؤمنين الحقيقيين والعاملين من أجل دينهم عن المتكلمين في المجالس المتخاذلين في ساعة العسرة، وبذلك ستتفتح براعم الاستعدادات، وتحيا قوة الإستقامة والرجولة، ويتحقق الهدف الأصلي للحياة الدنيا، وهو الإبتلاء وتنمية قوة الإيمان والقيم الإنسانية الاخرى.

وتحدّثت آخر جملة من الآية مورد البحث عن الشهداء الذين قدّموا أرواحهم هدية لدينهم في هذه الحروب، ولهم فضل كبير على المجتمع الإسلامي، فقالت: «وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ».

هذه هي أحدى مواهب اللَّه في شأن الشهداء.

وهناك ثلاث مواهب اخرى أضيفت في الآيات التالية:

تقول الآية أوّلًا: «سَيَهْدِيهِمْ» إلى المقامات السامية، والفوز العظيم، ورضوان اللَّه تعالى.

والاخرى:

«وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ» فيهبهم هدوء الروح، واطمئنان الخاطر، والنشاط المعنوي والروحي، والإنسجام مع صفاء ملائكة اللَّه ومعنوياتهم، حيث يجعلهم جلساءهم وندماءهم في مجالس أنسهم ولذّتهم، ويدعوهم إلى ضيافته في جوار رحمته.

والموهبة الأخيرة هي: «وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ».

إنّه تعالى لم يبيّن لهم الصفات الكليّة للجنات العلى وروضة الرضوان وحسب، بل عرف لهم صفات قصورهم في الجنة وعلاماتها، بحيث أنّهم عندما يردون الجنة يتوجّهون إلى قصورهم مباشرة.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ لِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ أَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 482

إن تنصروا اللَّه ينصركم: تستمر هذه الآيات في ترغيب المؤمنين في جهاد أعداء الحق، وهي ترغّبهم في الجهاد بتعبير رائع بليغ، فتقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ».

إنّ التأكيد على مسألة «الإيمان» إشارة إلى أنّ إحدى علامات الإيمان الحقيقي هو جهاد أعداء الحق.

وعبارة «تَنصُرُوا اللَّهَ» تعني نصرة دينه، ونصرة نبيّه، وشريعته وتعليماته.

يقول: «يَنصُرْكُمْ» فهو سبحانه يلقي في قلوبكم نور الإيمان، وفي نفوسكم وأرواحكم التقوى، وفي أرادتكم القوّة والتصميم أكثر، وفي أفكاركم الهدوء والإطمئنان.

ومن جانب آخر يرسل الملائكة لمدكم ونصرتكم، ويغيّر مسار الحوادث لصالحكم، ويجعل أفئدة الناس تهوي إليكم، ويجعل كلماتكم نافذة في القلوب، ويصيّر نشاطاتكم وجهودكم مثمرة. نعم، إنّ نصرة اللَّه تحيط بالجسم والروح، من الداخل والخارج؛ إلّاأنّه سبحانه يؤكّد على مسألة تثبيت الأقدام من بين كل أشكال النصرة، وذلك لأنّ الثبات أمام

العدو أهم رمز للانتصار، وإنّما يكسب الحرب الذين يصمدون ويستقيمون أكثر.

ولمّا كانت حشود العدو العظيمة، وأنواع معداتهم وتجهيزاتهم قد تشغل فكر المجاهدين في سبيل اللَّه أحياناً، فإنّ الآية التالية تضيف: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلُّ أَعْمَالَهُمْ».

وتبيّن الآية التالية علّة سقوط هؤلاء، وجعل أعمالهم هباءً منثوراً، فتقول: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ».

لقد أنزل اللَّه سبحانه دين التوحيد قبل كل شي ء، إلّاأن هؤلاء نبذوه وراء ظهورهم وأقبلوا نحو الشرك.

لقد أمر اللَّه سبحانه بالحق والعدالة، والعفّة والتقوى، غير أنّهم أعرضوا عنها جميعاً، واتجهوا صوب الظلم والفساد، بل إنّهم تشمئز قلوبهم إذا ذكر اسم اللَّه تعالى وحده: «وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالْأَخِرَةِ» «1».

وإذا كان هؤلاء يتنفّرون من هذه الامور، فمن الطبيعي أن لا يخطوا خطوة في هذا المسير، ولقد كانت كل مساعيهم وجهودهم في مسير الباطل وخدمته، فمن الطبيعي أيضاً أن تحبط كل هذه الأعمال.

______________________________

(1) سورة الزمر/ 45.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 483

ولمّا كان القرآن الكريم في كثير من الموارد يعرض للظالمين العاصين نماذج محسوسة، فقد دعاهم هنا أيضاً إلى التدبّر في أحوال الماضين، فقال: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ».

ومن أجل أن لا يظنّ هؤلاء أنّ ذلك المصير المشؤوم كان مختصّاً بالأقوام الطاغين الماضين، فقد أضافت الآية: «وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا».

وتناولت آخر آية- من الآيات مورد البحث- سبب حماية اللَّه المطلقة للمؤمنين ودفاعه عنهم، وإهلاكه الكافرين الطغاة، فتقول: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ». «المولى»: بمعنى الولي والناصر، وبذلك فإنّ اللَّه سبحانه قد تولّى أمر المؤمنين ونصرتهم، أمّا الكافرون فقد أخرجهم من ظل ولايته، ومن الواضح أنّه تعالى يعين اولئك المستظلين

بظل ولايته، ويدفع عنهم النوائب، ويزيل عن طريقهم العراقيل، ويثبّت أقدامهم، وأخيراً فإنّهم ينالون مرادهم بنصرة اللَّه ومعونته، أمّا اولئك الخارجون عن ولايته فإنّ أعمالهم ستحبط، وتكون عاقبتهم الهلاك.

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَ يَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَ النَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَ فَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) عاقبة المؤمنين والكافرين: لمّا كانت الآيات السابقة تتحدث عن الصراع الدائم بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، فإنّ الآيات مورد البحث تبيّن عاقبة المؤمنين والكفار من خلال مقارنة واضحة، وهي بذلك تريد أن توضح أنّ هذين الفريقين لا يختلفان في الحياة الدنيا وحسب، بل إنّ الاختلاف بينهما سيكون أوسع في الآخرة، فتقول: «إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ».

صحيح أنّ كلا الفريقين يعيشون في الدنيا، ويتنعّمون بمواهبها ولذّاتها، إلّاأنّ الفرق يكمن في أنّ هدف المؤمنين هو القيام بالأعمال الصالحة، والأعمال المفيدة البنّاءة لجلب رضى

مختصر الامثل، ج 4، ص: 484

اللَّه تعالى، أمّا الكافرون فإنّ هدفهم ينصب على الأكل والشرب والنوم والتمتع بلذات الحياة. ومن أجل إكمال هذا الهدف تقارن الآية التالية بين مشركي مكة وعبدة الأوثان الماضين، وبعبارة أوضح، فإنّها تهدّدهم تهديداً شديداً، وتؤكّد ضمنياً على بعض جرائمهم الشنيعة التي تدلّ على جواز قتالهم فتقول: «وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِى أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ».

فلا يظنّ هؤلاء أنّ الدنيا مستوسقة لهم

إلى درجة أنّهم اجترؤوا على إخراج أشرف رسل اللَّه من أقدس المدن، فإنّ الأمر لا يدوم كذلك، فهم بالقياس إلى قوم عاد وثمود والفراعنة وجيش أبرهة موجودات ضعيفة عاجزة، واللَّه قادر على تدميرهم بكل سهولة، والقضاء عليهم يسير على اللَّه سبحانه.

وتطرح آخر الآيات- مورد البحث- مقارنة اخرى بين المؤمنين والكفار، بين فئتين تختلفان في كل شي ء، فإحداهما مؤمنة تعمل الصالحات، وتحيا الاخرى حياة حيوانية بكل معنى الكلمة .. بين فريقين، أحدهما مستظل بظل ولاية اللَّه سبحانه، والآخر لا مولى له ولا ناصر، فتقول: «أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيّنَةٍ مِّن رَّبّهِ كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم».

إنّ الفريق الأوّل قد اختاروا طريقهم عن معرفة صحيحة، ورؤية واقعية، وعن يقين ودليل وبرهان قطعي؛ أمّا الفريق الثاني فقد ابتلوا بسوء التشخيص، وعدم إدراك الواقع، وظلمة المسير والهدف، فهم في ظلمات الأوهام حائرون، والعامل الأساس في هذه الحيرة والضلالة هو اتّباع الهوى والشهوات.

ومن الواضح أنّ الاستفهام في جملة: «أَفَمَن كَانَ ...» استفهام إنكاري، أي إنّ هذين الفريقين لا يتساويان أبداً.

«البينة»: تعني الدليل الواضح الجلي، وهي هنا إشارة إلى القرآن، ومعاجز الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله، والدلائل العقلية الاخرى.

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَ أَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَ أَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَ أَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَ لَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَ سُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 485

وصف آخر للجنة: إنّ هذه الآية وصف لمصير كل من المؤمنين والكافرين، فالفئة الاولى الذين يعملون الصالحات، والثانية زيّن لهم سوء أعمالهم.

وقد رفعت هذه الآية الغطاء

عن ستة أنواع من نعم أهل النعيم، وعن نوعين من أنواع العذاب الأليم لأصحاب الجحيم، وهي تحدد عاقبة كلا الفريقين وتوضحها.

تتحدث الآية عن أربعة أنهار في الجنة، لكل منها سائله ومحتواه الخاص، ثم تتحدث عن فواكه الجنة، وأخيراً عن بعض المواهب المعنوية. تقول الآية أوّلًا: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ».

ثم تضيف: «وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ» وذلك أنّ الجنة مكان لا يعتريه الفساد، ولا تتغيّر أطعمة الجنة بمرور الزمن، وإنّما تتغيّر الأطعمة في هذه الحياة الدنيا، لوجود أنواع الميكروبات التي تفسد المواد الغذائية بسرعة.

ثم تطرّقت إلى ثالث نهر من أنهار الجنة، فقالت: «وَأَنْهَارٌ مّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ».

لا يخفى أنّ خمر الجنة وشرابها لا علاقة له بخمر الدنيا الملوّث مطلقاً، بل هو كما يصفه القرآن في الآية (47) من سورة الصافات: «لَافِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ»، وليس فيه إلّا العقل والنشاط واللذة الروحية.

وأخيراً تبيّن الآية رابع أنهار الجنة بأنّه: «وَأَنْهَارٌ مّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى».

وعلاوة على هذه الأنهار المختلفة التي خلق كل منها لغرض، فقد تحدثت الآية عن فواكه الجنة في الموهبة الخامسة، فقالت الآية: «وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثَّمَرَاتِ».

وأخيراً تتحدث عن الموهبة السادسة التي تختلف عن المواهب المادية السابقة، إذ إنّ هذه الهبة معنوية روحية، فتقول: «وَمَغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ».

ولنرَ الآن ماذا سيكون مصير الفريق المقابل للمؤمنين، أي الكفار؟

تقول الآية متابعة لحديثها: «كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِى النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ».

جملة «سُقُوا» بصيغة الفعل المبني للمجهول، توضح أنّ أصحاب الجحيم يسقون الماء الحميم بالقوة، لا بإرادتهم، وبدل الإرتواء في تلك النار المحرقة فإنّه يقطّع أمعاءهم، وكما هي طبيعة الجحيم، فإنّهم يرجعون إلى حالتهم الاولى، حيث لا موت هناك.

مختصر الامثل،

ج 4، ص: 486

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَا ذَا قَالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَ آتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَاتِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَ مَثْوَاكُمْ (19) تعكس هذه الآيات صورة عن وضع المنافقين، وطريق تعاملهم مع الوحي الإلهي، وكلمات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، ومسألة قتال أعداء الإسلام ومحاربتهم.

تقول الآية الاولى من الآيات مورد البحث: «وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ ءَانِفًا». وكان مرادهم من ذلك الرجل هو النبي صلى الله عليه و آله.

إنّ تعبير هؤلاء في شأن النبي وكلماته البليغة، كان من القبح والبذاءة إلى درجة تدل على أنّهم لم يؤمنوا بالوحي السماوي قط.

«آنفاً»: من مادة «أنف»، ولمّا كان للأنف بروزاً متميّزاً في وجه الإنسان، فإنّ هذه الكلمة تستعمل في شأن أشراف القوم، وكذلك تستعمل في مورد الزمان المتقدم على زمان الحال، كما جاء في الآية مورد البحث.

إلّا أنّ القرآن الكريم قد أجابهم جواباً قاطعاً، فقال: إنّ كلام النبي صلى الله عليه و آله لم يكن غامضاً ولا معقّداً، بل «أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ».

ويقف المؤمنون الحقيقيون في الطرف المقابل لهؤلاء، وعنهم تتحدث الآية التالية فتقول:

«وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَاهُمْ تَقْوَيهُمْ».

نعم، لقد خطا هؤلاء الخطوة الاولى بأنفسهم، واستخدموا عقلهم وفطرتهم في هذا المسير، ثم أخذ اللَّه سبحانه بيدهم كما وعدهم من

قبل، فزادهم هدى إلى هداهم.

وتحذّر الآية التالية اولئك المستهزئين الذين لا إيمان لهم، فتقول: «فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَيهُمْ».

إنّ هؤلاء لم يذعنوا للحق حيث كان الإيمان واجباً عليهم، ومفيداً لهم، بل كانوا في طغيانهم يعمهون، وبآيات اللَّه يستهزئون، غير أنّهم يوم يرون الحوادث المرعبة وبداية القيامة تهزّ العالم وتزلزله، يصيبهم الفزع ويظهرون خضوعهم ويؤمنون، ولا ينفعهم يومئذ

مختصر الامثل، ج 4، ص: 487

إيمانهم وخضوعهم.

«الأشراط»: جمع «شَرَط»، وهي العلامة، وعلى هذا فإنّ (أشراط الساعة) إشارة إلى علامات اقتراب القيامة.

وتقول آخر آية من هذه الآيات وكاستخلاص لنتيجة البحوث التي وردت في الآيات السابقة حول الإيمان والكفر، ومصير المؤمنين والكفار: «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا اللَّهُ». أي:

اثبت على خط التوحيد، فإنّه الدواء الشافي، واعلم أنّ أفضل وسيلة للنجاة هو التوحيد الذي بيّنت الآيات السالفة آثاره.

وبعد هذه المسألة العقائدية، تعود الآية إلى مسألة التقوى والعفة عن المعصية، فتقول:

«وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ».

لا يخفى أنّ النبي صلى الله عليه و آله لم يرتكب ذنباً قط بحكم مقام العصمة، وأمثال هذه التعابير إشارة إلى ترك الاولى، فإنّ حسنات الأبرار سيّئات المقربين، أو إلى أنّه قدوة للمسلمين.

ويقول سبحانه في ذيل الآية، وكتبيان للعلة: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَيكُمْ».

فهو يعلم ظاهركم وباطنكم، كتمانكم وعلانيتكم، سرّكم ونجواكم، بل ويعلم حتى نيّاتكم، وما توسوس به أنفسكم، ويخطر على أذهانكم، وما يجري في ضمائركم، ويعلم حركاتكم وسكناتكم، ولهذا وجب عليكم التوجّه إليه ورفع الأكف بين يديه وطلب العفو والمغفرة والرحمة منه.

«المتقلّب»: هو المكان الذي يكثر التردّد عليه؛ و «المثوى»: هو محل الإستقرار.

إنّ لهاتين الكلمتين معنى واسعاً يشمل كل حركات ابن آدم وسكناته، سواء التي في الدنيا أم في الآخرة.

وَ يَقُولُ الَّذِينَ

آمَنُوا لَوْ لَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَ ذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَ فَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 488

يخافون حتى من اسم الجهاد: تبيّن هذه الآيات المواقف المختلفة للمؤمنين والمنافقين تجاه الأمر بالجهاد، تكملة للأبحاث التي مرّت في الآيات السابقة حول هذين الفريقين.

تقول الآية الاولى: «وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُوا لَوْلَا نُزّلَتْ سُورَةٌ».

سورة يكون فيها أمر بالجهاد، يوضح واجبنا تجاه الأعداء القساة.

وأمّا المنافقون: «فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِىّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ».

إنّ ميدان الجهاد بالنسبة إلى المؤمنين ميدان إظهار عشقهم لمحبوبهم، ميدان تفجّر الإستعدادت والقابليات، وهو ميدان الثبات والمقاومة والإنتصار، ولا معنى للخوف في مثل هذا الميدان. إلّاأنّه بالنسبة إلى المنافقين ميدان موت وفناء وتعاسة، ميدان هزيمة ومفارقة لذائذ الدنيا، وهو أخيراً ميدان مظلم يعقبه مستقبل مرعب غامض.

فإنّ الآية تضيف في النهاية فتقول: «فَأَوْلَى لَهُمْ».

إنّ جملة أعلاه تعبّر في الأدب العربي عن التهديد واللعنة، وتمنّي التعاسة والفناء للآخر.

وتضيف الآية التالية: «طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ».

ثم تضيف: «فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ». وسيرفع رؤوسهم في الدنيا، ويمنحهم العزّة والفخر، ويؤدّي إلى أن ينالوا الثواب الجزيل، والأجر الكبير، والفوز العظيم في الآخرة.

وجملة «عَزَمَ الْأَمْرُ» تشير في الأساس إلى استحكام العمل، إلّاأنّ المراد منها هنا الجهاد، بقرينة الآيات التي سبقتها والتي

تليها.

وتضيف الآية التالية: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ وَتُقَطّعُوا أَرْحَامَكُمْ». لأنّكم إن أعرضتم عن القرآن والتوحيد، فإنّكم سترجعون إلى جاهليّتكم حتماً، ولم يكن في الجاهلية إلّاالفساد في الأرض، والإغارة والقتل وسفك الدماء، وقطيعة الرحم، ووأد البنات.

وتوضح الآية التالية المصير النهائي لهؤلاء القوم المنافقين المفسدين المتذرّعين بأوهى الحجج فتقول: «أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ».

إنّ هؤلاء يظنّون أنّ الجهاد الإسلامي القائم على أساس الحق والعدالة، قطيعة للرحم، وفساداً في الأرض، أمّا كل الجرائم التي إرتكبوها في الجاهلية، والدماء البريئة التي سفكوها

مختصر الامثل، ج 4، ص: 489

أيّام تسلطهم، والأطفال الأبرياء الذين وأدوهم ودفنوهم وهم أحياء يستغيثون، كانت قائمة على أساس الحق والعدل! لعنهم اللَّه إذ لا اذن واعية لهم، ولا عين ناظرة بصيرة.

وتناول آخر آية من هذه الآيات ذكر العلة الحقيقية لانحراف هؤلاء القوم التعساء، فقالت: «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا».

ولهذا، فإنّ القرآن الكريم يجب أن يأخذ مكانه من حياة المسلمين، ويكون في صميمها لا على هامشها، وعليهم أن يجعلوه قدوتهم وأسوتهم، وأن ينفذوا كل أوامره، وأن يجعلوا خطوط حياتهم وطبيعتها منسجمة معه.

لكن، أنّ الاستفادة من القرآن تحتاج إلى نوع من تهذيب النفس وجهادها، وإن كان القرآن بنفسه معيناً في تهذيبها، لأنّ القلوب إذا كانت مقفلة بأقفال الهوى والشهوة، والكبر والغرور، واللجاجة والتعصّب، فسوف لا يلجها نور الحق.

إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَ أَمْلَى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبَارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَ كَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ

(28) أفلا يتدبّرون القرآن: تواصل هذه الآيات الكلام حول المنافقين ومواقفهم المختلفة، فتقول: «إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطنُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ».

«سوّل»: من مادة «سُؤْل»، وهي الحاجة التي يحرص عليها الإنسان؛ و «التسويل»: بمعنى الترغيب والتشويق إلى الامور التي يحرص عليها، ونسبته إلى الشيطان بسبب الوساوس التي يلقيها في نفس الإنسان، وتمنع من هدايته؛ و «أملى : من مادة «إملاء»، وهو زرع طول الأمل فيهم، والآمال البعيدة المدى، والتي تشغل الإنسان، فتصدّه عن الحق والهدى.

وتشرح الآية التالية علّة هذا التسويل والتزيين الشيطاني، فتقول: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الْأَمْرِ». وهذا دأب المنافقين في البحث عن

مختصر الامثل، ج 4، ص: 490

العصاة والمخالفين، وإذا لم يكونوا مشتركين ومتفقين معهم في كل المواقف، فإنّهم يتعاونون معهم على أساس المقدار المتفق عليه من مواقفهم، بل ويطيعونهم إذا اقتضى الأمر. بل قد اتجه منافقو المدينة نحو يهود المدينة- وهم «بنو النضير» و «بنو قريظة» الذين كانوا يبشرون بالإسلام قبل بعثة النبي صلى الله عليه و آله، أمّا بعد ظهوره ومبعثه، وتعرّض مصالحهم للخطر، ولحسدهم وكبرهم، فإنّهم اعتبروا الإسلام ديناً باطلًا، وغير سليم- ولمّا كان هناك قدر مشترك بين المنافقين واليهود في مخالفتهم النبي صلى الله عليه و آله، وتآمرهم ضد الإسلام، فإنّهم اتفقوا مع اليهود على العمل المشترك ضد الإسلام والمسلمين.

وربّما كان جملة «فِى بَعْضِ الْأَمْرِ» إشارة إلى أنّنا نتعاون معكم في هذا الجزء فقط، فإنّكم تخالفون عبادة الأصنام، وتعتقدون بالبعث والقيامة، ونحن لا نتفق معكم في هذه الامور.

وتهدد الآيات هؤلاء في نهايتها فتقول: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ». فهو عليم بكفرهم الباطن ونفاقهم، وبتآمرهم مع اليهود، وسيعاقبهم ويجازيهم في

الوقت المناسب.

و الآية التالية بمثابة توضيح لهذا التهديد المبهم، فتقول: «فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ».

وهم يضربون وجوههم لأنّها اتجهت نحو أعداء اللَّه، ويضربون أدبارهم لأنّهم أدبروا عن آيات اللَّه ونبيّه.

وتناولت آخر آية من هذه الآيات بيان علّة هذا العذاب الإلهي وهم على إعتاب الموت، فتقول: «ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ».

لأنّ رضى اللَّه سبحانه هو شرط قبول الأعمال وكل سعي وجهد.

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَ لَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ الصَّابِرِينَ وَ نَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) يعرف المنافقون من لحن قولهم: تشير هذه الآيات إلى جانب آخر في صفات المنافقين وعلاماتهم، وتؤكّد بالخصوص على أنّهم يظنّون أنّ باستطاعتهم أن يخفوا واقعهم وصورتهم الحقيقية عن النبي صلى الله عليه و آله والمؤمنين دائماً، وأن ينقذوا أنفسهم بذلك من الفضيحة

مختصر الامثل، ج 4، ص: 491

الكبرى، فتقول أوّلًا: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ».

«الأضغان»: جمع «ضِغْن»، وهو الحقد الشديد.

إنّ الآية التالية تضيف: «وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ». فنجعل في وجوههم علامات تعرفهم بها إذا رأيتهم، وتراهم رأي العين فتنظر واقعهم عندما تنظر ظاهرهم.

ثم تضيف: «وَلَتَعْرِفَنَّهمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ». فيمكنك في الحال أن تعرفهم من خلال نمط كلامهم. أي: يمكن معرفة المنافقين مرضى القلوب من خلال الكناية في كلامهم، وتعبيراتهم المؤذية التي تنطوي على النفاق.

في تفسير مجمع البيان عن أبي سعيد الخدري قال: لحن القول بغضهم عليّ بن أبي طالب عليه السلام. قال: وكنّا نعرف المنافقين على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله

ببغضهم عليّ بن أبي طالب عليه السلام «1».

لقد كانت إحدى العلامات البارزة للمنافقين أنّهم كانوا يعادون أوّل من آمن من الرجال، وأوّل مضحٍ في سبيل الإسلام، ويبغضونه.

واليوم أيضاً لا تصعب معرفة المنافقين من لحن قولهم ومواقفهم المضادة في المسائل الاجتماعية المهمّة، وخاصة عند الإضطرابات أو الحروب، ويمكن التعرف عليهم بأدنى دقّة في أقوالهم وأفعالهم.

وأخيراً تضيف الآية: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعمَالَكُمْ». فهو يعلم أعمال المؤمنين ما ظهر منها وما بطن، ويعلم أعمال المنافقين، وإذا افترضنا أنّ هؤلاء قادرون على إخفاء واقعهم الحقيقي عن الناس، فهل باستطاعتهم إخفاءه عن اللَّه الذي هو معهم في سرّهم وعلانيهم، وخلوتهم واجتماعهم؟

وتضيف الآية التالية مؤكّدة وموضحة طرقاً اخرى لتمييز المؤمنين عن المنافقين:

«وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ». الحقيقيين من المتظاهرين بالجهاد والصبر.

______________________________

(1) مجمع البيان 9/ 176. ثم إنّ جماعة من كبار العامّة نقلوا مضمون هذا الحديث في كتبهم؛ ومن جملتهم: أحمد بن حنبل في كتاب فضائل الصحابة، وابن عبد البر في الإستيعاب، والذهبي في تاريخ أوّل الإسلام، وابن الأثير في جامع الاصول، والعلّامة الگنجي في كفاية الطالب، والسيوطي في الدرّ المنثور، والآلوسي في روح المعاني، وأورده جماعة آخرون في كتبهم؛ وهو يبيّن أنّها إحدى الروايات المسلّمة عن الرسول الأعظم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 492

وتقول الآية الأخيرة: «وَنَبْلُوَا أَخْبَارَكُمْ».

وبهذا فإنّ اللَّه سبحانه يختبر أعمال البشر، كما يختبر أقوالهم وأخبارهم. فليست هذه المرة الاولى التي يخبر اللَّه سبحانه الناس فيها بأنّي أبلوكم لتمييز صفوفكم، وليعرف المؤمنون الحقيقيون وضعفاء الإيمان والمنافقون، وقد ذكرت مسألة الإمتحان والإبتلاء هذه في آيات كثيرة من القرآن الكريم.

وقد بحثنا المسائل المتعلقة بالاختبار الإلهي في ذيل الآية (155) من سورة البقرة، وكذلك وردت في بداية سورة العنكبوت.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ

سَبِيلِ اللَّهِ وَ شَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ لَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) بعد البحوث المختلفة التي دارت حول المنافقين في الآيات السابقة، تبحث هذه الآيات وضع جماعة اخرى من الكفار، فتقول: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ». حتى وإن عملوا خيراً، لأنّه لم يكن مقترناً بالإيمان.

هؤلاء يمكن أن يكونوا مشركي مكة، أو الكفار من يهود المدينة، أو كليهما.

أمّا «تبيّن الهدى»، فقد كان عن طريق المعجزات بالنسبة إلى مشركي مكة، وعن طريق الكتب السماوية بالنسبة إلى أهل الكتاب.

و «إحباط أعمالهم» إمّا أن يكون إشارة إلى أعمال الخير التي قد يقومون بها أحياناً كإقراء الضيف، والإنفاق، ومعونة ابن السبيل، أو أن يكون إشارة إلى عدم تأثير خطط هؤلاء ومؤامراتهم ضد الإسلام.

وبعد أن تبيّن حال المنافقين، والخطوط العامة لأوضاعهم، وجّهت الآية التالية الخطاب

مختصر الامثل، ج 4، ص: 493

إلى المؤمنين مبيّنة خطهم وحالهم، فقالت: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ».

فإنّ اسلوب الآية يوحي بأنّ من بين المؤمنين أفراداً كانوا قد قصروا في طاعة اللَّه ورسوله وفي حفظ أعمالهم عن التلوث بالباطل، ولذلك فإنّ اللَّه سبحانه يحذّرهم في هذه الآية.

وجاءت الآية الأخيرة من هذه الآيات موضحة ومؤكّدة لما مرّ في الآيات السابقة حول الكفار، وتهدي إلى الصراط المستقيم من يريد التوبة إلى طريق الرجوع، فتقول: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ

اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ». لأنّ أبواب التوبة ستغلق بنزول الموت، ويحمل هؤلاء أوزارهم وأوزار الذين يضلّونهم، فكيف يغفر اللَّه لهم.

فَلَا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللَّهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) الصلح المذل: متابعة للآيات السابقة التي كانت تتحدث حول مسألة الجهاد، تشير هذه الآية إلى أحد الامور الهامة في مسألة الجهاد، وهو أنّ ضعفاء الإيمان يطرحون غالباً مسألة الصلح للفرار من مسؤولية الجهاد، ومصاعب ميدان الحرب. ولذلك تقول الآية الشريفة:

الآن وقد سمعتم الأوامر الإلهية في الجهاد «فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ».

أي: الآن وقد لاحت علائم انتصاركم وتفوّقكم، كيف تذلّون أنفسكم وترضون بالمهانة باقتراح الصلح الذي لا يعني إلّاالتراجع والهزيمة؟ فليس هذا صلحاً في الواقع، بل هو استسلام وخضوع ينبع من الضعف والإنهيار، وهو نوع من طلب الراحة والعافية، ويقبح بكم أن تتحملوا عواقبه الأليمة الخطرة.

ومن أجل رفع معنويات المسلمين المجاهدين تضيف الآية: «وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعمَالَكُمْ». «يتركم»: من مادة «الوتر»، وهو المنفرد، ولذلك يقال لمن قتل قريبه، وبقي وحيداً: وِتْر. وجاء أيضاً بمعنى النقصان؛ وفي الآية- مورد البحث- كناية جميلة عن هذا المطلب، بأنّ اللَّه سبحانه لن يترككم وحدكم، بل سيقرنكم بثواب أعمالكم، خاصّةً وأنّكم تعلمون أنّكم لن تخطوا خطوةً إلّاكتبت لكم، فلم يكن اللَّه لينقص من أجركم شيئاً، بل سيضاعفه ويزيد عليه من فضله وكرمه.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 494

إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَ لَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَ يُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَ مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ

عَنْ نَفْسِهِ وَ اللَّهُ الْغَنِيُّ وَ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38) قلنا: إنّ سورة محمّد هي سورة الجهاد، فبأمر الجهاد بدأت، وبه تنتهي، والآيات مورد البحث- وهي آخر آيات هذه السورة- تتناول مسألة اخرى من مسائل حياة البشر في هذا الميدان، فتطرح كون الحياة الدنيا لا قيمة لها لزيادة ترغيب المسلمين ودعوتهم إلى طاعة اللَّه سبحانه عموماً، وإلى أمر الجهاد بالخصوص، لأنّ حبّ الدنيا والإنشداد إليها أحد العوامل المهمّة التي تعيق المسلمين عن الجهاد، فتقول: «إِنَّمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ».

«اللعب»: يقال للأعمال التي تتصف بنوع من الخيال للوصول إلى هدف خيالي؛ و «اللهو»: يقال لكل عمل يشتغل الإنسان به فيصرفه عن المسائل الأساسية.

والحق أنّ الدنيا لعب ولهو ليس إلّا، فلا يحصل منها أنس وارتياح، وليس لها دوام وبقاء، وإنّما هي لحظات كلمح البصر، ولذات زائلة تحفّها الآلام والمتاعب.

ثم تضيف الآية: «وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ». فلا اللَّه يسألكم أجراً مقابل الهداية والرشاد وكل تلك الهبات العظيمة في الدنيا والآخرة، ولا رسوله، فإنّ اللَّه تعالى غني عن العالمين، ولا يحتاج رسوله إلى غير اللَّه.

وإذا كان الشي ء الزهيد من أموالكم يؤخذ كزكاة وخمس وحقوق شرعية اخرى، فإنّه يعود عليكم ويصرف فيكم، لحماية يتاماكم ومساكينكم وضعفائكم وأبناء السبيل منكم، وللدفاع عن أمن بلادكم واستقلالها، ولاستقرار النظام والأمن، ولتأمين احتياجاتكم، وعمران دياركم.

بناءً على هذا، فحتى هذا المقدار اليسير هو من أجلكم ومنفعتكم، فإنّ اللَّه ورسوله في غنى عنكم، وبذلك فلا منافاة بين مفهوم هذه الآية وآيات الزكاة والإنفاق وأمثالها.

ولتبيان تعلق أغلب الناس بأموالهم وثرواتهم الشخصية تضيف الآية التالية: «إِن

مختصر الامثل، ج 4، ص: 495

يَسْئَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ».

«يحفكم»:

من مادة «إحفاء»، أي: الإصرار والإلحاح في المطالبة والسؤال، وهي في الأصل من حفأ، وهو المشي حافياً، وهذا التعبير كناية عن الأعمال التي يتابعها الإنسان إلى أبعد الحدود؛ و «الأضغان» جمع ضغن، وهو بمعنى الحقد الشديد.

وبذلك فإنّ الآية تريد أن توقظ أرواح البشر الغاطّة في نومها العميق بسوط التقريع والملامة والعتاب، ليرفعوا عن أعناقهم قيود الذل والعبودية للأموال، ويصبحوا في حال يضحّون عندها بكل ما لديهم في سبيل اللَّه، ويقدّمون ما عندهم بين يديه، ولا يرجون في مقابل ما يعطون إلّاالإيمان به وتقواه ورضاه عنهم.

والآية الأخيرة- من الآيات مورد البحث، وهي آخر آية من سورة محمّد- تأكيد آخر على ما مرّ في الآيات السابقة حول المسائل المادية وتعلّق الناس بها، ومسألة الإنفاق في سبيل اللَّه، فتقول: «هَا أَنتُمْ هؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ».

وهنا يأتي سؤال، وهو: إنّ الآيات السابقة قد ذكرت أنّ اللَّه لا يسألكم أموالكم، فكيف أمرت هذه الآية بالإنفاق في سبيل اللَّه؟

غير أنّ تتمة الآية تجيب عن هذا السؤال عن طريقين، فتقول أوّلًا: «وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ». لأنّ ثمرة الإنفاق تعود عليكم أنفسكم في الدنيا والآخرة، حيث يقلّ التفاوت الطبقي، وعندها سيعم الأمن والهدوء في المجتمع، وتحل المحبة والصفاء محل العداوة والحقد، هذا ثوابكم الدنيوي.

وأمّا في الآخرة، فستمنحون مقابل كل درهم أو دينار تنفقونه الهبات والنعم العظيمة التي لم تخطر على قلب بشر، وعلى هذا فإنّ من يبخل يبخل عن نفسه. وبتعبير آخر: فإنّ الإنفاق هنا يعني أكثر ما يعني الإنفاق في أمر الجهاد، والتعبير ب «فِى سَبِيلِ اللَّهِ» يلائم هذا المعنى أيضاً، ومن الواضح أنّ أي نوع من المساهمة في تقدّم أمر الجهاد سيضمن وجود المجتمع

واستقلاله وشرفه.

والجواب الآخر هو: «وَاللَّهُ الْغَنِىُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ» فهو غني عن إنفاقكم في سبيله، وغني عن طاعتكم، وإنّما أنتم الفقراء إلى لطفه ورحمته وثوابه وكرمه في الدنيا والآخرة.

وتحذر الجملة الأخير جميع المسلمين أن اعرفوا قدر هذه النعمة الجليلة، والموهبة العظيمة، حيث جعلكم سبحانه حماة دينه القويم وأنصار دينه وأتباع رسوله وأصحابه،

مختصر الامثل، ج 4، ص: 496

فحذار أن تقصّروا في تعظيم هذه النعمة وإكبارها، إذ: «وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم».

وقد جاء نظير هذا التهديد في الآية (54) من سورة المائدة، حيث تقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ».

وفي تفسير مجمع البيان: روى أبوهريرة أنّ ناساً من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قالوا: يا رسول اللَّه! من هؤلاء الذين ذكر اللَّه في كتابه وكان سلمان إلى جنب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فضرب بيده على فخذ سلمان فقال: «هذا وقومه، والّذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس».

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «واللَّه أبدل بهم خيراً منهم الموالي».

«نهاية تفسير سورة محمّد»

مختصر الامثل، ج 4، ص: 497

48. سورة الفتح

محتوى السورة: هذه السورة كما هو ظاهر من اسمها تحمل رسالة الفتح والنصر؛ الفتح والنصر على أعداء الإسلام، الفتح المبين والأكيد «سواءً كان هذا الفتح متعلّقاً بفتح مكة أو بصلح الحديبية أو فتح خيبر أو كان هذا الفتح بشكل مطلق».

وفي تفسير مجمع البيان عن عبد اللَّه بن مسعود قال: أقبل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من الحديبية فجعلت ناقته تثقل فتقدّمنا

فأنزل اللَّه عليه: «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا». فأدركنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وبه من السرور ما شاء اللَّه، فأخبر أنّها نزلت عليه.

وبمراجعة إجمالية للسورة يمكن القول إنّها تتألف من سبعة أقسام:

1- تبدأ السورة بموضوع البشرى بالفتح كما أنّ آياتها الأخيرة لها علاقة بهذا الموضوع أيضاً، وفيها تأكيد على تحقق رؤيا النبي التي تدور حول دخوله وأصحابه مكة وأداء مناسك العمرة.

2- يتحدث قسم آخر من هذه السورة عن الحوادث المتعلقة بصلح الحديبية ونزول السكينة على قلوب المؤمنين و «بيعة الرضوان» وما إلى ذلك.

3- ويتحدث قسم ثالث منها عن مقام النبي صلى الله عليه و آله وهدفه الأسمى.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 498

4- ويكشف القسم الرابع الستار عن غَدر المنافقين ونقضهم العهد ونكثهم له ويعطي أمثلةً من أعذارهم الواهية في مسألة عدم مشاركتهم النبي جهاده المشركين والكفار.

5- وفي قسم آخر يقع الكلام على طلبات «المنافقين» في غير محلّها.

6- والقسم السادس يوضح من هم المعذورون الذين لا حرج عليهم.

7- وأخيراً يتحدث عن خصائص أصحاب النبي وأتباعه في طريقته وسنّته وصفاتهم التي يتميّزون بها.

فضيلة تلاوة السورة: في ثواب الأعمال عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «حصّنوا أموالكم ونساءكم وما ملكت أيمانكم من التلف بقراءة «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا» فإنّه إذا كان ممّن يدمن قراءتها نادى مناد يوم القيامة حتى يسمع الخلائق أنت من عبادي المخلصين، ألحقوه بالصالحين من عبادي وادخلوه جنات النعيم واسقوه من الرحيق المختوم بمزاج الكافور».

ومن الواضح أنّ الهدف الأصلي من تلاوة هذه السورة هو تطبيق أعمال القارئ وخلقه وطبعه على مفاد هذه السورة ومضامينها.

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) الفتح المبين: في الآية الاولى من هذه السورة بشرى عظيمة للنبي صلى الله

عليه و آله بشرى هي عند النبي طبقاً لبعض الرّوايات أحبّ إليه من الدنيا وما فيها، إذ تقول الآية: «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا».

وهو إشارة إلى ما كان من نصيب للمسلمين من الفتح الكبير على أثر «صلح الحديبية».

ومن الأفضل وقبل الولوج في تفسير الآيات أن نعرض قصة صلح الحديبية ليتّضح «المقام» وليكون هذا العرض بمثابة شأن نزول الآيات أيضاً.

قصة صلح الحديبية: في السنة السادسة خرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله معتمراً في ذي القعدة لا يريد حرباً ومعه جماعة من المهاجرين والأنصار ومن تبعه من الأعراب ألف وأربعمائة وساق الهَدْىَ معه سبعين بَدَنة ليعلم الناس أنّه إنّما جاء زائراً للبيت فلما بلغ عُسفان لقيه بسر بن سفيان الكعبي فقال: يا رسول اللَّه هذه قريش قد سمعوا بمسيرك فاجتمعوا بذي طوى يحلفون باللَّه لا تدخلها عليهم أبداً.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 499

إنّ النبي صلى الله عليه و آله قال للناس: «انزلوا». فقالوا: ما بالوادي ماء ينزل عليه. فأخرج سهماً من كنانته فأعطاه رجلًا من أصحابه فنزل في قليب من تلك القلب فغرزه في جوفه فجاش الماء بالريّ حتى ضرب الناس بعطن ..

وبدأ التزاور بين سفراء النبي صلى الله عليه و آله وممثليه وسفراء قريش وممثليها لتحلّ المشكلة على أي نحو كان وأخيراً جاء عروة بن مسعود الثقفي الذي كان رجلًا حازماً عند النبي فقال النبي:

«إنّا لم نأت لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين ...» فرجع عروة إلى أصحابه وقال: أيّ قوم قد وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي فواللَّه ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمّد محمّداً، وحدّثهم ما رأى وما قال النبي صلى الله عليه و آله ...

فدعا رسول اللَّه عمر ليرسله إلى

مكة، فقال: ليس بمكة من بني عدي من يمنعني وقد علمت قريش عداوتي لها وغلظتي عليها وأخافها على نفسي فأرسل عثمان فهو أعزّ بها مني فدعا عثمان فأرسله ليبلغ عنه فانطلق فلقيه أبان بن سعيد بن العاص فأجاره فأتى أبا سفيان، وعظماء قريش فبلغهم عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالوا لعثمان حين فرغ من أداء الرسالة: إن شئت أن تطوف بالبيت فطُف به فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به النبي صلى الله عليه و آله فاحتبسته قريش عندها فبلغ النبي صلى الله عليه و آله أنّه قد قتل. فقال: «لا نبرح حتى نناجز القوم»، ثم دعا الناس إلى البيعة فبايعوه تحت الشجرة .. ثم أتى الخبر أنّ عثمان لم يقتل.

ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو إلى النبي صلى الله عليه و آله ليصالحه على أن يرجع عنهم عامه ذلك، فأقبل سهيل بن عمرو إلى النبي صلى الله عليه و آله وأطال معه الكلام وتراجعا، ثم جرى بينهم الصلح، فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عليّ بن أبي طالب فقال: «اكتب بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم». فقال سهيل: لا نعرف هذا ولكن اكتب باسمك اللهم. فكتبها، ثم قال: «اكتب هذا ما صالح عليه محمّد رسول اللَّه سهيل بن عمرو»، فقال سهيل: لو نعلم أنّك رسول اللَّه لم نقاتلك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال لعلي: «امح رسول اللَّه». فقال: لا أمحوك أبداً. فأخذه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وليس يحسن أن يكتب فكتب موضع رسول اللَّه محمّد بن عبد اللَّه، وقال لعلي لتبلين بمثلها، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن الناس، وإنّه من أتى منهم رسول

اللَّه بغير إذن وليّه رده إليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع رسول اللَّه لم يردّوه عليه ومن أحب أن يدخل في عهد رسول اللَّه دخل ومن أحب أن يدخل في عهد قريش دخل، فدخلت خزاعة في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وأن يرجع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عنهم عامه ذلك فإذا كان

مختصر الامثل، ج 4، ص: 500

عام قابل خرجنا عنك فدخلَتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثاً، وسلاح الراكب السيوف في القِرَب لا تدخلها بغيرها ... فلما فرغ النبي صلى الله عليه و آله من قضيته قال: «قوموا فانحروا ثم احلقوا».

فما فتح في الإسلام قبله فتح كان أعظم منه حيث أمن الناس كلهم بعضهم بعضاً فدخل في الإسلام تينك السنتين مثل ما دخل فيه قبل ذلك وأكثر.

وفي ذلك الحين نزلت سورة الفتح وأعطت للنبي الكريم بشرى كبرى بالفتح المبين «1».

لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ مَا تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (2) وَ يَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) نتائج الفتح المبين الكبرى: في هاتين الآيتين بيان للنتائج المباركة من «الفتح المبين» (صلح الحديبية) والتي ورد ذكره في الآية السابقة. فتقول الآيتان: «لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا* وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا».

وبهذا فإنّ اللَّه منح نبيّه الكريم في ظل هذا الفتح المبين أربع مواهب عظيمة هي:

«المغفرة»، و «إتمام النعمة»، و «الهداية» و «النصر».

الإجابة على سؤال مهم: تثار هنا سؤال وهو: ما المراد من العبارة الآنفة «لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ» مع أنّ النبي معصوم من الذنب؟

وللحصول على الإجابة «الجامعة» لهذه الإشكال لابدّ من

ذكر مقدمة وهي:

إنّ المهم هو العثور على العلاقة الخفية بين فتح الحديبية ومغفرة الذنب! وبالتدقيق في الحوادث التاريخية وما تمخّضت عنه نصل إلى هذه النتيجة، وهي أنّه حين يظهر أيّ مذهب حق ويبرز في عالم الوجود فإنّ أصحاب السنن الخرافية الذين يرون أنفسهم ووجودهم في خطر يكيلون التهم والامور التافهة إليه ويشيعون الشائعات والأباطيل وينشرون الأراجيف الكاذبة بصدده. ولكن حين ينال الانتصار وتحظى مناهجه وخططه بالموفقية فإنّ تلك النسب تمضي كما لو كانوا قد رقموا على الماء، وتتبدّل جميع أقوالهم إلى حسرات وندامة ويقولون عندئذ لم نكن نعلم.

______________________________

(1) الكامل في التّاريخ 2/ 86- 90.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 501

وخاصّة في شأن النبي محمّد صلى الله عليه و آله كانت هذه التصورات والذنوب التي وصموها به كثيرة، إذ عدّوه باغياً للحرب والقتال ومثيراً لنار الفتنة معتداً بنفسه لا يقبل التفاهم وما إلى ذلك.

وقد كشف صلح الحديبية أنّ مذهبه على خلاف ما يزعمه أعداؤه إذ كان مذهباً «تقدّمياً» إلهيّاً ..

فهو يحترم كعبة اللَّه وبيته العتيق ولا يهاجم أية جماعة أو قبيلة دون سبب، ويدعو جميع الناس بحقّ إلى محبوبهم «اللَّه» وإذا لم يضطره أعداؤه إلى الحرب فهو داعية للسلام والصلح والدعة ...

وعلى هذا فقد غسل صلح الحديبية جميع الذنوب التي كانت قبل الهجرة وبعد الهجرة قد نسبت إلى النبي صلى الله عليه و آله أو جميع الذنوب التي نسبت إليه قبل هذا الحادث أو ستنسب إليه في المستقبل احتمالًا ... وحيث إنّ اللَّه جعل هذا الفتح نصيب النبي فيمكن أن يقال أنّ اللَّه غفر للنبي ذنوبه جميعاً.

والنتيجة أنّ هذه الذنوب لم تكون ذنوباً حقيقية أو واقعية بل كانت ذنوباً تصورية وفي أفكار الناس وظنّهم فحسب، وكما نقرأ في

الآية (14) من سورة الشعراء في قصة موسى قوله مخاطباً ربّه: «وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ». في حين أنّ ذنبه لم يكن سوى نصرة المظلوم من بني إسرائيل وسحق ظلم الفراعنة لا غير.

وبديهي أنّ هذا الفعل لا يعدّ ذنباً، بل دفاع عن المظلومين ولكنّه كان يعدّ ذنباً في نظر الفراعنة وأتباعهم.

وبتعبير آخر: أنّ «الذنب» في اللغة يعني الآثار السيّئة والتبعات التي تنتج عن العمل غير المطلوب، فكان ظهور الإسلام في البداية تدميراً لحياة المشركين، غير أنّ إنتصاراته المتلاحقة والمتتابعة كانت سبباً لنسيان تلك التبعات.

وهكذا بالنسبة لمشركي مكة سواءً قبل هجرة النبي أم بعدها إذ كانت أفكارهم وأذهانهم مبلبلة عن الإسلام وشخص النبي بالذات، غير أنّ إنتصارات الإسلام أزالت هذه التصورات والأفكار.

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ كَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 502

نزول السكينة على قلوب المؤمنين: ما قرأناه في الآيات السابقة هو ما أعطاه اللَّه من مواهب عظيمة لنبي الأكرم صلى الله عليه و آله بالفتح المبين «صلح الحديبية»، أمّا في الآية أعلاه فالكلام عن الموهبة العظيمة التي تلطف اللَّه بها على جميع المؤمنين، إذ تقول الآية: «هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ».

ولم لا تنزل السكينة والاطمئنان على قلوب المؤمنين: «وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا».

«السكينة»: في الأصل مشتقة من «السكون»، ومعناها الاطمئنان والدعة وما يزيل كل أنواع الشك والتردّد والوحشة من الإنسان ويجعله ثابت القدم في طوفان الحوادث.

وهذه السكينة يمكن أن يكون لها جانب عقائدي فيزيل ضعف تزلزل العقيدة أو يكون لها جانب عملي بحيث يهب الإنسان ثبات القدم والمقاومة والاستقامة

والصبر.

وتعبيرات الآية نفسها تتناسب مع استعمال السكينة في معناها الأوّل أكثر.

لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَ يُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَ كَانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَ يُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَ الْمُنَافِقَاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَ سَاءَتْ مَصِيراً (6) وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ كَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7) نتيجة اخرى من الفتح المبين: في روح المعاني عن أنس قال: أنزلت على النبي صلى الله عليه و آله ليغفر لك اللَّه من ذنبك وما تأخر في مرجعه من الحديبية فقال: «لقد أنزلت على آية هي أحبّ إليّ ممّا على الأرض». ثم قرأها عليهم فقالوا: هنيئاً مريئاً يا رسول اللَّه قد بين اللَّه تعالى لك ماذا يفعل بك فماذا يفعل بنا فنزلت «لّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ» حتى بلغ «فَوْزًا عَظِيمًا».

إنّ هذه الآيات تتحدث عن علاقة صلح الحديبية وآثاره وردّ الفعل المختلف في أفكار الناس ونتائجه المثمرة، وكذلك عاقبة كل من الفريقين اللذين امتحنا في هذه «البوتقة» والمختبر. فتقول الآية الاولى من هذه الآيات محل البحث: «لّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ

مختصر الامثل، ج 4، ص: 503

جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا». فلا تُسلب هذه النعمة الكبرى عنهم أبداً ..

وإضافة إلى ذلك فإنّ اللَّه يعفو عنهم «وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا».

وبهذا فإنّ اللَّه قد وهب المؤمنين بإزاء ما وهب لنبيّه في فتحه المبين من المواهب الأربعة موهبتين عظيمتين هما: «الجنة خالدين فيها» و «التكفير عن سيّئاتهم» بالإضافة إلى إنزال السكينة على قلوبهم ومجموع هذه المواهب الثلاث يعدّ فوزاً عظيماً لأولئك

الذين خرجوا من الإمتحان بنجاح وسلامة.

غير أنّ إزاء هذه الجماعة، جماعة المنافقين والمشركين الذين تتحدث الآية التالية عن عاقبتهم بهذا الوصف فتقول: «وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ».

أجل، لقد ظنّ المنافقون حين تحرّك النبي صلى الله عليه و آله ومعه المؤمنون من المدينة أن لا يعودوا نحوها سالمين.

ثم يفصّل القرآن ببيان عذاب هؤلاء وعقابهم ويجعله تحت عناوين أربعة فيقول أوّلًا:

«عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ». «الدائرة»: في اللغة هي الحوادث وما ينجم عنها أو ما يتّفق للإنسان في حياته، فهي أعم من أن تكون حسنةً أو سيّئة غير أنّها هنا بقرينة كلمة «السوء» يراد منها الحوادث غير المطلوبة.

وثانياً: «وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ».

وثالثاً: «وَلَعَنَهُمْ».

ورابعاً: فإنّه بالمرصاد «وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا».

وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة اخرى إلى عظمة قدرة اللَّه فتقول الآية:

«وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا».

وممّا يستلفت النظر أنّ القرآن حين يذكر المؤمنين يصف اللَّه بالعلم والحكمة، وهما يناسبان مقام الرحمة، ولكنّه حين يذكر المنافقين والمشركين يصف اللَّه بالعزة والحكمة، وهما يناسبان العذاب.

ما المراد من جنود السماوات والأرض: هذا التعبير له معنى واسع حيث يشمل الملائكة «وهي من جنود السماء» كما يشمل جنوداً اخر كالصواعق والزلازل والطوفانات والسيول والأمواج والقوى الغيبية غير المرئية التي لا نعرف عنها شيئاً .. لأنّ جميع هذه الأشياء هي جنود اللَّه وهي مطيعة لأوامره.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 504

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ وَ تُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10)

مكانة النبي وواجب الناس تجاهه: قلنا إنّ بعض الجهلاء اعترضوا بشدة على صلح الحديبية وحتى أنّ بعض تعبيراتهم لم تخل من عدم الإحترام بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه و آله وكان مجموع هذه الامور يستوجب أن يؤكّد القرآن مرّةً اخرى على عظمة النبي صلى الله عليه و آله وجلالة قدره. لذلك فإنّ الآية الاولى من الآيات أعلاه تخاطب النبي فتقول: «إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وُمَبشّرًا وَنَذِيرًا».

«شاهداً» على جميع الامّة الإسلامية، بل هو شاهد على جميع الأمم.

وفي الآية التالية خمسة أوامر مهمة، هي بمثابة الهدف من سمات النبي المذكورة آنفاً:

وتشكل أمرين في طاعة اللَّه وتسبيحه وتقديره، وثلاثة أوامر منها في «طاعة» رسوله و «الدفاع عنه» و «تعظيم مقامه». إذ تقول الآية: «لّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ وَتُسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا».

«تعزّروه»: من مادة «تعزير»، وهو في الأصل يعني «المنع» ثم توسّعوا فيه فأطلق على كل دفاع ونصرة وإعانة للشخص في مقابل أعدائه كما يطلق على بعض العقوبات المانعة عن الذنب «التعزير» أيضاً؛ و «توقّروه»: مشتقة من مادة «توقير»، وجذورها «الوقر» ومعناها الثِقَل .. فيكون معنى التوقير هنا التعظيم والتكريم.

وطبقاً لهذا التفسير فإنّ الضميرين في «تعزّروه» و «توقّروه» يعودان على شخص النبي صلى الله عليه و آله والهدف من ذلك هو الدفاع عنه بوجه أعدائه وتعظيمه واحترامه.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة قصيرة إلى مسألة «بيعة الرضوان» وقد جاء التفصيل عنها في الآية (18) من السورة ذاتها.

إنّ القرآن يتحدث عن مبايعة المسلمين في الآية محل البحث فيقول: «إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 505

و «البيعة»: معناها المعاهدة على اتّباع الشخص وطاعته، وكان المرسوم أو الشائع بين الناس أنّ الذي يعاهد

الآخر ويبايعه يمد يده إليه ويظهر وفاءه ومعاهدته عن هذا الطريق لذلك الشخص أو لذلك «القائد» المبايَع.

وحيث أنّ الناس يمدّون أيديهم «بعضهم إلى بعض» عند البيع وما شاكله من المعاملات ويعقدون المعاملة بمد الأيدي و «المصافحة» فقد أطلقت كلمة «البيعة» على هذه العقود والعهود أيضاً. وخاصةً أنّهم عند «البيعة» كأنّما يقدّمون أرواحهم لدى العقد مع الشخص الذي يظهرون وفاءهم له.

وعلى هذا يتّضح معنى «يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» .. إذ إنّ هذا التعبير كناية عن أنّ بيعة النبي هي بيعة اللَّه، فكأنّ اللَّه قد جعل يده على أيديهم فهم لا يبايعون النبي فحسب بل يبايعون اللَّه، وأمثال هذه الكناية كثيرة في اللغة العربية.

ثم يضيف القرآن الكريم قائلًا: «فَمَنْ نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا».

«نكث»: مشتقة من «نكْث» ومعناها الفتح والبسط ثم استعملت في نقض العهد.

والقرآن في هذه الآية يُنذر جميع المبايعين للنبي صلى الله عليه و آله أنّ يثبتوا على عهدهم وبيعتهم فمن ثبت على العهد فسيؤتيه اللَّه أجراً عظيماً ومن نَكث فإنّما يعود ضرره عليه ولا ينال اللَّه ضرره أبداً ..

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَ أَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَ الْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَ زُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً (13) وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يُعَذِّبُ

مَنْ يَشَاءُ وَ كَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 506

المخلفين: هذه الآيات تبيّن حالة المخلّفين ضعاف الإيمان بعد أن بيّنت الآيات السابقة حال المنافقين والمشركين لتتمّ حلقات البحث ويرتبط بعضها ببعض. تقول هذه الآيات:

«سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ».

إنّهم لم يكونوا صادقين حتى في توبتهم.

فأبلغهم يا رسول و «قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مّنَ اللَّهِ شَيًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا».

أجلْ «بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا».

وهو يعلم جيداً أنّ هذه الحيل والحجج الواهية لا صحة لها ولا واقعيّة ..

ومن أجل أن ينجلي الأمر ويتّضح الواقع أكثر يميط القرآن جيمع الأستار فيقول: «بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا».

أجلْ، إنّ السبب في عدم مشاركتكم النبي وأصحابه في هذا السفر التاريخي لم يكن هو كما زعمتم- انشغالكم بأموالكم وأهليكم- بل العامل الأساس هو سوء ظنّكم باللَّه، وكنتم تتصوّرون خطأً أنّ هذا السفر هو السفر الأخير للنّبي وأصحابه وينبغي الاجتناب عنه.

وما ذلك إلّاما وسوست به أنفسكم «وَزُيّنَ ذلِكَ فِى قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ».

لأنّكم تخيّلتم أنّ اللَّه أرسل نبيّه في هذا السفر وأودعه في قبضة أعدائه ولن يخلصه ويحميه عنهم، «وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا»- أي هالكين- في نهاية الأمر.

وأي هلاك أشدّ وأسوأ من عدم مشاركتهم في هذا السفر التاريخي وبيعة الرضوان وحرمانهم من المفاخر الاخر .. ثم الفضيحة الكبرى .. وبعد هذا كلّه ينتظرهم العذاب الشديد في الآخرة، أجل لقد كان لكم قلوب ميتة فابتليتم بمثل هذه العاقبة.

وحيث أنّ هذه الأخطاء مصدرها عدم الإيمان فإنّ القرآن يصرّح في الآية التالية قائلًا:

«وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا». «السعير»: معناه اللهيب.

وفي

آخر آية من الآيات محل البحث يقول القرآن ومن أجل أن يثبت قدرة اللَّه على معاقبة الكفار والمنافقين: «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذّبُ مَن يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 507

سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَ لَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَ مَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً (17) المخلّفون الانتهازيون: يعتقد أغلب المفسرين أنّ هذه الآيات ناظرة إلى «فتح خيبر» الذي كان في بداية السنة السابعة للهجرة وبعد صلح الحديبية. وتوضيح ذلك أنّه طبقاً للروايات حين كان النبي صلى الله عليه و آله يعود من الحديبية بشّر المسلمين المشتركين بالحديبية- بأمر اللَّه- بفتح خيبر، وصرّح أن يشترك في هذه الحرب من كان في الحديبية من المسلمين فحسب، وأنّ الغنائم لهم وحدهم ولن ينال المخلّفين منها شي ء أبداً.

إلّا أنّ عبيد الدنيا الجبناء لما فهموا من القرائن أنّ النبي سينتصر في المعركة المقبلة قطعاً- وأنّه ستقع غنائم كثيرة في أيدي جنود الإسلام- أفادوا من الفرصة، فجاؤوا إلى النبي وطلبوا منه أن يأذن لهم بالاشتراك في حرب خيبر، وقد غفلوا عن نزول الآيات آنفاً وأنّها كشفت حقيقتهم من قبل كما نقرأ ذلك في الآية الاولى من

الآيات محل البحث-: «سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ».

إنّ القرآن الكريم يقول رداً على كلام هؤلاء الانتهازيين وطالبي الفُرص: «يُرِيدُونَ أَن يُبَدّلُوا كَلمَ اللَّهِ». ثم يضيف قائلًا للنبي: «قُل لَّن تَتَّبِعُونَا».

وليس هذا هو كلامي بل «كَذلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ» وأخبرنا عن مستقبلكم أيضاً.

إنّ أمر اللَّه أن تكون غنائم خيبر خاصة بأهل الحديبية ولن يشاركهم في ذلك أحد. لكن هؤلاء المخلّفين الصلفين استمروا في تبجّحهم واتهموا النبي ومن معه بالحسد كما صرّح القرآن بذلك: «فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 508

وهكذا فإنّهم بهذا القول يكذّبون حتى النبي صلى الله عليه و آله ويعدّون أساس منعهم من الاشتراك في معركة خيبر الحسد فحسب.

وفي ذيل الآية يصرّح القرآن عن حالهم فيقول: «بَلْ كَانُوا لَايَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا».

أجل إنّ أساس جميع شقائهم وسوء حظهم هو جهلهم وعدم فقاهتهم، فالجهل ملازم لهم أبداً، جهلهم باللَّه سبحانه وعدم معرفة مقام النبي صلى الله عليه و آله وجهلهم عن مصير الإنسان وعدم توجّههم إلى أنّ الثروة في الدنيا لا قرار فيها، فهي زائلة لا محالة.

واستكمالًا لهذا البحث فإنّ الآية التالية تقترح على المخلّفين عن الحديبية اقتراحاً وتفتح عليهم باب العودة فتقول: «قُلْ لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِى بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مّن قَبْلُ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا».

فينبغي أن تؤدّوا امتحان صدقكم في الميادين الصعبة وأن تُسهموا فيها مرّةً اخرى، وإلّا فإنّ إجتناب الميادين الصعبة، والمساهمة في الغنائم وميادين الراحة غير مقبول.

ومن هم هؤلاء القوم المعبّر عنهم ب «أولي بأس شديد» في الآية وأي جماعة هم؟!

نقول: جملة «تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ» تدلّ على أنّهم ليسوا من أهل الكتاب، لأنّ

أهل الكتاب لا يُجبرون على قبول الإسلام، بل يُخيّرون بين قبوله أو دفع الجزية والحياة مع المسلمين على شروط أهل الذمة.

وإنّما الذين لا يُقبل منهم إلّاالإسلام هم المشركون وعبدة الأصنام فحسب، لأنّ الإسلام لا يعترف بعبادة الأصنام ديناً ويرى أنّه لابدّ من إجبار الناس على ترك عبادتها.

ومع الإلتفات إلى أنّه لم تقع معركة مهمة في عصر النبي بعد حادثة الحديبية مع المشركين سوى فتح مكة وغزوة حنين، فيمكن أن تكون الآية المتقدمة إشارة إلى ذلك وخاصة غزوة حنين لأنّها اشترك فيها أولو بأس شديد من «هوازن» و «بني سعد».

الآية الأخيرة من الآيات محلّ البحث تبيّن أعذارهم وخاصة أنّ بعض المفسّرين قالوا إنّ جماعة من المعوّقين جاؤوا إلى النبي بعد نزول الآية وتهديدها للمخلّفين بقولها «يعذّبكم عذاباً أليماً»، فقالوا: يا رسول اللَّه، ما هي مسؤوليتنا في هذا الموقع؟ فنزل قوله تعالى: «لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ».

وليس الجهاد وحده مشروطاً بالقدرة، فجميع التكاليف الإلهية هي سلسلة من

مختصر الامثل، ج 4، ص: 509

الشرائط العامة ومن ضمنها الطاقة والقدرة، وكثيراً ما أشارت الآيات القرآنية إلى هذا المعنى

وبالطبع فإنّ هذه الجماعة وإن كانت معذورة من الاشتراك في ميادين الجهاد، إلّاأنّ عليها أن تساهم بمقدار ما تستطيع لتقوية قوى الإسلام وتقدّم الأهداف الإلهية.

ولعل الجملة الأخيرة في الآية محل البحث تشير أيضاً إلى هذا المعنى فتقول: «وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارِ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا».

لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَ مَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَ كَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) رضي اللَّه عن

المشتركين في بيعة الرضوان: ذكرنا آنفاً أنّه في الحديبية جرى حوار بين ممثلي قريش والنبي صلى الله عليه و آله وكان من ضمن السفراء عثمان بن عفان الذي تشدّه أواصر القربى بأبي سفيان، ولعل هذه العلاقة كان لها أثر في انتخابه ممثلًا عن النبي صلى الله عليه و آله فأرسله إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنّه لم يأت لحرب وإنّما جاء زائراً لهذا البيت، معظماً لحرمته فاحتبسته قريش عندها. فبلغ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والمسلمين أنّ عثمان قد قُتل. فقال: «لا نبرح حتى نناجز القوم». ودعا الناس إلى البيعة فقام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى الشجرة فاستند إليها وبايع الناس على أن يقاتلوا المشركين ولا يفرّوا «1».

فبلغ صدى هذه البيعة مكة واضطربت قريش من ذلك بشدة واطلقوا عثمان.

وكما نعرف فإنّ هذه البيعة عرفت ببيعة الرضوان وقد أفزعت المشركين وكانت منعطفاً في تاريخ الإسلام. فالآيتان محل البحث تتحدّثان عن هذه القصّة فتقول الاولى: «لَّقَدْ رَضِىَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ».

والهدف من هذه البيعة الإنسجام أكثر فأكثر بين القوى وتقوية المعنويات وتجديد التعبئة العسكرية ومعرفة الأفكار واختبار ميزان التضحية من قبل المخلصين الأوفياء.

فأعطى اللَّه هؤلاء المؤمنين المضحّين والمؤثرين على أنفسهم نفس رسول اللَّه في هذه

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان 9/ 194.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 510

اللحظة الحسّاسة والذين بايعوه تحت الشجرة أعطاهم أربعة أجور، ومن أهمّ تلك الأجور والاثابات الأجر العظيم وهو «رضوانه» كما عبّرت عنه الآية (72) من سورة التوبة:

«وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» .. أيضاً. ثم تضيف الآية قائلة: «فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ».

سكينة واطمئناناً لا حدّ لهما، وهم بين سيل الأعداء في نقطة بعيدة عن

الأهل والديار والعدو مدجّج بالسلاح، في حين أن المسلمين عُزّل من السلاح «لأنّهم جاؤوا بقصد العمرة لا من أجل المعركة».

وهذا هو الأجر الثاني والموهبة الإلهية الاخرى.

وفي ذيل هذه الآية إشارة إلى الأجر الثالث إذ تقول الآية: «وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا».

هذا الفتح هو فتح خيبر كما يقول أغلب المفسرين.

والتعبير ب «قريباً» تأييد على أنّ المراد منه «فتح خيبر».

والأجر الرّابع أو النعمة الرابعة التي كانت على أثر بيعة الرضوان من نصيب المسلمين كما تقول الآية التالية هي: «وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا».

وحيث إنّ على المسلمين أن يطمئنوا بهذا الوعد الإلهي اطمئناناً كاملًا فإنّ الآية تضيف في الختام: «وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا».

فإذا ما أمركم في الحديبية أن تصالحوا فإنّما هو على أساس من حكمته، حكمة كشف عن إسرارها الأستار مضي الزمن، وإذا ما وعدكم بالفتح القريب والغنائم الكثيرة فهو قادر على أن يُلبس وعده ثياب الإنجاز والتحقّق.

وهكذا فإنّ المسلمين المضحّين الأوفياء أولي الإيمان والإيثار اكتسبوا في ظل بيعة الرضوان في تلك اللحظات الحسّاسة انتصاراً في الدنيا والآخرة، في حين أنّ المنافقين الجهلة وضعاف الإيمان احترقوا بنار الحسرات.

بحث

البيعة وخصوصيّاتها: «البيعة» من مادة «بيع» وهي في الأصل إعطاء اليد عند إقرار المعاملة. ثم أطلق هذا التعبير على مدّ اليد على المعاهدة.

وتدلّ القرائن على أنّ البيعة ليست من إبداعات المسلمين، بل هي سنّة متّبعة بين العرب قبل الإسلام، ولهذا السبب فإنّ طائفة من «الأوس» و «الخزرج» جاؤوا في بداية الإسلام

مختصر الامثل، ج 4، ص: 511

خلال موسم الحج من المدينة إلى مكة وبايعوا النبي صلى الله عليه و آله في العقبة، وكان تعاملهم في قضية البيعة يوحي بأنّها أمر معروف، وبعدها وخلال فرص ومناسبات متعددة جدّد النبي البيعة مع المسلمين، وكانت إحداها هذه البيعة

التي عرفت ببيعة الرضوان في الحديبية، وأوسع منها البيعة التي كانت عند فتح مكة، وسيأتي شرحها في تفسير «سورة الممتحنة» بإذن اللَّه.

ولكن كيف تتم البيعة؟! .. بصورة عامة تتمّ البيعة كما يلي:

يمدّ المبايع يده إلى يد المبايَع ويبدي الطاعة والوفاء بلسان الحال أو المقال .. وربّما ذكر شروطاً أو حدوداً لبيعته كأن يعقد البيعة على بذل ماله! أو بذل روحه أو بذل جميع الأشياء حتى الولد والمرأة.

وكان النبي الكريم يقبل بيعة النساء أيضاً لكن لا على أن يمددن أيديهنّ إلى يده الكريمة بل كان يأمر بإناء كبير فيه ماء فيدخل يده في طرف منه وتدخل يدها في طرف آخر.

وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَ كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَ لِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَ يَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (20) وَ أُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَ كَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً (21) من بركات صلح الحديبية مرّةً اخرى تتحدث هاتان الآيتان- كالآيات السابقة المتعلّقة بصلح الحديبية والوقائع التالية لها- عن البركات وما حصل عليه المسلمون من غنائم في هذا الطريق. فتقول الآية الاولى منهما: «وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ».

ويدلّ لحن الآية أنّ المراد من المغانم الكثيرة هنا جميع المغانم التي جعلها اللَّه للمسلمين سواءً في أمد قصير أم بعيد.

ثم يشير القرآن إلى لطف آخر من ألطاف اللَّه على المسلمين- في هذه الحادثة- فيقول:

«وَكَفَّ أَيْدِىَ النَّاسِ عَنكُمْ».

وهذا لطف كبير أن يكون المسلمون على قلة العَدد والعُدد وفي نقطة نائية عن الوطن وفي مقربة من العدو- في مأمن منه وأن يلقي اللَّه رعباً ووحشة منهم في قلوب الأعداء بحيث يخشون التحرش بهم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 512

ثم يضيف القرآن في

تكملة الآية مشيراً إلى نعمتين كُبريين اخريين من مواهب اللَّه ونعمه إذ يقول: «وَلِتَكُونَ ءَايَةً لّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا».

وفي الآية التالية أعطى اللَّه بشارةً اخرى للمسلمين إذ قال: «وَأُخْرَى لمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرًا».

إنّ هذا الوعد إشارة إلى فتح مكة وغنائم حنين.

أو إشارة إلى الفتوحات والغنائم التي كانت نصيب المسلمين بعد النبي (كفتح فارس والروم ومصر)، كما يحتمل أيضاً أنّه إشارة لجميع ما تقدّم ذكره.

فإنّ الآية من إخبار القرآن بالمغيّبات والحوادث الآتية، وقد حدثت هذه الفتوحات في مدّة قصيرة وكشفت عن عظمة هذه الآيات بجلاء.

وَ لَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَ لَا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَ هُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَ الْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَ لَوْ لَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَ نِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (25) هذه الآيات تتحدث أيضاً عن أبعاد اخر لما جرى في الحديبية وتشير إلى «لطيفتين» مهمّتين في هذا الشأن.

الاولى: هي أنّه لا تتصوروا أنّه لو وقعت الحرب بينكم وبين مشركي مكة في الحديبية لانتصر المشركون والكفرة. «وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَايَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا».

وليس هذا منحصراً بكم بل: «سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا». فهذا هو قانون

إلهي دائم، فمتى واجه المؤمنون العدوّ بنيّات خالصة وقلوب طاهرة ولم يضعفوا في أمر الجهاد نصرهم اللَّه على عدوّهم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 513

واللطيفة الاخرى التي بيّنتها هذه الآيات أنّها قالت: «وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا».

حقاً .. كان ما حدث مصداقاً جليّاً «للفتح المبين» ونعم ما اختاره القرآن له من وصف، فالعدوّ الذي زحف بجيشه مراراً نحو المدينة وسعى سعياً عجيباً لإيقاع الهزيمة بالمسلمين، إلّا أنّه الآن حيث حطّوا أقدامهم في حريمه ودياره يمتلكه الرعب منهم حتى أنّه يقترح الصلح معهم.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة إلى لطيفة اخرى تتعلّق بمسألة صلح الحديبية وحكمتها، إذ تقول الآية: «هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ» «1».

كان أحد ذنوبهم كفرهم، والذنب الآخر صدّهم إيّاكم عن العُمرة زيارة بيت اللَّه ولم يجيزوا أن تنحروا الهدي في محله، أي مكة.

ومثل هذه الذنوب يستوجب أن يسلّطكم اللَّه عليهم لتعاقبوهم بشدة، لكنّ اللَّه تعالى لم يفعل ذلك فلماذا؟! ذيل الآية يبيّن السبب بوضوح إذ يقول: «وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ».

وهذه الآية تشير إلى طائفة (من الرجال والنساء) المسلمين الذين اعتنقوا الإسلام في مكة ولم يهاجروا إلى المدينة لأسباب خاصة.

«المعرّة»: من مادة «عرّ» على زنة «شرّ» (والعرّ على زنة الحر) في الأصل معناه مرض الجرب وهو من الأمراض الجلدية التي تصيب الحيوانات أو الإنسان أحياناً ثم توسّعوا في المعنى فأطلقوا هذا اللفظ على كل ضرر يصيب الإنسان.

ولإكمال الموضوع تضيف الآية: «لّيُدْخِلَ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ».

أجل، كان اللَّه يريد للمستضعفين المؤمنين من أهل

مكة أن تشملهم الرحمة ولا تنالهم أيّة صدمة ..

ولمزيد التأكيد تضيف الآية الكريمة: «لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا».

أي: لو افترقت وانفصلت صفوف المؤمنين والكفار في مكة ولم يكن هناك خطر على المؤمنين لعذّبنا الكفار بأيديكم عذاباً أليماً.

______________________________

(1) «معكوفاً»: مشتق من «العكوف»، ومعناها المنع عن الحركة والبقاء في المكان.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 514

صحيح أنّ اللَّه قادر على أن يفصل هذه الجماعة عن الآخرين عن طريق الإعجاز، ولكن سنّة اللَّه- في ما عدا الموارد الاستثنائية- أن تكون الامور وفقاً للأسباب العادية.

«تزيلوا»: من مادة «زوال»، وهنا معناها الإنفصال والتفرّق.

ويستفاد من روايات متعدّدة منقولة عن طرق الشيعة والسنّة حول ذيل هذه الآية أنّ المراد منها أفراد مؤمنون كانوا في أصلاب الكافرين واللَّه سبحانه لأجل هؤلاء لم يعذّب الكافرين ..

إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَ كَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَ أَهْلَهَا وَ كَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (26) التعصب وحمية الجاهلية أكبر سدّ في طريق الكفار: هذه الآية تتحدث مرّة اخرى عن (مجريات) الحديبية وتجسّم ميادين اخرى من قضيتها العظمى ... فتشير أوّلًا إلى واحد من أهم العوامل التي تمنع الكفار من الإيمان باللَّه ورسوله والإذعان والتسليم للحق والعدالة فتقول: «إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ».

ولذلك منعوا النبي والمؤمنين أن يدخلوا بيت اللَّه ويؤدّوا مناسكهم وينحروا «الهدي» في مكة. وقالوا: لو دخل هؤلاء- الذين قتلوا آباءنا وإخواننا في الحرب- أرضنا وديارنا وعادوا سالمين فما عسى أن تقول العرب فينا؟! وأية حيثية واعتبار لنا بعد هذا؟

فهؤلاء- بهذا العمل- هتكوا حرمة بيت اللَّه والحرم الآمن من جهة، وخالفوا سننهم وعاداتهم من

جهة اخرى، كما أسدلوا ستاراً بينهم وبين الحقيقة أيضاً.

«الحمية»: في الأصل من مادة حَمي- على وزن حمد- ومعناها حرارة الشمس أو النار التي تصيب جسم الإنسان وما شاكله، ومن هنا سمّيت الحُمّى التي تصيب الإنسان بهذا الاسم؛ «حُمّى» على وزن كبرى، ويقال لحالة الغضب أو النخوة أو التعصب المقرون بالغضب حمية أيضاً.

ثم تضيف الآية الكريمة- وفي قبال ذلك-: «فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 515

هذه السكينة التي هي وليدة الإيمان والإعتقاد باللَّه والإعتماد على لطفه دعتهم إلى الإطمئنان وضبط النفس وأطفأت لهب غضبهم حتى أنّهم قبلوا- ومن أجل أن يحفظوا ويرعوا أهدافهم الكبرى- بحذف جملة «بسم اللَّه الرحمن الرحيم» التي هي رمز الإسلام في بداية الأعمال وأن يثبتوا- مكانها «بسمك اللهم» التي هي من موروثات العرب السابقين- في أوّل المعاهدة وحذفوا حتى لقب «رسول اللَّه» الذي يلي اسم محمّد صلى الله عليه و آله.

وقبلوا بالعودة إلى المدينة من الحديبية دون أن يستجيبوا لهوى عشقهم بالبيت ويؤدّوا مناسك العمرة، ونحروا هديهم خلافاً للسنّة التي في الحج أو العمرة في المكان ذاته وأحلّوا من احرامهم دون أداء المناسك ..

أجل، لقد رضوا بمرارة أن يصبروا إزاء كل المشاكل الصعبة، ولو كانت فيهم حميّة الجاهلية لكان واحد من هذه الامور الآنفة كفيلًا أن يشعل الحرب بينهم في تلك الأرض.

ثم يضيف القرآن في هذا الصدد قائلًا: «وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا».

«كلمة»: هنا بمعنى «روح»، ومعنى الآية أنّ اللَّه ألقى روح التقوى في قلوب أولئك المؤمنين وجعلها ملازمة لهم ومعهم.

وتختتم الآية بقوله سبحانه: «وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمًا». فهو سبحانه يعرف نيّات الكفار السيئة ويعرف طهارة قلوب المؤمنين أيضاً فينزل السكينة والتقوى عليهم هنا.

لَقَدْ صَدَقَ

اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) رؤيا النبي الصادقة: هذه الآية- أيضاً- ترسم جانباً آخر من جوانب قصة الحديبية المهمّة، والقصّة كانت على النحو التالي:

رأى النبي صلى الله عليه و آله في المدينة رؤيا أنّه يدخل مكة مع أصحابه لأداء مناسك العمرة، فحدّث أصحابه عن رؤياه فسُرّوا جميعاً، غير أنّه لمّا كان جماعة من أصحابه يتصورون أنّ تعبير الرؤيا سيتحقق في تلك السنة ذاتها ومنعهم المشركون من الدخول إلى مكة أصابهم الشك والتردد ... ترى هل من الممكن أن تكون رؤيا النبي غير صادقة؟

مختصر الامثل، ج 4، ص: 516

فكان جواب النبي لهم: هل قلت لكم أنّ هذه الرؤيا ستتحقق هذا العام؟! فنزلت الآية الآنفة في هذا الصدد والنبي عائد من الحديبية إلى المدينة وأكّدت أنّ هذه الرؤيا كانت صادقة ولابدّ أنّها كائنة ... تقول الآية: «لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّءْيَا بِالْحَقّ».

فما رآه النبي في المنام كان حقّاً وصدقاً.

ثم تضيف الآية قائلة: «لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ لَاتَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا». وكان في هذا التأخير حكمةٌ: «فَجَعَلَ مِن دُونِ ذلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا».

جملة «إِنْ شَاءَ اللَّهُ» هنا لعلها نوع من تعليم العباد لكي يعوّلوا على مشيئة اللَّه عند الإخبار عن المستقبل وأن لا ينسوا إرادة اللَّه، وأن لا يجدوا أنفسهم غير محتاجين أو مستقلّين عنه.

التعبير ب «فَتْحًا قَرِيبًا» إشارة إلى «فتح خيبر» لأنّه كان «تحقّقه العيني» بعد هذه الرؤيا في فترة أقل زمناً من فتح مكة بعدها.

الآية محل البحث واحدة من المسائل الغيبية التي أخبر عنها القرآن، وهي شاهد على

أنّ هذا الكتاب سماوي وأنّه من معاجز النبي الكريم حيث يخبر قاطعاً عن أداء مناسك العمرة ودخول المسجد الحرام في المستقبل القريب وعن الفتح القريب قبله أيضاً، وكما نعلم أنّ هذين التنبّؤين قد حدثا فعلًا.

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً (29) في هاتين الآيتين اللتين بهما تنتهي سورة الفتح إشارة إلى مسألتين مهمّتين من «الفتح المبين» أي «صلح الحديبية»: احداهما تتعلّق بعالمية الإسلام و الثانية تتعلق بأوصاف

مختصر الامثل، ج 4، ص: 517

أصحاب النبي وخصائصهم وما وعدهم اللَّه سبحانه به. فالاولى منهما تقول: «هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ و عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا».

وهذا وعد صريح وقاطع من اللَّه سبحانه في غلبة الإسلام وظهوره على سائر الأديان.

أي لا تعجبوا لو أخبركم اللَّه عن طريق رؤيا نبيّه محمّد بالإنتصار وأن تدخلوا المسجد الحرام بمنتهى الأمان وتؤدّوا مناسك العمرة دون أن يجرؤ أحد على إيذائكم، كما لا تعجبوا أن يبشّركم اللَّه بالفتح القريب- فتح خيبر «فأوّل الغيث قطرة» وسيكون الإسلام باسطاً ظلاله في أرجاء المعمورة ويظهر على جميع الأديان ...

والمراد ب «الظهور على الدين كلّه»، أهو الظهور المنطقي، أم الظهور (والغلبة) العسكريان؟!

إنّ كلمة «يظهر» دليل على الغلبة الخارجية ... ولهذا يمكن القول أنّه بالإضافة إلى

نفوذ الإسلام في مناطق كثيرة واسعة من الشرق والغرب وهي تحت لوائه اليوم وتدين به أكثر من أربعين دولة إسلامية بنفوس يقدّر إحصاؤها بأكثر من مليارد نسمة فإنّه سيأتي زمان على الناس يستوعب الإسلام جميع أرجاء المعمورة «رسميّاً» وسيكتمل هذا الأمر بظهور المهدي (عج) إن شاء اللَّه.

وفي آخر آية وصف بليغ لأصحاب النبي الخاصين والذين كانوا على منهاجه على لسان التوراة والإنجيل وهو مدعاة افتخار لهم إذ أبدوا شهامتهم ورُجولتهم في الحديبية والمراحل الاخر كما أنّه درس اختبار لجميع المسلمين على مدى القرون والأعصار ...

فتقول الآية في البداية: «مُّحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ».

ثم تصف الآية أصحابه وخلالهم (وسجاياهم) الباطنية والظاهرية ضمن خمس صفات إذ تقول في وصفهم: «وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ».

وصفتهم الثانية أنّهم: «رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ».

وفي الحقيقة أنّ عواطفهم وأفكارهم تتلخّص في هاتين الخصلتين: «الرحمة» و «الشدة» ... لكن لا تضادّ في الجمع بينهما أوّلًا، ولا رحمتهم فيما بينهم وشدّتهم على الكفار تقتضي أن تحيد أقدامهم عن جادّة الحق ثانياً ...

ثم تضيف الآية مبيّنة وصفهم الثالث فتقول: «تَرَيهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا».

هذا التعبير يجسد العبادة بركنيها الأساسيين: «الركوع والسجود» على أنّها حالة دائمية لهم، العبادة التي هي رمز للتسليم أمام أمر اللَّه الحق، ونفي الكبر والغرور والأنانية عن وجودهم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 518

أمّا الوصف الرابع الذي تذكره الآية عن هؤلاء الأصحاب فهو بيان نيّتهم الخالصة الطاهرة فتقول: «يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا». فهم لا يعملون رياءً ولا يبتغون من الخلق الثواب، بل هدفهم رضا اللَّه وفضله فحسب.

أمّا الوصف الخامس فهو عن سيماهم المشرق إذ تقول الآية: «سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِم مّنْ أَثَرِ السُّجُودِ».

إنّ القرآن يضيف بعد بيان هذه الأوصاف: «ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَيةِ».

فهذه حقيقة مقولة قبلًا وأوصاف وردت في كتاب

سماوي نزل منذ أكثر من ألفي عام ...

ولكن لا ينبغي أن ننسى أنّ التعبير ب «وَالَّذِينَ مَعَهُ» يحكي عن معيّة النبي في كل شي ء، في الفكر والعقيدة والأخلاق والعمل لا عن أولئك الذين كانوا في عصره- وإن اختلفوا وإيّاه في المنهج.

ثم يتحدّث القرآن عن وصفهم في كتاب سماوي كبير آخر وهو الإنجيل فيقول: «وَمَثَلُهُمْ فِى الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطَهُ فَازَرَهُ و فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ».

وفي الحقيقة إنّ أوصافهم المذكورة في «التوراة» تتحدث عن أبعاد وجودهم من جهة العواطف والأهداف والأعمال وصورتهم الظاهرية ...

وأمّا الأوصاف الواردة في «الإنجيل» فهي تتحدث عن حركتهم ونموّهم وتكاملهم في جوانب مختلفة (فلاحظوا بدقة).

أجل هم أناس متّصفون بصفات عليا لا يفترون عن الحركة لحظة واحدة ... وينشرون الإسلام بأقوالهم وأعمالهم في العالم ويوماً بعد يوم يزداد عددهم في المجتمع الإسلامي ...

ثم تضيف الآية معقّبة: أنّ هذه الأوصاف العليا وهذا النمو والتكامل السريع وهذه الحركة المباركة بقدر ما تعجب المحبّين وتسرّهم فهي في الوقت ذاته: «لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ».

ويضيف القرآن مختتماً هذه الآية المباركة: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا».

بديهي أنّ أوصاف أصحاب النبي التي وردت في بداية الآية محل البحث جمعت فيها الإيمان والعمل الصالح، فتكرار هذين الوصفين إشارة إلى استمرارهما وديمومتهما: أي أنّ اللَّه وعد أولئك الذين بقوا على نهجهم من أصحاب محمّد صلى الله عليه و آله واستمروا بالإيمان والعمل الصالح.

«نهاية تفسير سورة الفتح»

مختصر الامثل، ج 4، ص: 519

49. سورة الحجرات

محتوى السورة: هذه السورة تحمل مسائل مهمّة تتعلق بشخص النبي الكريم صلى الله عليه و آله والمجتمع الإسلامي بعضه ببعض. وحيث أنّ أغلب المسائل الأخلاقية تدور في هذه السورة فيمكن أن نسمّي هذه السورة ب «سورة الأخلاق

والآداب».

ويمكن تقسيم مضامين السورة على النحو التالي:

1- في بداية السورة تبين طريقة التعامل مع النبي صلى الله عليه و آله وآدابها وما ينبغي على المسلمين مراعاته من أصول عند حضرة النبي.

2- تشتمل هذه السورة على سلسلة من اصول «الأخلاق الاجتماعية» المهمة.

3- الأوامر الإرشادية المتعلقة بكيفية مواجهة الاختلافات والتنازع أو القتال الذي قد يقع بين المسلمين أحياناً ...

4- يتحدث عن معيار قيمة الإنسان عند اللَّه وأهمية التقوى ...

5- يعالج قضية أنّ الإيمان ليس بالقول فحسب بل لابدّ من ظهور آثاره في أعمال الإنسان والجهاد بالمال والنفس- إضافةً إلى الإعتقاد في القلب-.

6- يتحدث عن علم اللَّه وإطّلاعه وعن جميع أسرار الوجود الخفية وأعمال الإنسان، وهذا القسم بمثابة الضامن لتنفيذ جميع هذه الأقسام الواردة في هذه السورة.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 520

مختصر الامثل ج 4 549

وتسمية هذه السورة بسورة «الحجرات» لورود هذه الكلمة في الآية الرابعة منها.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأ سورة الحجرات اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أطاع اللَّه ومن عصاه».

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ سورة الحجرات في كل ليلة أو في كل يوم كان من زوّار محمّد صلى الله عليه و آله».

وبديهي أنّ كل هذه الحسنات التي هي بعدد المطيعين والعاصين إنّما تكون في صورة ما لو أخذنا بنظر الإعتبار كلّاً من الفريقين وأن نفكّر جيداً فنجعل مسيرنا وفقاً لمنهج المطيعين ونبتعد عن منهج العاصين.

ونيل زيارة النبي أيضاً فرع على أن نعمل وفق الآداب المذكورة في الحضور عنده صلى الله عليه و آله لأنّ التلاوة في كل مكان مقدمة للعمل.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ

يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

أسباب النّزول

في تفسير القرطبي: روي أنّ النبي صلى الله عليه و آله أراد أن يستخلف على المدينة رجلًا إذا مضى إلى خيبر فأشار عليه عمر برجل آخر، فنزلت الآية وأمرت أن لا تقدموا بين يدي اللَّه ورسوله.

وأمّا في شأن الآية الثانية فقد قال المفسرون إنّ طائفة من بني تميم وأشرافهم وردوا المدينة، فلمّا دخلوا مسجد النبي نادوا بأعلى صوتهم من وراء الحجرات التي كانت للنبي: يا

مختصر الامثل، ج 4، ص: 521

محمّد أخرج إلينا. فأزعجت هذه الصرخات غير المؤدبة النبي، فخرج إليهم فقالوا له: جئناك لنفاخرك فأجز شاعرنا وخطيبنا ليتحدث عن مفاخر قبيلتنا، فأجازهم النبي صلى الله عليه و آله فنهض خطيبهم وتحدّث عن فضائلهم الخيالية الوهمية كثيراً ...

فأمر النبي ثابت بن قيس «1» أن يردّ عليهم فنهض وخطب خطبةً بليغة فلم يُبق لخطبة اولئك من أثر ...

ثم نهض شاعرهم وألقى قصيدة في مدحهم فنهض «حسان بن ثابت» فردّ عليه بقصيدة شافية كافية.

فأمر النبي صلى الله عليه و آله أن تُهدى لهم هدايا ليكتسب قلوبهم إليه فكان أن تأثّروا بمثل هذه المسائل فاعترفوا بنبوته.

فالآيات محل البحث ناظرة إلى هذه القضية والأصوات من خلف الحجرات.

التّفسير

إنّ في

محتوى هذه السورة قسماً من المباحث الأخلاقية المهمّة والتعليمات الإنضباطية التي تدعونا إلى تسمية هذه السورة ب «سورة الأخلاق»، وهذه المسائل والتعليمات تقع في الآيات الأوّل من السورة محل البحث، والآيات هذه على نحوين من التعليمات.

الأوّل: عدم التقدّم على اللَّه ورسوله وعدم رفع الصوت عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ... فتقول الآية الاولى في هذا الصدد: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».

والمراد من عدم التقديم بين يدي اللَّه ورسوله هو أن لا يُقترح عليهما في الامور، وترك العجلة والإسراع أمام أمر اللَّه ورسوله ...

والآية الثانية تشير إلى الأمر الثاني فتقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبّىِ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَاتَشْعُرُونَ».

والجملة الاولى: «لَاتَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىّ» إشارة إلى أنّه لا ينبغي رفع الصوت على صوت النبي، فهو بنفسه نوع من الإساءة الأدبية في محضره المبارك، والنبي له مكانته، وهذا الأمر لا يجدر أن يقع أمام الأب والام والأستاذ لأنّه مخالف للإحترام والأدب أيضاً.

______________________________

(1) كان ثابت بن قيس خطيب الأنصار وخطيب النبي كما كان حسّان بن ثابت شاعره [اسد الغابة 1/ 229].

مختصر الامثل، ج 4، ص: 522

أمّا جملة: «لَاتَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ» فيمكن أن تكون تأكيداً على المعنى المتقدم في الجملة الاولى، أو أنّها إشارة إلى مطلب آخر، وهو ترك مخاطبة النبي صلى الله عليه و آله بالنداء «يا محمّد» والعدول عنه بالقول: «يا رسول اللَّه» ...

وبديهي أنّ أمثال هذه الأعمال إن قصد بها الإساءة والإهانة لشخص النبي ومقامه الكريم فذلك موجب للكفر، وإلّا فهو ايذاء له وفيه إثم أيضاً ...

وفي الصورة الاولى تتّضح علة

الحبط وزوال الأعمال، لأنّ الكفر يحبط العمل ويكون سبباً في زوال ثواب العمل الصالح ...

وفي الصورة الثانية أيضاً، لا يمنع أن يكون مثل هذا العمل السي ء باعثاً على زوال ثواب الكثير من الأعمال.

وفي الآية الاخرى مزيد تأكيد على الثواب الذي أعدّه اللَّه لُاولئك الذين يمتثلون أمر اللَّه ويراعون الآداب عند رسول اللَّه، فتقول: «إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ».

«يغضّون»: مشتقة من غضّ- على وزن حظّ- ومعناها تقليل النظر أو خفات الصوت ويقابل هذه الكلمة الإمعان بالنظر والجهر بالصوت.

و «امتحن»: مشتقة من الإمتحان، والأصل في استعمالها إذابة الذهب وتطهيره من غير الخالص، ثم استعملت بعدئذ في مطلق الاختبار كما هي الحال بالنسبة للآية محل البحث.

أمّا الآية الاخرى فتشير إلى جهل أولئك الذين يجعلون أمر اللَّه وراء ظهورهم، وعدم إدراكهم فتقول: «إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَايَعْقِلُونَ».

وأساساً كلّما ترقّى عقل الإنسان زيد في أدبه فيعرف القيم الأخلاقية بصورة أحسن ومن هنا فإنّ إساءة الأدب دليل على عدم العقل.

«الحجرات»: جمع «حجرة» وهي هنا إشارة إلى البيوت المتعددة لأزواج النبي المجاورة للمسجد .. وأصل الكلمة مأخوذ من «الحَجْر» على وزن الأجر: أي «المنع» لأنّ الحجرة تمنع الآخرين من الدخول في حريم «حياة» الإنسان ... والتعبير ب «وراء» هنا كناية عن الخارج من أي جهة كان.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 523

ويضيف القرآن إكمالًا للمعنى في نهاية الآية قائلًا: «وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ».

صحيح أنّ العجلة قد تجعل الإنسان أحياناً يبلغ قصده بسرعة، إلّاأنّ الصبر في مثل هذا «المقام» والتأنّي مدعاة إلى المغفرة والأجر العظيم.

وحيث إنّ بعضهم قد ارتكبوا جهلًا هذا الخطأ من قبل، واستوحشوا

من هذا الأمر وحاسبوا أنفسهم بعد نزول الآية، فإنّ القرآن يضيف قائلًا إنّهم تشملهم الرحمة عند التوبة:

«وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

بحثان

1- الأدب أغلى القيم: اهتم الإسلام اهتماماً كبيراً بمسألة رعاية الأدب، والتعامل مع الآخرين مقروناً بالإحترام والأدب سواءً مع الفرد أم الجماعة.

يقول الإمام علي عليه السلام: «الآداب حُلل مجدّدة» «1».

ويقول في مكان آخر: «الأدب يُغني من الحسب» «2».

وأساساً فإنّ الدين مجموعة من الآداب، الأدب بين يدي اللَّه والأدب بين يدي الرسول والأئمة المعصومين، والأدب بين يدي الأستاذ والمعلم، أو الأب والأم والعالم والمفكّر.

2- الإنضباط الإسلامي في كل شي ء وفي كل مكان: إنّ مسألة المديرية لا تتم بدون رعاية الإنضباط، وإذا أريد للناس العمل تحت مديرية وقيادة حسب رغبتهم، فإنّ اتساق الأعمال سينعدم عندئذ وإن كان المديرون والقادة جديرين.

وكثير من الأحداث والنواقص التي نلاحظها تحدّث عن هذا الطريق، فكم من هزيمة أصابت جيشاً قوياً أو نقصاً حدث في أمر يهمّ جماعة وما إلى ذلك كان سببه ما ذكرناه آنفاً ...

ولقد ذاق المسلمون أيضاً مرارة مخالفة هذه التعاليم مراراً في عهد النبي صلى الله عليه و آله أو بعده، ومن أوضح الامور قصة هزيمة المسلمين في معركة احُد لعدم الإنضباط من قبل جماعة قليلة من المقاتلين.

______________________________

(1) نهج البلاغة، الحكمة 5.

(2) كنز الفوائد، أبوالفتح الكراجكي/ 47.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 524

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيَانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ نِعْمَةً وَ

اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: «إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ» نزل في الوليد بن عقبة بن أبي معيط بعثه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في صدقات بني المصطلق فخرجوا يتلقونه فرحاً به، وكانت بينهم عداوة في الجاهلية، فظن أنّهم هموا بقتله، فرجع إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقال: إنّهم منعوا صدقاتهم وكان الأمر بخلافه. فغضب النبي صلى الله عليه و آله وهمّ أن يغزوهم فنزلت الآية.

التّفسير

لا تكترث بأخبار الفاسقين: كان الكلام في الآيات الآنفة على ما ينبغي أن يكون عليه المسلمون ووظائفهم أمام قائدهم ونبيّهم محمّد صلى الله عليه و آله. أمّا الآيات محل البحث فهي تبيّن الوظائف الاخرى على هذه الامة إزاء نبيّها. وتقول ينبغي الاستقصاء عند نقل الخبر إلى النبي فلو أنّ فاسقاً جاءكم بنبإ فتثبّتوا وتحقّقوا من خبره، ولا تكرهوا النبي على قبول خبره حتى تعرفوا صدقه ... فتقول الآيات أوّلًا: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا».

ثم تبيّن السبب في ذلك فتضيف: «أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ».

فلو أنّ النبي قد أخذ بقول «الوليد بن عقبة» وعدّ قبيلة بني المصطلق مرتدين وقاتلهم لكانت فاجعة عظمى ...

واستدل جماعة من علماء الاصول على حجية خبر الواحد بهذه الآية لأنّها تقول: «إن جاءكم فاسق بنبإ فتبيّنوا ...» ومفهومها أنّ العادل لو جاء بنبإ فلا يلزم التبيّن.

والآية التالية- وللتأكيد على الموضوع المهم في الآية السابقة- تضيف قائلةً: «وَاعْلَمُوا

مختصر الامثل، ج 4، ص: 525

أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ» «1».

فالقرآن يقول: من حسن حظّكم أنّ فيكم رسول اللَّه وهو مرتبط بعالم الوحي، ولا تصرّوا وتلحّوا عليه، فإنّ ذلك فيه

عنت لكم وليس من مصلحتكم ...

ويشير القرآن معقّباً في الآية إلى موهبة عظيمة اخرى من مواهب اللَّه سبحانه فيقول:

«وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ».

فإنّ القرآن يقرّر قاعدةً كلية وعامة في نهاية هذه الآية لواجدي الصفات المذكورة فيها فتقول: «أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ».

أي: لو حفظتم هذه الموهبة الإلهية «العشق للإيمان والتنفّر من الكفر والفسوق» ولم تلوّثوا هذا النقاء والصفات الفطرية فإنّ الرشد والهداية دون أدنى شك في انتظاركم ...

أمّا آخر الآيات محل البحث فتوضّح هذه الحقيقة وهي أنّ محبوبية الإيمان والتنفّر من الكفر والعصيان من المواهب الإلهية العظمى على البشر إذ تقول: «فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».

فعلمه وحكمته يوجبان أن يخلق فيكم عوامل الرشد والسعادة ويكملها بدعوة الأنبياء إيّاكم ويجعل عاقبتكم الوصول إلى الهدف المنشود ... «وهو الجنة».

ولا شك أنّ علم اللَّه بحاجة العباد وحكمته في مجال التكامل وتربية المخلوقات توجبان أن يتفضّل بهذه النعم المعنوية الكبرى على عباده (وهي محبوبية الإيمان والتنفّر من الكفر والعصيان).

وعلى هذا فإنّ عشق الإيمان والتنفّر من الكفر موجودان في قلوب جميع الناس دون استثناء وإذا لم يكن لدى بعضهم ذلك فإنّما هو من جهة اخطائهم وسلوكيّاتهم وأعمالهم، فإنّ اللَّه لم يُلق في قلب أيّ شخص حبّ العصيان وبغض الإيمان ...

وَ إِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)

______________________________

(1) «لعنتّم»: مشتقة من مادة «العنت» ومعناه الوقوع في عمل يخاف الإنسان عاقبته أو الأمر الذي يشقّ على الإنسان،

ومن هنا قيل للألم الحاصل من العظم المكسور عند تعرّضه للضربة بأنّه عنت ..

مختصر الامثل، ج 4، ص: 526

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزل في الأوس والخزرج، وقع بينهما قتال بالسعف والنعال.

التّفسير

المؤمنون إخوة: يقول القرآن هنا قولًا هو بمثابة القانون الكلي العام لكل زمان ومكان:

«وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا».

«اقتتلوا»: مشتقة من مادة «القتال» ومعناها الحرب، إلّاأنّها كما تشهد بذلك القرائن تشمل كل أنواع النزاع وإن لم يصل إلى مرحلة القتال والمواجهة «العسكرية».

فإنّ من واجب جميع المسلمين أن يصلحوا بين المتنازعين منهم لئلّا تسيل الدماء وأن يعرفوا مسؤوليتهم في هذا المجال، فلا يكونوا متفرّجين كبعض الجهلة الذين يمرّون بهذه الامور دون اكتراث وتأثّر! فهذه هي وظيفة المؤمنين الاولى عند مواجهة أمثال هذه الامور.

ثم يبيّن القرآن الوظيفة الثانية على النحو التالي: «فَإِن بَغَتْ إِحْدَيهُمَا عَلَى الْأُخْرَى . ولم تستسلم لاقتراح الصلح: «فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِى ءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ».

وبديهي أنّه لو سالت دماء الطائفة الباغية والظالمة- في هذه الأثناء- فإثمها عليها، أو كما يصطلح عليه إنّ دماءهم هدر، وإن كانوا مسلمين.

وهكذا فإنّ الإسلام يمنع من الظلم وإن أدّى إلى مقاتلة الظالم، لأنّ ثمن العدالة أغلى من دم المسلمين أيضاً، ولكن لا يكون ذلك إلّاإذا فشلت الحلول السلمية.

ثم يبيّن القرآن الوظيفة الثالثة فيقول: «فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ».

أي لا ينبغي أن يقنع المسلمون بالقضاء على قوة الطائفية الباغية الظالمة بل ينبغي أن يعقب ذلك الصلح وأن يكون مقدّمة لقلع جذور عوامل النزاع، وإلّا فإنّه بمرور الزمن ما أن يُحسّ الظالم في نفسه القدرة حتى ينهض ثانية ويثير النزاع.

وحيث إنّه تميل النوازع النفسية أحياناً في بعض الجماعات عند الحكم والقضاء إلى إحدى الطائفتين المتخاصمتين وتنقض «الإستقامة» عند

القضاة فإنّ القرآن ينذر المسلمين في رابع تعليماته وما ينبغي عليهم فيقول: «وأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» «1».

والآية التالية تضيف لبيان العلّة والتأكيد على هذا الأمر قائلةً: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ».

______________________________

(1) «المقسطين»: مأخوذة من «القسط» ومعناها في الأصل التقسيم بالعدل.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 527

وحيث إنّه في كثير من الأوقات تحلّ «الروابط» في أمثال هذه المسائل محل «الضوابط» فإنّ القرآن يضيف في نهاية هذه الآية مرّةً اخرى قائلًا: «وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ».

وهكذا تتّضح إحدى أهم المسؤوليات الاجتماعية على المسلمين في ما بينهم في تحكيم العدالة الاجتماعية بجميع أبعادها.

بحث

أهمية الأخوة الإسلامية: إنّ جملة «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» الواردة في الآيات المتقدمة واحدة من الشعارات الأساسية و «المتجذرة» في الإسلام.

فعلى هذا الأصل الإسلامي المهم فإنّ المسلمين على اختلاف قبائلهم وقوميّاتهم ولغاتهم وأعمارهم يشعرون فيما بينهم بالأخوة وإن عاش بعضهم في الشرق والآخر في الغرب ...

ففي مناسك الحج مثلًا حيث يجتمع المسلمون من نقاط العالم كافة في مركز التوحيد تبدو هذه العلاقة والإرتباط والإنسجام والوشائج محسوسة وميداناً للتحقق العيني لهذا القانون الإسلامي المهم ...

وبتعبير آخر: إنّ الإسلام يرى المسلمين جميعاً بحكم الأسرة الواحدة ويخاطبهم جميعاً بالإخوان والأخوات ليس ذلك في اللفظ والشعار، بل في العمل والتعهدات المتماثلة أيضاً، جميعهم (أخوة وأخوات).

وفي الروايات الإسلامية تأكيد على هذه المسألة أيضاً.

في كنز الفوائد: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «للمسلم على أخيه ثلاثون حقّاً، لا براءة له منها إلّا بالأداء العفو؛ يغفر زلّته، ويرحم عبرته، ويستر عورته، ويُقيل عثرته، ويقبل معذرته، ويرد غيبته، ويديم نصيحته، ويحفظ خلّته، ويرعى ذمّته، ويعود مرضته، ويشهد ميتته، ويجيب دعوته، ويقبل هديته، ويكافي صلته، ويشكر نعمته، ويحسن نصرته، ويحفظ حليلته، ويقضي حاجته، ويشفع

مسئلته، ويسمّت عطسته، ويرشد ضالّته، ويردّ سلامه، ويطيب كلامه، ويُبرّ أنعامه، ويصدق أقسامه، ويوالي وليّه، ولا يعادي عدوه، وينصره ظالماً ومظلوماً، فأمّا نصرته ظالماً فيردّه عن ظلمه، وأمّا نصرته مظلوماً فيعينه على أخذ حقّه، ولا يُسلمه، ولا يخذله، ويحب له من الخير ما يُحبّ لنفسه، ويكره له من الشرّ ما يكره لنفسه».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 528

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَ لَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَ لَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَ لَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لَا تَجَسَّسُوا وَ لَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)

أسباب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزل قوله: «لَايَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ» في ثابت بن قيس بن شماس وكان في اذنه وقر، وكان إذا دخل المسجد تفسحوا له حتى يقعد عند النبي فيسمع ما يقول.

فدخل المسجد يوماً والناس قد فرغوا من الصلاة وأخذوا مكانهم فجعل يتخطى رقاب الناس ويقول: تفسّحوا، تفسّحوا حتى انتهى إلى رجل فقال له: أصبت مجلساً فاجلس فجلس خلفه مُغضباً.

فلما انجلت الظلمة قال: من هذا؟ قال الرجل: أنا فلان. فقال ثابت: ابن فلانة، ذكر امّاً له كان يعيّر بها في الجاهلية. فنكس الرجل رأسه حياء، فنزلت الآية.

وقوله «وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ» نزل في نساء النبي صلى الله عليه و آله سخرن من ام سلمة. وذلك أنّها ربطت حقويها بسبية وهي ثوب أبيض، وسدلت طرفيها خلفها فكانت تجره.

فقالت عائشة لحفصة: انظري ماذا تجر خلفها، كأنّه لسان كلب فلهذا كانت سخريتهما.

وقوله «وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا» نزل في رجلين من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله اغتابا رفيقهما وهو سلمان، بعثاه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ليأتي لهما بطعام فبعثه إلى أسامة بن زيد، وكان خازن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على رحله، فقال: ما عندي شي ء. فعاد إليهما فقالا: بخل أسامة وقالا لسلمان: لو بعثاه إلى بئر سميحة لغار ماؤها. ثم انطلقا يتجسسان عند أسامة ما أمر لهما به رسول اللَّه. فقال لهما رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما». قالا: يا رسول اللَّه! ما تناولنا يومنا هذا لحماً. قال: «ظلتم تأكلون لحم سلمان وأسامة». فنزلت الآية.

التّفسير

الإستهزاء وسوء الظن والغيبة والتجسس والألقاب السيئة حرام: حيث أنّ القرآن المجيد

مختصر الامثل، ج 4، ص: 529

اهتمّ ببناء المجتمع الإسلامي على أساس المعايير الأخلاقية فإنّه بعد البحث عن وظائف المسلمين في مورد النزاع والمخاصمة بين طوائف المسلمين المختلفة بيّن في الآيتين محل البحث قسماً من جذور هذه الإختلافات ليزول الإختلاف (بقطعها) ويُحسم النزاع.

ففي كل من الآيتين الآنفتين تعبير صريح وبليغ عن ثلاثة امور يمكن أن يكون كل منها شرارة لإشتعال الحرب والاختلاف، إذ تقول الآية الاولى من الآيتين محل البحث أوّلًا: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَايَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ».

لأنّه: «عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ». «وَلَا نِسَاءٌ مِّن نّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مّنْهُنَّ».

والخطاب موجّه هنا إلى المؤمنين كافة فهو يعمّ الرجال والنساء وينذر الجميع أن يجتنبوا هذا الأمر القبيح، لأنّ أساس السخرية والاستهزاء هو الإحساس بالاستعلاء والغرور والكبر وأمثال ذلك إذ كانت تبعث على

كثير من الحروب الدامية على امتداد التاريخ.

ثم تقول الآية في المرحلة الثانية: «وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ».

«تلمزوا»: هي من مادة «لَمْز» على زنة «طنز» ومعناها تتّبع العيوب والطعن في الآخرين.

وتضيف الآية في المرحلة الثالثة أيضاً قائلة: «وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ».

هناك الكثير من الأفراد الحمقى قديماً وحديثاً، ماضياً وحاضراً مولعون بالتراشق بالألفاظ القبيحة، ومن هذا المنطلق فهم يحقّرون الآخرين ويدمّرون شخصياتهم وربّما انتقموا منهم أحياناً عن هذا الطريق، وقد يتّفق أنّ شخصاً كان يعمل المنكرات سابقاً، ثم تاب وأناب وأخلص قلبه للَّه، ولكن مع ذلك نراهم يرشقونه بلقب مبتذل كاشف عن ماضيه.

الإسلام نهى عن هذه الامور بصراحة ومنع من إطلاق أي إسم أو لقب غير مرغوب فيه يكون مدعاةً لتحقير المسلم ...

وروي- في تفسير مجمع البيان- أنّ صفية بنت حيي بن أخطب، جاءت إلى النبي صلى الله عليه و آله تبكي فقال لها: «ما وراءك»؟ فقالت: إنّ عائشة تعيّرني وتقول يهودية بنت يهوديين! فقال لها: «هلّا قلت أبي هارون وعمّي موسى وزوجي محمّد». فنزلت الآية.

ولذلك فإنّ الآية تضيف قائلةً: «بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ». أي قبيح جدّاً على من دخل في سلك الإيمان أن يذكر الناس بسمات الكفر.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 530

وتُختتم الآية لمزيد التأكيد بالقول: «وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ».

وأي ظلمٍ أسوأ من أن يؤذي شخص بالكلمات اللاذعة و «اللاسعة» والتحقير واللمز قلوب المؤمنين التي هي «مركز عشق» اللَّه.

في هذه الآية يبدأ القرآن فيقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنّ إِثْمٌ».

المراد من هذا النهي هو النهي عن ترتيب الآثار، أي متى ما خطر الظنّ السي ء في الذهن عن المسلم فلا ينبغي الإعتناء به عمليّاً، ولا ينبغي تبديل اسلوب التعامل معه ولا تغيير

الروابط مع ذلك الطرف.

ولذلك نقرأ في هذا الصدد حديثاً- في الأمالي للصدوق- عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال:

«... وضَع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يَغلِبُك منه، ولا تظنّن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملًا».

ثم تذكر الآية موضوع «التجسّس» فتنهى عنه بالقول: «وَلَا تَجَسَّسُوا».

وأخيراً فإنّ الآية تضيف في آخر هذه الأوامر والتعليمات ما هو نتيجة الأمرين السابقين ومعلولهما فتقول: «وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا».

وهكذا فإنّ سوء الظن هو أساس التجسس، والتجسس يستوجب إفشاء العيوب والأسرار، والإطّلاع عليها يستوجب الغيبة، والإسلام ينهى عن جميعها علةً ومعلولًا.

ولتقبيح هذا العمل يتناول القرآن مثلًا بليغاً يجسّد هذا الأمر فيقول: «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ».

أجل، إنّ كرامة الأخ المسلم وسمعته كلحم جسده، وابتذال ماء وجهه بسبب اغتيابه وإفشاء أسراره الخفية كمثل أكل لحمه.

كلمة «ميتاً» للتعبير عن أنّ الإغتياب إنّما يقع في غياب الأفراد، فمثلهم كمثل الموتى الذين لا يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم، وهذا الفعل أقبح ظلم يصدر عن الإنسان في حق أخيه.

وحيث أنّه من الممكن أن يكون بعض الأفراد ملوّثين بهذه الذنوب الثلاثة ويدفعهم وجدانهم إلى التيقّظ والتنبّه فيلتفتون إلى خطئهم، فإنّ السبيل تفتحه الآية لهم إذ تُختتم بقوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 531

فلابدّ أن تحيا روح التقوى والخوف من اللَّه أوّلًا: وعلى أثر ذلك تكون التوبة والإنابة لتشملهم رحمة اللَّه ولطفه.

بحوث

1- الأمن الإجتماعي الكامل: إنّ الأوامر أو التعليمات الستة الواردة في الآيتين آنفتي الذكر (النهي عن السخرية واللمز والتنابز بالألقاب وسوء الظن والتجسس والإغتياب) إذا نُفّذت في المجتمع فإنّ سمعة وكرامة الأفراد في ذلك المجتمع تكون مضمونة من جميع الجهات.

إنّ للإنسان رؤوس

أموال أربعة ويجب أن تحفظ جميعاً في حصن هذا القانون وهي:

«النفس والمال والناموس وماء الوجه».

والتعابير الواردة في الآيتين محل البحث والروايات الإسلامية تدل على أنّ ماء وجه الأفراد كأنفسهم وأموالهم بل هو أهم من بعض الجهات.

الإسلام يريد أن يحكم المجتمع أمن مطلق، ولا يكتفي بأن يكفّ الناس عن ضرب بعضهم بعضاً فحسب، بل أسمى من ذلك بأن يكونوا آمنين من ألسنتهم، بل وأرقى من ذلك أن يكونوا آمنين من تفكيرهم وظنّهم أيضاً .. وأن يُحسّ كلٌّ منهم أنّ الآخر لا يرشقه بنبال الإتهامات في منطقة أفكاره.

وهذا الأمن في أعلى مستوى ولا يمكن تحقّقه إلّافي مجتمع رسالي مؤمن. يقول النبي صلى الله عليه و آله في هذا الصدد: «إنّ اللَّه حرّم من المسلم دمه وماله وعرضه وأن يُظنّ به ظنّ السّوء» «1».

2- لا تجسّسوا: رأينا أنّ القرآن يمنع جميع أنواع التجسس بصراحة تامّة، وحيث إنّه لم يذكر قيداً أو شرطاً في الآية فيدلّ هذا على أنّ التجسس على أعمال الآخرين والسعي إلى إذاعة أسرارهم إثم، إلّاأنّ القرائن الموجودة داخل الآية وخارجها تدل على أنّ هذا الحكم متعلق بحياة الأفراد الشخصية والخصوصية.

ويصدق هذا الحكم أيضاً في الحياة الاجتماعية للأفراد بشرط أن لا يؤثر في مصير المجتمع.

لكن من الواضح أنّه إذا كان لهذا الحكم علاقة بمصير المجتمع أو مصير الآخرين فإنّ المسألة تأخذ طابعاً آخر، ومن هنا فإنّ النبي صلى الله عليه و آله كان قد أعدّ أشخاصاً وأمرهم أن يكونوا

______________________________

(1) المحجّة البيضاء في تهذيب الاحياء 5/ 268.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 532

عيوناً لجمع الأخبار واستكشاف المجريات واستقصائها ليحيطوا بما له علاقة بمصير المجتمع. ومن هذا المنطلق أيضاً يمكن للحكومة الإسلامية أن تتّخذ أشخاصاً يكونون عيوناً لها أو منظمة

واسعة للإحاطة بمجريات الامور، وأن يواجهوا المؤامرات ضد المجتمع أو التي يراد بها إرباك الوضع الأمني في البلاد، فيتجسّسوا للمصلحة العامة حتى لو كان ذلك في إطار الحياة الخاصة للأفراد.

إلّا أنّ هذا الأمر لا ينبغي أن يكون ذريعةً لهتك حرمة هذا القانون الإسلامي الأصيل، وأن يسوّغ بعض الأفراد لأنفسهم أن يتجسّسوا في حياة الأفراد الخاصة بذريعة التآمر والإخلال بالأمن، فيفتحوا رسائلهم مثلًا، أو يراقبوا الهاتف ويهجموا على بيوتهم بين حين وآخر.

والخلاصة أنّ الحد بين التجسس بمعناه السلبي وبين كسب الأخبار الضرورية لحفظ أمن المجتمع دقيق وظريف جداً، وينبغي على مسؤولي إدارة الامور الاجتماعية أن يراقبوا هذا الحد بدقة لئلّا تهتك حرمة أسرار الناس، ولئلّا يتهدد أمن المجتمع والحكومة الإسلامية.

3- الغيبة من أعظم الذنوب وأكبرها: قلنا إنّ رأس مال الإنسان المهم في حياته ماء وجهه وحيثيّته، وأي شي ء يهدّده فكأنّما يهدّد حياته بالخطر.

وأحياناً يعدّ اغتيال وقتل الشخصية أهم من اغتيال الشخص نفسه، ومن هنا كان إثمه أكبر من قتل النفس أحياناً.

إنّ واحدةً من حِكم تحريم الغيبة أن لا يتعرّض هذا الاعتبار العظيم ورأس المال المعنوي للأشخاص لخطر التمزّق والتلوّث.

والأمر الآخر إنّ الغيبة تولّد النظرة السيئة وتضعف العلائق الاجتماعية وتوهنها وتتلف رأس مال الإعتماد وتزلزل قواعد التعاون «الإجتماعي».

قال البراء خطبنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حتى أسمع العواتق في بيوتهنّ فقال: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم فإنّه من تتّبع عورة أخيه تتّبع اللَّه عورته ومن تتّبع اللَّه عورته يفضحه في جوف بيته» «1».

______________________________

(1) المحجّة البيضاء في تهذيب الاحياء 5/ 251.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 533

وأوحى اللَّه تعالى موسى عليه السلام: «من مات تائباً من الغيبة فهو آخر

من يدخل الجنة، ومن مات مصرّاً عليه فهو أوّل من يدخل النار» «1».

في الكافي: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الآكلة في جوفه».

إنّ هذه التأكيدات والعبارات المثيرة إنّما هي للأهمية القصوى التي يوليها الإسلام لصون ماء الوجه وحيثية المؤمنين الاجتماعية، وكذلك للأثر المخرّب- الذي تتركه الغيبة- في وحدة المجتمع والإعتماد المتبادل في القلوب.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثَى وَ جَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَ قَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) التقوى أغلى القيم الإنسانية: كان الخطاب في الآيات السابقة موجّهاً للمؤمنين وكان بصيغة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا»، وقد نهى الذكر الحكيم في آيات متعددة عمّا يوقع المجتمع الإسلامي في خطر، وتكلّم في جوانب من ذلك.

في حين أنّ الآية محل البحث تخاطب جميع الناس وتبيّن أهم أصل يضمن النظم والثبات، وتميّز الميزان الواقعي للقيم الإنسانية عن القيم الكاذبة والمغريات الباطلة. فتقول: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا».

والمراد ب «خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى هو أصل الخلقة وعودة أنساب الناس إلى «آدم وحواء»، فطالما كان الجميع من أصل واحد فلا ينبغي أن تفتخر قبيلة على اخرى من حيث النسب، وإذا كان اللَّه سبحانه قد خلق كل قبيلة وأولاها خصائص ووظائف معيّنة فإنّما ذلك لحفظ نظم حياة الناس الاجتماعية.

إنّ القرآن بعد أن ينبذ أكبر معيار للمفاخرة والمباهات في العصر الجاهلي ويُلغي التفاضل بالأنساب والقبائل يتّجه نحو المعيار الواقعي القيم، فيضيف قائلًا: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقكُمْ».

وهكذا فإنّ القرآن يشطب بالقلم الأحمر على جميع الإمتيازات الظاهرية والمادية، ويعطي الأصالة والواقعية لمسألة التقوى والخوف من اللَّه، ويقول إنّه لا

شي ء أفضل من التقوى في سبيل التقرب إلى اللَّه وساحة قدسه.

______________________________

(1) المحجّة البيضاء في تهذيب الاحياء 5/ 252.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 534

وبما أنّ «التقوى» صفة روحانية وباطنية ينبغي أن تكون قبل كل شي ء مستقرّةً في القلب والروح، وربّما يوجد مدّعون للتقوى كثيرون والمتصفون بها قلة منهم، فإنّ القرآن يضيف في نهاية الآية قائلًا: «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ».

فاللَّه يعرف المتقين حقّاً وهو مطّلع على درجات تقواهم وخلوص نيّاتهم وطهارتهم وصفائهم، فهو يكرمهم طبقاً لعلمه ويثيبهم، وأمّا المدّعون الكذَبَة فإنّه يحاسبهم ويجازيهم على كذبهم أيضاً.

بحثان

1- القيم الحقّة والقيم الباطلة: لا شك أنّ كل إنسان يرغب بفطرته أن يكون ذا قيمة وافتخار، ولذلك فهو يسعى بجميع وجوده لكسب القيم ...

إلّا أنّ معرفة معيار القيم يختلف باختلاف الثقافات تماماً، وربّما أخذت القيم الكاذبة مكاناً بارزاً ولم تُبق للقيم الحقّة مكان في قاموس الثقافة للفرد.

فجماعة ترى بأنّ قيمتها الواقعية في الإنتساب إلى القبيلة المعروفة.

وكان الاهتمام بالقبيلة والإفتخار بالإنتساب إليها من أكثر الامور الوهميّة رواجاً في الجاهلية إلى درجة كانت كل قبيلة تعدّ نفسها أشرف من القبيلة الاخرى، ومن المؤسف أن نجد رواسب هذه الجاهلية في أعماق نفوس الكثيرين من الأفراد والمجتمعات! وجماعة اخرى تعوّل على مسألة المال والثروة وامتلاكها للقصور والخدم والحشم وأمثال هذه الامور، فتعدّها دليلًا على القيمة الشخصية وتسعى من أجل كل ذلك دائماً.

وهكذا تخطو كل جماعة في طريق خاص وتنشدّ قلوبها إلى قيمة معينة وتعدّها معيارها الشخصي.

وبما أنّ هذه الامور جميعها أمور متزلزلة ومسائل ذاتية ومادية وعابرة فإنّ مبدأً سماوياً كمبدأ الإسلام لا يمكنه أن يوافق عليها أبداً .. لذلك يشطب عليها بعلامة البطلان ويعتبر القيمة الحقيقية للإنسان في صفاته الذاتية وخاصة تقواه وطهارة قلبه والتزامه

الديني.

حتى أنّه لا يكترث بموضوعات مهمة كالعلم والثقافة إذا لم تكن في خطّ «الإيمان والتقوى والقيم الأخلاقية» ...

في الدرّ المنثور عن جابر بن عبداللَّه قال: خطبنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في وسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال: «يا أيّها الناس! ألا إنّ ربّكم واحد وإنّ أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على

مختصر الامثل، ج 4، ص: 535

عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلّابالتقوى إنّ أكرمكم عنداللَّه أتقاكم ألا هل بلّغت»؟ قالوا: بلى يا رسول اللَّه. قال: «فليبلغ الشاهد الغائب».

2- حقيقة التقوى: يستفاد من آيات القرآن أنّ التقوى هي الإحساس بالمسؤولية والتعهد الذي يحكم وجود الإنسان وذلك نتيجةً لرسوخ إيمانه في قلبه حيث يصدّه عن الفجور والذنب ويدعوه إلى العمل الصالح والبر ويغسل أعمال الإنسان من التلوّثات ويجعل فكره ونيّته في خلوص من أيّة شائبة.

وقد ذكر بعض الأعاظم للتقوى ثلاث مراحل:

أ) حفظ النفس من (العذاب الخالد) عن طريق تحصيل الإعتقادات الصحيحة.

ب) تجنّب كل إثم وهو أعم من أن يكون تركاً لواجب أو فعلًا لمعصية.

ج) التجلّد والإصطبار عن كل ما يشغل القلب ويصرفه عن الحق، وهذه تقوى الخواص بل خاص الخاص.

قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ إِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)

سبب النّزول

نزلت في أعراب من بني أسد بن خزيمة قدموا على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله المدينة في سنة جدبة وأظهروا

الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السر وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات وأغلوا أسعارها وكانوا يقولون لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله: أتيناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، فأعطنا من الصدقة وجعلوا يمنون عليه، فأنزل اللَّه تعالى فيهم هذه الآية «1».

التّفسير

الفرق بين الإسلام والإيمان: كان الكلام في الآية المتقدمة على معيار القيم الإنسانية، أي التقوى، وبما أنّ التقوى ثمرة لشجرة الإيمان، الإيمان النافذ في أعماق القلوب، ففي الآيتين

______________________________

(1) أسباب نزول الآيات، الواحدي النيسابوري/ 265.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 536

الآنفتين بيان لحقيقة الإيمان إذ تقول الآية الاولى: «قَالَتِ الْأَعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ». وطبقاً لمنطوق الآية فإنّ الفرق بين «الإسلام» و «الإيمان» في أنّ: الإسلام له شكل ظاهري قانوني، فمن تشهد بالشهادتين بلسانه فهو في زمرة المسلمين وتجري عليه أحكام المسلمين.

أمّا الإيمان فهو أمر واقعي وباطني، ومكانه قلب الإنسان لا ما يجري على اللسان أو ما يبدو ظاهراً.

في مجمع البيان: روى أنس عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «الإسلام علانية والإيمان في القلب».

وهذا المعنى نفسه وارد في تعبير آخر في بحث الإسلام والإيمان. في الكافي عن فضيل بن يسار قال: سمعت الإمام الصادق عليه السلام يقول: «إنّ الإيمان يشارك الإسلام ولا يشاركه الإسلام، إنّ الإيمان ما وقر في القلوب والإسلام ما عليه المناكح والمواريث وحقن الدماء».

ثم تضيف الآية محل البحث فتقول: «وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَايَلِتْكُم مّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيًا». وسيوفّيكم ثواب أعمالكم بشكل كامل ولا ينقص منها شيئاً.

وذلك ل «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

«يلتكم»: مشتق من «لَيت» على زنة (ريب) ومعناه الإنقاص من الحق.

والعبارات الأخيرة في الحقيقة إشارات إلى أصل قرآني مسلّم به وهو أنّ

شرط قبول الأعمال «الإيمان»، إذ مضمون الآية أنّه إذا كنتم مؤمنين باللَّه ورسوله إيماناً قلبياً وعلامته طاعتكم للَّه والرسول فإنّ أعمالكم مقبولة، ولا ينقص من أجركم شي ء، ويثيبكم اللَّه، وببركة هذه الأعمال يغفر ذنوبكم لأنّ اللَّه غفور رحيم.

وحيث إنّ الحصول على هذا الأمر الباطني أي الإيمان ليس سهلًا، فإنّ الآية التالية تتحدث عن علائمه، العلائم التي تميّز المؤمن حقّاً عن المسلم والصادق عن الكاذب، وأولئك الذين استجابوا للَّه وللرسول رغبةً وشوقاً منهم عن أولئك الذين استجابوا طمعاً أو للوصول إلى المال والدنيا فتقول: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ».

أجل، إنّ أوّل علامة للإيمان هي عدم التردد في مسير الإسلام، والعلامة الثانية الجهاد بالأموال، والعلامة الثالثة التي هي أهم من الجميع الجهاد بالنفس.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 537

ولذلك فإنّ الآية تُختتم بالقول مؤكّدة: «أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ».

هذا هو المعيار الذي حدّده الإسلام لمعرفة المؤمنين الحق وتمييزهم عن الكاذبين المدّعين بالإسلام تظاهراً، وليس هذا المعيار منحصراً بفقراء جماعة بني أسد، بل هو معيار واضح وجلي ويصلح لكل عصر وزمان لفصل المؤمنين عن المتظاهرين بالإسلام، ولبيان قيمة اولئك الذين يمنّون بأن أسلموا على النبي صلى الله عليه و آله وذلك بحسب الظاهر فحسب، إلّاأنّه عند التطبيق والعمل لا يوجد فيهم أقلّ علامة من الإيمان أو الإسلام.

قُلْ أَ تُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)

سبب النّزول

في تفسير مجمع

البيان: قالوا: فلما نزلت الآيتان- آنفاً- أتو رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يحلفون أنّهم مؤمنون صادقون في دعواهم الإيمان، فأنزل اللَّه سبحانه الآية الاولى من الآيات مورد البحث وأنذرتهم أن لا يحلفوا، فاللَّه يعرف باطنهم وظاهرهم، ولا تخفى عليه خافية في السماوات ولا في الأرض.

التّفسير

لا تمنّوا عليّ إسلامكم: كانت الآيات السابقة قد بيّنت علائم المؤمنين الصادقين، وحيث إنّا ذكرنا في شأن النّزول أنّ جماعة جاؤوا النبي صلى الله عليه و آله وقالوا إنّ ادّعاءهم كان حقيقةً وإنّ الإيمان مستقر في قلوبهم، فإنّ هذه الآيات تنذرهم وتبيّن لهم أنّه لا حاجة إلى الإصرار والقسم، كما أنّ هذا البيان والإنذار هو لجميع الذين على شاكلة تلك الجماعة، فمسألة (الكفر والإيمان) إنّما يطّلع عليها اللَّه الخبير بكل شي ء.

ولحن الآيات فيه عتاب وملامة، إذ تقول الآية الاولى من الآيات محل البحث: «قُلْ أَتُعَلّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ».

ولمزيد التأكيد تقول الآية أيضاً: «وَاللَّهُ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ». فذاته المقدسة هي علمه

مختصر الامثل، ج 4، ص: 538

بعينه وعلمه هو ذاته بعينها ولذلك فإنّ علمه أزلي أبدي.

ثم يعود القرآن لكلمات الأعراب من أهل البادية الذين يمنّون على النبي بأنّهم أسلموا وأنّهم أذعنوا لدينه في الوقت الذي حاربته القبائل العربية الاخرى. فيقول القرآن جواباً على كلماتهم هذه: «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّاتَمُنُّوا عَلَىَّ إِسْلمَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَيكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».

«المنّة»: من مادة «المن» ومعناه الوزن الخاص الذي يوزن به، ثم استعمل هذا اللفظ على كل نعمة غالية وثمينة، والمنّة على نوعين: فإذا كان فيها جانب عملي كعطاء النعمة والهبة فهي ممدوحة، ومنن اللَّه من هذا القبيل، وإذا كان فيها جانب لفظي،

كمنّ كثير من الناس بالقول بعد العمل، فهي قبيحة وغير محبوبة.

فالإيمان وقبل كل شي ء يمنح الإنسان إدراكاً جديداً عن عالم الوجود، ويكشف عنه حجب الأنانية والغرور، ويوسع عليه أفق نظرته، ويجسّد له عظمة خلقه في نظره.

ومن هنا كان على الإنسان أن يؤدّي شكر نعمة اللَّه صباح مساء، وأن يهوي إلى السجود بعد كل صلاة وعبادة، وأن يشكر اللَّه على جميع هذه الامور.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث تأكيد آخر على ما ورد في الآية الآنفة إذ تقول: «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ». فلا تصرّوا على أنّكم مؤمنون حتماً ولا حاجة للقسم .. فهو حاضر في أعماق قلوبكم، وهو عليم بما يجري في غيب السماوات والأرض جميعاً.

«نهاية تفسير سورة الحجرات»

مختصر الامثل، ج 4، ص: 539

50. سورة ق

محتوى السورة: إنّ محور بحوث هذه السورة هو موضوع «المعاد» والمسائل المرتبطة بالمعاد. تمت الإشارة في هذه السورة إلى الامور التالية:

1- إنكار الكافرين مسألة المعاد وتعجّبهم منها «المراد بالمعاد هنا هو المعاد الجسماني».

2- الاستدلال على مسألة المعاد عن طريق الإلتفات إلى مطلق التكوين والخلق وخاصة إحياء الأرض الميتة بنزول الغيث.

3- الاستدلال على مسألة المعاد عن طريق الإلتفات إلى الخلق الأوّل.

4- الإشارة إلى مسألة ثبت الأعمال والأقوال ليوم الحساب.

5- المسائل المتعلقة بالموت والإنتقال من هذه الدنيا إلى الدار الاخرى.

6- جانب من حوادث يوم القيامة وأوصاف الجنة والنار.

7- إشارة إلى حوادث نهاية هذا العالم المذهلة والمثيرة.

وفي الأثناء إشارات (موجزة وذات تأثير بليغ) عن حال الامم الماضية وطغيانها وعاقبتها الوخيمة أمثال قوم فرعون وعاد وقوم لوط وقوم شعيب وقوم تبع وما ورد من تعليمات للنبي في التوجه إلى اللَّه تعالى ... كما وردت في بداية السورة ونهايتها إشارة إلى

عظمة القرآن.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 540

فضيلة تلاوة السورة: يستفاد من الروايات الإسلامية أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان يهتمّ إهتماماً كبيراً بسورة «ق» حتى أنّه صلى الله عليه و آله كان يقرأها في كل جمعة إذا خطب الناس «1».

في تفسير مجمع البيان عن الباقر عليه السلام قال: «ومن أدمن في فرائضه ونوافله سورة ق وسّع اللَّه في رزقه وأعطاه كتاباً بيمينه وحاسبه حساباً يسيراً».

وكل هذه الفضيلة والفخر لا يحصل بقراءة الألفاظ فحسب، بل القراءة هي بداية لتيقّظ الأفكار، وهي بدورها مقدّمة للعمل الصالح والإنسجام مع محتوى السورة هذه.

ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هذَا شَيْ ءٌ عَجِيبٌ (2) أَ إِذَا مِتْنَا وَ كُنَّا تُرَاباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَ عِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) مرّةً اخرى نواجه هنا بعض الحروف المقطعة، وهو الحرف «ق»، وكما قلنا من قبل أنّ واحداً من التفاسير المتينة هو أنّ هذا القرآن على عظمته مؤلّف من حروف بسيطة هي ألف باء الخ ... وهذا يدلّ على أنّ مُبدع القرآن ومنزله لديه علم لا محدود وقدرة مطلقة بحيث خلق هذا التركيب الرفيع العالي من هذه الوسائل البسيطة المألوفة.

قال بعض المفسرين: إنّ «ق» إشارة إلى بعض أسماء اللَّه تعالى «كالقادر والقيّوم» وما إلى ذلك من الأسماء المبدوءة بحرف القاف.

ومن جملة الامور التي تثبت على أنّ هذا الحرف (ق) هو من الحروف المقطعة المذكورة لبيان عظمة القرآن هو مجي ء القسم مباشرةً- بعد هذا الحرف- بالقرآن المجيد إذ يقول سبحانه: «ق وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ».

«المجيد»: مشتقة من المجد ومعناها الشرف الواسع؛ وبما أنّ

القرآن عظمته غير محدودة وشرفه بلا نهاية، فهو جدير بأن يكون مجيداً من كل جهة، فظاهره رائق، ومحتواه عظيم، وتعاليمه عالية، ومناهجه مدروسة، تبعث الروح والحياة في نفوس العباد.

ثم يبيّن القرآن جانباً من إشكالات الكفار والمشركين العرب الواهية فيذكر إشكالين

______________________________

(1) مستدرك، الحاكم النيسابوري 1/ 284؛ صحيح مسلم 3/ 13؛ مسند أحمد 6/ 463.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 541

منها ... الأوّل هو حكايته عنهم: «بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هذَا شَىْ ءٌ عَجِيبٌ».

وبعد إشكالهم الأوّل على نبوّة النبي محمّد صلى الله عليه و آله وهو كيف يكون النبي بشراً؟! كان لهم إشكال آخر على محتوى دعوته ووضعوا أصابع الدهشة على مسألة اخرى كانت عندهم أمراً غريباً وهي: «أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ».

إنّ القرآن يردّ عليهم بطرق متعددة؛ فتارةً يشير إلى علم اللَّه الواسع فيقول: «قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ».

إذا كان إشكالكم هو أنّه كيف تجتمع عظام الإنسان النخرة ولحمه الذي صار تراباً ومن يجمعها؟! أو من يعرف عنها شيئاً؟! فجواب ذلك معلوم ... فاللَّه الذي أحاط بكل شي ء علماً يعرف جميع هذه الذرّات ويجمعها متى شاء، كما أنّ ذرّات الحديد المتناثرة في تلّ من الرمل يمكن جمعها بقطعة من «المغناطيس» فكذلك جمع ذرّات الإنسان أيسر على اللَّه من ذلك.

وإذا كان إشكالهم أنّه من يحفظ أعمال الإنسان ليوم المعاد، فالجواب على ذلك أنّ جميع أعمال الناس في لوح محفوظ، ولا يضيع أي شي ء في هذا العالم، وكل شي ء- حتى أعمالكم- سيظلّ باقياً وإن تغيّر شكله.

ثم يردّ القرآن عليهم بجواب آخر، وفيه منحى نفسي أكثر إذ يقول: «بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقّ لَمَّا جَاءَهُمْ». أي: إنّهم جحدوا الحق مع علمهم به، وإلّا

فإنّه لا غبار على الحق، وكما سيتّضح في الآيات المقبلة فإنّهم يرون صورة مصغّرة للمعاد بأعينهم مراراً في هذه الدنيا وليس عندهم مجال للشك والتردد.

لذلك فإنّ القرآن يختتم هذه الآية مضيفاً: «فَهُمْ فِى أَمرٍ مَّرِيجٍ». فلأنّهم كذّبوا الرسالة فهم دائماً في تناقض في القول وحيرة في العمل وإضطراب في السلوك.

فتارةً يتّهمون النبي بأنّه مجنون أو أنّه شاعر أو كاهن.

وتارةً يقولون بأنّه يعلّمه بشر.

وهذه الكلمات المتفرقة والمتناقضة تدلّ على أنّهم فهموا الحق، إلّاأنّهم يتذرّعون بحجج واهية شتّى، ولذلك لا يقرّون على كلام واحد أبداً.

«مريج»: مشتقة من مرج ومعناها الأمر المختلط والمشتبه والمشوش، ولذلك فقد أطلقوا على الأرض التي تكثر فيها النباتات المختلفة والمتعددة بأنّها «مرج» أو «مرتع».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 542

أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَ زَيَّنَّاهَا وَ مَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَ الْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَ أَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَ ذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَ نَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَ حَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَ النَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَ أَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11) انظروا إلى السماء لحظةً: هذه الآيات تواصل البحث عن دلائل المعاد، فتارةً تتحدث عن قدرة اللَّه المطلقة لإثبات المعاد، واخرى تستشهد له بوقائع ونماذج تحدث في الدنيا تمثّل حالة المعاد، فهي تستجلب وتُلفت أنظار المنكرين إلى خلق السماوات فتقول: «أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا».

والمراد بالنظر هنا هو النظر المقترن بالتفكير الذي يدعو صاحبه لمعرفة عظمة الخالق الذي خلق السماء الواسعة وما فيها من عجائب مذهلة وتناسق وإستحكام ونظم ودقة.

جملة «وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ» أي لا

إنشقاق فيها، إمّا أن يكون بمعنى عدم النقص والعيب، أو أن يكون معناه عدم الإنشقاق والإنفطار في السماء المحيطة بأطراف الأرض وهي ما يعبّر عنها بالغلاف الجوّي للأرض أو ما يعبّر القرآن عنه بالسقف المحفوظ.

ثم تشير الآيات إلى عظمة الأرض فتقول: «وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ».

أجل، خلق الأرض من جهة، ثم اتّساعها «وخروجها من تحت الماء» من جهة اخرى، ووجود الجبال «الرواسي» عليها وإرتباط بعضها ببعض كأنّها السلاسل التي تشدّ الأرض وتحفظها من الضغوط الداخلية والخارجية والجزر والمدّ الحاصلين من جاذبية الشمس والقمر من جهة ثالثة ... ووجود أنواع النباتات بما فيها من عجائب واتّساق وجمال من جهة رابعة جميعها تدلّ على قدرته اللّامحدودة.

أمّا الآية التالية فهي بمثابة الإستنتاج إذ تقول: «تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ».

أجل إنّ من له القدرة على خلق السماوات بما فيها من عظمة وجمال وجلال، والأرض بما فيها من نعمة وجمال ودقّة، كيف لا يمكنه أن يلبس الموتى ثوب الحياة مرّة اخرى وأن يجعل لهم معاداً وحياة اخرى.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 543

أمّا الآية التالية ففيها إستدلال آخر على هذا الأمر إذ تقول: «وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ».

ثم تضيف الآية: «وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ».

«باسقات»: جمع «باسقة» بمعنى الشجرة المرتفعة العالية؛ و «الطلع»: ثمر النخل وما يكون منه الرطب والتمر بعدئذ؛ «النضيد»: معناها المتراكم بشكل دقيق.

والآية الأخيرة من الآيات محل البحث تقول: «رّزْقًا لّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذلِكَ الْخُرُوجُ».

وهكذا فإنّ هذه الآيات ضمن بيان النعم العظمى للعباد وتحريك إحساس الشكر فيهم في مسير المعرفة تذكّرهم بأنّهم يرون مثلًا للمعاد كل سنة في حياتهم في هذه الدنيا، فالأرض الميتة الخالية واليابسة

تهتزّ وتنبت النباتات عليها عند نزول قطرات الغيث وكأنّ أصداء القيامة تترنّم على شفاه النباتات قائلة: «وحده لا شريك له».

فهذه الحركة العظيمة نحو الحياة في عالم النباتات تكشف عن هذه الحقيقة، وهي أنّ باري ء عالم الموجودات قادر على إحياء الموتى مرّةً اخرى، لأنّ وقوع الشي ء أقوى دليل على إمكانه.

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ أَصْحَابُ الرَّسِّ وَ ثَمُودُ (12) وَ عَادٌ وَ فِرْعَوْنُ وَ إِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَ قَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَ فَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) لست وحدك المبتلى بالعدوّ: تعالج هذه الآيات مسألة المعاد من خلال نوافذ متعددة.

ففي البداية ومن أجل تثبيت قلب النبي صلى الله عليه و آله وتسليته تقول: لست وحدك المرسل الذي كذّبه الكفار وكذّبوا محتوى دعواته ولا سيّما المعاد فإنّه: «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسّ وَثَمُودُ».

وجماعة «ثمود» هم قوم صالح النبي العظيم إذ كانوا يقطنون منطقة «الحجر» شمال الحجاز. أمّا «أصحاب الرسّ» فالكثير من المفسرين يعتقدون أنّهم طائفة كانت تقطن اليمامة، وكان عندهم نبيّ يُدعى حنظلة فكذّبوه. وألقوه في البئر في آخر الأمر.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 544

ثم يضيف القرآن قائلًا: «وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ». والمراد بإخوان لوط هم قومه، وقد عبّر القرآن عن لوط بأنّه أخوهم، وهذا التعبير مستعمل في اللغة العربية بشكل عام.

وكذلك من بعدهم: «وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ». و «الأيكة»: معناها الأشجار الكثيرة المتداخلة بعضها ببعض- أو الملتفّة أغصانها- و «أصحاب الأيكة» هم طائفة من قوم شعيب كانوا يقطنون منطقة غير «مدين» وهي منطقة ذات أشجار كثيرة.

والمراد من «قوم تبّع» طائفة من أهل اليمن، لأنّ «تبّع» لقب لملوك اليمن، باعتبار أنّ هؤلاء القوم

يتبعون ملوكهم.

ثم إنّ الآية هذه أشارت إلى جميع من ذكرتهم من الأقوام الثمانية فقالت: «كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ».

فإنّ هؤلاء الامم كذّبوا أنبياءهم وكذّبوا مسألة المعاد والتوحيد أيضاً، وكانت عاقبة أمرهم نُكراً ووبالًا عليهم، فمنهم من ابتلي بالطوفان، ومنهم من أخذته الصاعقة، ومنهم من غرق بالنيل، ومنهم من خُسفت به الأرض أو غير ذلك، وأخيراً فإنّهم ذاقوا ثمرة تكذيبهم المرّة.

ثم يشير القرآن إلى دليل آخر من دلائل إمكان النشور ويوم القيامة فيقول: «أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ».

ثم يضيف القرآن: إنّهم لا يشكّون ولا يتردّدون في الخلق الأوّل لأنّهم يعلمون أنّ خالق الإنسان هو اللَّه ولكنّهم يشكّون في المعاد مع كل تلك الدلائل الواضحة: «بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ».

وفي الحقيقة إنّهم في تناقض بسبب هوى النفس والتعصّب الأعمى، فمن جهة يعتقدون بأنّ خالق الناس أوّلًا هو اللَّه إذ خلقهم من تراب، إلّاأنّهم من جهة اخرى حين يقع الكلام على المعاد وخلق الإنسان ثانية من التراب يعدّون ذلك أمراً عجيباً ولا يمكن تصوّره وقبوله.

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَ نَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) كتابه جميع الأقوال: يُثار في هذه الآيات قسم آخر من المسائل المتعلّقة بالمعاد، وهو

مختصر الامثل، ج 4، ص: 545

ضبط أعمال الإنسان وإحصاؤها لتعرض على صاحبها عند يوم الحساب.

تبدأ الآيات فتتحدث عن علم اللَّه المطلق وإحاطته بكلّ شي ء فتقول: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْانسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ».

«توسوس»: مشتقة من الوسوسة وهي- كما يراه الراغب في مفرداته- الأفكار غير المطلوبة التي تخطر بقلب الإنسان، وأصل الكلمة «الوسواس» ومعناه الصوت الخفي

وكذلك صوت أدوات الزينة وغيرها.

والمراد من الوسوسة في الآية هنا هي أنّ اللَّه لمّا كان يعلم بما يخطر في قلب الإنسان والوساوس السابحة في أفكاره، فمن البديهي أنّه عالم بجميع عقائده وأعماله وأقواله، وسوف يحاسبه عليها يوم القيامة.

وجملة «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْانسَانَ» يمكن أن تكون إشارةً إلى أنّ خالق البشر محال أن لا يعلم بجزئيات خلقه.

أجل، هو الخالق، وخلقه دائم ومستمر ونحن مرتبطون به في جميع الحالات، فمع هذه الحال كيف يمكن أن لا يعلم باطننا وظاهرنا.

ويضيف القرآن لمزيد الإيضاح في ذيل الآية قائلًا: «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ».

وهذا ما أشار إليه القرآن في الآية (24) من سورة الأنفال، إذ قال: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ».

وبالطبع فإنّ هذا كلّه تشبيه تقريبي، واللَّه سبحانه أقرب من ذلك وأسمى رغم كون المثال المذكور أبلغ تصوير محسوس على شدّة القرب.

إنّ الإلتفات إلى هذه الحقيقة يوقظ الإنسان، ويكون على بيّنة من أمره وما هو مذخور له في صحيفة أعماله عند محكمة عدل اللَّه ... فيتحوّل من إنسان غافل إلى موجود واعٍ ملتزم ورع تقيّ.

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلًا: «إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ». أي: أنّه بالإضافة إلى إحاطة علم اللَّه «التامة» على ظاهر الإنسان وباطنه، فهنالك ملكان مأموران بحفظ ما يصدر منه عن يمينه وشماله.

«تلقّى»: معناها الأخذ والتسلّم؛ و «المتلقّيان»: هما ملكان مأموران بكتابة أعمال الناس؛

مختصر الامثل، ج 4، ص: 546

و «قعيد»: مأخوذة من القعود ومعناها «جالس» والمراد بالقعيد هنا الرقيب والملازم للإنسان. وبتعبير آخر: أنّ الآية هذه لا تعني أنّ الملكين جالسين عن يمين الإنسان وعن شماله، لأنّ الإنسان يكون في حال السير تارةً، واخرى في حال الجلوس، بل التعبير

هنا هو كناية عن وجودهما مع الإنسان وهما يترصدّان أعماله. وورد في الروايات الإسلامية أنّ ملك اليمين كاتب الحسنات، وملك الشمال كاتب السيّئات، وصاحب اليمين أميرٌ على صاحب الشمال، فإذا عمل الإنسان حسنةً كتبها له صاحب اليمين بعشر أمثالها، وإذا عمل سيئة فأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال له صاحب اليمين أمسك فيمسك عنه سبع ساعات، فإذا إستغفر اللَّه منها لم يكتب عليه شي ء، وإن لم يستغفر اللَّه كتب له سيّئة واحدة.

أمّا آخر آية من الآيات محل البحث فتتحدث عن الملكين أيضاً فتقول: «مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ».

وكان الكلام في الآية الآنفة عن كتابة جميع أعمال الإنسان، وفي هذه الآية إهتمام بخصوص ألفاظه، وهذا الأمر هو للأهمية القصوى للقول وأثره في حياة الناس، حتى أنّ جملة واحدة أو عبارة قصيرة قد تؤدي إلى تغيير مسير المجتمع نحو الخير أو الشرّ.

«الرقيب»: معناها المراقب؛ و «العتيد»: معناها المتهي ء للعمل.

وَ جَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَ جَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَ شَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) القيامة، والبصر الحديد: تعكس الآيات أعلاه مسائل اخرى تتعلق بيوم المعاد: «مشهد الموت» و «النفخ في الصور» و «مشهد الحضور في المحشر». فتقول أوّلًا: «وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ».

سكرة الموت: هي حال تشبه حالة الثمل السكران إذ تظهر على الإنسان بصورة الاضطراب والإنقلاب والتبدّل، وربّما إستولت هذه الحالة على عقل الإنسان وسلبت شعوره وإختياره.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 547

وللإمام علي عليه السلام كلام بليغ- في الخطبة 109 في نهج البلاغة- يرسم لحظة الموت وسكراتها إذ يقول: «اجتمعت

عليهم سكرت الموت وحسرت الفوت ففترت لها أطرافهم وتغيّرت لها ألوانهم ثم ازداد الموت فيهم ولوجاً فحيل بين أحدهم ومنطقه وأنّه لبين أهله ينظر ببصره ويسمع باذنه على صحّة من عقله وبقاء من لبّه يفكّر فيم أفنى عمره، وفيم أذهب دهره! ويتذكّر أموالًا جمعها أغمض في مطالبها وأخذها من مصرّحاتها ومشتبهاتها قد لزمته تبعات جمعها وأشرف على فراقها تبقى لمن وراءه ينعمون فيها ويتمتّعون بها».

ثم يضيف القرآن في ذيل الآية قائلًا: «ذلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ» «1».

أجل، إنّ الموت حقيقة يهرب منها أغلب الناس لأنّهم يحسبونه فناءً لا نافذةً إلى عالم البقاء، أو أنّهم لعلائقهم وإرتباطاتهم الشديدة بالدنيا والمواهب المادية التي لهم فيها لا يستطيعون أن يصرفوا قلوبهم عنها، أو لسواد صحيفة أعمالهم. أيّاً كان فهم منه يهربون ...

ولكن ما ينفعهم ومصيرهم المحتوم في إنتظار الجميع ولا مفرّ لأحد منه.

ثم يتحدث القرآن عن النفخ في الصور فيقول: «وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ».

والمراد من «النفخ في الصور» هنا هو النفخة الثانية، وهي نفخة «القيام والجمع والحضور» وتكون في بداية البعث والنشور والقيامة وبها يحيى الناس جميعهم ويخرجون «وينسلون» من الأجداث والقبور إلى ربّهم وحساب «عدله» وجزائه.

وفي الآية التالية بيان لحال الناس يوم المحشر بهذه الصورة: «وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ».

فالسائق يسوقه نحو محكمة عدل اللَّه، والشهيد يشهد على أعماله! وهي كمحاكم هذا العالم إذ يسوق المأمورون المتّهمين ويأتون معهم للمحكمة ويشهد عليهم الشهود.

وهنا يخاطب المجرمون أو جميع الناس (فرداً فرداً) فيقال: «لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مّنْ هذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ».

أجل، إنّ أستار عالم المادة من الآمال والعلاقة بالدنيا والأولاد والمرأة والأنانية والغرور والعصبية والجهل والعناد وحبّ الذات لم تكن تسمح أن

تنظر إلى هذا اليوم مع وضوح دلائل المعاد والنشور، فهذا اليوم ينفض عنك غبار الغفلة، وتماط عنك حجب الجهل

______________________________

(1) «تحيد»: مشتقة من مادة «حيد»- على وزن صيد- ومعناها العدول عن الشي ء والفرار منه ..

مختصر الامثل، ج 4، ص: 548

والتعصّب واللجاجة، وتنشقّ أستار الشهوات والآمال، وما كان مستوراً وراء حجاب الغيب يبدو ظاهراً اليوم، لأنّ هذا اليوم يوم البروز ويوم الشهود ويوم تبلى السرائر.

وَ قَالَ قَرِينُهُ هذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَ لكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَ مَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) قرناء الإنسان من الملائكة والشياطين: مرّةً اخرى ترتسم في هذه الآيات صورة اخرى عن المعاد، صورة مثيرة مذهلة حيث إنّ الملك- قرين الإنسان- يبيّن محكومية الإنسان بين الملأ ويصدر حكم اللَّه لمعاقبته وجزائه. تقول الآية الاولى من هذه الآيات: يقول صاحبه وقرينه هذا كتاب أعمال هذا الإنسان حاضر لديّ: «وَقَالَ قَرِينُهُ هذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ».

فيكشف الستار عن كل صغيرة وكبيرة صدرت منه.

والمراد من «قرينه» هو الملك الذي يرافق الإنسان في الدنيا والذي كان مأموراً بتسجيل أعماله وضبطها ليشهد عليه هناك في محكمة عدل اللَّه.

ثم يخاطب اللَّه الملكين المأمورين بتسجيل أعمال الإنسان فيقول لهما: «أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ».

«عنيد»: مشتقة من العناد، ومعناها التكبر وحبّ الذات وعدم الخضوع للحق.

وفي الآية التالية إشارة إلى بعض الأوصاف الذميمة المنحطّة التي يتّصف

بها هؤلاء الكفار- إذ تقول الآية: «مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ».

«معتد»: معناها المتجاوز على الحدود، سواءً أكان متجاوزاً لحقوق الآخرين أو لحدود اللَّه وأحكامه؛ و «مريب»: مشتقة من الريب، وتعني من هو في شك، الشك المقرون بسوء الظن، أو من يخدع الآخرين فيجعلهم بما يقول أو يعمل في شك من أمرهم ... فيضلّوا عن سواء السبيل.

ثم تضيف الآية التالية لتذكر وصفاً ذميماً لمن كان من طائفة الكفار فتقول: «الَّذِى جَعَلَ

مختصر الامثل، ج 4، ص: 549

مَعَ اللَّهِ إِلهًا ءَاخَرَ». أجل: «فَأَلْقِيَاهُ فِى الْعَذَابِ الشَّدِيدِ».

وفي هذه الآيات بيان ستّة أوصاف لأهل النار، فالأوصاف الخمسة المتقدمة بعضها لبعض بمثابة العلة والمعلول، أمّا الوصف السادس فإيضاح للجذر الأصيل لهذه الأوصاف، لأنّ معنى الكفار هو من أصرّ على كفره كثيراً، وينتهي هذا الأمر إلى العناد.

والمعاند أو العنيد يصرّ على منع الخير أيضاً، ومثل هذا الشخص بالطبع يكون معتدياً متجاوزاً على حقوق الآخرين وحدود اللَّه.

والمعتدون يصرّون على إيقاع الآخرين في الشك والريب وسلب الإيمان عنهم.

وفي الوصف السادس أي: «الَّذِى جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا ءَاخَرَ» يكمن الجذر الأصيل والأساس لجميع الإنحرافات الآنف ذكرها، والمراد من هذا الوصف هو الشرك، لأنّ التدقيق فيه يكشف أنّ الشرك هو الباعث على جميع هذه الامور المتقدمة.

وفي الآية التالية يكشف الستار عن مشهد آخر وصورة اخرى مما يجري على هؤلاء الكفار وعاقبتهم، وهو المجادلة بينهم وبين الشيطان الغوي في يوم القيامة، فكل من الكفار يلقي التبعات على الشياطين، إلّاأنّ قرينه «الشيطان» يردّ عليه ويقول كما يحكي عنه القرآن: «قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلكِن كَانَ فِى ضَللٍ بَعِيدٍ». فلم أجبره على سلوك طريق الغواية والضلالة، بل هو الذي سلكه باختياره وإرادته وإختار هذا الطريق.

وبالرغم من أنّ هذه الآيات

تتحدث عن دفاع الشيطان عن نفسه فحسب، ولا يظهر فيها كلام على إعتراض الكفار وردّهم على الشيطان، إلّاأنّه وبقرينة سائر الآيات التي تتحدث عن مخاصمتهم في يوم القيامة وبقرينة الآية التالية يتّضح جدال الطرفين إجمالًا، لأنّها تقول حاكية عن رب العزة: «قَالَ لَاتَخْتَصِمُوا لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ».

وأخبرتكم عن هذا المصير.

إشارة إلى قوله تعالى للشيطان من جهة: «قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا» «1».

ومن جهة اخرى فقد أنذر سبحانه من تبعه من الناس: «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ» «2».

______________________________

(1) سورة الإسراء/ 63.

(2) سورة ص/ 85.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 550

مختصر الامثل ج 4 590

ولمزيد التأكيد تقول الآية التالية حاكية عن لسان رب العزة: «مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَا أَنَا بِظَلمٍ لّلْعَبِيدِ».

والمراد من «القول» هنا هو التهديد أو الوعيد الذي أشار إليه اللَّه سبحانه مراراً في آيات متعددة وذكرنا آنفاً أمثلةً منها.

والتعبير ب «ظلّام» وهو صيغة مبالغة معناه إشارة إلى أنّ مقام عدل اللَّه وعلمه في درجة بحيث لو صدر منه أصغر ظلم لكان يعدّ كبيراً جدّاً ولكان مصداقاً للظلّام، فعلى هذا فإنّ اللَّه بعيد عن أي أنواع الظلم.

إنّ هذا التعبير دليل على أنّ العباد مخيّرون ولديهم الحرية «في الإرادة» فلا الشيطان مجبور على شيطنته وعمله، ولا الكفار مجبورون على الكفر وأتباع طريق الشيطان، ولا العاقبة والمصير القطعي الخارج عن الإرادة قد تقرّرا لأحد أبداً.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة إلى جانب قصير ومثير من مشاهد يوم القيامة إذ تقول الآية: «يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ».

إنّ هذه الآية تدل دلالة واضحة أنّ أهل جهنم كثيرون، وأنّ صورة جهنم مرعبة وموحشة وأنّ تهديد اللَّه جدّي

وحق يربك الفكر في كل إنسان فيهزّه ويحذّره ألّا يكون واحداً من أهلها.

وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَ جَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَ لَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ (37) مع الإلتفات إلى أنّ أبحاث هذه السورة يدور أغلبها حول محور المعاد والامور التي تتعلق به، ومع ملاحظة أنّ الآيات آنفة الذكر تتحدث عن كيفية القاء الكفار المعاندين في نار جهنم وما يلاقونه من عذاب شديد وبيان صفاتهم التي جرّتهم وساقتهم إلى نار جهنم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 551

ففي هذه الآيات محل البحث تصوير لمشهد آخر، وهو دخول المتقين الجنة بمنتهى التكريم والتجلّة وإشارة إلى أنواع النعم في الجنة، كما أنّ هذه الآيات تبيّن صفات أهل الجنة لتتّضح الحقائق أكثر بهذه المقارنة ما بين أهل النار وأهل الجنة.

فتبدأ الآيات بالقول: «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ».

«ازلفت»: من مادة «زُلفى»- على زنة كبرى- ومعناها القرب، أي قُرّبت.

ثم تبيّن الآيات أوصاف أهل الجنة فتقول: «هذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ».

«أوّاب»: من مادة «أوب»- على زنة ذوب- ومعناها العودة؛ ومع ملاحظة أنّ هذه الصيغة هي للمبالغة فإنّها تدلّ على أنّ أهل الجنة رجال متقون بحيث إنّ أي عامل أو مؤثّر أراد أن يبعدهم عن طاعة اللَّه فهم يلتفتون ويتذكّرون فيرجعون إلى طاعته فوراً، ويتوبون عن معاصيهم وغفلاتهم ليبلغوا مقام «النفس المطمئنة».

«الحفيظ»: معناه الحافظ، والمراد منه هو الحافظ لعهد اللَّه

إذ أخذه من بني آدم ألّا يعبدوا الشيطان كما ورد في الآية (60) من سورة يس؛ والحافظ لحدود اللَّه وقوانينه والحافظ لذنوبه والمتذكّر لها مما يستلزم التوبة والجبران.

وإستدامةً لبيان هذه الأوصاف فإنّ الآية التالية تشير إلى وصفين آخرين منها، وهما بمثابة التوضيح لما سبق ذكره، إذ تقول الآية: «مَّنْ خَشِىَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ». أي: أنّهم لا يرتكبون الإثم لا بمرأى من الناس ولا في خلوتهم وإبتعادهم عنهم.

وهذا الخوف «أو الخشية» يكون سبباً للإنابة، فيكون قلبهم متوجّهاً إلى اللَّه ويقبل على طاعته دائماً ويتوب من كل ذنب، وأن يواصلوا هذه الحالة حتى نهاية العمر ويردوا عرصات المحشر على هذه الكيفية.

ثم تضيف الآية الاخرى بأنّ اولئك الذين يتمتعون بالصفات الأربع هذه حين تتلقّاهم الملائكة عند أبواب الجنة يقولون لهم بنهاية التجلّة والإكرام: «ادْخُلُوهَا بِسَلمٍ».

«السلام» من كل أنواع الأذى والسوء والعذاب والمعاقبة، السلامة الكاملة في لباس الصحّة والعافية.

ولطمأنتهم يُضاف أنّ ذلك اليوم يوم الدعّة و «ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ».

وإضافةً لهاتين البشارتين بشرى الدخول بسلام، وبشرى الخلود في الجنة، يبشّرهم اللَّه بشريين اخريين بحيث تكون مجموع البشريات أربعاً كما أنّهم يتصفون بأربع صفات يقول:

«لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 552

وإضافةً إلى كل ذلك فإنّه: «لَدَيْنَا مَزِيدٌ» من النعم التي لم تخطر ببال أحد.

وبعد الانتهاء من بيان الحديث حول أهل الجنة وأهل النار ودرجاتهما، فإنّ القرآن يلفت أنظار المجرمين للعبرة والاستنتاج فيقول: «وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِى الْبِلدِ». فكانت تلك الأقوام أقوى من هؤلاء وكانوا يفتحون البلدان ويتسلّطون عليها، إلّاأنّهم وبسبب كفرهم وظلمهم أهلكناهم ... فهل وجدوا منفذاً ومخرجاً للخلاص من الموت والعذاب الإلهي: «هَلْ مِن مَّحِيصٍ».

«القرن» و «الإقتران»: في الأصل هو

«القرب» أو «الإقتراب» ما بين الشيئين أو الأشياء، ويطلق لفظ «القرن» على الجماعة المتزامنة في فترة واحدة، ويجمع على «قرون»، فإهلاك القرون معناه إهلاك الامم السابقة.

و «البطش» معناه حمل الشي ء وأخذه بالقوّة والقدرة، كما يستعمل هذا اللفظ بمعنى الفتك والحرب.

و «المحيص»: معناها الانحراف والعدول عن الشي ء، ومن هنا فقد استعملت هذه الكلمة في الفرار من المشاكل والهزيمة عن المعركة.

فإنّ الآية تنذر الكفار المعاصرين للنبي صلى الله عليه و آله أن يستقرئوا تاريخ الماضين وأن ينظروا في قصصهم للاعتبار، ليروا ما صنع بهؤلاء المعاندين الذين كانوا امماً وأقواماً أشد من هؤلاء «وليفكّروا بعاقبتهم أيضاً».

ويضيف القرآن في آخر آية من الآيات محل البحث مؤكّداً أكثر فيقول: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ».

والمراد ب «القلب» هنا وفي الآيات الاخر من القرآن التي تتكلم على إدراك المسائل هو العقل والشعور والإدراك.

أمّا «أَلْقَى السَّمْعَ» فكناية عن الإصغاء ومنتهى الإستماع بدقة.

و «الشهيد»: يطلق على من هو حاضر القلب.

وهكذا فإنّ مضمون الآية بمجموعه يعني ما يلي: إنّ هناك فريقين ينتفعان بهذه المواعظ والنصيحة ... فالفريق الأوّل من يتمتع بالذكاء والعقل ... ويستطيع بنفسه أن يحلّل المسائل بفكره.

أمّا الفريق الآخر فليس بهذا المستوى، إلّاأنّه يمكن أن يلقي السمع للعلماء ويصغي لكلماتهم بحضور القلب ويعرف الحقائق عن طريق الإرشاد.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 553

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ مَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ أَدْبَارَ السُّجُودِ (40) خالق السماوات والأرض قادر على إحياء الموتى: تعقيباً على ما ورد في الآيات آنفة

الذكر ودلائلها المتعددة في شأن المعاد، تشير الآيات محل البحث إلى دليل آخر من دلائل إمكان المعاد ... ثم تأمر النبي بالصبر والاستقامة والتسبيح بحمد اللَّه ليبطل دسائس المتآمرين وما يحيكونه ضدّه، فتقول الآية الاولى من هذه الآيات: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ».

«اللغوب»: بمعنى «التعب» وبديهي أنّ من كان قادراً على إيجاد السماوات والأرض وخلق الكواكب والمجرّات وأفلاكها جميعاً، قادر على إعادة الإنسان بعد موته وأن يُلبسه ثوباً جديداً من الحياة.

وبعد ذكر دلائل المعاد المختلفة وتصوير مشاهد المعاد ويوم القيامة المتعددة فإنّ القرآن يخاطب النبي ويأمره بالصبر- لأنّ هناك طائفة لا تذعن للحق وتصرّ على الباطل فيقول:

«فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ». إذ بالصبر والإستقامة- وحدهما- يستطاع التغلّب على مثل هذه المشاكل.

وبما أنّ الصبر والإستقامة يحتاجان إلى دعامة ومعتمد، فخير دعامة لهما ذكر اللَّه والإرتباط بالمبدأ- مبدأ العلم القادر على إيجاد العالم- لذلك فإنّ القرآن يضيف تعقيباً على الأمر بالصبر قائلًا: «وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ».

وكذلك: «وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ».

و «التسبيح» في الأوقات الأربعة إشارة إلى الصلوات الخمس اليومية وبعضاً من النوافل الفضلى على الترتيب والنحو التالي:

ف «قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ» إشارة إلى صلاة الصبح، لأنّ في آخر وقتها تطلع الشمس فينبغي أداؤها قبل طلوع الشمس.

وقبل الغروب إشارة إلى صلاتي الظهر والعصر لأنّ الشمس تغرب آخر وقتيهما.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 554

أمّا قوله: «وَمِنَ الَّيْلِ» فيشير إلى صلاتي المغرب والعشاء وقوله: «وَأَدْبَارَ السُّجُودِ» ناظر إلى النوافل بعد صلاة المغرب.

وَ اسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ إِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ

عَنْهُمْ سِرَاعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَ مَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45) يخرج الجميع أحياءً عند صيحة القيامة: هذه الآيات محل البحث التي تختتم بها سورة «ق» كسائر آياتها تتحدث على المعاد والقيامة كما أنّها تعرض جانباً منهما أيضاً وهو موضوع النفخة في الصور، وخروج الأموات من القبور في يوم النشور ... فتقول: «وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ».

والمخاطب بالفعل «استمع» هو النبي صلى الله عليه و آله نفسه إلّاأنّه من المسلّم به أنّ المقصود جميع الناس.

والمراد من «استمع» إمّا هو الإنتظار والترقّب، لأنّ من ينتظر حادثة تبدأ بصوت مهول يُرى في حالة ترقّب دائماً، فهو منتظر لأن يسمع الصوت؛ أو هو الإصغاء إلى كلام اللَّه فيكون المعنى «استمع كلام اللَّه» إذ يقول: يوم يسمعون الصيحة الخ.

هذا المنادي هو «إسرافيل» الذي ينفخ في الصور ... وقد وردت الإشارة في آيات القرآن إليه لا بالإسم بل بتعبيرات خاصة.

عبارة «مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ» إشارة إلى أنّ هذه الصيحة ينتشر صداها في الفضاء بدرجة أنّها كما لو كانت في اذن كل أحد.

ولكي يعرف من الحاكم في هذه المحكمة الكبرى، فإنّ القرآن يضيف قائلًا: «إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ».

ثم يضيف القرآن فيخبر عن ميقات النشور فيقول: «يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا».

أي: يخرجون مسرعين من القبور. ويضيف مختتماً: «ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ».

و «الحشر»: معناه الجمع من كل جهة ومكان.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 555

أمّا آخر آية من الآيات محل البحث وهي آخر آية من سورة «ق» ذاتها فهي تخاطب النبي وتسرّي عنه وتسلّي قلبه لما يلاقيه من المعاندين والكفرة فتقول: «نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا

يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ».

فمسؤوليتك البلاغ والدعوة نحو الحق والبشارة والنذارة: «فَذَكّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ».

وذلك إشارة إلى أنّ القرآن كافٍ للإنذار وإيقاظ المؤمنين، فكل صفحة منه تذكر بيوم القيامة وآياته المختلفة التي تتحدث عن قصص الماضين وعاقبتهم وتصف أهل النار وأهل الجنة وما يقع عند قيام الساعة في محكمة عدل اللَّه هي خير موعظة ونصيحة لجميع الناس.

«نهاية تفسير سورة ق»

مختصر الامثل، ج 4، ص: 557

51. سورة الذاريات

محتوى السورة: يدور محور هذه السورة حول المسائل المتعلقة بالمعاد ويوم القيامة والثواب والعقاب لكل من المؤمنين والكافرين.

إنّ مباحث هذه السورة تدور حول خمسة محاور وهي:

1- إنّ القسم المهم منها يتكلم عن المعاد وبداية السورة ونهايتها أيضاً هما حول المعاد.

2- القسم الآخر ناظر إلى مسألة توحيد اللَّه وآياته في نظام الخلق والوجود، وهي تكمل مبحث المعاد طبعاً.

3- وفي قسم آخر يقع الكلام على ضيف إبراهيم من الملائكة وما امروا به من تدمير مدن قوم لوط.

4- والآيات الاخر من هذه السورة فيها إشارات إلى قصّة موسى عليه السلام وبعض الامم كعاد وثمود وقوم نوح.

5- وقسماً من هذه السورة يتحدث عن مواجهة الامم المعاندين لأنبيائهم وتأمر النبي صلى الله عليه و آله بالصبر والاستقامة بوجه المشاكل والشدائد وتسرّي عنه وتسلّي قلبه.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصّادق عليه السلام قال: «من قرأ سورة الذاريات في يومه أو ليلته أصلح اللَّه له معيشته، وأتاه برزق واسع ونور له في قبره بسراج يزهر إلى يوم القيامة».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 558

والهدف هو التلاوة بتفكر ... التفكر الباعث على العمل.

وقد اشتق اسم هذه السورة، أي (الذاريات) من الآية الاولى فيها.

وَ الذَّارِيَاتِ ذَرْواً (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً (4) إِنَّمَا

تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَ إِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) قسماً بالأعاصير والسُحُب الذاريات: هذه السورة هي الثانية بعد سورة «الصافات» التي تبدأ بالقَسم المتكرر، القسم العميق والباعث على التفكر.

والطريف في الأمر أنّ هذا القَسم يرتبط محتواه بمحتوى يوم القيامة والنشور.

والحقيقة أنّ كل قسم في القرآن هو بنفسه- وإن كثرت الأقسام- أو الأيمان- وجه من وجوه إعجاز القرآن هذا الكتاب السماوي، وهو من أجمل جوانبه وأبهاها وسيأتي تفصيل كل ذلك في موقعه.

وفي مستهلّ السورة يقسم اللَّه سبحانه بخمسة أشياء مختلفة، فيقول اللَّه في البداية:

«وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا» «1». أي قسماً بالرياح التي تحمل السحب في السماء وتذرو البذور على الأرض في كل مكان ...

ثم يضيف: «فَالْحَامِلتِ وِقْرًا». قسماً بالسحب التي تحمل أمطاراً ثقيلة معها ..

«فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا». و «الجاريات»: هنا هي السفن. أي: قسماً بالسفن التي تجري في الأنهار العظيمة والبحار الشاسعة بيسر وسهولة ..

«فَالْمُقَسّمَاتِ أَمْرًا». و «المقسّمات»: هنا معناها الملائكة الذين يقسّمون الامور.

فهناك تفسير آخر يمكن ضمّها إلى هذا التفسير، وهو أنّ المراد ب «الجاريات» هي الأنهار التي تجري بماء المزن؛ و «المقسّمات أمراً» هي الأرزاق التي تقسّم بواسطة الملائكة عن طريق الزراعة.

وعلى هذا فإنّ الكلام عن الرياح ثم الغيوم وبعدها الأنهار وأخيراً نمو النباتات في الأرض يتناسب تناسباً قريباً مع مسألة المعاد، لأنّنا نعرف أنّ واحداً من أدلة إمكان المعاد هو إحياء الأرض الميتة بنزول الغيث وقد ذكر ذلك عدة مرات في القرآن بأساليب مختلفة.

______________________________

(1) «الذّاريات»: جمع «الذّارية»، ومعناها الريح التي تحمل معها الأشياء وتنشرها في الفضاء.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 559

وبعد ذكر هذه الأقسام الأربعة التي تبيّن أهمية الموضوع الذي يليها، يقول القرآن: «إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ».

ومرّة اخرى لمزيد التأكيد يضيف قائلًا: «وَإِنَّ الدّينَ لَوَاقِعٌ». «الدين»: هنا معناه الجزاء

كما جاء بهذا المعنى في قوله تعالى: «مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ». أي يوم الجزاء.

وأساساً فإنّ واحداً من أسماء يوم القيامة هو «يوم الدين» و «يوم الجزاء». ويتضح من ذلك أنّ المراد من الوعود الواقعة «هنا» هي ما يوعدون عن يوم القيامة وما يتعلق بها من حساب وثواب وعقاب وجنة ونار وسائر الامور المتعلقة بالمعاد، فعلى هذا تكون الجملة الاولى شاملة لجميع الوعود، والجملة الثانية تأكيد آخر على مسألة الجزاء.

وَ السَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) والسماء ذات الحُبك: تبدأ هذه الآيات كالآيات المتقدمة بالقسم وتتحدث عن إختلاف الكفار وجدلهم حول يوم الجزاء والقيامة. فتقول الآيات في البداية: قسماً بالسماء ذات الخطوط والتعرّجات الجميلة: «وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ».

«الحبك»: جمع «حباك» وفي اللغة معان كثيرة لها، وجميع هذه المعاني تعود إلى معنى واحد وهي التجاعيد والتعاريج الجميلة التي تظهر على صفحات الرمل في الصحراء أو صفحات الماء أو التجاعيد في الشعر أو السُحب في السماء.

وتطبيق هذا المعنى على السماء ووصفها بها «وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ» هو إمّا لنجومها ذات المجاميع المختلفة وصورها الفلكية.

وإمّا للأمواج الجميلة التي ترتسم في السحب أو لمجرّاتها العظيمة. فعلى هذا يكون معنى «وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ» أنّ القرآن يقسم بالسماء ومجراتها العظيمة.

أمّا الآية التالية فهي جواب للقسم وبيان لما وقع عليه القسم، إذ تقول مؤكّدة: «إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ». فدائماً أنتم تتناقضون في الكلام؛ ففي مسألة المعاد تقولون أحياناً: لا نصدّق أبداً أن نعود أحياء بعد أن تصير عظامنا رميماً.

وتارةً تقولون

نحن نشك في هذه القضية ونتردد.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 560

وتارةً تضيفون أن هاتوا آباءنا وأسلافنا من قبورهم ليشهدوا أنّ بعد الموت قيامةً ونشوراً لنقبل بما تقولون.

وتقولون في شأن النبي محمّد صلى الله عليه و آله تارةً بأنّه شاعر، أو بأنّه ساحر، وتارةً تقولون أنّه لمجنون، وتارةً تقولون إنّما يعلمه بشر فهو معلّم.

كما تقولون في شأن القرآن بأنّه: أساطير الأوّلين تارةً، أو تقولون بأنّه شعر، وتارةً تسمّونه سحراً، وحيناً آخر تقولون أنّه كذب إفتراه وأعانه عليه قوم آخرون ... الخ.

فقسماً بحُبك السماء وتجاعيدها إنّ كلامكم مختلف وملي ء بالتناقض، وكأنّ هذا التناقض في كلامكم دليل على أنّه لا أساس لكلامكم أبداً.

وهذا التعبير إنّما هو استدلال على بطلان إدّعاء المخالفين في شأن التوحيد والمعاد والنبي والقرآن «وإن كان إعتماد هذه الآيات في الأساس على مسألة المعاد كما تدل عليه القرينة في الآيات التالية».

وفي الآية التالية يبيّن القرآن علة الانحراف عن الحق فيقول: «يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ». أي:

يؤفك عن الإيمان بالقيامة والبعث كل مخالف للحق، وإلّا فإنّ دلائل الحياة بعد الموت واضحة وجليّة.

«الإفك»: في الأصل يطلق على صرف الشي ء.

ومع ملاحظة أنّ الكلام كان في الآيات المتقدمة على المعاد والقيامة، فمن المعلوم أنّ المراد الأصلي من الإنحراف والإفك هنا هو الانحراف عن هذه العقيدة ... كما أنّه حيث كان الكلام في الآية المتقدمة عن اختلاف كلام الكفار وتناقضهم فيعلم أنّ المراد هنا من الآية هم اولئك المنحرفون عن الإيمان بالمعاد الذين انحرفوا عن مسير الدليل العقلي والمنطق السليم الباحث عن الحق.

وفي الآية التالية ذمّ شديد للكاذبين وتهديد لتخرصاتهم، إذ تقول: «قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ».

«الخراص»: من مادة «خَرْص» ومعناه في الأصل كل كلام يقال تخميناً أو ظنّاً، وحيث إنّ مثل هذا الكلام غالباً

ما يكون كذباً فقد استعملت هذه الكلمة في الكذب أيضاً.

إنّ القضاء بلا دليل ولا مدرك أو مستند بيّن بل على الظن والحدس هو عمل يسوق إلى الضلال ويستحق اللعن والعذاب.

ثم يعرّف القرآن هؤلاء الخراصين الكذبة فيقول: «الَّذِينَ هُمْ فِى غَمْرَةٍ سَاهُونَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 561

«الغمرة»: في الأصل معناها الماء الغزير الذي يغطّي محلًا ما ... ثم استعملت على الجهل السحيق الذي يغطّي عقل الشخص.

و «ساهون»: جمع ل «ساهٍ» وهي مشتقة من «السهو» والمراد بها هنا الغفلة.

فعلى هذا يكون المراد من كلمة «الخرّاصون» هم الغارقون في جهلهم وكل يوم يتذرّعون بحجة واهية فراراً من الحق.

ولذلك فهم دائماً: «يَسَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدّينِ».

جملة «يسألون» والفعل للمضارع يدل على أنّهم يثيرون هذا السؤال أيّان يوم الدين؟! باستمرار ... على أنّه ينبغي أن يكون يوم القيامة وموعده مخفياً، ليكون محتمل الوقوع في أيّ زمان، ويحصل منه الأثر التربوي للإيمان بيوم القيامة الذي هو بناء الشخصية والاستعداد الدائم.

إلّا أنّه ومع هذه الحال فإنّ القرآن يردّ عليهم مجيباً بلغة شديدة ويعنّفهم: «يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ».

وعندئذ يقال لهم هنالك: «ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِى كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ». إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَ بِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ (19) ثواب المستغفرين بالأسحار: تعقيباً على الكلام المذكور في الآيات آنفة الذكر الذي كان يدور حول الكذبة والجهلة ومنكري القيامة وعذابهم، في الآيات محل البحث يقع الكلام عن المؤمنين المتقين وأوصافهم وثوابهم لتتجلّى بمقارنة الفريقين- كما هو عليه اسلوب القرآن- الحقائق أكثر فأكثر. تقول الآيات هنا: «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ

وَعُيُونٍ».

وصحيح أنّ البستان بطبيعته يكون ذا سواق وروافد، لكن ما ألطف أن تتدفّق مياه العيون في داخل البستان نفسه وتسقي أشجاره ... فهذا هو ما تمتاز به بساتين الجنة ... فهي ليست ذات عين واحدة بل فيها عيون ماء متعددة تجري متدفّقه هناك.

ثم يضيف القرآن مشيراً إلى نعم الجنّات الاخر فيتحدث عنها بتعبير مغلق فيقول:

مختصر الامثل، ج 4، ص: 562

«ءَاخِذِينَ مَا ءَاتَاهُمْ رَبُّهُمْ». أي أنّهم يتلقّون هذه المواهب الإلهية بمنتهى الرضا والرغبة والشوق ... ويعقّب القرآن في ختام الآية بأنّ هذه المواهب وهذا الثواب كل ذلك ليس إعتباطاً بل «إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ». و «الإحسان»: هنا يحمل معنى وسيعاً بحيث يشمل طاعة اللَّه والأعمال الصالحة الاخر أيضاً. والآيات التالية تبيّن كيفية إحسانهم، فتعرض ثلاثة أوصاف من أوصافهم فتقول: أوّلًا:

«كَانُوا قَلِيلًا مّنَ الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ».

«يهجعون»: مشتقة من الهجوع، ومعناه النوم ليلًا. فعلى هذا فهم كل ليلة يحيّون قسماً منها بالعبادة وصلاة الليل، أمّا الليالي التي يرقدون فيها حتى مطلع الفجر ... وتفوت عليهم العبادة فيها كليّاً ... فهي قليلة جدّاً.

والوصف الثاني من أوصافهم يذكره القرآن بهذا البيان: «وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ».

فحيث إنّ عيون الغافلين هاجعة آخر الليل والمحيط هادى ء تماماً، فلا شي ء يشغل فكر الإنسان ويقلق باله ... يصلّون ويستغفرون عن ذنوبهم خاصة.

ثم يذكر القرآن الوصف الثالث لأهل الجنة المتقين فيقول: «وَفِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لّلْسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ».

كلمة «حق» هنا هو إمّا لأنّ اللَّه أوجب ذلك عليهم: كالزكاة والخمس وسائر الحقوق الشرعية الواجبة؛ أو لأنّهم التزموه وعاهدوا أنفسهم على ذلك.

ويمكن أن يقال إنّ الفرق بين المحسنين وغيرهم هو أنّ المحسنين يؤدّون هذه الحقوق، في حين أنّ غيرهم ليسوا مقيدين بذلك.

وما وصلنا من روايات عن أهل البيت عليهم السلام يؤكّد

أيضاً أنّ المراد من «حق معلوم» شي ء غير الزكاة الواجبة.

وفي الفرق بين «السائل» و «المحروم»، فقال بعضهم «السائل» هو من يطلب العون من الناس، أمّا «المحروم» فمن يحافظ على ماء وجهه ويبذل قصارى جهده ليعيش دون أن يمدّ يده إلى أحد، أو يطلب العون من أحد، بل يصبّر نفسه.

فهذا التعبير يشير إلى هذه الحقيقة وهي لا تنتظروا أن يأتيكم المحتاجون ويمدّوا أيديهم إليكم، بل عليكم أن تبحثوا عنهم وتجدوا الأفراد المحرومين الذين يعبّر عنهم القرآن بأنّهم

مختصر الامثل، ج 4، ص: 563

«يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ» «1» ... لتساعدوهم وتحفظوا ماء وجوههم.

وَ فِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَ فِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَ مَا تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) آيات اللَّه وآثاره في أنفسكم: تعقيباً على الآيات المتقدمة التي كانت تتحدث عن مسألة المعاد وصفات أهل النار وأهل الجنة، تأتي هذه الآيات- محل البحث- لتتحدث عن آيات اللَّه ودلائله في الأرض وفي وجود الإنسان نفسه ليطّلع على مسألة التوحيد ومعرفة اللَّه وصفاته التي هي مبدأ الحركة نحو الخيرات كلها من جهة، وعلى قدرته على مسألة المعاد والحياة بعد الموت من جهة اخرى، لأنّ خالق الحياة على هذه الأرض وما فيها من عجائب قادر على تجديد الحياة بعد الموت كذلك. تقول هذه الآية أوّلًا: «وَفِى الْأَرْضِ ءَايَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ».

والحق أنّ دلائل اللَّه وقدرته غير المتناهية وعلمه وحكمته التي لا حد لها في هذه الأرض كثيرة ووفيرة إلى درجة أنّ عمر أي إنسان مهما كان لا يكفي لمعرفتها جميعاً.

ولا بأس أن ننقل هنا جانباً من كلمات بعض العلماء المعروفين في العالم الذين لهم دراسات

كثيرة في هذا الصدد: إنّه «كرسي موريسين» فلنصغ إليه قائلًا: «لقد روعي منتهى الدقة في تنظيم العوامل الطبيعية فلو تضخّمت القشرة الخارجية للكرة الأرضية أكثر ممّا كانت عليه عشر مرّات لأنعدم الأوكسجين الذي هو المادّة الأصلية للحياة، ولو أنّ أعماق البحار كانت أكثر عمقاً ممّا هي عليه قليلًا أو كثيراً، لأنجذب جميع الأوكسجين والكربون من سطح الأرض ولم يعد أي إمكان لحياة النبات أو الحيوان على سطح الأرض».

ويقول في مكان آخر: «أنّ نسبة الأوكسجين في الهواء هي إحدى وعشرين بالمائة فحسب، فلو كانت هذه النسبة خمسين بالمائة لأحترق به كل ما من شأنه الاشتعال في هذا العالم ... ولو وصلت شظية صغرى من النار إلى شجرة في غابة لأحترقت الغابة جمعاء» «2».

______________________________

(1) سورة البقرة/ 273.

(2) أسرار خلق الإنسان، كرسي موريسين/ 33- 36.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 564

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلًا: «وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ». أي أفلا تبصرون هذه الآيات في أنفسكم أيضاً. ولا شك أنّ الإنسان أعجوبة عالم الوجود وما هو في العالم الأكبر موجود في عالم الإنسان الأصغر أيضاً، بل في الإنسان عجائب لا توجد في أي مكان من العالم.

إنّ الأجهزة الموجودة في بدن الإنسان كالقلب والكلية والرئة وخاصة عشرات آلاف الكيلومترات من الأعصاب الرقيقة أو الكبيرة والأعصاب الدقيقة التي لا ترى بالعين المجرّدة وجميعها مسؤولة عن إيصال الغذاء والماء والتهوية إلى عشرة مليون مليارد خلية، والحواس المختلفة كالسمع والبصر والحواس الاخر كل منها آية عظمى من آيات اللَّه.

وأهمّ من كل ذلك لغز الحياة التي لم تعرف أسرارها وبناء الروح أو العقل الإنساني الذي يعجز عن إدراكه عقول جميع الناس.

وقد ورد في حديث عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «من

عرف نفسه فقد عرف ربّه» «1».

وفي الآية الثالثة من الآيات- محل البحث- إشارة إلى القسم الثالث من دلائل عظمة الخالق وقدرته على المعاد، إذ تقول: «وَفِى السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ».

إنّ سعة مفهوم الرزق تشمل حبّات المطر وغيرها كنور الشمس الذي يأتي من السماء وله أثره الفاعل في الحياة، والهواء الذي هو أساس حياة الموجودات.

إنّ ما يمنع البصيرة ويصدّها عن مطالعة أسرار الخلق هو «الحرص على الرزق»، فاللَّه سبحانه يطمئن الإنسان في الآية الأخيرة بأنّ رزقه مضمون، ليستطيع أن ينظر إلى عجائب العالم ويتحقق فيه قوله: «أَفَلَا تُبْصِرُونَ».

وجملة «وَمَا تُوعَدُونَ» فيمكن أن تكون تأكيداً على مسألة الرزق ووعد اللَّه في هذا المجال، أو أنّ المراد منها عذاب ينزل من السماء.

فهذه الآيات الثلاث فيها ترتيب لطيف، فالآية الاولى تتحدث عن أسباب وجود الإنسان وحياته، والآية الثانية تتحدث عن الإنسان نفسه، والآية الثالثة تتحدث عن أسباب بقائه ودوامه.

لذلك فإنّ الآية الأخيرة من الآيات محل البحث تُقسم فتقول: «فَوَرَبّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ».

وقد بلغ الأمر حدّاً أن يقسم اللَّه على ما لديه من عظمة وقدرة ليُطمئن عباده الشاكّين

______________________________

(1) بحار الأنوار 2/ 32.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 565

ضعاف الأنفس الحريصين إنّ ما توعدون في مجال الرزق والثواب والعقاب والقيامة جميعه حق ولا ريب في كل ذلك.

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَ لَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَ بَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَ قَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ

(30) ضيوف إبراهيم عليه السلام: من هذا المقطع- فما بعد- يتحدث القرآن في هذه السورة عن قصص الأنبياء الماضين والامم المتقدمة تأكيداً وتأييداً للموضوع آنف الذكر وما حواه من مسائل، وأوّل جانب يثيره هذا المقطع هو قصة الملائكة الذين جاءوا لعذاب قوم لوط، ومرّوا على إبراهيم عليه السلام على صورة بشر، ليبشّروه بالولد، مع أنّ إبراهيم بلغ سنّاً كبيراً فهو في مرحلة المشيب وامرأته كانت عقيماً كذلك.

فمن جهة ... يعدّ إعطاء هذا الولد لإبراهيم وزوجه وهما في مرحلة الكبر واليأس من الإنجاب تأكيداً على كون الأرزاق مقدّرة كما اشير إلى ذلك في الآيات المتقدمة.

ومن جهة اخرى يُعدّ دليلًا آخر على قدرة الحق وآية من آيات معرفة اللَّه التي ورد البحث عنها في الآيات آنفاً.

ومن جهة ثالثة يُعدّ بُشرى للُامم المؤمنة بأنّها في رعاية الحق، كما أنّ الآيات التالية تتحدث عن عذاب قوم لوط وهي في الوقت ذاته تهديد للمجرمين.

ففي البدء يوجّه اللَّه سبحانه الخطاب لنبيّه فيقول: «هَلْ أَتَيكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرهِيمَ الْمُكْرَمِينَ».

والتعبير ب «المكرمين» إمّا لأنّ هؤلاء الملائكة كانوا مأمورين من قبل الحق، أو لأنّ إبراهيم عليه السلام أكرمهم، أو للوجهين معاً.

ثم يبيّن القرآن حالهم فيقول: «إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلمًا قَالَ سَلمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ».

فإنّ إبراهيم أدّى ما عليه من حق الضيافة: «فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 566

«راغ»: مشتق من «روغ»- على وزن شوق- ومعناه التحرّك مقروناً بخطّة خفية.

و «العجل»: على وزن «طفل» معناه ولد البقر وفي الأصل مأخوذة من العجلة، لأنّ هذا الحيوان في هذه السن وفي هذه المرحلة يتحرك حركة عجلى، وحين يكبر تزول عنه هذه الصفة تماماً؛ و «السمين»: معناه المكتنز لحمه، وإنتخاب مثل هذا العجل إنّما هو

لإكرام الضيف وليسع المتعلقين والأكلة الآخرين.

ثم تضيف الآية بالقول عن إبراهيم وضيفه: «فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ». إلّاأنّه لاحظ أنّ أيديهم لا تصل إلى الطعام فتعجب و «قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ».

وكان إبراهيم يتصور أنّهم من الآدميين «فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً» لأنّه كان معروفاً في ذلك العصر وفي زماننا أيضاً بين كثير من الناس الملتزمين بالتقاليد العرفية، أنّه متى ما أكل شخص من طعام صاحبه فلن يناله أذى منه ولا يخونه ولذلك فإنّ الضيف إذا لم يأكل من طعام صاحبه، يثير الظن السي ء بأنّه جاء لأمر محذور.

وهنا قال له الضيف كما ورد في الآية (70) من سورة هود طمأنةً له ف «قَالُوا لَاتَخَفْ».

ويضيف القرآن: «وَبَشَّرُوهُ بِغُلمٍ عَلِيمٍ».

وبديهي أنّ الغلام عند ولادته لا يكون عليماً، إلّاأنّه من الممكن أن يكون له إستعداد بحيث يكون في المستقبل عالماً كبيراً ... والمراد به هنا هو ذلك المعنى.

والمشهور بين المفسرين أنّ هذا الغلام هو إسحاق.

«فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ». ونقرأ في الآية (72) من سورة هود قوله تعالى: «قَالَت يَا وَيْلَتَى ءَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذَا بَعْلِى شَيْخًا».

«صرّة»: مشتقة من الصرّ على وزن الشرّ، ومعناه في الأصل الشدّ والإرتباط. وفي الآية محل البحث معناها هو الصوت العالي الشديد.

و «صكّت»: معناها الضرب الشديد أو الضرب، والمراد منها هنا هو أنّ امرأة إبراهيم حين سمعت بالبشرى ضربت بيدها على وجهها- كعادة سائر النساء- تعجباً وحياءً.

وطبقاً لما يقول بعض المفسرين وما ورد في سفر التكوين فإنّ امرأة إبراهيم كانت آنئذ في سن التسعين وإبراهيم نفسه كان في سن المئة عاماً ... أو أكثر. إلّاأنّ الآية التالية تنقل جواب الملائكة لها فتقول: «قَالُوا كَذلِكِ قَالَ رَبُّكَ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ».

والتعبير ب «الحكيم» و «العليم» إشارة إلى

أنّه لا يحتاج إلى الإخبار بكونك امرأة عقيماً عجوزاً وبعلك شيخاً، فاللَّه يعرف كل هذه الامور.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 567

قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَ تَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) مُدن قوم لوط المدمّرة آية وعبرة: تعقيباً على ما سبق من الحديث عن الملائكة الذين حلّوا ضيفاً على إبراهيم وبشارتهم إيّاه في شأن الولد «إسحاق» تتحدث هذه الآيات عمّا دار بينهم وبين إبراهيم في شأن قوم لوط.

توضيح ذلك: إنّ إبراهيم بعد ما ابعد إلى الشام ... واصل دعوة الناس إلى اللَّه ومواجهته لكل أنواع الشرك وعبادة الأصنام ... وقد عاصر إبراهيم الخليل «لوط» أحد الأنبياء العظام ويُحتمل أنّه كان مأموراً من قبله بتبليغ الناس وهداية الضالين، فسافر إلى بعض مناطق الشام «أي مدن سدوم» فحلّ في قوم مجرمين ملوّثين بالشرك والمعاصي الكثيرة، وكان أقبحها تورّطهم في الإنحراف الجنسي واللواط، وأخيراً فقد أمر رهط من الملائكة بعذابهم وهلاكهم إلّاأنّهم مرّوا بإبراهيم قبل إهلاكهم.

وقد عرف إبراهيم من حال الضيف (الملائكة) أنّهم ماضون لأمر مهم، ولم يكن هدفهم الوحيد البشرى بتولد إسحاق، لأنّ واحداً منهم كان كافياً لمهمة «البشارة»، أو لأنّهم كانوا عَجِلين فأحسّ بأنّ لديهم «مأمورية» مهمّة. لذلك فإنّ أوّل آية من الآيات محل البحث تحكي بداية المحاورة فتقول: «قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ».

فأماط الملائكة اللثام عن «وجه الحقيقة» ومأموريتهم ف «قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ».

ثم أضافوا قائلين: «لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن طِينٍ».

والتعبير ب «حجارة من طين» هو ما

أشارت إليه الآية (82) من سورة هود بالقول من «سجّيل»؛ ولعلها في المجموع إشارة إلى هذا المعنى وهو أنّ هلاك قوم لوط المجرمين لم يكن يستلزم إنزال أحجار عظيمة وصخور وجلاميد من السماء، بل كان يكفي أن يمطروا بأحجار صغيرة ليست صلبة جدّاً كأنّها حبّات «المطر».

ثم أضاف الملائكة قائلين: «مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ لِلْمُسْرِفِينَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 568

والقرآن هنا يكشف عما جرى لرسل اللَّه إلى نبيّه لوط فيقول: «فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ الْمُسْلِمِينَ».

أجل عدالتنا لا تسمح أن يبتلى المؤمن بعاقبة الكافر.

وهذا هو ما أشارت إليه الآيتان (59 و 60) من سورة الحجر بالقول: «إِلَّا ءَالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ».

إنّ هذا القسم من قصة قوم لوط ورد في هذه السور الخمس في عبارات مختلفة وجميعها يتحدث عن حقيقة واحدة ... إلّاأنّه حيث يمكن أن ينظر إلى حادثة ما من زوايا متعددة وكل زاوية لها بعدها الخاصّ ... فإنّ القرآن ينقل الحوادث التاريخية- على هذه الشاكلة- غالباً.

وفي مقام التربية يلزم أحياناً أن يعول على مسألة مهمّة مراراً لتترك أثرها العميق في ذهن القارى ء.

فإنّ اللَّه سبحانه زلزل مدن قوم لوط وقلب عاليها سافلها ثم أمطرها بحجارة من سجّيل منضود ولم يبق منها أثراً ... حتى أنّ أجسادهم دفنت تحت الأنقاض والحجارة لتكون عبرةً لمن يأتي بعدهم من المجرمين والظالمين غير المؤمنين.

ولذلك فإنّ القرآن يضيف قائلًا في آخر آية من الآيات محل البحث: «وَتَرَكْنَا فِيهَا ءَايَةً لّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ».

وهذا التعبير يدلّ بوضوح أنّ من يعتبر ويتّعظ بهذه الآيات هم الذين لديهم إستعداد للقبول في داخل كيانهم ويحسّون بالمسؤولية.

وَ فِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ

مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَ قَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَ هُوَ مُلِيمٌ (40) وَ فِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْ ءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَ فِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَ مَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (46) دروس العبرة من الأقوام السالفة: يتحدث القرآن في هذه الآيات محل البحث- تعقيباً

مختصر الامثل، ج 4، ص: 569

على قصّة قوم لوط وعاقبتهم الوخيمة- عن قصص أقوام آخرين ممّن مضوا في العصور السابقة. فيقول أوّلًا: «وَفِى مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ».

«السلطان»: ما يكون به التسلط، والمراد به هنا المعجزة أو الدليل والمنطق العقلي القوي أو كلاهما، وقد واجه موسى فرعون بهما.

إنّ فرعون لم يسلّم لمعجزات موسى الكبرى التي كانت شاهداً على إرتباطه باللَّه ولم يطأطى ء رأسه للدلائل المنطقية ... بل بقي مصرّاً لما كان فيه من غرور وتكبّر: «فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ».

والطريف أنّ الجبابرة المتكبرين حين كانوا يتّهمون الأنبياء بالكذب والإفتراء كانوا يتناقضون تناقضاً عجيباً، فتارةً يتّهمونهم بأنّهم سحرة، واخرى بأنّهم مجانين، مع أنّ الساحر ينبغي أن يكون ذكيّاً وأن يعوّل على مسائل دقيقة ويعرف نفوس الناس حتى يسحرهم ويخدعهم بها ... والمجنون بخلافه تماماً.

إلّا إنّ القرآن يخبر عن فرعون الجبار وأعوانه بقوله: «فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمّ وَهُوَ مُلِيمٌ».

جملة «فنبذناهم» إشارة إلى أنّ فرعون وجنوده كانوا في درجة من الضعف أمام قدرة اللَّه بحيث ألقاهم في اليمّ كأنّهم موجود لا قيمة ولا مقدار له.

المراد

بالمليم ذو الملامة؛ أي هو الشخص الذي يرتكب عملًا يكون بنفسه ملامة.

والتعبير ب «وهو مليم» إشارة إلى أنّ العقاب الإلهي لم يَمحُه فحسب بل التاريخ من بعده يلومه على أعماله المخزية ويذكرها بكل ما يشينه ويلعنه ويفضح غروره وتكبره بإماطة النقاب عنهما.

ثم يتناول القرآن عاقبة قوم آخرين بالذكر وهم «قوم عاد»، فيقول: «وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرّيحَ الْعَقِيمَ».

ثم يذكر القرآن سرعة الريح المسلطة على عاد فيقول: «مَا تَذَرُ مِن شَىْ ءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ».

«الرميم»: مأخوذ من الرمّة وهي العظام النخرة البالية. وهذا التعبير يدل على أنّ سرعة الريح المسلطة على قوم عاد لم تكن سرعة طبيعية، بل إضافةً إلى تخريبها البيوت وهدمها المنازل، فهي محرقة وذات سموم مما جعلت كل شي ء رميماً.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 570

ثم تصل النوبة إلى ثمود قوم صالح إذ أمهلهم اللَّه قليلًا ليتلقوا العذاب بعد ذلك ... فيقول اللَّه فيهم: «وَفِى ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ».

والمراد ب «حَتَّى حِينٍ» هو الأيام الثلاثة المشار إليها في الآية (65) من سورة هود إمهالًا لهم: «فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِى دَارِكُمْ ثَلثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ».

أجل: «فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ».

«عتوا»: مشتقة من العتوّ- على وزن غلوّ- ومعناه الإعراض «بالوجه»، والإنصراف عن طاعة اللَّه، والظاهر أنّ هذه الجملة إشارة إلى ما كان منهم من إعراض طوال الفترة التي دعاهم فيها نبيّهم صالح كالشرك وعبادة الأوثان والظلم وعقرهم الناقة التي كانت معجزة نبيّهم، لا الإعراض الذي كان منهم خلال الأيام الثلاثة فحسب، وبدلًا من أن يتوبوا وينيبوا غرقوا في غرورهم وغفلتهم.

وأخيراً فإنّ آخر جملة تتحدث عن شأن هؤلاء القوم المعاندين. تقول: «فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ».

إنّ

قوم صالح (ثمود) الذين كانوا من القبائل العربية وكانوا يقطنون «الحجر» وهي منطقة تقع شمال الحجاز مع إمكانات مادية هائلة وثروات طائلة وعمّروا طويلًا في قصور مشيّدة ... اهلكوا بسبب إعراضهم عن أمر اللَّه وطغيانهم وعنادهم والشرك والظلم، وبقيت آثارهم درساً بليغاً من العبر للآخرين.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة إلى عاقبة خامس امّة من الامم، وهي قوم نوح، فتقول: «وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ». و «الفاسق» يُطلق على من يخرج على حدود اللَّه وأمره، ويكون ملوّثاً بالكفر أو الظلم أو سائر الذنوب.

وَ السَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَ الْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَ لَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) والسماء بنيناها بأيد وإنّا لموسعون: مرّة اخرى تتحدث هذه الآيات عن موضوع آيات عظمة اللَّه في عالم الخلق، وهي تتمة لما ورد في الآيتين (20 و 21) من هذه السورة في

مختصر الامثل، ج 4، ص: 571

شأن آياته في الأرض وفي نفس «الإنسان» ووجوده- وهي ضمناً دليل على قدرة اللَّه على المعاد والحياة، فتقول أوّلًا: «وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ».

«الأيد»: على وزن الصيد، معناه القدرة والقوة- وقد تكرّر هذا المعنى في آيات القرآن المجيد، وهو هنا بمعنى قدرة اللَّه المطلقة العظيمة في خلق السماوات.

ودلائل هذه القدرة العظيمة واضحة جلية في عظمة السماوات ونظامها الخاصّ الحاكم عليها أيضاً.

ومع الأخذ بنظر الإعتبار ما إكتشفه العلماء من اتّساع العالم هو أنّ اللَّه خلق السماوات ويوسعها دائماً.

والعلم الحديث (المعاصر) يقول ليست الكرة الأرضية وحدها

تتضخّم وتثقل على أثر جذب المواد السماوية تدريجاً، بل السماء أيضاً في اتّساع دائم، أي أنّ بعض النجوم المستقرة في المجرّات تبتعد عن مركز مجرّاتها بسرعة هائلة حتى أنّ هذه السرعة لها أثرها في الإتّساع في كثير من المواقع.

وبعد خلق السماء والأرض تصل النوبة إلى خلق الموجودات المختلفة في السماء والأرض وأنواع النباتات والحيوانات فتقول الآية التالية في هذا الشأن: «وَمِن كُلّ شَىْ ءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ».

جملة «وَمِن كُلّ شَىْ ءٍ» يشمل جميع الموجودات لا الموجودات الحية فحسب، فيمكنها أن تشير إلى هذه الحقيقة وهي أنّ جميع أشياء العالم مخلوقة من ذرات موجبة وسالبة، ومن المسلّم به هذا اليوم من الناحية العلمية أنّ الذرات مؤلفة من أجزاء مختلفة، منها ما يحمل طاقة سالبة تدعى بالألكترون، ومنها ما يحمل طاقة موجبة وتدعى بالبروتون.

ويضيف القرآن في الآية التالية مستنتجاً مما تقدم من الأبحاث التوحيدية قائلًا: «فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنّى لَكُم مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ».

والتعبير ب «الفرار» هنا يطلق في ما إذا واجه الإنسان موجوداً أو حادثاً مخيفاً فيُسرع من مكان المواجهة إلى ذلك المكان ويلتجى ء إلى نقطة الأمن والأمان ... فالآية تقول: فرّوا من عقيدة الشرك الموحشة وعبادة الأصنام إلى التوحيد الخالص الذي هو منطقة الأمن والأمان الواقعي.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 572

فرّوا من السيئات والقبائح وعدم الإيمان وظلمة الجهل والعذاب الدائم والتجأوا إلى رحمة الحق وسعادته الأبدية.

ولمزيد التأكيد، يستند القرآن إلى وحدانية العبادة للَّه الأحد فيقول: «وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهًا ءَاخَرَ إِنّى لَكُم مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ».

كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَ تَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ

(55) قرأنا في الآية (39) من هذه السورة أنّ فرعون اتّهم موسى عليه السلام عندما دعاه إلى اللَّه وترك الظلم أنّه ساحر أو مجنون، فهذا الإتهام ورد على لسان المشركين في زمان النبي محمّد صلى الله عليه و آله أيضاً إذ اتّهموه بمثل ما اتّهم فرعون موسى وقد عزّ ذلك على المؤمنين الأوائل والقلائل كما كان يؤلم روح النبي. فالآيات محل البحث ومن أجل تسلية النبي صلى الله عليه و آله والمؤمنين تقول:

«كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ».

كانوا يتّهمون الرسل السابقين بأنّهم سحرة لأنّهم لم يجدوا جواباً منطقياً لمعاجزهم الباهرة، وكانوا يخاطبون رسولهم بأنّه «مجنون» ... لأنّه لم يكن على غرارهم ومتلوّناً بلون المحيط ولم يستسلم للُامور المادية.

ثم يضيف القرآن هل أنّ هذه الأقوام الكافرة تواصت فيما بينها على توجيه هذه التهمة إلى جميع الأنبياء: «أَتَوَاصَوْا بِهِ».

ويعقّب القرآن على ذلك قائلًا: «بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ».

وهذه هي إفرازات روح الطغيان حيث يتوسّلون بكل كذب واتّهام لإخراج أهل الحق من الساحة.

ولمزيد التسرّي عن قلب النبي وتسليته يضيف القرآن: «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ».

وكن مطمئناً بأنّك قد أدّيت ما عليك من التبليغ والرسالة: «فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ».

وهذه الجملة تذكّر بالآيات السابقة التي تدل على أنّ النبي كان يتحرق لقومه حتى يؤمنوا ويتأثر غاية التأثر لعدم إيمانهم حتى كاد يهلك نفسه من أجلهم.

كما تشير الآية (6) من سورة الكهف حيث نقرأ فيها: «فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ءَاثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 573

قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية حزن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والمؤمنون، وظنوا أنّ الوحي قد انقطع وأنّ العذاب قد حل حتى نزلت الآية بعدها لتأمر النبي

بالتذكير: «وَذَكّرْ فَإِنَّ الذّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ» «1».

فكان أن أحسّ الجميع بالإطمئنان.

والآية تشير إلى أنّ هناك قلوباً مهيّأة تنتظر كلامك يا رسول اللَّه وتبليغك فإذا ما عاند جماعة ونهضوا بوجه الحق مخالفين، فإنّ هناك جماعةً آخرين تتوق إلى الحق من أعماق قلوبهم وأرواحهم ويؤثّر فيها كلامك اللّين.

وَ مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ مَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) هدف خلق الإنسان من وجهة نظر القرآن: من أهمّ الأسئلة التي تختلج في خاطر كل إنسان هو لِمَ خُلِقنا؟! وما الهدف من خلق الناس والمجيى ء إلى هذه الدنيا؟!

فالآيات آنفة الذكر تجيب على هذا السؤال المهم والعام بتعابير موجزة ذات معنى غزير، وتكمّل البحث الوارد في آخر آية من الآيات المتقدمة حول تذكير المؤمنين، لأنّ ذلك من أهمّ الاصول التي ينبغي على النبي أن يتابعها ... كما توضّح- ضمناً- معنى الفرار إلى اللَّه الوارد في الآيات السابقة.

تقول الآيات حاكيةً عن اللَّه سبحانه: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ».

وأنّه غير مفتقر إلى أيّ منهم أبداً: «مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ». بل إنّ اللَّه تعالى هو الذي يرزق عباده ومخلوقاته ... «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ».

وبقليل من التأمل في مفهوم آيات القرآن نرى أنّ الهدف الأصلي هو «العبودية» وهو ما اشير في هذه الآيات محل البحث، أمّا العلم والإمتحان وأمثالهما فهي أهداف ضمن مسير العبودية للَّه، ورحمة اللَّه الواسعة نتيجة العبودية للَّه.

وهكذا يتّضح أنّنا خلقنا لعبادة اللَّه، لكن المهم أن نعرف ما هي حقيقة هذه العبادة؟!

إنّ العبودية هي إظهار منتهى الخضوع للمعبود، ولذلك فالمعبود الوحيد الذي له حق

______________________________

(1)

مجمع البيان 9/ 268.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 574

العبادة على الآخرين هو الذي بذل منتهى الإنعام والإكرام، وليس ذلك سوى اللَّه سبحانه.

فبناءً على ذلك فالعبودية هي قمّة التكامل وأوج بلوغ الإنسان وإقترابه من اللَّه.

فإنّ العبودية الكاملة هي أن لا يفكّر الإنسان بغير معبوده الواقعي أي الكمال المطلق، ولا يسير إلّافي منهجه اللاحب وأن ينسى سواه حتى (نفسه وشخصه).

وهذا هو الهدف النهائي من خلق البشر الذي أعدّ اللَّه له الامتحان والاختبار لنيله، ومنح الإنسان العلم والمعرفة، وجعل نتيجة كل ذلك فيض رحمته للإنسان.

هؤلاء يشاركون أصحابهم في العذاب: الآيتان أعلاه هما آخر سورة الذاريات، وهما نوع من الإستنتاج لما تقدم من الآيات الواردة في السورة ذاتها. فالآية الاولى تقول أنّه بعد أن أصبح معلوماً أنّ هؤلاء المشركين قد انحرفوا عن الهدف الحقيقي للخلقة، فليعلموا أنّ لهم قسطاً وافراً من العذاب الإلهي كما كان للأقوام السالفة: «فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ» .. ويقولوا إن كان عذاب اللَّه حقّاً فلِمَ لا يصيبنا؟!

والتعبير ب «الظلم» في شأن هذه الجماعة هو لأنّ الشرك والكفر من أكبر الظلم، ولأنّ حقيقة الظلم هي وضع الشي ء في غير موضعه المناسب، ومن المعلوم أنّ عبادة الأصنام مكان عبادة اللَّه تعدّ أهم مصداق للظلم، ولذلك فهم يستحقون العاقبة التي نالها الأقدمون من المشركين.

وفي الآية الأخيرة إستكمال لعذاب الدنيا بعذاب الآخرة، إذ تقول: «فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِى يُوعَدُونَ».

وكما أنّ هذه السورة بُدئت بمسألة المعاد والقيامة، فإنّها إنتهت بالتأكيد عليها كذلك.

«نهاية تفسير سورة الذاريات»

مختصر الامثل، ج 4، ص: 575

52. سورة الطور

محتوى السورة: تتركز بحوث هذه السورة- أيضاً- على مسألة المعاد وعاقبة الصالحين والمتقين.

يمكن أن يقسّم محتوى هذه السورة إلى ستّة أقسام.

1- الآيات الاولى من السورة

التي تبدأ بالقَسم تلو القسم، وهي تبحث في عذاب اللَّه، ودلائل القيامة وعلاماتها وعن النار وعقاب الكافرين (الآيات 1- 16).

2- ثم يذكر بتفصيل نعم الجنة ومواهب اللَّه في القيامة، (الآيات 17- 28).

3- ثم يقع الكلام عن نبوّة محمّد صلى الله عليه و آله وما وجّه إليه الأعداء من التّهم، ويردّ عليها بنحو موجز (الآيات 29- 34).

4- ثم بحث عن التوحيد باستدلالات واضحة (الآية 35- 43).

5- ثم عود على مسألة المعاد وبعض أوصاف يوم القيامة (الآيات 44- 47).

6- والقسم الأخير الذي لا يتجاوز الآيتين يختتم الامور المذكورة آنفاً بأمر نبي الإسلام بالصبر والاستقامة والتسبيح والحمد للَّه ووعده بأنّ اللَّه حاميه وناصره.

وقد اشتق اسم هذه السورة (الطور) من الآية الاولى فيها.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ سورة والطور كان حقّاً على اللَّه أن يؤمنه من عذابه وأن ينعّمه في جنّته».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 576

وعن الإمام الباقر عليه السلام قال: «من قرأ سورة الطور جمع اللَّه له خير الدنيا والآخرة».

وواضح أنّ كل هذا الأجر والثواب العظيم هو لُاولئك الذين يجعلون هذه التلاوة وسيلة للتفكر والتفكر بدوره وسيلة للعمل.

وَ الطُّورِ (1) وَ كِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) هذه السورة- هي الاخرى- من السور التي تبدأ بالقسم ... القسم الذي يهدف لبيان حقيقة مهمة، وهي مسألة القيامة والمعاد ومحاسبة أعمال الناس.

يقول سبحانه وتعالى: «وَالطُّورِ».

«الطور»: في اللغة معناه الجبل، ولكن مع ملاحظة أنّ هذه الكلمة تكرّرت في عشر آيات من القرآن الكريم، تسع منها كانت في الكلام

على «طور سيناء» وهو الطور أو الجبل الذي نزل الوحي عنده على موسى، فيُعلم أنّ المراد منه في الآية محل البحث (الطور ذاته).

فبناءً على ذلك، فإنّ اللَّه يقسم في أوّل مرحلة بواحد من الأمكنة المقدسة في الأرض حيث نزل عليها الوحي.

وفي تفسير قوله تعالى «وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ» احتمالات متعددة، ولكن بتناسب القسَم المذكور آنفاً فإنّ الآية تشير هنا إلى «كتاب موسى» أو كل كتاب سماوي.

«فِى رَقّ مَّنشُورٍ». «الرقّ»: من الرقّة، وهي في الأصل الدقة واللطافة، كما تطلق هذه الكلمة على الورق أو الجلد الخفيف الذي يكتب عليه؛ و «المنشور»: معناه الواسع.

«وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ». والمراد منه «الكعبة» وهي بيت اللَّه في الأرض المعمور بالحجاج والزوار، وهو أوّل بيت وضع للعبادة على الأرض.

«وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ». والمقصود هو «السماء» لأنّنا نقرأ في الآية (32) من سورة الأنبياء: «وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا».

ولعل الوجه- في التعبير- بالسقف هو أنّ النجوم والكرات السماوية إلى درجة من الكثرة بحيث غطّت السماء فصارت كأنّها السقف، أو إشارة إلى الجو الذي يحيط بالأرض أو ما يسمّى بالغلاف الجوّي، وهو بمثابة السقف الذي يمنع النيازك والشهب أن تهوي إلى الأرض وتصدّ الأشعّة الضارّة من الوصول إلى الأرض.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 577

«وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ». «المسجور»: معناه الملتهب، كما في الآيتين (71 و 72) من سورة غافر، إذ قال سبحانه: «يُسْحَبُونَ فِى الْحَمِيمِ ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ».

هذا «البحر المسجور» هو البحر المحيط بالأرض، أو البحار المحيطة بها وسيلتهب قبل يوم القيامة، ثم ينفجر كما نقرأ ذلك في الآية (6) من سورة التكوير: «وَإِذَا الْبِحَارُ سُجّرَتْ».

البحر الذي في باطن الأرض وهو مؤلّف من مواد منصهرة مذابة.

ولعلّ أن تكون الآية قَسماً بهما معاً، إذ كلاهما من آيات اللَّه ومن عجائب هذا العالم الكبرى.

وعلاقة

هذه الأقسام الخمسة فيما بينها، أنّ الظاهر أنّ الأقسام الثلاثة الاول بينها إرتباط وعلاقة، لأنّها جميعاً تتحدث عن الوحي وخصوصياته، فالطور محل نزول الوحي، والكتاب المسطور إشارة إلى الكتاب السماوي أيضاً، سواءً كان التوراة أو القرآن، والبيت المعمور هو محل ذهاب وإيّاب الملائكة ورُسل وحي اللَّه.

أمّا القَسمان الآخران فيتحدثان عن الآيات التكوينية «في مقابل الأقسام الثلاثة التي كانت تتحدث عن الآيات التشريعية».

وهذان القَسمان واحد منهما يشير إلى أهمّ دلائل التوحيد وعلائمه وهو «السماء» بعظمتها، والآخر يشير إلى واحد من علائم المعاد المهمة ودلائله، وهو الواقع بين يدي القيامة.

فبناءً على هذا فإنّ التوحيد والنبوة والمعاد جمعت في هذه الأقسام [أو الأيمان الخمسة.

«إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ». إنّ هذه الأقسام والتي تدور حول محور قدرة اللَّه في عالم التكوين والتشريع تدل على أنّ اللَّه قادر على إعادة الحياة وبعث الموتى من قبورهم مرّة اخرى، وهذا هو غاية الأقسام المذكورة كما قرأنا في الآيات الأخيرة من الآيات محل البحث.

يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً (9) وَ تَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَ فَسِحْرٌ هذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 578

كانت في الآيات السابقة إشارة وتلميح عن عذاب اللَّه في يوم القيامة- بصورة مغلقة- أمّا الآيات محل البحث ففيها توضيح وتفسير لما مرّ، فتتحدث أوّلًا عن بعض حالات يوم القيامة وخصائصه، ثم عن كيفية تعذيب المكذبين فتقول: «يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا».

«المَوْر»: معناه الحركة السريعة والدوران المقترن بالذهاب والإياب والاضطراب

والتموّج. وعلى هذا فإنّ النظام الحاكم على الكرات يضطرب بين يدي يوم القيامة وتنحرف عن مداراتها وتتّجه إلى كل جهة ذهاباً وإيّاباً، ثم تتبدّل وتولّد سماء جديدة بأمر اللَّه كما تقول الآية (104) من سورة الأنبياء: «يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاءَ كَطَىّ السّجِلّ لِلْكُتُبِ».

ثم يضيف القرآن في آية اخرى: «وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا».

كل ذلك هو إشارة إلى أنّ هذه الدنيا وما فيها وما عليها تندكّ ويحدث مكانها عالم جديد بأنظمة جديدة ويكون الإنسان أمام نتائج أعماله وجهاً لوجه.

لذا فإنّ القرآن يضيف في الآية التالية قائلًا: «فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ».

أجل، حين تعمّ الوحشة والإضطراب جميع الخلق لتغيّر العالم، تهيمن على المكذبين وحشة عظيمة وهي العذاب الإلهي ... لأنّ «الويل»: إظهار التأسف والحزن لوقوع حادثة غير مطلوبة.

ثم تبيّن الآيات من هم «المكذبون» فتقول: «الَّذِينَ هُمْ فِى خَوْضٍ يَلْعَبُونَ».

فيزعمون أنّ آيات القرآن ضرب من الكذب والإفتراء وأنّ معجزات النبي سحر وأنّه مجنون، ويتلقّون جميع الحقائق باللعب ويسخرون منها ويستهزئون بها.

«خوض»: معناه الدخول في الكلام الباطل، وهو في الأصل ورود الماء والعبور منه.

ثم تبيّن الآيات ذلك اليوم وعاقبة هؤلاء المكذبين في توضيح آخر، فتقول: «يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا» «1». أي يساقون نحو جهنم بعنف وشدة.

ويقال لهم حينئذ: «هذِهِ النَّارُ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ».

كما يقال لهم أيضا: «أَفَسِحْرٌ هذَا أَمْ أَنتُمْ لَاتُبْصِرُونَ».

لقد كنتم تزعمون في الدنيا إنّ ما جاء به محمّد سحر، وليختطف عقولنا! ويرينا اموراً على أنّها معاجز، ويذكر لنا كلاماً على أنّه وحي منزل من اللَّه.

______________________________

(1) «دعّ»: على وزن جدّ معناه الدفع الشديد والسوق بخشونة وعنف.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 579

لذلك فحين يردون نار جهنم يقال لهم بنحو التوبيخ والملامة والإحتقار وهم يلمسون حرارة النار: أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون؟!

كما

يقال لهم هناك أيضاً: «اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَاتَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

أجل، هذه هي أعمالكم وقد عادت إليكم، فلا ينفع الجزع والفزع والآه والصراخ ولا أثر لكل ذلك أبداً.

وهذه الآية تأكيد على «تجسم الأعمال» وعودتها نحو الإنسان، وهي تأكيد جديد أيضاً على عدالة اللَّه ... لأنّ نار جهنم مهما كانت شديدة ومحرقة فهي ليست سوى نتيجة أعمال الناس أنفسهم، وأشكالها المتبدلة هناك.

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَ وَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَ زَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ مَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) تعقيباً على المباحث الواردة في الآيات المتقدمة حول عقاب المجرمين وعذابهم الأليم تذكر الآيات محل البحث ما يقابل ذلك من المواهب الكثيرة والثواب العظيم للمؤمنين والمتقين لتتجلى بمقايسة واضحة مكانة كل من الفريقين. تقول الآية الاولى من الآيات محل البحث: «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ».

والتعبير ب «المتقين» بدلًا من المؤمنين، لأنّ هذا العنوان يحمل مفهوم الإيمان، كما يحمل مفهوم العمل الصالح أيضاً، خاصة أنّ «التقوى» تقع مقدمةً وأساساً للإيمان في بعض المراحل.

ثم يتحدث القرآن عن تأثير هذه النِعَم الكبرى على روحية أهل الجنة فيقول في الآية التالية: «فَاكِهِينَ بِمَا ءَاتَاهُمْ رَبُّهُمْ» «1».

______________________________

(1) «فاكهين»: مشتقة من فكه و معناها كون الإنسان مسروزاً، وجعل الآخرين مسرورين بالكلام العذب. مختصر الامثل، ج 4، ص: 580

خاصةً أنّ اللَّه قد طمأنهم وآمنهم من العقاب: «وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ».

وهذه الجملة قد تكون ذات معنين ... الأوّل بيان النعمة المستقلة قبال نعم

اللَّه الاخر ...

و الثاني أن يكون تعقيباً على الكلام السابق، أي أنّ أهل الجنة مسرورون من شيئين «بما آتاهم اللَّه من النعم في الجنة»، و «بما وقاهم من عذاب الجحيم».

ثم تشير الآية الاخرى إلى نعم المتقين في الجنة فتقول: «كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

والتعبير ب «هنيئاً» هو إشارة إلى أنّ أطعمة الجنة وشرابها السائغة غير منغّصة، فهي ليست كأطعمة الدنيا وشرابها التي تجرّ الإنسان إلى الوبال عند الإفراط أو التفريط بها ...

إضافةً إلى كل ذلك لا يحصل عليها بمشقة، ولا يخاف من إنتهائها، ولذلك فهي هنيئة.

ومن المعلوم أنّ أطعمة الجنة هنيئة بذاتها، ولكن قول الملائكة لأهل الجنة «هنيئاً» هذا القول له لطفه وعذوبته الخاصة.

والنعمة الاخرى التي يتمتع بها أهل الجنة هي كونهم: «مُتَّكِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ».

فهم يلتذّون بالاستئناس إلى أصحابهم والمؤمنين الآخرين، وهذه لذة معنوية فوق أية لذة اخرى.

وهذا التعبير لا ينافي ما ورد في هذه الآية محل البحث، لأنّ مجالس الانس والسرور ترتّب الأسرة فيها على شكل مستدير ومصفوفة جنباً إلى جنب، فجلّاسها على سرر مصفوفة متقابلون.

والتعبير ب «متكئين» إشارة إلى منتهى الهدوء، لأنّ الإنسان عند الهدوء يتكى ء عادةً، والذين هم في قلق وحزن لا يرون كذلك.

ثم يضيف القرآن بأنّا زوّجناهم من نساء بيض جميلات ذوات أعين واسعة «وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ» «1».

______________________________

(1) «الحور»: جمع حوراء وأحور، فهو جمع للمذكّر والمؤنث سواء، ويطلق على من حدقة عينه سوداء وبياضها شفّاف أو هو كناية عن الجمال، لأنّ الجمال يتجلّى في العينين قبل كل شي ء، والعين جمع لأعين وعيناء، معناه العين الواسعة؛ وهكذا فإنّ الحور العين مفهوماً واسعاً يشمل الأزواج جميعاً الذكور والإناث من أهل الجنة فالذكور للإناث وبالعكس.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 581

هذه بعض من نعم

أهل الجنة المادية والمعنوية، إلّاأنّهم لا يكتفون بهذه النعم فحسب، وإنّما تضاف إليها نعم ومواهب معنوية ومادية اخر: «وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مّنْ عَمَلِهِم مّن شَىْ ءٍ».

وهذه نعمة بنفسها أيضاً أن يرى الإنسان ذريته في الجنة ويلتذ برؤيتهم دون أن ينقص من عمله شي ء أبداً.

فمثل هؤلاء الأبناء وهذه الذرية إذا كان في عملهم نقص وتقصير فإنّ اللَّه سبحانه يتجاوز عنهم لأجل آبائهم الصالحين، ويرتفع مقامهم عندئذ فيبلغون درجة آبائهم، وهذه المثوبة موهبة للآباء والأبناء.

إنّ القرآن يضيف في نهاية الآية: «كُلُّ امْرِىٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ». أي: أنّ أعمال كل إنسان ملازمة له، سواءً كانت صالحة أو طالحة، ولذلك فإنّ المتقين في الجنة رهينو أعمالهم، وإذا كان أبناؤهم وذرياتهم معهم، فلا يعني ذلك أنّ أعمالهم ينقص منها شي ء أبداً.

وَ أَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَ لَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لَا لَغْوٌ فِيهَا وَ لَا تَأْثِيمٌ (23) وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَ وَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) أشارت الآيات المتقدمة إلى تسعة أقسام من مواهب أهل الجنة، وتشير الآيات محل البحث إلى خمسة اخر منها بحيث يستفاد من المجموع أنّ ما هو لازم للهدوء والطمأنينة والفرح والسرور واللذة مهيّأ لهم في الجنة. فتشير الآية الاولى من الآيات محل البحث إلى نوعين من طعام أهل الجنة فتقول: «وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ».

«أمددناهم»: مشتق من الإمداد ومعناه العطاء والزيادة والإدامة ... أي إنّ طعام الجنة وفواكهها لا ينقص منهما شي ء بتناولهما، وهما ليسا

كطعام الدنيا وفواكهها بحيث يتغيّران أو ينقصان.

والتعبير ب «مّمَّا يَشْتَهُونَ» يدل على أنّ أهل الجنة أحرار تماماً في إنتخاب الأطعمة ونوعها وكميّتها وكيفيتها، فمهما طلبوا فهو مهي ء لهم ... وبالطبع فإنّ طعام الجنة غير منحصر بهذين النوعين اللحم والفاكهة، إلّاأنّهما يمثّلان الطعام المهم، وتقديم الفاكهة على اللحم إشارة إلى أفضليتها عليه.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 582

ثم تشير الآية التالية إلى ما يشربه أهل الجنة من شراب سائغ فتقول: «يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَّالَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ».

حيث يناول أحدهم الآخر كؤوس الشراب الطاهر من الإثم والإفساد، ويشربون شراباً سائغاً عذباً لذيذاً يهب النشاط خالياً من أي نوع من أنواع التخدير وفساد العقل! ولا يعقبه لغو ولا إثم، بل كلّه لذّة وإنتباه ونشاط «جسمي وروحاني».

«يتنازعون»: من مادة التنازع ومعناه أخذ بعضهم من بعض. بأنّ أهل الجنة يتجاذبون الشراب الطهور بعضهم من بعض على سبيل المزاح والسرور.

أمّا النعمة الرابعة المذكورة لأهل الجنة فوجود الخدم والغلمان إذ تقول الآية: «وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ».

و «اللؤلؤ المكنون»: هو اللؤلؤ داخل صدفه، وهو في هذه الحالة شفّاف وجميل إلى درجة لا توصف وإن كان خارج الصدف شفّافاً وجميلًا أيضاً، غير أنّ الهواء الملوّث والأيدي التي تتناوله كل ذلك يؤثّر فيه، فلا يبقى على حالته الاولى من الشفافية! فالغلمان وخدمة الجنة هم إلى درجة من الصفاء حتى كأنّهم اللؤلؤ المكنون كما يعبّر القرآن الكريم.

وبالرغم من أنّه لا حاجة في الجنة إلى الخدمة، وما يطلبه الإنسان يجده أمامه، إلّاأنّ هذا بنفسه إكرام أو إحترام آخر لأهل الجنة.

في تفسير مجمع البيان: قيل يا رسول اللَّه! الخادم كاللؤلؤ فكيف المخدوم؟ فقال: «والذي نفسي بيده إنّ فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر

الكواكب».

وآخر نعمة في هذه السلسلة من النعم هي نعمة الطمأنينة وراحة البال من كل عذاب أو عقاب إذ تقول الآية التالية: «وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ».

مشفقين أن يسلك أبناؤنا طريق الضلال، فيتيهوا في مفازة جرداء ويتحيّروا. مشفقين أن يفجؤنا أعداؤنا القساة ويضيّقوا علينا الميدان. ولكن اللَّه منّ علينا برحمته الواسعة: «فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ».

«السموم»: يعني الحرارة التي تدخل في مسام البدن فتؤذي الإنسان، ويطلق على الريح التي تتسم بهذه السمة بريح السموم كما يطلق عذاب السموم على مثل هذا العذاب الذي تدخل حرارته مسام البدن فتؤذيه.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 583

وأمّا إطلاق كلمة «السم» على المواد القاتلة فهو لأنّها تنفذ في جميع أجزاء البدن.

والكلام الذي ينقله القرآن على لسان أهل الجنة هنا يشير إلى إعترافهم بهذه الحقيقة وهي أنّ كون اللَّه برّاً رحيماً يعرفه أهل الجنة في ذلك الزمان أكثر من أي وقت مضى فيقولون: «إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ».

إلّا أنّنا نعرف هذه الصفات الآن بشكل واقعي أكثر مما كنا نعرفها، إذ شملنا برحمته العظيمة قبال هذه الأعمال التي لا تعدّ شيئاً وأحسن إلينا مع كل تلك الذنوب الكثيرة.

فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَ لَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)

سبب النّزول

في الدرّ المنثور عن ابن عباس أنّ قريشاً لما اجتمعوا في الدار الندوة «1» في أمر النبي صلى الله عليه و آله قال قائل منهم احبسوه في

وثاق وتربصوا به المنون حتى يهلك كما هلك من قبله من الشعراء زهير والنابغة إنّما هو كأحدهم فأنزل اللَّه في ذلك من قولهم «أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ».

التّفسير

كان الكلام في الآيات المتقدمة عن قسم مهم من نعم الجنة وثواب المتقين وكان الكلام في الآيات التي سبقتها عن بعض عذاب أهل النار. لذلك فإنّ الآية الاولى من الآيات محل البحث تخاطب النبي فتقول: «فَذَكّرْ». لأنّ قلوب عشّاق الحق تكون أكثر إستعداداً بسماعها مثل هذا الكلام، وقد آن الأوان أن تبيّن الكلام الحق لها.

ثم يذكر القرآن الإتهامات التي أطلقها أعداء النبي الألدّاء المعاندون فيقول: «فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ».

______________________________

(1) «دار الندوة»: وهي دار قصي بن كلاب التي لا تقضي قريش أمراً من أمورها إلّافيها، وكانت هذه الدار بابهاإلى مسجد الكعبة. (راجع سيرة النبي صلى الله عليه و آله، ابن هشام الحميري 2/ 331). مختصر الامثل، ج 4، ص: 584

«الكاهن»: يطلق على من يخبر عن الأسرار الغيبية، وغالباً ما كان الكاهن يدّعي بأنّه له علاقة بالجن ويستمد الأخبار الغيبية منهم.

فإنّ قريشاً ومن أجل أن تشتّت الناس وتصرفهم عن النبي صلى الله عليه و آله كانت تتّهمه ببعض التّهم، فتارةً تتّهمه بأنّه كاهن، وتارةً تتّهمه بأنّه مجنون، والعجب أنّها لم تقف على تضاد الوصفين، لأنّ الكهنة اناس أذكياء والمجانين على خلافهم! ولعل الجمع بين الإفترائين في الآية إشارة إلى هذا التناقض في الكلام من قبل القائلين.

ثم يذكر القرآن الإتهام الثالث الذي يخالف الوصفين السابقين أيضاً فيقول: «أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ».

«المنون»: مشتق من المنّ، وهو على معنيين: النقصان والقطع، ثم استعملت كلمة «المنون» في الموت أيضاً، لأنّه ينقص العدد ويقطع المدد؛ «ريب»: أصلها الشك

والتردد والوهم في الشي ء الذي تنكشف أستاره بعدئذ فتتضح حقيقته. وهذا التعبير يستعمل في شأن الموت، فيقال «ريب المنون» لأنّ وقت حصوله غير معلوم لا أصل تحققه.

إلّا أنّ جماعة من المفسرين قالوا: إنّ المراد من «ريب المنون» في الآية محل البحث هو حوادث الدهر، حتى إنّه نقل عن ابن عباس أنّه قال حيث ما وردت كلمة «ريب» في القرآن فهي بمعنى الشك والتردد، إلّافي هذه الآية من سورة الطور فمعناها الحوادث.

فاولئك كانوا يطمئنون أنفسهم ويرضون خاطرهم بأنّ حوادث الزمان كفيلة بالقضاء على النبي صلى الله عليه و آله وكانوا يتصورون أنّهم سيتخلصون من هذه المشكلة العظمى التي أحدثتها دعوة النبي صلى الله عليه و آله في سائر المجتمع ... لذلك فإنّ القرآن يرد عليهم بجملة موجزة مقتضبة ذات معنى غزير ويهدّد هؤلاء- عمي القلوب- مخاطباً نبيّه فيقول: «قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنّى مَعَكُم مّنَ الْمُتَرَبّصِينَ».

ثم يوبّخهم القرآن توبيخاً شديداً فيقول في شأنهم: «أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلمُهُم بِهذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ».

إنّ هذه التّهم والإفتراءات ليست مما تقول به عقولهم وتأمرهم به، بل أساسها طغيانهم وتعصبهم وروح العصيان والتمرد.

«الأحلام»: جمع «حُلُم» ومعناه العقل؛ وهذه الكلمة قد تأتي بمعنى الرؤيا والمنام ولا يبعد مثل هذا التّفسير في الآية محل البحث ... فكأنّ كلماتهم ناتجة عن أحلامهم الباطلة.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 585

ومرّة اخرى يشير القرآن إلى اتّهام آخر- من اتهاماتهم- الذي يعدّ الرابع في سلسلة اتّهاماتهم فيقول: «أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّايُؤْمِنُونَ».

«تقوّله»: مشتق من مادة تقوّل- على وزن تكلّف- ومعناه الكلام الذي يفتعله الإنسان بينه وبين نفسه دون أن يكون له واقع.

إنّ القرآن يردّ عليهم ردّاً يدحرهم ويتحدّاهم متهكماً فيقول: «فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ».

فأنتم اناس مثله ولديكم العقل والقدرة

على البيان والإطلاع والخبرة على أنواع الكلام فلِمَ لا يأتي مفكّروكم وخطباءكم وفصحاءكم بمثل هذا الكلام.

وجملة «فليأتوا» أمر تعجيزي، والهدف منه بيان عجزهم وعدم قدرتهم على مجاراة القرآن. وهذا ما يعبّر عنه في علم الكلام والعقائد بالتحدّي أي دعوة المخالفين إلى المعارضة والإتيان بالمثل «في مواجهة المعجزات».

فهذه آية من الآيات التي تبيّن إعجاز القرآن بجلاء، ولا يختصّ مفهومها بمن عاصروا النبي صلى الله عليه و آله بل يشمل جميع الذين يزعمون- بأنّ القرآن كلام بشر، وأنّه مفترى على اللَّه- على إمتداد القرون والأعصار، فهم مخاطبون بهذه الآية أيضاً ... أي هاتوا حديثاً مثله إن كنتم تزعمون بأنّه ليس من اللَّه وأنّه كلام بشر.

إنّ نداء القرآن في هذه الآية والآيات المشابهة كان عالياً أبداً، ولم يستطع أي إنسان خلال أربعة عشر قرناً- منذ بعثة النبي صلى الله عليه و آله حتى يومنا هذا- أن يرد بجواب إيجابي.

وهذا العجز «العمومي» شاهد حي على أصالة هذا الوحي السماوي.

أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ ءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَ لَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) هذه الآيات تواصل البحث الاستدلالي السابق- كذلك- مع أحد عشر سؤالًا متتابعاً،

مختصر الامثل، ج 4، ص: 586

وهي تناقش المنكرين للقرآن ونبوّة محمّد صلى الله عليه و آله وقدرة اللَّه سبحانه. فأوّل ما تبدأ به هو موضوع الخلق

فتقول: «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَىْ ءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ».

وهذه إشارة إلى «برهان العليّة» المعروف الوارد في الفلسفة وعلم الكلام لإثبات وجود اللَّه، وهو أنّ العالم الذي نعيش فيه ممّا لا شك- فيه- حادث (لأنّه في تغيير دائم، وكل ما هو متغيّر فهو في معرض الحوادث، وكل ما هو في معرض الحوادث محال أن يكون قديماً وأزليّاً).

والآن ينقدح هذا السؤال، وهو إذا كان العالم حادثاً فلا يخرج عن الحالات الثلاث التالية:

1- وُجد من دون علّة.

2- هو نفسه علّة لنفسه.

3- إنّ هذا العالم مخلوق لواجب الوجود الذي يكون وجوده ذاتياً له.

وبطلان الاحتمان المتقدمة واضح، لأنّ وجود المعلول من دون علّة محال، وإلّا فينبغي أن يكون كل شي ء موجوداً في أي ظرف كان، والأمر ليس كذلك.

والاحتمال الثاني وهو أن يوجد الشي ء من نفسه محال أيضاً، لأنّ مفهومه أن يكون موجوداً قبل وجوده، ويلزم منه إجتماع النقيضين [فلاحظوا بدقّة].

فبناءً على ذلك لا طريق إلّاالقبول بالاحتمال الثالث، أي خالقية واجب الوجود.

الآية التالية تثير سؤالًا آخر على الإدّعاء في المرحلة الأدنى من المرحلة السابقة فتقول:

«أَمْ خَلَقُوا السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ».

فإذا لم يوجدوا من دون علّة ولم يكونوا علّة أنفسهم أيضاً، فهل هم واجبو الوجود فخلقوا السماوات والأرض؟! وإذا لم يكونوا قد خلقوا الوجود، فهل أوكل اللَّه إليهم أمر خلق السماء والأرض؟ فعلى هذا هم مخلوقون وبيدهم أمر الخلق أيضاً.

من الواضح أنّهم لا يستطيعون أن يدّعوا هذا الإدّعاء الباطل، لذلك فإنّ الآية تختتم بالقول: «بَل لَّايُوقِنُونَ».

أجل، فهم يتذرّعون بالحجج الواهية فراراً من الإيمان.

ثم يتساءل القرآن قائلًا: فإذا لم يدّعوا هذه الامور ولم يكن لهم نصيب في الخلق، فهل

مختصر الامثل، ج 4، ص: 587

عندهم خزائن اللَّه: «أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبّكَ» «1». ليهبوا من شاؤوا نعمة

النبوّة والعلم أو الأرزاق الاخر ويمنعوا من شاؤوا ذلك: «أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ» على جميع العوالم وفي أيديهم امور الخلائق؟!

إنّهم لا يستطيعون أن يدّعوا أبداً أنّ عندهم خزائن اللَّه تعالى، ولا يملكون تسلطاً على تدبير العالم، لأنّ ضعفهم وعجزهم إزاء أقل مرض بل حتى على بعوضة تافهة وكذلك احتياجهم إلى الوسائل الابتدائية للحياة خير دليل على عدم قدرتهم وفقدان هيمنتهم! وإنّما يجرّهم إلى إنكار الحقائق هوى النفس والعناد وحبّ الجاه والتعصب والأنانية.

وكلمة «مصيطرون» إشارة إلى أرباب الأنواع التي هي من خرافات القدماء، إذ كانوا يعتقدون أنّ كل نوع من أنواع العالم إنساناً كان أمّ حيواناً آخر أم جماداً أم نباتاً له مدبّر وربّ خاصّ يدعى بربّ النوع ويدعون اللَّه «ربّ الأرباب» وهذه العقيدة تعدّ في نظر الإسلام «شركاً» والقرآن في آياته يصرّح بأنّ التدبير لجميع الأشياء هو للَّه وحده ويصفه بربّ العالمين.

ومن المعلوم أنّه لا منكرو النبوة ولا المشركون في العصر الجاهلي ولا سواهما يدّعي أيّاً من الامور الخمسة التي ذكرها القرآن، ولذلك فإنّه يشير إلى موضوع آخر في الآية التالية فيقول: إنّ هؤلاء هل يدعون أنّ الوحي ينزل عليهم أو يدعون أنّ لهم سُلّماً يرتقون عليه إلى السماء فيستمعون إلى أسرار الوحي: «أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ» «2».

وحيث إنّه كان من الممكن أن يدّعوا بأنّهم على معرفة بأسرار السماء فإنّ القرآن يطالبهم مباشرةً بعد هذا الكلام بالدليل فيقول: «فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ».

ومن الواضح أنّه لو كانوا يدّعون مثل هذا الادّعاء فإنّه لا يتجاوز حدود الكلام فحسب، إذ لم يكن لهم دليل على ذلك أبداً.

ثم يضيف القرآن قائلًا: هل صحيح ما يزعمون أنّ الملائكة اناث وهم بنات اللَّه؟! «أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ».

وفي هذه الآية إشارة إلى

واحد من إعتقاداتهم الباطلة، وهو استياؤهم من البنات

______________________________

(1) الخزائن: جمع الخزينة ومعناها مكان كل شي ء محفوظ لا تصل إليه اليد ويدّخر فيه ما يريد الإنسان يقول القرآن في هذا الصدد: «وَإِن مِّن شَىْ ءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ» سورة الحجر/ 21.

(2) «سُلّم»: يعني «المصعد» كما يأتي بمعنى أيّة وسيلة كانت.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 588

بشدة، وإذا علموا أنّهم رزقوا من أزواجهم «بنتاً» اسودّت وجوههم من الحياء والخجل ومع هذا فإنّهم كانوا يزعمون أنّ الملائكة بنات اللَّه. وبديهي أنّ الذكر والانثى لا يختلفان في نظر القيمة الإنسانية ... والتعبير في الآية المتقدمة هو في الحقيقة من قبيل الاستدلال بعقيدتهم الباطلة ومحاججتهم بها.

ثم يتنازل القرآن إلى مرحلة اخرى، فيذكر واحداً من الامور التي يمكن أن تكون ذريعة لرفضهم فيقول: «أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ».

«المغرم»:- على وزن مغْنَم وهو ضدّ معناه- أي ما يصيب الإنسان من خسارة أو ضرر دون جهة، أمّا الغريم فيطلق على الدائن والمدين أيضاً.

و «المُثقَل»: مشتق من الأثقال، ومعناه تحميل العب ء والمشقة، فبناءً على هذا المعنى يكون المراد من الآية: تُرى هل تطلب منهم غرامة لتبليغ الرسالة فهم لا يقدرون على أدائها ولذلك يرفضون الإيمان؟!

ومرّة اخرى يخاطبهم القرآن متسائلًا «أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ». فهؤلاء يدّعون أنّ النبي شاعر وينتظرون موته لينطوي بساطه وينتهي كل شي ء بموته وتلقى دعوته في سلّة الإهمال. فمن أين لهم أنّهم سيبقون أحياء بعد وفاة النبي؟ ومن أخبرهم بالغيب؟!

ثم يتناول القرآن إحتمالًا آخر فيقول: لو لم يكن كل هذه الامور المتقدمة، فلابدّ أنّهم يتآمرون لقتل النبي وإجهاض دعوته ولكن ليعلموا أنّ كيد اللَّه أعلى وأقوى من كيدهم:

«أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ».

وأخيراً فإنّ آخر

ما يثيره القرآن من أسئلة في هذا الصدد قوله: «أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ».

ويضيف- منزّهاً-: «سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ».

فعلى هذا لا أحد يستطيع أن يمنعهم من اللَّه ويحميهم، وهكذا فإنّ القرآن يستدرجهم ويضعهم أمام استجواب عجيب وأسئلة متّصلة تؤلّف سلسلة متكاملة مؤلفة من أحد عشر سؤالًا، ويضطرهم مرحلة بعد مرحلة إلى التراجع والتنازل من الإدعاءات الفارغة، ثم يوصد عليهم سُبُل الفرار كلها ويحاصرهم في طريق مغلق.

وَ إِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَ لَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَ إِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذلِكَ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ إِدْبَارَ النُّجُومِ (49)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 589

تعقيباً على البحث الوارد في الآيات المتقدمة الذي يناقش المشركين والمنكرين المعاندين، هذا البحث الذي يكشف الحقيقة ساطعةً لكل إنسان يطلب الحق، تميط الآيات محل البحث النقاب عن تعصبهم وعنادهم فتقول: «وَإِن يَرَوْا كِسْفًا مّنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ».

إنّ هؤلاء المشركين معاندون إلى درجة إنكارهم الحقائق الحسية وتفسيرهم الحجارة الساقطة من السماء بالسحاب.

وهكذا يتّضح حال هؤلاء الأشخاص إزاء الحقائق المعنوية. لذلك فإنّ الآية التالية تضيف بالقول: «فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى فِيهِ يُصْعَقُونَ».

«يُصعقون»: مأخوذة من صعق، والإصعاق هو الإهلال، وأصله مشتق من الصاعقة، وحين أنّ الصاعقة تُهلك من تقع عليه فإنّ هذه الكلمة استعملت بمعنى الإهلاك أيضاً.

إنّ جملة «ذرهم» أمر يُفيد التهديد، والمراد منه أنّ الإصرار على تبليغ مثل هؤلاء الأفراد لا يجدي نفعاً إذ لا يهتدون.

ثم يبيّن القرآن في الآية التالية

هذا اليوم فيقول: «يَوْمَ لَايُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ».

أجل، من يمت تقم قيامته الصغرى «من مات قامت قيامته» وموته بداية للثواب أو العقاب الذي يكون قسم منه في البرزخ والقسم الآخر في القيامة الكبرى، أي القيامة العامة، وفي هاتين المرحلتين لا تنفع ذريعة متذرّع ولا يجد الإنسان وليّاً من دون اللَّه ولا نصيراً.

ثم تضيف الآية أنّه لا ينبغي لهؤلاء أن يتصوروا أنّهم سيواجهون العذاب في البرزخ وفي القيامة فحسب، بل لهم عذاب في هذه الدنيا أيضاً: «وَإِنَّ لّلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَايَعْلَمُونَ».

أجل، إنّ على الظالمين أن ينتظروا في هذه الدنيا عذاباً كعذاب الامم السابقة كالصاعقة والزلازل والكسف من السماء والقحط أو القتل على أيدي جيش التوحيد كما كان ذلك في معركة بدر وما ابتلي به قادة المشركين فيها إلّاأن يتيقّظوا ويتوبوا ويعودوا إلى اللَّه آيبين منيبين.

وجملة «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَايَعْلَمُونَ» تشير إلى أنّ أغلب اولئك الذين ينتظرهم العذاب

مختصر الامثل، ج 4، ص: 590

في الدنيا والآخرة هم جهلة، ومفهومها أنّ القليل منهم يعرف هذا المعنى، إلّاأنّه في الوقت ذاته يُصرّ على المخالفة لما فيه من اللجاجة والعناد عن الحق.

وفي الآية التالية يخاطب القرآن نبيّه ويدعوه إلى الصبر أمام هذه التّهم والمثبّطات وأن يستقيم فيقول: «وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ».

فإذا ما اتّهموك بأنّك شاعر أو كاهن أو مجنون فاصبر، وإذا زعموا بأنّ القرآن مفترى فاصبر، وإذا أصرّوا على عنادهم وواصلوا رفضهم لدعوتك برغم كل هذه البراهين المنطقية فاصبر، ولا تضعف همّتك ويفتر عزمك: «فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا».

نحن نرى كل شي ء ونعلم بكل شي ء ولن ندعك وحدك.

وبما أنّ الحاجة للَّه وعبادته وتسبيحه وتقديسه وتنزيهه والإلتجاء إلى ذاته المقدسة كل هذه الامور تمنح الإنسان الدّعة والاطمئنان والقوة، فإنّ القرآن يعقّب

على الأمر بالصبر بالقول: «وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ».

سواء كان الحمد التسبيح سحراً، أو عند صلاة الفريضة، أو عند القيام من أي مجلس كان.

أجل، نوّر روحك وقلبك بتسبيح اللَّه وحمده فإنّهما يمنحان الصفاء ... وعطر لسانك بذكر اللَّه ... واستمدّ منه المدد واستعدّ لمواجهة أعدائك.

وفي الدرّ المنثور: إنّه لما كان بآخرة كان إذا قام من مجلسه قال: «سبحانك اللّهمّ وبحمدك أشهد أن لا إله إلّاأنت أستغفرك وأتوب إليك». فقيل يا رسول اللَّه! ما هؤلاء الكلمات التي تقولهن، قال: «هنّ كلمات علمنيهنّ جبرئيل كفارات لما يكون في المجلس».

ثم يضيف القرآن في آخر آية من الآيات محل البحث قائلًا: «وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ».

«نهاية تفسير سورة الطور»

الجزء الخامس

53. سورة النجم

محتوى السورة: هذه السورة- كما يقول بعض المفسرين- هي أوّل سورة تلاها النبي صلى الله عليه و آله جهراً وبصوت عال في حرم مكة بعد أن أضحت دعوته علناً ... وأصغى إليها المشركون وسجد لها جميع المسلمين حتى المشركون «1».

إنّ هذه السورة- لكونها مكية- تحمل بين ثناياها بحوثاً في الاصول الاعتقادية خاصة «النبوة والمعاد» وفيها تهديد ووعيد وإنذارات مكررة لإيقاظ الكفار وردعهم عن غيّهم.

ويمكن تقسيم محتوى هذه السورة إلى سبعة أقسام:

1- بداية السورة تتحدث بعد القَسم العميق المغزى عن حقيقة الوحي وإتّصال النبي صلى الله عليه و آله مباشرةً بمنزل الوحي «جبريل».

2- ثم يجري الكلام على معراج الرسول صلى الله عليه و آله، له علاقة مباشرة بالوحي أيضاً.

3- ثم يجري الكلام عن خرافات المشركين في شأن الأصنام وعبادة الملائكة.

4- ويفتح القرآن سبيل التوبة بوجه المنحرفين وعامة المذنبين، ويؤمّلهم بمغفرة اللَّه الواسعة، ويؤكّد على أنّ كلّاً مسؤول عن عمله، ولا تزر وازرة وزر اخرى.

5- وإكمالًا لهذه الأهداف يبيّن جوانب من

مسألة- المعاد- ويقيم دليلًا واضحاً على هذه

______________________________

(1) تفسير روح البيان 9/ 208.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 6

المسألة بما هو موجود في النشأة الاولى- الدنيا-.

6- وكعادة القرآن في سائر السور ترد في هذه السورة إشارات لعواقب الامم المؤلمة لعداوتهم للحق وعنادهم.

7- وأخيراً فإنّ السورة تختتم بالأمر بالسجود للَّه وعبادته.

وتسمية السورة ب «النجم» هي لورود هذا اللفظ في الآية الاولى من السورة ذاتها.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من قرأ سورة النجم اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بمحمّد صلى الله عليه و آله ومن جحد به».

ومن المسلّم به أنّ مثل هذا الثواب العظيم هو لُاولئك الذين يتّخذون تلاوة هذه السورة وسيلة للتفكير، ثم العمل، وأن يطبّقوا تعليمات هذه السورة على أنفسهم في حياتهم.

وَ النَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَ مَا غَوَى (2) وَ مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) ممّا يجدر بيانه أنّ السورة السابقة «الطور» ختمت بكلمة «النجوم»، وهذه السورة بُدئت ب «والنّجم»- إذ أقسم به اللَّه قائلًا: «وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى .

والظاهر من الآية ما يقتضيه إطلاق كلمة «والنجم» القسم بنجوم السماء كافّة التي هي من أدلّة عظمة اللَّه ومن أسرار عالم الوجود الكبرى ومن المخلوقات العظيمة للَّه تعالى.

والتعويل على غروبها وافولها مع أنّ طلوعها وإشراقها يسترعي النظر أكثر، هو لأنّ غروب النجم دليل على حدوثه كما أنّه دليل على نفي عقيدة عبادة الكواكب كما ورد في قصّة إبراهيم الخليل: «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَءَا كَوْكَبًا قَالَ هذَا رَبّى فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَاأُحِبُّ الْأَفِلِينَ» «1».

لكن لنعرف لِمَ أقسم اللَّه بالنجم؟ الآية التالية توضّح ذلك فتقول: «مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا

غَوَى .

______________________________

(1) سورة الأنعام/ 76.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 7

والتعبير ب «الصاحب» أي الصديق أو المحبّ لعلّه إشارة إلى أنّ ما يقوله نابع من الحبّ والشفقة.

ومن أجل التأكيد على هذا الموضوع وإثبات أنّ ما يقوله هو من اللَّه فإنّ القرآن يضيف قائلًا: «وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى .

وهذا التعبير مشابه التعبير الاستدلالي الوارد في الآية آنفة الذكر في صدد نفي الضلالة والغواية عن النبي صلى الله عليه و آله لأنّ أساس الضلال غالباً ما يكون من اتّباع الهوى.

ثم تأتي الآية التالية لتصرّح: «إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَى .

فهو لا يقول شيئاً من نفسه، وليس القرآن من نسج فكره! بل كل ما يقوله فمن اللَّه، والدليل على هذا الإدعاء كامن في نفسه، فالتحقيق في آيات القرآن يكشف بجلاء أنّه لن يستطيع إنسان مهما كان عالماً ومفكّراً- فكيف بالامّي الذي لم يقرأ ولم يكتب في محيط مملوء بالخرافات- أن يأتي بكلام غزير المحتوى كالقرآن، إذ ما يزال بعد مضي القرون والعهود ملهماً للأفكار، ويمكنه أن يكون أساساً لبناء مجتمع صالح مؤمن سالم.

وينبغي الإلتفات- ضمناً- إلى أنّ هذا القول ليس خاصّاً بآيات القرآن، بل بقرينة الآيات السابقة يشمل سنّة الرسول صلى الله عليه و آله أيضاً وأنّها وفق الوحي، لأنّ هذه الآية تقول بصراحة: «وما ينطق عن الهوى».

والحديث الطريف التالي شاهد آخر على هذا المدعى.

في الدرّ المنثور: أمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن تسد الأبواب التي في المسجد فشق عليهم قال:

حبة أنّي لأنظر إلى حمزة بن عبد المطلب وهو تحت قطيفة حمراء وعيناه تذرفان وهو يقول:

أخرجت عمك وأبابكر وعمر والعباس، وأسكنت ابن عمك فقال رجل يومئذ ما يالوا برفع ابن عمه قال فعلم رسول اللَّه صلى الله

عليه و آله أنّه قد شق عليهم فدعا الصلاة جامعة فلما اجتمعوا صعد المنبر فلم يسمع لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله خطبة قط كان أبلغ منها تمجيداً وتوحيداً فلما فرغ قال: «يا أيّها الناس ما أنا سددتها ولا أنا فتحتها ولا أنا أخرجتكم وأسكنته». ثم قرأ: «وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَى .

وهذا الحديث الذي يكشف عن علوّ مقام أمير المؤمنين علي عليه السلام بين جميع الامة الإسلامية بعد الرسول يدل على أنّه ليست أقوال النبي طبق الوحي فحسب بل حتى أعماله وأفعاله وتقريره وسيرته أيضاً.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 8

عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَ هُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَ فَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) تعقيباً على الآيات المتقدمة التي تحدثت عن نزول الوحي على الرسول صلى الله عليه و آله يجري الكلام في هذه الآيات عن معلم الوحي. تقول الآية: إنّ من له تلك القدرة العظيمة هو الذي علّم النبي صلى الله عليه و آله: «عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى .

وللتأكيد أكثر تضيف الآية بعدها إنّه ذو قدرة خارقة ومتسلط على كل شي ء: «ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى .

وقد علّمه هذا التعليم عندما كان بالافق الأعلى: «وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى .

ثم اقترب واقترب حتى كان بفاصلة قوسين من معلّمه أو أقل «ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى . ثم أنّ اللَّه تعالى أنزل عليه الوحي «فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى

.

«المِرّة»: معناها الفَتل، وبما أنّ الحبل كلّما فُتل أكثر كان أشدّ إحكاماً وقوة ... فإنّ هذه الكلمة استعملت في الامور المادية أو المعنوية المحكمة والقوية.

«تدلّى»: فعل مأخوذ من التدلّي ومعناه، كما يقول الراغب في مفرداته، الإقتراب، فبناءً على ذلك فهو تأكيد على جملة «دنا» الواردة قبله، وكلا الفعلين بمعنى واحد تقريباً.

«قاب»: بمعنى مقدار؛ و «قوس» (معروف معناه) وهو ما يوضع في وترة السهم ليُرمى به فمعنى «قاب قوسين» ... قدر طول قوسين.

ورد في الروايات عن أهل البيت عليهم السلام بأنّ المراد من هذه الآيات الرؤية الباطنية (القلبية) لذات اللَّه المقدسة التي تجلّت للرسول وتكرّرت في المعراج واهتزّ لها النبي وهالته.

فعلى هذا التفسير يبيّن القرآن نزول الوحي على النبي صلى الله عليه و آله بالصورة التالية:

إنّ اللَّه الذي هو شديد القوى علّم النبي في وقت بلغ حدّ الكمال والإعتدال في الافق الأعلى. ثم قرب وصار أكثر إقتراباً حتى كان بينه وبين اللَّه مقدار قاب قوسين أو أقل وهناك أوحى اللَّه إليه ما أوحاه. وبما أنّ هذا اللقاء الباطني يصعب تصوّره لدى البعض، فإنّه يؤكّد

مختصر الامثل، ج 5، ص: 9

أنّ ما رآه قلب النبي كان حقّاً وصادقاً ولا ينبغي تكذيبه أو مجادلته.

وكما بيّنا فإنّ تفسير هذه الآيات بشهود النبي الباطني للَّه تعالى هو أكثر صحّة وأكثر إنسجاماً وموافقة للرّوايات الإسلامية، وأكرم فضيلة للنبي، ومفهومها أجمل وألطف، واللَّه أعلم بحقائق الامور.

ونختم هذا البحث بحديث عن النبي صلى الله عليه و آله وآخر عن علي عليه السلام.

1- في تفسير القرطبي: سئل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هل رأيت ربّك؟ فقال: «رأيته بفؤادي».

2- وفي خطبة الإمام علي (179) في نهج البلاغة إذ سأله ذعلب اليماني: هل رأيت ربّك يا أمير

المؤمنين؟ فقال عليه السلام: «أفأعبد ما لا أرى؟ ...».

وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَ مَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) هذه الآيات هي أيضاً تتمة للأبحاث السابقة في شأن مسألة الوحي وإرتباط النبي صلى الله عليه و آله باللَّه والشهود الباطني، إذ تقول: «وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى . أي مرّة ثانية، وكان ذلك «عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى . أي عند شجرة سدر في الجنة تدعى بسدرة المنتهى ومحلها في جنة المأوى:

«عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السّدْرَةَ مَا يَغْشَى .

هذه حقائق واقعية شاهدها النبي صلى الله عليه و آله بام عينيه و «مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَاتِ رَبّهِ الْكُبْرَى .

ورغم أنّه لم يرد توضيح عن سدرة المنتهى في القرآن الكريم، إلّاأنّ الأخبار والروايات الإسلامية ذكرت لها أوصافاً كثيرة. وهذه التعابير تشير إلى أنّ المراد من هذه الشجرة ليس كما نألفه من الأشجار المورقة والباسقة على الأرض أبداً، بل إشارة إلى ظلّ عظيم في جوار رحمة اللَّه وهناك محل تسبيح الملائكة ومأوى الامم الصالحة.

أمّا «جَنَّةُ الْمَأْوَى فمعناها الجنة التي يُسكن فيها؛ والمراد من هذه الجنة هو «جنة البرزخ» التي تحلّ فيها أرواح الشهداء والمؤمنين بصورة مؤقتة.

والآية: «مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى إشارة إلى أنّ بصر النبي، وأنّ عينيه الكريمتين لم تميلا يمنة ولا يسرة، وما رآه النبي بعينيه هو عين الواقع؛ لأنّ «زاغ»: من مادة «زيغ» معناه الانحراف يميناً أو شمالًا؛ و «طغى : من الطغيان، معناه التجاوز عن الحد.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 10

إنّ التعبير ب «نَزْلَةً أُخْرَى معناه أنّ النبي صلى

الله عليه و آله رأى اللَّه في شهود باطني عند معراجه في السماء. وبتعبير آخر: نزل اللَّه مرّة اخرى على قلب النبي وتحقّق الشهود الكامل في (المنتهى إليه) القريب إلى اللَّه عند سدرة المنتهى حيث جنّة المأوى والسدرة تغطّيها حجب من أنوار اللَّه.

ورؤية قلب النبي في هذا الشهود لم تكن لغير الحق أبداً، ولم ير سواه، ولقد رأى من دلائل عظمة اللَّه في الآفاق والأنفس أيضاً وشاهدها بعينيه.

بحثان

1- ما هو الهدف من المعراج؟ الهدف من المعراج هو بلوغ النبي صلى الله عليه و آله مرحلة الشهود الباطني من جهة، ورؤية عظمة اللَّه في السماوات بالبصر الظاهري من جهة اخرى والتي أشارت إليه آخر آية من الآيات محل البحث: «لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَاتِ رَبّهِ الْكُبْرَى .

وفي الآية الاولى من سورة الإسراء: «لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَا» والإطلاع على مسائل مهمّة- كثيرة- كأحوال الملائكة وأهل الجنة وأهل النار وأرواح الأنبياء والتي كانت مصدر إلهام للنّبي طوال عمره الشريف في تعليم وتربية الناس.

2- جانب من إيحاءات اللَّه وكلماته لرسوله في ليلة المعراج: في كتاب ارشاد القلوب للديلمي: روي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: «أنّ النبي صلى الله عليه و آله سأل ربّه سبحانه ليلة المعراج فقال:

يا ربّ أيّ الأعمال أفضل؟! فقال اللَّه عزّ وجل: ليس شي ء عندي أفضل من التوكل عليّ والرّضا بما قسمت. يا محمّد! وجبت محبّتي للمتحابّين فيّ، ووجبت محبّتي للمتعاطفين فيّ، ووجبت محبّتي للمتواصلين فيّ، ووجبت محبّتي للمتوكّلين عليّ، وليس لمحبتي علم ولا غاية ولا نهاية».

وجاء في جانب آخر: «يا أحمد «1» فاحذر أن تكون مثل الصبي إذا نظر إلى الأخضر والأصفر أحبّه وإذا اعطي شي ء من الحلو والحامض اغترّ به. فقال: يا ربّ، دُلّني

على عمل أتقرّب به إليك.

قال: اجعل ليلك نهاراً ونهارك ليلًا. قال: ربّ وكيف ذلك؟ قال: اجعل نومك صلاة وطعامك الجوع».

كما جاء في مكان آخر منه: «يا أحمد، محبّتي محبّة للفقراء فادن الفقراء وقرّب مجلسهم

______________________________

(1) إنّ إسم النبي في كل مكان من هذا الحديث ورد بلفظ أحمد إلّافي بدايته، أجل فاسم النبي في الأرض محمّد وفي السماء أحمد.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 11

منك ادنِك وبعّد الأغنياء وبعّد مجلسهم منك فإنّ الفقراء أحبّائي».

وجاء في موضع آخر أيضاً: «يا أحمد، أبغض الدنيا وأهلها وأحبّ الآخرة وأهلها. قال يا ربّ ومن أهل الدنيا ومن أهل الآخرة؟ قال: أهل الدنيا من كثر أكله وضحكه ونومه وغضبه، قليل الرضا لا يعتذر إلى من أساء إليه ولا يقبل معذرة من اعتذر إليه، كسلان عند الطاعة، شجاع عند المعصية، أمله بعيد وأجله قريب، لا يحاسب نفسه، قليل المنفعة، كثير الكلام، قليل الخوف، كثير الفرح عند الطعام، وإنّ أهل الدنيا لا يشكرون عند الرخاء ولا يصبرون عند البلاء، كثير الناس عندهم قليل، يحمدون أنفسهم بما لا يفعلون، ويدّعون بما ليس لهم، ويتكلّمون بما يتمنّون ويذكرون مساوي الناس ويخفون حسناتهم.

قال: يا ربّ، هل يكون سوى هذا العيب في أهل الدنيا؟ قال: يا أحمد، إنّ عيب أهل الدنيا كثير، فيهم الجهل والحمق، لا يتواضعون لمن يتعلّمون منه، وهم عند أنفسهم عقلاء وعند العارفين حمقاء».

ثم يتناول الحديث أهل الجنة فيقول: «يا أحمد، إنّ أهل الخير وأهل الآخرة رقيقة وجوههم، كثير حياؤهم، قليل حمقهم، كثير نفعهم، قليل مكرهم، الناس منهم في راحة وأنفسهم منهم في تعب، كلامهم موزون، محاسبين لأنفسهم، متعبين لها، تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، أعينهم باكية وقلوبهم ذاكرة، إذا كُتب الناس من الغافلين كتبوا من الذاكرين،

في أوّل النعمة يحمدون وفي آخرها يشكرون، دعاؤهم عند اللَّه مرفوع، وكلامهم مسموع، تفرح الملائكة بهم، ... الناس [الغَفلَة] عندهم موتى واللَّه عندهم حي قيّوم كريم، يدعون المدبرين كرماً ويريدون المقبلين تلطّفاً قد صارت الدنيا والآخرة عندهم واحدة، يموت الناس مرّة ويموت أحدهم في كل يوم سبعين مرّة من مجاهدة أنفسهم ومخالفة هواهم ... وإن قاموا بين يدي كأنّهم بنيان مرصوص لا أرى في قلبهم شغلًا لمخلوق ... فوعزّتي وجلالي لأحيينّهم حياةً طيّبةً إذا فارقت أرواحهم من جسدهم ولا اسلّط عليهم ملك الموت ولا يلي قبض روحهم غيري ولأفتحنّ لروحهم أبواب السماء كلها ولأرفعن الحجب كلها دوني، ولآمرنّ الجنان فلتزيننّ»

... «يا أحمد، إنّ العبادة عشرة أجزاء تسعة منها طلب الحلال فإذا طيّبت مطعمك ومشربك فأنت في حفظي وكنفي».

وجاء في مكان آخر منه: «يا أحمد، هل تدري أيّ عيش أهنأ وأيّ حياة أبقى؟ قال اللّهمّ لا.

قال: أمّا العيش الهني ء فهو الذي لا يفترّ صاحبه عن ذكري ولا ينسى نعمتي ولا يجهل حقي،

مختصر الامثل، ج 5، ص: 12

يطلب رضاي في ليله ونهاره. وأمّا الحياة الباقية فهي التي يعمل لنفسه حتى تهون عليه الدنيا وتصغر في عينه وتعظم الآخرة عنده ويؤثر هواي على هواه ويبتغي مرضاتي ويعظّم حق عظمتي ويذكر علمي به ويراقبني بالليل والنهار عند كل سيّئة أو معصية وينقّي قلبه عن كل ما أكره، ويبغض الشيطان ووساوسه ولا يجعل لإبليس على قلبه سلطاناً وسبيلًا فإذا فعل ذلك أسكنت قلبه حبّاً حتى أجعل قلبه لي وفراغه وإشتغاله وهمّه وحديثه من النعمة التي أنعمت بها على أهل محبّتي من خلقي وافتح عين قلبه وسمعه حتى يسمع بقلبه وينظر بقلبه إلى جلالي وعظمتي». وأخيراً فإنّ هذا الحديث القدسي الكريم يختتم

بهذه العبارات المؤثّرة: «يا أحمد، لو صلّى العبد صلاة أهل السماء والأرض ويصوم صيام أهل السماء والأرض ويطوي من الطعام مثل الملائكة، ولبس لباس العاري ثم أرى في قلبه من حبّ الدنيا ذرّة أو سعتها أو رئاستها أو حليّها أو زينتها لا يجاورني في داري ولأنزعنّ من قلبه محبّتي وعليك سلامي ورحمتي والحمد للَّه ربّ العالمين» «1».

هذه الأحاديث القدسية «من ربّ العرش» التي تحمل روح الإنسان إلى أوج السماوات معها وتعرج به إلى حالة الشهود هي قسم من الحديث القدسي المشار إليه آنفاً.

ونضيف إلى ذلك أنّنا على يقين أنّه كان بين النبي ومحبوبه في تلك الليلة الكريمة أسرار وإشارات وكلمات اخرى لا تستطيع الآذان الإصغاء إليها ولا الأفكار الساذجة إستيعابها؛ ولذلك بقيت في نفس النبي صلى الله عليه و آله طيّ الكتمان فلم يَبُح بها لأحد إلّالخلصائه المختصين به.

أَ فَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَ الْعُزَّى (19) وَ مَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ مَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَ لَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) هذه الأصنام وليدة أهوائكم: بعد بيان الأبحاث المتعلّقة بالتوحيد والوحي والمعراج وآيات عظمة الواحد الأحد في السماء، يتناول القرآن أفكار المشركين، فينقضها ويتحدث عن معتقداتهم الخرافية ... فيقول: بعد أن أدركتم عظمة اللَّه وآياته في خلقه فهل أنّ أصنامكم

______________________________

(1) بحار الأنوار 74/ 21.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 13

مثل اللات والعزّى والصنم الثالث وهو «مناة» بإمكانها أن تنفعكم أو تضرّكم: «أَفَرَءَيْتُمُ اللتَ وَالْعُزَّى وَمَنَوةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى .

مع أنّكم تزعمون أنّ قيمة البنت دون قيمة الولد ولو

بلغكم أنّ أزواجكم أنجبن بنات حزنتم واسودّت وجوهكم.

«تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيْزَى . فهذه قسمة غير عادلة بينكم وبين اللَّه تعالى فعلام تجعلون نصيب اللَّه دون نصيبكم؟!

وهكذا يتناول القرآن أفكارهم الخرافية مستهزئاً بها! ويقول لهم: إنّكم ترون البنت عاراً وذلّةً وتئدونها وهي حيّة في القبر، وفي الوقت ذاته تزعمون بأنّ الملائكة بنات اللَّه، ولا تعبدون الملائكة من دون اللَّه فحسب بل تصنعون لها التماثيل وتجعلون لها تلك القدسية.

ومن هنا يبدو واضحاً أنّ العرب الجاهليين كانوا يعبدون بعض هذه الأصنام على الأقل على أنّها تماثيل الملائكة، الملائكة التي يسمّون كلّاً منها بربّ النوع ومدير الوجود ومدبّره، وكانوا يرون أنّ الملائكة بنات اللَّه.

ومن هنا يتبيّن أنّ القرآن لا يقصد إمضاء ما كان عليه العرب من التفريق بين الذكر والانثى، بل يريد بيان ما هو مقبول ومسلّم عندهم (وهو منطق الجدل)، وإلّا فلا فرق في نظر الإسلام ومنطقه بين الذكر والانثى من حيث القيمة الإنسانية، ولا الملائكة فيهم ذكر وانثى، ولا هم بنات اللَّه، وليس عند اللَّه من ولد أساساً.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث يقول القرآن بضرس قاطع: «إِنْ هِىَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ».

فلا دليل لديكم من العقل، ولا دليل عن طريق الوحي على مدّعاكم، وليس لديكم إلّا حفنة من الأوهام والخيالات الباطلة.

ثم يختتم القرآن الآية بالقول: «إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ». فهذه الخيالات والموهومات وليدة هوى النفس «وَلَقَدْ جَاءَهُم مّن رَّبّهِمُ الْهُدَى .. إلّاأنّهم أغمضوا أعينهم عنه وخلّفوه وراء ظهورهم وتاهوا في هذه الأوهام والضلالات.

وأساساً فإنّ «هوى النفس» ذاته يعدّ أكبر الأصنام وأخطرها، وهو الأصل لظهور الأصنام الاخرى.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 14

أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ

الْآخِرَةُ وَ الْأُولَى (25) وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَرْضَى (26) هذه الآيات أيضاً تتناول بالبحث والتعقيب موضوع عبادة الأصنام وخرافتها، وهي تتمّة لما سبق بيانه في الآيات المتقدمة. فتتناول أوّلًا الامنيات الجوفاء عند عبدة الأصنام وما كانوا يتوقّعون من الأصنام: «أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى .

تُرى! هل من الممكن أن تشفع هذه الأجسام التي لا قيمة لها ولا روح فيها عند اللَّه سبحانه؟ أو يُلتجأ إليها عند المشكلات؟ كلّا! «فَلِلَّهِ الْأَخِرَةُ وَالْأُولَى .

إنّ عالم الأسباب يدور حول محور إرادته، وكل ما لدى الموجودات فمن بركات وجوده، فالشفاعة من اختياراته أيضاً، وحلّ المشاكل بيد قدرته كذلك.

وهكذا فإنّ القرآن يقطع أمل المشركين تماماً- بشفاعة الأصنام.

وفي آخر الآيات محل البحث يقول القرآن مضيفاً ومؤكّداً على هذه المسألة: «وَكَم مّن مَّلَكٍ فِى السَّموَاتِ لَاتُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ شَيًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى .

فحيث لا تستطيع الملائكة على عظمتها حتى ولو بشكل جماعي أن تشفع لأحد إلّابإذن اللَّه ورضاه، فما عسى يُنتظر من هذه الأصنام التي لا قيمة لها.

بحث

سعة الأماني: الأمل أو التمنّي إنّما ينبع من محدودية قدرة الإنسان وضعفه، الإنسان إذا كانت له علاقة بالشي ء ولم يستطع أن يبلغه ويحقّقه فإنّه يأخذ صورة التمنّي عنده ...

وبالطبع قد تكون أمانيّ الإنسان أحياناً نابعة من روحه العالية وباعثاً على الحركة والجدّ والنشاط والجهاد وسيره التكاملي ... كما لو تمنّى بأن يتقدم الناس بالعلم والتقوى والشخصية والكرامة.

إلّا أنّه كثيراً ما تكون هذه الأحلام «والأماني» كاذبة، وعلى العكس من الأماني الصادقة فانّها- أي الكاذبة- أساس الغفلة والجهل والتخدير والتخلّف كما لو تمنّى الإنسان الخلود في

الأرض والعمر الدائم، وأن يملك أموالًا طائلة، وأن يحكم الناس جميعاً وأمثال هذا الخيال الموهوم.

ولذلك فقد رغّبت الروايات الإسلامية الناس في تمنّي الخير، كما في كتاب الخصال عن

مختصر الامثل، ج 5، ص: 15

علي عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من تمنّى شيئاً وهو للَّه عزّ وجل رضاً لم يخرج من الدنيا حتى يعطاه».

إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) هذه الآيات- محل البحث- كالآيات المتقدمة، تبحث موضوع نفي عقائد المشركين، فتقول أوّلها: «إِنَّ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالْأَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى .

أجل، إنّ هذا الكلام القبيح والمخجل إنّما يصدر من اناس لا يعتقدون بيوم الحساب ولا بجزاء أعمالهم، فلو كانوا يعتقدون بالآخرة لما تجاسروا وقالوا مثل هذا الكلام، وأي كلام؟! كلام ليس لهم فيه أدنى دليل ... بل الدلائل العقلية تبرهن على أنّه ليس للَّه من ولد، وليس الملائكة إناثاً، ولا هم بنات اللَّه كذلك.

ثم يتناول القرآن واحداً من الأدلة الواضحة على بطلان هذه التسمية فيقول معقّباً:

«وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَايُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيًا».

فالإنسان الهادف والمعتقد لا يطلق كلامه دون علم ودراية، ولا ينسب أيّة نسبة لأحد دونما دليل .. فالتعويل على الظن والتصور إنّما هو من عمل الشيطان أو من يتّصف بالشيطانية ... وقبول الخرافات والأشياء الموهومة دليل الإنحراف وعدم العقل.

ولكن الظن

المعقول وهو ما يخطر في الذهن، ويكون مطابقاً للواقع غالباً، وعليه يبني الإنسان أعماله و سلوكياته اليومية عادة- كشهادة الشهود في المحكمة وقول أهل الخبرة وظواهر الألفاظ وأمثال ذلك- غير داخل في هذه الآيات، وهذه الامور نوع من العلم العرفي لا الظن.

ومن أجل أن يبيّن القرآن أنّ هؤلاء الجماعة ليسوا أهلًا للإستدلال والمنطق الصحيح، وقد ألهاهم حب الدنيا عن ذكر اللَّه وجرّهم إلى الوحل في خرافاتهم وأوهامهم يضيف قائلًا:

«فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَوةَ الدُّنْيَا».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 16

إنّما عبارة (ذكرنا) ذو مفهوم واسع بحيث يشمل كل توجّه نحو اللَّه، سواء أكان ذلك عن طريق القرآن، أو عن طريق العقل، أو عن طريق السنّة، أو تذكّر القيامة وما إلى ذلك.

وربّما لا حاجة إلى التذكير أنّ الأمر بالإعراض عن هذه الفئة (أهل الدنيا) لا ينافي تبليغ الرسالة الذي هو وظيفة النبي الأساسية، لأنّ التبليغ والإنذار والبشارة كلها لا تكون إلّافي موارد احتمال التأثير، فحيث يعلم ويتيقّن عدم التأثير فلا يصحّ هدر الطاقات، وينبغي الإعراض بعد إتمام الحجة.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث يثبت القرآن إنحطاط أفكار هذه الفئة فيقول مضيفاً:

«ذلِكَ مَبْلَغُهُم مّنَ الْعِلْمِ».

إنّ آية أعلاه يمكن أن تكون إشارةً إلى خرافاتهم كعبادة الأصنام وجعلهم الملائكة بنات اللَّه: أي أنّ منتهى علمهم هو هذه الأوهام.

أو أنّها إشارة إلى حبّ الدنيا والأسر في قبضة الماديات، أي أنّ منتهى إدراكهم هو قناعتهم بالأكل والشرب والنوم والمتاع الفاني في هذه الدنيا وزبرجها وزخرفها الخ.

وقد جاء في الدعاء المعروف في أعمال شعبان المنقول عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «ولا تجعل الدنيا أكبر همّنا ولا مبلغ علمنا».

وتختتم الآية بالقول: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ

أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى .

ختام الآية يشير إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ اللَّه يعرف الضالين جيّداً كما يعرف المهتدين أيضاً، فيصبّ غضبه على الضالّين ويسبغُ لطفه على المهتدين، ويجازي كلّاً بعمله يوم القيامة.

وَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) لما كان الكلام في الآيات المتقدمة عن علم اللَّه بالضالين والمهتدين، فإنّ الآيات أعلاه تتمّة لما جاء آنفاً. تقول: «وَلِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 17

فالمالكية المطلقة في عالم الوجود له وحده، والحاكمية المطلقة على هذا العالم له أيضاً، ولذلك فإنّ تدبير عالم الوجود بيده فحسب. ولما كان الأمر كذلك فهو وحده الجدير بالعبادة والشفاعة.

إنّ هدفه الكبير من هذا الخلق الواسع ليستيقظ الإنسان في عالم الوجود وليسير في مسير التكامل في ضوء المناهج التكوينية والتشريعية وتعليم الأنبياء وتربيتهم، لذلك فإنّ القرآن يذكر نتيجة هذه المالكية فيختتم الآية بالقول: «لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِىَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى .

ثم يصف القرآن المحسنين في الآية التالية فيقول: «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ».

«الكبائر»: جمع كبيرة؛ و «الإثم» في الأصل هو العمل الذي يُبعد الإنسان عن الخير والثواب، لذلك يطلق على الذنب عادةً؛ و «اللمم»: معناه الإقتراب من الذنب. في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «اللمم: الرجل يلمّ بالذنب فيستغفر اللَّه منه».

والقرائن الموجودة في هذه الآية تشهد على هذا المعنى

أيضاً ... إذ قد تصدر من الإنسان بعض الذنوب، ثم يلتفت إليها فيتوب منها.

أضف إلى ذلك فإنّ الجملة التالية بعد الآية في القرآن تقول: «إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ».

وهذا يدل على أنّ ذنباً صدر من الإنسان وهو بحاجة إلى غفران اللَّه. يعنى أنّ الذين أحسنوا من الممكن أن ينزلقوا في منزلق ما فيذنبوا، إلّاأنّ الذنب على خلاف سجيّتهم وطبعهم وقلوبهم الطاهرة- وإنّما تقع الذنوب عَرضاً، ولذلك فما أن يصدر منهم الذنب إلّا ندموا وتذكّروا وطلبوا المغفرة من اللَّه سبحانه.

ويتحدث القرآن في ذيل الآية عن علم اللَّه المطلق مؤكّداً عدالته في مجازاة عباده حسب أعمالهم فيقول: «هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ».

وقوله «أنشأكم من الأرض» إمّا هو بإعتبار الخلق الأوّل عن طريق آدم عليه السلام الذي خلقه من تراب، أو باعتبار أنّ ما يتشكّل منه وجود الإنسان كله من الأرض، حيث له الأثر الكبير في التغذية وتركيب النطفة، ثم بعد ذلك له الأثر في مراحل نمو الإنسان أيضاً.

وعلى كل حال، فإنّ الهدف من هذه الآية أنّ اللَّه مطّلع على أحوالكم وعليم بكم منذ كنتم ذرّات في الأرض ومن يوم إنعقدت نطفتكم في أرحام الامّهات في أسجاف من الظلمات فكيف- مع هذه الحال- لا يعلم أعمالكم.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 18

وهذا التعبير مقدمة لما يليه من قوله تعالى: «فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى .

فلا حاجة لتعريفكم وتزكيتكم وبيان أعمالكم الصالحة، فهو مطّلع على أعمالكم وعلى ميزان خلوص نيّاتكم، وهو أعرف بكم منكم.

في علل الشرائع عن الإمام الباقر عليه السلام في تفسير قوله تعالى «فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ» قال:

«لا يفتخر أحدكم بكثرة صلاته وصيامه وزكاته ونسكه لأنّ اللَّه تعالى أعلم بمن اتّقى

منكم».

بحث

ما هي كبائر الإثم: إنّ كل ذنب فيه أحد الشروط التالية يعدّ كبيراً:

أ الذنوب التي ورد الوعيد من قبل اللَّه في شأنها والعذاب لمرتكبها.

ب الذنوب المذكورة في نظر أهل الشرع ولسان الروايات بأنّها عظيمة.

ج الذنوب التي عدّتها المصادر الشرعية أكبر من الذنوب التي هي من الكبائر.

د وأخيراً الذنوب المصرّح بها في الروايات المعتبرة بأنّها من الكبائر.

وقد ورد ذكر الكبائر في الروايات الإسلامية مختلفاً عددها فيه، إذ جاء في بعضها أنّها سبع. في ثواب الأعمال عن الإمام الصّادق عليه السلام قال: «... والكبائر السبع الموجبات: قتل النفس الحرام، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، والتعرب بعد الهجرة، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف».

وجاء في بعض الروايات أنّها «عشر»، وأوصلتها روايات اخر إلى «تسع عشرة» كبيرةً، وربّما ترقّى هذا العدد إلى أكثر مما ذكر في بعض الروايات أيضاً.

أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَ أَعْطَى قَلِيلًا وَ أَكْدَى (34) أَ عِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَنْ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)

سبب النّزول

في مجمع البيان: نزلت في عثمان بن عفان، كان يتصدق وينفق ماله، فقال له أخوه من الرضاعة عبداللَّه بن أبي سرح: ما هذا الذي تصنع يوشك أن لا يبقى لك شي ء؟ فقال عثمان:

مختصر الامثل، ج 5، ص: 19

إنّ لي ذنوباً، وإنّي أطلب بما أصنع رضى اللَّه وأرجو عفوه. فقال له عبداللَّه: أعطني ناقتك، وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها. فأعطاه، وأشهد عليه، وأمسك عن الصدقة. فنزلت الآيات.

وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة وكان قد

اتبع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على دينه، فعيره بعض المشركين، وقالوا: تركت دين الأشياخ وظلتهم، وزعمت أنّهم في النار؟ قال: إنّي خشيت عذاب اللَّه. فضمن له الذي عاتبه إن هو أعطاه شيئاً من ماله ورجع إلى شركه، أن يتحمل عنه عذاب اللَّه، ففعل. فأعطى الذي عاتبه بعض ما كان ضمن له، ثم بخل، ومنعه تمام ما ضمن له، فنزلت الآيات.

التّفسير

كان الكلام في الآيات السابقة في أن يجزي اللَّه تعالى من أساء بإساءته ويثيب المحسنين بإحسانهم ... وبما أنّه من الممكن أن يتصور أن يعذّب أحد بذنب غيره أو أن يتحمل أحد وزر غيره، فقد جاءت هذه الآيات لتنفي هذا التوهم في المقام، وبيّنت هذا الأصل الإسلامي المهم أنّ كلّاً يرى نتيجة عمله، فقالت أوّلًا: «أَفَرَءَيْتَ الَّذِى تَوَلَّى . أي تولّى من الإسلام أو الإنفاق. «وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى «1». بمعنى أنّه أنفق القليل ثم إمتنع وأمسك وهو يظنّ أنّ غيره سيحمل وزره يوم القيامة ..

«أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى . فأيّ رجل جاءهم من الغيب و «القيامة» فأخبرهم بأنّه يمكن أخذ الرشوة وتحمّل آثام الآخرين؟

وبعد هذا تأتي الآية الاخرى لتبيّن إعتراض القرآن الشديد على ذلك، وبيان لأصل كلي مطّرد في الأديان السماوية كلها فتقول: تُرى أهذا الذي إمتنع عن الإنفاق وآمن بالوعود الخيالية، ويريد أن يخلص نفسه من عذاب اللَّه بإنفاقه اليسير والزهيد من أمواله، أتغنيه هذه الخيالات والتصورات: «أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرهِيمَ الَّذِى وَفَّى «2».

«إبراهيم»: هو ذلك النبي العظيم الذي أدّى حق رسالة اللَّه، وبلّغ ما أمره به ووفي بجميع عهوده ومواثيقه، ولم يخش تهديد قومه وطاغوت زمانه، ذلك الإنسان الذي بذل نفسه للنيران وقلبه للرحمن وولده للقربان

وماله للُاخوان.

ثم تأتي الآية الاخرى لتقول: «أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى .

______________________________

(1) «أكدى»: مأخوذ من الكدية ومعناه الصلابة، ثم أطلق على من يمسك والبخيل.

(2) «وفّى»: مصدره توفية معناه البذل والأداء التامّ ..

مختصر الامثل، ج 5، ص: 20

«الوزر»: في الأصل مأخوذ من «الوَزَر»- على زنة خطر- ومعناه المأوى أو الكهف أو الملجأ الجبلي، ثم استعملت هذه الكلمة في الاعباء الثقيلة! لشباهتها الصخور الجبلية العظيمة، وأطلقت على الذنب أيضاً، لأنّه يترك عبئاً ثقيلًا على ظهر الإنسان. والمراد من «الوازرة» من يتحمل الوزر.

ولمزيد الإيضاح يضيف القرآن قائلًا: «وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى .

أمّا الآية التالية فتقول: «وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى . فالإنسان لا يرى غداً نتائج أعماله التي كانت في مسير الخير أو الشرّ فحسب، بل سيرى أعماله نفسها يوم الحساب، كما نجد التصريح بذلك في الآية (30) من سورة آل عمران: «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا».

أمّا الآية الأخيرة من الآيات محل البحث فتقول: «ثُمَّ يُجْزَيهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى .

والمراد من «الجزاء الأوفى» هو الجزاء الذي يكون طبقاً للعمل، وبالطبع هذا لا ينافي لطف اللَّه وتفضّله بأن يضاعف الجزاء على الأعمال الصالحة عشرة أضعاف أو عشرات الأضعاف ومئاتها وإلى ما شاء اللَّه.

اشير في الآيات- آنفة الذكر- إلى ثلاثة اصول من الاصول الإسلامية، وقد أكّدت عليها الكتب السماوية السابقة وهي:

أ) كل إنسان مسؤول عن ذنبه ووزره.

ب) ليس للإنسان في آخرته إلّاسعيه.

ج) يُجزي اللَّه كل إنسان على عمله الجزاء الأوفى.

وهكذا فإنّ القرآن يشجب الكثير من الأوهام والخرافات التي يهتمّ بها عامة الناس أو السائدة بينهم وكأنّها مذهب عقائدي.

وَ أَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَ أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَ أَبْكَى (43) وَ أَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَ أَحْيَا (44)

وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَ أَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَ أَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَ أَقْنَى (48) وَ أَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) كل شي ء ينتهي إليه: في هذه الآيات تتجلى بعض صفات اللَّه التي ترشد الإنسان إلى مسألة التوحيد وكذلك المعاد أيضاً. ففي هذه الآيات وإكمالًا للبحوث الواردة في شأن جزاء

مختصر الامثل، ج 5، ص: 21

الأعمال يقول القرآن: «وَأَنَّ إِلَى رَبّكَ الْمُنتَهَى .

وليس الحساب والثواب والجزاء في الآخرة بيد قدرته فحسب، فإنّ الأسباب والعلل جميعها تنتهي سلسلتها إلى ذاته المقدسة، وجميع تدبيرات هذا العالم تنشأ من تدبيراته، وأخيراً فإنّ ابتداء هذا العالم والموجودات وانتهاؤها كلّها منه وإليه، وتعود إلى ذاته المقدسة.

في تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إذا انتهى الكلام إلى اللَّه فأمسكوا وتكلموا فيما دون العرش، ولا تكلموا فيما فوق العرش». أي لا تتكلّموا في ذات اللَّه فإنّ العقول تحار فيه ولا تصل إلى حدّ فإنّه لا يمكن للعقول المحدودة أن تفكّر في ما هو غير محدود لأنّه مهما فكّرت العقول فتفكيرها محدود وحاشا للَّه أن يكون محدوداً.

إنّ هذا التفسير لا ينافي ما ذكرناه آنفاً ويمكن الجمع بين المفهومين في الآية.

ثم يضيف القرآن في الآية التالية مبيّناً حاكمية اللَّه في أمر ربوبيته وإنتهاء امور هذا العالم إليه فيقول: «وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا* وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى .

وهذه الآيات الأربع وما قبلها هي بيان جامع وتوضيح طريف لمسألة انتهاء الامور إليه وتدبيره وربوبيته، لأنّها تقول: إنّ موتكم وحياتكم بيده واستمرار النسل عن طريق الزوجين بيده، وكل ما يحدث في الحياة فبأمره، فهو يضحك، وهو

يبكي، وهو يميت، وهو يحيي، وهكذا فإنّ أساس الحياة والمعوّل عليه من البداية حتى النهاية هو ذاته المقدسة.

وقد جاء في بعض الأحاديث ما يوسع مفهوم الضحك والبكاء في هذه الآية ففسّرت بأنّه سبحانه: «أبكى السماء بالمطر وأضحك الأرض بالنبات» «1».

وبعد ذكر الامور المتعلقة بالربوبية والتدبير من قِبَل اللَّه يتحدث القرآن عن موضوع المعاد فيقول: «وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى .

«النشأة»: معناها الإيجاد والتربية، و «النشأة الاخرى» ليست شيئاً سوى القيامة.

ثم يضيف القرآن في الآية التالية قائلًا: «وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى .

فاللَّه سبحانه لم يرفع حاجات الإنسان المادية عنه بلطفه العميم فحسب، بل أولاه غنى يرفع عنه حاجاته المعنوية من امور التربية والتعليم والتكامل عن طريق إرسال الرسل إليه وإنزال الكتب السماوية وإعطائه المواهب العديدة.

______________________________

(1) تفسير علي بن إبراهيم القمي 2/ 339.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 22

«أغنى»: فعل مشتق من غني ومعناه عدم الحاجة؛ و «أقنى»: فعل مشتق من قنية على وزن جِزية، ومعناها الأموال التي يدّخرها الإنسان. فيكون معنى الآية على هذا النحو: هو أغنى أي رفع الحاجات الفعلية، وأقنى معناه إيلاء المواهب التي تدخّر سواء في الامور المادية كالحائط أو البستان والأملاك وما شاكلها، أو الامور المعنوية كرضا اللَّه سبحانه الذي يُعدّ أكبر «رأس مال» دائم.

أمّا آخر آية من الآيات محل البحث فتقول: «وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشّعْرَى .

تخصيص القرآن «الشعرى» النجم المعروف في السماء بالذكر، بالإضافة إلى أنّه أكثر النجوم لمعاناً ويطلع عند السحر في مقربة من الجوزاء مما يلفت النظر تماماً ... فإنّ طائفةً من المشركين العرب كانت تعبده، فالقرآن يشير إلى أنّ الأولى بالعبادة هو اللَّه لأنّه ربّ الشعرى «وربّكم».

وَ أَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى (50) وَ ثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ

قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَ أَطْغَى (52) وَ الْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) ألا تكفي دروس العبرة هذه: هذه الآيات- كالآيات المتقدمة- تستكمل المسائل المذكورة في الصحف الاولى وما جاء في صحف إبراهيم وموسى.

وكانت الآيات المتقدمة قد ذكرت عشر مسائل ضمن فصلين:

الأوّل: كان ناظراً إلى مسؤولية كل إنسان عن أعماله.

الثاني: ناظر إلى إنتهاء جميع الخطوط والحوادث إلى اللَّه سبحانه. أمّا الآيات محل البحث فتتحدث عن مسألة واحدة- وإن شئت قلت- تتحدث عن موضوع واحد ذلك هو مجازاة أربع امم من الامم المنحرفة الظالمة وإهلاكهم، وفي ذلك إنذار لُاولئك الذين يلوون رؤوسهم عن طاعة اللَّه ولا يؤمنون بالمبدأ والمعاد.

فتبدأ الآية الاولى من الآيات محل البحث فتقول: «وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى .

وصف عاد ب «الاولى» إمّا لقدمها حتى أنّ العرب تطلق على كل قديم أنّه «عاديّ» أو لوجود امّتين في التاريخ باسم «عاد» والامّة المعروفة التي كانت نبيّها هود عليه السلام تُدعى ب «عاد الاولى».

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلًا: «وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى .

مختصر الامثل، ج 5، ص: 23

ويقول في شأن قوم نوح: «وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى .

لأنّ نبيّهم نوحاً عاش معهم زماناً طويلًا، وبذل قصارى جهده في إبلاغهم ونصحهم، فلم يستجب لدعوته إلّاقليل منهم، وأصرّوا على شركهم وكفرهم وعتوّهم وإستكبارهم وإيذائهم نبيّهم نوحاً وتكذيبهم إيّاه وعبادة الأوثان بشكل فظيع كما سنعرض تفصيل ذلك في تفسير سورة نوح إن شاء اللَّه.

وأمّا رابعة الامم فهي «قوم لوط» المشار إليهم بقوله تعالى: «وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى .

والظاهر أنّ زلزلة شديدة أصابت حيّهم وقريتهم فقذفت عماراتهم نحو السماء بعد إقتلاعها من الأرض وقلبتها على الأرض، وطبقاً لبعض الروايات كان جبرئيل

قد إقتلعها بإذن اللَّه وجعل عاليها سافلها ودمّرها تدميراً ... «فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى .

لقد امطروا بحجارة من السماء، فغشّت حيّهم وعماراتهم المنقلبة ودفنتها عن آخرها.

وفي ختام هذا البحث يشير القرآن إلى مجموع النعم الوارد ذكرها في الآيات المتقدمة ويلمح إليها بصورة استفهام إنكاري قائلًا: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكَ تَتَمَارَى .

فهل تشكّ وتتردّد بنعم اللَّه، كنعمة الحياة أو أصل نعمة الخلق والإيجاد، أو نعمة أنّ اللَّه لا يأخذ أحداً بوزر أحد؛ وما جاء في الصحف الاولى وأكّده القرآن؟!

صحيح أنّ المخاطب بالآية هو شخص النبي صلى الله عليه و آله إلّاأنّ مفهومها شامل لجميع المسلمين، بل الهدف الأصلي من هذه الآية إفهام الآخرين.

هذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَ فَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَ تَضْحَكُونَ وَ لَا تَبْكُونَ (60) وَ أَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَ اعْبُدُوا (62) تعقيباً على الآيات المتقدمة التي كانت تتحدث عن إهلاك الامم السالفة لظلمهم، تتوجّه هذه الآيات- محل البحث- إلى المشركين والكفار ومنكري دعوة النبي صلى الله عليه و آله فتخاطبهم بالقول: «هذَا نَذِيرٌ مّنَ النُّذُرِ الْأُولَى . أي النبي أو القرآن نذير كمن سبقه من المنذرين.

وقوله عن «القرآن أو النبي «هذا نذير من النذر الاولى» يعني أنّ رسالة محمّد وكتابه

مختصر الامثل، ج 5، ص: 24

السماوي لم يكن (أي منهما) موضوعاً لم يسبق إليه، فقد أنذر اللَّه امماً بمثله في ما مضى من القرون، فعلام يكون ذلك مثار تعجبكم.

ومن أجل أن يلتفت المشركون والكفار إلى الخطر المحدق بهم ويهتّموا به أكثر يضيف القرآن قائلًا: «أَزِفَتِ الْأَزِفَةُ».

والتعبير ب «الآزفة» عن القيامة هو لإقترابها وضيق وقتها، لأنّ الكلمة هذه مأخوذة من الأزف على

وزن نَجَف، ومعناه ضيق الوقت، وبالطبع فإنّ مفهومه يحمل الإقتراب أيضاً.

وتسمية القيامة بالآزفة في القرآن بالإضافة إلى هذه الآية محل البحث، واردة في الآية (18) من سورة غافر أيضاً ... وهو تعبير بليغ وموقظ، وهذا المعنى جاء بتعبير آخر في الآية (1) من سورة القمر: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ». فإنّ إقتراب القيامة مع الأخذ بنظر الاعتبار عمر الدنيا المحدود والقصير يمكن إدراكه بوضوح، خاصة ما ورد أنّ من يموت تقوم قيامته الصغرى.

ثم يضيف القرآن قائلًا: أنّ المهمّ هو أنّه لا أحد غير اللَّه بإمكانه إغاثة الناس في ذلك اليوم والكشف عمّا بهم من شدائد: «لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ».

«الكاشفة»: هنا معناه مزيحة الشدائد.

فالحاكم والمالك وصاحب القدرة في ذلك الحين وكل حين هو اللَّه سبحانه، فإذا أردتم النجاة فالتجئوا إليه وإلى لطفه وإذا طلبتم الدّعة والأمان فاستظلّوا بالإيمان به.

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلًا: «أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ».

ولعلّ هذه الجملة إشارة إلى القيامة الوارد ذكرها آنفاً، أو أنّها إشارة إلى القرآن، لأنّه ورد التعبير عنه ب «الحديث» في بعض الآيات كما في الآية (34) من سورة الطور، أو أنّ المراد من «الحديث» هو ما جاء من القصص عن هلاك الامم السابقة أو جميع هذه المعاني.

ثم يقول مخاطباً: «وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ وَأَنتُمْ سَامِدُونَ». أي في غفلة مستمرّة ولهو وتكالب على الدنيا، مع أنّه لا مجال للضحك هنا ولا الغفلة والجهل، بل ينبغي أن يُبكى على الفرص الفائتة والطاعات المتروكة، والمعاصي المرتكبة، وأخيراً فلابد من التوبة والرجوع إلى ظلّ اللَّه ورحمته.

ويقول القرآن في آخر آية من الآيات محل البحث- وهي آخر آية من سورة النجم أيضاً

مختصر الامثل، ج 5، ص: 25

- بعد أن بيّن أبحاثاً متعددة حول إثبات التوحيد ونفي

الشرك: «فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا» «1».

فإذا أردتم أن تسيروا في الصراط المستقيم والسبيل الحق فاسجدوا لذاته المقدسة فحسب، إذ للَّه وحده تنتهى الخطوط في عالم الوجود، وإذا أردتم النجاة من العواقب الوخيمة التي أصابت الامم السالفة لشركهم وكفرهم فوقعوا في قبضة عذاب اللَّه، فاعبدوا اللَّه وحده.

الذي يجلب النظر- كما جاء في روايات متعددة- أنّ النبي صلى الله عليه و آله عندما تلا هذه الآية وسمعها المؤمنون والكافرون سجدوا لها جميعاً.

وليست هذه هي المرّة الاولى التي يترك القرآن بها أثره في قلوب المنكرين ويجذبهم إليه دون اختيارهم، إذ ورد في قصّة «الوليد بن المغيرة» أنّه لمّا سمع آيات فصّلت وبلغ النبي صلى الله عليه و آله (في قوله) إلى الآية: «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ». قام من مجلسه واهتزّ لها وجاء إلى البيت فظنّ جماعة من المشركين أنّه صبا إلى دين محمّد.

«نهاية تفسير سورة النجم»

______________________________

(1) ينبغي الإلتفات إلى أنّ هذه الآية هي ثالثة السجدات الواجبة في القرآن الكريم، وإذا ما تلاها أحد بتمامها، أو سمعها من آخر فيجب أن يسجد. طبعاً لا يجب فيها الوضوء، لكن يجب الإحتياط في وضع الجبهة على ما يصحّ السجود عليه.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 27

54. سورة القمر

محتوى السورة: تحوي هذه السورة خصوصيات السور المكية التي تتناول الأبحاث الأساسية حول المبدأ والمعاد، وخصوصاً العقوبات التي نزلت بالامم السالفة، وذلك نتيجة عنادهم ولجاجتهم في طريق الكفر والظلم والفساد .. مما أدّى بها الواحدة تلو الاخرى إلى الإبتلاء بالعذاب الإلهي الشديد، وسبّب لهم الدمار العظيم.

ونلاحظ في هذه السورة تكرار قوله تعالى: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ» وذلك بعد كل مشهد من مشاهد العذاب الذي يحلّ بالامم لكي يكون درساً وعظة للمسلمين

والكفار.

ويمكن تلخيص أبحاث هذه السورة في عدّة أقسام هي:

1- تبدأ السورة بالحديث عن قرب وقوع يوم القيامة، وموضوع شقّ القمر، وإصرار وعناد المخالفين في إنكار الآيات الإلهية.

2- ثم يبحث بتركيز واختصار عن أوّل قوم تمرّدوا على الأوامر الإلهية، وهم قوم نوح، وكيفية نزول البلاء عليهم.

3- ثم يتعرض إلى قصة قوم «عاد» وأليم العذاب الذي حلّ بهم.

4- ثم تتحدث الآيات عن قوم «ثمود» ومعارضتهم لنبيّهم صالح عليه السلام وبيان معجزة الناقة،

مختصر الامثل، ج 5، ص: 28

وأخيراً إبتلاؤهم بالصيحة السماوية.

5- تتطرق الآيات بعد ذلك إلى الحديث عن قوم «لوط» ضمن بيان واف لإنحرافهم الأخلاقي ... ثم عن السخط الإلهي عليهم وإبتلائهم بالعقاب الرباني.

6- ثم تركّز الآيات الكريمة الحديث عن آل فرعون، وما نزل بهم من العذاب الأليم جزاء كفرهم وضلالهم.

7- ثم تعرض مقارنة بين هذه الامم ومشركي مكة ومخالفي الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله والمستقبل الخطير الذي ينتظر مشركي مكة فيما إذا استمرّوا على عنادهم وإصرارهم في رفض الدعوة الإلهية.

وتنتهي السورة ببيان صور ومشاهد من معاقبة المشركين، وجزاء وأجر المؤمنين والمتقين.

وسورة القمر تتميّز آياتها بالقصر والقوّة والحركية.

وقد سمّيت هذه السورة ب (القمر) لأنّ الآية الاولى منها تتحدث عن شقّ القمر.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ سورة اقتربت الساعة في كل غبّ بُعث يوم القيامة ووجهه على صورة القمر ليلة البدر، ومن قرأها كل ليلة كان أفضل وجاء يوم القيامة ووجهه مسفر على وجوه الخلائق».

ومن الطبيعي أن تكون النورانية التي تتّسم بها هذه الوجوه تعبيراً عن الحالة الإيمانية الراسخة في قلوبهم نتيجة التأمل والتفكر في آيات هذه السورة المباركة والعمل بها بعيداً عن التلاوة السطحية الفارغة

من التدبر في آيات اللَّه.

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَ كَذَّبُوا وَ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَ كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) شقّ القمر: يتناول الحديث في الآية الاولى حادثتين مهمّتين:

أحدهما: قرب وقوع يوم القيامة، والذي يقترن بأعظم تغيير في عالم الخلق، وبداية لحياة جديدة في عالم آخر، ذلك العالم الذي يقصر فكرنا عن إدراكه نتيجة محدودية علمنا وإستيعابنا للمعرفة الكونية.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 29

والحادثة الثانية التي تتحدث الآية الكريمة عنها هي معجزة إنشقاق القمر العظيمة التي تدلّل على قدرة الباري ء عزّ وجل المطلقة، وكذلك تدلّ- أيضاً- على صدق دعوة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله. قال تعالى: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ».

وجدير بالذكر أنّ سورة النجم التي أنهت آياتها المباركة بالحديث عن يوم القيامة «أَزِفَتِ الْأَزِفَةُ» تستقبل آيات سورة القمر بهذا المعنى أيضاً، مما يؤكّد قرب وقوع اليوم الموعود رغم أنّه عندما يقاس بالمقياس الدنيوي فقد يستغرق آلاف السنين ويتوضّح هذا المفهوم، حينما نتصور مجموع عمر عالمنا هذا من جهة، ومن جهة اخرى عندما نقارن جميع عمر الدنيا في مقابل عمر الآخرة فإنّها لا تكون سوى لحظة واحدة.

إنّ إقتران ذكر هاتين الحادثتين في الآية الكريمة: «إنشقاق القمر واقتراب الساعة» دليل على قرب وقوع يوم القيامة، حيث إنّ ظهور الرسول الأكرم- وهو آخر الأنبياء- قرينة على قرب وقوع اليوم المشهود.

ومن جهة اخرى، فإنّ إنشقاق القمر دليل على إمكانية إضطراب النظام الكوني، ونموذج مصغّر للحوادث العظيمة التي تسبق وقوع يوم القيامة في هذا العالم، حيث إندثار الكواكب والنجوم والأرض يعني حدوث عالم جديد، استناداً إلى الروايات المشهورة التي ادّعى البعض تواترها.

في تفسير مجمع البيان: قال ابن عباس: اجتمع

المشركون إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالوا: إن كنت صادقاً فشقّ لنا القمر فرقتين. فقال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «إن فعلت تؤمنون»؟ قالوا: نعم.

وكانت ليلة بدر فسأل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ربّه أن يعطيه ما قالوا، فانشقّ القمر فرقتين ورسول اللَّه ينادي: «يا فلان! يا فلان! اشهدوا».

يقول سبحانه: «وَإِن يَرَوْا ءَايَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ».

والمراد من قوله تعالى «مستمر» أنّهم شاهدوا من الرسول الكريم صلى الله عليه و آله معجزات عديدة، وشقّ القمر هو استمرار لهذه المعاجز، وأنّهم كانوا يبرّرون إعراضهم عن الإيمان وعدم الاستسلام لدعوة الحق وذلك بقولهم: إنّ هذه المعاجز كانت «سحر مستمر».

أمّا قوله تعالى: «وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ». فإنّه يشير إلى سبب مخالفتهم وعنادهم وسوء العاقبة التي تنتظرهم نتيجة لهذا الإصرار.

إنّ مصدر خلاف هؤلاء وتكذيبهم للرسول صلى الله عليه و آله أو تكذيب معاجزه ودلائله، وكذلك تكذيب يوم القيامة، هو اتّباع هوى النفس.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 30

والمراد من جملة «وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ»، هو أنّ كل شي ء في هذا العالم لا يفنى ولا يزول، فالأعمال الصالحة أو السيّئة تبقى مع الإنسان حتى يرى جزاء ما فعل. حيث إنّ الحق سيظهر وجهه الناصح مهما حاول المغرضون إطفاءه، كما أنّ وجه الباطل القبيح سيظهر قبحه كذلك، وهذه سنّة إلهيّة في عالم الوجود.

وَ لَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْ ءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) تأتي هذه الآيات لتواصل البحث عن الكفار الذين كذّبوا الرسول

صلى الله عليه و آله ولم يذعنوا للحقّ حيث أعرضوا عن جميع المعاجز التي شاهدوها.

والآيات أعلاه تشرح حال هؤلاء الأفراد وموضّحة المصير البائس الذي ينتظر هؤلاء المعاندين في يوم القيامة. يقول سبحانه إنّ هؤلاء لم يعدموا الإنذار والإخبار، بل جاءهم من الأخبار ما يوجب إنزجارهم عن القبائح والذنوب: «وَلَقَدْ جَاءَهُم مّنَ الْأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ». وذلك ليلقي عليهم الحجة.

والقصد من «الأنباء» الإخبار عن الامم والأقوام السابقة الذين هلكوا بألوان العذاب المدمّر الذي حلّ بهم، وكذلك أخبار يوم القيامة وجزاء الظالمين والكفار، حيث اتّضحت كل تلك الأخبار في القرآن الكريم.

ويضيف تعالى: «حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ». فهذه الآيات حكم إلهية بليغة ومواعظ مؤثّرة، إلّاأنّها لا تفيد أهل العناد «1».

الآية التالية تؤكّد على أنّ هؤلاء ليسوا على إستعداد لقبول الحق، فاتركهم لحالهم وأعرض عنهم وتذكّر يوم يدعو الداعي الإلهي إلى أمر مخيف، وهو الدعوة إلى الحساب،

______________________________

(1) «نذر»: جمع «نذير» ويعني (المنذرين) والمقصود بالمنذرين هي الآيات القرآنية وأخبار الامم والأنبياء الذين وصل صوتهم إلى أسماع الناس.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 31

حيث يقول سبحانه: «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَىْ ءٍ نُّكُرٍ» «1».

أمّا المراد من «شَىْ ءٍ نُّكُرٍ» فهو الحساب الإلهي الدقيق الذي لم يكن معلوماً من حيث وقته قبل قيام الساعة، أو العذاب الذي لم يخطر على بالهم، أو جميع هذه الامور، ذلك لأنّ يوم القيامة في جميع أحواله حالة غير مألوفة للبشر.

وفي الآية اللاحقة يبيّن اللَّه سبحانه وتعالى توضيحاً أكثر حول هذا الموضوع ويذكر أنّ هؤلاء يخرجون من القبور في حالة: «خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ».

نسبة «الخشوع» هنا للأبصار لأنّ المشهد مرعب ومخيف إلى حدّ لا تستطيع الأنظار رؤيته، لذلك فإنّها تتحوّل عنه وتطرق نحو الأسفل.

والتشبيه

هنا ب «الْجَرَادٌ مُّنتَشِرٌ» لأنّ النشور في يوم الحشر يكون بصورة غير منتظمة لحالة الهول التي تعتري الناس فيه، كما هي حركة إنتشار الجراد التي تتمثّل فيها الفوضى والاضطراب خلافاً للقسم الأكبر من حركة الطيور التي تطير وفق نظم خاصة في الجو، مضافاً إلى أنّهم كالجراد من حيث الضعف وعدم القدرة.

إنّ حالة هؤلاء الفاقدين للعلم والبصيرة، حالة ذهول ووحشة وتخبّط في المسير كالسكارى يرتطم بعضهم ببعض فاقدين للوعي والإرادة.

وأمّا قوله تعالى: «مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ» فإنّ كلمة «مهطعين»: تأتي من مادة «اهطاع» أي مدّ الرقبة، والبعض يرجعها إلى النظر بإنتباه أو الركض بسرعة نحو الشي ء، ويحتمل أن تكون كل واحدة من هذه المعاني هي المقصودة، حيث إنّ بمجرد سماع صوت الداعي الإلهي تمدّ الرقاب إليه ثم يتبعه التوجّه بالنظر نحوه، ثم الإسراع إليه والحضور في المحكمة الإلهية العادلة عند دعوتهم إليها.

وهنا يستولي الخوف من الأهوال العظيمة لذلك اليوم على وجود الكفار والظالمين، لذا يضيف سبحانه معبّراً عن حالة البؤس التي تعتري الكافرين بقوله: «يَقُولُ الْكَافِرُونَ هذَا يَوْمٌ عَسِرٌ».

ويستفاد من هذا التعبير أنّ يوم القيامة يوم غير عسير بالنسبة للمؤمنين.

______________________________

(1) «نكر»: مفرد من مادة «نكارة» وتعنى الشى ء المبهم المخيف.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 32

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَ قَالُوا مَجْنُونٌ وَ ازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَ حَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَ دُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَ لَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَ نُذُرِ (16) وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) قصة قوم

نوح عبرة وعظة: جرت السنّة القرآنية في كثير من الموارد أنّ اللَّه سبحانه يستعرض حالة الأقوام السابقة والعاقبة المؤلمة التي انتهوا إليها إنذاراً وتوضيحاً (للكفار والمجرمين) بأنّ الاستمرار في طريق الضلال سوف لن يؤدي بهم إلّاإلى المصير البائس الذي لاقته الأقوام السابقة.

وفي هذه السورة، إكمالًا للبحث الذي تناولته الآيات السابقة، في إثارات وإشارات مختصرة ومعبّرة حول تاريخ خمسة من الأقوام المعاندة ابتداءً من قوم نوح كما في قوله تعالى:

«كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ». فمضافاً إلى تكذيبه وإتّهامه بالجنون صبّوا عليه ألوان الأذى والتعذيب ومنعوه من الإستمرار في أداء رسالته.

فتارةً يقولون له مهدّدين ومنذرين: «قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ» «1».

وتارةً اخرى يضغطون رقبته بأيديهم حتى يفقد وعيه، ولكنّه ما أن يفيق إلى وعيه حتى يقول: «اللهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون» «2».

والتعبير ب «عبدنا» إشارة إلى أنّ هؤلاء القوم المعاندين والمغرورين في الواقع يبارزون اللَّه تعالى لا مجرّد شخص «نوح».

ثم يضيف تعالى أنّ نوح عندما يئس من هداية قومه تماماً: «فَدَعَا رَبَّهُ أَنّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ».

«انتصر»: طلب العون، وهنا جاءت بمعنى طلب الإنتقام على أساس العدل والحكمة.

______________________________

(1) سورة الشعراء/ 116.

(2) الدرّ المنثور 3/ 95؛ تفسير القرطبي 8/ 273؛ وجامع البيان 29/ 126.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 33

ثم يشير هنا إشارة معبّرة وقويّة في كيفية العذاب الذي إبتلوا به وصبّ عليهم حيث يقول سبحانه: «فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ».

إنّ تعبير إنفتاح أبواب السماء لتعبير رائع جدّاً، ويستعمل عادةً عند هطول الأمطار الغزيرة.

«منهمر»: من مادة «همر» على وزن (صبر) وتعني النزول الشديد للدموع أو الماء.

ويذكر أنّ الماء الذي أدّى إلى الطوفان لم يكن من هطول الأمطار فقط، بل كان من تفجير العيون

في الأرض، حيث يقول تعالى: «وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا». وهكذا إختلط ماء السماء بماء الأرض بمقدار مقدّر وملأ البسيطة: «فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ».

وتترك الآيات الكريمة مسألة الطوفان، لأنّ ما قيل فيها من الآيات السابقة يعتبر كافياً فتنتقل إلى سفينة نجاة نوح عليه السلام حيث يقول تعالى: «وَحَمَلْنهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ».

«دسر»: جمع «دِسار» بمعنى الإبعاد أو النهر بشدة مقترناً مع حالة عدم الرضا.

فإنّ التعبير القرآني هنا ظريف، لأنّه كما يقول الباري ء عزّ وجل بأنّنا وفي وسط ذلك الطوفان العظيم، الذي غمر كل شي ء أودعنا أمر نجاة نوح وأصحابه إلى مجموعة من المسامير وقطع من الخشب، وهكذا تتجلّى القدرة الإلهية العظيمة.

ويشير سبحانه إلى لطف عنايته للسفينة المخصّصة لنجاة نوح عليه السلام حيث يقول سبحانه:

«تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا». أي أنّ هذه السفينة تسير بالعلم والمشيئة الإلهية، وتشقّ الأمواج العالية بقوّة وتستمر في حركتها تحت رعايتنا وحفظنا.

ثم يضيف تعالى: «جَزَاءً لّمَن كَانَ كُفِرَ».

إنّ نوح عليه السلام كسائر الأنبياء الإلهيين يعتبر نعمة إلهية عظيمة وموهبة من مواهبه الكبيرة على البشرية، إلّاأنّ قومه الحمقى كفروا به وبرسالته.

ثم يقول سبحانه وكنتيجة لهذه القصة العظيمة موضع العظّة والاعتبار: «وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا ءَايَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ».

وفي الآية اللاحقة يطرح اللَّه سبحانه سؤالًا معبّراً ومهدّداً للكافرين الذين اتّبعوا نفس المنهج الذي كان عليه قوم نوح حيث يقول سبحانه: «فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ».

هل هذه حقيقة واقعة، أم قصة واسطورة؟

ويضيف مؤكّداً هذه الحقيقة في آخر الآية مورد البحث في قوله تعالى: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 34

إنّ هذا الكتاب العظيم الخالي من التعقيد والمجسّد لعناصر التأثير من حيث عذوبة ألفاظه وجاذبيتها، وطبيعة قصصه الواقعية ذات المحتوى الغزير ... لذا فإنّ القلوب المهيأة لقبول

الحق والمتفاعلة مع منطق الفطرة والمستوعبة لمنهج العقل تنجذب بصورة متميّزة، والشاهد على هذا أنّ التاريخ الإسلامي يذكر لنا قصصاً عديدة عجيبة محيّرة من حالات التأثير العميق الذي يتركه القرآن الكريم على القلوب الخيّرة.

كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَ نُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَ نُذُرِ (21) وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) مصير قوم عاد: تستعرض الآيات الكريمة أعلاه نموذج آخر من الكفار والمجرمين بعد قوم نوح، وهم (قوم عاد) وذلك كتحذير لمن يتنكّب طريق الحق والهداية الإلهية.

وتبدأ فصول أخبارهم بقوله تعالى: «كَذَّبَتْ عَادٌ».

لقد بذل هود عليه السلام غاية جهده في توعية قومه وتبليغهم بالحق الذي جاء به من عند اللَّه، وكان عليه السلام كلّما ضاعف سعيه وجهده لإنتشالهم من الكفر والضلال إزدادوا إصراراً ونفوراً ولجاجة في غيّهم وغرورهم الناشى ء من الثراء والإمكانات المادية، بالإضافة إلى غفلتهم نتيجة إنغماسهم في الشهوات، جعلتهم صمّ الآذان، عمي العيون، فجازاهم اللَّه بعقاب أليم، ولهذا تشير الآية الكريمة باختصار حيث يقول سبحانه: «فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ».

كما نلاحظ التفصيل في الآيات اللاحقة بعد هذا الإجمال حيث يقول سبحانه: «إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ».

«صرصر»: من مادة «صرّ» على وزن (شرّ)، وفي الأصل تعني (الإغلاق والإحكام) ويأتي تكرارها في هذا السياق للتأكيد، ولأنّ الرياح التي عذّبوا بها كانت باردة وشديدة ولاذعة ومصحوبة بالأزيز، لذا اطلق عليها (صرصر).

«نحس»: ففي الأصل معناها (الإحمرار الشديد) الذي يظهر في الافق أحياناً، كما يطلق العرب أيضاً كلمة (نحاس) على وهج النار الخالية من الدخان، ثم أطلق هذا المصطلح على كل (شؤم) مقابل

(السعد).

«مستمر» صفة ل (يوم) أو ل (نحس) ومفهومه في الحالة الاولى هو استمرار حوادث

مختصر الامثل، ج 5، ص: 35

ذلك اليوم كما في الآية (7) من سورة الحاقة قوله تعالى: «سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ».

وتعني في الحالة الثانية إستمرار نحوسة ذلك اليوم حتى هلك الجميع.

ثم يستعرض سبحانه وصف الريح بقوله: «تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ».

«منقعر»: من مادة «قعر» بمعنى أسفل الشي ء أو نهايته، ولذا يستعمل هذا المصطلح بمعنى قلع الشي ء من أساسه.

«أعجاز»: جمع «عجز»- على وزن رجل- بمعنى خَلْفُ أو تحت، وقد شبّهوا بالقسم الأسفل من النخلة وذلك حسبما يقول البعض لأنّ شدة الريح قطّعت أيديهم ورؤوسهم ودفعتها باتّجاهها، وبقيت أجسادهم المقطعة الرؤوس والأطراف كالنخيل المقطعة الرؤوس، ثم قُلعت أجسادهم من الأرض وكانت الريح تتقاذفها.

وللسبب المذكور أعلاه، يكرّر اللَّه سبحانه وتعالى إنذاره للكفار بقوله: «فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ».

فنحن كذلك فعلنا وجازينا الأقوام السالفة التي سلكت سبيل الغي والطغيان والعصيان، فعليكم أن تتفكروا في مصيركم وأنتم تسلكون نفس الطريق الذي سلكوه.

وفي نهاية القصة يؤكّد قوله سبحانه: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ».

والنقطة الأخيرة الجديرة بالذكر هي تأكيد قوله سبحانه: «فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ» حيث تكرّرت مرّتين: الاولى: في بداية الحديث عن قصة قوم عاد، والثانية: في نهايتها، ولعل سبب هذا الاختلاف بين قوم عاد والأقوام الاخرى، أنّ عذاب قوم عاد كان أكثر شدّة وإنتقاماً، رغم أنّ جميع ألوان العذاب الإلهي شديد.

إنّ مسألة الإهتمام بموضوع (سعد ونحس) الأيام، وكذلك الحوادث التي وقعت فيها، بالإضافة إلى أنّها ترشدنا للكثير من الحوادث التأريخية ذات العظة والعبرة، فإنّها أيضاً عامل للتوسل باللَّه والتوجّه إلى رحاب عظمته السامقة، واستمداد العون

من ذاته القدسية، وهذا ما نلاحظه في روايات عديدة.

ففي الأيام النحسة مثلًا نستطيع أن نطمئن نفسياً لممارستنا العملية وبكل تفاؤل وموفّقية، وذلك حينما ندعو اللَّه ونطلب منه العون ونتصدق على الفقراء، ونقرأ شيئاً من الآيات القرآنية ونتوكل على الذات الإلهية المقدسة.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 36

كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَ بَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلَالٍ وَ سُعُرٍ (24) أَ أُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَ اصْطَبِرْ (27) وَ نَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَ نُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) العاقبة الأليمة لقوم ثمود: تكملة للأبحاث السابقة، تتحدث الآيات الكريمة باختصار عن ثالث قوم ذكروا في هذه السورة، وهم (قوم ثمود) الذين عاشوا في (حجر) الواقعة في شمال الحجاز، ليستفاد من قصّتهم الدروس والعبر.

لقد بذل نبيّهم «صالح» عليه السلام أقصى الجهد من أجل هدايتهم وإرشادهم ولكن دون جدوى. قال تعالى: «كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ».

إنّ «نذر» جاءت هنا جمع «إنذار» وهو الكلام الذي يتضمن التهديد، والذي هو الطابع العام لكلام الأنبياء جميعاً.

ويستعرض سبحانه سبب تكذيبهم (الأنبياء) حيث يقول على لسان قوم ثمود: «فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِى ضَللٍ وَسُعُرٍ».

إنّ الكبرياء والغرور والنظرة المتعالية تجاه الآخرين، بالإضافة إلى حبّ الذات كانت حاجزاً عن الإستجابة لدعوة الأنبياء عليهم السلام، لقد قالوا: إنّ (صالح) شخص مثلنا وليست له أيّ امتيازات علينا ليصبح زعيماً وقائداً نطيعه ونتّبعه، كما لا يوجد سبب لإتّباعه.

وهذا

هو الإشكال الذي تورده جميع الأقوام الضالة على أنبيائها بأنّهم أشخاص مثلنا، ولذا لا يستطيع أن يبلغ رسالة سماوية.

وتزداد اللجاجة والعناد في قوم ثمود فيتساءلون: إذا اريد نزول الوحي على إنسان، فلماذا اختّص بصالح من بيننا: «أَءُلْقِىَ الذّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا».

وفي الحقيقة أنّ هذه الأقوال لها شبه كبير بأقوال مشركي مكة، ذلك أنّهم شكّكوا برسالة

مختصر الامثل، ج 5، ص: 37

النبي بأقوال مماثلة: «مَالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا» «1».

ثم تختتم الآية بقوله سبحانه: «بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ». وذلك إتّهاماً لصالح عليه السلام بالكذب فيما ادّعاه من اختصاص الوحي به وإنذار قومه وأنّه يريد أن يتحكّم علينا ويجعل كل امورنا تحت قبضته ويسيرنا وفق هواه وإرادته ..

«أشر»: وصف من مادة «أشر» على وزن (قمر) بمعنى بطر ومرح زائد عن الحد.

ويردّ الباري ء عزّ وجل عليهم بصورة قاطعة بقوله: «سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ».

وعندما يدركهم العذاب الإلهي ويسوّيهم مع التراب ويحوّلهم رماداً، وبعد أن يجازيهم اللَّه بأعمالهم في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ... عندئذ سيدركون حقيقة اتّهاماتهم الزائفة التي اتّهموا بها نبي من أنبياء اللَّه المقربين، وسيعلمون أيضاً أنّ هذه الإفتراءات هي أحق بهم وألصق.

ثم يشير سبحانه إلى قصة «الناقة» التي ارسلت كمعجزة ودلالة على صدق دعوة صالح عليه السلام حيث يقول: «إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ».

«الناقة»: انثى البعير، وهي ليست كبقية النوق لما تتصف به من خصوصيات خارقة للعادة، وطبقاً للروايات المشهورة فإنّ هذه الناقة قد خرجت من بطن صخرة جبل حجة دامغة للمنكرين والمعاندين.

ومن الواضح أنّ قوم ثمود قد جُعلوا أمام إمتحان عسير، حيث يستعرض سبحانه هذا الإختبار لهم بقوله: «وَنَبّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ

قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ». يوم لهم ويوم للناقة.

ومع أنّ القرآن الكريم لم يوافنا بتفاصيل أكثر حول هذا الموضوع، ولكن كما يذكر الكثير من المفسرين فإنّ ناقة صالح عليه السلام كانت تشرب كل الماء يوم يكون شربها، ويعتقد البعض الآخر أنّ هيئتها ووضعها كانا بشكل يدفع الحيوانات إلى الفرار من الماء عندما تقترب الناقة نحوه، ولذلك فإنّهم إقترحوا حلًا وهو: أن يكون الماء يوماً لهم وآخر للناقة.

إنّ قوم ثمود المتمردين عقدوا العزم على قتل الناقة، في الوقت الذي حذّرهم نبيّهم

______________________________

(1) سورة الفرقان/ 7.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 38

صالح عليه السلام من مسّها بسوء، وأخبرهم بأنّ العذاب الإلهي سيقع عليهم بعد فترة وجيزة إن فعلوا ذلك. ونظراً لإستخفافهم بهذا التحذير (فقد نادوا أحد أصحابهم حيث تصدّى للناقة وقتلها). يقول اللَّه سبحانه: «فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ».

ويمكن أن يكون المراد ب (صاحب) أحد رؤساء ثمود، وكان أحد أشرارهم المعروفين ويعرف في التاريخ ب (قدارة بن سالف) «1».

«عَقَرَ»: من مادة «عقر» على وزن (ظلم) وفي الأصل بمعنى الأساس والجذر، وإذا استعمل هذا المصطلح بخصوص الناقة فإنّه يعني القتل والنحر.

وتأتي الآية اللاحقة مؤكّدة إنذارهم قبل نزول العذاب الشديد عليهم، حيث يقول سبحانه: «فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ». ثم وقع العذاب والسخط الإلهي على هؤلاء المتمردين المعاندين حيث يضيف سبحانه: «إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ».

«الهشيم»: من مادة «هشم» على وزن «حسم» وفي الأصل بمعنى إنكسار الأشياء الضعيفة كالنباتات.

«محتظر»: في الأصل من مادة «حظر» على وزن (حفز) بمعنى المنع، ولذلك فإنّ إعداد الحظائر للحيوانات والمواشي تكون مانعة لها من الخروج ولدرء المخاطر عنها، ومفردها (الحظيرة)، و «محتظر» على وزن محتسب- هو الشخص الذي يملك مثل هذا المكان.

والإستعراض الذي ذكرته الآية

الكريمة حول عذاب قوم ثمود عجيب جدّاً ومعبّر للغاية، حيث لم يرسل اللَّه لهم جيوشاً من السماء أو الأرض للتنكيل بهم، وإنّما كان عذابهم بالصيحة السماوية العظيمة، فكانت صاعقة رهيبة، أخمدت الأنفاس، وكان إنفجاراً هائلًا حطّم كل شي ء في قريتهم.

إنّ إستيعاب هذا اللون من العذاب كان صعباً وعسيراً للأقوام السالفة، ولكنّه يسير بالنسبة لنا، وذلك من خلال معرفتنا لتأثير الأمواج الناتجة من الإنفجارات، حيث إنّها تحطّم كل شي ء يقع ضمن دائرة إشعاعاتها.

ومن الطبيعي أنّنا لا نستطيع المقارنة بين الإنفجارات البشرية وصاعقة العذاب الإلهي

______________________________

(1) «قدارة»: على وزن (منارة)- كان رجلًا قبيح الشكل والسيرة، ومن أكثر الأشخاص شؤماً في التاريخ.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 39

التي أشاعت الدمار الرهيب في هؤلاء القوم الحمقى المستبدين، وعلى بيوتهم وقصورهم، عسى أن يكون عبرة ودرساً للآخرين، حيث يقول سبحانه: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ».

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَ لَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَ لَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَ نُذُرِ (37) وَ لَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَ نُذُرِ (39) وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) المصير الأكثر شؤماً: نلاحظ في هذه الآيات تعبيرات قصيرة وقوية حول قصة «قوم لوط» والعذاب الشديد الذي حلّ بهم، وهم المجموعة الرابعة من الأقوام التي اتّصفت بالقبح والضلال والتي استعرضتهم هذه السورة المباركة ... حيث يبدأ الحديث عنهم بقوله سبحانه:

«كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ».

«نذر»: جمع «إنذار» وتعني التهديد والتخويف. ومن المحتمل أن يكون المراد بها بعد ذكرها بصيغة الجمع هو الإنذارات المتعاقبة من النبي

لوط لقومه، والتي كُذّب بها أجمع، كما يمكن أن يكون المقصود منها هو إشارة إلى إنذار لوط والأنبياء الذين سبقوه في الدعوة إلى اللَّه ذلك أنّ جميع الأنبياء يسعون من أجل تثبيت حقيقة أساسية واحدة وهي العبودية للَّه.

وتستعرض الآيات التالية مشاهد من العذاب الذي نزل بقوم لوط وكيفية نجاة عائلته حيث يقول سبحانه: «إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا».

«حاصب»: تعني الريح الشديدة التي تأتي بالحجارة والحصباء، والحصباء هي الحصى، ويكون المقصود: إنّا أمطرناهم بالحجارة والحصباء حتى علت أجسادهم ودفنوا تحتها؛ «إِلَّا ءَالَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ».

وتتحدث الآيات القرآنية الاخرى عن هول العذاب الذي حلّ بقوم لوط حيث الزلازل التي قلبت مدنهم فأصبح عاليها سافلها، وبذلك اصيبت بكارثة الدمار الماحق ... وتتحدث عن مطر الحجارة والحصى الذي نزل عليهم بشدة، فيقول سبحانه في ذلك: «فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا

مختصر الامثل، ج 5، ص: 40

جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ مَّنضُودٍ» «1». ويضيف الباري ء عزّ وجل بقوله: «نّعْمَةً مّنْ عِندِنَا كَذلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ».

إنّ لوطاً عليه السلام قد أتمّ الحجة على قومه قبل أن ينزل البلاء عليهم، حيث يوضّح اللَّه سبحانه هذه الحقيقة فيقول تعالى: «وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ».

«بطش»: على وزن (فرش) وتعني في الأصل أخذ الشي ء بالقوة، ولأنّ المجرم لا يؤخذ إلّا بالقوة ليلقي جزاءه، لذلك فإنّها تعني المجازاة.

«تماروا»: من «تمارى» بمعنى محادثة طرفين لإيجاد الشك وإلقاء الشبهة مقابل الحق، فهؤلاء سعوا بطرق مختلفة إلى إلقاء الشكوك والشبهات بين الناس لإبطال تأثير إنذارات هذا النبي العظيم «لوط» عليه السلام.

ولم يكتف هؤلاء المعاندون بإلقاء الشبهات العقائدية بين الناس، بل بلغت بهم الوقاحة والصلف وعدم الحياء حدّاً أنّهم تجرّؤوا على ملائكة الرحمن وضيوف النبي الكريم المأمورين بعذاب هؤلاء القوم حينما دخلوا

بيت لوط عليه السلام بصورة شباب وسيمين، حيث يقول سبحانه: «وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ». أي أنّهم طلبوا منه أن يضع ضيوفه تحت تصرفهم.

لقد بلغ الألم الذي اعترى «لوطاً» عليه السلام حدّاً لا يطاق نتيجة هذا التصرف القبيح والمخجل لقومه، وطلب بإصرار أن يكفّوا عن هذا السلوك المشين المخجل البعيد عن الشرف والحياء.

بل وأبدى إستعداده عليه السلام لتزويج بناته لهم- إن أعلنوا توبتهم- وهذه أعلى حالات المظلومية التي يتعرض لها هذا النبي الكريم من قبل قوم عديمي الحياء والإيمان والقيم الخيرة، كما في قوله سبحانه: «قَالَ هؤُلَاءِ بَنَاتِى إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ» «2».

ولم يمض وقت طويل حتى واجهت هذه الفئة المجرمة الباغية الجزاء الأوّلي لعملهم الإجرامي حيث يقول في ذلك سبحانه: «فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُقُوا عَذَابِى وَنُذُرِ».

إنّ يد القدرة الإلهية إمتدّت لتنتقم من هؤلاء القوم المجرمين، وذلك بأن طمست على أعينهم، حيث يقول البعض بأنّ جبرائيل قد امر أن يخفق بجناحهم على عيونهم حيث فقدوا

______________________________

(1) سورة هود/ 82.

(2) سورة الحجر/ 71.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 41

بصرهم حالًا، وقيل إنّ بؤر أبصارهم قد أصبحت مستوية مع وجوههم.

وجاءت الساعة المرتقبة حيث أمر اللَّه بفنائهم وقلبت الزلزلة مدينتهم رأساً على عقب وصُبّ عليهم العذاب صبّاً مع أوّل خيط من أشعّة فجر ذلك اليوم، فتتمزّق أجسادهم وتتلاشى أبدانهم وتدمّر بيوتهم وتندثر قصورهم وتتحول إلى أنقاض وخرائب، وإذا بالمطر الحجري ينهمل عليهم ويطمس كل معالم الحياة لديهم حتى لم يبق أي أثر لهم.

وذلك ما تشير له الآية الكريمة حيث تعكس هذا المعنى بإختصار وتركيز: «وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ».

«مستقرّ»: تعني الثبوت والإحكام، أي بمعنى (ثابت الحكم). ويحتمل أن يكون المراد به هنا هو: أنّ العذاب الإلهي كان شديداً إلى حدّ أنّ أي قوّة لم

تكن قادرة على مواجهته.

ثم يضيف سبحانه مؤكّداً ومكرّراً مرّة اخرى قوله: «فَذُوقُوا عَذَابِى وَنُذُرِ».

لكي لا يكون مجال للشك والتردد في إنذار الأنبياء لكم بعد هذا.

وفي نهاية المطاف وفي آخر آية من بحثنا هذا تتكرّر جمل الموعظة والعبرة وللمرّة الرابعة في هذه السورة بقوله تعالى: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ».

نعم، لم يتّعظ قوم لوط من النذر، ولم يتّعظوا من العذاب الأوّل الذي أعمى أبصار البعض منهم والذي كان بمثابة إنذار لهم فهل أنّ الآخرين الذين يرتكبون نفس الذنوب يتّعظون لدى سماع آيات القرآن هذه وينوبوا إلى رشدهم ويندموا على ما فرط منهم ..

وَ لَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَ كُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَ السَّاعَةُ أَدْهَى وَ أَمَرُّ (46) هل أنتم أفضل من الأقوام السابقة: المجموعة الخامسة التي يتحدث عنها القرآن في هذه السلسلة هم قوم فرعون، ولأنّ الحديث عن هؤلاء القوم قد طرح بصورة تفصيلية في السور القرآنية المختلفة، لذا فإنّ هذه السورة المباركة تستعرض هذه القصة في مقاطع مختصرة ومركّزة حول ضرورة الاستفادة من العبر التي جاءت فيها والإتّعاظ منها ...

يقول سبحانه: «وَلَقَدْ جَاءَ ءَالَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 42

المقصود من (آل فرعون) ليسوا أهل بيته ومتعلقيه فقط، بل يشمل كل أتباعه بصورة عامة.

«نذر»: على وزن (كتب) وهي جمع نذير، وهنا إشارة إلى المعجزات التسع لموسى عليه السلام.

و الآية اللاحقة تكشف عن ردّ الفعل لآل فرعون من دعوة النبيين الإلهيين، والإنذارات التي وجّهوها لهم حيث يقول اللَّه سبحانه: «كَذَّبُوا بَايَاتِنَا كُلّهَا».

(آيات)

لها معنى واسع تشمل الدلائل العقلية والمعجزات والدلائل النقلية، وعند ملاحظة قوله تعالى: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءَايَاتٍ بَيّنَاتٍ» يتبين لنا أنّ المقصود ب (الآيات) هنا هي المعجزات التسع لموسى عليه السلام.

إنّ الإنسان إذا كان صادقاً في البحث عن الحقيقة فإنّه يكفيه أن يرى واحدة منها، وخاصة تلك التي يسبقها إنذار، ثم بلاء، ثم زوال هذا البلاء عند دعاء النبي الإلهي، ولكن العناد والإصرار على الباطل والغرور إذا ركب الإنسان، فحتى لو أصبحت جميع السماء والأرض آيات للَّه، فلن تكون ذات تأثير على أمثال هؤلاء، والجواب الحاسم المناسب لهم هو العذاب الإلهي الذي يقضي على النزعات الشريرة والنفوس المريضة التي يملؤها الهوى والغرور. كما قال تعالى: «فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ» تكملة للآية مورد البحث.

والتعبير الآخر الذي أتى في آخر هذه القصة لا يوجد له شبه في التعابير المماثلة في القصص الاخرى، وذلك لأنّ الفراعنة كانوا يتباهون بقوّتهم وسطوتهم وعزّهم أكثر من بقية الامم، والحديث عن قوّة سلطانهم كان في كل مكان. يقول اللَّه تعالى: «فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ». وذلك كي يكون واضحاً للجميع أنّ القوة الحقيقة هي للَّه وحده، لأنّ كل قوة وعزة اخرى غير قوّته وما يتّصل بذاته وهميّة لا تساوي شيئاً في قبال عزّته وقدرته ...

والعجيب أنّ نهر النيل العظيم الذي كان مصدر خير وثروة لهم، هو الذي امر بالإنتقام منهم، والأعجب من ذلك أنّ أضعف المخلوقات سلّطت عليهم كالجراد والضفادع والقمل فجعلتهم في حالة عجز ومسكنة لا يقدرون على دفعها، وهم الذين كانوا من السطوة والقوّة موضع حديث أهل زمانهم.

وبعد بيان هذه المشاهد المؤثّرة من قصص الأقوام المنصرمة والعذاب الإلهي العظيم الذي حلّ بهؤلاء الجبابرة المتمرّدين على الحق، يخاطب اللَّه سبحانه في الآية

اللاحقة مشركي مكة بقوله تعالى: «أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مّنْ أُولِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِى الزُّبُرِ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 43

فما الفرق بينكم وبين قوم فرعون وقوم نوح ولوط وثمود؟ فكما أنّ اولئك الأقوام قد عذّبوا بالطوفان تارةً والزلازل والصواعق اخرى.

ومن الطبيعي أنّ مثل هذه الادّعاءات ادّعاءات كاذبة لا يقوم عليها أي دليل «أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ».

والجدير بالذكر هنا أنّ الآية السابقة كانت بصورة خطاب، أمّا في الآية مورد البحث والآيات اللاحقة، فإنّ الحديث عن الكفار بلغة الغائب، وهو نوع من أنواع التحقير، أي أنّهم غير مؤهّلين للخطاب الإلهي المباشر.

ويواجه القرآن الكريم هؤلاء السادرين في غيّهم بإخبار غيبي حاسم وقوي، حيث يقول: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ».

«سيهزم»: من مادة «هزم» في الأصل بمعنى الضغط على الجسم اليابس لحد التلاشي.

وهذا إشارة إلى النقطة التالية وهي: رغم حالة الإتحاد والإنسجام لهؤلاء القوم ظاهراً، إلّا أنّهم كالموجودات اليابسة والفاقدة للروح، فبمجرد تعرّضها إلى ضغط قوي تتهشّم.

لقد صدق هذا التنبّؤ في معركة بدر وسائر الحروب الاخرى حيث كانت هزيمة الكفار ساحقة، فإنّه رغم قدرتهم وقوّتهم فقد تلاشى جمعهم.

وفي آخر الآية مورد البحث يشير سبحانه إلى أنّ الهزيمة التي مُني بها المشركون سوف لن تكون في الدنيا فقط، وإنّما هي في الآخرة أشدّ وأدهى، حيث يقول الباري ء عزّ وجل: «بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ».

«أدهى»: من مادة (دَهَوَ) و (دهاء)، بمعنى المصيبة والكارثة العظيمة والتي لا مخرج منها ولا نجاة، ولا علاج لها، وتأتي أيضاً بمعنى الذكاء الشديد، إلّاأنّ المقصود منها في الآيه الكريمة هو المعنى الأوّل.

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَ سُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَ مَا أَمْرُنَا إِلَّا

وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَ كُلُّ شَيْ ءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 44

إنّ هذه الآيات هي استمرار لبحث الآيات السابقة حول بيان أحوال المشركين والمجرمين في يوم القيامة، وآخر آية من تلك الآيات تعكس هذه الحقيقة بوضوح، وهو أنّ يوم القيامة هو الموعد المرتقب لهؤلاء الأشرار في الاقتصاص منهم، حيث يحمل المرارة والصعوبة والأهوال لهم، والتي هي أشد وأقسى مما اصيبوا به في هذه الدنيا. وتتحدث الآية الاولى- مورد البحث- عن ذلك حيث يقول سبحانه: «إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَللٍ وَسُعُرٍ».

يقول الباري ء عزّ وجل: «يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ».

وفي الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّ في جهنم لوادياً للمتكبرين يقال له: سقر شكا إلى اللَّه عزّ وجل شدّة حرّه، وسأله أن يأذن له أن يتنفّس فتنفس فأحرق جهنم».

ولكي لا يتصور أنّ هذه الشدة في العذاب لا تتناسب مع المعاصي، يقول سبحانه: «إِنَّا كُلَّ شَىْ ءٍ خَلَقْنهُ بِقَدَرٍ».

إنّ عذابهم في هذه الدنيا كان بتقدير وحساب، وكذلك سيكون عقابهم المؤلم في الآخرة، وليس الجزاء فقط، ذلك أنّ اللَّه سبحانه خلق كل شي ء بحساب وتقدير.

ثم يضيف تعالى إنّه ليست أعمالنا موافقة للحكمة فحسب، بل انّها مقترنة مع القدرة والحسم، لأنّه: «وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ».

ولذلك فإنّ اليوم الذي تقوم فيه الساعة يحدث بأمر اللَّه بلمح البصر، وكل شي ء يكون في مسار الآخرة حينئذ، وتبعث الحياة من جديد في الأبدان.

كما أنّ المشيئة الإلهية في مجازاة المجرمين بالصواعق والصيحات السماوية والزلازل والطوفان والرياح العاتية

... كل ذلك يحدث بمجرد الأمر الإلهي وبدون تأخير.

إنّ أمره تعالى في كل مكان وكل شي ء هو (كلمة واحدة) والتي تكون أسرع من لمح البصر، ولكن محتوى الأمر الإلهي متفاوت ومختلف، ومن خلال معرفة السنّة التدريجية للعالم المادي وخاصيته وطبيعة الحركة- نلاحظ أنّها تتأثّر بالزمان.

وفي الآية اللاحقة يخاطب الكفار والمجرمين مرّة اخرى، ويلفت إنتباههم إلى مصير الأقوام السابقة حيث يقول: «وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ».

إنّ الآية الكريمة تؤكّد هذه الحقيقة مرّة اخرى، وهي أنّ أعمال مشركي قريش وممارساتهم هي نفس أعمال وممارسات وعقائد الأقوام السابقة، لذا فلا يوجد دليل على أنّ مصيركم سوف يكون أفضل من مصيرهم، فاتّعظوا وعوا.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 45

ثم يشير القرآن إلى هذا الأصل وهو أنّ صفحة أعمال الأقوام السابقة لم تنته بموتهم، بل هي باقية ومسجّلة عليهم، يقول سبحانه: «وَكُلُّ شَىْ ءٍ فَعَلُوهُ فِى الزُّبُرِ». فكذلك أعمالكم مثبّتة ومحفوظة ليوم الحساب.

«زبر»: جمع «زبور» بمعنى الكتاب، وهي تشير إلى صحيفة أعمال الإنسان.

ثم يضيف سبحانه: «وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ».

وبناءً على هذا فحساب الأعمال في ذلك اليوم هو حساب شامل وتامّ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، حيث يستلم المجرمون صفحة أعمالهم كاملة، فيصعقون لهولها ويصطرخون لدقّتها: «وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هذَا الْكِتَابِ لَايُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا» «1».

ولما كانت السنّة المتّبعة في القرآن الكريم غالباً ما تعتمد المقارنة بين جبهة الصلاح والهدى من جهة، وجبهة الفساد والضلال من جهة اخرى، لأنّ في المقارنة يبرز التفاوت والاختلاف بصورة أفضل، فهنا أيضاً بعد الحديث عن مصير الكفار والمجرمين يشير سبحانه إشارة مختصرة إلى العاقبة السعيدة والحبور العظيم الذي يكون من نصيب المتقين حيث يقول سبحانه: «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ».

وفي آخر آية مورد البحث

والتي هي آخر آية في سورة القمر يوضّح الباري ء بصورة أكثر (مستقر المتقين) حيث يقول سبحانه أنّهم: «فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ».

ويا له من وصف رائع وظريف! حيث إنّ هذا الوصف يتميّز بخصوصيتين تجمعان كل السمات الرائعة:

الاولى: أنّ المكان هو (مستقرّ صدق) وليس فيه باطل، بل كلّه حق يجد فيه المتقون كل ما وعدوا به كاملًا غير منقوص.

الثانية: أنّهم في جوار وقرب اللَّه سبحانه، وهذا هو المستفاد من كلمة (عند) والذي يشير إلى غاية القرب المعنوي، وهذا القرب هو من اللَّه المالك القادر ... ما أروعه عن قرب من الربّ الكريم الوهّاب والذي يمنح العطايا والهبات لضيوفه المتقين بجميل لطفه وعظيم إحسانه وواسع كرمه، حيث جميع ما في الوجود تحت قبضته وإمرته ومالكيته، وهو المنّان

______________________________

(1) سورة الكهف/ 49.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 46

الذي لا ينقصه شي ء في السماوات والأرض، والذي وعد المتقين بالخير العظيم وأعدّ لهم عظيم العطايا والإحسان.

والنقطة الجديرة بالذكر في هاتين الآيتين والتي تتحدث فيها عن الهبات وجزاء أصحاب اليمين، حيث في البداية تتحدث عن العطايا الماديّة التي تشمل البساتين الوارفة والحدائق الغنّاء والأنهار الجارية، ثم تتحدث بعد ذلك عن الجزاء المعنوي العظيم، والذي يتجسّد بحضورهم من المليك المقتدر، وذلك تهيئة للإنسان من مرحلة إلى اخرى، يغمرها الشوق والحبور والرغبة في العمل الصالح.

«نهاية تفسير سورة القمر»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 47

55. سورة الرحمن

محتوى السورة: توضّح هذه السورة بصورة عامة النعم الإلهية المختلفة، سواء كانت مادية أو معنوية، والتي تفضّل بها الباري ء عزّ وجل على عباده وغمرهم بها، ويمكن تسميتها لهذا السبب ب (سورة الرحمة) أو (سورة النعمة) ولهذا فإنّها بدأت بالإسم المبارك (الرحمن) الذي يشير إلى صنوف الرحمة الإلهية الواسعة، وتنهي هذه السورة آياتها

بإجلال وإكرام الباري ء سبحانه، وبإقرار عباده بالنعم التي تفضّل بها عليهم (إحدى وثلاثين مرّة) وذلك من خلال تكرار آية: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

ويمكن أن نقسّم محتويات السورة إلى عدّة أقسام:

1- في الآيات الاولى من هذه السورة حديث عن النعم الإلهية الكبيرة، سواء تلك التي تتعلق بخلق الإنسان أو تربيته وتعليمه، أو الحساب والميزان، وكذلك سائر الامور الاخرى التي يتجسّد فيها الخير للإنسان، إضافةً إلى الغذاء الروحي والجسمي له.

2- يتناول توضيح مسألة خلق الإنس والجن.

3- يتضمن توضيح الآيات والدلائل الإلهية في الأرض والسماء.

4- وفيه بعد تجاوز النعم الإلهية على الإنسان في الدنيا تتحدث الآيات عن نعم اللَّه في عالم الآخرة بدقّة وظرافة، خاصة عن الجنة، وبصورة أعمّ وأشمل عن البساتين والعيون والفاكهة وحور العين وأنواع الملابس من السندس والإستبرق ...

مختصر الامثل، ج 5، ص: 48

5- تتحدث عن مصير المجرمين وجزائهم المؤلم المحسوب.

إنّ تكرار آية: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ» وفي مقاطع قصيرة أعطت وزناً متميّزاً للسورة، وخاصة إذا قري ء بالمعنى المعبّر الذي يستوحى منها ... فإنّ حالة من الشوق والإنبهار تحصل لدى الإنسان المؤمن. ولذلك فلا نعجب عندما نقرأ في حديث للرسول صلى الله عليه و آله حيث يقول: «لكل شي ء عروس، وعروس القرآن سورة الرحمن جلّ ذكره» «1».

فضيلة تلاوة السورة: إنّ اتّصاف هذه السورة بما يثير الإحساس بالشكر على أفضل صورة أدّى إلى ورود روايات كثيرة في فضل تلاوة هذه السورة تلك التلاوة التي ينبغي أن تنفذ إلى أعماق النفس الإنسانية وتحركها باتّجاه الطاعات وبعيداً عن لقلقة اللسان.

وفي تفسير مجمع البيان: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من قرأ سورة الرحمن، رحم اللَّه ضعفه، وأدّى شكر ما أنعم اللَّه عليه».

وفي ثواب الأعمال عن أبي عبداللَّه

الصادق عليه السلام قال: «من قرأ سورة الرحمن فقال عند كل: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ»: لا شي ء من آلائك ربّي اكذّب، فإن قرأها ليلًا ثم مات، مات شهيداً، وإن قرأها نهاراً ثم مات، مات شهيداً».

الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) بداية النعم الإلهية: لمّا كانت هذه السورة تبيّن أنواع النعم والهبات الإلهية العظيمة، فإنّها تبدأ باسم (الرحمن) والذي يرمز إلى الرحمة الواسعة، ولو لم تكن (الرحمانية) من صفاته لم ينعم بهذا الخير العميم على عباده الصالحين والعاصين، لذلك يقول: «الرَّحْمنُ». «عَلَّمَ الْقُرْءَانُ» وبهذا فإنّ أوّل نعمة تفضّل بها اللَّه سبحانه، هي نعمة «تعليم القرآن».

والظريف هنا أنّ بيان نعمة (تعليم القرآن) ذُكرت قبل «خَلَقَ الْإِنسَانَ» و «عَلَّمَهُ الْبَيَانَ» في الوقت الذي يفترض فيه أن تكون الإشارة أوّلًا إلى مسألة خلق الإنسان، ومن ثم نعمة تعليم البيان، ثم نعمة تعليم القرآن، وذلك استناداً للترتيب الطبيعي، إلّاأنّ عظمة القرآن الكريم أوجبت أن نعمل خلافاً للترتيب المفترض.

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان 9/ 326.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 49

وقد جاءت هذه الآية جواباً لقولهم: وما الرحمن في قوله: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ». [الفرقان قالوا وما الرحمن؟ وقد روي أنّه لما نزل قوله «قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ» قالوا: ما نعرف الرحمن إلّاصاحب اليمامة. فقيل لهم «الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْءَانُ» أي: علم محمّداً صلى الله عليه و آله القرآن، وعلّمه محمّد صلى الله عليه و آله امته «1».

وعلى كل حال فإنّ لإسم «الرحمن» أوسع المفاهيم بين أسماء الباري ء عزّ وجل بعد إسم الجلالة (اللَّه) لأنّنا نعلم أنّ للَّه رحمتين: (الرحمة العامة) و (الرحمة الخاصة) واسم «الرحمن» يشير

إلى رحمة اللَّه العامة التي تشمل الجميع، كما أنّ اسم «الرحيم» يشير إلى «الرحمة الخاصة» بأهل الإيمان والطاعة، ولعله لهذا السبب لا يطلق اسم الرحمن على غير اللَّه سبحانه (إلّا إذا كانت كلمة عبد قبله)، أمّا وصف «الرحيم» فيقال لغير اللَّه أيضاً، وذلك لأنّه لا أحد لديه الرحمة العامة سوى اللَّه تعالى، أمّا الرحمة الخاصة فإنّها موجودة في المخلوقات وإن كانت بصورة محدودة.

وهنا يطرح التساؤل التالي: من الذي علّمه اللَّه سبحانه القرآن الكريم.

إنّ هذه السورة تبيّن الرحمة الإلهية للإنس والجن ولذا أكّد سبحانه إقرارهم بنعمه إحدى وثلاثين مرّة، وذلك بقوله: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ». والأنسب هو أنّ اللَّه علّم القرآن للإنس والجن بواسطة نبيّه الكريم محمّد صلى الله عليه و آله.

وبعد ذكره سبحانه لنعمة القرآن التي لا مثيل لها ينتقل إلى أهمّ نعمة في الترتيب المذكور ويقول: «خَلَقَ الْإِنسنَ».

من الطبيعي أنّ المقصود هنا هو نوع الإنسان وليس آدم عليه السلام فقط.

وإطلاق كلمة (البيان) التي تأتي بعد خلق الإنسان دليل على عمومية كلمة الإنسان.

إنّ ذكر إسم «الإنسان» بعد «القرآن» هو الآخر يستوجب التأمل، ذلك لأنّ القرآن الكريم يمثّل مجموعة أسرار الكون بصورة مدوّنة «الكتاب التدويني»، والإنسان هو خلاصة هذه الأسرار بصورة تكوينية «الكتاب التكويني»، كما أنّ كل واحدة منها هو صورة من هذا العالم الكبير.

وتشير الآية اللاحقة إلى أهمّ النعم بعد نعمة خلق الإنسان حيث يقول الباري ء عزّ وجل: «عَلَّمَهُ الْبَيَانَ».

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان 9/ 329.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 50

مختصر الامثل ج 5 99

كلمة (البيان) لها معنى لغوي واسع، حيث تقال لكل شي ء يوضّح ويبيّن شيئاً معيناً.

وبناءً على هذا فإنّها لا تشمل النطق والكلام فحسب، بل تجمع الكتابة والخطّ وأنواع الاستدلالات العقلية والمنطقية التي تبيّن

المسائل المختلفة والمعقّدة أيضاً رغم أنّ معالم هذه المجموعة هي التكلم والنطق.

وإذا أخذنا دور البيان في تكامل وتقدم الحياة الإنسانية، فمن الواضح أنّ الإنسان لم يكن بمقدوره وإمكانه أن ينقل تجاربه وعلومه من جيل إلى آخر بهذه السهولة وبالتالي أدّى إلى التقدم والعلم والدين والأخلاق ... وإذا ما سلبت هذه النعمة العظيمة من الإنسان ليوم واحد فإنّ المجتمع الإنساني سوف يأخذ طريقه نحو التقهقر بسرعة، ولو أخذنا «البيان» بمعناه الواسع الذي يشمل الخط والكتابة والفنون المختلفة، فإنّه سيتّضح لدينا بصورة أكثر دوره الهامّ في الحياة الإنسانية.

ويتطرق بعد ذلك إلى النعمة الإلهية الرابعة والتي هي هبة من هبات اللَّه العظيمة أيضاً، حيث يقول تعالى: «الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ».

إنّ أصل وجود الشمس من أكبر النعم الإلهية للإنسان، لأنّ العيش في المنظومة الشمسية بدون نور وحرارة الشمس أمر غير ممكن. إنّ نمو ونضج النبات والمواد الغذائية أجمع، بالإضافة إلى سقوط الأمطار وهبوب الرياح، كلّها ببركة هذه الهبة الإلهية.

كما أنّ للقمر دوراً هامّاً في حياة الإنسان، فبالإضافة إلى أنّه يضي ء الليالي المعتمة، فإنّ جاذبيته هي علة المد والجزر في البحار والمحيطات، وهي عامل لبقاء الحياة في البحار، كما أنّها تقوم بدورها في إرواء كثير من المناطق القريبة للسواحل والتي تصبّ الأنهار بالقرب منها.

وبالإضافة إلى ذلك فإنّ ثبات الإنتظام لهاتين الحركتين (حركة القمر حول الأرض، وحركة الأرض حول الشمس) هو السبب في الظهور المنتظم لليل والنهار والسنين والشهور والفصول المختلفة، وبالتالي فإنّه سبب أساسي لإنتظام الحياة الإنسانية وبرمجة الامور التجارية والصناعية والزراعية، وإن فقد الإنتظام فيها فسوف تضطرب الحياة البشرية وتختلّ الكثير من مرتكزاتها.

وليس لحركة هذين الكوكبين نظام دقيق جدّاً فحسب، بل إنّ مقدار كثافة وجاذبية

مختصر الامثل، ج 5، ص: 51

ومسافة كل

منهما عن الأرض هي الاخرى محسوبة بدقّة وحساب (وحسبان).

ومن المؤكّد أنّ اختلال كل واحدة من هذه الامور سيولّد اختلالات عظيمة في المنظومة الشمسية، ومن ثم في النظام الحياتي للبشر.

والجدير بالذكر أنّ الشمس بالرغم من أنّها في وسط المنظومة الشمسية وتبدو ساكنة وثابتة، إلّاأنّها مع جميع كواكبها وأقمارها تسير في وسط المجرّة المتعلقة بها إلى نقطة معينة (تسمّى هذه النقطة بنجمة فيكا) وهذه الحركة لها أيضاً نظام وسرعة معينان.

ثم يتحول بنا اللَّه إلى نعمة عظيمة اخرى هي الخامسة في مسلسل ما ذكره سبحانه من النعم في هذه السورة المباركة، حيث يوجّه النظر إلى ألطافه في الأرض حيث يقول:

«وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ».

«النجم»: يأتي أحياناً بمعنى كوكب، ويأتي اخرى بمعنى النبات الذي لا ساق له، ولمّا جاءت الكلمة هنا بقرينة «الشجر» فيكون المقصود هو المعنى الثاني، أي النباتات بدون سيقان.

ومن الواضح أنّ النبات مصدر جميع المواد الغذائية للإنسان، حيث يستهلك قسماً مباشراً منه، والقسم الآخر تستهلكه الحيوانات الاخرى التي هي جزء أساسي من غذاء الإنسان، ومن هنا فإنّ النبات هو مصدر غذاء الإنسان بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

وهذا المعنى يصدق أيضاً في عالم الحيوانات البحرية، لأنّها تتغذّى على نباتات صغيرة جدّاً تنبت في البحر وتوجد بكثرة هائلة تقدّر بملايين البليارات، وهي المصدر الغذائي لهذه الحيوانات البحرية، وتنمو هذه النباتات الصغيرة في البحر بتأثير الضوء (أشعة الشمس) التي تتحرك بين الأمواج.

وبهذا فإنّ «النجم» أنواع من النباتات الصغيرة الزاحفة (مثل اليقطين والخيار وأمثاله).

أمّا «الشجر» فإنّه النوع الآخر من النباتات التي لها سيقان وتشمل أشجار الفاكهة ونباتات الغلّات وغير ذلك.

وتعبير «يسجدان» إشارة إلى التسليم والخضوع أمام القدرة الإلهية وقوانين الخلقة والإبداع الإلهي لأجل نفع الإنسان. وهنا إشارة إلى الأسرار التوحيدية أيضاً حيث

توجد في كل ورقة وكل بذرة آيات عجيبة من عظمة وقدرة اللَّه سبحانه.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 52

وَ السَّمَاءَ رَفَعَهَا وَ وَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَنْ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَ لَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَ الْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَ النَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَ الْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَ الرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) السماء رفعها ووضع الميزان: في الآية مورد البحث يتحدث سبحانه عن النعمة السادسة، ألا وهي نعمة خلق السماء حيث يقول: «وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا».

(السماء) في هذه الآية سواء كانت بمعنى جهة العلو، أو الكواكب السماوية، أو جو الأرض ... إنّ كل واحدة من هذه المعاني هبة عظيمة ونعمة لا مثيل لها، وبدونها تستحيل الحياة أو تصبح ناقصة.

إنّ النور الذي يمنحنا الدف ء والحرارة والهداية والحياة والحركة يأتينا من السماء وكذلك الأمطار، والوحي أيضاً، (وبذلك فإنّ للسماء مفهوماً عاماً، مادياً ومعنوياً).

ثم يستعرض سبحانه النعمة السابعة حيث يقول تعالى: «وَوَضَعَ الْمِيزَانَ».

«الميزان»: كل وسيلة تستعمل للقياس، سواء كان قياس الحق من الباطل، أو العدل من الظلم والجور، أو قياس القيم وقياس حقوق الإنسان في المراحل الاجتماعية المختلفة.

و (الميزان) يشمل كذلك كل نظام تكويني ودستور اجتماعي، لأنّه وسيلة لقياس جميع الأشياء.

ونستنتج من الآية اللاحقة استنتاجاً رائعاً حول هذا الموضوع حيث يضيف بقوله تعالى:

«أَلَّا تَطْغَوْا فِى الْمِيزَانِ».

يا له من تعبير رائع حيث يعتبر القوانين الحاكمة في هذا العالم الكبير منسجمة مع القوانين الحاكمة على حياة الإنسان (العالم الصغير) وبالتالي ينقلنا إلى حقيقة التوحيد، حيث مصدر جميع القوانين والموازين الحاكمة على العالم هي واحدة في جميع المفردات وفي كل مكان.

ويؤكّد مرّة اخرى على مسألة العدالة والوزن حيث يقول سبحانه: «وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا

تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 53

هذه الآية يؤكّد على مسألة الوزن بمعناها الخاص، ويأمر البشر أن يدقّقوا في قياس ووزن الأشياء في التعامل، وهذه أضيق الدوائر.

إنّ أهمية الميزان في أي معنى كان عظيمة في حياة الإنسان بحيث إنّنا إذا حذفنا حتى مصداق الميزان المحدود والصغير والذي يعني (المقياس) فإنّ الفوضى والإرتباك سوف تسود المجتمع البشري.

ويستفاد من بعض الروايات أنّ (الميزان) قد فسّر بوجود (الإمام)، وذلك لكون الوجود المبارك للإمام المعصوم هو وسيلة لقياس الحق من الباطل، ومعيار لتشخيص الحقائق وعامل مؤثّر في الهداية. وهكذا في تفسير «الميزان» بالقرآن الكريم ناظر إلى هذا المعنى.

ثم ينتقل سبحانه من السماء إلى الأرض فيقول عزّ وجل: «وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ».

إنّ القرائن الموجودة في السورة وطبيعة النداءات الموجّهة للإنس والجن تدلّل على أنّها المقصود هنا (الجن والإنس).

وفي الآية اللاحقة يستعرض ذكر النعمتين التاسعة والعاشرة من النعم الإلهية، والتي تتضمّن قسماً من المواد الغذائية التي وهبها اللَّه سبحانه للإنسان حيث يقول تعالى: «فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتِ الْأَكْمَامِ».

«الفاكهة»: تشمل كل نوع من الفاكهة.

و «أكمام»: جمع (كِم) تطلق على الغلاف الذي يغطّي الفاكهة.

إنّ إختيار هذا الوصف لفاكهة شجرة النخل- والتي تكون في البداية مختفية في غلاف ثم ينشقّ الغلاف عن ثمر منظود وبشكل جميل وجذّاب- يمكن أن يكون لهذا الجمال الأخّاذ، أو للمنافع الجمّة الكامنة في هذا الغلاف، والتي تتميّز بالمنافع الطبيّة والغذائية.

ثم يتحدث سبحانه عن النعمة الحادية عشرة والثانية عشرة حيث يقول سبحانه:

«وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ».

الحبوب مصدر أساسي لغذاء الإنسان، وأوراقها الطازجة واليابسة هي غذاء للحيوانات التي هي لخدمة الإنسان، حيث يستفيد من حليبها ولحومها وجلودها وأصوافها، وبهذا الترتيب فلا يوجد شي ء فيها غير ذي فائدة.

ومن جهة اخرى، فإنّ اللَّه تعالى خلق الأزاهير

المعطّرة والورود التي تعطّر مشام الجسم والروح وتبعث الاطمئنان والنشاط، ولذا فإنّ اللَّه سبحانه قد أتمّ نعمه على الإنسان.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 54

وبعد ذكر هذه النعم العظيمة (المادية والمعنوية) ينقلنا في آخر آية من البحث مخاطباً الجن والإنس بقوله تعالى: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ». هذه النعم التي يدلّ كل هذا على لطف وحنان الخالق ... فكيف يمكن التكذيب بها إذاً؟

إنّ هذا الاستفهام استفهام تقريري جي ء به في مقام أخذ الإقرار، وقد قرأنا في بداية السورة رواية تؤكّد على ضرورة تعقيبنا بهذه العبارة (لا شي ء من آلائك ربّي اكذّب) بعد كل مرّة نتلو فيها الآية الكريمة: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

إنّ التعبير ب (أيّ) إشارة إلى أنّ كل واحدة من هذه النعم دليل على مقام ربوبية اللَّه ولطفه وإحسانه، فكيف بها إذا كانت هذه النعم مجتمعة.

خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَ خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) الصلصال وخلق الإنسان: إنّ اللَّه تعالى بعد ذكره للنعم السابقة والتي من جملتها «خَلَقَ الْإِنسَانَ»، يتعرّض في الآيات مورد البحث إلى شرح خاص حول خلق الإنس والجن كدليل على قدرته العظيمة من جهة، وموضع درس وعبرة للجميع من جهة اخرى، فيقول سبحانه: «خَلَقَ الْإِنسنَ مِن صَلْصلٍ كَالْفَخَّارِ».

«صلصال»: في الأصل معناه (ذهاب ورجوع أو تردد الصوت في الأجسام الصلبة)، ثم اطلقت الكلمة على الطين اليابس الذي يخرج صوتاً.

«فخار»: من مادة «فخر» بمعنى الشخص الذي يفخر كثيراً، ولكون الأشخاص الذين يعيشون الفراغ في شخصياتهم ومعنوياتهم يكثرون الثرثرة والإدّعاء عن أنفسهم، فإنّ هذه الكلمة تستعمل لكل إناء من الطين أو «الكوز»، وذلك بسبب الأصوات الكثيرة

التي يولّدها.

ومن هنا يستفاد بوضوح من الآيات القرآنية المختلفة حول مبدأ خلق الإنسان، أنّه كان من التراب ابتداءً. قال تعالى: «فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن تُرَابٍ» «1». ثم خرج مع الماء وأصبح طيناً:

______________________________

(1) سورة الحجّ/ 5.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 55

«هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مّن طِينٍ» «1». ثم أصبح بصورة طين خبيث الرائحة: «إِنّى خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصلٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ» «2». ثم أصبح مادة في حالة لاصقة: «إِنَّا خَلَقْنَاهُم مّن طِينٍ لَّازِبٍ» «3». ومن ثم يتحول إلى حالة يابسة ويكون من «صَلْصلٍ كَالْفَخَّارِ» كما ذكر في الآية مورد البحث.

هذه المراحل كم تستغرق من الوقت، وكم هي المدة التي يتوقف فيها الإنسان في كل مرحلة من هذه المراحل، وفي أي ظروف تحدث هذه التطورات؟

هذه المسائل خفيت عن علمنا وإدراكنا، واللَّه وحده هو العالم بها فقط.

ثم يتطرق سبحانه لخلق الجن حيث يقول: «وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مّن نَّارٍ».

«مارج»: في الأصل من «مرج» على وزن (مرض) بمعنى الإختلاط والمزج، والمقصود هنا اختلاط شعل النيران المختلفة.

ولكن كيف خلق الجن من هذه النيران المتعددة الألوان؟ هذا ما لم يعرف بصورة دقيقة، كما أنّ الخصوصيات الاخرى عن هذا المخلوق، قد بيّنت لنا عن طريق الوحي الرباني وكتاب اللَّه الكريم، ولكن محدودية معلوماتنا لا تعني السماح لنا أبداً بإنكار هذه الحقائق أو تجاوزها، خاصة بعد ما ثبتت عن طريق الوحي الإلهي. (وسيكون لنا إن شاء اللَّه شرح مفصّل حول خلق الجن وخصوصيات هذا المخلوق في تفسير سورة الجن).

وبعد أن تحدّث عن النعم التي كانت في بداية خلق الإنسان يكرّر تعالى قوله تعالى:

«فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

في الآية اللاحقة يستعرض نعمة اخرى، حيث يقول سبحانه: «رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ».

بما أنّ الشمس في كل يوم تشرق من نقطة

وتغرب من اخرى، وبعدد أيام السنة لها

______________________________

(1) سورة الأنعام/ 2.

(2) سورة الحجر/ 28.

(3) سورة الصّافات/ 11.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 56

شروق وغروب، ولكن نظراً للحدّ الأكثر من الميل الشمالي للشمس والميل الجنوبي لها، ففي الحقيقة أنّ للشمس مشرقين ومغربين والبقية بينهما.

إنّ هذا النظام الذي هو سبب وجود الفصول الأربعة له فوائد وبركات كثيرة، ويؤكّد ويكمّل ما مرّ بنا في الآيات السابقة، وذلك لأنّ الحديث كان عن حساب سير الشمس والقمر، وكذلك عن وجود الميزان في خلق السماوات، وإجمالًا فإنّه يبيّن النظام الدقيق للخلقة وحركة الأرض والقمر والشمس، وكذلك فإنّه يشير إلى النعم والبركات التي هي موضع استفادة الإنسان. فإنّ اللَّه تعالى يؤكّد هذه النعمة بعد نعمة خلق الإنس والجن بقوله: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَ لَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) البحار وذخائرها الثمينة: استمراراً لشرح النعم الإلهية يأتي الحديث هنا عن البحار، ولكن ليس عن خصوصيات البحار بصورة عامة، بل عن كيفية خاصة ومقاطع معينة منها تمثّل ظواهر عجيبة وآية على القدرة اللامتناهية للحقّ، بالإضافة إلى ما فيها من النعم التي هي موضع استفادة البشرية. يقول تعالى: «مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ». ولكن بين هذين البحرين المتلاقيين فاصل يمنع من طغيان وغلبة أحدهما على الآخر: «بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ».

المقصود من البحرين هما الماء العذب والماء المالح، وذلك بالاستدلال بقوله تعالى:

«وَهُوَ الَّذِى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا» «1».

إنّ الأنهار العظيمة ذات المياه العذبة عندما تصبّ في البحار والمحيطات فإنّها تشكّل

بحراً من الماء الحلو إلى جنب الساحل وتطرد الماء المالح إلى الخلف، والعجيب أنّ هذين الماءين لا يمتزجان مع بعضهما لمدة طويلة بسبب اختلاف درجة الكثافة؛ وتثير آلاف الكيلومترات على هذه الصورة.

ومرّة اخرى يخاطب اللَّه تعالى عباده في معرض حديثه عن هذه النعم حيث يسألهم

______________________________

(1) سورة الفرقان/ 53.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 57

سبحانه: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

واستمراراً لهذا الحديث يقول عزّ وجل: «يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

«اللؤلؤ»: فهو حبّة شفافة ثمينة تنمو في داخل الصدف في أعماق البحار، وكلّما كبر حجمها زاد ثمنها؛ و «المرجان»: فهو كائن حي يشبه الغصن الصغير للشجرة، وينشأ في أعماق البحار، وكان العلماء يتصورون لفترة زمنية أنّ هذه الشجرة نوع من أنواع النباتات، إلّا أنّه اتّضح فيما بعد أنّه نوع من الحيوانات. وأفضل أنواع المرجان الذي يستعمل للزينة هو المرجان ذو اللون الأحمر، وكلّما كان إحمراره أشدّ كانت قيمته أغلى وأثمن.

واستمراراً لهذا القسم من النعم الإلهية يشير سبحانه إلى موضوع (السفن) التي هي في الحقيقة أكبر وأهمّ وسيلة لنقل البشر وحمل الأمتعة في الماضي والحاضر، حيث يقول سبحانه: «وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَاتُ فِى الْبَحْرِ كَالْأَعْلمِ».

والظريف هنا أنّه في الوقت الذي يعبّر عن السفن بأنها «منشآت» والتي تحكي أنّها مصنوعة بواسطة الإنسان، يقول سبحانه (وله) أي للَّه تعالى وهو إشارة إلى أنّ جميع الخواص التي يستفاد منها في صناعة السفن، والتي منحها اللَّه للبشر المخترعين لهذه الصناعة هي للَّه، وكذلك فإنّه هو الذي أعطى خاصية السيولة لمياه البحر والقوة للرياح، وأنّ اللَّه تعالى هو الذي أوجد هذه الخواص في المواد المتعلّقة بالسفينة.

«أعلام»: جمع (علم) على وزن (قلم)، بمعنى (جبل) بالرغم من أنّها في الأصل بمعنى (علامة وأثر) والذي يخبر عن

شي ء معين، ولأنّ الجبال تكون واضحة من بُعد فإنّه يعبّر عنها ب (العلم) كما أنّ لفظة (عَلَمَ) تطلق أيضاً على «الراية».

ومرّة اخرى يكرّر سبحانه هذا السؤال العميق المغزى بقوله تعالى: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَ يَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَ الْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) كل شي ء هالك إلّاوجهه: استمراراً لشرح النعم الإلهية، في هذه الآيات يضيف سبحانه قوله: «كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ». وهنا يتساءل كيف يكون الفناء نعمة إلهية؟

مختصر الامثل، ج 5، ص: 58

وللجواب على هذا السؤال نذكر ما يلي: يمكن ألّا يكون المقصود بالفناء هنا هو الفناء المطلق، وإنّما هو الباب الذي يطلّ منه على عالم الآخرة، والجسر الذي لابدّ منه للوصول إلى دار الخلد؛ أو أنّ النعم الإلهية الكثيرة- المذكور سابقاً- يمكن أن تكون سبباً لغفلة البعض وإسرافهم فيها بأنواع الطعام والشراب والزينة والملابس والمراكب وغير ذلك، مما يستلزم تحذيراً إلهياً للإنسان، بأنّ هذه الدنيا ليست المستقر، فالحذر من التعلق بها، ولابد من الاستفادة من هذه النعم في طاعة اللَّه ... إنّ هذا التنبيه والتذكير بالرحيل عن هذه الدنيا هو نعمة عظيمة. ويضيف في الآية اللاحقة قوله سبحانه: «وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الْجَللِ وَالْإِكْرَامِ».

«وجه» معناه اللغوي معروف وهو القسم الأمامي للشي ء بحيث يواجهه الإنسان في الطرف المقابل، وإستعمالها بخصوص لفظ الجلالة يقصد به (الذات المقدسة).

أمّا «ذُو الْجَللِ وَالْإِكْرَامِ» والذي هو وصف ل (الوجه) فإنّه يشير إلى صفات الجمال والجلال للَّه سبحانه، لأنّ «ذُو الْجَللِ» تنبّئنا عن الصفات التي يكون اللَّه أسمى وأجلّ منها (الصفات السلبية). وكلمة «الإكرام» تشير إلى الصفات

التي تظهر حسن وقيمة الشي ء، وهي الصفات الثبوتية للَّه سبحانه كعلمه وقدرته.

وبناءً على هذا فإنّ معنى الآية بصورة عامّة يصبح كالآتي: إنّ الباقي في هذا العالم هو الذات المقدسة للَّه سبحانه، والتي تتّصف بالصفات الثبوتية والمنزهة عن الصفات السلبية.

ثم يخاطب الخلائق مرّة اخرى: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

ومضمون الآية اللاحقة هي نتيجة للآيات السابقة، حيث يقول سبحانه: «يَسْئَلُهُ مَن فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

ولماذا لا يكون كذلك في الوقت الذي يفنى الجميع ويبقى وحده سبحانه.

التعبير ب (يسأله) جاء بصيغة المضارع، وهو دليل على أنّ السؤال والطلب في الكائنات مستمر من الذات الإلهية المقدسة، وهذا شأن الموجود الممكن الذي هو مرتبط بواجب الوجود ليس في الحدوث فقط، وإنّما في البقاء أيضاً.

ثم يضيف سبحانه: «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ».

إنّ خلقه مستمر، وإجاباته لحاجات السائلين والمحتاجين لا تنقطع، كما أنّ ابداعاته مستمرّة فيجعل الأقوام يوماً في قوّة وقدرة، وفي يوم آخر يهلكهم، ويوماً يعطي السلامة

مختصر الامثل، ج 5، ص: 59

والشباب، وفي يوم آخر الضعف والوهن، ويوماً يذهب الحزن والهمّ من القلوب وآخر يكون باعثاً له، وخلاصة الأمر أنّه في كل يوم- وطبقاً لحكمته ونظامه الأكمل- يخلق ظاهرة جديدة وخلقاً وأحداثاً جديدة.

ومرّة اخرى- بعد هذه النعم المستمرة والإجابة لاحتياجات جميع خلقه من أهل السماوات والأرض يكرّر قوله سبحانه: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَ نُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) النعم الإلهية التي إستعرضتها الآيات السابقة كانت مرتبطة بهذا العالم، إلّاأنّ الآيات مورد البحث

تتحدث عن أوضاع يوم القيامة، وخصوصيات المعاد، وفي الوقت الذي تحمل تهديداً للمجرمين، فإنّها وسيلة لتربية وتوعية وإيقاظ المؤمنين، بالإضافة إلى أنّها مشجّعة لهم للسير في طريق مرضاته سبحانه، ومن هنا فإنّنا نعتبرها نعمة، لذلك بعد ذكر كل واحدة من هذه النعم يتكرّر نفس السؤال الذي كان يعقّب ذكر كل نعمة من النعم السابقة.

يقول سبحانه في البداية: «سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ».

«الثقلان»: من مادة «ثقل» على وزن (كبر) بمعنى الحمل الثقيل وجاءت بمعنى الوزن أيضاً، إلّاأنّ «ثقل» على وزن (خبر) تقال عادةً لمتاع وحمل المسافرين، وتطلق على جماعة الإنس والجن وذلك لثقلهم المعنوي، لأنّ اللَّه تبارك وتعالى قد أعطاهم عقلًا وشعوراً وعلماً ووعياً له وزن وقيمة بالرغم من أنّ الثقل الجسدي لهم ملحوظ أيضاً.

وبعد هذا يكرّر اللَّه سبحانه سؤاله مرّة اخرى: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

وتعقيباً على الآية السابقة التي كانت تستعرض الحساب الإلهي الدقيق، يخاطب الجن والإنس مرّة اخرى بقوله: «يَا مَعْشَرَ الْجِنّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ» للفرار من العقاب الإلهي؛ «فَانفُذُوا لَاتَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ». أي بقوّة إلهيّة، في حين أنّكم فاقدون لمثل هذه القوّة والقدرة.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 60

«معشر»: في الأصل من «عشر» مأخوذ من عدد «عشرة»، ولأنّ العدد عشرة عدد كامل، فإنّ مصطلح (معشر) يقال: للمجموعة المتكاملة والتي تتكوّن من أصناف وطوائف مختلفة. «أقطار»: جمع «قُطْر» بمعنى أطراف الشي ء.

«تنفذوا»: من مادة «نفوذ»، وهي في الأصل بمعنى خرق وعبور من شي ء.

والتعبير (من أقطار) إشارة إلى شقّ السماوات وتجاوزها إلى خارجها.

إنّ الآية أعلاه تتحدث عن الهروب والفرار من يد العدالة الإلهية الذي يفكّر به العاصون في ذلك اليوم.

في مجمع البيان: روى مسعدة بن صدقة عن كليب قال: كنا عند أبي عبداللَّه

عليه السلام، فأنشأ يحدثنا فقال: «إذا كان يوم القيامة جمع اللَّه العباد في صعيد واحد، وذلك أنّه يوحي إلى السماء الدنيا أن اهبطي بمن فيك، فيهبط أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجن والإنس والملائكة. ثم يهبط أهل السماء الثانية بمثل الجميع مرتين، فلا يزالون كذلك حتى يهبط أهل سبع سماوات فيصير الجن والإنس في سبع سرادقات من الملائكة ثم ينادي مناد: «يَا مَعْشَرَ الْجِنّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ» الآية. فينظرون فإذا قد أحاط بهم سبع أطواق من الملائكة».

ويخاطب سبحانه هاتين المجموعتين (الجن والإنس) بقوله: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

والتهديد هنا لطف إلهي أيضاً، فالبرغم من أنّه يحمل تهديداً ظاهرياً، إلّاأنّه عامل للتنبيه والإصلاح والتربية، حيث إنّ وجود المحاسبة في كل نظام هو نعمة كبيرة.

وما ورد في الآية اللاحقة تأكيد لما تقدّم ذكره في الآيات السابقة، والذي يتعلق بعدم قدرة الجن والإنس من الفرار من يد العدالة الإلهية، حيث يقول سبحانه: «يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ».

«شواظ»: بمعنى (الشعلة العديمة الدخان). إنّ هذا التعبير يشير إلى شدة حرارة النار.

و «نحاس»: بمعنى الدخان أو (الشعل ذات اللون الأحمر مصحوبة بالدخان)، لأنّها تتحدث عن موجود يحيط بالإنسان في يوم القيامة ويمنعه من الفرار من حكومة العدل الإلهي.

ثم يضيف سبحانه قوله: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 61

والكلام هنا عن النعم والآلاء من أجل ما ذكرنا من اللطف في الآية السابقة.

فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَ الْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا

الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) تكملة للآيات السابقة يتحدث القرآن الكريم عن بعض مشاهد يوم القيامة، والآيات أعلاه تذكر خصوصيات من مشاهد ذلك اليوم الموعود، وعن كيفية الحساب والجزاء والعقاب. يقول سبحانه في بداية الحديث: «فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدّهَانِ».

ويستفاد من مجموع آيات «القيامة» بصورة واضحة أنّ النظام الحالي للعالم سوف يتغير ويضطرب وتقع حوادث مرعبة جدّاً في كل الوجود، فتتغير الكواكب والسيارات والأرض والسماء، وتحصل تغيّرات يصعب تصورها، ومن جملتها ما ذكر في الآية أعلاه، وهي إنشقاق وتناثر الكرات السماوية، حيث يصبح لونها أحمر بصورة مذابة كالدهن.

ولأنّ الإخبار بوقوع هذه الحوادث المرعبة في يوم القيامة- أو قبلها- تنبيه وإنذار للمؤمنين والمجرمين على السواء، ولطف من ألطاف اللَّه سبحانه، يتكرر هذا السؤال: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

وفي الآية اللاحقة ينتقل الحديث من الحوادث الكونية ليوم القيامة إلى حالة الإنسان المذنب في ذلك اليوم، حيث يقول سبحانه: «فَيَوْمَئِذٍ لَّايُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ».

وكل شي ء واضح، وكل شي ء يُقرأ في وجه الإنسان.

إنّ يوم القيامة يوم طويل جدّاً، وعلى الإنسان أن يجتاز محطّات ومواقف متعددة فيه، حيث لابد من التوقف في كل محطّة مدة زمنية.

إنّ في بعض هذه المواقف لا يسأل الإنسان إطلاقاً، كما أنّ بعض المواقف الاخرى لا يسمح له بالكلام، حيث تشهد عليه أعضاء بدنه. قال تعالى: «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ

مختصر الامثل، ج 5، ص: 62

وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» «1». كما أنّ في بعض المحطّات يُسأل الإنسان وبدقة متناهية عن كافة أعماله.

ومرّة اخرى يخاطب سبحانه عباده، حيث يقول: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

نعم، إنّه لا يسأل حيث «يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ».

ثم يضيف سبحانه: «فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى

وَالْأَقْدَامِ».

«النواصي»: جمع ناصية وفي الأصل بمعنى الشعر وما يكون بمقدمة الرأس، من مادة (نصأ) وتعني الإتصال والإرتباط، «وأخذ بناصيته» بمعنى أخذه من شعره الذي في مقدمة رأسه، كما تأتي أحياناً كناية عن الغلبة الكاملة على الشي ء.

والمعنى الحقيقي للآية المباركة هو أنّ الملائكة تأخذ المجرمين في يوم القيامة من نواصيهم وأرجلهم، ويرفعونهم من الأرض بمنتهى الذلة ويلقونهم في جهنم، أو أنّه كناية عن منتهى ضعف المجرمين وعجزهم أمام ملائكة الرحمن، حيث يقذفونهم في نار جهنم بذلة تامة.

ومرّة اخرى يضيف سبحانه: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ». لأنّ التذكير بيوم القيامة هو لطف منه تعالى.

ثم يقول سبحانه: «هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِى يُكَذّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ».

ويضيف سبحانه في وصف جهنم وعذابها المؤلم الشديد حيث يقول: «يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ».

«آن» و «آني» هنا بمعنى الماء المغلي وفي منتهى الحرارة والإحراق.

فإنّ المجرمين يحترقون وسط هذا اللهيب الحارق لنار جهنم، ويظمأون ويستغيثون للحصول على ماء يروي ظمأهم، حيث يعطى لهم ماء مغلي (أو يصبّ عليهم) مما يزيد ويضاعف عذابهم المؤلم.

ويستفاد من بعض الآيات القرآنية أنّ (عين حميم) الحارقة تكون بجنب جهنم، ويلقى فيها من يستحق عذابها ثم في النار يسجرون. قال تعالى: «يُسْحَبُونَ فِى الْحَمِيمِ ثُمَّ فِى

______________________________

(1) سورة يس/ 65.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 63

النَّارِ يُسْجَرُونَ» «1».

ومرّة اخرى بعد هذا التنبيه والتحذير الشديد الموقظ، الذي هو لطف من اللَّه يقول الباري ء عزّ وجل: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

وَ لِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَ جَنَى

الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) الجنّتان اللتان اعدّتا للخائفين: يترك القرآن الكريم وصفه لأهل النار وحالاتهم البائسة لينقلنا إلى صفحة جديدة من صفحات يوم القيامة، ويحدثنا فيها عن الجنة وأهلها، وما أعدّ لهم من النعم فيها، والتي يصوّرها سبحانه بشكل مشوّق ومثير ينفذ إلى أعماق القلوب في عملية مقارنة لما عليه العاصون من عذاب شديد يحيط بهم والتي تحدثت عنها الآيات السابقة، وما ينتظر المؤمنين من جنّات وعيون وقصور وحور في الآيات أعلاه، يقول سبحانه: «وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ».

وللخوف من اللَّه أسباب مختلفة، فأحياناً يكون بسبب قبح الأعمال وانحراف الأفكار، واخرى بسبب القرب من الذات الإلهية حيث الشعور بالخوف والقلق من الغفلة والتقصير في مجال طاعة اللَّه، وأحياناً اخرى لمجرد تصورهم لعظمة اللَّه اللامتناهية وذاته اللامحدودة فينتابهم الشعور بالخوف والضعة أمام قدسيته العظيمة ... وهذا النوع من الخوف يحصل من غاية المعرفة للَّه سبحانه، ويكون خاصاً بالعارفين والمخلصين لحضرته.

ومرّة اخرى، وبعد ذكر هذه النعم العظيمة يخاطب الجميع بقوله: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

ثم يضيف سبحانه في وصفه لهاتين الجنتين بقوله: «ذَوَاتَا أَفْنَانٍ».

وبعد ذكر هذه النعم يكرّر سبحانه السؤال مرّة اخرى فيقول: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

ولأنّ البساتين النضرة والأشجار الزاهية ينبغي أن تكون لها عيون، أضاف سبحانه في وصفه لهذه الجنة بقوله: «فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ».

ثم يطرح مقابل هذه النعمة الإضافية قوله: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

______________________________

(1) سورة غافر/ 71 و 72.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 64

وفي الآية اللاحقة ينتقل البحث إلى فاكهة هاتين الجنّتين حيث يقول سبحانه: «فِيهِمَا مِن كُلّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ». ثم يضيف سبحانه قوله: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

لقد طرحت في الآيات السابقة ثلاث صفات لهاتين الجنّتين، وتستعرض الآية التالية الصفة الرابعة حيث يقول تعالى:

«مُتَّكِينَ عَلَى فُرُش بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ».

وهذا التعبير يدلّل على الهدوء الكامل والإستقرار التامّ لدى أهل الجنة.

إنّ أثمن قماش يتصور في هذه الدنيا يكون بطانة لتلك الفرش، إشارة إلى أنّ القسم الظاهر لا يمكننا وصفه من حيث الجمال والجاذبية.

وأخيراً، وفي خامس نعمة يشير سبحانه إلى كيفية هذه النعم العظيمة، حيث يقول:

«وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ». «جنى»: على وزن (بقى) وتعني الفاكهة التي نضج قطفها؛ و «دان» في الأصل (داني) بمعنى قريب.

ومرّة اخرى يخاطب الجميع سبحانه بقوله تعالى: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَ الْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) الجنة والزوجات الحسان: في الآيات السابقة ذكرت خمسة أقسام من هبات وخصوصيات الجنتين، وهنا نتطرّق لذكر النعمة السادسة وهي الزوجات الطاهرات، حيث يقول سبحانه: «فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ». قد قصرن طرفهنّ على أزواجهن، ولم يردن غيرهم. ثم يضيف تعالى: «لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ» «1».

في تفسير مجمع البيان: قال أبو ذرّ: إنّها تقول لزوجها: وعزة ربّي ما أرى في الجنة شيئاً أحسن منك فالحمد للَّه الذي جعلني زوجتك، وجعلك زوجي.

«طرف»: على وزن (حرف) بمعنى جانب العين، وبما أنّ الإنسان عندما يريد النظر يحرّك

______________________________

(1) «يطمثهنّ»: من مادة «طمث»، في الأصل بمعنى دم الدورة الشهرية، وجاءت بمعنى زوال البكارة؛ والمراد هنا أنّ النساء الباكرات في الجنة لم يكن لهنّ أزواج قطّ.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 65

أجفانه، لذا فقد استعمل هذا اللفظ كناية عن النظر، وبناءً على هذا فإنّ التعبير بقاصرات الطرف إشارة إلى النساء اللواتي يقصرن طرفهن على أزواجهن، ويعني أنّهن يكننّ الحبّ والودّ

لأزواجهن فقط، وهذه هي إحدى ميزات الزوجة التي لا تفكّر بغير زوجها ولا تضمر لسواه الودّ.

وفي التعقيب على نعمة الجنة هذه يكرّر قوله تعالى: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

ثم يتطرق إلى المزيد من وصف الزوجات الموجودات في الجنة، حيث يقول: «كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ».

ومرّة اخرى، وبعد ذكر هذه النعمة يقول سبحانه: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

وفي نهاية هذا البحث يقول عزّ وجل: «هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ».

وهل ينتظر أن يجازى من عمل عملًا صالحاً في الدنيا بغير الإحسان الإلهي؟

يقول الراغب في المفردات: الإحسان فوق العدل، وذاك أنّ العدل هو أن يعطي ما عليه ويأخذ ماله، والإحسان أن يعطي أكثر ممّا عليه ويأخذ أقلّ مما له فالإحسان زائد على العدل ..

ويتكرّر قوله سبحانه مرّة اخرى: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

وذلك لأنّ جزاء الإحسان بالإحسان نعمة كبيرة من قبل اللَّه تعالى، حيث يؤكّد سبحانه أنّ جزاءه مقابل أعمال عباده مناسب لكرمه ولطفه وليس لأعمالهم، مضافاً إلى أنّ طاعاتهم وعباداتهم إنّما هي بتوفيق اللَّه ولطفه، وبركاتها تعود عليهم.

وَ مِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) جنتان بأوصاف عجيبة: بعد بيان صفات جنتي الخائفين وخصوصياتهما المتميزة، واستمراراً للبحث ينتقل الحديث في الآيات التالية عن جنتين بمرتبة أدنى من السابقتين يكونان لأشخاص أقلّ خوفاً وإيماناً باللَّه تعالى من الفئة الاولى، حيث إنّ هدف العرض هو بيان سلسلة درجات ومراتب للجنان تتناسب مع الإيمان والعمل الصالح للأفراد.

يقول سبحانه في البداية: «وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 66

في تفسير مجمع البيان: فقد روي عن النبي صلى

الله عليه و آله أنّه قال: «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما».

وفي نفس الموضوع ورد في حديث آخر: «جنتان من ذهب للمقربين، وجنتان من ورق لأصحاب اليمين» «1». أي من فضة. ثم يضيف سبحانه: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

ثم ذكر القرآن الخصوصيات الخمس لهاتين الجنتين التي تشبه- إلى حد ما- ما ذكر حول الجنتين السابقتين، كما أنّهما تختلفان في بعض الخصوصيات الاخرى حيث يقول سبحانه:

«مُدْهَامَّتَانِ».

«مدهامتان»: من مادة (أدهيمام) ومن أصل (دهمه) على وزن (تهمه) ومعناها في الأصل السواد وظلمة الليل، ثم اطلقت على الخضرة الغامقة المعتمة، ولأنّ مثل هذا اللون يحكي عن غاية النضرة للنباتات والأشجار، ممّا يعكس منتهى السرور والإنشراح، لهذا فقد استعمل لهذا المعنى.

ويضيف سبحانه مرّة اخرى: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

وفي الآية اللاحقة يصف الجنة وصفاً إضافياً حيث يقول سبحانه: «فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ». «نضّاختان»: من مادة (نضخ) بمعنى فوران الماء.

ومرّة اخرى يسأل سبحانه عن الإنس والجن سؤالًا إستنكارياً فيقول: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

وتتحدث الآية التالية حول فاكهة هاتين الجنتين حيث تقول: «فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ».

ويكرّر سبحانه السؤال مرّة اخرى: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَ عَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَ الْإِكْرَامِ (78)

______________________________

(1) الدرّ المنثور 6/ 146. والتعبير بالذهب والفضة يمكن أن يكون إشارة إلى اختلاف درجة هاتين الجنتين.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 67

زوجات الجنة ... مرّة اخرى: استمرار لشرح نعم الجنتين التي ذكرت في الآيات السابقة،

تتحدث هذه الآيات عن قسم آخر من هذه النعم التي تزخر بها جنان اللَّه التي أعدّها للصالحين من عباده، حيث يقول سبحانه في البداية: «فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ».

تستعمل كلمة (خير) غالباً للصفات الجيدة والجمال المعنوي، أمّا «حسن» فإنّها تستعمل للجمال الظاهر. لذا فإنّ المقصود ب «خَيْرَاتٌ حِسَانٌ» اولئك النسوة اللواتي جمعن بين حسن السيرة، وحسن الظاهر.

وجاء في الروايات في تفسير هذه الآية أنّ الصفات الحسنة للزوجات في الجنة كثيرة ومن جملتها طيب اللسان والنظافة والطهارة، وعدم الإيذاء، وعدم النظر للرجال الأجانب.

ومرّة اخرى يكرّر السؤال نفسه بقوله تعالى: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

ثم يضيف مستمراً في وصف الزوجات في الجنة: «حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِى الْخِيَامِ».

«حور»: جمع حوراء وأحور، وتطلق على الشخص الذي يكون سواد عينه قاتماً وبياضها ناصعاً، وأحياناً تطلق على النساء اللواتي يكون لون وجوههن أبيض.

والتعبير ب «مقصورات» إشارة إلى أنّهن مرتبطات ومتعلقات بأزواجهن ومحجوبات عن الآخرين.

ومرّة اخرى يكرّر السؤال نفسه بقوله تعالى: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

ويضيف سبحانه وصفاً آخر لحوريات الجنة، حيث يقول: «لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ».

ويستفاد من الآيات القرآنية أنّ الزوجين المؤمنين في هذه الدنيا سيلتحقان في الجنة مع بعضهما ويعيشان في أفضل الحالات.

ويستفاد أيضاً من الروايات أنّ درجة ومقام زوجات المؤمنين الصالحات أعلى وأفضل من حوريات الجنة وذلك بما قمن به في الدنيا من صالح الأعمال وعبادة اللَّه سبحانه.

ثم يضيف تعالى: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

وفي آخر وصف للنعم الموجودة في هذه الجنة يذكر سبحانه تعالى: «مُتَّكِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِىّ حِسَانٍ».

«رفرف»: في الأصل بمعنى الأوراق الواسعة للأشجار، ثم اطلقت على الأقمشة الملوّنة الزاهية التي تشبه مناظر الحدائق.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 68

«عبقري»: في الأصل بمعنى كل موجود قلّ نظيره.

و «حسان»: جمع «حسن» على وزن

«نسب» بمعنى جيّد ولطيف.

فإنّ هذه التعابير حاكية جميعاً عن أنّ كل موجودات الجنة لا نظير له ولا شبيه في نوعه.

وللمرّة الأخيرة وهي (الحادية والثلاثون) يسأل سبحانه جميع مخلوقاته من الجن والإنس هذا السؤال: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

هل النعم المعنوية؟ أم النعم الماديّة؟ أم نعم هذا العالم؟ أم الموجودة في الجنة؟ إنّ كل هذه النعم شملت وجودكم وغمرتكم ... إلّاأنّه- مع الأسف- قد أنساكم غروركم وغفلتكم هذه الألطاف العظيمة، ومصدر عطائها وهو اللَّه سبحانه الذي أنتم بحاجة مستمرّة إلى نعمه في الحاضر والمستقبل ... فأيّاً منها تنكرون وتكذّبون؟

ويختم السورة سبحانه بهذه الآية الكريمة: «تَبَارَكَ اسْمُ رَبّكَ ذِى الْجَللِ وَالْإِكْرَامِ».

«تبارك»: من أصل (برك) بمعنى صدر البعير، وذلك لأنّ الجمال حينما تبرك تضع صدرها على الأرض أوّلًا، ومن هنا استعمل هذا المصطلح بمعنى الثبات والدوام والاستقامة، لذا فإنّ كلمة (مبارك) تقال للموجودات الكثيرة الفائدة، وأكرم من تطلق عليه هذه الكلمة هي الذات الإلهية المقدسة باعتبارها مصدراً لجميع الخيرات والبركات.

واستعملت هذه المفردة هنا لأنّ جميع النعم الإلهية- سواء كانت في الأرض والسماء في الدنيا والآخرة والكون والخلق- فهي من فيض الوجود الإلهي المبارك، لذا فإنّ هذا التعبير من أنسب التعابير المذكورة في الآية لهذا المعنى.

والملفت للنظر هنا أنّ هذه السورة بدأت باسم اللَّه (الرحمن) وانتهت باسم اللَّه ذي الجلال والإكرام) وكلاهما ينسجمان مع مجموعة مواضيع السورة.

«نهاية تفسير سورة الرحمن»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 69

56. سورة الواقعة

محتوى السورة: إنّ سورة الواقعة نزلت على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وكانت قبلها سورة (طه) وبعدها (الشعراء) «1».

هذه السورة- كما هو واضح من لحنها، وذكره المفسرون أيضاً- نزلت في مكة، بالرغم من أنّ بعضهم قال: إنّ الآيتين (81 و 82) نزلتا في المدينة،

إلّاأنّ هذا الإدعاء ليس له دليل، كما أنّ محتوى الآيتين الكريمتين لا يساعدان على ذلك أيضاً.

وسورة الواقعة- كما هو واضح من إسمها- تتحدث عن القيامة وخصوصياتها، ولذا فإنّ هذا الموضوع هو الأساس في البحث.

إلّا أنّنا نستطيع أن نلخّص موضوعات السورة في ثمانية أقسام:

1- بداية ظهور القيامة والحوادث المرعبة المقترنة بها.

2- تقسيم أنواع الناس في ذلك اليوم إلى ثلاثة طوائف: (أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، والمقربين).

3- بحث مفصل حول مقام المقربين، وأنواع الجزاء لهم في الجنة.

______________________________

(1) الفهرست للنديم/ 28.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 70

4- بحث مفصل حول القسم الثاني في الناس وهم أصحاب اليمين، وأنواع الهبات الإلهية الممنوحة لهم.

5- بحث حول أصحاب الشمال وما ينتظرهم من جزاء مؤلم في نار جهنم.

6- بيان أدلة مختلفة حول مسألة المعاد من خلال بيان قدرة اللَّه عزّ وجل، وخلق الإنسان من نطفة حقيرة، وظهور الحياة في النباتات، ونزول المطر، إشتعال النار.

7- وصف حالة الاحتضار والإنتقال من هذا العالم إلى حيث العالم الاخروي والتي تعتبر من مقدمات يوم القيامة.

8- وأخيراً نظرة إجمالية كلية حول جزاء المؤمنين وعقاب الكافرين.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من قرأ سورة الواقعة، كتب ليس من الغافلين». وذلك لأنّ آيات هذه السورة تتّصف بالتحريك والإيقاظ بصورة لا تسمح للإنسان أن يبقى في جوّ الغفلة.

وفي ثواب الأعمال عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ في كل ليلة جمعة الواقعة أحبّه اللَّه وأحبّه إلى الناس أجمعين، ولم ير في الدنيا بؤساً أبداً ولا فقراً ولا فاقة، ولا آفة من آفات الدنيا، وكان من رفقاء أمير المؤمنين عليه السلام».

ومن الواضح أنّنا لا نستطيع الحصول على جميع البركات التي وردت لهذه السورة بالقراءة

السطحية، بل ينبغي بعد تلاوتها التفكر والتدبر، ومن ثم الحركة والعمل.

إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً (4) وَ بُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً (6) وَ كُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَ قَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) الواقعة العظيمة: إنّ الأحداث المرتبطة بالقيامة تذكر غالباً في القرآن الكريم مقترنة بحوادث أساسية عظيمة قاصمة ومدمّرة، وهذا ما يلاحظ في الكثير من السور القرآنية التي

مختصر الامثل، ج 5، ص: 71

تتحدث عن القيامة؛ وفي سورة الواقعة، نجد هذا واضحاً في الآيات الاولى منها، حيث يبدأ سبحانه بقوله: «إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ». «لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ». وذلك لأنّ الحوادث التي تسبقها عظيمة وشديدة بحيث تكون آثارها واضحة في كل ذرات الوجود.

فإنّ الحشر لا يقترن بتغيير الكائنات فحسب، بل إنّ البشر يتغيّر كذلك كما يقول سبحانه في الآية اللاحقة: «خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ».

أجل، بعض يسقط إلى قاع جهنم، وبعض آخر إلى أعلى عليين في الجنة.

وفي الخصال عن الإمام علي بن الحسين عليهما السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال: «خافضة خفضت واللَّه بأعداء اللَّه في النار، رافعة رفعت واللَّه أولياء اللَّه إلى الجنة».

ثم يستعرض القرآن الكريم وصفاً أوسع في هذا الجانب حيث يقول: «إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا».

يا له من زلزال عظيم وشديد إلى حدّ أنّ الجبال فيه تندكّ وتتلاشى. قال تعالى: «وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا* فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنبَثًّا».

«رُجّت»: من مادة «رجّ» على وزن (حجّ) بمعنى التحرّك الشديد للشي ء وتقال رجرجة للإضطراب؛ و «بُسّت»: من مادة «بسّ» على وزن (حجّ)

والأصل بمعنى تليّن الطحين وتعجنه بواسطة الماء؛ و «هباءً»: بمعنى غبار؛ و «منبث»: بمعنى منتشر.

وبعد بيان وقوع هذه الظاهرة العظيمة والحشر الكبير يستعرض القرآن المجيد ذكر حالة الناس في ذلك اليوم، حيث قسّم الناس إلى ثلاثة أقسام بقوله سبحانه: «وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلثَةً».

وحول القسم الأوّل يحدّثنا القرآن الكريم بقوله: «فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ». والمقصود من أصحاب الميمنة هم الأشخاص الذين يعطون صحيفة أعمالهم بأيديهم اليمنى، وهذا الأمر رمز لأهل النجاة، ودليل الأمان للمؤمنين والصالحين في يوم القيامة، كما ذكر هذا مراراً في الآيات القرآنية.

عبارة «ما أصحاب الميمنة» هو بيان حقيقة السعادة التي ليس لها حدّ ولا يمكن تصوّرها لهؤلاء المؤمنين.

ثم يستعرض اللَّه تعالى المجموعة الثانية بقوله: «وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحَابُ

مختصر الامثل، ج 5، ص: 72

الْمَشْئَمَةِ». حيث الشؤم والتعاسة، وإستلام صحائف أعمالهم بأيديهم اليسرى التي هي رمز سوء عاقبتهم وعظيم جرمهم وجنايتهم، نتيجة عمى البصيرة والسقوط في وحل الضلال. والتعبير ب «ما أصحاب المشئمة» هو الآخر يعكس نهاية سوء حظّهم وشقاوتهم.

وأخيراً يصف المجموعة الثالثة أيضاً بقوله سبحانه: «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ».

(السابقون) ليسوا الذين سبقوا غيرهم بالإيمان فحسب، بل في أعمال الخير والأخلاق والإخلاص، فهم اسوة وقدوة وقادة للناس، ولهذا السبب فهم من المقربين إلى الحضرة الإلهية.

وإذا فسّرت (السابقون) كما في بعض الروايات الإسلامية بأنّها تعني الأشخاص الأربعة وهم «هابيل»، و «مؤمن آل فرعون»، و «حبيب النجار» الذين تميّز كل منهم بأسبقيته في قومه، وكذلك «أمير المؤمنين» عليه السلام الذي هو أوّل من دخل في الإسلام من الرجال، فإنّ هذا التفسير هو بيان للمصاديق الواضحة، وليس تحديداً لمفهوم الآية.

ثم يوضّح المقام العالي للمقربين، حيث يقول سبحانه: «فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ».

التعبير ب «جَنَّاتِ النَّعِيمِ» يشمل أنواع النعم المادية والمعنوية.

ويشير

في الآية اللاحقة إلى الحالة العددية في الامم السابقة وفي هذه الامة أيضاً حيث يقول سبحانه: «ثُلَّةٌ مّنَ الْأَوَّلِينَ». أي أنّهم جماعة كثيرة في الامم السالفة والأقوام الاولى.

«وَقَلِيلٌ مّنَ الْأَخِرِينَ».

وطبقاً لهاتين الآيتين فإنّ قسماً كبيراً من المقربين هم من الامم السابقة، وقسم قليل منهم فقط هم من امة محمّد صلى الله عليه و آله.

عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَ أَبَارِيقَ وَ كَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَ لَا يُنْزِفُونَ (19) وَ فَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَ لَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَ حُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَ لَا تَأْثِيماً (25) إِلَّا قِيلًا سَلَاماً سَلَاماً (26) الجنة بإنتظار المقربين: هذه الآيات تتحدث عن أنواع نعم الجنة التي أعدّها اللَّه

مختصر الامثل، ج 5، ص: 73

سبحانه للقسم الثالث من عباده المقربين، والتي كل واحدة منها أعظم من اختها وأكرم ..

وقد لخّصت هذه النعم بسبعة أقسام:

يقول تعالى في البداية: «عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ* مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ».

«سرر»: جمع «سرير» من مادة (سرور) بمعنى التخت الذي يجلس عليه المنعّمين في مجالس الانس والسرور.

ونلاحظ استمرار الأوصاف الرائعة في القرآن الكريم لسرر الجنة، ومجالس أهلها، ومنتديات أحبّتها مما يدل على أنّ من أهم نعم وملذات هؤلاء هي جلسات الانس هذه ..

ثم يتحدث سبحانه عن نعمة اخرى لهم حيث يقول: «يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ».

التعبير ب «يطوف» من مادة (طواف) إشارة إلى استمرار خدمة هؤلاء (الطوافين) لضيوفهم.

والتعبير ب «مخلّدون» إشارة إلى خلود شبابهم ونشاطهم وجمالهم وطراوتهم، والأصل أنّ جميع أهل الجنة مخلّدون وباقون.

ويضيف القرآن أنّ هؤلاء الولدان يقدّمون لأصحاب الجنة أقداح الخمر وكؤوس

الشراب المأخوذ من أنهار الجنة: «بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقٍ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ» «1».

وشرابهم هذا ليس من النوع الذي يأخذ لباب العقل والفكر، حيث يقول تعالى: «لَّا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ» «2».

إنّ الحالة التي تنتابهم من النشوة الروحية حين تناولهم لهذا الشراب لا يمكن أن توصف، إذ تغمر كل وجودهم بلذة ليس لها مثيل.

ثم يشير سبحانه إلى رابع وخامس قسم من النعم المادية التي وهبها اللَّه للمقربين في الجنة، حيث يقول سبحانه: «وَفَاكِهَةٍ مّمَّا يَتَخَيَّرُونَ». «وَلَحْمِ طَيْرٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ».

______________________________

(1) «أكواب»: جمع «كوب» بمعنى القدح أو الإناء الذي لا عروة له؛ و «أباريق»: جمع «إبريق» وهي في الأصل اخذت من الفارسية (أبريز) بمعنى الأواني ذات اليد من جهة، ومن الاخرى ذات أنبوب لصبّ السائل؛ و «كأس»: تقال للإناء المملوء بالسائل لدرجة يفيض من جوانبه؛ و «معين» من مادة «معن» بمعنى الجاري.

(2) «يصدّعون»: من مادة «صداع» على وزن (حباب)، بمعنى وجع الرأس، وهذا المصطلح في الأصل من (صدع) بمعنى (الإنفلاق) لأنّ الإنسان عندما يصاب بوجع رأس شديد فكأنّ رأسه يريد أن ينفلق من شدّة الألم، لذا فإنّ هذه الكلمة قد استعملت في هذا المعنى؛ و «ينزفون»: من أصل «نزف» بمعنى سحب جميع مياه البئر بصورة تدريجيّة، وتستعمل أيضاً حول (السُكْرُ) وفقدان العقل.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 74

إنّ تقديم الفاكهة على اللحم بلحاظ كون الفاكهة أفضل من الناحية الغذائية بالإضافة إلى نكهتها الخاصة عند أكلها قبل الطعام. والذي يستفاد من بعض الروايات أنّ غصون أشجار الجنة تكون في متناول أيدي أهل الجنة، بحيث يستطيعون بكل سهولة أن يتناولوا أي نوع من الفاكهة مباشرة، وهكذا الحال بالنسبة لبقيّة الأغذية الموجودة في الجنة، إلّاأنّ مما لا شك فيه أنّ تقديم الغذاء من قبل (الولدان

المخلّدين) له صفاء خاص ولطف متميز حيث إنّ تقديم الطعام يعبّر عن مزيد الإحترام والإكرام لأهل الجنة.

ثم يشير سبحانه إلى سادس نعمة وهي الزوجات الطاهرات الجميلات، حيث يقول سبحانه: «وَحُورٌ عِينٌ». «كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُوِ الْمَكْنُونِ».

«حور»: جمع حوراء وأحور، ويقال للشخص الذي يكون سواد عينه شديداً وبياضها شفافاً؛ و «عين»: جمع عيناء وأعين، بمعنى العين الواسعة.

«مكنون»: بمعنى مستور، والمقصود هنا الاستتار في الصدف. أنّهن مستورات عن أعين الآخرين بصورة تامة، لا يد تصل إليهن ولا عين تقع عليهن.

وبعد الحديث عن هذه المنح، والعطايا المادية الستّة، يضيف سبحانه: «جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ». كي لا يتصور أحد أنّ هذه النعم تعطى جزافاً، بل إنّ الإيمان والعمل الصالح هو السبيل لنيلها والحصول عليها، حيث يلزم للإنسان العمل المستمر الخالص حتى تكون هذه الألطاف الإلهية من نصيبه.

ويلاحظ بأنّ (يعملون) فعل مضارع يعطي معنى الإستمرار.

ويتحدث القرآن الكريم عن سابع نعمة من نعم أهل الجنة، وهي التي تتسّم بالطابع الروحي المعنوي، حيث يقول تعالى: «لَايَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا».

فالجوّ هناك جوّ نزيه خالص بعيد عن الدنس، فلا كذب، ولا تهم، ولا إفتراءات، ولااستهزاء ولا غيبة ولا ألفاظ نابية وعبارات لاذعة ... وليس هنالك لغو ولا كلام فارغ.

ثم يضيف سبحانه: «إِلَّا قِيلًا سَلمًا سلمًا».

سلام وتحية من اللَّه، ومن الملائكة المقربين، وسلامهم وتحيّتهم لبعضهم البعض في تلك المجالس العامرة المملوءة بالصفاء والتي تفيض بالودّ والاخوّة والصدق.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 75

وَ أَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَ طَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَ مَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَ فَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَ لَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَ فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً (36) عُرُباً أَتْرَاباً

(37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) أصحاب اليمين وهباتهم: بعد بيان الهبات والنعم الماديّة والمعنوية (للمقرّبين) يأتي الدور في الحديث عن (أصحاب اليمين)، ويشير سبحانه إلى نعم ستّ، ممّا أنعم به عليهم تمثّل مرحلة أدنى في مقابل سبع نِعم منحها سبحانه إلى المقرّبين من عباده.

تبدأ الآيات في الحديث عنهم أوّلًا من حيث مقامهم العالي، حيث يقول عزّ وجل:

«وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ».

إنّ هذا الوصف هو أروع وصف لهؤلاء، لأنّ هذا التعبير يستعمل في موارد لا تستطيع الألفاظ التعبير عنه، وهو تعبير عن المقام العالي لأصحاب اليمين.

وتشير الآية اللاحقة إلى أوّل نعمة منحت لهذه الجماعة، حيث تقول: «فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ».

وفي تفسير روح المعاني: كان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقولون: إنّ اللَّه تعالى ينفعنا بالأعراب ومسائلهم، أقبل أعرابي يوماً، فقال: يا رسول اللَّه! لقد ذكر اللَّه في القرآن شجرة مؤذية وما كنت أرى أنّ في الجنة شجرة تؤذي صاحبها؟

قال: «وما هي». قال: السدر، فإنّ له شوكاً.

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «أليس اللَّه يقول: في سدر مخضود، خضد اللَّه شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة، وأنّ الثمرة من ثمره تفتق اثنين وسبعين لوناً من الطعام ما فيها لون يشبه الآخر».

ثم يأتي الحديث عن ثاني هبة لهم حيث يقول سبحانه: «وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ».

«الطلح»: شجرة خضراء لطيفة اللون والرائحة، وذكر البعض أنّها شجرة الموز التي تتميّز بأوراق عريضة وخضراء وجميلة، وفاكهتها حلوة ولذيذة.

و «منضود»: من مادة (نضد) بمعنى متراكم.

وقال بعض المفسرين: بالنظر إلى أنّ أوراق شجر السدر في غاية الصغر، وأوراق شجر

مختصر الامثل، ج 5، ص: 76

الموز في غاية الكبر فقوله تعالى «فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ* وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ» اشارة

إلى ما يكون ورقه في غاية الصغر من الأشجار وإلى ما يكون ورقه في غاية الكبر منها فوقعت الإشارة إلى الطرفين جامعة لجميع الأشجار نظراً إلى أوراقها، والورق أحد مقاصد الشجر «1». ثم يستعرض سبحانه ذكر النعمة الثالثة من نعم أهل اليمين بقوله: «وَظِلّ مَّمْدُودٍ».

فسّر البعض هذا (الظل الواسع) بحالة شبيهة للظل الذي يكون ما بين الطلوع الفجر إلى طلوع الشمس من حيث إنتشاره في كل مكان، وقد نقل حديث للرسول صلى الله عليه و آله بهذا المعنى في روضة الكافي «2».

وينتقل الحديث إلى مياه الجنة حيث يقول سبحانه: «وَمَاءٍ مَّسْكُوبٍ».

«مسكوب»: من مادة «سكب» تعني في الأصل الصبّ، ولأنّ صبّ الماء يكون من الأعلى إلى الأسفل بصورة تيّار أو شلّال فهى إحدى الهبات التي منحها اللَّه لأهل الجنة.

ومن الطبيعي أنّ هذه الجنة المليئة بالأشجار العظيمة، والمياه الجارية، لابدّ أن تكون فيها فواكه كثيرة، وهذا ما ذكرته الآية الكريمة، حيث يقول سبحانه في ذكر خامس نعمة:

«وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ* لَّامَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ».

نعم، ليست كفواكه الدنيا من حيث محدوديتها في فصول معيّنة من أسابيع أو شهور.

ثم يشير سبحانه إلى نعمة اخرى حيث يقول: «وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ». أي الزوجات الرفيعات القدر والشأن.

«فرش»: جمع فراش وتعني في الأصل كل فراش يفرش ولهذا التناسب فإنّها تستعمل في بعض الأحيان كناية عن الزوج (سواء كان رجلًا أو امرأة).

ويصف القرآن الكريم زوجات الجنة بقوله تعالى: «إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً».

وهذه الآية لعلّها تشير إلى الزوجات المؤمنات في هذه الدنيا حيث يمنحهنّ اللَّه سبحانه خلقاً جديداً في يوم القيامة، ويدخلن الجنة وهنّ في قمّة الحيوية والشباب والجمال والكمال الظاهر والباطن، وبشكل يتناسب مع كمال الجنة وخلوّها من كل نقص وعيب.

ثم يضيف تعالى: «فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا».

واحتمال أن يكون الوصف مستمرّاً،

كما صرّح كثير من المفسرين بذلك، واشير له في

______________________________

(1) التّفسير الكبير، الفخر الرازي 29/ 162.

(2) روضة الكافي 8/ 99.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 77

الروايات الإسلامية أيضاً، حيث الزواج لا يغيّر وضعهن ويبقين أبكاراً «1».

ويضيف في وصفهن بوصف آخر فيقول تعالى: «عُرُبًا».

«عُرُباً»: جمع «عروبة» بمعنى المرأة التي يحكي وضع حالها عن مقام عفّتها وطهارتها، وعمّا تكنّه من المحبة لزوجها؛ و «إعراب»: معناه هو نفس مدلول الإظهار، ويأتي هذا المصطلح أيضاً بمعنى الفصاحة ولطافة الكلام، ويمكن جمع المعنيين في هذه الآية.

والوصف الآخر لهن: «أَتْرَابًا». أي: أنّها متماثلات في الجمال وأتراب في الظاهر والباطن، ومتماثلات في العمر مع أزواجهن.

«أتراب»: جمع «ترب» بمعنى المثل والشبيه. إنّ هذا الشبه والتماثل يمكن أن يكون في أعمار الزوجات بالنسبة لأزواجهن، كي يدركن إحساسات ومشاعر أزواجهن كاملة.

ثم يضيف تعالى: «لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ».

وهذا تأكيد جديد على إختصاص هذه الصفات والنعم الإلهية بهم.

وفي نهاية هذا العرض يقول سبحانه: «ثُلَّةٌ مّنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مّنَ الْأَخِرِينَ».

«ثلّة»: في الأصل بمعنى قطعة مجتمعة من الصوف، ثم اطلقت على كل مجموعة من الناس عظيمة ومتماسكة، وبهذا الترتيب فإنّ مجموعة عظيمة من أصحاب اليمين هم من الامم السابقة، ومجموعة عظيمة من الامة الإسلامية، لأنّ بين المجموعتين كثير من الصالحين والمؤمنين، بالرغم من أنّ السابقين للإيمان في الامة الإسلامية أقلّ من السابقين للإيمان في الامم السابقة، وذلك لكثرة تلك الامم وكثرة أنبيائها.

وَ أَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ (42) وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَ لَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَ كَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَ كَانُوا يَقُولُونَ أَ إِذَا مِتْنَا وَ كُنَّا تُرَاباً وَ عِظَاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَ

وَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَ الْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) العقوبات المؤلمة لأصحاب الشمال: بعد الاستعراض الذي مرّ بنا حول النعم والهبات العظيمة التي منحها اللَّه سبحانه للمقربين من عباده ولأصحاب اليمين من أوليائه، يتطرق

______________________________

(1) روح المعاني 27/ 142.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 78

الآن إلى ذكر المجموعة الثالثة (أصحاب الشمال) والعذاب المؤلم والعاقبة السيئة التي حلّت بهم، في عملية مقارنة لوضع المجموعات الثلاثة، حيث يقول الباري ء: «وَأَصْحَابُ الشّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشّمَالِ». أصحاب الشمال هم الذين يستلمون صحائف أعمالهم بأيديهم اليسرى إشارة إلى سوء عاقبتهم، وأنّهم من أهل المعاصي والذنوب.

ثم يشير سبحانه إلى ثلاثة أنواع من العقوبات التي يواجهونها، الهواء الحارق القاتل من جهة: «فِى سَمُومٍ»، والماء المغلي المهلك من جهة اخرى: «وَحَمِيمٍ»، وظل الدخان الخانق الحارّ من جهة ثالثة: «وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ».

هذه الألوان من العذاب تحاصرهم وتطوقهم وتسلب منهم الصبر والقدرة.

ثم يضيف الباري ء مؤكّداً فيقول: «لَّابَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ».

المظلة عادةً تحمي الإنسان من الشمس والمطر والهواء ولها منافع اخرى، والظل المشار إليه في الآية الكريمة ليس له من هذه الفوائد شي ء يذكر.

ومن الطبيعي أنّ مظلّة من الدخان الأسود الخانق لا ينتظر منها إلّاالشر والضرر.

وبالرغم من أنّ جزاء أهل النار له أنواع مختلفة مرعبة من العذاب، إلّاأنّ ذكر الأقسام الثلاثة يكفي لإعطاء فكرة عن بقية الأهوال.

وفي الآيات اللاحقة يذكر الأسباب التي أدّت بأصحاب الشمال إلى هذا المصير المخيف والمشؤوم، وذلك بثلاث جمل: أ) يقول سبحانه وتعالى: «إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ».

«مترف»: من مادة «ترف» بمعنى التنعّم، وتطلق على الشخص الذي ملكته الغفلة وجعلته مغروراً سكراناً، وجرّته إلى الطغيان.

صحيح أنّ أصحاب الشمال ليسوا جميعاً من زمرة المترفين، إلّاأنّ المقصودين في القرآن الكريم

هم أربابهم وأكابرهم.

ب) ثم يشير سبحانه إلى العامل الذي كان مصدراً وسبباً لعذاب أصحاب الشمال، فيقول سبحانه: «وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ».

«الحنث»: في الأصل يعني كل نوع من الذنوب. فإنّ خصوصية أصحاب الشمال ليس فقط في إرتكاب الذنوب ولكن في الإصرار عليها.

ج) وثالث عمل سبب لهم هذا الويل والعذاب، هو أنّهم قالوا: «وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 79

وعلى هذا فإنّ إنكار القيامة والذي هو بحدّ ذاته مصدر للكثير من الذنوب، هو وصف آخر لأصحاب الشمال، ومصدر لشقائهم. وتعبير «كَانُوا يَقُولُونَ» يوضّح لنا أنّهم كانوا يصرّون ويعاندون في إنكار يوم القيامة أيضاً.

إنّ الذنوب الثلاثة التي اشير إليها في الآيات الثلاثة السابقة كانت بمثابة نفي اصول الدين الثلاثة من قبل أصحاب الشمال.

ففي آخر آية تحدّث القرآن الكريم عن تكذيبهم ليوم القيامة، وفي الآية الثانية عن إنكار التوحيد، وفي الآية الاولى كان الحديث عن المترفين وهي إشارة إلى تكذيب الأنبياء.

إنّهم لم يكتفوا بما ذكروا وذهبوا إلى أكثر من ذلك حيث قالوا بتعجب: «أَوَ ءَابَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ».

ثم إنّ القرآن الكريم يأمر الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أن يجيبهم: «قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْأَخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ».

«ميقات»: من مادة «وقت» بمعنى الزمان الذي يحدّد لعمل ما أو موعد. والمقصود من الميقات هنا هو نفس الوقت المقرر للقيامة.

ويستفاد من التعابير المختلفة التي وردت في الآية السابقة والتأكيدات العديدة حول مسألة الحشر، أنّ حشر جميع الناس ينجز في يوم واحد.

ولابدّ من الإشارة هنا إلى أنّ معلومية يوم القيامة هي عند اللَّه فقط، وإلّا فإنّ جميع البشر بما فيهم الأنبياء والمرسلون والمقربون والملائكة ليس لهم علم بتوقيتها.

ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ

شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) عقوبات جديدة للمجرمين: هذه الآيات استمرار للأبحاث المرتبطة بعقوبات أصحاب الشمال، حيث يخاطبهم بقوله: «ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذّبُونَ لَأَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مّن زَقُّومٍ».

«زقّوم»: نبات مرّ نتن الرائحة وطعمه غير مستساغ، وفيه عصارة إذا دخلت جسم الإنسان يصاب بالتورّم، وتقال أحياناً لكل نوع من الغذاء المنفّر لأهل النار.

وجملة «فَمَالُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ» إشارة إلى الجوع الشديد الذي يصيبهم بحيث إنّهم

مختصر الامثل، ج 5، ص: 80

يأكلون بنهم وشره من هذا الغذاء النتن وغير المستساغ جدّاً فيملؤون بطونهم. وعند تناولهم لهذا الغذاء السي ء يعطشون ولكن ما هو شرابهم! يتبيّن ذلك في قوله تعالى: «فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ».

إنّ البعير الذي يبتلى بداء العطش فإنّ شدة عطشه تجعله يشرب الماء باستمرار حتى يهلك، وهذا هو نفس مصير «الضَّالُّونَ الْمُكَذّبُونَ» في يوم القيامة.

وفي آخر آية- مورد البحث- يشير سبحانه إلى طبيعة مأكلهم ومشربهم في ذلك اليوم حيث يقول: «هذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدّينِ».

ومن الطبيعي أنّ أهل النار ليسوا ضيوفاً، وأنّ الزقّوم والحميم ليس وسيلة لضيافتهم بل هو نوع من الطعن فيهم، وأنّه إذا كان كل هذا العذاب هو مجرد استقبال لهم، فكيف بعد ذلك سيكون حالهم.

نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْ لَا تُصَدِّقُونَ (57) أَ فَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَ مَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَ نُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْ لَا تَذَكَّرُونَ (62) سبعة أدلة على المعاد: بما أنّ الآيات السابقة تحدثت عن تكذيب الضالين ليوم المعاد، فإنّ

الآيات اللاحقة استعرضت سبعة أدلة على هذه المسألة المهمة، كي يتركّز الإيمان وتطمئن القلوب بالوعود الإلهية التي وردت في الآيات السابقة حول «المقربين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال». يقول سبحانه في المرحلة الاولى: «نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدّقُونَ».

أي لِمَ لا تصدّقون بالمعاد؟! لماذا تتعجبون من الحشر والمعاد الجسمي بعد أن تصبح أجسامكم تراباً؟ ألم نخلقكم من التراب أوّل مرّة؟ أليس حكم الأمثال واحداً؟

وفي الآية اللاحقة يشير البارى ء إلى دليل ثان حول هذه المسألة فيقول: «أَفَرَءَيْتُم مَّا تُمْنُونَ ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ».

وهل أنّ القادر على الخلق المتكرر يعجز عن إحياء الموتى في يوم القيامة؟

ثم يستعرض ذكر الدليل الثالث حيث يقول سبحانه: «نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 81

إنّنا لن نغلب أبداً، وإذا قدّرنا الموت فلا يعني ذلك أنّنا لا نستطيع أن نمنح العمر السرمدي، بل إنّ الهدف هو أن نذهب بقسم من الناس ونأتي بآخرين محلّهم، وأخيراً نعيدكم خلقاً جديداً في عالم لا تعلمون عنه شيئاً: «عَلَى أَن نُّبَدّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِى مَا لَا تَعْلَمُونَ».

ويمكن توضيح الدليل بالصورة التالية: إنّ اللَّه الحكيم الذي خلق الإنسان وقدّر له الموت فطائفة يموتون وآخرين يولدون باستمرار، من البديهي أنّ له هدف.

فإذا كانت الحياة الدنيا هي الهدف فالمناسب أن يكون عمر الإنسان خالداً وليس بهذا المقدار القصير المقترن مع ألوان الآلام والمشاكل.

وسنّة الموت تشهد أنّ الدنيا معبراً وليست منزلًا وأنّها جسر وليست مقصداً، لأنّها لو كانت مستقرّاً ومقصداً للزم أن تدوم الحياة فيها.

وفي آخر آية- مورد البحث- يتحدث سبحانه عن رابع دليل للمعاد حيث يقول: «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ».

هذا الدليل نستطيع بيانه بصورتين:

الاولى: إنّ خلق هذه الدنيا العظيمة وما فيها هل يمكن أن يكون لهدف

صغير محدود، كأن يعيش الإنسان فيها بضعة أيام؟ كلّا ليس كذلك، وإلّا فإنّه يعني أنّ خلق العالم سيكون بدون هدف، ولكن مما لا شك فيه أنّ هذه المخلوقات العظيمة قد خلقت لموجود شريف- مثل الإنسان- ليعرف اللَّه سبحانه من خلالها، معرفة تكون رأسماله الوحيد في الدار الآخرة، فالهدف إذن هو الدار الآخرة، وهذا دليل آخر على المعاد.

الثانية: هو أنّنا نلاحظ مشاهد المعاد في هذا العالم تتكرر أمامنا في كل سنة وفي كل زاوية وكل مكان، حيث مشهد القيامة والحشر في عالم النبات، فتحيى الأرض الميتة بهطول الأمطار الباعثة للحياة. قال تعالى: «إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَى «1».

أَ فَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) هل أنتم الزارعون أم اللَّه: استعرضنا لحدّ الآن أربعة أدلة من الأدلة السبعة التي جاء

______________________________

(1) سورة فصّلت/ 39.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 82

ذكرها في هذه السورة حول المعاد، والآيات- مورد البحث واللاحقة لها- تستعرض الأدلة الاخرى المتبقّية والتي كل منها مصداق لقدرة اللَّه اللا متناهية. فالدليل الأوّل يرتبط بخلق الحبوب الغذائية، والثاني يرتبط بخلق الماء، والثالث يتعلق بالنار، وهذه المحاور تشكّل الأركان الأساسية في الحياة الإنسانية.

يقول سبحانه في البداية: «أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ».

واللَّه سبحانه هو الذي يخلق في وسط هذه البذرة الحياة، فعندما توضع البذرة في محيط مهيّأ من حيث التربة والضوء والماء، فإنّها تستفيد ابتداءاً من المواد الغذائية المخزونة فيها إلى أن تصبح برعماً وتولّد جذراً، ثم تنمو بسرعة عجيبة مستفيدة من المواد الغذائية الموجودة في الأرض.

وفي الآية اللاحقة يؤكّد الدور الهامشي للإنسان في نمو ورشد النباتات فيقول: «لَوْ

نَشَاءُ لَجَعَلْنهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ».

«حطام»: من مادة «حطم» تعني في الأصل كسر الشي ء، وغالباً ما تطلق على كسر الأشياء اليابسة كالعظام النخرة وسيقان النباتات الجافّة، والمقصود هنا هو التبن.

ويحتمل أيضاً أنّ المقصود بالحطام هنا هو فساد البذور في التربة وعدم نموّها.

نعم، تتعجبون وتغمركم الحيرة وتقولون: «إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ» «1».

وإذا كنتم أنتم الزارعين الحقيقيين، فهل بإمكانكم أن تمنعوا وتدفعوا عن زرعكم الأضرار والمصير المدمّر والنتيجة البائسة؟ وهذا التحدي يؤكّد لنا أنّ جميع امور الخلق من اللَّه سبحانه.

أَ فَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْ لَا تَشْكُرُونَ (70) أَ فَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَ مَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) من الذي خلق الماء والنار: يشير سبحانه في هذه الآيات إلى سادس وسابع دليل للمعاد في هذا القسم من آيات سورة الواقعة، التي تبيّن قدرة اللَّه تعالى على إحياء الموتى، بل

______________________________

(1) «مغرمون»: من مادة «غرامة» بمعنى الضرر وفقدان الوقت والمال.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 83

في كل شي ء: «أَفَرَءَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِى تَشْرَبُونَ». «ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ».

«مزن»: يعني (الغيوم البيضاء) وفسّرها البعض بأنّها (الغيوم الممطرة).

إنّ هذه الآيات تجعل الوجدان الإنساني أمام استفسارات عدّة كي تأخذ إقراراً منه، حيث يسأل اللَّه سبحانه: هل فكّرتم بالماء الذي تشربونه باستمرار والذي هو سرّ حياتكم؟

وإذا لاحظنا في الآيات أعلاه عملية استعراض لماء الشرب- فقط- وعدم التحدث عن تأثيره في حياة الحيوانات أو النباتات فإنّ السبب هو الأهمية البالغة للماء في حياة الإنسان نفسه، بالإضافة إلى أنّه قد اشير له في الآيات السابقة

في حديث الزرع، لذا لا حاجة لتكرار ذلك.

وأخيراً- ولإكمال البحث في الآية اللاحقة- يقول سبحانه: «لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ». «اجاج»: من مادة «أجّ» وقد أخذت في الأصل من «أجيج النار» يعني إشتعالها وإحتراقها، ويقال «اجاج» للمياه التي تحرق الفمّ عند شربها لشدّة ملوحتها ومرارتها وحرارتها.

وأخيراً نصل إلى سابع- وآخر- دليل للمعاد في هذه السلسلة من الآيات الكريمة، وهو خلق النار التي هي أهمّ وسيلة لحياة الإنسان وأكثرها أهمية له في المجالات الصناعية المختلفة، حيث يقول سبحانه: «أَفَرَءَيْتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشُونَ». «تورون»: من مادة «ورى» بمعنى الستر، ويقال للنار التي تكون مخفية في الوسائل التي لها القابلية على الإشتعال والتي تظهر بشرارة، ويقال «ورى» و «ايراء».

جملة (تورون)- بمعنى إشعال النار- بالرغم من أنّها فسّرت هنا بما يستفاد منه توليد النار، إلّاأنّه لا مانع من أن تشمل الأشياء المشتعلة أيضاً كالحطب باعتباره ناراً خفيّة تظهر وقت توفّر الشروط المناسبة لها.

وفي الآية اللاحقة يضيف مؤكّداً الأبحاث أعلاه بقوله سبحانه: «نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لّلْمُقْوِينَ».

إنّ عودة النار من داخل الأشجار الخضراء تذكّرنا برجوع الأرواح إلى الأبدان في الحشر من جهة، ومن جهة اخرى تذكّرنا هذه النار بنار جهنم.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 84

يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم» «1». جملة «مَتَاعًا لّلْمُقْوِينَ» إشارة إلى الفوائد الدنيوية لهذه النار.

يستنتج سبحانه نتيجة مهمّة بعد ما ركّز على أهميّة هذه النعم للإنسان وذلك بتسبيحه والشكر له تعالى باعتباره المصدر الوحيد لهذه النعم ... فيقول سبحانه في آخر آية مورد البحث: «فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ».

إنّ اللَّه الذي خلق كل هذه النعم، والتي كل

منها تذكّرنا بقدرته وتوحيده وعظمته ومعاده، لائق للتسبيح والتنزيه من كل عيب ونقص.

إنّه ربّ، وكذلك فإنّه «عظيم» وقادر ومقتدر، وبالرغم من أنّ المخاطب في هذه الآية هو الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله إلّاأنّ من الواضح أنّ جميع البشر هم المقصودون.

فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَ فَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) المطهّرون ومعرفة أسرار القرآن: استمراراً للأبحاث التي جاءت في الآيات السابقة، والتي تركّز الحديث فيها حول الأدلة السبعة الخاصة بالمعاد، ينتقل الحديث الآن عن أهمية القرآن الكريم باعتباره يشكّل مع موضوع النبوة ركنين أساسيين بعد مسألة المبدأ والمعاد والتي بمجموعها تمثّل أهمّ الأركان العقائدية. يبدأ الحديث بقسم عظيم، حيث يقول سبحانه:

«فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ».

وعندما يلاحظ الإنسان- طبقاً لتصريحات العلماء- أنّ في (مجرّتنا) فقط ألف مليون نجمة، وتوجد في الكون مجرّات كثيرة، وكل واحدة منها لها مسار خاص، عندئذ ستتوضّح لنا أهمية هذا القسم القرآني.

ولهذا السبب فإنّه تعالى يضيف في الآية اللاحقة: «وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ».

وهذه بحد ذاتها تعتبر إعجازاً علميّاً للقرآن الكريم، حيث في الوقت الذي كانت تعتبر

______________________________

(1) جامع البيان 27/ 262؛ وروح المعاني 27/ 150.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 85

النجوم عبارة عن مسامير فضائية رصّعت السماء بها فإنّ مثل هذا البيان القرآني الرائع في ظلّ ظروف وأوضاع يخيّم عليها الجهل، محال أن يصدر من بشر عادي.

وتوضّح الآية اللاحقة ما هو المقصود من ذكر هذا القسم؟ حيث يقول سبحانه: «إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ».

وبهذه الصورة فإنّه يردّ على المشركين المعاندين الذين يصرّون بإستمرار على

أنّ هذه الآيات المباركة هي نوع من التكهّن- والعياذ باللَّه- أو أنّه حديث جنوني أو شعر، أو أنّه من قبل الشيطان ... فيردّ عليهم سبحانه بأنّه وحي سماوي وحديث بيّن وعظمته وأصالته لا غبار عليها، ومحتواه يعبّر عن مبدأ نزوله.

نعم، إنّ القرآن كريم وقائله كريم ومن جاء به كذلك، وأهدافه كريمة أيضاً.

ثم يستعرض الوصف الثاني لهذا الكتاب السماوي العظيم حيث يقول تعالى: «فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ».

إنّه في «لوح محفوظ» في علم اللَّه، محفوظ من كل خطأ وتغيير وتبديل.

وفي ثالث وصف له يقول سبحانه: «لَّايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ».

ذكر الكثير من المفسرين- تماشياً مع بعض الروايات الواردة عن الأئمة المعصومين عليهم السلام- بعدم جواز مسّ (كتابة) القرآن الكريم بدون غسل أو وضوء.

كما اعتبر بعضهم أنّها إشارة إلى أنّ الحقائق والمفاهيم العالية في القرآن الكريم لا يدركها إلّا المطهّرون. فإنّ طهارة الروح في طلب الحقيقة تمثّل حدّاً أدنى من مستلزمات إدراك الإنسان لحقائق القرآن، وكلّما كانت الطهارة والقداسة أكثر كان الإدراك لمفاهيم القرآن ومحتوياته بصورة أفضل.

وفي رابع وآخر وصف للقرآن الكريم يقول تعالى: «تَنزِيلٌ مّن رَّبّ الْعَالَمِينَ».

إنّ اللَّه المالك والباري ء لجميع الخلق، قد نزّل هذا القرآن لهداية البشر، وقد أنزله سبحانه على قلب النبي الطاهر، وكما أنّ العالم التكويني صادر منه وهو تعالى رب العالمين فكذلك الحال في المجال التشريعي، فكل نعمة وهداية فمن ناحيته ومن عطائه.

ثم يضيف سبحانه: «أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ». هل أنتم بهذا القرآن وبتلك الأوصاف المتقدمة تتساهلون، بل تنكرونه وتستصغرونه في حين تشاهدون الأدلة الصادقة والحقّة بوضوح، وينبغي لكم التسليم والقبول بكلام اللَّه سبحانه بكل جديّة، والتعامل مع هذا الأمر كحقيقة لا مجال للشك فيها.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 86

عبارة «هذا الحديث» في الآية الكريمة إشارة للقرآن

الكريم.

«مدهنون»: في الأصل من مادة «دهن» بالمعنى المتعارف عليه، ولأنّ الدهن يستعمل للبشرة وامور اخرى، فإنّ كلمة (أدهان) جاءت بمعنى المداراة والمرونة، وفي بعض الأحيان بمعنى الضعف وعدم التعامل بجدية ... ولأنّ المنافقين والكاذبين غالباً ما يتّصفون بالمداراة والمصانعة، لذا استعمل هذا المصطلح أحياناً بمعنى التكذيب والإنكار، ويحتمل أن يكون المعنيان مقصودان في الآية. وفي آخر آية- مورد البحث- يقول سبحانه إنّكم بدلًا من أن تشكروا اللَّه تعالى على نعمه ورزقه وخاصة نعمة القرآن الكبيرة، فإنّكم تكذّبون به: «وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ».

فَلَوْ لَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَ أَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَ لكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْ لَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) عندما تصل الروح إلى الحلقوم: تكملة لأبحاث المعاد والردّ على المنكرين والمكذبين فإنّ القرآن الكريم يرسم لنا صورة معبّرة ومجسّدة لهذه اللحظات حيث يقول سبحانه:

«فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ» ولا تستطيعون عمل شي ء من أجله.

والمخاطبون هنا هم أقارب المحتضر الذين ينظرون إلى حالته في ساعة الاحتضار من جهة، ويلاحظون ضعفه وعجزه من جهة ثانية، وتتجلّى لهم قدرة اللَّه تعالى على كل شي ء، حيث إنّ الموت والحياة بيده، وأنّهم- أي أقاربه- سيلاقون نفس المصير.

ثم يضيف سبحانه: «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلكِن لَّاتُبْصِرُونَ».

نعم، نحن الذين نعلم بصورة جيّدة ما الذي يجول في خواطر المحتضر؟ وما هي الإزعاجات التي تعتريه؟ نحن الذين أصدرنا أمرنا بقبض روحه في وقت معيّن، إنّكم تلاحظون ظاهر حاله فقط، ولا تعلمون كيفية إنتقال روحه من هذه الدار إلى الدار الآخرة.

ثم للتأكيد الأشد في توضيح هذه الحقيقة يضيف تعالى: «فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».

إنّ

ضعفكم هذا دليل أيضاً على أنّ مالك الموت والحياة واحد، وأنّ الجزاء بيده، وهو الذي يحي ويميت.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 87

فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَ رَيْحَانٌ وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَ أَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَ أَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) مصير الصالحين والطالحين: هذه الآيات نوع من الخلاصة للآيات الاولى والأخيرة من هذه السورة، كما أنّها تجسّد حالة التفاوت بين البشر في حالة الاحتضار، وكيف أنّ قسماً منهم يلفظون أنفاسهم بهدوء وراحة في تلك اللحظات الصعبة، وآخرين تلوح لهم من بعيد النار الحامية، ويسيطر عليهم الخوف والاضطراب والهلع فيلفظون أنفاسهم بصعوبة بالغة.

يقول سبحانه في البداية: «فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ».

«روح»: على وزن (قول) في الأصل بمعنى التنفّس؛ و «الريحان»: بمعنى النبات أو الشي ء ذي العطر، ثم اصطلح على كل شي ء باعث للحياة والراحة، كما أنّ الريحان يطلق على كل نعمة ورزق كريم. وبناءً على هذا فإنّ الروح إشارة إلى كل الامور التي تخلّص الإنسان من الصعوبات ليتنفّس براحة، وأمّا الريحان فإنّه إشارة إلى الهبات والنعم التي تعود إلى الإنسان بعد إزالة العوائق.

والجدير بالملاحظة أنّ الحديث عن «جنّة النعيم» جاء بعد ذكر الروح والريحان وقد يستفاد من هذا أنّ الروح والريحان يكون من نصيب المؤمنين في الإحتضار والقبر والبرزخ، وأمّا الجنة ففي الآخرة. في الأمالي للصدوق عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال: « «فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ» يعني في قبره،

وجنّة نعيم يعني في الآخرة».

ثم يضيف سبحانه: «وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ». وهم تلك الثلّة الصالحة من الرجال والنساء الذين يستلمون صحيفة أعمالهم بيدهم اليمنى كعلامة للفوز والنصر والنجاح «فَسَلمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ».

وبهذا الترتيب فإنّ ملائكة اللَّه المختصّين بقبض الروح في لحظات الإنتقال من هذه الدنيا يوصلون سلام أصحاب اليمين إلى المحتضر. كما قال تعالى- في الآية (26) من نفس السورة- في وصف أهل الجنة وكلامهم: «إِلَّا قِيلًا سَلمًا سَلمًا».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 88

ثم تستعرض الآيات الكريمة القسم الثالث الذين مرّ ذكرهم في أوائل هذه السورة عبر التصنيف الذي ذكر واصطلح عليهم ب (أصحاب الشمال)، حيث يقول تعالى: «وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذّبِينَ الضَّالّينَ فَنُزُلٌ مّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ».

نعم، إنّهم على مشارف الموت حيث يذوقون أوّل عذاب إلهي، ويتجرّعون مرارة عقاب يوم القيامة في القبر والبرزخ.

وهذا التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ قسماً من الأشخاص الضالين من فصيلة الأفراد المستضعفين أو الجهلة القاصرين الذين ليس لديهم إصرار وعناد على الباطل، يمكن أن تشملهم الألطاف الإلهية، أمّا المكذبون المعاندون فإنّهم سيبتلون بالمصير البائس والعاقبة السيّئة التي تقدّم ذكرها.

وفي نهاية هذا الحديث يضيف سبحانه: «إِنَّ هذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ».

إنّ التعبير ب (فسبّح)- الفاء تفريعية- هو إشارة إلى أنّ ما قيل حول الأقسام الثلاثة هو عين العدالة، وبناءً على هذا اعتبر (ربّك) منزّهاً من كل ظلم، وإذا ما اريد الإبتعاد عن مصير أصحاب الشمال فعلينا أن نتنزّه من كل شرك وظلم المتلازمان مع إنكار القيامة.

وفي الدرّ المنثور: لما نزلت على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ» قال: «اجعلوها في ركوعكم». ولما نزلت «سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الْأَعْلَى»

قال: «اجعلوها في سجودكم».

«نهاية تفسير سورة الواقعة»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 89

57. سورة الحديد

محتوى السورة: نستطيع أن نقسّم موضوعات هذه السورة إلى سبعة أقسام:

1- الآيات الاولى من هذه السورة لها بحث جامع حول التوحيد وصفات اللَّه تعالى.

2- يتحدث عن عظمة القرآن، هذا النور الإلهي الذي أشرق في ظلمات الشرك.

3- يستعرض وضع المؤمنين والمنافقين في يوم القيامة، وبهذا تعكس السورة في أبحاثها الاصول الإسلامية الثلاثة: التوحيد والنبوّة والمعاد.

4- تتحدث الآيات فيه عن الدعوى إلى الإيمان والخروج من الشرك، وعن مصير الأقوام الضالة من الامم السابقة.

5- جزء مهم من هذه السورة يتحدث حول الإنفاق في سبيل اللَّه، وخصوصاً في تقوية اسس الجهاد في سبيل اللَّه، وأنّ مال الدنيا ليس له وزن وقيمة.

6- في قسم قصير من الآيات- إلّاأنّه وافٍ ومستدلّ- يأتي الحديث عن العدالة الاجتماعية والتي هي إحدى الأهداف الأساسية للأنبياء.

7- وفيه تتحدث الآيات عن سلبية الرهبانية والإنزواء الاجتماعي وأنّ ذلك يمثّل إبتعاداً عن الخط الإسلامي.

إنّ تسمية السورة ب (الحديد) هو لما جاء في الآية (25) من ذكر كلمة الحديد.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 90

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْبَاطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (3) فضيلة تلاوة السورة: وردت في الروايات الإسلامية نقاط جديرة بالملاحظة حول فضيلة تلاوة سورة الحديد، ومما لا شك فيه أنّ المقصود في التلاوة هي تلاوة التدبر والتفكر الذي يكون توأماً مع العمل.

في الدرّ المنثور عن عرباض بن سارية أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقرأ المسبحات قبل أن يرقد وقال: «إنّ فيهنّ آية

أفضل من ألف آية».

وفي الكافي عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «من قرأ المسبحات كلها قبل أن ينام، لم يمت حتى يرى القائم عليه السلام، وإن مات كان في جوار رسول اللَّه صلى الله عليه و آله».

آيات للمتفكّرين: إنّ هذه السورة بدأت بقسم التوحيد، الذي يشتمل على عشرين صفة من صفات اللَّه سبحانه، تلك الصفات التي بمعرفتها يصل الإنسان إلى مستوى عال من المعرفة الإنسانية باللَّه، وتعمّق معرفته بذاته المقدسة، وهذه الأوصاف والتي تشير إلى جانب من صفات جلاله وجماله، كلما تعمق العلماء وأهل الفكر فيها توصّلوا إلى حقائق جديدة عن الذات الإلهية المقدسة.

في الكافي: عندما سئل الإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام عن التوحيد فقال: «إنّ اللَّه عزّ وجل علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون فأنزل اللَّه تعالى: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ»، والآيات من سورة الحديد إلى قوله: «وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ» فمن رام وراء ذلك فقد هلك».

إنّ أوّل آية من هذه السورة بدأت بتسبيح وتنزيه اللَّه عزّ وجل حيث يقول سبحانه:

«سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

وبعد ذكر صفتين من صفات الذات الإلهية يعني (العزة والحكمة) يتطرق إلى (مالكيته وتدبيره، وقدرته في عالم الوجود) والتي هي من مستلزمات القدرة والحكمة، حيث يقول تعالى: «لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 91

إنّ مالكية اللَّه عزّ وجل لعالم الوجود ليست مالكية اعتبارية وتشريعية، إذ أنّها مالكية حقيقية وتكوينية. وهذا يعني أنّ اللَّه سبحانه محيط بكل شي ء، وأنّ جميع العالم في قبضته وقدرته وتحت إرادته وأوامره، لذا فقد جاء الحديث بعد هذا الكلام عن (الإحياء والإفناء) والقدرة على كل شي ء.

الاختلاف بين «العزّة» و «القدرة» هو أنّ العزّة أكثر

دلالة على تحطيم المقابل والقدرة تعني توفير الأسباب وإيجادها. وبناءً على هذا فإنّهما يعدّان وصفين مختلفين بالرغم من أنّهما مشتركان في أصل القدرة (يرجى ملاحظة ذلك).

ثم يتطرق سبحانه إلى ذكر خمس صفات اخرى حيث يقول: «هُوَ الْأَوَّلُ وَالْأَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ».

الوصف هنا ب «الْأَوَّلُ وَالْأَخِرُ» تعبير رائع عن أزليته وأبديته تعالى، لأنّنا نعلم أنّه وجود لا متناهي وأنّه (واجب الوجود) أي أنّ وجوده من نفس ذاته، وليس خارجاً عنه حتى تكون له بداية ونهاية، وبناءً على هذا فإنّه كان من الأزل وسيبقى إلى الأبد.

إنّه بداية عالم الوجود، وهو الذي سيبقى بعد فناء العالم أيضاً. وبناءً على هذا فإنّ التعبير ب «الْأَوَّلُ وَالْأَخِرُ» ليس له زمان خاصّ أبداً، وليس فيه إشارة إلى مدّة زمنية معينة.

والوصف ب «الظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ» هو تعبير آخر عن الإحاطة الوجودية- أي وجود اللَّه- بالنسبة لجميع الموجودات، أي إنّه أظهر من كل شي ء لأنّ آثاره شملت جميع مخلوقاته في كل مكان، وهو خفي أكثر من كل شي ء أيضاً لأنّ كنه ذاته لم يتّضح لأحد.

فإنّ أحد نتائج هذه الصفات المتقدمة هو ما جاء في نهاية الآية الكريمة: «وَهُوَ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ». إذ إنّ من كان في البداية ويبقى في النهاية، وموجود في ظاهر وباطن العالم ...

سيكون عالماً بكل شي ء قطعاً.

هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَ مَا يَعْرُجُ فِيهَا وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَ يُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ

وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 92

على عرش القدرة دائماً: تحدثت الآيات السابقة عن إحدى عشرة صفة للذات الإلهية المقدسة، وتبيّن الآيات أعلاه أوصافاً اخرى حيث اشير في الآية الاولى مورد البحث إلى خمسة أوصاف اخرى من صفات جلاله وجماله. ويبدأ الحديث عن مسألة الخلقة حيث يقول سبحانه: «هُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ».

لقد ذكرت مسألة الخلقة في (ستّة أيام) سبع مرّات في القرآن الكريم، المرّة الاولى في الآية (54) من سورة الأعراف، والأخيرة هي هذه الآية مورد البحث (الحديد/ 4).

فإنّ المقصود من (اليوم) في هذه الآيات ليس المعنى المتعارف (لليوم)، بل المقصود هو (الزمان) سواء كان هذا الزمان قصيراً أو طويلًا حتى لو بلغ ملايين السنين.

ثم تتطرق الآيات إلى مسألة الحكومة وتدبير العالم حيث يقول سبحانه: «ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ».

إنّ زمام حكومة وتدبير العالم كانت دائماً بيده ولا زالت، وبدون شك فإنّ اللَّه تعالى ليس جسماً، ولذا فليس معنى «العرش» هنا هو عرش السلطة، والتعبير كناية لطيفة عن الحاكمية المطلقة للَّه سبحانه ونفوذ تدبيره في عالم الوجود.

ثم يستعرض نوعاً آخر من علمه اللا متناهي بقوله تعالى: «يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا».

وفي رابع وخامس صفة له سبحانه يركّز حول نقطة مهمة حيث يقول: «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».

وكيف لا يكون معنا في الوقت الذي نعتمد عليه، ليس في إيجادنا فحسب، بل في البقاء لحظة بلحظة- أيضاً- ونستمدّ منه العون، إنّه روح عالم الوجود.

الحقيقة أنّ الاحساس بأنّ اللَّه معنا في كل مكان يعطي للإنسان عظمة وجلالًا من جهة، ومن جهة اخرى يخلق فيه إعتماداً على النفس وشجاعة وشهامة،

ومن جهة ثالثة فإنّه يثير إحساساً شديداً بالمسؤولية، لأنّ اللَّه حاضر معنا في كل مكان، وناظر ومراقب لأعمالنا، وهذا أكبر درس تربوي لنا. وهذا الاعتقاد يمثّل دافعاً جدّياً للتقوى والطهارة والعمل الصالح في الإنسان، ويعتبر رمز عظمته وعزّته.

وبعد مسألة الحاكمية والتدبير يأتي الحديث عن مسألة مالكيته سبحانه في كل عالم الوجود، حيث يقول: «لَّهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 93

وأخيراً يشير إلى مسألة مرجعيته فيقول تعالى: «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ».

نعم، عندما يكون الخالق والمالك والمدبر معنا في كل مكان، فمن البديهي أن يكون رجوعنا ورجوع أعمالنا إليه كذلك.

وفي آخر آية مورد للبحث يشير إلى صفتين اخريين بقوله تعالى: «يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ».

بالتدريج ينقص أحد الوقتين (الليل والنهار) ليضيف للآخر، وتبعاً لذلك يتغير طول النهار والليل في السنة، وهذا التغير يكون مصحوباً بالفصول الأربعة في السنة مع كل البركات التي تكون مختصة في هذه الفصول لبني الإنسان.

وتفسير آخر لهذه الآية هو: إنّ شروق وغروب الشمس لن يحدثا فجأة ودون مقدّمات، بل يتمّ هذا التغيير بصورة تدريجية حتى يتهيّأ الجميع لذلك.

ويضيف سبحانه في النهاية: «وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ».

فكما أنّ أشعة الشمس الباعثة للحياة تنفذ في أعماق ظلمات الليل، وتضي ء كل مكان، فإنّ اللَّه عزّ وجل ينفذ كذلك في كل زوايا قلب وروح الإنسان، ويطّلع على كل أسراره.

آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ أَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ أَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَ مَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَ قَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَ إِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ

(9) وَ مَا لَكُمْ أَنْ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قَاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قَاتَلُوا وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) الإيمان والإنفاق أساسان للنجاة: بعد البيان الذي تقدم حول دلائل عظمة اللَّه في عالم الوجود وأوصاف جماله وجلاله، تلك الصفات المحفّزة للحركة باتّجاه اللَّه تعالى، ننتقل الآن إلى جوّ هذه الآيات المفعم بالدعوة للإيمان والعمل ...

مختصر الامثل، ج 5، ص: 94

يقول سبحانه في البداية: «ءَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ».

إنّ هذه الدعوة دعوة عامة لجميع البشر، فهي تدعو المؤمنين إلى إيمان أكمل وأرسخ، وتدعو- أيضاً- غير المؤمنين إلى التصديق والإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه و آله، وهذه الدعوة إلى الإيمان جاءت توأماً مع أدلة التوحيد التي تناولتها الآيات التوحيدية السابقة.

ثم يدعو إلى أحد الالتزامات المهمة للإيمان وهي: (الإنفاق في سبيل اللَّه) حيث يقول تعالى: «وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ».

إنّ للإنفاق مفهوماً واسعاً ولا ينحصر بالمال فقط، بل يشمل- أيضاً- العلم والهداية والسمعة الاجتماعية ورؤوس الأموال المعنوية والمادية.

ثم يقول تعالى في الحثّ على الإنفاق: «فَالَّذِينَ ءامَنُوا مِنكُمْ وَأَنفِقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ».

إنّ وصف الأجر بأنّه «كبير» إشارة إلى عظمة الألطاف الإلهية والهبات الإلهية، وأبديتها وخلوصها ودوامها ليس في الآخرة فحسب، بل في عالم الدنيا أيضاً حيث إنّ قسماً من الأجر سوف يكون من نصيب الإنسان في الدنيا.

وبعد الأمر بالإيمان والإنفاق يعطي بياناً لكل منهما، وهو بمثابة الاستدلال والبرهان، وذلك بصورة استفهام توبيخي ابتداءاً، حيث يستفسر عن علة عدم

قبول دعوة الرسول صلى الله عليه و آله حول الإيمان باللَّه فيقول سبحانه: «وَمَا لَكُمْ لَاتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ».

يعني أنّكم إذا كنتم مستعدّين حقيقة وصدقاً لقبول الحق، فإنّ دلائله واضحة عن طريق الفطرة والعقل، وكذلك عن طريق النقل.

وجاءت الآية اللاحقة لتأكيد وتوضيح نفس هذا المعنى حيث تقول: «هُوَ الَّذِى يُنَزّلُ عَلَى عَبْدِهِ ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ لّيُخْرِجَكُم مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ».

إنّ كلمة (رؤوف) جاءت هنا إشارة إلى محبته ولطفه الخاص بالنسبة إلى المطيعين، في حين أنّ كلمة (رحيم) إشارة إلى رحمته بخصوص العاصين.

ثم يأتي استدلال آخر على ضرورة الإنفاق حيث يقول تعالى: «وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثِ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ». أي أنّكم سترحلون عن هذه الدنيا وتتركون كل ما منحكم اللَّه فيها، وتذهبون إلى عالم آخر، فلماذا لا تستفيدون من هذه الأموال التي جعلها اللَّه تحت تصرفكم بتنفيذ أمره بالإنفاق.

ولأنّ للإنفاق قيماً مختلفة وأحوالًا متفاوتة الشرائط والظروف، يضيف يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَ الْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَ ظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَ لكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَ تَرَبَّصْتُمْ وَ ارْتَبْتُمْ وَ غَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَ غَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَ لَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (15)

مختصر الامثل، ج 5، ص:

95

سبحانه: «لَا يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ». أي أنّ الذين بذلوا المال والنفس في الظروف الحرجة مفضّلون على الذين ساعدوا الإسلام بعد سكون الموج وهدوء العاصفة. لذلك وللتأكيد أكثر يضيف تعالى: «أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا».

وبما أنّ القسمين (الإنفاق والجهاد) مشمولان بعناية الحق تعالى مع اختلاف الدرجة، فيضيف في النهاية: «وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى .

وهذا تقدير لعموم الأشخاص الذين ساهموا في هذا الطريق.

وكلمة (حسنى) لها مفهوم واسع، حيث تشمل كل ثواب وجزاء وخير في الدنيا والآخرة.

ولكون قيمة العمل بإخلاصه للَّه سبحانه فيضيف في نهاية الآية: «وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ».

نعم، إنّه يعلم بكيفية وكميّة أعمالكم. وكذلك نيّاتكم ومقدار خلوصكم، ولغرض الحثّ على ضرورة الإنفاق في سبيل اللَّه، ومن خلال تعبير رائع يؤكّد سبحانه ذلك في الآية مورد البحث بقوله: «مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا». فينفق مما آتاه اللَّه في سبيل اللَّه «فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ».

والمراد من الإقراض للَّه تعالى هو كل إنفاق في سبيله، وأحد مصاديقه المهمة الدعم الذي يقدّم للرسول صلى الله عليه و آله وأئمة المسلمين من بعده، كي يستعمل في الموارد اللازمة لإدارة الحكومة الإسلامية. لذا نقل في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّ اللَّه لم يسأل خلقه مما في أيديهم قرضاً من حاجة به إلى ذلك، وما كان للَّه من حق فإنّما هو لوليّه».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 96

لقد بشّر اللَّه المنفقين في آخر آية من الآيات السابقة بالأجر الكريم، واستمراراً للبحث فالآيات أعلاه تتحدث عن هذا الأجر، وتبيّن مدى قيمته وعظمته في اليوم الآخر. يقول سبحانه: «يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم».

والمقصود من النور- في الواقع- تجسيم نور الإيمان،

لأنّ في ذلك اليوم تتجسّد أعمال البشر، فيتجسّد الإيمان الذي هو نور هدايتهم بصورة نور ظاهري، ويتجسّد الكفر الذي هو الظلام المطلق بصورة ظلمة ظاهرية.

وهنا يصدر هذا النداء الملائكي بإحترام للمؤمنين: «بُشْرَيكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».

أمّا المنافقون الذين سلكوا طريق الظلام والكفر والذنوب والمعصية، فإنّ صراخهم يعلو في مثل تلك الساعة ويلتمسون من المؤمنين شيئاً من النور، لكنّهم يواجهون بالردّ والنفي، كما في قوله تعالى: «يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ ءامَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ».

ويأتي الجواب على طلبهم بقوله تعالى: «قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا».

كان من الممكن أن تحصلوا على النور من الدنيا التي تركتموها وراءكم، وذلك بإيمانكم وأعمالكم الصالحة، إلّاأنّ الوقت انتهى، وفاتت الفرصة عليكم ولا أمل هنا في حصولكم على النور.

«فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ». وهذا الباب أو هذا الجدار من نوع خاص وأمره فريد، حيث إنّ كلًا من طرفيه مختلف عن الآخر تماماً، حيث: «بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ».

ويمكن أن يكون هذا الباب من أجل أن يرى المنافقون من خلاله نعم الجنة ويتحسّرون عليها، أو أنّ من كان قليل التلوّث بالذنوب وقد نال جزاءه من العذاب بإمكانه أن يدخل منها ويكون مع المؤمنين في نعيمهم.

غير أنّ هذا الحائط ليس من النوع الذي يمنع عبور الصوت حيث يضيف سبحانه: أنّ المنافقين «يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ». لقد كنّا نعيش معكم في هذه الدنيا فما الذي حدث وإنفصلتم عنّا وذهبتم إلى الروح والرحمة الإلهية وتركتمونا في قبضة العذاب؟

«قَالُوا بَلَى . كنّا معكم في أماكن كثيرة في الأزقّة والأسواق، في السفر والحضر، وكنّا

مختصر الامثل، ج 5، ص: 97

أحياناً جيراناً أو في بيت واحد ... نعم كنّا معاً،

إلّاأنّ اختلافاتنا في العقيدة والعمل كانت هي الفواصل بيننا، لقد كنتم تسيرون في خطّ منفصل عن خطّنا وكنتم غرباء عن اللَّه في الاصول والفروع، لذا فأنتم بعيدون عنّا، ثم يضيفون: لقد إبتليتم بخطايا وذنوب كثيرة من جملتها:

1- «وَلكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ» وخدعتموها بسلوك طريق الكفر والضلال.

2- «وَتَرَبَّصْتُمْ» وانتظرتم موت النبي وهلاك المسلمين وإنهدام أساس الإسلام، بالإضافة إلى التهرّب من إنجاز كل عمل إيجابي وكل حركة صحيحة، حيث تتعلّلون وتماطلون وتسوّفون إنجازها.

3- «وَارْتَبْتُمْ» في المعاد وحقّانية دعوة النبي والقرآن ..

4- وخدعتكم الآمال «وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِىُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ».

هذه الأماني لم تعطكم مجالًا- حتى لحظة واحدة- للتفكر الصحيح، لقد كنتم مغمورين في تصوراتكم وتعيشون في عالم الوهم والخيال، واستولت عليكم امنية الوصول إلى الشهوات والأهداف المادية.

5- «وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ». إنّ الشيطان غرّكم بوساوسه في مقابل وعد اللَّه عزّ وجل، فتارةً صوّر لكم الدنيا خالدة باقية واخرى صوّر لكم القيامة بعيدة الوقوع، وفي بعض الأحيان غرّكم بلطف اللَّه والرحمة الإلهية، وأحياناً جعلكم تشكّون في أصل وجود اللَّه العظيم الخالق.

وأخيراً فإنّ المؤمنين- بلحاظ ما تقدّم- يخاطبون المنافقين بقولهم: «فَالْيَوْمَ لَايُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا». وبهذا الترتيب يواجه المنافقون نفس مصير الكفار أيضاً، وكلّهم رهينة ذنوبهم وأعمالهم القبيحة، ولا يوجد لهم أي طريق للخلاص.

ثم يضيف سبحانه: «مَأْوَيكُمُ النَّارُ هِىَ مَوْلكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ».

الإنسان- عادةً- لكي ينجو من العقوبة المتوقعة في الدنيا، يتوسل للخلاص منها إمّا بالغرامة المالية أو طلب العون والمساعدة من قوّة شفيعة، إلّاأنّه في يوم القيامة تنقطع كل الأسباب والوسائل المادية المتعارف عليها في هذا العالم للوصول إلى المقاصد المرجوة.

وبهذه الصورة يوضّح القرآن الكريم أنّ الوسيلة الوحيدة للنجاة في ذلك اليوم هي الإيمان والعمل الصالح في الدنيا، حتى

أنّ دائرة الشفاعة محدودة للأشخاص الذين خلطوا عملًا صالحاً وآخر سيّئاً وليسوا من الغرباء مطلقاً عن الإيمان والذين قطعوا إرتباطهم بصورة كلية من اللَّه وأوليائه وعصوا أوامره.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 98

أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَ مَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَ لَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَ الْمُصَّدِّقَاتِ وَ أَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَ لَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)

سبب النزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: إنّ الآية الاولى نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة، وذلك أنّهم سألوا سلمان الفارسي ذات يوم فقالوا: حدثنا عما في التوراة، فإنّ فيها العجائب. فنزلت «الر تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ» إلى قوله «لَمِنَ الْغَافِلِينَ» «1» فخبّرهم أنّ القرآن أحسن القصص وأنفع لهم من غيره، فكفوا عن سؤال سلمان ما شاء اللَّه. ثم عادوا فسألوا سلمان عن مثل ذلك، فنزلت آية «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا» «2» فكفوا عن سؤال سلمان ما شاء اللَّه. ثم عادوا فسألوا سلمان، فنزلت هذه الآية.

التّفسير

إلى متى هذه الغفلة: بعد ما وجّهت الآيات السابقة مجموعة من الإنذارات الصارمة والتنبّهات الموقظة، وبيّنت المصير المؤلم للكفّار والمنافقين في يوم القيامة، جاءت الآية الاولى مورد البحث بشكل استخلاص نتيجة كلية من ذلك، فتقول: «أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ» «3».

«تخشع»: من مادة «خشوع» بمعنى حالة التواضع مقترنة بالأدب الجسمي والروحي، حيث تنتاب الإنسان

هذه الحالة- عادةً- مقابل حقيقة مهمّة أو شخصية كبيرة.

______________________________

(1) سورة يوسف/ 1- 3.

(2) سورة الزمر/ 23.

(3) «يأن»: من مادة إنا، على وزن (ندا) ومن مادة (أناء) على وزن جفاء بمعنى الإقتراب وحضور وقت الشي ء.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 99

ومن الواضح أنّ ذكر اللَّه عزّ وجل إذا دخل أعماق روح الإنسان، وسمع الآيات القرآنية بتدبّر فإنّها تكون سبباً للخشوع، والقرآن الكريم هنا يلوم بشدة قسماً من المؤمنين لعدم خشوعهم أمام هذه الامور، لأنّه قد إبتلي كثير من الامم السابقة بمثل هذا من الغفلة والجهل.

وهذه الغفلة تؤدّي إلى قساوة القلب وبالتالي إلى الفسق والعصيان.

إنّ آية: «أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ...» من الآيات المثيرة في القرآن الكريم، حيث تليّن القلب، وترطّب الروح وتمزّق حجب الغفلة. لذلك نلاحظ بصورة مستمرة أنّ أفراداً مذنبين جدّاً قد هداهم اللَّه إلى طاعته بعد سماعهم هذه الآية التي وقعت في نفوسهم كالصاعقة، وأيقظتهم من سباتهم وغفلتهم التي كانوا فيها، ولهذا شواهد عديدة حيث تنقل لنا كتب التاريخ العديد منها، حتى أنّ البعض منهم أصبح في صفّ الزهّاد والعبّاد. مختصر الامثل ج 5 119

ولأنّ إحياء القلوب الميتة لا يكون إلّابالذكر الإلهي، الحياة الروحية التي لن تكون إلّا بظل الخشوع والخضوع وخاصة في أجواء القرآن الكريم ... لذا فإنّ القرآن يشبّه عملية إحياء القلوب الميتة بإحياء الأراضي الميتة، فكما أنّ هذه تحيا ببركة نزول الأمطار كذلك فإنّ القلوب تحيا بذكر اللَّه سبحانه ... حيث يضيف سبحانه في الآية اللاحقة: «اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْىِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْأَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ».

هذه الآية تشير إلى إحياء الأراضي بوسيلة المطر، كذلك فإنّ إحياء القلوب الميتة يكون بواسطة ذكر اللَّه وقراءة القرآن المجيد

الذي نزل من سماء الوحي على القلب الطاهر للنّبي محمّد صلى الله عليه و آله وكلاهما جديران بالتدبر والتعقل.

ويرجع مرّة اخرى في الآية اللاحقة إلى مسألة الإنفاق، والتي هي إحدى ثمار شجرة الإيمان والخشوع، حيث يتكرر نفس التعبير الذي قرأناه في الآيات السابقة مع إضافة، حيث يقول تعالى: «إِنَّ الْمُصَّدّقِينَ وَالْمُصَّدّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ».

إنّ المقصود من القرض الحسن للَّه في هذه الآيات والآيات المشابهة هو الإنفاق في سبيل اللَّه، بالرغم من أنّ القرض لعباد اللَّه هو من أفضل الأعمال أيضاً.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 100

وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَ الشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَ الْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوَانٌ وَ مَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) استمراراً للبحث الذي تناولته الآيات السابقة في بيان حال المؤمنين وأجرهم عند اللَّه تعالى، تضيف الآيات التالية بهذا الصدد قوله تعالى: «وَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبّهِمْ».

«الصدّيق»: صيغة مبالغة من «الصدق» بمعنى الشخص الذي يستوعب الصدق جميع وجوده، حيث يصدّق عمله قوله، وهو النموذج التام للصدق.

«شهداء»: جمع «شهيد» بمعنى الحضور مع المشاهدة. إلّاأنّ المراد من (الشهداء) في الآية مورد البحث قد يكون الشهادة على الأعمال، كما يستفاد من الآيات القرآنية الاخرى، فالأنبياء شهداء على أعمال اممهم، ورسول الإسلام شاهد عليهم وعلى الامة الإسلامية، والمسلمون أيضاً شهداء على

أعمال الناس.

واحتمل البعض أنّ (شهداء) هنا هو الشهداء في سبيل اللَّه، أي الأشخاص المؤمنون الذين لهم أجر وثواب الشهادة، يحسبون بمنزلة الشهداء.

ثم يضيف تعالى: «لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ».

إنّ هذا التعبير المختصر يشير إلى عظيم الأجر والنور الذي ينتظرهم.

وفي النهاية يضيف تعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بَايَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ».

وذلك كي تتوضّح بهذه المقارنة والنتيجة التي آلت إليها المجموعتان، والتي تتدرّج بين القمّة والقاع، حيث إنّ القسم الأوّل في المقام العالي من دار الخلد، والقسم الثاني في الدرك الأسفل من النار يندبون سوء حظّهم وإنحطاط مصيرهم.

وبما أنّ المجموعة الاولى كانت في أعلى مستويات الإيمان، ففي المقابل أيضاً ذكرت الآية

مختصر الامثل، ج 5، ص: 101

أيضاً الكفر بأسوأ صوره في الجماعة الثانية المقارن للتكذيب بآيات اللَّه.

ولأنّ حبّ الدنيا مصدر كل رذيلة، ورأس كل خطيئة، فالآية اللاحقة ترسم بوضوح وضع الحياة الدنيا والمراحل المختلفة والمحفّزات والظروف والأجواء التي تحكم كل مرحلة من هذه المراحل، حيث يقول سبحانه: «اعْلَمُوا إِنَّمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلدِ».

وبهذه الصورة فإنّ «الغفلة» و «اللهو» و «الزينة» و «التفاخر» و «التكاثر» تشكّل المراحل الخمس لعمر الإنسان.

ويذكر سبحانه مثالًا لبداية ونهاية الحياة ويجسّد الدنيا أمام أعين الناس بهذه الصورة حيث يقول سبحانه: «كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَيهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا» «1».

«كفّار» هنا ليس بمعنى الأشخاص غير المؤمنين، ولكن بمعنى «الزرّاع» لأنّ أصل الكفر هو التغطية، وبما أنّ الزارع عندما ينثر البذور يغطّيها بالتراب، فقد قيل له كافر.

«حطام»: من مادة «حطم» بمعنى التكسير والتفتيت، ويطلق على الأجزاء المتناثرة للتبن (حطام) وهي التي تأخذها الرياح باتّجاهات مختلفة.

إنّ المراحل التي يمرّ بها الإنسان مدّة سبعين سنة أو أكثر تظهر في النبات بعدّة

أشهر، ويستطيع الإنسان أن يسكن بجوار المزرعة ويراقب بداية ونهاية العمر في وقت قصير.

ثم يتطرّق القرآن الكريم إلى حصيلة العمر ونتيجته النهائية حيث يقول سبحانه: «وَفِى الْأَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ».

وأخيراً تنهي الآية حديثها بهذه الجملة: «وَمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ».

«غرور»: في الأصل من مادة «غَرّ» بمعنى الأثر الظاهر للشي ء، ويقال (غُرّة) للأثر الظاهر في جبهة الحصان، ثم اطلقت الكلمة على حالة الغفلة، حيث إنّ ظاهر الإنسان واعٍ، ولكنّه غافل في الحقيقة، وتستعمل أيضاً بمعنى الخدعة والحيلة.

«المتاع»: بمعنى كل نوع ووسيلة يستفاد منها، وبناءً على هذا فإنّ جملة (الدنيا متاع الغرور) كما جاءت في قوله تعالى: «وَمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ». تعني أنّها وسيلة

______________________________

(1) «يهيج»: من مادة «هيجان» جاءت هنا بمعنيين الأوّل: جفاف النبات، والآخر: التحرّك والحيوية، وقد يرجع هذان المعنيان إلى أصل واحد، لأنّ النبات عند جفافه يكون مهيّأ للإندثار والإنتشار بحركة الرياح.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 102

وأداة للحيلة والخدعة للفرد وللآخرين. وطبيعي أنّ هذا المعنى وارد في الأشخاص الذين يعتبرون الدنيا هدفهم النهائي، وتكون منتهى غاياتهم، ولكن إذا كانت الهبات المادية في هذا العالم وسيلة للوصول بالإنسان للسعادة الأبدية، فذلك لا يعدّ من الدنيا، بل ستكون جسراً وقنطرة ومزرعة للآخرة التي ستتحقّق فيها تلك الأهداف الكبيرة حقّاً.

سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَ لَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَ

اللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) المسابقة المعنوية الكبرى: بعد ما بيّنت الآيات السابقة قيمة هذه الدنيا المتواضعة الفانية، وكيف أنّ الناس فيها منهمكون في اللذات والتكاثر والتفاخر وجمع الأموال ... تأتي الآيات مورد البحث لتدعو الناس إلى العمل للحصول على موقع في الدار الآخرة، ذلك الموقع المتّسم بالثبات والبقاء والخلود، وتدعوهم إلى السباق في هذا المجال وبذل الجهد فيه، حيث يقول سبحانه: «سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ».

وفي الحقيقة أنّ مغفرة اللَّه هي مفتاح الجنة، تلك الجنة التي عرضها السماوات والأرض وقد اعدّت من الآن لضيافة المؤمنين، حتى لا يقول أحد إنّ الجنة نسيئة ودَين ولا أمل في النسيئة.

وممّا ينبغي ملاحظته أنّ المسارعة لمغفرة اللَّه لابدّ أن تكون عن طريق أسبابها كالتوبة والتعويض عن الطاعات الفائتة، وأساساً فإنّ طاعة اللَّه عزّ وجل يعني تجنّب المعاصي.

ويضيف تعالى في نهاية الآية: «ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 103

ومن المؤكّد أنّ جنّة بذلك الإتّساع وبهذه النعم، ليس من السهل للإنسان أن يصل إليها بأعماله المحدودة، لذا فإنّ الفضل واللطف والرحمة الإلهية- فقط- هي التي تستطيع أن تمنحه ذلك الجزاء العظيم في مقابل اليسير من أعماله، إذ إنّ الجزاء الإلهي لا يكون دائماً بمقياس العمل، بل إنّه بمقياس الكرم الإلهي.

ولمزيد من التأكيد على عدم التعلق بالدنيا، وعدم الفرح والغرور عند إقبالها، أو الحزن عند إدبارها، يضيف سبحانه: «مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِى كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذلِكَ عَلَى

اللَّهِ يَسِيرٌ».

إنّ المصائب التي تحدث في الطبيعة كالزلازل والسيول والفيضانات والآفات المختلفة، وكذلك المصائب التي تقع على البشر كالموت وأنواع الحوادث المؤلمة التي تشمل الإنسان، فإنّها مقدّرة من قبل ومسجّلة في لوح محفوظ.

والجدير بالإنتباه أنّ المصائب المشار إليها في الآية هي المصائب التي لا يمكن التخلّص منها، وتكون مقدّرة وحتمية وغير قابلة للإجتناب، وليست ناتجة عن أعمال الإنسان. وإلّا فإنّ المصائب والمصاعب التي تكون بسبب ذنوب الإنسان وتسامحه في الطاعات والالتزامات الإلهية، فإنّ لمواجهتها لابدّ من وضع برنامج صحيح في حياة الإنسان.

والمقصود من «اللوح المحفوظ» هو: العلم اللا متناهي للَّه سبحانه، أو صحيفة عالم الخلقة ونظام العلّة والمعلول، والتي هي مصداق العلم الفعلي للَّه سبحانه.

ولنلاحظ الآن ما هي فلسفة تقدير المصائب في اللوح المحفوظ، ومن ثم بيان هذه الحقيقة في القرآن الكريم؟

الآية اللاحقة تزيح هذا الحجاب عن هذا السرّ المهم حيث يقول تعالى: «لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا ءَاتَاكُمْ».

هاتان الجملتان تحلّان- في الحقيقة- إحدى المسائل المعقّدة لفلسفة الخلقة، لأنّ الإنسان يواجه دائماً مشاكل وصعوبات وحوادث مؤسفة في عالم الوجود، ويسأل دائماً نفسه هذا السؤال وهو: رغم أنّ اللَّه رحمن رحيم وكريم ..، فلماذا هذه الحوادث المؤلمة؟!

ويجيب سبحانه أنّ هدف ذلك هو: ألا تأسركم مغريات هذه الدنيا وتنشدّوا إليها وتغفلوا عن أمر الآخرة ... كما ورد في الآية أعلاه.

هذه المصائب هي إنذار للغافلين وسوط على الأرواح التي تعيش الغفلة والسبات، ودلالة على قصر عمر الدنيا وعدم خلودها وبقائها.

إنّ هذه المصائب تكسر حدّة الغرور والتفاخر وحيث يقول سبحانه في نهاية الآية:

مختصر الامثل، ج 5، ص: 104

«وَاللَّهُ لَايُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ». «مختال»: من مادة «خيال» بمعنى متكبر، لأنّ التكبر من التخيّل، أي من تخيّل الإنسان الفضل لنفسه، وتصوره

أنّه أعلى من الآخرين؛ و «فخور»: صيغة مبالغة من مادة «فخر» بمعنى الشخص الذي يفتخر كثيراً على الآخرين.

والشخص الوحيد الذي يبتلى بهذه الحالات هو المغرور الذي أسكرته النعم، وهذه المصائب والآفات بإمكانها أن توقظه عن هذا السكر والغفلة وتهديه إلى سير التكامل.

ومن ملاحظة ما تقدم أعلاه فإنّ المؤمنين عندما يرزقون النعم من قبل اللَّه سبحانه فإنّهم يعتبرون أنفسهم مؤتمنين عليها، ولا يأسفون على فقدانها وفواتها، ولا يغفلون ويسكرون بوجودها.

وفي آخر آية مورد البحث نلاحظ توضيحاً وتفسيراً لما جاء في الآيات السابقة، والذي يوضّح حقيقة الإنسان المختال الفخور حيث يقول عنه تعالى: «الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ».

نعم، إنّ الإنشداد العميق لزخارف الدنيا ينتج التكبر والغرور، ولازم التكبر والغرور هو البخل ودعوة الآخرين للبخل، أمّا البخل فلأنّ التكبر والغرور كثيراً ما يكون بسبب ثراء الإنسان الذي يدفعه إلى أن يحرص عليه، وبالتالي يبخل في إنفاقه، ومن هنا فإنّ لازمة الغرور والتكبر هو البخل.

أمّا دعوة الآخرين إلى البخل، فلأنّ سخاء الآخرين سيفضح غيرهم من البخلاء، هذا أوّلًا، والثاني أنّ البخيل يحبّ البخل، لذا فإنّه يدعو للشي ء الذي يرغب فيه.

ولكي لا يتصور أنّ تأكيد اللَّه سبحانه على الإنفاق وترك البخل، أو كما عبّرت عنه الآيات السابقة ب (القرض للَّه) مصدره إحتياج ذاته المقدسة، فإنّه يقول في نهاية الآية:

«وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ».

بل نحن كلّنا محتاجون إليه وهو الغني عنّا جميعاً، لأنّ جميع خزائن الوجود عنده وتحت قبضته، ولأنّه جامع لصفات الكمال فإنّه يستحق كل شكر وثناء.

لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَ أَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَ الْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ

قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 105

الهدف الأساس من بعثة الأنبياء: ابتدأ اللَّه سبحانه وتعالى عباده بالنعم فكانت رحمته ولطفه ومغفرته، ونعمه الكثيرة التي لا تحصى والتي اشير إليها في الآيات السابقة ... ولأنّ هذه النعم تحتاج إلى تقنين في استعمالها، ونظم وشرائط لنيل نتائجها المرجوّة، لذا فإنّه يحتاج إلى قيادة تقوم بمباشرتها والإشراف عليها وإعطاء التوجيهات الإلهية بشأنها، وهؤلاء القادة يجب أن يكونوا (قادة إلهيين) والآية مورد البحث- التي تعتبر من أكثر الآيات القرآنية محتوى- تشير إلى هذا المعنى، وتبيّن هدف إرسال الأنبياء ومناهجهم بصورة دقيقة، حيث يقول سبحانه: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ».

وبهذه الصورة فإنّ الأنبياء كانوا مسلّحين بثلاث وسائل وهي: «الدلائل الواضحة»، و «الكتب السماوية»، و «معيار قياس الحق من الباطل» والجيّد من الردي ء. ولا يوجد مانع من أن يكون القرآن (بيّنة) أي معجزة، وهو كذلك كتاب سماوي ومبيّن للأحكام والقوانين، أي أنّ الأبعاد الثلاثة تصبّ في محتوى واحد وهي موجودة في القرآن الكريم.

وعلى كل حال، فإنّ الهدف من تعبئة هؤلاء الرجال العظام بهذه الأسلحة الأساسية، هو إقامة القسط والعدل.

وأنّ هذه الآية تشير إلى أحد الأهداف العديدة لارسال الرسل.

ثم إنّ أي مجتمع إنساني مهما كان مستواه الأخلاقي والاجتماعي والعقائدي والروحي عالياً، فإنّ ذلك لا يمنع من وجود أشخاص يسلكون طريق العتو والطغيان، ويقفون في طريق القسط والعدل، واستمراراً لمنهج الآية هذه يقول سبحانه: «وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ».

إنّ هذه الأسلحة الثلاثة التي وضعت تحت تصرّف الأنبياء هي بهدف أن تكون الأفكار والمفاهيم التي جاء بها الأنبياء فاعلة ومؤثّرة، وتحقّق أهدافها المنشودة، فقد وضع الحديد والبأس الشديد في خدمة رسل اللَّه.

إنّ تعبير (أنزلنا) إشارة إلى

الهبات التي تعطى من المقام الأعلى إلى المستوى الأدنى، وهنا حديث لأمير المؤمنين عليه السلام في تفسيره لهذا القسم من الآية حيث قال: «فإنزاله ذلك: خلقه إيّاه» «1».

______________________________

(1) الاحتجاج، الشيخ الطبرسي 1/ 372.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 106

ثم يشير سبحانه إلى هدف آخر من أهداف ارسال الأنبياء وإنزال الكتب السماوية، وخلقه وتسخيره الوسائل المفيدة للإنسان كالحديد مثلًا، حيث يقول تعالى: «وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ».

المقصود من (علم اللَّه) هنا هو التحقق العيني ليتوضّح من هم الأشخاص الذين يقومون بنصرة اللَّه ومبدئه، ويقومون بالقسط، ومن هم الأشخاص الذين يتخلّفون عن القيام بهذه المسؤولية العظيمة.

ومفهوم هذه الآية يشبه ما ورد في الآية (179) من سورة آل عمران: «مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيّبِ».

وبهذه الصورة نلاحظ أنّ المسألة هنا مسألة إختبار وتمحيص واستخراج الصفوة التي استجابت لمسؤوليتها والقيام بواجبها الإلهي، وهذا هو هدف آخر من الأهداف الأساسية في هذا البرنامج.

ومن الطبيعي أنّ المقصود ب (نصرة اللَّه) أنّها نصرة الدين والمبدأ والحاملين وحي الرسالة، وإقامة الحق والقسط ... وإلّا فإنّ اللَّه ليس بحاجة إلى نصرة أحد، بل الكل محتاج إليه.

ولتأكيد هذا المعنى تنتهي الآية بقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ».

حيث بإمكانه سبحانه أن يغيّر ما يشاء من العالم، بل يقلبه رأساً على عقب بإشارة واحدة، ويهلك أعداءه، وينصر أولياءه ... وبما أنّ الهدف الأساس له سبحانه هو التربية وتكامل البشر، لذا فقد دعاهم عزّ وجل إلى نصرة مبدأ الحق.

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَ إِبْرَاهِيمَ وَ جَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَ الْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَ قَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَ آتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ

وَ جَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَ رَحْمَةً وَ رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) تعاقب الرسل واحداً بعد الآخر: للقرآن الكريم منهجه المتميز، ومن خصوصياته أنّه

مختصر الامثل، ج 5، ص: 107

بعد بيان سلسلة من الاصول العامة يشير ويذكّر بمصير الأقوام السابقة، لكي يكون ذلك شاهداً وحجّة.

وهنا أيضاً يتجسّد هذا المنهج، حيث يشير في المقدمة إلى ارسال الرسل مع البينات والكتاب والميزان والدعوة إلى الإيمان بالحق، لنيل مرضاته سبحانه والفوز بالسعادة الأبدية ... ثم يتحدث عن بعض الامم السابقة وأنبيائهم ويعكس هذه الاسس في منهج دعوتهم.

ويبدأ بشيوخ الأنبياء وبداية سلسلة رسل الحق، نوح وإبراهيم عليهما السلام، حيث يقول سبحانه: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرهِيمَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ».

ومما يؤسف له أنّ الكثيرين لم يستفيدوا من هذا الميراث العظيم، والنعم الإلهية الفيّاضة، والهبات والألطاف العميمة، حيث يقول عزّ وجل: «فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ».

نعم، لقد بدأت النبوّة بنوح عليه السلام توأماً مع الشريعة والمبدأ، ومن ثم إبراهيم عليه السلام من الأنبياء اولي العزم في إمتداد خطّ الرسالة.

ثم يشير إلى قسم آخر من سلسلة الأنبياء الكرام التي تختتم بعيسى عليه السلام آخر رسول قبل نبيّنا محمّد صلى الله عليه و آله حيث يقول سبحانه: «ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ءَاثَارِهِم بِرُسُلِنَا».

حيث حملوا نور الهداية للناس ليضيئوا لهم الطريق، وتعاقبوا في حملها الواحد بعد الآخر، حتى وصل الدور إلى السيّد المسيح: «وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ».

ثم يشير هنا إلى الكتاب السماوي للسيّد المسيح عليه السلام حيث يقول: «وَءَاتَيْنهُ الْإِنجِيلَ».

ويستمرّ متحدّثاً عن خصوصيات أتباعه فيقول سبحانه: «وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً».

وفي تفاوت

مصطلحي «الرأفة» و «الرحمة» قالوا: إنّ «الرأفة» تعني الرغبة في دفع الضرر، و «الرحمة» تعني الرغبة في جلب المنفعة. ولهذا تذكر الرأفة قبل الرحمة غالباً، لأنّ قصد الإنسان ابتداءً هو دفع الضرر ومن ثم يفكّر في جلب المنفعة.

ثم يضيف سبحانه: «وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَاتَيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ» «1».

______________________________

(1) إنّ الرهبانية أخذت من «الرهبة» التي جاءت بمعنى الخوف من اللَّه.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 108

إنّ المستفاد من الآية أعلاه إجمالًا هو أنّ الرهبانية لم تكن في شريعة السيّد المسيح عليه السلام، وأنّ أصحابه ابتدعوها من بعده، وكان ينظر إليها في البداية على أنّها نوع من أنواع الزهد والإبداعات الخيّرة لكثير من السنن الحسنة التي تشيع بين الناس. ولا تتّخذ عنوان التشريع أو الدستور الشرعي، إلّاأنّ هذه السنّة تعرّضت إلى الانحراف- فيما بعد- وتحريف التعاليم الإلهية، بل إقترنت بممارسات قبيحة على مرّ الزمن.

ومن جملة الممارسات القبيحة للمسيحيين في مجال الرهبانية تحريم الزواج للنساء والرجال بالنسبة لمن يتفرّغ (للرهبنة) والإنزواء الاجتماعي، وإهمال كافّة المسؤوليات الإنسانية في المجتمع، والركون إلى الصوامع والأديرة البعيدة، والعيش في محيط منزوٍ عن المجتمع ... بالإضافة إلى جملة من المفاسد التي حصلت في الأديرة ومراكز الرهبان.

وفي أمالي الصدوق رحمه الله عن أنس بن مالك، قال: توفي ابن لعثمان بن مظعون، فاشتد حزنه عليه حتى اتخذ من داره مسجداً يتعبد فيه، فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال له: «يا عثمان، إنّ اللَّه تبارك وتعالى لم يكتب علينا الرهبانية، إنّما رهبانية امّتي الجهاد في سبيل اللَّه».

إنّ الإسلام ندّد للرهبانية بشدّة، حتى أنّ الكثير من المصادر الإسلامية أوردت الحديث المعروف:

«لا رهبانية في الإسلام».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْ ءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَ أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قال سعيد بن جبير: بعث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله جعفراً في سبعين راكباً إلى النجاشي، يدعوه. فقدم عليه ودعاه، فاستجاب له وآمن به. فلمّا كان عند إنصرافه، قال ناس ممّن آمن به من أهل مملكته، وهم أربعون رجلًا: ائذن لنا فنأتي هذا النبي فنسلم به.

فقدموا مع جعفر. فلمّا رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة، استأذنوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وقالوا: يا

مختصر الامثل، ج 5، ص: 109

نبي اللَّه! إنّ لنا أموالًا ونحن نرى ما بالمسلمين من الخصاصة، فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها. فأذن لهم فانصرفوا. فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين.

فأنزل اللَّه تعالى فيهم: «الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ» إلى قوله «وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ» «1» فكانت النفقة التي واسوا بها المسلمين. فلمّا سمع أهل الكتاب ممّن لم يؤمن به قوله: «أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا» فخروا على المسلمين، فقالوا: يا معشر المسلمين! أمّا من آمن بكتابكم وكتابنا فله أجران، ومن آمن منا بكتابنا، فله أجر كاجوركم، فما فضلكم علينا؟ فنزل قوله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَءَامِنُوا بِرَسُولِهِ» الآية، فجعل لهم أجرين، وزادهم النور والمغفرة.

التّفسير

الذين لهم سهمان من الرحمة الإلهية: بما أنّ الحديث في الآيات السابقة كان عن أهل الكتاب والمسيحيين، فإنّ الآيات مورد

البحث مكمّلة لما جاء في الآيات السابقة. يقول سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَءَامِنُوا بِرَسُولِهِ».

إنّ المخاطب في هذه الآية هم جميع المؤمنين الذين قبلوا- بالظاهر- دعوة الرسول صلى الله عليه و آله ولكنّهم لم يؤمنوا بها الإيمان الراسخ الذي يضي ء أعماق النفوس ويتجسّد في أعمالهم وممارساتهم.

وتكملة للآية الكريمة يشير القرآن الكريم إلى ثلاث نعم عظيمة تحصل في ظلّ الإيمان العميق والتقوى، حيث يقول تعالى: «يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

«كفل»: على وزن (طفل) بمعنى الحصّة التي توفّر للإنسان حاجته، ويقال للضامن «كفيل» أيضاً بهذا اللحاظ، حيث يكفل الطرف المقابل ويضمنه بنفسه.

والمقصود من هاتين الحصّتين أو النصيبين هو ما جاء في قوله تعالى: «رَبَّنَا ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الْأَخِرَةِ حَسَنَةً».

وحول القسم الثاني من الجزاء والأجر يقول تعالى: «وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ».

إنّ للآية مفهوماً مطلقاً واسعاً حسب الظاهر ولا يختص بالدنيا فقط ولا بالآخرة فحسب. وبتعبير آخر: فإنّ الإيمان والتقوى هي التي تسبّب زوال الحجب عن قلوب

______________________________

(1) سورة القصص/ 52- 54.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 110

المؤمنين، حيث يتبيّن لهم وجه الحقيقة واضحاً وبدون حجاب، وفي ظلّ الإيمان والتقوى هذين سيكون للإنسان وعي وبصيرة حرم غير المؤمنين منها، لأنّ أكبر حاجز عن المعرفة وأهمّ مانع لها هو الحجاب الذي يغطّي قلب الإنسان، والذي هو هوى النفس والنزعات الذاتية والأماني الفارغة، والآمال البعيدة، والوقوع في أسر المادة ومغريات الدنيا، حيث لا تسمح للإنسان أن يرى الحقائق بصورتها الطبيعية، وبالتالي فإنّ الحكم على الأشياء يكون بعيداً في منطق العقل والصواب.

إلّا أنّ إستقرار الإيمان والتقوى في القلوب يبدّد هذه الحجب ويزيل عتمتها وظلامها عن صفحة القلب.

وفي الآية اللاحقة- والتي

هي آخر آيات هذه السورة- بيان ودليل لما جاء في الآية الآنفة الذكر حيث يقول تعالى: «لِّئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَىْ ءٍ مّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ».

إنّه جواب لهؤلاء الكتابيين الذين زعم قسم منهم: أنّ لهم أجراً واحداً كبقية المسلمين حينما رفضوا الإيمان بالرسول صلى الله عليه و آله وأمّا الذين آمنوا بالرسول منهم فلهم أجران: أجر الإيمان بالرسل السابقين، وأجر الإيمان بمحمّد صلى الله عليه و آله، حيث يجيبهم القرآن ويردّ عليهم بأنّ المقصود بالآية هم المسلمون.

فهؤلاء هم الذين لهم أجران، لأنّهم آمنوا جميعاً برسول اللَّه بالإضافة إلى إيمانهم بكل الأنبياء السابقين، أمّا أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا برسول اللَّه فليس لهم أي نصيب أو سهم من الأجر، ذلك ليعلموا أنّ الرحمة الإلهية ليست في اختيارهم حتى يهبوا ما يشاؤون منها وفق مشتهياتهم، ويمنعوها عن الآخرين.

«نهاية تفسير سورة الحديد»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 111

58. سورة المجادلة

محتوى السورة: نزلت هذه السورة في المدينة، وانسجاماً مع موضوعات السورة المدنية فإنّها تتحدث في الغالب عن الأحكام الفقهية، ونظام الحياة الاجتماعية، والعلاقات بين المسلمين وغيرهم ... ونستطيع أن نلخّص أهمّ أبحاثها في ثلاثة أقسام:

1- يتحدث عن حكم (الظهار) الذي كان يعتبر نوعاً من الطلاق والانفصال الدائم، حيث قوّمه الإسلام وجعله في الطريق الصحيح.

الثاني: يتحدث عن مجموعة من التعليمات الخاصة بآداب المجالسة، والتي منها:

«التفسّح» في المجالس ومنع النجوى.

يتعرض إلى بحث وافٍ ومفصل عن المنافقين، تلك الفئة التي تتظاهر بالإسلام، إلّاأنّها تتعاون مع أعدائه، ويحذّر المسلمين المؤمنين من الدخول في حزب الشيطان والنفاق، ويدعوهم إلى الحب في اللَّه والبغض في اللَّه والإلتحاق بحزب اللَّه.

وقد اشتق اسم هذه السورة (المجادلة) من الآية

الاولى فيها.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن ابي بن كعب قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «ومن قرأ سورة المجادلة كتب من حزب اللَّه في يوم القيامة».

في ثواب الأعمال عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ سورة الحديد والمجادلة في صلاة

مختصر الامثل، ج 5، ص: 112

فريضة أدمنهما لم يعذّبه اللَّه حين يموت أبداً، ولا يرى في نفسه ولا في أهله سوءاً أبداً، ولا خصاصة في بدنه».

وحيث إنّ موضوعات هذه السورة تتناسب مع الجزاء المرتقب من اللَّه تعالى، لذلك فإنّ الروايات أعلاه توضّح لنا الهدف من التلاوة من أجل العمل بمحتوياتها.

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَ تَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَ زُوراً وَ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ لِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)

سبب النّزول

في تفسير علي بن إبراهيم: حدّثنا علي بن الحسين قال: حدّثنا محمّد بن أبي عبد اللَّه عن الحسن بن محبوب عن أبي ولّاد عن حمران عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إنّ امرأة من المسلمات أتت النبي صلى الله عليه و آله فقالت: يا رسول اللَّه! إنّ فلاناً زوجي وقد نثرت له بطني وأعنته على دنياه وآخرته، لم ير

منّي مكروهاً أشكوه إليك. فقال: فيم تشكينه؟ قالت: إنّه قال: أنت عليّ حرام كظهر امّي، وقد أخرجني من منزلي فانظر في أمري. فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: ما أنزل اللَّه تبارك وتعالى عليّ كتاباً أقضي فيه بينك وبين زوجك، وأنا أكره أن أكون من المتكلّفين، فجعلت تبكي وتشتكي ما بها إلى اللَّه عزّ وجل وإلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وانصرفت.

قال: فسمع اللَّه تبارك وتعالى مجادلتها لرسول اللَّه في زوجها وما شكت إليه وأنزل اللَّه في ذلك قرآناً: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ» إلى قوله «وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 113

التّفسير

الظهار عمل جاهلي قبيح: بالنظر إلى ما قيل في سبب النزول، وكذلك طبيعة الموضوعات التي وردت في السورة، فإنّ الآيات الاولى منها واضحة في دلالتها حيث يقول سبحانه: «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا».

«تجادل»: من المجادلة مأخوذة من مادة «جدل» وتعني في الأصل (فتل الحبل).

ثم يضيف تعالى: «وَتَشْتَكِى إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا».

«تحاور»: من مادة «حور» بمعنى المراجعة في الحديث أو الفكر.

«إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ». إنّ اللَّه عالم بكل المسموعات والمرئيات، بدون أن يحتاج إلى حواس نظر أو سمع، لأنّه حاضر وناظر في كل مكان، يرى كل شي ء ويسمع كل حديث.

ثم يستعرض تعالى حكم الظهار بجمل مختصرة وحاسمة تقضي بقوة على هذا المفهوم الخرافي حيث يقول سبحانه: «الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِن نّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا الِى وَلَدْنَهُمْ».

«الام» و «الولد» ليس بالشي ء الذي تصنعه الألفاظ، بل إنّهما حقيقة واقعية عينية خارجية لا يمكن أن تكون من خلال اللعب بالألفاظ.

ويضيف تعالى مكمّلًا الآية: «وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا» «1».

وتماشياً مع مفهوم

هذه الآية فإنّ «الظهار» عمل محرّم ومنكر، ومع أنّ التكاليف الإلهية لا تشمل الممارسات السابقة، إلّاأنّها ملزمة لحظة نزول الحكم، ولابدّ عندئذ من ترتيب الأثر، حيث يضيف اللَّه سبحانه هذه الآية: «وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌ غَفُورٌ».

وبناءً على هذا فإذا كان المسلم قد إرتكب مثل هذا العمل قبل نزول الآية فلا بأس عليه لأنّ اللَّه سيعفو عنه، وأمّا مسألة الكفارة باقية بقوّتها.

إلّا أنّ مثل هذا العمل القبيح (الظهار) لم يكن شيئاً يستطيع الإسلام أن يغضّ النظر عنه، لذلك فقد جعل له كفارة ثقيلة نسبيّاً كي يمنع من تكراره، وذلك بقوله تعالى: «وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا».

ثم يضيف تعالى: «ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ».

______________________________

(1) «زور»: في الأصل بمعنى الإنحناء الموجود على الصدر وجاءت أيضاً بمعنى الانحراف، ولأنّ حدود الكذب والباطل منحرفة عن الحق، فيقال له (زور) كما يطلق على الصنم أيضاً بهذا اللحاظ. مختصر الامثل، ج 5، ص: 114

أي يجب ألّا تتصوروا أنّ مثل هذه الكفارة في مقابل الظهار، كفارة ثقيلة وغير متناسبة مع الفعل، إنّ المقصود بذلك هو الموعظة والإيقاظ لنفوسكم، والكفارة عامل مهم في وضع حدّ لمثل هذه الأعمال القبيحة والمحرمة، ومن ثم السيطرة على أنفسكم وأقوالكم.

وأساساً فإنّ جميع الكفارات لها جنبة روحية وتربوية، والكفارات المالية يكون تأثيرها غالباً أكثر من التعزيرات البدنية.

ولأنّ البعض يحاول أن يتهرّب من إعطاء الكفارة بأعذار واهية في موضوع الظهار، يضيف عزّ وجل أنّه يعلم بذلك حيث يقول في نهاية الآية: «وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ».

إنّه عالم بالظهار، وكذلك عالم بالذين يتهرّبون من الكفارة، وكذلك بنيّاتكم!

ولكن كفارة تحرير (رقبة) قد لا تتيسّر لجميع من يرتكب هذا الذنب كما لاحظنا ذلك في موضوع سبب نزول هذه الآية

المباركة.

وقد يتعذّر وجود المملوك، ليقوم المكلّف بتحرير رقبته حتى مع قدرته المالية، كما في عصرنا الحاضر، لهذا كله ولأنّ الإسلام دين عالمي خالد فقد عالج هذه المسألة بحكم آخر يعوّض عن تحرير الرقبة، حيث يقول عزّ وجل: «فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا».

وهذا اللون من الكفارة له أثر عميق على الإنسان، حيث إنّ الصوم بالإضافة إلى أنّه وسيلة لتنقية الروح وتهذيب النفس، فإنّ له تأثيراً عميقاً وفاعلًا في منع تكرّر مثل هذه الأعمال في المستقبل.

ومن الواضح- كما في ظاهر الآية- أنّ مدّة الصوم يجب أن تكون ستّين يوماً متتابعاً، وكثير من فقهاء أهل السنّة أفتوا طبقاً لظاهر الآية، إلّاأنّه قد ورد في روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام أنّ المكلّف إذا صام أيام قلائل حتى ولو يوماً واحداً بعد صوم الشهر الأوّل، فإنّ مصداق التتابع في الشهرين يتحقق، وهذا الرأي حاكم على ظاهر الآية.

ولأنّ الكثير من الناس غير قادرين على الوفاء بالكفارة الثانية، وهي صوم الشهرين المتتابعين، فقد ذكر لذلك بديل آخر حيث يقول سبحانه: «فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِينًا».

والظاهر من الإطعام أن يعطي غذاء يشبع الشخص في وجبة طعام، إلّاأنّ الروايات الإسلامية ذكرت أنّ المقصود بذلك هو (مدّ) لإطعام كل واحد (والمد يعادل 750 غم).

مختصر الامثل، ج 5، ص: 115

ثم يشير تعالى في تكملة الآية مرّة اخرى إلى الهدف الأساس لمثل هذه الكفارات:

«ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ».

نعم إنّ إزالة الذنوب بوسيلة الكفارات تقوّي اسس الإيمان، وتربط الإنسان بالتعاليم الإلهية قولًا وعملًا.

وفي نهاية الآية يؤكّد سبحانه بصورة قاطعة على الالتزام بأوامره حيث يقول: «وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

يقال للقوانين الإلهية إنّها حدود، وذلك لحرمة تجاوزها.

وقد أدان الإسلام للظهار وشرّع له حكم

الكفارة.

وبناءً على هذا فكلّما جعل الرجل على زوجته ظهاراً فإنّ الزوجة تستطيع أن تراجع الحاكم الشرعي وتلزمه، إمّا أن يطلّقها بصورة شرعية، أو يرجعها إلى حالتها الزوجية السابقة، بعد دفعه للكفارة بالصورة التي مرّت بنا سابقاً.

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ قَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَ لِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَ نَسُوهُ وَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (6) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَ لَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَ لَا أَدْنَى مِنْ ذلِكَ وَ لَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (7) اولئك أعداء اللَّه: إذا كانت آخر جملة في الآيات السابقة تحثّ الجميع بضرورة الالتزام بالحدود الإلهية وعدم تجاوزها، فإنّ الآيات مورد البحث لا تتحدث عن الأشخاص الذين تجاوزوا حدود اللَّه فحسب، بل عن الذين حاربوا اللَّه ورسوله، وتوضّح عاقبتهم ومصيرهم في هذه الدنيا والعالم الآخر كذلك. يقول سبحانه في البداية: «إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ».

«يحادون»: من مادة «محادة» بمعنى الحرب المسلّحة والاستفادة من الحديد وتقال أيضاً

مختصر الامثل، ج 5، ص: 116

للحرب غير المسلّحة؛ و «كبتوا»: من مادة «كبت» بمعنى المنع بذلة، و (كبتوا) إشارة إلى أنّ اللَّه تعالى يجعل جزاء المحاربين للَّه ورسوله الذلّة والهوان ويمنعهم من لطفه الشامل. ثم يضيف الباري سبحانه: «وَقَدْ أَنزَلْنَا ءَايَاتٍ بَيّنَاتٍ».

وبناءً على هذا فقد تمّت الحجة بشكل كامل، ولم يبق عذر، وحجة للمخالفة، ومع ذلك فإن خالفوا، فلابدّ من

أن يجازوا، ليس في هذه الدنيا فحسب، بل في القيامة: «وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ».

فإنّ هذا التهديد الإلهي للأشخاص الذين يقفون بوجه الرسول صلى الله عليه و آله والقرآن الكريم قد تحقّق، حيث واجهوا الذلة والإنكسار في غزوة بدر وخيبر والخندق وغير ذلك، وأخيراً في فتح مكة حيث كسرت شوكتهم واحبط كيدهم بانتصار الإسلام في كل مكان.

والآية اللاحقة تتحدث عن إستعراض زمان وقوع العذاب الاخروي عليهم حيث يقول عزّ وجل: «يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُوا». نعم: «أَحْصهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ».

وهذا بحد ذاته عذاب مؤلم، لأنّ اللَّه تعالى يذكّرهم بذنوبهم المنسيّة ويفضحهم في مشهد الحشر أمام الخلائق.

وفي نهاية الآية يقول الباري ء سبحانه: «وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ شَهِيدٌ».

إنّ حضور اللَّه سبحانه في كل مكان وفي كل زمان وفي الداخل والخارج، يوجب ألّا يحصي أعمالنا- فقط- بل نيّاتنا وعقائدنا، وفي ذلك اليوم الكبير الذي هو «يوم البروز» يُعرف كل شي ء ولكي يعلم الإنسان السبب في شدة العقاب الإلهي.

ولتأكيد حضور اللَّه سبحانه في كل مكان وعلمه بكل شي ء ينتقل الحديث إلى مسألة «النجوى» حيث يقول سبحانه: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ».

ثم يضيف تعالى: «مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيمَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ».

المقصود من أنّ «اللَّه» رابعهم أو سادسهم هو أنّ اللَّه عزّ وجل موجود حاضر وناظر في كل مكان وعالم بكلّ شي ء، وإلّا فإنّ ذاته المقدسة لا مكان لها، ولا يوصف بالعدد أبداً، ووحدانيّته أيضاً ليست وحدة عدديّة، بل بمعنى أنّه لا شبيه له، ولا نظير ولا

مثيل.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 117

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَ لَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَ لَا أَدْنَى مِنْ ذلِكَ وَ لَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (7) أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَ يَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوَانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَ إِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوَانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَ تَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَ التَّقْوَى وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)

سبب النّزول

نقلت روايتان حول سبب نزول الآية الاولى أعلاه، وكل واحدة منهما تخصّ قسماً من الآية الكريمة. تقول الرواية الاولى: قال ابن عباس: نزل قوله «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى الآية، في اليهود والمنافقين، إنّهم كانوا يتناجون فيما بينهم، دون المؤمنين، وينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم فإذا رأى المؤمنون نجواهم قالوا: ما نراهم إلّاوقد بلغهم عن أقربائنا وإخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل، أو مصيبة أو هزيمة. فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنهم، فلما طال ذلك شكوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن لا يتناجوا دون المسلمين، فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم، فنزلت الآية «1».

أمّا الرواية الثانية فقد نقل في صحيح

مسلم والبخاري وكثير من كتب التفسير، ففي صحيح مسلم عن عائشة قالت: أتى النبي صلى الله عليه و آله اناس من اليهود فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم. قال: «وعليكم». قالت عائشة قلت: بل عليكم السام والذام. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «يا عائشة لا تكوني فاحشة». فقالت ما سمعت ما قالوا. فقال: «أوليس قد رددت عليهم الذي

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان 9/ 413؛ وتفسير روح المعاني 28/ 25.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 118

قالوا قلت وعليكم». فأنزل اللَّه عزّ وجل «وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ اللَّهُ ...» «1».

التّفسير

النجوى من الشيطان: البحث في هذه الآيات هو استمرار لأبحاث النجوى السابقة.

يقول سبحانه: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ».

ويستفاد من هذه الآية بصورة جليّة أنّ المنافقين واليهود قد نهوا من قبل ومنعوا من النجوى التي تولّد سوء الظن عند الآخرين وتسبّب لهم القلق.

واستمراراً لهذا الحديث فإنّ القرآن الكريم يشير إلى مورد آخر من أعمال التجاوز والمخالفة للمنافقين واليهود، حيث يقول تعالى: «وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ اللَّهُ».

«حيّوك»: من مادة «تحيّة» مأخوذة في الأصل من الحياة بمعنى الدعاء بالسلام والحياة الاخرى؛ والمقصود بالتحية الإلهية في هذه الآية هو: (السلام عليكم) أو (سلام اللَّه عليك) والتي وردت نماذج منها في الآيات القرآنية عن الأنبياء وأصحاب الجنة، ومن جملتها قوله تعالى في الآية (181) من سورة الصافات: «سَلمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ».

ثم يضيف تعالى أنّ هؤلاء لم يرتكبوا مثل هذه الذنوب العظيمة فقط بل كانوا مغرورين متعالين وكأنّهم سكارى فيقول عزّ وجل: «وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ».

وبهذه الصورة فإنّهم قد أثبتوا عدم إيمانهم

بنبوّة الرسول صلى الله عليه و آله وكذلك عدم إيمانهم بالإحاطة العلمية للَّه سبحانه.

ويرد عليهم القرآن الكريم: «حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ».

والطبيعي أنّ هذا الكلام لا ينفي عذابهم الدنيوي، لأنّ النجوى قد تكون بين المؤمنين أحياناً وذلك للضرورة أو لبعض الميول، لذا فإنّ الآية اللاحقة تخاطب المؤمنين ستكون مناجاتهم في مأمن من التلوّث بذنوب اليهود والمنافقين حيث يقول الباري ء عزّ وجل: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ».

يستفاد من هذا التعبير- بصورة واضحة- أنّ النجوى إذا كانت بين المؤمنين فيجب أن

______________________________

(1) صحيح مسلم 7/ 5؛ صحيح البخاري 8/ 51؛ وفي الكافي عن أبي جعفر عليه السلام 2/ 648.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 119

تكون بعيدة عن السوء وما يثير قلق الآخرين، ولابدّ أن يكون مسارها التواصي بالخير والحسنى، وبهذه الصورة فلا مانع منها.

ولذلك فإنّ القرآن يحذّر منها أشدّ تحذير في آخر آية مورد البحث، حيث يقول تعالى:

«إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا». ولكن يجب أن يعلموا أنّ الشيطان لا يستطيع إلحاق الضرر بأحد إلّاأن يأذن اللَّه بذلك «وَلَيْسَ بِضَارّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ».

ذلك لأنّ كل مؤثّر في عالم الوجود يكون تأثيره بأمر اللَّه حتى إحراق النار وقطع السيف.

«وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ». إذ أنّهم- بالروح التوكّلية على اللَّه، وبالاعتماد عليه سبحانه- يستطيعون أن ينتصروا على جميع هذه المشاكل.

لهذا العمل- أي النجوى- من الوجهة الفقهية الإسلامية أحكام مختلفة:

فتارةً يكون هذا العمل «حراماً» وذلك فيما لو أدّى إلى أذى الآخرين أو هتك حرمتهم كالنجوى الشيطانية حيث هدفها إيذاء المؤمنين.

وقد تكون النجوى أحياناً «واجبة» وذلك في الموضوعات الواجبة السرّية، حيث إنّ إفشاءها مضرّ ويسبّب الخطر والأذى، وفي

مثل هذه الحالة فإنّ عدم العمل بالنجوى يستدعي إضاعة الحقوق وإلحاق خطر بالإسلام والمسلمين.

وتتصف النجوى في صورة اخرى بالإستحباب، وذلك في الأوقات التي يتصدّى فيها الإنسان لأعمال الخير والبرّ والإحسان، ولا يرغب بالإعلان عنها وإشاعتها وهكذا حكم الكراهة والإباحة.

وأساساً، فإنّ كل حالة لا يوجد فيها هدف مهم فالنجوى عمل غير محمود، ومخالف لآداب المجالس، ويعتبر نوعاً من اللامبالاة وعدم الإكتراث بالآخرين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَ إِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في الصفّة، وفي المكان ضيق، وذلك يوم الجمعة. وكان صلى الله عليه و آله يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار. فجاء اناس من أهل بدر، وفيهم

مختصر الامثل، ج 5، ص: 120

مختصر الامثل ج 5 149

ثابت بن قيس بن شماس، وقد سبقوا في المجلس. فقاموا حيال النبي صلى الله عليه و آله فقالوا: السلام عليك أيّها النبي ورحمة اللَّه وبركاته، فردّ عليهم النبي صلى الله عليه و آله. ثم سلّموا على القوم بعد ذلك، فردّوا عليهم، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسّع لهم، فلم يفسحوا لهم. فشقّ ذلك على النبي صلى الله عليه و آله، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر: قم يا فلان، قم يا فلان، بقدر النفر الذين كانوا بين يديه من أهل بدر. فشقّ ذلك على من اقيم من مجلسه، وعرف الكراهية في وجوههم. وقال المنافقون للمسلمين: ألستم تزعمون أنّ صاحبكم يعدل بين الناس، فواللَّه ما عدل على هؤلاء أنّ

قوماً أخذوا مجالسهم وأحبّوا القرب من نبيّهم، فأقامهم وأجلس من أبطأ عنهم مقامهم! فنزلت الآية.

التّفسير

إحترام أهل السابقة والإيمان: تعقيباً على الموضوع الذي جاء في الروايات السابقة حول ترك (النجوى) في المجالس، يتحدث القرآن عن أدب آخر من آداب المجالس حيث يقول سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِى الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ».

جملة «يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ» لها مفهوماً واسعاً، وتشمل كل سعة إلهية، سواء كانت في الجنة أو في الدنيا أو في الروح والفكر أو في العمر والحياة، أو في المال والرزق.

وبما أنّ المجالس تكون مزدحمة أحياناً بحيث إنّه يتعذّر الدخول إلى المجلس في حالة عدم التفسّح أو القيام، وإذا وجد مكان فإنّه غير متناسب مع مقام القادمين واستمراراً لهذا البحث، يقول تعالى: «وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا». أي إذا قيل لكم قوموا فقوموا.

ولا ينبغي أن تضجروا أو تسأموا من الوقوف، لأنّ القادمين أحياناً يكونون أحوج إلى الجلوس من الجالسين في المجلس، وذلك لشدّة التعب أو الكهولة أو للإحترام الخاص لهم، وأسباب اخرى.

ثم يتطرق سبحانه إلى الجزاء والأجر الذي يكون من نصيب المؤمنين إذا التزموا بالأمر الإلهي، حيث يقول عزّ وجل: «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ».

وذلك إشارة إلى أنّ الرسول صلى الله عليه و آله إذا أمر البعض بالقيام وإعطاء أماكنهم للقادمين، فإنّه لهدف إلهي مقدس، وإحتراماً للسابقين في العلم والإيمان.

وبما أنّ البعض يؤدّي هذه التعليمات ويلتزم بهذه الآداب عن طيب نفس ورغبة، والآخرون يؤدّونها عن كراهية أو للرياء، والتظاهر ... فيضيف تعالى في نهاية الآية: «وَاللَّهُ

مختصر الامثل، ج 5، ص: 121

بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ».

بالرغم من أنّ الآية نزلت في مورد خاص، إلّاأنّ لها مفهوماً عاماً، وبملاحظة أنّ ما يرفع

مقام الإنسان عند اللَّه شيئان: الإيمان، والعلم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَ آتُوا الزَّكَاةَ وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت في الأغنياء، وذلك أنّهم كانوا يأتون النبي صلى الله عليه و آله فيكثرون مناجاته. [وهذا العمل بالإضافة إلى أنّه يشغل الرسول صلى الله عليه و آله ويأخذ من وقته فإنّه كان يسبّب عدم إرتياح المستضعفين منه، وحيث يشعرهم بامتياز الأغنياء عليهم فأمر اللَّه سبحانه بالصدقة عند المناجاة. فلمّا رأوا ذلك، انتهوا عن مناجاته. فنزلت آية الرخصة.

[التي لامت الأغنياء ونسخت حكم الآية الاولى وسمح للجميع بالمناجاة، حيث إنّ النجوى هنا حول عمل الخير وطاعة المعبود].

التّفسير

الصدقة قبل النجوى (إختبار رائع): في قسم من الآيات السابقة كان البحث حول موضوع النجوى، وفي الآيات مورد البحث استمراراً وتكملة لهذا المطلب. يقول سبحانه:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولُ فَقَدّمُوا بَيْنَ يَدَى نَجْوَيكُمْ صَدَقَةً».

ثم يضيف بقوله تعالى: «ذلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ».

أمّا كون الصدقة «خير» فإنّها كانت للأغنياء موضع أجر وللفقراء مورد مساعدة، وأمّا كونها (أطهر) فلأنّها تغسل قلوب الأغنياء من حبّ المال، وقلوب الفقراء من الغلّ والحقد.

ولكن لو كان التصدّق قبل النجوى واجباً على الجميع، فإنّ الفقراء عندئذ سيحرمون من طرح المسائل المهمّة كاحتياجاتهم ومشاكلهم أمام الرسول صلى الله عليه و آله فلذا جاء في ذيل الآية إسقاط هذا الحكم عن المجموعة المستضعفة مما مكّنهم من مناجاة الرسول صلى الله عليه و

آله والتحدّث

مختصر الامثل، ج 5، ص: 122

معه: «فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ». وبهذه الصورة فإنّ دفع الصدقة قبل النجوى كان واجباً على الأغنياء دون غيرهم.

والطريف هنا أنّ للحكم أعلاه تأثيراً عجيباً وامتحاناً رائعاً أفرزه على صعيد الواقع من قبل المسلمين في ذلك الوقت، حيث امتنع الجميع من إعطاء الصدقة إلّاشخص واحد، ذلك هو الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، وهنا اتّضح ما كان يجب أن يتّضح، وأخذ المسلمون درساً في ذلك، لذا نزلت الآية اللاحقة ونسخت الحكم حيث يقول سبحانه: «ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَيكُمْ صَدَقَاتٍ».

حيث اتّضح أنّ حبّ المال كان في قلوبكم أحبّ من نجواكم للرسول صلى الله عليه و آله واتّضح أيضاً أنّ هذه النجوى لم تكن تطرح فيها مسائل أساسية، وإلّا فما المانع من أن تقدّم هذه المجموعة صدقة قبل النجوى، خاصة أنّ الآية لم تحدّد مقدار الصدقة فبإمكانهم دفع مبلغ زهيد من المال لحلّ هذه المشكلة.

ثم يضيف تعالى: «فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَءَاتُوا الزَّكَوةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ».

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَ لَا مِنْهُمْ وَ يَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَ لَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْ ءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ

هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) حزب الشيطان: هذه الآيات تفضح قسماً من تآمر المنافقين وتعرض صفاتهم للمسلمين، وذكرها بعد آيات النجوى يوضّح لنا أنّ قسماً ممّن ناجوا الرسول كانوا من المنافقين، حيث كانوا بهذا العمل يظهرون قربهم للرسول صلى الله عليه و آله ويتستّرون على مؤامراتهم، وهذا ما سبّب أن يتعامل القرآن مع هذه الحالة بصورة عامّة.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 123

يقول تعالى في البداية: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم».

ثم يضيف تعالى: «مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ». فهم ليسوا أعوانكم في المصاعب والمشاكل، ولا أصدقاءكم وممّن يكنون لكم الودّ والإخلاص، إنّهم منافقون يغيّرون وجوههم كل يوم ويظهرون كل لحظة لكم بصورة جديدة.

ويضيف- أيضاً- واستمراراً لهذا الحديث أنّ هؤلاء ومن أجل إثبات وفاءهم لكم فإنّهم يقسمون بالأيمان المغلّظة: «وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ».

وهذه طريقة المنافقين، فيقومون بتغطية أعمالهم المنفّرة ووجوههم القبيحة بواسطة الأيمان الكاذبة والحلف الباطل، في الوقت الذي تكون أعمالهم خير كاشف لحقيقتهم.

ثم يشير تعالى إلى العذاب المؤلم لهؤلاء المنافقين المصرّين على الباطل والمعاندين للحقّ، حيث يقول تعالى: «أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا». وبدون شك فإنّ هذا العذاب عادل وذلك:

«إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

ثم للتوضيح الأكثر حول بيان سمات وصفات المنافقين يقول سبحانه: «اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ».

يحلفون أنّهم مسلمون وليس لهم هدف سوى الإصلاح، في حين أنّهم منهمكون بفسادهم وتخريبهم ومؤامراتهم ... وفي الحقيقة فإنّهم يستفيدون من الاسم المقدس للَّه للصدّ والمنع عن سبيل اللَّه تعالى ...

ويضيف تعالى في النهاية: «فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ». أي مذلّ.

إنّهم أرادوا بحلفهم الكاذب تحسين سمعتهم وتجميل صورتهم، إلّاأنّ اللَّه سيبتليهم بعذاب أليم مذلّ.

ولأنّ المنافقين يعتمدون في الغالب على أموالهم وأولادهم وهما (القوة الاقتصادية والقوة البشرية) في تحقيق

مآربهم وحلّ مشاكلهم، فإنّ القرآن الكريم يشير إلى هذا المعنى بقوله تعالى: «لَّن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلدُهُم مّنَ اللَّهِ شَيْئًا».

وهذه الأموال ستصبح لعنة عليهم وطوقاً في أعناقهم وسبباً لعذابهم المؤلم، كما يوضّح اللَّه سبحانه ذلك في الآية (180) من سورة آل عمران: «سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيمَةِ».

وفي ذيل الآية يهدّدهم ويقول: «أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».

والعجيب أنّ المنافقين لا يتخلّون عن نفاقهم حتى في يوم القيامة أيضاً، كما يوضّح اللَّه

مختصر الامثل، ج 5، ص: 124

سبحانه ذلك في قوله: «يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ». إنّ يوم القيامة يوم تتجلّى فيه الأعمال، وحقيقة الإنسان التي كان عليها في الدنيا، ولأنّ المنافقين أخذوا هذه الحالة النفسية معهم إلى القبر والبرزخ، فإنّها ستتضح يوم القيامة أيضاً، ومع علمهم بأنّ اللَّه سبحانه لا يخفى عليه شي ء وأنّه علّام الغيوب، إلّاأنّهم- إنسجاماً مع سلوكهم المعهود- فإنّهم يحلفون أمام اللَّه حلفاً كاذباً.

ثم يضيف عزّ وجل أنّهم بهذا اليمين الكاذب يظنّون أنّه بإمكانهم كسب منفعة أو دفع ضرر: «وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَىْ ءٍ».

إنّ هذا التصور الواهي ليس أكثر من خيال.

وأخيراً تنتهي الآية بهذه الجملة: «أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ». وبهذه الصورة سيفتضح.

وفي آخر آية مورد البحث يبيّن الباري عزّ وجل المصير النهائي للمنافقين العمي القلوب بقوله تعالى: «اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ».

«استحوذ»: من مادة «حوذ» بمعنى الجزء الخلفي لفخذ البعير، ولأنّ أصحاب الإبل عندما يسوقون جمالهم يضربونها على أفخاذها، فقد جاء هذا المصطلح بمعنى التسلّط أو السوق بسرعة.

نعم، إنّ المنافقين المغرورين بأموالهم ومقامهم، ليس لهم مصير سوى أن يكونوا تحت سيطرة الشيطان واختياره ووساوسه بصورة تامّة، وينسون اللَّه

بصورة كلية، أنّهم ليسوا منحرفين فحسب، بل إنّهم في زمرة الشيطان وهم أنصاره وحزبه وجيشه في إضلال الآخرين.

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَ يُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 125

كان الحديث عن المنافقين وأعداء اللَّه وبيان بعض صفاتهم وخصائصهم في الآيات السابقة، واستمراراً لنفس البحث- في هذه الآيات التي هي آخر آيات سورة المجادلة- تطرح خصوصيات اخرى لهم، ويتّضح المصير الحتمي لهم حيث الموت والإندحار. يقول تعالى في البداية: «إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِى الْأَذَلّينَ» «1». أي أذلّ الخلائق.

والآية اللاحقة دليل على هذا المعنى حيث يقول سبحانه: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ».

وبنفس القدر الذي يكون فيه اللَّه قويّاً عزيزاً فإنّ أعداءه يكونون ضعفاء أذلّاء، وهذا بنفسه بمثابة الدليل على ما ورد في الآية السابقة من وصف الأعداء بأنّهم «فِى الْأَذَلّينَ».

ولقد اتّضح على مرّ العصور هذا الإنتصار للمرسلين الإلهيين في أوجه مختلفة، سواء في أنواع العذاب الذي أصاب أعداءهم وصوره المختلفة كطوفان نوح وصاعقة عاد وثمود والزلازل المدمّرة لقوم لوط وما إلى ذلك، وكذلك في الإنتصارات في الحروب المختلفة كغزوات بدر وحنين وفتح مكة، وسائر غزوات رسول الأكرم صلى الله عليه و آله.

وأهمّ من ذلك كلّه إنتصارهم الفكري والمنطقي على

أفكار الشيطان وأعداء الحق والعدالة.

آخر آية مورد البحث- والتي هي آخر آية من سورة المجادلة- تعدّ من أقوى الآيات القرآنية التي تحذّر المؤمنين من إمكانية الجمع بين حبّ اللَّه وحبّ أعدائه، إذ لابدّ من اختيار طريق واحد لا غير، وإذا ما كانوا حقّاً مؤمنين صادقين فعليهم اجتناب حبّ أعداء اللَّه.

يقول تعالى: «لَّاتَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ».

إنّ حبّ الآباء والأبناء والاخوان والعشيرة شي ء ممدوح، ودليل على عمق العواطف الإنسانية، إلّاأنّ هذه المحبة حينما تكون بعيدة عن حبّ اللَّه فإنّها ستفقد خاصيتها.

ثم يتطرّق القرآن الكريم إلى الجزاء العظيم لهذه المجموعة التي سخّرت قلوبها لعشق اللَّه تعالى، حيث يستعرض خمسة من أوصافهم والتي يمثّل بعضها مدداً وتوفيقاً من اللَّه تعالى، والآخر نتيجة العمل الخالص له سبحانه ... وفي بيان القسم الأوّل والثاني يقول تعالى:

«أُولئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مّنْهُ».

______________________________

(1) «يحادّون»: من مادة «محادّة» بمعنى الحرب المسلّح وغير المسلّح، أو بمعنى الممانعة.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 126

ومن الطبيعي أنّ هذا الإمداد واللطف الإلهي لا يتنافي أبداً مع أصل حرية الارادة واختيار الإنسان، لأنّ الخطوات الاولى في ترك أعداء اللَّه قد قرّرها المؤمنون ابتداءً، ثم جاء الإمداد الإلهي بصورة استقرار الإيمان حيث عبّر عنه ب (كتب).

هذه الروح الإلهية التي يؤيّد اللَّه سبحانه المؤمنين بها هي نوع من الحياة المعنوية الجديدة التي أفاضها اللَّه تعالى على المؤمنين.

ويقول تعالى في ثالث مرحلة: «وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا».

ويضيف في رابع مرحلة لهم: «رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ».

إنّ أعظم ثواب معنوي وجزاء روحاني لأصحاب الجنة في مقابل النعم المادية العظيمة في القيامة من جنان وحور

وقصور هو شعورهم وإحساسهم أنّ اللَّه راضٍ عنهم وأنّ رضى مولاهم ومعبودهم يعني أنّهم مقبولون عنده، وفي كنف حمايته وأمنه، حيث يجلسهم على بساط قربه، وهذا أعظم إحساس ينتابهم، ونتيجته رضاهم الكامل عن اللَّه سبحانه.

وفي آخر مرحلة يضيف تعالى بصورة إخبار عام يحكي عن نعم وهبات اخرى حيث يقول: «أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُوَن».

وليس المقصود بالفلاح هنا ما يكون في عالم الآخرة ونيل النعم المادية والمعنوية في يوم القيامة فحسب، بل كما جاء في الآيات السابقة أنّ اللَّه تعالى ينصرهم بلطفه في هذه الدنيا أيضاً على أعدائهم وستكون بأيديهم حكومة الحق والعدل التي تستوعب هذا العالم أخيراً.

«نهاية تفسير سورة المجادلة»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 127

59. سورة الحشر

محتوى السورة: تأخذ هذه السورة بصورة متميزة قصة حرب المسلمين مع بعض اليهود (يهود بني النضير) والتي انتهت بإخراجهم من المدينة وتطهير هذه المدينة المقدسة منهم.

وهذه السورة من السور المهمة والمثيرة والموقظة في القرآن الكريم، ولها انسجام قريب جدّاً مع الآيات الأخيرة مع السورة السابقة، والتي وعدت «حزب اللَّه» بالنصر، والنصر الوارد في هذه السورة يعدّ مصداقاً بارزاً لذلك النصر الموعود.

ويمكن تلخيص موضوعات هذه السورة في ستة أقسام هي:

1- تتحدث عن تسبيح اللَّه الحكيم العليم من قبل الموجودات جميعاً.

2- يوضّح قصة إشتباك المسلمين مع ناقضي العهد من يهود المدينة.

3- يستعرض القرآن قصة منافقي المدينة مع اليهود والتعاون بينهما.

4- يشمل مجموعة من التوجيهات والنصائح العامة لعموم المسلمين.

5- عبارة عن وصف بليغ للقرآن الكريم وبيان أثره في تطهير الروح والنفس.

6- يتناول قسماً مهماً من أوصاف جلال وجمال الذات الإلهية المقدسة، وبعض أسمائه الحسنى، وهذه الصفات تكون عوناً للإنسان في طريق معرفة اللَّه سبحانه.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 128

إنّ اسم هذه

السورة مأخوذ من الآية الثانية فيها، والتي تتحدث عن «الحشر»، والذي يعني هنا تجمّع اليهود للرحيل عن المدينة، أو حشر المسلمين اليهود لطردهم منها.

وأخيراً فإنّ هذه السور هي إحدى (سور المسبّحات) والتي بدأت بتسبيح اللَّه، وانتهت بتسبيح اللَّه أيضاً.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن ابي بن كعب قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«ومن قرأ سورة الحشر لم يبق جنّة ولا نار، ولا عرش ولا كرسي ولا حجاب، ولا السماوات السبع ولا الأرضون السبع، والهوام والرياح والطير والشجر والدواب، والشمس والقمر والملائكة، إلّا صلّوا عليه، واستغفروا له، وإن مات من يومه أو ليلته مات شهيداً».

ومما لا شك فيه أنّ هذا من آثار التفكّر والتدبّر في محتوى هذه السورة وعند قراءتها.

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَ لَوْ لَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَ لِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)

سبب النّزول

ذكر المفسرون والمحدّثون والمؤرّخون بصورة مفصّلة سبب نزول هذه الآيات، وخلاصة ما ذكروه هي ما يلي:

كان بالمدينة ثلاث قبائل من اليهود وهم: بنو النضير، وبنو قريظة، وبنو قينقاع، ويذكر أنّهم لم يكونوا من أهل

الحجاز أصلًا، وإنّما قدموا إليها واستقرّوا فيها، وذلك لما قرأوه في

مختصر الامثل، ج 5، ص: 129

كتبهم العقائدية من قرب ظهور نبي في أرض المدينة، حيث كانوا بإنتظار هذا الظهور العظيم.

وعندما هاجر الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله إلى المدينة عقد معهم حلفاً بعدم تعرّض كل منهما للآخر، إلّاأنّهم كلّما وجدوا فرصة مناسبة لم يألوا جهداً في نقض العهد.

ومن جملة ذلك أنّهم نقضوا العهد بعد غزوة احد، التي وقعت في السنة الثالثة للهجرة.

فقد ذهب كعب بن الأشرف زعيم قبيلة بني النضير مع أربعين فارساً إلى مكة، وهنالك عقد مع قريش حلفاً لقتال محمّد صلى الله عليه و آله، وجاء أبو سفيان مع أربعين شخصاً، وكعب بن الأشرف مع أربعين نفراً من اليهود، ودخلا معاً إلى المسجد الحرام ووثقوا العهد في حرم الكعبة، فعلم النبي صلى الله عليه و آله بذلك عن طريق الوحي.

والمؤامرة الاخرى هي أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله دخل يوماً مع شيوخ الصحابة وكبارهم إلى حي بني النضير، وذلك بحجّة إستقراض مبلغ من المال منهم كديّة لقتيلين من طائفة بني عامر، قتلهما (عمرو بن اميّة) أحد المسلمين، وربّما كان الهدف من ذلك هو معرفة أخبار اليهود عن قرب حتى لا يباغت المسلمون بذلك.

فبينما كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يتحدث مع كعب بن الأشرف إذ حيكت مؤامرة يهودية لإغتيال رسول اللَّه وتنادى القوم: إنّكم لا تحصلون على هذا الرجل بمثل هذه الحالة وهاهو قد جلس بالقرب من حائطكم، فليذهب أحدكم إلى السطح ويرميه بحجر عظيم ويريحنا منه، فقام عمرو بن جحاش وأبدى إستعداده لتنفيذ الأمر، وذهب إلى السطح لتنفيذ عمله الإجرامي، إلّاأنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و

آله علم عن طريق الوحي بذلك، فقفل راجعاً إلى المدينة دون أن يتحدث بحديث مع أصحابه، إلّاأنّ الصحابة تصوروا أنّ الرسول سيعود مرّة اخرى، ولمّا عرفوا فيما بعد أنّ الرسول في المدينة عاد الصحابة إليها أيضاً.

وهنا أصبح من المسلّم لدى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله نقض اليهود للعهد، فأعطى أمراً للإستعداد والتهيّؤ لقتالهم.

وجاء في بعض الروايات أيضاً أنّ أحد شعراء بنو النضير هجا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بشعر يتضمّن مسّاً بكرامة الرسول وهذا دليل آخر لنقضهم العهد.

وبدأت خطّة المسلمين في مواجهة اليهود وكانت الخطوة الاولى أن أمر رسول اللَّه (محمّد بن سلمة) أن يقتل كعب بن الأشرف زعيم اليهود، إذ كانت له به معرفة، وقد نفّذ هذا العمل بعد مقدمات وقتله.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 130

إنّ قتل كعب بن الأشرف أوجد هزّة وتخلخلًا في صفوف اليهود، عند ذلك أعطى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أمراً للمسلمين أن يتحرّكوا لقتال هذه الفئة الباغية الناقضة للعهد.

وعندما علم اليهود بهذا لجأوا إلى قلاعهم المحكمة وحصونهم القوية، وأحكموا الأبواب، إلّا أنّ الرسول صلى الله عليه و آله أمر أن تقلع أشجار النخيل القريبة من القلاع.

فقد إرتفع صوت اليهود عندما شعروا بالضيق، وهم محاصرون في حصونهم ... فقالوا: يا محمّد، لقد كنت تنهى عن هذا، فما الذي حدا بك لتأمر قومك بقطع نخيلنا؟

فنزلت الآية (5) من الآيات محل البحث وبيّنت بأنّ هذا العمل هو أمر من اللَّه عزّ وجل.

واستمرّت المحاصرة لعدّة أيّام، ومنعاً لسفك الدماء إقترح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عليهم أن يتركوا ديارهم وأراضيهم ويرحلوا من المدينة، فوافقوا على هذا وحملوا مقداراً من أموالهم تاركين القسم الآخر ... واستقرّ قسم

منهم في «أذرعات الشام»، وقليل منهم في «خيبر»، وجماعة ثالثة في «الحيرة»، وتركوا بقية أموالهم وأراضيهم وبساتينهم وبيوتهم بيد المسلمين بعد أن قاموا بتخريب ما يمكن لدى خروجهم منها «1».

التّفسير

بدأت هذه السورة بتنزيه وتسبيح اللَّه وبيان عزّته وحكمته. يقول سبحانه: «سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

وهذه مقدمة لبيان قصة يهود بني النضير، اولئك الذين انحرفوا عن طريق التوحيد ومعرفة اللَّه وصفاته.

التسبيح العام الوارد في الآية لجميع موجودات الأرض والسماء، أعم من الملائكة والبشر والحيوانات والنباتات والجمادات يمكن أن يكون بلسان «القال» ويمكن أن يكون بلسان «حال» هذه المخلوقات حول دقّة النظام المثير للعجب لها في خلق كل ذرّة من ذرّات هذا الوجود، وهو التسليم المطلق للَّه سبحانه والإعتراف بعلمه وقدرته وعظمته وحكمته.

ومن جهة اخرى فإنّ قسماً من العلماء يعتقدون أنّ كل موجود في العالم له نصيب وقدر من العقل والإدراك والشعور، بالرغم من أنّنا لم ندركه ولم نطّلع عليه، وبهذا الدليل فإنّ هذه المخلوقات تسبّح بلسانها، بالرغم من أنّ آذاننا ليس لها القدرة على سماعها.

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان 9/ 425؛ وتفسير علي بن إبراهيم 2/ 358؛ وتفسير القرطبي 18/ 2.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 131

وبعد بيان المقدمة أعلاه نستعرض أبعاد قصة يهود بني النضير في المدينة حيث يقول سبحانه: «هُوَ الَّذِى أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ».

«حشر»: في الأصل تحريك جماعة وإخراجها من مقرّها إلى ميدان حرب وما إلى ذلك، والمقصود منه هنا اجتماع وحركة المسلمين من المدينة إلى قلاع اليهود، أو اجتماع اليهود لمحاربة المسلمين، ولأنّ هذا أوّل اجتماع من نوعه فقد سمّي في القرآن الكريم بأوّل الحشر، وهذه بحد ذاتها إشارة إلى بداية المواجهة المقبلة مع

يهود بني النضير ويهود خيبر وأمثالهم.

ويضيف الباري ء عزّ وجل: «مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ اللَّهِ». لقد كانوا مغرورين وراضين عن أنفسهم إلى حدّ أنّهم اعتمدوا على حصونهم المنيعة، وقدرتهم المادية الظاهرية.

ولأنّ اللَّه سبحانه يريد أن يوضّح للجميع أن لا قوّة في الوجود تقاوم إرادته، فإنّ إخراج اليهود من أراضيهم وديارهم بدون حرب، هو دليل على قدرته سبحانه، وتحدّ لليهود الذين ظنّوا أنّ حصونهم مانعتهم من اللَّه.

ولذلك يضيف- استمراراً للبحث الذي ورد في الآية- قوله تعالى: «فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ». نعم، إنّ هذا الجيش غير المرئي هو جيش الخوف الذي يرسله اللَّه تعالى في كثير من الحروب لمساعدة المؤمنين، وقد خيّم على قلوبهم، وسلب منهم قدرة الحركة والمقاومة، لقد جهّزوا وهيّأوا أنفسهم لقتال المهاجرين والأنصار غافلين عن إرادة اللَّه تعالى، حيث يرسل لهم جيشاً من داخلهم.

وفي نهاية الآية- بعنوان استنتاج كلي- يقول تعالى: «فَاعْتَبِرُوا يَأُولِى الْأَبْصَارِ».

«اعتبروا»: من مادة «إعتبار» وفي الأصل مأخوذة من العبور، أي العبور من شي ء إلى شي ء آخر، ويقال لدمع العين «عبرة» بسبب عبور قطرات الدموع من العين، وكذلك يقال «عبارة» لهذا السبب، حيث إنّها تنقل المطالب والمفاهيم من شخص إلى آخر، وإطلاق «تعبير المنام» على تفسير محتواه، بسبب أنّه ينقل الإنسان من ظاهره إلى باطنه.

وبهذه المناسبة يقال للحوادث التي فيها دروس وعظات «عبر» لأنّها توضّح للإنسان سلسلة من التعاليم الكليّة وتنقله من موضوع إلى آخر.

والتعبير ب «اولى الأبصار» إشارة إلى الأشخاص الذين يتعاملون مع الحوادث بعين

مختصر الامثل، ج 5، ص: 132

واقعية ويتوغلون إلى أعماقها.

والمقصود من العبرة والإعتبار في الآية أعلاه هو الإنتقال المنطقي والقطعي من موضوع إلى

آخر. يعني مقايسة الحوادث المتشابهة من خلال إعمال العقل. وتضيف الآية اللاحقة: «وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِى الدُّنْيَا».

وبدون شك فإنّ الجلاء عن الوطن وترك قسم كبير من رؤوس الأموال التي جهدوا جهداً بليغاً في الحصول عليها، هو بحدّ ذاته أمر مؤلم لهم، وبناءً على هذا فإنّ مراد الآية أعلاه أنّه لو لم يحلّ بهم هذا العذاب، فإنّ بإنتظارهم عذاباً آخر هو القتل أو الأسر بيد المسلمين ...

إلّا أنّ اللَّه سبحانه أراد لهم التيه في الأرض والتشرّد في العالم، لأنّ هذا أشدّ ألماً وأسىً على نفوسهم، إذ كلّما تذكّروا أرضهم وديارهم ومزارعهم وبساتينهم التي أصبحت بيد المسلمين، وكيف أنّهم شردوا منها بسبب نقضهم العهد ومؤامراتهم ضدّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فإنّ ألمهم وحزنهم ومتاعبهم تضاعف وخاصة على المستوى النفسي.

وكان هذا عذاباً دنيوياً لهم، إلّاأنّ لهم جولة اخرى مع عذاب أشدّ وأخزى، ذلك هو عذاب الآخرة، حيث يضيف سبحانه في نهاية الآية: «وَلَهُمْ فِى الْأَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ».

وبما أنّ ذكر هذه الحادثة مضافاً إلى تجسيد قدرة اللَّه وصدق الدعوة المحمّدية، فهي في نفس الوقت تمثّل إنذاراً وتنبيهاً لكل من يروم القيام بأعمال مماثلة لفعل بني النضير، لذا ففي الآية اللاحقة يرشدنا سبحانه إلى هذا المعنى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ».

«شاقّوا»: من مادة «شقاق» وهي في الأصل بمعنى الشقّ والفصل بين شيئين، وبما أنّ العدو يكون دائماً في الطرف المقابل، فإنّ كلمة (شقاق) تطلق على هذا العمل.

وفي الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث نلاحظ جواباً على إعتراض يهود بني النضير على قطع المسلمين لنخيلهم- كما ورد في شأن النزول- بأمر من رسول اللَّه صلى الله عليه

و آله لتهيئة ظروف أفضل لقتال بني النضير أو لزيادة حزنهم وألمهم، فيضطرّوا للنزول من قلاعهم ومنازلة المسلمين خارج القلعة، وقد أثار هذا العمل غضب اليهود وحنقهم، فقالوا: يا محمّد، قد كنت تنهي عن الفحشاء، فما بالك تقطع النخل وتحرقها؟ فنزلت الآية مبيّنة لهم أنّ ذلك من أمر اللَّه سبحانه حيث يقول الباري ء: «مَا قَطَعْتُم مّن لّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا

مختصر الامثل، ج 5، ص: 133

فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِىَ الْفَاسِقِينَ». «لينة»: من مادة «لون» تقال لنوع جيّد من النخل.

وَ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لَا رِكَابٍ وَ لكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبَى وَ الْيَتَامَى وَ الْمَسَاكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَ مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قال ابن عباس: نزل قوله «مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى الآية. في أموال كفار أهل القرى، وهم قريظة وبنو النضير، وهما بالمدينة. وفدك، وهي من المدينة على ثلاثة أميال. وخيبر، وقرى عرينة، وينبع، جعلها اللَّه لرسوله، يحكم فيها ما أراد. وأخبر أنّها كلّها له. فقال اناس: فهلا قسمها، فنزلت الآية.

[وسنلاحظ أنّ الرسول صلى الله عليه و آله قسّم هذه الأموال بين المهاجرين الفقراء في المدينة، وعلى قسم من الأنصار من ذوي الفاقة].

التّفسير

حكم الغنائم بغير الحرب: بما أنّ هذه الآيات تكملة للآيات القرآنية السابقة التي تتحدث عن إندحار يهود بني النضير، لذا فإنّ هذه الآيات

تبيّن حكم غنائم بني النضير، كما أنّها في نفس الوقت توضّح حكماً عاماً حول الغنائم التي يحصل عليها المسلمون بدون حرب، كما ذكر ذلك في كتب الفقه الإسلامي بعنوان (الفي ء).

يقول اللَّه تعالى: «وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِن خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ».

«أفاء»: من مادة «في ء» وهي في الأصل بمعنى الرجوع، وإطلاق كلمة (في ء) على هذا اللون من الغنائم لعلّه باعتبار أنّ اللَّه سبحانه قد خلق هذه النعم والهبات العظيمة في عالم الوجود في الأصل للمؤمنين، وعلى رأسهم الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله الذي هو أشرف الكائنات.

وبناءً على هذا فإنّ الجاحدين لوجود اللَّه والعاصين له بالرغم من إمتلاكهم للبعض من هذه النعم بموجب القواعد الشرعية والعرفية، إلّاأنّهم يعتبرون غاصبين لها، ولذلك فإنّ عودة

مختصر الامثل، ج 5، ص: 134

هذه الأموال إلى أصحابها الحقيقيين (وهم المؤمنون) يسمّى (فيئاً) في الحقيقة. «أوجفتم»: من مادة «إيجاف» بمعنى السّوق السريع الذي يحدث غالباً في الحروب.

«خيل»: بمعناه المتعارف عليه (وهي اسم جنس وجمعها خيول) «1».

«ركاب»: من مادة «ركوب» وتطلق في الغالب على ركوب الجمال.

والهدف من مجموع الجملة أنّ جميع الموارد التي لم يحدث فيها قتال وفيها غنائم، فإنّها لا توزّع بين المقاتلين، وتوضع بصورة تامّة تحت تصرّف رئيس الدولة الإسلامية وهو يصرفها في الموارد التي سيأتي الحديث عنها لاحقاً.

ثم يضيف سبحانه أنّ الإنتصارات لا تكون غالباً لكم «وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

نعم، لقد تحقّق الإنتصار على عدو قوي وشديد كيهود (بني النضير) وذلك بالمدد الإلهي الغيبي، ولتعلموا أنّ اللَّه قادر على كل شي ء.

ولابدّ للمسلمين أن يتعلّموا من ذلك دروس المعرفة الإلهية، ويلاحظوا علائم حقّانية النبي صلى الله عليه و آله، ويلتزموا

منهج الإخلاص والتوكل على الذات الإلهية المقدسة في جميع ممارساتهم.

والآية اللاحقة تبيّن بوضوح مورد صرف (الفي ء) الوارد في الآية السابقة وتقول بشكل قاعدة كليّة: «مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ».

وهذا يعني أنّ هذه الغنائم ليست كباقي الغنائم الحربية التي يكون خمس منها فقط تحت تصرّف الرسول صلى الله عليه و آله وسائر المحتاجين، والأربعة الأخماس الاخرى للمقاتلين.

وإذا ما صرّحت الآية السابقة برجوع جميع الغنائم لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله فلا يفهم من ذلك أن يصرفها جميعاً في موارده الشخصية، وإنّما اعطيت له لكونه رئيساً للدولة الإسلامية، وخاصة كونه المتصدّي لتغطية حاجات المعوزين، لذا فإنّ القسم الأكبر يصرف في هذا المجال.

إنّ الرسول صلى الله عليه و آله لا يريد الأموال لُاموره الشخصية، بل بعنوان قائد المسلمين ورئيس دولتهم يصرفها في الامور التي تحقّق مصلحة الدولة الإسلامية بشكل عام.

______________________________

(1) يقول الراغب في المفردات: إنّ الخيل في الأصل من مادة (خيال) بمعنى التصوّرات الذهنية، وخيلاء بمعنى التكبّر والتعالي على الآخرين لأنّه ناتج من تخيّل الفضيلة، ولأنّ ركوب الإنسان على الحصان يشعر بالإحساس بنوع من الفخر والزهو غالباً، لذلك أطلق لفظ الخيل على الحصان، والنقطة الجديرة بالملاحظة أنّ خيل تطلق على الحصان وكذلك على راكبه.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 135

ومما يجدر بالملاحظة أنّ هذا الحق ينتقل من بعد الرسول صلى الله عليه و آله إلى الأئمة المعصومين عليهم السلام ومن بعدهم إلى نوّابهم. يعني (كل مجتهد جامع للشرائط) لأنّ الأحكام الإسلامية لا تعطّل، والحكومة الإسلامية من أهمّ المسائل التي يتعامل المسلمون معها وقسم من هذه الاسس قنّنت ضمن الهيكل الاقتصادي العام للمجتمع الإسلامي، كما أنّها تمثّل مبدأً أساسياً في

النظام الاقتصادي للدولة الإسلامية.

ثم يستعرض سبحانه فلسفة هذا التقسيم الدقيق بقوله تعالى: «كَىْ لَايَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ». فيتداول الأغنياء الثروات فيما بينهم ويحرم منها الفقراء.

والمفهوم الذي ورد في هذه الآية يوضّح أصلًا أساسياً في الاقتصاد الإسلامي وهو:

وجوب التأكيد في الاقتصاد الإسلامي على عدم تمركز الثروات بيد فئة محدودة وطبقة معيّنة تتداولها فيما بينها، مع كامل الإحترام للملكية الشخصية، وذلك بإعداد برنامج واضح بهذا الصدد يحرّك عملية تداول الثروة بين أكبر قطاع من الامة.

ويضيف سبحانه في نهاية الآية: «وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ».

وبالرغم من أنّ هذا القسم من الآية نزل بشأن غنائم بني النضير، إلّاأنّ محتواها حكم عام في كل المجالات، ومدرك واضح على حجية سنّة الرسول صلى الله عليه و آله.

وطبقاً لهذا الأصل فإنّ جميع المسلمين ملزمون بإتّباع التعاليم المحمّدية، وإطاعة أوامر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وإجتناب ما نهى عنه، سواء في مجال المسائل المرتبطة بالحكومة الإسلامية أو الاقتصادية أو العبادية وغيرها.

لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَ أَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوَاناً وَ يَنْصُرُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَ الْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَ لَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَ يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَ لِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَ لَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 136

السمات الأساسية للأنصار والمهاجرين والتابعين: هذه الآيات- التي هي إستمرار

للآيات السابقة- تتحدث حول طبيعة مصارف الفي ء الستّة، التي تشمل الأموال والغنائم التي حصل عليها المسلمون بغير حرب، وقد أوضحت الآية المعني باليتامى والمساكين وأبناء السبيل، مع التأكيد على المقصود من أبناء السبيل بلحاظ أنّهم يشكّلون أكبر رقم من عدد المسلمين المهاجرين في ذلك الوقت، حيث تركوا أموالهم ووطنهم نتيجة الهجرة، وكانوا فقراء بعد أن هجروا الدنيا من أجل دينهم. يقول تعالى: «لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ».

هنا بيّنت الآية ثلاثة أوصاف مهمة وأساسية للمهاجرين الأوائل، تتلخص ب:

«الإخلاص» و «الجهاد» و «الصدق».

وفي الآية اللاحقة يستعرض سبحانه ذكر مورد آخر من موارد صرف هذه الأموال، ومن بين ما يستعرضه في الآية الكريمة أيضاً وصف رائع ومعبّر جدّاً عن طائفة الأنصار، ويكمل البحث الذي جاء في الآية السابقة حول المهاجرين، فيقول سبحانه: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُو الدَّارَ وَ الْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ».

«تبؤوا»: من مادة «بواء» وهي في الأصل بمعنى تساوي أجزاء المكان. وبعبارة اخرى يقال: (بواء) لترتيب وتسوية مكان (ما)، هذا التعبير كناية لطيفة لهذا المعنى، وهو أنّ طائفة الأنصار- أهل المدينة- قد هيّؤوا الأرضية المناسبة للهجرة.

والتعبير «تَبَوَّءُو» يوضّح لنا أنّ الأنصار لم يهيّؤوا بيوتهم لاستقبال المهاجرين فحسب، بل إنّهم فتحوا قلوبهم ونفوسهم وأجواء مجتمعهم قدر المستطاع للتكيّف في التعامل مع وضع الهجرة المرتقب.

وجملة «مِن قَبْلِهِمْ» يوضّح لنا أنّ كل تلك الامور كانت قبل هجرة مسلمي مكة، وهذا أمر مهمّ.

ثم يتطرق سبحانه إلى بيان ثلاث صفات اخرى توضّح روحية الأنصار بصورة عامة، حيث يقول تعالى: «يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ».

فلا فرق بين المسلمين في وجهة نظرهم والمهمّ لديهم هو مسألة الإيمان والهجرة وهذا الحبّ كان يعتبر خصوصية مستمرّة لهم.

مختصر

الامثل، ج 5، ص: 137

والأمر الآخر: «وَلَا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا». فهم لا يطمعون بالغنائم التي اعطيت للمهاجرين، ولا يحسدونهم عليها، ولا حتى يحسّون بحاجة إلى ما اعطي للمهاجرين منها.

ويضيف تعالى في المرحلة الثالثة إلى وصفهم: «وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ» «1».

ومن هذه السمات الثلاث: «المحبّة» و «عدم الطمع» و «الايثار»، كانت تتشكّل خصوصية الأنصار المتميزة.

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوم بني النضير للأنصار:

«إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وتشاركونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم، ولم يقسم لكم شي ء من الغنيمة». فقال الأنصار: بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة، ولا نشاركهم فيها فنزلت الآية.

وفي نهاية الآية- ولمزيد من التأكيد لهذه الصفات الكريمة، وبيان تأثيرها الإيجابي العميق- يضيف سبحانه: «وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».

«الشحّ»: البخل مقترناً بالحرص عادةً؛ و «يوق»: من مادة وقاية.

وفي الكافي عن الفضل بن أبي قرة قال: قال الصادق عليه السلام: «تدري ما الشحيح»؟ قلت: هو البخيل. قال: «الشحّ أشدّ من البخل، إنّ البخيل يبخل بما في يده، والشحيح يشحّ على ما في أيدي الناس، وعلى ما في يديه، حتى لا يرى مما في أيدي الناس شيئاً إلّاتمنّى أن يكون له بالحلّ والحرام، ولا يقنع بما رزقه اللَّه».

وفي آخر آية مورد البحث يأتي الحديث عن آخر طائفة من المسلمين، الذين عرفوا بيننا باصطلاح القرآن الكريم ب (التابعين)، والذين يشكّلون المجموعة الغالبة من المسلمين بعد المهاجرين والأنصار الذين تحدّثت عنهم الآيات السابقة. يقول تعالى: «وَالَّذِينَ جَاءُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلًّا

لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ».

______________________________

(1) «خصاصة»: من مادة «خصاص» بمعنى الشقوق التي توجد في جدران البيت، ولأنّ الفقر في حياة الإنسان يمثّل شقّاً، لذا عبّر عنه بالخصاصة. مختصر الامثل، ج 5، ص: 138

وبهذا الترتيب فإنّ خصوصياتهم هي: (تربية النفس) و (الإحترام للسابقين في الإيمان) و (الإبتعاد عن الحسد والبغضاء).

والتعبير ب (إخوان) والإستمداد من الرؤوف الرحيم في نهاية الآية يحكي عن روح المحبّة والصفاء والاخوّة التي يجب أن تسود المجتمع الإسلامي أجمع، فكل شخص يتمنّى صفة حسنة لا يتمنّاها لنفسه فحسب.

إنّ الآيد أعلاه لبيان هذه الحقيقة وهي أنّ أموال «الفي ء» لا تنحصر بمحتاجي المهاجرين والأنصار فقط، بل تشمل سائر المحتاجين من المسلمين على مرّ العصور.

بحث

الصحابة في ميزان القرآن والتاريخ: يصرّ بعض المفسرين- بدون الإلتفات إلى الصفات التي مرّت بنا في الآيات السابقة لكل من المهاجرين والأنصار والتابعين- على إعتبار جميع الصحابة بدون استثناء متّصفين بجميع الصفات الإيجابية (للمهاجرين والأنصار والتابعين) وأنّهم نموذج يقتدى بهم من حيث نزاهتهم وطهرهم والتسامح فيما بينهم، وكل خلاف صدر منهم أحياناً سواء في زمن الرسول صلى الله عليه و آله أو من بعده فإنّهم يغضّون النظر عنه، وبهذا اعتبروا كل مهاجر وأنصاري وتابع شخصاً محترماً ومقدّساً بصورة عامة، دون الإلتفات إلى أعمالهم وتقييمها حسب الموازين الشرعية.

إلّا أنّ الملاحظ أنّ في الآيات أعلاه رفض واضح إزاء هذا الفهم، حيث تحدّد الآية التقييم وفق ضوابط وموازين دقيقة للمهاجرين الحقيقيين والأنصار والتابعين.

ففي «المهاجرين»: الإخلاص والجهاد والصدق.

وفي «الأنصار»: المحبة للمهاجرين والإيثار، والإبتعاد عن كل حرص وبخل.

وفي «التابعين»: بناء أنفسهم، والإحترام للسابقين في الإيمان، والإبتعاد عن كل بغض وحسد.

إنّنا في الوقت الذي نحترم فيه السابقين في خطّ الرسالة والإيمان، يجدر بنا أن ندقّق في سوابقهم

وملفّ فعالهم، سواء على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أو المخاضات المختلفة التي حدثت بعده في التاريخ الإسلامي، وعلى أساس الضوابط والمعايير الإسلامية المستلهمة من هذه الآيات المباركات نحكم لهم أو عليهم، وعندئذ نقوّي أواصرنا مع من بقي على العهد، ونقطعها أو نحدّدها- بما يناسب- مع من ضعفت روابطهم أو قطعوها مع تلك الموازين والضوابط، وهذا هو المنطق الصحيح والمنسجم مع حكم القرآن والعقل.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 139

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَ لَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَ قُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)

سبب النّزول

في تفسير روح البيان: إنّ قسماً من منافقي المدينة- كعبد اللَّه بن ابي وأصحابه- أرسلوا إلى بني النضير وأبلغهم بما يلي: لا تخرجوا من دياركم وأقيموا في حصونكم فإنّ معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب يدخلون حصنكم ويموتون عن آخرهم قبل أن يوصل إليكم وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان فطمع بنو النضير فيما قاله اللعين وهو جالس في بيته حتى قال أحد سادات بني النضير وهو سلام بن مشكم لحيي بن أخطب الذي كان هو المتولي لأمر بني النضير واللَّه يا حيي إنّ قول ابن ابي لباطل وليس بشي ء وإنّما يريد أن يورطك

في الهلكة حتى تحارب محمّداً فيجلس في بيته يتركك فقال حيي نأبى الاعداوة محمّد والا قتاله فقال سلام فهو واللَّه جلاؤنا من أرضنا وذهاب أموالنا وشرفنا وسبى ذرارينا مع قتل مقاتلينا فكان ما كان كما سبق في أوّل السورة وفيه حجة بينة لصحة النبوة واعجاز القرآن.

التّفسير

دور المنافقين في فتن اليهود: بعد بيان ما جرى ليهود بني النضير في الآيات السابقة، وبيان حالة الأصناف الثلاثة من المؤمنين، يتعرّض القرآن الكريم الآن لشرح حالة المنافقين ودورهم في هذا الحادث، وفي البداية يتحدث مع الرسول صلى الله عليه و آله حيث يقول سبحانه: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ

مختصر الامثل، ج 5، ص: 140

وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ». وهكذا فإنّ هؤلاء المنافقين وعدوا طائفة اليهود بامور ثلاثة، وجميعها كانت كاذبة.

ولهذا السبب يقول القرآن الكريم بصراحة: «وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ».

أجل، لقد كان المنافقون كاذبين دائماً، والكاذبون منافقين غالباً.

ثم ... للإيضاح والتأكيد الأكثر حول كذب المنافقين يضيف سبحانه:

«لَئِنْ أُخْرِجُوا لَايَخْرُجُونَ مَعَهُمْ». «وَلَئِن قُوتِلُوا لَايَنصُرُونَهُمْ». «وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ». «ثُمَّ لَايُنصَرُونَ».

والآية اللاحقة تتحدث عن سبب هذا الإندحار، حيث يقول سبحانه: «لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِى صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ».

ولأنّهم لا يخافون اللَّه، فإنّهم يخافون كل شي ء خصوصاً إذا كان لهم أعداء مؤمنون مثلكم: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّايَفْقَهُونَ».

ثم يستعرض دليلًا واقعياً واضحاً يعبّر عن حالة الخوف والاضطراب حيث يقول سبحانه: «لَايُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ».

«قرى»: جمع قرية، أعمّ من المزروعة وغير المزروعة، وتأتي أحياناً بمعنى الناس المجتمعين في مكان واحد.

«محصّنة»: من مادة «حصن» بمعنى مسوّرة، وبناءً على هذا فإنّ (القرى المحصّنة) تعني القرى التي تكون في

أمان بوسيلة أبراجها وخنادقها والمواضع التي تعيق تقدّم العدو فيها.

نعم، بما أنّهم خرجوا من حصن الإيمان والتوكل على اللَّه، فإنّهم بغير الإلتجاء والإتّكاء على الجدران والقلاع المحكمة لا يتجرّؤون على مواجهة المؤمنين.

ثم يوضّح أنّ هذا ليس ناتجاً عن جهل بمعرفة فنون الحرب، أو قلة في عددهم وعدّتهم، أو عجز في رجالهم، بل إنّ «بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ».

ولهذا السبب- واستمراراً لما ورد في نفس الآية- نستعرض سبباً آخر من أسباب إندحار المنافقين، حيث يقول سبحانه: «تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 141

وهكذا فإنّ الإنسجام الظاهري للعناصر غير المؤمنة والإتفاقيات العسكرية والاقتصادية يجب ألّا تخدعنا أبداً، لأنّ وراءها قلوب متناحرة متنافرة، ودليلها واضح وهو إنهماك كل منهم بمنافعه المادية بشكل شديد، وبما أنّ المنافع غالباً ما تكون متعارضة، فعندئذ تبرز الاختلافات والشحناء فيما بينهم، ولن تغني عن ذلك العهود والإتفاقيات وشعارات الوحدة والانسجام الظاهري. في الوقت الذي تكون فيه وحدة وانسجام المؤمنين على قواعد واصول ربانية كأصل الإيمان والتوحيد والقيم الإلهية.

كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَ ذلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَ لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يستمرّ البحث في هذه الآيات حول قصة بني النضير والمنافقين ورسم خصوصية كل منهم

في تشبيهين رائعين: يقول سبحانه في البداية: «كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

تحدّثنا هذه الآية عن ضرورة الاعتبار بما جرى لبني النضير والقوم الذين كانوا من قبلهم وما جرى لهم.

ويعتقد كثير من المفسرين أنّ المقصود بقوله «الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ» هو إشارة إلى قصة يهود «بني قينقاع»، التي حدثت بعد غزوة بدر، وانتهت بإخراجهم من المدينة، لأنّ يهود بني قينقاع كيهود بني النضير كانوا ذوي ثراء ومغرورين بقدرتهم القتالية، يهدّدون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والمسلمين بقوّتهم وقدرتهم العسكرية إلّاأنّ العاقبة لم تكن غير حصاد التيه والتعاسة في الدنيا والعذاب في الآخرة.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 142

«وبال»: بمعنى (عاقبة الشؤم والمرارة) وهي في الأصل مأخوذة من «وابل» بمعنى المطر الغزير، لأنّ المطر الغزير غالباً ما يكون مخيفاً.

ثم يستعرض القرآن الكريم تشبيهاً للمنافقين حيث يقول سبحانه: «كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّى بَرِى ءٌ مّنكَ إِنّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ».

والمقصود ب «الإنسان» في هذه الآية هو مطلق الإنسان الذي يقع تحت تأثير الشيطان، وينخدع بأحابيله ووعوده الكاذبة، ويسير به في طريق الكفر والضلال، ثم إنّ الشيطان يتركه ويتبرّأ منهم.

نعم، هكذا حال المنافقين حيث يدفعون بحلفائهم من خلال الوعود الكاذبة والمكر والحيلة إلى اتون المعارك والمشاكل ثم يتركونهم لوحدهم، ويتخلّون عنهم، لأنّ الوفاء لا يجتمع والنفاق.

وتتحدث الآية اللاحقة عن مصير هاتين الجماعتين (الشيطان وأتباعه، والمنافقين وحلفائهم من أهل الكفر) وعاقبتهما البائسة، حيث النار خالدين فيها، فيقول سبحانه عنهم: «فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِى النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَذلِكَ جَزَاؤُا الظَّالِمِينَ».

وهذا أصل كلّي فإنّ عاقبة تعاون الكفر والنفاق، والشيطان وحزبه، هو الهزيمة والخذلان، وعدم الموفّقية، وعذاب الدنيا والآخرة، في الوقت الذي تكون

ثمره تعاون المؤمنين وأصدقائهم تعاون وثيق وبنّاء، وعاقبته الخير ونهايته الانتصار والتمتع بالرحمة الإلهية الواسعة في عالم الدنيا والآخرة.

وتوجّه الآية اللاحقة حديثها للمؤمنين بعنوان استنتاج من حالة الشؤم والبؤس التي اعترت المنافقين وبني النضير والشياطين، حيث يقول تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لَغَدٍ».

إنّ هذه الذخيرة الاخروية تمثّل أكبر رأسمال حقيقي للإنسان في مشهد يوم القيامة، لذا فإنّ هذا النوع من الأعمال الصالحة يلزم إعداده وتهيئته وإرساله مسبقاً، وإلّا فلا أحد يهتمّ له بعد وفاته وإنقضاء أجله، وإذا ارسل شيئاً فليس له شأن يذكر.

ثم يضيف تعالى مرّة اخرى للتأكيد بقوله: «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ».

نعم، التقوى والخوف من اللَّه يدعوان الإنسان للتفكير بيوم غده (القيامة) بالإضافة إلى السعي إلى تنقية وتخليص وتطهير أعماله.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 143

وأكّدت الآية اللاحقة بعد الأمر بالتقوى والتوجّه إلى يوم القيامة على ذكر اللَّه سبحانه، حيث يقول تعالى: «وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ».

وأساساً فإنّ جوهر التقوى شيئان: ذكر اللَّه تعالى، وذلك بالتوجّه والإنشداد إليه من خلال المراقبة الدائمة منه واستشعار حضوره في كل مكان وفي كل الأحوال، والخشية من محكمة عدله ودقّة حسابه الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّاأحصاها في صحيفة أعمالنا ...

ولذا فإنّ التوجّه إلى هذين الأساسين (المبدأ والمعاد) كان على رأس البرامج التربوية للأنبياء والأولياء، وذلك لتأثيرها العميق في تطهير الفرد والمجتمع.

وأساساً فإنّ النسيان- بحدّ ذاته- من أكبر مظاهر تعاسة الإنسان وشقائه، لأنّ قيمة الإنسان في قابلياته ولياقاته الذاتية وطبيعة خلقه التي تميّزه عن الكثير من المخلوقات، وإذا نسيها فهذا يعني نسيان إنسانيته، وفي مثل هذه الحالة يسقط الإنسان في وحل الحيوانية، ويصبح همّه الأكل والشرب والنوم والشهوات.

وهذه

كلّها عامل أساس للفسق والفجور، بل إنّ نسيان الذات هو من أسوأ مصاديق الفسق والخروج عن طاعة اللَّه، ولهذا يقول سبحانه: «أُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ».

وفي آخر آية- مورد البحث- يستعرض سبحانه مقارنة بين هاتين الجماعتين: الجماعة المؤمنة المتّقية السائرة باتّجاه المبدأ والمعاد، والجماعة الغافلة عن ذكر اللَّه، التي ابتليت كنتيجة للغفلة عن اللَّه بنسيان ذاتها، حيث يقول سبحانه: «لَايَسْتَوِى أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ».

ليس في الدنيا، ولا في المعتقدات، وليس في طريقة التفكير والمنهج، وليس في طريقة الحياة الفردية والاجتماعية للإنسان وأهدافه، ولا في المحصّلة الاخروية والجزاء الإلهي ... إذ إنّ خطّ كل مجموعة من هاتين المجموعتين في اتّجاه متعارض ... متعارض في كل شي ء وكل مكان وكل هدف ... إحداهما تؤكّد على ذكر اللَّه والقيامة وإحياء القيم الإنسانية الرفيعة، والقيام بالأعمال الصالحة كذخيرة ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ... والاخرى غارقة في الشهوات واللذات المادية، وأسيرة الأهواء ومبتلية بالنسيان .. وبهذا فإنّ الإنسان على مفترق طريقين، إمّا أن يرتبط بالقسم الأوّل، أو بالقسم الثاني، وليس غيرهما من سبيل آخر.

وفي نهاية الآية نلاحظ حكماً قاطعاً حيث يضيف سبحانه: «أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 144

فليس في الدار الآخرة فقط يوجد (فائزون وخاسرون) بل في هذه الدنيا أيضاً، حيث يكون الإنتصار والنجاة والسكينة من نصيب المؤمنين المتقين، كما أنّ الهزيمة والخسران في الدارين تكون من نصيب الغافلين.

لَوْ أَنْزَلْنَا هذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَ تِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ

الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) لو نزل القرآن على جبل: تكملة للآيات السابقة التي كانت تهدف إلى تحريك النفوس والقلوب الإنسانية، وخاصة عن طريق التذكير بالنهاية التي يكون عليها الإنسان، والمصير الذي ينتظره، والذي يجدر أن يهيّئه في أبهى وأفضل صورة ... تأتي هذه الآيات المباركات التي هي آخر آيات سورة الحشر، والتي تأخذ بنظر الاعتبار مجمل ما ورد من آيات هذه السورة، لتوضّح حقيقة اخرى حول القرآن الكريم، وهي: أنّ هذا الكتاب المبارك له تأثير عميق جدّاً حتى على الجمادات، حيث إنّه لو نزل على الجبال لهزّها وحرّكها وجعلها في وضع من الإضطراب المقترن بالخشوع إلّا أنّه- مع الأسف- هذا الإنسان القاسي القلب يسمع آيات اللَّه تتلى عليه ولا تتحرّك روحه ولا يخشع قلبه. يقول سبحانه: «لَوْ أَنزَلْنَا هذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدّعًا مّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» «1».

وقد حملها البعض الآخر على ظاهرها وقالوا: إنّ كل الموجودات في هذا العالم- ومن جملتها الجبال- لها نوع من الإدراك والشعور الخاصّ بها، وإذا نزلت هذه الآيات عليها فإنّها

______________________________

(1) «متصدّع»: من مادة «صدع»، بمعنى شقّ الأشياء القوية، كالحديد والزجاج، وإذا قيل لوجع الرأس: صداع، فإنّه بسبب شعور الإنسان أنّ رأسه يريد أن يتشقّق من الألم.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 145

ستتلاشى، ودليل هذا ما ورد في الآية (74) من سورة البقرة في وصف جماعة من اليهود.

قال تعالى: «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذلِكَ فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ

وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِن خَشْيَةِ اللَّهِ».

الآيات اللاحقة تستعرض قسماً مهمّاً من صفات جمال وجلال اللَّه سبحانه، التي لكل واحدة منها الأثر العميق في تربية النفوس وتهذيب القلوب، وتحوي الآيات القرآنية الثلاثة خمسة عشر وصفاً للَّه سبحانه. أو بتعبير آخر: فإنّ ثماني عشرة صفة من صفاته العظيمة تذكرها ثلاث آيات، وكل منها تتعلّق ببيان التوحيد الإلهي والاسم المقدس، وتوضّح للإنسان طريق الهداية إلى العالم النوراني لأسماء وصفات الحق سبحانه. يقول تعالى: «هُوَ اللَّهُ الَّذِى لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ».

هنا وقبل كل شي ء يؤكّد على مسألة التوحيد، التي هي أصل لجميع صفات الجمال والجلال، وهي الأصل والأساس في المعرفة الإلهية، ثم يذكر علمه بالنسبة للغيب والشهود.

ثم يعتمد على رحمته العامة التي تشمل جميع الخلائق: (الرحمن) ورحمته الخاصة التي تخصّ المؤمنين، (والرحيم) لتعطي للإنسان أملًا، ولتعينه في طريق بناء نفسه والتكامل بأخلاقه وسلوكه بالسير نحو اللَّه.

أمّا في الآية اللاحقة، فبالإضافة إلى التأكيد على مسألة التوحيد فإنّها تذكر ثمانية صفات اخرى للَّه سبحانه، حيث يقول الباري ء عزّ وجل: «هُوَ اللَّهُ الَّذِى لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ». «الْمَلِكُ» الحاكم والمالك الحقيقي لجميع الكائنات.

«الْقُدُّوسُ» المنزّه من كل نقص وعيب.

«السَّلمُ» لا يظلم أحد، وجميع الخلائق في سلامة من جهته.

ثم يضيف سبحانه:

«الْمُؤْمِنُ» يعطي الأمان لأحبّائه، ويتفضّل عليهم بالإيمان.

«الْمُهَيْمِنُ» الحافظ والمراقب لكل شي ء.

«الْعَزِيزُ» القادر الذي لا يقهر.

«الْجَبَّارُ»: مأخوذ من (جبر) وقد ورد هذا المصطلح عشر مرّات في القرآن الكريم، تسع مرّات حول الأشخاص الظالمين والمستكبرين المتسلّطين على رقاب الامّة والمفسدين في الأرض ومرّة واحدة فقط عن اللَّه القادر المتعال، حيث ورد بهذا المعنى في الآية مورد البحث.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 146

ثم يضيف سبحانه: «الْمُتَكَبّرُ».

«المتكبّر»: من مادة «تكبّر» وجاءت بمعنيين:

الأوّل: إستعملت صفة المدح، وقد

اطلقت على لفظ الجلالة، وهو إتّصافه بالعلو والعظمة والسمات الحسنة بصورة عامة.

والثاني: استعملت صفة الذم وهو ما يوصف به غير اللَّه عزّ وجل.

ولأنّ العظمة وصفات العلو والعزة لا تكون لائقة لغير مقام اللَّه سبحانه، لذا استعمل هذا المصطلح هنا بمعناه الإيجابي حول اللَّه سبحانه، وكلّما إستعمل لغير اللَّه أعطى معنى الذم.

وفي نهاية الآية يؤكّد مرّة اخرى مسألة التوحيد التي كان الحديث حولها ابتداءً حيث يقول تعالى: «سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ».

وفي آخر آية مورد البحث يشير سبحانه إلى ستّ صفات اخرى حيث يقول تعالى:

«هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ». «الْبَارِئُ». «الْمُصَوّرُ».

ولأنّ صفات اللَّه لا تنحصر فقط بالتي ذكرت في هذه الآية فإنّه سبحانه يشير إلى صفة أساسية لذاته المقدسة اللامتناهية، حيث يقول عزّ وجل: «لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى .

ولهذا السبب فإنّه سبحانه منزّه ومبرّأ من كل عيب ونقص: «يُسَبّحُ لَهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ». ويعتبرونه تامّاً وكاملًا من كل نقص وعيب.

وأخيراً- للتأكيد الأكثر على موضوع نظام الخلقة- يشير سبحانه إلى وصفين آخرين من صفاته المقدسة، التي ذكر أحدهما في السابق بقوله تعالى: «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

الاولى دليل كمال قدرته على كل شي ء، وغلبته على كل قوّة.

والثانية إشارة إلى علمه وإطّلاعه ومعرفته ببرامج الخلق وتنظيم الوجود وتدبير الحياة.

إنّ مجموع ما ورد في الآيات الثلاث بالإضافة إلى مسألة التوحيد التي تكرّرت مرّتين، فإنّ مجموع الصفات المقدسة للَّه سبحانه تكون سبع عشرة صفة مرتبة بهذا الشكل: 1- عالم الغيب والشهادة، 2- الرحمن، 3- الرحيم، 4- الملك، 5- القدوس، 6- السلام، 7- المؤمن، 8- المهيمن، 9- العزيز، 10- الجبار، 11- المتكبر، 12- الخالق، 13- الباري ء، 14- المصور، 15- الحكيم، 16- له الأسماء الحسنى، 17- الموجود الذي تسبّح له كل موجودات العالم.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 147

إنّ هذه

الآيات تأخذ بيد السائرين في طريق معرفة اللَّه، وتقودهم من درجة إلى درجة ومن منزل إلى منزل، حيث تبدأ الآيات أوّلًا بالحديث عن ذاته المقدسة، ومن ثم إلى عالم الخلقة، وتارةً اخرى بالسير نحو اللَّه تعالى، حيث ترتفع روحيته إلى سمو الواحد الأحد، فيتطهّر القلب بالأسماء والصفات الإلهية المقدسة، ويربى في أجواء هذه الأنوار والمعارف، حيث تنمو براعم التقوى على ظاهر أغصان وجوده، وتجعله لائقاً لقرب جواره لكي يكون وجوداً منسجماً مع كل ذرّات الوجود، مردّدين معاً ترانيم التسبيح والتقديس.

إنّ الآيات الأخيرة لهذه السورة آيات خارقة وعظيمة وملهمة، وهي درس تربوي كبير للإنسان.

في تفسير مجمع البيان: روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«اسم اللَّه الأعظم في ستّ آيات في آخر سورة حشر».

وعن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأ آخر سورة الحشر، غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر».

«نهاية تفسير سورة الحشر»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 149

60. سورة الممتحنة

محتوى السورة: تتكوّن موضوعات هذه السورة من قسمين:

1- يتحدث عن موضوع «الحبّ في اللَّه» و «البغض في اللَّه»، وينهى عن عقد الولاء والودّ مع المشركين، ويدعو المسلمين لكي يستلهموا من سيرة الرسول العظيم إبراهيم عليه السلام فيما يتعلّق بموقفه من أقرب الأقربين إليه (أبيه آزر) بلحاظ ما يمليه عليه الموقف المبدئي، كما تذكر بعض الخصوصيات الاخرى في هذا المجال ويتكرّر هذا المعنى في نهاية السورة، كما في بدايتها.

2- يتناول هذا القسم مسائل المرأة المهاجرة وضرورة تمحيصها، كما يبيّن أحكاماً اخرى في هذا الصدد.

واختيار اسم (الممتحنة) لهذه السورة كان بلحاظ حالة التمحيص والإمتحان التي وردت في الآية العاشرة من هذه السورة «1».

كما ذكر اسم

آخر لهذه السورة وهو (سورة المودّة) وذلك بلحاظ النهي عن عقد الولاء والودّ مع المشركين، وقد أكّدت عليه السورة كثيراً.

______________________________

(1) قرأها البعض «ممتحَنة» (بفتح الحاء) وذلك بسبب حالة التمحيص والإمتحان للنسوة المهاجرات، وقرأها آخرون «ممتحِنة» (بكسر الحاء) وذلك لأنّ موضوعات السورة- أجمع- كانت وسيلة للامتحان والتمحيص.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 150

مختصر الامثل ج 5 169

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان: عن ابي بن كعب قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«ومن قرأ سورة الممتحنة، كان المؤمنون والمؤمنات له شفعاء يوم القيامة».

إنّ هذه النعم والألطاف الإلهية تكون للأشخاص الذين لا يكتفون بالتلاوة السطحية الفارغة من محتوى الروح، والبعيدة عن العلم والعمل.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ أَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَ مَا أَعْلَنْتُمْ وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَ لَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، وذلك أنّ سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هشام، أتت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من مكة إلى المدينة بعد بدر بسنتين، فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «أمسلمة جئت»؟ قالت: لا. قال: «أمهاجرة جئت»؟ قالت: لا. قال: «فما جاء بك»؟ قالت: كنتم الأصل والعشيرة والموالي،

وقد ذهب موالي واحتجت حاجة شديدة، فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني! قال: «فأين أنت من شباب مكة»؟ وكانت مغنية نائحة. قالت: ما طلب منّي بعد وقعة بدر [وهذا يدلّ على عمق النازلة التي نزلت بمشركي قريش في بدر]؛ فحثّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عليها بني عبدالمطلب، فكسوها وحملوها، وأعطوها نفقة. وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يتجهّز لفتح مكة، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة وكتب معها كتاباً إلى أهل مكة، وأعطاها عشرة دنانير وكساها برداً على أن توصل الكتاب إلى أهل مكة وكتب في الكتاب: «من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة إنّ رسول اللَّه يريدكم فخذوا حذركم»! فخرجت سارة ونزل جبرائيل فأخبر النبي صلى الله عليه و آله بما فعل، فبعث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله

مختصر الامثل، ج 5، ص: 151

علياً وعمّاراً وعمر والزبير وطلحة والمقداد بن الأسود، وأبا مرثد وكانوا كلّهم فرساناً وقال لهم: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإنّ بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى المشركين، فخذوه منها. فخرجوا حتى أدركوها في ذلك المكان الذي ذكره رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالوا لها: أين الكتاب؟ فحلفت باللَّه ما معها من كتاب، فنحوها وفتّشوا متاعها فلم يجدوا معها كتاباً، فهمّوا بالرجوع. فقال علي عليه السلام: «واللَّه ما كذبنا ولا كُذِبنا»، وسلّ سيفه وقال لها: «أخرجي الكتاب وإلّا واللَّه لأضربنّ عنقك»! فلمّا رأت الجدّ أخرجته من ذؤابتها قد أخبأته في شعرها.

فرجعوا بالكتاب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فأرسل إلى حاطب فأتاه، فقال له: «هل تعرف الكتاب»؟ قال: نعم. قال: «فما حملك على ما صنعت»؟ قال: يا رسول اللَّه! واللَّه ما

كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلّاوله بمكة من يمنع عشيرته وكنت عريراً فيهم [أي غريباً] وكان أهلي بين ظهرانيهم فخشيت على أهلي فأردت أن أتّخذ عندهم يداً، وقد علمت أنّ اللَّه ينزل بهم بأسه وأنّ كتابي لا يغني عنهم شيئاً، فصدقه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعذره. فقام عمر بن الخطاب وقال:

دعني يا رسول اللَّه أضرب عنق هذا المنافق. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «وما يدريك يا عمر لعلّ اللَّه اطّلع على أهل بدر فغفر لهم فقال لهم: إعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».

[وكيفية العلاقة التي يجب أن تتحكّم بين المسلمين من جهة، والمشركين وأعداء اللَّه من جهة اخرى، والتأكيد على إلغاء وتجنّب أي ولاء مع أعداء اللَّه .

التّفسير

نتيجة الولاء لأعداء اللَّه: علمنا مما تقدّم أنّ سبب نزول الآيات السابقة هو التصرف المشين الذي صدر من أحد المسلمين (حاطب بن أبي بلتعة) ورغم أنّه لم يكن قاصداً التجسّس إلّاأنّ عمله نوع من إظهار المودّة لأعداء الإسلام، فجاءت الآيات الكريمة تحذّر المسلمين من تكرار مثل هذه التصرفات مستقبلًا وتنهاهم عنها.

يقول سبحانه في البداية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَتَّخِذُوا عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ». مؤكّداً أنّ أعداء اللَّه وحدهم هم الذين يضمرون العداء للمؤمنين والحقد عليهم، ومع هذا التصور فكيف تمدّون يد الصداقة والودّ لهم.

ويضيف تعالى: «تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مّنَ الْحَقّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبّكُمْ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 152

إنّهم يخالفونكم في العقيدة، كما أنّهم شنّوا عليكم الحرب عمليّاً، ويعتبرون إيمانكم باللَّه- الذي هو أكبر فخر لكم وأعظم قداسة تجلّلكم- غاية الجرم وأعظم الذنب، ومع هذه

الأعمال التي مارسوها معكم، هل من المناسب إظهار المودّة لهم.

ثم يضيف القرآن الكريم موضّحاً: «إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِى سَبِيلِى وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِى». فلا تعقدوا معهم أواصر الولاء والودّ.

فإذا كنتم ممّن تدّعون حبّ اللَّه حقّاً، وهاجرتم من دياركم لأجله سبحانه وترغبون في الجهاد في سبيله طلباً لرضاه تعالى، فإنّ هذه الأهداف العظيمة لا يناسبها إظهار الولاء لأعداء اللَّه سبحانه.

ثم يضيف عزّ وجل للمزيد من الإيضاح فيقول: «تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ».

وبناءً على هذا فما عسى أن يغني الإخفاء وهو واقع بعلم اللَّه في الغيب والشهود؟

وفي نهاية الآية نجد تهديداً شديداً لمن يجانب السبيل الذي أمر به اللَّه سبحانه بقوله:

«وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ».

فمن جهة انحرف عن معرفة اللَّه تعالى بظنّه أنّ اللَّه لا يعلم ولا يرى ما يصنع، وكذلك إنحرف عن طريق الإيمان والإخلاص والتقوى، حينما يعقد الولاء وتقام أواصر المودّة مع أعداء اللَّه، وبالإضافة إلى ذلك فإنّه وجّه ضربة قاصمة إلى حياته حينما أفشى أسرار المسلمين إلى الأعداء، ويمثّل ذلك أقبح الأعمال وأسوأ الممارسات حينما يسقط الشخص المؤمن بهذا الوحل ويقوم بمثل هذه الأعمال المنحرفة بعد بلوغه مرتبة الإيمان والقداسة.

وفي الآية اللاحقة يضيف سبحانه للتوضيح والتأكيد الشديد في تجنّب موالاتهم: «إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ» «1».

أنتم تكنّون لهم الودّ في الوقت الذي يضمرون لكم حقداً وعداوة عميقة ومتأصّلة، وإذا ما ظفروا بكم فإنّهم لن يتوانوا عن القيام بأي عمل ضدّكم.

والأدهى من ذلك هو سعيهم الحثيث في ردّكم عن دينكم وإسلامكم، والعمل على تجريدكم من أعظم مكسب وأكبر مفخرة لكم، وهي حقيقة الإيمان: «وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ».

______________________________

(1) «يثقفوكم»: من مادة: «ثقف» و «ثقافة»، بمعنى المهارة في

تشخيص أو إنجاز شي ء ما، ولهذا السبب تستعمل- أيضاً- بمعنى الثقافة أو التمكّن والتسلّط المقترن بمهارة على الشي ء.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 153

وفي آخر آية من هذه الآيات يستعرض سبحانه الجواب على حاطب بن أبي بلتعة ومن يسايره في منهجه من الأشخاص، حينما قال في جوابه لرسول اللَّه عن السبب الذي حدا به إلى إفشاء أسرار المسلمين لمشركي مكة، حيث قال بلتعة: أهلي وعيالي في مكة، وأردت أن أمنع عنهم الأذى وأصونهم بعملي هذا، (واتّخذ عند أهلها يداً). يقول تعالى: «لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلدُكُمْ».

وذلك لأنّ الأرحام والأولاد المشركين سوف لن يجلبوا خيراً وعزّة في الدنيا ولا نجاة في الآخرة.

ثم يضيف تعالى: «يَوْمَ الْقِيمَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ».

وهذا تأكيد على أنّ مقام أهل الإيمان هو الجنة، وأنّ أهل الكفر يساقون إلى جهنم وبئس المصير.

وفي نهاية الآية يحذّر الجميع مرّة اخرى بقوله تعالى: «وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».

إنّه عالم بنيّاتكم، وعالم بالأعمال التي تصدر منكم، سواء كانت في حالة السرّ أو العلن، وإذا كانت المصلحة الإلهية تقتضي عدم إفشاء أسراركم أحياناً كما في حادثة حاطب بن أبي بلتعة، فلأنّها لحكمة أو مصلحة يراها سبحانه، وليس لأنّه لا يعلم بها أو تخفى عليه خافية.

قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَ بَدَا بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَ الْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَ مَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنَا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ اغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ

لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) إنّ منهج القرآن (من أجل التأكيد على تعاليمه القيّمة) يعتمد في كثير من الموارد طريقة الاستشهاد بنماذج أساسية في عالم الإنسانية والحياة، وبعد التشديد السابق الذي مرّ بنا خلال الآيات السابقة في تجنّب عقد الولاء لأعداء اللَّه، يتحدث القرآن الكريم عن

مختصر الامثل، ج 5، ص: 154

إبراهيم عليه السلام ومنهجه القدوة كنموذج رائد يحظى باحترام جميع الأقوام وخصوصاً العرب منهم. قال تعالى: «قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ».

والمراد من تعبير «الَّذِينَ مَعَهُ» هم المؤمنون الذين ساروا برفقته في هذا الطريق بالرغم من قلّة عددهم. ثم يضيف سبحانه لتوضيح هذا المعنى: «إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاؤُا مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ».

ومرّة اخرى يؤكّدون مضيفين: «كَفَرْنَا بِكُمْ». والكفر هنا هو كفر البراءة الذي اشير له في بعض الروايات ضمن ما ورد في تعدّد أقسام الكفر الخمسة.

ويضيفون للمرّة الثالثة مؤكّدين بصورة أشدّ: «وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ».

وبهذا الإصرار وبهذه القاطعية وبدون أي تردّد أو مواربة يعلن المؤمنون انفصالهم وإبتعادهم ونفرتهم من أعداء اللَّه حتى يؤمنوا باللَّه وحده، وهم مستمرّون في موقفهم وإلى الأبد ولن يتراجعوا عنه أو يعيدوا النظر فيه إلّاإذا غيّر الكفار مسارهم وتراجعوا عن خطّ الكفر إلى الإيمان.

ولأنّ هذا القانون العام كان له استثناء في حياة إبراهيم عليه السلام يتجسّد ذلك بإمكانية هداية بعض المشركين، حيث يقول سبحانه معقّباً: إنّ هؤلاء قطعوا كل إرتباط لهم مع قومهم الكافرين حتى الكلام الودود والملائم: «إِلَّا قَوْلَ إِبْرهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَىْ ءٍ». وقد عمل إبراهيم

عليه السلام بما وعد آزر به.

ويقول عزّ وجل في بيان هذا المعنى: «وَمَا كَانَ إِسْتِغْفَارُ إِبْرهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌ لِّلَّهِ تَبَّرَأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ» «1».

إنّ إبراهيم عليه السلام وأصحابه كانوا من أشدّ المخالفين والمحاربين للشرك، ولابدّ لنا من الإقتداء بهم وأخذ الدروس والعبر من سيرتهم، بما في ذلك ما يتعلق بموقفه من «آزر» إذا توفّرت لنا نفس الشروط والخصوصيات.

وبما أنّ محاربة أعداء اللَّه، والصرامة والشدّة معهم- خصوصاً مع تمتّعهم بقدرة ظاهرية- سوف لن تكون فاعلة إلّابالتوكل على اللَّه تبارك وتعالى، يضيف سبحانه في نهاية الآية:

______________________________

(1) سورة التوبة/ 114.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 155

«رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ».

وفي الآية اللاحقة يشير القرآن الكريم إلى طلب آخر مهم وحسّاس لإبراهيم عليه السلام وأصحابه في هذا المجال، حيث يقول تعالى: «رَبَّنَا لَاتَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا».

من المحتمل أن يكون ما ورد في الآية إشارة إلى عمل حاطب بن أبي بلتعة واحتمال صدور شبيهه من أشخاص جهلة يكونون سبباً في تقوية الظالمين، من حيث لا يشعرون، بل يتصورون أنّهم يعملون لمصلحة الإسلام.

ويضيف في نهاية الآية: «وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

فقدرتك يا اللَّه لا تقهر، وحكمتك نافذة في كل شي ء.

ومرّة اخرى يؤكّد سبحانه في آخر آية من هذه الآيات على نفس الأمر الذي ذكر في أوّل آية، حيث يقول تعالى: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْأَخِرَ».

لقد كانوا لنا اسوة، ليس فقط في موقفهم ضد منهج الكفر وعبدة الأوثان، بل هم اسوة لنا في الدعاء بين يدي الباري ء عزّ وجل، وقدوة لنا في طلب المغفرة منه.

وبدون شك فإنّ هذا التأسّي والإقتداء يرجع نفعه

إلى المسلمين أنفسهم قبل الآخرين، لذا يضيف سبحانه في النهاية قوله: «وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ».

وذلك أنّ عقد الولاء مع أعداء اللَّه يقوّي عودهم وشوكتهم وبالتالي يؤدّي إلى هزيمة المسلمين.

وفي الغالب فإنّ وجود القدوة في حياة البشر مؤثّر في تربيتهم وتوجيههم، ولهذا السبب فإنّ النبي الأعظم صلى الله عليه و آله والأئمة المعصومين، وبقية الأنبياء الكرام عليهم السلام كانوا موضع هداية البشرية من خلال أعمالهم والتزاماتهم.

عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَ اللَّهُ قَدِيرٌ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَ ظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 156

مودّة الكفار غير الحربيين: يستمر الحديث في هذه الآيات المباركات تكملة للموضوعات التي طرحت في الآيات السابقة حول «الحبّ في اللَّه والبغض في اللَّه» وقطع العلاقة مع المشركين، بالرغم من أنّ قطع هذه الرابطة يولّد فراغاً عاطفياً بالنسبة للبعض من المسلمين، فإنّ المؤمنين الصادقين، وأصحاب رسول اللَّه المخلصين آمنوا بهذا المنهج وثبتوا عليه، واللَّه تعالى بشّر هؤلاء ألّا يحزنوا، لأنّ الثواب هو جزاؤهم بالإضافة إلى أنّ هذه الحالة سوف لن تستمرّ طويلًا، حيث يقول سبحانه: «عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِّنْهُم مَّوَدَّةً».

ويتحقق هذا الوعد وتصدق البشارة في السنة الثامنة للهجرة حيث منّ اللَّه على المسلمين بفتح مكة، ودخل أهلها جماعات جماعات في دين الإسلام الحنيف، مصداقاً لقوله تعالى: «يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا». وعند

ذلك تتبدّد غيوم الظلمة والعداء والعناد من سماء حياتهم، وتشرق نفوسهم بنور الإيمان وحرارة الودّ وأجواء المحبة والصداقة.

وعلى كل حال، إذا تباعد بعض الناس عن خط الإسلام والمسلمين وكانت تربطهم علاقات إيجابية مع المسلمين، ففي مثل هذه الحالة لا ينبغي اليأس، لأنّ اللَّه تعالى قادر على كل شي ء، ويستطيع تغيير ما في قلوبهم، فهو الذي يغفر الذنوب والخطايا لعباده، حيث يضيف تعالى في نهاية الآية: «وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

وتبيّن الآيات اللاحقة شارحة وموضّحة طبيعة علاقة المودة مع المشركين، حيث يقول سبحانه: «لَّايَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ».

إنّ المستفاد من الآيات الكريمة حول طبيعة وكيفية العلاقة بين المسلمين وغيرهم هو (أصل كلي) لا يختص بذلك الوقت فقط، بل يمثّل خطاً عاماً لطبيعة هذه العلاقة في كل الأزمنة سواء اليوم أو غداً، في حياتنا المعاصرة والمستقبلية.

وواجب المسلمين وفق هذه الاسس أن يقفوا بكل صلابة أمام أية مجموعة، أو دولة، تتّخذ موقفاً عدائياً منهم أو تعين من أراد بالإسلام والمسلمين سوءاً ... وقطع كل صلّة قائمة على أساس المحبة والصداقة معهم.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 157

أمّا إذا كان الكفار في موقع محايد إزاء الإسلام والمسلمين، أو أنّهم متعاطفون معهم، عندئذ يستطيع المسلمون أن يقيموا علاقات حسنة ويرتبطوا وإياهم بروابط المودة على أن لا تكون بالصورة التي تكون بين المسلمين أنفسهم، ولا بالشكل الذي يؤدّي إلى تغلغلهم في صفوف المسلمين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ

فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَ آتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ لَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَ اسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَ لْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَ إِنْ فَاتَكُمْ شَيْ ءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قال ابن عباس: صالح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالحديبية مشركي مكة على أنّ من أتاه من أهل مكة، رده عليهم، ومن أتى أهل مكة من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فهو لهم، ولم يردّوه عليه، وكتبوا بذلك كتاباً، وختموا عليه. فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية، مسلمة بعد الفراغ من الكتاب والنبي صلى الله عليه و آله بالحديبية. فأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم، في طلبها، وكان كافراً. فقال: يا محمّد، اردد عليّ امرأتي، فإنّك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك وهذه طينة الكتاب لم تجفّ بعد. فنزلت الآية «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ» من دار الكفر إلى دار الإسلام «فَامْتَحِنُوهُنَّ».

قال ابن عباس: امتحانهن أن يستحلفن ما خرجت من بغض زوج، ولا رغبة عن أرض إلى أرض، ولا التماس دنيا، وما خرجت إلّاحبّاً للَّه ورسوله. فاستحلفها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فحلفت باللَّه الذي لا إله إلّاهو على ذلك. فأعطى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردّها عليه، فتزوجها عمر بن الخطاب.

فكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله

يرد من جاءه من الرجال، ويحبس من جاءه من النساء إذا امتحنّ ويعطي أزواجهن مهورهنّ.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 158

التّفسير

تعويض خسائر المسلمين والكفار: إستعرضت الآيات السابقة موضوع «البغض في اللَّه» وما يترتّب على ذلك من قطع أي صلة مع أعداء اللَّه ... أمّا موضوع هذه الآيات فهو عن «الحبّ في اللَّه» وعن طبيعة العلاقة مع الذين إنفصلوا عن الكفر وإرتبطوا بالإيمان.

وينصبّ الحديث في الآية الاولى- من هذه الآيات المباركات- عن النساء المهاجرات، حيث ضمّت هذه الآية سبع نقاط تتعلق بالنساء المهاجرات، كما تناولت نقاطاً اخرى تختص بالنساء المشركات.

النقاط التي تختص بالنساء المهاجرات هي:

1- امتحان النساء المهاجرات، حيث يوجّه سبحانه الحديث إلى المؤمنين فيقول تعالى:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ».

إنّ هذا الإمتحان هو أن يستحلفن أنّ هجرتهن لم تكن إلّامن أجل الإسلام.

كما يوجد احتمال آخر حول كيفية امتحان النسوة المهاجرات، وذلك كما ورد في الآية (12) من نفس السورة. قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلدَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

ومن الممكن أن يكون الكذب في الحلف أيضاً، فيقول البعض خلافاً لما يعتقد به، إلّاأنّ التزام الكثير من الناس حتى المشركين في ذلك الزمان بمسألة البيعة والحلف باللَّه كان سبباً في تقليص دائرة غير الصادقين.

لذا يضيف سبحانه في العبارة التالية: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ».

2- يقول سبحانه في الأمر اللاحق: «فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ».

3- في ثالث نقطة التي هي دليل على الحكم السابق يضيف تعالى: «لَاهُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ».

فالإيمان والكفر لا

يجتمعان في مكان واحد، لأنّ عقد الزواج المقدس لا يمكن أن يربط بين محورين وخطّين متضادين (خط الإيمان) من جهة و (الكفر) من جهة اخرى.

4- كان المتعارف بين العرب أن يدفعوا للمرأة مهرها سلفاً، ولهذا المعنى أشار سبحانه في قوله في الأمر الرابع: «وَءَاتُوهُمْ مَّا أَنفَقُوا».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 159

بالرغم من أنّ أزواج المؤمنات كفار فلابدّ من إعطائهم ما أنفقوا من مهور على زوجاتهم، وذلك لأنّ الطلاق والانفصال قد تمّ بمبادرة من المرأة بسبب إيمانها، لذا توجب العدالة الإسلامية دفع خسارة الزوج.

وطبيعي أنّ دفع المهر يكون لمن عقد معاهدة صلح من الكفار مع المسلمين، كما في صلح الحديبية.

5- الحكم الآخر الذي يلي الحكم أعلاه، فهو قوله تعالى: «وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ».

ومن الضروري ملاحظة أنّ انفصال المرأة المؤمنة عن زوجها الكافر لا يحتاج إلى طلاق، إلّاأنّه لابدّ من انتهاء العدّة.

6- أمّا إذا كان الزوج قد آمن بالإسلام، وبقيت المرأة كافرة، فهنا تنفصل الرابطة الزوجية، فتنقطع صلة زواجهما، كما في قوله تعالى: «وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ».

«عصم»: جمع عصمة، وهي في الأصل بمعنى المنع، وهنا بمعنى النكاح والزوجية.

«الكوافر»: جمع كافرة، بمعنى النساء الكافرات.

7- أمّا آخر حكم ذكر في الآية الكريمة، فهو مهور النساء اللواتي ارتددن عن الإسلام والتحقنّ بالكفار فإنّ لكم الحق في المطالبة بمهورهن مثلما للكفار الحق في المطالبة بمهور زوجاتهم اللاتي دخلن دائرة الإسلام والتحقن بالمسلمين، حيث يقول تعالى: «وَسَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسَلُوا مَا أَنفَقُوا». وهذا ما توجبه العدالة والإحترام المتقابل للحقوق.

وفي نهاية الآية- وتأكيداً لما سبق- يقول سبحانه: «ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».

إنّ هذه الأحكام المستلهمة من العلم الإلهي، الممتزجة بحكمته تعالى.

والإلتفات إلى حقيقة أنّ كون جميع هذه

الأحكام إلهية يُعدّ أكبر ضمانة إجرائية لها في قوّة التنفيذ.

وإستعرضت ثاني و آخر آية من هذه الآيات متابعة لما تقدّم، بعض الامور في هذا الصدد.

يقول تعالى أنّه في كل مرّة ترتدّ امرأة متزوّجة عن الإسلام وتلتحق بالكفار، ثم حدثت معركة بينكم وبين الكفار وحالفكم النصر عليهم وغنمتم منهم مغانم فاعطوا الذين ذهبت زوجاتهم إلى الكفار: «وَإِن فَاتَكُمْ شَىْ ءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَاتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 160

وتدعو الآية الكريمة في نهايتها جميع المسلمين إلى الالتزام بالتقوى حيث يقول تعالى:

«وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ».

والأمر بالتقوى هنا يمكن أن يكون بمراعاة الدقة والعدل في تعيين مقدار مهر الزوجة، باعتبار أنّ هذا الأمر يعتمد فيه على قول الزوج في الغالب، ولا يوجد سبيل لإثبات هذا الحق إلّاأقوال الزوجين، ولاحتمال أن تسبّب الوساوس الشيطانية في الإدعاء بمبلغ أكثر من المقدار الحقيقي للمهر، لذا يوصي بالتقوى.

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَ لَا يَسْرِقْنَ وَ لَا يَزْنِينَ وَ لَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَ لَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَّ وَ لَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) شروط بيعة النساء: استمراراً للبحث الذي تقدّم في الآيات السابقة والذي استعرضت فيه أحكام النساء المهاجرات، تتحدث هذه الآية عن تفاصيل وأحكام بيعة النساء المؤمنات مع الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله.

لقد ذكر المفسرون أنّ هذه الآية نزلت يوم فتح مكة لما فرغ النبي صلى الله عليه و آله من بيعة الرجال وهو على الصفا جاءته النساء يبايعنه فنزلت هذه الآية، فشرط اللَّه تعالى في مبايعتهم أن يأخذ عليهن

هذه الشروط. يقول تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلدَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

وبعد هذه الآية أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله البيعة من النساء المؤمنات.

وروي أنّه صلى الله عليه و آله كان إذا بايع النساء، دعا بقدح ماء، فغمس فيه يده، ثم غمسن أيديهن فيه. وقيل: إنّه كان يبايعهن من وراء الثوب.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13) بدأت هذه السورة بآية تؤكّد على قطع كل علاقة بأعداء اللَّه، وتختتم هذه السورة بآية

مختصر الامثل، ج 5، ص: 161

تؤكّد هي الاخرى على نفس المفهوم والموقف من أعداء اللَّه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ».

ويحذّر القرآن الكريم من أن يتّخذ أمثال هؤلاء أولياء وأن تفشى لهم الأسرار فيحيطون علماً بخصوصيات الوضع الإسلامي.

إنّ عبارة «قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» لها مفهوماً واسعاً حيث يشمل جميع الكفار والمشركين. والتعبير ب «الغضب» في القرآن الكريم لا ينحصر باليهود فقط، إذ ورد بشأن المنافقين أيضاً كما في الآية (6) من سورة الفتح.

ثم تتناول الآية أمراً يعتبر دليلًا على هذا النهي حيث يقول تعالى: «قَدْ يِسُوا مِنَ الْأَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ».

ذلك أنّ موتى الكفار سيرون نتيجة أعمالهم في البرزخ حيث لا رجعة لهم لجبران ما مضى من أعمالهم السيّئة، لذلك فإنّهم يئسوا تماماً من النجاة، وهؤلاء المجرمون في هذه الدنيا قد غرقوا في آثامهم وذنوبهم إلى حدّ فقدوا معه كل أمل في نجاتهم،

كما هو الحال بالنسبة للموتى من الكفار.

«نهاية تفسير سورة الممتحنة»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 163

61. سورة الصف

محتوى السورة: تدور أبحاث هذه السورة حول محورين أساسيين.

الأوّل: فضيلة الإسلام على جميع الأديان السماوية، وضمان خلوده وبقائه.

والثاني: وجوب الجهاد في طريق حفظ المبدأ وترسيخ أركانه وتطوير العمل لتقدّمه والإلتزام به.

إلّا أنّنا حينما نتأمل في الآيات الكريمة نلاحظ إمكانية تقسيمها إلى ثلاثة أقسام أخرى:

1- الدعوة إلى الانسجام بين القول والعمل.

2- الإشارة إلى موقف اليهود من العهود ونقضهم لها، بالإضافة إلى بشارة السيد المسيح عليه السلام بظهور الإسلام العظيم.

3- استعراض لحياة حواري السيد المسيح والدعوة لاستلهام الدروس من سيرتهم.

إنّ إختيار إسم «الصّف» لهذه السورة كان بلحاظ العبارة التي وردت في الآية الرابعة منها، وتسمّى أحياناً بسورة «عيسى»، أو سورة «الحواريين».

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان: ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأ سورة عيسى عليه السلام كان عيسى مصلّياً عليه، مستغفراً له ما دام في الدنيا، وهو يوم القيامة رفيقه».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 164

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد، يقولون: وددنا لو أنّ اللَّه دلنا على أحب الأعمال إليه، فنعمل به، فأخبرهم اللَّه أنّ أفضل الأعمال إيمان لا شك فيه والجهاد. فكره الناس، وشق عليهم، وتباطأوا عنه، فنزلت الآية.

التّفسير

اعتبرت هذه السورة من السور المسبّحات، ذلك لأنّها تبدأ بتسبيح اللَّه في بدايتها:

«سَبَّحَ

لِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ».

ولِم لا يسبّحونه ولا ينزّهونه من كل عيب ونقص: «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» القدير الذي لا يقهر والحكيم المحيط بكل شي ء علماً.

ثم يضيف الباري ء عزّ وجل في معرض لوم وتوبيخ للأشخاص الذين لم يلتزموا بأقوالهم: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَاتَفْعَلُونَ».

ثم يضيف سبحانه مواصلًا القول: «كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَاتَفْعَلُونَ».

فمفهوم الآية يشمل كل تخلّف عن عمد، سواء تعلق بنقض العهود والوعود أو غير ذلك من الشؤون، حتى أنّ البعض قال: إنّها تشمل حتى النذور.

وفي الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «عدة المؤمن أخاه نذر لا كفارة له، فمن أخلف فبخلف اللَّه بدأ، ولمقته تعرّض، وذلك قوله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَاتَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَاتَفْعَلُونَ»».

ثم تطرح الآية اللاحقة مسألة مهمة للغاية في التشريع الإسلامي، وهي موضوع الجهاد في سبيل اللَّه، حيث يقول تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 165

«مرصوص»: من مادة «رصاص» بمعنى معدن الرصاص، ولأنّ هذه المادة توضع بعد تذويبها بين طبقات البناء من أجل استحكامه وجعله قوياً ومتيناً للغاية، لذا اطلقت هذه الكلمة هنا على كل أمر قوي ومحكم.

والمقصود هنا أن يكون وقوف وثبات المجاهدين أمام العدو قوياً راسخاً.

إنّ من العوامل المهمة والمؤثرة في تحقيق النصر عامل الانسجام ووحدة الصفوف أمام الأعداء في ميادين القتال، وهذا المبدأ لا يجدر بنا الالتزام به في الحرب العسكرية فحسب، بل علينا تجسيده في الحروب الإقتصادية والسياسية ... وإلّا فسوف لن نحقق شيئاً.

وَ إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا

أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَ اللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَ إِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) البشارة بظهور النبي (أحمد): تأتي الآية الكريمة- أعلاه- مكمّلة لمحورين أساسيين تحدثت عنهما الآيات السابقة وهما (الانسجام بين القول والعمل) و (وحدة الصف الإيماني)، لتستعرض لنا زاوية من حياة النبيين العظيمين (موسى وعيسى) عليهما السلام، ومتطرّقة إلى طبيعة التناقض والانفصام بين أقوال أتباعهم وأعمالهم، بالإضافة إلى (عدم إنسجام صفوفهم) وأخيراً المصير السي ء الذي انتهوا إليه. يقول تعالى: «وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِى وَقَدْ تَّعْلَمُونَ أَنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ».

والمراد من هذا الإيذاء هو ما كانوا ينسبونه لموسى عليه السلام من تهم، كما يبيّن ذلك في الآية (69) من سورة الأحزاب: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَكُونُوا كَالَّذِينَ ءَاذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا».

ومما لا شك فيه أنّ هذه الممارسات لم تبق بدون عقاب كما نقرأ ذلك في نهاية الآية حيث قال تعالى: «فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ».

إنّ ما يستفاد من المفهوم الذي إستعرضته الآية المباركة أنّ الهداية والضلالة وإن كانت من قبل اللَّه سبحانه، إلّاأنّ مقوّماتها وأرضيتها تكون من الإنسان نفسه.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 166

وتشير الآية اللاحقة إلى مسألة تكذيب بني إسرائيل لرسالة عيسى عليه السلام ومخالفتهم له، حيث يضيف تعالى: «وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ إِنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَيةِ وَمُبَشّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى إِسْمُهُ أَحْمَدُ».

وهذا بيان من عيسى عليه السلام

أنّه يمثّل همزة وصل وحلقة من الرسالة بين نبيين وكتابين وامّتين، فقد سبقته رسالة موسى عليه السلام وكتابه، وستليه رسالة الإسلام على يد النبي العظيم محمّد صلى الله عليه و آله.

وبالرغم من أنّ قسماً من بني إسرائيل قد آمنوا بالرسول الموعود، إلّاأنّ الأكثرية الغالبة كان لهم موقف عدائي متشدّد تجاهه، مما دعاهم وسوّل لهم إنكار معاجزه الواضحة، وذلك ما يجسّده قوله تعالى: «فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيّنَاتِ قَالُوا هذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ».

العجيب هو أنّ اليهود كانوا قد شخّصوا الرسول العظيم محمّد صلى الله عليه و آله قبل مشركي العرب، إلّا أنّهم بقي على لجاجتهم وإصرارهم وعنادهم وإنكارهم له.

عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَ اللَّهُ قَدِيرٌ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَ ظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) يريدون ليطفئوا نور اللَّه بأفواههم: لاحظنا في الآيات السابقة موقف الإصرار والعناد لجموع أهل الكتاب من دعوة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله رغم ما بشّر به المسيح عليه السلام حول ظهور رسول الإسلام، وما اقترن بذلك من بيّنات ودلائل ومعاجز واضحة. وتبيّن الآيات- مورد البحث- عاقبة هؤلاء ومصيرهم السي ء ونتيجة عملهم الخائب. فيقول تعالى: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلمِ».

نعم، إنّ أمثال هؤلاء المكذّبين لدعوة الرسول الإلهي، الذين يعتبرون ما يأتي الرسول به من إعجاز سحراً، وما يتحدث به من مبادى ء إلهية سامية ضلالًا وباطلًا ...

فإنّ هؤلاء هم أظلم الناس، لأنّهم يصدّون أنفسهم عن طريق الحق والهداية والنجاة، ويصدّون سائر عباد اللَّه عن منابع الفيض الإلهي ويحرمونهم من السعادة الأبدية.

ويضيف سبحانه في نهاية الآية: «وَاللَّهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 167

ثم يستعرض القرآن الكريم نقطة اخرى ويبيّن لنا أنّ أعداء الحق ليسوا بقادرين على الوقوف بوجه مبادى ء السماء والأنوار الإلهية العظيمة، حيث يقول سبحانه: «يُرِيدُونَ لِيُطْفُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ».

إنّ هذه الجهود والمؤامرات الشيطانية غير قادرة على التأثير وإطفاء شعلة الوهج الرسالي الذي أتى به محمّد صلى الله عليه و آله، وبذلك تحقّق التنبّؤ القرآني في الفشل الذريع الذي لحق بهؤلاء الذين أرادوا كيداً بالرسالة الإلهية ... بل إنّ النور الإلهي في حالة إنتشار وإتّساع يوماً بعد يوم، كما تكشف ذلك لنا الاحصائيات، حيث إنّ عدد مسلمي العالم في تزايد مستمر رغم الجهود المتظافرة من الصهاينة والصليبيين و (الماديين الشرقيين).

وهذا الأمر بحد ذاته يمثّل معجزة خالدة من معاجز القرآن الكريم وهذا الدين العظيم.

ويتوضّح التأكيد الأكثر في آخر آية- مورد البحث- حيث يعلن القرآن الكريم ذلك صراحة بقوله عزّ وجل: «هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ».

وبذلك أثبتت أحداث المستقبل صدق هذا التنبؤ العظيم، وغلبة الإسلام من الناحية المنطقية على كافّة المذاهب الاخرى وقد حقّق خطوات عظيمة في طريق التقدّم على الأعداء، واكتسح مناطق واسعة من العالم، وهو الآن في تقدّم مستمر، وقوّة يخشى منها عالميّاً.

ومن المسلّم أنّ النتيجة النهائية كما نعتقد سوف تكون للإسلام، وذلك عند ظهور الإمام المهدي- أرواحنا فداه- إنّ هذه الآيات بذاتها دليل على هذا الظهور العظيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى

تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَ مَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَ أُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) التجارة الرابحة: قلنا في بداية السورة أنّ الأهداف المهمة لهذه السورة هو الدعوة إلى الإيمان والجهاد في سبيل اللَّه، وما الآيات مورد البحث إلّاتأكيد على هذين الأصلين، من

مختصر الامثل، ج 5، ص: 168

خلال مثال رائع يبعث على الحركة الإلهية في روح الإنسان، والتي هي شرط إنتصار الإسلام على كل الأديان، وقد اشير إلى هذا العامل في الآيات الماضية. يقول تعالى في البداية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ».

وقد بادر في نفس الوقت وبدون إنتظار للإجابة متحدّثاً عن هذه التجارة المتعددة المنافع، حيث يضيف تعالى: «تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ». ومما لا شك فيه أنّ اللَّه سبحانه غني عن هذه التجارة النافعة وأنّ جميع منافعها تعود على المؤمنين. لذا يقول في نهاية الآية: «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ».

إنّ الإيمان بالرسول لا ينفصل عن الإيمان باللَّه تعالى، كما أنّ الجهاد بالنفس لا ينفصل عن الجهاد بالمال.

وعند التدقيق في الآية المباركة نلاحظ أنّه تعالى قد قدّم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، لا باعتباره أكثر أهمية، بل بلحاظ أنّه مقدمة للجهاد بالنفس، لأنّ مستلزمات الجهاد لا تتهيّأ إلّاعند توفّر الإمكانات المادية.

لقد تمّ تسليط الأضواء على ثلاثة عناصر أساسية في هذه التجارة العظيمة والتي لا مثيل لها.

(فالمشتري) هنا هو اللَّه سبحانه،

و (البائع) هم المؤمنون، و (البضاعة) هي الأنفس والأموال، ويأتي دور العنصر الرابع في هذه الصفقة وهو الثمن والعوض لهذه المعاملة العظيمة.

يقول تعالى: «يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».

وتستعرض الآية مرحلة الجزاء الاخروي في البداية حيث غفران الذنوب باعتبارها أهمّ عوامل القلق وعدم الراحة الفكرية والنفسية للإنسان، وعندما يتحقق الغفران له فمن المسلّم أنّ الراحة والهدوء والإطمئنان تنشر ظلالها عليه.

كما أنّنا نقرأ في الآية اللاحقة عن شعبتين من الهبات الإلهية التي تفضل بها الباري ء على عباده المؤمنين في هذه الدنيا حيث يقول: «وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ».

يالها من تجارة مباركة مربحة حيث تشتمل على الفتح والنصر والنعمة والرحمة.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 169

ولهذا فإنّه سبحانه يبارك للمؤمنين تجارتهم العظيمة هذه، ويزفّ لهم البشرى بقوله تعالى: «وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ كَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14) كونوا كالحواريين: في الآية الأخيرة من سورة الصّف يدور الحديث مرّة اخرى حول محور (الجهاد) الذي مرّ ذكره سابقاً في هذه السورة، إلّاأنّ الحديث عنه يستمر هنا في هذه الآية- أيضاً باسلوب جديد. لقد طرحت الآية الكريمة مسألة مهمة غير الجنة والنار وذلك بقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ».

نعم، أنصار اللَّه، اللَّه الذي هو منشأ جميع القدرات، ومرجعها.

ثم يستشهد بنموذج تاريخي رائد كي يوضّح سبحانه أنّ هذا الطريق لن يخلو من السالكين والعشّاق الإلهيين حيث يضيف تعالى: «كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَن أَنصَارِى إِلَى

اللَّهِ».

ويكون الجواب على لسان الحواريين بمنتهى الفخر والإعتزاز: «قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ». وساروا في هذا الدرب حاملين لواء الخير والهداية، ومتصدّين لحرب أعداء الحق والرسالة، حيث يقول سبحانه: «فَامَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ».

وهنا يأتي العون والنصر والإغاثة والمدد الإلهي للطائفة المؤمنة حيث يقول سبحانه:

«فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَى عَدُوّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ».

وأنتم أيضاً يا حواريي محمّد، يشملكم هذا الفخر وتحيطكم هذه العناية واللطف الإلهي، لأنّكم أنصار اللَّه، وإنّ النصر على أعداء اللَّه سيكون حليفكم أيضاً، كما انتصر الحواريون عليهم.

من هم الحواريون؟ جاء ذكر الحواريين في القرآن الكريم خمس مرّات، مرتين منها في هذه السورة المباركة.

«الحواريون»: تعبير يراد به الإشارة إلى إثني عشر شخصاً من الأنصار الخواص

مختصر الامثل، ج 5، ص: 170

لعيسى عليه السلام وقد ذكرت أسماؤهم في الأناجيل المتداولة حالياً ك (إنجيل متّى، ولوقا باب 6).

في الدرّ المنثور: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله للنفر الذين لاقوه بالعقبة: «أخرجوا إلي إثنى عشر رجلًا منكم يكونوا كفلاء على قومهم كما كفلت الحواريون لعيسى بن مريم». مما يعكس أهمية هؤلاء العظام.

«نهاية تفسير سورة الصّف»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 171

62. سورة الجمعة

مختصر الامثل ج 5 199

محتوى السورة: تدور هذه السورة حول محورين أساسيين:

1- التوحيد وصفات اللَّه والهدف من بعثة الرسول ومسألة المعاد.

2- الأثر التربوي لصلاة الجمعة وبعض الخصوصيات المتعلقة بهذه العبادة العظيمة.

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع: ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ سورة الجمعة اعطي عشر حسنات بعدد من أتى الجمعة، وبعدد من لم يأتها في أمصار المسلمين».

وقد ورد في الروايات التأكيد الكثير على قراءة سورة الجمعة والمنافقون في صلاة الجمعة، وقد ورد في بعض الروايات أن لا تترك قراءتها

ما أمكن، ومع أنّ العدول في القراءة عن سورة «التوحيد» و «كافرون» إلى سور اخرى غير جائز، إلّاأنّ هذه المسألة مستثناة في صلاة الجمعة، فيجوز العدول عنهما إلى سورة «الجمعة» و «المنافقون» بل عدّ ذلك مستحبّاً.

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 172

تبدأ هذه السورة كذلك بالتسبيح للَّه عزّ وجل، وتشير إلى بعض صفات الجمال والجلال والأسماء الحسنى للَّه، ويعتبر ذلك في الحقيقة مقدمة للأبحاث القادمة، حيث يقول تعالى:

«يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ». حيث يسبّحونه بلسان الحال والقال وينزّهونه عن جميع العيوب والنقائض: «الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ».

وبناءً على ذلك تشير الآية أوّلًا إلى «المالكية والحاكمية المطلقة»، ثم «تنزّهه من أي نوع من الظلم والنقص» وذلك لإرتباط اسم الملوك بأنواع المظالم والمآسي، فجاءت كلمة «قدّوس» لتنفي كل ذلك عنه جلّ شأنه.

وبعد هذه الإشارة الخاطفة ذات المعنى العظيم لمسألة التوحيد وصفات اللَّه، يتحدث القرآن عن بعثة الرسول والهدف من هذه الرسالة العظيمة المرتبطة بالعزيز الحكيم القدوس، حيث يقول: «هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ».

وذلك من أجل أن يطهّرهم من كل أشكال الشرك والكفر والانحراف والفساد «وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِى ضَللٍ مُّبِينٍ».

«الامّيين»: جمع «امّي» وهو الذي لا يعرف القراءة والكتابة (ونسبته إلى الام باعتبار أنّه لم يتلقّ تعليماً

في معهد أو مدرسة غير مدرسة الام).

إنّ الآية تؤكّد على أنّ نبي الإسلام بعث من بين هؤلاء الاميين الذين لم يتلقّوا ثقافة وتعليماً وذلك لبيان عظمة الرسالة وذكر الدليل على حقانيتها، لأنّ من المحال أن يكون هذا القرآن العظيم وبذلك المحتوى العميق وليد فكر بشري وفي ذلك المحيط الجاهلي ومن شخص امّي أيضاً، بل هو نور أشرق في الظلمات، وهي بحد ذاتها معجزة باهرة وسنداً قاطعاً على حقانيته.

ولخصّت الآية الهدف من بعثة الرسول صلى الله عليه و آله في ثلاثة امور، جاء أحدها كمقدمة وهو تلاوة الآيات عليهم، بينما شكّل الأمران الآخران أي (تهذيب وتزكية النفس) و (تعليمهم الكتاب والحكمة) الهدف النهائي الكبير.

نعم، جاء الرسول صلى الله عليه و آله ليعطي الإنسانية ويعلّمها العلم والأخلاق، لتستطيع بهذين الجناحين (جناح العلم وجناح الأخلاق) أن تحلّق في عالم السعادة وتطوي مسيرها إلى اللَّه لتنال القرب منه.

ويمكن أن يكون الفرق بين «الكتاب» و «الحكمة» هو أنّ الأوّل إشارة إلى القرآن والثاني إشارة إلى سنّة الرسول صلى الله عليه و آله.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 173

وتعبير «الضلال المبين» إشارة إلى سابقة العرب وماضيهم الجاهلي في عبادة الأصنام.

نعم لقد جاء الرسول وأنقذهم ببركة الكتاب والحكمة من هذا الضلال والتخبّط وزكّاهم وعلّمهم. وحقّاً إنّ تربية وتغيير مثل هذا المجتمع الضال يعتبر أحد الأدلة على عظمة الإسلام ومعاجز نبيّنا العظيمة.

ولكن لم يكن الرسول مبعوثاً لهذا المجتمع الامّي فقط، بل كانت دعوته عامة لجميع الناس، فقد جاء في الآية التالية: «وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ».

بناءً على ذلك تكون الآية أعلاه شاملة لجميع الأقوام الذين يأتون بعد أصحاب الرسول من العرب والعجم.

وجاء في آخر الآية: «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

بعد أن يشير إلى هذه النعمة الكبيرة- أي

نعمة بعث نبي الأكرم وبرنامجه التعليمي والتربوي- يضيف قائلًا: «ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ».

مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَ لَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) الحمار الذي يحمل الأسفار: جاء في بعض الروايات أنّ اليهود قالوا: (إذا كان محمّد قد بعث برسالة فإنّ رسالته لا تشملنا) فردّت عليهم الآية مورد البحث في أوّل بيان لها بأنّ رسالته قد اشير إليها في كتابكم السماوي لو أنّكم قرأتموه وعملتم به. يقول تعالى: «مَثَلُ الَّذِينَ حُمّلُوا التَّوْرَيةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا». أي نزلت عليهم التوراة وكلّفوا بالعمل بها ولكنّهم لم يؤدّوا حقّها ولم يعملوا بآياتها فمثلهم «كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا».

لقد إقتنع هؤلاء القوم بتلاوة التوراة واكتفوا بذلك دون أن يعملوا بموجبها.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 174

هؤلاء مثلهم كمثل الحمار الذي يضرب به المثل في الغباء والحماقة.

ثم يقول تعالى: «بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بَايَاتِ اللَّهِ». إذ لم يكتفوا بمخالفة القرآن عملًا، بل أنكروه بلسانهم أيضاً، حيث نصّت الآية (87) من سورة البقرة وهي تصف اليهود قائلة: «أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَاتَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ».

ويقول تعالى في آخر الآية في عبارة وجيزة: «وَاللَّهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».

صحيح أنّ الهداية شأن إلهي، ولكن ينبغي أن تهيّأ لها الأرضية اللازمة، وهي الروح

التواقة لطلب الحق والبحث عنه، وهي امور يجب أن يهيّئها الإنسان نفسه، ولا شك أنّ الظالمين يفتقدون مثل هذه الأرضية.

وقد حملت الروايات بشدّة على مثل هؤلاء العلماء الذين لا يعملون بما يعلمون، ففي رواية عن الرسول صلى الله عليه و آله أنّه قال: «من ازداد علماً ولم يزدد هدى لم يزدد من اللَّه إلّابعداً» «1».

ومثل هؤلاء العلماء سيكونون بلاءً على المجتمع ووبالًا عليه، وسينتهي المجتمع الذي علماؤه من هذا القبيل إلى مصير خطير.

يقول الشاعر:

وراعي الشاة يحمي الذئب عنهافكيف إذا الرعاة لها ذئاب.

وأوضحنا سابقاً أنّ اليهود اعتبروا أنفسهم امّة مختارة، أو نسيجاً خاصاً لا يشبه غيره، وذهبوا إلى أبعد من ذلك حينما ادّعوا أنّهم أبناء اللَّه وأحبّاؤه المنتقمون، وهذا ما أشارت إليه الآية (18) من سورة المائدة: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنؤُا اللَّهِ وَأَحِبؤُهُ». (رغم أنّهم يقصدون الأبناء المجازيين).

ولكن القرآن شجب هذا التعالي مرّة اخرى بقوله: «قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».

فالأحبّاء يتمنون اللقاء دائماً، ولا يتمّ اللقاء المعنوي باللَّه يوم القيامة.

إنّ خوفكم وفراركم من الموت دليل قاطع على أنّكم متعلقون بهذه الدنيا وغير صادقين في إدعائكم.

______________________________

(1) المحجّة البيضاء في تهذيب الاحياء 1/ 126.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 175

ثم يشير القرآن إلى سبب خوفهم من الموت بقوله: «وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ».

لأنّ خوف الإنسان من الموت ناشي ء من عاملين أساسيين:

الأوّل: عدم إيمان الإنسان بالحياة بعد الموت واعتقاده أنّ الموت زوال وفناء.

والثاني: أعماله السيّئة التي يعتقد أنّه سيواجهها بعد مماته في عالم الآخرة عندما تقام المحكمة الإلهية.

وإنّما يخاف اليهود من الموت لسوء أعمالهم إذ أنّهم يعتقدون- أيضاً- بيوم الحساب.

وقد وصفهم القرآن الكريم

بالظالمين، وذلك لأنّ الظلم يتّسع ليشمل جميع الأعمال السيّئة والجرائم التي إرتكبوها، من قتلهم الأنبياء وقول الزور وغصب الحقوق وتلوّثهم بمختلف المفاسد الأخلاقية.

غير أنّ هذا الخوف وذلك الفرار لا يجدي شيئاً، فالموت أمر حتمي لابدّ أن يدرك الجميع، إذ يقول تعالى: «قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلقِيكُم ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

الموت قانون عام يخضع له الجميع بما فيهم الأنبياء والملائكة وجميع الناس: «كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الْجَللِ وَالْإِكْرَامِ» «1».

وكذلك المثول أمام محكمة العدل الإلهي لا يفلت منها أحد، إضافة إلى علم اللَّه تعالى بأعمال عباده بدقّة وبتفصيل كامل.

وبهذا سوف لا يكون هناك طريق للتخلّص من هذا الخوف سوى تقوى اللَّه وتطهير النفس والقلب من المعاصي، وبعد أن يخلص الإنسان للَّه تعالى فإنّه لن يخاف الموت حينئذٍ.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَ إِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَ تَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَ مِنَ التِّجَارَةِ وَ اللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)

______________________________

(1) سورة الرحمن/ 26 و 27.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 176

سبب النّزول

نقل في سبب نزول هذه الآيات وخصوصاً الآية «وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً» روايات مختلفة جميعها تخبر عن معنى واحد، هو أنّه في أحد السنوات: أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر، فقدم دحية بن خليفة بتجارة زيت من الشام، والنبي صلى الله عليه و آله يخطب يوم الجمعة فلما رأوه قاموا إليه بالبقيع

خشية أن يسبقوا إليه فلم يبق مع النبي صلى الله عليه و آله إلّارهط، فنزلت الآية فقال صلى الله عليه و آله:

«والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى أحد منكم لسال بكم الوادي ناراً».

وقال المقاتلان: بينا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يخطب يوم الجمعة، إذ قدم دحية بن خليفة بن فروة الكلبي، ثم أحد بني الخزرج ثم أحد بني زيد بن مناة من الشام بتجارة. وكان إذا قدم لم يبق بالمدينة عاتق، إلّاأتته وكان يقدم إذا قدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق، أو برّ، أو غيره فينزل عند أحجار الزيت، وهو مكان في سوق المدينة، ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه، فيخرج إليه الناس ليتبايعوا معه.

فقدم ذات جمعة وكان ذلك قبل أن يسلم ورسول اللَّه صلى الله عليه و آله قائم على المنبر يخطب. فخرج الناس، فلم يبق في المسجد إلّااثنا عشر رجلًا وامرأة، فقال صلى الله عليه و آله: «لولا هؤلاء لسوّمت عليهم الحجارة من السماء». وأنزل اللَّه هذه الآية «1».

التّفسير

أكبر تجمّع عبادي سياسي اسبوعي: كانت الأبحاث السابقة تدور حول مسألة التوحيد والنبوّة والمعاد، وكذلك ذمّ اليهود عبيد الدنيا، بينما انصبّ الحديث في الآيات مورد البحث على الركائز الإسلامية المهمة التي تؤثّر كثيراً على استقرار أساس الإيمان، وتمثّل الهدف الأساس للسورة، وهي صلاة الجمعة وبعض الأحكام المتعلقة بها. ففي البداية يخاطب اللَّه تعالى المسلمين جميعاً بقوله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ».

«نودي»: من مادة «نداء» وهي هنا بمعنى الأذان إذ لا نداء للصلاة غير الأذان.

فعندما يرتفع الأذان لصلاة الجمعة يكون لزاماً على الناس أن

يتركوا مكاسبهم ومعايشهم، ويذهبوا إلى الصلاة وهي أهمّ ذكر للَّه.

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان 10/ 11.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 177

من الواضح أنّ لأمر ترك البيع والشراء مفهوماً واسعاً يشمل كل عمل يمكن أن يزاحم الصلاة.

المقصود من (ذكر اللَّه) بالدرجة الاولى هو الصلاة، ولكنّنا نعلم أنّ خطبتي صلاة الجمعة مشتملة هي الاخرى ومتضمنة (لذكر اللَّه) وهي جزء من صلاة الجمعة، وبناءً على ذلك ينبغي الإسراع لحضور الخطبتين أيضاً.

تضيف الآية التي تليها قائلة: «فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَوةُ فَانتَشِرُوا فِى الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».

في آخر الآية- مورد البحث- ورد ذمّ عنيف للأشخاص الذين تركوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في صلاة الجمعة وأسرعوا للشراء من القافلة القادمة، إذ يقول تعالى: «وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا».

ولكن «قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ».

فمن المؤكّد، أنّ الثواب والجزاء الإلهي والبركات التي يحظى بها الإنسان عند حضوره صلاة الجمعة والإستماع إلى المواعظ والحكم التي يلقيها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وما ينتج عن ذلك من تربية روحية ومعنوية، لا يمكن مقارنتها بأي شي ء آخر، فإذا كنتم تظنّون إنقطاع الرزق فإنّكم على خطأ كبير لأنّ «اللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ».

التعبير ب «اللهو» إشارة إلى الطبل وسائر آلات اللهو التي كانت تستعمل عند دخول قافلة جديدة إلى المدينة، فقد كانت تستعمل كإعلان وإخبار عن دخول القافلة، إضافةً إلى كونها وسيلة للترفيه والدعاية واللهو.

بحوث

1- أوّل صلاة جمعة في الإسلام: في المجمع: قيل: قبل أن تنزل الجمعة، قالت الأنصار لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى يوم أيضاً مثل ذلك، فلنجعل يوماً نجتمع فيه، فنذكر اللَّه عزّ وجل

ونشكره. وكما قالوا يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة. فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلّى بهم يومئذ وذكرهم فسمّوه يوم الجمعة حين اجتمعوا إليه فذبح لهم أسعد بن زرارة شاة، فتغدوا وتعشوا من شاة واحدة، وذلك لقلتهم. فأنزل اللَّه تعالى في ذلك: «إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ» الآية. فهذه أوّل جمعة في الإسلام. فأمّا أوّل جمعة جمعها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بأصحابه فقيل: إنّه قدم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مهاجراً

مختصر الامثل، ج 5، ص: 178

حتى نزل قبا على عمرو بن عوف، وذلك يوم الإثنين، لإثنتي عشرة ليلة، خلت من شهر ربيع الأوّل حين الضحى، فأقام بقبا يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسّس مسجدهم ثم خرج من بين أظهرهم يوم الجمعة قاصداً المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم قد اتخذ اليوم في ذلك الموضع مسجده. وكانت هذه الجمعة أوّل جمعة جمعها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في الإسلام. فخطب في هذه الجمعة وهي أوّل خطبة خطبها بالمدينة.

2- أهمية صلاة الجمعة: إنّ أفضل دليل على أهمية هذه الفريضة العظيمة هو الآيات الأخيرة في هذه السورة المباركة، التي أمرت جميع المسلمين وأهل الإيمان بمجرد سماعهم لأذان الجمعة أن يسرعوا إليها ويتركوا الكسب والعمل، وكل ما من شأنه أن يزاحم هذه الفريضة.

ورد عن النبي صلى الله عليه و آله في خطبة طويلة نقلها المخالف والؤالف: «إنّ اللَّه تعالى فرض عليكم الجمعة، فمن تركها في حياتي أو بعد موتي إستخفافاً بها أو جحوداً لها، فلا جمع اللَّه شمله ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له، ألا ولا زكاة له، ألا ولا حجّ له،

ألا ولا صوم له، ألا ولا برّ له، حتى يتوب» «1».

ومن الملفت للنظر أنّه قد ورد ذمّ شديد لتارك صلاة الجمعة، عندما تكون صلاة الجمعة واجباً عينيّاً (أي في زمن حضور الإمام المعصوم) وأمّا في زمن الغيبة، فإنّه لا يكون مشمولًا بهذا الذم والتقريع رغم عظمة صلاة الجمعة وأهميتها في هذا الوقت أيضاً.

3- فلسفة صلاة الجمعة العبادية والسياسية: إنّ صلاة الجمعة- قبل كل شي ء- عبادة جماعية ولها أثر العبادات عموماً، حيث تطهّر الروح والقلب من الذنوب، وتزيل صدأ المعاصي عن القلوب.

أمّا من الناحية السياسية والاجتماعية فهي أكبر مؤتمر اسبوعي عظيم بعد مؤتمر الحج السنوي، لهذا نجد الرسول صلى الله عليه و آله يقول في رواية أنّ الجمعة حج من لا يملك القدرة على المشاركة في الحج.

ويعطي الإسلام أهمية خاصة لثلاثة مؤتمرات كبيرة:

______________________________

(1) وسائل الشيعة 5/ 7 (باب وجوب صلاة الجمعة). رسائل شهيد الثاني، رسالة الجمعة/ 61.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 179

التجمعات التي تتمّ يومياً لصلاة الجماعة.

التجمع الأسبوعي الأوسع في صلاة الجمعة.

ومؤتمر الحج الذي يعقد في كل سنة مرّة.

ودور صلاة الجمعة مهم جدّاً خاصة وأنّ من واجبات الخطيب هو التحدّث في الخطبتين عن المسائل السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

«نهاية تفسير سورة الجمعة»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 181

63. سورة المنافقون

محتوى السورة: يمكن تقسيم مباحث هذه السورة بأربعة أقسام:

1- صفات المنافقين وتتضمن نقاطاً مهمة وحساسة.

2- تحذير المؤمنين من خطط المنافقين ووجوب الإنتباه إلى ذلك ورصده بشكل دقيق.

3- حثّ المؤمنين على عدم الاستغراق في الدنيا وزخرفها والإنشغال بذلك عن ذكر اللَّه.

4- حثّ المسلمين على الإنفاق في سبيل اللَّه، والإنتفاع من الأموال قبل الموت وقبل إشتعال الحسرة في نفوسهم.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ

سورة المنافقين برأ من النفاق».

وفي ثواب الأعمال عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «الواجب على كل مؤمن إذا كان لنا شيعة أن يقرأ في ليلة الجمعة بالجمعة وسبّح اسم ربّك الأعلى، وفي صلاة الظهر بالجمعة والمنافقين، فإذا فعل ذلك فكأنّما يعمل كعمل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وكان جزاؤه وثوابه على اللَّه الجنة».

إنّ المرور على هذه السور دون الاستفادة منها على الصعيد العملي وجعلها برنامجاً للحياة، سوف لن يؤدّي إلى زوال روح النفاق وإجتثاث جذورها من نفس الإنسان.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 182

إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَ إِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) مصدر النفاق وعلامات المنافقين: نذكر مقدمة قبل الدخول في تفسير هذه الآيات، وهي أنّ الإسلام طرح مسألة النفاق والمنافقين مع هجرة الرسول صلى الله عليه و آله وأصحابه إلى المدينة، وبداية استحكام اسس الإسلام وظهور عزّه، فلم تبرز ظاهرة النفاق في مكة، لأنّ الأعداء يصعب عليهم التجاهر في عدائهم، بل قد يتعذر ذلك عليهم في بعض الأحيان، لهذا اختار أعداء الإسلام المهزومون أن يواصلوا خططهم التخريبية من خلال إظهار الإسلام وإبطان الكفر، وانخرطوا ظاهراً في صفوف المسلمين، بينما ظلّوا محافظين على كفرهم في باطنهم.

وهكذا تكون غالباً طبيعة أعداء كل ثورة ودعوة بعد إشتداد عودها وقوّة ساعدها، إذ تواجه الكثير من الأعداء وكأنّهم

أصدقاء.

ومن هنا نستطيع أن نفهم لماذا نزلت كل تلك الآيات التي تصف المنافقين وتشرح حالهم، في المدينة ولم تنزل في مكة.

ومما يجدر الإشارة إليه أنّ هذه المسألة- أي مسألة النفاق- غير محصورة بعصر الرسول، بل إنّ جميع المجتمعات- وخاصة الثورية منها- تكون عرضة للإصابة بهذه الظاهرة الخطيرة، ولذلك يجب أن يدرس القرآن الكريم وما جاء فيه من تجارب وإرشادات من خلال هذه النظرة الحيوية، لا من خلال اعتبارها مسألة تاريخية لا علاقة لها بالواقع، وبهذا يمكن إستلهام الدروس والحكم لمكافحة النفاق وخطوط المنافقين في المجتمعات الإسلامية في الوقت الحاضر.

ومما تجدر الإشارة إليه أيضاً أنّ خطر المنافقين يفوق خطر باقي الأعداء، لخفائهم وعدم

مختصر الامثل، ج 5، ص: 183

القدرة على تشخيصهم بسهولة من جهة، ولكونهم أعداء يعيشون في داخل الجسم الإسلامي وربّما ينفذون إلى قلبه نفوذاً يصعب معه فرزهم وتحديدهم من جهة اخرى.

ويأتي خطرهم ثالثاً من إرتباطاتهم مع سائر عناصر المجتمع بعلاقات بحيث تصعب مكافحتهم.

ولهذا نرى أنّ أكثر الضربات التي تلقّاها الإسلام على مدى التاريخ جاءته من هذا المعسكر، أي معسكر النفاق ولهذا نلاحظ أنّ الإسلام شنّ حملات شديدة جدّاً عليهم.

وبعد هذه المقدمة نرجع إلى تفسير الآيات.

إنّ أوّل صفة يذكرها القرآن للمنافقين هي: إظهار الإيمان الكاذب الذي يشكّل الظاهرة العامة للنفاق، حيث يقول تعالى: «إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ».

ويضيف: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ». لأنّهم لم يريدوا الإخبار عن واقعية رسالة رسول اللَّه وإنّما أرادوا الإخبار عن إعتقادهم برسالته، وهذا من الكذب المحض.

وهذه أوّل علامة من علامات المنافقين، حيث اختلاف الظاهر مع الباطن، ففي الوقت الذي يظهر المنافقون الإيمان ويدعونه بألسنتهم، نرى قلوبهم قد خلت من الإيمان تماماً، وهذه الظاهرة

تشكّل المحور الرئيسي للنفاق.

وتذكر الآية اللاحقة العلامة الثانية: «اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

ذلك لأنّهم يضعون الموانع والعراقيل في طريق هداية الناس، وليس هناك أقبح من أن يمنع الإنسان غيره من الإهتداء.

من عبارة «جُنَّةً» يتّضح أنّ المنافقين في حالة حرب دائمة ضد المؤمنين، وأنّ الظواهر التي يتخفّون وراءها لا ينبغي أن تخدع أحداً.

وتتطرق الآية اللاحقة إلى ذكر السبب الذي يقف وراء هذه الأعمال السيئة، حيث يقول تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ ءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَايَفْقَهُونَ».

والواقع أنّ المنافقين مجموعتان:

المجموعة الاولى: كان إيمانها منذ البداية ظاهرياً وصورياً.

والثانية: كان إيمانها حقيقيّاً في البداية ثم ارتدّوا ولزموا طريق النفاق.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 184

والظاهر أنّ الآية- مورد البحث- تتعرض للمجموعة الثانية.

وتشبه هذه الآية (74) من سورة التوبة التي تقول: «وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلمِهِمْ».

فإنّ عدم قدرتهم على إدراك الحقائق الواضحة تعتبر علامة ثالثة من علامات نفاقهم.

وتوضّح الآية اللاحقة علامات المنافقين بشكل أكثر وضوحاً، إذ يقول تعالى: «وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ» فهم يتمتعون بظواهر جميلة وأجسام لطيفة.

«وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ» لأنّه ينطوي على شي ء من التحسين والعذوبة.

وفي الوقت الذي يتأثّر الرسول بحديث بعضهم- كما يبدو من ظاهر التعبير- فكيف بالآخرين؟!

هذا فيما يخصّ ظاهرهم، أمّا باطنهم ف «كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ».

فأجسامهم خالية من الروح، ووجوههم كالحة، وكيانهم خاوٍ منخور من الداخل، ليس لهم أيّة إرادة ولا يتمتعون بأيّة استقلالية (كالأخشاب المسنّدة) المكدّسة.

وكان هؤلاء يتميّزون بالضعف والخواء في داخلهم، لا يعرفون التوكل والاعتماد على اللَّه ولا على أنفسهم، فهم كما يصفهم القرآن الكريم في آية اخرى: «يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ».

يسيطر عليهم الخوف والرعب وسوء الظن، وتغمر أرواحهم النظرة السوداء السيّئة ...

تجدهم في خوف دائم من ظلمهم وخيانتهم.

وقد نبّه

القرآن الكريم في نهاية الآية قائلًا: «هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ». أي: هم الأعداء الواقعيون.

ويضيف: «قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ». أي: كيف ينحرفون عن الحق.

وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَ لِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 185

سبب النّزول

ذكرت كتب التاريخ والتفسير سبباً مسهباً لنزول هذه الآيات، وجاء في الكامل في التاريخ: أنّه بعد غزوة بني المصطلق إزدحم الناس على الماء، وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له: جهجاه، فازدحم هو وسنان الجهني حليف بني عوف من الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار. وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين. فغضب عبد اللَّه بن أبي سلول وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم غلام حدث السنّ فقال: أو قد فعلوها؟ قد كاثرونا في بلادنا، أما واللَّه «لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ»، ثم أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم ببلادكم وقاسمتموهم أموالكم، واللَّه لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير بلادكم، فسمع ذلك زيد فمشى به إلى النبي صلى الله عليه و آله وذلك عند فراغ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من غزوه، فأخبره

الخبر وعنده عمر بن الخطاب فقال: يا رسول اللَّه مُرْ به عبّاد بن بشر فليقتله، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: كيف إذا تحدّث الناس أنّ محمّداً يقتل أصحابه؟ ولكن أذن بالرحيل. فارتحل في ساعة لم يكن يرتحل فيها ليقطع ما الناس فيه، فلقيه أسيد بن حضير فسلّم عليه وقال: يا رسول اللَّه، لقد رحت في ساعة لم تكن تروح فيها؟ فقال: أو ما بلغك ما قال عبد اللَّه بن ابي؟ قال: وماذا قال؟ قال: زعم إن رجع إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل. قال أسيد: فأنت واللَّه تُخرجُه إن شئت، فإنّك العزيز وهو الذليل.

ثم قال: يا رسول اللَّه، ارفق به فواللَّه لقد منّ اللَّه بك وإنّ قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه، فإنّه ليرى أنّك قد استلبته ملكاً. وسمع عبد اللَّه بن ابي أنّ زيداً أعلم النبي صلى الله عليه و آله قوله فمشى إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فحلف باللَّه ما قلت ما قال ولا تكلّمت به، وكان عبد اللَّه في قومه شريفاً، فقالوا: يا رسول اللَّه عسى أن يكون الغلام قد أخطأه. وأنزل اللَّه: «إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ» تصديقاً لزيد، فلما نزلت أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله باذن زيد وقال: هذا الذي أوفى اللَّه باذنه. وبلغ عبد اللَّه بن أبي سلول ما كان من أمر أبيه، فأتى النبي صلى الله عليه و آله فقال: يا رسول اللَّه! بلغني أنّك تريد قتل أبي، فإن كنت فاعلًا فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، وأخشى أن تأمر غيري بقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار.

فقال النبي صلى الله عليه

و آله: بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا، فكان بعد ذلك إذا أحدث حدثاً

مختصر الامثل، ج 5، ص: 186

عاتبه قومه وعنّفوه وتوعدوه «1».

التّفسير

علامات اخرى للمنافقين: تأتي هذه الآيات لتكمّل توضيح علامات المنافقين التي بدأتها الآيات التي سبقتها. يقول تعالى: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُّسْتَكْبِرُونَ».

إنّ حبّ المنافقين لأنفسهم وعبادتهم لذواتهم، جعلتهم أبعد ما يكونون عن الإسلام الذي يعني التسليم والرضا والاستسلام الكامل للحق.

«لوّوا»: من مادة «لي» وهي في الأصل بمعنى برم الحبل، وتأتي أيضاً بمعنى إمالة الرأس وهزّه إعراضاً واستكباراً.

ومن أجل أن لا يبقى هناك أي إبهام أو التباس قال تعالى: «سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ».

إنّ استغفار النبي تؤثّر حينما يتوبون بصدق وإخلاص، ويستسلمون للحقّ، هنالك يؤثّر استغفار الرسول وتقبل شفاعته.

والمقصود من الفسّاق، هم تلك المجموعة من الفسّاق أو المذنبين الذين يصرّون على ذنوبهم ويركبون رؤوسهم.

والشاهد الآخر الذي يذكره القرآن كعلامة لهم واضحة جدّاً، هو قوله تعالى: «هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَاتُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا». فلا تعطوا المسلمين شيئاً من أموالكم وإمكاناتكم لكي يتفرقوا عن رسول اللَّه.

«وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَايَفْقَهُونَ».

إنّ هؤلاء فقدوا الوعي والبصيرة، ولم يعرفوا أنّ كل ما لدى الناس إنّما هو من اللَّه. وأن تقاسم الأنصار لأموالهم مع المهاجرين إنّما هو من دواعي الإفتخار والإعتزاز، ولا ينبغي أن يمنّوا به على أحد.

ثم يقول تعالى في إشارة اخرى إلى مقالة اخرى سيّئة من مقالاتهم: «يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ».

______________________________

(1) الكامل في التاريخ 2/ 81.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 187

وهذا نفس الكلام الذي أطلقه عبد

اللَّه بن ابي، ويريدون من ورائه أنّهم أهل المدينة الأصليّون الذين سيخرجون منها الرسول وأصحابه من المهاجرين، بعد عودتهم من غزوة بني المصطلق التي مرّت الإشارة إليها.

ورغم أنّ هذا الحديث صدر عن رجل واحد، لكنه كان لسان حال المنافقين جميعاً، وهذا ما جعل القرآن يعبّر عنهم بشكل جماعي «يقولون ...» فيردّهم ردّاً حازماً، إذ يقول:

«وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَايَعْلَمُونَ».

ولم يكن منافقو المدينة وحدهم الذين رووا هذا الكلام، بل سبقهم إلى ذلك رؤساء قريش عندما قالوا: (سينتهي أمر هذه المجموعة القليلة الفقيرة من المسلمين إذا حاصرناهم إقتصادياً أو أخرجناهم من مكة).

وهكذا نرى اليوم الدول المستكبرة وهي تحذّر الشعوب التي ترفض الخضوع لسيطرتها، بأنّها تملك الدنيا وخزائنها، فإن لم تخضع لها تحاصرها اقتصادياً لتركيعها.

وهؤلاء هم الذين طبع على قلوبهم واتّخذوا منهجاً واحداً على مدى التاريخ، وظنّوا أنّ ما لديهم باق، ولم يعلموا أنّ اللَّه قادر على إزالته وإزهاقه بلمحة بصر.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَ لَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَ أَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَ لَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم: إنّ حبّ الدنيا والتكالب على الأموال والإنشداد إلى الأرض، من الأسباب المهمة التي تدفع باتّجاه النفاق، وهذا ما جعل القرآن يحذّر المؤمنين من مغبّة الوقوع في هذه المصيدة الخطيرة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ».

ورغم أنّ الأموال والأولاد من النعم

الإلهية التي يستعان بها على طاعة اللَّه وتحصيل رضوانه، لكنّها يمكن أن تتحول إلى سدّ يحول بين الإنسان وخالقه إذا ما تعلق به الإنسان بشكل مفرط.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 188

بعد هذا التحذير الشديد، يأمر اللَّه تعالى بالإنفاق في سبيله حيث يقول: «وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ الصَّالِحِينَ».

والأمر بالإنفاق هنا يشمل كافّة أنواع الإنفاق الواجبة والمستحبة.

والطريف أنّه جاء في ذيل الآية «فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ الصَّالِحِينَ» لبيان تأثير الإنفاق في صلاح الإنسان.

إنّ هناك عدداً كبيراً من الناس يضطربون كثيراً حينما يجدون أنفسهم على وشك الإنتقال إلى عالم البرزخ، والرحيل عن هذه الدنيا، وترك كل ما بنوا فيها من أموال طائلة وملاذ واسعة، دون أن يستثمروها في تعمير الآخرة، عندئذ يتذكّر هؤلاء ويطلبون العودة إلى الحياة الدنيا مهما كان الرجوع قصيراً وعابراً، ليعوّضوا ما فات، ويأتيهم الجواب «وَلَن يُؤَخّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا».

وفي الآية (34) من سورة الأعراف: «فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَايَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ».

ثم تنتهي الآية بهذه العبارة: «وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ». فقد سجل كل شي ء عنكم وستجدونه محضراً من ثواب وعقاب.

«نهاية تفسير سورة المنافقون»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 189

64. سورة التغابن

محتوى السورة: إنّ سياق الآيات الأخيرة في هذه السورة ينسجم مع السور المدنية، وصدرها أكثر انسجاماً مع السور المكية، ولكنّنا نرى أنّها مدنية طبقاً للمشهور.

يمكن تقسيم مباحث هذه السورة إلى عدّة أقسام:

1- بداية السورة التي تبحث في التوحيد وصفات وأفعال اللَّه تعالى.

2- حثّ الناس على ملاحظة أعمالهم ظاهراً وباطناً، وأن لا يغفلوا عن مصير الأقوام السابقين.

3- ثم يجري الحديث عن المعاد، وأنّ يوم القيامة «يوم تغابن»، تغبن فيه جماعة وتفوز فيه جماعة،

واسم السورة مشتقّ من هذا المفهوم.

4- الأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه و آله وتحكيم قواعد النبوّة.

5- ويأمر اللَّه تبارك وتعالى في القسم الأخير من السورة بالإنفاق في سبيله، ويحذّر من الإنخداع بالأموال والأولاد والزوجات، وتختم السورة بذكر صفات اللَّه تبارك وتعالى.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ سورة التّغابن في فريضته كانت شفيعة له يوم القيامة، وشاهد عدل عند من يجيز شهادتها، ثم لا تفارقه حتى يدخل الجنة».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 190

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ وَ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَ مَا تُعْلِنُونَ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَ تَوَلَّوْا وَ اسْتَغْنَى اللَّهُ وَ اللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) تبدأ هذه السورة بتسبيح اللَّه، اللَّه المالك المهيمن على العالمين القادر على كل شي ء:

«يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ». ويضيف: «لَهُ الْمُلْكُ». والحاكمية على عالم الوجود كافّة، ولهذا السبب: «وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

ثم يشير تعالى إلى أمر الخلقة الملازم لقدرته، إذ يقول تعالى: «هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ» وأعطاكم نعمة الحرية والإختيار «فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ».

وبناءً على هذا فإنّ الإمتحان الإلهي يجد له معنى عميقاً: «وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ

بَصِيرٌ».

ثم يوضّح مسألة الخلقة أكثر بالإشارة إلى الهدف منها، إذ يقول في الآية اللاحقة: «خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقّ».

فإنّ هذا الخلق الحق الدقيق ينطوي على غايات عظيمة وحكمة بالغة، حيث يقول تعالى في الآية (27) من سورة «ص»: «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا».

ثم يتحدث القرآن الكريم عن خلق الإنسان، ويدعونا بعد آيات الآفاق إلى السير في آفاق الأنفس. يقول تعالى: «وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ». لقد صوّر الإنسان بأحسن الصور وأجملها، وجعل له من المواهب الباطنية الفكرية والعقلية ما جعل العالم كلّه ينطوي فيه، وأخيراً تنتهي الامور إليه تعالى: «وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ».

ولأنّ الإنسان خلق لهدف سام عظيم، فعليه أن يكون دائماً تحت إرادة الباري ء وضمن

مختصر الامثل، ج 5، ص: 191

طاعته، فإنّه: «يَعْلَمُ مَا فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ».

تجسّد هذه الآية علم اللَّه اللامتناهي في ثلاثة مستويات: علمه بكل المخلوقات، وما في السماوات والأرض.

ثم علمه بأعمال الإنسان كافّة، سواء أضمرها أو أظهرها.

والثالث علمه بنيّة الإنسان وعقائده الداخلية التي تحكم قلب الإنسان وروحه.

وممّا لا شك فيه أنّ ذلك سيهي ء الإنسان للحركة نحو الرقي والتكامل.

ثم يلفت القرآن الكريم الإنتباه إلى أهمّ عامل في تربية الإنسان وتعليمه، وهو الإتّعاظ بمصارع القرون وما جرى على الأقوام السالفة حيث يقول: «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

ألم تمرّوا على مدنهم المهدّمة وآثارهم المدمّرة في طريقكم إلى الشام والأماكن الاخرى، فتروا بامّ أعينكم نتيجة كفرهم وظلمهم، وكان هذا عذابهم في الدنيا وفي الآخرة لهم عذاب أشد.

ثم تشير الآية اللاحقة إلى سبب هذه العاقبة المؤلمة وهو الغرور والتكبر على الأنبياء:

«ذلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا».

وبهذا المنطق عصوا وكفروا «فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا» واللَّه في غنى عن طاعتهم «وَاسْتَغْنَى اللَّهُ» فطاعتهم لأنفسهم وعصيانهم عليها و «اللَّهُ غَنِىٌّ حَمِيدٌ».

ولو كفرت كل الكائنات لما نقص من كبريائه تعالى شي ء، كما أنّ طاعتهم لا تزيده شيئاً، نحن الذين نحتاج إلى كل هذه التعليمات والمناهج التربوية.

زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَ رَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (10)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 192

في أعقاب تلك الآيات التي بحثت مسألة الخلقة والهدف من الخلق، جاءت هذه الآيات لتكمّل البحث الذي يطرح قضية المعاد والقيامة، حيث يقول تعالى: «زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا».

فإنّ القرآن الكريم يأمر الرسول الأكرم في أعقاب هذا الكلام بقوله: «قُلْ بَلَى وَرَبّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ». لأنّهم في البداية كانوا عدماً وخلقهم اللَّه، فإعادتهم إلى الوجود مرّة اخرى أيسر ..

ولابدّ أن تكون النتيجة كما قرّرتها الآية اللاحقة وأنّه بعد أن ثبت أنّ المعاد حق: «فَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِى أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ».

وبناءً على ذلك يأمرهم الباري ء أن يعدوا أنفسهم بالإيمان والعمل الصالح، ويستعدّوا للبعث ويوم الجزاء.

والإيمان هنا لابدّ أن يرتكز على ثلاثة اصول: (اللَّه) و (الرسول) و (القرآن) التي تتضمن الامور الاخرى جميعاً.

وتصف الآية اللاحقة يوم القيامة بقولها: «يَوْمَ

يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ».

فإنّ أحد أسماء يوم القيامة هو «يوم الجمع» الذي ورد كراراً بتعبيرات مختلفة في القرآن الكريم، منها ما جاء في الآية (49 و 50) من سورة الواقعة: «قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْأَخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ».

ثم يضيف تعالى: «ذلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ». أي اليوم الذي يعرف فيه «الغابن» بالفوز عن «المغبون» بالغلبة، وهو اليوم الذي ينكشف فيه من هم الناس الذين غبنوا وخسرت تجارتهم.

ثم يتحدث القرآن الكريم عن أحوال المؤمنين في ذلك اليوم (يوم القيامة) أو (يوم التغابن) قائلًا: «وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفّرْ عَنْهُ سَيّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».

وستتنزّل النعم الإلهية والبركات بتحقق الشرطين الأساسيين، الإيمان والعمل الصالح.

ثم يقول تعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِايَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ».

وهناك عاملان أساسيان للشقاء يذكرهما القرآن، هما الكفر والتكذيب بالآيات الإلهية، وهما النقيضان الواقعيان للإيمان والعمل الصالح.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 193

مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (11) وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) كل ما يصيبنا بإذنه وعلمه: في أوّل آية مورد البحث يشير القرآن إلى أصل كلّي عن المصائب والحوادث الأليمة التي تصيب الإنسان، ولعلّ ذلك يعود إلى أنّ الكفار كانوا دائماً يتذرّعون بوجود المصائب والبلايا لنفي العدالة الإلهية في هذا العالم، أو يكون المراد أنّ طريق الإيمان والعمل الصالح مقرون دائماً بالمشاكل، ولا يصل الإنسان المؤمن إلى مرتبة مقاومتها، وبذلك يتّضح وجه الإرتباط بين هذه الآية وما قبلها.

يقول تعالى أوّلًا: «مَا

أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ».

فما يجري من حوادث كلّها بإذن اللَّه لا تخرج عن إرادته أبداً.

وعندما نقول يقع ذلك بإرادة اللَّه، فإنّما نعني «الإرادة التكوينية» لا الإرادة التشريعية.

من مجموع الآيات التي وردت في هذا المجال، فنلاحظ أنّها عرضت المصائب على نوعين:

الأوّل: ما يكون جزءاً من طبيعة تكوين الإنسان كالموت والحوادث الطبيعية الاخرى، وهذه لا يستطيع الإنسان أن يدفعها عنه، فيقرّر القرآن الكريم بأنّ ذلك يقع بإذن اللَّه.

الثاني: هو تلك المصائب التي تأتي من تقصير الإنسان ومن عمل يده، وله الدور الأساسي في تحققها، وهذه يقول القرآن: إنّها تصيبكم بسبب أعمالكم.

ويبشّر القرآن المؤمنين بقوله: «وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ».

فالمؤمن لا تهزمه المصائب ولا ييأس ولا يجزع، واللَّه يهدي الإنسان حينما يكون شكوراً لنعمه، صابراً على بلائه، مستسلماً لقضائه.

وتقول الآية في نهاية المطاف: «وَاللَّهُ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ».

وقد يراد من هذا التعبير الإشارة إلى الهدف من وراء هذه الامتحانات والاختبارات الصعبة، وهو إيقاظ الناس وتربيتهم وإعدادهم لمجابهة الغرور والغفلة، وسيؤثر ذلك حتماً ويدفع الإنسان إلى طاعة اللَّه ورسوله، و «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ».

لا يخفى أنّ إطاعة الرسول فرع عن إطاعة اللَّه تعالى وطاعة الرسول تقع في طول طاعة

مختصر الامثل، ج 5، ص: 194

اللَّه، فهما في خطّ واحد، وهذا ما جعله يكرّر كلمة إطاعة. وإذا ما حاولنا الذهاب أبعد من ذلك، فإنّ طاعة اللَّه تتعلق باصول القوانين والتشريعات الإلهية، بينما طاعة الرسول في تفسيرها وفي المسائل التنفيذية وفي التفاصيل، فعلى هذا تكون الاولى هي الأصل، والثانية فرع.

ثم يضيف قائلًا: «فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلغُ الْمُبِينُ».

نعم، إنّ الرسول ملزم بتبليغ الرسالة، وسيتولّى الباري ء جلّ شأنه محاسبتكم، وهذا نوع من التهديد الخفي الجاد.

ويشير القرآن الكريم في الآية اللاحقة إلى قضية

التوحيد في العبودية، التي تشكّل المبرّر الطبيعي لوجوب الطاعة، إذ يقول تعالى: «اللَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ». وبما أنّه كذلك إذاً: «عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ».

فليس غير اللَّه يستحق العبودية، لأنّه لا مالك ولا قادر ولا عالم غيره، والغنى كله له، وكل ما لدى الآخرين فمنه وإليه، فيجب الرجوع له والإستعانة به على كل شي ء.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَ أَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَ إِنْ تَعْفُوا وَ تَصْفَحُوا وَ تَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَ أَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَ اسْمَعُوا وَ أَطِيعُوا وَ أَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

سبب النّزول

في تفسير علي بن إبراهيم في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر الباقر عليه السلام في قوله تعالى:

«إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلدِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ». وذلك أنّ الرجل كان إذا أراد الهجرة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تعلّق به ابنه وامرأته وقالوا: ننشدك اللَّه أن تذهب عنّا وتدعنا فنضبع بعدك، فمنهم من يطيع أهله فيقيم، فحذّرهم اللَّه أبناءهم ونساءهم، ونهاهم عن طاعتهم، ومنهم من

مختصر الامثل، ج 5، ص: 195

يمضي ويذرهم ويقول: أما واللَّه لئن لم تهاجروا معي ثم يجمع اللَّه بيني وبينكم في دار الهجرة لا أنفعكم بشي ء أبداً، فلمّا جمع اللَّه بينه وبينهم أمره اللَّه أن يوفي ويحسن ويصلهم فقال: «وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

التّفسير

أولادكم وأموالكم وسيلة لإمتحانكم: حذّر القرآن الكريم من مغبّة الوقوع في الحب المفرط للأولاد

والأموال، الذي قد يجرّ إلى عدم الطاعة للَّه ورسوله حيث قال: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ مِن أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ».

إنّ هناك مظاهر عديدة لهذه العداوة، فأحياناً يتعلقون بثيابكم ليحرموكم خير الهجرة، واخرى ينتظرون موتكم ليسيطروا على أموالكم وثروتكم، وما إلى ذلك.

وتظهر هذه العداوة أحياناً بمظهر الصداقة وتقديم الخدمة، وحيناً آخر تظهر بسوء النية وخبث المقصد.

ومن أجل أن لا يؤدي ذلك إلى الخشونة في معاملة الأهل، نجد القرآن يوازن ذلك بقوله في ذيل نفس الآية: «وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

فإذا ندموا واعتذروا والتحقوا بكم فلا تتعرضوا لهم بعد ذلك، واعفوا عنهم واصفحوا كما تحبّون أن يعفو اللَّه عنكم.

«العفو»: بمعنى صرف النظر عن العقوبة؛ و «الصفح»: في مرتبة أعلى، ويراد به ترك أي توبيخ ولوم؛ و «الغفران»: الذي يعني ستر الذنب وتناسيه.

وتشير الآية اللاحقة إلى أصل كلي آخر حول الأموال والأولاد، حيث تقول: «إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلدُكُمْ فِتْنَةٌ». فإذا تجاوزتم ذلك كله فإنّ: «وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ».

وقد تقدم في الآية السابقة الكلام عن عداء بعض الأزواج والأولاد الذين يدعون الإنسان إلى الانحراف وسلوك طريق الشيطان والمعصية والكفر، وفي هذه الآية نجد الكلام عن أنّ جميع الأموال والأولاد عبارة عن «فتنة»، وهذين الأمرين (الأموال والأولاد) من أهمّ وسائل الإمتحان والإبتلاء.

يقول أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة: «لا يقولنّ أحدكم: أللّهم إنّي أعوذ بك من الفتنة لأنّه ليس أحد إلّاوهو مشتمل على فتنة، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلّات الفتن فإنّ اللَّه سبحانه يقول: «إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلدُكُمْ فِتْنَةٌ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 196

وجاء في الآية اللاحقة: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لّاَنفُسِكُمْ».

لقد أمر اللَّه تعالى أوّلًا بإجتناب الذنوب، ثم بإطاعة الأوامر، وتعدّ الطاعة

في قضية الإنفاق مقدمة لتلك الطاعة، ثم يخبرهم أنّ خير ذلك يعود إليكم ولأنفسكم.

وللتأكيد على أهمية الإنفاق ختمت الآية ب «وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».

«شحّ»: بمعنى «البخل المرادف للحرص»، أنّ هاتين الخصلتين السيّئتين من أكبر الموانع أمام فوز الإنسان، وتغلق عليه سبيل الإنفاق وتصدّه عن الخير.

وفي تفسير علي بن إبراهيم عن الفضل بن أبي مرة قال: رأيت أبا عبداللَّه الصادق عليه السلام يطوف من أوّل الليل إلى الصباح وهو يقول: «اللّهمّ قني شحّ نفسي»! فقلت: جعلت فداك ما سمعتك تدعو بغير هذا الدعاء. قال: «وأي شي ء أشد من شحّ النفس وأنّ اللَّه يقول: «وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»».

وللتشجيع على الإنفاق والتحذير من البخل، يقول تعالى: «إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ».

فاللَّه الخالق الواهب للنعم الذي له كل شي ء، يستقرض منّا ثم يعدنا بأنّه سيعوّضنا أضعاف ذلك، إنّه لطف ما بعده لطف.

«القرض»: في الأصل بمعنى القطع، ولأنّها اقترنت بكلمة «حسن» فإنّها تعني فصل المال عن النفس وإنفاقه في الخير.

وعبارة «يَغْفِرْ لَكُمْ» للإشارة إلى أنّ الإنفاق أحد عوامل غفران الذنوب.

ويقول في آخر الآية: «عَالِمُ الْغَيْبَ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ». إنّه مطّلع على أعمال عباده ومنها النفقة والبذل في سبيل اللَّه، وإنّه غير محتاج لكي يستقرض من عباده وإنّما هو إظهار لكمال لطفه ومحبّته لعباده.

«نهاية تفسير سورة التّغابن»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 197

65. سورة الطلاق

محتوى السورة: يمكن أن نقسّم مباحث هذه السورة إلى قسمين:

1- الآيات السبع الاول التي تتحدث عن الطلاق وما يرتبط به من امور.

2- ويشكّل الدافع الحقيقي للقسم الأوّل من السورة، ويدور الحديث فيه عن عظمة اللَّه ومقام رسوله وثواب الصالحين وجزاء العاصين على شكل مجموعة منسجمة لضمان إجراء

هذه المسألة الإجتماعية المهمّة، ويذكر أنّ لهذه السورة أسماء اخرى كسورة «النساء القصرى» (على وزن صغرى) مقابل سورة «النساء» المعروفة «النساء الكبرى».

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ سورة الطلاق مات على سنّة رسول اللَّه».

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ وَ اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 198

شرائط الطلاق والإنفصال: تقدم أنّ أهمّ بحث في هذه السورة هو بحث الطلاق، حيث يشرّع القرآن فيها مخاطباً الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله بصفته القائد الكبير للمسلمين، ثم يوضّح حكماً عموميّاً بصيغة الجمع، حيث يقول: «يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاءَ فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ».

إنّ المراد هو أن تجري صيغة الطلاق عند نقاء المرأة من الدورة الشهرية، مع عدم المقاربة الزوجية- هذا هو أوّل شرط للطلاق.

ثم يذكر الحكم الثاني وهو حساب العدّة، حيث يقول تعالى: «وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ».

«أحصوا»: من مادة «الإحصاء» بمعنى الحساب.

والجدير بالملاحظة هنا أنّ المخاطب في «حساب العدّة» هم الرجال وليس النساء، وذلك لوقوع مسؤولية «النفقة والسكن» على عاتق الرجال، كما أنّ «حق الرجوع» عن الطلاق يعود إليهم وليس إلى النساء، وإلّا فهنّ ملزمات أيضاً في إحصاء العدّة لتعيين تكليفهنّ.

بعد ذلك يدعو اللَّه تعالى الناس جميعاً إلى التقوى واجتناب المعاصي، حيث يقول تعالى:

«وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ». فهو ربّكم الحريص على سعادتكم، فلا تعصوا له أمراً ولا تتركوا له طاعة، وخاصة في «حساب العدّة» والتدقيق بها.

ثم يذكر الحكم «الثالث» الذي يتعلق

بالأزواج والحكم «الرابع» الذي يتعلق بالزوجات. يقول تعالى: «لَاتُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ».

ورغم أنّ كثيراً من الجهلة لا يلتزمون بهذا الحكم عند الطلاق، حيث يسمح الرجل لنفسه أن يخرج المرأة بمجرد إجراء صيغة الطلاق، كما تسمح المرأة لنفسها بالخروج من بيت زوجها والرجوع إلى أقاربها بمجرد ذلك.

ولكن يبقى لهذا الحكم فلسفته المهمّة وحكمته البالغة، فهو بالإضافة إلى إسداء الإحترام إلى المرأة، يهيى ء أرضية جيّدة للانصراف والإعراض عن الطلاق، ويؤدي إلى تقوية الأواصر الزوجية.

إنّ عدم الالتزام بهذا الحكم الإسلامي الخطير، الذي جاء في نصّ القرآن الكريم، يسبّب كثيراً من حالات الطلاق التي تؤدي إلى الفراق الدائم، بينما كثيراً ما يؤدي الالتزام بهذا الحكم إلى الرجوع والصلح والعودة إلى الزوجية مجدداً.

ولكن قد تقتضي بعض الظروف إخراج المرأة وعدم القدرة على الاحتفاظ بها في البيت،

مختصر الامثل، ج 5، ص: 199

فيجيى ء الحكم الخامس الاستثنائي، إذ يقول تعالى: «إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ».

كأن يكون الزوجان غير منسجمين إطلاقاً، ويكون أحدهما مثلًا سي ء الأخلاق إلى الدرجة التي لا يمكن معها البقاء معه في بيت واحد، وإلّا ستنشأ مشاكل جديدة وعديدة.

بعد بيان هذه الأحكام يؤكّد القرآن الكريم- مرّة اخرى- بقوله: «وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ». لأنّ الغرض من هذه الأحكام هو اسعاد الناس أنفسهم، والتجاوز على هذه الأحكام- سواء من قبل الرجل أو المرأة- يؤدّي إلى توجيه ضربة قويّة إلى سعادتهم.

ويقول تعالى في لفتة لطيفة إلى فلسفة العدّة، والحكمة من تشريعها، وعدم السماح للنساء المعتدات بالخروج من مقرّهن الأصلي البيت. يقول: «لَاتَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْرًا».

ومع مرور الزمن يهدأ طوفان الغضب والعصبية الذي قد يسبّب الطلاق، غير أنّ مرور الزمن وحضور الزوجة إلى جانب زوجها خلال

هذه الفترة في البيت، وإظهار ندم ومحبّة كل واحد منهما إلى الآخر، وكذلك التفكير مليّاً في عواقب هذا العمل القبيح، خاصة مع وجود الأطفال، كل هذه الأمور قد تهيى ء أرضية صالحة للرجوع عن هذا القرار المشؤوم.

في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «المطلّقة تكتحل وتختضب وتطيّب وتلبس ما شاءت من الثياب، لأنّ اللَّه عزّ وجل يقول: «لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْرًا» لعلّها تقع في نفسه فيراجعها».

أبغض الحلال إلى اللَّه الطلاق: إنّ أصل الطلاق من الضروريات التي لا يمكن إلغاؤها بأي وجه من الوجوه، ولكن ينبغي أن لا يصار إليها إلّافي الحالات التي يتعذر فيها مواصلة العلاقة الزوجية والحياة المشتركة. ولهذا نجد أنّ الطلاق قد ذمّ في روايات إسلامية عديدة، وذكر على أنّه (أبغض الحلال إلى اللَّه).

ففي الكافي عن الإمام الصادق قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: ... وما من شي ء أبغض إلى اللَّه عزّ وجل من بيت يخرّب في الإسلام بالفرقة يعني الطلاق».

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «ما من شي ء ممّا أحلّه اللَّه عزّ وجل أبغض إليه من الطلاق».

والطلاق هو السبب وراء مآس عديدة تحلّ بالعوائل والرجال والنساء، وأكثر منهم

مختصر الامثل، ج 5، ص: 200

مختصر الامثل ج 5 239

بالأطفال والأولاد.

فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً (3) فامسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف: يشير في

الآية مورد البحث، وكاستمرار للأبحاث المرتبطة بالطلاق التي وردت في الآيات السابقة، إلى عدّة أحكام اخرى، إذ يقول تعالى في البداية: «فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ».

والمراد من عبارة «بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ» هو تشرف على الانتهاء، فإنّ الرجوع بعد نهاية العدة غير جائز، إلّاأن يكون إبقاؤهن عن طريق صيغة عقد جديدة.

فإنّ هذه الآية تطرح أهمّ الأواصر المرتبطة بالحياة الزوجية وأكثرها نضجاً، وهي: إمّا أن يعيش الرجل مع المرأة بإحسان ومعروف وتوافق، أو أن ينفصلا بإحسان.

فالانفصال ينبغي أن يتمّ بعيداً عن الهياج والعربدة، وعلى اصول صحيحة، ويجب أن تحفظ فيه الحقوق واللياقات لكي تكون أرضية صالحة ومهيّأة للعودة والرجوع إذا ما قرّرا الرجوع إلى الحياة المشتركة فيما بعد، فإنّ العودة إذا تمّت في جو مظلم ملبّد بالخلافات والتعديات، فسوف لا تكون عودة موفّقة تستطيع الاستمرار مدّة طويلة، هذا إضافة إلى أنّ الانفصال بالطريقة غير اللائقة قد يترك آثاراً، ليس فقط على الزوج والزوجة، وإنّما قد تتعدى إلى عشيرة وأقرباء كل منهما، وتقطع طريق المساعدة لهما في المستقبل.

ثم يذكر القرآن الكريم الحكم الثاني حيث يقول: «وَأَشْهِدُوا ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ».

وذلك لكي لا يستطيع أحد أن ينكر في المستقبل ما جرى.

وفي الحكم الثالث يبيّن القرآن الكريم وظيفة الشهود، حيث يقول: «وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ». حذار أن يكون ميلكم وحبّكم لأحد الطرفين مانعاً عن إظهار الحق.

إنّ تعبير «ذَوَىْ عَدْلٍ مِنكُمْ» دليل على أنّ الشاهدين يجب أن يكونا مسلمين عادلين ومن الذكور.

ولتأكيد الأحكام السابقة جميعاً، تقول الآية الكريمة: «ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ

مختصر الامثل، ج 5، ص: 201

وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ».

وبسبب المشاكل المعيشية والحياة المستقبلية فإنّ الزوجين قد ينحرفان عن جادة الصواب عند الطلاق والرجوع، وقد تضغط هذه الظروف على الشاهدين

فتمنعانهما عن أداء الشهادة الصحيحة والعادلة، لهذا تؤكّد الآية في نهايتها قائلة: «وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا». ويساعده حتماً على إيجاد الحل لمشكلاته.

«وَيَرْزُقْهُ مِن حَيْثُ لَايَحْتَسِبُ». ولا يتصور تحصيله.

«وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ». وسيكفيه ما يهمّه من اموره.

«إِنَّ اللَّهَ بِالِغُ أَمْرِهِ». لأنّ اللَّه عزّ وجل قادر مطلق، وأمره نافذ في كل شي ء وتخضع جميع الكائنات لمشيئته وإرادته ...

ولهذا يحذّر النساء والرجال والشهود أن لا يخافوا قول الحق، ويحثّهم على الاعتماد عليه واللجوء إليه في تيسير الصعوبات، لأنّه قد تعهّد بأن ييسّر للمتقين أمرهم.

إنّ تلاوة الآيات السابقة تبعث- أكثر من غيرها- الأمل في النفوس، وتمنح القلب صفاءً خاصاً، وتمزّق حجب اليأس والقنوط، إذ تعد كل المتقين بحلّ مشاكلهم وتسهيل امورهم.

في الدرّ المنثور عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في قوله «وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا»: «من شبهات الدنيا، ومن غمرات الموت، وشدائد يوم القيامة».

وَ اللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَ اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَ أُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَ لَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَ إِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ أْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَ إِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7)

مختصر

الامثل، ج 5، ص: 202

أحكام النساء المطلّقات وحقوقهن: من بين الأحكام المستفادة من الآيات السابقة لزوم إحصاء العدة بعد الطلاق، ولما كانت الآية (228) من سورة البقرة قد بيّنت حكم العدة للنساء اللاتي يرين العادة الشهرية وذلك بأن تعد ثلاث دورات شهرية متتالية وبمشاهدة الثالثة تكون المرأة قد أنهت عدّتها، فقد ذكرت الآيات محل البحث حكم النسوة اللواتي لا حيض لديهم لأسباب معينة، أو الحوامل لتكمل بحث العدة. يقول تعالى في بداية الأمر:

«وَالِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلثَةُ أَشْهُرٍ».

فإذا شككتم في وجود الحمل فمدّة العدة حينئذ ثلاثة أشهر، وكذلك النسوة اللائي لم يرين الحيض ولم تحدث لهن العادة الشهرية بعد: «وَالِى لَمْ يَحِضْنَ».

ثم يشير تعالى إلى ثالث مجموعة حيث يضيف قائلًا: «وَأُولتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ».

وبهذا اتّضح حكم المجاميع الثلاثة، مجموعتان يجب أن يحصين عدتهن ثلاثة أشهر، والمجموعة الثالثة- أي النساء الحوامل- تنتهي عدّتهن بوضع الحمل، سواء كان بعد ساعة من الطلاق، أو بعد ثماني أشهر مثلًا.

ومعنى عبارة «إِنِ ارْتَبْتُمْ» هو الشك في وجود «الحمل» بمعنى أنّه هناك إحتمال حمل بعد سنّ اليأس (خمسون سنة للنساء العاديات، وستون سنة للنساء القرشيات) فمن أجل هذا الاحتمال الضعيف الذي نادراً ما يقع، يجب أن تحتاط النساء فتحصي عدّتها ثلاثة أشهر.

وأخيراً يؤكّد مرّة اخرى في نهاية الآية على التقوى، حيث يقول تعالى: «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا».

ييسّر اموره ويسهّلها في هذا العالم، وكذلك في العالم الآخر، بألطافه سواء في هذه القضيّة أي قضية الطلاق أو في قضايا اخرى.

وللتأكيد على أحكام الطلاق والعدة فقد أضاف تعالى في الآية اللاحقة قائلًا: «ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ». «وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفّرْ عَنْهُ سَيَاتِهِ وَيُعْظِمْ

لَهُ أَجْرًا».

وتعطي الآية اللاحقة توضيحاً أوسع وأشمل لحقوق المرأة بعد الطلاق، من حيث «السكن» و «النفقة» وامور اخرى. يقول تعالى في سكن النساء المطلّقات: «أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مّن وُجْدِكُمْ». «وجد»: على وزن (حكم)، بمعنى القدرة والتمكّن.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 203

ومن الطبيعي أنّه حينما يكون الإسكان على نفقة الزوج وفي عهدته، فإنّ الامور الاخرى من الإنفاق ستقع هي الاخرى على عاتق الزوج، والشاهد على هذا المدّعى ذيل الآية الذي يتحدث عن نفقة النساء الحوامل.

ثم يتطرق تعالى لذكر حكم آخر: «وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيّقُوا عَلَيْهِنَّ».

حذار أن يغرّكم البعض ويزرع بينكم البغض والعداوة والنفور، مما يؤدّي إلى إخراجكم عن جادة الحق، فتحرمونهن حقوقهن الطبيعية في السكن والنفقة.

يقول تعالى في ثالث حكم حول النساء الحوامل: «وَإِن كُنَّ أُولتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ».

فما دمن حاملات فهنّ في حالة عدة يستحقّن النفقة والسكن على الزوج.

ويقول تعالى في الحكم الرابع حول حقوق النساء المرضعات: «فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ».

اجرة تتناسب مع مقدار وزمان الإرضاع، وطبقاً لما هو معروف وشائع عرفاً.

ونظراً لأنّ الأطفال كثيراً ما يصبحون نقطة للنزاع والخلاف بين الزوج والزوجة بعد الطلاق، فقد أوضح القرآن في الحكم الخامس هذا الأمر بشكل قاطع ولائق حيث قال:

«وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ». وتشاوروا بينكم في مصير الأولاد ومستقبلهم.

ويحذّر القرآن الكريم من مغبّة أن يكون الأطفال ضحيّة الخلاف الواقع بين الزوج والزوجة، مما يترك عليهم آثاراً واضحة على تكوينهم الجسمي والنفسي، إذ يحرمون من حنان الام والأب وشفقتهما فينبغي أن يتّقي الأبوان اللَّه تعالى ويحفظا حقوق الأطفال فإنّهم لا يستطيعون الدفاع عنها.

وفي حالة عدم حصول التوافق والتفاهم بين الزوجين حول مصير الأطفال وقضية إرضاعهم، يقول القرآن في سادس حكم في هذا المجال: «وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ

لَهُ أُخْرَى .

وتبيّن الآية اللاحقة سابع- وآخر حكم- في هذا المجال حيث يقول تعالى: «لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا ءَاتَيهُ اللَّهُ لَايُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا ءَاتَاهَا».

إنّ هذا الأمر يرتبط بالنساء اللائي يتعهدن رضاعة أطفالهن بعد الفرقة والطلاق، وأثناء العدة التي اشير إليها في الآيات السابقة.

وبناءً على هذا لا ينبغي للذين ليس لهم القدرة أن يتشدّدوا ويعقدوا الامور، كما أنّ الذين لا يملكون القدرة المالية غير مأمورين إلّابالقدر الذي تسعه قدرتهم المالية ولا يحق

مختصر الامثل، ج 5، ص: 204

للنساء مطالبتهم بأكثر من ذلك. وفي نهاية المطاف يبشّرهم اللَّه تعالى بقوله: «سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا». أي: لا تجزعوا ولا تحزنوا ولا يكن الضيق في المعيشة سبباً لخروجكم عن الطريق السوي، فإنّ الدنيا أحوال متقلّبة لا تبقى على حال، فحذار من أن تقطع المشاكل العابرة والمرحلية حبل صبركم.

وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَ رُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَ عَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَ كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) العاقبة المؤلمة للعاصين: في كثير من الموارد يأتي القرآن على ذكر الامم السابقة بعد إيراد سلسلة من الأحكام والتكاليف، لكي يرى المسلمون بأعينهم عاقبة كل من (الطاعة والعصيان) في تجارب الماضي وتأخذ القضية طابعاً حسيّاً.

ولم يخرج القرآن الكريم في هذه

السورة عن هذا النهج، فبعد ذكر وظائف كل من الرجال والنساء عند الطلاق، يحذّر العاصين والمتمردين من العواقب الوخيمة التي تنتظرهم بقوله في البداية: «وَكَأَيّن مّن قَرْيَةً عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا».

والمقصود ب «القرية» هو محل اجتماع الناس، وهو أعمّ من المدينة والقرية، والمراد هو أهلها.

«عتت»: من مادة «عتو» بمعنى التمرّد على الطاعة؛ و «نكر»: يعني العمل الصعب الذي لم يسبق له مثيل.

«حساباً شديداً» إشارة إلى عاقبة الأقوام السابقة المتمرّدة العاصية في هذه الدنيا.

لذلك يضيف تعالى في الآية اللاحقة: «فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا».

وأي خسارة أفدح من خسران رأس المال الذي وهبه اللَّه، والخروج من هذه الدنيا

مختصر الامثل، ج 5، ص: 205

ليس فقط بعدم شراء المتاع- وإنّما بالانتهاء إلى العذاب الإلهي والدمار.

ثم يشير تعالى إلى عقابهم الاخروي بقوله: «أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا». عذاباً مؤلماً، مخيفاً، مذلًا، فاضحاً، دائماً أعدّه لهم منذ الآن في نار جهنم.

والآن «فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِى الْأَلْبَابِ الَّذِينَ ءَامَنُوا».

إنّ الفكر والتفكّر من جهة، والإيمان والآيات الإلهية من جهة اخرى، تحذّركم وتدعوكم لملاحظة مصائر الأقوام السابقة المتمردة التي عصت أمر ربّها، والاعتبار بذلك والحذر من أن تكونوا مثلهم.

وبعد ذلك يخاطب اللَّه تعالى المؤمنين الذين يتفكّرون في آيات اللَّه بقوله: «قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا». وهو الشي ء الذي يوجب تذكركم.

وأرسل لكم رسولًا يتلو عليكم آيات اللَّه الواضحة: «رَّسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ مُبَيّنَاتٍ لّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ».

إنّ «الذكر» يعني القرآن؛ و «رسولًا» تعني شخص الرسول؛ ومعنى «الإنزال» هنا هو وجود الرسول صلى الله عليه و آله في الامة وبعثه فيها من قبل اللَّه تعالى.

إنّ الهدف من إرسال الرسول وإنزال هذا الكتاب

السماوي، هو لإخراج الناس من الظلمات والكفر والجهل وإرتكاب الذنوب والمآثم والمفاسد الأخلاقية، إلى نور الإيمان والتوحيد والتقوى.

وفي ختام الآية يشير إلى أجر العاملين المخلصين بقوله: «وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا».

وأشار بالفعل المضارع «يؤمن» و «يعمل» إلى أنّ إيمانهم وعملهم الصالح ليسا محدودين بحدود الزمان والمكان، وإنّما لهما استمرار وديمومة.

والتعبير ب (خالدين) دليل على كون الجنة خالدة.

والتعبير ب «رزقاً» يشمل كل النعم الإلهية في الدنيا والآخرة، لأنّ الصالحين والمتقين لهم حياتهم الكريمة حتى في الحياة الدنيا.

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ وَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عِلْماً (12)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 206

الهدف من خلق العالم: هذه الآية هي آخر آية من سورة الطلاق، وفيها إشارة معبّرة وصريحة إلى عظمة وقدرة الباري ء جلّ شأنه في خلق السماوات والأرض وبيان الهدف النهائي للخلق. يقول تعالى أوّلًا: «اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَموَاتٍ». «وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ». بمعنى أنّ الأرضين سبع كما السماوات سبع، وهذه هي الآية الوحيدة التي تشير إلى الأرضين السبع في القرآن الكريم.

إنّ مفهوم هذه الآية مع الإلتفات إلى الآية (6) من سورة الصّافات التي تقول: «إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ». هو أنّ علم البشر ومعرفته مهما اتّسعت فهي محدودة ومتعلّقة بالسماء الاولى التي توجد وراءها ثوابت وسيّارات ستة هي عبارة عن العوالم الاخرى التي لا تتسع لها معرفتنا المحدودة ولا ينالها إدراكنا الضيّق.

أمّا الأرضين السبع وما حولها، فربّما تكون إشارة إلى طبقات الأرض المختلفة، لأنّ الأرض تتكوّن من طبقات مختلفة كما ثبت اليوم علميّاً، أو لعلها

تكون إشارة إلى المناطق السبع التي تقسّم بها الأرض في السابق وحالياً.

ثم يشير تعالى إلى إدارة هذا العالم الكبير وتدبيره بقوله جلّ شأنه: «يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ».

وأخيراً يشير تعالى إلى الهدف من وراء هذا الخلق العظيم حيث يقول: «لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَىْ ءٍ عِلْمًا».

ومن ثم يجب أن يعلم الإنسان أنّ اللَّه محيط بكل أسرار وجوده، عالم بكل أعماله ما ظهر منها وما بطن، ثم يجب أن يعلم الإنسان أنّ وعد اللَّه في البعث والمعاد والثواب والعقاب وحتمية انتصار المؤمنين، كل ذلك غير قابل للتخلف والتأخر.

«نهاية تفسير سورة الطّلاق»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 207

66. سورة التحريم

محتوى السورة: تتكوّن هذه السورة من أربعة أقسام رئيسية:

1- يرتبط بقصة الرسول صلى الله عليه و آله مع بعض أزواجه حينما حرم بعض أنواع الطعام على نفسه، فنزلت الآيات من (1- 5).

2- خطاب لكل المؤمنين في شؤون التربية ورعاية العائلة ولزوم التوبة من الذنوب، وهو من الآية (6- 8).

3- وهو الآية التاسعة التي تتضمن خطاباً إلى الرسول صلى الله عليه و آله بضرورة مجاهدة الكفار والمنافقين.

4- يتضمن توضيحاً للأقسام السابقة بذكر نموذجين صالحين للنساء، وهما (مريم العذراء، وزوجة فرعون) ونموذجين غير صالحين (زوجة نوح، وزوجة لوط) ويحذّر نساء النبي صلى الله عليه و آله من هذين النموذجين الأخيرين ويدعوهنّ إلى الإقتداء بالنموذجين الأوّلين من الآية (10- 12).

فضيلة تلاوة السورة: في ثواب الأعمال عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ سورة الطلاق والتحريم في فريضة أعاذه اللَّه من أن يكون يوم القيامة ممّن يخاف أو يحزن وعوفي من النار وأدخله اللَّه الجنة بتلاوته إيّاهما ومحافظته عليهما لأنّهما للنبي صلى الله عليه و آله».

مختصر الامثل، ج 5، ص:

208

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَ إِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَ أَبْكَاراً (5)

سبب النّزول

عن عائشة: إنّ النبي صلى الله عليه و آله كان يمكث عند زينب ابنة جحش [إحدى أزواج الرسول ويشرب عندها عسلًا فتواصيت أنا وحفصة ان أتينا دخل عليها النبي صلى الله عليه و آله فلتقل إنّي لأجد منك ريح المغافير أكلت المغافير [وهو نوع من الصمغ يترشّح من بعض أشجار الحجاز يسمّى عرفط ويترك رائحة غير طيبة، علماً أنّ الرسول كان يصرّ على أن تكون رائحته طيّبة دائماً]، فدخل على إحداهما فقالت له ذلك فقال: «لا بل شربت عسلًا عند زينب بنت جحش ولن أعود له». [ولهذا أقسم بأنّه سوف لن يتناول ذلك العسل مرّة اخرى، خوفاً من أن تكون زنابير العسل هذا قد تغذّت على شجر صمغ المغافير وحذّرها أن تنقل ذلك إلى أحد لكي لا يشيع بين الناس أنّ الرسول قد حرّم على نفسه طعاماً حلالًا فيقتدون بالرسول ويحرّمونه أو ما يشبهه على أنفسهم، أو خوفاً من أن تسمع زينب وينكسر قلبها وتتألّم

لذلك. لكنّها أفشت السر فتبين أخيراً أنّ القصة كانت مدروسة ومعدّة فتألم الرسول صلى الله عليه و آله لذلك كثيراً، فنزلت عليه الآيات السابقة لتوضّح الأمر وتنهى من أن يتكرر ذلك مرّة اخرى في بيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «1».

______________________________

(1) صحيح البخاري 6/ 167، والتوضيحات التي ذكرت في تستفاد من كتب اخرى.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 209

التّفسير

التوبيخ لبعض زوجات الرسول: مما لا شك فيه أنّ رجلًا عظيماً كالرسول صلى الله عليه و آله لا يمكن أن يهمّه أمره وحده دون غيره، بل أمره يهمّ المجتمع الإسلامي والبشرية جمعاء، ولهذا يكون التعامل مع أيّة دسيسة حتى لو كانت بسيطة تعاملًا حازماً وقاطعاً لا يسمح بتكرّرها، لكي لا تتعرض حيثية الرسول واعتباره إلى أي نوع من التصدّع والخدش والآيات محل البحث تعتبر تحذيراً من ارتكاب مثل هذه الأعمال حفاظاً على اعتبار الرسول صلى الله عليه و آله. البداية كانت خطاباً إلى الرسول: «يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ».

إنّ هذا التحريم ليس تحريماً شرعياً، بل هو- كما يستفاد من الآيات اللاحقة- قسم من قبل الرسول الكريم، ومن المعروف أنّ القسم على ترك بعض المباحات ليس ذنباً. وبناءً على هذا فإنّ جملة «لِمَ تُحَرّمُ» لم تأت كتوبيخ وعتاب، وإنّما هي نوع من الإشفاق والعطف.

ثم يضيف في آخر الآية: «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ». وهذا العفو والرحمة إنّما هو لمن تاب من زوجات الرسول اللاتي رتّبن ذلك العمل وأعددنه.

ويضيف في الآية اللاحقة أنّ اللَّه قد أوضح طريق التخلّص من مثل هذا القسم: «قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ». أي: أعط كفارة القسم وتحرّر منه.

ثم يضيف: «وَاللَّهُ مَوْلكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ». فقد أنجاكم من مثل

هذه الأقسام ووضع لكم طريق التخلّص منها طبقاً لعلمه وحكمته.

ويستفاد من بعض الروايات أنّ النبي صلى الله عليه و آله أعتق رقبة بعد هذا القسم وحلّل ما كان قد حرّمه بالقسم.

وفي الآية اللاحقة يتعرض لهذا الحادث بشكل أوسع: «وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِىُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ».

إنّ هذا السر يتكوّن من أمرين:

الأوّل: تناول العسل عند زوجته (زينب بنت جحش).

والثاني: تحريم العسل على نفسه في المستقبل.

أمّا الزوجة التي أذاعت السر ولم تحافظ عليه فهي «حفصة» حيث أنّها نقلت ذلك

مختصر الامثل، ج 5، ص: 210

الحديث الذي سمعت به إلى عائشة.

وعلى كل حال فإنّه: «فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذَا قَالَ نَبَّأَنِىَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ».

ويتّضح من مجموع هذه الآيات أنّ بعض زوجات الرسول لم يكتفين بإيذاء النبي صلى الله عليه و آله بكلامهن، بل لا يحفظن سرّه، وحفظ السر من أهمّ صفات الزوجة الصالحة الوفيّة لزوجها. ثم يتحدث القرآن مع زوجتي الرسول اللتين كانتا وراء هذا الحادث بقوله: «إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا».

وقد اتّفق المفسرون الشيعة والسنة على أنّ تلك الزوجتين هما «حفصة بنت عمر» و «عائشة بنت أبي بكر».

ثم يضيف تعالى: «وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ».

ويتّضح من هذا كم تركت هذه الحادثة من أثر مؤلم في قلب الرسول صلى الله عليه و آله وروحه العظيمة، ورغم قدرة الرسول المتكاملة نشاهد أنّ اللَّه يدافع عنه إذ يعلن حماية جبرائيل والمؤمنين له.

مما لا شك فيه أنّ صالح المؤمنين، لها معانٍ واسعة تشمل جميع المؤمنين الصالحين الأتقياء الذين كمل إيمانهم، ولكن ما هو المصداق الأكمل والأتم لهذا المصطلح؟

يستفاد من روايات

عديدة أنّ المقصود هو الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام.

في آخر آية من هذه الآيات يخاطب اللَّه تعالى جميع نساء النبي بلهجة لا تخلو من التهديد:

«عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيّبَاتٍ وَأَبْكَارًا».

يضع القرآن الكريم عدّة صفات للمرأة الصالحة التي يمكنها أن تكون نموذجاً يقتدى به في انتخاب الزوجة اللائقة.

الأوّل «الإسلام» ثم «الإيمان» أي الإعتقاد الذي ينفذ ويترسّخ في أعماق قلب الإنسان، ثم حالة «القنوت» أي التواضع وطاعة الزوج، بعد ذلك «التوبة» ويقصد أنّ الزوجة إذا ما ارتكبت ذنباً بحق زوجها فإنّها سرعان ما تتوب وتعتذر عن ذلك، وتأتي بعد ذلك «العبادة» التي جعلها اللَّه سبحانه ليطهّر بها قلب الإنسان وروحه ويصنعها من جديد، ثم «إطاعة أوامر اللَّه» والورع عن محارمه.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 211

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَ يُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَ اغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (8) قوا أنفسكم وأهليكم النار: تخاطب الآيات السابقة جميع المؤمنين، وترسم لهم المنهج الصالح لتربية الزوجات والأولاد والاسرة بشكل عام، فهي تقول أوّلًا: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ».

وذلك بحفظ النفس من الذنوب وعدم الاستسلام للشهوات والأهواء،

وحفظ العائلة من الانحراف بالتعليم والتربية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتهيئة الأجواء الصالحة والمحيط الطاهر من كل رذيلة ونقص.

وينبغي مراعاة هذا البرنامج الإلهي منذ اللحظات الاولى لبناء العائلة، أي منذ أوّل مقدمات الزواج، ثم مع أوّل لحظة لولادة الأولاد، ويراعى ويلاحظ بدقة حتى النهاية.

ويضيف القرآن قائلًا: «عَلَيْهَا مَلِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّايَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ».

وبهذا لا يبقى طريق للخلاص والهروب، ولن يؤثّر البكاء والإلتماس والجزع والفزع.

في الآية اللاحقة يخاطب الكفار ويصف وضعهم في ذلك اليوم العصيب بقوله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَاتَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

قد جاءت هذه الآية بعد الآية السابقة التي خاطب بها المؤمنين، ليكون واضحاً أنّ عدم الالتزام بأوامر اللَّه وعدم الإهتمام بالنساء والأولاد والأهل قد تكون نتيجته وعاقبته كعاقبة الكفار يوم القيامة.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 212

ومما يجدر ذكره أنّ عدم قبول الإعتذار ناتج عن كونه نوعاً من التوبة، والتوبة لا تقبل في غير هذا العالم، سواء كان قبل دخول النار أو بعد دخولها.

ويلقي القرآن الضوء في الآية اللاحقة على طريق النجاة من النار حيث يقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا».

«نصوح»: من مادة «نصح»، بمعنى طلب الخير بإخلاص، ولذلك يقال للعسل الخالص بأنّه (ناصح) وبما أنّ من يريد الخير واقعاً يجب أن يكون عمله توأماً للإتقان جاءت كلمة «نصح» أحياناً بهذا المعنى، ولذا يقال للبناء المتين بأنّه «نصاح»- على وزن كتاب- ويقال للخيّاط «ناصح»، وكلا المعنيين- أي الخلوص والمتانة- يجب توفّرهما في التوبة النصوح.

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس قال: قال معاذ بن جبل: يا رسول اللَّه! ما التوبة النصوح؟ قال: «أن يتوب التائب ثم لا يرجع في ذنب كما لا يعود

اللبن إلى الضرع».

وبهذا التعبير اللطيف يتّضح أنّ التوبة يجب أن تحدث إنقلاباً في داخل النفس الإنسانية، وتسدّ عليها أي طريق للعودة إلى الذنب، وتجعل من الرجوع أمراً مستحيلًا كما يستحيل إرجاع اللبن إلى الضرع والثدي.

ثم يشير القرآن الكريم إلى آثار التوبة الصادقة النصوح بقوله: «عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيَاتِكُمْ». «وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ». «يَوْمَ لَايُخْزِى اللَّهُ النَّبِىَّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ». «نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ». ويضي ء لهم طريقهم في المحشر ويوصلهم إلى الجنة.

وهنا يتوجّهون إلى اللَّه بطلب العفو: «يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 213

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنَافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَ امْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَ مَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَ صَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَ كُتُبِهِ وَ كَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12) نماذج من النساء المؤمنات والكافرات: بما أنّ المنافقين يفرحون لإفشاء أسرار الرسول وإذاعة الأخبار الداخلية عن بيته، ويرحبون ببروز المشاجرات والاختلافات بين زوجاته- التي مضت الإشارة إليها في الآيات السابقة- بل إنّهم كانوا يساهمون في إشاعة تلك الأخبار وإذاعتها بشكل أوسع، نظراً لكل ذلك فقد خاطب القرآن الكريم الرسول بأن يشدّد على المنافقين والكافرين ويغلظ عليهم، حيث يقول: «يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ

جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَيهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ».

الجهاد ضد الكفار قد يكون مسلّحاً أو غير مسلّح، أمّا الجهاد ضد المنافقين فإنّه بدون شك جهاد غير مسلّح، لأنّ التاريخ لم يحدّثنا أبداً عن أنّ الرسول خاض مرّة معركة مسلّحة ضدّ المنافقين.

إنّ المراد من الجهاد ضدّ المنافقين إنّما هو توبيخهم وإنذارهم وتحذيرهم، بل وتهديدهم وفضحهم، أو تأليف قلوبهم في بعض الأحيان.

وذلك بعد حياة الرسول صلى الله عليه و آله حدث في خلافة أمير المؤمنين علي عليه السلام حيث خاض ضدّهم معركة مسلّحة.

ومن أجل أن يعطي اللَّه تعالى درساً عملياً حيّاً إلى زوجات الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله عاد مرّة اخرى يذكر بالعاقبة السيّئة لزوجتين غير تقيتين من زوجات نبيين عظيمين من أنبياء

مختصر الامثل، ج 5، ص: 214

اللَّه، وكذلك يذكر بالعاقبة الحسنة والمصير الرائع لامرأتين مؤمنتين مضحيّتين كانتا في بيتين من بيوت الجبابرة، حيث يقول أوّلًا: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِن عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ».

وبناءً على هذا فإنّ القرآن يحذّر زوجتي الرسول اللتين اشتركتا في إذاعة سرّه، بأنّكما سوف لن تنجوا من العذاب لمجرّد كونكما من أزواج النبي كما فعلت زوجتا نوح ولوط فواجهتا العذاب الإلهي.

كما تتضمّن الآيات الشريفة تحذيراً لكل المؤمنين بأنّ القرب من أولياء اللَّه والإنتساب إليهم لا يكفي لمنع نزول عذاب اللَّه ومجازاته.

وعلى أيّة حال فإنّ هاتين المرأتين خانتا نبيّين عظيمين من أنبياء اللَّه. والخيانة هنا لا تعني الانحراف عن جادّة العفّة والنجابة، لأنّهما زوجتا نبيّين ولا يمكن أن تخون زوجة نبي بهذا المعنى للخيانة، فقد جاء عن الرسول صلى الله عليه و آله قال:

«ما بغت امرأة نبي قطّ».

ثم يذكر القرآن الكريم نموذجين مؤمنين صالحين فيقول: «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ».

من المعروف أنّ اسم زوجة فرعون (آسية) واسم أبوها (مزاحم) وقد آمنت منذ أن رأت معجزة موسى عليه السلام أمام السحرة، واستقرّ قلبها على الإيمان، لكنّها حاولت أن تكتم إيمانها، غير أنّ الإيمان برسالة موسى وحبّ اللَّه ليس شيئاً يسهل كتمانه، وبمجرّد أن اطّلع فرعون على إيمانها نهاها مرّات عديدة وأصرّ عليها أن تتخلّى عن رسالة موسى وربّه، غير أنّ هذه المرأة الصالحة رفضت الاستسلام إطلاقاً.

وأخيراً أمر فرعون أن تُثبت يداها ورجلاها بالمسامير، وتترك تحت أشعة الشمس الحارقة، بعد أن توضع فوق صدرها صخرة كبيرة. وفي تلك اللحظات الأخيرة كانت امرأة فرعون بهذا الدعاء إذ قالت: «رَبّ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتًا فِى الْجَنَّةِ وَنَجّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ». وقد استجاب لها ربّها وجعلها من أفضل نساء العالم إذ يذكرها في صفّ مريم.

في الدرّ المنثور عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد صلى الله عليه و آله، ومريم بنت عمران، وآسيه بنت مزاحم امرأة فرعون».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 215

ثم يضرب اللَّه تعالى مثلًا آخر للنساء المؤمنات الصالحات، حيث يقول جلّ من قائل:

«وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا».

فهي امرأة لا زوج لها أنجبت ولداً صار نبيّاً من أنبياء اللَّه العظام (من اولي العزم).

ويضيف تعالى قائلًا: «وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ».

كانت في القمّة من حيث الإيمان، إذ آمنت بجميع الكتب السماوية والتعاليم الإلهية، ثم إنّها كانت قد أخضعت قلبها للَّه، وحملت قلبها على كفّها وهي على

أتمّ الإستعداد لتنفيذ أوامر الباري جلّ شأنه.

«نهاية تفسير سورة التحريم»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 217

67. سورة الملك

محتوى السورة: تسمّى سورة الملك أيضاً ب (المنجية)، وكذلك تسمّى ب (الواقية) أو (المانعة) بلحاظ أنّها تحفظ الإنسان الذي يتلوها من العذاب الإلهي أو عذاب القبر، وهي من السور التي لها فضائل عديدة. وقد طرحت في هذه السورة مسائل قرآنية مختلفة، إلّاأنّ الأصل فيها يدور حول ثلاثة محاور هي:

1- أبحاث حول المبدأ، وصفات اللَّه سبحانه، ونظام الخلق العجيب، خصوصاً خلق السماوات والنجوم والأرض وما فيها من كنوز عظيمة ... وكذلك ما يتعلق بخلق الطيور والمياه الجارية والحواس كالاذن والعين، بالإضافة إلى وسائل المعرفة الاخرى.

2- ثم تتحدث الآيات الكريمة عن المعاد وعذاب الآخرة، والحوار الذي يدور بين ملائكة العذاب الإلهي وأهل جهنم، بالإضافة إلى امور اخرى في هذا الصدد.

3- وأخيراً تتحدث عن التهديد والإنذار الإلهي بألوان العذاب الدنيوي والاخروي للكفار والظالمين.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: «سورة المُلك هي المانعة، تمنع من عذاب القبر، وهي مكتوبة في التوراة سورة الملك، ومن قرأها في ليلة فقد أكثر وأطاب ولم يكتب من الغافلين».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 218

ومن الطبيعي أنّ جميع هذه الآثار العظيمة لا تكون إلّامن خلال التدبر في قراءة آيات هذه السورة والعمل بها، والإستلهام من محتوياتها في الممارسات الحياتية المختلفة.

تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَ هُوَ

حَسِيرٌ (4) وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَ جَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) تبدأ آيات هذه السورة بمسألة مالكية وحاكمية اللَّه سبحانه، وخلود ذاته المقدسة، وهي في الواقع مفتاح جميع أبحاث هذه السورة المباركة. يقول تعالى: «تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

«تبارك»: من مادة «بركة» في الأصل من «برك» على وزن (ترك) بمعنى (صدر البعير)، واطلقت كذلك على كل نعمة باقية ودائمة.

ثم يشير سبحانه في الآية اللاحقة إلى الهدف من خلق الإنسان وموته وحياته، وهي من شؤون مالكيته وحاكميته تعالى فيقول: «الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا».

«الموت»: حقيقته الإنتقال من عالم إلى عالم آخر، وهذا الأمر وجودي يمكن أن يكون مخلوقاً، لأنّ الخلقة ترتبط بالامور الوجودية، وهذا هو المقصود من الموت في الآية الشريفة، أمّا الموت بمعنى الفناء والعدم فليس مخلوقاً، لذا فإنّه غير مقصود.

أمّا الهدف من الإمتحان فهو تربية الإنسان كي يجسّد الاستقامة والتقوى والطهر في الميدان العملي ليكون لائقاً للقرب من اللَّه سبحانه، وقد بحثنا ذلك مفصّلًا فيما سبق.

ومن هنا نعلم أنّ العالم ميدان الإمتحان الكبير لجميع البشر، ووسيلة هذا الإمتحان هو الموت والحياة، والهدف منه هو الوصول إلى حسن العمل الذي مفهومه تكامل المعرفة، وإخلاص النيّة، وإنجاز كل عمل خيّر.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 219

وبما أنّ الإنسان يتعرّض لأخطاء كثيرة في مرحلة الإمتحان الكبير الذي يمرّ به، فيجدر به ألّا يكون متشائماً ويائساً من عون اللَّه سبحانه ومغفرته له، وذلك من خلال العزم على معالجة أخطائه ونزواته النفسية وإصلاحها، حيث يقول تعالى: «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ».

وبعد إستعراض نظام الموت والحياة الذي تناولته الآية السابقة، تتناول الآية اللاحقة النظام الكلي للعالم، وتدعو الإنسان إلى التأمل

في عالم الوجود، والتهيّؤ لمخاض الإمتحان الكبير عن طريق التدبّر في آيات هذا الكون العظيم. يقول تعالى: «الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَموَاتٍ طِبَاقًا».

ثم يضيف سبحانه: «مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمنِ مِن تَفَاوُتٍ».

إنّ الآية أعلاه تبيّن لنا أنّ عالم الوجود- بكل ما يحيطه من العظمة- قائم وفق نظام مستحكم، وقوانين منسجمة، ومقادير محسوبة، ودقّة متناهية، ولو وقع أي خلل في جزء من هذا العالم الفسيح لأدّى إلى دماره وفنائه.

ثم يضيف تعالى مؤكّداً: «فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ».

«فطور»: من مادة «فطر» على وزن (سطر) بمعنى الشقّ من الطول، كما تأتي بمعنى الكسر (كإفطار الصيام) والخلل والإفساد، وقد جاءت بهذا المعنى في الآية مورد البحث.

ويقصد بذلك أنّ الإنسان كلّما دقّق وتدبّر في عالم الخلق والوجود، فإنّه لا يستطيع أن يرى أي خلل أو اضطراب فيه. لذا يضيف سبحانه مؤكّداً هذا المعنى في الآية اللاحقة حيث يقول: «ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسًا وَهُوَ حَسِيرٌ».

«كرّتين»: من مادة «كر» على وزن (شرّ) بمعنى التوجّه والرجوع إلى شي ء معيّن.

وبناءً على هذا فإنّ القرآن الكريم يأمر الناس في هذه الآيات أن يتطلّعوا ويتأملوا ويدقّقوا النظر في عالم الوجود ثلاث مرّات- كحد أدنى- ويتدبّروا أسرار الخلق.

وعندما لا يجد أي خلل أو نقص في هذا النظام العجيب والمحيّر لخلق الكون، فإنّ ذلك سيؤدّي إلى معرفة خالق هذا الوجود العظيم ومدى علمه وقدرته اللامتناهية، مما يؤدي إلى عمق الإيمان به سبحانه والقرب من حضرته المقدسة.

«خاسى ء»: من مادة «خسأ» و «خسوء» على وزن (مدح، وخشوع) وإذا كان مورد إستعمالها العين، فيقصد بهما التعب والعجز، أمّا إذا استعملت للكلب فيقصد منها طرده وإبعاده؛ و «حسير»: من مادة «حسر»، على وزن (قصر) بمعنى جعل الشي ء عارياً،

وإذا ما

مختصر الامثل، ج 5، ص: 220

فقد الإنسان قدرته واستطاعته بسبب التعب، فإنّه يكون عارياً من قواه، لذا فإنّها جاءت بمعنى التعب والعجز. وبناءً على هذا فإنّ كلمتي (خاسى ء) و (حسير) اللتين وردتا في الآية أعلاه، تعطيان معنى واحداً في التأكيد على عجز العين، وبيان عدم مقدرتها على مشاهدة أي خلل أو نقص في نظام عالم الوجود. إنّ لهذه الآيات دلالة واضحة على دقّة النظام الكوني، حيث معناها أنّ وجود النظام في كل شي ء دليل على وجود العلم والقدرة على خلق ذلك الشي ء.

ثم تتناول الآية التالية صفحة السماء التي يتجسّد فيها الجمال والروعة، حيث النجوم المتلألئة في جوّ السماء، المشعّة بضوئها الساحر في جمال ولطافة، حيث يقول سبحانه: «وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ».

وتؤكّد الآية الكريمة- مرّة اخرى- الحقيقة القائلة بأنّ جميع النجوم التي نشاهدها ما هي إلّا جزء من السماء الاولى، والتي هي أقرب إلينا من أي سماء اخرى من السماوات السبع، لذا اطلق عليها اسم (السماء الدنيا) أي السماء القريبة والتي هي أسفل جميع السماوات الاخرى.

وَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَ هِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَ قُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَ قَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) كان الحديث في الآيات السابقة عن معالم العظمة والقدرة الإلهية ودلائلها في عالم الوجود، أمّا في الآيات مورد البحث

فإنّه تعالى يتحدث عن الأشخاص الذين يعرضون ويتنكّبون عن أدلّة الحق، ويكابرون في تحدّي البراهين الدامغة، ويسلكون طريق الكفر والشرك، ويقذفون أنفسهم كالشياطين في اتون العذاب الإلهي. يقول تعالى في البداية:

«وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ عَذَابَ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ».

ثم يستعرض توضيحاً لهذا اللون من العذاب الرهيب فيقول تعالى: «إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ تَفُورُ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 221

إنّهم عندما يلقون فيها بمنتهى الذلّ والحقارة تقترن حالة إلقائهم بصدور صوت مرعب وشديد من جهنم، حيث يسيطر الرعب والخوف على جميع وجودهم.

ثم يضيف تعالى مستعرضاً شدّة غضب (جهنم) وشدّة هيجانها وإنزعاجها بقوله تعالى:

«تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ» «1».

إنّها حرارة هائلة جدّاً ونار حارقة مزمجرة كما لو وضعنا إناء كبير على نار محتدمة فإنّه لا يلبث أن يفور ويغلي بشكل يكاد فيه أن يتلاشى ويذوب.

ثم يستمرّ تعالى بقوله: «كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ».

فلماذا إذن أوقعتم أنفسكم في هذا المصير البائس، وهذا البلاء العظيم والساعة الرهيبة، إنّ الملائكة (خزنة جهنم) يستغربون ويكادون أن يصعقوا لما أصابكم وما أوقعتم به أنفسكم، في مثل هذه الداهية مع الوعي الذي حباكم به اللَّه سبحانه وما تفضّل به عليكم من نعمة الرسل الإلهيين والقادة من الأنبياء والمرسلين ... فكيف اخترتم لأنفسكم مقرّاً كهذا؟

«قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَىْ ءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِى ضَللٍ كَبِيرٍ».

وهكذا يأتي الإعتراف: نعم قد جاءنا الرسل إلّاأنّنا كذّبناهم ولم نسمع نداءهم المحيي للنفوس بل خالفناهم وعارضناهم واعتبرناهم ضالّين، وأخرجناهم من بين صفوفنا، وأبعدناهم عنّا ..

ثم يذكر القرآن الدليل الأصلي على شقائهم وتعاستهم ولكن على لسانهم فيقول:

«وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَابِ السَّعِيرِ». أجل هكذا يأتي إعترافهم

بذنوبهم بعد فوات الأوان: «فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لّاَصْحَابِ السَّعِيرِ».

فمن جهة أعطاهم اللَّه تعالى الاذن السامعة والعقل، ومن جهة اخرى بعث إليهم الرسل والأنبياء بالدلائل الواضحة فلو اقترن هذان الأمران فالنتيجة هي ضمان سعادة الإنسان.

«سحق»: على وزن (قفل) وهي في الأصل بمعنى طحن الشي ء وجعله ناعماً كما تطلق على الملابس القديمة، إلّاأنّها هنا بمعنى البعد عن رحمة اللَّه. وبناءً على هذا فإنّ مفهوم قوله تعالى «فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ» هو: فبعداً لأصحاب النار عن رحمة اللَّه، ولأنّ لعنة وغضب اللَّه تعالى يكون توأماً مع التجسيد الخارجي له، فإنّ هذه الجملة بمثابة الدليل على أنّ هذه المجموعة بعيدة عن رحمة اللَّه بشكل كلي.

______________________________

(1) «تميّز»: بمعنى التلاشي والتشتّت وكانت في الأصل (تتميّز).

مختصر الامثل، ج 5، ص: 222

ملاحظة

المقام السامي للعقل: ليست هذه هي المرّة الاولى التي يشير فيها القرآن الكريم إلى مقام العقل السامي، كما أنّها ليست المرّة الاولى التي يصرّح فيها بأنّ العامل الأساسي لتعاسة الإنسان ودخوله عوالم الخسران والضياع والعاقبة التعيسة، وسقوطه وفي وحل الذنوب وجهنم ... هو عدم الاستفادة من هذه القوة الإلهية العظيمة، وإغفال هذه القدرة الجبارة، وعدم استثمار هذه الجوهرة والنعمة الربانية. فإنّ الإسلام قد وضع أساس معرفة اللَّه تعالى وسلوك طريق السعادة والنجاة، ضمن مسؤولية العقل.

لذا فإنّ القرآن الكريم يوجّه نداءاته بصورة مستمرّة وفي كل مكان إلى (اولوا الألباب) و (اولوا الأبصار) وأصحاب الفكر من العلماء والمتعمّقين في شؤون المعرفة.

في الكافي عن الإمام علي عليه السلام قال: «هبط جبرئيل على آدم عليه السلام، فقال: يا آدم! إنّي امرت أن اخيّرك واحدة من ثلاث فاخترها ودع إثنين، فقال له آدم: يا جبرئيل وما الثلاث؟ فقال: العقل والحياء والدين. فقال آدم: إنّي قد اخترت العقل، فقال جبرئيل

للحياء والدين: إنصرفا ودعاه.

فقالا: يا جبرئيل، إنّا امرنا أن نكون مع العقل حيث كان، قال: فشأنكما وعرج».

إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَ لَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) بعد ما بيّنا- في الأبحاث التي تناولتها الآيات السابقة- مصير الكفار يوم القيامة، فإنّ القرآن الكريم يتناول في الآيات مورد البحث حالة المؤمنين وجزاءهم العظيم عند اللَّه سبحانه .. يقول في البداية: «إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ».

«الغيب» هنا إشارة لمعرفة اللَّه تعالى غير المرئية، أو الإشارة إلى المعاد غير المشاهد، أو يقصد به الأمران معاً.

كما يحتمل أن يكون إشارة إلى الخوف من اللَّه تعالى بسبب ما عمل الإنسان من خطايا وذنوب في السرّ، ذلك أنّ الإنسان إذا لم يقترف ذنوباً في السرّ، فإنّه لن يجرأ عليها في العلانية.

ويحتمل أن يكون هذا التعبير إشارة إلى خلوص النيّة في الإبتعاد عن الذنوب والمعاصي، والالتزام بالأوامر الإلهية، إذ إنّ العمل السرّي يكون أبعد عن الرياء.

كما لا مانع من الجمع بين هذه الآراء.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 223

ثم يضيف للتأكيد: «وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ».

قال ابن عباس: نزلت في المشركين كانوا ينالون من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فيخبره جبرائيل بما قالوا فيقول بعضهم (أسرّوا قولكم)، حتى لا يسمع إله محمّد. فأنزل اللَّه هذه الآية «1» [فقيل لهم أسروا ذلك أو اجهروا به فإنّ اللَّه يعلمه وأسرار الأقوال واعلانها مستويان عنده تعالى في تعلق علمه .

وتأتي الآية اللاحقة دليلًا وتأكيداً على ما ورد في الآية السابقة، حيث يقول تعالى: «أَلَا يَعْلَمُ مَنْ

خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ».

«اللطيف»: مأخوذ في الأصل من (اللطف) ويعني كل موضوع دقيق وظريف، وكل حركة سريعة وجسم لطيف، وبناءً على هذا فإنّ وصف اللَّه تعالى ب (اللطيف) إشارة إلى علمه عزّ وجل بالأسرار الدقيقة للخلق.

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَ إِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَ لَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) بعد الأبحاث التي إستعرضناها في الآيات السابقة بالنسبة لأصحاب النار وأصحاب الجنة، والكافرين والمؤمنين، يشير تعالى في الآيات مورد البحث إلى بعض النعم الإلهية، ثم إلى أنواع من عذابه، وذلك للترغيب والتشويق بالجنة لأهل الطاعة، والإنذار بالنار لأهل المعصية. يقول تعالى: «هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا». «فَامْشُوا فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ».

«ذلول»: بمعنى (مطيع) وهو أجمل تعبير يمكن أن يطلق على الأرض، لأنّ هذا المركب السريع السير جدّاً، مع حركته المتعددة، يلاحظ هادئاً إلى حدّ يبدو وكأنّه ساكناً بصورة مطلقة.

يقول بعض العلماء: إنّ للأرض أربع عشرة حركة مختلفة، ثلاث منها هي:

______________________________

(1) زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 8/ 60، والتفسير الكبير 30/ 66.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 224

الاولى: حركتها حول نفسها.

والثانية: حول الشمس.

والثالثة: مع مجموعة المنظومة الشمسية في وسط المجرّة.

هذه الحركات التي تكون سرعتها عظيمة، هي من التناسب والانسجام إلى حدّ لم يكن ليصدق أحد أنّ للأرض حركة لولا إقامة البراهين القطعية على حركتها.

ومن جهة اخرى، فإنّ قشرة الأرض ليست قويّة وقاسية إلى حدّ لا يمكن معه العيش فوقها، ولا ضعيفة ليّنة لا قرار

لها ولا هدوء، وبذلك فإنّها مناسبة لحياة البشر تماماً.

ومن جهة ثالثة فإنّ بعدها عن الشمس ليس هو بالقريب منها إلى حدّ يؤدّي بحرارة الشمس إلى أن تحرق كل شي ء على وجهها، ولا هو ببعيد عنها بحيث يتجمّد كل شي ء على سطحها.

وكذلك بالنسبة لضغط الهواء على الكرة الأرضية، فإنّه متناسب بما يؤدّي إلى هدوء الإنسان وراحته.

والأمر نفسه يقال في الجاذبية الأرضية، هي ليست شديدة إلى حدّ تتهشّم فيها عظام الإنسان، ولا بالضعيفة التي يكون فيها معلّقاً لا يستطيع الاستقرار في مكان.

والخلاصة: إنّ الأرض (ذلول) ومطيعة ومسخّرة لخدمة الإنسان في جميع المجالات.

كما تحمل في نفس الوقت إشارة إلى ضرورة السعي في الأرض في طلب الرزق والحصول عليه، وإلّا فسيكون الحرمان نصيب القاعدين والمتخلفين عن السعي.

ويجب الالتفات إلى أنّ هذا ليس هو الهدف الأساس لخلقكم، إذ إنّ كل ذلك وسائل في طريق (نشوركم) وبعثكم وحياتكم الأبدية.

وبعد هذا الترغيب والتشويق يستعرض تعالى اسلوب التهديد والإنذار فيقول سبحانه: «ءَأَمِنتُم مَّن فِى السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ».

إنّ الباري ء تعالى إذا أمر أو أراد فإنّ هذه الأرض الذلول الهادئة تكون في حالة هيجان وطغيان كدابة جموح، تبدأ بالزلازل، وتتشقّق وتدفنكم وبيوتكم ومدنكم تحت ترابها وحجرها، وتبقى راجفة مضطربة مزمجرة بعد أن تقضي عليكم وعلى مساكنكم التي متّعتم فيها برهة من الزمن.

ثم يضيف سبحانه: «أَمْ أَمِنتُم مَّن فِى السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا». فلا يلزم حتماً

مختصر الامثل، ج 5، ص: 225

حدوث زلزلة لتدميركم، بل يكفي أن نأمر عاصفة رملية لتدفنكم تحت رمالها ... وحينئذ ستعلمون حقيقة إنذاري وتهديدي: «فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ».

إنّ الآيات أعلاه تؤكّد أنّ عذاب العاصين والمجرمين لا ينحصر في يوم القيامة فقط، حيث يستطيع الباري ء عزّ وجل أن يقضي

على حياتهم في هذه الدنيا بحركة بسيطة للأرض، أو بحركة الرياح، وإنّ أفضل دليل على هذه الإمكانية الإلهية هو وقوع مثل هذه الامور في الامم السابقة.

لذا فإنّ اللَّه تعالى يقول في آخر آية من هذه الآيات: «وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ» «1».

نعم، فلقد عاقبنا قسماً من هؤلاء بالزلازل المدمّرة، وأقواماً آخرين بالصواعق، وبالطوفان، وبالرياح ... وبقيت مدنهم المدمّرة موضع درس واعتبار لمن كان له قلب واع.

أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَ يَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ بَصِيرٌ (19) أَمْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَ نُفُورٍ (21) انظروا إلى الطير فوقكم: في الآيات الاولى لهذه السورة كان البحث عن قدرة اللَّه سبحانه ومالكيته، وعن السماوات السبع والنجوم والكواكب ... ويستمرّ هذا اللون من الحديث في أوّل آية- مورد البحث- وذلك بذكر مفردة اخرى من كائنات هذا الوجود، والتي تبدو في ظاهرها صغيرة ويقول تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ».

هذه الأجسام بالرغم من قانون الجاذبية الأرضية تنطلق من الأرض وتحلّق ساعات في السماء بكل راحة، وأحياناً أيّاماً وأسابيع وشهوراً، وتستمر بحركتها السريعة المرنة وبدون أي مشاكل.

فمن يا ترى خلق أجسام هذه الطيور بهذه الصورة التي جعلها تستطيع السير في الهواء بكل سهولة وراحة؟

______________________________

(1) «نكير»: بمعنى (الإنكار) وجاءت هنا كناية عن العقوبة، لأنّ إنكار اللَّه تعالى مقابل أفعال هؤلاء القوم جاءت عن طريق مجازاتهم.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 226

لذا يقول في ختام الآية: «مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلّ شَىْ ءٍ بَصِيرٌ».

إنّه اللَّه تعالى الذي وضع باختيارها

الوسائل والقوى والإمكانات المختلفة للطيران، وحافظ عليها في السماء، هو بذاته المقدسة يحفظ الأرض والكائنات الاخرى، وعندما يشاء غير ذلك فلن يكون عندئذ للطيور قدرة الطيران ولا للأرض حالة الهدوء والاستقرار.

ثم يشير تعالى في الآية اللاحقة إلى أنّ الكافرين ليس لهم أي عون أو مدد مقابل قدرة اللَّه عزّ وجل حيث يقول: «أَمَّنْ هذَا الَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مّن دُونِ الرَّحْمنِ».

إنّ هؤلاء الذين هم (جند لكم) ليسوا عاجزين عن مساعدتكم ونصرتكم فحسب، بل إذا شاء الرحمن جعلها سبب عذابكم ودماركم.

ألا «إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِى غُرُورٍ». فلقد أعمت عقولهم حجب الجهل والغرور، ولا يعتبرون أو يتّعظون بما حصل للأقوام البائدة السابقة، ولا لما يصيب الآخرين في حياتنا المعاصرة.

ثم يضيف سبحانه مؤكّداً ما سبق: «أَمَّنْ هذَا الَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ».

فإذا أمر اللَّه السماء أن تمتنع عن المطر، والأرض عن الإنبات، وأمر الآفات الزراعية بالفتك بالمحاصيل ... فمن القادر غيره أن يطعمكم الطعام؟

وإذا ما قطع اللَّه الرزق المعنوي عنكم والوحي السماوي من الوصول إليكم، فمن القادر غيره على إرشادكم وإنقاذكم من براثن الضلال؟ إنّها لحقائق واضحة وأدلة دامغة، إلّاأنّ العناد هو الذي يشكّل حجاباً للإدراك وللشعور الحق: «بَل لَّجُّوا فِى عُتُوٍّ وَنُفُورٍ».

السائر سويّاً على جادة التوحيد: تعقيباً لما ورد في الآيات السابقة بالنسبة إلى أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصَارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَ يَقُولُونَ مَتَى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَ إِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ

زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ قِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 227

الكافرين والمؤمنين، فإنّ اللَّه تعالى يصوّر لنا- في أوّل آية من هذه الآيات- حالة هاتين المجموعتين ضمن تصوير رائع ولطيف، حيث يقول تعالى: «أَفَمَن يَمْشِى مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِى سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ».

فهنا شبه المعاندين والمغرورين كمن يسير في جادّة متعرّجة غير مستوية كثيرة المنعطفات وقد وقع على وجهه، يحرّك يديه ورجليه للإهتداء إلى سبيله، لأنّه لا يبصر طريقه جيّداً، وليس بقادر على السيطرة على نفسه، ولا بمطّلع على العقبات والموانع، وليست لديه القوّة للسير سريعاً، وبذلك يتعثّر في سيره ... يمشي قليلًا ثم يتوقّف حائراً.

كما شبّه المؤمنين برجال منتصبي القامات، يسيرون في جادّة مستوية ومستقيمة ليس فيها تعرّجات واعوجاج، ويمشون فيها بسرعة ووضوح وقدرة ووعي وعلم وراحة تامّة.

إنّه- حقّاً- لتشبيه لطيف فذّ، حيث إنّ آثار هذين السبيلين واضحة تماماً، وإنعكاساتها جليّة في حياة هذين الفريقين، وذلك ما نلاحظه بامّ أعيننا.

ثم يوجّه اللَّه تعالى الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه و آله في الآية اللاحقة فيقول: «قُلْ هُوَ الَّذِى أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ».

إنّ اللَّه تعالى جعل لكم وسيلة للمشاهدة والإبصار (العين) وكذلك وسيلة وقناة للإطّلاع على أفكار الآخرين ومعرفة وجهات نظرهم من خلال الاستماع (الإذن) ثم وسيلة اخرى للتفكر والتدبر في العلوم والمحسوسات واللامحسوسات (القلب).

وخلاصة الأمر إنّ اللَّه تعالى قد وضع جميع الوسائل اللازمة لكم لتتعرفوا على العلوم العقلية والنقلية، إلّاأنّ القليل من الأشخاص من يدرك هذه النعم العظيمة ويشكر اللَّه المنعم، حيث إنّ شكر النعمة الحقيقي يتجسّد بتوجيه النعمة نحو الهدف الذي خلقت من أجله، تُرى من هو المستفيد من هذه

الحواس (العين والاذن والعقل) بصورة صحيحة في هذا الطريق؟

ثم يخاطب الرسول مرّة اخرى حيث يقول تعالى: «قُلْ هُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ».

إنّ الآيات أعلاه يؤكّد على أنّ السير يجب أن يكون في الطريق المستقيم، والصراط الواضح المتمثّل بالإسلام والإيمان، وبذل الجهد للاستفادة من جميع وسائل المعرفة بهذا الإتّجاه، والتحرّك نحو الحياة الخالدة.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 228

ثم يستعرض سبحانه قول المشركين في هذا المجال والردّ عليهم، فيقول تعالى: «وَيَقُولُونَ مَتَى هذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».

ويجيبهم اللَّه سبحانه على تساؤلهم هذا بقوله تعالى: «قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ».

ولابدّ أن يكون الجواب بهذه الصورة، حيث إنّ تحديد تأريخ يوم القيامة إن كان بعيداً فإنّ الناس سيغرقون بالغفلة، وإن كان قريباً فإنّهم سيعيشون حالة الهلع والاضطراب، وعلى كل حال فإنّ الأهداف التربوية تتعطّل في الحالتين.

ويضيف في آخر آية من هذه الآيات بأنّ الكافرين حينما يرون العذاب والوعد الإلهي من قريب تسودّ وجوههم: «فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا». فسيماهم طافحة بآثار الحزن والندم: «وَقِيلَ هذَا الَّذِى كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ».

«تدّعون»: من مادة «دعاء» يعني أنّكم كنتم تدعون وتطلبون دائماً أن يجي ء يوم القيامة، وها هو قد حان موعده، ولا سبيل للفرار منه.

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَ مَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30) إنّ الآيات أعلاه، التي هي آخر آيات سورة الملك، تبدأ جميعها بكلمة (قل) مخاطبة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، حيث أنّها تمثّل استمراراً للأبحاث التي

مرّت في الآيات السابقة حول الكفار، وتعكس هذه الآيات الكريمة جوانب اخرى من البحث.

يخاطب الباري ء عزّ وجل- في البداية- الأشخاص الذين يرتقبون وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأصحابه، ويتصوّرون أنّ بوفاته سوف يمحى دين الإسلام وينتهي كل شي ء، وهذا الشعور كثيراً ما ينتاب الأعداء المخذولين إزاء القيادات القويّة والمؤثّرة. يقول تعالى مخاطباً إيّاهم:

«قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِىَ اللَّهُ وَمَن مَّعِىَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ».

ورد في بعض الروايات أنّ كفّار مكة، كانوا دائماً يسبّون الرسول صلى الله عليه و آله والمسلمين، وكانوا يتمنّون موته ظنّاً منهم أنّ رحيله سينهي دعوته كذلك، لذا جاءت الآية أعلاه ردّاً عليهم.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 229

واستمراراً لهذا البحث، يضيف تعالى: «قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ ءَامَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِى ضَللٍ مُّبِينٍ».

وهذا يعني أنّنا إذا آمنّا باللَّه، واتّخذناه وليّاً ووكيلًا لنا، فإنّ ذلك دليل واضح على أنّه الربّ الرحمن، شملت رحمته الواسعة كل شي ء، وغمر فيض ألطافه ونعمه الجميع (المؤمن والكافر)، أمّا الذين تعبدونهم من دون اللَّه فماذا عملوا؟ وماذا صنعوا؟

ويقول تعالى في آخر آية، عارضاً لمصداق من رحمته الواسعة، والتي غفل عنها الكثير من الناس: «قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ».

جاء في الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام أنّ المراد من الآية الأخيرة من هذه السورة هو ظهور الإمام المهدي عليه السلام وعدله الذي سيعمّ العالم.

وممّا يجدر الإنتباه له أنّ هذه الروايات هي من باب (التطبيق).

وبعبارة اخرى: فإنّ ظاهر الآية مرتبط بالماء الجاري، والذي هو علّة حياة الموجودات الحيّة، أمّا باطن الآية فإنّه يرتبط بوجود الإمام عليه السلام وعلمه وعدالته التي تشمل العالم، والتي هي الاخرى تكون سبباً

لحياة وسعادة المجتمع الإنساني.

«نهاية تفسير سورة الملك»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 231

محتوى السورة: إنّ نسق السورة ومحتوى آياتها ينسجم تماماً مع السور المكية، لأنّ المحور الأساسي فيها يدور حول مسألة نبوّة رسول الإسلام صلى الله عليه و آله ومواجهة الأعداء الذين كانوا ينعتونه بالجنون وغيره، والتأكيد على الصبر والاستقامة وتحدّي الصعاب، وإنذار وتهديد المخالفين لهذه الدعوة المباركة بالعذاب الأليم.

وبشكل عام يمكن تلخيص مباحث هذه السورة بسبعة أقسام:

1- في البداية تستعرض السورة بعض الصفات الخاصة لرسول الإنسانية محمّد صلى الله عليه و آله وخصوصاً أخلاقه البارّة الرفيعة، ولتأكيد هذا الأمر يقسِم الباري ء عزّ وجل في هذا الصدد.

2- ثم تتعرض بعض الآيات الواردة في هذه السورة إلى قسم من الصفات السيئة والأخلاق الذميمة لأعدائه.

3- كما يبيّن قسم آخر من الآيات الشريفة قصة (أصحاب الجنة) والتي هي بمثابة توجيه إنذار وتهديد للسالكين طريق العناد من المشركين.

4- ثم ذكرت عدّة امور حول القيامة والعذاب الأليم للكفار في ذلك اليوم.

5- كما جاء في آيات اخرى جملة إنذارات وتهديدات للمشركين.

6- ونلاحظ في آيات اخرى من السورة الأمر الإلهي للرسول العظيم محمّد صلى الله عليه و آله بأن يواجه الأعداء بصبر واستقامة وقوّة وصلابة.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 232

7- وأخيراً تختتم السورة موضوعاتها بحديث حول عظمة القرآن الكريم، وطبيعة المؤامرات التي كان يحوكها الأعداء ضدّ الرسول محمّد صلى الله عليه و آله.

إنتخاب (القلم) اسماً لهذه السورة المباركة، كان بلحاظ ما ورد في أوّل آية منها.

ويستفاد من بعض الروايات التي وردت في فضيلة هذه السورة أنّ اسمها «ن والقلم».

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان قال النبي صلى الله عليه و آله: «ومن قرأ سورة ن والقلم أعطاه اللَّه ثواب الذين حسن أخلاقهم».

كما عن الإمام

الصادق عليه السلام قال: «من قرأ سورة ن والقلم في فريضة أو نافلة، آمنه اللَّه أن يصيبه في حياته فقر أبداً، وأعاذه إذا مات من ضمّة القبر، إن شاء اللَّه».

وهذا الأجر والجزاء يتناسب تناسباً خاصاً مع محتوى السورة، والهدف من التأكيد على هذا النوع من الأجر من تلاوة السورة هو أن تكون التلاوة مقرونة بالوعي والمعرفة ومن ثم العمل بمحتواها.

ن وَ الْقَلَمِ وَ مَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَ إِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَ إِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَ يُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) هذه السورة هي السورة الوحيدة التي تبدأ بحرف (ن) حيث يقول تعالى: «ن». ثم يقسم تعالى بموضوعين يعتبران من أهمّ المسائل في حياة الإنسان، فيقول تعالى:

«وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ».

وقد يتصور أنّ القسم هنا يتعلق ظاهراً بمواضيع صغيرة، أي قطعة من القصب- أو شي ء يشبه ذلك- وبقليل من مادة سوداء، ثم السطور التي تكتب وتخطّ على صفحة صغيرة من الورق.

إلّا أنّنا حينما نتأمّل قليلًا فيه نجده مصدراً لجميع الحضارات الإنسانية في العالم أجمع، إنّ تطور وتكامل العلوم والوعي والأفكار وتطور المدارس الدينية والفكرية، وبلورة الكثير من المفاهيم الحياتية ... كان بفضل ما كُتب من العلوم والمعارف الإنسانية في الحقول المختلفة،

مختصر الامثل، ج 5، ص: 233

ممّا كان له الأثر الكبير في يقظة الامم وهداية الإنسان ... وكان ذلك بواسطة (القلم).

لقد قسّمت حياة الإنسان إلى عصرين: (عصر التاريخ) و (عصر ما قبل التاريخ) وعصر تاريخ البشر يبدأ منذ أن إخترع الإنسان الخطّ واستطاع أن يدوّن قصة حياته وأحداثها على الصفحات.

وتتّضح عظمة هذا القسم بصورة أكثر

عندما نلاحظ أنّ هذه الآيات المباركة حينما نزلت لم يكن هنالك كتاب ولا أصحاب قلم، وإذا كان هنالك أشخاص يعرفون القراءة والكتابة، فإنّ عددهم في كل مكة- التي تمثّل المركز العبادي والسياسي والاقتصادي لأرض الحجاز- لم يتجاوز ال (20) شخصاً، ولذا فإنّ القسم ب (القلم) في مثل ذلك المحيط له عظمة خاصة.

ثم يتطرق سبحانه لذكر الأمر الذي أقسم من أجله فيقول تعالى: «مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ».

إنّ الذين يتّهمون صاحب هذا العقل الجبّار بالجنون هم المجانين في الحقيقة، إنّ إبتعادهم عن دليل الهداية وموجّه البشرية لهو الحمق بعينه.

ثم يضيف تعالى بعد ذلك: «وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ». أي غير منقطع.

«ممنون»: من مادة (منّ) بمعنى (القطع) ويعني الأجر والجزاء المستمرّ الذي لا ينقطع أبداً.

وتعرض الآية اللاحقة وصفاً آخر لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله وذلك بقوله تعالى: «وَإِنَّك لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ».

تلك الأخلاق التي لا نظير لها، ويحار العقل في سموّها وعظمتها من صفاء لا يوصف، ولطف منقطع النظير، وصبر واستقامة وتحمّل لا مثيل لها، وتجسيد لمبادى ء الخير حيث يبدأ بنفسه أوّلًا فيما يدعو إليه، ثم يطلب من الناس العمل بما دعا إليه والالتزام به.

عندما دعوت- يا رسول اللَّه- الناس لعبادة اللَّه، فقد كنت أعبد الناس جميعاً، وإذ نهيتهم عن سوء أو منكر فإنّك الممتنع عنه قبل الجميع، تقابل الأذى بالنصح، والإساءة بالصفح، والتضرّع إلى اللَّه بهدايتهم، وهم يؤلمون بدنك الطاهر رمياً بالحجارة، واستهزاءاً بالرسالة، وتقابل وضعهم للرماد الحارّ على رأسك الشريف بدعائك لهم بالرشد.

في تفسير مجمع البيان عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «إنّما بعثت لُاتمّم مكارم الأخلاق».

وجاء في حديث آخر عنه صلى الله عليه و آله قال: «إنّ المؤمن ليدرك بحسن

خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 234

«خُلُق»: من مادة «الخلقة» بمعنى الصفات التي لا تنفكّ عن الإنسان، وهي ملازمة له، كخلقة الإنسان.

فإنّ تأصّل هذا (الخُلُق العظيم) في شخصية الرسول صلى الله عليه و آله هو دليل واضح على رجاحة العقل وغزارة العلم له ونفي جميع التّهم التي تنسب من قبل الأعداء إليه.

ثم يضيف سبحانه بقوله: «فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ». «بِأَييّكُمُ الْمَفْتُونُ». أي: من منكم هو المجنون.

«مفتون»: اسم مفعول من (الفتنة) بمعنى الإبتلاء، وورد هنا بقصد الإبتلاء بالجنون.

كما أنّ مواقفك وتحرّكاتك المستقبلية المقرونة بالتقدّم السريع لانتشار الإسلام، ستؤكّد بصورة أعمق أنّك منبع العلم والعقل الكبيرين، وأنّ هؤلاء الأقزام الخفافيش هم المجانين، لأنّهم تصدّوا لمحاربة نور هذه الشمس العظيمة المتمثّلة بالحق الإلهي والرسالة المحمّدية.

ومن الطبيعي فإنّ هذه الحقائق ستتوضّح أمامهم يوم القيامة بصورة دامغة، ويخسر هنالك المبطلون، حيث تتبيّن الامور وتظهر الحقيقة.

وللتأكيد على المفهوم المتقدم يقول سبحانه مرّة اخرى: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ».

وبلحاظ معرفة الباري ء عزّ وجل بسبيل الحق وبمن سلكه ومن جانبه وتخلّف أو إنحرف عنه، فإنّه يطمئن رسوله الكريم صلى الله عليه و آله بأنّه والمؤمنون في طريق الهداية والرشد، أمّا أعداؤه فهم في متاه الضلالة والغواية.

فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَ لَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَ بَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) اجتنب أصحاب هذه الصفات: بعد أن تعرّضت الآيات السابقة إلى الأخلاق السامية لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله، تلتها الآيات أعلاه

مستعرضة أخلاق أعدائه ليتّضح لنا الفرق بين الأخلاقيتين، وذلك من خلال المقارنة بينهما. يقول تعالى في البداية: «فَلَا تُطِعِ الْمُكَذّبِينَ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 235

ثم يشير تعالى إلى جهد هؤلاء المتواصل في إقناع الرسول صلى الله عليه و آله بمصالحتهم والإعراض عن آلهتهم وضلالهم فيقول: «وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ».

«يدهنون»: من مادة «مداهنة» مأخوذة في الأصل من (الدهن) وتستعمل الكلمة في مثل هذه الموارد بمعنى إظهار اللين والمرونة، وفي الغالب يستعمل هذا التعبير في مجال إظهار اللين والميل المذموم كما في حالة النفاق.

ثم ينهى سبحانه مرّة اخرى عن اتّباعهم وطاعتهم، حيث يسرد الصفات الذميمة لهم، والتي كل واحدة منها يمكن أن تكون وحدها سبباً للإبتعاد عنهم والصدود عن الإستجابة لهم. يقول تعالى: «وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ».

تقال كلمة «حلّاف» على الشخص الكثير الحلف، والذي يحلف على كل صغيرة وكبيرة.

«مهين»: من «المهانة» بمعنى الحقارة والضّعة.

ثم يضيف عزّ وجل: «هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ».

«همّاز»: من مادة «همز»، (على وزن رمز) ويعني: الغيبة وإستقصاء عيوب الآخرين.

«مشّاء بنميم» تطلق على الشخص الذي يمشي بين الناس بإيجاد الإفساد والفرقة، وإيجاد الخصومة والعداء فيما بينهم.

ثم يسرد تعالى أوصافاً اخرى لهم، حيث يقول في خامس وسادس وسابع صفة ذميمة لأخلاقهم: «مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ».

ومن صفاتهم أيضاً أنّهم ليسوا فقط مجانبين لعمل الخير، ولا يسعون في سبيله، ولا يساهمون في إشاعته والعون عليه ... بل إنّهم يقفون سدّاً أمام أي ممارسة تدعو إليه، ويمنعون كل جهد في الخير للآخرين، وبالإضافة إلى ذلك فإنّهم متجاوزون لكل السنن والحقوق التي منحها اللَّه عزّ وجل لكل إنسان ممّا تلطف به من خيرات وبركات عليه.

وفوق هذا فهم مدنسون بالذنوب، محتطبون للآثام، بحيث أصبح الذنب والإثم جزءاً من شخصياتهم وطباعهم التي هي

منّاعة للخير، معتدية وآثمة.

وأخيراً يشير إلى ثامن وتاسع صفة لهم حيث يقول تعالى: «عُتُلّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ».

«عتل»: تطلق على الشخص الذي يأكل كثيراً ويحاول أن يستحوذ على كل شي ء، ويمنع الآخرين منه.

وفسّر البعض الآخر كلمة (عتلّ) بمعنى الإنسان السي ء الطبع والخُلُق، الذي تتمثّل فيه الخشونة والحقد، أو الإنسان سي ء الخُلُق عديم الحياء.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 236

«زنيم»: تطلق على الشخص المجهول النسب، والذي ينتسب لقوم لا نسبة له معهم.

والتعبير بشكل عام إشارة إلى أنّ هاتين الصفتين هما أشدّ قبحاً وضعة من الصفات السابقة.

وبهذه الصورة يوضّح لنا أنّ الأشخاص الذين وقفوا بوجه الإسلام والقرآن، وعارضوا الرسول الكريم صلى الله عليه و آله كانوا من أخسّ الناس وأكثرهم كذباً وإنحطاطاً وخسّة، فهم يتتبعون عيوب الآخرين، نمّامون، معتدون، آثمون، ليس لهم أصل ونسب.

ويحذّر سبحانه في الآية اللاحقة من الإستجابة لهم والتعامل معهم بسبب كثرة أموالهم وأولادهم، بقوله: «أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ».

وممّا لا شك فيه أنّ الرسول صلى الله عليه و آله لم يكن ليستسلم لهؤلاء أبداً، وهذه الآيات ما هي إلّا تأكيد على هذا المعنى، كي يكون خطّه الرسالي وطريقته العملية واضحة للجميع، ولن تنفع جميع الاغراءات الماديّة في عدوله عن مهمّته الرسالية.

وتوضّح الآية اللاحقة ردود فعل هؤلاء الأشخاص ذوي الصفات الأخلاقية المريضة إزاء الآيات الإلهية، حيث يقول تعالى: «إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ».

وبهذا المنطق السقيم والحجج الواهية يعرض عن آيات اللَّه عزّ وجل.

وتوضّح لنا آخر آية- من هذه الآيات- مفردة من مفردات الجزاء الذي سيلاقيه أمثال هؤلاء فيضيف سبحانه: «سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ».

وهذا التعبير كاشف ومعبّر عن سوء النهاية المذلّة لهؤلاء، إذ جاء التعبير أوّلًا بالخرطوم الذي يستعمل للفيل وللخنزير فقط، وهو دلالة واضحة في تحقيرهم.

وثانياً:

أنّ الأنف في لغة العرب غالباً ما يستعمل كناية عن العزّة والعظمة، كما يقال للفارس حين إذلاله: مرّغوا أنفه بالتراب، كناية عن زوال عزّته.

وثالثاً: أنّ وضع العلامة تكون عادة للحيوانات فقط، بل حتى بالنسبة إلى الحيوانات فإنّها لا تعلّم في وجوهها- خصوصاً انوفها- أضف إلى ذلك أنّ الإسلام قد نهى عن مثل هذا العمل.

ومع كل ما تقدّم تأتي الآية الكريمة ببيان معبّر وافٍ وواضح أنّ اللَّه تعالى سيذلّ هؤلاء الطغاة الذين امتلؤا عجباً بذواتهم، المتمادين في عنادهم وإصرارهم على الباطل، وتجاوزهم على الرسول والرسالة ... سيذلّهم بتلك الصورة التي تحدثت عنها الآية ويفضحهم على رؤوس الأشهاد ليكونوا موضع عبرة للجميع.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 237

إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَ لَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَ هُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَ هُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَ غَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) قصة (أصحاب الجنة): في الآيات أعلاه يستعرض لنا القرآن الكريم- بما يتناسب مع البحث الذي ورد في الآيات السابقة- قصة أصحاب الجنة ... فالآيات الكريمة تذكر لنا قصة مجموعة من الأغنياء كانت لهم جنّة (بستان مثمر) إلّاأنّهم فقدوها فجأة. يقول تعالى: «إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ».

وموضوع القصة هو: أنّ شيخاً مؤمناً طاعناً في السنّ كان له بستان عامر، يأخذ من ثمره كفايته ويوزّع ما فضل من ثمرته للفقراء والمعوزين، وقد ورثه أولاده بعد وفاته، وقالوا:

نحن أحق بحصاد ثمار هذا البستان، لأنّ لنا عيالًا وأولاداً كثيرين، ولا طاقة لنا بإتّباع نفس الاسلوب الذي كان أبونا عليه

... ولهذا فقد صمّموا على أن يستأثروا بثمار البستان جميعاً، ويحرموا المحتاجين من أي عطاء منها، فكانت عاقبتهم كما تحدّثنا الآيات الكريمة عنه ..

يقول تعالى: «إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ».

«يصرمن» من مادة «صرم» بمعنى حصد الفاكهة، وبمعنى القطع المطلق.

«وَلَا يَسْتَثْنُونَ». أي: لا يتركون منها شيئاً للمحتاجين.

إنّ تصميمهم هذا ناشى ء عن البخل وضعف الإيمان، لأنّ الإنسان مهما اشتدّت حاجته، فإنّه يستطيع أن يترك للفقراء شيئاً ممّا أعطاه اللَّه.

ثم يضيف تعالى استمراراً لهذا الحديث: «فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مّن رَّبّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ».

لقد سلّط اللَّه عليها ناراً حارقة، وصاعقة مهلكة، بحيث أنّ جنّتهم صارت متفحّمة سوداء: «فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ». ولم يبق منها شي ء سوى الرماد.

«طائف»: من مادة «طواف» وهي في الأصل بمعنى الشخص الذي يدور حول شي ء معيّن، كما تستعمل أحياناً كناية عن البلاء والمصيبة التي تحلّ في الليل، وهذا المعنى هو المقصود هنا.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 238

«صريم»: من مادة «صرم» بمعنى (القطع) وهنا بمعنى (الليل المظلم) أو (الشجر بدون الثمار) أو (الرماد الأسود). والمقصود بذلك هو: البلاء السماوي الذي تمثّل بصاعقة عظيمة- فيما يبدو- أحالت البستان إلى فحم ورماد أسود.

فإنّ أصحاب البستان بقوا على تصوّرهم لأشجار جنّتهم المملوءة بالثمر، جاهزة للقطف:

«فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ».

وقالوا: «أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ».

«أغدوا»: من مادة «غدوة» بمعنى بداية اليوم.

وعلى ضوء المقدّمات السابقة: «فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ». «أَن لَّايَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مّسْكِينٌ».

ويرتقب الفقراء يوم الحصاد بفارغ الصبر في مثل هذه الأيّام، لأنّهم تعوّدوا في كل سنة أن ينالهم شي ء من الفاكهة كما كان يفعل ذلك الشيخ المؤمن، إلّاأنّ تصميم الأبناء البخلاء على حرمان الفقراء من العطاء، والسريّة التي غلفوا بها تحرّكاتهم، لم تدع أحداً يتوقّع أنّ وقت الحصاد قد حان ... حيث يطّلع الفقراء على الأمر

بعد انتهائه، وبهذا تكون النتيجة:

«وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ».

«حرد»: على وزن «فرد» بمعنى الممانعة التي تكون توأماً مع الشدّة والغضب.

فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْراً مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذَابُ وَ لَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) الآيات الشريفة- أعلاه- استمرار لقصّة أصحاب الجنة. يقول القرآن الكريم: «فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ».

ثم أضافوا: «بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ». أي أردنا أن نحرم الفقراء والمحتاجين من العطاء إلّا أنّنا حرمنا أكثر من الجميع، حرمنا من الرزق المادي، ومن البركات المعنوية التي تحصل عن

مختصر الامثل، ج 5، ص: 239

طريق الإنفاق في سبيل اللَّه للفقراء والمحتاجين.

«قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَكُمْ لَوْلَا تُسَبّحُونَ».

ويستفاد مما تقدم أنّ أحدهم كان شخصاً مؤمناً ينهاهم عن البخل والحرص، إلّاأنّهم كانوا لا يسمعون كلامه.

وتستيقظ ضمائرهم في تلك اللحظة ويعترفون بخطئهم وذنوبهم و «قَالُوا سُبْحَانَ رَبّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ».

إلّا أنّ المسألة لم تنته إلى هذا الحد، حيث يقول تعالى: «فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلوَمُونَ».

والملاحظ من منطوق الآية أنّ كل واحد منهم في الوقت الذي يعترف بذنبه، فإنّه يلقي بأصل الذنب على عاتق الآخر، ويوبّخه بشدّة.

نعم، هكذا تكون عاقبة كل الظالمين عندما يصبحون في قبضة العذاب الإلهي، ومع الإقرار بالذنب فإنّ كلًا منهم يحاول التنصّل ممّا لحق بهم، ويسعى جاهداً لتحويل مسؤولية البؤس والدمار على الآخرين.

ثم يضيف تعالى: «قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ».

لقد اعترفوا في المرحلة السابقة بالظلم، وهنا اعترفوا بالطغيان، والطغيان مرحلة أعلى من

الظلم.

وأخيراً- بعد عودة الوعي إلى ضمائرهم وشعورهم، بل وإعترافهم بالذنب والإنابة إلى اللَّه- توجّهوا إلى الباري ء عزّ وجل داعين، وقالوا: «عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبّنَا رَاغِبُونَ». فقد توجّهنا إليه ونريد منه انقاذنا ممّا تورّطنا فيه ..

ويقول تعالى في آخر آية من هذه الآيات، بلحاظ الإستفادة من هذا الدرس والإعتبار به: «كَذلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْأَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ».

وهكذا توجّه الآية خطابها إلى كل المغرورين، الذين سحرهم المال وأبطرتهم الثروة والإمكانات المادية، وغلب عليهم الحرص والاستئثار بكل شي ء دون المحتاجين ... بأنّه لن يكون لكم مصير أفضل من ذلك.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 240

مختصر الامثل ج 5 280

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) إنّ طريقة القرآن الكريم في الكشف عن الحقائق، واستخلاص المواقف، تكون من خلال عملية مقارنة يعرضها اللَّه سبحانه في الآيات الكريمة، وهذا الاسلوب مؤثّر جدّاً من الناحية التربوية ... فمثلًا تستعرض الآيات الشريفة حياة الصالحين وخصائصهم وميزاتهم ومعاييرهم ... ثم كذلك بالنسبة إلى الطالحين والظالمين، ويجعل كلّاً منهما في ميزان، ويسلّط الأضواء عليهما من خلال عملية مقارنة، للوصول إلى الحقيقة.

وتماشياً مع هذا المنهج وبعد استعراض النهاية المؤلمة ل (أصحاب الجنة) في الآيات السابقة، يستعرض الباري ء عزّ وجل حالة المتقين فيقول: «إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ».

«جنّات»: من «الجنة» حيث كل نعمة متصوّرة على أفضل صورة لها تكون هناك، بالإضافة

إلى النعم التي لم تخطر على البال.

ولأنّ قسماً من المشركين والمترفين كانوا يدّعون علوّ المقام وسموّه في يوم القيامة كما هو عليه في الدنيا، لذا فإنّ اللَّه يوبّخهم على هذا الإدّعاء بشدّة في الآية اللاحقة، بل يحاكمهم فيقول: «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ».

ثم يضيف تعالى أنّه لو لم يحكم العقل بما تدّعون، فهل لديكم دليل نقلي ورد في كتبكم يؤيّد ما تزعمون: «أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ». أي: ما اخترتم من الرأي ... إنّ توقّعكم في أن تكون العناصر المجرمة من أمثالكم مع صفوف المسلمين وعلى مستواهم ...، حديث هراء لا يدعمه العقل، ولم يأت في كتاب يعتدّ به ولا هو موضع اعتبار.

ثم تضيف الآية اللاحقة أنّه لو لم يكن لديكم دليل من العقل أو النقل، فهل أخذتم عهداً من اللَّه أنّه سيكون معكم إلى الأبد: «أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيمَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 241

وتتساءل الآية الكريمة عن هؤلاء مستفسرة عمّن يستطيع الإدّعاء منهم بأنّه قد أخذ عهداً من اللَّه سبحانه في الإستجابة لميوله وأهوائه.

ويضيف سبحانه- استمراراً لهذه التساؤلات- كي يسدّ عليهم جميع الطرق ومن كل الجهات، فيقول: «سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذلِكَ زَعِيمٌ». فمن منهم يضمن أنّ المسلمين والمجرمين سواء، أو يضمن أنّ اللَّه تعالى سيؤتيه كل ما يريد؟! وفى آخر مرحلة من هذا الإستجواب العجيب يقول تعالى: أم لهم شركاء فلياتوا بشركائهم إن كَانُوا صَادِقِينَ».

فالآية تطلب من المشركين تقديم الدليل الذي يثبت أنّ هذه الأصنام المنحوتة من الحجارة، والتي لا قيمة لها ولا شعور، تكون شريكة اللَّه تعالى وتشفع لهم عنده.

يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)

خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَ قَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَ هُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَ مَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) العجز عن السجود: تعقيباً للآيات السابقة التي استجوب اللَّه تعالى فيها المشركين والمجرمين استجواباً موضوعياً، تكشف لنا هذه الآيات جانباً من المصير البائس في يوم القيامة لهذه الثلّة المغرمة في حبّها لذاتها، والمكثرة للادّعاءات، هذا المصير المقترن بالحقارة والذلّة والهوان. يقول تعالى: «يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ».

وفي ذلك اليوم العظيم يدعى الجميع إلى السجود للباري ء عزّ وجل، فيسجد المؤمنون، ويعجز المجرمون عن السجود.

وتعكس الآية اللاحقة صورة جديدة لحالتهم، حيث يقول سبحانه: «خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ».

هذه الآية الكريمة تصف لنا حقيقة المجرمين عندما يدانون في إجرامهم ويحكم عليهم، حيث نلاحظ الذلّة والهوان تحيط بهم، وتكون رؤوسهم مطأطئة تعبيراً عن هذه الحالة المهينة.

ثم يضيف تعالى: «وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ». إنّهم لن يسجدوا أبداً، لقد صحبوا روح التغطرس والعتوّ والكبر معهم في يوم القيامة فكيف سيسجدون؟

مختصر الامثل، ج 5، ص: 242

ثم يوجّه الباري ء عزّ وجل الخطاب لنبيّه الكريم ويقول: «فَذَرْنِى وَمَن يُكَذّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ». وهذه اللهجة تمثّل تهديداً شديداً من الواحد القهار لهؤلاء المكذبين المتمردين، حيث يخاطب الرسول صلى الله عليه و آله بقوله: لا تتدخّل، واتركني مع هؤلاء، لُاعاملهم بما يستحقّونه.

ثم يضيف سبحانه: «سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَايَعْلَمُونَ وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ».

في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إذا أحدث العبد ذنباً، جدّد له نعمة فيدع الاستغفار فهو الإستدراج».

إذا أذنب عبد فإنّه لا يخرج من واحدة من الحالات الثلاث التالية:

إمّا أن ينتبه ويرجع عن خطئه

ويتوب إلى ربّه.

أو أن ينزل اللَّه عليه العذاب ليعود إلى رشده.

أو أنّه غير أهل للتوبة ولا للعودة للرشد بعد التنبيه له، فيعطيه اللَّه نعمة بدل البلاء وهذا هو: (عذاب الإستدراج). لذا يجب على الإنسان المؤمن أن يكون يقظاً عند إقبال النعم الإلهية عليه، وليحذر من أن يكون ما يمنحه اللَّه من نعم ظاهرية يمثّل في حقيقته (عذاب الإستدراج). ولذلك فإنّ المسلمين الواعين يفكّرون في مثل هذه الامور ويحاسبون أنفسهم باستمرار، ويعيدون تقييم أعمالهم دائماً، كي يكونوا قريبين من طاعة اللَّه، ويؤدّون حق الألطاف والنعم التي وهبها اللَّه لهم.

في الكافي عن عمر بن يزيد قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: إنّي سألت اللَّه عزّ وجل أن يرزقني مالًا فرزقني، وإنّي سألت اللَّه أن يرزقني ولداً فرزقني، وسألته أن يرزقني داراً فرزقني، وقد خفت أن يكون ذلك استدراجاً، فقال: «أما- واللَّه- مع الحمد فلا».

أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَ هُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْ لَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَ هُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) استمراراً للاستجواب الذي تمّ في الآيات السابقة للمشركين والمجرمين، يضيف الباري ء عزّ وجل سؤالين آخرين، حيث يقول في البداية: «أَمْ تَسَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ».

أي: إذا كانت حجّتهم أنّ الاستجابة لدعوتك تستوجب أجراً مادياً كبيراً، وأنّهم غير

مختصر الامثل، ج 5، ص: 243

قادرين على الوفاء به، فإنّه كذب، حيث أنّك لم تطالبهم بأجر، كما لم يطلب أي من رسل اللَّه أجراً.

ثم يضيف واستمراراً للحوار بقوله تعالى: «أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ».

ولأنّ العناد واللامنطقية التي كان عليها أعداء الإسلام

تؤلم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وتدفعه إلى أن يدعو اللَّه عليهم، لذا فإنّه تعالى أراد أن يخفّف شيئاً من آلام رسوله الكريم، فطلب منه الصبر وذلك قوله تعالى: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ». أي انتظر حتى يهي ء اللَّه لك ولأعوانك أسباب النصر، ويكسر شوكة أعدائك، واعلم بأنّ اللَّه ممهلهم وغير مهملهم، وما المهلة المعطاة لهم إلّانوع من عذاب الإستدراج.

ثم يضيف تعالى: «وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ».

والمقصود من هذا النداء هو ما ورد في قوله تعالى: «فَنَادَى فِى الظُّلُمَاتِ أَن لَاإِلهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ».

وبذلك فقد إعترف النبي يونس عليه السلام بترك الأولى وطلب العفو والمغفرة من اللَّه تعالى.

ويضيف سبحانه في الآية اللاحقة: «لَّوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مّن رَّبّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ».

إنّ المقصود من (النعمة) في الآية أعلاه هو توفيق التوبة وشمول الرحمة الإلهية لحاله عليه السلام حسب الظاهر. لذا يقول الباري ء عزّ وجل في الآية اللاحقة: «فَاجْتَبهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ».

وبذلك فقد حمّله اللَّه مسؤولية هداية قومه مرّة اخرى، وعاد إليه يبلّغهم رسالة ربّه، مما كانت نتيجته أن آمن قومه جميعاً.

وَ إِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَ يَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَ مَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52) يريدون قتلك ... لكنّهم عاجزون: هاتان الآيتان تشكّلان نهاية سورة القلم، وتتضمّنان تعقيباً على ما ورد في بداية السورة من نسبة الجنون إليه صلى الله عليه و آله من قبل الأعداء.

يقول تعالى: «وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ». «ليزلقونك»: من مادة «زلق» بمعنى التزحلق والسقوط على الأرض، وهي كناية عن الهلاك والموت.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 244

إنّهم يعجبون ويتأثّرون كثيراً عند

سماعهم الآيات القرآنية بحيث يكادون أن يصيبوك بالعين (لأنّ الإصابة بالعين تكون غالباً في الامور التي تثير الإعجاب كثيراً) إلّاأنّهم في نفس الوقت يتّهمونك بالجنون، وهذا يمثّل التناقض حقّاً، إذ أين الجنون ولغو الكلام وأين هذه الآيات المثيرة للإعجاب والنافذة في القلوب؟

وفي آخر آية يضيف تعالى: «وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ».

حيث إنّ معارف القرآن الكريم واضحة، وإنذاراته موقظة، وأمثاله هادفة، وترغيباته وبشائره مربّية، وبالتالي فهو عامل وسبب ليقظة النائمين وتذكرة للغافلين، ومع هذا فكيف يمكن أن ينسب الجنون إلى من جاء به؟

بحث

هل أنّ إصابة العين لها حقيقة: يعتقد الكثير من الناس أنّ لبعض العيون آثاراً خاصة عندما تنظر لشي ء بإعجاب، إذ ربّما يترتّب على ذلك الكسر أو التلف، وإذا كان المنظور إنساناً فقد يمرض أو يجنّ ..

إنّ هذه المسألة ليست مستحيلة من الناحية العقلية، كما جاء في بعض الروايات الإسلامية- أيضاً- ما يؤيّد وجود مثل هذا الأمر بصورة إجمالية.

في الكافي عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: رقي النبي صلى الله عليه و آله حسناً وحسيناً فقال:" اعيذكما بكلمات اللَّه التامات وأسمائه الحسنى كلها عامة، من شرّ السامّة والهامّة، ومن شرّ كل عين لامّة، ومن شرّ حاسد إذا حسد" ثم التفت النبي صلى الله عليه و آله إلينا فقال: هكذا كان يعوّذ إبراهيم إسماعيل وإسحاق».

«نهاية تفسير سورة القلم»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 245

69. سورة الحاقَّة

محتوى السورة: تدور موضوعات سورة الحاقّة حول ثلاثة محاور:

الأوّل: وهو أهمّ محاور هذه السورة، يرتبط بمسائل يوم القيامة وبيان خصوصياتها، وقد وردت فيه ثلاثة أسماء من أسماء يوم القيامة وهي: (الحاقّة) و (القارعة) و (الواقعة).

أمّا المحور الثاني: فتدور أبحاثه حول مصير الأقوام الكافرين، خصوصاً قوم عاد وثمود وفرعون،

وتشتمل على إنذارات شديدة لجميع الكّفار ومنكري يوم البعث والنشور.

والمحور الثالث تتحدث حول عظمة القرآن الكريم، ومقام الرسول صلى الله عليه و آله وجزاء المكذّبين.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ سورة الحاقّة حاسبه اللَّه حساباً يسيراً».

الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَ مَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَ عَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَ أَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 246

تبدأ هذه السورة بعنوان جديد ليوم القيامة. يقول تعالى: «الْحَاقَّةُ* مَا الْحَاقَّةُ* وَمَا أَدْرَيكَ مَا الْحَاقَّةُ». والمراد من الحاقّة هو اليوم الذي سيتحقق حتماً.

ذهب أغلب المفسرين إلى أنّ (الحاقّة) اسم من أسماء يوم القيامة، باعتباره قطعي الوقوع، كما هو بالنسبة ل (الواقعة) في سورة (الواقعة).

«ما الحاقّة»: تعبير لبيان عظمة ذلك اليوم؛ والتعبير ب «ما أدريك ما الحاقّة» للتأكيد مرّة اخرى على عظمة الأحداث في ذلك اليوم العظيم حتى أنّ الباري ء عزّ وجل يخاطب رسوله الكريم صلى الله عليه و آله بأنّك لا تعلم ما هو ذلك اليوم.

ثم تستعرض الآيات الكريمة اللاحقة مصير الأقوام الذين أنكروا يوم القيامة، وكذلك نزول العذاب الإلهي في الدنيا، حيث يضيف تعالى: «كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ* فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ».

لقد كان (قوم ثمود) يسكنون في منطقة جبلية بين الحجاز والشام، فبعث اللَّه النبي صالح عليه السلام إليهم، ودعاهم إلى الإيمان باللَّه ... إلّاأنّهم لم يستجيبوا له، بل حاربوه وتحدّوه في إنزال العذاب الذي أوعدهم به إن كان صادقاً، وفي

هذه الحالة من التمرد الذي هم عليه، سلّط اللَّه عليهم (صاعقة مدمّرة) أنهت كل وجودهم في لحظات، فخربت بيوتهم وقصورهم المحكمة، وتهاوت أجسادهم على الأرض.

ثم تتطرق الآية اللاحقة لتحدثنا عن مصير (قوم عاد) الذين كانوا يسكنون في أرض الأحقاف الواقعة (في شبه جزيرة العرب أو اليمن) وكانوا ذوي قامات طويلة، وأجساد قوية، ومدن عامرة، وأراض خضراء خصبة، وحدائق نضرة وكان نبيّهم (هود) عليه السلام يدعوهم إلى الهدى والإيمان باللَّه ... إلّاأنّهم أصرّوا على كفرهم وتمادوا في طغيانهم وتمرّدوا على الحق، فانتقم اللَّه منهم شرّ إنتقام، وأقبرهم تحت الأرض بعد أن سلّط عليهم عذاباً شديداً مؤلماً، سنوضّح شرحه في الآيات التالية. يقول تعالى: «وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ».

«صرصر»: تقال للرياح الباردة، أو المقترنة بصوت وضوضاء، أو المسمومة، وقد ذكر المفسرون هذه المعاني الثلاث في تفسيرها، والجمع بين جميع هذه المعاني ممكن أيضاً.

«عاتية»: من مادة «عتو» بمعنى التمرّد على القانون الطبيعي للرياح وليست على أمر اللَّه.

ثم تبيّن الآية التالية وصفاً آخر لهذه الرياح المدمّرة، حيث يقول تعالى: «سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 247

«حسوماً»: من مادة «حسم» بمعنى إزالة آثار شي ء ما، ويقال: (حسم) أحياناً لوضع الشي ء الحارّ على الجرح للقضاء عليه من الأساس.

لقد حطّمت وأفنت هذه الريح المدمّرة في الليالي السبع والأيّام الثمانية جميع معالم حياة هؤلاء القوم، والتي كانت تتميّز بالابّهة والجمال، واستأصلتهم من الجذور.

ويصوّر لنا القرآن الكريم مآل هؤلاء المعاندين بقوله تعالى: «فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ».

إنّه لتشبيه رائع يصوّر لنا ضخامة قامتهم التي إقتلعت من الجذور، بالإضافة إلى خواء نفوسهم، حيث إنّ العذاب الإلهي جعل الريح تتقاذف أجسادهم من جهة إلى اخرى.

«خاوية»: من مادة «خواء»

في الأصل بمعنى كون الشي ء خالياً، ويطلق هذا التعبير أيضاً على البطون الجائعة، وتطلق كذلك على الجوز الأجوف الفارغ من اللب.

ويضيف في الآية التالية: «فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مّن بَاقِيَةٍ».

نعم، لم يبق اليوم أي أثر لقوم عاد، بل حتى مدنهم العامرة، وعماراتهم الشامخة ومزارعهم النضرة لم يبق منها شي ء يذكر أبداً.

وَ جَاءَ فِرْعَوْنُ وَ مَنْ قَبْلَهُ وَ الْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَ تَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) أين الآذان الواعية: بعد ما استعرضت الآيات الكريمة السابقة الأحداث التي مرّت بقومي عاد وثمود، وتستمرّ هذه الآيات في التحدّث عن الأقوام الاخرى كقوم (نوح) وقوم (لوط) لتكون درساً وعبرة لمن وعى وكان له قلب سليم ... يقول تعالى: «وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ».

ال «خاطئة»: بمعنى الخطأ و (لكليهما معنى مصدري) والمراد من الخطأ هنا هو الشرك والكفر والظلم والفساد وأنواع الذنوب.

«المؤتفكات»: جمع (مؤتفكة) من مادة (ائتفاك) بمعنى الإنقلاب، وهي هنا إشارة إلى ما حصل في مدن قوم لوط، حيث إنقلبت بزلزلة عظيمة.

والمقصود ب «وَمِن قَبْلِهِ» هم الأقوام الذين كانوا قبل قوم فرعون، كقوم شعيب، وقوم نمرود الذين تطاولوا على رسولهم.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 248

ثم يضيف تعالى: «فَعَصَوْا رَسُولَ رَبّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً».

لقد خالف الفراعنة (موسى وهارون) عليهما السلام وواجهوهما بمنتهى العنف والتشكيك والملاحقة ... وكذلك كان موقف أهل مدينة (سدوم) من لوط عليه السلام الذي بعث لهدايتهم وإنقاذهم من ضلالهم ... وهكذا كان- أيضاً- موقف أقوام آخرين من رسلهم حيث التطاول، والتشكيك والإعراض والتحدّي ..

إنّ كل مجموعة من هؤلاء الأقوام المتمرّدين قد إبتلاهم اللَّه بنوع من العذاب، وأنزل عليه رجزاً من

السماء بما يستحقّون، فالفراعنة أغرقهم اللَّه سبحانه في وسط النيل الذي كان مصدراً لخيراتهم وبركة بلدهم وإعمار أراضيهم وديارهم، وقوم لوط سلّط اللَّه عليهم (الزلزال) الشديد ثم (مطر من الحجارة) ممّا أدّى إلى موتهم وفنائهم من الوجود.

وأخيراً تعرّض بإشارة موجزة إلى مصير قوم نوح والعذاب الأليم الذي حلّ بهم. قال تعالى: «إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِى الْجَارِيَةِ».

إنّ طغيان الماء كان بصورة غطّى فيها السحاب، ومن هنا جاء تعبير (طغى) حيث هطل مطر غزير جدّاً وكأنّه السيل ينحدر من السماء، وفاضت عيون الأرض، والتقت مياههما بحيث أصبح كل شي ء تحت الماء (القوم وبيوتهم وقصور أكابرهم ومزارعهم وبساتينهم ...) ولم تنج إلّامجموعة المؤمنين التي كانت مع نوح عليه السلام في سفينته.

جملة (حملناكم) كناية عن حمل وإنقاذ أسلافنا وأجدادنا من الغرق، وإلّا فنحن لم نكن في عالم الوجود حينذاك.

ثم يبيّن اللَّه سبحانه الغاية والهدف من هذا العقاب، حيث يقول تعالى: «لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ».

إنّنا لم نرد الإنتقام منكم أبداً، بل الهداية والخير والسعادة، كنّا نروم أن تكونوا في طريق الكمال والنضج التربوي والوصول إلى ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان المكرم.

«تعيها»: من مادة «وعى» في الأصل بمعنى الإحتفاظ بشي ء معيّن في القلب، وقد ذكرت هذه الصفة (الوعي) للآذان في الآيات مورد البحث، وذلك بلحاظ أنّها تسمع الحقائق وتحتفظ بها.

تعقيب

فضيلة اخرى من فضائل الإمام علي عليه السلام جاء في كثير من الكتب الإسلامية المعروفة أنّ

مختصر الامثل، ج 5، ص: 249

النبي صلى الله عليه و آله قال عند نزول هذه الآية «وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ»: «سألت ربّي أن يجعلها اذن علي».

فكان علي عليه السلام يقول: «ما سمعت من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله شيئاً قطّ

فنسيته، إلّاوحفظته» «1».

وهذه فضيلة عظيمة لقائد الإسلام العظيم الإمام علي عليه السلام حيث يكون موضع أسرار الرسول صلى الله عليه و آله، ووارث علمه، ولهذا السبب فإنّ الجميع كانوا يرجعون إليه- الموافق له والمخالف- بعد النبي صلى الله عليه و آله وذلك عندما يواجهون المشاكل الاجتماعية والعلمية المختلفة، ويطلبون منه التدخّل في حلّها، كما تحدّثنا بذلك كتب التواريخ بشكل تفصيلي.

فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَ انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَ الْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) الصيحة العظيمة: استمراراً لما تعرّضت له الآيات الاولى من هذه السورة، والتي كانت تتعلق بمسألة الحشر والقيامة، تعرض لنا هذه الآيات صورة عن الحوادث العظيمة في ذلك اليوم الرهيب باسلوب محرّك ومؤثّر في النفوس كي تحيط الإنسان علماً بما ينتظره من حوادث ذات شأن كبير في ذلك الموقف الرهيب. يقول تعالى في البداية: «فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ».

لقد بيّنا فيما سبق أنّ مما يستفاد من القرآن الكريم أنّ نهاية عالم الدنيا وبداية عالم الآخرة تكون بصوت مفاجى ء عظيم، وذلك ما عبّر عنه ب (نفخة الصور).

نفخة الصور فهي نفختان: (نفخة الموت)، و (نفخة الحياة الجديدة)، لكن المقصود في هذه الآية الكريمة هو (النفخة الاولى) التي تحصل فيها نهاية عالم الدنيا.

ثم يضيف تعالى: «وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً».

«دكّ»: بمعنى (الأرض المستوية) ولأنّ الأرض غير المستوية تحتاج إلى الدك حتى تستوي، لذا استعمل هذا المصطلح في الكثير من الموارد بمعنى «الدق الشديد».

والمقصود في الآية مورد البحث هو الدقّ الشديد للجبال والأراضي اللامستوية بعضها ببعض بحيث تستوي وتتلاشى فيها

جميع التعرجات.

______________________________

(1) تفسير القرطبي 18/ 264، وتفسير مجمع البيان 10/ 107.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 250

ثم يضيف تعالى: «فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ».

في ذلك اليوم العظيم لا تتلا شى فيه الأرض والجبال فحسب، بل يقع حدث عظيم آخر، وذلك قوله تعالى: «وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِىَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ». وذلك بيان لما تتعرّض له الأجرام السماوية العظيمة من إنفلاقات وتناثر وتلاشي.

«وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا». «أرجاء»: جمع «رجا» بمعنى جوانب وأطراف شي ء معيّن.

ثم يقول تعالى: «وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ».

المقصود ب (العرش) هو (مجموعة عالم الوجود) حيث أنّه عرش حكومة اللَّه سبحانه، ويدبّر حكومته تعالى من خلاله بواسطة الملائكة الذين هم جاهزون لتنفيذ أمره سبحانه.

وفي تفسير علي بن إبراهيم أنّ حملة العرش ثمانية؛ أربعة من الأوّلين وأربعة من الآخرين، فأمّا الأربعة من الأوّلين فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى، والأربعة من الآخرين:

محمّد وعلي والحسن والحسين عليهم السلام.

وهذا الحديث من الممكن أن يكون إشارة إلى مقام شفاعتهم للأوّلين والآخرين، والشفاعة- عادةً- تكون لمن هم أهل لها، وممّن لهم لياقة لنيلها، ومع ذلك فإنّه يوضّح المفهوم الواسع للعرش.

يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) يا أهل المحشر: اقرؤا صحيفة أعمالي: قلنا في تفسير الآيات السابقة أنّ (نفخ الصور) يحدث مرّتين، وكما ذكرنا فإنّ بداية الآيات تخبرنا عن النفخة الاولى ولم تستعرض تفاصيل النفخة الثانية، واستمراراً للحديث في هذا الصدد، وخصوصيات العالم الجديد الذي سيكون عند النفخة الثانية، تحدّثنا هذه الآيات عن شي ء من ذلك حيث يقول تعالى:

«يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ

لَاتَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ».

«تعرضون»: من مادة «عرض» بمعنى عرض شي ء معيّن، بضاعة أو غيرها.

وممّا لا شك فيه أنّ جميع ما في الوجود- بشراً وغيره- هو بين يدي اللَّه سبحانه، سواء في

مختصر الامثل، ج 5، ص: 251

هذه الدنيا أو في عالم الآخرة، إلّاأنّ هذا الأمر يظهر ويتّضح بصورة أشد في يوم القيامة.

في ذلك اليوم لن يقتصر الوضوح والظهور على أعمال البشر الخفية فحسب، بل على صفات وروحيات وأخلاقيات ونيّات الجميع فإنّها هي الاخرى تبرز وتظهر، وهذا أمر عظيم جدّاً، بل إنّه أعظم من إنفجار الأجرام السماوية وتلاشي الجبال- كما يقول البعض- حيث الفضيحة الكبرى للطالحين، والعزّة والرفعة للمؤمنين بشكل لا نظير له.

لذا يقول سبحانه بعد ذلك: «فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ».

ثم يعلن بافتخار عظيم فيقول: «إِنّى ظَنَنتُ أَنّى مُلقٍ حِسَابِيَهْ».

«ظن»: في مثل هذه الموارد تكون بمعنى (اليقين) إنّه يريد أن يقول: إنّ ما تفضّل به اللَّه تعالى عليّ كان بسبب إيماني بهذا اليوم، والحقيقة أنّ الإيمان بالحساب والكتاب يمنح الإنسان روح التقوى، والتعهّد والإحساس بالمسؤولية، وهذا من أهمّ عوامل تربية الإنسان.

ثم يبيّن اللَّه تعالى في الآيات اللاحقة جانباً من جزاء وأجر هؤلاء الأشخاص حيث يقول: «فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ».

وبالرغم من أنّ الجملة أعلاه تجسّد كل ما يستحقّ أن يقال في هذا الموضوع، إلّاأنّه سبحانه يضيف للتوضيح الأكثر: «فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ».

إنّ الجنة تكون عالية ورفيعة بشكل لم ير أحد مثلها قطّ، ولم يسمع بها، ولم يتصور مثلها.

«قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ» «1». حيث لا جهد مكلّف ولا مشقة في قطف الثمار، ولا عائق يحول من الإقتراب للأشجار المحمّلة بالثمار، وجميع هذه النعم في متناول الأيدي بدون إستثناء.

وفي آخر آية- مورد البحث- يوجّه الباري ء عزّ وجل خطابه المملوء

بالحبّ والمودّة والإعتزاز إلى أهل الجنة بقوله: «كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ».

وهكذا كانت هذه النعمة العظيمة التي منحها اللَّه لهؤلاء المتقين جزاء أعمالهم الصالحة وإنّ الأعمال الخيّرة والمحدودة هي التي أثمرت هذه الثمار الكبيرة حيث ظل الرحمة الإلهية واللطف الرباني.

والسؤال المطروح هو: هل أنّ دعوة المؤمنين لأهل المحشر لقراءة كتاب حسابهم وصحيفة أعمالهم- طبقاً لما جاء في الآية الكريمة: «فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ»- تعني أنّ صحيفة أعمالهم خالية من أي ذنب؟

______________________________

(1) «قطوف»: جمع «قطف» بمعنى أن الثمر قد اقتطف، و تأتى أحياناً بمعنى الثمار المهيئة للإقتطاف أيضاً.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 252

وفي مقام الجواب يمكن أن نستفيد من بعض الأحاديث منها حديث عن النبي صلى الله عليه و آله حيث يقول: «يدني اللَّه العبد يوم القيامة، فيقرره بذنوبه كلّها، حتى إذا رآى أنّه قد هلك. قال اللَّه تعالى: إنّي سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه» «1».

وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَ لَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) كان الحديث في الآيات السابقة عن (أصحاب اليمين) حيث صحائف أعمالهم بأيديهم اليمنى، ويوجّهون نداءهم إلى أهل المحشر بكلّ فخر للإطّلاع على صحيفة أعمالهم وقراءتها، ثم يدخلون جنّات الخلد حيث تكون مستقرّهم الأبدي. أمّا هذه الآيات فتستعرض الطرف المقابل لأصحاب اليمين وهم (أصحاب الشمال) وتقدم مقارنة بين المجموعتين، حيث يقول تعالى: «وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ». «وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ».

نعم، في ذلك اليوم

العظيم، وعندما يواجهها يبدأ يجأر ويصرخ ويطلق الزفرات الساخنة المتلاحقة من الأعماق على المصير السي ء الذي أوصل نفسه إليه، والشرّ الذي جلبه عليها، ويتمنّى أن يقطع علاقته بماضيه الأسود تماماً، ويتمنّى أن يموت ويفنى ويتخلّص من هذه الفضيحة الكبيرة المهلكة، ويعبّر عن هذا الشعور قوله تعالى: «وَيَقُولُ الكَافِرُ يَا لَيْتَنِى كُنتُ تُرَابًا» «2».

ثم يضيف تعالى مستعرضاً إعتراف المجرمين بذنوبهم فيقول: «مَا أَغْنَى عَنّى مَالِيَهْ».

فالأموال التي كنت أجمعها في الدنيا لم تنقذني الآن ولم تعنّي ولم تدفع عنّي الأهوال أو تحلّ مشاكلي.

«هَلَكَ عَنّى سُلْطَانِيَهْ» فليست أموالي لم تسعفني في هذه الشدة فحسب، بل إنّ قدرتي ومقامي وسلطتي هي الاخرى هلكت وزالت عنّي.

القصة المثيرة: نقلت في هذا المجال قصص كثيرة تؤكّد على المفاهيم العامة التي احتوتها الآيات الكريمة أعلاه، كموضع شاهد وعبرة وتأييد لما ذهبت إليه الآيات المباركات،

______________________________

(1) في ظلال القرآن 8/ 256.

(2) سورة النبأ/ 40.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 253

لتكون درساً لُاولئك الذين جعلوا (المال والسلطان) همّهم الأوّل، وانغمسوا حتى الأذقان في الغفلة والغرور والذنوب من أجلهما، ومن جملتها ما يلي:

في سفينة البحار عن كتاب النصائح لابن ظفر أنّه لمّا اشتدّ مرض الرشيد بطوس، احضر طبيباً طوسياً فارسيّاً وأمر أن يعرض عليه مائه مع مياه كثيرة لمرضى وأصحاء فجعل يستعرض القوارير حتى رآى قارورة الرشيد فقال: قولوا لصاحب هذه الماء يوصى فإنّه قد انحلّت قواه وتداعت بنيته فاقيم وأمر بالذّهاب فدهب ويئس الرشيد من نفسه وتمثّل قائلًا:

إنّ الطبيب بطبّه ودوائه لا يستطيع دفاع نَحب قد أتى

ما للطبيب يموت بالدّاء الذي قد كان يُبرئ مثله فيما مضى

وبلغه أنّ الناس أرجفوا بموته فاستدعى بحمار وأمر فحمل عليه فاسترخت فخذاه فقال:

انزلوني صدق المرجفون ثم استدعى بأكفان فتخير منها ما أعجبه

وأمر فشقّ له قبر أمام فراشه ثم اطّلع فيه فقال: «مَا أَغْنَى عَنّى مَالِيَهْ هَلَكَ عَنّى سُلْطَانِيَهْ» فتوفى في يومه.

خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَ لَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَ لَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) خذوه فغلّوه: استمراراً للآيات السابقة التي كانت تتحدث عن (أصحاب الشمال) الذين يستلمون صحائف أعمالهم بأيديهم اليسرى، فتنطلق الآهات والأنّات، ويتمنّى أحدهم الموت، يشير تعالى في الآيات أعلاه إلى قسم من العذاب الذي يلاقونه يوم القيامة فيقول:

«خُذُوهُ فَغُلُّوهُ». «غلّوه»: من مادة (غلّ)، والمراد هو السلسلة التي كانوا يربطون بها أيدي وأرجل المجرمين إلى أعناقهم مقترن بالكثير من المشقة والألم.

«ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ».

«السلسلة»: في الأصل مأخوذة من مادة «تسلسل» بمعنى الإهتزاز والإرتعاش، لأنّ حلقات السلسلة الحديدية تهتزّ وتتحرك.

إنّ هذه السلاسل الطويلة ليست لشخص واحد، بل لمجاميع يربط كل منها بسلسلة.

«ذراع»: بمعنى الفاصلة بين الساعد ونهاية الأصابع، (وقياسها بحدود نصف متر) وكانت وحدة الطول المستعملة عند العرب، وهي قياس طبيعي.

فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَ مَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَ مَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَ لَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 254

وقال البعض: إنّ (الذراع) الوارد في الآية الكريمة هو غير الذراع المتعارف عليه، حيث إنّ كل وحدة منه تمثّل فواصل عظيمة، ويربط بهذا الزنجير جميع أهل جهنم.

وتتطرق الآيتان التاليتان لبيان السبب الرئيسي لهذا العذاب العسير، فيقول

تعالى: «إِنَّهُ كَانَ لَايُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ».

وكلّما كان الأنبياء والأولياء ورسل اللَّه تعالى يدعونه للتوجه إلى (الواحد الأحد) لم يكن ليقبل، ولذا فإنّ إرتباطه بالخالق كان مقطوعاً بصورة تامة.

«وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ».

وبهذا الشكل فإنّ هؤلاء قد قطعوا علاقتهم مع (الخلق) أيضاً.

ويستفاد من التعبير السابق- بصورة واضحة- أنّه يمكن تلخيص أهمّ الطاعات والعبادات وأوامر الشرع بهذين الأساسين: (الإيمان) و (إطعام المسكين) وهذا يمثّل إشارة إلى الأهمية البالغة لهذا العمل الإنساني العظيم.

ثم يضيف تعالى: «فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ ههُنَا حَمِيمٌ». أي: صديق مخلص وحميم.

«وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ». أي: القيح والدم.

والجدير بالملاحظة هنا هو أنّ (الجزاء) و (العمل) لهؤلاء الجماعة متناسبان تماماً، فبسبب قطع علاقتهم باللَّه، فليس لهم هنالك من صديق ولا حميم، كما أنّ سبب إمتناعهم عن إطعام المحتاجين فإنّ طعامهم في ذلك اليوم لن يكون إلّاالقيح والدم، لأنّهم حرموا المساكين من الإطعام وتركوهم نهباً للجوع والألم في الوقت الذي كانوا يتمتّعون لسنين طويلة بألذّ وأطيب الأطعمة.

ويضيف سبحانه في آخر آية مورد البحث في قوله تعالى للتأكيد: «لَايَأْكُلُهُ إِلَّا الخَاطُونَ».

إنّ (خاطى ء) تقال للشخص الذي يرتكب خطأً عمداً. وبناءً على ما تقدم فإنّ طعام أهل جهنم خاصّ للأشخاص الذين سلكوا درب الشرك والكفر والبخل والطغيان تمردّاً وعصياناً وعمداً.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 255

القرآن كلام اللَّه قطعاً: بعد الأبحاث التي مرّت بنا في الآيات السابقة حول القيامة وما أعدّه اللَّه سبحانه للمؤمنين والكفار، يبيّن الباري ء عزّ وجل في هذه الآيات بحثاً وافياً حول القرآن والنبوّة، ليكون البحثان (النبوّة) و (المعاد) كلّاً منهما مكمّلًا للآخر. يقول تعالى في البداية: «فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَاتُبْصِرُونَ». وهذه الجملة لها معنىً واسع، حيث تشمل كل ما يراه البشر وما لا يراه. وبعبارة اخرى:

تشمل كل عالم (الشهود) و (الغيب).

ثم تستعرض الآية اللاحقة جواب هذا القسم العظيم، حيث يقول تعالى بأنّ هذا القرآن هو قول رسول كريم: «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ».

والمقصود من الرسول هنا- بدون شك- هو الرسول الكريم صلى الله عليه و آله وليس جبرائيل.

والآية ذكرت كلمة «رسول» وهذا يعني أنّ كل ما يقوله الرسول فهو قول مرسله.

ثم يضيف تعالى: «وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ».

تنفي هاتان الآيتان ما نسبه المشركون والمخالفون من تهم باطلة لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذ كانوا يقولون أحياناً: إنّه (شاعر) وإنّ هذه الآيات من شعره، كما كانوا يقولون أحياناً: إنّه (كاهن) وإنّ الذي يقوله هو (كهانة).

الشعر في الغالب وليد الخيال، ومعبّر عن الأحاسيس الجياشة في النفوس، ولهذا فإنّه يجسّد حالة عدم الإستقرار وعدم التوازن صعوداً ونزولًا، شدّة وإنخفاضاً، في الوقت الذي نلاحظ أنّ القرآن الكريم، وهو يمثّل قمّة الروعة والجاذبية، فإنّه كتاب استدلالي ومنطقي في عرضه للمفاهيم، وعقلاني في محتواه، وما فيه من التنبّؤ المستقبلي لا يشكّل قاعدة أساسية للقرآن الكريم، بالإضافة إلى أنّها صادقة جميعاً بخلاف ما عليه تنبّؤ الكهنة.

ويقول سبحانه في آخر آية- مورد البحث- كتأكيد على هويّة القرآن الربانية: «تَنزِيلٌ مّن رَّبّ الْعَالَمِينَ». وبناءً على هذا فإنّ القرآن الكريم ليس بشعر ولا كهانة، وليس هو إنتاج فكر الرسول، ولا قول جبرائيل ... بل إنّه كلام اللَّه سبحانه، حيث نزل بواسطة الوحي على القلب الطاهر لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَ إِنَّا

لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 256

استمراراً للأبحاث المتعلقة بالقرآن الكريم، تستعرض الآيات التالية دليلًا واضحاً يؤكّد يقينية كون القرآن من اللَّه سبحانه، حيث يقول: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ».

ويذكّر سبحانه مرّة اخرى في الآية اللاحقة مؤكّداً ما سبق عرضه في الآيات السابقة «وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لّلْمُتَّقِينَ». إنّ كتاب اللَّه هذا أنزله للأشخاص الذين يريدون أن يطهّروا أنفسهم من الذنوب، ويسيروا في طريق الحق، ويبحثوا عن الحقيقة، ويسعوا للوصول إليها، أمّا من لم يصل إلى هذا الحد من صفاء النظرة وتقوى النفس، فمن المسلّم أنّه لن يستطيع أن يستلهم تعاليم القرآن الكريم ويتذوّق حلاوة معرفة الحق المبين.

إنّ التأثير العميق الفذّ للقرآن الكريم الذي يحدثه في نفوس سامعيه وقارئيه، هو بحدّ ذاته علامة على إعجازه وحقانيته.

ثم يضيف تعالى: «وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذّبِينَ».

إنّ وجود المكذبين المعاندين لم يكن مانعاً أبداً من الدليل على عدم حقانيتهم.

إنّ المتقين وطلّاب الحق يتّعظون به، ويرون فيه سمات الحق، وإنّه عون لهم في الوصول إلى طريق اللَّه سبحانه.

ويضيف في الآية اللاحقة: «وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ».

إنّ هؤلاء الكفرة الذين يتحدّون القرآن الكريم اليوم ويكذّبونه، فإنّهم غداً حيث (يوم الظهور) و (يوم البروز) وهو في نفس الوقت (يوم الحسرة) يدركون مدى عظمة النعمة التي فرّطوا بها بسبب لجاجتهم وعنادهم، وما جلبوه لأنفسهم من أليم العذاب.

ولكي لا يتصور أحد أنّ التكذيب والتشكيك كان بلحاظ غموض وإبهام مفاهيم القرآن الكريم، فيضيف في الآية اللاحقة: «وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ».

يعني أنّ القرآن الكريم هو (يقين خالص). أو بتعبير

آخر: أنّ لليقين مراحل مختلفة، حيث يحصل أحياناً بالدليل العقلي كما في حصول اليقين بوجود النار من خلال مشاهدة دخّان من بعيد، لذا يقال لمثل هذا الأمر (علم اليقين).

وحينما نقترب أكثر ونرى إشتعال النار بام أعيننا، فعند ذلك يصبح اليقين أقوى ويسمّى عندئذ ب (عين اليقين).

وعندما يكون اقترابنا أكثر فأكثر ونصبح في محاذاة النار أو في داخلها ونلمس حرارتها

مختصر الامثل، ج 5، ص: 257

بأيدينا، فإنّ من المسلّم أنّ هذه أعلى مرحلة من مراحل اليقين، وتسمّى ب (حق اليقين).

والآية أعلاه تقول: إنّ القرآن الكريم في مثل هذه المرحلة من اليقين، ومع هذا فإنّ عديمي البصيرة ينكرونه ويشكّكون فيه.

وأخيراً يقول سبحانه في آخر آية من سورة الحاقّة: «فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ».

والجدير بالملاحظة- هنا- أنّ مضمون هذه الآية والآية السابقة قد جاء بتفاوت يسير مع ما ورد في سورة الواقعة، وهذا التفاوت هو أنّ الآية وصفت القرآن الكريم هنا بأنّه (حق اليقين) أمّا في نهاية سورة (الواقعة) فكان الحديث عن المجاميع المتباينة للصالحين والطالحين في يوم القيامة.

«نهاية تفسير سورة الحاقّة»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 259

70. سورة المعارج

محتوى السورة: المعروف بين المفسرين هو أنّ سورة المعارج من السور المكّية، ولكن بعض آياتها مدنية؛ وهناك روايات تدلّ على أنّ الآيات الاولى من هذه السورة هي آيات مدنية. فإنّ لهذه السورة أربعة أقسام:

1- يتحدث عن العذاب السريع الذي حلّ بأحد الأشخاص ممن أنكر أقوال النبي صلى الله عليه و آله وقال: لو كان هذا القول حقّاً فلينزل عليّ العذاب. فنزل الآيات (1- 3).

2- ذكر الكثير من خصوصيات يوم القيامة ومقدماتها وحالات الكفار في ذلك اليوم.

3- توضّح هذه السورة بعض الصفات الإنسانية الحسنة والسيّئة والتي تعيّن هذا الشخص من أهل الجنان أم من أهل النار.

4-

يشمل إنذارات تخصّ المشركين والمنكرين وتبيان مسألة المعاد وينهى السورة بذلك.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ سأل سائل أعطاه اللَّه ثواب الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون».

من البديهي أنّ الإنسان يحصل على مثل هذا الثواب العظيم إذا كانت قراءته بإيمان وعقيدة، وثم يقترن ذلك بالعمل.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 260

سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: الحاكم أبوالقاسم الحسكاني عن الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام قال: «لما نصّب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عليّاً عليه السلام يوم غدير خم وقال:" من كنت مولاه فعليّ مولاه". طار ذلك في البلاد، فقدم على النبي صلى الله عليه و آله النعمان بن الحرث الفهري فقال: أمرتنا عن اللَّه أن نشهد أن لا إله إلّااللَّه وأنّك رسول اللَّه، وأمرتنا بالجهاد والحج والصوم والصلاة والزكاة فقبلناها. ثم لم ترض حتى نصّبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شي ء منك أو أمر من عند اللَّه؟ فقال:" واللَّه، الّذي لا إله إلّاهو إنّ هذا من اللَّه". فولى النعمان بن الحرث وهو يقول: أللّهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء! فرماه اللَّه بحجر على رأسه فقتله، وأنزل اللَّه تعالى: «سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ»».

التّفسير

العذاب العاجل: من هنا تبدأ سورة المعارج حيث تقول: «سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ».

هذا السائل كما قلنا في سبب النزول هو النعمان بن الحارث أو النضر بن الحارث.

ثم يضيف بأنّ هذا العذاب خاص بالكفار ولا يستطيع أحد دفعه عنهم: «لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ

لَهُ دَافِعٌ».

وتصف الآية الاخرى من ينزل العذاب منه، وهو اللَّه ذي المعارج فتقول الآية: «مِّنَ اللَّهِ ذِى الْمَعَارِجِ». أي صاحب السماء التي يعرج إليها الملائكة.

«المعارج»: جمع «معرج» بمعنى المصعد أو المكان الذي منه يصعدون، إذ إنّ اللَّه جعل للملائكة مقامات مختلفة يتوجهون بها إلى قربه بالتدريج، وقد وصف اللَّه تعالى بذي المعارج.

نعم، الملائكة المأمورون بتعذيب الكفار والمجرمين، والذين هبطوا على إبراهيم عليه السلام، وأخبروه بأنّهم قد امروا بإبادة قوم لوط.

تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَ نَرَاهُ قَرِيباً (7)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 261

يوم مقداره خمسين ألف سنة: بعد إيراد قصة العذاب الدنيوي الذي أصاب من طلب العذاب، تبحث الآيات أمر المعاد والعذاب الاخروي للمجرمين في ذلك اليوم. في البداية يقول تعالى: «تَعْرُجُ الْمَلِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [أي إلى اللَّه فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ».

المشهور أنّ المراد من عروج الملائكة هو العروج الروحي، وليس العروج الجسمي، يعني أنّهم يسرعون في التقرب إلى المقام الإلهي وهم مهيّئون لإستلام الأوامر في ذلك اليوم الذي يراد به يوم القيامة.

والمراد بالروح هو (الروح الأمين) وهو أكبر الملائكة، وهذا ما اشير إليه أيضاً في سورة القدر، حيث يقول تعالى: «تَنَزَّلُ الْمَلِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِمْ مِن كُلّ أَمْرٍ».

وأمّا المراد بكون (خمسين ألف سنة) هو ذلك اليوم الذي بحيث لو وقع في الدنيا كان مقداره خمسين ألف سنة من سني الدنيا، وهذا لا ينافي ما جاء في الآية (5) من سورة السجدة من أنّ ذلك يوم مقداره ألف سنة، ولأجل ذلك ذكر في الروايات أنّ في القيامة خمسين موقفاً، وكل موقف مثل ألف سنة مما تعدون

«1».

فقد كان هذا ما يخصّ المجرمين والظلمة والكفار. روى أبوسعيد الخدري قال: قيل يا رسول اللَّه! ما أطول هذا اليوم؟ فقال: «والذي نفس محمّد بيده! إنّه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا» «2».

ثم يخاطب اللَّه تعالى رسوله الأكرم صلى الله عليه و آله في الآية الاخرى ويقول: «فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا».

المراد ب (الصبر الجميل) هو ما ليس فيه شائبة الجزع والتأوه والشكوى، وفي غير هذا الحال لا يكون جميلًا.

ثم يضيف: «إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا* وَنَرَيهُ قَرِيبًا». إنّهم لا يصدقون بوجود مثل ذلك اليوم الذي يحاسب فيه جميع الخلائق حتى أصغر حديث وعمل لهم، وذلك في يوم مقداره خمسون ألف سنة، ولكنّهم في الواقع ما عرفوا اللَّه وفي قلوبهم ريب بقدرة اللَّه.

______________________________

(1) أمالى الطوسى/ 36.

(2) تفسير مجمع البيان 10/ 120؛ تفسير القرطبى 13/ 23.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 262

يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَ تَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَ لَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَ صَاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ (12) وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى (17) وَ جَمَعَ فَأَوْعَى (18) تضيف هذا الآيات على البحوث السابقة حول القيامة إيضاحات أكثر، حيث يقول اللَّه تعالى: «يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ». «وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ».

«المهل»: على وزن (قفل) وهو المذاب من المعدن كالنحاس والذهب وغيرهما.

«العهن»: مطلق الصوف المصبوغ ألوناً.

في مثل ذلك اليوم تتلاشى السماوات وتذوب، تتدكدك الجبال ثم تتناثر في الهواء كالصوف في مهب الريح، وبما أنّ الجبال ذات ألوان مختلفة فإنّها شبهت بالصوف المصبوغ بالألوان، ثم

يتحقق عالم جديد وحياة جديدة للبشرية بعد كل هذا الخراب.

وعندما يحلّ يوم القيامة في ذلك العالم الجديد فسيكون فيه الحساب عسيراً ومرعباً بحيث ينشغل كل بنفسه، ولا يفكر بالآخر حتى لو كان من خلّص اصدقائه وأحبائه: «وَلَا يَسَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا» «1».

ولا يعني ذلك أنّ الأصدقاء والأقرباء ينكر بعضهم بعضاً، بل إنّهم يعرفونهم ويقول تعالى: «يُبَصَّرُونَهُمْ». غاية الأمر هو أنّ هول الموقف ووحشته لايدعه يفكّر بغيره.

وإكمالًا للحديث وتوضيحاً لذلك الموقف الموحش، يضيف تعالى: «يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِى مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ». وليس ببنيه فحسب بل، يودّ أن يفتدي العذاب بزوجته وأخيه أيضاً «وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ». «وَفَصِيلَتِهِ الَّتِى تْوِيهِ». أي عشيرته وأقرباءه الذين كان يأوي إليهم في الدنيا: «وَمَن فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ».

«يودّ»: من (الود) على وزن (حبّ) أي يحب ويتمنى

______________________________

(1) «الحميم»: في الأصل يعني الماء المغلي والمحرق، ثم اطلق كذلك على الأصدقاء المخلصين والحقيقيين.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 263

«يفتدي»: من (الفداء) أي حفظ النفس من المصائب والمشاكل بوسيلة تسديد أو دفع شي ء ما.

«الفصيلة»: هي العشيرة والعائلة التي انفصل وتولّد منها الإنسان.

«تؤيه»: من «الإيواء» من الشدائد واللجوء إليها ويأوي إليها في النسب.

ولكنّه يجيب على كل هذه الأماني والآمال في قوله: «كَلَّا». أي لا تقبل الفدية والإفتداء.

«إِنَّهَا لَظَى نار ملتهبة تحرق كل من بجانبها وفي مسيرها.

«نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى تقلع اليد والقدم وجلد الوجه.

«لظى : تعني لهيب النار الخالص، وهي اسم من أسماء جهنم أيضاً.

«نزاعة»: أي أنّها تقتلع وتفصل بالتوالي

و «شوى : الأطراف كاليد والرجل، وتأتي أحياناً بمعنى الشواء، ولكن المراد هنا هو المعنى الأوّل.

ثم يشير إلى من يكون فريسة لمثل هذه النار، فيقول: «تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى .

وبهذا فإنّ هذه النار المحرقة تدعو اولئك المجرمين إلى

نفسها سواء بلسان حالها وجاذبيتها الخاصة المودعة فيها تجاه المجرمين، أو بلسان مقالها الذي أعطاها اللَّه إيّاها، إنّها تدعو اولئك المتصفين بهاتين الصفتين: الإعراض عن الإيمان وعدم طاعة اللَّه ورسوله.

إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَ إِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَ الَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ (25) وَ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) أوصاف المؤمنين: بعد ذكر أوصاف الطالحين وجوانب من أنواع العذاب في يوم القيامة، يأتي هنا وصف المؤمنين للتعرف عن سبب انقسام الناس إلى صنفين، المعذبون والناجون. يقول أوّلًا: «إِنَّ الْإِنسنَ خُلِقَ هَلُوعًا».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 264

«إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا».

ثم تذكر الآيات الكريمة صفات الأشخاص الجيدين على شكل استثناء، وتبيّن لهم تسع صفات ايجابية بارزة، فيقول تعالى: «إِلَّا الْمُصَلّينَ». «الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ».

هذه هي الخصوصية الاولى لهم وأنّهم مرتبطين باللَّه بشكل دائم، وهذه الرابطة تتوثق بالصلاة، الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، والصلاة التي تربي روح الإنسان وتذكره دائماً باللَّه تعالى، والسير بهذا الإتجاه سوف يمنعه من الغفلة والغرور، والغرق في بحر الشهوات، والوقوع في قبضة الشيطان وهوى النفس.

والمراد من الإدامة على الصلاة هو المحافظة على أوقات الصلاة المعينة.

بعد توضيح أهميّة الصلاة وأنّها من أهم الأعمال ومن أهم أوصاف المؤمنين تنتقل الآيات إلى ذكر الصفة الثانية فيضيف تعالى: «وَالَّذِينَ فِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ».

وبهذا سوف يحافظون على إرتباطهم بالخالق من جهة، وعلاقتهم بخلق اللَّه من جهة اخرى.

والمراد من الحق المعلوم هو شي ء غير الزّكاة والذي يجب على الإنسان منحه

للمحتاجين.

والفرق بين «السائل» و «المحروم» هو أنّ السائل يفصح عن حاجته ويسأل، والمحروم هو الذي لا يسأل لتعففه وحيائه.

الآية الاخرى أشارت إلى الخصوصية الثالثة لهم فيضيف: «وَالَّذِينَ يُصَدّقُونَ بِيَوْمِ الدّينِ».

والخصوصية الرابعة هي: «وَالَّذِينَ هُم مّنْ عَذَابِ رَبّهِم مُّشْفِقُونَ». «إِنَّ عَذَابَ رَبّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ».

وصحيح البخاري أنّ الرسول صلى الله عليه و آله كان يقول: «لن يدخل أحداً عمله الجنة». قالوا: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: «ولا أنا، إلّاأن يتغمدني اللَّه برحمته».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 265

وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العَادُونَ (31) وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) في الآيات السابقة ذكرت أربعة أوصاف من الأوصاف الخاصة بالمؤمنين الصادقين من أهل الجنان، وفي الوصف الخامسة يقول اللَّه عزّ وجل: «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ» «1».

لا شك في أنّ الغريزة الجنسية من غرائز الإنسان الشديدة والطاغية، والكثير من الجرائم الكبيرة سببها هي هذه الغريزة، ولذا كانت السيطرة على هذه الغريزة وحفظ حدودها من العلامات المهمّة للتقوى وبهذا ذكرت أهمية السيطرة على هذه الغريزة بعد تبيان أهمية الصلاة وإعانة المحتاجين والإيمان بيوم القيامة والإشفاق من عذاب اللَّه.

وفي الآية الاخرى يؤكّد بشكل أكثر على نفس الموضوع فيضيف: «فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْعَادُونَ».

وبهذه الطريقة فإنّ الإسلام يخطط لمجتمع يحافظ على غرائزه الفطرية، ولا يؤدي به إلى الغرق بالفحشاء والفساد الجنسي والمضارّ الناتجة منه.

عندئذ يشير إلى الصفات السادسة والسابعة، فيقول: «وَالَّذِينَ هُمْ

لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ».

من الطبيعي أنّ للأمانة معنىً واسعاً وليست هي الأمانات المادية المتنوعة للناس فحسب، بل إنّها تشمل الأمانات الإلهية وأمانات الأنبياء والأئمة المعصومين عليهم السلام.

إنّ كل نعمة من النعم الإلهية هي من أماناته تعالى، منها المقامات الاجتماعية وبالخصوص المسؤولون في الدولة فإنّها تعتبر من أهم الأمانات.

والأهم من ذلك كلّه هو الدين والشريعة الإلهية وكتاب اللَّه، وهو من الأمانات الكبيرة التي يجب الحفاظ عليها بالسعي.

______________________________

(1) «فروج»: جمع «فرج» وهو كناية عن الآلة التناسيلة.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 266

«العهد»: وله مفهوم واسع أيضاً، يشمل العهود الإنسانية وكذلك العهود الإلهية.

ويضيف في الوصف الثامن: «وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ». لأنّ القيام بالشهادة العادلة وترك كتمانها من أهم بنود إقامة العدل في المجتمع البشري.

وفي الوصف الأخير، وهو الوصف التاسع من هذه المجموعة، يعود مرّة اخرى إلى موضوع الصلاة، كما كان البدء بالصلاة. يقول تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ».

والصلاة هي المدرسة العالية للتربية، وأهم وسيلة لتهذيب النفوس.

ومن الطبيعي أنّ الوصف الأوّل كان إشارة إلى المداومة، ولكن الخطاب هنا حول حفظ آداب وشروط الصلاة وخصائصها، والآداب التي تكمن في ظاهر الصلاة والتي تنهى عن الفحشاء والمنكر من جهة، وتقوي روح الصلاة بحضور القلب من جهة اخرى وتمحو الأخلاق الرذيلة التي تكون كحجر عثرة أمام قبولها، ولهذا لا يعتبر ذكرها مرّة اخرى من قبيل التكرار.

وفي النهاية تبيّن الآية الأخيرة عاقبة المتصفين بهذه الأوصاف، كما بيّنت في الآيات السابقة المسير النهائي للمجرمين، فيقول تعالى: «أُولئِكَ فِى جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ».

لماذا لا يكونوا مكرمين! وهم ضيوف اللَّه، وقد وفرّ اللَّه القادر الرحمن لهم جميع وسائل الضيافة.

فَمَا لِالَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ

(38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَ الْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَ مَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) الطمع الواهي في الجنة: جاء البحث في الآيات السابقة من هذه السورة حول علامات المؤمنين والكفار، ومصير كل من المجموعتين، في الآيات يعود ليوضح أحوال الكفار واستهزاءهم بالمقدسات.

قال البعض: إنّ هذه الآيات نزلت في جماعة من المشركين فعندما كان الرسول صلى الله عليه و آله يتلو على المسلمين آيات المعاد، كان هؤلاء الكفار يقدمون من كل صوب وحدب ويقولون: إذا كان هناك معاد فإنّ حالنا في الآخرة أحسن من حال من آمن بك، كما أنّ حالنا في هذه الدنيا أحسن منهم!

مختصر الامثل، ج 5، ص: 267

يقول القرآن الكريم في جوابهم: «فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ». أي: يقبلون نحوك من كل جانب مسرعين.

«عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ عِزِينَ». أي جماعات متفرقين.

«أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِىٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ». بأي إيمان وبأي عمل يستحقون ذلك؟!

«مهطعين»: جمع مهطع، وتعني الذي يمدّ عنقه مقبلًا على شي ء بسرعة للبحث عنه، وأحياناً تأتي- فقط- بمعنى مدّ العنق لاستطلاع الأمر.

«عزين»: جمع عزة، على وزن «هبة» وتعني جماعات متفرقين.

وهنا يجيبهم القرآن المجيد فيقول: «كَلَّا». ليس الأمر كذلك وليس لهم حق الدخول إلى الجنة: «إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ».

في الحقيقة أنّ اللَّه يريد بهذه الجملة أن يحطم غرورهم، لأنّه يقول: إنّكم تعلمون جيداً مم خلقناكم؟ من نطفة قذرة، من ماء آسن مهين.

ويجيب ثانياً على المستهزئين بالمعاد فيقول: إذا كنتم في شك من المعاد فتمعنوا في حال هذه النطفة، وانظروا كيف خلقنا موجوداً بديعاً من قطرة ماء قذرة يتطور فيها الجنين كل يوم يتّخذ شكلًا جديداً، ألا يقدر خالق الإنسان من هذه

النطفة أن يعيد إليه الحياة بعد دفنه؟

ثم يقول تعالى مؤكّداً ذلك: «فَلَا أُقْسِمُ بِرَبّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَن نُّبَدّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ».

لعل هذه الجملة إشارة إلى أنّنا لسنا قادرين على أن نعيد لهم الحياة بعد الموت فحسب، بل إنّنا نستطيع أن نبدله إلى أكمل الموجودات وأفضلها، ولا يمنعنا من ذلك شي ء.

أو هو إشارة إلى أنّنا نهلككم جزاءً لأعمالكم ولا يمنعنا من ذلك شي ء، ونستبدل بكم مؤمنين واعين، ليكونوا أنصاراً للنبي صلى الله عليه و آله ولا يضرّنا ذلك شيئاً.

فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44) هذه الآيات وهي آخر آيات سورة المعارج جاءت لتنذر وتهدد الكفار المعاندين

مختصر الامثل، ج 5، ص: 268

والمستهزئين. يقول سبحانه: «فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ» «1».

لا يلزم الإستدلال والموعظة أكثر من هذا، فإنّهم لا يتعضون وليس لهم الإستعداد للإستيقاظ، دعهم يخوضوا في أباطيلهم وأراجيفهم كمايلعب الأطفال حتى يحين يومهم الموعود، يوم البعث ويرون كل شي ء بأعينهم.

ثم تبيّن الآية التالية اليوم الموعود، وتذكر بعض علامات ذلك اليوم المرعب فيقول تعالى: «يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ».

إنّ هذا التعبير في الحقيقة استهزاء بعقائدهم التافهة التي كانوا يعتقدون بها في الدنيا.

«الأجداث»: جمع جدث- على وزن (عبث)- وتعني القبر.

«سراع»: جمع سريع، تعني الحركة السريعة للشي ء أو الإنسان.

«نصب»: جمع نصيب، والمراد منه هو ما ينصب كعلامة، وتطلق على الأصنام الحجرية إذ كانوا ينصبونها في مكان ما ليعبدوها ويُقدّم لها القرابين ثم يلطخون دماءها عليها.

«يوفضون»: من «إفاضة» وتعني الحركة السريعة المشابهة لحركة الماء المنحدر

من العين.

ثم تذكر الآيات حالات اخرى لهؤلاء فتضيف: «خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ» «2».

من شدة الهول والوحشة وقد غرقوا في ذلة مهينة.

وفي آخر الآية يتابع قوله: «ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِى كَانُوا يُوعَدُونَ».

«نهاية تفسير سورة المعارج»

______________________________

(1) «يخوضوا»: من أصل خوض- على وزن حوض- وتعني في الأصل الحركة في الماء، ثم جاءت بصيغة الكناية في موارد يغطس فيه الإنسان في الباطل.

(2) «ترهقهم»: من أصل «رهق» على وزن (سقف) ويراد به غشيان الشي ء بقهر.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 269

71. سورة نوح

محتوى السورة: هذه السورة، كما هو واضح من اسمها، تشير إلى قصة نوح عليه السلام، واشير إلى قصة هذا النبي العظيم كذلك في سور متعددة في القرآن المجيد، منها: سورة الشعراء، والمؤمنون، والأعراف، والأنبياء، وبشكل أوسع في سورة هود.

وما جاء في سورة نوح عن قصته عليه السلام هو مقطع خاص من حياته، وهو أقل مما ذكر في بقية السور، وهذا القسم يرتبط بدعوته المستمرة والمتتابعة إلى التوحيد، وترتبط بكيفيتها وعناصرها.

بلحاظ أنّ هذه السورة نزلت في مكة، وأنّ النبي صلى الله عليه و آله والمسلمين القلائل في ذلك الزمان كانوا يعيشون ظروفاً مشابهة لظروف عصر نوح عليه السلام وأعوانه، فإنّها تعلمهم اموراً كثيرة، وكانت هذه واحدة من أهداف إيراد هذه القصة، ومنها:

1- أنّها تذكرهم كيف يبلغون الرسالة للمشركين عن طريق الإستدلال المنطقي المقترن بالمحبة والمودة، واستخدام كل طريقة تكون مفيدة ومؤثرة في الدعوة.

2- أنّها تعلّمهم الثبات والنشاط في طريق الدعوة إلى اللَّه وعدم التكاسل مهما طالت الأعوام، ومهما وضع الأعداء العوائق.

3- أنّها تعلّمهم كيف يرغبونهم ويشجعونهم تارةً، وتكون لديهم عوامل الإنذار

مختصر الامثل، ج 5، ص: 270

والرهبة تارةً اخرى والإستفادة من كلا الطريقين في الدعوة إلى اللَّه جلّ وعلا.

4- الآيات الأخيرة من هذه السورة هي

تحذير للمشركين المعاندين، بأنّ عاقبتهم وخيمة إذا لم يستسلموا للحق، وتخلّفوا عن أمر اللَّه.

فإنّ هذه السورة ترسم أبعاد الكفاح الدائم بين أصحاب الحق وأصحاب الباطل، ترسم منهج أصحاب الحق الذي يجب عليهم إتّباعه.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح».

ولا يخفى أنّ الهدف من قراءة السورة هو الإقتباس من منهج وسلوك هذا النبي العظيم، من صبره واستقامته في طريق الدعوة إلى اللَّه تعالى ليدركوا دعوة النبي.

إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قلنا: إنّ هذه السورة تبيّن من أحوال نوح عليه السلام وما يرتبط بأمر دعوته، وتبدأ أوّلًا بذكره في بعثته عليه السلام فيقول تعالى: «إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

من الممكن أن يكون هذا العذاب الأليم هو عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة، والأنسب أن يكون الإثنان معاً، وإن كانت القرائن في آخر آيات هذه السورة تشير إلى أنّ هذا العذاب هو عذاب الدنيا.

نوح عليه السلام الذي كان هو من اولي العزم، وصاحب أوّل شريعة إلهيّة، وله دعوة عالمية، جاء إلى قومه بعد صدور هذا الأمر إليه قال: «قَالَ يَا قَوْمِ إِنّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ».

الهدف هو أن تعبدوا اللَّه الذي لا إله إلّاهو، وتتركوا من دونه، وتتقوا وتطيعوا أمري الذي هو أمر اللَّه: «أَنِ اعْبُدُوا

اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ».

ثم ذكر النتائج المهمّة المترتبة على استجابتهم الدعوة في جملتين لترغيبهم فقال: «يَغْفِرْ

مختصر الامثل، ج 5، ص: 271

لَكُم مّن ذُنُوبِكُمْ».

ثم يضيف: «وَيُؤَخّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَايُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ».

يستفاد جيداً من هذه الآية أنّ «الأجل» وموعد عمر الإنسان قسمان، هما: الأجل المسمّى والأجل النهائي. أو بعبارة اخرى: الأجل المعلق، والأجل الحتمي. القسم الأوّل للأجل قابل للتغير والتبديل، فقد يتدنى ويقل عمر الفرد كثيراً بسبب الذنوب والأعمال السيئة وهذا نوع من أنواع العذاب الإلهي، وبالعكس فإنّ التقوى وحسن العمل والتدبير يمكن أن تكون سبباً لتأخير الأجل، ولكن الأجل النهائي لا يتغير بأي حال من الأحوال.

وفي الروايات الإسلامية أيضاً تأكيد على هذا المعنى، منها ما ورد- في الأمالي الشيخ الطوسي- عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «من يموت بالذنوب أكثر ممّن يموت بالآجال، ومن يعيش بالإحسان أكثر ممن يعيش بالأعمار».

قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَ نَهَاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً (6) وَ إِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً (9) استخدام مختلف الوسائل لهدايتهم، ولكن: تتحدث هذا الآيات عن استمرار مهمّة نوح في دعوته قومه ولكن هذه المرّة جاء الحديث على لسانه مخاطباً ربّه وشاكياً إليه أمره معهم بعبارة مؤثّرة بليغة. خطاب نوح عليه السلام في هذا الإطار يمكن أن يعبّد الطريق لكل المبلغين الرساليين: «قَالَ رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلًا وَنَهَارًا».

وإنّني لم أتوانى لحظة واحدة في إرشادهم وإبلاغ الرسالة لهم، ثم يقول: «فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَاءِى إِلَّا فِرَارًا».

ومن العجيب أن تكون الدعوة سبباً

لفرارهم، ولكن بما أنّ كل دعوة تحتاج إلى نوع من الإستعداد وصفاء القلب والتجاذب المتبادل فليس عجيباً أن يكون هنا أثر معاكس في القلوب الخاملة.

ثم إنّ نوحاً عليه السلام يضيف: «وَإِنّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 272

ولكي لا يسمعوا صوت الحق كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم، ويلفون ثيابهم حول أنفسهم أو يضعونها على رؤوسهم لئلا تصل أمواج الصوت إلى أدمغتهم! وربّما كانوا يتقنعون لئلا تقع أعينهم على الهيئة الملكوتية لهذا النبي العظيم، وكانوا يصرون على أن تتوقف الآذان عن السماع والعيون عن النظر.

هذه الآية يشير إلى أحد الأسباب المهمة لتعاستهم وهو الغرور والتكبر، فكان هذا الغرور والكبر أحد الموانع المهمة والدائمة في طريق الحق، ونحن نشاهد النتائج المشؤومة لذلك على طول التاريخ في حياة اناس لا إيمان لهم.

واستمر نوح عليه السلام في حديثه عند المقام الإلهي، فيقول: «ثُمَّ إِنّى دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا».

ثم لم أكتفي بهذا: «ثُمَّ إِنّى أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا».

كان صبره عجيباً، والأعجب ما فيه رأفته، وكانت همته واستقامته الفريدة رأس ماله في السير في طريق الدعوة إلى دين الحق.

والأعجب من ذلك هو أنّ طيلة دعوته التي دامت (950) عاماً لم يؤمن به إلّاثمانون شخصاً.

فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً (11) وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً (13) وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً (14) ثمرة الإيمان في الدنيا: يستمر نوح عليه السلام في تبليغه المؤثر لقومه المعاندين العصاة، ويعتمد هذه المرّة على عامل الترغيب والتشجيع، ويوعدهم بانفتاح أبواب الرحمة الإلهية من كل جهة إذا ما

تابوا من الشرك والخطايا، فيقول: «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا».

ولا يطهركم من الذنوب فحسب بل: «يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا» «1».

ثم يضيف: «وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا». وبهذا فإنّه وعدهم بنعمة معنوية كبيرة، وبخمس نعم اخرى مادية كبيرة، والنعمة المعنوية الكبيرة هي

______________________________

(1) «مدراراً»: من أصل «درّ» وتعني في الأصل انسكاب الحليب من ثديي الام ويعطي معنى هطول الأمطار.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 273

غفران الذنوب والتطهير من درن الكفر والعصيان، وأمّا النعم المادية فهي هطول الأمطار المفيدة والمباركة في حينها، كثرة الأموال، كثرة الأولاد (الثروات الإنسانية)، الحدائق المباركة والأنهار الجارية.

نعم، إنّ الإيمان والتقوى يبعثان على عمران الدنيا والآخرة بشهادة القرآن المجيد.

ويعود نوح عليه السلام مرّة اخرى لينذرهم، فيقول: «مَّا لَكُمْ لَاتَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا» «1». ولا تخافون عقابه وقد خلقكم في مراحل مختلفة. ويقول أيضاً: «وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا».

كنتم في البداية نطفة لا قيمة لها، ثم صوركم علقة ثم مضغة، ثم وهبكم الشكل الإنساني، ثم ألبسكم لباس الحياة، فوهب لكم الروح والحواس والحركة.

وليست أجسامكم هي المتغيرة فقط بل إنّ الروح هي أيضاً في تغيّر مستمر، لكل منكم استعداده الخاص. وعلى هذا فإنّه معكم في كل مكان هو يهديكم في كل خطوة ويشملكم بلطفه وعنايته، فلم كل هذا الكفران والإستهانة.

أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً (15) وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً (16) وَ اللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَ يُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً (18) وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجاً (20) كان نوح عليه السلام يبيّن للمشركين المعاندين حقائق عميقة ومستدلة، إذ كان يأخذ بهم إلى أعماق وجودهم ليشاهدوا حقائق هذه

الآيات (كما مرّ في الآيات السابقة) ودعاهم إلى ما خلق اللَّه من علامات في هذا العالم الكبير، فكان يسير بهم إلى تلك الآفاق.

يبدأ أوّلًا بالسماء فيقول: «أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَموَاتٍ طِبَاقًا».

«طباقاً»: مصدر من باب (مفاعلة) بمعنى «مطابقة»، وأحياناً تأتي بمعنى وضع الشي ء فوق شي ء آخر، وتأتي أحياناً اخرى بمعنى مطابقة ومماثلة شيئين أحدهما مع الآخر، والمعنيان يصدقان هنا.

______________________________

(1) «الوقار»: الثقل والعظمة؛ و «ترجون»: من أصل رجاء بمعنى الأمل وهو ملازم للخوف، ومعنى الآية لماذا لاتخضعون لعظمة اللَّه تعالى.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 274

وعلى الإحتمال الثاني فإنّ القرآن يشير إلى مطابقة وتناسق السماوات السبع في النظم والعظمة والجمال. ثم يضيف: «وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا».

التعبير بالسراج للشمس وبالنور للقمر هو أنّ نور الشمس ينشأ من ذاتها كالسراج، وأمّا نور القمر فإنّه ليس من باطنه بل انعكاس لنور الشمس.

ثم يعود ذلك إلى الإنسان فيقول: «وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا».

التعبير ب «الإنبات»، في شأن الإنسان لأسباب؛ أوّلًا: خلق الإنسان الأوّل من التراب.

ثانياً: إنّ المواد الغذائية التي يتناولها الإنسان وبها ينمو ويحيى، هي من الأرض، فهو إمّا يتناول الخضار والحبوب الغذائية أو الفواكه مباشرة، أو بطريق غير مباشر كلحوم الحيوانات.

ثالثاً: هناك تشابه كثير بين الإنسان والنبات، وهناك كثير من القوانين التي يسري حكمها على نمو وتغذية النباتات هي سارية أيضاً على الإنسان.

ثم يمضي إلى مسألة المعاد والتي كانت من المسائل المعقدة عند المشركين فيقول: «ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا».

كنتم في البدء تراباً، ثم تعودون إلى التراب ثانية، ومن كانت له القدرة على أن يخلقكم من التراب هو قادر على أن يحييكم بعد الموت.

ثم يعود مرّة اخرى إلى آيات الآفاق وعلامات التوحيد في هذا العالم الكبير،

ويتحدث عن نعم وجود الأرض فيقول: «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا».

ليست هي بتلك الخشونة بحيث لا يمكنكم الإنتقال والاستراحة عليها، وليست بتلك النعومة بحيث تغطسون فيها، وتفقدون القدرة على الحركة، مضافاً إلى ذلك فهي كالبساط الواسع الجاهز المتوفر فيه جميع متطلباتكم المعيشية.

وليست الأراضي المسطحة كالبساط الواسع فحسب، بل بما فيها من الجبال والوديان والشقوق المتداخلة بعضها فوق بعض والتي يمكن العبور من خلالها.

«لِّتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا». «فجاج»: على وزن (مزاج)، وهو جمع فج، وبمعنى

مختصر الامثل، ج 5، ص: 275

الوادي الفسيح بين الجبلين، وقيل الطريق الواسعة.

قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً (21) وَ مَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَ قَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَ لَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَ لَا سُوَاعاً وَ لَا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً (23) وَ قَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ لَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً (25) لطف اللَّه معك: عندما رأى نوح عليه السلام عناد قومه وقد بذل في سبيل هدايتهم منتهى مساعيه التي طالت مئات السنين، وما كانوا يزدادون فيها إلّافساداً وضلالًا، يئس منهم وتوجّه إلى ربّه ليناجيه ويطلب منه أن يعاقب قومه، كما نقرأ في هذه الآيات محل البحث:

«قَالَ نُوحٌ رَّبّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا».

تشير هذه الآية إلى أنّ رؤساء هؤلاء القوم يمتازون بكثرة الأموال والأولاد، ولكنّها لا تستخدم لخدمة الناس بل للفساد والعدوان، ولا يخضعون للَّه تعالى، وهذه الإمتيازات الكثيرة سببت في طغيانهم وغيهم.

ثم يضيف في قوله تعالى: «وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا».

إنّهم كانوا يضعون خططاً شيطانية واسعة لتضليل الناس، ورفض دعوة نوح عليه السلام، ومن

المحتمل أن يكون عبادة الأصنام واحدة من هذه الخطط والأساليب، وذلك طبقاً للروايات التي تشير إلى عدم وجود عبادة الأصنام قبل عصر نوح عليه السلام وأن قوم نوح هم الذين أوجدوها.

وتدل الآية الاخرى على هذا الأمر، إذ أنّها تضيف بعد الإشارة إلى خفاء هذا المكر في قوله تعالى: «وَقَالُوا لَاتَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ».

ولا تقبلوا دعوة نوح إلى اللَّه الواحد، وغير المحسوس، وأكدوا بالخصوص على خمسة أصنام، وقالوا: «وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا».

ويستفاد من القرائن أنّ هذه الأصنام الخمسة لقيت عناية بالغة من القوم الظالمين، ولهذا كان رؤسائهم المستغلون لهم يعتمدون على عبادتهم لها.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 276

ثم يضيف عن لسان نوح عليه السلام: «وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَللًا».

المراد من زيادة الضلال للظالمين هو الدعاء بسلب التوفيق الإلهي منهم ليكون سبباً في تعاستهم، أو أنّه دعاء منه أن يجازيهم اللَّه بكفرهم وظلمهم ويسلبهم نور الإيمان، ولتحلّ محله ظلمة الكفر. وبالتالي فإنّ الآية الأخيرة في البحث، يقول اللَّه تعالى فيها: «مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا».

تشير الآية إلى ورودهم النار بعد الطوفان، وممّا يثير العجب هو دخولهم النار بعد الدخول في الماء! وهذه النار هي نار البرزخ، لأنّ بعض الناس يعاقبون بعد الموت، وذلك في عالم البرزخ كما هو ظاهر في سياق بعض الآيات القرآنية، وكذا ذكرت الروايات أنّ القبر إمّا روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران.

وَ قَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَ لَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوَالِدَيَّ وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ

الْمُؤْمِنَاتِ وَ لَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً (28) على الفاسدين والمفسدين أن يرحلوا: هذه الآيات تشير إلى استمرار نوح عليه السلام في حديثه ودعائه عليهم فيقول تبارك وتعالى: «وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ لَاتَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا».

دعا نوح عليه السلام بهذا الدعاء عندما يئس من هدايتهم بعد المشقّة والعناء في دعوته إيّاهم، فلم يؤمن إلّاقليل منهم.

والتّعبير ب «على الأرض» يشير إلى أنّ دعوة نوح عليه السلام كانت تشمل العالم، وكذا مجي ء الطوفان والعذاب بعده.

ثم يستدل نوح عليه السلام للعنه القوم فيقول: «إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا». وهذا يشير إلى أنّ دعاء الأنبياء ومن بينهم نوح عليه السلام لم يكن ناتجاً عن الغضب والإنتقام والحقد، بل إنّه على أساس منطقي.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 277

«الفاجر»: يراد به من يرتكب ذنباً قبيحاً وشنيعاً.

«كفّار»: المبالغ في الكفر.

والإختلاف بين هذين اللفظين هو أن أحدهما يتعلق بالجوانب العملية، والآخر بالجوانب العقائدية.

ثم يدعو نوح عليه السلام، لنفسه ولمن آمن به فيقول: «رَّبّ اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا».

طلب المغفرة هذا من نوح عليه السلام كأنّه يريد أن يقول إنّني وإن دعوت قومي مئات السنين ولقيت ما لقيت من العذاب والإهانة، ولكن يمكن أن يكون قد صدر منّي الترك الأولى، فلذا أطلب العفو والمغفرة لا ابري ء نفسي أمام اللَّه تعالى.

«نهاية تفسير سورة نوح»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 279

72. سورة سورة الجن

محتوى السورة: تتحدث هذه السورة حول نوع من الخلائق المستورين عن حواسنا وهم الجن، كما سمّيت السورة باسمهم، وأنّهم يؤمنون بنبيّنا الأكرم صلى الله عليه و آله، وعن خضوعهم للقرآن وإيمانهم بالمعاد، وأنّ فيهم المؤمن والكافر وغير ذلك، وفي هذا القسم من السورة

(19) آية من (28) آية تصحح ما حُرّف من معتقدات حول الجن.

وهناك قسم آخر من السورة يشير إلى التوحيد والمعاد، والقسم الأخير يتحدث عن العلم الذي لا يعلمه إلّامن شاء للَّه.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من أكثر قراءة «قُلْ أُوحِىَ» لم يصبه في الحياة الدنيا شي ء من أعين الجن، ولا من نفثهم، ولا من سحرهم، ولا من كيدهم، وكان مع محمّد صلى الله عليه و آله فيقول: يا ربّ، لا اريد بهم بدلًا، ولا أريد بدرجتي حولًا».

وطبعاً التلاوة مقدمة وتمهيد لمعرفة محتوى السورة والتدبّر بها، ثم العمل بما فيها.

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً (2) وَ أَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَ لَا وَلَداً (3) وَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَ أَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً (6)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 280

سبب النّزول

ما جاء في سبب نزول سورة الأحقاف في تفسير الآيات (29- 32) مطابق لسبب نزول هذه السورة، ويدل على أنّ السورتين يتعلقان بحادثة واحدة، ونوضح سبب النزول باختصار كما يلي:

1- إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خرج من مكة إلى سوق عكاظ ومعه زيد بن حارثة يدعو الناس إلى الإسلام، فلم يجبه ولم يجد من يقبله، ثم رجع إلى مكة فلما بلغ موضعاً يقال له وادي مجنة تهجد بالقرآن في جوف الليل فمر به نفر من الجن فلما سمعوا قراءة

رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ... فأسلموا وآمنوا وعلمهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله شرائع الإسلام «1».

2- عن ابن عباس قال: انطلق رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ. وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب. قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء، فاضربوا في مشارق الأرض ومغاربها، فانطلقوا يضربون في مشارق الأرض ومغاربها، فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو بنخلة عامداً إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القران استمعوا له، فقالوا: هذا واللَّه الذي حال بينكم وبين خبر السماء.

فهناك حين رجعوا إلى قومهم وقالوا: يا قومنا «إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًا عَجَبًا* يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ فَامَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبّنَا أَحَدًا» «2».

ولكن جاء في سبب نزول هذه السورة ما يخالف هذا المعنى، وهو أنّ علقمة بن قيس قال: قلت لعبداللَّه بن المسعود: من كان منكم مع النبي صلى الله عليه و آله ليلة الجن؟ فقال: ما كان منّا معه أحد، فقدناه ذات ليلة ونحن بمكة فقلنا: اغتيل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أو استطير. فانطلقنا نطلبه من الشعاب، فلقيناه مقبلًا من نحو حراء، فقلنا: يا رسول اللَّه! اين كنت لقد أشفقنا عليك؟ وقلنا له: بتنا الليلة بشرّ ليلة بات بها قوم حين فقدناك! فقال لنا: «إنّه أتاني داعي الجن فذهبت أقرئهم القرآن» «3».

______________________________

(1) تفسير علي بن ابراهيم 2/ 299 و 388.

(2) في ظلال القرآن 7/ 429.

(3) تفسير مجمع البيان

10/ 145.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 281

مختصر الامثل ج 5 299

التّفسير

القرآن العجيب: يقول اللَّه تعالى: «قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ الْجِنّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًا عَجَبًا».

يعلم من مفهوم الآية أنّ للجن عقلًا وشعوراً وفهماً وإدراكاً، وأنّهم مكلّفون ومسؤولون، ولهم المعرفة باللغات ويفرقون بين الكلام الخارق للعادة بين الكلام العادي، وبين المعجز وغير والمعجز، ويجدون أنفسهم مكلّفين بإيصال الدعوة إلى قومهم، وأنّهم هم المخاطبون في القرآن المجيد.

إنّ لهم الحق في أن يحسبوا هذا القرآن عجباً، لِلَحنِه العجيب، ولجاذبية محتواه، ولتأثيره العجيب، ولمن جاء به والذي لم يكن قد درس شيئاً وقد ظهر من بين الاميين.

لقد تحدثوا لقومهم بحديث آخر تبيّنه السورة في (12) آية، وكل منها تبدأ ب (أن) وهي دلالة على التأكيد.

فيقول أوّلًا بأنّهم قالوا: «يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ فَامَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبّنَا أَحَدًا».

وبعد إظهار الإيمان ونفي الشرك باللَّه تعالى ينتقل كلامهم إلى تبيان صفات اللَّه تعالى:

«وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا».

«جد»: لها معانٍ كثيرة في اللغة، منها: العظمة، والشدّة، والجد، والقسمة، والنصيب. وأمّا المعنى الحقيقي فهو «القطع»، وتأتي بمعنى «العظمة» إذا كان هناك كائن عظيم منفصل بذاته عن بقية الكائنات.

ثم قالوا: «وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا». أي أنّ سفهاءنا قالوا: إنّ للَّه زوجة وأطفالًا، واتّخذ لنفسه شريكاً وشبيهاً، وإنّه قد انحرف عن الطريق، وكان يقول شططاً.

واحتمل بعض المفسرين أنّ «السفيه» هنا له معنى انفرادي، والمقصود به هو «ابليس» الذي نسب إلى اللَّه نسب ركيكة، وذلك بعد مخالفته لأمر اللَّه.

ولمّا كان ابليس من الجن، وكان قد بدا منه ذلك، اشمأز منه المؤمنون من الجن واعتبروا ذلك منه شططاً، وإن كان عالماً وعابداً.

«شطط»: على وزن وسط، وتعني الخروج والإبتعاد عن

قول الحق.

ثم قالوا: «وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 282

لعلّ هذا الكلام اشارة إلى التقليد الأعمى للغير، حيث كانوا يشركون باللَّه وينسبون إليه الزوجة والأولاد، فهم يقولون: لقد كنّا نصدقهم بحسن ظنّنا بهم ونقول بمقالتهم الخاطئة، وما كنّا نظنهم يتجرؤون على اللَّه بهذه الأكاذيب، ولكنّنا الآن نخطّى ء هذا التقليد المزيف لما عرفنا من الحق والإيمان بالقرآن، ونقرّ بما التبس علينا، بانحراف المشركين من الجن. ثم ذكروا إحدى الإنحرافات للجن والإنس وقالوا: «وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الْجِنّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا».

«رهق»: على وزن (شفق) ويعني غشيان الشي ء بالقهر والغلبة، وفُسّر بالضلال والذنب والطغيان والخوف الذي يسيطر على روح الإنسان وقلبه ويغشيه.

فإنّ للآية مفهوماً واسعاً، يشمل جميع أنواع الإلتجاء إلى الجن، والخرافة المذكورة هي مصداق من مصاديقها، وكان في أوساط العرب كهنة كثيرون يعتقدون أنّ الجن باستطاعتهم حلّ الكثير من المشاكل وإخبارهم بالمستقبل.

يشير سياق الآية إلى استمرار حديث المؤمنين من الجن، وتبيان الدعوة لقومهم، وَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَ أَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَ شُهُباً (8) وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً (9) وَ أَنَّا لَا نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) ودعوتهم إلى الإسلام بالطرق المختلفة، فيقولون: «وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا».

لذا تبادروا لإنكار القرآن وتكذيب نبوّة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، ولكنّنا عند سماعنا لآيات القرآن أدركنا الحقائق، فلا تكونوا كالإنس وتتخذوا طريق الكفر فتبتلوا بما ابتلوا به.

وهذا تحذير للمشركين ليفيقوا عند سماعهم لكلام الجن

وتحكيمهم وليتمسكوا بالقرآن وبالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله.

ثم يشيرون إلى علامة صدق قولهم وهو ما يدركه الجن في عالم الطبيعة، فيقولون: «وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا» «1».

______________________________

(1) «لمسنا»: من لمس، وتعني هنا الطلب والبحث؛ و «حرس»: على وزن قفص، جمع حارس، وقيل اسم جمع لحارس، وتعني الشديد الحفاظ.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 283

وكنّا في السابق نسترق السمع من السماء ونحصل على أخبار الغيب ونوصلها إلى أصدقائنا من الإنس ولكنّنا منعنا من ذلك الآن: «وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْأَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا». أليس هذا الوضع الجديد دليل على حقيقة التغيير العظيم الحاصل في العالم عند ظهور الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وكتاب اللَّه السماوي، لماذا كانت لكم القدرة على استراق السمع والآن سلبت منكم هذه القدرة؟ أليس معنى هذا انتهاء عصر الشيطنة والكهانة والخداع، وانتهاء ظلمة الجهل بشروق شمس الوحي والنبوّة.

ثم قالوا: «وَأَنَّا لَانَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدُ بِمَن فِى الْأَرْضِ أَم أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا». أي: مع كل هذا فإنّنا لا ندري أكان هذا المنع من استراق السمع دليل على مكيدة تراد بأهل الأرض، أم أراد اللَّه بذلك المنع أن يهديهم، وبعبارة اخرى أنّنا لا ندري هل هذا هو مقدمة لنزول البلاء والعذاب من اللَّه، أم مقدمة لهدايتهم، ولكن لا يخفى على مؤمني الجن أنّ المنع من استراق السمع الذي تزامن مع ظهور نبيّنا الأكرم صلى الله عليه و آله هو مقدمة لهداية البشرية، وانحلال جهاز الكهانة والخرافات الاخرى، وليس هذا إلّاانتهاءً لعصر الظلام، وابتداء عصر النور.

ومع هذا، فإنّ الجن ولعلاقتهم الخاصة بمسألة استراق السمع لم يكونوا يصدقون بما في ذلك المنع من خير وبركة، وإلّا

فمن الواضح أنّ الكهنة في العصر الجاهلي كانوا يستغلون هذا العمل في تضليل الناس.

وَ أَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَ مِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً (11) وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْساً وَ لَا رَهَقاً (13) وَ أَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَ مِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَ أَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) في هذه الآيات يستمر مؤمنو الجن في حديثهم وهم يبلغون قومهم الضالين فيقولون:

«وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا».

ويحتمل أن يكون المراد من قولهم هذا هو أنّ وجود إبليس فيما بينهم قد أوجد شبهة لبعضهم، بأنّ الجن متطبّع على الشرّ والفساد والشيطنة، ومحال أن يشرق نور الهداية في قلوبهم.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 284

ولكن مؤمني الجن يوضحون في قولهم هذا أنّهم يملكون الإختيار والحرية، وفيهم الصالح والطالح، وهذا يوفرّ لهم الأرضية للهداية.

ولهذه الآية تأثير في إصلاح ما اشتبه علينا نحن البشر في عقائدنا حول الجن، لأنّ كثير من الناس يتصورون أنّ لفظة الجن تعني الشيطنة والفساد والضلال والإنحراف، وسياق هذه الآية يشير إلى أنّ الجن فصائل مختلفة، صالحون وطالحون.

وفي إدامة حديثهم يحذرون الآخرين فيقولون: «وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِى الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا». وإذا كنتم تتصورون أنّكم تستطيعون الفرار من الجزاء وتلتجئون إلى زاوية من زوايا الأرض أو نقطة من نقاط السماوات فإنّكم في غاية الخطأ.

وأضاف مؤمنو الجن في حديثهم قائلين: «وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى ءَامَنَّا بِهِ». وإذ ندعوكم لهدى القرآن فإنّنا ممّن عمل بذلك أوّلًا، ولذا نحن لا ندعو الآخرين إلى أمر لم نكن فاعليه.

ثم

بيّنوا عاقبة الإيمان فقالوا: «فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا».

إنّ المؤمنين مهما يعملوا من عمل كبيراً كان أو صغيراً فإنّهم يستوفون اجور ذلك بلا نقص أو قلّة.

وفي الآية الاخرى توضيح أكثر حول عاقبة المؤمنين والكافرين فيقولون: «وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا القَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا» «1».

«وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا».

والتعبير ب «تَحَرَّوْا رَشَدًا» يشير إلى أنّ المؤمنين إنّما يتوجهون إلى الهدى بالتحقيق والتوجه الصادق، وجزاءهم الأوفى هو نيلهم الحقائق التي بظلها ينالون النعم الإلهية.

وَ أَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً (17) وَ أَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَ أَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) الفتنة باغداق النعمة: إنّ سياق الآيات السابقة يشير إلى ثواب المؤمنين في يوم القيامة،

______________________________

(1) «القاسط»: من أصل «قسط» وتعني التقسيم العادل؛ فإن أتت على وزن (أفعال)، (أقساط) فإنّها تعني إجراء العدالة، وإذا استعملت بصورة الثّلاثي المجرّد كما في هذه الآية فإنّها تعطي معنى الظلم والانحراف عن سبيل الحق؛ و «تحروا»: من أصل «تحرى وتعني توخّاه وقصده.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 285

وفي هذه الآيات يتحدث عن ثوابهم الدّنيوي فيقول: «وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا».

ننزل عليهم مطر رحمتنا، ونذلل لهم منابع وعيون الماء الذي يهب الحياة وبوجود الماء يوجد كل شي ء وعلى هذا فإنّنا نشلمهم بأنواع النعم.

القرآن المجيد أكّد ولعدّة مرات على أنّ الإيمان والتقوى ليست فقط منبعاً للبركات المعنوية، بل تودّي إلى زيادة الأرزاق والنعم والعمران، أي (البركة المادية).

الملاحظ حسب هذا البيان أنّ سبب زيادة النعمة هو الإستقامة على الإيمان، وليس أصل الإيمان، لأنّ الإيمان

المؤقت لا يستطيع أن يظهر هذه البركات.

والآية الاخرى إشارة إلى حقيقة اخرى بنفس الشأن، فيضيف: «لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ».

ومن هنا يتّضح أنّ وفور النعمة من إحدى الأسباب المهمة في الإمتحان الإلهي، وما يُتفق عليه هو أنّ الإختبار بالنعمة أكثر صعوبة وتعقيداً من الإختبار بالعذاب، لأنّ طبيعة ازدياد النعم هو الإنحلال والكسل والغفلة، والغرق في الملذات والشهوات، وهذا ما يُبعد الإنسان عن اللَّه تعالى ويُهيي ء الأجواء لمكائد الشيطان، والذين يستطيعون أن يتخلصوا من شراك النعم الوافرة هم الذاكرون للَّه على كل حال، غير الناسين له تعالى.

ولذا يضيف تعقيباً على ذلك: «وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا».

«صعد»: على وزن (سفر) وتعني الصعود إلى الأعلى، وأحياناً الشِعب المتعرجة في الجبل، وبما أنّ الصعود من الشعاب المتعرجة عمل شاق، فإنّ هذه اللفظة تستعمل بمعنى الامور الشّاقة.

ولكن، مع أنّ التعبير أعلاه يبيّن كون هذا العذاب شاقّاً شديداً فإنّه يحتمل أن يشير إلى اليوم الطويل، وعلى هذا الأساس فإنّه يبيّن في الآيات أعلاه رابطة الإيمان والتقوى بكثرة النعم من جهة، ورابطة كثرة النعم بالاختبارات الإلهية من جهة اخرى ورابطة الإعراض عن ذكر اللَّه تعالى بالعذاب الشاق الطويل من جهة ثالثة.

وقال مؤمنو الجن في الآية الاخرى وهم يدعون إلى التوحيد: «وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا».

المراد بالمساجد هي المواطن التي يُسجد فيها للَّه تعالى كالمسجد الحرام وبقية المساجد، وبشكل أعم هي الأرض التي يصلّى فيها ويسجد عليها، وهو مصداق قول الرسول

مختصر الامثل، ج 5، ص: 286

الأكرم صلى الله عليه و آله: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» «1». وهذا ردّ لمن اتّخذ الأصنام والأوثان للعبادة فأشرك باللَّه، ومن اتّخذ الكعبة معبداً للأصنام، أو انصرف إلى إحياء الطقوس المسيحية حيث (التثليث) أو عبد الأرباب

الثلاثة في الكنائس واللَّه تعالى يقول: «وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا».

ويضيف في إدامة الآية بياناً عن التأثير غير العادي للقرآن المجيد وقيام الرسول للدّعاء فيقول: «وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا». أي: عندما كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقوم للصلاة، فإنّ طائفة من الجن كانوا يجتمعون عليه بشكل متزاحم.

«لبد»: على وزن (فِعَل) وتعني الأشياء المجتمعة المتراكمة، وهذا التعبير بيان لتعجب الجن ممّا يشاهدونه من عبادته وقراءته صلى الله عليه و آله قرآناً لم يسمعوا كلاماً يماثله.

قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَ لَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَ لَا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَ لَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلَّا بَلَاغاً مِنَ اللَّهِ وَ رِسَالاتِهِ وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَ أَقَلُّ عَدَداً (24) في هذه الآيات يأمر اللَّه تعالى نبيّه أن يقول: «قُلْ إِنَّمَا أَدْعُوا رَبّى وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا».

وذلك لتقوية قواعد التوحيد، ونفي كل أنواع الشرك، كما مرّ في الآيات السابقة.

ثم يأمره أن: «قُلْ إِنّى لَاأَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا».

ثم يضيف: قل لهم بأنّي لو خالفت أمر اللَّه تعالى فسوف يحيق بي العذاب أيضاً ولن يستطيع أحد أن ينصرني أو يدفع عنّي عذابه: «قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى مِّنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا».

وعلى هذا الأساس لا يستطيع أحد أن يجيرني منه تعالى ولا شي ء يمكنه أن يكون لي ملجأ وهذا الخطاب يشير من جهة إلى الإقرار الكامل بالعبودية للَّه تعالى، وإلى نفي كل أنواع

الغلو في شأن النبي صلى الله عليه و آله من جهة اخرى، ويشير من جهة ثالثة إلى أنّ الأصنام ليس

______________________________

(1) وسائل الشيعة 2/ 970/ 3.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 287

فقط لا تنفع ولا تحمي، بل إنّ نفس الرسول أيضاً مع ما له من العظمة لا يمكنه أن يكون له ملجأ من عذاب اللَّه، وينهى من جهة الذرائع والآمال للمعاندين الذين كانوا يطلبون من النبي صلى الله عليه و آله أن يريهم المعاجز الإلهية، ويثبت أنّ التوسل والشفاعة أيضاً لا يتحققان إلّابإذنه تعالى.

ويضيف في الآية الاخرى: «إِلَّا بَلغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ».

وقد مرّ ما يشابه هذا التعبير مراراً في آيات القرآن الكريم، كما في الآية (92) من سورة المائدة: «أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلغُ الْمُبِينُ». وكذا في الآية (188) من سورة الأعراف: «قُلْ لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».

ويحذر في نهاية الآية فيقول: «وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا».

الواضح أنّ المراد فيها ليس كل العصاة، بل المشركون والكافرون لأنّ مطلق العصاة لا يخلدون في النار.

ثم يضيف: «حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا».

إنّ سياق هذه الآية يشير إلى أنّ أعداء الإسلام كانوا يتبجّحون بقدرات جيوشهم وكثرة جنودهم أمام المسلمين ويستضعفونهم، لهذا كان القرآن يواسيهم- المسلمين- ويبشرهم بأنّ العاقبة ستكون بانتصارهم وخسران عدوهم.

قُلْ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ

أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَ أَحْصَى كُلَّ شَيْ ءٍ عَدَداً (28) اللَّه عالم الغيب: لقد تبيّن في الآيات السابقة حقيقة أنّ العصاة يبقون على عنادهم واستهزائهم حتى يأتي وعد اللَّه بالعذاب، وهنا يطرح السؤال، وهو: متى يتحقق وعد اللَّه؟

وقد أجاب القرآن على ذلك فقال: «قُلْ إِن أَدْرِى أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبّى أَمَدًا».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 288

هذا العلم يخص ذاته المقدسة تعالى شأنه، وأراد أن يبقى مكتوماً حتى عن عباده المؤمنين، ليتحقق الإختبار الإلهي للبشرية، وإلّا فلن يؤثر الإختبار.

فإنّنا كثيراً ما نواجه مثل هذه المعاني في آيات القرآن، وعندما يسأل الرسول صلى الله عليه و آله عن يوم القيامة يجيب بأنّه ليس له علم بذلك، وأنّ علمه عند اللَّه. ولما تبدى له جبريل في صورة أعرابي كان فيما سأله أن قال: يا محمّد أخبرني عن الساعة؟ قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل». ولما ناداه ذلك الأعرابي بصوت جهْوَريّ فقال: يا محمّد، متى الساعة؟ قال: «ويحك، إنّها كائنة فما أعددت لها»؟ قال: أمّا إنّي لم اعدّ لها كثير صلاة ولا صيام، ولكني احبّ اللَّه ورسوله، قال صلى الله عليه و آله: «فأنت مع من أحببت». قال أنس: فما فرح المسلمون بشي ء فرحهم بهذا الحديث «1».

ثم يبيّن في هذا الحديث قاعدة كلية بشأن علم الغيب فيقول: «عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا».

ثم يضيف مستثنياً: «إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ». أي يبلغه ما يشاء عن طريق الوحي الإلهي: «فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا».

«رصد»: في الأصل مصدر، ويراد به الإستعداد للمراقبة من شي ء؛ ويراد به هنا الملائكة الذين يبعثهم اللَّه مع الوحي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه

و آله ليحيطوه من كل جانب، ويحفظوا الوحي من شرّ شياطين الجن والإنس ووساوسهم ومن كل شي ء يخدش أصالة الوحي، ليوصلوا الرسالات إلى العباد، وهذا هو دليل من الأدلة على عصمة الأنبياء عليهم السلام المحفوظين من الزّلات والخطايا بالإمداد الإلهي والقوّة الغيبية، والملائكة.

في بحثنا للآية الأخيرة التي تنهي السورة تبيان لدليل وجود الحراس والمراقبين فيقول:

«لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَىْ ءٍ عَدَدًا».

المراد من العلم هنا هو العلم الفعلي، وبعبارة اخرى ليس معنى الآية أنّ اللَّه ما كان يعلم عن أنبيائه شيئاً ثم علم، لأنّ العلم الإلهي أزلي وأبدي وغير منتاه، بل إنّ المراد هو تحقق العلم الإلهي في الخارج، ويتخذ لنفسه صورة عينية واضحة، أي ليتحقق إبلاغ الأنبياء ورسالات ربّهم ويتمموا الحجة بذلك.

______________________________

(1) تفسير المراغي 29/ 105.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 289

بحثان

1- تحقيق موسّع حول علم الغيب: من خلال التمعن في الآيات المختلفة للقرآن الكريم يتّضح لنا أنّ الآيات المتعلقة بعلم الغيب قسمان:

القسم الأوّل: ما يتعلق بذاته جلّ شأنه ولا يعلمه إلّاهو، كما في الآية (59) من سورة الأنعام: «وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَايَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ». والآية (50) من سورة الأنعام: «قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ».

القسم الثاني: يطرح بوضوح إطّلاع أولياء اللَّه على الغيب، كما في الآية (179) من سورة آل عمران: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ».

ونقرأ في معاجز المسيح عليه السلام كما في الآية (49) من سورة آل عمران: «وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ».

والآية السابقة مورد البحث أيضاً تشير إلى أنّ اللَّه تعالى يهب العلم لمن يرتضيه من رسله، ومن جهة اخرى فإنّ الآيات التي

تشمل الأخبار الغيبية ليست بقليلة. كالآيات (2- 4) من سورة الروم: «غُلِبَتِ الرُّومُ فِى أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِى بِضْعِ سِنِينَ».

ومن المعروف أنّ الوحي السماوي الذي يهبط على الرسل هو نوع من الغيب الذي أطلعهم اللَّه عليه، فكيف يمكن أن ننفي إطّلاعهم بالغيب في الوقت الذي يهبط عليهم الوحي.

بالإضافة إلى ذلك كله فإنّ هناك روايات كثيرة تدل على أنّ النبي صلى الله عليه و آله والأئمة المعصومين عليهم السلام مطّلعون على الغيب، ويخبرون به أحياناً.

وكذلك إخباره صلى الله عليه و آله بحوادث معركة مؤتة، واستشهاد جعفر الطيار رضى الله عنه وبعض القادة المسلمين، في الوقت الذي كان الرسول صلى الله عليه و آله يطلع الناس على ذلك في المدينة «1». والأمثلة على ذلك ليست قليلة في حياة النبي صلى الله عليه و آله.

وورد في نهج البلاغة أيضاً أخبار كثيرة سابقة لأوانها تشير إلى حوادث مستقبلية، أخبر عنها أمير المؤمنين عليه السلام، ممّا يدل على اطّلاعه بأسرار الغيب، كما جاء في الخطبة (13) في

______________________________

(1) الكامل في التاريخ 2/ 112 (ذكر غزوة مؤتة).

مختصر الامثل، ج 5، ص: 290

ذمّه أهل البصرة حيث يقول: «كأنّي بمسجدكم كجؤجؤ لسفينة قد بعث اللَّه عليها العذاب من فوقها ومن تحتها وغرق من في ضمنها».

وما قاله كميل بن زياد للحجاج أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قد أخبرني بأنّك قاتلي «1».

أمّا كيف نجمع بين هذه الآيات والروايات التي ينفي بعضها علم الغيب لغير اللَّه وإثبات البعض الآخر لغيره تعالى؟ هناك طرق مختلفة للجمع بينها:

1- أشهر طرق الجمع هو أنّ المراد من اختصاص علم الغيب باللَّه تعالى هو العلم الذاتي والإستقلالي، ولهذا لا يعلم الغيب إلّاهو، وما يعلمونه فهو من اللَّه، وذلك

بلطفه وعنايته.

2- أسرار الغيب قسمان: قسم خاص باللَّه عزّ وجل لا يعلمه إلّاهو كقيام الساعة، وغيرها ممّا يشابه ذلك، والقسم الآخر علّمه الأنبياء والأولياء، كما جاء في الخطبة (128) نهج البلاغة حيث يقول علي عليه السلام: «وإنّما علم الغيب علم الساعة، وما عدّده اللَّه سبحانه بقوله: «إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ»» الآية. ثم أضاف الإمام عليه السلام في شرح هذا المعنى:

«فيعلم اللَّه سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو انثى وقبيح أو جميل، وسخيّ أو بخيل، وشقيّ أو سعيد، ومن يكون في النار حطباً، أو في الجنان للنّبيّين مرافقاً فهذا علم الغيب الّذي لا يعلمه أحد إلّااللَّه وما سوى ذلك فعلم علّمه اللَّه نبيّه فعلّمنيه».

يمكن لبعض الناس أن يعلموا بزمان وضع الحمل أو نزول المطر ومثل ذلك علماً إجمالياً، وأمّا العلم التفصيلي والتعرف على هذه الامور فهو خاص بذات اللَّه تعالى المقدسة وإنّ علمنا بشأن يوم القيامة هو علم إجمالي ونجهل جزئيات وخصوصيات يوم القيامة.

وإذا كان النبي صلى الله عليه و آله أو الأئمة المعصومون عليهم السلام قد أخبروا البعض في أحاديثهم عمّن يولد أو عمن ينقضي عمره، فذلك يتعلق بالعلم الإجمالي.

3- والطريق الآخر هو أنّ اللَّه تعالى يعلم بكل أسرار الغيب، وأمّا الأنبياء والأولياء فإنّهم لا يعلمونها كلّها، ولكنّهم إذا ما شاءوا ذلك أعلمهم اللَّه تعالى بها، وبالطبع هذه الإرادة لا تتمّ إلّابإذن اللَّه تعالى.

ومحصلة ذلك أنّ الآيات والروايات التي تقول إنّهم لا يعلمون بالغيب هي إشارة إلى

______________________________

(1) الإصابة لابن حجر 5/ 486.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 291

عدم المعرفة الفعلية، والتي تقول إنّهم يعلمون تشير إلى

إمكان معرفتهم لها.

2- تحقيق حول خلق الجن: الجن كما جاء في المفهوم اللغوي هو نوع من الخلق المستور، وقد ذكرت له مواصفات كثيرة في القرآن؛ منها:

1- إنّهم مخلوقون من النار، بعكس الإنسان المخلوق من التراب؛ كما نقرأ في الآية (15) من سورة الرحمن: «وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَارِجٍ مّن نَّارٍ».

2- إنّهم يمتلكون الإدراك والعلم والتمييز بين الحق والباطل والقدرة على المنطق والإستدلال؛ كما هو واضح من آيات سورة (الجن).

3- إنّهم مكلّفون ومسؤولون؛ كما في آيات سورة الجن والرحمن.

4- وفيهم المؤمنون والصالحون والطالحون؛ كما نقرأ في الآية (11) من سورة الجن: «وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ».

5- إنّهم يحشرون وينشرون؛ كما نقرأ في الآية (15) من سورة الجن: «وَأَمَّا القَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا».

6- لهم القدرة على النفوذ في السماوات وأخذ الأخبار واستراق السمع، ولكنّهم منعوا من ذلك فيما بعد؛ كما نقرأ في الآية (9) من سورة الجن: «وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْأَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا».

7- كانوا يوجدون ارتباطاً مع بعض الناس لإغوائهم بما لديهم من العلوم المحدودة التابعة إلى بعض الأسرار الروحية؛ كما نقرأ في الآية (6) من سورة الجن: «وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الْجِنّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا».

8- ويوجد فيهم من يتمتع بالقدرة الفائقة، كما هو موجود في أوساط الإنس؛ كما نقرأ في الآية (39) من سورة النمل: «قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنّ أَنَا ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ».

9- لهم القدرة على قضاء بعض الحوائج التي يحتاجها الإنسان؛ كما نقرأ في الآيتان (12 و 13) من سورة سبأ: «وَمِنَ الْجِنّ مَن يَعْمَلُ بَينَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبّهِ يَعْمَلُونَ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجَفَانٍ كَالْجَوَابِ».

10- إنّ خلقهم كان قبل

خلق الإنسان؛ كما نقرأ في الآية (27) من سورة الحجر:

«وَالْجَانَّ خَلَقْنهُ مِن قَبْلُ». ولهم خصائص اخرى.

إلى هنا كان الحديث عن امور تستفاد من القرآن المجيد حول هذا الخلق المستور والخالية

مختصر الامثل، ج 5، ص: 292

من كل الخرافات والمسائل غير العلمية، ولكنّنا نعلم أنّ السذج والجهلاء ابتدعوا خرافات كثيرة فيما يخص هذا الكائن بما يتنافي مع العقل والمنطق، منها ما نسب إليهم الأشكال الغريبة والعجيبة والمرعبة، وأنّهم موجودات سامة وذوات أذناب مؤذية، ومبغضة، سيئة التصرف والسلوك، وأوهام اخرى من هذا القبيل، في حين أنّ أصل الموضوع إذا تمّ تطهيره من هذه الخرافات يكون قابلًا للقبول.

ومن جهة اخرى، ليس هناك دليل عقلي على عدم وجود الجن، ولهذا لابدّ من الإعتقاد بهم، وتجنب الأقوال التي لا تليق بهم كما في خرافات العوام.

ومما يلاحظ أيضاً أنّ لفظ الجن يطلق أحياناً على مفهوم أوسع يشمل أنواعاً من الكائنات المستورة أعم من الكائنات ذوات العقل والإدراك والفاقدة لهما، وحتى مجاميع الحيوانات التي ترى بالعين والمختفية في الأوكار أيضاً، والدليل على ذلك روايات وردت عن النبي صلى الله عليه و آله حيث قال: «خلق اللَّه الجن خمسة أصناف: صنف كالريح في الهواء، وصنف حيات، وصنف عقارب، وصنف حشرات الأرض، وصنف كبني آدم عليهم الحساب والعقاب» «1».

«نهاية تفسير سورة الجن»

______________________________

(1) بحار الأنوار 60/ 267.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 293

73. سورة المزمل

محتوى السورة: يمكن أن نقسم مباحث السورة في خمسة أقسام:

1- الآيات الاولى للسورة والتي تأمر النبي صلى الله عليه و آله بقيام الليل والصلاة فيه، ليستعد بذلك لنقل ما سيلقى عليه من القول الثقيل.

2- يأمره صلى الله عليه و آله بالصبر والمقاومة ومداراة المخالفين.

3- بحوث حول المعاد، وإرسال موسى بن عمران إلى فرعون وذكر عذابه الأليم.

4-

فيه تخفيف لما ورد في الآيات الاولى من الأوامر الشديدة عن قيام الليل، وذلك بسبب محنة المسلمين والشدائد المحيطة بهم.

5- والقسم الأخير من السورة يعود ليدعو إلى تلاوة القرآن وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والإنفاق في سبيل اللَّه والإستغفار.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ سورة المزمل رفع عنه العسر في الدنيا والأخرة».

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: «ومن قرأ سورة المزّمل في العشاء الآخرة، أو في آخر الليل كان له الليل والنهار شاهدين مع السورة، وأحياه اللَّه حياة طيبة وأماته ميتة طيبة».

ومن الطبيعي أنّ هذه الفضائل لابدّ أن تكون ملازمة مع قيام الليل وقراءة القرآن والصبر والإستقامة والإيثار والإنفاق العملي، وليس بالتلاوة الخالية من العمل.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 294

يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) يشير سياق الآيات كما بيّنا إلى دعوة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله للإستقامة والإستعداد لقبول مهمة كبيرة وثقيلة، وهذا لا يتمّ إلّابالبناء المسبق للذات، فيقول: «يَا أَيُّهَا الْمُزَّمّلُ قُمِ الَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا* نّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا* أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا» «1». إنّ هذا ليس زمان التزمل والإنزواء، بل زمان القيام والبناء الذاتي والإستعداد لأداء الرسالة العظيمة.

واختيار الليل لهذا العمل أوّلًا: لأنّ أعين الأعداء نائمة؛ وثانياً: تتعطل الأعمال والمكاسب، ولهذا فإنّ الإنسان يستعد للتفكر ولتربية النفس.

وكذلك اختيار القرآن لأن يكون المادة الاولى في البرنامج العبادي في الليل إنّما هو لإقتباس الدروس اللازمة في هذا الباب، وهو يعدّ من أفضل الوسائل لتقوية الإيمان والإستقامة والتقوى

وتربية النفوس.

والتعبير بالترتيل الذي يراد به التنظيم والترتيب الموزون هنا هو القراءة بالتأني والإنتظام اللازم، والأداء الصحيح للحروف، وتبيين الحروف، والتأمل في مفاهيم الآيات، والتفكر في نتائجها. والروايات التي وردت في تفسير الترتيل كلّها تشير إلى ضرورة التمعن في كلمات القرآن، والتدبّر فيها وتذكر بأنّ القرآن هو خطاب اللَّه تعالى للإنسان.

ولكن وللأسف إنّ الكثير من المسلمين ابتعدوا عن هذا الواقع، واكتفوا بالتلفظ وغدا همّهم ختمه، من دون الإهتمام بمعرفة سبب نزوله ومحتواه! صحيح أنّ ألفاظ القرآن عظيمة ولقراءتها فضيلة، ولكن لا ينبغي أن ننسى أنّ هذه الألفاظ وتلاوتها هي مقدمة لبيان المحتوى.

في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إذا مررت بآية فيها ذكر الجنة فقف عندها وسل اللَّه عزّ وجل الجنة، وإذا مررت بآية فيها ذكر النار فقف عندها وتعوذ باللَّه من النار».

ثم يبيّن الهدف النهائي لهذا الأمر المهم والشاق فيقول: «إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا».

______________________________

(1) «مزّمل»: أصلها متزمل، وهي من التزمل، وتعني لف الثوب على نفسه، ولهذا جاء لفظ الزميل، أي المصاحب والرفيق.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 295

إنّ ثقل القول يراد به القرآن المجيد بأبعاده المختلفة ... ثقيل بلحاظ المحتوى ومفاهيم الآيات.

ثقيل بلحاظ حمل القلوب له لما يقوله القرآن: «لَوْ أَنزَلْنَا هذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدّعًا مّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» «1».

ثقيل بلحاظ التبليغ ومشاكل طريق الدعوة.

وثقيل في ميزان العمل وفي عرصة القيامة.

ولكن الرسول صلى الله عليه و آله وأصحابه القلائل استطاعوا أن يتغلبوا على كل تلك هذه المشاكل باستمدادهم من تربية القرآن، والإستعانة بصلاة الليل، وبالاستفادة من قربهم من ذات اللَّه المقدسة، واستطاعوا بذلك حمل هذا القول الثقيل والوصول إلى مرادهم.

بحث

فضيلة صلاة الليل: هذه الآيات تبيّن أهمّية إحياء الليل بالعبادة وقراءة القرآن عندما

يكون الغافلون نياماً، فإنّ العبادة في الليل وبالخصوص عند السحر لها الأثر البالغ في تصفية الروح وتهذيب النفوس والتربية المعنوية للإنسان وطهارة القلب وإيقاظه، وكذا في تقوية الإيمان والإرادة، وتوكيد أركان التقوى في الروح والقلب، ويمكن لمس ذلك بمجرّد الاختبار مرّة واحدة، وقد أكّدت الروايات على ذلك بالإضافة إلى ما ذكرته الآيات القرآنية. منها ورد- في أمالي الطوسي- عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّ من روح اللَّه تعالى ثلاثة: التهجد بالليل، وإفطار الصائم، ولقاء الإخوان».

تأثير الدعاء والمناجاة في أعماق الليل: تستمر هذه الآيات في البحث حول عبادة الليل والتعاليم المعنوية الموجودة قراءة القرآن في الليل، وهي بمنزلة بيان الدليل على ما جاء في الآيات السالفة، فيقول تعالى: «إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطًا وَأَقْوَمُ قِيلًا».

______________________________

(1) سورة الحشر/ 21. مختصر الامثل، ج 5، ص: 296

«الناشئة»: من مادة «نشأ» وتعني الحادثة، وقد ذكر هنا ثلاثة تفاسير لما يراد منها.

الأوّل: المراد به ساعات الليل الحادثة بالتوالي.

والثاني: إنّ المراد هو إحياء الليل بالصلاة والعبادة وقراءة القرآن.

والثالث: الحالات المعنوية والروحية والنشاط والجذوة الملكوتية التي تحصل في القلب الإنسان وروحه في هذه الساعات الخاصّة بالليل، والتي تكون آثارها في روح الإنسان أعمق واستمرارها أكثر، والتّفسيران الثاني والثالث متلازمان، ويمكن جمعها في ما يراد بمعنى الآية.

والتعبير ب «أَشَدُّ وَطًا»: التأثيرات الثابتة والراسخة الحاصلة من شعاع هذه العبادات في روح الإنسان.

«أقوم»: من القيام، ويراد بكونها أثبت للقول وأصوب لحضور القلب.

«قيلًا»: تعني القول، وتشير هنا إلى ذكر اللَّه وقراءة القرآن.

إنّ هذه الآية من الآيات التي تحتوي على أبلغ الأحاديث حول العبادة الليلية، ورمز إظهار المحبة مع المحبوب في ساعات يختلي فيها الحبيب بحبيبه وأكثر من غيرها.

ويضيف في الآية الاخرى: «إِنَّ لَكَ فِى النَّهَارِ سَبْحًا

طَوِيلًا».

أي إنّك مشغول بهداية الخلق وإبلاغ الرسالة وحلّ المشاكل المتنوعة، ولا مجال لك بالتوجه التام إلى ربّك والإنقطاع إليه بالذكر، فعليك بالليل والعبادة فيه.

وهناك معنى أدق وتفسير يناسب الآيات السابقة أيضاً هو: أنّك تتحمل في النهار مشاغل ثقيلة ومساعي كثيرة، فعليك بعبادة الليل لتقوى بها روحك وتستعد للفعاليات والنشاطات الكثيرة في النهار.

وبعد الإشارة إلى العبادة الليلية، والإشارة الإجمالية إلى الآثارها العميقة يذكّر القرآن بخمسة أوامر اخرى مكملة لتلك فيقول: «وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ».

والطبيعي أنّ المراد ليس ذكر الإسم فحسب، بل التوجه إلى المعنى، لأنّ الذكر اللفظي مقدمة للذكر القلبي، والذكر القلبي يبعث على صفاء القلب والروح ويروي منهل المعرفة والتقوى في القلب.

ويقول في الأمر الثاني: «وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا».

«التبتل»: من «البتل» على وزن (حتم)، وتعني في الأصل الإنقطاع، ولهذا سمّيت «مريم

مختصر الامثل، ج 5، ص: 297

العذارء عليها السلام» بالبتول، لأنّها لم تتخذ لنفسها زوجاً وسمّيت الزهراء عليها السلام بالبتول لأنّها كانت أفضل نساء عصرها في السيرة والسلوك، وكانت بالغة درجة الإنقطاع إلى اللَّه تعالى.

فالتبتل هو التوجه القلبي التام إلى اللَّه تعالى، والإنقطاع عن غيره إليه تعالى، والإتيان بالأعمال الخالصة للَّه، وكذا الخلوص له تعالى.

ثم ينتهي إلى الأمر الثالث فيقول: «رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا».

وهنا تأتي مسألة إيداع الامور إلى اللَّه، وذلك بعد مرحلة ذكر اللَّه والإخلاص، إيداع الامور للربّ الذي بيده الحاكمية والربوبية على المشرق والمغرب والمعبود الوحيد المستحق للعبادة، وهذا التعبير في الحقيقة هو بمنزلة الدليل على موضوع التوكل على اللَّه، فكيف لا يتوكل الإنسان عليه، ولا يودعه أعماله، وليس في العالم الواسع من حاكم وآمر ومنعم ومولى ومعبود غيره؟

وبالتالي يقول في الأمر الرابع والخامس: «وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا».

ويأتي هنا

مقام الصبر والهجران، لكثرة إتهامات الأعداء وإيذاءهم له في طريق الدعوة إلى اللَّه، فالفلاح إذا أراد قطف الورود، عليه أن يصبر ويتحمل أذى الأشواك، مضافاً إلى ذلك يلزم الإبتعاد عنهم وهجرانهم أحياناً، وليبقى في مأمن من شرّهم، ويعطيهم بذلك درساً بالغاً، ولا يعني ذلك قطع سبل التربية والتبليغ والدعوة إلى اللَّه.

يقول الطبرسي رحمه الله في تفسير مجمع البيان في ذيل الآية مورد البحث: وفي هذا دلالة على وجوب الصبر على الأذى لمن يدعو إلى الدين والمعاشرة بأحسن الأخلاق، واستعمال الرفق ليكونوا أقرب إلى الإجابة.

وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَ جَحِيماً (12) وَ طَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَ عَذَاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبَالُ وَ كَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 298

أشارت الآية الأخيرة من الآيات السابقة إلى أقوال المشركين البذيئة، وعدائهم وإيذائهم للنبي صلى الله عليه و آله، أمّا في هذه الآيات فإنّ اللَّه تعالى يهددهم بالعذاب الأليم، ويدعوهم إلى ترك ما هم عليه، ويواسي المؤمنين الأوائل، فيقول تعالى شأنه: «وَذَرْنِى وَالْمُكَذّبِينَ أُولِى النَّعْمَةِ وَمَهّلْهُمْ قَلِيلًا». أي دعني وايّاهم، واترك عقابهم لي ومهلهم قليلًا. لتتمّ الحجة عليهم ولتظهر ماهيتهم الحقيقية، ويُثقلوا ظهورهم بالخطايا فعندها يحلّ عليهم غضبي.

ولم يمض كثير حتى ازدادت شوكة المسلمين، ووجهوا ضرباتهم القوية لأعداء الرسالة، وذلك في معارك بدر وحنين والأحزاب، وبالتالي كان العذاب الإلهي ينتظرهم

في البرزخ، حتى يخلدوا بعد ذلك في النار في يوم القيامة.

ثم يقول مصرّحاً: «إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا».

«الأنكال»: جمع (نكل)، على وزن (فكر) وهي السلاسل الثقال، وأصلها من نكول الضعف والعجز، أي أنّ الإنسان يفقد الحركة بتقييد أعضائه بالسلاسل.

نعم، لقد تنعموا في الدنيا وأخذوا حريتهم المطلقة، ولهذا لابدّ لهم من القيود والنار.

وكذا يضيف: «وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا».

هذا مصير من كان يتلذذ بالطعام بعكس ما كان طعامهم في الدنيا الحرام، حيث العذاب الأليم، ولما تمتع به المغرورون والمستكبرون من الراحة غير المشروعة في هذه الدنيا، والطعام الموصوف بالغصّة هو بحد ذاته عذاب أليم، ثم يتبع ذلك بذكر العذاب الأليم على إنفراد، وهذا يشير إلى أنّ أبعاد العذاب الاخروي لا يعلم شدّته وعظمته إلّااللَّه تعالى، ولهذا ورد في حديث أنّ النبي صلى الله عليه و آله سمع قارئاً يقرأ هذه فصعق «1».

ثم يشرح ما يجري في ذلك اليوم الذي يظهر فيه هذا العذاب فيقول: «يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا».

«الكثيب»: يراد به الرمل المتراكم؛ و «المهيل»: من هيل- على وزن كيل- هو صبّ شي ء ناعم كالرمل على شي ء، ويراد بالمعنى هنا الرمل الناعم وما لا يستقر، والمعنى أنّ الجبال تتلاشى بحيث تظهر بهيئة الرمل الناعم، وإذا ما ديست بالأقدام فإنّها تطمس فيها.

ثم يقارن بين بعثة النبي صلى الله عليه و آله ومخالفة الأشداء العرب، وبين نهوض موسى بن عمران بوجه الفراعنة فيقول تعالى: «إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا».

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان 10/ 166.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 299

إنّ هدف النبي صلى الله عليه و آله هدايتكم والإشراف على أعمالكم كما كان هدف موسى عليه السلام هداية فرعون وأتباعه والإشراف على

أعمالهم.

لم يكن جيش فرعون مانعاً من العذاب الإلهي، ولم تكن سعة مملكتهم وأموالهم وثراؤهم سبباً لرفع هذا العذاب، ففي النهاية اغرقوا في أمواج النيل المتلاطمة إذ أنّهم كانوا يتباهون بالنيل، فبماذا تفكرون لأنفسكم وأنتم أقل عدّة وعدداً من فرعون وأتباعه وأضعف؟ وكيف تغترون بأموالكم وأعدادكم القليلة؟!

«الوبيل»: من «الوبل» ويراد به المطر الشديد والثقيل، وكذا يطلق على كل ما هو شديد وثقيل بالخصوص في العقوبات، والآية تشير إلى شدّة العذاب النازل كالمطر.

ثم وجه الحديث إلى كفار عصر نبي الأكرم صلى الله عليه و آله ويحذرهم بقوله: «فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا».

في الآية الاخرى يبيّن وصفاً أدقّ لذلك اليوم المهول فيضيف: «السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا».

فما حيلة الإنسان الضعيف العاجز عندما يرى تفطر السماوات بعظمتها لشدّة ذلك اليوم؟!

وفي النهاية يشير القرآن إلى جميع التحذيرات والإنذارات السابقة فيقول تعالى: «إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ». إنّكم مخيرون في اختيار السبيل «فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلًا». ولا فضيلة في اتّخاذ الطريق إلى اللَّه بالإجبار والإكراه، بل الفضيلة أن يختار الإنسان السبيل بنفسه وبمحض إرادته.

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ وَ طَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَ اللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَ آخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَ آتُوا الزَّكَاةَ وَ أَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَ مَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)

مختصر الامثل، ج 5،

ص: 300

مختصر الامثل ج 5 332

فاقرؤوا ما تيسّر من القرآن: هذه الآية هي من أطول آيات هذه السورة وتشتمل على مسائل كثيرة، وهي مكملة لمحتوى الآيات السابقة، فيقول تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثِىَ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ».

الآية تشير إلى نفس الحكم الذي أمر به الرسول صلى الله عليه و آله في صدر السورة من قيام الليل والصلاة فيه، وما اضيف في هذه الآية هو اشتراك المؤمنين في العبادة مع النبي صلى الله عليه و آله (بصيغة حكم استحبابي أو باحتمال حكم وجوبي)، لأنّ ظروف صدر الإسلام كانت تتجاوب مع بناء ذواتهم والإستعداد للتبليغ والدفاع عنه بالدروس العقائدية المقتبسة من القرآن المجيد، وكذا بالعمل والأخلاق وقيام الليل، ولكن يستفاد من بعض الروايات أنّ المؤمنين كانوا قد وقعوا في إشكالات ضبط الوقت للمدة المذكورة (الثلث والنصف والثلثين) ولذا كانوا يحتاطون في ذلك، وكان ذلك يستدعي إستيقاظهم طول الليل والقيام حتى تتورم أقدامهم، ولذا بُني هذا الحكم على التخفيف، فقال: «عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ».

ثم يبيّن دليلًا آخراً للتخفيف فيضيف تعالى: «عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ».

وهذا تخفيف آخر كما قلنا في الحكم، ولذا يكرر قوله: «فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ».

والواضح أنّ المرض والأسفار والجهاد في سبيل اللَّه ذكرت بعنوان ثلاثة أمثلة للأعذار الموجهة ولا تعني الحصر، والمعنى هو أنّ اللَّه يعلم أنّكم سوف تلاقون كثيراً من المحن والمشاكل الحياتية، وبالتالي تؤدّي إلى قطع المنهج الذي امرتم به، فلذا خفف عليكم الحكم.

إنّ وجوب القراءة في صدر الإسلام لوجود الظروف

الخاصة لذلك، واعطي التخفيف بالنسبة للمقدار والحكم، وظهر الإستحباب بالنسبة للمقدار الميسر.

يستفاد من الروايات الإسلامية إنّ فضائل قراءة القرآن في حسن القراءة والتدبر والتفكر فيها. وفي تفسير مجمع البيان: روي عن الإمام الرضا عليه السلام عن أبيه عن جده صلى الله عليه و آله قال:

«ما تيسّر منه لكم فيه خشوع القلب وصفاء السر».

ثم يشير إلى أربعة أحكام اخرى، وبهذه الطريقة يكمل البناء الروحي للإنسان فيقول:

«وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَءَاتُوا الزَّكَوةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدّمُوا لِأَنفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 301

والمراد من «الصلاة» هنا الصلوات الخمس المفروضة، والمراد من «الزكاة» الزكاة المفروضة، ومن إقراض اللَّه تعالى هو إقراض الناس، وهذه من أعظم العبارات المتصورة في هذا الباب، فإنّ مالك الملك يستقرض بمن لا يملك لنفسه شيئاً، ليرغبهم بهذه الطريقة للإنفاق والإيثار واكتساب الفضائل منها وليتربى ويتكامل بهذه الطريقة.

وذكر «الإستغفار» في آخر هذه الأوامر يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى: وإيّاكم والغرور إذا ما أنجزتم هذه الطاعات، وبأن تتصوروا بأنّ لكم حقّاً على اللَّه، بل اعتبروا أنفسكم مقصرين على الدوام واعتذروا للَّه.

«نهاية تفسير سورة المزّمل»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 303

74. سورة المدثر

محتوى السورة: إنّ سورة العلق هي أوّل سورة نزلت في صدر البعثة، والمدّثر هي السورة الاولى التي نزلت بعد الدعوة العلنية.

فإنّ سياق السور المكية التي تشير إلى الدعوة وإلى المبدأ والمعاد ومقارعة الشرك وتهديد المخالفين وإنذارهم بالعذاب الإلهي واضح الوضوح في هذه السورة.

يدور البحث في هذه السورة حول سبعة محاور، وهي:

1- يأمر اللَّه تعالى رسوله صلى الله عليه و آله بإعلان الدعوة العلنية، ويأمر أن ينذر المشركين، والتمسك بالصبر والإستقامة في هذا الطريق

والإستعداد الكامل لخوض هذا الطريق.

2- تشير إلى المعاد وأوصاف أهل النار الذين واجهوا القرآن بالتكذيب والإعراض عنه.

3- الإشارة إلى بعض خصوصيات النار مع إنذار الكافرين.

4- التأكيد على المعاد بالأقسام المكررة.

5- إرتباط عاقبة الإنسان بعمله، ونفي كل أنواع التفكر غير المنطقي في هذا الإطار.

6- الإشارة إلى قسم من خصوصيات أهل النار وأهل الجنة وعواقبهما.

7- كيفية فرار الجهلة والمغرورين من الحق.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 304

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «من قرأ في الفريضة سورة المدّثر كان حقّاً على اللَّه أن يجعله مع محمّد صلى الله عليه و آله في درجته، ولايدركه في حياة الدنيا شقاء أبداً».

وبديهي أنّ هذه النتائج العظيمة لا تتحقق بمجرد قراءة الألفاظ فحسب، بل لابدّ من التمعن في معانيها وتطبيقها حرفياً.

يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَ ثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَ لَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَ لِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)

سبب النّزول

إنّ النفر الذين آذوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهم أبو جهل وأبو لهب وأبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وامية بن خلف والعاص بن وائل اجتمعوا وقالوا: إنّ وفود العرب يجتمعون في أيّام الحج ويسألوننا عن أمر محمّد، فكل واحد منّا يجيب بجواب آخر، فواحد يقول مجنون، وآخر يقول كاهن، وآخر يقول شاعر، فالعرب يستدلون باختلاف الأجوبة على كون هذه الأجوبة باطلة، فتعالوا نجتمع على تسمية محمّد باسم واحد، فقال واحد إنّه شاعر، فقال الوليد: سمعت كلام عبيد بن الأبرص وكلام امية بن أبي الصلت، وكلامه ما يشبه كلامهما،

وقال آخر كاهن، قال الوليد ومن الكاهن؟ قالوا الّذي يصدق تارة ويكذب اخرى، قال الوليد ما كذب محمّد قط، فقال آخر إنّه مجنون، قال الوليد ومن يكون المجنون؟

قالوا مخيف الناس، فقال الوليد ما أخيف بمحمّد أحد قط، ثم قام الوليد وانصرف إلى بيته، فقال الناس صبأ الوليد بن المغيرة، فدخل عليه أبو جهل، وقال ما لك يا أبا عبد الشمس؟

هذه قريش تجمع لك شيئاً، زعموا أنّك احتججت وصبأت، فقال الوليد: ما لي إليه حاجة ولكني فكرت في محمّد، فقلت إنّه ساحر، لأنّ الساحر هو الّذي يفرق بين الأب وابنه وبين الأخوين، وبين المرأة وزوجها، ثم إنّهم اجتمعوا على تلقيب محمّد صلى الله عليه و آله بهذا اللقب، ثم إنّهم خرجوا فصرخوا بمكة والناس مجتمعون، فقالوا: إنّ محمّداً لساحر، فوقعت الضجة في الناس أنّ محمّداً ساحر، فلما سمع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ذلك اشتد عليه، ورجع إلى بيته محزوناً فتدثر بثوبه،

مختصر الامثل، ج 5، ص: 305

فأنزل اللَّه تعالى «يَا أَيُّهَا الْمُدَّثّرُ* قُمْ فَأَنذِرْ» «1».

التّفسير

قم وانذر الناس: لا شك من أنّ المخاطب في هذه الآيات هو النبي صلى الله عليه و آله وإن لم يصرح باسمه، ولكن القرائن تشير إلى ذلك، فيقول أوّلًا: «يَا أَيُّهَا الْمُدَّثّرُ* قُمْ فَأَنذِرْ». فلقد ولى زمن النوم والإستراحة، وحان زمن النهوض والتبليغ.

ثم يعطي للنبي صلى الله عليه و آله خمسة أوامر مهمة بعد الدعوة إلى القيام والإنذار، تعتبر منهاجاً يحتذي به الآخرون، والأمر الأوّل هو في التوحيد، فيقول: «وَرَبَّكَ فَكَبّرْ».

ذكر كلمة (ربّ) وتقديمها على (كبّر) الذي هو يدل على الحصر، فليس المراد من جملة «فكبّر» هو (اللَّه أكبر) فقط، مع أنّ هذا القول هو من مصاديق التكبير كما ورد في

الروايات، بل المراد منه أنسب ربّك إلى الكبرياء والعظمة اعتقاداً وعملًا، قولًا فعلًا وهو تنزيهه تعالى من كل نقص وعيب، ووصفه بأوصاف الجمال، بل هو أكبر من أن يوصف، ولذا ورد في الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في معنى اللَّه أكبر: «اللَّه أكبر من أن يوصف».

ثم صدر الأمر الثاني بعد مسألة التوحيد، ويدور حول الطهارة من الدنس فيضيف:

«وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ». التعبير بالثوب قد يكون كناية عن عمل الإنسان، لأنّ عمل الإنسان بمنزلة لباسه، وظاهره مبين لباطنه.

ويمكن أن يكون المعنى هو اللباس الظاهر، لأنّ نظافة اللباس دليل على حسن التربية والثقافة، خصوصاً في عصر الجاهلية حيث كان الإجتناب من النجاسة قليلًا وإنّ ملابسهم وسخة غالباً، وكان الشائع عندهم تطويل أطراف الملابس بحيث كان يُسحل على الأرض، وما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في معنى أنّه: «ثيابك فقصر» «2»، ناظر إلى هذا المعنى.

والحقيقة أنّ الآية تشير إلى أنّ القادة الإلهيين يمكنهم إبلاغ الرسالة عند طهارة جوانبهم من الأدران وسلامة تقواهم، ولذا يستتبع أمر إبلاغ الرسالة والقيام بها أمر آخر، هو النقاء والطهارة.

ويبيّن تعالى الأمر الثالث بقوله: «وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ».

______________________________

(1) التفسير الكبير 30/ 189.

(2) تفسير مجمع البيان 10/ 175. مختصر الامثل، ج 5، ص: 306

والأصل أنّ معنى «الرجز» يطلق على الإضطراب والتزلزل، وفي القرآن الكريم غالباً ما استعمل لفظ «الرجز» بمعنى العذاب.

فإنّ للآية مفهوماً جامعاً، وهو الإنحراف والعمل السي ء، وتشمل الأعمال التي لا ترضي اللَّه عزّ وجل، والباعثة على سخط اللَّه في الدنيا والآخرة، ومن المؤكّد أنّ النبي صلى الله عليه و آله قد هجر واتقى ذلك حتى قبل البعثة، وقد جاء هذا الأمر هنا ليكون العنوان الأساس في مسير الدعوة إلى اللَّه، وليكون للناس اسوة حسنة.

ويقول تعالى

في الأمر الرابع: «وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ».

هنا المتعلق محذوف أيضاً، ويدل على سعة المفهوم وكلّيته، ويشمل المنّة على اللَّه والخلائق، أي فلا تمنن على اللَّه بسعيك واجتهادك.

وبعبارة اخرى: لا تمنن على اللَّه بقيامك بالإنذار ودعوتك إلى التوحيد وتعظيمك للَّه وتطهيرك ثيابك وهجرك الرجز، ولا تستعظم كل ذلك، بل أعلم أنّه لو قدمت خدمة للناس سواءاً في الجوانب المعنوية كالإرشاد والهداية، أم في الجوانب المادية كالإنفاق والعطاء فلا ينبغي أن تقدمها مقابل منّة، أو توقع عوض أكبر ممّا أعطيت، لأنّ المنّة تحبط الأعمال الصالحة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالْأَذَى «1».

ويشير في الآية الاخرى إلى الأمر الأخير في هذا المجال فيقول: «وَلِرَبّكَ فَاصْبِرْ».

أي: اصبر في طريق أداء الرسالة، واصبر على أذى المشركين الجهلاء، واستقم في طريق عبودية اللَّه وطاعته، واصبر في جهاد النفس وميدان الحرب مع الأعداء.

والمعروف أنّ الصبر هو الثروة الحقيقية لطريق الإبلاغ والهداية.

ثم إنّ الآيات الشريفة وفي تعقيب لأمر ورد في الآيات السابقة في إطار القيام وإنذار المشركين، تؤكّد مرّة اخرى على الإنذار والتحذير، فيقول تعالى: «فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ* عَلَى الكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ».

ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَ جَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُوداً (12) وَ بَنِينَ شُهُوداً (13) وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17)

______________________________

(1) سورة البقرة/ 264.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 307

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت الآيات في الوليد بن المغيرة المخزومي، وذلك أنّ قريشاً اجتمعت في دارالندوة، فقال لهم الوليد: إنّكم ذوو أحساب، وذوو أحلام، وإنّ العرب يأتونكم فينطلون من عندكم، على أمر مختلف. فاجمعوا أمركم على شي ء واحد ما تقولون في هذا الرجل؟

قالوا: نقول إنّه شاعر. فعبس عندها وقال: قد سمعنا الشعر فما يشبه قوله الشعر.

فقالوا: نقول إنّه كاهن. قال: إذا تأتونه فلا تجدونه يحدث بما تحدث به الكهنة. قالوا: نقول إنّه لمجنون. فقال: إذا تأتونه فلا تجدونه مجنوناً. قالوا: نقول إنّه ساحر. قال: وما الساحر؟ فقالوا:

بشر يحببون بين المتباغضين ويبغضون بين المتحابين. قال: فهو ساحر، فخرجوا. فكان لا يلقى أحد منهم النبي صلى الله عليه و آله إلّاقال: يا ساحر، يا ساحر. واشتدّ عليه ذلك فأنزل اللَّه تعالى «يَا أَيُّهَا الْمُدَّثّرُ» إلى قوله «إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ».

التّفسير

الوليد بن المغيرة ... الثري المغرور: تواصل هذه الآيات انذار الكفار والمشركين كما في الآيات السابقة مع فارق، وهو أنّ الآيات السابقة كانت تنذر الكافرين بشكل عام، وهذه تنذر أفراداً معينين بتعابير قوية وبليغة بأشدّ الإنذارات، فيقول تعالى: «ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا». والآيات الآتية نزلت في الوليد بن المغيرة كما قلنا.

ثم يضيف تعالى: «وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا».

وقيل: إنّ أمواله بلغت حدّاً من الكثرة بحيث ملك الإبل والخيول والأراضي الشاسعة ما بين مكة والطائف، وقيل إنّه يملك ضياع ومزارع دائمة الحصاد، وله مائة ألف دينار ذهب، وكل هذه المعاني تجتمع في كلمة «الممدود».

ثم أشار تعالى إلى قوّته في قوله: «وَبَنِينَ شُهُودًا».

إذ كانوا يعينونه على حياته، وحضورهم انس وراحة له، إذ كان له عشرة بنين، كما في الروايات.

ثم يستطرد بذكر النعم التي وهبها له. يقول تعالى: «وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا».

ولم يهبه ما ينفع من المال والأولاد فحسب، بل أغدق عليه ما يريد من جاه وقوّة.

«التمهيد»: من «المهد» وهو ما يستخدم لنوم الطفل، ويطلق على ما يتهيأ من وسائل الراحة والمقام وانتظام الامور.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 308

ولكنّه كفر بما أنعم اللَّه عليه وهو بذلك يريد

المزيد: «ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ». وليس هذا منحصراً بالوليد، بل إنّ عبيد الدنيا على هذه الشاكلة أيضاً، فلن يروى عطشهم مطلقاً، ولو أعطوا الأقاليم السبعة لما اكتفوا بذلك.

والآية الاخرى تردع الوليد بشدّة، يقول تعالى: «كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِأَيَاتِنَا عَنِيدًا».

ومع أنّه كان يعلم أنّ هذا القرآن ليس من كلام الجن أو الإنس، بل متجذر في الفطرة، وله جاذبية خاصة وأغصان مثمرة، فكان يعاند ويعتبر ذلك سحراً ومظهره ساحراً.

«العنيد»: من «العناد» وقيل هو المخالفة والعناد مع المعرفة، أي أنّه يعلم بأحقّية الشي ء ثم يخالفه عناداً، والوليد مصداق واضح لهذا المعنى.

وأشار في آخر آية إلى مصيره المؤلم، فيقول تعالى: «سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا».

«سارهقه»: من «الإرهاق» وهو غشيان الشي ء بالعنف، وتعني أيضاً فرض العقوبات الصعبة، جاء بمعنى الإبتلاء بأنواع العذاب، والصعود، إشارة إلى ما سيناله من سوء العذاب، ويستعمل في العمل الشاق.

ويحتمل أن يراد به العذاب الدنيوي للوليد بن المغيرة. قال مقاتل: ما زال الوليد بعد نزول الآية في نقص من ماله وولد حتى هلك «1».

إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) «فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ»: في هذه الآيات توضيحات كثيرة عمّن أعطاه اللَّه المال والبنين وخالف بذلك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله. أي الوليد بن المغيرة. يقول تعالى: «إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ».

«قدّر»: من التقدير، وهو التهيؤ لنظم أمر في الذهن والتصميم على تطبيقه.

ثم يضيف في مذمته: «فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ».

بعدئذ يؤكّد ذلك فيضيف: «ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ». وهذا إشارة لما قيل في سبب النّزول حيث كان يرى توحيد

الأقوال فيما يقذف به الرسول صلى الله عليه و آله.

فإنّ تكرار المعنى في الآيتين دليل على دهاء الوليد في تفكره الشيطاني، ولذا كانت شدّة تفكره سبباً للتعجب.

______________________________

(1) تفسير المراغي 29/ 131.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 309

بعدئذ يضيف اللَّه تعالى: «ثُمَّ نَظَرَ». أي نظر بعد التفكر والتقدير نظرة من يريد أن يقضي في أمر مهمّ ليطمئن من استحكامه وانسجامه: «ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ* ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ* فَقَالَ إِنْ هذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ* إِنْ هذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ».

بهذه الأقوال يظهر عداءه للقرآن المجيد، وذلك بعد تفكره الشيطاني، وبقوله هذا صار يمدح القرآن من حيث لا يدري، إذ أشار إلى جاذبية القرآن الخارقة وتسخيره للقلوب.

على كل حال هو إقرار ضمني بإعجاز القرآن. وليس للقرآن أي علاقة وتشبيه بأعمال السحرة، فهو كلام رصين عميق المعاني وجذاب لا نظير له كما يقول الوليد، فإنّه ليس من كلام البشر، وإن كان كذلك لكانوا قد أتوا بمثله، وهذا ما دعا إليه القرآن كراراً.

سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَ مَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَ لَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) المصير المشؤوم: في هذه الآيات بيان للعقوبات المؤلمة لمن أنكر القرآن والرسالة، وكذب النبي صلى الله عليه و آله وهو ما أشارت إليه الآيات السابقة فيقول اللَّه تعالى: «سَأُصْلِيهِ سَقَرَ».

«سقر»: في الأصل من «سقر» على وزن فقر، بمعنى التغير والذوبان من أثر حرارة الشمس، هو من أحد أسماء جهنم، كثير ما ذكر في القرآن.

ثم يبيّن عظمة وشدّة عذاب النار فيقول: «وَمَا أَدْرَيكَ مَا سَقَرُ». أي إنّ العذاب يكون شديداً إلى حدّ يخرج عن دائرة التصور، ولا يخطر على بال أحدٍ، كما هو الحال في عدم إدراك عظمة النعم الإلهية في

الجنان.

«لَا تَبْقَى وَلَا تَذَرُ». قد تكون هذه الآية إشارة إلى أنّ نار جهنم بخلاف نار الدنيا التي ربّما تركت بعض ما ألقي فيها ولم تحرقه، وإذا نالت إنساناً مثلًا نالت جسمه وصفاته الجسمية وتبقى روحه وصفاته الروحية في أمان منها، وأمّا «سقر» فلا تدع أحداً ممن ألقي فيها إلّا نالته واحتوئه بجميع وجوده، فهي نار شاملة تستوعب جميع من القي فيها.

ثم ينتقل إلى بيان وصف آخر للنار المحرقة فيضيف: «لَوَّاحَةٌ لّلْبَشَرِ».

إنّها تجعل الوجه مظلماً أسود أشد سواداً من الليل.

«بشر»: جمع بشرة، وتعني الجلد الظاهر للجسد.

«لوّاحة»: من مادة «لوح» وتعني أحياناً الظاهر، وأحياناً بمعنى التغيير، ويكون المعنى

مختصر الامثل، ج 5، ص: 310

بمقتضى التّفسير الأوّل: (أنّ جهنم ظاهرة للعيان). كما جاء في الآية (36) من سورة النازعات: «وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى . وبمقتضى التفسير الثاني يكون المعنى: أنّها تغير لون الجلود.

وفي آخر آية من آيات مورد البحث يقول تعالى: «عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ».

إنّهم ليسوا مأمورين بالرحمة والشفقة، بل إنّهم مأمورين بالعذاب والغلظة، وأمّا الآية الاخرى التي تليها فإنّها تشير إلى أنّ هذا العدد هم ملائكة العذاب.

ومن هنا يتّضح ضعف وعجز أفكار اناس من قبيل أبي جهل. في تفسير مجمع البيان:

قالوا: ولما نزلت هذه الآية قال أبوجهل لقريش: ثكلتكم امهاتكم أتسمعون ابن أبي كبشة يخبركم أنّ خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدّهم الشجعان أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم؟ فقال أبو الأسد الجمحي: أنا أكفيكم سبعة عشر: عشرة على ظهري وسبعة على بطني فاكفوني أنتم اثنين.

وَ مَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَ مَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَ يَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَ لَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ

وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْكَافِرُونَ مَا ذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهذَا مَثَلًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَ مَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَ مَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) لِمَ هذا العدد من أصحاب النار: ذكر اللَّه سبحانه وتعالى كما قرأنا في الآيات السابقة عدد خزنة جهنم ومأموريها وهم تسعة عشر نفراً (أو مجموعة)، وكذا قرأنا أنّ ذكر هذا العدد صار سبباً للحديث بين أوساط المشركين والكفار، واتّخذ بعضهم ذلك سخرية، وظنّ القليل منهم أنّ الغلبة على اولئك ليس أمراً صعباً، الآية أعلاه والتي هي أطول آيات هذه السورة تجيب عليهم وتوضح حقائق كثيرة في هذا الصدد. فيقول تعالى أوّلًا: «وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلِكَةً» «1». ملائكة أقوياء مقتدرون وكما يعبّر القرآن غلاظ، شداد، قساة، في مقابل المذنبين بجمعهم الغفير وهم ضعفاء عاجزون.

______________________________

(1) أصحاب النار: ذكرت هذه العبارة في كثير من آيات القرآن وكلّها تعني الجهنميين، إلّافي هذا الموضع فإنّهابمعنى خزنة جهنم، وذكر هذه العبارة يشير إلى أنّ كلمة «سقر» في الآيات السابقة تعني جهنم بكاملها وليس قسماً خاصّاً منها.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 311

ثم يضيف تعالى: «وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا».

وهذا الإختبار من وجهين:

الأوّل: لأنّهم كانوا يستهزئون بالعدد تسعة عشر، ويتساءلون عن سبب اختيار هذا العدد، في حين لو وضع عدد آخر لكانوا قد سألوا السؤال نفسه.

والوجه الثاني: أنّهم كانوا يستقلون هذا العدد ويسخرون من ذلك بقولهم: لكل واحد منهم عشرة منّا، لتكسر شوكتهم.

في حين أنّ ملائكة اللَّه وصفوا في القرآن بأنّ نفراً منهم يؤمرون بإهلاك قوم لوط عليه السلام ويقلبون عليهم مدينتهم.

ثم يضيف تعالى أيضاً: «لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ».

وسكوت هؤلاء اليهود

وعدم اعتراضهم على هذا الجواب يدلّ على أنّه موافق لما هو مذكور في كتبهم، وهذا مدعاة لإزدياد يقينهم بنبوّة النبي صلى الله عليه و آله، وصار قبولهم هذا سبباً في تمسك المؤمنين بإيمانهم وعقائدهم. لذا تضيف الآية في الفقرة الاخرى: «وَيَزْدَادَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِيمَانًا».

ثم تعود مباشرة بعد ذكر هذه الآية إلى التأكيد على تلك الأهداف الثلاثة، إذ يعتمد مجدداً على إيمان أهل الكتاب، ثم المؤمنين، ثم على اختبار الكفار والمشركين، فيقول: «وَلَا يَرْتَابُ الَّذِينَ أُتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهذَا مَثَلًا».

عبارة: «الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ» اطلقت على جميع الكفار والمعاندين والمحاربين لآيات الحق.

ثم يضيف حول كيفية استفادة المؤمنين والكفار والذين في قلوبهم مرض من كلام اللَّه تعالى؛ فيقول تعالى: «كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ».

إنّ الجمل السابقة تشير بوضوح إلى أنّ المشيئة والإرادة الإلهية لهداية البعض واضلال البعض الأخر ليس اعتباطاً، فإنّ المعاندين والذين في قلوبهم مرض لا يستحقون إلّا الضلال، والمؤمنون والمسلّمون لأمر اللَّه هم المستحقون للهدى

ويقول في نهاية الآية: «وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِىَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ».

فالحديث عن التسعة عشر من خزنة النار، ليس لتحديد ملائكة اللَّه تعالى، بل إنّهم

مختصر الامثل، ج 5، ص: 312

كثيرون جدّاً أنّ الروايات تصفهم أنّهم يملؤون السماوات والأرض. أوّل خطبة في نهج البلاغة للإمام علي عليه السلام حول هذا الموضوع حيث يقول: «ثم فتق ما بين السماوات العلا، فملأهنّ أطواراً من ملائكته، منهم سجود لا يركعون، وركوع لا ينتصبون، وصافون لا يتزايلون، ومسبحون لا يسأمون، لا يغشاهم نوم العيون، ولا سهو العقول، ولا فترة الأبدان، ولا غفلة النسيان، ومنهم أمناء على وحيه، وألسنة إلى رسله،

ومختلفون بقضائه وأمره، ومنهم الحفظة لعباده والسدنة لأبواب جنانه، ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم، والمارقة من السماء العليا أعناقهم، والخارجة من الأقطار أركانهم، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم، ناكسة دونه أبصارهم، متلفعون تحته بأجنحتهم، مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب العزة، وأستار القدرة، لا يتوهمون ربّهم بالتصوير ولا يجرون عليه صفات المصنوعين، ولا يحدّونه بالأماكن، ولا يشيرون إليه بالنظائر».

كَلَّا وَ الْقَمَرِ (32) وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَ الصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) استمراراً للبحث مع المنكرين لنبوّة الرسول صلى الله عليه و آله واليوم الآخر تؤكّد الآيات التالية في أقسام عديدة على مسألة القيامة والجحيم وعذابها، فيقول تعالى: «كَلَّا وَالْقَمَرِ».

وأقسم بالقمر لأنّه إحدى الآيات الإلهية الكبرى، لما فيه من الخلقة والدوران المعظم والنور والجمال والتغييرات التدريجية الحاصلة فيه لتعيين الأيام باعتباره تقويماً حيّاً كذلك.

ثم يضيف: «وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ». «وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ» «1».

والليل وإن كان باعثاً على الهدوء والظلام وعنده سرّ عشاق الليل، ولكن الليل المظلم يكون جميلًا عندما يدبر ويتجه العالم نحو الصبح المضي ء وآخر السحر، وطلوع الصبح المنهي للّيل المظلم أصفى وأجمل من كل شي ء حيث يثير في الإنسان النشاط ويجعله غارقاً في النور والصفاء.

هذه الأقسام الثلاثة تتناسب ضمنياً مع نور الهداية (القرآن) واستدبار الظلمات

______________________________

(1) «أسفر»: من مادة «سفر» على وزن (قفر) ويعني انجلاء الملابس وانكشاف الحجاب، ولذا يقال للنساء المتبرجات (سافرات) وهذا التعبير يشمل تشبيهاً جميلًا لطلوع الشمس.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 313

الصباح (التوحيد)، ثم ينتهي إلى تبيان ما أقسم من أجله فيقول تعالى: «إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ».

ثم يضيف تعالى: «نَذِيرًا لّلْبَشَرِ». لينذر الجميع ويحذرهم من العذاب الموحش الذي

ينتظر الكفار والمذنبين وأعداء الحق.

وفي النهاية يؤكّد مضيفاً أنّ هذا العذاب لا يخص جماعة دون جماعة، بل: «لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ». فهنيئاً لمن يتقدم، وتعساً وترحاً لمن يتأخر.

كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) لِم صرتم من أصحاب الجحيم: إكمالًا للبحث الذي ورد حول النار وأهلها في الآيات السابقة، يضيف تعالى في هذه الآيات: «كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ».

«رهينة»: من مادة «رهن» وهي وثيقة تعطى عادة مقابل القرض، وكأن نفس الإنسان محبوسة حتى تؤدّي وظائفها وتكاليفها، فإن أدت ما عليها فكت وأطلقت، وإلّا فهي باقية رهينة ومحبوسة دائماً. لذا يضيف مباشرة: «إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ».

إنّهم حطموا أغلال وسلاسل الحبس بشعاع الإيمان والعمل الصالح ويدخلون الجنة بدون حساب.

وأصحاب اليمين هم الذين يحملون كتبهم بيمينهم، فهم ذوو إيمان وعمل صالح، وإذا كانت لهم ذنوب صغيرة فإنّها تمحى بالحسنات وذلك بحكم: «إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ» «1».

فحينئذ تغطّي حسناتهم سيئاتهم أو يدخلون الجنة بلا حساب، وإذا وقفوا للحساب فسيخفف عليهم ذلك ويسهل، كما جاء في الآية (7 و 8) من سورة الإنشقاق: «فَأَمَّا مَنْ

______________________________

(1) سورة هود/ 114.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 314

أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا».

في تفسير القرطبي: قال أبو جعفر الباقر عليه السلام: «نحن وشيعتنا أصحاب اليمين، وكل من أبغضنا أهل البيت فهم المرتهنون». ثم يضيف مبيّناً جانباً من أصحاب اليمين والجماعة المقابلة لهم: «فِى جَنَّاتٍ

يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ».

يستفاد من هذه الآيات أنّ الرابطة غير منقطعة بين أهل الجنان وأهل النار، فيمكنهم مشاهدة أحوال أهل النار والتحدث معهم، ولكن ماذا سيجيب المجرومون عن سؤال أصحاب اليمين؟ إنّهم يعترفون بأربع خطايا كبيرة كانوا قد ارتكبوها:

الاولى: «قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلّينَ». لو كنّا مصلّين لذكّرتنا الصلاة باللَّه تعالى، ونهتنا عن الفحشاء والمنكر ودعتنا إلى صراط اللَّه المستقيم.

والثانية: «وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ». وهذه الجملة وإن كانت تعطي معنى إطعام المحتاجين، ولكن الظاهر أنّه يراد بها المساعدة والإعانة الضرورية للمحتاجين عموماً بما ترتفع بها حوائجهم كالمأكل والملبس والمسكن وغير ذلك.

وصرّح المفسرون أنّ المراد بها الزكاة المفروضة، لأنّ ترك الإنفاق المستحب لا يكون سبباً في دخول النار.

والثالثة: «وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ». «نخوض»: من مادة «خوض» على وزن (حوض)، وتعني في الأصل الغور والحركة في الماء، ويطلق على الدخول والتلوث بالامور، والقرآن غالباً ما يستعمل هذه اللفظة في الإشتغال بالباطل والغور فيه.

(الخوض في الباطل) له معان واسعة فهو يشمل الدخول في المجالس التي تتعرض فيها آيات اللَّه للإستهزاء أو ما تروج فيها البدع، أو المزاح الوقح، أو التحدث عن المحارم المرتكبة بعنوان الإفتخار والتلذذ بذكرها، وكذلك المشاركة في مجالس الغيبة والإتهام واللهو واللعب وأمثال ذلك، ولكن المعنى الذي انصرفت إليه الآية هو الخوض في مجالس الإستهزاء بالدين والمقدسات وتضعيفها وترويج الكفر والشرك.

وأخيراً يضيف: «وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ الدّينِ حَتَّى أَتنَا الْيَقِينُ».

من الواضح أنّ إنكار المعاد ويوم الحساب والجزاء يزلزل جميع القيم الإلهية والأخلاقية، ويشجع الإنسان على ارتكاب المحارم. على كل حال فإنّ ما يستفاد من هذه الآيات أنّ

مختصر الامثل، ج 5، ص: 315

الكفار هم مكلّفون بفروع الدين، كما هم مكلّفون بالاصول، وكذلك تشير إلى

أنّ الأركان الأربعة، أي الصلاة والزكاة وترك مجالس أهل الباطل، والإيمان بالقيامة لها الأثر البالغ في تربية وهداية الإنسان، وبهذا لا يمكن أن يكون الجحيم مكاناً للمصلين الواقعيين، والمؤتين الزكاة، والتاركين الباطل والمؤمنين بالقيامة.

وفي الآية الأخيرة محل البحث إشارة إلى العاقبة السيئة لهذه الجماعة فيقول تعالى: «فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ». فلا تنفعهم شفاعة الأنبياء ورسل اللَّه والائمة، ولا الملائكة والصديقين والشهداء والصالحين، ولأنّها تحتاج إلى عوامل مساعدة وهؤلاء أبادوا كل هذه العوامل، فالشفاعة كالماء الزلال الذي تسقى به النبتة الفتية، وبديهي إذا ماتت النبتة الفتية، لا يمكن للماء الزلال أن يحييها.

وهذه الآية تؤكّد مرّةً اخرى مسألة الشفاعة وتنوع وتعدد الشفعاء عند اللَّه، وهي جواب قاطع لمن ينكر الشفاعة، وكذلك تؤكّد على أنّ للشفاعة شروطاً وأنّها لا تعني اعطاء الضوء الأخضر لإرتكاب الذنوب، بل هي عامل مساعد لتربية الإنسان وايصاله على الأقل إلى مرحلة تكون له القابلية على التشفع، بحيث لا تنقطع وشائج العلاقة بينه وبين اللَّه تعالى والأولياء.

فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَ مَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) يفرّون من الحق كما تفرّ الحمر من الأسد: تتابع هذه الآيات ما ورد في الآيات السابقة من البحث حول مصير المجرمين وأهل النار، وتعكس أوضح تصوير في خوف هذه الجماعة المعاندة ورعبها من سماع حديث الحق والحقيقة. فيقول اللَّه تعالى أوّلًا: «فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ». «كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ* فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ».

«حمر»: جمع (حمار) والمراد هنا

الحمار الوحشي.

«قسورة»: من مادة «قسر» أي القهر والغلبة، وهي أحد أسماء الأسد.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 316

فإنّ هذه الآية تعبير بالغ عن خوف المشركين وفرارهم من الآيات القرآنية المربية للروح، فشبههم بالحمار الوحشي لأنّهم عديمو العقل والشعور، وكذلك لتوحشّهم من كل شي ء، في حين أنّه ليس مقابلهم سوى التذكرة.

«بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِىٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً». وذلك لتكبّرهم وغرورهم الفارغ بحيث يتوقعون من اللَّه تعالى أن ينزل على كل واحد منهم كتاباً.

وهذا نظير ما جاء في الآية (93) من سورة الإسراء: «وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ».

ولذا يضيف في الآية الاخرى: «كَلَّا». ليس كما يقولون ويزعمون، فإنّ طلب نزول مثل هذا الكتاب وغيره هي من الحجج الواهية، والحقيقة: «بَل لَّايَخَافُونَ الْأَخِرَةَ».

والحق يقال إنّ الإيمان بعالم البعث والجزاء وعذاب القيامة يهب للإنسان شخصية جديدة يمكنه أن يغير إنساناً متكبراً ومغروراً وظالماً إلى إنسان مؤمن متواضع ومتقٍ عادل.

ثم يؤكّد القرآن على أنّ ما يفكرون به فيما يخصّ القرآن هو تفكّر خاطى ء: «كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ* فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ».

وفي الوقت نفسه لا يمكن ذلك إلّابتوفيق من اللَّه وبمشيئته تعالى: «وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ». يعني أنّ الإنسان لا يمكنه الحصول على طريق الهداية إلّابالتوسل باللَّه تعالى وطلب الموفقية منه.

وفي النهاية يقول: «هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ». فهو أهل لأن يخافوا من عقابه وأن يتقوا في اتّخاذهم شريكاً له تعالى شأنه، وأن يأملوا مغفرته، وفي الحقيقة، أنّ هذه الآية إشارة إلى الخوف والرجاء والعذاب والمغفرة الإلهية، وهي تعليل لما جاء في الآية السابقة.

وهناك احتمالًا آخر، وهو أن تؤخذ التقوى بمعناها الفاعلي، أي أنّ اللَّه أهل للتقوى من كل أنواع الظلم والقبح ومن كل ما يخالف الحكمة، وما عند

العباد من التقوى هو قبس ضعيف من ما عند اللَّه.

إنّ الآية قد بدأت بالإنذار والتكليف، وانتهت بالدعوة إلى التقوى والوعد بالمغفرة.

«نهاية تفسير سوره المدّثّر»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 317

75. سورة القيامة

محتوى السورة: كما هو واضح من اسم السورة فإنّ مباحثها تدور حول مسائل ترتبط بالمعاد ويوم القيامة إلّابعض الآيات التي تتحدث حول القرآن والمكذبين، وأمّا الآيات المرتبطة بيوم القيامة فإنّها تجتمع في أربعة محاور:

1- المسائل المرتبطة بأشراط الساعة.

2- المسائل المتعلقة بأحوال الصالحين والطالحين في ذلك اليوم.

3- المسائل المتعلقة باللحظات العسيرة للموت والإنتقال إلى العالم الآخر.

4- الأبحاث المتعلقة بالهدف من خلق الإنسان ورابطة ذلك بمسألة المعاد.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ سورة القيامة شهدت أنا وجبريل له يوم القيامة أنّه كان مؤمناً بيوم القيامة، وجاء ووجهه مسفر على وجوه الخلائق يوم القيامة».

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من أدمن قراءة لا اقسم وكان يعمل بها، بعثها اللَّه يوم القيامة معه في قبره، في أحسن صورة تبشر وتضحك في وجهه حتى يجوز الصراط والميزان».

والجدير بالملاحظة أنّ ما كنّا نستوحيه من الروايات الواردة في فضائل تلاوة السور القرآنية قد صرّح بها الإمام هنا في هذه الرواية حيث يقول: «من أدمن قراءة لا اقسم وكان يعمل بها»، ولذا فإنّ كل ذلك هو مقدمة لتطبيق المضمون.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 318

لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَ لَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَ يَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) قسماً بيوم القيامة والنفس اللوامة: تبدأ هذه السورة بقَسمين غزيرين بالمعاني، فيقول تعالى: «لَاأُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيمَةِ*

وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ».

وفي العلاقة والرابطة الموجودة بين القسمين؛ الحقيقة أنّ أحد دلائل وجود «المعاد» هو وجود «محكمة الوجدان» الموجودة في أعماق الإنسان، والتي تنشط وتسر عند الإقدام لإنجاز عمل صالح، وبهذه الطريقة تثيب صاحبها وتكافئه، وعند إرتكاب الأعمال السيئة والرذيلة فإنّها سوف تقوم بتقريع صاحبها وتأنّبه وتعذبه إلى حدّ أنّه قد يقدم على الإنتحار للتخلص ممّا يمرّ فيه من عذاب الضمير.

عندما يكون (العالم الصغير) أي وجود الإنسان محكمة في قلبه، فكيف يمكن للعالم الكبير أن لا يملك محكمة عدل عظمى

فمن هنا نفهم وجود البعث والقيامة بواسطة وجود الضمير الأخلاقي، ومن هنا تتّضح الرابطة الظريفة بين القَسَمين. وبعبارة اخرى: فإنّ القسم الثاني هو دليل على القسم الأوّل.

ثم يستفهم تعالى في الآية الاخرى للتوبيخ فيضيف: «أَيَحْسَبُ الْإِنسنُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ* بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ».

ويمكن أن يكون ذلك إشارة لطيفة إلى الخطوط الموجودة في أطراف الأصابع والتي نادراً ما تتساوى هذه الخطوط عند شخصين.

وفي الآية الاخرى إشارة إلى أحد العلل الحقيقة لإنكار المعاد فيقول: «بَلْ يُرِيدُ الْإِنسنُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ». إنّهم يريدون أن يكذبوا بالبعث وينكروا المعاد، ليتسنى لهم الظلم وارتكاب المحارم والتنصل عن المسؤولية أمام الخلق.

ثم يضيف بعد ذلك: «يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيمَةِ».

أجل، إنّه يستفهم مستنكراً عن وقوع يوم القيامة ويهرب ممّا كُلّف به لكي يفسح لنفسه طريق الفجور أمامه.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 319

بحث

محكمة الضمير أو القيامة الصغرى نستفيد من آيات القرآن المجيد أنّ للنفس الإنسانية ثلاث مراحل:

1- النفس الأمارة: وهي النفس العاصية التي تدعو الإنسان إلى الرذائل والقبائح باستمرار، وتزيّن له الشهوات.

2- النفس اللوامة: وهي ما اشير إليها في الآيات التي ورد البحث فيها، وهي نفس يقظة وواعية نسبياً، فهي تزل أحياناً

لعدم حصولها على حصانة كافية مقابل الذنوب، وتقع في شبك الآثام إلّاأنّها تستيقظ بعد فترة لتتوب وترجع إلى مسير السعادة.

وهذا هو ما يذكرونه تحت عنوان (الضمير الأخلاقي) ويكون هذا قوياً جدّاً عند بعض الأفراد، وضعيفاً وعاجزاً عند آخرين، ولكن النفس اللوامة لا تموت بكثرة الذنوب عند أي إنسان.

3- النفس المطمئنة: وهي النفس المتكاملة المنتهية إلى مرحلة الإطمئنان والطاعة والمنتهية إلى مقام التقوى والإحساس بالمسؤولية وليس من السهل انحرافها.

إنّ النفس اللوامة هي كالقيامة الصغرى في داخل الروح والتي تقوم بمحاسبة الإنسان، ولذا تحس أحياناً بالهدوء والإستقرار بعد القيام بالأعمال الصالحة وتمتلي ء بالسرور والفرح والنشاط.

هذه المحكمة الداخلية العجيبة لها شبه عجيب بمحكمة القيامة.

أ) إنّ القاضي والشاهد والمنفذ للأحكام واحد، كما في يوم القيامة: «عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ» «1».

ب) إنّ هذه المحكمة ترفض كل توصية ورشوة وواسطة، كما هو الحال في محكمة يوم القيامة، فيقول تعالى: «وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّاتَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ» «2».

ج) إنّ محكمة الضمير تحقق وتدقق في الملفات المهمّة بأقصر مدّة وتصدر الحكم بأسرع وقت، وهذا هو ما نقرأهُ أيضاً في محكمة البعث: «وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَامُعَقّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ» «3».

______________________________

(1) سورة الزمر/ 46.

(2) سورة البقرة/ 48.

(3) سورة الرعد/ 41. مختصر الامثل، ج 5، ص: 320

د) مجازاتها وعقوباتها ليست كعقوبات المحاكم الرسمية العالمية، فإنّ شرر النيران تتقد في الوهلة الاولى في أعماق القلب والروح، ثم تسري إلى الخارج، فتعذب روح الإنسان أوّلًا، ثم تظهر آثارها في الجسم وملامح الوجه وطبيعة النوم والأكل، فيعبّر تعالى عن ذلك في قوله:

«نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ* الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ» «1».

ه) عدم إحتياج هذه المحكمة إلى شهود، بل

إنّ المعلومات التي يعطيها الإنسان المتهم بنفسه والذي يكون شاهداً على نفسه هي التي تقبل منه، نافعة كانت له أم ضارة؛ كما تشهد ذرات وجود الإنسان حتى يداه وجلده على أعماله في محكمة البعث، فيقول تعالى: «حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم» «2».

وهذا التشبيه العجيب بين المحكمتين دليل آخر على فطرية الإعتقاد بالمعاد، لأنّه كيف يمكن أن يكون في الإنسان الذي يعتبر قطرة صغيرة في محيط الوجود العظيم هكذا حساب ومحاكم مليئة بالرموز والأسرار في حين لا يوجد حساب ومحاكم في هذا العالم الكبير؟ فهذا ما لا يصدق.

فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَ خَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَ أَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَ لَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) أنهت الآيات السابقة بسؤال كان قد وجهه المنكرون للبعث يوم القيامة، وهو يوم القيامة متى يأتي ذلك اليوم؟ وهذه الآيات هي التي تجيب عن هذه السؤال.

فتشير أوّلًا إلى الحوادث السابقة للبعث، أي إلى التحول العظيم وإنعدام القوانين في الأنظمة الكونية فيقول تعالى: «فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ». بمعنى اضطراب العين ودورانها من شدّة الخوف والرعب: «وَخَسَفَ الْقَمَرُ* وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ».

وفي ما يراد بالجمع بين الشمس والقمر، فيحتمل أن ينجذب القمر تدريجياً بواسطة الشمس باتجاهها ثم اجتماعهما معاً بعد ذلك، وينتهي بالتالي ضياؤهما.

______________________________

(1) سورة الهمزة/ 6 و 7.

(2) سورة فصّلت/ 20.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 321

فيقول تعالى في سورة التكوير: «إِذَا الشَّمْسُ كُوّرَتْ». أي إذا أظلمت الشمس، ونعلم أنّ ضوء القمر من الشمس، وعندما يزول نور الشمس يزول بذلك نور القمر،

وبالتالي تدخل الكرة الأرضية في ظلام دامس وعتمة مرعبة.

وبهذه الطريقة والتحول العظيم ينتهي العالم، ثم يبدأ بعث البشرية بتحول عظيم آخر (بنفخة الصور الثانية والتي تعتبر نفخة الحياة)، فيقول الإنسان في ذلك اليوم: «يَقُولُ الْإِنسنُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ».

أجل، الكفرة والمذنبون الذين كذبوا بيوم الدين يبحثون عن ملجأ في ذلك اليوم لشدّة خجلهم، ويطلبون سبل الفرار لثقل خطاياهم وخوفهم من العذاب.

ولكن سرعان ما يقال لهم: «كَلَّا لَاوَزَرَ» «1».

فلا ملجأ إلّاإلى اللَّه تعالى: «إِلَى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ».

عندئذٍ يضيف في إدامة هذا الحديث: «يُنَبَّؤُا الْإِنسنُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ».

والمراد من هاتين العبارتين هو ما قدم من الأعمال في حياته، أو الآثار الباقية منه بعد موته، ممّا ترك بين الناس من السنن الصالحة والسيئة والتي يعملون ويسيرون بها ووصول حسناتها وسيئاتها إليه، أو الكتب والمؤلفات والأبنية القائمة على الخير والشرّ، والأولاد الصالحين والطالحين التي تصل آثارهم إليه.

في تفسير علي بن إبراهيم: في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر الباقر عليه السلام في قوله «يُنَبَّؤُا الْإِنسنُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ» قال: «بما قدم من خير وشرّ وما أخر مما سن من سنّة ليستنّ بها من بعده فإن كان شرّاً كان عليه مثل وزرهم، ولا ينقص من وزرهم شي ء، وإن كان خيراً كان له مثل اجورهم، ولا ينقص من اجورهم شي ء».

ثم يضيف في الآية الاخرى ويقول: إنّ اللَّه وملائكته يطلعون العباد على أعمالهم، وإن كان لا يحتاج إلى ذلك، لأنّ نفسه وأعضاءه هم الشهود عليه في ذلك اليوم، فيقول تعالى: «بَلِ الْإِنسنُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيَرةٌ* وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ».

سياق هذه الآيات هو نفس سياق الآيات التي تشير إلى شهادة الأعضاء على أعمال الإنسان، كالآية (20) من سورة فصّلت، حيث يقول اللَّه تعالى:

«شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

______________________________

(1) «وزر»: تعني في الأصل الملاجى ء الجبلية وأمثالها، وتعني في هذه الآية كل نوع من الملجأ والمخبأ.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 322

وعلى هذا فإنّ أفضل شاهد على الإنسان في تلك المحكمة الإلهية للقيامة هو نفسه، لأنّه أعرف بنفسه من غيره. «معاذير»: جمع (معذرة) وتعني في الأصل البحث عمّا تمحى به آثار الذنوب، وقد تكون أحياناً أعذاراً واقعية، واخرى صورية وظاهرية.

إنّ الآيات مفهومها واسع، ولذا فإنّها تشمل عالم الدنيا، وتعلم الناس بأحوال أنفسهم وإنّه كان فيهم من يكتم ويغطي وجهه الحقيقي بالكذب والإحتيال والتظاهر والمراء.

لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) إنّ علينا جمعه وقرآنه: هذه الآيات بمثابة الجملة الإعتراضية التي تتداخل أحياناً في كلام المتحدث، حيث يترك اللَّه تعالى الحديث عن القيامة وأحوال المؤمنين والكفرة مؤقتاً، ليعطي تذكرة مختصرة للنبي صلى الله عليه و آله حول القرآن فيقول: «لَاتُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ».

في تفسير هذه الآية نقل عن ابن عباس أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان إذا نزل عليه الوحي ليقرأ عليه القرآن، تعجّل بقراءته ليحفظه وذلك لحبّه الشديد للقرآن، فنهاه اللَّه عن ذلك وقال: «إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ».

ثم يضيف: «إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ».

وبالتالي لا تقلق على جمع القرآن، نحن نجمعه ونتلوه عليك بواسطة الوحي.

ثم يقول تعالى: «فَإِذَا قَرَأْنهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ». ثم يضيف: «ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ».

فيكون جمع القرآن وقراءته لك وتبيينه وتفصيل معانيه بعهدتنا، فلا تقلق على شي ء، فالذي أنزل الوحي هو الذي يحفظه.

وهذه الآيات تبيّن ضمنياً أصالة القرآن، وحفظه من أي تغيير وتحريف، لأنّ اللَّه تعالى تعهد بجمعه وقراءته وتبيينه.

كَلَّا

بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) ترجع هذه الآيات مرّة اخرى لتكمل البحوث المتعلقة بالمعاد، وخصوصيات اخرى من

مختصر الامثل، ج 5، ص: 323

القيامة، وكذلك تبيّن علل إنكار المعاد فيقول تعالى: «كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ». فليس الأمر كما يتصور من أنّ دلائل المعاد خفيّة ولا يمكنكم الاطّلاع عليها، بل إنّكم عشقتم الدنيا. ولهذا السبب تركتم الآخرة: «وَتَذَرُونَ الْأَخِرَةَ».

إنّ الشك في قدرة اللَّه تعالى وجمع العظام وهي رميم ليس هو الدافع لإنكار المعاد، بل إنّ حبّكم الشديد للدنيا والشهوات والميول المغرية هي التي تدفعكم إلى رفع الموانع عن طريق ملذاتكم، وبما أنّ المعاد والشريعة الإلهية توجد موانع وحدوداً كثيرة على هذا الطريق، لذا تتمسكون بإنكار أصل الموضوع، وتتركون الآخرة بتمامها.

وهاتان الآيتان تؤكّدان ما ورد في الآيات السابقة والتي قال فيها تعالى شأنه: «بَلْ يُرِيدُ الْإِنسنُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ». وقال أيضاً: «يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيمَةِ».

ثم ينتهي إلى تبيان أحوال المؤمنين الصالحين والكفار المسيئين في ذلك اليوم، فيقول تعالى: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ».

«ناضرة»: من مادة «نضرة» وتعني البهجة الخاصة التي يحصل عليها الإنسان عند وفور النعمة والرفاه، ووفورها يلازم السرور والجمال والنورانية.

هذا من ناحية العطايا المادية، وأمّا عن العطايا الروحية فيقول تعالى: «إِلَى رَبّهَا نَاظِرَةٌ». نظرة بعين القلب وعن طريق شهود الباطن، نظرة تجذبهم إلى الذات الفريدة وإلى ذلك الكمال والجمال المطلقين، وتهبهم اللذة الروحانية والحال الذي لا يوصف.

في صحيح مسلم عن صهيب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «إذا دخل أهل الجنة، الجنة قال اللَّه تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة

وتنجنا من النار؟

قال: فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحبّ إليهم من النظر إلى ربّهم عزّ وجل».

وفي النقطة المقابلة لهذه الجماعة المؤمنة، هناك جماعة تكون وجوههم مقطبة. «وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ».

فعندما ينظر الكافرون إلى علامات العذاب وصحائف أعمالهم الخالية من الحسنات والمملوءة بالسيئات، يصيبهم الندم والحسرة والحزن ويعبسون وجوههم لذلك. «تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ».

إنّ هذا التعبير كناية للعقوبات الثقيلة والتي تنتظر هذه الجماعة في جهنم، لكن إنّ الجماعة السابقة منتظرون لرحمة اللَّه تعالى ومستعدون للقاء المحبوب. هؤلاء لهم أسوأ العذاب.

وأولئك لهم أسمى النِعم الجسمانية والمواهب واللذات الروحانية.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 324

كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَ قِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) إتماماً للأبحاث المرتبطة بالعالم الآخر ومصير المؤمنين والكفار يأتي الحديث في هذه الآيات عن لحظة الموت المؤلمة والتي تعتبر باباً إلى العالم الآخر فيقول تعالى: «كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِىَ». أي كلّا إنّه لا يؤمن حتى تصل روحه التراقي.

هو ذلك اليوم الذي تنفتح فيه عينه البرزخية، وتزال عنها الحجب، ويرى فيها علامات العذاب والجزاء، ويوقف على أعماله، ففي تلك اللحظة يقرّ بالإيمان ولكن إيمانه لا ينفعهُ ولا يفيد حاله أبداً.

«تراقي»: جمع «ترقوة»، وهي العظام المكتنفة للنحر عن يمين وشمال، وبلوغ الروح إلى التراقي كناية عن اللحظات الأخيرة من عمر الإنسان.

وفي هذه الفترة يسعى أهله وأصدقائه مستعجلين قلقين لانقاذه. يقول تعالى: «وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ». أي هل هناك من منقذ يأتي لإنقاذ هذا المريض؟

ويقولون هذا الحديث عن وجه العجز واليأس، والحال أنّهم يعلمون أنّه قد فات الآوان ولا ينفع معه طبيب.

«راق»: من مادة «رقي» على وزن (نهي) و (رقيه) على وزن (خفيه) وهو الصعود،

ولفظة (رقيه) تطلق على الأوراد والأدعية التي تبعث على نجاة المريض.

وفي الآية التالية إشارة إلى اليأس الكامل للمحتضر فيقول تعالى: «وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ».

أي: في هذه الحالة يصاب باليأس من الحياة واليقين بالفراق. ثم: «وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ».

وهذا الإلتفاف إمّا لشدّة الأذى لخروج الروح، أو لتوقف عمل اليدين والرجلين وتعطيل الروح منها.

ثم يقول تعالى في آخر آية من آيات البحث: «إِلَى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ». أجل، إلى اللَّه تعالى المرجع حيث يحضر الخلائق عند محكمة العدل الإلهية، وهكذا ينتهي المطاف إليه، وهذه الآية أيضاً تأكيد على مسألة المعاد والبعث الشامل للعباد، ويمكن أن تكون إشارة إلى الحركة التكاملية للخلائق وهي متجهة نحو الذات المقدسة واللامتناهية.

لحظة الموت المؤلمة: يستفاد من القرآن أنّ لحظة الموت لحظة صعبة ومؤلمة، والمستفاد

مختصر الامثل، ج 5، ص: 325

من الروايات أنّ هذه اللحظة سهلة على المؤمنين، وصعبة ومؤلمة على فاقدي الإيمان.

في عيون أخبار الرضا عليه السلام عن موسى بن جعفر عليه السلام قال: «قيل للصادق عليه السلام: صف لنا الموت. فقال: للمؤمن كأطيب ريح يشمه فينعس لطيبه وينقطع التعب والألم كلّه عنه، وللكافر كلسع الأفاعي ولدغ العقارب أو أشدّ».

فَلَا صَدَّقَ وَ لَا صَلَّى (31) وَ لكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَ يَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثَى (39) أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40) استمراراً للبحوث المتعلقة (بالموت) الذي يعتبر الخطوة الأولى في السفر إلى الآخرة يتحدث القرآن في هذه الآيات عن خواء أيدي الكفار من الزاد لهذا

السفر. فيقول أوّلًا:

«فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى . أي إنّ هذا الإنسان المنكر للمعاد لم يؤمن اطلاقاً ولم يصدّق بآيات اللَّه ولم يصلّ له.

وقال تعالى: «وَلكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى .

المراد من جملة «فَلَا صَدَّقَ» عدم التصديق بالقيامة والحساب والجزاء والآيات الإلهية والتوحيد ونبوّة النبي صلى الله عليه و آله.

ويضيف تعالى في الآية الاخرى: «ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى .

إنّه يظنّ بعدم اهتمامه للنّبي صلى الله عليه و آله وتكذيبه إيّاه وللآيات الإلهية قد حقق نصراً باهراً، إنّه كان ثملًا من خمرة الغرور، واتجه إلى أهله لينقل لهم كالعادة ما كان قد حدث وليفتخر بما صدر منه، وكان سيره وحركته تشيران إلى الكبر والغرور.

«يتمطى : من مادة «مطا» وأصله الظهر، و (تمطى مدّ الظهر عن غرور ولا مبالاة، أو عن كسل، والمراد هنا هو المعنى الأوّل.

ثم يخاطب القرآن أفراداً كهؤلاء ويهددهم فيقول تعالى: «أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى .

في المجمع: وجاء الرواية أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أخذ بيد أبي جهل ثم قال له: «أولى لك فأولى

مختصر الامثل، ج 5، ص: 326

ثم أولى لك فأولى . فقال أبو جهل: بأي شي ء تهددني لا تستطيع أنت ولا ربّك أن تفعلا بي شيئاً، وإنّي أعزّ أهل هذا الوادي، فأنزل اللَّه سبحانه كما قال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

ثم ينتهي القرآن في هذا البحث إلى استدلالين لطيفين حول المعاد وأحدهما عن طريق (الحكمة الإلهية وهدف الخلقة)، والآخر عن طريق بيان قدرة اللَّه في تحول وتكامل نطفة الإنسان في المراحل المختلفة لعالم الجنين، فيقول تعالى عن المرحلة الاولى: «أَيَحْسَبُ الْإِنسنُ أَن يُتْرَكَ سُدًى». «سدى : على وزن (هدى وهو المهمل الذي لا هدف له.

والمراد

من (الإنسان) في هذه الآية هو المنكر للمعاد والبعث، فيكون معنى الآية: كيف يخلق اللَّه هذا العالم العظيم للإنسان ولا يكون له هدف ما؟ كيف يمكن ذلك والحال أنّ كل عضو من أعضاء الإنسان خلق لهدف خاص. ولكن يحسب أن لا هدف في خلق كل ذلك.

ثم إنتهى إلى تبيان الدليل الثاني، فيضيف تعالى: «أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مَّنِىّ يُمْنَى . وبعد هذه المرحلة واستقرار المني في الرحم يتحول إلى قطعة متخثرة من الدم، وهي العلقة، ثم إنّ اللَّه تعالى يخلقها بشكل جديد ومتناسب وموزون: «ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى .

ولم يتوقف على ذلك: «فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى .

أليس من يخلق النطفة الصغيرة القذرة في ظلمة رحم الام ويجعله خلقاً جديداً كل يوم، ويلبسه من الحياة لباساً جديداً ويهبه شكلًا مستحدثاً ليكون بعد ذلك إنساناً كاملًا ذكراً أو انثى ثم يولد من امّه، بقادر على إعادته: «أَلَيْسَ ذلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِىَ الْمَوْتَى .

وهذا البيان في الواقع هو لمن ينكر المعاد الجسماني ويعده محالًا، وينفي العودة إلى الحياة بعد الموت والدفن، ولإثبات ذلك أخذ القرآن بيد الإنسان ليرجعه إلى التفكر ببداية خلقه، والمراحل العجيبة للجنين ليريه تطورات هذه المراحل، وليعلم أنّ اللَّه قادر على كل شي ء.

«نهاية تفسير سورة القيامة»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 327

76. سورة الإنسان

محتوى السورة: يمكن تقسيم مباحث السورة إلى خمسة أقسام:

1- يتحدث عن إيجاد الإنسان وخلقه من نطفة أمشاج (مختلطة)، وكذلك عن هدايته وحرية إرادته.

2- يدور الحديث فيه عن جزاء الأبرار والصالحين، وسبب النزول الخاص بأهل البيت عليهم السلام.

3- تكرار الحديث عن دلائل استحقاق الصالحين لذلك الثواب في عبارات مؤثرة.

4- يشير إلى أهمّية القرآن وسبيل إجراء أحكامه ومنهج تربية النفس الشاق.

5- جاء الحديث فيه

عن حاكمية المشيئة الإلهية (مع حاكمية الإنسان).

ولهذه السورة أسماء عديدة؛ أشهرها: (الإنسان) و (الدهر) و (هل أتى ، وهذه الكلمات وردت في أوائل السورة، وإن كانت الروايات الواردة في فضيلتها والتي سوف يأتي ذكرها، قد ذكرت اسم (هل أتى لهذه السورة.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأ سورة هل أتى كان جزاؤه على اللَّه جنّة وحريراً».

وقال الإمام الباقر عليه السلام: «من قرأ سورة هل أتى في كل غداة خميس زوّجه اللَّه من الحور العين مائة عذراء وأربعة آلاف ثيب وكان مع محمّد صلى الله عليه و آله».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 328

هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَ أَغْلَالًا وَ سَعِيراً (4) تتحدث الآيات الاولى عن خلق الإنسان، بالرغم من أنّ أكثر بحوث هذه السورة هي حول القيامة ونعم الجنان، فتحدثت في البدء عن خلق الإنسان، لأنّ التوجه والإلتفات إلى هذا الخلق يهيي ء الأرضية للتوجه إلى القيامة والبعث كما شرحنا ذلك سابقاً في تفسير سورة القيامة. فيقول تعالى: «هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسنِ حِينٌ مّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيًا مَّذْكُورًا».

والمراد من الإنسان هنا هو نوع الإنسان، ويشمل بذلك عموم البشر.

ثم يأتي خلق الإنسان بعد هذه المرحلة، واعتبار ذكره، فيقول تعالى: «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسنَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنهُ سَمِيعًا بَصِيرًا».

ولعلّ ذكر خلق الإنسان من النطفة المختلطة إشارة إلى اختلاط ماء الذكور والإناث، وقد اشير إلى ذلك في روايات المعصومين عليهم السلام بصورة إجمالية؛ أو أنّها إشارة إلى

القابليات المختلفة الموجودة داخل النطفة من ناحية العوامل الوراثية عن طريق الجينات؛ أو أنّها إشارة إلى اختلاط المواد التركيبية المختلفة للنطفة، لأنّها تتركب من عشرات المواد المختلفة، أو اختلاط جميع ذلك مع بعضها البعض، والمعنى الأخير أجمع وأوجه.

«نبتليه»: إشارة إلى وصول الإنسان إلى مقام التكليف والتعهد وتحمل المسؤولية والإختبار والإمتحان.

وبما أنّ الإختبار والتكليف لا يتمّ إلّابعد الحصول على المعرفة والعلم فقد أشار في آخر الآية إلى وسائل المعرفة، العين والاذن التي أودعها سبحانه وتعالى في الإنسان وسخرها له.

إنّ اختبار الإنسان بحاجة إلى عاملين آخرين، هما: «الهداية» و «الإختبار» بالإضافة إلى المعرفة ووسائلها، فقد أشارت الآية التالية إلى ذلك: «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا». إنّ للهداية هنا معنى واسعاً، فهي تشمل «الهداية التكوينية» و «الهداية الفطرية» وكذلك «الهداية التشريعية» وإن كان سياق الآية يؤكّد على الهداية التشريعية.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 329

وأشارت الآية الأخيرة من آيات البحث إلى الذين سلكوا طريق الكفر والكفران فتقول:

«إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلسِلَا وَأَغْللًا وَسَعِيرًا».

«سلاسل»: جمع (سلسلة)، وهي القيد الذي يقاد به المجرم؛ و «الأغلال»: جمع (غل)، وهي الحلقة التي توضع حول العنق أو اليدين وبعد ذلك يُقفل بالقيد.

إنّ ذكر الأغلال والسلاسل ولهيب النيران المحرقة تبيان للعقوبات التي يعاقب بها المجرمون، وهو ما اشير إليه في كثير من آيات القرآن ويشمل ذلك العذاب والذل.

إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَ يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَ لَا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقَاهُمُ

اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً (11)

سبب النزول

البرهان العظيم على فضيلة أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله: قال ابن عباس: إنّ الحسن والحسين مرضا فعادهما الرسول صلى الله عليه و آله في ناس معه، فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك، فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما إن برئا مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام فشفيا وما كان معهم شي ء، فاستقرض علي عليه السلام من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث أصواع من شعير، فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل، فقال: السلام عليكم، أهل بيت محمّد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم اللَّه من موائد الجنة، فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلّاالماء وأصبحوا صياماً، فلمّا أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة عند الغروب، ففعلوا مثل ذلك، فلمّا أصبحوا أخذ علي بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فلمّا أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع، قال: «ما أشدّ ما يسوؤني ما أرى بكم». وقام فانطلق معهم، فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها، وغارت عيناها، فساءه ذلك، فنزل جبرئيل وقال: خذها يا محمد، هنّأك اللَّه في أهل بيتك فأقرأه السورة.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 330

وقيل: إنّ الذي نزل من الآيات يبدأ من: «إِنَّ الْأَبْرَارَ» حتى «كَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا» ومجموعها (18) آية.

ما أوردنا هو نص الحديث الذي جاء في كتاب «الغدير» بشي ء من الإختصار كقدر مشترك وهذا الحديث من بين أحاديث كثيرة نقلت في هذا الباب، وذكر في الغدير أنّ الرواية المذكورة قد نقلت عن طريق (34) عالماً من علماء

أهل السنّة المشهورين.

وعلى هذا، فإنّ الرواية مشهورة، بل متواترة عند أهل السنة «1».

واتفق علماء الشيعة على أنّ السورة أو ثمان عشرة آية من السورة قد نزلت في حق علي وفاطمة عليهما السلام، وأوردوا هذه الرواية في كتبهم العديدة واعتبروها من مفاخر الروايات الحاكية عن فضائل أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام.

التّفسير

جزاء الأبرار العظيم: أشارت الآيات السابقة إلى العقوبات التي تنتظر الكافرين بعد تقسيمهم إلى جماعتين وهي «الشكور» و «الكفور»، والآيات في هذا المقطع تتحدث المكافآت التي أنعم اللَّه بها على الأبرار وتذكّر بامور ظريفة في هذا الباب. فيقول تعالى: «إِنَّ الْأَبْرَارَ يُشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا».

«الأبرار»: جمع (بر) وأصله الإتّساع، واطلق البر على الصحراء لاتساع مساحتها، وتطلق هذه المفردة على الصالحين الذين تكون نتائج أعمالهم واسعة في المجتمع.

«كافور»: له معان متعددة في اللغة، وأحد معانيها المعروفة الرائحة الطيبة كالنبتة الطيبة الرائحة.

فإنّ الآية تشير إلى أنّ هذا الشراب الطهور معطّر جدّاً فيلتذ به الإنسان من حيث الذوق والشم.

ثم يشير إلى العين التي يملؤون منها كؤوسهم من الشراب الطهور فيقول: «عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيرًا».

هذه العين من الشراب الطهور وضعها اللَّه تعالى تحت تصرفهم، فهي تجري أينما شاءوا، والظريف هو ما نقل- في أمالي الصدوق- عن أبي جعفر الباقر عليه السلام إذ قال في وصفها: «هي

______________________________

(1) نقلت هذه الرواية في كتاب الغدير 3/ 107- 111؛ وفي كتاب إحقاق الحق 3/ 157- 171 عن (36) نفر من علماء أهل السنّة مع ذكر المأخذ.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 331

عين في دار النبي تفجر إلى دور الأنبياء والمؤمنين».

نعم، فكما تتفجر عيون العلم والرحمة من بيت النبي صلى الله عليه و آله وتجري إلى قلوب عباد اللَّه

الصالحين، كذلك في الآخرة حيث التجسّم العظيم لهذا المعنى تتفجر عين الشراب الطهور الإلهي من بيت الوحي، وتنحدر فروعها، إلى بيوت المؤمنين!

ثم تتناول الآيات الاخرى ذكر أعمال «الأبرار» و «عباد اللَّه» مع ذكر خمسة صفات توضّح سبب استحقاقهم لكل هذه النعم الفريدة فيقول تعالى: «يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا».

جملة (يوفون) و (يخافون) والجمل التي تليها جاءت بصيغة الفعل المضارع وهذا يشير إلى استمرارية وديمومة منهجهم.

وخوفهم من شرّ ذلك اليوم، وآثار هذا الإيمان ظاهرة في أعمالهم بصورة كاملة.

ثّم يتناول الصفة الثالثة لهم فيقول: «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا».

لم يكن مجرد اطعام، بل اطعام مقرون بالإيثار العظيم عند الحاجة الماسّة للغذاء، ومن جهة اخرى فهو إطعام في دائرة واسعة حيث يشمل أصناف المحتاجين من المسكين واليتيم والأسير، ولهذا كانت رحمتهم عامّة وخدمتهم واسعة.

فإنّ ما يستفاد من الآية أنّ أفضل الأعمال إطعام المحرومين والمعوزين، ولا يقتصر على اطعام الفقراء من المسلمين فحسب بل يشمل حتى الأسرى المشركين أيضاً وقد اعتبر إطعامهم من الخصال الحميدة للأبرار.

والخصلة الرابعة للأبرار هي الإخلاص، فيقول: «إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَانُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا».

إنّ هذا المنهج ليس منحصراً بالإطعام، إذ إنّ جميع أعمالهم خالصة لوجه اللَّه تعالى، ولا يتوقعون من الناس شكراً وتقديراً. وأساساً فإنّ قيمة العمل في الإسلام بخلوص النية وإلّا فإنّ العمل إذا كان بدوافع غير الهية، فليس لذلك ثمن معنوي وإلهي.

ويقول في الوصف الأخير للأبرار: «إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا». (أي الشديد) من المحتمل أن يكون هذا الحديث لسان حال الأبرار، أو قولهم بألسنتهم.

وجاء التعبير عن يوم القيامة بالعبوس والشديد للإستعارة، إذ أنّها تستعمل في وصف

مختصر الامثل، ج 5، ص: 332

الإنسان الذي يقبض وجهه

وشكله ليؤكد على هول ذلك اليوم، أي أنّ حوادث ذلك اليوم تكون شديدة إلى درجة أنّ الإنسان لا يكون فيه عبوساً فحسب، بل حتى ذلك اليوم يكون عبوساً أيضاً. وأشارت الآية الأخيرة في هذا البحث إلى النتيجة الإجمالية للأعمال الصالحة والنيّات الطاهرة للأبرار فيقول: «فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا».

«نضرة»: بمعنى البهجة وحسن اللون والسرور الخاص الذي يظهر عند وفور النعمة والرفاه على الإنسان. وبما أنّهم كانوا يحسّون بالمسؤولية ويخافون من ذلك اليوم الرهيب، فإنّ اللَّه تعالى سوف يعوضهم بالسرور وبالبهجة.

وَ جَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَ لَا زَمْهَرِيراً (13) وَ دَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً (16) وَ يُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَ إِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ وَ حُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَ سَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَ كَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22) مكافئات الجنان العظيمة: بعد الإشارة الإجمالية في الآيات السابقة إلى نجاة الأبرار من العذاب الأليم يوم القيامة، ووصولهم إلى لقاء المحبوب والغرق بالسرور والبهجة، تتناول هذه الآيات شرح هذه المواهب الإلهية في الجنان، وعددها في هذه على الأقل خمسة عشرة نعمة، فتتحدث في البدء عن المسكن والملبس فتقول: «وَجَزَيهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا».

وليس فقط في هذه الآية، بل صرح بهذه الحقيقة في آيات اخرى من القرآن،

وهو أنّ مكآفات القيامة إنّما تعطى للإنسان لصبره (صبر في الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر عند المصائب). فنجد سلام الملائكة لأهل الجنان في الآية (24) من سورة الرعد: «سَلمُ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ».

مختصر الامثل ج 5 369

مختصر الامثل، ج 5، ص: 333

ثم يضيف سبحانه في الآية التالية: «مُّتَّكِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَايَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا».

ولا يعني هذا انعدام الشمس والقمر في الجنان، بل بسبب ظلال أشجار الجنان لا تكون أشعة الشمس مؤذية.

«زمهرير»: من مادة «زمهر» وهو البرد الشديد، أو شدّة الغضب أو احمرار العين من أثر الغضب، والمراد هنا هو المعنى الأوّل.

«أرائك»: جمع «أريكة»، وتطلق في الأصل على الأسرّة التي توضع في غرفة العروس، والمراد هنا الأسرّة الجميلة والفاخرة.

عن ابن عباس: بينا أهل الجنة في الجنة إذ رأوا ضوءاً كضوء الشمس، وقد أشرقت الجنان به فيقول أهل الجنة يا رضوان ما هذا؟ وقد قال ربّنا «لَايَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا»، فيقول لهم رضوان: ليس هذا بشمس، ولا قمر، ولكن علي وفاطمة ضحكا، فأشرقت الجنان من نور ثغريهما «1».

وتضيف الآية الاخرى متمّمة لهذه النعم: «وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِللُهَا وَذُلّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا».

ليست هنا من مشكلة لقطف الثمار، ولا شوكة لتدخل في اليد، ولا تحتاج ذلك إلى مشقّة أو حركة.

ثم توضح الآية الاخرى كيفية استضافة أصحاب الجنان، وأدوات الضيافة، والمستقبلين لهم، فيقول: «وَيُطَافُ عَلَيْهِم بَانِيَةٍ مّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا* قَوَارِيرَا مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا».

تحتوي هذه الآنية على أنواع الأغذية والأشربة المتعددة الأصناف واللذيذة والباعثة على النشاط، بالقدر الذي يشاؤونه ويحبّونه، والولدان المخلدون يطوفون عليهم ليعرضوا عليهم الآنية والأكواب المليئة بما وعدهم اللَّه بها.

ثم يضيف تعالى: «وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا».

صرح الكثير من المفسرين بأنّ عرب الجاهلية كانوا

يتلذذون بالشراب الممزوج بالزنجبيل، لأنّه كان يعطي قوّة خاصة للشراب.

______________________________

(1) روح المعاني 29/ 159.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 334

ويتحدث القرآن هنا عن الشراب الطهور الممزوج بالزنجبيل، ومن البديهي أنّ الفرق بين هذا الشراب وذلك الشراب كالفرق بين الدنيا والآخرة.

ثم يضيف تعالى: «عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا».

«سلسبيلا»: هو الشراب الهني ء واللذيذ جدّاً الذي ينحدر بسهولة في الحلق.

ثم يتحدث عن المستقبلين في هذا الحفل البهيج المقام بجوار اللَّه في النعيم الأعلى فيقول تعالى: «وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا».

إنّهم مخلدون في الجنان، وطراوة شبابهم ونشاطهم خالد أيضاً، وكذا استقبالهم للأبرار، لأنّ عبارة (مخلدون) وعبارة (يطوف عليهم) من جهة اخرى تبيان لهذه الحقيقة.

«لؤلؤاً منثوراً»: يراد به الإشارة إلى جمالهم وصفائهم وإشراق وجوههم وكذلك حضورهم في كل مكان من المحفل الإلهي والروحاني.

وبما أنّ من المحال وصف النعم والمواهب للعالم الآخر مهما بلغ الكلام من البيان والبلاغة، ولذا يقول تعالى في الآية الاخرى كلاماً مطلقاً: «وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا».

إلى هنا اشير إلى قسم من نعم الجنان، وحان الآن دور زينة أهل الجنان فيقول تعالى:

«عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ».

«سندس»: ثوب رقيق من الحرير؛ و «الإستبرق»: ثوب غليظ من الحرير.

ثم أضاف تعالى: «وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ».

وهي الفضة الشفافة اللامعة كالبلور وأجمل من الياقوت والدر واللؤلؤ.

«اساور»: جمع «أسورة» وهي بدورها جمع (سوار) على وزن (غبار)، أو «سوار» على وزن (حوار) وأخذ في الأصل من الكلمة الفارسية، (دستوار) وعند انتقالها إلى العربية تغيّرت واختصرت وجاءت بصورة (سوار).

ثم يقول تعالى في نهاية الآية مشيراً إلى آخر نعمة وأهمّها من سلسلة النعم: «وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا».

في المجمع عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «يطهرهم عن كل شي ء سوى اللَّه».

وفي روضة الكافي روي

عن النبي صلى الله عليه و آله حول عين مطهرة مزكية المستقرة على باب الجنة، قال: «فيسقون منها شربة فيطهر اللَّه بها قلوبهم من الحسد، ويسقط من أبشارهم الشعر وذلك قول اللَّه عزّ وجل: «وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا»».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 335

وفي آخر آية من آيات البحث يتحدث حديثاً أخيراً في هذا الإطار فيقول: إنّه يقال لهم من قبل ربّ العزّة بأنّ هذه النعم العظيمة ما هي إلّاجزاء أعمالكم في الدنيا: «إِنَّ هذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا». لئلا يتصور أحد أنّ هذا الجزاء وهذه المواهب العظيمة تعطى من دون مقابل، إنّ كل ذلك جزاء السعي والعمل، وثمرة الرياضات وجهاد النفس وبناء الذات وترك المعاصي.

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا (25) وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَ سَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) خمسة مبادي ء مهمة في تنفيذ حكم اللَّه: شرعت السورة منذ البداية وحتى هذه الآية في تبيان خلق الإنسان ثم المعاد والبعث، وفي هذه الآيات مورد البحث يتوجه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه و آله باصدار أوامر مؤكّدة لهداية الناس والصبر والثبات في هذا الطريق، وفي الواقع إنّ هذه الآيات تشير إلى أنّ نيل كل تلك النعم والمواهب الاخروية لا يتمّ إلّابالتمسك بالقرآن وإتباع النبي واطاعة أوامره. يقول في البدء: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ تَنزِيلًا».

ثم يأمر النبي صلى الله عليه و آله بأمور خمسة، أوّلها الدعوة إلى الصبر والإستقامة فيقول: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ». أي لا تخف من المشاكل ومن موانع الطريق وكثرة الأعداء وعنادهم واستقم في سيرك على الصراط المستقيم.

والأمر الثاني الموجّه للنبي

صلى الله عليه و آله هو تحذيره من أي توافق مع المنحرفين، فيقول تعالى:

«وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِمًا أَوْ كَفُورًا».

في الحقيقة أنّ هذا الحكم هو تأكيد ثان على الحكم الأوّل، لأنّ جموع الأعداء كانوا يسعون بطرق مختلفة للتوافق مع النبي وجرّه إلى طريق الباطل، كما نقل أنّ عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة قالا لرسول اللَّه: إن تركت دعوتك، فإنّنا سنغنيك حتى ترضى، ونزوّجك أجمل بنات العرب، وعروض اخرى من هذا القبيل، فما كان على الرسول صلى الله عليه و آله هنا باعتباره المرشد الحقيقي والعظيم إلّاأن يقف أمام هذه الوساوس الشيطانية والتهديدات التي صدرت منهم بعد ذلك، ولا يستسلم للترغيب أو الترهيب.

ولكن بما أنّ الصبر والإستقامة في مقابل هذه المشكلات العظيمة ليس بالأمر اليسير،

مختصر الامثل، ج 5، ص: 336

كان من الضروري لسلوك هذا الطريق التزّود بنوعين من الزاد، لذا يضيف القرآن في الآية الاخرى: «وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا». أي في كل صباح ومساء،. ويقول تعالى أيضاً: «وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا». لتتوفر لديك في ظل ذلك الذكر وهذا السجود والتسبيح قوّة كافية وقدرة معنوية لمواجهة مشاكل هذا الطريق.

فإنّ هاتين الآيتين تأكيد لضرورة التوجه الدائم والمستمر لذات اللَّه المقدسة.

ويجب هنا الإلتفات إلى أنّ الأوامر الخمسة المذكورة في الآيات أعلاه وإن ذكرت بصورة منهج للنّبي صلى الله عليه و آله، فهي في الحقيقة دستوراً يحتذي به كل من يخطو في مسير قيادة المجتمع البشري، إنّهم يجب أن يعلموا بعد الإيمان الكامل بأهدافهم ورسالتهم بضرورة احتراف الصبر والإستقامة، وأن لا يستوحشوا من كثرة مشاكل الطريق، لأنّ هداية المجتمع من المشاكل العظيمة.

وفي المرحلة الاخرى يجب الثبات التام أمام الوساوس الشيطانية والتي تعتبر مصداقاً للآثم والكفور، والثبات أمام

سعيهم في حرف القادة والأئمة بأنواع الحيل والمكائد، وأن لا ينخدعوا بالتطميع ولا يتأثروا بالتهديد، ويذكروا اللَّه تعالى في كل المراحل لاكتساب القدرة الروحية وقوّة الإرادة والعزم الراسخ، والاستمداد من العبادات الليلية، والمناجات مع اللَّه، فإذا ما روعيت هذه الامور فالنصر حتمي، وحتى لو عرضت مصيبة أو هزيمة فإنّه يمكن إصلاحها من خلال هذه الاصول، ومنهج الرسول صلى الله عليه و آله وسلوكه في دعوته نموذج مؤثر لجميع السالكين في هذا الطريق.

إِنَّ هؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَ يَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَ شَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَ إِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَ مَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ الظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (31) تحذير مع بيان السبيل: رأينا في الآيات السابقة تحذيراً للنبي صلى الله عليه و آله لكي لا يقع تحت تأثير كل آثم أو كفور من المجرمين. الآيات اعلاه عرّفت الأعداء بشكل أكثر وقالت: «إِنَّ هؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 337

لا تتعدى افق أفكارهم دائرة الطعام والنوم والشهوة، وتمثل هذه اللذائذ المادية الرخيصة أسمى غاية لهم في الحياة. والعجيب أنّهم قاسوا روح النبي العظيمة بهذا المقياس.

الآية التالية تحذرهم من الاغترار بقوّتهم وقدرتهم، إذ إنّ اللَّه الذي أعطاهم إيّاها قادر على أن يستردها بسرعة متى شاء، فيقول تعالى: «نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا».

هنا يشير القرآن إلى نقطة حساسة، وهي جهاز الأعصاب الصغيرة والكبيرة التي تشدّ العضلات فيما بينها كالحبال الحديدية وتربط بعضها بالبعض الآخر، وحتى المفاصل والعضلات المختلفة وقطع العظام

الصغيرة والكبيرة وأعضاء الإنسان بحيث يتكون من مجموع ذلك إنسان كامل الخلقة مهيأ للقيام بأية فعالية، وعلى كل حال فهذه الجملة كناية عن القدرة والقوّة.

وتوضّح هذه الآية ضمناً استغناء ذات اللَّه المقدسة، عنهم، وعن طاعتهم وإيمانهم، ليعلموا أنّ الإصرار على دعوتهم للايمان في الحقيقة هو من رحمة اللَّه بهم.

ثم أشار تعالى إلى جميع البحوث الواردة في هذه السورة والتي تشكل بمجموعها برنامجاً متكاملًا للحياة السعيدة، فيقول تعالى: «إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا».

إنّ علينا إيضاح الطريق، لا اجباركم على اختيار الطريق، وعليكم تمييز الحق من الباطل بما لديكم من العقل والإدراك، واتخاذ القرار بإرادتكم واختياركم، وهذا تأكيداً على ما جاء في صدر السورة في قوله: «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا».

وقد يتوهّم بعض السذّج من العبارة أعلاه أنّها تعني التفويض المطلق للعباد، فجاءت الآية التالية لتنفي هذا التصور وتضيف: «وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا».

وهذا في الحقيقة إثبات لأصل مشهور هو (الأمر بين الأمرين)، إذ يقول من جهة: «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ». فعليكم أن تختاروا ما تريدون، ويضيف من جهة اخرى: «وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ». أي ليس لكم الإستقلال الكامل، بل إنّ قدرتكم واستطاعتكم وحريتكم لا تخرج عن دائرة المشيئة الإلهية، وهو قادر على أن يسلب هذه القدرة والحرية متى شاء.

من هذا يتّضح أنّه لا جبر ولا تفويض في الأوامر، بل إنّها حقيقة دقيقة وظريفة بين

مختصر الامثل، ج 5، ص: 338

الأمرين. أو بعبارة اخرى: إنّها نوع من الحرية المرتبطة بالمشيئة الإلهية، إذ يمكن سلبها متى يشاء ليتسنى للعباد تحمل ثقل المسؤولية الذي يعتبر رمزاً للتكامل من جهة، ومن جهة اخرى أن لا يتوهموا استغنائهم عن

اللَّه تعالى.

ولعلّ آخر الآية: «إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا». يشير حكمه إلى هذا المعنى، لأنّ حكمة اللَّه تستوجب إعطاء الحرية للعباد في سلوك طريق التكامل، وإلّا فإنّ التكامل الإجباري لا يعدّ تكاملًا، بالإضافة إلى أنّ حكمة اللَّه لا تتفق مع فرض الأعمال الخيرة على اناس وفرض الأعمال الشريرة على اناس آخرين، ثم إنّه يثيب الجماعة الاولى ويعاقب الثانية.

ثم تشير الآية الاخرى بعد ذلك إلى مصير الصالحين والطالحين، إذ تقول الآية: «يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا».

والظريف أنّ صدر الآية يقول: «يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِى رَحْمَتِهِ»، ويقول ذيلها:

«وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا»، وهذا يشير إلى أنّ مشيئته تعالى بعقوبة الإنسان تتبع مشيئة الإنسان للظلم والمعاصي، وبقرينة المقابلة يتّضح أنّ مشيئته تعالى في الرحمة تتبع إرادة الإنسان في الإيمان والعمل الصالح وإقامة العدل، ولا يمكن أن يكون هذا الأمر إلّامن حكيم.

«نهاية تفسير سورة الإنسان»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 339

77. سورة المرسلات

محتوى السورة: إنّ أكثر محتويات هذه السورة تدور حول المسائل المرتبطة بالقيامة وتهديد وإنذار المشركين والمنكرين، ومن خصائص هذه السورة تكرار الآية: «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ» عشر مرّات بعد كل موضوع جديد، وتنبى ء السورة بعد ذكر الأقسام عن القيامة والحوادث الصعبة للبعث، ثم تذكر عقب ذلك هذه الآية: «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ».

وتتحدث السورة أوّلًا عن الوقائع المؤسفة للأقوام المذنبين الأوائل.

ثم تتحدث ثانياً عن جانب من خصوصيات خلق الإنسان.

وفي المرحلة الثالثة عن بعض المواهب الإلهية في الأرض.

وفي الرابعة تشرح السورة جانباً من عذاب المكذبين، وفي كل من هذه المراحل إشارة إلى مواضيع موقظة ومحركة، ثم تأكيد تلك الآية بعد ذكر كل موضوع من هذه المواضيع، وحتى أنّه أشار في قسم من ذلك إلى نعم الجنان للمتقين ليمزج الإنذار

بالبشارة والترهيب بالترغيب.

فإنّ هذا التكرار يذكر بتكرار بعض الآيات في سورة الرحمن باختلاف أنّ الكلام هناك يدور عن النعم، أمّا في هذه السورة فغالباً ما تتحدث عن عذاب المكذبين.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 340

اختيار اسم (المرسلات) لهذه السورة، هو لتناسبه مع الآية الاولى لهذه السورة.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأها عرّف اللَّه بينه وبين محمّد صلى الله عليه و آله».

لا شك أنّ الثواب والفضيلة تكون لمن يقرؤها ويتفكر ويعمل بها.

في الخصال للصدوق عن ابن عباس قال: قال أبو بكر: يا رسول اللَّه! أسرع إليك الشيب؟ قال صلى الله عليه و آله: «شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعمّ يتساءلون».

والملاحظ أنّ جميع هذه السور تعكس أحوال القيامة والمسائل المهولة لتلك المحكمة العظيمة، وهذه هي التي تركت أثراً في روح النبي المقدسة.

من البديهي أنّ القراءة بدون تدبّر وتصميم على العمل لا يمكن أن تترك مثل هذا الأثر.

وَ الْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً (2) وَ النَّاشِرَاتِ نَشْراً (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَ إِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَ إِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَ إِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) ذكرت في صدر السورة ابتداءً خمسة أقسام، وذلك في خمس آيات. وهناك كلام كثير في تفسير معانيها. يقول تعالى: «وَالْمُرْسَلتِ عُرْفًا» «1». أي قسماً بالتي تُرسل تباعاً.

«فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا» التي تُسرع في حركتها كالعاصفة.

«وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا» ... التي توسّع وتنشر ما وكّلت به.

«فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا» ... التي تفرق وتفصل.

«فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا» التي تلقي بالآيات الموقظة والمذكرّة.

«عُذْرًا أَوْ

نُذْرًا» إمّا لاتمام الحجة أو للانذار.

القسم الأوّل والثاني ناظر إلى الرياح والأعاصير، والقسم الثالث والرابع والخامس

______________________________

(1) «عرفاً»: بمعنى متتابعاً، وأصله بمعنى (عرف الفرس) المتساقط بعضها على البعض الآخر، وفُسر أحياناً بالعمل الحسن والمعروف.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 341

يتعلق بنشر آيات الحق بواسطة الملائكة، ثم فصل الحق عن الباطل، وبعد ذلك إلقاء الذكر والأوامر الإلهية على الأنبياء بقصد إتمام الحجّة والإنذار.

والآن لابدّ أن نرى الغرض من هذه الأيمان، الآية التالية ترفع الستار عن هذا المعنى، فتقول: «إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ».

إنّ البعث والنشور، والثواب والعقاب والحساب والجزاء كلّها حق لا ريب فيه.

ثم ينتهي إلى تبيان علامات ذلك اليوم الموعود، فيقول: إذا تحقق ذلك اليوم الموعود فإنّ النجوم سوف تنطفي ء وتمحى «فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ». «وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ» أي انشقت.

«وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ». أي زالت وانقلعت من مكانها.

«طمست»: من مادة «طمس» وهو محو وزوال آثار الشي ء؛ وهنا إشارة إلى محو نور النجوم.

«نسفت»: من مادة «نسف»- على وزن حذف- وفي الأصل، بمعنى وضع حبوب الغذاء في الغربال وتحريكه لعزل القشور عن الحبوب، ويعني هنا تفتيت الجبال ثم نسفها في الريح، ونستوحي من بعض آيات القرآن المجيد أنّ انقراض العالم يلازم وقوع حوادث مهولة بحيث يتلاشى نظام العالم بكامله، وحلول نظام الآخرة الجديد مكان ذلك النظام.

ثم أشار القرآن بعد ذلك إلى ما يجري في البعث، فيضيف: وفي ذلك الوقت يتمّ تعيين وقت للأنبياء والرسل ليأتوا إلى ساحة المحشر ويدلوا بشهادتهم: «وَإِذَا الرُّسُلُ أُقّتَتْ» «1».

وهو كقوله: «فَلَنَسَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ» «2».

ثم يضيف تعالى: «لِأَىّ يَوْمٍ أُجّلَتْ». أي لماذا تمّ تأخير هذه الشهادة ولأي وقت؟

ثم يقول: «لِيَوْمِ الْفَصْلِ». يوم فصل الحق عن الباطل، فصل صفوف المؤمنين عن الكافرين، والأبرار عن الأشرار، ويوم حكم

اللَّه المطلق على الجميع.

ثم يبيّن عظمة ذلك اليوم أيضاً، فيقول تعالى: «وَمَا أَدْرَيكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ».

إنّ الرسول صلى الله عليه و آله بعلمه الواسع وبنظره الحاد الذي كان يرى من خلاله أسرار الغيب لم يكن مطلعاً بصورة كاملة على أبعاد عظمة ذلك اليوم، فكيف بسائر الناس.

______________________________

(1) «اقّتت» أصلها «وقّتت» من مادة «وقت»، ويعني توقيت الوقت لرسل اللَّه تعالى.

(2) سورة الأعراف/ 6.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 342

وفي آخر آية من آيات بحثنا هدد اللَّه تعالى المكذبين بيوم القيامة تهديداً شديداً وقال:

«وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ».

«ويل»: قيل هو الهلاك، وقيل المراد به العذاب المتنوع، وقيل هو وادٍ في جهنم ملي ء بالعذاب؛ وتستخدم هذه الكلمة عادة فيما يخص الحوادث المؤسفة، وهنا تحكي الآية عن مصير المكذبين المؤلم في ذلك اليوم.

المراد بالمكذّبين هنا هم المكذبون بيوم القيامة.

أَ لَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً (25) أَحْيَاءً وَ أَمْوَاتاً (26) وَ جَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَ أَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) هذه الآيات أيضاً تحذّر وبطرق مختلفة المنكرين للبعث، وتوقظهم ببيانات مختلفة من نوم الغفلة العميق؛ فتأخذ بأيديهم أوّلًا إلى ما مضى من التاريخ لتريهم الأراضي المترامية الأطراف التي كانت ملكاً للأقوام السابقين، فيقول تعالى: «أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ».

إنّ آثارهم واضحة على صفحات البسيطة. وليس على صفحات التاريخ فحسب.

«ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْأَخِرِينَ». لأنّها سنّة مستمرة لا تبعيض فيها ولا استثناء، وهل يمكن أن يعاقب جماعة لجرم ما، ويقبل ذلك الجرم من آخرين؟!

ولذا يضيف تعالى

في الآية الاخرى: «كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ».

هذه الآية هي بمنزلة بيان الدليل على هلاك الامم الاولى ويستتبعه هلاك الامم الاخرى، لأنّ العذاب الإلهي ليس فيه جانب الثأر ولا الإنتقام الشخصي. بل إنّه تابع لأصل الإستحقاق ومقتضى الحكمة.

ثم يضيف مستنتجاً: «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ».

«يومئذ»: إشارة إلى يوم البعث الذي يعاقب فيه المكذبون بالعقوبات الشديدة، والتكرار هو لتأكيد المطلب.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 343

ثم يمسك القرآن بأيديهم ليأخذهم إلى عالم الجنين ويريهم عظمة اللَّه وقدرته وكثرة مواهبه في هذا العالم الملي ء بالأسرار، ليفهموا قدرة اللَّه تعالى على المعاد والبعث من جهة وأنّهم غارقون في نعمه اللامتناهية من جهة اخرى، فيقول تعالى: «أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاءٍ مَّهِينٍ». أي تافه وحقير: «فَجَعَلْنهُ فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ».

مقرّ فيه ضمان لجميع ظروف الحياة والتربية والنمو والمحافظة على نطفة الإنسان، فهو عجيب وظريف وموزون بحيث يثير إعجاب كل إنسان.

ثم يضيف تعالى: إنّ بقاء النطفة في ذلك المكان المكين والمحفوظ إنّما هو لمدة معينة: «إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ».

مدة لا يعلمها إلّااللَّه تعالى، مدة مملوءة بالتغيرات والتحولات الكثيرة بحيث ترتدي النطفة في كل يوم لباساً جديداً من الحياة يؤدّي به إلى التكامل في داخل ذلك المخبأ.

ثم يستنتج من قدرته تعالى على خلق الإنسان الكامل والشريف من نطفة حقيرة بأنّ اللَّه تعالى نعم القادر: «فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ». وهذا الدليل اعتمده القرآن مرات عديدة لإثبات مسألة المعاد منها قوله تعالى في أوّل سورة الحج: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لّنُبَيّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ

يُحْىِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

ثم يعود في النهاية ليكرر تلك الآية وهو قوله: «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ». الويل لُاولئك الذين يرون آثار قدرة اللَّه تعالى ثم ينكرونها.

ثم يقول تعالى: «أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا* أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا».

«كفات»: على وزن (كتاب)، و «كفت» على وزن (كشف) هو جمع وضم الشي ء للآخر، ويقال أيضاً لسرعة طيران الطيور «كفات» لجمعه لأجنحته حال الطيران السريع حتى يتمكن من شق الهواء والتقدم أسرع.

والمراد هو أنّ الأرض مقر لجميع البشر، إذ تجمع الأحياء على ظهرها وتهيي ء لهم جميع ما يحتاجونه، وتضم أمواتهم في بطنها، فلو أنّ الأرض لم تكن مهيئة لدفن الأموات لسببت العفونة والأمراض الناتجة منها فاجعة لجميع الأحياء.

ثم يشير تعالى إلى إحدى النعم الإلهية العظيمة في الأرض، فيضيف: «وَجَعَلْنَا فِيهَا

مختصر الامثل، ج 5، ص: 344

رَوَاسِىَ شَامِخَاتٍ» «1». هذه الجبال التي قاربت بارتفاعها السماء، واتصلت اصولها بالبعض الآخر قد لزمت الأرض كالدرع من جهة لحفظها من الضغط الداخلي والضغوط الناتجة من الجزر والمد الخارجي، ومن جهة اخرى تمنع اصطكاك الرياح مع الأرض حيث تمدّ قبضتها في الهواء لتحركه حول نفسها وكذلك تنظم حركة الأعاصير والرياح من جهة ثالثة، ولهذا تكون الجبال باعثة على إستقرار أهل الأرض.

وفي آخر الآية إشارة إلى إحدى البركات الاخرى للجبال فيضيف تعالى: «وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتًا». ماءاً سائغاً وباعثاً للحياة، لكم ولحيواناتكم ولبساتينكم.

فإنّ كثيراً من العيون والقنوات هي من الجبال، ومصدر الأنهار العظيمة هو من الجليد المتراكم على قمم الجبال، حيث تعتبر من الذخائر المائية المهمّة للإنسان.

ثم يقول في نهاية هذا القسم: «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ».

اولئك الذين ينكرون كل هذه الآيات وعلامات قدرة اللَّه التي يرونها بأعينهم، وكذلك يشاهدون النعم الإلهية التي غرقوا فيها، ثم ينكرون البعث ومحكمة القيامة التي

هي مظهر العدل والحكمة الإلهية.

انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَ لَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَ لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَ الْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) في هذه الآيات تبيان لمصير المكذبين بيوم القيامة، والمنكرين لتلك المحكمة الإلهية العادلة، تبيان يدخل الرعب والرهبة في قلب الإنسان، ويوضح أبعاد الفاجعة. يقول تعالى:

«انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُم بِهِ تُكَذّبُونَ». انطلقوا إلى جهنم التي طالما كنتم تستهزئون بها، توجهوا

______________________________

(1) «رواسي»: جمع راسية، وهي الثابتات؛ و «شامخات»: جمع شامخ، أي عال، وتأتي بعض العبارات كالقول (شمخ بأنفه) كناية عن التكبر (مفردات الراغب).

مختصر الامثل، ج 5، ص: 345

إلى أنواع العذاب التي هيئتموها بأعمالكم السيئة.

ثم يعمد إلى مزيد من التوضيح حول هذا العذاب، فيقول سبحانه: «انطَلِقُوا إِلَى ظِلّ ذِى ثَلثِ شُعَبٍ». توجهوا نحو ظلّ من دخان خانق له ثلاث شعب: شعبة من الأعلى، وشعبة من الجهة اليمنى، وشعبة من الجهة اليسرى، وعلى هذا الأساس فإنّ دخان النار المميت هذا يحيط بهم من كل جانب ويحاصرهم.

ثم يقول تعالى: «لَّاظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِى مِنَ اللَّهَبِ». فليس في هذا الظل راحة، ولا يمنع من الإحتراق بالنار لأنّه نابع من النار.

ثم يضيف وصفاً آخر لتلك النار المحرقة: «إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ». ليس كشرر نار هذه الدنيا التي لا تكون أحياناً إلّابمقدار رأس الإبرة.

ثم ينتهي في الآية الاخرى إلى وصف آخر من أوصاف هذه النار المحرقة، فيقول تعالى:

«كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ».

وإذا كان الشرر هكذا، فكيف

بالنار المحرقة نفسها، وما جعل من العذاب الأليم في تلك النار؟!

ويعود مرة اخرى في آخر قسم من الآيات لينبّه بذلك التنبيه المكرر، فيقول: «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ».

ثم يبدأ فصلًا آخر من علامات ذلك اليوم المهول، فيضيف تعالى: «هذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ».

نعم، إنّ اللَّه يختم في ذلك اليوم على أفواه المجرمين والمذنبين كقوله في الآية (65) من سورة يس: «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ».

ثم يضيف تعالى في القول: «وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ». ليس لهم الرخصة في الكلام، ولا في الإعتذار والدفاع عن أنفسهم، لأنّ الحقائق واضحة هناك، وليس لديهم ما يقولوه، نعم يجب أن يعاقب هذا اللسان الذي أساء الإستفادة من الحرية وسعى في تكذيب الأنبياء، والإستهزاء بالأولياء، وإبطال الحق وإحقاق الباطل .. يجب أن يعاقب على أعماله بالإقفال والختم، لإبطال مفعوله، وهذا عذاب شديد وأليم بحدّ ذاته أن لا يتمكن الإنسان هناك من الدفاع عن نفسه أو الإعتذار.

في روضة الكافي عن حماد بن عثمان قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول في قول اللَّه تبارك

مختصر الامثل، ج 5، ص: 346

وتعالى «وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ»: «اللَّه أجل وأعدل وأعظم من أن يكون لعبده عذر لا يدعه يعتذر به، لكنه فلج فلم يكن له عذر». ثم يكرر تعالى في نهاية هذا المقطع قوله: «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ».

في المقطع الآخر يوجه الخطاب إلى المجرمين ليحكي عما يجري في ذلك اليوم فيقول تعالى: «هذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ». جمعنا في هذا اليوم جميع البشر من دون استثناء للحساب، وفصل الخصام في هذه العرصة والمحكمة العظمى.

ويقول: والآن إذا كان لكم قدرة على الفرار من العقاب فاعملوا ما بدا لكم: «فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ».

هل تستطيعون دفع الفدية لتتحرروا؟

أو هل يمكنكم الهرب من دائرة

نفوذ حكومتي؟

أو أنّ لكم القدرة على أن تخدعوا الملائكة الموكّلين بكم وبحسابكم؟

اعملوا ما بدا لكم ولكن اعلموا أنّكم لا تستطيعون!

ثم أنّه تعالى أعاد تلك الجملة المهددة والمنبّهة مرّة اخرى، وقال: «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ».

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَ عُيُونٍ (41) وَ فَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) من المعلوم في منهج القرآن أنّه يمزج الإنذار بالبشارة، والتهديد بالترغيب، وكذلك يذكر مصير المؤمنين في مقابل مصير المجرمين لفهم المسائل بصورة أكثر بقرينة المقابلة، وعلى أساس هذه السنّة المتّبعة في القرآن، فإنّ هذه الآيات وبعد بيان العقوبات المختلفة للمجرمين في القيامة، أشارت إلى وضع المتقين في ذلك اليوم فيقول تعالى: «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى ظِللٍ وَعُيُونٍ». ثم يضيف: «وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ».

والظريف أنّهم في هذا المضيف الإلهي يستضافون بأحسن الوجوه، كما هو الحال في الآية

مختصر الامثل، ج 5، ص: 347

التالية إذ يقول لهم: «كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

عبارة «بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ» إشارة إلى أنّ هذه المواهب لا تعطى لأيّ كان من دون عمل، ولا يمكن حصولها بالإدّعاء والتخيل والتصوّر، وإنّما يمكن نيلها والحصول عليها بالأعمال الصالحة فقط.

«هني ء»: على وزن (صبيح) هو كل شي ء ليست فيه مشقة ولا يستتبعه قلق.

وهذا إشارة إلى أنّ فواكه الجنة وأغذيتها وأشربتها ليست كأغذية الدنيا وأشربتها التي تترك أحياناً آثاراً سيئة في البدن، أو تترك أعراضاً غير مُرْضية.

ثم تؤكد الآية الاخرى على مسألة النعم وأنّها لا تمنح اعتباطاً فيضيف: «إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ».

وفي

نهاية هذا المقطع يعيد تلك الآية: «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ». الويل لمن يُحْرَم من كل هذه النعم والألطاف، إذ إنّ عذاب حسرات هذا الحرمان ليس بأقل من نيران الجحيم المحرقة!

وبما أنّ إحدى عوامل إنكار المعاد الإهتمام بلذّات الدنيا الزائلة والميل إلى الحرية المطلقة للإنتفاع بهذه اللذّات، يتوجه بالحديث في الآية التالية إلى المجرمين بلحن تهديدي فيقول:

كلوا وتمتعوا بالملذات الدنيوية في هذه الأيّام القلائل، ولكن اعلموا أنّ العذاب الإلهي ينتظركم، لأنّكم مجرمون: «كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ».

عبارة «إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ» تشير إلى أنّ مصدر العذاب الإلهي هو عمل الإنسان وذنبه، الناشي ء من عدم الإيمان أو الأسر في قبضة الشهوات.

ثم يكرر التهديد بجملة: «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ». هم اولئك الذين غُرّروا وخدعوا بزخارف الدنيا ولذاتها وشهواتها واشتروا عذاب اللَّه.

وأشار في الآية الاخرى إلى عامل آخر من عوامل الانحراف والتعاسة والتلوث، وقال:

«وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَايَرْكَعُونَ».

إنّهم لم يأبوا الركوع والسجود فحسب، بل إنّ روح الغرور والكِبَر هذه كانت منعكسة على جميع أفكارهم وحياتهم، فما كانوا يسلّمون للَّه، ولا لأوامر النبي صلى الله عليه و آله، ولا يقرّون بحقوق الناس، ولا يتواضعون للَّه تعالى وللناس.

ثم يعيد هذه الآية للمرّة العاشرة والأخيرة إذ يقول: «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 348

وفي آخر آية من آيات البحث- وهي آخر آية من السورة- يأتي السياق ممزوجاً بالعتاب ومليئاً بالملائمة، فجاءت الآية بصيغة الاستفهام التعجبي، إذ يقول «فَبِأَىّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ». إنّ من لم يؤمن بالقرآن الذي لو انزل على الجبال لتصدعت وارتجفت، فسوف لن يسلم ولن يؤمن بأي كتاب سماوي، ولا يقبل بأي منطق عقلائي، وهذا يدّل على روح العناد والتعصب.

«نهاية تفسير سورة المرسلات»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 349

78. سورة النبأ

محتوى السورة: تمتاز أغلب السور القرآنية في الجزء

الأخير من القرآن بأنّها نزلت في مكة، وتؤكّد في مواضيعها على مسألة: المبدأ، المعاد، البشارة والإنذار.

ويمكننا تلخيص محتوى السورة بما يلي:

1- السؤال عن «النبإ العظيم» وهو يوم القيامة كحدث بالغ الخطورة.

2- الإستدلال على أمكانية المعاد والقيامة، من خلال الإستدلال بمظاهر القدرة الإلهية في: السماء، الأرض، الحياة الإنسانية والنعم الربانية.

3- بيان بعض علامات بدء البعث.

4- تصوير جوانب من عذاب الطغاة الأليم.

5- التشويق للجنة، بوصف أجوائها الفياضة بالنعم.

6- وتختم السورة بالإنذار الشديد من عذاب قريب، بالإضافة لتصوير حال الذين كفروا.

واشتق اسم السورة من الآية (2)، ويطلق عليها أيضاً اسم سورة (عمّ) نسبة إلى أوّل كلمة وردت في السورة بعد البسملة.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ سورة عمّ يتسائلون سقاه اللَّه برد الشراب يوم القيامة».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 350

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ عمّ يتسائلون لم يخرج سنته إذا كان يدمنها في كل يوم حتى يزور البيت الحرام».

عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) خبر هام: تأتي الآية الاولى لتستفهم بتعجب: «عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ». ودون انتظار للجواب، تجيب الآية الثانية ما سُئل عنه في الآية الاولى: «عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ». ذلك الخبر: «الَّذِى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ».

أورد المفسرون آراءً متباينة في المقصود من «النبإ العظيم»، فمنهم من اعتبره إشارة إلى يوم القيامة، ومنهم من قال بأنّه إشارة إلى القرآن الكريم، ومنهم من اعتبره إشارة إلى اصول الدين من التوحيد حتى المعاد.

بنظرة دقيقة إلى مجموع آيات السورة وسياق طرحها، وما ذكرته الآيات اللاحقة من ملامح القدرة الإلهية بعرض بعض مصاديقها في السماء والأرض، وبعد هذا العرض

تؤكّد إحدى الآيات: «إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا». ثم مخالفة وعدم تقبل المشركين لمبدأ «المعاد»، كل ذلك يدعم التّفسير الأوّل القائل: بأنّ النبإ العظيم هو يوم القيامة.

«النبإ العظيم» كمفهوم قرآني- مثل سائر المفاهيم القرآنية- له من السعة ما يشمل كل ما ذكر من معان، وإذا كانت قرائن السورة تدلّ على أنّ المقصود منه «المعاد»، فهذا لا يمنع من أن تكون له مصاديق اخرى.

ولذا نجد في روايات أهل البيت عليهم السلام وفي بعض روايات أهل السنّة أنّ «النبإ العظيم» بمعنى إمامة أمير المؤمنين علي عليه السلام، حيث كانت مثار جدال ونقاش بين جمع من المسلمين، وهناك من فسّر «النبإ العظيم» بالولاية بشكل عام.

ويضيف القرآن قائلًا: «كَلَّا سَيَعْلَمُونَ». فليس الأمر كما يقولون أو يظنون.

ويجدد التأكيد: «ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ».

فسيعلمون في ذلك اليوم الواقع حتماً: «أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِى

مختصر الامثل، ج 5، ص: 351

جَنبِ اللَّهِ» «1». يوم ينهال العذاب الإلهي على الكافرين فيقولون بصرخات مستغيثة: «هَلْ إِلى مَرَدّ مّن سَبِيلٍ» «2».

بل وإنّ طلب العودة إلى الحياة لجبران خطيئاتهم سيطرح في اولى لحظات الموت، حين تزال الحجب عن عين الإنسان فيرى بام عينيه حقيقة عالم الآخرة، فيستيقن حياة البرزخ والمعاد، ولا يبقى عنده إلّاأن يقول: «رَبّ ارْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ» «3».

أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً (6) وَ الْجِبَالَ أَوْتَاداً (7) وَ خَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً (8) وَ جَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً (9) وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً (10) وَ جَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً (11) وَ بَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً (12) وَ جَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً (13) وَ أَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَ نَبَاتاً (15) وَ جَنَّاتٍ أَلْفَافاً (16) كل شي ء بأمرك يا ربّ ...:

تجيب الآيات المذكورة على أسئلة منكري المعاد والمختلفين في هذا «النبإ العظيم» لأنّها تستعرض جوانب معينة من نظام الكون وعالم الوجود الموزون، مع تبيانها لبعض النعم الإلهية الواسعة ذات التأثير الفعال في حياة الإنسان، وذلك من جهة دليل على قدرة الباري عزّ وجل المطلقة، ومنها قدرته على إعادة الحياة إلى الإنسان بعد موته.

ومن جهة اخرى إشارة إلى أنّ الكون وما فيه من دقّة تنظيم، لا يمكن أن يُخلق لمجرد العبث واللهو، بل لابدّ من وجود حكمة بالغة لهذا الخلق. في حين أنّه لو كان الموت يعني نهاية كل شي ء، فمعنى ذلك أنّ وجود العالم عبث وخالٍ من أيّة حكمة.

وبهذا فقد استدل القرآن الكريم على حقيقة «المعاد» بطريقين:

1- برهان القدرة.

2- برهان الحكمة.

وقد عرضت الآيات الإحدى عشر، اثنتي عشر نعمة إلهية، باسلوب ملؤه اللطف والمحبّة، مصحوباً بالاستدلال.

______________________________

(1) سورة الزمر/ 56.

(2) سورة الشورى 44.

(3) سورة المؤمنون/ 99 و 100.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 352

وتشرع الآيات بالإشارة إلى نعمة الأرض، فتقول: «أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا».

«المهاد»: المكان الممهّد الموطأ؛ واختيار هذا الوصف للأرض ينم عن مغزىً عميق ..

فمن جهة: نجد في قسم واسع من الأرض الإستواء والسهولة، فتكون مهيئة لبناء المساكن والزراعة.

ومن جهة ثانية: اودع فيها كل ما يحتاجه الإنسان لحياته من المواد الأوّلية إلى المعادن الثمينة، سواء كان ذلك على سطحها أم في باطنها.

ومن جهة ثالثة: تحلل الأجساد الميتة التي تودع فيها، وتبيد كل الجراثيم الناشئة عن هذه العملية بما أودع فيها الباري من قدرة على ذلك.

ومن جهة رابعة: ما لحركتها السريعة المنظمة ولدورانها حول الشمس وحول نفسها من أثر على حياة البشرية خاصة، بما ينجم عنها الليل والنهار والفصول الأربعة.

وبما أنّ نعمة استواء الأرض وسهولتها قد تهمش نعمة الجبال،

فقد جاءت الآية التالية لتبيّن أهمية الجبال ودورها المهم في حياة الإنسان: «وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا».

تشكل الجبال آيةً ربانية زاخرة بالعطاء، وتؤدي وظائف كثيرة، منها أنّها تحفظ القشرة الأرضية من الإنهيار أمام الضغط الحاصل من المواد المذابة داخلها، وذلك لعمق تجذرها المترابط داخل الأرض ... وتحافظ عليها من تأثيرات جاذبية القمر في عملية المد والجزر ...

وتشكل جدران الجبال سداً منيعاً للتقليل من آثار الرياح الشديدة والعواصف المدمرة ...

وتقوم بخزن المياه وادخار أنواع المعادن الثمينة في باطنها ..

بالإضافة لكل ما ذكر، فتوزيع الجبال على الأرض بالشكل الموجود وتعاملًا مع حركة الأرض يعمل على تنظيم حركة الهواء المحيط بالكرة الأرضية بالشكل الذي يؤثر إيجابياً على الحياة فوق الأرض. وفي هذا المجال، يقول العلماء: لو كان سطح الكرة الأرضية مستوياً كلّه، لتولدت عواصف شديدة لا يمكن السيطرة عليها جراء حركة الأرض وسكون الغلاف الجوي، ولفقدت الأرض صلاحيتها بتوفير مستلزمات السكن للإنسان، لأنّ استمرار الإحتكاك الحاصل من حركة الأرض الدائمة وسكون الغلاف الجوي سيؤدّي بلا شك إلى زيادة حرارة القشرة الأرضية مما يجعل الأرض غير صالحة لسكنى الإنسان.

وبعد أن بيّن القرآن هذين النموذجين من النعم الإلهية والآيات الآفاقية، عرج إلى ذكر ما أنعم الباري على الإنسان من النعم والآيات الأنفسية فقال: «وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 353

«الأزواج»: جمع زوج، المتشكل من الذكر والانثى ويخرج الإنسان إلى حياة الوجود من هذين الجنسين، ويستمر وجوده في الحياة من خلال عملية التناسل التي تساهم في استقرار الإنسان من الناحيتين الجسمية ولنفسية، كما تشير إلى هذا الآية (21) من سورة الروم: «وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً».

ويشير بعد ذلك إلى نعمة النوم، فيقول: «وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا».

«السبات»: من

السبت، بمعنى القطع، ثم استعملت بمعنى (تعطيل العمل) لأجل الإستراحة.

وبالرغم من أنّ النوم يشكّل ثلث حياة الإنسان، ولكن الإنسان لا زال يجهل الكثير من خفاياه، بل ولا زال الإنسان (منذ القديم وحتى الآن) لا يعرف سبب تعطيل بعض فعاليات الدماغ في مدّة معينة وتغمض العين أجفانها وتسكن جميع أعضاء البدن.

ومع أنّ ذكر النوم في الآية قد جاء باعتباره إحدى النعم الإلهية، إلّاأنّ الآية المباركة قد تشير بذلك إلى الموت، لما للنوم من شبه بالموت، والإستيقاظ بالبعث.

وبعد الإنتهاء من ذكر نعمة النوم، ينتقل القرآن الكريم لذكر نعمة الليل، فيقول:

«وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاسًا».

وتضيف الآية التالية مباشرة: «وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا».

وشبّهت الآية الليل باللباس والغطاء الذي يُلقى على الأرض ليشمل كل من على الأرض، وليجبر فعاليات الموجودات الحيّة المتعبة على الأرض بالتعطل عن الحركة وممارسة النشاطات، ويخيم الظلام والسكون ليضفي على الأرض الهدوء ليستريح الناس من رحلة العمل والمعاناة خلال النهار، وليتمكنوا من مواصلة نشاطهم لليوم التالي لأنّ النوم المريح لا يتيسر للانسان إلّافي أجواء مظلمة.

وبالإضافة لكل ما ذكر، فحلول الليل يعني زوال نور الشمس وإلّا لانعدمت الحياة واحترقت جميع النباتات والحيوانات في حال استمرار شروق الشمس.

وخاتمة المقال: إنّ تعاقب الليل والنهار وما فيهما من نظام دقيق آية بيّنة من آيات خلقه سبحانه وتعالى، إضافة إلى أنّه تقويم طبيعي لتفصيل الزمن في حياة الإنسانية على مرّ التاريخ.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 354

وتأتي الآية التالية لتنقلنا من عالم الأرض إلى عالم السماء حين تقول: «وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا».

قد يراد من العدد المذكور بالآية «الكثرة»، للإشارة إلى كثرة الأجرام السماوية والمنظومات الشمسية والمجرات والعوالم الواسعة لهذا الوجود، والتي تتمتع بخلق محكم وبناء رصين لا خلل فيه ... ويمكن أن يراد منه العدد، للإشارة

إلى أنّ الكواكب وما يبدو لنا منها إنّما تعود إلى السماء الاولى، كما أشارت الآية (6) من سورة الصّافات إلى ذلك: «إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ». وثمّة سماوات ستة وعوالم اخرى وراء السماء الاولى «الدنيا» خارجة عن حدود معرفتنا.

وبعد أن أشار القرآن إجمالًا إلى السماوات، يشير إلى نعمة الشمس، فيقول: «وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا».

«الوهّاج»: من الوهج، بمعنى النور والحرارة التي تصدر من النار.

وإطلاق هذه الصفة على الشمس، للإشارة إلى نعمتين كبيرتين وهما: (النور) و (الحرارة) ويتفرع عنهما نعم وعطايا كثيرة يزخر بها عالمنا.

ولا تتحدد فوائد نور الشمس بإضاءة الدنيا للإنسان، بل لها أثر كبير في نمو سائر الكائنات الحيّة.

وإضافة لكل ما تقدم، فلحرارة الشمس أثر أساس في: تكوّن الغيوم، حركة الهواء، نزول الأمطار، وسقي الأراضي اليابسة.

ولأشعة الشمس كذلك الأثر البالغ في مكافحة الجراثيم، لاحتوائها على الأشعة ما وراء الحمراء التي تقتل الجراثيم.

وأشعة الشمس في واقعها: نور صحي مجاني دائمي، يصلنا بكيفية لا هي بالشديدة المحرقة، ولا هي بالقليلة العديمة التأثير.

وبعد ذكر نعمة النور والحرارة يتناول القرآن نعمة حياتية اخرى لها إرتباط بأشعة الشمس، ويقول: «وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا».

«المعصرات»: جمع «معصر»، من العصر بمعنى الضغط .. والكلمة تشير إلى أنّ الغيوم تقوم بعملية وكأنّها تعصر نفسها عصراً لكي ينهمر منها الماء على شكل أمطار.

«الثجاج»: من الثج، بمعنى سيلان الماء بكمية كبيرة، و «ثجاج» صيغة مبالغة، ويراد بها هنا غزارة الأمطار المنهمرة نتيجة العصر الحاصل للغيوم.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 355

وبالإضافة لكون المطر منبعاً لكثير من مصادر الخير والبركة، فهو: ملطف للجو، مزيل للتلوثات الموجودة في الجو، مخفض للحرارة ومعدل للبرودة، مقلل لأسباب الأمراض، يمنح الإنسان روحاً متجددة ونشاطاً، ومع كل ذلك .. فقد ذكر القرآن ثلاث فوائد

اخرى له:

«لّنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا». «وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا». «ألفافاً»: أي إلتفّ بعضها ببعض لكثرة الشجر.

والآيتان تشيران إلى ما يستفيد منه الإنسان والحيوان من المواد الغذائية التي تخرج من الأرض، فالحبوب الغذائية تشكل قسماً مهمّاً من المواد الغذائية (حبّاً)، والخضر تشكل القسم الآخر (ونباتاً)، وتأتي الفاكهة لتشكل القسم الثالث (وجنّات).

إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً (18) وَ فُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً (19) وَ سُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً (20) سيأتي اليوم الموعود: الآية الاولى من الآيات أعلاه بمثابة نتيجة لما تعرضت له الآيات السابقة ... «إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا».

والتعبير ب «يوم الفصل» يحمل بين ثناياه إشارات كثيرة، فسيحدث في ذلك اليوم:

فصل الحق عن الباطل.

فصل المؤمنين الصالحين عن المجرمين.

فصل الوالدين عن أولادهم، والأخ عن أخيه ...

و «الميقات»: من الوقت، الميعاد من الوعد، بمعنى الوقت المعين والمقرر، وإنّما سمّيت الأماكن التي يحرم منها حجاج بيت اللَّه الحرام ب «المواقيت» لأنّ الاجتماع فيها يكون في وقت معين.

ويتناول القرآن الكريم بعض خصائص ذلك اليوم العظيم، فيقول: «يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا».

ويستفاد من آيات القرآن أنّ ثمّة نفختان عظيمتان ستحدثان باسم (نفخ الصور) .. ففي النفخة الاولى سينهار كل عالم الوجود، ويخرّ ميتاً كل من في السماوات والأرض، وفي النفخة الثانية يتجدّد عالم الوجود وتعود الحياة إلى الأموات مرّة اخرى، ليقوم بعدها يوم القيامة وأمّا ما ورد في الآية فيختص بنفخة الصور الثانية.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 356

وتأتي الآية الاخرى لتقول: «وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا». فاتصل به عالم الإنسان بعالم الملائكة «1».

وتأتي الآية الأخيرة لتخبرنا عن حال الجبال في ذلك اليوم الحق: «وَسُيّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا».

بملاحظة ما جاء في القرآن الكريم بخصوص مصير الجبال ليوم القيامة

تظهر لنا أنّ الجبال ستطويها مراحل متعاقبة، تبدأ حركتها من: «وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا» «2».

ثم تُحمل وتُدك: «وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً» «3».

فتكون تلالًا من الرمال المتراكمة: «وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا» «4».

فتصبح كأصواف منفوشة: «وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ» «5».

فتتحول غباراً متناثراً في الفضاء: «وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا* فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنْبَثًّا» «6».

ولا يبقى منها أخيراً إلّاالأثر، كما أشارت لذلك الآية المبحوثة.

إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَ لَا شَرَاباً (24) إِلَّا حَمِيماً وَ غَسَّاقاً (25) جَزَاءً وِفَاقاً (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَاباً (27) وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً (28) وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً (30) جهنم ... المرصاد الرهيب: بعد أن بيّن القرآن الكريم في الآيات السابقة بعض أدلة المعاد وتناول قسماً من حوادث يوم القيامة، يذكر في هذه الآيات ما يؤول إليه حال المجرمين، فيقول: «إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا». وهي: «لِّلطَّاغِينَ مَابًا». وأنّهم: «لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا».

«المرصاد»: اسم مكان يختفى فيه للمراقبة؛ و «المآب»: هو محل الرجوع، ويأتي أحياناً بمعنى المنزل والمقر، وهو المقصود في هذه الآية.

______________________________

(1) الميزان في تفسير القرآن 20/ 166 ذيل الآية مورد البحث.

(2) سورة طور/ 10.

(3) سورة الحاقّة/ 14.

(4) سورة المزمّل/ 14.

(5) سورة القارعة/ 5.

(6) سورة الواقعة/ 5 و 6.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 357

و «الأحقاب»: جمع (حقب) على وزن (قفل)، بمعنى برهة زمانية غير معينة.

وتشير الآيات- بعد ذلك- إلى جانب صغير من عذاب جهنم الأليم، بالقول: «لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا». «إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا»، إلّاظلّ من الدخان الغليظ الخانق كما أشارت إلى ذلك الآية (43) من سورة الواقعة: «وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ». «الحميم»: هو الماء الحار جدّاً؛

و «الغسّاق»:

هو ما يقطر من جلود أهل النار من الصديد والقيح.

في حين أنّ أهل الجنة يسقيهم ربّهم جلّ شأنه بالأشربة الطاهرة، كما جاء في الآية (21) من سورة الإنسان: «وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا».

ولكن، لِمَ هذا العذاب الأليم؟ فتأتي الآية التالية: إنّما هو: «جَزَاءً وِفَاقًا».

ولِمَ لا يكون كذلك .. وقد أحرقوا في دنياهم قلوب المظلومين، وتجاوزوا بتسلطهم وظلمهم وشرّهم على رقاب الناس دون أن يعرفوا للرحمة معنى، فجزائهم يناسب ما اقترفوا من ذنوب عظام.

ويذكر القرآن سبب الجزاء فيقول: «إِنَّهُمْ كَانُوا لَايَرْجُونَ حِسَابًا».

وبعبارة اخرى: إنّ عدم الإيمان بالحساب سبب للطغيان، فيكون الطغيان سبباً لذلك الجزاء الأليم.

لأنّهم تناسوا حساب يوم القيامة بالكلية: ولم يفرزوا له مكاناً في كل حياتهم.

ومباشرة يضيف القرآن القول: «وَكَذَّبُوا بَايَاتِنَا كِذَّابًا».

فقد أحكمت الأهواء النفسانية قبضتها عليهم حتى جعلتهم يكذبون بآيات اللَّه تكذيباً شديداً، وأنكروها إنكاراً قاطعاً ليواصلوا أمانيهم الإجرامية باتباعهم المفرط لأهوائهم النفسانية ونوازعهم الدنيوية.

ينبه القرآن الطغاة على وجود الموازنة بين الجرم والعقاب في العدل الإلهي، فيقول:

«وَكُلَّ شَىْ ءٍ أَحْصَيْنهُ كِتَابًا».

فلا تظنوا أنّ شيئاً من أعمالكم سيبقى بلا حساب أو عقاب، ولا تساوركم الشكوك بعدم عدالة العقوبات المقررة لكم.

وفي هذا المجال، يقول القرآن: «وَكُلُّ شَىْ ءٍ فَعَلُوهُ فِى الزُّبُرِ* وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ

مختصر الامثل، ج 5، ص: 358

مُّسْتَطَرٌ» «1» .. وفي موضع آخر يقول: «وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَءَاثَارَهُمْ» «2». ولذلك يصرخ المجرمون بالقول: «يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هذَا الْكِتَابِ لَايُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا» «3».

حينما يستلمون كتابهم الحاوي على كل ما فعلوه في الحياة الدنيا. وممّا لا شك فيه، أنّ إدراك حقيقة الآيات الربانية بكامل القلب، سوف يدفع الإنسان لأن يكون دقيقاً في جميع أعماله، وسيكون اعتقاده الجازم بمثابة السدّ المنيع بينه وبين ارتكاب الذنوب، ومن العوامل المهمّة

والمؤثرة في العملية التربوية.

ويتغيّر لحن الخطاب في الآية الأخيرة من الآيات المبحوثة، فينتقل من التكلم عن الغائب إلى مخاطبة الحاضر: ويهدد القرآن بنبرات غاضبة اولئك المجرمين، ويقول: «فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا».

وهذا هو جزاء اولئك الذين يواجهون دعوات الأنبياء الداعية إلى اللَّه والإيمان والتقوى، بقولهم: «سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ» «4».

حتى روي عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «هذه الآية أشدّ ما في القرآن على أهل النار» «5».

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً (31) حَدَائِقَ وَ أَعْنَاباً (32) وَ كَوَاعِبَ أَتْرَاباً (33) وَ كَأْساً دِهَاقاً (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَ لَا كِذَّاباً (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً (37) ممّا وعد اللَّه المتقين: كان الحديث في الآيات السابقة منصباً حول خاتمة المجرمين والطغاة وما يلاقونه من أليم العذاب وموجباته، وينتقل الحديث في الآيات أعلاه لتفصيل

______________________________

(1) سورة القمر/ 52 و 53.

(2) سورة يس/ 12.

(3) سورة الكهف/ 49.

(4) سورة الشعراء/ 136.

(5) تفسير الكشاف 4/ 210؛ وتفسير الصافي 5/ 276.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 359

بعض ما وعد اللَّه المؤمنين والمتقين من النعم الخالدة والثواب الجزيل، عسى أن يرعوي الإنسان ويتبع طريق الحق من خلال مقايسته لما يعيشه كل من الفريقين، على ضوء تفكيره بمصيره الأبدي. فيقول مبتدءً الحديث: «إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا».

ومن مفردات الفوز والسعادة: «حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا».

وقد روي عن النبي صلى الله عليه و آله في خصوص العنب أنّه قال: «خير فواكهكم العنب».

ويتطرق القرآن إلى نعمة اخرى ممّا وعد اللَّه به المتقين في الجنة، فيقول: «وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا».

«الكواعب»: جمع «كاعب»، وهي البنت حديثة الثدي، للإشارة إلى شباب زوجات المتقين في الجنة؛ و «الأتراب»:

جمع «ترب»، ويطلق على مجموعة الأفراد المتساوين في العمر. قيل: إنّها من «الترائب» وهي: اضلاع الصدر، وذلك لما بينهما من شبه من حيث التساوي والتماثل.

وتأتي النعمة الرابعة: «وَكَأْسًا دِهَاقًا».

وهو مُذك للعقل، منشط للروح ومنعش للقلب.

ودفعاً لما يتبادر إلى الأذهان من تبعات شراب الدنيا الشيطاني، يقول القرآن: «لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا».

فالجنة خالية من: الأكاذيب، الهذيان، التهم، الإفتراءات، تبرير الباطل، بل وكل ما كان يؤذي قلوب المتقين في الحياة الدنيا .. إنّها الجنة! وخير تصوير لها ما جاء في الآية (62) من سورة مريم: «لَّايَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلمًا».

وفي آخر المطاف يذكر القرآن الكريم تلك النعمة المعنوية التي تفوق كل النعم علوّاً:

«جَزَاءً مِن رَبّكَ عَطَاءً حِسَابًا».

وأيّة بشارة ونعمة أسمى وأجل، من أن أكون وأنا العبد الضعيف، موضع ألطاف وإكرام اللَّه جلّ وعلا.

وفي آخر آية من الآيات المبحوثة، يضيف: «رَّبّ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ».

وبما أنّ صفة «الرحمن» تشمل رحمة اللَّه العامّة لكل خلقه، فيمكن حمل إشارة الآية إلى أنّ اللَّه تبارك وتعالى يشمل برحمته أهل السماوات والأرض في الحياة الدنيا، إضافة لما وعد به المؤمنين من عطاء دائم في الجنة.

وذيل الآية يقول: «لَايَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 360

يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قَالَ صَوَاباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَ يَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً (40) رأينا في الآيات السابقة أنّها تحدثت عن بعض عقوبات الظالمين والطواغيت، وبعض المواهب والنعم المتعلقة بالصالحين في يوم القيامة، وتتناول الآيات أعلاه بعض صفات وحوادث يوم القيامة، وتشرع بالقول ب «يَوْمَ يَقُومُ

الرُّوحُ وَالْمَلِكَةُ صَفًّا لَّايَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقَالَ صَوَابًا».

وبلا شك فإنّ قيام الروح والملائكة صفّاً يوم القيامة، وعدم تكلمهم إلّابإذنه سبحانه، إنّما هو مثولًا للأوامر الإلهية وطاعة، كما هو حالهم قبل قيام القيامة، فهم بأمره يعملون ولكن في يوم القيامة سيتجلّى أمتثالهم للَّه أكثر وبشكل أوضح.

والمراد من «الروح» في الآية المبحوثة هو كونه أحد ملائكة اللَّه العظام، والذي يبدو من بعض الآيات أنّه أعظم من جبرائيل وبدلالة ما روى على بن إبراهيم عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «هو ملك أعظم من جبرائيل وميكائيل».

وعلى أيّة حال، فسواء كان «الروح» من الملائكة أو من غيرهم، فإنّه سيقف يوم القيامة مع الملائكة صفّاً بانتظار أوامر الخالق سبحانه، وسيكون هول المحشر بشكل بحيث لا يقوى أيّ من الخلق للتحدث معه.

في تفسير مجمع البيان: روى معاوية بن عمار عن الإمام الصادق عليه السلام قال سئل عن هذه الآية، فقال: «نحن واللَّه المأذون لهم يوم القيامة والقائلون».

قال: جعلت فداك ما تقولون؟

قال: «نُمجّد ربّنا، ونصلّي على نبيّنا صلى الله عليه و آله ونشفع لشيعتنا، فلا يردنا ربّنا».

ونستفيد من هذه الرواية: أنّ الأنبياء والأئمة عليهم السلام سيقفون صفّاً يوم القيامة مع الملائكة والروح، وسيكونون من المأذون لهم في الكلام والشفاعة، وسيكون حديثهم منصباً حول الذكر والثناء والتسبيح للباري عزّ وجل.

ويشير القرآن واصفاً ذلك اليوم الذي يقوم فيه الناس والملائكة أجمعون يوم الفصل،

مختصر الامثل، ج 5، ص: 361

يوم عقاب العاصين وثواب المتقين، يشير بقوله: «ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ».

«الحق»: هو الأمر الثابت واقعاً، والذي تحققه قطعي. وهذا المعنى ينطبق تماماً على يوم القيامة، لأنّه سيعطى كل إنسان حقّه، إرجاع حقوق المظلومين من الظالمين، وتتكشف كل الحقائق التي كانت مخفية على الآخرين .. فإنّه بحق: يوم

الحق، وبكل ما تحمل الكلمة من معنى.

وإذا ما التفت الإنسان إلى هذه الحقيقة (حقيقة يوم القيامة) فسيتحرك بدافع قوي نحو اللَّه عزّ وجل للحصول على رضوانه سبحانه بإمتثال أوامره تعالى .. ولهذا يقول القرآن مباشرة: «فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبّهِ مَابًا».

فجميع مستلزمات التوجه والحركة نحو اللَّه متوفرة بعد أن بيّن طريق الحق وأشار إلى معالم سبل الشيطان، بلغ اللَّه أوامره بواسطة الأنبياء والرسل وبالقدر الكافي، أودع في الإنسان العقل (النبي الباطن)، رغّب المتقين بالمفاز، أنذر المجرمين عذاباً أليماً، عيّن يوماً لمحكمة العدل الإلهي بيّن اسلوب المحاكمة، ولم يبق للإنسان سوى اختيار ما يتخذه إلى ربّه مآباً، وبمحض إرادته.

ثم يؤكّد القرآن على مسألة عقاب المجرمين الذين يتوهمون أنّه يوم بعيد أو نسيئة، يقول القرآن ... إنّ عقاب المجرمين لواقع، ويوم القيامة لقريب: «إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا».

ويقول أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة (103) نهج البلاغة: «كل آت قريب دان».

ولِم لا يكون قريباً ما دام الأساس في العذاب الإلهي هو نفس أعمال الإنسان والتي هي معه على الدوام: «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ» «1».

وبعد أن وجّه الإنذار للناس، يشير القرآن إلى حسرة الظالمين والمذنبين في يوم القيامة، حين لا ينفع ندم ولا حسرة، إلّامن أتى اللَّه بقلب سليم: «يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِى كُنتُ تُرَابًا».

وأساساً فإنّ تجسّم الأعمال ومرافقتها للإنسان من أفضل المكافآت للمطيعين وأشدّ عقوبة للعاصين.

نعم، فقد يصل الأمر بالإنسان، وعلى الرغم من كونه أشرف المخلوقات، لأنّ يتمنى أن يكون والجمادات بدرجة واحدة، لما بدر منه من كفر وذنوب.

______________________________

(1) سورة العنكبوت/ 54.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 362

وتصور لنا الآيات القرآنية أحوال الكافرين والمجرمين، وشدّة تأثرهم وتأسفهم وندمهم على ما فعلوا في دنياهم، يوم

الفزع الأكبر، فتقول الآية (56) من سورة الزمر: «يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِى جَنبِ اللَّهِ».

وتقول الآية (12) من سورة السّجدة: «فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا».

أو ما يقوله كل فرد منهم- كما جاء في الآية المبحوثة-: «يَا لَيْتَنِى كُنتُ تُرُابًا».

«نهاية تفسير سورة النبأ»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 363

79. سورة النازعات

محتوى السورة: تتلخص مواضيع هذه السورة بستة أقسام:

1- التأكيد مراراً على مسألة المعاد وتحققه الحتمي.

2- الإشارة إلى أهوال يوم القيامة.

3- عرض سريع لقصة موسى عليه السلام مع الطاغي فرعون، تسلية للنبي صلى الله عليه و آله والمؤمنين، وإنذاراً للمشركين الطغاة، وإشارة إلى ما يترتب على إنكار المعاد من سقوط في مستنقع الرذيلة.

4- طرح بعض النماذج والمظاهر لقدرة الباري سبحانه في السماء والأرض، للاستدلال على إمكان المعاد والحياة بعد الموت.

5- تعود الآيات مرّة اخرى، لتعرض بعض حوادث اليوم الرهيب، وما سيصيب الطغاة من عقاب وما سينال الصالحون من ثواب.

6- وفي النهاية، يأتي على خفاء تاريخ وقوع يوم القيامة، والتأكيد على حتمية وقوعه وقربه.

سميت السورة ب (النازعات) لورود هذه الكلمة في أوّل آية منها.

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع: ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ سورة

مختصر الامثل، ج 5، ص: 364

والنازعات لم يكن حبسه وحسابه يوم القيامة إلّاكقدر صلاة مكتوبة حتى يدخل الجنة».

وليس غربياً أن ينال الإنسان بكل ما ذكر جزاءً من عند اللَّه، إذا ما أمعن في محتوى السورة وتدبّر إشاراتها الموقظة للنفوس الغافلة، والمعرّفة بوظائف الإنسان في حياته، فمن لم يكتف بترديد ألفاظ السورة، وعمل بها بعد الإمعان والتدبر فحري أن يجزى بما وعد الحق.

وَ النَّازِعَاتِ غَرْقاً (1) وَ النَّاشِطَاتِ نَشْطاً (2) وَ السَّابِحَاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً (5) القسم بالملائكة: جاء

القَسم القرآني بخمسة أشياء مهمة، لتبيان حقيقة وحتمية تحقق يوم القيامة (المعاد)، فيقول: «وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ...».

«النازعات»: من «النزع»، ونزع الشي ء جذبه من مقرّه.

«الغَرق»: هو الرسوب في الماء، ويأتي كذلك فيمن غمره البلاء؛ والمقصود في هذه الآية ليس الغرق في الماء، بل هو القيام بعمل ما إلى أقصى حدّ ممكن.

«النّاشطات»: من «النشط»، هي العُقد التي يسهل حلها، فيكون المعنى عموماً: هو التحرك بسهولة.

«السابحات»: من «السبح»، وهو الحركة السريعة في الماء أو الهواء.

«السابقات»: من «السبق»، وهو التقدم في السير.

«المدبرات»: من «التدبير»، وهو التفكير في عاقبة الامور، وأرادت الآية القيام بالأعمال على أحسن وجه.

وبعد هذه التعريفات الموجزة نشرع بالتفسير:

إنّ القسم المذكور يتعلق بالملائكة الموكلة بقبض أرواح الكفار والمجرمين، ولكون تلك الأرواح قد رفضت التسليم للحق، فيكون فصلها عن أجسادها بشدّة.

ويتعلق كذلك، بالملائكة الموكلة بقبض أرواح المؤمنين برفق ويُسر، وسرعة في إتمام الأمر.

والملائكة التي تسرع في تنفيذ الأوامر الإلهية.

ثم الملائكة التي تتسابق في تنفيذ الأوامر الإلهية.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 365

وأخيراً، يتعلق القسم بالملائكة التي تدبّر شؤون العالم بأمره سبحانه وتعالى.

يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَ إِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) صيحة الموت المرعبة: بعد أن أكّد القرآن الكريم على حقيقة القيامة وحتمية وقوعها في الآيات السابقة، تتعرض الآيات أعلاه لبعض ما يصاحب يوم القيامة من علامات وأحداث، فتقول: «يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ». أي: يوم تحدث الزلزلة العظيمة المهولة.

ثم: «تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ».

«الراجفة»: من «الرجف»، بمعنى الإضطراب والتزلزل.

«الرادفة»: من «الردف»، وهو الشخص أو الشي ء الذي يأتي بعد نظيره تتابعاً.

إنّ «الراجفة» هي الصيحة

ونفخة الصور الاولى التي تعلن عن موت جميع الخلائق، و «الرادفة» هي الصيحة ونفخة الصور الثانية التي يبعث فيها الخلق مرّة اخرى ليعيشوا يوم القيامة.

وتأتي الآية الاخرى لتقول: «قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ».

فقلوب العاصين شديدة الإضطراب خوفاً من الحساب والجزاء.

ويكون التزلزل الداخلي من الشدّة بحيث يظهر على وجوه كل المذنبين، ولذا يقول القرآن: «أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ».

فيبدو الإضطراب والخوف ظاهراً على أعين المذنبين، وتتوقف حركتها وكأنّها قد فقدت حاسة النظر لما أصابها من خوف شديد.

وفي الآية التالية ينتقل الحديث من أخبار يوم القيامة إلى الحياة الدنيا: «يَقُولُونَ أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَافِرَةِ».

«الحافرة»: من «الحفر» بمعنى شقّ الأرض، وما ينتج من ذلك يسمى (حفرة).

و «الحافرة»: كناية لمن يُرد من حيث جاء، كما لو سار إنسان على أرض، فيترك فيها حفراً لتحمل آثار قدمه، ثم يعود إلى نفس تلك الحفر، فالحافرة: تعني الحالة الاولى.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 366

وتستمر الآية في سرد كلامهم: «أَءِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً». فهكذا هو حال ودأب منكري المعاد وعلى الدوام باستفسارهم الدائم حول المعاد، وبقولهم المعروف: كيف للعظام البالية النخرة والتي تحولت إلى ذرات تراب أن تعود مرّة اخرى جسماً كاملًا، والأكثر من هذا .. أن تسري فيه الحياة؟ ولكنّهم لم يفقهوا إلى أنّهم خلقوا من ذلك التراب، فكيف أصبحوا بهذه الهيئة الحيّة بعد أن لم يكونوا شيئاً؟

ولا يكتفي منكرو المعاد بحال الإعتراض على ما وعدهم به الباري سبحانه، بل وتحولوا إلى حال الإستهزاء بأحد اصول دين اللَّه: «قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ».

وفي آخر آية من الآيات المبحوثة يعود القرآن الكريم إلى مسألة القيامة، وبلسان قاطع، يقوق: «فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ* فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ».

فالأمر ليس بمستصعب على الخالق القادر، فما أن يصدر الأمر الإلهي لنفخة الصور الثانية حتى

تعود الحياة ثانية إلى جميع الخلائق، نعم .. فتشرع كل تلك العظام النخرة وما صار منها تراباً للتجمع على الهيئة الاولى، وليخرج الناس من قبورهم بعد أن تسري فيهم روح الحياة.

«الزجرة»: بمعنى صيحة بشدّة وانتهار، ويراد بها: نفخة الصور الثانية.

«الساهرة»: من «السهر»، وهو الأرق، وقيل: لأرض القيامة «الساهرة» لذهاب النوم عن العيون لما سيصابون به من أهوال مرعبة.

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَ أَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَ عَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) يشير القرآن الكريم بهذه المقاطع البيانية إلى بعض مشاهد قصة موسى عليه السلام وفرعون، والتي تتناول عاقبة الطغاة عبر التاريخ، وما حدى بفرعون من مصير أسود، ليستذكر مشركو قريش وطغاتهم تلك الواقعة، وليعلموا أن من كان أقوى منهم لم يتمكن من مقاومة العذاب الإلهي.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 367

ويشير البيان القرآني كذلك، إلى المؤمنين بأن لا يخافوا من قوّة الأعداء الظاهرية، لأنّ دمارهم وهلاكهم على اللَّه أسهل من أن يتصور .. فهذا البيان القرآني إذاً، تسلية لقلوب المؤمنين وترطيباً لخواطرهم.

فيتوجه الحديث إلى النبي صلى الله عليه و آله بصيغة الإستفهام: «هَلْ أَتَيكَ حَدِيثُ مُوسَى . ليشوق السامع ويهيئه لاستماع القصة ذات العبر.

ثم يقول: «إِذْ نَادَيهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى».

«طوى»: يمكن أن يكون اسماً لأرض مقدّسة، تقع في الشام بين (مدين) و (مصر)، وهو الوادي الذي كلّم اللَّه تعالى فيه موسى عليه السلام أوّل مرّة.

ثم

أشار القرآن إلى تعليمات اللَّه عزّ وجل إلى موسى عليه السلام في الواد المقدس: «اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى . وبعد التزكية وتطهير الذات تصبح لائقاً للقاء اللَّه، وسوف أهديك إليه عسى أن تخشع وتترك ما أنت عليه من المنكرات: «وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبّكَ فَتَخْشَى .

ولمّا كانت كل دعوة تحتاج إلى دليل صحتها، يضيف القرآن القول: «فَأَرَيهُ الْأَيَةَ الْكُبْرَى .

ولكن، ما الآية الكبرى؟ هل هي عصا موسى عليه السلام التي تحولت إلى أفعى عظيمة، أو إخراج يده بيضاء، أم كليهما؟ وعلى أيّة حال، فالمهم في المسألة إنّ موسى عليه السلام استند في بدء دعوته على معجزة «الآية الكبرى».

وتبيّن لنا هذه الملاحظة: إنّ من جملة الأهداف المهمّة في حركة الأنبياء هي هداية الطغاة أو مجاهدتهم.

لكن فرعون المتجبّر قابل كل تلك المحبة، اللطف، الدعوة بالحسنى والآية الكبرى، قابل كل ذلك بالتجبّر الأعمى والغرور الأبله: «فَكَذَّبَ وَعَصَى .

وكما يظهر من الآية المباركة فإنّ التكذيب مقدمة العصيان ومرحلة سابقة له، كما هو حال التصديق والإيمان باعتباره مقدمة للطاعات.

وازداد فرعون عتوّاً: «ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى .

وقد هددت معجزة موسى عليه السلام كل وجود فرعون الطاغوتي، مما دعاه لأن يبذل كل ما يملك من قدرة لأجل إبطال مفعول المعجزة، فتراه وقد أمر أتباعه وجنوده لجمع كل سحرة

مختصر الامثل، ج 5، ص: 368

البلاد- على كثرتهم في تلك الحقبة الزمنية- ونودي في الناس بأمره ليشاهدوا مشهد إبطال المعجزة من قبل السحرة، وليظهروا مثلها: «فَحَشَرَ فَنَادَى . ولم يكتف فرعون بكذبه وعصيانه، ومقاومته لدعوة الحق والوقوف أمامها، بل وتعدى حدود المخلوق بصورة مفرطة جدّاً، وافترى على اللَّه وعلى نفسه بأقبح ادعاء، حينما ادعى لنفسه الربوبية على شعبه وأمرهم بطاعته: «فَقَالَ أَنَا

رَبُّكُمُ الْأَعْلَى .

فادّعاءه بأنّه (الربّ الأعلى) قد سرى حكمه حتى على آلهته لتكون من عبيده! .. نعم، فهكذا هو هذيان الطواغيت.

وعلى أيّة حال، فقد حلّ بفرعون منتهى التكبر والطغيان، فأخذه جبّار السماوات والأرض سبحانه أخذ عزيز مقتدر: «فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْأَخِرَةِ وَالْأُولَى .

«النكال»: لغةً: العجز والضعف. ويقال لمن يتخلف عن دفع ما استحق عليه (نكل).

و (النِكل)- على وزن فكر- القيد الشديد الذي يعجز معه الإنسان على عمل أيّ شي ء.

و «نكال»: في الآية يقال للعذاب الإلهي الذي يؤدّي إلى عجز الإنسان، ويُخيف الآخرين، فيعجزهم عن ارتكاب الذنب.

«نكال الآخرة»: عذاب جهنم الذي سينال فرعون وأصحابه ومَن سار على خطوه؛ و «عذاب الاولى»: إشارة إلى إغراق فرعون وأصحابه في نهر النيل.

وتقديم «نكال الآخرة» على عذاب الدنيا، لأهميته وشدّة بطشه.

وقيل: «الاولى»: تشير إلى كلمة فرعون الاولى في مسير طغيانه حين ادّعى (الالوهية)، كما جاء في الآية (38) من سورة القصص.

و «الآخرة»: إشارة إلى آخر كلمة نطق بها فرعون حين ادّعى (الربوبية العليا)، فعذّبه اللَّه بالغرق في الحياة الدنيا نتيجة ادّعائيه الباطلين.

ويوافق هذا المعنى صيغة الفعل الماضي الواردة في الآية «أخذ» والذي يفهم منه تنفيذ كل العقاب في الدنيا، وتعضده الآية التالية التي تَعِدّ العذاب عبرةً للآخرين.

ويستخلص القرآن نتيجة القصة: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى .

فتبيّن الآية إنّ وسائط سلك طريق الإعتبار مهيئة لمن سرى في قلبه الخوف والخشية من اللَّه، واعترته مشاعر الإحساس بالمسؤولية، ومَن رأى العبرة بعين معتبرة اعتبر.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 369

أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَ أَغْطَشَ لَيْلَهَا وَ أَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَ مَرْعَاهَا (31) وَ الْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32)

مَتَاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعَامِكُمْ (33) اللمسات الربانية في عالم الطبيعة ونظام الكون: ينتقل البيان القرآني مرّة اخرى إلى عالم القيامة، بعد ذكر تلك اللمحات البلاغية في قصة موسى عليه السلام مع فرعون. وابتدأ الخطاب باستفهام توبيخي (لمنكري المعاد) هل أنّ خلقكم (وإعادتكم إلى الحياة بعد الموت) أصعب من خلق السماء: «ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا».

والآية في واقعها جوابٌ لما ذكر من قولهم في الآيات السابقة: «أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَافِرَةِ»- أي هل يمكن أن نعود إلى حالتنا الاولى- فكل إنسان ومهما بلغت مداركه ومشاعره من مستوى، ليعلم أنّ خلق السماء وما يسبح فيها من نجوم وكواكب ومجرّات، لهو أعقد وأعظم من خلق الإنسان ... وإذاً فمن له القدرة على خلق السماء وما فيها من حقائق، أيعقل أن يكون عاجزاً عن إعادة الحياة مرّة اخرى إلى الناس؟!

ويضيف القرآن في بيان خلق السماء، فيقول شارحاً بتفصيل: «رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّيهَا».

وقيل: إنّ الآية تشير إلى ارتفاع السماء والأجرام السماوية وبعدها الشاسع عن الأرض، بالإضافة لإشارتها للسقف المحفوظ، والغلاف الجوي الذي حفّ وأحاط بالكرة الأرضية.

ثم تنتقل بنا الآية التالية إلى إحدى الأنظمة الحاكمة في هذا العالم الكبير، (نظام النور والظلمة): «وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحهَا».

فلكلّ من النور والظلمة دور أساس ومهم جدّاً في حياة الإنسان وسائر الأحياء من حيوان ونبات، فلا يتمكن الإنسان من الحياة دون النور، لما له من إرتباط وثيق في حركة وإحساس ورزق وأعمال الإنسان، وكذا لا يتمكن من تكملة مشوار حياته من غير الظلمة، والتي تعتبر رمز الهدوء والسكينة.

«أغطش»: من «الغطش»، بمعنى الظلام.

«الضحى»: إنبساط الشمس وإمتداد النهار.

وتنتقل بنا الآية الاخرى من السماء إلى الأرض، فتقول: «وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحهَا».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 370

مختصر الامثل ج 5 399

«دحاها»: من «الدحو» بمعنى الإنبساط، وفسّرها بعضهم بتحريك الشي ء و نقله من مكانه. وللمعنيين أصل واحد، لوجود التلازم بينهما. ويقصد بدحو الأرض، إنّها كانت في البداية مغطاة بمياه الأمطار الغزيرة التي انهمرت عليها من مدّة طويلة، ثم استقرت تلك المياه تدريجياً في منخفظات الأرض، فشكلت البحار والمحيطات، فيما علت اليابسة على أطرافها، وتوسعت تدريجياً، حتى وصلت لما هي عليه الآن من شكل، (وحدث ذلك بعد خلق السماء والأرض).

وبعد دحو الأرض، وإتمام صلاحيتها لسكنى وحياة الإنسان، يأتي الحديث في الآية التالية عن الماء والنبات معاً: «أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعهَا».

ويظهر من التعبير القرآني، إنّ الماء قد نفذ إلى داخل الأرض بادي ء ذي بدء، ثم خرج على شكل عيون وأنهار، حتى تشكلت منهما البحيرات والبحار والمحيطات.

«المرعى»: اسم مكان من (الرعي)، وهو حفظ ومراقبة امور الحيوان من حيث التغذية وما شابهها. ولهذا، تستعمل كلمة (المراعاة) بمعنى المحافظة والمراقبة وتدبير الامور.

ثم ينتقل البيان القرآني إلى «الجبال»، حيث ثمّة عوامل تلعب الدور المؤثر في استقرار وسكون الأرض، مثل: الفيضانات، العواصف العاتية، المدّ والجزر، والزلازل .. فكل هذه العوامل تعمل على خلخلة استقرار الأرض، فجعل اللَّه عزّ وجل «الجبال» تثبيتاً للأرض، ولهذا تقول الآية: «وَالْجِبَالَ أَرْسهَا».

«أرسى»: من «رسو»، بمعنى الثبات، وأرسى: فعل متعد؛ أي، ثبّت الجبال في مواقعها.

وتلخص الآية التالية ما جاء في الآيات السابقة: «مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ».

كل ذلك، ليغرف الإنسان من نِعم اللَّه.

وما جاء في الآيات يبرز قدرته سبحانه على المعاد من جهة، ويدلل من جهة اخرى على وجود اللَّه تعالى وعظمة شأنه، ليدفع المخلوق إلى الإذعان بسلامة سلك طريق معرفة اللَّه وتوحيده.

فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ

طَغَى (37) وَ آثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَ أَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 371

التنزّه عن الهوى: وتتجه عدسة آيات القرآن الكريم لتعرض لنا جوانباً من صور عالم القيامة، وتبدأ بتصوير تلك الداهية المذهلة التي تصيب مَن عبد أهواءه في الحياة الدنيا:

«فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى .

«الطامة»: من «الطم» وهو في الأصل بمعنى مل ء الفراغ والحفر، ويطلق بالطامة على كل شي ء بلغ حدّه الأعلى، ولهذا فقد اطلقت على الحوادث المرّة والصعاب الكبار، وهي في الآية تشير إلى يوم القيامة لما فيها من دواهي تغطي بهولها كل هول، واتبعت ب «الكبرى» زيادة في التأكيد على أهمية وخطورة يوم القيامة.

ويضيف: حال حلول الحدث ... سيستيقظ الجميع من غفلتهم، ويتذكروا ما زرعوا لحياتهم: «يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسنُ مَا سَعَى .

وأنى للتذكر بعد فوات الأوان!

وإذا طلبوا الرجوع إلى الدنيا لإصلاح ما أفسدوا ويتداركوا الأمر، فسيقرعون ب «كَلَّا».

وإذا ما اعتذروا تائبين، فلا محيص عن ردّهم، بعد أن أوصدت أبواب التوبة بأمر الجبّار الحكيم.

نعم، وقد ازيلت الحجب عن قلبه وروحه، سيرى الحقائق بعينها شاخصة أمامه، ولا ينسى حينها ما اكتسبت يداه من أعمال.

وتتحرك الآية التالية لوصف ما سيقع: «وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى .

فالجحيم موجودة، كما تشير إلى ذلك الآية (54) من سورة العنكبوت: «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ». ولكن حجب الدنيا تمنعنا من رؤيتها، وأمّا في يوم الفصل، يوم البروز، فسيبرز كل شي ء ولا يستثنى من ذلك جهنم.

وفي الآيات الثلاثة التالية، يشير القرآن إلى حال المجرمين والطغاة يوم القيامة: «فَأَمَّا مَن طَغَى وَءَاثَرَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا* فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِىَ الْمَأْوَى .

والآية الاولى تشير إلى فساد عقائد الطغاة،

لأنّ الطغيان ينشأ من الغرور، والغرور من نتائج عدم معرفة الباري جّل شأنه.

وبمعرفة عظمة وجلال اللَّه يتصاغر الإنسان حتى يكاد لا يرى لنفسه أثراً، وعندها سوف لن تزل قدمه عن جادة العبودية الحقة، مادام سلوكه يصب في رافد معرفة اللَّه.

والآية الثانية تشير إلى فسادهم العملي، لأنّ الطغيان يوقع الإنسان في شراك اللذائذ الوقتية الفانية ذروة الطموح ومنتهى الأمل، فينساق واهماً لأن يجعلها فوق كل شي ء.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 372

والأمران في واقعهما كالعلّة والمعلول، فالطغيان وفساد العقيدة مفتاح فساد العمل وحبّ الدنيا المفرط، ولا يجران إلّاإلى سوء عقبى الدار، نار جهنم خالدين فيها أبداً.

ويأتي الدور في الآيتين التاليتين لوصف أهل الجنة: «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى .

فالشرط الأوّل للحصول على نعم الجنة والإستقرار بها هو الخوف من اللَّه من خلال معرفته (معرفة اللَّه والخوف من التمرد والعصيان على أوامره)، والشرط الثاني هو ثمرة ونتيجة الشرط الأوّل أي الخوف والمعرفة ويتمثل في السيطرة على هوى النفس وكبح جماحها، فهوى النفس من أقبح الأصنام المعبودة من دون اللَّه.

يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46) تتعرض الآيات أعلاه لإجابة المشركين ومنكري المعاد حول سؤالهم الدائم عن وقت قيام الساعة (يوم القيامة)، فتقول أوّلًا: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسهَا».

والقرآن في مقام الجواب يسعى إلى إفهامهم بأنّه لا أحد يعلم بوقت وقوع القيامة، ويوجه الباري خطابه إلى حبيبه الأكرم صلى الله عليه و آله، بأنّك لا تعلم وقت وقوعها، ويقول: «فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَيهَا».

فما خفي عليك (يا محمّد)، فمن

باب أولى أن يَخفى على الآخرين، والعلم بوقت قيام القيامة من الغيب الذي اختصه اللَّه لنفسه، ولا سبيل لمعرفة ذلك سواه إطلاقاً.

وتقول الآية التالية: «إِلَى رَبّكَ مُنتَههَا».

ويؤكّد القرآن هذا المعنى في الآية (34) من سورة لقمان: «إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ».

وفي الآية (187) من سورة الأعراف: «قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبّى».

وتسهم الآية التالية في التوضيح: «إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشهَا».

إنّما تكليفك هو دعوة الناس إلى الدين الحق، وإنذار من يأبى بعقاب اخروي أليم، وما عليك تعيين وقت قيام الساعة.

وتأتي آخر آية من السورة لتبيّن أنّ ما تبقى من الوقت لحلول الوعد الحق ليس بالكثير:

«كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحهَا».

«نهاية تفسير سورة النّازعات»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 373

80. سورة عبس

محتوى السورة: يمكن ادراج محتويات السورة في خمسة مواضيع أساسية:

1- عتاب إلهي شديد لمن واجه الأعمى الباحث عن الحق باسلوب غير لائق.

2- أهمية القرآن الكريم.

3- كفران الإنسان بالنعم والمواهب الإلهية.

4- بيان جانب من النعم الإلهية في مجال تغذية الإنسان والحيوان لاثارة حس الشكر في الإنسان.

5- الإشارة إلى بعض الحوادث الرهيبة ومصير المؤمنين والكفار في ذلك اليوم العظيم.

وتسمية السورة ب (عبس) لورود هذه الكلمة في أوّل آية منها.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ سورة عبس جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر».

عَبَسَ وَ تَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَ مَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَ مَا عَلَيْكَ أَنْ يَزَّكَّى (7) وَ أَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَ هُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 374

سبب النّزول

تبيّن الآيات المباركة عتاب

اللَّه تعالى بشكل إجمالي، لشخص قدّم المال والمكانة الإجتماعية على طلب الحق ... أمّا مَن هو المعاتَب؟ فقد اختلف فيه المفسرون، لكن المشهور بين عامّة المفسرين وخاصتهم، ما يلي:

إنّها نزلت في عبد اللَّه بن ام مكتوم، وذلك أنّه أتى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو يناجي عتبة بن ربيعة، وأبا جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وابيّاً واميّة إبني خلف، يدعوهم إلى اللَّه، ويرجو إسلامهم. فقال: يا رسول اللَّه! أقرئني وعلمني ممّا علمك اللَّه، فجعل يناديه ويكرر النداء، ولا يدري أنّه مشتغل مقبل على غيره، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لقطعه كلامه، وقال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد، إنّما أتباعه العميان والعبيد، فأعرض عنه، وأقبل على القوم الذين يكلمهم، فنزلت الآيات. وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بعد ذلك يكرمه «1».

والآية لم تدل صراحة على أنّ المخاطب هو شخص النبي الكريم صلى الله عليه و آله، وعلى فرض صحة شأن النزول آنفة الذكر، فإنّ فعل النبي صلى الله عليه و آله والحال هذه لا يخرج من كونه (تركاً للأولى)، وهذا ما لا ينافي العصمة.

التّفسير

عتاب ربّاني: بعد أن تحدثنا حول شأن نزول الآيات، ننتقل إلى تفسيرها:

يقول القرآن أوّلًا: «عَبَسَ وَتَوَلَّى .

لماذا؟: «أَن جَاءَهُ الْأَعْمَى . «وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ، ويطلب الإيمان والتقوى والتزكية.

«أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذّكْرَى ، فإن لم يحصل على التقوى، فلا أقل من أن يتذكر ويستيقظ من الغفلة، فينفعه ذلك.

ويستمر العتاب ...: «أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ، مَن اعتبر نفسه غنياً ولا يحتاج لأحد.

«فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى ، تتوجّه إليه، وتسعى في هدايته، في حين أنّه مغرور لما أصابه من الثروة، والغرور يولّد

الطغيان والتكبر.

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان 10/ 265.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 375

«وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى . أي في حين لو لم يسلك سبيل التقوى والإيمان، فليس عليك شي ء.

فوظيفتك البلاغ، سواء آمن السامع أم لم يؤمن، وليس لك أن تهمل الأعمى الذي يطلب الحق، وإن كان هدفك أوسع ويشمل هداية كل اولئك الأغنياء المترفين أيضاً.

ويأتي العتاب مرّة اخرى تأكيداً: «وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى ، في طلب الهداية ...

«وَهُوَ يَخْشَى . فخشيته من اللَّه هي التي دفعته للوصول إليك، كي يستمع إلى الحقائق ليزكّي نفسه فيها، ويعمل على مقتضاها.

«فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى «1».

فالعتاب سواء كان موجه إلى النبيّ صلى الله عليه و آله أو إلى غيره، فقد جاء ليكشف عن اهتمام الإسلام أو القرآن بطالبي الحق، والمستضعفين منهم بالذات.

وعلى العكس من ذلك حدّة وصرامة موقف الإسلام والقرآن من الأثرياء المغرورين إلى درجة أنّ اللَّه لا يرضى بإيذاء رجل مؤمن مستضعف لغرض هدايتهم.

كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) تأتي هذه الآيات المباركة لتشير إلى أهمية القرآن وطهارته وتأثيره في النفوس، بعد أن تناولت الآيات التي سبقتها موضوع (الإعراض عن الأعمى الذي جاء لطلب الحق)، فتقول: «كَلَّا». فلا ينبغي لك أن تعيد الكرّة ثانية.

«إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ». إنّما الآيات القرآنية تذكرة للعباد، فلا ينبغي الإعراض عن المستضعفين من ذوي القلوب النقية الصافية والتوجه إلى المستكبرين، اولئك الذين ملأ الغرور نفوسهم المريضة.

ويحتمل أيضاً، كون الآيات

«كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ» جواب لجميع التهم الموجهة ضد القرآن من قبل المشركين وأعداء الإسلام.

______________________________

(1) «التلهي»: من «اللهو» ويأتي هنا بمعنى الغفلة عنه والإستغفال بغيره، ليقف في قبال «التصّدي».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 376

تقول الآية: إنّ الأباطيل والتهم الزائفة التي افتريتم بها على القرآن من كونه شعر أو سحر أو نوع من الكهانة، لا يمتلك من الصحة شيئاً، وإنّما الآيات القرآنية آيات تذكرة وإيمان، ودليلها فيها.

وتشير الآية التالية إلى اختيارية الهداية والتذكّر: «فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ».

نعم، فلا إجبار ولا إكراه في تقبل الهدي الرباني، فالآيات القرآنية مطروحة وأسمعت كل الآذان، وما على الإنسان إلّاأن يستفيد منها أو لا يستفيد.

ثم يضيف: أنّ هذه الكلمات الإلهية الشريفة مكتوبة في صحف (ألواح وأوراق): «فِى صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ».

إنّ تعبير «الصحف» يوضّح لنا أنّ القرآن قد كُتب على ألواح من قبل أن يُنزّل على النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله، ووصلت إليه بطريق ملائكة الوحي، والألواح بطبيعتها جليلة القدر وعظيمة الشأن.

وهذه الصحف المكرمة: «مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ». فهي مرفوعة القدر عند اللَّه، وأجلّ من أن تمتد إليها أيدي العابثين وممارسات المحرّفين، ولكونها خالية من قذارة الباطل، فهي أطهر من أن تجد فيها أثراً لأيّ تناقض أو تضاد أو شك أو شبهة.

وهي كذلك: «بِأَيْدِى سَفَرَةٍ»، سفراء من الملائكة.

وهؤلاء السفراء: «كِرَامٍ بَرَرَةٍ».

«سفرة»: جمع (سَافِرْ) من (سَفَر)، ولغةً: بمعنى كشف الغطاء عن الشي ء، ولذا يطلق على الرسول ما بين الأقوام (السفير) لأنّه يزيل ويكشف الوحشة فيما بينهم، ويطلق على الكاتب اسم (السافر)، وعلى الكتاب (سِفر) لما يقوم به من كشف موضوع ما ... فالسفرة هنا، بمعنى:

الملائكة الموكلين بإيصال الوحي الإلهي إلى النبي، أو الكاتبين لآياته.

في تفسير مجمع البيان: روى فضيل بن يسار عن الإمام الصادق عليه السلام قال:

«الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الكرام البررة».

يجعل الحافظين للقرآن العاملين به في درجة السفرة الكرام البررة، فليسوا هم السفرة بل في مصافهم، لأنّ جلالة مقام حفظهم وعملهم، يماثل ما يؤديه حملة الوحي الإلهي.

«كرام»: جمع «كريم»، بمعنى العزيز المحترم، وتشير كلمة «كرام» في الآية إلى عظمة ملائكة الوحي عند اللَّه وعلوّ منزلتهم.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 377

«بررة»: جمع «بار»، من «البَرّ»، بمعنى التوسع، ولذا يطلق على الصحراء الواسعة اسم (البَرْ)، كما يطلق على الفرد الصالح اسم (البار) لوسعة خيره وشمول بركاته على الآخرين.

و «البررة»: في الآية، بمعنى إطاعة الأمر الإلهي، والطهارة من الذنوب.

وعلى الرغم من توفير مختلف وسائل الهداية إلى اللَّه، ومنها ما في الصحف المكرمة من تذكير وتوجيه .. ولكن الإنسان يبقى عنيداً متمرداً: «قُتِلَ الْإِنسنُ مَا أَكْفَرَهُ».

«الكفر»: في هذا الموضع قد يحتمل على ثلاثة معان ... عدم الإيمان، الكفران وعدم الشكر ... جحود الحق وستره بأيّ غطاء كان وعلى كل المستويات.

«قُتِلَ الْإِنسنُ»: كناية عن شدّة غضب الباري جلّ وعلا، وزجره لمن يكفر بآياته.

ثم يتعرض البيان القرآني إلى غرور الإنسان الواهي، والذي غالباً ما يوقع صاحبه في هاوية الكفر والجحود السحيقة: «مِنْ أَىّ شَىْ ءٍ خَلَقَهُ».

لقد خلقه من نطفة قذرة حقيرة، ثم صنع منه مخلوقاً موزوناً مستوياً قدّر فيه جميع اموره في مختلف مراحل حياته: «مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ».

فالنظرة الفاحصة الممعنة في خلق الإنسان من نطفة قذرة وتحويله إلى هيئته التامّة المقدرة من كافة الجهات، ومع ما منحه اللَّه من مواهب وإستعدادات ... لأفضل دليل يقودنا بيسر إلى معرفته جلّ اسمه.

«قدّره»: من «التقدير»، وهو الحساب في الشي ء.

والتقدير بمعنى إيجاد القدرة في هذه النطفة المتناهية في الصغر.

فما أجلّ الإله الذي الذي جعل في موجود ضعيف كل هذه

القدرة والإستطاعة، فترى النطفة بعد أن تتحول إلى الإنسان تسير وتتحرك بين أقطار السماوات والأرض، وتغوص في أعماق البحار وقد سخرت لها كل ما يحيط بها من قوى

ويستمر القرآن في مشوار المقال: «ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ» ... يسّر له طريق تكامله حينما كان جنيناً في بطن امّه، يسّر له سبيل خروجه إلى الحياة من ذلك العالم المظلم.

ومن عجيب خلق الإنسان أنّه قبل خروجه من بطن امّه يكون على الهيئة التالية: رأسه إلى الأعلى ورجليه إلى الأسفل، ووجهه متجهاً صوب ظهر امّه، وما أن تحين ساعة الولادة حتى تنقلب هيئته فيصبح رأسه إلى الأسفل كي تسهل وتتيسّر ولادته.

وبعد ولادته يمرّ الإنسان في مرحلة الطفولة التي تتميز بنموه الجسمي، ثم مرحلة نمو

مختصر الامثل، ج 5، ص: 378

الغرائز، فالرشد في مسير الهداية الإيمانية والروحية، ويساهم العقل ودعوة الأنبياء والأوصياء عليهم السلام في تركيز معالم شخصية وبناء الإنسان روحياً وإيمانياً. وتشير الآية التالية إلى الأمر الحتمي الذي به تطوى آخر صفحات مشوار الحياة الدنيا:

«ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ».

وحكم دفن الأموات (بعد الغسل والتكفين والصلاة)، يبيّن لنا ... أنّه ينبغي على الإنسان أن يكون طاهراً محترماً في موته، فكيف به يا تُرى وهو حيّ؟!

وينتقل البيان القرآني إلى يوم القيامة: «ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ».

«أنشره»: من «النشر»، بمعنى الإنبساط بعد الجمع، فالكلمة تشير باسلوب بلاغي رائع إلى جمع كل حياة الإنسان عند الموت لتنشر في محيط أكبر وأعلى (يوم القيامة).

وتأتي الآية الأخيرة من الآيات المبحوثة لتبيّن لنا ما يؤول إليه الإنسان من ضياع في حال عدم اعتباره بكلّ ما أعطاه اللَّه من المواهب، فبالرغم من حتمية تسلسل حياة الإنسان من نطفة حقيرة، مروراً بما يطويه من صفحات الزمن العابرة، حتى يموت ويقبر، لكنّه .. «كَلَّا

لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ».

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً (27) وَ عِنَباً وَ قَضْباً (28) وَ زَيْتُوناً وَ نَخْلًا (29) وَ حَدَائِقَ غُلْباً (30) وَ فَاكِهَةً وَ أَبّاً (31) مَتَاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعَامِكُمْ (32) فلينظر الإنسان إلى طعامه: تحدثت الآيات السابقة حول مسألة المعاد، والآيات القادمة تتناول نفس الموضوع بشكل أوضح، ويبدو أنّ الآيات المبحوثة- وانسياقاً مع ما قبلها وما بعدها- تتطرق لذات البحث وتبيّن مفردات قدرة الباري جلّ شأنه على كل شي ء كدليل على إمكان تحقق المعاد، فما يقرّب إمكانية القيامة إلى الأذهان هو إحياء الأراضي الميتة بإنزال المطر عليها، العملية تمثل إحياء بعد موت مختصة بعالم النبات.

ثم إن البيان القرآني في الآيات أعلاه قد طرح بعض مفردات الأغذية التي جعلها اللَّه تحت تصرف الإنسان والحيوان، لتثير عند الإنسان الإحساس بضرورة شكر المنعم الواهب، وهذا الإحساس بدوره سيدفع الإنسان ليتقرب في معرفة بارئه ومصوّره.

وشرعت الآيات بقولها: «فَلْيَنْظُرِ الْإِنسنُ إِلَى طَعَامِهِ»، كيف خلقه اللَّه تعالى؟!

مختصر الامثل، ج 5، ص: 379

الغذاء من أقرب الإشياء الخارجية من الإنسان وأحد العوامل الرئيسية في بناء بدنه، ولولاه لتقطّعت أنفاس الإنسان وأسدلت ستارة نصيبه من الحياة، ولذلك جاء التأكيد القرآني على الغذاء وبالذات النباتي منه دون بقية العوامل المسخّرة لخدمة هذا المخلوق الصغير في حجمه.

ومن الجلي أنّ «النظر» المأمور به في الآية جاء بصيغة المجاز، واريد به التأمل والتفكير في بناء هذه المواد الغذائية، وما تحويه من تركيبات حياتية، وما لها من تأثيرات مهمّة وفاعلة في وجود الإنسان، وصولًا إلى حال التأمل في أمر خالقها جلّ وعلا.

وهكذا النظر إلى كيفية حصوله ... فهل كان من حلال أم من حرام؟

هل هو مشروع أم غير مشروع؟ أي ينظر إلى طعامه من جانبيه الأخلاقي والتشريعي.

وقد ذُكر في بعض روايات أهل البيت عليهم السلام إنّ المراد ب «الطعام» في الآية هو (العلم) لأنّه غذاء الروح الإنسانية.

في الكافي: زيد الشحام عن أبي جعفر الباقر عليه السلام في قول اللَّه عزّ وجل «فَلْيَنْظُرِ الْإِنسنُ إِلَى طَعَامِهِ» قال: قلت ما طعامه؟ قال: «علمه الذي يأخذه عمن يأخذه».

نعم ... ينبغي على الإنسان أن يكون دقيقاً في متابعة مصدر ومنبع علمه ليطمئن لغذائه الروحي، وليأمن بالنتيجة من مدلهمات الخطوب التي تؤدّي لمرض الروح أو هلاكها.

ثم يدخل القرآن في شرح تفصيلي لماهية الغذاء ومصدر تشكيله، فيقول «أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا».

«الصب»: إراقة الماء من أعلى، وجاء هنا بمعنى هطول المطر. نعم .. فالماء مصدر رئيسي للحياة، وهو على الدوام ينزل من السماء وبغزارة ليجسد لطف اللَّه تعالى على خلقه.

كيف لا، وكل العيون والآبار والقنوات والأنهار قد استمدت أساس وجودها من الأمطار.

وبعد ذكر نعمة الماء وما له من أثر حيوي ومهم في نمو النباتات، ينتقل البيان القرآني إلى الأرض، فيقول: «ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا».

إنّ الآية تشير إلى عملية شقّ الأرض بواسطة النباتات التي تبدأ بالظهور على سطح الأرض بعد عملية بذر الحبوب، والعلمية بحدّ ذاتها مدعاة للتأمل، إذ كيف يمكن لهذا العشب الصغير الناعم أن يفتت سطح التربة مع ما لها من صلابة وخشونة، بل ونرى في

مختصر الامثل، ج 5، ص: 380

المناطق الجبلية أنّ سويقات نباتاتها قد ظهرت من بين حافات صخورها الصلدة. وثمة تفسير اخرى يقول: إنّ شقّ الأرض في الآية إشارة إلى تفتت الصخور التي كانت على سطح الأرض.

فالآية تمثل إحدى مفردات الإعجاز العلمي للقرآن، لأنّها تناولت موضوع الأمطار وتشقق الأرض لتضحى قابلة

للزراعة، بشكل علمي دقيق، والآية لم تتحدث عن شي ء قد حدث، بل حدث ولا زال. يبدو أنّ هذا التفسير ينسجم مع ما تطرحه الآية التالية بخصوص عملية الإنبات.

وبعد ذكر ركنين أساسيين في عملية الإنبات- أي الماء والتراب- ينتقل القرآن بالإشارة إلى ثمانية مصادر لغذاء الإنسان أو الحيوان: «فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا».

تعتبر الحبوب من الأغذية الرئيسية للإنسان والحيوان معاً، وتتوضح أهميتها فيما لو عمّ الجفاف- على سبيل المثال- فمدّة عام واحد، حيث يعمّ القحط وتنتشر المجاعة في كل مكان.

ثم يضيف: «وَعِنَبًا وَقَضْبًا».

وقد اختارت الآية العنب دون البقية لما اودع فيه من مواد غذائية غنية بالمقويات، حتى قيل عنه بأنّه غذاء كامل.

ومع أنّ «العنب» يطلق على الشجرة والثمرة، وبالرغم من ورود كلا الإستعمالين في الآيات القرآنية، لكن المناسب هنا الثمرة دون الشجرة.

«قضباً»: هو الخضراوت التي تؤكل طرية والنباتات الزاحفة وكذا الأرضية.

ثم يضيف: «وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا».

ومن الواضح أنّ ذكر هاتين الفاكهتين لما لهما من الأهمية الغذائية للإنسان، حيث يعتبر الزيتون والتمر من أهم الأغذية المقوية والصحية والمفيدة للإنسان.

وتأتي المرحلة التالية: «وَحَدَائِقَ غُلْبًا».

«الحدائق»: جمع (حديقة)، وهي الأرض المزروعة والمحاطة بسور يحفظها، وهي في الأصل بمعنى: قطعة الأرض التي تحتوي على الماء، وسميّت حديقة تشبيهاً بحدقة العين من حيث الهيئة وحصول الماء فيها.

ويحتمل إشارة الآية إلى أنواع الفواكه، باعتبار أنّ الحدائق غالباً ما تزرع بأشجار الفاكهة.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 381

«غلب»: على وزن (قفل)، جمع (أغلب) و (غلباء)، بمعنى غليظ الرقبة، فلآية إذن ترمز إلى الأشجار الشاهقة المتينة.

ثم يضيف: «وَفَاكِهَةً وَأَبًّا».

«الأبّ»: (بتشديد الباء)، هو المرعى المُهيأ للرعي والحصد، وهو في الأصل بمعنى «التهيؤ»، اطلق على المرعى لما فيه من أعشاب يكون بها مهيئاً لاستفادة الحيوانات منه.

ويواجهنا سؤال: إذا كانت الآيات السابقة ذكرت بعض

أنواع الفاكهة، والآية المبحوثة تناولت الفاكهة بشكل عام، هذا بالإضافة إلى ذكر ال «حدائق» في الآية السابقة والتي قيل أنّ ظاهرها يشير إلى الفاكهة ... فلِم هذا التكرار؟

الجواب: إنّ تخصيص ذكر العنب والزيتون والتمر (بقرينة ذكر النخل)، إنّما جاء ذكرها لأهميتها المميزة على بقية الفاكهة.

أمّا لماذا ذكرت الحدائق بشكل منفصل عن الفاكهة؟ فيمكن حمله على ما للحدائق من منافع خاصة بها، ولا تشترك الفاكهة فيها، كجمالية منظرها وعذوبة نسيمها وما شابه ذلك، بالإضافة إلى استعمال أوراق الأشجار وجذورها وقشور جذوعها كمواد غذائية (كالشاي والزنجبيل وأمثالها)، أمّا بالنسبة للحيوانات، فأوراق الأشجار المختلفة من أفضل أغذيتها عموماً ... فالآيات إذن كانت في صدد الحديث عن غذاء الإنسان والحيوان.

ولذلك ... جاءت الآية التالية لتوضيح هذا المعنى: «مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ».

و «المتاع»: هو كل ما يستفيد منه الإنسان ويتمتع به.

فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ (35) وَ صَاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) صيحة البعث ...: وينتقل الحديث في هذه الآيات إلى يوم القيامة وتصوير حوادثه، وما سيؤول إليه أحوال المؤمنين الكافرين، كل بما كسبت يداه وقدّم.

فمتاع الحياة الدنيا وإن طال فهو قليل جدّاً في حساب حقيقة الزمن، وأنّ خالق كل شي ء لعظيم في خلقه وشأنه، وأنّ المعاد حق ولابدّ من حتمية وقوعه.

ويقول القرآن الكريم: «فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 382

«الصّاخة»: من «صخّ» وهو الصوت الشديد الذي يكاد يأخذ بسمع الإنسان، ويشير في الآية إلى نفخة الصور الثانية، وهي الصيحة الرهيبة التي تعيد الحياة إلى

الموجودات بعد موتها جميعاً ليبدأ منها يوم الحشر.

ولذا تأتي الآية التالية، ولتقول مباشرة: «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ».

ذلك الأخ الذي ما كان يفارقه وقد ارتبط به بوشائج الاخوة الحقة!

وكذلك: «وَأُمّهِ وَأَبِيهِ».

حتى: «وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ».

فوحشة ورهبة يوم القيامة لا تُنسي الأخ والام والأب والزوجة والأولاد فحسب، بل وتتعدى إلى الفرار منهم، وعندما ستتقطع كل روابط وعلاقات الإنسان الفرد مع الآخرين.

ولكن ... لِم الفرار؟ ... «لِكُلّ امْرِىٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ».

«يغنيه»: كناية لطيفة عن شدّة انشغال الإنسان بنفسه في ذلك اليوم، ولما سيرى من حادث مذهلة، تأخذه كاملًا، فكراً وقلباً.

عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال له بعض أهله: يا رسول اللَّه! هل يذكر الرجل يوم القيامة حميمه؟ فقال صلى الله عليه و آله: «ثلاثة مواطن لا يذكر أحد أحداً: عند الميزان حتى ينظر أيثقل ميزانه أم يخفّ، وعند الصراط حتى ينظر أيجوزه أم لا، وعند الصحف حتى ينظر بيمينه يأخذ الصحف أم بشماله، فهذه ثلاثة مواطن لا يذكر فيها أحد حميمه ولا حبيبه ولا قريبه ولا صديقه، ولا بنيه ولا والديه، وذلك قول اللَّه تعالى: «لِكُلّ امْرِىٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ»» «1».

وينتقل البيان القرآني ليصور لنا حال العباد بقسميهم في ذلك اليوم، فتقول:

«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ». أي مشرقة وصبيحة.

«ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ». «وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ». «تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ». أي تغطيها ظلمات ودخان.

«أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ».

«مسفرة»: من «الأسفار»، بمعنى الظهور بياض الصبح بعد ظلام الليل.

______________________________

(1) البرهان في تفسير القرآن 5/ 586.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 383

«غبرة»: على وزن (غَلَبَة)، من «الغبار».

«قترة»: من «القتار»، وهو شبه دخان يغشي من الكذب.

«الكفرة»: جمع (كافر)، والوصف يشير إلى فاسدي العقيدة.

«الفجر»: جمع (فاجر)، والوصف يشير إلى فاسدي العمل.

ونستخلص من كل ما تقدّم، أنّ آثار

فساد العقيدة لدى الإنسان وأعماله السيئة ستظهر على وجهه يوم القيامة.

وقد اختير الوجه، لأنّه أكثر أجزاء الإنسان تعبيراً عمّاً يخالجه من حالات الغبطة والسرور أو الحزن والكآبة.

«نهاية تفسير سورة عبس»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 385

81. سورة التكوير

محتوى السورة: هذه السورة تدور حول محورين أساسيين:

الأوّل: هو ما شرعت به السورة من تبيان علائم يوم القيامة، وما يواجه العالم من تغييرات قبيل يوم القيامة.

الثاني: الحديث عن عظمة القرآن ومن جاء به، وأثره على النفس الإنسانية، بالإضافة إلى تكرار اليمين والقسم في آيات عدّة لإيقاظ الإنسان من غفلته.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان: ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ سورة إذا الشّمس كوّرت أعاذه اللَّه تعالى أن يفضحه حين تنشر صحيفته».

وروى أبو بكر قال: قلت لرسول اللَّه: يا رسول اللَّه! أسرع إليك الشيب؟ قال: «شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعمّ يتسائلون وإذا الشّمس كوّرت».

وتلاوة القرآن المقصودة في الحديث أعلاه، ينبغي أن يكون بشروطها من: التأمل، الإيمان والعمل.

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَ إِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَ إِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَ إِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَ إِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 386

يوم تطوى الكائنات فيه: نواجه في بداية السورة إشارات قصيرة، مثيرة ومرعبة لما سيجري لنهاية العالم المذهلة، فقد تحدثت هذه الآيات عن ثمانية علائم من ويوم القيامة.

وأوّل مشهد عرضته عدسة العرض القرآني، هو: «إِذَا الشَّمْسُ كُوّرَتْ».

«كوّرت»: من «التكوير» بمعنى الطي والجمع واللّف (مثل لف العمامة على الرأس).

فالمقصود هو: خمود نور الشمس وذهابه، وتغيّر نظام تكوينها.

وكما بات معلوماً ... فالشمس في وضعها

الحالي، عبارة عن كرة مشتعلة، على هيئة غازية ملتهبة، وتتفجر الغازات على سطحها بصورة شعلات هائلة محرقة، قد يصل إرتفاعها إلى مئات الآلاف من الكيلو مترات.

ولو قُدّر وضع الكرة الأرضية وسط شعلة منها، فإنّها تستحيل فوراً إلى رماد وكتلة من الغازات.

ولكن ... عند حلول وقت نهاية العالم، والإقتراب من يوم القيامة، سيخمد ذلك اللهب المروع، وستجمع تلك الشعلات، فيطفأ نور الشمس، ويصغر حجمها ... وهو ما اشير إليه بالتكوير.

وقد أيّد العلم الحديث هذه الحقيقة، من خلال اعتقاده وبعد دراسات علمية كثيرة، بأنّ الشمس تسير تدريجياً نحو الظلام والإنطفاء.

ويأتي المشهد الثاني: «وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ».

«انكدرت»: من «الإنكدار»، بمعنى السقوط والتناثر، واشتق من (الكدورة)، وهي السواد والظلام.

ويمكن جمع المعنيين في الآية، لأنّ النجوم في يوم القيامة ستفقد إشعاعها وتتناثر وتسقط في هاوية الفناء.

والمشهد الثالث: «وَإِذَا الْجِبَالُ سُيّرَتْ».

وقد ذكرنا مراحل فناء الجبال، ابتداءً من السير والحركة وانتهاءً بتحولها إلى غبار متناثر (فراجع تفسير الآية 20 من سورة النبأ).

وثم يأتي دور المشهد الرابع: «وَإِذَا الْعِشَارُ عُطّلَتْ».

«العشار»: جمع (عشراء)، وهي الناقة التي مرّ على حملها عشرة أشهر، فأضحت على أبواب الولادة، بعدما امتلأت أثداؤها باللبن.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 387

وهي من أحبّ وأثمن النوق لدى العرب زمن نزول الآية المباركة.

«عطلت»: تركت لا راعي لها. فهول ووحشة القيامة، سينسي الإنسان أحبّ وأثمن ما يمتلكه.

وينتقل المشهد الخامس إلى الوحوش: «وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ».

فالحيوانات الوحشية التي تراها في الحالات العادية تبتعد الواحدة عن الاخرى خوفاً من الإفتراس والبطش، ستراها وقد جمعت في محفل واحد، وكل منها لا يلتفت إلى ما حوله لما سيصاب به من رهبة وأهوال ذلك اليوم الخطير، وكأنّها تقصد من اجتماعها هذا التخفيف عن شدّة خوفها وفزعها.

ونقول: إذا اضمحلت كل خصائص الوحشية للحيوانات

غير الأليفة نتيجة لأهوال يوم القيامة، فما سيكون مصير الإنسان حينئذ؟!

وتُصوّر البحار في المشهد السادس: «وَإِذَا الْبِحَارُ سُجّرَتْ».

«سجّرت»: من «التسجير»، بمعنى إضرام النار.

وإذا خالج القدماء التعجب والإستغراب لهذا الوصف القرآني، فقد بات اليوم من البديهيات الكسبية، لما يتركب منه الماء من عنصري الأوكسجين والهيدروجين، القابلات للإشتعال بسرعة، ولا يستبعد أن يوضع الماء- في إرهاصات يوم القيامة- تحت ضغط شديد ممّا يؤدّي إلى تجزئة وتفكيك عناصره، وعندها سيتحول إلى كتلة ملتهبة من النار.

ويأتي درو المشهد السابع: «وَإِذَا النُّفُوسُ زُوّجَتْ».

فتبدأ المآلفة بخلاف حال الدنيا ... فالصالحون مع الصالحين، والمسيؤون مع المسيئين، وأصحاب اليمين مع أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال مع أصحاب الشمال، فإذا ما جاور المؤمن مشركاً، أو تزوج الصالح من غير الصالحة في الحياة الدنيا، فتصنيف يوم لقيامة غير ذلك، فهو يوم الفصل الحق.

ونصل إلى المشهد الثامن: «وَإِذَا الْمَوْءُدَةُ سِلَتْ بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ».

«الموءودة»: من «الوأد» على وزن (وعد)، بمعنى دفن البنت حيّة بعد ولادتها.

وأطلق الأئمة الأطهار عليهم السلام مفهوم الوأد، ليشمل كل قطع رحم وقطع مودّة ... حينما سئل

مختصر الامثل، ج 5، ص: 388

الإمام الباقر عليه السلام عن معنى الآية، قال: «هو من قتل في مودّتنا وولايتنا» «1». ولا شك أنّ التفسير الأوّل ينسجم مع ظاهر الآية، ولكن المفهوم والملاك قابلان للتوسع والشمول.

وَ إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَ إِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَ إِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَ إِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) يوم يرى الإنسان ما قدّم: فبعد مرحلة الفناء العام، تأتي مرحلة الظهور الجديد للعالم، لتقام محكمة العدل الإلهي، ومن معالم هذه المرحلة: «وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ».

فستنشر الصحف التي دوّنت فيها أعمال الناس من قبل الملائكة وكل سيعرف جزاءه بعد الإطّلاع على

صحيفة أعماله، كما تشير إلى ذلك الآية (14) من سورة الإسراء: «اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا».

وسيكون نشر الصحف أمام الملأ العام لتقرّ عيون المحسنين سروراً، ويقاسي المسيؤون العذاب النفسي.

ثم يضيف: «وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ».

«كشطت»: من «الكشط» على وزن (كشف)، بمعنى قلع جلد الناقة.

وما يراد من «كشطت» في الآية، هو: رفع الحجب الفاصلة بين العالمين الدنيوي والعلوي، التي تمنع رؤية الناس للملائكه أو الجنة والنار، فيرى الإنسان حينها عالم الوجود شاخصاً أمام ناظريه شخوصاً حقيقياً.

فالآية قد تحدثت عن المرحلة الثانية للقيامة؛ مرحلة ما بعد البعث.

ويتأكد ذلك بوضوح من خلال الآية: «وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعّرَتْ».

فجهنّم موجودة في كل الأوقات، ولكن حجب الدنيا هي المانعة من رؤيتها، فالآية على سياق الآية (49) من سورة التوبة: «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ». وكما أنّ جهنم

______________________________

(1) تفسير علي بن إبراهيم 2/ 407.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 389

موجودة فالجنة كذلك بدلالة آيات قرآنية كثيرة.

ويبيّن البيان القرآني بذات السياق السابق: «وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ».

وهذا المعنى هو تكرار لما جاء في الآية (90) من سورة الشعراء: «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ».

«ازلفت»: من «زلف» على وزن (حرف) .. و «زلفى : على وزن (كُبرى ، بمعنى القرب، فيمكن أن يكون المراد هو: القرب المكاني، أو القرب الزماني، أو القرب من حيث الأسباب والمقدمات، ويمكن أيضاً أن تحمل الكلمة جميع ما ذكر من معانٍ.

وتأتي الآية الأخيرة- من الآيات المبحوثة- لتتم ما جاء قبلها من جمل، حيث تمثل جزاء الشرط للجمل السابقة والتي وردت في (12) آية: «عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ».

فستحضر أعمال الإنسان كاملة، ولا من محيص من العلم والإطّلاع بها في عالم الشهود والمشاهدة.

وقد ذكر القرآن الكريم هذه الحقيقة مرات عديدة في آيات مباركات، منها: الآية (49) من سورة الكهف:

«وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا»، والآيتان (7 و 8) من سورة الزلزلة: «فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ».

فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَ اللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَ الصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَ مَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَ مَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَ مَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) بعد أن تناولت الآيات السابقة مواضيع: المعاد، مقدمات يوم القيامة، وحوادث يوم القيامة ... تأتي الآيات أعلاه لتتحدث عن أحقية القرآن وصدق نبوّة محمّد صلى الله عليه و آله، والآيات في حقيقتها تأكيد على ما جاء في الآيات السابقة لموضوع «المعاد»، إضافة لذكرها صور بيانية منبهة على هذه الحقيقة.

وتشرع الآيات ب: «فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ».

«الخنّس»: جمع (خانس)، من (خنس) وهو الإنقباض والإختفاء، ويقال للشيطان:

«الخنّاس»، لأنّه إذا ذُكر اللَّه تعالى يخنس، وكما ورد في الحديث الشريف: «الشيطان يوسوس إلى العبد فإذا ذكر اللَّه خَنَس».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 390

«الجوار»: جمع (جارية)، وهي الشئ الذي يتحرك بسرعة.

«الكنّس»: جمع (كانس)، من (كنس)، وهو الإختفاء، و «كناس» الطير والوحش: بيت يتخذه.

والمقصود بهذا القَسم كما روى عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّه قال في تفسير الآيات المذكورة: «هي خمسة أنجم: زحل، والمشتري، والمريخ، والزهرة، وعطارد» «1». والتي يمكن رؤيتها بالعين المجردة.

ونقول توضيحاً: لو تأمّلنا السماء عدّة ليال، لرأينا أنّ نجوم السماء أو القبة السماوية تظهر وتغيب بشكل جماعي من دون أن تتغير الفواصل والمسافات فيما بينها، وكأنّها لئالي ء خيطت على قطعة قماش داكن اللون، وهذه القطعة تتحرك من المشرق

إلى المغرب، إلّا خمسة كواكب قد خرجت عن هذه القاعدة، فنراها تتحرك وليس بينها وبين بقيّة النجوم فواصل ثابتة، وكأنّها لئالي ء قد وضعت على تلك القطعة وضعاً، من دون أن تخيّط بها.

وهذه الكواكب الخمس هي المقصودة في هذا التفسير، وما نلاحظه من حركتها إنّما تكون لقربها منّا ولا نتمكن من تمييز حركات بقية النجوم لعظم المسافة فيما بيننا وبينها.

ومن جهة اخرى: ينبغي التنويه إلى أنّ علماء الفلك يطلقون على هذه الكواكب اسم (الكواكب المتحيرة)، لأنّها لا تتحرك على خط مستقيم ثابت، فنراها تسير باتجاه معين من الزمن ثم تعود قليلًا ومن ثم تتابع مسيرها الأوّل وهكذا ... ولهؤلاء العلماء بحوث علمية كثيرة في تحليل هذه الظاهرة.

وعليه ... يمكن حمل إشارة الآيات إلى الكواكب السيارة «الجوار»، التي في سيرها لها رجوع «الخنس»، ثم تختفي عند طلوع الفجر وشروق الشمس ... فهي تشبه غزالًا يتصيد طعامه في الليل وما أن يحّل النهار حتى يختفي عن أنظار الصيادين والحيوانات المفترسة فيذهب إلى «كناسه»، ولذا وصفت الكواكب ب «الكنّس».

فكأنّ القرآن الكريم يريد بهذا القسم الملي ء بالمعاني الممتزجة بنوع من الإبهام، كأنّه يريد إثارة الفكر الإنساني، وتوجيهه صوب الكواكب السيارة ذات الوضع الخاص على القبة السماوية، ليتأمل أمرها وقدرة وعظمة خالقها سبحانه وتعالى.

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان 10/ 280.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 391

ويعرض لنا القرآن لوحة اخرى: «وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ».

«عسعس»: من «العسعسة»، وهي رقة الظلام في طرفي الليل (أوّله وآخره). وبالرغم من اطلاق هذه المفردة على معنيين متفاوتين، ولكن المراد منها في هذه الآية هو آخر الليل فقط بقرينة الآية التالية لها، وهو ما يشابه القسم الوارد في الآية (33) من سورة المدّثّر:

«وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ».

ويأتي القَسم الثالث والأخير من الآيات: «وَالصُّبْحِ

إِذَا تَنَفَّسَ».

ويأتي هذا الوصف في سياق ما ورد في سورة المدّثّر، فبعد القسم بإدبار الليل، قال:

«وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ»، فكأنّ الليل ستارة سوداء قد غطت وجه الصبح، فما أن أدبر الليل حتى رفعت تلك الستارة فبان وجه الصبح مشرقاً، وأسفر للحياة من جديد.

وتجسّد الآية التالية جواب القسم للآيات السابقة: «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ».

فالجواب موجّه لمن اتّهم النبّي صلى الله عليه و آله باختلاق القرآن ونسبته إلى الباري جلّ شأنه.

وقد تناولت هذه الآية وما بعدها خمسة أوصاف لأمين وحي اللَّه جبرائيل عليه السلام، وهي الأوصاف التي ينبغي توفرها في كل رسول جامع لشرائط الرسالة ...

فالصفة الاولى: إنّه «كريم»: إشارة إلى علوّ مرتبته وجلالة شأنه.

ومن صفاته أيضاً: «ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ».

«ذي العرش»: ذات اللَّه المقدسة.

مع أنّ اللَّه مالك كل عالم الوجود، فقد وصف «بذي العرش» لما للعرش من أهميّة بالغة على غيره (سواء كان العرش بمعنى عالم ما وراء الطبيعة، أو بمعنى مقام العلم المكنون).

أمّا وصفه ب «ذي قوّة» (أي: صاحب قدرة)، لما للقدرة العظيمة والقوّة الفائقة من دور مهم وفعّال في عملية حمل وإبلاغ الرسالة.

«مكين»: صاحب منزلة ومكانة.

والتعبير ب «عند» هو الحضور المقامي والقرب المعنوي.

وتتناول الآية التالية الصفة الرابعة والخامسة: «مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ».

ويستفاد من الروايات: إنّ جبرائيل ينزل أحياناً وبصحبته جمع كبير من الملائكة في حال ابلاغه للآيات القرآنية المباركة، وهو ما يوحي بأنّه مطاع بينهم، وهو ما ينبغي أن يكون في كل امّة تتبع رسولًا، فلابدّ من إطاعتها له.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 392

في تفسير مجمع البيان: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال لجبرائيل عليه السلام: «ما أحسن ما أثنى عليك ربّك! ذي قوّة عند العرش مكين، مطاع ثّم أمين، فما كانت

قوّتك وما كانت أمانتك؟ فقال: أمّا قوّتي فإنّي بعثت إلى مدائن لوط، وهي أربع مدائن في كل مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري، فحملتهن من الأرض السفلى حتى سمع أهل السماوات أصوات الدجاج، ونباح الكلاب، ثم هويت بهنّ فقلبتهن. وأمّا أمانتي، فإنّي لم اؤمر بشي ء فعدوته إلى غيره».

وينفي القرآن ما نُسب إلى النبي: «وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ».

«الصاحب»: هو الملازم والرفيق والجليس؛ والوصف هذا مضافاً إلى أنّه يحكي عن تواضع النبي صلى الله عليه و آله مع جميع الناس ... فلم يرغب يوماً في الإستعلاء على أحد منكم، فإنّه قد عاش بينكم حقبة طويلة، وجالسكم، فلمستم عن قرب رجاحة عقله وحسن درايته وأمانته، فكيف تنسبون له الجنون؟!

ويؤكّد القرآن على الإرتباط الوثيق ما بين النبي صلى الله عليه و آله وجبرائيل: «وَلَقَدْ رَءَاهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ». وهو «الأفق الأعلى» الذي تظهر فيه الملائكة، حيث شاهد رسول اللَّه جبرائيل.

وتأتي الصفة الخامسة: «وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ».

«ضنين»: من «ضنّة» على وزن (مِنّة)، أي: البخل بالأشياء الثمينة والنفيسة، فالأنبياء عليهم السلام منزّهون عن ذلك، وإذا ما بخل الآخرون بما صار في حوزتهم من علم محدود، فالنبّي فوق ذلك وأنزه مع ما له من منبع علم إلهي.

وتقول آخر الآيات المبحوثة: «وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ».

فالآيات القرآنية ليست كحديث الكهنة الذي يأخذوه من الشياطين، ودليلها معها، حيث إنّ حديث الكهنة محشو بالأكاذيب والتناقضات، ويدور حول محور ميولهم ورغباتهم، في حين لا يشاهد ذلك في الآيات القرآنية إطلاقاً.

فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَ مَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29) إلى أين ... أيّها الغافلون: أكّدت الآيات السابقة ببيان جلي حقيقة كون القرآن

كلام اللَّه ... فمحتواه ينطق عن كونه كلاماً رحمانياً وليس شيطانياً، وقد نزل به رسول كريم مقتدر وأمين، وقام بتبليغه النبي الصادق الأمين صلى الله عليه و آله الذي لم يبخل في البلاغ في شي ء، وما تهاون عن تعليم الناس فيما ارسل به.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 393

فيما توبخ الآيات أعلاه اولئك الذين عادوا القرآن وانحرفوا عن خطّ سير الرسالة الربّانية الهادية، فتقول لهم بصيغة الإستفهام التوبيخي: «فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ».

وتأتي الآية الثانية لتقول: «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ».

فالآية تتحدث بلسان الوعظ والتذكير، عسى أن يستيقظ مَن تملّكه نوم غفلته.

لا يمكن للهداية والتربية أن تؤدّي فعلها بوجود المرشد الناحج فقط، بل لابدّ من توفر عنصر الإستعداد وتقبل الهداية من قبل الطرف الآخر، ولذلك ... فبعد الوعظ والتذكير جاءت الآية التالية لتبيّن هذه الحقيقة: «لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ».

فالآية الاولى قد ذكرت عمومية الفيض الإلهي في القرآن الكريم، فيما خصصت الآية التالية عملية الإستفادة من هذا الفيض الجزيل وحددته بشرط الإستقامة.

وهذه القاعدة جارية في جميع النعم والمواهب الإلهية في العالم، فإنّها عامة التمكين، خاصة الإستفادة، فمن لا يملك الإرادة والتصميم على ضوء الهدي القرآني لا يستحق فيض رحمة اللَّه ونعمه.

ولكي لا يتصور بأنّ مشيئة وإرادة الإنسان مطلقة في سيره على الطريق المستقيم، ولكي يربط الإنسان مشيئته بمشيئة وتوفيق اللَّه عزّ وجل، جاءت الآية التالية لتقول: «وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ».

والآيتان السابقتان تبيّنان فلسفة «أمر بين الأمرين» التي أشار إليها الإمام الصادق عليه السلام؛ فمن جهة، إنّ الإرادة والقرار بيدكم، ومن جهة اخرى، يلزم تلك الإرادة وذلك القرار ما يشاء اللَّه ربّ العالمين ... وإنّ خلقتم أحراراً مختارين، فالحرية والإختيار منه جلّ اسمه، ولولا إرادته ذلك لما

كان.

فالإنسان ليس بمجبور على أعماله مطلقاً، ولا هو بمختار بكلّ معنى الإختيار، ولكن ...

كما روي عن الإمام الصادق عليه السلام: «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين». فكل ما للإنسان من: عقل، فهم، قدرة بدنية، وقدرة على اتخاذ القرار، كل ذلك من اللَّه عزّ وجل، فهو من جهة في حالة الحاجة الدائمة للإتصال به جلّ شأنه، ولو شاء اللَّه لتوقف كل شي ء وانتهى، وهو من جهة اخرى مسؤول عن أعماله لما له من حرية واختيار على تنفيذها.

«نهاية تفسير سورة التّكوير»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 395

82. سورة الإنفطار

محتوى السورة: لا تشذ السورة عن سياق سور الجزء الأخير من القرآن الكريم، وتدور حول محور المسائل المتعلقة بيوم القيامة. تتضمن مجموع آياتها المواضيع التالية:

1- أشراط الساعة، وهي الحوادث الهائلة التي سيشهدها العالم أواخر لحظات عمره وعند قيام الساعة.

2- التذكير بالنعم الإلهية الداخلة في كل وجود الإنسان، وكسر حالة غرور الإنسان، وتهيئته للمعاد.

3- الإشارة إلى ملائكة تسجيل أعمال الإنسان.

4- بيان عاقبة المحسنين والمسيئين في يوم القيامة.

5- لمحات سريعة عما سيجري في ذلك اليوم العظيم.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «ومن قرأ هاتين السورتين: إذا السماء انفطرت؛ وإذا السماء انشقت، وجعلهما نصب عينه في صلاة الفريضة والنافلة، لم يحجبه من اللَّه حجاب، ولم يحجزه من اللَّه حاجز، ولم يزل ينظر إلى اللَّه وينظر اللَّه إليه حتى يفرغ من حساب الناس».

ولا شك أنّ حصول ثواب السورتين إنّما يتمّ لمن وضعهما في أعماق روحه، وبنى على أساسهما شخصيته وعمله، وليس لمن يلوكهما في لسانه ولا غير.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 396

إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَ إِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَ إِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَ إِذَا الْقُبُورُ

بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ (5) عندما يحلّ الحدث المروع: تقدم لنا الآيات- مرّة اخرى- مشاهداً مروعة من يوم القيامة، فتخبر عن تفطّر السماء من هول الكارثة: «إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ».

ثم تنتقل إلى ما سيصيب الكواكب ونظامها: «وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ».

فسينهدم العالم العلوي، وستحدث الإنفجارات العظيمة المهيبة في كل النجوم السماوية، وسيتخلخل نظام المنظومات الشمسية، فتخرج النجوم من مساراتها لتصطدم الواحدة بالاخرى وتتلاشى فينتهي عمر العالم ويتناثر كل شي ء ليُبنى على أنقاضه عالم جديد آخر.

«انفطرت»: من «الإنفطار»، بمعنى الإنشقاق.

«انتثرت»: من «النثر» على وزن (نصر)، بمعنى نشر الشي ء وتفريقه، و «الإنتثار»: هو الإنتشار والتفرق. وباعتبار أنّ انتشار النجوم يؤدي إلى تفرقها في السماء (كحبات العقد المنفرط) فقد فسّرها الكثير من المفسرين ب (سقوط النجوم)، وهو من لوازم معنى الإنتثار.

«الكواكب»: جمع (كوكب)، وله معان كثيرة ولكن أنّ المعنى الحقيقي هو (النجم المتلألي ء)، وما دون ذلك معان مجازية استعملت لعلاقة المشابهة.

إنّ هذه الامور تهدف إلى تعريف الإنسان بما سيحدث بالمستقبل الآت، وتدعوه لخلاص نفسه من أهوالها، وهو الكائن الضعيف وسط تلك الحوادث الجسام.

وينتقل البيان القرآني من السماء إلى الأرض، فيقول: «وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ». أي اتصلت.

مع أنّ البحار متصلة فيما بينها قبل حلول ذلك اليوم (ما عدا البحيرات)، لكن اتصالها سيكون بشكل آخر، حيث ستفيض جميعها وتتمزق حدودها وتصير بحراً واحداً لتشمل كل الأرض، بسبب الزلازل المرعبة وتحطم الجبال وسقوطها في البحار ... هذا أحد تفاسير الآية (6) من سورة التكوير (الآنفة الذكر): «وَإِذَا الْبِحَارُ سُجّرَتْ».

وتتناول الآية التالية عرضاً لمرحلة القيامة الثانية، مرحلة تجديد الحياة وإحياء الموتى، فتقول: «وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ» ... واخرج الموتى للحساب.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 397

وبعد ذكر كل تلك العلائم لما قبل البعث ولما بعده،

تأتي النتيجة القاطعة: «عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ».

نعم، فستتجلى حقائق الوجود، وسيصير كل شي ء بارز إنّه «يوم البروز» وسيرى الإنسان كل أعماله محضرة بخيرها وشرّها، لأنّه يوم إزالة الحجب، ورفع مبررات الغرور والغفلة، وعندها ... سيعلم الإنسان ما قدّم لآخرته، وما ترك بعده من آثار حسنها وسيئها، مثل: الصدقة الجارية، فعل الخير، عمارة الأبنية، الكتب التي ألفها، ما سنّ من السنن ... فإن كان ما خلّفه خالصاً للَّه فسينال حسناته، وإن كانت نيّتة في أفعاله غير خالصة للَّه، فسيلاقي لتبعات أعماله.

وهذه نماذج من الأعمال التي ستصل نتائجها إلى الإنسان بعد الموت، وهو: المراد من «وأخّرت».

في الكافي عن هشام بن سالم عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلّاثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته، فهي تجري بعد موته، وسنّة هدى سنّها، فهي يعمل بها بعد موته، أوولد صالح يدعو له».

وفي أمالي الصدوق عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «ستّ خصال ينتفع بها المؤمن بعد موته:

ولد صالح يستغفر له، ومصحف يقرأ منه، وقليب [بئر] يحفره، وغرس يغرسه، وصدقة ماء يجريه، وسنّة حسنة يؤخذ بها بعده».

فتعكس هذه الآيات والروايات أبعاد مسؤولية الإنسان أمام أعماله، وتبيّن عظم المسؤولية، فآثار فعل الخيرات أو المنكرات يصل إليه وإن امتدت آلاف السنين بعد موته.

يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَاماً كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) لا داعي للغرور: تنتقل الآيات أعلاه من المعاد إلى الإنسان، ببيان إيقاظي عسى أن ينتبه الإنسان من غفلة ما في عنقه من حق وما على عاتقه من

مسؤوليات جسام أمام خالقه سبحانه وتعالى، فتخاطب الآية الاولى الإنسان باستفهام توبيخي محاط بالحنان والرأفة الربانية: «يَا أَيُّهَا الْإِنسنُ مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 398

فبمقتضى ربوبيته هو الحامي والمدبّر لأمر تربية وتكامل الإنسان، وبمقتضى كرمه أجلس الإنسان على مائدة رحمته، ورعاه بما أنعم عليه مادياً ومعنوياً ودون أن يطلب منه أيّ مقابل، بل ويعفو عن كثير من ذنوب الإنسان بفضل كرمه ...

وفي المجمع: أنّ النبي صلى الله عليه و آله لما تلا هذه الآية قال: «غرّه جهله».

ومن هنا يتقرّب لنا هدف الآية، فهي تدعو الإنسان لكسر حاجز غروره وتجاوز حالة الغفلة، وذلك بالاستناد على مسألة الربوبية والكرم الإلهي.

وتعرض لنا الآية التالية جانباً من كرم اللَّه ولطفه على الإنسان: «الَّذِى خَلَقَكَ فَسَّوَيكَ فَعَدَلَكَ فِى أَىّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ».

فالآيات المبحوثة، إضافة لآيات اخر كثيرة تهدف وبشكلّ دقيق إلى تعريف الإنسان المغرور بحقيقته، منذ كان نطفة قذرة، مروراً بتصويره وتكامله في رحم امّه، حتى فى أتمّ حالات نموه وتكامله، وتؤكّد على أنّ حياة الإنسان في حقيقتها مرهونة بنعم اللَّه، وكل حيّ يفعم برحمة اللَّه في كل لحظات حياته، ولابدّ لكل حي ذي لبّ وبصيرة من أن يترجل من مطية غروره وغفلته، ويضع طوق عبودية المعبود الأحد في رقبته، وإلّا فالهلاك الحتمي.

وتتناول الآية التالية منشأ الغرور والغفلة: «كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدّينِ».

فالكرم الإلهي، ولطف الباري ونعمه ليست بمحفز لغروركم، ولكنّكم آليتم على عدم إيمانكم بالقيامة، فوقعتم بتلك الهاوية المظلمة.

وتأتي الآيات التالية لتوضح أنّ حركات وسكنات الإنسان كلّها مراقبة ومحسوبة ولابدّ من الإيمان بالمعاد وإزالة عوامل الغفلة والغرور، فتقول: «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ».

وهؤلاء الحفظة لهم مقام كريم عند اللَّه تعالى ودائبين على كتابة أعمالكم: «كِرَامًا كَاتِبِينَ». «يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ».

و

«الحافظين»: هم الملائكة المكلفون بحفظ وتسجيل أعمال الإنسان من خير أو شرّ، كما سمّتهم الآية (18) من سورة (ق) بالرقيب العتيد: «مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ».

كما وذكرتهم الآية (17) من نفس السورة: «إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ».

وفي الإحتجاج للشيخ الطبرسي عن الصادق عليه السلام حديث طويل وفيه يقول السائل: فما

مختصر الامثل، ج 5، ص: 399

علة الملائكة الموكلين بعباده يكتبون عليهم ولهم واللَّه عالم السر وما هو أخفى؟

قال: «استعبدهم بذلك، وجعلهم شهوداً على خلقه، ليكون العباد لملازمتهم إيّاهم أشدّ على طاعة اللَّه مواظبة، وعن معصيته أشدّ انقباضاً، وكم من عبد يهم بمعصية فذكر مكانهما فارعوى وكفّ، فيقول ربّي يراني، وحفظتي عليّ بذلك تشهد، وأنّ اللَّه برأفته ولطفه أيضاً وكّلهم بعباده، يذبّون عنهم مردة الشيطان، وهوام الأرض، وآفات كثيرة من حيث لا يرون بإذن اللَّه، إلى أن يجي ء أمر اللَّه».

ويستفاد من هذه الرواية أنّ للملائكة وظائف اخرى إضافة لتسجيلهم لأعمال الإنسان كحفظ الإنسان من الحوادث والآفات ووساوس الشيطان.

إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَ إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَ مَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) بعد ذكر الآيات السابقة لتسجيل أعمال الإنسان من قبل الملائكة، تأتي الآيات أعلاه لتتطرق إلى نتائج تلك الرقابة، وما سيصل إليه كل من المحسن والمسي ء من عاقبة، فتقول الآية الاولى: «إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ».

والثانية: «وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ».

«الأبرار»: جمع (بار) و «بَرّ» على وزن (حق)، بمعنى: المحسن؛ و «البِرّ» بكسر الباء- كل عمل صالح ... والآية تريد العقائد السليمة،

والنيات والأعمال الصالحة.

«نعيم»: وهي مفرد بمعنى النعمة، ويراد به هنا «الجنة».

«الفجّار»: جمع (فاجر) من (فجر)، وهو الشقّ الواسع، و «الفجور»: شقّ ستر الديانة والعفة، والسير في طريق الذنوب.

«جحيم»: من «الجحمة»، وهي تأجج النار، وتطلق الآيات القرآنية (الجحيم) على جهنم عادة.

ويمكن أن يراد بقوله تعالى: «إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ». الحال الحاضر، أيّ: إنّ الأبرار يعيشون في نعيم الجنة حاليّاً، وإنّ الفجّار قابعون في أودية النار، كما

مختصر الامثل، ج 5، ص: 400

مختصر الامثل ج 5 440

يفهم من إشارة الآية (54) من سورة العنكبوت: «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ».

وتدخل الآية التالية في تفصيل أكثر لمصير الفجّار: «يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدّينِ».

فإذا كانت الآية السابقة تشير إلى أنّ الفجّار هم في جهنم حالياً، فسيكون إشارة هذه الآية، إلى أنّ دخولهم جهنم سيتعمق، وسيحسون بعذاب نارها، بشكل أشدّ.

«يصلون»: من «صلى» على وزن (سعى)، و «صلى النار»: دخل فيها.

ولزيادة التفصيل، تقول الآية التالية: «وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ».

اعتبر كثير من المفسرين كون الآية دليلًا على خلود الفجّار في العذاب، وخلصوا إلى أنّ المراد ب «الفجّار» هم «الكفار»، لكون الخلود في العذاب يختص بهم دون غيرهم.

ف «الفجّار»: إذن: هم الذين يشقون ستر التقوى والعفة بعدم إيمانهم وتكذبيهم بيوم الدين، ولا يقصد بهم- في هذه الآيات- اولئك الذي يشقّون الستر المذكور بغلبة هوى النفس مع وجود حالة الإيمان عندهم.

وتبيّن الآية أيضاً: إنّ عذاب أهل جهنم عذاب دائم ليس له انقطاع، ولا يغيب عنهم ولو للحظة واحدة.

ولأهمية خطب ذلك اليوم العظيم، تقول الآية التالية: «وَمَا أَدْرَيكَ مَا يَوْمُ الدّينِ». «ثُمَّ مَا أَدْرَيكَ مَا يَوْمُ الدّينِ».

فإذا كانت وحشة وأهوال ذلك اليوم قد اخفيت عن النبي صلى الله عليه و آله- وهو المخاطب في الآية- مع

كل ما له من علم ب: القيامة، المبدأ، المعاد .. فكيف يا تُرى حال الآخرين.

وينتقل البيان القرآني للتعبير عن إحدى خصائص ذلك اليوم، وبجملة وجيزة، لكنّها متضمنة لحقائق ومعان كثيرة: «يَوْمَ لَاتَمْلِكُ نَفْسٌ لّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لّلَّهِ».

فستتجلّى حقيقة أنّ كل شي ء في هذا العالم هو بيد اللَّه العزيز القهار، وستبان حقيقة حاكمية اللَّه المطلقة ومالكيته على كل من تنكر لهذه الحقيقة الحقة، وستنعدم تلك التصورات الساذجة التي حكمت أذهان المغفلين بكون فلان أميراً ورئيساً أو حاكماً، وسينهار اولئك البسطاء الذين اعتبروا أنّ قدراتهم مستقلة بعد أن أكل الغرور نفوسهم وتكالب التكبر على تصرفاتهم في الحياة الدنيا الفانية.

«نهاية تفسير سورة الإنفطار»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 401

83. سورة المطففين

محتوى السورة: بحوث هذه السورة تدور حول محاور خمس، هي:

1- تحذير وإنذار شديد للمطفّفين.

2- الإشارة إلى أنّ منشأ الذنوب الكبيرة إنّما يأتي من عدم رسوخ الإيمان بالبعث والمعاد.

3- عرض لجوانب من عاقبة «الفجّار» في ذلك اليوم العظيم.

4- عرض لجوانب ما ينتظر المحسنين في الجنة من نعم إلهية وعطاء رباني جزيل.

5- الإشارة لآثار استهزاء الكفار بالمؤمنين في الحياة الدنيا، وانعكاس الحال في يوم القيامة.

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع: ابي بن كعب قال: قال النبي صلى الله عليه و آله: «ومن قرأها سقاه اللَّه من الرحيق المختوم».

وفي ثواب الأعمال روى صفوان الجمال عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ في الفريضة ويل للمطفّفين، أعطاه اللَّه الأمن يوم القيامة من النار، ولم تره، ولا يراها ولم يمر على جسر جهنم ولا يحاسب يوم القيامة».

إنّ كل هذا الفضيلة والبركة، سينالها من جعل قراءتها مقدمة للعمل على هديها.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 402

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَ إِذَا كَالُوهُمْ

أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَ لَا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)

سبب النّزول

قال ابن عباس: لمّا قدم نبي اللَّه المدينة، كانوا من أبخس الناس كيلًا، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية، فأحسنوا الكيل بعد ذلك.

وقيل: كان أهل المدينة تجاراً يطففون، وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة، فنزلت هذه الآية، فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقرأها عليهم وقال: «خمس بخمس». قيل يا رسول اللَّه، وما خمس بخمس؟

قال: «ما نقض قوم العهد إلّاسلط اللَّه عليهم عدوّهم، وما حكموا بغير ما أنزل اللَّه إلّافشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلّافشا فيهم الموت، ولا طفّفوا الكيل إلّامنعوا النبات واخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلّاحبس عنهم المطر» «1».

التّفسير

ويل للمطففين: بدأ الحديث في هذه السورة بتهديد شديد للمطففين: «وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ».

وتمثل الآية في حقيقة توجيهها، إعلان حرب من اللَّه عزّ وجل على هؤلاء الظالمين، الذين يأكلون حق الناس بهذه الطريقة القذرة.

«المطفّفين»: من «التطفيف» وأصله من «الطف»، وهو جوانب الشي ء وأطرافه، و «الطفيف»: الشي ء النزر، و «التطفيف»: البخس في الكيل والوزن، ونقص المكيال، وهو أن لا تملأه إلى أصباره.

«ويل»: تأتي بمعاني: حلول الشرّ، الحزن، الهلاك، المشقّة من العذاب، وادٍ مهيب في نار جهنم، وتستعمل عادة في اللعن وبيان قبح الشي ء، ورغم صغر الكلمة إلّاأنّها تستبطن

______________________________

(1) التفسير الكبير 31/ 88.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 403

مفاهيم كثيرة.

وفي الكافي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: «ولم يجعل الويل لأحد حتى يسميه كافراً. قال اللَّه عزّ وجل: «فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ»».

وما نستفيده من هذه الرواية هو: إنّ التطفيف فيه وجه من الكفر.

وتتطرق الآيتين التاليتين إلى طريقة عمل المطففين، فتقول الآية الاولى: «الَّذِينَ

إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ».

وتقول الآية الثانية: «وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ».

وممّا ينبغي الإلتفات إليه ... أنّ الآيات وإن تحدثت عن التطفيف في الكيل والوزن، ولكن لا ينبغي حصر مفهومها بهما، فالتطفيف يشمل حتى العدد، وليس من البعيد أن تكون الآيات قد أشارت إلى إنقاص ما يؤدّي من خدمة مقابل أجر، كما لو سرق العامل أو الموظف من وقت عمله، فإنّه والحال هذه سيكون في حظيرة «المطففين» المذمومين بشدّة في الآيات المباركة المذكورة.

ولا تخلوا من مناسبة أن يجعل أيّ تجاوز لحدود اللَّه، وأيّ إنقاص أو اخلال في الروابط الإجتماعية أو إنحلال في الضوابط الأخلاقية، إنّما هو مفردات ومصاديق لهذا المفهوم.

ويهدد القرآن الكريم المطففين، باستفهام توبيخي: «أَلَا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ». «لِيَوْمٍ عَظِيمٍ».

يوم عظيم في: عذابه، حسابه وأهواله.

«يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ». أي: إنّهم لو كانوا يعتقدون بالبعث والحساب: وأنّ أعمالهم مسجلة وستعرض كاملة في محكمة العدل الإلهي بخيرها وشرّها، وكبيرها وحقيرها، لو كانوا يعتقدون ذلك، لما ظلموا أحداً، ولأعطوا الناس حقوقهم كاملة.

وفي الكافي عن جابر عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: «كان أمير المؤمنين عليه السلام بالكوفة عندكم يغتدي كل يوم بكرة من القصر، فيطوف في أسواق الكوفة سوقاً سوقاً، ومعه الدّرة على عاتقه وكان لها طرفان وكانت تسمى السبيبة فيقف على أهل كل سوق، فينادي: يا معشر التجّار اتّقوا اللَّه عزّ وجل، فإذا سمعوا صوته عليه السلام ألقوا ما بأيديهم، وأرعوا إليه بقلوبهم، وسمعوا بآذانهم، فيقول عليه السلام: قدموا الإستخارة، وتبركوا بالسهولة، واقتربوا من المبتاعين، وتزيّنوا بالحلم، وتناهوا عن اليمين، وجانبوا الكذب، وتجافوا عن الظلم، وانصفوا المظلومين، ولا تقربوا الربا، وأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين، فيطوف

عليه السلام

مختصر الامثل، ج 5، ص: 404

في جميع أسواق الكوفة ثم يرجع فيقعد للناس».

كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَ مَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) وما أدراك ما سجّين: بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن المطففين، وعن إرتباط الذنوب بعدم الإيمان الراسخ بالمعاد ويوم القيامة، تشير الآيات أعلاه إلى ما ستؤول إليه عاقبة المسيئين والفجار يوم حلول اليوم المحتوم، فتقول: «كَلَّا» فليس الأمر كما يظن هؤلاء عن المعاد وأنّه ليس هنا حساب وكتاب، بل «إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجّينٍ». «وَمَا أَدْرَيكَ مَا سِجّينٌ». «كِتَابٌ مَّرْقُومٌ».

وتوجد نظرتان في تفسير الآية أعلاه:

الاولى: المراد من «كتاب»: هو صحيفة الأعمال، التي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة، من أفعال الإنسان إلّاوأحصتها.

والمراد ب «سجّين»: هو الكتاب الجامع لكل صحائف أعمال الإنسان عموماً.

و «سجّين»: من «السجن»، وهو (الحبس). وأطلق عليه هذا الإسم باعتبار أنّ ما فيه يؤدّي إلى حبس أصحابه في جهنم، أو أنّ هذا الديوان موجود في قعر جهنم.

على عكس كتاب الأبرار فإنّه في أعلى علّيين .. في الجنة.

الثانية: إنّ «سجّين» هي «جهنم» ... وهي سجن كبير لجميع المذنبين، أو هي محل شديد من جهنم.

و «كتاب» الفجّار، أي: ما قرر لهم من عاقبة ومصير.

فيكون التقدير على ضوء هذا التّفسير: إنّ جهنم هي المصير المقرر للمسيئين.

فلا مانع من الجمع بين التّفسيرين، لأنّ «سجّين» حسب التّفسير الأوّل بمعنى الديوان الجامع لكل أعمال المسيئين، وحسب التّفسير الثاني بمعنى: «جهنم» أو قعرها، فالأمران على صورة علّة ومعلول، فإذا كانت صحيفة أعمال الإنسان السيئة في ذلك الديوان الجامع، فإنّ مقام الديوان هو قعر جهنم.

وتأتي الآية التالية لتقول: «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 405

التكذيب الذي يوقع الإنسان في

ألوان من الذنوب، ومنها التطفيف والظلم.

الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَ مَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) بعدما ذكرت آخر آية من الآيات السابقة مصير المكذّبين، تأتي الآيات أعلاه لتشرح حالهم، فتقول: «الَّذِينَ يُكَذّبُونَ بِيَوْمِ الدّينِ»، وهو يوم القيامة.

وتقول أيضاً: «وَمَا يُكَذّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ».

فإنكار القيامة لا يستند على المنطق السليم والتفكير الصائب والإستدلال العقلي، بل هو نابع من حبّ الإعتداء وارتكاب الذنوب والآثام (الصفة المشبهة «أثيم» تدل على استمرار الشخص في ارتكاب الذنوب).

وتشير الآية التالية للصفة الثالثة لمنكري المعاد، فتقول: «إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ».

فبالاضافة لكون منكر المعاد معتدٍ وأثيم، فهو من الساخرين والمستهزئين بآيات اللَّه، ويصفها بالخرافات البالية، وما ذلك إلّامبرر واهٍ لتغطية تهربه من مسؤولية آيات اللَّه عليه.

ولم تختص الآية المذكورة بذكر المبررات الواهية لُاولئك الضالّين المجرمين فراراً من الإستجابة لنداء الدعوة الربانية، بل ثمّة آيات اخرى تناولت ذلك؛ منها الآية (5) من سورة الفرقان: «وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِىَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا».

ويعرّي القرآن مرّة اخرى جذر طغيانهم وعنادهم، بالقول: «كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ».

فازيل عنها ما جعل اللَّه فيها من نور الفطرة الاولى وذهب صفائها، ولذا .. فلا يمكن لتلك القلوب التعسة من أن تتقبل نفوذ أنوار الوحي الإلهي إلى دواخلها.

«ران»: من «الرين» على وزن (عين)، وهو: الصدأ يعلو الشي ء الجليل.

وفي الدر المنثور عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «إنّ العبد إذا

أذنب ذنباً نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكر اللَّه في

مختصر الامثل، ج 5، ص: 406

القرآن: «كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ»». ويستمر البيان القرآني: «كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ».

وهو أشدّ ما سيعاقبون به، مثلما منزلة اللقاء باللَّه ودرجة القرب منه هي من أعظم نعم الأبرار والصالحين وأكثرها لذةً واستئناساً.

و: «ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ».

فدخولهم جهنم نتيجة طبيعية لاحتجابهم عن اللَّه تعالى وأثر لازم له، ومما لا شك فيه إنّ لهيب الحرمان من لقاء اللَّه أشدّ إيلاماً وإحراقاً من نار جهنم.

وتقول الآية التالية: «ثُمَّ يُقَالُ هذَا الَّذِى كُنتُم بِهِ تُكَذّبُونَ».

يقال لهم ذلك توبيخاً ولوماً لزيادة تعذيبهم روحياً، وهو ما ينتظر كل من عاند الحق وتخبط في متاهات الضلال.

كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَ مَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَ مِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) علّيّون في انتظار الأبرار: بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن الفجّار وكتابهم وعاقبة أمرهم، ينتقل الحديث في هذه الآيات للطرف المقابل لهؤلاء، فتتحدث عن الأبرار الصالحين وما سيؤلون إليه من حسن مآب، ويبدأ الحديث بالقول: «كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِى عِلّيِّينَ».

«عليّين»: جمع (عليّ) على وزن (ملّي)، وهو المكان المرتفع، أو الشخص الجالس في مكان مرتفع، ويطلق أيضاً على ساكني قمم الجبال.

فما عرضناه بخصوص تفسير «سجّين» يصدق على «عليّين» أيضاً، بقولين:

الأوّل: أنّ المقصود من «كتاب الأبرار»

هو صحيفة أعمال الصالحين والمؤمنين، فجميع الأعمال تجمع في هذا الديوان العام، وهو ديوان عالي المقام وشريف القدر.

الثاني: أنّ صحيفة أعمال الأبرار تكون في أشرف مكان، أو في أعلى مكان في الجنة،

مختصر الامثل، ج 5، ص: 407

وهذا يكشف عن علو شأنهم ورفعة كرامتهم عند اللَّه عزّ وجل.

وذهب قسم من المفسرين إلى أنّ ال «كتاب» هنا يرمز لمعنى (المصير)، أو (الحكم القطعي الإلهي) بخصوص نيل الصالحين درجات الجنة العُلى.

ولا يضرّ من الجمع بين التّفسيرين، فأعمال الأبرار مجموعة في ديوان عام، ومحل ذلك الديوان في أعلى نقطة من السماء، ويكون الحكم والقضاء الإلهي كذلك مبنيّ على كونهم في أعلى درجات الجنة.

ولأهمية وعظمة شأن «عليّين» .. تأتي الآية التالية لتقول: «وَمَا أَدْرَيكَ مَا عِلّيُّونَ»؛ إنّه مقام من المكانة بحيث يتجاوز حدود التصور والخيال والقياس والظن، بل وحتى أنّ النبي صلى الله عليه و آله وعلى ما له من علو شأن ومرتبة مرموقة، فلا يستطيع من تصور حجم أبعاد عظمته.

ويبدأ البيان القرآني بتقريب أل «علّيين» إلى الأذهان: «كتاب مرقوم».

وهذا على ضوء تفسير «علّيين» بالديوان العام لأعمال الأبرار، أمّا على ضوء التفسير الآخر فسيكون معنى الآية: إنّه المصير الحتمي الذي قرره اللَّه وسجّله لهم، بأن يكون محلهم في أعلى درجات الجنة.

وكذلك: «يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ». أي يشاهدونه، أو عليه يشهدون عليه.

والآيات التالية تظهر بوضوح بأنّ المقربين، هم نخبة عالية من المؤمنين لهم مقام مرموق، وبامكانهم مشاهدة صحيفة أعمال الأبرار والصالحين.

فبين الأبرار والمقربين عموم وخصوص مطلق، حيث كل المقربين أبرار، وليس كل الأبرار مقربين.

وينتقل الحديث إلى عرض بعض جوانب جزاء الأبرار: «إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ».

وينقلنا البيان القرآني لجوانب من نعيم الأبرار: «عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ».

ثم يضيف: «تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ».

إشارة إلى أنّ ما يبدي

على وجوههم من علائم النشاط والسرور والغبطة، إن هو إلّا إنعكاس لسعادتهم الحقّة.

وبعد ذكر نِعَم: «الأرائك»، «النظر»، «الإطمئنان والسعادة» .. تذكر الآية التالية نعمة شراب الجنة، فتقول: «يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 408

إنّه ليس كشراب أهل الدنيا الشيطاني، بما يحمل من خبث دافع إلى المعاصي والجنون، بل هو شراب طاهر يذكي العقول ويدب النشاط والصفاء في شاربه. و «الرحيق» هو الشراب الخالص الذي لا يشوبه أيّ غش أو تلوث؛ و «مختوم»: إشارة إلى أنّه أصلي ويحمل كل صفاته المميزة عن غيره من الأشربة ولا يجاريه شراب قطّ، وهذا بحدّ ذاته تأكيد آخر على خلوص الشراب وطهارته.

وتقول الآية التالية: «خِتَامُهُ مِسْكٌ».

هو شراب طاهر مختوم، وإذا ما فتح ختمه فتفوح رائحة المسك منه.

«وَفِى ذلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ». «التنافس»: تمنّي كل واحد من النفسين مثل الشي ء النفيس الذي للنفس الاخرى أن يكون له.

وجاء مضمون الآية في الآية (21) من سورة الحديد: «سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ».

ونصل لآخر وصف شراب الأبرار في الجنة: «وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ». أي: أنّه ممزوج بالتسنيم: «عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ».

ومن خلال الآيتين أعلاه، يتّضح لنا بأنّ «التسنيم» هو أشرف شراب في الجنة، وموجود في الطبقات العليا من الجنة .. ويجري في الهواء فينصب في أواني أهل الجنة و «المقرّبون» يشربون منه بشكل خالص، فيما يشربه «الأبرار» ممزوجاً بالرحيق المختوم.

وتؤكّد الأحاديث والروايات على أنّ تلك الأشربة خالصة لمن تنزّه عن الولوغ في خمور الدنيا الخبيثة.

ففي وصية النبي صلى الله عليه و آله لأمير المؤمنين عليه السلام: «ومن ترك الخمر للَّه سقاه اللَّه من الرحيق المختوم» «1».

وروي عن علي بن الحسين عليه السلام قال: «من أطعم مؤمناً من جوع أطعمه اللَّه من

ثمار الجنة، ومن سقى مؤمناً من ظمأ سقاه اللَّه من الرحيق المختوم» «2».

وجاء في حديث آخر: «من صام للَّه في يوم صائف، سقاه اللَّه على الظمأ من الرحيق

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان 10/ 297.

(2) الكافي 2/ 201.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 409

المختوم» «1».

إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَ إِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَ إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَ إِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَ مَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)

سبب النّزول

ذكر المفسرون سببين لنزول هذه الآيات: الأوّل: روى أنّ عليّاً عليه السلام كرم اللَّه تعالى وجهه وجمعاً من المؤمنين معه مروا بجمع من كفار مكة فضحكوا منهم واستخفوا بهم فنزلت الآية «إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا» قبل أن يصل علي عليه السلام كرم اللَّه تعالى وجهه إلى النبي صلى الله عليه و آله.

الثاني: إنّها حكاية لبعض قبائح مشركي قريش؛ أبي جهل والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل وأشياعهم، كانوا يستهزئون بفقرائهم كعمار وصهيب وخباب وبلال وغيرهم من الفقراء «2».

التّفسير

بالأمس كانوا يضحكون من المؤمنين ... أمّا: بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن النعم التي تنتظر الأبرار والصالحين في الحياة الآخرة، تبدأ الآيات أعلاه بتبيان جوانب ممّا يعانوه من مصائب ومشاكل في الحياة الدنيا بسبب إيمانهم وتقواهم ...

فالآيات تنقل لنا أساليب الكفار القذرة التي كانوا يتعاملون بها مع المؤمنين البررة، وقد صنّفتها في أربعة أساليب:

الاسلوب الأوّل: «إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا يَضْحَكُونَ».

فأصل الطغيان والتكبر والغرور والغفلة الذي زُرع في نفوسهم، يدفعهم للضحك على المؤمنين والإستهزاء بهم والنظر إليهم بسخرية واحتقار.

والاسلوب الثاني:

«وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ». فحينما يمرّ المشركون على مجموعة من

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان 10/ 297.

(2) روح المعاني 30/ 76.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 410

المؤمنين يغمزون بأعينهم ويشيرون إليهم بالقول:

انظروا إلى هؤلاء الفقراء المعدمين ... إنّهم أصبحوا مقربين عند اللَّه.

انظروا إلى هؤلاء الحفاة العراة ... إنّهم يدّعون نزول الوحي الإلهي لهم.

انظروا إليهم ... فإنّهم يعتقدون بأنّ العظام البالية ستعود إلى الحياة مرّة اخرى! وما شابه ذلك، من الكلمات الرخيصة والموهنة ...

ويبدو أنّ ممارسة الضحك من قبل المشركين يكون حينما يمرّ المؤمنون من أمامهم وهم متجمعون، في حين يمارسون الاسلوب الثاني وهو الإشارات الساخرة والغمز واللمز حين مرورهم أمام جمع من المؤمنين، لعدم تمكنهم من الضحك العلني أمام جمع المؤمنين.

«يتغامزون»: من «الغمز» وهو الإشارة بالجفن أو اليد مع قصد ما في الطرف الآخر من عيوب، وعبّرت الآية بهذا اللفظ «التغامز» للإشارة إلى اشتراكهم جميعاً في ذلك الفعل.

ولكنّهم لم يكتفوا بالنيل من المؤمنين في حضورهم من خلال الضحك والتغامز، بل تعدوا إلى حال غيابهم أيضاً، حيث تنقل لنا الآية التالية، الاسلوب الثالث بقولها: «وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ».

وكأنّهم في ضحكهم وتغامزهم قد نالوا فتحاً كبيراً! فتأخذهم نشوة تصور الغفلة والجهل لأن يتباهوا فيما قاموا به من فعل قبيح، ويبقون على حالة السخرية والإستهزاء بالمؤمنين رغم غياب المؤمنين عنهم ...

«فكهين»: جمع (فكه)، وهي صفة مشبهة من (الفكاهة) بمعنى التمازح والضحك، مأخوذة من (الفاكهة)، وكأنّ لذة الخوض في هكذا حديث وسخرية كلذّة أكل الفاكهة، كما ويطلق على حديث مفرح اسم (فكاهة).

والاسلوب الرابع: «وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هؤُلَاءِ لَضَالُّونَ».

لماذا؟ لأنّهم تركوا ما كان شائعاً من عبادة الأصنام، والخرافات التي يعتبرونها هداية! واتجهوا نحو الإيمان باللَّه والتوحيد الخالص.

ولأنّهم باعوا لذّة الدنيا

الحاضرة بنعيم الآخرة الغائبة ...

وغالباً ما لا يكون المؤمنون من أثرياء أو وجهاء القوم، ولذلك يُنظر إليهم باحتقار ويهزأ بدينهم وإيمانهم، في مجتمع يسوده التمايز الطبقي بشكل راسخ وظاهر. فيقول القرآن الكريم في الآية التالية: «وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 411

فجواب نوح عليه السلام عام يشمل حتى اولئك المغرورين في صدر الإسلام ... فما شأنكم وهؤلاء؟! وعليكم أن تنظروا إلى هذا الدين، وإلى النبي الذي جاء بهذا الدين، ولا تنظروا إلى من آمن به واتبعه ...

وتبقى أساليب الذين يعادون الحق محدودة في إطار الحياة الدنيا، ولكن إذا كان يوم القيامة، فستختلف الحال تماماً: «فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ».

فيوم القيامة، يوم مجازات الأعمال وإجراء العدالة الإلهية، والعدالة تقتضي بأن يستهزأ المؤمنون بالكافرين المعاندين للحق، والإستهزاء في ذلك اليوم أحد ألوان عذاب الآخرة الأليم الذي ينتظر اولئك المغرورين والمستكبرين.

في الدرّ المنثور عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «إنّ المستهزئين بالنّاس في الدنيا يرفع لأحدهم يوم القيامة باب من أبواب الجنة، فيقال: هلم هلم، فيجي ء بكربه وغمّه، فإذا أتاه أغلق دونه، ثم يفتح له باب آخر، فيقال: هلم هلم، فيجي ء بكربه وغمّه، فإذا أتاه أغلق دونه، فما يزال كذلك حتى أنّه ليفتح له الباب فيقول: هلم هلم، فلا يأتيه من أياسه». [وهنا يضحك المؤمنون الذين يطلعون عليه وعلى بقية الكفار من جنّتهم .

وتقول الآية التالية: «عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ».

ماذا ينظرون؟ إنّهم ينظرون إلى: نعم اللَّه التي لا توصف ولا تنفد في الجنة، وإلى كل ما فازوا به من الألطاف الإلهية والكرامة، وإلى ما أصاب الكفار والمجرمين من العذاب الأليم خاسئين ...

وفي آخر آية السورة يقول القرآن مستفهماً (بإستفهام تقريري): «هَلْ ثُوّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا

يَفْعَلُونَ».

فهذا القول سواء صدر من اللَّه، أو من الملائكة، أو من المؤمنين، فهو في كل الحالات يمثل طعناً واستهزاءاً بأفكار وادعاءات اولئك المغرورون، الذين كانوا يتصورون أنّ اللَّه سيثيبهم على أعمالهم القبيحة، ويأتيهم النداء ردّاً على خطل تفكيرهم.

«نهاية تفسير سورة المطفّفين»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 413

84. سورة الانشقاق

محتوى السورة: لا تخرج السورة عن الإطار العام لسور الجزء الأخير من القرآن الكريم، فتبدأ بوصف علامات أشراط القيامة وما سيحدث من أحداث مروعة في نهاية العالم وبداية يوم القيامة، ثم تتحدث ثانياً عن القيامة والحساب وما ستؤول إليه عاقبة كل من الصالحين والمجرمين، ثم تعطف السورة في المرحلة الثالثة لتوضيح ماهية الأعمال والعقائد التي تجر الإنسان إلى سخط اللَّه وخلوده بالعذاب مهاناً، وفي الرابعة تنتقل السورة لعرض مراحل سير الإنسان في حياتيه (الدنيا والأخرة)، وفي آخر مطاف السورة يدور الحديث خامساً عن جزاء الأعمال الحسنة والسيئة.

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع: ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ سورة انشقت، أعاذه اللَّه أن يعطيه كتابه وراء ظهره».

إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَ أَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَ حُقَّتْ (2) وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَ أَلْقَتْ مَا فِيهَا وَ تَخَلَّتْ (4) وَ أَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَ حُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً (8) وَ يَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 414

تبدأ السورة في ذكرها لأحداث نهاية العالم المهولة بالإشارة إلى السماء فتقول: «إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ». (فتلاشت نجومها وأجرامها واختل نظام الكواكب فيها)، كإشارة الآيتين (1 و 2) من سورة الإنفطار التي أعلنت عن نهاية العالم بخرابه وفنائه: «إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ*

وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ».

وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن علي عليه السلام قال: «تنشق السماء من المجرّة». فإنّ النجوم التي نراها في السماء اليوم، ستنفصل عن المجرة، وبها تنشق السماء.

وتحكي الآية التالية حال السماء: «وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا وَحُقَّتْ».

فلا يتوهم أنّ السماء بتلك العظمة بامكانها اظهار أدنى مقاومة لأمر اللَّه .. بل ستستجيب لأمر اللَّه خاضعة طائعة، لأنّ إرادته سبحانه في خلقه هي الحاكمة، ولا يحق لأي مخلوق أن يعصي أمره جلّ وعلا.

«أذنت»: من «الاذن» على وزن (افق)، وهي آلة السمع وتستعار لمن كثر استماعه، وفي الآية: كناية عن طاعة أمر الآمر والتسليم له.

«حقّت»: من «الحق»، أي: وحق لها أن تنقاد لأمر ربّها.

وكيف لها لا تسلّم لأمره عزّ وجل، وكل وجودها وفي كل لحظة من فيض لطفه، ولو انقطع عنها بأقل من رمشة عين لتلاشت.

وفي المرحلة التالية تمتد الكارثة لتشمل الأرض أيضاً: «وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ».

فالجبال- كما تقول آيات قرآنية اخرى- ستندك وتتلاشى وستستوي الأرض في كافة بقاعها، لتلمّ جميع العباد في عرصتها، كما أشارت الآيات (105- 107) من سورة طه إلى ذلك: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفًا* فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا* لَّاتَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا».

وفي ثالث مرحلة تقول الآية التالية: «وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ».

والمعروف بين المفسرين أنّ الآية تشير إلى إلقاء الأرض بما فيها من موتى فيخرجون من باطن القبور إلى ظاهر الأرض، مرتدين لباس الحياة من جديد.

وقال بعض المفسرين: إنّ المعادن والكنوز المودعة في الأرض ستخرج مع الأموات أيضاً.

وثمّة احتمال آخر في تفسير الآية، يقول: إنّ المواد المذابة التي في باطن الأرض ستخرج

مختصر الامثل، ج 5، ص: 415

نتيجة الزلازل الرهيبة التي تقذفها إلى الخارج، فتملأ الحفر والمنخفضات الموجودة على سطح الأرض، وستهدأ الأرض بعد

أن يخلو باطنها من هذه المواد.

و ...: «وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا وَحُقَّتْ».

فتسليم الموجودات لما سيحدث من كوارث كونية مدمرة ينم عن جملة امور، فمن جهة:

إنّ الفناء سيعم الدنيا بكاملها بأرضها وسمائها وإنسانها وكل شي ء آخر، ومن جهة اخرى:

فالفناء المذكور يمثل انعطافة حادّة في مسير عالم الخليقة، ومقدمة للدخول في مرحلة وجود جديدة، ومن جهة ثالثة، فكل ما سيجري ينبئ بعظمة قدرة الخالق المطلقة، وخصوصاً في مسألة المعاد.

نعم، فسيرضخ الإنسان، بعد أن يرى بام عينيه وقوع تلك الحوادث العظام، وسيرى حصيلة أعماله الحسنة والسيئة.

وتبيّن الآية التالية معالم طريق الحياة للإنسان مخاطبة له: «يَا أَيُّهَا الْإِنسنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبّكَ كَدْحًا فَمُلقِيهِ».

«الكدح»: السعي والعناء الذي يخلق أثراً على الجسم والروح.

والآية تشير إلى أصل أساسي في الحياة البشرية، فالحياة دوماً ممزوجة بالتعب والعناء، وإن كان الهدف منها الوصول إلى متاع الدنيا، فكيف والحال إذا كان الهدف منها هو الوصول إلى رضوان اللَّه ونيل حسن مآب الآخرة؟!

فالحياة الدنيا قد جبلت على المشقة والتعب والألم، حتى لمن يرفل بأعلى درجات الرفاه المادي.

وما ذكر «لقاء اللَّه» في الآية إلّالتبيان أنّ حالة التعب والعناء والكدح حالة مستمرة إلى اليوم الموعود، ولا يتوقف إلّابانتهاء عجلة الحياة الدنيا، ولا فرق في توجيه معنى «اللقاء» سواء كان لقاء يوم القيامة والوصول إلى عرصة حاكمية اللَّه المطلقة، أو بمعنى لقاء جزاء اللَّه من عقاب أو ثواب، أو بمعنى لقاء ذاته المقدسة عن طريق الشهود الباطني.

نعم، فراحة الدنيا لا تخلو من تعب، والراحة الحقة .. هناك، حيث ينعم الإنسان بين فيافي جنان الخلد.

واستعمال كلمة «ربّ» فيه إشارة إلى ثمّة إرتباط ما بين سعي وكدح الإنسان من جهة، وذلك البرنامج التربوي الذي أعدّه الخالق لمخلوقه في عملية توجيه الإنسان نحو

الكمال المطلق من جهة اخرى.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 416

وإلى ذلك المطاف، ستنفصل البشرية إلى فريقين: «فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا* وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا».

فالذين ساروا على هدى المخطط الرباني لحركة الإنسان على الأرض، وكان كل عملهم وسعيهم للَّه دائماً، وكدحوا في السير للوصول إلى رضوانه سبحانه، فسيعطون صحيفة أعمالهم بيمينهم، للدلالة على صحة إيمانهم وقبول أعمالهم والنجاة من وحشة ذلك اليوم الرهيب، وهو مدعاة للتفاخر والإعتزاز أمام أهل المحشر.

أمّا ما المراد من «الحساب اليسير»؟ فذهب بعض إلى أنّه العفو عن السيئات والثواب على الحسنات وعدم المداقة في كتاب الأعمال.

وفي المجمع: «ثلاث من كنّ فيه حاسبه اللَّه حساباً يسيراً، وأدخله الجنة برحمته». قالوا: وما هي يا رسول اللَّه؟ قال: «تعطي من حرمك، وتصل من قطعك، وتعفو عمن ظلمك».

وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً (11) وَ يَصْلَى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً (15) الذين يستلمون كتابهم من وراء ظهرهم: بعد أن عرضت الآيات السابقة أحوال فريق أصحاب اليمين، تأتي الآيات أعلاه لتعرض لنا أحوال الفريق الآخر، وتوصف لنا كيفية إعطاء كتاب كل منهم مشرعة لتقديم المشاهد الاخرى: «وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ» ... فيصرخ وينادي الويل لي لقد هلكت: «فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا». «وَيَصْلَى سَعِيرًا».

وسيأخذ أصحاب اليمين كتبهم بافتخار ومباهاة في يدهم اليمنى، وكل منهم يقول:

«هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ» «1». ولكن المجرمين سيأخذون كتبهم بأيديهم اليسرى وبسرعة ويضعونها وراء ظهورهم خجلًا وذلًا، ولكي لا يطّلع أحد على ما فيها، ولكن، هيهات ..

فكل شي ء حينئذ بارز، كيف لا وهو «يوم البروز» ...

وتبيّن الآية التالية علة تلك

العاقبة المخزية: «إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ مَسْرُورًا».

سروراً ممتزجاً بالغرور، وغروراً احتوشته الغفلة والجهل بربّ الأرباب سبحانه

______________________________

(1) سورة الحاقّة/ 19.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 417

وتعالى، فالسرور المقصود في الآية، هو ذلك السرور المرتبط بشدّة بالدنيا والمنسي لذكر الآخرة.

ويتقرب لنا المعنى من خلال الآية التالية: «إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ».

فاعتقاده الفاسد وظنّه الباطل الدائر على نفي المعاد، مصدر سروره وغروره وهو ما سيوصله إلى الشقاء الأبدي، لأنّه ابتعد عن ساحة رضوانه سبحانه وتعالى بعد أن أوقعته شهواته في هاوية الإستهزاء بدعوة الأنبياء عليهم السلام الربانية، حتى أوصلته حالته المرضية تلك لأن يستمر في استهزاءه وسخريته حتى في حال عودته إلى أهله، كما أشارت الآية (31) من سورة المطففين: «وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ».

ولنفي العقائد الضالة، تقول الآية: «بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا».

فكلّ أعمال الإنسان تسجل وتحصى عليه لتعرض يوم الحساب في صحيفته.

والآية تشارك الآية السابقة: «يَا أَيُّهَا الْإِنسنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبّكَ كَدْحًا فَمُلقِيهِ». في كونها دليلًا على المعاد أيضاً. فتأكيد الآيتين على كلمة «ربّ» يدل على أنّ الإنسان في سيرة التكاملي صوب ربّه لا ينتهي بالموت، وأنّ الحياة الدنيا لا يمكنها أن تكون هدفاً وغاية لهذا الخلق العظيم وهذا المسار التكاملي ...

وكذلك كون اللَّه «بصيراً» بأعمال الإنسان وتسجيلها لابدّ من اعتباره مقدمةً للحساب والجزاء وإلّا لكان عبثاً، وهذا ما لا يكون.

فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَ اللَّيْلِ وَ مَا وَسَقَ (17) وَ الْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَ إِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ

لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) لمزيد من إيضاح ما ورد في الآيات السابقة بخصوص سير الإنسان التكاملي نحو خالقه سبحانه وتعالى .. تأتي الآيات لتقول: «فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ». «وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ». أي: وما جمع.

«وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ». أي: إذا اكتمل.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 418

«لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ».

«الشفق»: اختلاط ضوء النهار بسواد الليل عند غروب الشمس. ف «الشفق» هو وقت الغروب.

فقد جاء القسم بالشفق للفت الأنظار إلى ما في هذه الظاهرة السماوية الجميلة من معان، فمنه تُعلن حالة التحول العام من النهار إلى الليل، إضافة لما يتمتع به من بهاء وجمال، وكونه وقت صلاة المغرب.

وأمّا القسم بالليل، فلما فيه من آثار كثيرة وأسرار عظيمة (وقد تناولنا ذلك مفصلًا).

«ما وسق»: إشارة إلى عودة الإنسان والحيوانات والطيور إلى مساكنها عند حلول الليل (بلحاظ كون الوسق بمعنى جمع المتفرق)، فيكون عندها سكناً عاماً للكائنات الحية، وهو من أسرار وآثار الليل المهمة.

وينبغي الإلتفات إلى الصلة الموجودة فيما أقسمت الآيات بهن: (الشفق، الليل، ما اجتمع فيه، والقمر في حالة البدر) وجميعها موضوعات مترابطة ويكمل بعضها البعض الآخر، وتشكل بمجموعها لوحة فنية طبيعية رائعة، وتحرّك عند الإنسان التأمل والتفكير في عظمة ودقّة وقدرة الخالق في خلقه، ويمكن للإنسان العاقل بتأمّل هذه التحولات السريعة من التوجّه إلى قدرته جلّ شأنه على المعاد ما يحمل بين طياته من تغيّرات في عالم الوجود.

ثم يأتي جواب القسم الوارد في الآيات أعلاه: «لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ».

إشارة إلى المراحل والتحوّلات التي يمرّ بها الإنسان في حياته؛ منها:

تلك الحالات المختلفة التي يمرّ بها الإنسان في كدحه وسيره المضني نحو اللَّه جلّ وعلا، فيبدأ بحالة الدنيا، ثم ينتقل إلى عالم البرزخ ومنه إلى القيامة والآخرة.

ومن كل ما سبق .. يخرج القرآن

الكريم بنتيجة: «فَمَا لَهُمْ لَايُؤْمِنُونَ».

فمع وضوح أدلة الحق؛ مثل أدلة: التوحيد، معرفة اللَّه، المعاد، بالإضافة إلى ما من الآفاق في آيات، وكذلك الآيات التي في نفس الإنسان.

وينتقل بنا العرض القرآني من كتاب (التكوين) إلى كتاب (التدوين)، فيقول: «وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْءَانُ لَايَسْجُدُونَ».

القرآن تتلألأ أنوار الإعجاز من بين جنباته، ويشهد محتواه على أنّه من الوحي الإلهي وكل منصف يدرك جيداً لدى قراءته له أنّه فوق نتاجات عقول البشر ولا يمكن أن يصدر من إنسان مهما كان عالماً.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 419

وتأتي الآية التالية لتقول: «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذّبُونَ».

والتعبير عن ممارسة تكذيب الكافرين في الآية بصيغة المضارع المستمر، للإشارة إلى تكذيبهم المتعنت المستمر واصرارهم ولجاجتهم وليس تكذيبهم بسبب ضعف أدلة الحق.

وببيان جدّي وتهديد جدّي، تقول الآية التالية: «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ».

فاللَّه تعالى أعلم بدافع ونيّة وهدف ذلك التكذيب، ومهما تستروا على ما فعلوا فلا يجزون إلّابما كسبت أيديهم.

ثم ...: «فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ».

عادةً ما تستعمل «البشارة» للأخبار السارة، وجاءت هنا لتنم عن نوع من الطعن والتوبيخ.

والحال، إنّ البشارة الحقّة للمؤمنين خالصة بما ينتظرهم من نعيم، وما للكاذبين إلّاالغرق في بحر من الحسرة والندم، وما هم إلّافي عذاب جهنم يخلدون.

ويستثني المؤمنون من تلك البشرى المخزية: «إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ».

«ممنون»: من «المنّ» وهو القطع والنقصان، (ومنه «المنون» بمعنى الموت).

وإذا ما جمعنا كل هذه المعاني، فستكون النعم الاخروية على عكس الدنيوية الناقصة والمنقطعة والمقترنة بمنّة هذا وذاك، حيث إنّها لا تنقطع ولا تنقص وليس فيها منّة.

أمّا الإستثناء الذي ورد في الآية السابقة، ففيه بحث: هل أنّه «متصل» أو «منقطع»؟

والأقرب لسياق الآيات أن يكون الإستثناء متصلًا، وفي هذه الحال يكون هدفه فتح الطريق أمام الكفار للعودة وتشجيعهم على

ذلك، لأنّ الآية تقول: إنّ العذاب الأليم المذكور في الآية السابقة سوف لا يصيب مَن يؤمن منهم ويعمل صالحاً وعلاوة على ذلك، سيكون له أجر غير ممنون.

«نهاية تفسير سورة الإنشقاق»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 421

85. سورة البروج

محتوى السورة: بملاحظة كون السورة مكية، فيظهر إنّها نزلت لتقوية معنويات المؤمنين لمواجهة تلك الظروف الصعبة، ولترغيبهم على الصمود أمام الصعاب والثبات على الإيمان وترسيخه في القلوب.

وتناولت السورة قصة أصحاب الاخدود، الذين حفروا خندقاً وسجّروه بالنيران، وهددوا المؤمنين بإلقائهم في تلك النار إن لم يعودوا إلى كفرهم! وأحرقوا مجموعة منهم بالنار وهم أحياء، ومع ذلك لم يرجعوا عن دينهم ..

وتَعِدُ السورة في بعض آياتها بعذاب جهنم الأليم لُاولئك الذين يؤذون المؤمنين ويعذبونهم على إيمانهم، وتذمهم ذماً شديداً، في حين تبشر المؤمنين الصابرين بالجنة والفوز بنعيمها.

وفي جانب آخر من السورة، تُعرض لنا مقتطفات من قصّتي فرعون وثمود وقوميهما الجناة الطغاة، وما آلوا إليه من ذُلّ وهلاك، كل ذلك تذكيراً لكفار مكة الذين هم أضعف قوّة وأقل جنداً من اولئك، فعسى أن يرعووا عمّا هم فيه من جهة، وتسلية لقلب الحبيب المصطفى صلى الله عليه و آله ومن كان معه من المؤمنين من جهة اخرى.

وتختم السورة في آخر مقاطعها بالإشارة إلى عظمة القرآن الكريم، وإلى الأهمية البالغة لهذا الوحي الإلهي.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 422

وسمّيت بسورة «البروج» بلحاظ ذكر الكلمة في أوّل آية من السورة بعد ذكر البسملة.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير البرهان: روي عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «من قرأ هذه السورة أعطاه اللَّه من الأجر بعدد كل من اجتمع في جمعة وكل من اجتمع يوم عرفة عشر حسنات، وقراءتها تنجّي من المخاوف والشدائد».

وبملاحظة أنّ أحد تفاسير «وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ»-

من آيات السورة- هو يومي الجمعة وعرفة من جهة، وأنّ السورة حكاية مقاومة وبسالة المؤمنين السابقين أمام الشدائد والضغوط من جهة اخرى، وبملاحظة ذلك سيتّضح لنا التناسب الموجود ما بين هذا الثواب الجزيل لمن يقرءها وبين محتوى السورة، وأنّ الأجر والثواب إنّما يحصل لمن قرأها بتأمل معانيها، وعمل على ضوء هديها.

وَ السَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَ الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَ شَاهِدٍ وَ مَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَ هُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَ مَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (9) ابتدأت السورة ب: «وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ».

والأبراج السماوية: إمّا أن يكون المراد منها النجوم الزاهرة والكواكب المنيرة في السماء، أو المجموعات من النجوم تتخذ مع بعضها شكل شي ء معروف في الأرض، وتسمى ب «الصور الفلكية» وهي إثنا عشر برجاً، وفي كل شهر تحاذي الشمس أحد هذه البروج، (طبيعي أنّ الشمس لا تتحرك تلك الحركة، وإنّما الأرض تدور حول الشمس فيبدو لنا تغيّر موضع الشمس بالنسبة إلى الصور الفلكية أو الأبراج).

وتقول الآية الثانية: «وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ».

اليوم الذي وعد به جميع الأنبياء والمرسلين عليهم السلام والذي تحدثت عنه مئات الآيات القرآنية المباركة.

وفي القسم الثالث والرابع يقول: «وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 423

وقد تعرض المفسرون للآية بمعان متباينة، وصلت إلى ثلاثين معنى وأدناه أهم ما ذُكر منها:

1- إنّ «الشاهد»: محمّد صلى الله عليه و آله؛ و «المشهود»: يوم القيامة.

2- «الشاهد»: ما سيشهد على أعمال الناس، كأعضاء بدنه؛ و «المشهود»: الناس وأعمالهم.

3- «الشاهد»: يوم الجمعة؛ و «المشهود»: يوم عرفة.

4- «الشاهد»: عيد الأضحى؛

و «المشهود»: يوم عرفة.

5- «الشاهد»: الأيام والليالي؛ و «المشهود»: بنو آدم، حيث تشهد على أعمالهم.

6- «الشاهد»: الملائكة؛ و «المشهود»: القرآن.

7- «الشاهد»: الحجر الأسود؛ و «المشهود»: الحاج.

8- «الشاهد»: الخلق؛ و «المشهود»: الحق.

9- «الشاهد»: هذه الامّة؛ و «المشهود»: سائر الامم.

10- «الشاهد»: الأنبياء عليهم السلام؛ و «المشهود»: محمّد صلى الله عليه و آله.

11- «الشاهد»: النبي صلى الله عليه و آله؛ و «المشهود»: أمير المؤمنين عليه السلام.

وإذا ما أدخلنا الآية في سياق الآيات السابقة لها، فسنصل إلى أنّ «الشاهد» هو كل من سيقوم بالشهادة يوم القيامة؛ كشهادة: النبي صلى الله عليه و آله وكل نبيّ على امّته، الملائكة، بالإضافة إلى شهادة: أعضاء بدن الإنسان، الليل والنهار ... إلخ؛ و «المشهود»: الناس أو أعمالهم.

وبهذا يُدغم الكثير من التفاسير المذكورة مع بعضها لتشكل مفهوماً واسعاً للآية المباركة، لأنّ «الشاهد» ينطبق على كل من وما يشهد، وكذا «المشهود» ينطبق على كل من وما يشهد عليه، وما ورودهما بصيغة النكرة إلّالتعظيمهما.

فالسماء وما فيها من بروج تحكي عن نظام وحساب دقيق، و «اليوم الموعود» يوم حساب وكتاب دقيق أيضاً، و «شاهد ومشهود» أيضاً وسيلة للحساب الدقيق على أعمال الإنسان، وكل ذلك لتذكير الظالمين الذين يعذّبون المؤمنين، عسى أن يكّفوا عن فعلتهم السيئة، ولإعلامهم بأنّ كل ما يفعله الإنسان يسجل عليه وبحساب دقيق جدّاً وسيواجه بها في اليوم الموعود بين عتبات ساحة العدل الإلهي.

وبعد هذه الأقسام الأربع، تقول الآية التالية: «قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 424

والمقصود هم الظالمين لا من القي في النار، فالجملة إنشائية والمراد هو اللعن والدعاء عليهم.

والاخدود ملي ء بالنار الملتهبة: «النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ».

وكان الظالمون جالسون على حافة الاخدود يشاهدون المعذبين فيها: «إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ». «وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ».

«الاخدود»:

شقّ في الأرض مستطيل غائص، والجمع أخاديد، وأصل ذلك من «خدّ» الإنسان، وهو تقعر بسيط يكتنف الأنف من اليمين والشمال (وعند البكاء تسيل الدموع من خلاله) ثم اطلق مجازاً على الخنادق والحفر في الأرض، ثم صار معنى حقيقياً لها.

أمّا من هم الذين عذّبوا المؤمنين؟ ومتى؟ إنّهم حفروا خندقاً عظيماً ووجّروه بالنيران، وأوقفوا المؤمنين على حافة الخندق وطلبوا منهم واحداً واحداً بترك إيمانهم والرجوع إلى الكفر، ومن رفض القي بين ألسنة النيران حياً ليذهب إلى ربّه صابراً محتسباً!

«الوقود»: ما يجعل للإشتعال، و «ذات الوقود»: إشارة إلى كثرة ما فيها من الوقود، وشدّة اشتعالها، فالنار لا تخلو من وقود، ولعل ما قيل من أنّ «ذات الوقود» بمعنى ذات اللهب الشديد، يعود للسبب المذكور.

والآيتان: «إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ* وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ»، تشيران إلى ذلك الجمع من الناس الذين حضروا الواقعة، وهم ينظرون إلى ما يحدث بكل تلذذ وبرود وفي منتهى قساوة القلب (ساديّة).

وتقول الآية التالية: «وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ».

وذكر «العزيز الحميد» جواب لما اقترفوا من جريمة بشعة، واحتجاج على اولئك الكفرة، إذ كيف يكون الإيمان باللَّه جرم وذنب؟! وهو أيضاً تهديد لهم بأن يأخذهم اللَّه العزيز الحميد جزاء ما فعلوا، أخذ عزيز مقتدر.

وتأتي الآية الاخرى لتبيّن صفتين اخرتين للعزيز الحميد: «الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ شَهِيدٌ».

فالصفات الأربعة المذكورة، تمثل رمز معبوديته جلّ وعلا، فالعزيز والحميد .. ذو الكمال المطلق، ومالك السماوات والأرض والشهيد على كل شي ء .. أحقّ أن يُعبد وحده دون غيره، لا شريك له.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 425

إضافة إلى كونها بشارة للمؤمنين، بحضور اللَّه سبحانه وتعالى ورؤيته لصبرهم وثباتهم على الإيمان، فيدفع فيهم الحيوية

والنشاط والقوة.

ومن جهة اخرى تهديد للكفار، وإفهامهم بأنّ عدم منع إرتكاب مثل هذه الجرائم الخبيثة، ليس لعجز أو ضعف منه جلّ شأنه، وإنّما ترك العباد يفعلون ما يرونه هم، امتحاناً لهم، وسيريهم في عاقبة أمرهم جزاء ما فعلوا، وما للظالمين إلّاالعذاب المهين.

بحث

من هم أصحاب الاخدود؟ إنّ «الاخدود» هو الشق العظيم في الأرض، أو الخندق .. وهو في الآية إشارة إلى تلك الخنادق التي ملأها الكفار ناراً ليردعوا فيها المؤمنين بالتنازل عن إيمانهم والرجوع إلى ما كانوا عليه من كفر وضلال.

وكان سببهم أنّ الّذي هيج الحبشة على غزوة اليمن ذونواس وهو آخر من ملك من حِمير «1» تهوّد، واجتمعت معه حمير على اليهودية، وسمّى نفسه يوسف، وأقام على ذلك حيناً من الدهر، ثم اخبر أنّ بنجران [شمال اليمن بقايا قوم على دين النصرانية، وكانوا على دين عيسى عليه السلام وعلى حكم الإنجيل، ورأس ذلك الدين عبداللَّه بن بريا فحمله أهل دينه على أن يسير إليهم ويحملهم على اليهودية، ويدخلهم فيها، فسار حتى قدم نجران، فجمع من كان بها على دين النصرانية، ثم عرض عليهم دين اليهودية والدخول فيها، فأبوا عليه، فجادلهم وعرض عليهم وحرص الحرص كله، فأبوا عليه وامتنعوا من اليهودية والدخول فيها، واختاروا القتل، فخد لهم اخدوداً جمع فيه الحطب، وأشعل فيه النار، فمنهم من احرق بالنار، ومنهم من قُتل بالسيف، ومُثّل بهم كل مثلة. فبلغ عدد من قُتل واحرق بالنار عشرين ألفاً «2».

وأضاف بعض آخر: إنّ رجلًا من نصارى نجران تمكّن من الهرب، فالتحق بالروم وشكا ما فعل (ذو نواس) إلى قيصر.

فقال قيصر: إنّ أرضكم بعيدة، ولكنّي سأكتب كتاباً إلى ملك الحبشة النصراني وأطلب منه مساعدتكم.

ثم كتب رسالته إلى ملك الحبشة، وطلب منه

الإنتقام لدماء المسيحيين التي اريقت في

______________________________

(1) حمير: إحدى قبائل اليمن المعروفة.

(2) تفسير علي بن ابراهيم القمي 2/ 413.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 426

نجران، فلما قرأ الرسالة تأثّر جدّاً، وعقد العزم على الإنتقام لدماء شهداء نجران.

فأرسل كتائبه إلى اليمن والتقت بجيش (ذو نواس)، فهزمته بعد معركة طاحنة، وأصبحت اليمن ولاية من ولايات الحبشة «1».

إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَ لَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَ يُعِيدُ (13) وَ هُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) العذاب الإلهي للمجرمين: بعد ذكر عظم جريمة أصحاب الاخدود التي ارتكبت ضد المؤمنين بحرقهم وهم أحياء، يشير القرآن الكريم في هذه الآيات إلى ما ينتظر اولئك الجناة من عذاب إلهي شديد، ويشير أيضاً إلى ما اعدّ للمؤمنين من ثواب ونعيم جراء صبرهم وثباتهم على إيمانهم باللَّه. فتقول الآية الاولى: «إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ».

«فتنوا»: من مادة «فتن» وهو إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته، وقد استعملت «الفتنة» بمعنى (الإختبار)، وبمعنى (العذاب والبلاء)، وبمعنى (الضلال والشرك) أيضاً؛ وهي في الآية بمعنى (العذاب).

«ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا»: تدلّ على أنّ باب التوبة مفتوح حتى لُاولئك الجناة المجرمين، وتدلّ أيضاً على مدى لطف الباري جلّ وعلا على الإنسان حتى وإن كان مذنباً، وفي الجملة تنبيه لأهل مكة ليسارعوا في ترك تعذيب المؤمنين ويتوبوا إلى اللَّه توبة نصوح.

وقد ورد في الآية لونين من العذاب الإلهي: «عَذَابُ جَهَنَّمَ» و «عَذَابُ الْحَرِيقِ»، للإشارة إلى

أنّ لعذاب جهنم ألوان عديدة، منها (عذاب النار)، وتعيين «عذاب الحريق»، للإشارة أيضاً إلى أنّ الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات وأحرقوهم بالنار، سوف يجازون بذات أساليبهم، ولكن أين هذه النار من تلك؟!

______________________________

(1) قصص القرآن، للبلاغي/ 288.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 427

وتعرض لنا الآية التالية ما سيناله المؤمنون من ثواب: «إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ».

وأيّ فوز أرقى وأسمى من الوصول إلى جوار اللَّه، والتمتع في نعيمه الذي لا يوصف! نعم، فمفتاح ذلك الفوز العظيم هو (الإيمان والعمل الصالح)، وما عداه فروع لهذا الأصل.

ويعود القرآن مرّة اخرى لتهديد الكفار الذين يفتنون المؤمنين، فيقول: «إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ».

ولا تظنوا بأنّ القيامة أمر خيالي، أو إنّ المعاد من الامور التي يشك في صحة تحققها، بل:

«إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ».

«البطش»: تناول الشي ء بصولة وقهر، وباعتباره مقدمة للعقاب، فقد استعمل بمعنى العقاب والمجازاة؛ «ربّك»: تسلية للنبيّ صلى الله عليه و آله، وتأكيد دعم اللَّه اللامحدود له.

ثم يعرض لنا القرآن الكريم خمسة أوصاف للباري جلّ شأنه: «وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ».

الذي يغفر للتائبين ويحب المؤمنين.

«ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ». صاحب الحكومة المقتدرة على عالم الوجود وذو المجد والعظيمة.

«فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ».

فذكر هذه الأوصاف بعد ما تضمّنته الآيات السابقة من تهديد ووعيد، يبيّن أنّ طريق العودة إلى اللَّه سالك وأنّ باب التوبة مفتوح لكل من ولغ في الذنوب، فالباري جلّت عظمته في الوقت الذي هو شديد العقاب فهو الغفور الرحيم أيضاً.

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَ ثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَ اللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) ألم تر ما حلّ بجيش فرعون وثمود: فيما تعرضت الآيات السابقة لقدرة

اللَّه المطلقة وحاكميته، ولتهديد الكفار الذين يفتنون المؤمنين .. تتعرض الآيات أعلاه لما يؤكّد هذا التهديد، فتخاطب النبي صلى الله عليه و آله قائلة: «هَلْ أَتَيكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ». تلك الكتائب الجرارة التي وقفت بوجه أنبياء اللَّه بتصورها الساذج بأنّها ستقف أمام قدرة اللَّه عزّ وجل.

وتشير إلى نموذجين واضحين، أحدهما من غابر الزمان، والآخر في زمن قريب من صدر دعوة الإسلام: «فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 428

فأحدهما ملك الشرق والغرب، والآخر وصلت مدنيته لأن يحفر الجبال لبناء البيوت والقصور الفخمة، ولهما من الجبروت ما لم يستطع أحد من الوقوف بوجههم، ولكن العزيز الجبار أهلكهم بالماء والهواء، مع ما لهاتين المادتين من الوسائل المهمة المستلزمة لأساسيات حياة الإنسان.

وتقول الآية التالية: «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى تَكْذِيبٍ».

فآيات ودلائل الحق ليست بخافية على أحد، ولكن العناد واللجاجة هما اللذان يحجبان عن رؤية طريق الحق والإيمان.

وكأنّ «بل» تشير إلى أنّ عناد وتكذيب أهل مكة أشدّ وأكثر من قوم فرعون وثمود وهم مشغولون دائماً بتكذيب الحق وانكاره ويستخدمون كل وسيلة في هذا الطريق.

وعليهم أن يعلموا بقدرة اللَّه: «وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ».

فلا يدل الإمهال على الضعف أو العجز، ولا يعني عدم تعجيل إنزال العقوبة الإلهية بأنّهم قد خرجوا عن قدرته جلّ شأنه.

وتقول الآية التالية: «بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ». ذو مكانة سامية ومقام عظيم.

«فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ». لا تصل إليه يد العبث، والشيطنة، ولا يصيبه أيّ تغيير أو تبديل، أو زيادة أو نقصان.

فلا تبتئس يا محمّد بما ينسبونه إليك افتراءً، كأن يتهموك بالشعر، السحر، الكهانة والجنون ... فاصولك ثابتة، وطريقك نيّر، والقادر المتعال معك.

«لَوح»: هو الصفحة العريضة التي يكتب عليها، ويراد هنا: الصفحة التي كتب فيها القرآن، لكنّها ليست كالألواح المتعارفة عندنا، بل (وعلى قول

ابن عباس): إنّ اللوح المحفوظ طوله ما بين السماء والأرض وعرضه ما بين المشرق والمغرب.

ويبدو أنّ اللوح المحفوظ، هو «علم اللَّه» الذي يملاء الشرق والغرب، ومصان من أيّ اختلاق أو تحريف.

«نهاية تفسير سورة البروج»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 429

86. سورة الطارق

محتوى السورة: تدور مواضيع السورة حول محورين:

1- المعاد والقيامة.

2- القرآن الكريم وأهميته القيمة.

تبتدأ السورة بجملة أقسام تبعث على التأمل والتفكير، ثم تشير إلى المراقبين الإلهيين على الإنسان.

وتنتقل السورة لإثبات إمكانية المعاد من خلال الإشارة إلى كيفية خلق الإنسان من نطفة. فالقادر على خلق الإنسان من نطفة نتنة لقادر على إعادة حياته بعد موته.

وتعرض لنا السورة بعد ذلك معالم المرحلة التالية من خلال تبيان بعض ملامح يوم القيامة، ثم تذكر جملة أقسام اخرى للتأكيد على أهمية القرآن، ومن ثم نختم بإنذار الكفار بالعذاب الإلهي.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان: ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأها أعطاه اللَّه بعدد كل نجم في السماء عشر حسنات».

إنّ التأمل بمحتوى السورة والعمل على ضوئها هو الذي يضمن حصول ثوابها، وحركة اللسان الفارغة عن كل محتوى وتطبيق، لا تغني عن الحق شيئاً.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 430

وَ السَّمَاءِ وَ الطَّارِقِ (1) وَ مَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَ لَا نَاصِرٍ (10) تبتدأ السورة- كمثيلاتها من سور الجزء الأخير من القرآن الكريم- بعدّة أقسام بليغة تبعث على التأمل، وهي مقدمة لبيان أمر مهم.

«وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ» .. «وَمَا أَدْرَيكَ

مَا الطَّارِقُ» .. «النَّجْمُ الثَّاقِبُ».

«الطارق»: من (الطرق) وهو الضرب، ولهذا قيل (الطريق) لما تطرقه أرض المشاة.

ويفسّر القرآن الكريم «الطارق» بقوله: «النَّجْمُ الثَّاقِبُ». النجم اللامع الذي مع علوّه الشاهق وكأنّه يريد أن يثقب سقف السماء، وكأنّ نوره المتشعشع يريد أن يثقب ستار الليل الحالك، فيجلب الأنظار بميزته هذه.

ولنرى لأي شي ء كان هذا القسم: «إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ».

يحفظ عليه أعماله، وتسجل كل أفعاله، ليوم الحساب.

فلا تظنوا بأنّكم بعيدون عن الأنظار، بل أينما تكونوا فثمّة عليكم ملائكة مأمورين يسجلون كل ما يبدر منكم .. وهذا ما له الأثر البالغ في عملية إصلاح وتربية الإنسان.

ثم يستدل القرآن الكريم على المعاد في مقابل من يقول باستحالة المعاد: «فَلْيَنظُرِ الْإِنسنُ مِمَّ خُلِقَ».

وبهذا ... أخذ القرآن الكريم بأيدي الجميع وأرجعهم إلى أوّل خلقهم، مستفهماً عمّا خلق منه الإنسان.

وبدون أن ينتظر الجواب من أحد يجيب القرآن على استفهامه: «خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ».

وهو ماء الرجل الذي تسبح فيه الحيامن، ويخرج بدفق.

ويستمر في تقريب المراد: «يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ».

«الصلب»: الظهر؛ و «الترائب»: جمع (تريبة)، وهي عظام الصدر العليا وضلوعه.

فالآيات تشير إلى ماء الرجل دون المرأة، بقرينة «ماء دافق»، وهذا لا يصدق إلّاعلى

مختصر الامثل، ج 5، ص: 431

الرجل، وعليه يعود الضمير في «يخرج».

و «الصلب والترائب» هما ظهر الرجل وقسمه الأمامي، لأنّ ماء الرجل إنّما يخرج من هاتين المنطقتين.

وهذا التفسير واضح، ينسجم مع ما ورد في كتب اللغة بخصوص المصطلحين.

كما ويمكن أن تكون الآية قد أشارت إلى حقيقة علمية مهمة لم يتوصل إلى اكتشافها بعد، وربّما المستقبل سيكشف ما لم يكن بالحسبان.

ونصل مع القرآن إلى نتيجة ما تقدم من الذكر الحكيم: «إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ».

فالإنسان تراباً قبل أن يكون نطفة، ثم مرّ بمراحل عديدة مدهشة

حتى أصبح إنساناً كاملًا، وليس من الصعوبة بحال على الخالق أن يعيد حياة الإنسان بعد أن نخرت عظامه وصار تراباً، فالذي خلقه من التراب أوّل مرّة قادر على إعادته مرّة اخرى.

وتصف لنا الآية التالية ذلك اليوم الذي سيرجع فيه الإنسان: «يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ».

«تبلى»: من «البلوى»، بمعنى الإختبار والإمتحان، وهو هنا الظهور والبروز، لأنّ الإمتحان يكشف عن حقيقة الأشياء ويظهرها.

«السرائر»: جمع (سريرة)، وهي صفات ونوايا الإنسان الداخلية.

نعم، فأسرار الإنسان الدفينة ستظهر في ذلك اليوم، يوم البروز ويوم الظهور، فسيظهر على الطبيعة كل من: الإيمان، الكفر، النفاق، نيّة الخير، نيّة الشر، الإخلاص، الرياء ...

وسيكون ذلك الظهور مدعاة فخر ومزيد نعمة للمؤمنين، ومدعاة ذلّة ومهانة وحسرة للمجرمين ...

وما أشد ما سيلاقي من قضى وطراً من عمره بين الناس بظاهر حسن ونوايا خبيثة. وما أتعسه حينما تهتك أقنعته المزيفة فيظهر على حقيقته أمام كل الخلائق.

ولكن أشدّ صعاب ذلك اليوم على الإنسان: «فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ».

فلا يملك تلك القوّة التي تخفي أعماله ونيّاته، وليس له ذلك الظهير الذي يعينه عن الخلاص من عذاب اللَّه سبحانه وتعالى.

وَ السَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَ الْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَ مَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَ أَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 432

بعد أن تضمّنت الآيات السابقة استدلالًا على المعاد، بطريق توجيه الإنسان إلى بداية خلقه، تعود هذه الآيات إلى المعاد مرّة اخرى، لتشير إلى بعض الأدلة الاخرى عليه فتقول:

«وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ» ... «وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ» ... «إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ» ... «وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ».

«الرجع»: من «الرجوع» بمعنى العود، ويطلق على الأمطار اسم (الرجع) لأنّها تبدأ من مياه الأرض والبحار، ثم

تعود إليها تارة اخرى عن طريق الغيوم.

فالقسمان يشيران إلى إحياء الأراضي الميتة بالأمطار، وهذا ما تكرر ذكره في القرآن الكريم كدليل على إمكانية المعاد، كما في قوله تعالى في الآية (11) من سورة «ق»:

«وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذلِكَ الْخُرُوجُ».

وتسلّي الآيات التالية قلب النبي صلى الله عليه و آله والمؤمنين من جهة، وتتوعد أعداء الإسلام من جهة اخرى: «إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا». فالكفار يخططون من جهة، وأنا أخطط لإحباط تلك الخطط من جهة اخرى .. «وَأَكِيدُ كَيدًا». «فَمَهّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا»، حتى يروا عاقبتهم.

نعم، إنّهم دوماً يكيدون في حربك والحرب ضد دينك.

فتارة بالإستهزاء ...

واخرى بالحصار الإقتصادي ...

ومرّة بتعذيب المؤمنين ...

ويقولون عنك: ساحراً، كاهناً، مجنوناً ...

ويقولون لك: أبعد الفقراء والمستضعفين عنك حتى نتّبعك

ومراد الآية هو كيد الأعداء، وقد تعرضنا لبعض نماذجه أعلاه.

والمقصود بالكيد الإلهي إنّه تلك الألطاف الإلهية التي غمرت النبي صلى الله عليه و آله ومن معه من المؤمنين، وما كان يصيب أعداء الإسلام من فشل مخططاتهم وخيبة مساعيهم.

هذه الآية درس للمسلمين في الكيفية التي ينبغي العمل بها عند مواجهة أعداءهم، وخصوصاً ماإذا كانوا أعداءً أقوياء، فلابدّ من الصبر والتأنّي والدقّة في حساب خطوات المواجهة، وينبغي عدم التسرع في العمل، وكذا عدم تنفيذ القرارات غير المدروسة.

«نهاية تفسير سورة الطّارق»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 433

87. سورة الأعلى

محتوى السورة: تحتوي السورة على قسمين من المواضيع:

1- يحوي خطاباً إلى النبي صلى الله عليه و آله، يأمره الباري سبحانه فيه بالتسبيح وأداء الرسالة، ثم ذكر سبعاً من صفات اللَّه عزّ وجل، لها صلة ربط بالأمر الرباني إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله.

2- يتحدث عن المؤمنين الخاشعين، والكافرين الأشقياء، ويتناول باختصار العوامل التي تؤدي إلى كل من السعادة والشقاء الحق.

وفي آخر

السورة، يأتي التأكيد على أنّ ما جاء في هذه السورة ليس هو حديث القرآن الكريم فقط، بل وتناولته كتب وصحف الأوّلين أيضاً، كصحف إبراهيم وموسى عليهما السلام.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان ابي بن كعب قال: قال النبي صلى الله عليه و آله: «من قرأها أعطاه اللَّه من الأجر عشر حسنات بعدد كل حرف أنزله اللَّه على إبراهيم وموسى ومحمّد عليهم السلام».

وعن أبي بصير عن الصادق عليه السلام قال: «من قرأ سبّح اسم ربّك الأعلى في فريضة أو نافلة قيل له يوم القيامة: ادخل الجنة من أيّ أبواب الجنة شئت».

فيبدو أنّ السورة من الأهمية بحيث روي عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: «كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يحب هذه السورة «سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الْأَعْلَى ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 434

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) تسبيح اللَّه: تبدأ السورة بخلاصة دعوة الأنبياء عليهم السلام، حيث التسبيح والتقديس أبداً للَّه الواحد الأحد، فتخاطب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بالقول: «سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الْأَعْلَى».

فمراد الآية أن لا يوضع اسمه جلّ شأنه في مصاف أسماء الأصنام، ويجب تنزيه ذاته المقدسة من كل عيب ونقص، ومن كل صفات المخلوق وعوارض الجسم، أي أن لا يحد.

«الْأَعْلَى»: أي الأعلى من كل: أحد، تصوّر، تخيّل، قياس، ظن، وهم، ومن أي شرك بشقيه الجلي والخفي.

«رَبّكَ»: إشارة إلى أنّه غير ذلك الرب الذي يعتقد به عبدة الأصنام.

وبعد ذكر هاتين الصفتين (الربّ والأعلى)، تذكر الآيات التالية خمس صفات تبيّن ربوبية اللَّه العليا ...: «الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى .

فنظام عالم الخليقة، بدءاً من

أبسط الأشياء، كبصمات الأصابع التي أشارت إليها الآية (4) من سورة القيامة: «بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ». وانتهاءً بأكبر منظومة سماوية كلّها شواهد ناطقة على ربوبية اللَّه سبحانه وتعالى، وأدلة إثبات قاطعة على وجوده عزّ وجل.

وبعد ذكر موضوعي الخلق والتنظيم، تنتقل بنا الآية التالية إلى حركة الموجودات نحو الكمال: «وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى .

والمراد ب (قدّر)، هو: وضع البرامج، وتقدير مقادير الامور اللازمة للحركة باتجاه الأهداف المرسومة التي ما خلقت الموجودات إلّالأجلها.

والمراد ب (هدى هنا، هو: الهداية الكونية، على شكل غرائز وسنن طبيعية حاكمة على كل موجود (ولا فرق في الغرائز والدوافع سواء كانت داخلية أم خارجية).

فمثلًا، إنّ اللَّه خلق ثدي المرأة وجعل فيه اللبن لتغذية الطفل، وفي ذات الوقت جعل عاطفة الامومة شديدة عند المرأة، ومن الطرف الآخر جعل في الطفل ميلًا غريزياً نحو ثدي امّه، فكلّ هذه الإستعدادات والدوافع وشدّة العلاقة الموجودة بين الام والإبن والثدي

مختصر الامثل، ج 5، ص: 435

مقدّر بشكل دقيق، كي تكون عملية السير نحو الهدف المطلوب طبيعية وصحيحة.

وهذا التقدير الحكيم ما نشاهده بوضوح في جميع الكائنات.

وقد اختص الإنسان بهداية تشريعية إضافة للهداية التكوينية يتلقاها عن طريق الوحي وإرسال الأنبياء عليهم السلام لتكتمل أمامه معالم الطريق من كافة جوانبه.

وتشير الآية التالية إلى النباتات، وما يخصّ غذاء الحيوانات منها: «وَالَّذِى أَخْرَجَ الْمَرْعَى .

ثم: «فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى .

«الغثاء»: هو ما يطفح ويتفرق من النبات اليابس على سطح الماء الجاري، ويطلق أيضاً على ما يطفح على سطح القدر عند الطبخ، ويستعمل كناية عن: كل ضائع ومفقود، وجاء في الآية بمعنى: النبات اليابس المتراكم.

«أحوى»: من (الحوة)- على زنة قوّة- وهي شدّة الخضرة، أو شدّة السواد.

فللغثاء الأحوى منافع كثيرة .. فهو يشير بشكل غير مباشر

إلى فناء الدنيا، وكذا غذاء جيد للحيوانات في الشتاء، ويستعمل كسماد طبيعي للأرض، وكذا يستعمله الإنسان كوقود.

سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ مَا يَخْفَى (7) وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَ يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَ لَا يَحْيَى (13) فيما كان الحديث في الآيات السابقة عن ربوبية اللَّه وتوحيده جلّ شأنه، والهداية العامة للموجودات، وكذا عن تسبيح الرب الأعلى .. تأتي الآيات أعلاه لتتحدث عن: القرآن والنّبوّة، وهداية الإنسان، وكذا البيان القرآني للتسبيح. فتقول الآية الاولى مخاطبة النبي صلى الله عليه و آله: «سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى . فلا تتعجل نزول القرآن، ولا تخف من نسيان آياته، فالذي أرسلك بهذه الآيات لهداية البشرية كفيل بحفظها، وبخطها على قلبك الطاهر بما لا يمكن لآفة النسيان من قرض ولو حرف واحد منها أبداً.

وتدخل الآية في سياق الآية (114) من سورة طه: «وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن

مختصر الامثل، ج 5، ص: 436

يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْمًا». وكذا الآية (16 و 17) من سورة القيامة: «لَاتُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ» تدخل في سياقهما.

ولإثبات قدرته سبحانه وتعالى، وأنّ كل خير منه، تقول الآية: «إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى . ولا يعني هذا الإستثناء بأنّ النسيان قد أخذ من النبي صلى الله عليه و آله وطراً، وإنّما هو لبيان أنّ قدرة حفظ الآيات هي موهبة منه سبحانه وتعالى، ومشيئته هي الغالبة أبداً، وإلّا لتزعزعت الثقة بقول النبي صلى الله عليه و آله.

فمن معاجز النبي الأكرم صلى الله عليه و

آله، قابليته على حفظ الآيات والسور الطوال بعد تلاوة واحدة من جبرائيل عليه السلام، دون أن ينسى منها شيئاً أبداً.

وتخاطب الآية التالية النبي الكريم صلى الله عليه و آله مسلية له: «وَنُيَسّرُكَ لِلْيُسْرَى . أي: إخبار النبيّ بصعوبة الطريق في كافة محطاته، من تلقي الوحي وحفظه حتى البلاغ والنشر والتعليم والعمل به، وتطمئنه بالرعاية والعناية الربانية، بتذليل صعابه من خلال تيسيرها له صلى الله عليه و آله.

وبعد أن تبيّن الآيات العناية الربانية للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله، تنتقل إلى بيان مهمته الرئيسية:

«فَذَكّرْ إِن نَّفَعَتِ الذّكْرَى .

قيل: الإشارة هنا إلى أنّ التذكير بحدّ ذاته نافع، وقليل اولئك الذين لا ينتفعون به، والحد الأدنى للتذكير هو إتمام الحجة على المنكرين، وهذا بنفسه نفع عظيم.

وتقسم الآيات التالية الناس إلى قسمين، من خلال مواقفهم تجاه الوعظ والإنذار الذي مارسه النبي صلى الله عليه و آله ...: «سَيَذَّكَرُ مَن يَخْشَى .

نعم، فإذا ما فقد الإنسان روح «الخشية» والخوف ممّا ينبغي أن يخاف منه، وإذا لم تكن فيه روحية طلب الحق- والتي هي من مراتب التقوى- فسوف لا تنفع معه المواعظ الإلهية، ولا حتى تذكيرات الأنبياء ستنفعه، على هذا الأساس كان القرآن «هدًى للمتّقين».

وتذكر الآية التالية القسم الثاني، بقولها: «وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى».

ويعرض لنا القرآن عاقبة القسم الثاني: «الَّذِى يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى .. «ثُمَّ لَايَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى . أي، لا يموت ليخلص من العذاب، ولا يعيش حياةً خالية من العذاب، فهو أبداً يتقلقل بالعذاب بين الموت والحياة.

إنّ وصف نار جهنم ب «الكبرى» مقابل (النار الصغرى) في الحياة الدنيا.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 437

في تفسير علي بن إبراهيم عن الصادق عليه السلام قال: «إنّ ناركم هذه جزءاً من سبعين جزء من نار

جهنم، وقد اطفئت سبعين مرّة بالماء ثم التهبت ولولا ذلك ما استطاع آدمي أن يطفيها».

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقَى (17) إِنَّ هذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسَى (19) بعد أن عرضت الآيات السابقة صورة العذاب ومعاناة أهله، يأتي الحديث عن الذين نفعتهم الذكرى، ممن استمعوا إلى دعوة الهدى فطهروا أنفسهم من المعاصي والآثام، وخشعت قلوبهم لذكر اللَّه .. ويقول القرآن: «قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى . «وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلَّى .

فأساس الفلاح بالنجاة من العذاب والفوز بالنعيم الخالد، يعتمد على ثلاثة أركان رئيسية: «التزكية»، «ذكر اسم اللَّه» و «الصلاة».

إنّ «التزكية» ذات مداليل واسعة تشمل: تطهير الروح من الشرك، تطهير القلب من الرذائل الأخلاقية، تطهير الأعمال من المحرمات والرياء، تطهير الأموال والأبدان بإعطاء الزكاة والصدقات في سبيل اللَّه: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكّيهِم بِهَا».

ويشير البيان القرآني إلى العامل الأساس في عملية الإنحراف عن جادة الفلاح: «بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا» .. «وَالْأَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى .

في عوالي اللئالي عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «حبّ الدنيا رأس كل خطيئة».

وعليه ... فلا سبيل لقطع جذور المعاصي إلّابإخراج حبّ الدنيا وعشقها من القلب.

ينبغي علينا أن ننظر إلى الدنيا بواقعية وعقلائية، فالدنيا ليست أكثر من مرحلة إنتقالية أو معبر أو مزرعة الآخرة.

وتختم السورة ب: «إِنَّ هذَا لَفِى الصُّحُفِ الْأُولَى .. «صُحُفِ إِبْرهِيمَ وَمُوسَى .

و «الصحف الاولى»: مقابل «الصحف الأخيرة» التي انزلت على المسيح عليه السلام وعلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله.

ونستدل بالآية الأخيرة بأنّ لإبراهيم وموسى عليهما السلام كتباً سماوية.

وفي تفسير مجمع البيان عن أبي ذر أنّه قال: قلت

يا رسول اللَّه! كم الأنبياء؟ فقال: «مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألفاً». قلت: يا رسول اللَّه! كم المرسلون منهم؟ قال: «ثلاثمائة

مختصر الامثل، ج 5، ص: 438

وثلاثة عشر، وبقيتهم أنبياء». قلت: كان آدم عليه السلام نبيّاً؟ قال: «نعم، كلّمه اللَّه وخلقه بيده. يا أباذر! أربعة من الأنبياء عرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيّك». قلت: يا رسول اللَّه! كم أنزل اللَّه من كتاب؟ قال: «مائة واربعة كتب، أنزل اللَّه منها على آدم عليه السلام عشر صحف، وعلى شيث خمسين صحيفة، وعلى أخنوخ وهو إدريس ثلاثين صحيفة، وهو أوّل من خط بالقلم، وعلى إبراهيم عشر صحائف، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان».

«نهاية تفسير سورة الأعلى»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 439

88. سورة الغاشية

محتوى السورة: تدور محتويات السورة على ثلاثة محاور:

1- بحث «المعاد»، وبيان حال المجرمين بما فيه من شقاء وتعاسة، ووصف حال المؤمنين وهم يرفلون بنعيم لا ينضب.

2- بحث «التوحيد»، ويتناول موضوع خلق السماء والجبال والأرض، ونظر الإنسان إليها.

3- بحث «النبوّة»، مع عرض لبعض وظائف النبي صلى الله عليه و آله.

وعموماً، فالسورة تسير على منهج السور المكية في تقوية اسس الإيمان والإعتقاد.

فضيلة السورة: في تفسير مجمع البيان ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأها حاسبه اللَّه حساباً يسيراً».

وأبو بصير عن الصادق عليه السلام قال: «من أدمن قراءة هل أتاك حديث الغاشية في فرائضه أو نوافله، غشاه اللَّه برحمته في الدنيا والآخرة، وأعطاه الأمن يوم القيامة من عذاب النار».

وبديهي أنّ الثواب المذكور لا يحصل إلّالمن تلاها بتأمل وعمل.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 440

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا

يُسْمِنُ وَ لَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) المتعبون ... الأخسرون: تبتدأ السورة بذكر اسم جديد ليوم القيامة: «هَلْ أَتَيكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ». «الغاشية»: من «الغشاوة» وهي التغطية، وسمّيت القيامة بذلك لأنّ حوادثها الرهيبة ستغطي فجاءة كل شي ء.

وتصف الآيات التالية، حال المجرمين في يوم القيامة، فتقول أوّلًا: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ».

لا شك أنّ الوضع النفسي والروحي، تنعكس آثاره على وجه صاحبه، لذا فسترى تلك الوجوه وقد علتها علائم الخسران والخشوع لما أصابها من ذلّ وخوف ووحشة وهم بانتظار ما سيحل بهم من عذاب مهين أليم.

وتصف حال تلك الوجوه ثانياً: «عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ».

فكل ما سعوا وكدوا فيه في الحياة الدنيا سوف لا يجنون منه إلّاالتعب والنصب، وذلك:

لأنّ أعمالهم غير مقبولة عند اللَّه، وما جمعوه من أموال وثروات قد ذهبت لغيرهم، ولا يملكون من ذكر صالح يعقبهم في الدنيا ولا ولد صالح يدعو ويستغفر اللَّه لهم.

وخاتمة مطاف تلك الوجوه التعبة الذليلة أن: «تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً».

ولن يقف عذابهم عند هذا الحد، بل أنّهم وبسبب حرارة النيران يصيبهم العطش الشديد وحينئذٍ: «تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ ءَانِيَةٍ».

«آنية»: مؤنث آني من «الأني» وهو التأخير، ويستعمل لما يقرب وقته، وجاء في الآية بمعنى: الماء الحارق الذي بلغ أقصى درجة حرارته؛ وجاء في الآية (29) من سورة الكهف:

«وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا».

وتحكي لنا الآية التالية عن طعام المجرمين: «لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ».

جاء في الحديث النبوي الشريف: «الضريع شي ء يكون في النار يشبه الشوك، أشدّ مرارة

مختصر الامثل، ج 5، ص: 441

مختصر الامثل ج 5 490

من الصبر، وأنتن من الجيفة، وأحر من النار، سمّاه اللَّه ضريعاً».

وتصف لنا الآية التالية ذلك الطعام: «لَّايُسْمِنُ وَلَا يُغْنِى مِن جُوعٍ».

فالذين شرهوا في تناول ألذ المأكولات في

دنياهم، على حساب ظلم الناس والتجاوز على حقوقهم، ومنعوا لقمة العيش عن كثير من المحرومين، فليس في طعام آخرتهم سوى العذاب الأليم.

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَ أَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَ نَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَ زَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) صور من نعيم الجنة: بعد ذكر ما سيتعرض له أهل النار، تنتقل عدسة السورة لتنقل لنا مشاهد رائعة لنعيم أهل الجنة .. ليتوضح لنا الفرق ما بين القهر الإلهي والرحمة الإلهية، وما بين الوعيد والبشارة. فتقول الآية الاولى: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ». على عكس وجوه المذنبين المكسوة بعلائم الذلة والخوف.

«ناعمة»: من «النعمة» وتشير هنا إلى الوجوه الغارقة في نعمة اللَّه، وجوه طرية، مسرورة ونورانية كما في الآية (24) من سورة المطففين: «تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ».

وترى الوجوه: «لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ».

على عكس أهل جهنم، فوجوههم «عاملة ناصبة»، أمّا أهل الجنة، فقد حان وقت حصادهم لما زرعوا في دنياهم، وحصلوا عى أحسن ما يتمنون، فتراهم في غاية الرضى والسرور.

وما زرعوا سيتضاعف ناتجه بإذن اللَّه ولطفه أضعافاً مضاعفة، فتارة عشرة أضعاف، واخرى سبعمائة ضعف، وثالثة يجازون على ما عملوا بغير حساب، كما أشارت الآية (10) من سورة الزمر إلى ذلك بقولها: «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ».

ويدخل البيان القرآني في التفصيل أكثر: «فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ».

وكذا ...: «لَّاتَسْمَعُ فِيهَا لغِيَةً».

فهل يوجد مكان أهدأ وأجمل من ذلك؟!

مختصر الامثل، ج 5، ص: 442

ولو تأملنا حقيقة مشاكلنا فيما بيننا، لرأينا أنّ الغالب منها ما كان ناشئاً عن سماع هكذا أحاديث، والتي تؤدي إلى عدم الإستقرار النفسي، وإلى تهديم أركان الترابط الاجتماعي فينهار النظام وتشتعل نيران الفتن لتأكل الأخضر

واليابس معاً. وبعد ذكر القرآن لما يتمتع به أهل الجنة من نعمة روحية، يبيّن بعض النعم المادية في الجنة: «فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ».

تلك الأنهار أنّها تجري حسب رغبة أهل الجنة فلا داعي معها لشقّ أرض أو وضع سد.

وينهل أهل الجنة أشربة طاهرة ومتنوعة، فتلك العيون وعلى ما لها من رونق وروعة، فلكلّ منها شراب معين له مواصفاته الخاصة به.

وينتقل الوصف إلى أسرّة الجنة: «فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ». «سرر»: جمع (سرير)، وهو من (السرور)، بمعنى المقاعد التي يجلس عليها في مجالس الانس والسرور.

وجعلت تلك الأسرّة من الإرتفاع بحيث يتمكن أهل الجنة من رؤية كل ما يحيط بها والتمتع بذلك.

ولمّا كان شرب الشراب يستلزم ما يشرب به، فقد قالت الآية التالية: «وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ».

ومتى ما أرادوا الشرب ارتفعت تلك الأكواب لتصل بين أيديهم وقد ملئت من شراب تلك العيون، فيستلذون بما لا وصف له عند أهل الدنيا.

«أكواب»: جمع (كوب)، وهو القدح، أو الظرف الذي له عروة.

ويستمر الحديث عن جزئيات نعيم الجنة: «وَنَمَارِقُ مَّصْفُوفَةٌ».

«نمارق»: جمع (نمرقة)، وهي الوسادة الصغيرة التي يتكأ عليها.

«مصفوفة»: إشارة إلى تعددها بنظم خاص، ليظهر أنّ لأهل الجنة جلسات انس جماعية، التي لا يتخللها أي لغو وباطل، ويدور الحديث فيها حول الألطاف الإلهية ونعمه الخالدة، وعن الفوز الحقيقي الذي أبعدهم عن عذاب الآخرة.

ثم تكون الإشارة إلى فرش الجنة الفاخرة: «وَزَرَابِىُّ مَبْثُوثَةٌ».

«زرابية»: جمع (زرب) أو (زربيّة)، وهي الفرش والبسط الفاخرة ذات المتكأ.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 443

أَ فَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَ إِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَ إِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ

الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) الإبل ... من آيات خلق اللَّه: بعد أن تحدثت الآيات السابقة بتفصيل عن الجنة ونعيمها، تأتي هذه الآيات لتوضح معالم الطريق الموصل إلى الجنة ونعيمها.

فمفتاح المعرفة «معرفة اللَّه»، ووصولًا لهذا المفتاح تذكر الآيات أربعة نماذج لمظاهر القدرة الإلهية وبديع الخلقة، داعية الإنسان للتأمل، عسى أن يصل إلى ما ينبغي له أن يصل إليه.

وتشير أيضاً إلى أنّ قدرة اللَّه المطلقة هي مفتاح درك المعاد ..

فتقول الآية الاولى: «أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ».

إنّ الآيات في أوّل نزولها كانت تخاطب أهل مكة قبل غيرهم، والإبل أهم شي ء في حياة أهل مكة في ذلك الزمان، فهي معهم ليل نهار وتنجز لهم ضروب الأعمال وتدر عليهم الفوائد الكثيرة. أضف إلى ذلك أنّ لهذا الحيوان خصائص عجيبة قد تفرّد بها عن بقية الحيوانات، ويعتبر بحق آية من آيات خلق اللَّه الباهرة.

ولابدّ من التذكير، بأنّ «النظر» الوارد في الآية، يراد به النظر الذي يصحبه تأمل ودراسة.

وينتقل بنا البيان القرآني في الإبل إلى السماء: «وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ».

فكيف أصبحت تلك الكواكب في مساراتها المحدودة، وما هو سرّ استقرارها في أماكنها وبكلّ هذه الدقّة، ولِم لَم يتغيّر محور حركتها بالرغم من مرور ملايين السنين عليها.

مع كل هذا وذاك، ألا يكون أمر خلق السماء مدعاة للتأمل والتفكير، والخضوع والتسليم لربوبية الخالق الواحد الأحد؟!

وينقلنا إلى الجبال: «وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 444

الجبال التي تشمخ بتعمق جذورها في باطن الأرض، وتحيط بالأرض على شكل حلقات وسلاسل لتقلل من شدّة الزلازل الناشئة من ذوبان المواد المعدنية في باطن الأرض، وكذا ما لها من دور في حفظ الأرض من عملية المدّ والجزر الناشئة من تأثيرات

الشمس والقمر ..

«نصبت»: من «النصب»، وهو التثبيت، وربّما رمز هذا التعبير إلى بداية خلق الجبال أيضاً.

فقد توصل العلم الحديث إلى أنّ تكون الجبال يعتمد على عوامل عديدة وقسمها إلى عدّة أنواع:

فمنها: ما تكون نتيجة للتراكمات الحاصلة على الأرض.

ومنها: ما تكون من الحمم البركانية.

ومنها: ما تكون نتيجة لتفتت الأرض بواسطة الأمطار.

وكذا منها: ما تكون نتيجة للترسبات الحاصلة في أعماق البحار ومن بقايا الحيوانات (كالجبال والجزر والمرجانية).

نعم، فالجبال وبكل ما فيها ولها تعدّ آية من آيات القدرة الإلهية، لمن رآها بعين بصيرة ولبّ شغول.

ثم إلى الأرض: «وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ».

فلينظر الإنسان إلى كيفية هطول الأمطار على الجبال لتسيل من بعدها محملة الأتربة كي تتكون بها السهول الصافية، لتكون صالحة للزراعة من جهة ومهيئة لما يعمل بها الإنسان من جهة اخرى .. ولو كانت كل الأرض عبارة عن جبال ووديان، فما أصعب الحياة على سطحها والحال هذه.

ولابدّ لنا من التأمل والتفكير في من جعلها تكون على هذه الهيئة الملائمة تماماً لحياة الإنسان؟ ..

إنّ هذه الإشياء الأربع (الإبل، السماء، الجبال والأرض) تدخل في حياة الإنسان بشكل رئيسي، حيث من السماء مصدر النور والأمطار والهواء، والأرض مصدر نمو أنواع النباتات

مختصر الامثل، ج 5، ص: 445

وما يتغذى به، وكذا الجبال فبالإضافة لكونها رمز الثبات والعلو ففيها مخازن المياه والمواد المعدنية بألوانها المتنوعة، و ما الإبل إلّانموذج بارز متكامل لذلك الحيوان الأهلي الذي يقدّم مختلف الخدمات للإنسان.

وعليه، فقد تجمعت في هذه الأشياء الأربع كل مستلزمات «الزراعة» و «الصناعة» و «الثروة الحيوانية»، وحريّ بالإنسان والحال هذه أن يتأمل في هذه النعم المعطاءة، كي يندفع بشكل طبيعي لشكر المنعم سبحانه وتعالى، وبلا شك فإنّ شكر المنعم سيدعوه لمعرفة خالق النعم أكثر فأكثر.

وبعد هذا البحث

التوحيدي، يتوجه القرآن الكريم لمخاطبة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله: «فَذَكّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ» ... «لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ».

نعم، فخلق السماء والأرض والجبال والحيوانات ينطق بعدم عبثية هذا الوجود، وأنّ خلق الإنسان إنّما هو لهدف ...

فذكّرهم بهدفية الخلق، وبيّن لهم طريق السلوك الربّاني، وكن رائدهم وقدوتهم في مسيرة التكامل البشري.

وليس باستطاعتك إجبارهم، وإن حصل ذلك فلا فائدة منه، لأنّ شوط الكمال إنّما يقطع بالإرادة والإختيار، وليس ثمّة من معنى للتكامل الإجباري.

وفي الآيتين التاليتين يأتي الاستثناء ونتيجته: «إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ» .. «فَيُعَذّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ».

ويراد ب «الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ» «عذاب الآخرة» الذي يقابل عذاب الدنيا الصغير نسبة لحجم وسعة عذاب الآخرة، بقرينة الآية (26) من سورة الزمر: «فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْىَ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْأَخِرَةِ أَكْبَرُ».

وكذلك يحتمل إرادة نوع شديد من عذاب الآخرة، لأنّ عذاب جهنم ليس بمتساو للجميع.

وبحدّية قاطعة، تقول آخر آيتين في السورة: «إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ» .. «ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 446

والآيتان تتضمّنان التسلية لقلب النبي صلى الله عليه و آله في مواجهته لأساليب المعاندين، لكي لا يبتئس من أفعالهم، ويستمر في دعوته.

وهما أيضاً، تهديد عنيف لكل مَن تسول له نفسه فيقف في صف الكافرين والمعاندين، فيخبرهم بأنّ حسابهم سيكون بيد جبار شديد.

بدأت سورة الغاشية بموضوع القيامة وختمت به أيضاً، كما تمّت الإشارة فيما بين البدء والختام إلى بحث التوحيد والنبوّة، وهما دعامتا المعاد.

«نهاية تفسير سورة الغاشية»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 447

89. سورة الفجر

محتوى السورة: تقدّم لنا الآيات الاولى أقساماً نادرة في نوعها لتهديد الجبارين بالعذاب الإلهي.

وتنقل لنا بعض آياتها ما حلّ ببعض الأقوام السالفة ممن طغوا في الأرض وعاثوا فساداً (قوم عاد، ثمود وفرعون)، وجعلهم عبرة لُاولي الأبصار، ودرساً قاسياً لكل

من يرى في نفسه القوّة والإقتدار من دون اللَّه.

ثم تشير باختصار إلى الإمتحان الرباني للإنسان، وتلومه على تقصيره في فعل الخيرات ..

وآخر ما تتحدث عنه السورة هو «المعاد» وما سينتظر المؤمنين ذوي النفوس المطمئنة من ثواب جزيل، وأيضاً ما سينتظر المجرمين والكافرين من عقاب شديد.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأها في ليال عشر، غفر اللَّه له، ومن قرأها سائر الأيّام، كانت له نوراً يوم القيامة».

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: «اقرأوا سورة الفجر في فرائضكم ونوافلكم، فإنّها سورة الحسين بن علي عليه السلام، من قرأها كان مع الحسين بن علي عليه السلام يوم القيامة في درجته من الجنة».

يمكن أن يكون وصف السورة بسورة الإمام الحسين عليه السلام بلحاظ أنّه أفضل مصاديق ما

مختصر الامثل، ج 5، ص: 448

جاء في آخر آياتها، حيث فيما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير الآية الأخيرة من السورة: إنّ «النفس المطمئنة» هو الحسين بن علي عليهما السلام.

وعلى أيّة حال، فثوابها إنّما هو لمن تبصر في قراءتها وعمل على ضوئها.

وَ الْفَجْرِ (1) وَ لَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ (3) وَ اللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) بدأت السورة بخمسة أقسام: الأوّل: «وَالْفَجْرِ» ... والثاني: «وَلَيَالٍ عَشْرٍ».

«الفجر»: بمعنى الشقّ الواسع، وقيل للصبح «الفجر» لأنّ نوره يشقّ ظلمة الليل.

وقيل: هو كل نور يشع وسط ظلام .. وعليه، فبزوغ نور الإسلام ونور المصطفى صلى الله عليه و آله في ظلام عصر الجاهلية هو من مصاديق الفجر، وكذا بزوغ نور قيام المهدي عليه السلام في وسط ظلام العالم (كما جاء في بعض الروايات) «1».

ومن

مصاديقه أيضاً، ثورة الحسين عليه السلام في كربلاء الدامية، لشقها ظلمة ظلام بني اميّة، وتعرية نظامهم الحاكم بوجهه الحقيقي أمام الناس.

ويكون من مصاديقه، كل ثورة قامت أو تقوم على الكفر والجهل والظلم على مرّ التاريخ.

وحتى انقداح أوّل شرارة يقظة في قلوب المذنبين المظلمة تدعوهم إلى التوبة، فهو «فجر».

وممّا لا شك فيه أنّ المعاني هي توسعة لمفهوم الآية، أمّا ظاهرها فيدل على «الفجر» المعهود.

والمشهور عن «ليال عشر»: إنّهن ليالي أوّل ذي الحجة، التي تشهد أكبر اجتماع عبادي سياسي لمسلمي العالم من كافة أقطار الأرض.

وقيل: ليالي أوّل شهر محرم الحرام.

وقيل أيضاً: ليالي آخر شهر رمضان، لوجود ليلة القدر فيها.

والجمع بين كل ما ذُكر ممكن جدّاً.

وذكر في بعض الروايات التي تفسّر باطن القرآن: إنّ «الفجر» هو المهدي المنتظر عليه السلام ...

______________________________

(1) راجع تفسير البرهان 4/ 457/ 1.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 449

و «ليال عشر» هم الأئمة العشر قبله عليهم السلام ..؛ و «الشفع»:- في الآية- هما علي وفاطمة عليهما السلام.

ويأتي القَسم الثالث والقسم الرابع: «وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ».

للمفسرين آراء كثيرة فيما اريد ب «الشفع والوتر» حتى ذكر (36) قولًا في ذلك «1». أمّا سيكون تفسيران من التفاسير المذكورة أكثر من غيرهما مناسبة وقرباً مع مراد الآية، وهما:

الأوّل: المراد بهما يومي العيد وعرفة، وهذا ما يناسب ذكر الليالي العشر الاولى من شهر ذي الحجّة، وفيهما تؤدي أهم فقرات مناسك الحج.

الثاني: أنّهما يشيران إلى «الصلاة» (ركعتي الشفع وركعة الوتر في آخر صلاة الليل)، بقرينة ذكر «الفجر»، وهو وقت السحر ووقت الدعاء والتضرع إلى اللَّه عزّ وجل.

وقد ورد هذان التفسيران في روايات عن أئمة أهل البيت المعصومين عليهم السلام.

ونصل هنا إلى القسم الخامس: «وَالَّيْلِ إِذَا يَسْرِ».

وكأنّ الوصف يقول: بأنّ الليل موجود حسي، له حس

وحركة، وهو يخطو في ظلمته وصولًا لنور النهار.

اختلف المفسرون في مراد الآية من «الليل»، هل هو مطلق الليل أم ليلة مخصوصة، فإن كانت الألف واللام للتعميم فجميع الليالي، كآية من آيات اللَّه ومظهر من مظاهر الحياة المهمّة.

وإن كانت الألف واللام للتعريف، فليلة عيد الأضحى، بلحاظ الآيات السابقة، حيث يتجه حجاج بيت اللَّه الحرام من (عرفات) إلى (المزدلفة)- المشعر الحرام- ويقضون ليلهم في ذلك الوادي المقدس، وعند الصبح يتجهون نحو (منى).

(وقد ورد في هذا روايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام) «2».

فالليل سواء كان بمعناه المطلق أم المحدد فهو من آيات عظمة الخالق سبحانه وتعالى، وهو من الضرورات الحياتية في عالم الوجود.

فالليل يكيّف حرارة الجو، ويعم على جميع الكائنات الإستقرار والسكون بعد جهد الحركة والتنقل، وفوق هذا وذاك ففيه أفضل أوقات الدعاء والمناجات مع اللَّه جّل وعلا.

______________________________

(1) نقل ذلك كل من: العلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان عن بعض المفسرين في الجزء 20/ 286؛ وفي تفسير روح المعاني عن كتاب التحرير والتحيير 30/ 120.

(2) راجع تفسير نور الثقلين 5/ 571.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 450

وتتجسد تلك العلاقة الموجودة بين الأشياء الخمس التي أقسم بها (الفجر، ليال عشر، الشفع، الوتر، الليل إذا يسر) إذا ما اعتبرناها ضمن أيّام ذي الحجة ومراسم الحج العظيمة. وفي غير هذا فسيكون إشارة إلى مجموعة من حوادث عالم التكوين والتشريع المهمّة، والتي تبيّن جلال وعظمة الخالق سبحانه وتعالى.

ثم تأتي الآية التالية لتقول: «هَلْ فِى ذلِكَ قَسَمٌ لّذِى حِجْرٍ». «الحجر»: هنا بمعنى العقل، وفي الأصل بمعنى (المنع). اطلق على العقل (حجر) لمنعه الإنسان عن الأعمال السيئة.

أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَ ثَمُودَ

الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) إمهال الظالمين ... والإنتقام: بعد أن تضمّنت الآيات الاولى خمسة أقسام حول معاقبة الطغاة، تأتي هذه الآيات لتعرض لنا نماذج من طواغيت الأرض، وتبيّن لنا الآيات المباركة ما حلّ بهم من عاقبة أليمة، محذرة المشركين في كل عصر ومصر على أن يرعووا ويعودوا إلى رشدهم، لأنّهم مهما تمتعوا بقوّة وقدرة فلن يصلوا لما وصل إليه الأقوام السالفة، وينبغي الإتعاظ بعاقبتهم، وإلّا فالهلاك والعذاب الأبدي ولا غير سواه.

وتبتدأ الآيات ب: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ».

المراد «بالرؤية» هنا، العلم والمعرفة لما وصلت إليه تلك الأقوام من الشهرة بحيث أصبح من جاء بعدهم يعرف عنهم الشي ء الكثير وكأنّه يراهم بام عينيه.

«عاد»: هم قوم نبي اللَّه هود عليه السلام، وكانت تعيش في أرض الأحقاف أو اليمن.

ويضيف القرآن قائلًا: «إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ».

«عماد»: بمعنى العمود تشير إلى عظمة أبنيتهم وعلوّ قصورهم وما فيها من أعمدة كبيرة.

ولذا تقول الآية التالية: «الَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى الْبِلدِ».

والآية تبيّن أنّ المراد ب «إرم» المدينة.

وتذكر الآية التالية جمع آخر من الطغاة السابقين: «وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ».

وصنعوا منها البيوت والقصور.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 451

«ثمود»: من أقدم الأقوام، ونبيّهم صالح عليه السلام، وكانوا يعيشون في (وادي القرى) بين المدينة والشام، وكانوا يعيشون حياة مرفهة، ومدنهم عامرة.

«جابوا»: من «الجوبة»- على زنة توبة- وهي الأرض المقطوعة، ثم استعملت في قطع كل أرض. فمراد الآية: قطع أجزاء الجبال وبناء البيوت القوية، كما أشارت إلى ذلك الآية (82) من سورة الحجر- حول ثمود أنفسهم-: «وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا ءَامِنِينَ».

«واد»:

في الأصل (وادي)، وهو الموضع الذي يجري فيه النهر، ومنه سمي المفرج بين الجبلين وادياً، لأنّ الماء يسيل فيه.

والمعنى الثاني أكثر مناسبة بقرينة ما ورد في القرآن من آيات تتحدث عن هؤلاء القوم، وما ذكرناه آنفاً يظهر بأنّهم كانوا ينحتون بيوتهم في سفوح الجبال.

وتتحرك الآية التالية لتستعرض قوماً آخرين: «وَفِرْعَوْنَ ذِى الْأَوْتَادِ».

أي: ألم تر ما فعل ربّك بفرعون الظالم المقتدر؟!

«أوتاد»: جمع (وتد)، وهو ما يثبّت به.

ولِمَ وصف فرعون بذي الأوتاد؟ وثمّة تفاسير مختلفة:

الأوّل: لأنّه كان يملك جنوداً وكتائباً كثيرة، وكانوا يعيشون في الخيم المثبتة بالأوتاد.

الثاني: لما كان يستعمل من أساليب تعذيب من يغضب عليهم، حيث غالباً ما كان يدق على أيديهم وأرجلهم بأوتاد ليثبتها على الأرض، أو يضعهم على خشبة ويثبتهم بالأوتاد، أو يدخل الأوتاد في أيديهم وأرجلهم ويتركهم هكذا حتى يموتوا.

وينتقل القرآن لعرض ما كانوا يقومون به من أعمال: «الَّذِينَ طَغَوْا فِى الْبِلدِ» ..

«فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ».

الفساد الذي يشمل كل أنواع الظلم والإعتداء والإنحراف، والذي هو نتيجة طبيعية من نتائج طغيانهم، فكل من يطغى سيؤول أمره إلى الفساد لا محال.

ويذكر عقابهم الأليم وبعبارة موجزة: «فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ».

«السوط»: هو الجلد المضفور الذي يُضرب به، وأصل السوط: خلط الشي ء بعضه ببعض، وهو هنا كناية عن العذاب، العذاب الذي يخلط لحم الإنسان بدمه فيؤذيه أشدّ الإيذاء. أمّا أنسب معاني «السوط» فهو المعروف بين الناس به.

«صبّ عليهم»: تستعمل في الأصل لانسكاب الماء، وهنا إشارة إلى شدّة واستمرار نزول العذاب.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 452

فعلى إيجاز الآية، لكنّها تشير إلى أنواع العذاب الذي أصابهم، فعاد اصيبوا بريح باردة، كما تقول الآية (6) من سورة الحاقّة: «وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ». واهلك قوم ثمود بصيحة سماوية عظيمة، كما جاء

في الآية (5) من سورة الحاقّة أيضاً: «فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ». والآية (55) من سورة الزخرف تنقل صورة هلاك قوم فرعون:

«فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ».

وتحذر الآية التالية كل من سار على خطى اولئك الطواغيت: «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ».

«المرصاد»: من «الرصد» وهو الإستعداد للترقب، وهو في الآية يشير إلى عدم وجود أيّ ملجأ أو مهرب من رقابة اللَّه وقبضته، فمتى شاء سبحانه أخذ المذنبين بالعقاب والعذاب.

«ربّك»: إشارة إلى أنّ هذه السنّة الإلهية لم تقف عند حدّ الذين خلوا من الأقوام السالفة، بل هي سارية حتى على الظالمين من امّتك يا محمّد صلى الله عليه و آله .. وفي ذلك تسلية لقلب النبي صلى الله عليه و آله وتطميناً لقلوب المؤمنين، فالوعد الإلهي قد أكّد على عدم انفلات الأعداء المعاندين من قبضة القدرة الإلهية أبداً أبداً، وفيه تحذير أيضاً لُاولئك الذين يؤذون النبي صلى الله عليه و آله ويظلمون المؤمنين، تحذير بالكف عن ممارساتهم تلك وإلّا سيصيبهم ما أصاب الأكثر منهم قدرة وقوّة، وعندها فسوف لن تقوم لهم قائمة إذا ما أتتهم ريح عاصفة أو صيحة مرعبة أو سيل جارف يقطع دابرهم.

في تفسير علي بن إبراهيم عن أبي جعفر عليه السلام قال: «لما نزلت هذه الآية «وَجِاى ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ» [الفجر: 23] سئل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقال: بذلك أخبرني الروح الأمين أنّ اللَّه لا إله غيره، إذا أبرز الخلائق وجمع الأوّلين والآخرين، أتى بجهنم تقاد بألف زمام، مع كل زمام مائة ألف ملك من الغلاظ الشداد، لها هدة وغضب وزفير، وشهيق، وإنّها لتزفر الزفرة، فلولا أنّ اللَّه عزّ وجل أخرهم للحساب لأهلكت الجميع ثم يخرج منها عنق [أي طائفة منها] فيحيط بالخلائق البر منهم والفاجر فما خلق اللَّه

عز وجل عبداً من عباد اللَّه ملكاً ولا نبيّاً إلّاينادي نفسي نفسي وأنت يا نبي اللَّه تنادي: امتي امتي ثم يوضع عليها الصراط أدق من حدّ السيف، عليها ثلاث قناطر:

أمّا واحدة فعليها الأمانة والرحم، والثانية فعليها الصلاة، وأمّا الثالثة فعليها عدل ربّ العالمين لا إله غيره، فيكلّفون الممر عليها، فيحبسهم الرحم والأمانة، فإن نجوا منهما حبستهم الصلاة، فإن نجوا منها كان المنتهى إلى ربّ العالمين عزّ وجل، وهو قوله: «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ»».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 453

فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَ أَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَ لَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَ تَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمّاً (19) وَ تُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً (20) موقف الإنسان من تحصيل النعمة وسلبها: بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن عقاب الطغاة، وتحذيرهم وإنذارهم، تأتي هذه الآيات لتبيّن مسألة الإبتلاء والتمحيص وأثرها على الثواب والعقاب الإلهي، وتعتبر مسألة الإبتلاء من المسائل المهمّة في حياة الإنسان.

وتشرع الآيات ب: «فَأَمَّا الْإِنسنُ إِذَا مَا ابْتَلهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ».

وكأنّه لا يدري بأنّ الإبتلاء سنّة ربانية تارة يأتي بصورة اليسر والرخاء واخرى بالعسر والضراء.

«وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبّى أَهَانَنِ».

فيأخذه اليأس، ويظن إنّ اللَّه قد ابتعد عنه، غافلًا عن سنّة الإبتلاء في عملية التربية الربانية لبني آدم، والتي تعتبر رمزاً للتكامل الإنساني، فمن خلال نظرة ومعايشة الإنسان للإبتلاء يرسم بيده لوحة عاقبته، فأمّا النعيم الدائم، وأمّا العقاب الخالد.

وتأتي الآية (51) من سورة فصّلت في سياق الآيتين: «وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسنِ أَعْرَضَ وَنَا بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو

دُعَاءٍ عَرِيضٍ». وكذا الآية (9) من سورة هود: «وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسنَ مِنًّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيُوسٌ كَفُورٌ».

وتوجه الآيتان التاليتان نظر إلى الإنسان والأعمال التي تؤدّي بحق للبعد عن اللَّه، وتوجب عقابه: «كَلَّا». فليس الأمر كما تظنون من أنّ أموالكم دليل على قربكم من اللَّه، لأنّ أعمالكم تشهد ببعدكم عنه، «بَل لَّاتُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ» .. «وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ».

والملاحظ أنّ الآية لم تخص اليتيم بالإطعام بل بالإكرام، لأنّ الوضع النفسي والعاطفي لليتيم أهم بكثير من مسألة جوعه.

فلا ينبغي لليتيم أن يعيش حالة الإنكسار والذلة بفقدان أبيه، وينبغي الإعتناء به

مختصر الامثل، ج 5، ص: 454

وإكرامه لسدّ الثغرة التي تسببت برحيل أبيه، وقد أولت الأحاديث الشريفة والروايات هذا الجانب أهمية خاصة، وأكّدت على ضرورة رعاية وإكرام اليتيم. «تحاضون»: من «الحض» وهو الترغيب، فلا يكفي إطعام المسكين بل يجب على الناس أن يتواصوا ويحث بعضهم البعض الآخر على ذلك لتعم هذه السنّة التربوية كل المجتمع.

وتعرض الآية التالية ثالث أعمالهم القبيحة: «وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا».

ممّا لا شك فيه أنّ الإستفادة من الميراث المشروع عمل غير مذموم، ولذا فيمكن أن يكون المذموم في الآية أحد الامور التالية:

الأوّل: الجمع بين حق الإنسان وحق الآخرين في الميراث.

وكانت عادة العرب في الجاهلية أن يحرموا النساء والأطفال من الإرث لاعتقادهم بأنّه نصيب المقاتلين (لأنّ أكثر أموالهم تأتيهم عن طريق السلب والإغارة).

الثاني: عدم الإنفاق من الإرث على المحرومين والفقراء من الأقرباء وغيرهم، فإن كنتم تبخلون بهذه الأموال التي وصلت إليكم بلا عناء، فأنتم أبخل فيما تكدّون في تحصيله، وهذا عيب كبير فيكم.

الثالث: هو أكل إرث اليتامى والتجاوز على حقوق الصغار، وذلك من أقبح الذنوب، لأنّ فيه استغلال فاحش لحق من لا يستطيع الدفاع عن

نفسه.

والجمع بين هذه التفاسير الثلاث ممكن.

ثم يأتي الذّم الرابع: «وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا».

فأنتم .. عبدة دنيا، طالبي ثروة، عشاق مال ومتاع .. ومن يكون بهذه الحال فمن الطبيعي أن لا يعتني في جمعه للمال، أكان من حلال أم من حرام، ومن الطبيعي أيضاً أن يتجاوز على الحقوق الشرعية المترتبة عليه، بأن لا ينفقها أو ينقص منها .. ومن الطبيعي كذلك إنّ القلب الذي امتلأ بحبّ المال والدنيا سوف لا يبقى فيه محل لذكر اللَّه عزّ وجل.

ولذا نجد القرآن الكريم بعد ذكره لمسألة امتحان الإنسان، يتعرض لأربعة اختبارات يفشل فيها المجرمين.

والملاحظ أنّ الإختبارات المذكورة إنّما تدور حول محور الأموال، للإشارة ما للمال من مطبات مهلكة، ولو تجاوزها الإنسان لسهلت عليه بقية العقبات في طريقه نحو التكامل والرقي والسمو.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 455

كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً (21) وَ جَاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً (22) وَ جِي ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَ أَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَ لَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يوم لا تنفع الذكرى: بعد أن ذمت الآيات السابقة الطغاة وعبدة الدنيا والغاصبين لحقوق الآخرين، تأتي هذه الآيات لتحذرهم وتهددهم بوجود القيامة والحساب والجزاء.

فتقول أوّلًا: «كَلَّا». فليس الأمر كما تعتقدون بأن لا حساب ولا جزاء، وأنّ اللَّه قد أعطاكم المال تكريماً وليس امتحاناً .. «إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا».

«الدك»: الأرض اللينة السهلة، ثم استعملت في تسوية الأرض من الإرتفاعات والتعرجات.

فالآية تشير إلى الزلازل والحوادث المرعبة التي تعلن عن نهاية الدنيا وبداية يوم القيامة، حيث تتلاشى الجبال وتستوي الأرض، كما أشارت لذلك الآيات (105- 107) من سورة طه: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ

فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفًا* فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا* لَّا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا».

وبعد أن تنتهي مرحلة القيامة الاولى (مرحلة الدمار)، تأتي المرحلة الثانية، حيث يعود الناس ثانية للحياة ليحضروا في ساحة العدل الإلهي: «وَجَاءَ رَبُّك وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا».

نعم، فسيقف الجميع في ذلك المحشر لإجراء الأمر الالهي وتحقيق العدالة الربانية، وقد بيّنت لنا الآيات ما لعظمة ذلك اليوم، وكيف أنّ الإنسان لا سبيل له حينها إلّاالرضوخ التام بين قبضة العدل الإلهي.

وتقول الآية التالية: «وَجِاى ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسنُ وَأَنَّى لَهُ الذّكْرَى .

وما نستنبطه من الآية، إنّ جهنم قابلة للحركة، فتقرب للمجرمين، كما هو حال حركة الجنة للمتقين: «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ» «1».

في تفسير مجمع البيان عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت هذه الآية، تغيّر وجه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وعُرف في وجهه، حتى اشتدّ على أصحابه ما رأوا من حاله، وانطلق بعضهم إلى

______________________________

(1) سورة الشعراء/ 90.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 456

علي بن أبي طالب عليه السلام فقالوا: يا علي! لقد حدث أمر قد رأيناه في نبي اللَّه صلى الله عليه و آله، فجاء علي عليه السلام فاحتضنه من خلفه، وقبّل بين عاتقيه، ثم قال: «يا نبي اللَّه بأبي أنت وامي، ما الّذي حدث اليوم؟ قال: جاء جبرائيل فأقرأني «وَجِاى ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ». قال فقلت: كيف يجاء بها؟ قال:

يجي ء بها سبعون ألف ملك، يقودونها بسبعين ألف زمام، فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع، ثم أتعرض لجهنم فتقول: ما لي ولك يا محمّد، فقد حرّم اللَّه لحمك عليّ، فلا يبقى أحد إلّا قال: نفسي نفسي، وإنّ محمّداً يقول ربّ امّتي امّتي». نعم، فحينما يرى المذنب كل تلك الحوادث تهتز فرائصه ويتزلزل رعباً، فيستيقظ من

غفلته ويعيش حالة الهمّ والغمّ، ويتحسر على كل لحظة مرّت من حياته بعد ما يرى ما قدّمت يداه، ولكن هل للحسرة حينها من فائدة؟!

وعندها ... يصرح بمل ء كيانه: «يَقُولُ يَا لَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى».

وتشير الآية التالية إلى شدّة العذاب الإلهي: «فَيَوْمَئِذٍ لَّايُعَذّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ».

نعم، فمن استخدم في دنياه كل قدرته في ارتكاب أسوء الجرائم والذنوب، فلا يجني في آخرته إلّاأشد العذاب ...

فيما سينعم المحسنون والصالحون في أحسن الثواب، ويخلدون بحال ما لا عين رأت ولا اذن سمعت.

وتكمل الآية التالية تصوير شدّة العذاب: «وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ».

فوثاقه ليس كوثاق الآخرين، وعذابه كذلك، كل ذلك بما كسبت يداه حينما أوثق المظلومين في الدنيا بأشدّ الوثاق، ومارس معهم التعذيب بكل وحشية، متجرد عن كل ما وهبه اللَّه من إنسانية.

يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَ ادْخُلِي جَنَّتِي (30) الشّرف العظيم: وتنتقل السورة في آخر مطافها إلى تلك النفوس المطمئنة ثقة باللَّه وبهدف الخلق، بالرغم من معايشتها في خضم صخب الحياة الدنيا، فتخاطبهم بكل لطف ولين ومحبّة، حيث تقول: «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ» .. «ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً» .. «فَادْخُلِى فِى عِبَادِى» .. «وَادْخُلِى جَنَّتِى».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 457

فهل ثمّة أجمل وألطف من هذا التعبير ... تعبير يحكي دعوة اللَّه سبحانه وتعالى لتلك النفوس المؤمنة، المخلصة، المحبة والواثقة بوعده جلّ شأنه.

ويراد بالنفس هنا: الروح الإنسانية.

«المطمئنة»: إشارة إلى الإطمئنان الحاصل من الإيمان، بدلالة الآية (28) من سورة الرعد: «أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ».

ويعود اطمئنان النفس، لإطمئنانها بالوعود الإلهية من جهة، ولإطمئنانها لما اختارت من طريق ..

وهي مطمئنة في الدنيا سواء أقبلت عليها أم أدبرت، ومطمئنة عند أهوال حوادث يوم القيامة الرهيبة

أيضاً.

أمّا (الرجوع إلى اللَّه)، فهو رجوع إلى جواره وقربه بمعناه الروحي المعنوي، وليس بمعناه المكاني والجسماني.

«راضية»: لما ترى من تحقق الوعود الإلهية بالثواب والنعيم بأكثر مما كانت تتصور.

«مرضيّة»: لرضا اللَّه تبارك وتعالى عنها.

في الكافي عن سدير الصّيرفي قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: جعلت فداك يابن رسول اللَّه! هل يكره المؤمن على قبض روحه؟ قال: «لا واللَّه، إنّه إذا أتاه ملك الموت لقبض روحه جزع عند ذلك، فيقول له ملك الموت: يا وليّ اللَّه، لا تجزع، فو الذي بعث محمّداً صلى الله عليه و آله لأنا أبرّ بك وأشفق عليك من والد رحيم لو حضرك، افتح عينك فانظر، قال: ويمثّل له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ذرّيتهم عليهم السلام، فيقال له: هذا رسول اللَّه وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمة عليهم السلام رفقاؤك، قال: فيفتح عينه فينظر، فينادي روحه مناد من قبل ربّ العزّة فيقول:" يا أيّتها النفس المطمئنة (إلى محمّد وأهل بيته) ارجعي إلى ربّك راضية (بالولاية) مرضيّة (بالثواب) فادخلي في عبادي (يعني محمّداً وأهل بيته) وادخلي جنّتي". فما شي ء أحبّ إليه من استلال روحه واللحوق بالمنادي».

«نهاية تفسير سورة الفجر»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 459

90. سورة البلد

محتوى السورة: هذه السورة المباركة على قصرها تحمل حقائق كبرى:

1- في بداية هذه السورة، بعد قسم ذي محتوى عميق، تُقرّر الآية أنّ حياة الإنسان في هذه الدنيا مقرونة بمشاكل وأتعاب؛ وبذلك تُعدّ الإنسان من جهة ليصارع العقبات، ومن جهة اخرى تبعده عن طلب الراحة المطلقة في هذا العالم.

2- ثم تشير إلى أهم النعم الإلهية، ثم ذكر جحود الإنسان بهذه النعم.

3- وفي آخر هذه السورة تقسيم الناس إلى: «أصحاب الميمنة» و «أصحاب

المشئمة».

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان ابي بن كعب قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من قرأها أعطاه اللَّه الأمن من غضبه يوم القيامة».

لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَ وَالِدٍ وَ مَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَداً (6) أَ يَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 460

في مواضع كثيرة يبدأ القرآن بالقسم عند تعرّضه للحقائق الهامة ... بالقسم الذي يؤدي بدوره إلى حركة في الفكر والعقل .. بالقسم المرتبط إرتباطاً خاصاً بالموضوع المطروح.

وفي هذا الموضع تبدأ الآية بالقسم: قسماً بهذه المدينة المقدسة مكة: «لَاأُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ». لتقرر حقيقة من حقائق حياة الإنسان هي إنّ هذه الحياة مقرونة بالآلام والأسقام.

«وَأَنتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ».

أرض مكة مشرّفة ومعظمة، لأنّ فيها أوّل مركز للتوحيد ولعبادة اللَّه سبحانه، وكان هذا المركز مطاف أنبياء اللَّه العظام ... ولذلك أقسم اللَّه بها ... ولكن السورة تشير إلى عامل آخر أضفى على هذه المدينة شرفاً وكرامة: «وَأَنتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ» ... فالبلد استحق أن يقسم به اللَّه لوجودك أنت أيّها النبي الكريم فيه.

«وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ».

إنّ الوالد إبراهيم الخليل والولد إسماعيل الذبيح.

ونعلم أنّ إبراهيم وإبنه رفعا القواعد من البيت، وبذلك وضعا حجر أساس البلد الأمين.

والعرب في الجاهلية كانوا يجلّون إبراهيم وإبنه ويفخرون في الإنتساب إليهما.

«لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسنَ فِى كَبَدٍ».

إنّ «كبد» ألم يصيب الكَبِد، ثم اطلق على كل ألم ومشقّة.

هذه طبيعة الحياة، ومن توقّع منها غير ذلك خيّبت ظنّه. يقول الشاعر:

طبعت على كدر وأنت تريدهاصفواً من الأكدار والأقذار

ومكلّف الأيّام ضد طباعهامتطلب في الماء جذوة نار

وهذه الحالة تشمل كل

أبناء البشر دونما استثناء، بمن فيهم أنبياء اللَّه وأولياؤه الصالحون.

ثم إذا كان هناك استثناءات مكانية وزمانية محدودة من هذه الحالة العامة فلا ينتقض القانون العام للحياة: «أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ».

فما يحيط بالإنسان من مكابدة يدلّ على ضعف قدرته، هذه الحقيقة تردّ على اولئك الذين يمتطون مركب الغرور، ويخالون أنّهم في مأمن من العقاب الإلهي.

«يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا».

إشارة إلى قول الذين يُطلب منهم أن ينفقوا أموالهم في الخيرات، فيأبون ويقولون بغرور:

إننا أنفقنا في هذا السبيل كثيراً من الأموال، بينما لم ينفق هؤلاء شيئاً، وإنّ أعطوا لأحد شيئاً فللرياء ولتحقيق هدف شخصي.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 461

وقيل إنّها نزلت في نفر أنفقوا الأموال الطائلة في معاداة الرسول والرسالة، وتباهوا بذلك.

والجمع بين التفاسير المذكورة جائز، وإن كان التفسير الأوّل أكثر انسجاماً مع سياق الآيات التالية.

والفعل «أهلكت» يوحي إبادة الأموال وعدم الحصول على عائد منها.

و «لبد»: تعني الشي ء المتراكم، وهنا تعني المال الوفير.

«أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ». إنّه غافل عن هذه الحقيقة ... حقيقة اطّلاع الباري تعالى على كل الامور وعلى ظواهر الأعمال، بل على ما يختلج في أعماق النفس والقلب، وما يدور في الخلد والنية ... عليم بالطريق غير المشروع للحصول على هذه الأموال، وعليم بأهداف الرياء والذاتية في إنفاق هذه الأموال.

أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَ لِسَاناً وَ شَفَتَيْنِ (9) وَ هَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) نعمة العين واللسان والهداية: استتباعاً للآيات السابقة وما دار فيها من حديث عن الغرور والغفلة في حالات الطاغين، تذكر هذه الآيات الكريمة جانباً من أهم ما أنعم اللَّه به على الإنسان من نعم مادية ومعنوية ... كي تكسر فيه روح الغرور، وتدفعه إلى التفكير في خالق هذه النعم، وتحرّك روح الشكر

في نفس الكائن البشري ومن ثم تسوقه إلى معرفة الخالق: «أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنهُ النَّجْدَيْنِ».

ويكفي أن نذكر في النعم السابقة أنّ:

«العين»: أهم وسيلة لإرتباط الإنسان بالعالم الخارجي، عجائب العين تدفع الإنسان حقّاً إلى الخضوع أمام خالقه، الطبقات السبع للعين وهي المسماة بالقرنية، والمشيمية، والعنبية، والجلدية، والزلالية، والزجاجية، والشبكية، لكل منها تركيب عجيب دقيق مدهش، روعيت فيها القوانين الفزيائية والكيمياوية المتعلقة بالنور وانعكاساته على أدق وجه، حتى إن أعقد أجهزة التصوير تعتبر تافهة مقارنة بهذا العضو.

لو لم يكن في الكون سوى الإنسان، ولم يكن من وجود الإنسان سوى العين، لكانت مطالعة هذا العضو كافية وحدها لمعرفة علم اللَّه الواسع وقدرته الجبارة جلّ وعلا.

و «اللسان»: فهو أهم وسائل إرتباط الإنسان بغيره من أبناء جلدته، ونقل المعلومات وتبادلها بين أبناء البشر في الجيل الواحد وفي الأجيال المتعاقبة، وبدون هذه الوسيلة الهامّة

مختصر الامثل، ج 5، ص: 462

من وسائل الإرتباط ما كان بامكان الإنسان اطلاقاً أن يرتقي إلى ما ارتقى إليه في العلم والمعرفة. و «الشفتان»: تلعبان أوّلًا دوراً هامّاً في النطق، إذ أنّ الشفتين مخرج لكثير من الحروف، والشفتان تقومان بدور أيضاً في هضم الطعام والمحافظة على رطوبة الفم، وشرب الماء، ترى لو انعدمت الشفتان فماذا كان وضع الإنسان في أكله وشربه ونطقه والمحافظة على ماء فمه وحتى جمال وجهه وشكله؟!

وحقّاً ما قاله أمير المؤمنين علي عليه السلام في نهج البلاغة: «اعجبوا لهذا الإنسان ينظر بشحم ويتكلم بلحم، ويسمع بعظم، ويتنفس من خرم!».

عبارة «وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ» إضافة لما لها من مدلول على مسألة الإختيار وحرية الإنسان، تدلّ أيضاً على ما يتطلبه طريق الخير من جهد وعناء، لأنّ «النجد» مكان مرتفع وتسلق المكان المرتفع يتطلب كداً وسعياً وجهداً، غير

أنّ طريق الشرّ له مشاكله ومصاعبه أيضاً، فأولى بالإنسان أن يبذل الجهد والسعي على طريق الخير.

مع ذلك، فانتخاب الطريق بيد الإنسان ... الإنسان هو الذي يتحكم في عينه ولسانه فيم يستعملها ... في الحلال أو الحرام، وهو الذي يختار إحدى الجادتين «الخير» أو «الشر».

وفي تفسير مجمع البيان عن أبي حازم أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «إنّ اللَّه تعالى يقول: يابن آدم! إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك، فقد أعنتك عليه بطبقتين، فأطبق. وإن نازعك بصرك إلى بعض ما حرمت عليك، فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق ...».

وهذه الهداية يحصل عليها الإنسان من ثلاثة طرق: من الإدراكات العقلية والإستدلال، ومن طريق الفطرة والوجدان دون الحاجة إلى الإستدلال، ومن طريق الوحي وتعاليم الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، وكل ما يحتاجه البشر ليطوي مسيرة تكامله قد بيّنه اللَّه سبحانه له بواحد من هذه الطرق أو في كثير من الحالات بالطرق الثلاثة معاً.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 463

العقبة: بعد ذكر النعم الكبيرة في الآيات السابقة، تنحي هذه الآيات باللائمة على اولئك الذين يكفرون بهذه النعم، ولا يسخرونها على طريق النجاة، يقول سبحانه: «فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ».

وما المقصود من العقبة؟ الآيات التالية تفسّرها: «وَمَا أَدْرَيكَ مَا الْعَقَبَةُ* فَكُّ رَقَبَةٍ* أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ* يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ* أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ».

من هنا فالعقبة التي لم يتهيأ الكافرون لاجتيازها هي: فك رقبة عبد وتحريره من الرقّ، أو إطعام في يوم الضائقة الإقتصادية والمجاعة، يتيماً ذا قربى أو فقيراً قد لصق بالتراب من شدّة فقره، العقبة هي مجموعة أعمال الخير التي تتجه لخدمة الناس والأخذ بيد الضعفاء والمعوزين، كما إنّها أيضاً مجموعة من المعتقدات الصحيحة الخالصة تشير إليها الآيات التالية. نعم،

إن اجتياز هذه العقبة ليس بالأمر اليسير لما لأغلب الناس من التصاق بالمال والثروة.

1- «اقتحم»: من «الإقتحام» وهو الدخول في عمل صعب مخيف (مفردات الراغب)، أو الولوج والعبور بشدّة ومشقّة (تفسير الكشّاف) وهذا يعني أنّ إجتياز هذه العقبة ليس بالأمر اليسير، كما أنّه تأكيد على ما ورد في أوّل السورة بشأن ما يكابد الإنسان في حياته:

«لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسنَ فِى كَبَدٍ».

2- «المسغبة»: من «سغب» على وزن (غضب) وهو الجوع؛ و «يوم ذي مسغبة» أي وقت المجاعة، والجياع موجودون في المجتمع عادة، والآية إنّما تؤكّد على إطعامهم في زمان المجاعة لأهمية الموضوع، وإلّا فإنّ اشباع الجياع هو دائماً من أفضل الأعمال.

3- «المقربة»: بمعنى القرابة والرحم، والتأكيد على الأقرباء من اليتامى في الآية إنّما هو لمراعاة الاولوية وللتأكيد على تصاعد المسؤولية تجاههم، لا لحصر الإطعام بهذا القسم من اليتامى.

4- «المتربة»: مصدر ميمي من «ترب» وساكن التراب من شدّة فقره هو ذو المتربة، والتأكيد على هذا النمط من المساكين لأولويتهم أيضاً.

وفي الكافي عن معمر بن خلاد قال: كان أبوالحسن الرضا عليه السلام إذا أكل أتى بصفحة فتوضع بقرب مائدته، فيعمد إلى أطيب الطعام مما يؤتى به فيأخذ من كل شي ء شيئاً فيضع في تلك الصفحة ثم يأمر بها للمساكين، ثم يتلو هذه الآية: «فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ». ثم يقول: «علم اللَّه

مختصر الامثل، ج 5، ص: 464

عزّ وجل أنّه ليس كل إنسان يقدر على عتق رقبة فجعل لهم السبيل إلى الجنة».

ثم تواصل الآية التالية بيان طبيعة هذه العقبة، وسبل اجتيازها فتقول: «ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ».

فالقادرون على اجتياز هذه العقبة متحلون بالإيمان ومتواصون بالصبر والإستقامة على الطريق، ومتواصون بالرحمة والعطف.

وبهذا السياق القرآني لبيان طبيعة العقبة نفهم أنّ

القادرين على اجتيازها هم المتحلون بالإيمان والخلق الكريم كالتواصي بالصبر والرحمة، وذوو أعمال البرّ والإحسان كتحرير العبيد وإطعام الأيتام والمساكين، إنّهم بعبارة اولئك الذين يلجون ميادين الإيمان والأخلاق والعمل ويخرجون منها ظافرين منتصرين.

وفي خاتمة هذه الأوصاف تذكر السورة مكانة المتحلين بها فتقول: «أُولئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ».

ثم تتعرض الآية لتصوير حالة الفاشلين في إجتياز «العقبة» فتقول: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَايَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ».

و «المشئمة»: من «الشؤم» تقابل «الميمنة» من «اليُمن». أي إنّ هؤلاء الكافرين مشؤومون لا يُمن فيهم ولا بركة، بل هم عامل شقاء لأنفسهم ولمجتمعهم ثم إنّ علامة شؤم الفرد يوم القيامة تسلّمه صحيفة أعماله بيده اليسرى، ومن هنا ذهب بعض المفسرين إلى أنّ «المشئمة» هي اليسار مقابل اليمين. أي إنّ الذين كفروا بآيات اللَّه الذين يتسلمون صحائف أعمالهم بيدهم اليسرى خاصة وأنّ مادة «شؤم» جاءت في اللغة بمعنى اليسار أيضاً.

وفي الآية الأخيرة من السورة إشارة قصيرة ذات دلالة عميقة إلى جزاء هذه الفئة الأخيرة: «عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ».

و «الإيصاد»: إحكام الغلق، وواضح أنّ الإنسان- حين يكون في غرفة حارّة الجوّ- يتوق إلى فتح أبوابها، ليهبّ عليه نسيم يلطف الهواء، فما بالك إذا كان في محرقة جهنم والأبواب كلّها موصدة عليه؟!

«نهاية تفسير سورة البلد»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 465

91. سورة الشمس

محتوى السورة: هذه السورة هي في الواقع سورة تهذيب النفس، وتطهير القلوب من الأدران، ومعانيها تدور حول هذا الهدف، وفي مقدمتها قَسم بأحد عشر مظهراً من مظاهر الخليقة وبذات الباري سبحانه، من أجل التأكيد على أنّ فلاح الإنسان يتوقف على تزكية نفسه، والسورة فيها من القَسم ما لم يجتمع في سورة اخرى.

وفي المقطع الأخير من السورة ذكر لقوم «ثمود» باعتبارهم نموذجاً من أقوام طغت وتمردت، وانحدرت- بسبب ترك تزكية نفسها-

إلى هاوية الشقاء الأبدي، والعقاب الإلهي الشديد.

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأها فكأنّما تصدّق بكلّ شي ء طلعت عليه الشمس والقمر».

ومن المؤكّد أنّ هذه الفضيلة الكبرى لا ينالها إلّامن استوعب محتواها بكل وجوده، ووضع مهمّة تهذيب النفس نصب عينيه دائماً.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 466

وَ الشَّمْسِ وَ ضُحَاهَا (1) وَ الْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَ النَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَ اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَ السَّمَاءِ وَ مَا بَنَاهَا (5) وَ الْأَرْضِ وَ مَا طَحَاهَا (6) وَ نَفْسٍ وَ مَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَ قَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) أكبر عدد من القَسم القرآني تتضمّنه هذه السورة، هو في حساب «أحد عشر»، وفي حساب آخر «سبعة» أقسام ... ويبيّن أنّ السورة تتعرض لموضوع خطير هام .. موضوع عظيم كعظمة السماء والأرض والشمس والقمر ... موضوع حياتي مصيري.

لنبدأ أوّلًا بشرح ما جاء في السورة من قَسم، لنتعرض بعد ذلك إلى موضوع الآية الاولى تقول: «وَالشَّمْسِ وَضُحهَا».

ولقد ذكرنا آنفاً أنّ القسم في القرآن يستهدف مقصدين:

الأوّل: بيان أهميّة ما جاء القَسم من أجله.

والثاني: أهمية ما أقسم به القرآن، لأنّ القسم عادة يكون بالمهم من الامور.

«الشمس»: ذات دور هام وبنّاء جدّاً في الموجودات الحية على ظهر البسيطة فهي إضافة إلى كونها مصدراً للنور والحرارة- وهما عاملان أساسيان في حياة الإنسان- تعتبر مصدراً لغيرهما من المظاهر الحياتية، حركة الرياح، وهطول الأمطار، ونمو النباتات، وجريان الأنهار والشلالات، بل حتى نشوء مصادر الطاقة مثل النفط والفحم الحجري ... كل واحد منها يرتبط- بنظرة دقيقة- بنور الشمس.

ولو قُدر لهذا المصباح الحياتي أن ينطفي ء يوماً

لساد الظلام والسكوت والموت في كل مكان.

«الضحى : في الأصل انتشار نور الشمس، وهذا ما يحدث حين يرتفع قرص الشمس عن الافق ويغمر النور كل مكان، ثم يطلق على تلك البرهة من اليوم اسم «الضحى».

والقسم الثالث بالقمر: «وَالْقَمَرِ إِذَا تَلهَا». وهذا التعبير إشارة إلى القمر حين يكتمل ويكون بدراً كاملًا في ليلة الرابع عشر من كل شهر، ففي هذه الليلة يطل القمر من افق المشرق متزامناً مع غروب الشمس. فيسطع بجماله النّير ويهيمن على جوّ السماء، ولجماله

مختصر الامثل، ج 5، ص: 467

وبهائه في هذه الليلة أكثر من أيّة ليلة اخرى جاء القسم به في الآية الكريمة.

والقسم الرابع بالنهار: «وَالنَّهَارِ إِذَا جَلهَا». و «التجلية»: هي الإظهار والإبراز.

والقسم بهذه الظاهرة السماوية الهامة، يبيّن أهميتها الكبرى في حياة البشر وفي جميع الأحياء، فالنهار رمز الحركة والحياة، وكل الفعاليات والنشاطات ومساعي الحياة تتمّ عادة في ضوء النهار.

والقَسم الخامس بالليل: «وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشهَا».

بالليل بكل ما فيه من بركة وعطاء ... إذ هو يخفّف من حرارة شمس النهار، ثم هو مبعث راحة جميع الموجودات الحية واستقرارها.

وفي القسمين السادس والسابع تحلّق بنا الآية إلى السماوات وخالق السماوات:

«وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنهَا».

أصل خلقة السماوات بما فيها من عظمة مدهشة من أعظم عجائب الخليقة.

وبناء كل هذه الكواكب والأجرام السماوية وما يحكمها من أنظمة أعجوبة اخرى ... وأهم من كل ذلك ... خالق هذه السماوات.

القَسم الثامن والتاسع بالأرض وخالق الأرض: «وَالْأَرْضِ وَمَا طَحهَا». بالأرض التي تحتضن حياة الإنسان وجميع الموجودات الحيّة ... الأرض بجميع عجائبها: بجبالها، وبحارها، وسهولها، ووديانها، وغاباتها، وعيونها، وأنهارها، ومناجمها، وذخائرها ... وبكلّ ما فيها من ظواهر يكفي كل واحد منها لأن يكون آية من آيات اللَّه ودلالة على عظمته.

وأعظم من الأرض وأسمى منها

خالقها الذي «طحاها» و «الطحو» بمعنى البسط والفرش، وبمعنى الذهاب بالشي ء وإبعاده أيضاً. وهنا بمعنى «البسط»، لأنّ الأرض كانت مغمورة بالماء، ثم غاض الماء في منخفضات الأرض، وبرزت اليابسة، وانبسطت، ويعبّر عن ذلك أيضاً بدحو الأرض.

وأخيراً القسم الحادي عشر والقسم الثاني عشر بالنفس الإنسانية وبارئها: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّيهَا».

قيل إنّ المراد بالنفس هنا روح الإنسان، وقيل إنّه جسمه وروحه معاً.

ولو كان المراد من النفس الروح فقط، فإنّ «سوّاها» تعني إذن نظّمها وعدّل قواها ابتداء من الحواس الظاهرة وحتى قوّة الإدراك، والذاكرة، والإنتقال، والتخيل، والإبتكار،

مختصر الامثل، ج 5، ص: 468

والعشق، والإرادة، والعزم ونظائرها من الظواهر المندرجة في إطار «علم النفس». ولو كان المراد من النفس الروح والجسم معاً، فالتسوية تشمل أيضاً ما في البدن من أنظمة وأجهزة يدرسها علم التشريح وعلم الفسلجة.

وفي القرآن الكريم وردت «نفس» بكلا المعنيين.

والأنسب هنا أن يكون معنى النفس هنا شاملًا للمعنيين لأنّ قدرة اللَّه سبحانه تتجلى في الإثنين معاً.

الآية التالية تتناول أهم ظاهرة في الخليقة وتقول: «فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَيهَا».

إنّ اللَّه سبحانه قد منح الإنسان قدرة التشخيص والعقل، والضمير اليقظ بحيث يستطيع أن يميّز بين «الفجور» و «التقوى» عن طريق العقل والفطرة.

نعم، حين اكتملت خلقة الإنسان وتحقق وجوده، علّمه اللَّه سبحانه الواجبات والمحظورات. وبذلك أصبح كائناً مزيجاً في خلقته من «الحمأ المسنون» و «نفخة من روح اللَّه»، ومزيجاً في تعليمه من «الفجور» و «التقوى». أصبح بالتالي كائناً يستطيع أن يتسلق سلّم الكمال الإنساني ليفوق الملائكة، ومن الممكن أن ينحط لينحدر عن مستوى الأنعام ويبلغ مرحلة «بَلْ هُمْ أَضَلُّ». وهذا يرتبط بالمسير الذي يختاره الإنسان عن إرادة.

«ألهمها»: من الإلهام، وهو في الأصل بمعنى البلع والشرب، ثم استعمل في إلقاء الشي ء في روع الإنسان من قِبل

اللَّه تعالى.

«الفجور»: من مادة «فجر» وتعني الشق الواسع؛ ولمّا كانت الذنوب تهتك ستار الدين فإنّها سمّيت بالفجور.

المقصود بالفجور في الآية طبعاً الأسباب والعوامل والطرق المؤدية إلى الذنوب.

و «التقوى»: من «الوقاية» وهي الحفظ، وتعني أن يصون الإنسان نفسه من القبائح والآثام والسيئات والذنوب.

بعد هذه الأقسام المهمّة المتتالية يخلص السياق القرآني إلى النتيجة فيقول: «قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكهَا».

و «التزكية»: تعني النمو، و «الزكاة» في الأصل بمعنى النمو والبركة؛ ثم استعملت الكلمة بمعنى التطهير، وقد يعود ذلك إلى أنّ التطهير من الآثام يؤدّي إلى النمو والبركة، والآية الكريمة تحتمل المعنيين.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 469

نعم، الفلاح لمن ربّى نفسه ونمّاها، وطهّرها من التلوّث بالخصائل الشيطانية وبالذنوب والكفر والعصيان.

والمسألة الأساسية في حياة الإنسان هي هذه «التزكية»، فإن حصلت سعد الإنسان وإلّا شقى وكان من البائسين.

ثم يعرج السياق القرآني على المجموعة المخالفة فيقول: «وَقَدْ خَابَ مَن دَسهَا».

«خاب»: من الخيبة، وهي فوت الطلب، كما يقول الراغب في المفردات والحرمان والخسران.

«دسّاها»: من مادة «دس» وهي في الأصل بمعنى إدخال الشي ء قسراً.

وبهذا المعيار يتمّ تمييز الفائزين عن الفاشلين في ساحة الحياة: «تزكية النفس وتنميتها بروح التقوى وطاعة اللَّه» أو «تلوثها بأنواع المعاصي والذنوب».

في المجمع: وجاءت الرواية عن سعيد بن أبي هلال قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذا قرأ هذه الآية «قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكهَا» وقف ثم قال: «اللّهمّ آت نفسي تقواها، أنت وليّها ومولاها، وزكّها وأنت خير من زكّاها».

كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَ سُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَ لَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15) عاقبة مرّة للطغاة: عقب التحذير الذي اطلقته الآية السابقة بشأن عاقبة من

ألقى بنفسه في أوحال العصيان، قدمت هذه الآيات مصداقاً تاريخياً واضحاً لهذه السنّة الإلهية، وتحدثت عن مصير قوم «ثمود» بعبارات قصيرة قاطعة ذات مدلول عميق.

«الطغوى و «الطغيان» بمعنى واحد وهو تجاوز الحد، وفي الآية تجاوز الحدود الإلهية والعصيان أمام أوامره.

«قوم ثمود» من أقدم الأقوام التي سكنت منطقة جبلية بين «الحجاز» و «الشام». كانت لهم حياة رغدة مرفهة، وأرض خصبة، وقصور فخمة، غير أنّهم لم يؤدوا شكر هذه النعم، بل طغوا وكذبوا نبيّهم صالحاً، واستهزأوا بآيات اللَّه، فكان عاقبة أمرهم أن أبيدوا بصاعقة سماوية.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 470

ثم تستعرض السورة مقطعاً بارزاً من طغيان القوم وتقول: «إِذِ انبَعَثَ أَشْقهَا».

و «أشقى» ثمود، هو الذي عقر الناقة التي ظهرت باعتبارها معجزة بين القوم.

وفي المجمع: عن عثمان بن صهيب عن أبيه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لعلي بن أبي طالب عليه السلام:

«من أشقى الأوّلين؟ قال: عاقر الناقة. قال: صدقت. فمن أشقى الآخرين؟ قال: قلت لا أعلم يا رسول اللَّه. قال: الذي يضربك على هذه- وأشار إلى يافوخه-».

وثمّة تشابه بين قاتل ناقة صالح، قدار بن سالف، وقاتل أمير المؤمنين عليه السلام، عبد الرحمن بن ملجم المرادي؛ لم يكن الإثنان يحملان عداءً شخصياً، بل كان هدف الإثنين اطفاء نور اللَّه والقضاء على معجزة وآية من آيات اللَّه.

في الآية التالية تفاصيل أكثر عن طغيان قوم ثمود: «فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيهَا».

المقصود من «رسول اللَّه» نبي قوم ثمود صالح عليه السلام؛ وعبارة «ناقة اللَّه» إشارة إلى أنّ هذه الناقة لم تكن عادية، بل كانت معجزة، تثبت صدق نبوّة صالح، ومن خصائصها- كما في الرواية المشهورة- أنّها خرجت من قلب صخرة في جبل لتكون حجة على المنكرين.

الآية التالية

تقول: «فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا». و «العقر»:- على وزن كفر- معناه الأساس والأصل والجذر؛ و «عقر الناقة» قطع أساسها وإهلاكها.

ويلاحظ أنّ قاتل الناقة شخص واحد أشارت إليه الآية بأشقاها، بينما نسب العقر إلى كل طغاة قوم ثمود: «فعقروها»، وهذا يعني أنّ كل هؤلاء القوم كانوا مشاركين في الجريمة.

وعقب هذا التكذيب أنزل اللَّه عليهم العقاب فلم يترك لهم أثراً: «فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّيهَا».

«دمدم»: تعني أهلك، وتأتي أحياناً بمعنى عذّب وعاقب وأحياناً بمعنى سحق واستأصل، وبمعنى سخط أو أحاط.

و «سوّاها»: من التسوية وهي تسوية الأبنية بالأرض نتيجة صيحة عظيمة وصاعقة وزلزلة، أو بمعنى إنهاء حالة هؤلاء القوم، أو تسويتهم جميعاً في العقاب والعذاب، حتى لم يسلم أحد منهم.

ومن الممكن أيضاً الجمع بين هذه المعاني.

وتختتم السورة الحديث عن هؤلاء القوم بتحذير قارع لكل الذين يتجهون في نفس هذه

مختصر الامثل، ج 5، ص: 471

المسيرة المنحرفة فتقول: «وَلَا يَخَافُ عُقْبهَا».

كثيرون من الحكّام قادرون على انزال العقاب لكنّهم يخشون من تبعات عملهم، ويخافون ردود الفعل التي قد تحدث نتيجة فعلهم، ولذلك يكفّون عن المعاقبة. قدرتهم- إذن- محفوفة بالضعف وعلمهم ممزوج بالجهل. لا يعلمون مدى قدرتهم على مواجهة التبعات.

بينما اللَّه سبحانه قادر متعال، علمه محيط بكل الامور وعواقبها، وقدرته على مواجهة النتائج لا يشوبها ضعف، فهو سبحانه وتعالى لا يخاف عقباها، ولذلك فإنّ مشيئته في العقاب نافذة حازمة.

«نهاية تفسير سورة الشّمس»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 473

92. سورة الليل

محتوى السورة: بعد القسم بثلاث ظواهر في بداية السورة يأتي تقسيم الناس إلى منفقين متّقين، وبخلاء منكرين، وتذكر عاقبة كل مجموعة؛ اليسر والسعادة والهناء للمجموعة الاولى، والعسر والضنك والشقاء للمجموعة الثانية.

وفي مقطع آخر من السورة إشارة إلى أنّ الهداية من اللَّه سبحانه لعباده هي انذارهم من النار يوم

القيامة.

ثم تذكر السورة في نهايتها من يدخل هذه النار ومن ينجو منها، مع ذكر أوصاف الفريقين.

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأها أعطاه اللَّه حتى يرضى، وعافاه من العسر ويسّر له اليسر».

وَ اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَ النَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَ مَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَ اتَّقَى (5) وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَ أَمَّا مَنْ بَخِلَ وَ اسْتَغْنَى (8) وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَ مَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 474

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان روى عن ابن عباس أنّ رجلًا كانت له نخلة فرعها في دار رجل فقير ذي عيال، وكان الرجل إذا جاء فدخل الدار وصعد النخلة ليأخذ منها التمر، فربّما سقطت التمرة فيأخذها صبيان الفقير، فينزل الرجل من النخلة حتى يأخذ التمر من أيديهم، فإن وجدها في فيّ أحدهم أدخل إصبعه حتى يأخذ التمرة من فيه. فشكا ذلك الرجل إلى النبي صلى الله عليه و آله، وأخبره بما يلقى من صاحب النخلة. فقال له النبي صلى الله عليه و آله: «إذهب». ولقي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله صاحب النخلة فقال: «تعطيني نخلتك المائلة التي فرعها في دار فلان ولك بها نخلة في الجنة». فقال له الرجل: إنّ لي نخلًا كثيراً، وما فيه نخلة أعجب إليّ تمرة منها. قال: ثم ذهب الرجل، فقال رجل كان يسمع الكلام من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يا رسول اللَّه! أتعطيني ما أعطيت الرجل نخلة في الجنة إن أنا أخذتها؟ قال:

«نعم». فذهب الرجل ولقي صاحب النخلة فساومها منه فقال له: أشعرت أنّ محمّداً أعطاني بها نخلة في الجنة فقلت له: يعجبني تمرتها وإنّ لي نخلًا كثيراً فما فيه نخلة أعجب إليّ تمرة منها. فقال له الآخر: أتريد بيعها؟ فقال: لا إلّا أن أعطى ما لا أظنّه اعطى. قال: فما مُناك؟ قال: أربعون نخلة. فقال الرجل: جئت بعظيم، تطلب بنخلتك المائلة أربعين نخلة؟! ثم سكت عنه. فقال له: أنا أعطيك أربعين نخلة. فقال له:

أشهد إن كنت صادقاً، فمرّ إلى اناس فدعاهم، فأشهد له بأربعين نخلة، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه و آله فقال: يا رسول اللَّه! إنّ النخلة قد صارت في ملكي، فهي لك. فذهب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى صاحب الدار، فقال له: «النخلة لك ولعيالك». فأنزل اللَّه تعالى: «وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى السورة وعن عطاء قال: اسم الرجل (أبو الدحداح).

التّفسير

التقوى والإمداد الإلهي: هذه السورة المباركة أيضاً تبتدي ء بثلاثة أقسام تثير التفكير في المخلوقات وفي الخالق. تقول: «وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى .

فالقَسم الأوّل بالليل حين يغطّي ... يغطّي بظلامه نصف الكرة الأرضية ... أو يغطّي قرص الشمس، وهذا القسم تأكيد على أهمّية الليل ودوره الفاعل في حياة الأفراد، من تعديله لحرارة الشمس، ونشره السكينة على كل الموجودات الحية، وتوفير الجوّ لعبادة المتهجدين ومناجاة الصالحين.

ويستمر السياق القرآني في القسم بالقول: «وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى .

مختصر الامثل، ج 5، ص: 475

والنهار يبدأ من اللحظة التي يطلع فيها الفجر، فيشقّ قلب ظلام الليل، ثم يمتدّ ليملاء كل السماء، ويغمر كل شي ء بالنور.

ثم القَسم الأخير في السورة بالخالق المتعال: «وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى .

فوجود الجنسين في عالم «الإنسان» و «الحيوان» و «النبات» ... والمراحل التي تمرّ بها النطفة

منذ انعقادها حتى الولادة ... والخصائص التي يمتاز بها كل جنس متناسبة مع دوره ونشاطه ... والأسرار العميقة المخبوءة في مفهوم الجنسية ... كلّها من دلالات وآيات عالم الخليقة الكبير ... وبها يمكن الوقوف على عظمة الخالق.

ثم يأتي الهدف النهائي من كل هذه الأقسام بقوله سبحانه: «إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى .

اتجاهات سعيكم مختلفة، ونتائجها مختلفة أيضاً، هذا يعني أنّ أفراد البشر لا يستقرون في حياتهم على حال ... بل هم في سعي مستمر ... وفي استثمار دائم للطاقة التي أودعها اللَّه في نفوسهم ... فانظر أيّها الإنسان في أي مسير تبذل هذه الطاقة التي هي رأس مال وجودك ...

في أيّ اتجاه ... وفي سبيل أيّة غاية؟!

حذار من تبديد كل هذه الطاقات في سبيل نتيجة تافهة ... وحذار من بيعها بثمن بخس!

«شتى : جمع «شتيت» من مادة «شتّ» أيّ فرّق الجمع، وهنا بمعنى التفرق والتشعب في المساعي من حيث الكيفية والهدف والنتيجة.

ثم يأتي تقسيم الناس على قسمين، ويبيّن خصائص كل قِسم. يقول سبحانه: «فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى .

وأساساً أنّ الإيمان بالمعاد وبثواب الآخرة يهون المشاكل والصعاب، ويجعل بذل المال بل النفس ميسوراً، ويخلق الدافع نحو طلب الشهادة في ميادين الجهاد عن رغبة مقرونة باحساس باللذة والنشوة.

وفي الجهة المقابلة تقف المجموعة الاخرى التي تتحدث عنها الآيات التالية: «وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى .

«من بخل» في هذه المجموعة مقابل «من أعطى» في تلك.

«استغنى : أي طلب الغنى، قد تكون إشارة إلى ذريعتهم لبخلهم، ووسيلتهم لإكتناز المال.

وهؤلاء البخلاء الخاوون من الإيمان يشقّ عليهم فعل الخير وخاصة الإنفاق، بينما هو للمجموعة الاولى مقرون باللذة والإنشراح.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 476

ثم يأتي التحذير لهؤلاء البخلاء المغفلين

بالآية: «وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى .

لا يستطيع أن يصطحب ماله من هذه الدنيا، ولا يستطيع هذا المال- إذا اصطحبه- أن يقيه من السقوط في نار جهنم.

إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَ إِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَ الْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَ تَوَلَّى (16) وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَ مَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَ لَسَوْفَ يَرْضَى (21) عقب الآيات الكريمة السابقة التي قسمت الناس على مجموعتين: مؤمنة سخية، وعديمة الإيمان بخيلة، وبيّنت مصير كل منهما، تبدأ هذه الطائفة من الآيات بالتأكيد أنّ على اللَّه الهداية لا الإجبار والإلزام، ويبقى الإنسان هو المسؤول عن اتخاذ القرار اللازم، وأنّ انتخاب الطريق المستقيم يعود بالنفع على الإنسان نفسه ولا حاجة للَّه سبحانه بعمل خير يقدمه الفرد. يقول تعالى: «إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى . الهدى عن طريق التكوين (الفطرة والعقل) أو عن طريق التشريع (الكتاب والسنة) ... فقد بيّنا ما يلزم وأدينا الأمر حقّه.

وبعد: «وَإِنَّ لَنَا لَلْأَخِرَةَ وَالْأُولَى . فلا حاجة بنا لإيمانكم وطاعتكم، ولا طاعتكم تجدينا نفعاً ولا معصيتكم تصيبنا ضرّاً، وكل منهج الهداية لصالحكم أنفسكم.

الإنذار والتحذير من سبل الهداية، ولذلك قال سبحانه: «فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى .

«تلظى : من اللظى، وهو الشعلة المتوهجة الخالصة والشعلة الخالصة من الدخان ذات حرارة أكبر، وتطلق «لظى» أحياناً على جهنم.

ثم تشير الآية إلى المجموعة التي ترد هذه النار المتلظية الحارقة وتقول: «لَايَصْلهَا إِلَّا الْأَشْقَى».

وفي وصف الأشقى تقول الآية: «الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى .

معيار الشقاء والسعادة- إذن- هو الكفر والإيمان وما ينبثق عنهما من موقف عملي، إنّه لشقي حقّاً هذا الذي يعرض عن كل

معالم الهداية وعن كل الإمكانات المتاحة للإيمان والتقوى ... بل إنّه أشقى الناس.

ثم تتحدث السورة عن مجموعة قد جُنّبت النار وأبعدت عنها، تقول الآية: «وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 477

ومن هو هذا الأتقى؟ تقول الآية الكريمة: «الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى .

وعبارة «يتزكى تشير إلى قصد القربة، وخلوص النية، سواء أريد منها معنى النمو الروحي والمعنوي، أم قصد بها تطهير الأموال، لأنّ التزكية جاءت بمعنى «التنمية»، وبمعنى «التطهير».

وللتأكيد على خلوص النيّة في إنفاقهم تقول الآية: «وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تُجْزَى .

فلا أحد قد أنعم على هذا «الأتقى» ليكون إنفاقه جزاء على هذه النعمة.

بل هدفه رضا اللَّه لا غير: «إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبّهِ الْأَعْلَى .

إنّ إنفاق المؤمنين الأتقياء ليس رياء ولا ردّاً على خدمات سابقة قدمت إليهم، بل دافعها رضا اللَّه لا غير، ومن هنا كان إنفاقهم ذا قيمة كبرى.

وفي خاتمة السورة ذكر بعبارة موجزة لما ينتظر هذه المجموعة من أجر عظيم تقول الآية:

«وَلَسَوْفَ يَرْضَى .

نعم، ولسوف يرضى، فهو قد عمل على كسب رضا اللَّه، واللَّه سبحانه سوف يرضيه، إرضاءً واسعاً غير محدود ... إرضاءً عميق المعنى يستوعب كل النعم.

«نهاية تفسير سورة الليل»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 479

93. سورة الضحى

محتوى السورة: هذه السورة نزلت في مكة، وحسب بعض الروايات أنّها نزلت حين كان الرسول صلى الله عليه و آله متألماً بسبب تأخر نزول الوحي، وتقوّل الأعداء نتيجة هذا الإنقطاع المؤقت، نزلت السورة كغيث على قلب النبي صلى الله عليه و آله.

هذه السورة تبدأ بقَسمين، ثم تبشر النبي بأنّ اللَّه لا يتركه أبداً.

ثم تبشّره بعطاء رباني تجعله راضياً.

ثم تعرض له صوراً من حياته السابقة تتجسّد فيها الرحمة الإلهية التي كانت تشمله دائماً وتحميه وتسنده في أشدّ اللحظات.

وفي نهاية السورة

تتكرر الأوامر الإلهية برعاية اليتيم والسائل، وباظهار النعم الإلهية (شكراً لهذه النعم).

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأها كان ممن يرضاه اللَّه، ولمحمّد صلى الله عليه و آله أن يشفع له، وله عشر حسنات بعدد كل يتيم وسائل».

وفضيلة التلاوة هذه هي طبعاً من نصيب من يقرأ ويعمل بما يقرأ.

جدير بالذكر أنّ الروايات تذكر هذه السورة والسورة التي تليها: (شرح) على أنّها سورة واحدة، ولذلك لابدّ من قرائتهما معاً بعد سورة الحمد في الصلاة (لوجوب قراءة سورة كاملة بعد الحمد في الصلاة حسب مذهب أهل البيت عليهم السلام).

مختصر الامثل، ج 5، ص: 480

وَ الضُّحَى (1) وَ اللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ مَا قَلَى (3) وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)

سبب النّزول

في المجمع: قال ابن عباس: احتبس الوحي عنه صلى الله عليه و آله خمسة عشر يوماً، فقال المشركون:

إنّ محمّداً قد ودعه ربّه وقلاه، ولو كان أمره من اللَّه تعالى لتتابع عليه. فنزلت السورة.

وروي أنّه لمّا نزلت السورة قال النبي صلى الله عليه و آله لجبرائيل عليه السلام: «ما جئت حتى اشتقت إليك»! فقال جبرائيل: وأنا كنت أشدّ إليك شوقاً، ولكنّي عبد مأمور وما نتنزل إلّابأمر ربّك.

التّفسير

في بداية السورة المباركة قسمان: الأوّل بالنور، والثاني بالظلمة. يقول سبحانه:

«وَالضُّحَى وهو قسم بالنهار- حين تغمر شمسه كل مكان.

«وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى . أي إذا عمّت سكينته كل مكان.

«الضحى»: يعني أوائل النهار، أي حين يرتفع قرص الشمس في كبد السماء، ويعم نورها الأرض، وهو أفضل ساعات النهار.

«سجى»: من السَّجو أو السُّجو، أي سكن وهدأ.

والمهم في الليل هدؤه وسكينته ممّا يضفي على

روح الإنسان واعصابه هدوءً وارتياحاً، ويُعدّه لممارسة نشاط يوم غد، وهو لذلك نعمة مهمّة استحقت القسم بها.

بين القَسمين ومحتوى السورة تشابه كبير وإرتباط وثيق. النهار مثل نزول نور الوحي على قلب النبي صلى الله عليه و آله، والليل كانقطاع الوحي المؤقت، وهو أيضاً ضروري في بعض المقاطع الزمنية.

وبعد القسمين، يأتي جواب القسم، فيقول سبحانه: «مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى .

«قلى»: من «قلا»- على وزن صدا- وهو شدّة البغض.

في هذا التعبير سكن لقلب النبي صلى الله عليه و آله وتسلّ له، ليعلم أنّ التأخير في نزول الوحي إنّما يحدث لمصلحة يعلمها اللَّه تعالى، وليست- كما يقول الأعداء- لترك اللَّه نبيّه أو لسخطه عليه فهو مشمول دائماً بلطف اللَّه وعنايته الخاصّة، وهو دائماً في كنف حماية اللَّه سبحانه.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 481

«وَلَلْأَخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى .

أنت في هذه الدنيا مشمول بالطاف اللَّه تعالى، وفي الآخرة أكثر وأفضل.

وتأتي البشرى للنبي الكريم لتقول له: «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى .

وهذا أعظم أكرام وأسمى احترام من ربّ العالمين لعبده المصطفى محمّد صلى الله عليه و آله. فالعطاء الرباني سيغدق عليه حتى يرضى ... حتى ينتصر على الأعداء ويعم نور الإسلام الخافقين، كما أنّه سيكون في الآخرة أيضاً مشمولًا بأعظم الهبات الإلهية.

النبي الأعظم صلى الله عليه و آله باعتباره خاتم الأنبياء، وقائد البشرية، لا يمكن أن يتحقق رضاه في نجاته فحسب، بل إنّه سيكون راضياً حين تُقبل منه شفاعته في امته.

عن حرب بن شريح قال: قلت لأبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين: جعلت فداك! أرأيت هذه الشفاعة التي يتحدث بها بالعراق أحق هي؟ قال: «شفاعة ماذا»؟ قلت: شفاعة محمّد صلى الله عليه و آله قال: «حق واللَّه، لحدثني عمي محمّد

بن علي بن الحنفية عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «أشفع لُامّتي حتى يناديني ربّي عزّ وجل أرضيت يا محمّد، فأقول: نعم رضيت». ثم أقبل علي عليه السلام فقال: إنّكم تقولون يا معشر العراق إنّ أرجى آية في كتاب اللَّه «يَا عِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ» الآية. قلت إنّا لنقول ذلك، قال: ولكنا أهل البيت نقول إنّ أرجى آية في كتاب اللَّه «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى وهي الشفاعة «1».

وفي المجمع عن الصادق عليه السلام قال: «دخل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على فاطمة عليها السلام وعليها كساء من ثلة الإبل وهي تطحن بيدها وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لما أبصرها، فقال: يا بنتاه! تعجلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة فقد أنزل اللَّه علي «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ».

أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى (6) وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَ وَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) الشكر على كل هذه النعم الإلهية: ذكرنا أنّ هدف هذه السورة المباركة تسلية قلب النبي صلى الله عليه و آله وبيان الطاف اللَّه التي شملته، وهذه الآيات المذكورة أعلاه تجسد للنبي ثلاث هبات من الهبات الخاصّة التي أنعم اللَّه بها على النبي، ثم تأمره بثلاثة أوامر.

______________________________

(1) كنز العمال 14/ 636؛ المعجم الأوسط، الطبراني 2/ 307؛ وتفسير مجمع البيان 10/ 382.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 482

«أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَاوَى .

فقد كنت يا محمّد في رحم امّك حين توفي والدك فآويتك إلى كنف جدّك عبد المطلب (سيد مكة).

وكنت في السادسة حين

توفيت والدتك، فزاد يتمك، لكنّني زدت حبّك في قلب «عبد المطلب».

وكنت في الثامنة حين رحل جدّك «عبدالمطلب»، فسخرت لك عمّك «أبا طالب»، وليحافظ عليك كما يحافظ على روحه.

نعم، كنت يتيماً فآويتك.

ثم يأتي ذكر النعمة الثانية: «وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى .

نعم، لم تكن أيّها النبي على علم بالنبوّة والرسالة، ونحن أنزلنا هذا النور على قلبك لتهدي به الإنسانية، وهذا المعنى ورد في الآية (52) من سورة الشورى أيضاً: «مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلكِن جَعَلْنهُ نُورًا نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا».

من هنا فإنّ المقصود من الضلالة في كلمة «ضالًا» في الآية ليس نفي الإيمان والتوحيد والطهر والتقوى عن النبي، بل بقرينة الآيات التي أشرنا إليها تعني نفي العلم بأسرار النبوّة وبأحكام الإسلام، وتعني عدم معرفة هذه الحقائق، كما أكّد على ذلك كثير من المفسرين.

لكنّه صلى الله عليه و آله بعد البعثة اهتدى إلى هذه الامور بعون اللَّه تعالى.

ثم يأتي ذكر النعمة الثالثة: «وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى «1».

لقد جعلناك تستأثر باهتمام «خديجة» هذه المرأة المخلصة الوفية لتضع كل ثروتها تحت تصرّفك ومن أجل تحقيق أهدافك، وبعد ظهور الإسلام رزقك مغانم كثيرة في الحروب ساعدتك في تحقيق أهدافك الرسالية الكبرى.

في الآيات التالية ثلاثة أوامر تصدر إلى الرسول باعتبارها نتيجة الآيات السابقة ...

والخطاب، وإن كان متجهاً إلى الرسول صلى الله عليه و آله، فإنّه يشمل أيضاً كل المسلمين.

«فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ».

كأنّ اللَّه يخاطب نبيّه قائلًا: لقد كنت يتيماً أيضاً وعانيت من آلام اليتم، والآن عليك أن

______________________________

(1) «العائل»: في الأصل كثير العيال، وجاءت أيضاً بمعنى الفقير، وهي في الآية بهذا المعنى.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 483

تهتم بالأيتام كل اهتمام وأن تروي روحهم الظمأى بحبّك وعطفك.

وهذا يدل على أنّ هناك

مسألة أهم من الإطعام والإنفاق بشأن الأيتام، وهي اللطف بهم والعطف عليهم وإزالة إحساسهم بالنقص العاطفي. في المجمع عن عبداللَّه بن مسعود قال:

قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من مسح على رأس يتيم كان له بكل شعرة تمرّ على يده نور يوم القيامة».

«وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ».

«نَهَرَ»: بمعنى ردّ بخشونة.

وفي معنى «السائل» عدّة تفاسير.

الأوّل: أنّه المتجه بالسؤال حول القضايا العلمية والعقائدية والدينية.

والثاني: هوالفقير في المال والمتاع، والأمر يكون عندئذ ببذل الجهد في هذا المجال، وبعدم ردّ هذا الفقير السائل يائساً.

والثالث: أنّ المعنى يشمل الفقير علمياً والفقير مادياً، والأمر بتلبية احتياجات السائل في المجالين، وهذا المعنى يتناسب مع الهداية الإلهية لنبيّه صلى الله عليه و آله، ومع إيوائه حين كان يتيماً.

«وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ». والحديث عن النعمة قد يكون باللسان، وبتعابير تنمّ عن غاية الشكر والإمتنان، لا عن التفاخر والغرور. وقد تكون بالعمل عن طريق الإنفاق من هذه النعمة في سبيل اللَّه، انفاقاً يبيّن مدى هذه النعمة.

إنّ النعمة في الآية شاملًا للنعم المادية والمعنوية. في المجمع: قال الصادق عليه السلام معناه:

«فحدث بما أعطاك اللَّه، وفضلك، ورزقك، وأحسن إليك وهداك».

«نهاية تفسير سورة الضحى»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 485

94. سورة الشرح

محتوى السورة: المعروف أنّ هذه السورة نزلت بعد سورة «الضحى» ومحتواها يؤيد ذلك، لأنّها تسرد أيضاً قسماً من الهبات الإلهية للرسول الأكرم صلى الله عليه و آله.

في سورة «الضحى» عرض لثلاث هبات إلهية بعضها مادية وبعضها معنوية، وفي هذه السورة ذكر لثلاث هبات أيضاً غير أنّ جميعها معنوية، وتدور السورة بشكل عام حول ثلاثة محاور: الأوّل: بيان النعم الثلاث؛ و الثاني: تبشير النبي بزوال العقبات أمام دعوته؛ و الثالث: الترغيب في عبادة اللَّه الواحد الأحد.

ولذلك ورد عن أهل البيت

عليهم السلام ما يدل أنّ هاتين السورتين سورة واحدة ووجب قراءتهما معاً في الصلاة لوجوب قراءة سورة كاملة بعد الحمد.

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأها اعطي من الأجر كمن لقي محمّداً صلى الله عليه و آله مغتماً ففرّج عنه».

أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَ وَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَ رَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَ إِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 486

نِعم إلهية: سياق الآيات ممزوج بالحب والحنان وبألطاف ربّ العالمين لنبيّه الكريم.

أهم هبة إلهية تشير إليها الآية الاولى: «أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ».

«الشرح»: في الأصل توسعة قطع اللحم بتحويلها إلى شرائح أرق؛ و «شرح الصدر»:

سعته بنور إلهي وبسكينة واطمئنان من عند اللَّه، ولهذه التوسعة مفهوم واسع، تشمل السعة العلمية للنبي عن طريق الوحي والرسالة، وتشمل أيضاً توسعة قدرة النبي في تحمله واستقامته أمام تعنت الأعداء والمعارضين.

في المجمع: روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «لقد سألت ربّي مسألة وددت أنّي لم أسأله؛ قلت: أي ربّ! إنّه قد كان أنبياء قبلي منهم من سخرت له الريح ومنهم من كان يحيي الموتى. قال، فقال: ألم أجدك يتيماً فآويتك. قال: قلت بلى. قال: ألم أجدك ضالًا فهديتك. قال: قلت بلى أي ربّ. قال: ألم أشرح لك صدرك ووضعت عنك وزرك قال: قلت:

بلى أي ربّ».

وهذا يعني أنّ نعمة شرح الصدر تفوق معاجز الأنبياء. والمتمعّن في دراسة حياة الرسول صلى الله عليه و آله، وما فيها من مظاهر تدل على

شرح عظيم لصدره تجاه الصعاب والمشاق يدرك بما لا يقبل الشك أنّ الأمر لم يتأت لرسول اللَّه بشكل عادي، بل إنّه حتماً تأييد إلهي ربّاني.

وبسعة الصدر هذه إجتاز الرسول صلى الله عليه و آله العقبات والحواجز والصعاب على أفضل وجه، وأدّى رسالته خير أداء.

ثم يأتي ذكر الموهبة الثانية: «وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ». أي ألم نضع عنك الحمل الثقيل؟

«الَّذِى أَنقَضَ ظَهْرَكَ».

وأي حمل وضعه اللَّه عن نبيّه؟ القرائن في الآيات تدل على أنّه مشاكل الرسالة والنبوّة والدعوة إلى التوحيد وتطهير المجتمع من ألوان الفساد، وليس نبيّ الإسلام وحده بل كل الأنبياء في بداية الدعوة واجهوا مثل هذه المشاكل الكبرى وتغلبوا عليها بالإمداد الإلهي وحده، مع فارق في الظروف، فبيئة الدعوة الإسلامية كانت ذات عقبات أكبر ومشاكل ...

وفي الموهبة الثالثة يقول سبحانه: «وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ».

فاسمك مع اسم الإسلام والقرآن قد ملأ الآفاق، وأكثر من ذلك اقترن اسمك باسم اللَّه سبحانه في الأذان يرفع صباح مساء على المآذن. والشهادة برسالتك لا تنفك عن الشهادة بتوحيد اللَّه في الإقرار بالإسلام وقبول الدين الحنيف.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 487

وروي عن الرسول صلى الله عليه و آله في تفسير هذه الآية قال: «قال لي جبرائيل قال اللَّه عزّ وجل: إذا ذُكرتُ ذُكرتَ معي». [وكفى بذلك منزلة].

شاعر النبي «حسان بن ثابت» ضمّن معنى الآية الكريمة في أبيات جميلة، وقال:

وضمّ الإله اسم النبي إلى اسمه إذ قال في الخمس المؤذن أشهد

وشقّ له من اسمه ليجلّه فذو العرش «محمود» وهذا «محمّد»

الآية التالية تبشّر النبي صلى الله عليه و آله بأعظم بشرى، وتقول: «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا».

ويأتي التأكيد الآخر: «إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا».

لا تغتمّ أيّها النبي، فالمشاكل والعقبات لا تبقى على هذه الحالة، ودسائس الأعداء لن تستمر، وشظف العيش وفقر

المسلمين سوف لا يظلّ على هذا المنوال.

إنّ اسلوب الآيتين يجعلهما لا تختصان بشخص النبي صلى الله عليه و آله وبزمانه، بل بصورة قاعدة عامة مستنبطة مما سبق، وتبشّر كل البشرية المؤمنة المخلصة الكادحة، وتقول لها: كل عسر إلى جانبه يسر.

في من لا يحضره الفقيه بإسناده إلى النبي صلى الله عليه و آله قال: «واعلم أنّ النصر مع الصبر، وأنّ الفرج مع الكرب وفإنّ مع العسر يسراً، إنّ مع العسر يسراً».

«فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ». أي إذا انتهيت من أداء أمر مهم فابدأ بمهمّة اخرى، فلا مجال للبطالة والعطل. كن دائماً في سعي مستمر ومجاهدة دائمة، واجعل نهاية أية مهمّة بداية لمهمّة اخرى.

«وَإِلَى رَبّكَ فَارْغَب». أي فاعتمد على اللَّه في كل الأحوال.

اطلب رضاه، واسع لقربه.

الآيتان- حسب ما ذكرناه- لهما مفهوم واسع عام يقضي بالبدء بمهمّة جديدة بعد الفراغ من كل مهمّة. وبالتوجه نحو اللَّه في كل المساعي والجهود.

إنّ هذه السورة تبيّن بمجموعها عناية ربّ العالمين الخاصة للنبي الأعظم صلى الله عليه و آله، وتسلية قلبه أمام المشاكل، ووعده بالنصر أمام عقبات الدعوة، وهي في الوقت ذاته تحيي الأمل والحركة والحياة في جميع البشرية المهتدية بهدى القرآن.

«نهاية تفسير سورة الشرح»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 489

95. سورة التين

محتوى السورة وفضيلتها: هذه السورة تدور آياتها حول حسن خلقة الإنسان ومراحل تكامله ونموّه وانحطاطه، وتبدأ بقسم عميق المعنى، تذكر عوامل انتصار الإنسان ونجاته وتنتهي بالتأكيد على مسألة المعاد وحاكمية اللَّه المطلقة.

وفي المجمع عن ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأها أعطاه اللَّه خصلتين: العافية واليقين مادام في دار الدنيا، فإذا مات أعطاه اللَّه من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة صيام يوم».

وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ (1) وَ طُورِ

سِينِينَ (2) وَ هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8) تبدأ السورة بالقسم أربع مرّات لبيان أمر مهم:

«وَالتّينِ وَالزَّيْتُونِ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 490

«وَطُورِ سِينِينَ» «1».

«وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ».

«التين» و «الزيتون» ثمرتان معروفتان، واختلف المفسرون في المقصود بالتين وبالزيتون، هل هما الفاكهتان المعروفتان أم شي ء آخر؟

بعضهم ذهب إلى أنّهما الفاكهتان بما لهما من خواص غذائية وعلاجية كبيرة، وبعض آخر قال: المقصود منهما جبلان واقعان في مدينتي «دمشق» و «بيت المقدس» لأنّ المكانين منبَثَق كثير من الرسل والأنبياء .. وبذلك ينسجم هذان القَسمان مع ما يليهما من قَسمين بأراض مقدسة.

«وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ». والبلد الأمين مكة، الأرض التي كانت في عصر الجاهلية أيضاً بلداً آمناً وحرماً إلهيّاً، ولا يحق لأحد فيها أن يتعرض لأحد.

إذا حملنا كلمتي «التين» و «الزيتون» على معناهما الظاهر الإبتدائي، فالقسم بها ذو دلالة عميقة أيضاً، لأنّ «التين» فاكهة ذات مواد غذائية ثرّة، ولقمة مغذية ومقوية لمختلف الأعمار، وخالية من القشر والنواة والزوائد.

وفي الكافي عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام قال: «التين يذهب بالبخر ويشدّ الفم والعظم، وينبت الشعر، ويذهب بالداء، ولا يحتاج معه إلى دواء».

وقال عليه السلام: «التين أشبه شي ء بنبات الجنة».

وحول الزيتون، فإنّ العلماء الذين قضوا عمرهم في دراسة خواص النباتات يعيرون أهمية بالغة للزيتون وزيته. ويعتقدون أنّ الفرد إن أراد أن يعيش في سلامة دائمة فلابدّ له أن يستفيد من هذا الأكسير الحياتي.

زيت الزيتون صديق حميم لكبد الإنسان، وله تأثير فعّال في معالجة عوارض الكلى، وحصى الصفراء، والتشنجات الكليوية والكبدية،

وإزالة الإمساك.

وزيت الزيتون مفعم أيضاً بأنواع الفيتامينات وفيه الفوسفور والكبريت والكلسيوم

______________________________

(1) قيل: إنّ «سينين» جمع بمعنى شجرة، واحدته «سينة»، فكأنّه قيل طور الأشجار. وقيل: إنّ سينين، اسم للبقعة التي فيها الجبل. وعن عكرمة بزيادة بلسان أهل الحبشة؛ وعن قتادة أنّه قال: سينين مبارك حسن ذو شجر (روح المعاني 30/ 173).

مختصر الامثل، ج 5، ص: 491

مختصر الامثل ج 5 533

والحديد والبوتاسيوم والمنغنيز.

وفي المكارم الأخلاق للطبرسي عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام قال: «نعم الطعام الزيت، يطيب النكهة، ويذهب بالبلغم، ويصفي اللون، ويشدّ العصب، ويذهب بالوصب [المرض والألم والضعف ويطفي ء الغضب».

ثم يأتي جواب القسم: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسنَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ».

«تقويم»: يعني تسوية الشي ء بصورة مناسبة، ونظام معتدل وكيفية لائقة، وسعة مفهوم الآية يشير إلى أنّ اللَّه سبحانه خلق الإنسان بشكل متوازن لائق من كل الجهات، الجسمية والروحية والعقلية، إذ جعل فيه ألوان الكفاءات، وأعدّه لتسلق سلّم السموّ، وهو- وإن كان جرماً صغيراً- وضع فيه العالم الأكبر، ومنحه من الكفاءات والطاقات ما جعله لائقاً لوسام: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ» «1».

وهذا الإنسان بكل ما فيه من امتيازات، يهبط حين ينحرف عن مسيرة اللَّه إلى «أسفل سافلين».

لذلك تقول الآية التالية: «ثُمَّ رَدَدْنهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ».

ولِم لا يكون كذلك وهو الموجود الملي ء بالكفاءات الثرّة التي إن سخرها على طريق الصلاح يبلغ أسمى قمم الفخر وإن استعملها على طريق الفساد يخلق أكبر مفسدة، وينزلق طبعاً إلى «أسفل سافلين».

ولكن الآية التالية تقول: «إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ».

«ممنون»: من «المن» وتعني هنا القطع أو النقص، من هنا فالأجر غير مقطوع ولا منقوص، وقيل: إنّه خال من المنّة، لكن المعنى الأوّل أنسب.

الآية التالية تخاطب هذا الإنسان الكافر بأنعم ربّه

والمعرض عن دلائل المعاد وتقول له:

«فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بِالدّينِ».

تركيب وجودك من جهة، وبنيان هذا العالم الواسع من جهة اخرى يؤكّدان أنّ هذه الحياة الخاطفة لا يمكن أن تكون الهدف النهائي من خلقتك وخلقة هذا العالم الكبير.

هذه كلّها مقدمات لعالم أوسع وأكمل، وبالتعبير القرآني، هذه «النشأة» الاولى» تنبي ء عن «النشأة الاخرى» فلِم لا يتذكر الإنسان! «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ» «2».

______________________________

(1) سورة الإسراء/ 70.

(2) راجع أدلة المعاد في تفسير سورة الواقعة.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 492

واتضح أيضاً أنّ المقصود من «الدين» ليس هو الشريعة بل هو يوم الجزاء، و الآية التالية تؤيد ذلك: «أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ».

في تفسير مجمع البيان: قال قتادة: وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذا ختم هذه السورة قال: «بلى وأنا على ذلك من الشاهدين».

«نهاية تفسير سورة التين»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 493

96. سورة العلق

محتوى السورة: المشهور بين المفسرين أنّها أوّل ما نزل من القرآن، ومحتواها يؤيد ذلك أيضاً.

هذه السورة تبدأ بأن تأمر النبي صلى الله عليه و آله بالقراءة، ثم تتحدث عن خلقة الإنسان بكل عظمته من قطعة دم تافهة.

وفي المرحلة التالية تتحدث السورة عن تكامل الإنسان في ظل لطف اللَّه وكرمه، وعن تعليمه وتمكينه من القلم.

ثم تتطرق إلى طغيان الإنسان رغم كل ما توفرت له من هبات إلهية وإكرام رباني.

وتشير بعد ذلك إلى ما ينتظر اولئك الصادين عن طريق الهداية والمانعين لأعمال الخير من عقاب.

وفي ختام السورة أمر بالسجود والإقتراب من ربّ العالمين.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام قال:

«من قرأ في يومه أو في ليلته إقرأ باسم ربّك ثم مات في يومه أو في ليلته، مات شهيداً وبعثه اللَّه شهيداً، وأحياه

كمن ضرب بسيفه في سبيل اللَّه مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله».

هذه السورةالمباركة سمّيت سورة «العلق» و «إقرأ» و «القلم» لمناسبة هذه الكلمات فيها.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 494

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)

سبب النّزول

جاء في الروايات أنّ محمّداً صلى الله عليه و آله كان في غار حراء حين نزل عليه جبرائيل وقال له: إقرأ يا محمّد. قال: ما أنا بقاري ء، فاحتضنه جبرائيل وضغطه وقال له: إقرأ يا محمّد وتكرر الجواب. ثم أعاد جبرائيل عمله ثانية وسمع نفس الجواب. وفي المرّة الثالثة قال: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ» إلى آخر الآيات الخمس الاولى من السورة.

قال ذلك واختفى عن أنظار النبي صلى الله عليه و آله.

رسول اللَّه أحسّ بتعب شديد بعد هبوط أولى أشعة الوحي عليه فذهب إلى خديجة وقال: «زملوني ودثروني» «1».

في تفسير مجمع البيان: أكثر المفسرين على أنّ هذه السورة أوّل ما نزل من القرآن وأوّل يوم نزل جبرائيل عليه السلام على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو قائم على حراء، علّمه خمس آيات من أوّل هذه السورة. وقيل: أوّل سورة نزلت على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فاتحة الكتاب.

رواه الحاكم أبوعبداللَّه الحافظ بإسناده عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال لخديجة: «إنّي إذا خلوت وحدي سمعت نداء». فقالت: ما يفعل اللَّه بك إلّاخيراً.

فواللَّه إنّك لتؤدّي الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث. قالت خديجة: فانطلقنا إلى ورقة بن نوفل وهو ابن عمّ خديجة، فأخبره رسول اللَّه صلى الله عليه و آله

بما رأى، فقال له ورقة: إذا أتاك فاثبت له حتى تسمع ما يقول، ثم ائتني فأخبرني. فلمّا خلا ناداه يا محمّد! قل له ذلك. فقال له: أبشر ثم أبشر، فأنا أشهد أنّك الذي بشّر به ابن مريم، وأنّك على مثل ناموس موسى، وأنّك نبي مرسل، وإنّك سوف تؤمر بالجهاد بعد يومك هذا، ولئن أدركني ذلك لُاجاهدنّ معك. فلمّا توفي ورقة قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير لأنّه آمن بي وصدّقني». يعني ورقة.

جدير بالذكر أنّ في بعض كتب التفسير والتاريخ كلاماً حول حياة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله،

______________________________

(1) تفسير روح الجنان 12/ 96؛ وهذا المعنى أورده كثير من المفسرين بإضافات وزوائد لا يمكن قبول بعضها.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 495

في هذه البرهة الزمنية لا تتناسب أبداً مع شخصية النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، وتستند حتماً إلى أحاديث مختلقة أو إلى اسرائيليات. ويبدو أنّ أعداء الإسلام دسّوا هذه الروايات للطعن في الإسلام وللحط من شخصية النبي صلى الله عليه و آله.

التّفسير

الآية الاولى فيها خطاب للنبي صلى الله عليه و آله تقول له: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ».

ويلاحظ هنا قبل كل شي ء التركيز على مسألة الربوبية، ونعلم أنّ «الربّ» يعني «المالك المصلح»، أي الشخص الذي يملك شيئاً، ويتعهد إصلاحه وتربيته أيضاً.

ولإثبات ربوبية اللَّه جاء ذكر الخلقة ... خلقة الكون، إذ إنّ أفضل دليل على ربوبيته خالقيته، فالذي يُدبّر العالم هو خالقه.

وهذا ردّ على مشركي العرب الذين قبلوا خالقية اللَّه، وأوكلوا الربوبية والتدبير إلى الأوثان، ثم إنّ ربوبية اللَّه وتدبيره لنظام الكون أفضل دليل على إثبات ذاته المقدسة.

ثم اختارت الآية التالية «الإنسان» باعتباره أهم مظاهر الخليقة

وقالت: «خَلَقَ الْإِنسنَ مِنْ عَلَقٍ».

«العلق»: في الأصل الإلتصاق بشي ء، والنطفة بعد أن تطوي المراحل الجنينية الاولى تتحول إلى قطعة دم متلاصقة هي العلق، وهي مع تفاهتها الظاهرية تعتبر مبدأ خلقة الإنسان، والآية تركز على هذه الظاهرة لتبيّن قدرة الرب العظيمة على خلق هذا الإنسان العجيب من هذه العلقة التافهة.

وقيل: إنّ العلق في الآية يعني الطين الذي خلق منه آدم، وهو أيضاً مادة متلاصقة، وبديهي أنّ الربّ الذي خلق آدم من طين لازب يستحق كل تمجيد وثناء.

وقيل أيضاً: أنّ العلق يعني «صاحب العلاقة»، وفيه إشارة إلى الروح الإجتماعية للإنسان، والعلاقة الموجودة بين أفراد البشر هي أساس تكامل البشر وتطور الحضارات.

وقال آخرون: إنّ العلق إشارة إلى نطفة الرجل (الحيمن)، وهي تشبه دودة العلق إلى حدّ كبير، وهذا الموجود المجهري يسبح في ماء النطفة، ويتجه إلى بويضة المرأة في الرحم، ويلقحها ويكون منها النطفة الكاملة للإنسان.

والقرآن الكريم بطرحه هذه المسألة يسجل معجزة علمية اخرى من معاجزه، إذ لم تكن هذه الامور معروفة أبداً في عصر نزوله.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 496

ومن بين التفاسير الأربعة، يبدو أنّ التفسير الأوّل أوضح، وإن كان الجمع بين التفاسير الأربعة ممكن أيضاً.

وللتأكيد، تقول الآية مرّة اخرى: «اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ».

وهذه الآية جواب على قول الرسول صلى الله عليه و آله لجبرائيل: ما أنا بقاري ء، وهذه الآية تقول:

إنّك قادر على القراءة بكرم الربّ وفضله ومنّه.

ثم تصف الآيتان التاليتان الربّ الأكرم:

«الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ». «عَلَّمَ الْإِنسنَ مَا لَمْ يَعْلَمْ».

وهاتان الآيتان أيضاً تتجهان إلى الجواب على قول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: ما أنا بقاري ء، أي إنّ اللَّه الذي علم البشر بالقلم وكشف لهم المجاهيل، قادر على أن يعلم عبده الأمين القراءة والتلاوة.

جملة «الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ» تحتمل

معنيين.

الأوّل: أنّ اللَّه علم الإنسان الكتابة، وأعطاه هذه القدرة العظيمة التي هي منبثق تاريخ البشر، ومنطلق جميع العلوم والفنون والحضارات.

والثاني: المقصود أنّ اللَّه علم الإنسان جميع العلوم عن طريق القلم وبوسيلة الكتابة.

وهو تعبير عميق المعنى في تلك اللحظات الحساسة من بداية نزول الوحي

إنّ أساس الإسلام أقيم منذ البداية على أساس العلم والقلم ... ولذلك استطاع قوم متخلفون أن يتقدموا في العلم والمعرفة حتى تأهّلوا- باعتراف الأعداء والأصدقاء- لتصدير علومهم إلى العالم! إنّ علم المسلمين ومعارفهم هو الذي مزّق ظلام القرون الوسطى في أوروبا وأدخلها عصر الحضارة. وهذا ما يعترف به علماء أوروبا أنفسهم فيما كتبوه في حقل تاريخ الحضارة الإسلامية وفي تراث الإسلام.

وما أبشع وأفظع أن تكون أخلاق امّة كتلك تمتلك بين ظهرانيها ديناً كهذا متخلفة في ميادين العلم والمعرفة ومحتاجة إلى الآخرين بل وتابعة لهم.

كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْداً إِذَا صَلَّى (10) أَ رَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَ رَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى (13) أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 497

استتباعاً للآيات السابقة التي تحدثت عن النِعم المادية والمعنوية الإلهية على الإنسان ...

والنِعم التي تستلزم شكر الإنسان وتسليمه أمام اللَّه، هذه الآيات تبدأ بالقول: ليست نِعَم اللَّه تحيي روح الشكر في الإنسان دائماً، بل إنّه يطغى:

«كَلَّا إِنَّ الْإِنسنَ لَيَطْغَى . ومتى يكون ذلك؟ فيما لو رأى نفسه مستغنياً وغير محتاج.

«أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى . هذه طبيعة أغلب أفراد البشر ... الأفراد الذين لم يتربوا في مدرسة العقل والوحي، حين يرون أنفسهم مستغنين غير محتاجين يعمدون إلى الطغيان، وينسلخون من

عبودية اللَّه، ويرفضون الإعتراف بأحكامه، ويصمّون أذانهم عن ندائه، ولا يراعون حقّاً ولا عدلًا.

إنّ الهدف من الآية الفات نظر الرسول صلى الله عليه و آله بمنعطفات الطبيعة البشرية كي لا يتوقع قولًا سريعاً من الناس لدعوته، وليعدّ نفسه لإنكار المنكرين ومعارضة الطغاة المستكبرين، وليعلم أنّ الطريق أمامه وعر ملي ء بالمصاعب.

ثم يأتي التهديد لهؤلاء الطغاة المستكبرين وتقول الآية التالية: «إِنَّ إِلَى رَبّكَ الرُّجْعَى .

وهو الذي يعاقب الطغاة على ما اقترفوه، وكما أنّ رجوع كل شي ء إليه، وميراث السماوات والأرض له سبحانه: «وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ» «1». فكلّ شي ء في البداية منه، ولا مبرّر للإنسان أن يشعر بالإستغناء ويطغى

ثم تتحدث الآيات التالية عن بعض أعمال الطغاة المغرورين، مثل صدّهم عباد اللَّه عن السير في طريق الحق.

«أَرَءَيْتَ الَّذِى يَنْهَى . «عَبْدًا إِذَا صَلَّى .

وفي تفسير مجمع البيان: فقد جاء في الحديث أنّ أبا جهل قال: هل يعفّر محمّد وجهه بين أظهركم قالوا: نعم. قال: فبالذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته. فقيل له: ها هو ذاك يصلّي، فانطلق ليطأ على رقبته، فما فاجأهم إلّاوهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه. فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: إنّ بيني وبينه خندقاً من نار، وهولًا، وأجنحة. وقال نبي اللَّه: «والذي نفسي بيده لو دنا منّي لاختطفته الملائكة عضواً عضواً». فأنزل اللَّه سبحانه:

«أَرَءَيْتَ الَّذِى يَنْهَى إلى آخر السورة.

______________________________

(1) سورة آل عمران/ 180.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 498

الآيات التالية تأكيد على نفس المفاهيم.

«أَرَءَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى . «أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى . أي أرأيت إن كان هذا العبد المصلي على الهدى أو أمر بالتقوى فهل يصح نهيه؟ ألا يستحق من ينهاه النار؟

«أَرَءَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى . ولو كذّب هذا

الطاغية بالحق وتولى وأعرض عنه فماذا سيكون مصيره؟

«أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ويثبت كل شي ء ليوم الجزاء والحساب.

كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ (19) بعد الحديث في الآيات السابقة عن الطغاة الكافرين الصادين عن سبيل اللَّه، توجّه هذه الآيات أشدّ التهديد لهم وتقول: «كَلَّا» لا يكون ما يتصور (لانّه تصور أن يصدّ عن عبادة اللَّه بوضعه قدمه على رقبة النبي).

«كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ». نعم، إذا لم ينته من إثمه وطغيانه سنجرّه بالقوّة من شعر مقدمة رأسه (وهي الناصية)، وثم وصف الناصية هذه بأنّها كاذبة خاطئة وهو وصف لصاحبها: «نَاصِيَةً كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ».

«لنسفعاً»: من السفع، وله معاني متعددة: الجرّ بالشدّة، الصفع على الوجه، تسويد الوجه (الأثافي الثلاثة التي يوضع عليها القدر تسمى «سفع» لأنّها تسوّد بالدخان)، ووضع العلامة للإذلال.

والأنسب المعنى الأوّل، وإن كانت الآية تحتمل معاني اخرى أيضاً.

روى أنّه لما نزلت سورة الرحمن، علّم القرآن ... قال النبي صلى الله عليه و آله لأصحابه: «من يقرؤها منكم على رؤوساء قريش»؟ فتثاقلوا مخافة أذيتهم، فقام ابن مسعود وقال: أنا يا رسول اللَّه.

فأجلسه صلى الله عليه و آله، ثم قال: «من يقرؤها عليهم»؟ فلم يقم إلّاابن مسعود، ثم ثالثاً كذلك إلى أن أذن له، وكان صلى الله عليه و آله يبقي عليه لما كان يعلم من ضعفه وصغر جثته، ثم إنّه وصل إليهم فرآهم مجتمعين حول الكعبة، فافتتح قراءة السورة، فقام أبو جهل فلطمه فشقّ اذنه وأدماه، فانصرف وعيناه تدمع، فلما رآه النبي صلى الله عليه و آله رق قلبه وأطرق رأسه مغموماً، فإذا جبريل عليه السلام

مختصر الامثل،

ج 5، ص: 499

يجي ء ضاحكاً مستبشراً، فقال: «يا جبريل تضحك وابن مسعود يبكي»! فقال: ستعلم.

فلما ظفر المسلمون يوم بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظ في الجهاد، فقال: خذ رمحك والتمس في الجرحى من كان به رمق فاقتله فإنّك تنال ثواب المجاهدين، فأخذ يطالع القتلى، فإذا أبو جهل مصروع يخور ... فصعد على صدره، فلما رآه أبو جهل قال: يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى صعباً، فقال ابن مسعود: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه. فقال أبو جهل: بلغ صاحبك أنّه لم يكن أحد أبغض إلي منه في حياتي، ولا أحد أبغض إلي منه في حال مماتي.

فروى أنّه صلى الله عليه و آله لمّا سمع ذلك قال: «فرعوني أشدّ من فرعون موسى فإنّه قال آمنت وهو قد زاد عتواً».

ثم قال [أبو جهل لابن مسعود: اقطع رأسي بسيفي هذا، لأنّه أحدّ وأقطع، فلما قطع رأسه لم يقدر على حمله، فراح يجرّه على ناصيته إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وبذلك تحقق قوله سبحانه:

«لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ» في هذه الدنيا أيضاً «1».

«الناصية»: شعر مقدم الرأس، و (السفع بالناصية) يراد به الإذلال والإرغام، لأنّ أخذ الشخص بناصيته يفقده كل حركة ويجبره على الإستسلام.

ولقد وردت بعض الروايات الصحيحة بأنّ السورة- عدا المقطع الأوّل منها- قد نزلت في أبي جهل إذ مرّ برسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو يصلي عند المقام فقال (يا محمّد ألم أنهك عن هذا؟

وتوعده. فاغلظ له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وانتهره ...) ولعلّها هي التي أخذ فيها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بخناقه وقال له: (أولى لك ثم أولى). فقال: يا محمّد بأي شي ء تهددني؟ أما واللَّه إنّي لأكثر هذا

الوادي نادياً «2». وهنا نزلت الآية التالية تقول لأبي جهل: فليدع هذا الجاهل المغرور كل قومه وعشيرته وليستنجد بهم: «فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ».

ونحن سندع أيضاً زبانية جهنم: «سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ». ليعلم هذا الجاهل الغافل أنّه عاجز عن فعل أي شي ء وإنّه في قبضة خزنة جهنم كقشة في مهبّ الريح.

وفي آخر آية من السورة وهي آية السجدة يقول سبحانه: «كَلَّا». أي ليس الأمر كما

______________________________

(1) التفسير الكبير 32/ 23.

(2) في ظلال القرآن 8/ 624.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 500

يتصور بأنّه قادر على أن يمنع سجودك: «لَاتُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب». فأبو جهل أقل من أن يستطيع منع سجودك أو الوقوف بوجه دينك، فتوكل على اللَّه وأعبده واسجد له، وبذلك تقترب منه سبحانه على هذا المسير أكثر فأكثر.

ويستفاد ضمنياً من هذه الآية أنّ «السجود» عامل اقتراب من اللَّه، ولذا ورد في الحديث عن عبداللَّه بن مسعود أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «أقرب ما يكون العبد من اللَّه إذا كان ساجداً».

وفي روايات أهل البيت عليهم السلام أنّ القرآن يتضمّن أربعة مواضع فيها سجود واجب وهي في «السجدة» و «فصّلت» و «النجم» وفي هذه السورة «العلق» وبقية المواضع السجدة فيها مستحبة.

«نهاية تفسير سورة العلق»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 501

97. سورة القدر

محتوى السورة وفضيلتها: محتوى السورة كما هو واضح من اسمها بيان نزول القرآن الكريم في ليلة القدر، وبيان أهمّية هذه الليلة وبركاتها.

في المجمع: ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأها اعطي من الأجر كمن صام رمضان وأحيا ليلة القدر».

إنّ هذه الفضائل في التلاوة لا تعود على من يقرأها دون أن يدرك حقيقتها، بل إنّها نصيب من يقرأها ويفهمها ويعمل بها ... من يقدر القرآن حق قدره ويطبق آياته

في حياته.

إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَ مَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) ليلة القدر ليلة نزول القرآن: يستفاد من آيات الذكر الحكيم أنّ القرآن نزل في شهر رمضان: «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ» «1». وظاهر الآية يدل على أنّ كل القرآن نزل

______________________________

(1) سورة البقرة/ 185.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 502

في هذا الشهر.

والآية الاولى من سورة القدر تقول: «إِنَّا أَنزَلْنهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ».

عبارة «إِنَّا أَنزَلْنهُ» فيها إشارة اخرى إلى عظمة هذا الكتاب السماوي، فقد نسب اللَّه نزوله إليه، وبصيغة المتكلم مع الغير أيضاً، وهي صيغة لها مفهوم جمعي وتدل على العظمة.

نزول القرآن في ليلة «القدر» وهي الليلة التي يقدر فيها مصير البشر وتعين بها مقدراتهم، دليل آخر على الأهمّية المصيرية لهذا الكتاب السماوي «1».

لو جمعنا بين هذه الآية وآية سورة البقرة لاستنتجنا أنّ «ليلة القدر» هي إحدى ليالي شهر رمضان، ولكنّها أيّة ليلة؟ القرآن لا يبيّن لنا ذلك، ولكن المشهور في الروايات أنّها في العشر الأخيرة من شهر رمضان، وفي الليلتين الحادية والعشرين أو الثالثة والعشرين.

وثمّة روايات متعددة عن أهل البيت عليهم السلام تركز على الليلة الثالثة والعشرين.

في الكافي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام قال: «التقدير في ليلة تسع عشرة، والإبرام في ليلة إحدى وعشرين، والإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين».

في الآيتين التاليتين يبيّن اللَّه تعالى عظمة ليلة القدر ويقول سبحانه:

«وَمَا أَدْرَيكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ». «لَيْلَةُ الَقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ».

والتعبير هذا يوضح أنّ عظمة ليلة القدر كبيرة إلى درجة خفيت على رسول اللَّه صلى الله عليه

و آله أيضاً قبل نزول هذه الآيات، مع ما له من علم واسع.

وفي الدر المنثور عن مجاهد أنّ النبي صلى الله عليه و آله ذكر رجلًا من بني اسرائيل لبس السلاح في سبيل اللَّه ألف شهر، فعجب المسلمون من ذلك فأنزل اللَّه: «إِنَّا أَنزَلْنهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَيكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الَقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ» التي لبس فيها ذلك الرجل السلاح في سبيل اللَّه ألف شهر.

لماذا كانت خيراً من ألف شهر؟ ... الظاهر لأهمّية العبادة والإحياء فيها. وما جاء من

______________________________

(1) هذه المسألة طبعاً لا تتنافي مع حرية إرادة الإنسان ومسألة الإختيار، لأنّ التقدير الإلهي عن طريق الملائكة إنّما يتمّ حسب لياقة الأفراد وميزان إيمانهم وتقواهم وطهر نيّتهم وأعمالهم. أي يقدر كل فرد ما يليق له. وبعبارة اخرى: أرضية التقدير يوفرها الإنسان نفسه، وهذا لا يتنافي مع الإختيار بل يؤكّده.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 503

روايات بشأن فضيلة ليلة القدر وفضيلة العبادة فيها في كتب الشيعة وأهل السنّة كثير، ويؤيد هذا المعنى. أضف إلى ذلك، فإنّ نزول القرآن في هذه الليلة، ونزول البركات والرحمة الإلهية فيها يجعلها خيراً من ألف شهر.

ولمزيد من وصف هذه الليلة تقول الآية التالية: «تَنَزَّلُ الْمَلِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ».

و «تنزّل» فعل مضارع يدل على الإستمرار (والأصل تتنزل) ممّا يدل على أنّ ليلة القدر لم تكن خاصة بزمن النبي، وبنزول القرآن، بل هي ليلة تتكرر في كل عام باستمرار.

والمقصود ب «الروح» هو مخلوق عظيم يفوق الملائكة.

وفي الكافي أنّ الإمام الصادق عليه السلام سئل عن الروح وهل هو جبرائيل؟ قال: «الروح هو أعظم من جبرئيل، إنّ جبرئيل من الملائكة، وإنّ الروح هو خلق أعظم من الملائكة، أليس يقول

تبارك وتعالى: تنزّل الملائكة والروح».

«مّن كُلّ أَمْرٍ». أي: لكل تقدير وتعيين للمصائر، ولكل خير وبركة، فالهدف من نزول الملائكة في هذه الليلة إذن هو لهذه الامور.

«سَلمٌ هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ».

والآية الأخيرة هذه تصف الليلة بأنّها مفعمة بالخير والسلامة والرحمة حتى الصباح.

القرآن نزل فيها، وعبادتها تعادل عبادة ألف شهر، وفيها تنزل الخيرات والبركات، وبها يحظى العباد برحمة خاصة، كما إنّ الملائكة والروح تتنزل فيها ... فهي إذن ليلة مفعمة بالسلامة من بدايتها حتى مطلع فجرها. والروايات تذكر أنّ الشيطان يكبل بالسلاسل هذه الليلة فهي ليلة سالمة مقرونة بالسلامة.

«نهاية تفسير سورة القدر»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 505

98 سورة البينة

محتوى السورة: هذه السورة تناولت رسالة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وما فيها من دلائل بيّنة.

وفي مقطع آخر من السورة بيان عن مواقف أهل الكتاب والمشركين تجاه الإسلام ...

بعضهم آمن وعمل صالحاً فهو خير المخلوقات، وبعضهم كفر وأشرك فهو شرّ البرية.

هذه السورة أطلق عليها لمناسبة الفاظها اسماء متعددة أشهرها: «البيّنة» و «لم يكن» و «القيمة».

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع عن أبي الدرداء قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «لو يعلم الناس ما في (لم يكن) لعطلوا الأهل والمال وتعلموها». فقال رجل من خزاعة: ما فيها من الأجر يا رسول اللَّه؟ فقال: «لا يقرأها منافق أبداً ولا عبد في قلبه شك في اللَّه عزّ وجل. واللَّه إنّ الملائكة المقربين ليقرؤونها منذ خلق اللَّه السماوات والأرض لا يفترون عن قراءتها، وما من عبد يقرؤها بليل إلّابعث اللَّه ملائكة يحفظونه في دينه ودنياه ويدعون له بالمغفرة والرحمة، فإن قرأها نهاراً اعطي عليها من الثواب مثل ما أضاء عليه النهار وأظلم عليه الليل».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 506

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا

مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَ الْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَ مَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَ مَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَ يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَ يُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَ ذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) في بداية السورة ذكر لأهل الكتاب (اليهود والنصارى) ومشركي العرب قبل ظهور الإسلام، فهؤلاء كانوا يدّعون أنّهم غير منفكين عن دينهم إلّابدليل واضح قاطع.

«لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيّنَةُ».

و «البيّنة»: التي أرادوها: رسول من اللَّه يتلو عليهم كتاباً مطهّراً من ربّ العالمين:

«رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً».

وهذه الصحف فيها من الكتابة ما هو صحيح وثابت وذو قيمة: «فِيهَا كُتُبٌ قَيّمَةٌ».

كان هذا ادّعاؤهم قبل ظهور الإسلام، وحينما ظهر ونزلت آياته تغيّر هؤلاء، واختلفوا وتفرقوا، وما تفرقوا إلّابعد أن جاءهم الدليل الواضح والنبي الصادح بالحق.

«وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيّنَةُ».

وهذا المعنى يشبه ما جاء في الآية (89) من سورة البقرة: «وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدّقٌ لّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ».

نعلم أنّ أهل الكتاب كانوا ينتظرون مثل هذا الظهور، ولابدّ أن يكون مشركو العرب مشاركين لأهل الكتاب في هذا الإنتظار لما كانوا يرون فيهم من علم ومعرفة، ولكن حين تحققت آمالهم غيّروا مسيرهم والتحقوا باعداء الدعوة.

«البيّنة»: في الآية هي الدليل الواضح، ومصداقها حسب الآية الثانية شخص «رسول اللَّه» وهو يتلو عليهم القرآن.

«صحف»: جمع «صحيفة»، وتعني ما يكتب عليه من الورق، والمقصود بها هنا محتوى هذه الأوراق،

إذ نعلم أنّ الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله لم يكن يتلو شيئاً عليهم من الأوراق.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 507

و «مطهرّة»: أي طاهرة من كل ألوان الشرك والباطل، ومن تلاعب شياطين الجن والإنس، كما جاء في الآية (42) من سورة فصّلت: «لَّايَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ».

ثم يتوالى التقريع لأهل الكتاب، ومن بعدهم للمشركين، لأنّهم اختلفوا في الدين الجديد، منهم مؤمن ومنهم كافر، بينما: «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَوةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَوةَ».

ثم تضيف الآية القول: «وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ».

والمقصود هو: إنّ دين الإسلام ليس فيه سوى التوحيد الخالص والصلاة والزكاة وأمثالها من التعاليم. وهذه امور معروفة فلماذا يعرضون عنها.

المقصود ب «الدين» هو مجموع الدين والشريعة، أي إنّهم امروا أن يعبدوا اللَّه وأن يخلصوا له الدين والتشريع في جميع المجالات.

جملة «وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» إشارة إلى أنّ الاصول المذكورة في الآية وهي: التوحيد الخالص، والصلاة (الإرتباط باللَّه) والزكاة (الإرتباط بالنّاس) من الاصول الثابتة الخالدة في جميع الأديان، بل إنّها قائمة في أعماق فطرة الإنسان، ذلك لأنّ مصير الإنسان يرتبط بالتوحيد، وفطرته تدعوه إلى معرفة المنعم وشكره، ثم إنّ الروح الإجتماعية المدنية للإنسان تدعوه إلى مساعدة المحرومين.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَ الْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) خير البريّة وشرّها: الآيات السابقة تحدثت عن انتظار أهل الكتاب والمشركين لبيّنة تأتيهم من اللَّه، لكنّهم تفرقوا من بعدما جاءتهم البيّنة.

هذه الآيات تذكر

مجموعتين من الناس مختلفتين في موقفهما من الدعوة «كافرة» و «مؤمنة» تذكر الكافرين أوّلًا بالقول: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِى نَارِ

مختصر الامثل، ج 5، ص: 508

جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ».

وعبارة «أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ» عبارة قارعة مثيرة، تعني أنّه لا يوجد بين الأحياء وغير الأحياء موجود أضل واسوأ من الذين تركوا الطريق المستقيم بعد وضوح الحق وإتمام الحجّة، وساروا في طريق الضلال.

تقديم ذكر «أهل الكتاب» على «المشركين» في هذه الآية أيضاً، قد يعود إلى ما عندهم من كتاب سماوي وعلماء ومن صفات صريحة لنبيّ الإسلام صلى الله عليه و آله في كتبهم، لذلك كانت معارضتهم أفظع وأسوأ.

الآية التالية تذكر المجموعة الثانية، وهم المؤمنون وتقول: «إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ».

والآية التي بعدها تذكر جزاء هؤلاء المؤمنين، وما لهم عند اللَّه من مثوبة: «جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ».

عبارة «أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» تبيّن بجلاء أنّ الإنسان المؤمن ذا الأعمال الصالحة أفضل من الملائكة، فعبارة الآية مطلقة وليس فيها استثناء والآيات الاخرى تشهد على ذلك أيضاً، مثل آية سجود الملائكة لآدم، ومثل قوله سبحانه: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ» «1».

إنّهم راضون عن اللَّه لأنّ اللَّه أعطاهم ما أرادوه، واللَّه راض عنهم لأنّهم أدّوا ما أراده منهم، وإن كانت هناك زلة فقد غفرها بلطفه وكرمه، وأيّة لذة أعظم من أن يشعر الإنسان أنّه نال رضا المحبوب ووصاله ولقاءه.

نعم، نعيم جسد الإنسان جنات الخلد، ونعيم روحه رضا اللَّه ولقاؤه، لأنّ هذه الخشية دافع للحركة صوب كل طاعة وتقوى وعمل صالح.

بحث

علي عليه السلام وشيعته خير البريّة: ثمّة

روايات كثيرة بطرق أهل السنّة في مصادرهم الحديثية المعروفة، وهكذا في المصادر الشيعية، فسّرت الآية: «أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» بأنّهم علي بن أبي طالب عليه السلام وشيعته.

______________________________

(1) سورة الإسراء/ 70.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 509

في الدر المنثور عن ابن عباس قال: لما نزلت «إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ»، قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لعلي عليه السلام: «هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين».

وأخرج ابن مردويه عن علي عليه السلام قال: «قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: ألم تسمع قول اللَّه «إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض، إذا جئت الامم للحساب تدعون غرّاً محجلين».

هذا الحديث من الأحاديث المعروفة المشهورة المقبولة لدى أكثر علماء الإسلام، وفيه بيان لفضيلة كبرى من فضائل علي عليه السلام وأتباعه.

وهذه الروايات تدل ضمناً أنّ كلمة «الشيعة» باعتبارها اسماً لأتباع علي عليه السلام كانت قد شاعت منذ عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بين المسلمين على لسان الرسول نفسه. واولئك الذين يخالون أنّ الكلمة هذه ظهرت في عصور متأخرة في خطأ كبير.

«نهاية تفسير سورة البيّنة»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 511

99. سورة الزلزلة

محتوى السورة: هذه السورة تدور مفاهيمها حول ثلاثة محاور: تتحدث أوّلًا: عن علامات البعث ويوم القيامة؛ و ثانياً: عن شهادة الأرض على جميع أعمال العباد؛ و ثالثاً: تقسم الناس إلى مجموعتين صالحة وطالحة، وتبيّن أنّ كل مجموعة ترى ثمار عملها.

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأها فكأنّما قرأ البقرة واعطي من الأجر كمن قرأ ربع القرآن».

وفي الكافي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه

السلام قال: «لا تملوا من قراءة إذا زلزلت الأرض زلزالها فإنّه من كانت قراءته بها في نوافله لم يصبه اللَّه عزّ وجل بزلزلة أبداً، ولم يمت بها ولا بصاعقة ولا بآفة من آفات الدنيا حتى يموت».

إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَ قَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (8)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 512

هذه السورة تبدأ ببيان صور من الأحداث الهائلة المفزعة التي ترافق نهاية هذا العالم وبدء البعث والنشور. تقول: «إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا». «وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا».

عبارة «زلزالها» تعني أنّ الأرض بأجمعها تهتز في ذلك اليوم (خلافاً للزلازل العادية الموضعية عادة) أو أنّها إشارة إلى الزلزلة المعهودة، أي زلزلة يوم القيامة.

و «الأثقال»- جمع ثقل، بمعنى الحمل- ذكر لها المفسرون معاني متعددة. قيل: إنّها البشر الذين يخرجون من أجداثهم على أثر الزلزال؛ كما جاء في الآية (4) من سورة الإنشقاق:

«وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ».

وقيل إنّها الكنوز المخبوءة التي ترتمي إلى الخارج، وتبعث الحسرة في قلوب عبّاد الدنيا.

ويحتمل أيضاً أن يكون المقصود إخراج المواد الثقيلة الذائبة في باطن الأرض، وهو ما يحدث أثناء البراكين والزلازل، فإنّ الأرض في نهاية عمرها تدفع ما في أعماقها إلى الخارج على أثر ذلك الزلزال العظيم.

ويمكن الجمع بين هذه التفاسير.

في ذلك الجو الملي ء بالرهبة والفزع، تصيب الإنسان دهشة ما بعدها دهشة فيقول في ذعر: ما لهذه الأرض تتزلزل وتلقي ما في باطنها؟ «وَقَالَ الْإِنسنُ مَا لَهَا».

إنّ الإنسان هنا له معنى عام يشمل كل أفراد البشر. فالدهشة من وضع الأرض في

ذلك اليوم لا يختص بالكافرين.

هذا السؤال التعجبي يرتبط بالنفخة الاولى، حيث تحدث الزلزلة الكبرى وينتهي فيها هذا العالم.

وفي هذه الحالة يكون المقصود من أثقال الأرض معادنها وكنوزها والمواد المذابة فيها.

وأهم من ذلك أنّ الأرض: «يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا».

تحدّث بالصالح والطالح، وبأعمال الخير والشر، مما وقع على ظهرها، وهذه الأرض واحد من أهم الشهود على أعمال الإنسان في ذلك اليوم، وهي إذن رقيبة على ما نفعله عليها.

وفي المجمع: جاء في الحديث أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال: «أتدرون ما أخبارها»؟ قالوا: اللَّه ورسوله أعلم. قال: «أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها، تقول: عمل كذا وكذا، يوم كذا، وكذا وهذا أخبارها».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 513

«بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا».

فما فعلته الأرض إنّما كان بوحي ربّها، وهي لا تتوانى في تنفيذ أمر الرب.

وعبارة «أوحى» إنّما هي لبيان أنّ حديث الأرض خلاف طبيعتها، ولا يتيسر ذلك سوى عن طريق الوحي الإلهي.

«يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ».

«أشتات»: جمع «شتّ» وهو المتفرق والمبعثر، أي أنّ الناس يردون ساحة المحشر متفرقين مبعثرين، وقد يكون التفرق والتبعثر لورود أهل كل دين منفصلين عن الآخرين.

أو قد يكون لورود أهل كل نقطة من نقاط الأرض بشكل منفصل.

أو قد يكون لورود جماعة بأشكال جميلة مستبشرة، وجماعة بوجوه عبوسة مكفهرة إلى المحشر.

أو أنّ كل امّة ترد مع إمامها وقائدها؛ كما في الآية (71) من سورة الإسراء: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ».

أو أن يحشر المؤمنون مع المؤمنين والكافرون مع الكافرين.

الجمع بين هذه التفاسير ممكن تماماً لأنّ مفهوم الآية واسع.

«يصدر»: من الصدور، وهو خروج الإبل من بركة الماء مجتمعة هائجة، وعكسه الورود.

وهي هنا كناية عن خروج الأقوام من القبور وورودهم على المحشر للحساب.

المقصود من

عبارة «لّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ» هو: «تجسم الأعمال» ورؤية الأعمال نفسها.

وهذه الآية أوضح الآيات الدالة على تجسم الأعمال، حيث تتخذ الأعمال في ذلك اليوم أشكالًا تتناسب مع طبيعتها وتنتصب أمام صاحبها، وتكون رفقتها سروراً وانشراحاً أو عذاباً وبلاءً.

ثم ينتقل الحديث إلى جزاء أعمال المجموعتين المؤمنة والكافرة، الصالحة والطالحة.

«فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ». «وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ».

ظاهر الآية يدل أيضاً على مسألة «تجسم الأعمال» ومشاهدة العمل نفسه، صالحاً أم طالحاً، يوم القيامة، حتى إذا عمل ما وزنه ذرّة من الذرّات يره مجسماً يوم القيامة.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 514

«مثقال»: في اللغة بمعنى الثقل، وبمعنى الميزان الذي يقاس به الثقل؛ والمعنى الأوّل هوالمقصود في الآية.

و «الذرّة»: ذكروا لها معاني متعددة من ذلك، فهو هنا أصغر وزن.

الآيتان المذكورتان وآيات اخرى مشابهة تدلّ دلالة واضحة على الدقّة المتناهية في تحرّي الأعمال وفي المحاسبة يوم القيامة، كقوله سبحانه: «يَا بُنَىَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى السَّموَاتِ أَوْ فِى الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ» «1».

هذه التعابير القرآنية تدلّ على أنّ أصغر الأعمال يحاسب عليها في تلك المحاسبة الكبرى، وهذه الآيات تحذر أيضاً من استصغار الذنوب الصغيرة، أو التهاون في أعمال الخير والصغيرة. فما يحاسب عليه اللَّه سبحانه- مهما كان- ليس بقليل الأهمية.

وحقّاً، لو تدبر الإنسان في محتوى هذه الآية تكفيه دافعاً إلى طريق الخير وناهياً عن طريق الفساد والإنحراف.

«نهاية تفسير سورة الزلزلة»

______________________________

(1) سورة لقمان/ 16.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 515

100. سورة العاديات

محتوى السورة وفضيلتها: هذه السورة تبدأ بالقسم بامور محفّزة محركة، ثم تتناول بعض مظاهر الضعف البشري كالكفر والبخل وحب الدّنيا، ثم تشير السورة إلى مسألة المعاد وإحاطة اللَّه بعباده.

في المجمع ابي بن

كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأها اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من بات بالمزدلفة، وشهد جمعاً».

وعن الإمام الصادق صلى الله عليه و آله قال: «من قرأ والعاديات وأدمن قراءتها بعثه اللَّه مع أمير المؤمنين عليه السلام يوم القيامة خاصة، وكان في حجره ورفقائه».

إنّ هذه الفضائل إنمّا هي نصيب من جعل السورة منهاجاً لحياته وآمن بكلّ محتواها وعمل بها.

وَ الْعَادِيَاتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَ إِنَّهُ عَلَى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَ فَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَ حُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 516

سبب النّزول

في المجمع: قيل: نزلت السورة لما بعث النبي صلى الله عليه و آله عليّاً إلى ذات السلاسل فأوقع بهم. وذلك بعد أن بعث عليهم مراراً غيره من الصحابة فرجع كل منهم إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو المروي عن أبي عبداللَّه عليه السلام في حديث طويل قال: وسميت هذه الغزوة ذات السلاسل لأنّه أسر منهم، وقتل وسبى وشدّ أسراهم في الحبال مكتفين كأنّهم في السلاسل. ولما نزلت السورة خرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى الناس، فصلى بهم الغداة وقرأ «والعاديات» فلما فرغ من صلاته قال أصحابه: هذه سورة لم نعرفها؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «نعم إن عليّاً ظفر بأعداء اللَّه وبشّرني بذلك جبرائيل عليه السلام في هذه الليلة». فقدم علي عليه السلام بعد أيّام بالغنائم والأسارى.

التّفسير

قَسماً بالمجاهدين الواعين: قلنا إنّ هذه

السورة تبدأ بالقَسم بأمور محفّزة منبّهة، تقسم أوّلًا بالخيول الجارية المندفعة (إلى ميدان الجهاد) وهي تحمحم وتتنفس بشدّة: «وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا».

ويمكن أن يكون القَسم هذا بإبل الحجاج المتجهة من عرفات إلى المشعر الحرام، ومن المشعر الحرام إلى منى وهي تتنفس بشدّة.

وهذا التّفسير أنسب من عدّة جهات، وورد في روايات المعصومين عليهم السلام أيضاً.

«العاديات»: جمع عادية، من «العدو» وهو المغادرة والإبتعاد بالقلب. فتكون «العداوة» أو بالحركة الخارجية فيكون (العدو) وهو الركض، أو بالمعاملات فيسمى (العدوان).

و «العاديات» في الآية هي الجاريات بسرعة.

«الضبح»: صوت الخيل وهي تتنفس بشدّة عند الجري.

ثم يأتي القَسم التالي بهذه العاديات التي توري النيران بحوافرها:

«فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا».

وهي خيل المجاهدين التي تجري بسرعة فائقة في ميدان القتال، بحيث تنقدح النار من تحت أرجلها جرّاء احتكاك حوافرها بصخور الأرض.

أو هي الإبل التي تجري بين مواقف الحج، فتتطاير الحصى والحجارة من تحت أرجلها وترتطم بحصى وحجارة اخرى فتنقدح النيران.

«الموريات»: جمع «مورية» والإيراء يعني أضرام النار.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 517

«القدح»: ضرب الحجارة أو الخشب أو الحديد بما يشبهه لتوليد النار.

والقسم الثالث بالتي تغير صباحاً على الأعداء: «فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا».

«المغيرات»: جمع «مغيرة» والإغارة: الهجوم على العدو، وقيل إنّ الكلمة تتضمّن معنى الهجوم بالخيل.

ثم تشير الآية التالية إلى سرعة هذه العاديات في هجومها، وذلك بإثارتها الغبار في كل جانب: «فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا».

أو أنّ الغبار يثور من كل صوب نتيجة هجوم إبل الحجاج من المشعر الحرام على منى.

«أثرن»: من الإثارة، وهي نشر الغبار والدخان في الجو.

وفي آخر خصائص هذه «المغيرات» تذكر الآية أنّها ظهرت بين الإعداء في الفجر:

«فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا».

هجومها كان مباغتاً خاطفاً بحيث استطاعت خلال لحظات أن تشق صفوف العدّو وتشن حملتها في قلبه، وتُشتت جمعه. وهذا نتيجة ما تتحلّى به من سرعة

ويقظة وإستعداد وشهامة وشجاعة.

أو إنّها إشارة إلى ورود الحجاج من المشعر إلى قلب منى.

من هنا يتّضح أنّ الجهاد له منزلة عظيمة حتى أنّ أنفاس خيل المجاهدين استحقت أن يقسم بها ... وهكذا الشرر المتطاير من حوافر هذه الخيول ... والغبار الذي تثيره في الجو ...

نعم حتى غبار ساحة الجهاد له قيمة وعظمة.

ثم يأتي جواب القسم، ويقول سبحانه: «إِنَّ الْإِنسنَ لِرَّبِهِ لَكَنُودٌ».

نعم، الإنسان البعيد عن التربية الصحيحة ... والذي لم تشرق في قلبه أنوار المعارف الإلهية وتعاليم الأنبياء ... الإنسان الخاضع لأهوائه وشهواته الجامحة هو حتماً كفور بالنعمة وبخيل ... إنّه لكنود.

و «كنود»: اسم للأرض التي لا تنبت، وتطلق على الإنسان الكفور والبخيل أيضاً.

كلمة (الإنسان) في مثل هذه الاستعمالات القرآنية تعني الأفراد المتطبعين على الشر والشهوات الجامحة والطغيان.

«وَإِنَّهُ عَلَى ذلِكَ لَشَهِيدٌ». فهو بصير بنفسه، وإن استطاع أن يخفي سريرته فلا يستطيع أن يخفيها عن اللَّه وعن ضميره، اعترف بهذه الحقيقة أم لم يعترف.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 518

«وَإِنَّهُ لِحُبّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ». أي أنّه شديد الحبّ للمال والمتاع.

إطلاق «الخير» على المال في الآية يعود إلى أنّ المال في حد ذاته شي ء حسن، ويستطيع أن يكون وسيلة لأنواع الخيرات، لكن الإنسان الكنود يصرفه عن هدفه الأصلي، وينفقه في طريق ذاتياته وأهوائه.

وفي استفهام استنكاري يقول سبحانه: «أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ». «وَحُصّلَ مَا فِى الصُّدُورِ». وانكشف ما في نفسه من كفر وايمان، ورياء واخلاص وغرور وتواضع وسائر نيات الخير والشر.

«إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ». نعم، فهو عليم بأعمالهم ونياتهم وسيجازيهم وفقها.

«بعثر»: من «البعثرة» وهي البعث والإثارة والإخراج وبعثرة ما في القبور، بعث الموتى واخراجهم من القبور.

«حُصّل»: من التحصيل، وهو في الأصل يعني إخراج اللب من القشر، وكذلك تصفية

المعادن، واستخراج الذهب وأمثاله من الخامات. ثم استعملت لمطلق الإستخراج والفصل.

والكلمة في الآية تعني فصل الخير عن الشر في القلوب ... الإيمان عن الكفر، أو الصفات الحسنة عن الصفات السيئة ... أو النوايا الحسنة عن الخبيثة ... تُفصل في ذلك اليوم وتظهر، وينال كل فرد حسب ذلك جزاؤه.

والتعبير بكلمة «يومئذ» يعني أنّ اللَّه (في ذلك اليوم) خبير بأعمال العباد وسرائرهم.

ونعلم أنّ اللَّه سبحانه عليم دائماً بذات الصدور. فالتعبير «يومئذ» هو لأنّ ذلك اليوم يوم الجزاء، واللَّه يجازيهم على أعمالهم وعقائدهم.

نعم، اللَّه سبحانه عليم وخبير بأسرارنا وما تنطوي عليه نفوسنا كاملًا، لكن أثر هذا العلم سيكون أظهر وأوضح عند الجزاء، وهذا التحذير لو دخل دائرة إيمان البشر لكان سداً منيعاً بينهم وبين الذنوب.

«نهاية تفسير سورة العاديات»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 519

101. سورة القارعة

محتوى السورة وفضيلتها: تتناول هذه السورة بشكل عام، المعاد، ومقدماته، حيث تُصنّف الناس يوم القيامة، إلى صنفين أو جماعتين: الجماعة التي تكون أعمالها ثقيلة في ميزان العدل الإلهي، فتحظى جزاءً بذلك، حياة راضية سعيدة في جوار الرحمة الإلهية، وجماعة أعمالها خفيفة الوزن، فتعيش في نار جهنم الحارّة المحرقة.

وقد اشتقّ اسم هذه السورة، أي (القارعة) من الآية الاولى فيها.

في المجمع عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «من قرأ القارعة أمنه اللَّه من فتنة الدجال أن يؤمن به، ومن قيح جهنم يوم القيامة».

الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَ مَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَ تَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَ أَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَ مَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 520

الحادثة القارعة:

هذه الآيات تصف القيامة وتقول: «الْقَارِعَةُ* مَا الْقَارِعَةُ».

«القارعة»: من القرع، وهو طرق الشي ء بالشي ء مع إحداث صوت شديد، وسمّيت كل حادثة هامّة صعبة بالقارعة. (تاء التأنيث قد تكون إشارة للتأكيد).

الآية الثالثة تخاطب حتى النبي صلى الله عليه و آله وتقول له: «وَمَا أَدْرَيكَ مَا الْقَارِعَةُ». وهذا يدل على أنّ عظمة هذه الحادثة القارعة إلى درجة لا تخطر على فكر أحد.

أكثر المفسرين ذكروا أنّ «القارعة» أحد أسماء القيامة، ولكن لم يوضّحوا هل أنّه اسم لمقدمات القيامة إذ تقرع هذه الدنيا.

أو إنّه اسم للمرحلة التالية .. أي مرحلة احياء الموتى، وظهور عالم جديد، وتسميتها «القارعة»- في هذه الحالة- لما تبعثه من خوف وذعر في القلوب ..

ولكن الإحتمال الأوّل أنسب، وإن ذكرت الحادثتان كلاهما في هذه الآيات متتابعتين.

وفي وصف ذلك اليوم العجيب يقول سبحانه: «يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ».

والتشبيه بالفراش قد يكون لأنّ هذه الحشرات تلقي بنفسها بشكل جنوني في النار، وهذا ما يفعله أهل السيئات إذ يلقون بأنفسهم في جهنم.

ثم تذكر الآية التالية وصفاً آخر لذلك اليوم وتقول: «وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ».

و «العهن»: هو الصوف المصبوغ.

و «المنفوش»: هو المنشور ويتمّ ذلك عادة بآلة الحلج الخاصة.

سبق أن ذكرنا أنّ القرآن الكريم في مواضع متعددة يتحدث عن الجبال عند قيام القيامة بأنّها تتحرك أوّلًا، ثم تُدَكّ وتتلاشى وأخيراً تصبح بشكل غبار متطاير في السماء. وهذه الحالة الأخيرة تشبهها الآية بالصوف الملون المحلوج ... الصوف المتطاير في مهبّ الريح، لم يبق منه إلّاألوان ... وهذه آخر مراحل انهدام الجبال.

ثم تتطرق الآيات التالية إلى الحشر والنشر وإحياء الموتى وتقسيمهم إلى مجموعتين:

«فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ». أي إنّ ميزان عمله ثقيل. «فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ* وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ* وَمَا أَدْرَيكَ

مَاهِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ» «1».

«موازين»: جمع ميزان، وهو وسيلة للوزن، تستعمل في وزن الأجسام، ثم استعملت في المعايير المعنوية.

______________________________

(1) «ماهيه»: أصلها «ما هي»، والهاء الحقت بها للسكت.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 521

وليس من الضروري أن يكون الميزان هو الآلة المعروفة ذات الكفتين، بل هو كل وسيلة لتقويم الوزن، كما ورد في الحديث: «إنّ أمير المؤمنين والأئمة من ذريته عليهم السلام هم الموازين» «1».

وفي احتجاج الطبرسي عن الصادق عليه السلام حين سئل عن معنى الميزان قال: «العدل».

وبهذا نفهم أنّ أولياء اللَّه وقوانين العدل الإلهي هي موازين يعرض عليها الناس وأعمالهم ويتمّ قياس الوزن على مقدار الشبه والمطابقة.

واضح أنّ المقصود بثقل الموازين وخفتها هو ثقل الأشياء التي توزن بها وخفة تلك الأشياء.

كلمة «ام» في قوله: «فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ» تعني المأوى والملجأ، لأنّ «الام» هي مأوى ابنائها وملاذهم، ويكون معنى الآية: إنّ هؤلاء المذنبين الذين خفت موازينهم لا ملاذ لهم سوى جهنم، وويل لمن كان ملجؤه جهنم.

«نهاية تفسير سورة القارعة»

______________________________

(1) تصحيح اعتقادات الإمامية، الشيخ المفيد/ 115.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 523

102. سورة التكاثر

محتوى السورة: هذه السورة تتناول في مجموعها تفاخر الأفراد على بعضهم استناداً إلى مسائل موهومة، وتذم ذلك وتلوم عليه، ثم تحذرهم من حساب المعاد وعذاب جهنم وممّا سيسألون يوم ذاك عن النعم التي منّ اللَّه بها عليهم.

وقد اشتقّ اسم هذه السورة، أي (التّكاثر) من الآية الاولى فيها.

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع ابي بن كعب عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأها لم يحاسبه اللَّه بالنعيم الذي أنعم عليه في دار الدنيا، واعطي من الأجر كأنّما قرأ ألف آية».

إنّ كل هذا الثواب إنّما هو لمن يقرأها ولمن يطبقها في برنامج حياته ويتفاعل معها روحياً ونفسياً.

أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ

الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 524

سبب النّزول

المفسرون يعتقدون أنّ السورة نزلت في قبائل كانت تتفاخر على بعضها بكثرة الأموال والأنفس حتى أنّها كانت تذهب إلى المقابر وتعدّ موتاها لترفع احصائية أفراد القبيلة.

سبب النزول- مهما كان- فهو لا يحد قطعاً معنى الآية.

التّفسير

بلاء التكاثر والتفاخر: الآيات الاولى توجّه اللوم إلى المتكاثرين المتفاخرين وتقول:

«أَلْهكُمُ التَّكَاثُرُ». في الأنفس والأموال.

حتى إنّكم ذهبتم إلى المقابر لتستكثروا أفراد قبيلتكم: «حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ».

«ألهاكم»: من «اللهو» وهو الإنشغال بالأعمال الصغيرة والإنصراف عن المهام الكبيرة؛ و «التكاثر»: يعني التفاخر والمباهاة.

«زرتم»: من الزيارة و «زَور» (على وزن قول) في الأصل بمعنى أعلى الصدر، ثم استعمل للقاء والمواجهة؛ «المقابر»: جمع مقبرة، وهي مكان دفن الميت. وزيارة المقابر إمّا أن تكون كناية عن الموت، أو بمعنى الذهاب إلى المقابر وإحصاء الموتى بهدف التكاثر في الأنفس والتفاخر بالعدد (حسب التفسير المشهور).

والمعنى الثاني أصح، وأحد شواهده كلام لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام- في الخطبة (221) نهج البلاغة- قاله بعد تلاوته: «أَلْهكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ» «يا له مراماً أبعده! وزوراً ما أغفله! وخطراً ما أفظعه! لقد استخلوا منهم أيّ مدّكر وتناوشوهم من مكان بعيد! أفبمصارع آبائهم يفخرون! أم بعديد الهلكى يتكاثرون! يرتجعون منهم أجساداً خوت، وحركات سكنت. ولأن يكونوا عبراً أحق من أن يكونوا مفتخراً».

الآيات التالية فيها تهديد شديد لهؤلاء المتكاثرين، تقول: «كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ».

فليس الأمر كما ترون، وبه تتفاخرون، بل سوف تعلمون عاجلًا نتيجة هذا التكاثر الموهوم.

لمزيد من التأكيد يقول سبحانه: «ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ».

وفي المجمع

عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: «ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت ألهاكم التّكاثر، إلى قوله: كلّا سوف تعلمون، يريد في القبر، ثم كلّا سوف تعلمون، بعد البعث».

«كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ». كلّا ليس الأمر كما تظنون أيّها المتفاخرون المتكاثرون.

فلو أنّكم تعلمون الآخرة علم اليقين، لما اتجهتم إلى التفاخر والمباهاة بهذه المسائل الباطلة.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 525

ولمزيد من التأكيد والإنذار تقول لهم الآيات التالية:

«لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ». «ثُمَّ لَتُسَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ».

في ذلك اليوم عليكم أن توضحوا كيف انفقتم تلك النعم الإلهية؛ وهل استخدمتموها في طاعة اللَّه أم في معصيته، أم أنّكم ضيعتم النعمة ولم تؤدّوا حقّها.

إنّ النعيم له معنى واسع جدّاً يشمل كل المواهب الإلهية المعنوية منها مثل: الدين والإيمان والإسلام والقرآن والولاية، وأنواع النعم المادية الفردية منها والاجتماعية. بيد أنّ النعم التي لها أهمية أكبر مثل: نعمة «الإيمان والولاية» يُسأل عنها أكثر، هل أدّى الإنسان حقّها أم لا؟

بحثان

1- منبع التفاخر والتكاثر: من آيات السورة يتبيّن أنّ أحد العوامل الأساسية للتفاخر والتكاثر والمباهات، هو الجهل بجزاء الآخرة وعدم الإيمان بالمعاد.

كما أنّ جهل الإنسان بضعفه ومسكنته ... ببدايته ونهايته ... من العوامل الاخرى الباعثة على الكبر والغرور والتفاخر.

ثم عامل آخر لهذه الظاهرة هو الإحساس بالضعف وعقدة الحقارة الناتجة عن الفشل.

والأفراد الفاشلون من أجل أن يغطوا على فشلهم يلجأون إلى الفخر والمباهات، ولذلك في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «ما من رجل تكبر أو تجبّر إلّالذلة وجدها في نفسه».

2- اليقين ومراحله: «اليقين» يقابل «الشك». ويستفاد من الروايات أنّ اليقين هو أعلى مراحل الإيمان، وهي ثلاثة:

أ) علم اليقين: وهو الذي يحصل للإنسان عند مشاهدته الدلائل المختلفة، كأن يشاهد دخاناً

فيعلم علم اليقين أن هناك ناراً.

ب) عين اليقين: وهو يحصل حين يصل الإنسان إلى درجة المشاهدة كأن يرى بعينه مثلًا النار.

ج) حق اليقين: وهو كأن يدخل الإنسان النار بنفسه ويحسّ بحرقتها، ويتصف بصفاتها.

وهذه أعلى مراحل اليقين؛ وهو في الحقيقة مؤلف من علمين، العلم بالمعلوم والعلم بأنّ خلاف ذلك العلم محال.

«نهاية تفسير سورة التّكاثر»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 527

103. سورة العصر

محتوى السورة: شمولية هذه السورة تبلغ درجة حدت ببعض المفسرين إلى أن يرى فيها خلاصة كل مفاهيم القرآن وأهدافه.

تبدأ السورة من قسم عميق المحتوى بالعصر. ثم تتحدث عن خسران كل أبناء البشر خسراناً قائماً في طبيعة حياتهم التدريجية، ثم تستثني مجموعة واحدة من هذا الأصل العام، وهي التي لها منهج ذو أربع مواد:

الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وهذه الاصول الأربعة هي في الواقع المنهج العقائدي والعملي الفردي والإجتماعي للإسلام.

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ والعصر في نوافله بعثه اللَّه يوم القيامة مشرقاً وجهه، ضاحكاً سنّه، قريرة عينه، حتى يدخل الجنة».

إنّ هذه الفضائل وهذه البشرى نصيب من طبّق الاصول الأربعة المذكورة في حياته، لا أن يقنع فقط بقراءتها.

وَ الْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَ تَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 528

في بداية هذه السورة نواجه قَسماً قرآنيا جديداً. يقول سبحانه: «وَالْعَصْرِ».

«العصر»: في الأصل الضغط، وإنّما اطلق على وقت معين من النهار لأنّ الأعمال فيه مضغوطة. ثم اطلقت الكلمة على مطلق الزمان ومراحل تاريخ البشرية، أو مقطع زماني معين، كأن نقول عصر صدر الإسلام.

قيل: إنّه كل الزمان وتاريخ البشرية المملوء بدروس العبرة، والأحداث الجسيمة. وهو لذلك عظيم يستحق القسم الإلهي.

بعضهم

قال: إنّه مقطع خاص من الزمان مثل عصر البعثة النبوية المباركة، أو عصر قيام المهدي المنتظر عليه السلام، وهي مقاطع زمنية ذات خصائص متميزة وعظمة فائقة في تاريخ البشر.

والقسم في الآية إنّما هو بتلك الأزمنة الخاصة.

ولكن الأنسب فيها هو القسم بالزمان وتاريخ البشرية، لأنّ القسم القرآني- كما ذكرنا مراراً- يتناسب مع الموضوع الذي أقسم اللَّه من أجله ومن المؤكّد أنّ خسران الإنسان في الحياة ناتج عن تصرّم عمره، أو أنّه عصر بعثة الرسول صلى الله عليه و آله، لأنّ المنهج ذا المواد الأربع في ذيل هذه السورة نزل في هذا العصر.

الآية التالية تحمل الموضوع الذي جاء القَسم من أجله. يقول سبحانه: «إِنَّ الْإِنسنَ لَفِى خُسْرٍ».

الإنسان يخسر ثروته الوجودية شاء أم أبى. تمرّ الساعات والأيّام والأشهر والأعوام من عمر الإنسان بسرعة، تضعف قواه المادية والمعنوية، تتناقص قدرته باستمرار.

القلب له قدرة معينة على الضربان، وحين تنفد هذه القدرة يتوقف القلب تلقائياً دون علّة من عيب أو مرض، هذا إذا لم يكن توقف الضربان نتيجة مرض، وهكذا سائر الأجهزة الوجودية للإنسان، وثروات قدراته المختلفة.

إنّ الدنيا في المنظور الإسلامي سوق تجارة، كما يقول الإمام علي بن محمّد الهادي عليه السلام:

«الدنيا سوق، ربح فيها قوم وخسر آخرون» «1».

الآية الكريمة التي نحن بصددها تقول: كل الناس في هذه السوق الكبرى خاسرون إلّا مجموعة تسير على المنهج الذي تبيّنه الآية التالية.

______________________________

(1) تحف العقول/ 483.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 529

نعم، هناك طريق واحد لا غير لتفادي هذا الخسران العظيم القهري الإجباري، وهو الذي تبيّنه آخر آيات هذه السورة.

«إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ».

بحث

منهج السعادة ذو المواد الأربع: من المهم أن نقف ولو قليلًا عند المنهج الذي وضعه القرآن الكريم للنجاة

من ذلك الخسران ... إنّه منهج يتكون من أربعة اصول هي:

الأصل الأوّل: «الإيمان» وهو البناء التحتي لكل نشاطات الإنسان، لأنّ فعاليات الإنسان العملية تنطلق من اسس فكره واعتقاده، لا كالحيوانات المدفوعة في حركاتها بدافع غريزي.

بعبارة اخرى: أعمال الإنسان بلورة لعقائده وأفكاره، ومن هنا فإنّ جميع الأنبياء بدأوا قبل كل شي ء باصلاح الاسس الإعتقادية للُامم والشعوب، وحاربوا الشرك بشكل خاص باعتباره أساس أنواع الرذائل والشقاوة والتمزق الإجتماعي.

الأصل الثاني: «العمل الصالح» وهو ثمرة دوحة الإيمان. تقول الآية: «وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ» لا العبادات فحسب، ولا الإنفاق في سبيل اللَّه وحده، ولا الجهاد في سبيل اللَّه فقط، ولا الإكتفاء بطلب العلم ... بل كل الصالحات التي من شأنها أن تدفع إلى تكامل النفوس وتربية الأخلاق والقرب من اللَّه، وتقدم المجتمع الإنساني.

ولما كان الإيمان والعمل الصالح لا يكتب لهما البقاء إلّافي ظل حركة اجتماعية تستهدف الدعوة إلى الحق ومعرفته من جهة، والدعوة إلى الصبر والإستقامة على طريق النهوض باعباء الرسالة، فإنّ هذين الأصلين تبعهما أصلان آخران هما في الحقيقة ضمان لتنفيذ أصلَي «الإيمان» و «العمل الصالح».

الأصل الثالث: «التواصي بالحق» أي الدعوة العامة إلى الحق، ليميز كل أفراد المجتمع الحق من الباطل، ويضعوه نصب أعينهم، ولا ينحرفون عنه في مسيرتهم الحياتية.

الأصل الرابع: «التواصي بالصبر» والاستقامة، إذ بعد الإيمان والحركة في المسيرة الإيمانية تبرز في الطريق العوائق والموانع والسرور. وبدون الاستقامة والصبر لا يمكن المواصلة في إحقاق الحق والعمل الصالح والثبات على الإيمان.

نعم، إحقاق الحق في المجتمع لا يمكن من دون حركة عامة وعزم اجتماعي، ومن دون

مختصر الامثل، ج 5، ص: 530

الإستقامة والوقوف بوجه ألوان التحديات.

«الصبر» هنا يحمل مفهوماً واسعاً يشمل الصبر على الطاعة، والصبر على دوافع المعصية، والصبر إزاء المصائب والحوادث المرّة،

وفقدان الإمكانات والثروة والثمرات.

والمسلمون اليوم إذا طبقوا هذه الاصول الأربعة في حياتهم الفردية والاجتماعية لتغلبوا على كل ما يعانون منه من مشاكل وتدهور وتخلف، ولبدلوا ضعفهم وهزيمتهم انتصاراً، ولاقتلعوا شرّ الأشرار من على ظهر الأرض.

«نهاية تفسير سورة العصر»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 531

104. سورة الهمزة

محتوى السورة: هذه السورة تتحدث عن اناس كرسوا كل همهم لجمع المال، وحصروا كل قيم الإنسان الوجودية في هذا الجمع. ثم هم يسخرون من الذين لا يملكون المال وبهم يستهزئون.

السورة تتحدث في النهاية عن المصير المؤلم الذي ينتظر هؤلاء، وكيف أنّهم يلقون في جهنم صاغرين، وأنّ نار جهنم تتجه بلظاها أوّلًا إلى قلوبهم المليئة بالكبر والغرور، وتحرقها بالنار، بنار مستمرة.

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأها اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من استهزأ بمحمّد وأصحابه».

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ ويل لكل همزة في فريضة من فرائضه، نفت عنه الفقر وجلبت عليه الرزق وتدفع عنه ميتة السوء».

وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَ عَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَ مَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 532

سبب النّزول

في المجمع: قيل: إنّ الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة، وكان يغتاب النبي صلى الله عليه و آله من ورائه صلى الله عليه و آله ويطعن عليه في وجهه.

وقيل: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي، وكان يلمز الناس ويغتابهم.

ولكن، إن قبلنا أسباب النزول هذه فلا ينفي ذلك شمولية مفاهيم الآيات، بل إنّها تستوعب كل

الذين يحملون هذه الصفات.

التّفسير

الويل للهمّازين واللمّازين: تبدأ هذه السورة بتهديد قارع وتقول: «وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ» ... لكل من يستهزي ء بالآخرين، ويعيبهم، ويغتابهم، ويطعن بهم، بلسانه وحركاته وبيده، وعينه وحاجبه.

«الهمزة» و «اللمزة»: صيغتا مبالغة. من مجموع آراء اللغويين في الكلمتين يستفاد أنّهما بمعنى واحد، ولهما مفهوم واسع يشمل كل ألوان إلصاق العيوب بالناس وغيبتهم والطعن والإستهزاء بهم، باللسان والإشارة والنميمة والذم.

أساساً، الإسلام ينظر إلى شخصية الإنسان وكرامته باحترام بالغ، ويعدّ أيّ عمل يؤدي إلى إهانة الآخرين ذنباً كبيراً. وفي أمالي الصدوق عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «أذل الناس من أهان الناس».

وفي عوالي اللئالي عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «رأيت ليلة الإسراء قوماً يقطع اللحم من جنوبهم ثم يلقمونه، ويقال: كلوا ما كنتم تأكلون من لحم أخيكم. فقلت: يا جبرئيل من هؤلاء؟

فقال: هؤلاء الهمازون من امّتك اللمازون».

ثم تذكر الآية التالية منبع ظاهرة اللمز والهمز في الأفراد، وترى أنّها تنشأ غالباً من كبر وغرور ناشئين بدورهما من تراكم الثروة لدى هؤلاء الأفراد، وتقول: «الَّذِى جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ» بطريق مشروع أو غير مشروع.

فهو انشدّ بالمال انشداداً جعله منشغلًا دائماً بعدّ المال والإلتذاذ ببريق الدرهم والدينار.

تحول الدرهم والدينار عنده إلى وثن ويرى فيه شخصيته وينظر من خلاله أيضاً إلى شخصية الآخرين، ومن الطبيعي أن يكون تعامل مثل هذا الإنسان الضال الأبله بالسخرية والإستهزاء مع المؤمنين الفقراء.

«عدده»: من (عدّ) بمعنى حَسَب. هذه الآية تقصد الذين يدّخرون الأموال ولا ينظرون

مختصر الامثل، ج 5، ص: 533

إليها باعتبارها وسيلة بل هدفاً، ولا يحدّهم قيد أو شرط في جمعها، حتى ولو كان من طريق الحرام والإعتداء على حقوق الآخرين وارتكاب كل دنيئة ورذيلة، ويعتبرون ذلك دليلًا على

عظمتهم وشخصيتهم.

هؤلاء لا يريدون المال لسد حاجاتهم الحياتية، ولذلك يزداد حرصهم على جمع المال كلّما كثرت أموالهم، وإلّا فإنّ المال في الحدود المعقولة ومن الطرق المشروعة ليس بمذموم، بل إنّ القرآن الكريم عبّر عنه في موضع بأنّه «فضل اللَّه»؛ حيث يقول تعالى في الآية (10) من سورة الجمعة: «وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ».

وفي موضع آخر يسميه خيراً، كقوله سبحانه في الآية (180) من سورة البقرة: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ».

مثل هذا المال ليس بالتأكيد مبعث طغيان، ولا وسيلة تفاخر، ولا دافع سخرية بالآخرين، لكن المال الذي يصبح معبوداً وهدفاً نهائياً، ويدعو أصحابه من أمثال «قارون» إلى الطغيان، هو العار والذلة والمأساة ومبعث البعد عن اللَّه والخلود في النار.

ومثل هذا المال لا يمكن جمعه وعدّه إلّابالسقوط في أوحال الحرام. في الخصال عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام قال: «لا يجتمع المال إلّابخصال خمس: ببخل شديد، وأمل طويل، وحرص غالب، وقطيعة الرحم، وايثار الدنيا على الآخرة».

في الآية التالية يقول سبحانه: «يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أخْلَدَهُ».

ما أتفه هذا التفكير! قارون بكل ما كان يملكه من كنوز لا تستطيع العصبة أولو القوّة أن تحمل مفاتحها، لم يستطع أن يستخدم أمواله لتأخير مصيره الأسود ساعة واحدة:

«فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ» «1».

الأموال التي كان يمتلكها الفراعنة: «مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ» «2»، تحولت في ساعة إلى غيرهم: «كَذلِكَ وَأَورثنَاهَا قَوْمًا ءَاخَرِينَ» «3».

لذلك فإنّ هؤلاء اللاهين بأموالهم، حين تزول من أمام أعينهم الحجب والأستار يوم القيامة يرفعون عقيرتهم بالقول: «مَا أَغْنَى عَنّى مَالِيَهْ هَلَكَ عَنّى سُلْطَانِيَهْ» «4».

من هنا يتبيّن أنّ الظن بقدرة المال على الإخلاد، هو الذي يدفع إلى جمع المال، وجمع المال

______________________________

(1) سورة القصص/ 81.

(2) سورة الدخان/ 25- 27.

(3) سورة الدخان/ 28.

(4) سورة الحاقّة/ 28 و 29.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 534

مختصر الامثل ج 5 575

أيضاً عامل على الإستهزاء والسخرية بالآخرين عند هؤلاء الغافلين.

القرآن الكريم يردّ على هؤلاء ويقول: «كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِى الْحُطَمَةِ». كلّا، ليس الأمر كما يتصور، فسرعان ما يقذف باحتقار وذلّة في نار محطّمة «وَمَا أَدْرَيكَ مَا الْحُطَمَةُ* نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ* الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفِدَةِ».

«لينبذنّ»: من نبذ، أي رمي الشي ء لتفاهة قيمته.

أي إنّ اللَّه سبحانه يرمي هؤلاء المغرورين المتعالين يوم القيامة في نار جهنم كموجودات تافهة لا قيمة لها، ليروا نتيجة كبرهم وغرورهم.

«الحطمة»: صيغة مبالغة من «حطّم» أي هشّم. وهذا يعني أنّ نار جهنم تهشّم أعضاء هؤلاء.

عبارة «نار اللَّه» دليل على عظمة هذه النار؛ و «الموقدة» تعني استعارها المستمر.

والعجيب أنّ هذه النار ليست مثل نار الدنيا التي تحرق الجلد أوّلًا ثم تنفذ إلى الداخل، بل هي تبعث بلهبها أوّلًا إلى القلب، وتحرق الداخل وتبدأ أوّلًا بالقلب ثم بما يحيطه، ثم تنفذ إلى الخارج.

لماذا لا تكون كذلك، وقلوب هؤلاء الطاغين مركز للكفر والكبر والغرور، وبؤرة حبّ الدنيا والثروة والمال؟!

إنّهم في هذه الدنيا احرقوا قلوب المؤمنين بسخريتهم وهمزهم ولمزهم؟! العدالة الإلهية تقتضي أن يرى هؤلاء جزاء يشبه أعمالهم.

الآيات الأخيرة من السورة تقول: «إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ* فِى عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ».

و «مؤصدة»: من الإيصاد، بمعنى الأحكام في غلق الباب.

هؤلاء يقبعون في غرف تعذيب مغلقة الأبواب لا طريق للخلاص منها، كما كانوا يجمعون أموالهم في الخزانات المغلقة الموصدة.

جمع من المفسرين قال: إنّها الأوتاد الحديدية العظيمة التي تغلق بها أبواب جهنم حتى لم يعد هناك طريق للخروج منها أبداً، وهي بذلك تأكيد على الآية السابقة التي تقول: «إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ».

«نهاية تفسير

سورة الهمزة»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 535

105. سورة الفيل

محتوى السورة: هذه السورة- كما يظهر من اسمها- تشير إلى الحادثة التاريخية التي اقترنت بولادة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وفيها نجّى اللَّه سبحانه الكعبة من شرّ جيش كافر كبير تجهّز من اليمن ممتطياً الفيل.

التذكير بهذه القصة فيه تحذير للكفار المغرورين المعاندين، كي يفهموا ضعفهم تجاه قدرة اللَّه تعالى الذي أباد جيشاً عظيماً بطير أبابيل تحمل حجارة من سجّيل، وهو سبحانه إذن قادر على أن يعاقب هؤلاء المستكبرين المعاندين.

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع: أبو بصير عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ في الفريضة «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ» شهد له يوم القيامة كل سهل وجبل ومدر بأنّه كان من المصلين، وينادي يوم القيامة مناد: صدقتم على عبدي، قبلت شهادتكم له، أو عليه. أدخلوا عبدي الجنة، ولا تحاسبوه فإنّه ممن احبّه واحبّ عمله».

إنّ هذه الفضائل وهذا الثواب لمن كانت قراءته باعثاً على انكسار روح الغرور في نفسه، وعلى السير في طريق رضا اللَّه سبحانه.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 536

أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) قصة أصحاب الفيل: ذكر المفسرون والمؤرخون: إنّ «ذو نواس» ملك اليمن اضطهد نصارى نجران قرب اليمن كي يتخلوا عن دينهم (ذكر القرآن قصة هذا الإضطهاد في موضوع أصحاب الأخدود في سورة البروج).

بعد هذه الجريمة نجا من بين النصارى رجل اسمه (دوس) وتوجه إلى قيصر الروم الذي كان على دين المسيح، وشرح له ما جرى.

ولما كانت المسافة بين الروم واليمن بعيدة، كتب القيصر إلى النجاشي (حاكم الحبشة)

لينتقم من (ذو نواس) لنصارى نجران، وارسل الكتاب بيد القاصد نفسه.

جهّز النجاشي جيشاً عظيماً يبلغ سبعين ألف محارب بقيادة (أرياط) ووجهه إلى اليمن، وكان (أبرهة) أيضاً من قواد ذلك الجيش.

اندحر (ذو نواس) وأصبح (أرياط) حاكماً على اليمن، وبعد مدّة ثار عليه أبرهة وأزاله من الحكم وجلس في مكانه.

بلغ ذلك النجاشي، فقرر أن يقمع (أبرهة). لكن أبرهة أعلن استسلامه الكامل للنجاشي ووفاءه له. حين رأى النجاشي منه ذلك عفا عنه وأبقاه في مكانه.

و (أبرهة) من أجل أن يثبت ولاءه، بنى كنيسة ضخمة جميلة غاية الجمال، لا يوجد على ظهر الأرض مثلها آنذاك، وقرر أن يدعو أهل الجزيرة العربية لأن يحجّوا إليها بدل (الكعبة)، وينقل مكانة الكعبة إلى أرض اليمن.

أرسل أبرهة الوفود والدعاة إلى قبائل العرب في أرض الحجاز، يدعونهم إلى حج كنيسة اليمن.

تذكر بعض الروايات أنّ مجموعة من العرب جاؤوا خفية وأضرموا النار في الكنيسة، وقيل إنّهم لوثوها بالقاذورات، ليعبروا عن اعتراضهم على فعل أبرهة ويهينوا معبده.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 537

غضب أبرهة وقرر أن يهدم الكعبة هدماً كاملًا، للإنتقام ولتوجيه أنظار العرب إلى المعبد الجديد، فجهّز جيشاً عظيماً كان بعض أفراده يمتطي الفيل، واتجه نحو مكة.

عند اقترابه من مكة بعث من ينهب أموال أهل مكة، وكان بين النهب مائتا بعير لعبد المطلب.

بعث (أبرهة) قاصداً إلى مكة. جاء رسول أبرهة إلى مكة وبحث عن شريفها فدلوه على عبد المطلب، فحدثه بحديث أبرهة، فقال عبد المطلب، نحن لا طاقة لنا بحربكم، وللبيت ربّ يحميه.

وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه عن أن يجلسه تحته وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه [فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه، وأجلسه معه عليه

إلى جنبه، ثم قال لترجمانه: قل له: حاجتك فقال له ذلك الترجمان فقال: حاجتي أن يرد علي الملك مئتى بعير أصابها لي فلما قال ذلك قال أبرهة لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم قد زهدت فيك حين كلمتني أتكلمني في مئتى بعير أصبتها لك وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه، لا تكلمني فيه؟!

قال له عبد المطلب: إنّي أنا ربّ الإبل، وإنّ للبيت ربّ سيمنعه ... فرد أبرهة على عبد المطلب الإبل التي أصاب له.

فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة، والتحرز في شعف الجبال، والشعاب، تخوفاً عليهم من معرة الجيش ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون اللَّه ويستنصرونه على أبرهة وجنده فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:

لا هُمّ إنّ العبد يمنع رحله فامنع حلالك لا يغلبن صليبهم ومحالهم عدواً محالك

إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدا لك

قال ابن اسحاق: ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها.

فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيله وعبى جيشه وكان اسم الفيل محموداً، وأبرهة مجمع لهدم البيت، ثم الانصراف إلى اليمن. فلما وجهوا الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب [الخثعمي حتى قام إلى جنب الفيل، ثم أخذ باذنه فقال: أبرك محمود، أو ارجع راشداً

مختصر الامثل، ج 5، ص: 538

من حيث جئت، فإنّك في بلد اللَّه الحرام، ثم أرسل اذنه، فبرك الفيل، وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى أصعد في الجبل، وضربوا الفيل ليقوم، فأبى، فضربوا رأسه بالطبرزين

[ليقوم فأبى، فأدخلوا محاجن لهم في مراقه فبزغوه بها ليقوم فأبى، فوجّهوه راجعاً إلى اليمن فقام يهرول ووجّهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجّهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجّهوه إلى مكة فبرك، فأرسل اللَّه عليهم طيراً من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره، وحجران في رجليه، أمثال الحمص والعدس، لا تصيب منهم أحداً إلّاهلك.

وقيل: إنّ الحجر كان يسقط على الرجل منهم فيخترقه ويخرج من الجانب الآخر.

(أبرهة) اصيب بحجر، وجُرح، فاعيد إلى صنعاء عاصمة ملكه، وهناك فارق الحياة.

وقيل: إنّ مرض الحصبة والجدري شوهد لأوّل مرّة في أرض العرب في تلك السنة.

وفي هذا العام ولد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حسب الرواية المشهورة، وقيل إنّ بين الحادثتين إرتباطاً.

إنّ أهمية هذه الحادثة الكبرى بلغت درجة تسمية ذلك العام بعام الفيل، وأصبح مبدأ تاريخ العرب «1».

التّفسير

كيد أبرهة: يخاطب اللَّه رسوله صلى الله عليه و آله في الآية الاولى من السورة ويقول له: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ». «أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ». لقد استهدفوا الكعبة ليهدموها وليقيموا بدلها كعبة اليمن، وليدعوا قبائل العرب إلى حج هذا المعبد الجديد، لكنّه سبحانه حال دون تحقق هدفهم، بل زاد الكعبة شهرة وعظمة بعد أن ذاع نبأ أصحاب الفيل في جزيرة العرب، وأصبحت قلوب المشتاقين تهوى إليها أكثر من ذي قبل، وأسبَغَ على هذه الديار مزيداً من الأمن.

كيدهم إذن صار في تضليل، أي في ضلال حيث لم يصلوا إلى هدفهم.

ثم تشرح الآيات التالية بعض جوانب الواقعة: «وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ».

______________________________

(1) سيرة النبي صلى الله عليه و آله لابن هشام الحميري 1/ 28؛ وبحار الأنوار 15/ 70 و 130؛ ومجمع البيان

10/ 442.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 539

عبارة «طيراً أبابيل» تعني طيراً على شكل مجموعات، والمشهور أنّ هذه الطير كانت تشبه الخطاطيف قدمت من صوب البحر الأحمر في اتجاه أصحاب الفيل.

«تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ» «1».

«فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ».

و «العصف»: هو النبات الجاف المتهشّم، أي هو (التبن) بعبارة اخرى.

وتعبير «مأكول» إشارة إلى أنّ هذا التبن قد سحق مرّة اخرى بأسنان الحيوان، ثم هشّم ثالثة في معدته، وهذا يعني أنّ أصحاب الفيل، قد تلاشوا بشكل كامل عند سقوط الحجارة عليهم.

وفي هذا السورة تحذير وإنذار لكل الطغاة والمستكبرين في العالم، ليعلموا مدى ضعفهم أمام قدرة اللَّه سبحانه.

«نهاية تفسير سورة الفيل»

______________________________

(1) «سجّيل»: كلمة فارسية مأخوذة من دمج كلمتين هما «سنگ» و «گل»؛ وتعني الطين المتحجّر.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 541

106. سورة قريش

محتوى السورة: هذه السورة مكملة لسورة الفيل، وآياتها تدل على ذلك. تتضمّن هذه السورة بيان نعمة اللَّه على قريش ولطفه لهم ومحبّته له، كي يحرك فيهم دافع الشكر ويحثهم على عبادة ربّ هذا البيت العظيم الذي يستمدون منه كل مفاخرهم وشرفهم.

وكما إنّ سورة «الضّحى» وسورة «الشرح» تعتبران سورة واحدة كذلك سورة «الفيل» وسورة «قريش» هما سورة واحدة، وإرتباط موضوعهما يدل على ذلك أيضاً.

ولذلك وجب قراءتهما معاً في الصلاة لمن يرى وجوب قراءة سورة كاملة بعد الحمد.

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأها اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من طاف بالكعبة واعتكف بها».

هذه الفضيلة دون شك لمن عبد ربّ البيت حق عبادته، وصان حرمة البيت كما يجب، وتشرّبت نفسه برسالة هذا المركز التوحيدي.

لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَ الصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَ آمَنَهُمْ

مِنْ خَوْفٍ (4)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 542

في سورة الفيل جاء ذكر إبادة أصحاب الفيل الذين جاؤوا لهدم الكعبة وهذه السورة التي تعتبر امتداداً للسورة السابقة تقول: نحن جعلنا أصحاب الفيل كعصف مأكول:

«لِإِيلفِ قُرَيْشٍ». أي لكي تأتلف قريش في هذه الأرض المقدسة وتتهيأ بذلك مقدمات ظهور نبي الأكرم صلى الله عليه و آله.

«إيلاف»: مصدر آلف، و «آلفه» أي جعله يألف، أي جعله يجتمع اجتماعاً مقروناً بالانسجام والانس والإلتيام.

والمقصود إيجاد الالفة بين قريش وهذه الأرض المقدسة وهي مكة والبيت العتيق، لأنّهم وكل أهل مكة إختاروا السكن في هذه الأرض لمكانتها وأمنها. كثير من أهل الحجاز كانوا يحجّون البيت كل سنة، ويقترن حجّهم بنشاط أدبي واقتصادي في هذا البلد الأمين.

كل ذلك كان يحدث في ظل الجو الآمن، ولو أنّ هذا الأمن قد انعدم أو أنّ الكعبة قد انهدمت بفعل هجوم أبرهة وأمثاله لما كان لأحد الفة بهذه الأرض.

«إِيلفِهِمْ رِحْلَةَ الشّتَاءِ وَالصَّيْفِ».

مكة تقع في وادٍ غير ذي زرع، والرعي فيها قليل، لذلك كانت عائدات أهل مكة غالباً من قوافل التجارة، في فصل الشتاء يتجهون إلى أرض اليمن في الجنوب حيث الهواء معتدل، وفي فصل الصيف إلى أرض الشام في الشمال حيث الجوّ لطيف. والشام واليمن كانا من مراكز التجارة آنئذ، ومكة والمدينة حلقتا اتصال بينهما.

هذه هي رحلة الشتاء ... ورحلة الصيف.

والمقصود ب «إيلافهم» في الآية أعلاه قد يكون جعلهم يألفون الأرض المقدسة خلال رحلاتهم وينشدّون إليها لما فيها من أمن، كي لا تغريهم أرض اليمن والشام، فيسكنون فيها ويهجرون مكة.

وقد يكون المقصود إيجاد الالفة بينهم وبين سائر القبائل طوال مدّة الرحلتين، لأنّ الناس بدأوا ينظرون إلى قوافل قريش باحترام ويعيرونها أهمية خاصة بعد قصة اندحار جيش أبرهة.

قريش لم تكن

طبعاً مستحقة لكل هذا اللطف الإلهي لما كانت تقترفه من آثام، لكن اللَّه لطف بهم لما كان مقدّراً للإسلام والنبي الأكرم صلى الله عليه و آله أن يظهرا من هذه القبيلة وتلك الأرض المقدسة.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 543

الآية الاخيرة تقول: إنّ هذه النعم الإلهية التي أغدقت على قريش ببركة الكعبة يجب أن تدفعهم إلى عبادة ربّ البيت لا الأوثان. «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ». «الَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءَامَنَهُم مّنْ خَوْفٍ» ... الذي جعل تجارتهم رائجة مريحة ومربحة، ودفع عنهم الخوف والضرر، كل ذلك باندحار جيش أبرهة، وبفضل دعاء إبراهيم الخليل عليه السلام مؤسس الكعبة. لكنّهم لم يقدّروا هذه النعمة، فبدلوا البيت المقدس ببيت للأوثان، وذاقوا في النهاية وبال أمرهم.

«نهاية تفسير سورة قريش»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 545

107. سورة الماعون

محتوى السورة: هذه السورة بشكل عام تذكر صفات وأعمال منكري القيامة في خمس مراحل، فهؤلاء نتيجة لتكذيبهم بذلك اليوم، لا ينفقون في سبيل اللَّه وعلى طريق مساعدة اليتامى والمساكين، ثم هم يتساهلون في الصلاة، ويعرضون عن مساعدة المحتاجين.

وفي المجمع: قيل: نزلت في أبي سفيان بن حرب كان ينحر في كل أسبوع جزورين فأتاه يتيم فسأله شيئاً فقرعه بعصاه.

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع عن الباقر عليه السلام قال: «من قرأ «أَرَءَيْتَ الَّذِى يُكَذّبُ بِالدّينِ» في فرائضه ونوافله قبل اللَّه صلاته وصيامه، ولم يحاسبه بما كان منه في الحياة الدنيا».

أَ رَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَ لَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَ يَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 546

إنكار المعاد وآثاره المشؤومة: هذه السورة المباركة تبدأ بسؤال موجّه للنّبي صلى الله عليه

و آله عن الآثار المشؤومة لإنكار المعاد وتقول: «أَرَءَيْتَ الَّذِى يُكَذّبُ بِالدّينِ».

وتجيب عن السؤال: «فَذلِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ».

«الدين» هنا «الجزاء» أو يوم الجزاء، وإنكار يوم الجزاء له عواقبه الوخيمة وانعكاسات على أعمال الإنسان، وفي هذه السورة ذكرت خمسة آثار لهذا الإنكار منها: «طرد اليتيم، وعدم الحثّ على إطعام المسكين»، أي إنّ الشخص المنكر للمعاد لا يطعم المساكين، ولا يدعو الآخرين إلى إطعامهم.

«يدع»: أي يدفع دفعاً شديداً، ويطرد بخشونة.

و «يحضّ»: أي يحرض ويرغب الآخرين على شي ء.

ويتواصل وصف هؤلاء المكذبين بالدين فتقول الآيات التالية: «فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ».

لا يقيمون للصلاة وزناً، ولا يهتمون بأوقاتها، ولا يراعون أركانها وشروطها وآدابها.

الصفة الرابعة والخامسة للمكذبين بالدين تذكرها الآيتان الأخيرتان: «الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ».

المجتمع الذي يتعود على الرياء لا يبتعد عن اللَّه وعن الأخلاق الحسنة والملكات الفاضلة فحسب، بل تصبح كل برامجه الإجتماعية فارغة خالية المحتوى، لا تتعدى مجموعة من المظاهر، وإنّها لمأساة أن يكون مصير الفرد ومصير المجتمع بهذا الشكل.

من المؤكّد أنّ أحد عوامل التظاهر والرياء عدم الإيمان بيوم القيامة، وعدم الرغبة بالثواب الإلهي. وإلّا كيف يمكن للإنسان أن يترك مثوبة اللَّه ويتجه إلى الناس ليتزلف إليهم.

«الماعون»: من «المَعن» وهو الشي ء القليل. وكثير من المفسرين قالوا: إنّ المقصود من «الماعون» الأشياء البسيطة التي يستعيرها أو يقتنيها الناس وخاصة الجيران من بعضهم، مثل حفنة الملح، والماء، والنار (الثقاب)، والأواني وأمثالها.

واضح أنّ الذي يبخل في إعطاء مثل هذه الأشياء إلى غيره إنسان دني ء عديم الإيمان.

أي إنّه بخيل إلى درجة الإباء عن إعطاء مثل هذه الأشياء.

في أمالي الصدوق عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «من منع الماعون جاره منعه اللَّه خيره

يوم القيامة، ووكّله إلى نفسه، ومن وكّله إلى نفسه فما أسوأ حاله».

«نهاية تفسير سورةالماعون»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 547

108. سورة الكوثر

سبب نزول السورة: في المجمع قيل: نزلت السورة في العاص بن وائل السهمي، وذلك أنّه رآى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يخرج من المسجد، فالتقيا عند باب بني سهم، وتحدثا، واناس من صناديد قريش جلوس في المسجد. فلما دخل العاص قالوا: من الذي كنت تتحدث معه؟

قال: ذلك الأبتر. وكان قد توفي قبل ذلك عبد اللَّه بن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو من خديجة. وكانوا يسمون من ليس له إبن، أبتر. فسمّته قريش عند موت إبنه أبتر وصنبوراً.

[فنزلت السورة تبشر النبي بالنعم الوافرة والكوثر وتصف عدوّه بالأبتر].

ولمزيد من التوضيح نذكر أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان له ولدان من ام المؤمنين خديجة عليها السلام أحدهما «القاسم» والآخر «الطاهر» ويسمى أيضاً عبد اللَّه. وتوفي كلاهما في مكة، وأصبح النبي صلى الله عليه و آله من دون ولد. هذه المسألة وفرت للأعداء فرصة الطعن بالنبي فسمّوه الأبتر «1».

والعرب حسب تقاليدها كانت تعير أهمّية بالغة للولد، وتعتبره امتداداً لمهام الأب. بعد وفاة عبد اللَّه خال الأعداء أنّ الرسالة سوف تنتهي بوفاة الرسول صلى الله عليه و آله.

______________________________

(1) كان للرسول صلى الله عليه و آله إبن آخر من «مارية القبطية» إسمه إبراهيم، ولد في الثامنة للهجرة بالمدينة، ولكنّه توفي أيضاً قبل بلوغ الثانية من عمره، وحزن عليه الرسول كثيراً.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 548

السورة نزلت لتردّ على هؤلاء الأعداء بشكل إعجازي ولتقول لهم: إنّ عدوّ الرسول هو الأبتر، وأنّ الرسالة سوف تستمر وتتواصل وهذه البشرى بددت من جهة آمال الأعداء وطيبت خاطر النبي صلى الله عليه

و آله بعد أن اغتم من لمز الأعداء وتآمرهم.

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع ابي بن كعب عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «من قرأها سقاه اللَّه من أنهار الجنة، واعطي من الأجر بعدد كل قربان قربه العباد في يوم عيد، ويقربون من أهل الكتاب والمشركين».

اسم هذه السورة (الكوثر) مأخوذة من أوّل آية فيها.

إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) أعطيناك الخير العميم: الحديث في كل هذه السورة موجّه إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله (مثل سورة الضّحى، وسورة الشرح)، وأحد أهداف هذه السور تسلية قلب النبي إزاء ركام الأحداث المؤلمة وطعون الأعداء. تقول له أوّلًا: «إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ».

و «الكوثر»: من الكثرة، وبمعنى الخير الكثير، ويسمى الفرد السخي كوثراً. وفي معنى الكوثر: في المجمع: قال ابن عباس: لما نزلت «إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ» صعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله المنبر، فقرأها على الناس، فلما نزل قالوا: يا رسول اللَّه! ما هذا الذي أعطاك اللَّه؟ قال: «نهر في الجنة، أشدّ بياضاً من اللبن، وأشدّ استقامة من القدح، حافتاه قباب الدرّ والياقوت».

وقيل: هو النبوّة والكتاب، وقيل: هو القرآن. وقيل: هو كثرة الأصحاب والأشياع.

وقيل: هو كثرة النسل والذرّية، وقد ظهرت الكثرة في نسله من ولد فاطمة عليها السلام، حتى لا يحصى عددهم، واتصل إلى يوم القيامة مددهم. وقيل هو الشفاعة. رووه عن الصادق عليه السلام.

ولكن هذه التفاسير تبيّن غالباً المصاديق البارزة لمعناها الواسع وهو «الخير الكثير».

إنّ كل الهبات الإلهية لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله في كل المجالات تدخل في إطار هذا الخير الكثير، ومن ذلك انتصاراته على الأعداء في الغزوات، بل حتى علماء امّته

الذين يحملون مشعل الإسلام والقرآن في كل زمان ومكان.

ولا ننسي أنّ كلام اللَّه سبحانه تعالى لنبيّه في هذه السورة كان قبل ظهور الخير الكثير،

مختصر الامثل، ج 5، ص: 549

فهو إخبار بالمستقبل القريب والبعيد، إخبار إعجازي يشكل دليلًا آخر على صدق دعوة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله.

هذا الخير الكثير يستوجب شكراً عظيماً، وإن كان المخلوق لا يستطيع أداء حق نعمة الخالق أبداً، إذ إنّ توفيق الشكر نعمة اخرى منه سبحانه، ولذا يقول سبحانه لنبيّه: «فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ».

نعم، واهب النعم هو سبحانه. لذلك ليس ثمّة معنى للعبادات إن كانت لغيره.

والأمر بالصلاة والنحر للربّ مقابل ما كان يفعله المشركون من سجودهم للأصنام ونحرهم لها، بينما كانوا يرون نعمهم من اللَّه. وتعبير (لربّك) دليل واضح على وجوب قصد القربة في العبادات.

وفي آخر آية يقول اللَّه سبحانه لنبيّه ردّاً على ما وَصَمه به المشركون: «إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ». «الشاني ء»: هو المعادي من «الشنان»- على وزن ضربان- وهو العداء والحقد.

و «أبتر»: في الأصل هو الحيوان المقطوع الذنب. وصدر هذا التعبير من أعداء الإسلام لإنتهاك الحرمة والإهانة. وكلمة (شاني ء) فيها ايحاء بأنّ عدوك لا يراعي أيّة حرمة ولا يلتزم بأي أدب. أي أنّ عداوته مقرونة بالفظاظة والدناءة. والقرآن يقول لهؤلاء الأعداء في الواقع: إنّكم أنتم تحملون صفة الأبتر لا رسول اللَّه.

بحث

فاطمة عليها السلام والكوثر: قلنا إنّ «الكوثر» له معنى واسع يشمل كل خير وهبه اللَّه لنبيّه صلى الله عليه و آله، ومصاديقه كثيرة، لكن كثيراً من علماء الشيعة ذهبوا إلى أنّ «فاطمة الزهراء عليها السلام» من أوضح مصاديق الكوثر، لأنّ رواية سبب النزول تقول: إنّ المشركين وصموا النبي بالأبتر، أي بالشخص المعدوم العقب، وجاءت الآية لتقول: «إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ».

ومن هنا

نستنتج أنّ الخير الكثير أو الكوثر هو فاطمة الزهراء عليها السلام، لأنّ نسل الرسول صلى الله عليه و آله انتشر في العالم بواسطة هذه البنت الكريمة ... وذرّيّة الرسول صلى الله عليه و آله من فاطمة عليها السلام لم يكونوا امتداداً جسمياً للرسول فحسب، بل كانوا امتداداً رسالياً صانوا الإسلام وضحوا من أجل المحافظة عليه وكان منهم أئمّة الدين الإثني عشر، أو الخلفاء الإثني عشر بعد النبي كما أخبر عنهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في الأحاديث المتواترة بين السنّة والشيعة.

والفخر الرازي في استعراضه لتفاسير معنى الكوثر، يقول:

مختصر الامثل، ج 5، ص: 550

القول الثالث: «الكوثر» أولاده، قالوا لأنّ هذه السورة إنّما نزلت ردّاً على من عابه صلى الله عليه و آله بعدم الأولاد، فالمعنى أنّه يعطيه نسلًا يبقون على مرّ الزمان، فانظر كم قتل من أهل البيت، ثم العالم ممتلي ء منهم، ولم يبق من بني امية في الدنيا أحد يعبأ به، ثم انظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا عليهم السلام والنفس الزكية وأمثالهم «1».

«نهاية تفسير سورة الكوثر»

______________________________

(1) التفسير الكبير 32/ 124.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 551

109. سورة الكافرون

محتوى السورة: من لحن السورة نفهم أنّها نزلت في زمان كان المسلمون في أقلية والكفار في أكثرية، والنبي صلى الله عليه و آله يعاني من الضغوط التي تطلب منه أن يهادن المشركين، وأمام هذه الضغوط كان النبي يعلن صموده وإصراره على المبدأ، دون أن يصطدم بهم.

وفي هذا درس عبرة لكل المسلمين أن لا يساوموا أعداء الإسلام في مبادي ء الدين مهما كانت الظروف، وأن يبعثوا اليأس في قلوبهم متى ما بادروا إلى هذه المساومة.

فضيلة تلاوة السورة: في حديث ابي عن النبي صلى الله عليه

و آله قال: «ومن قرأ يا أيّها الكافرون فكأنّما قرأ ربع القرآن وتباعدت عنه مردة الشياطين، وبرى ء من الشرك ويعافي من الفزع الأكبر».

وشعيب الحداد عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «كان أبي يقول: (قل يا أيّها الكافرون) ربع القرآن، وكان إذا فرغ منها قال: أعبد اللَّه وحده، أعبد اللَّه وحده».

قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَ لَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَ لَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَ لَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ (6)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 552

سبب النّزول

في المجمع: نزلت السورة في نفر من قريش منهم الحارث بن قيس السهمي، والعاص بن أبي وائل، والوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث الزهري، والأسود بن المطلب بن الأسد، وأمية بن خلف قالوا: هلم يا محمّد فاتبع ديننا نتبع دينك، ونشركك في أمرنا كلّه، تعبد آلهتنا سنة، ونعبد آلهتك سنة، فإن كان الذي جئت به خيراً مما بأيدينا، كنّا قد شركناك فيه، وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيراً مما في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت بحظك منه.

فقال صلى الله عليه و آله: «معاذ اللَّه أن أشرك به غيره».

قالوا: فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك.

فقال: «حتى انظر ما يأتي من عند ربّي».

فنزل «قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ»- السورة. فعدل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى المسجد الحرام، وفيه الملأ من قريش، فقام على رؤوسهم، ثم قرأ عليهم حتى فرغ من السورة. فأيسوا عند ذلك، فآذوه وآذوا أصحابه.

التّفسير

لا أهادن الكافرين: «قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ». والخطاب إلى قوم مخصوصين من الكافرين كما ذكر كثير من المفسرين، والألف واللام للعهد، وإنّما ذهب

المفسرون إلى ذلك لأنّ الآيات التالية تنفي أن يعبد الكافرون ما يعبده المسلمون وهو اللَّه سبحانه في الماضي والحال والمستقبل، والمجموعة المخاطبة بهذه الآيات بقيت بالفعل على كفرها وشركها حتى آخر عمرها، بينما دخل كثير من المشركين بعد فتح مكة في دين اللَّه أفواجاً.

«لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ». فهذه مسألة مبدئية لا تقبل المساومة والمهادنة والمداهنة.

«وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ». لما تأصّل فيكم من لجاج وعناد وتقليد أعمى لآبائكم، ولما تجدونه في الدعوة من تهديد لمصالحكم وللأموال التي تدر عليكم من عبدة الأصنام.

ولمزيد من التأكيد وبث اليأس في قلوب الكافرين، ولبيان حقيقة الفصل الحاسم بين منهج الإسلام ومنهج الشرك قال سبحانه: «وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ». فعلى هذا لا معنى لإصراركم على المصالحة والمهادنة معي حول مسألة عبادة الأوثان فإنّه أمر محال «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 553

لحن الآيات يوضّح بجلاء أنّها نوع من التحقير والتهديد، أي دعكم ودينكم فسترون قريباً وبال أمركم، تماماً مثل ما ورد في الآية (55) من سورة القصص: «وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلمٌ عَلَيْكُمْ لَانَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ».

«نهاية تفسير سورة الكافرون»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 555

110. سورة النصر

محتوى السورة: هذه السورة نزلت في المدينة بعد الهجرة، وفيها بشرى النصر العظيم ودخول الناس في دين اللَّه أفواجاً، وتدعو النبي صلى الله عليه و آله أن يسبح اللَّه ويحمده ويستغفره شكراً على هذه النعمة.

في الإسلام فتوحات كثيرة، ولكن فتحاً بالمواصفات المذكورة في السورة ما كان سوى «فتح مكة» «1»، خاصة وأنّ العرب- كما جاء في الروايات- كانت تعتقد أنّ نبي الخاتم صلى الله عليه و آله لا يستطيع أن يفتح مكة إلّاإذا كان على

حق ... ولو لم يكن على حق فربّ البيت يمنعه كما منع جيش أبرهة، ولذلك دخل العرب في دين اللَّه بعد فتح مكة أفواجاً.

قيل: إنّ هذه السورة نزلت بعد صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة، وقبل عامين من فتح مكة.

ومن أسماء هذه السورة «التوديع» لأنّها تتضمّن خبر وفاة النبي صلى الله عليه و آله.

في المجمع: قال مقاتل: لما نزلت هذه السورة قرأها صلى الله عليه و آله على أصحابه ففرحوا واستبشروا، وسمعها العباس فبكى، فقال صلى الله عليه و آله: «ما يبكيك يا عم»؟ فقال: أظنّ أنّه قد نعيت إليك نفسك يا

______________________________

(1) فتح مكة فتح صفحة جديدة في تاريخ الإسلام، ودحر الأعداء بعد عشرين عاماً من المقاومة، وتطهرت أرض الجزيرة العربية من الشرك والأوثان، والإسلام تأهب لدعوة بقيّة أصقاع العالم.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 556

رسول اللَّه. فقال: «إنّه لكما تقول». فعاش بعدها سنتين ما رؤي فيهما ضاحكاً متبشراً.

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع ابي بن كعب عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «من قرأها فكأنّما شهد مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فتح مكة».

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ «إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ» في نافلة أو فريضة نصره اللَّه على جميع أعدائه، وجاء يوم القيامة ومعه كتاب ينطق، قد أخرجه اللَّه من جوف قبره، فيه أمان من حرّ جهنم ومن النار، ومن زفير جهنم، يسمعه باذنيه، فلا يمرّ على شي ء يوم القيامة إلّا بشّره، وأخبره بكل خير حتى يدخل الجنّة».

إنّ هذه الفضائل لمن قرأ هذه السورة فسلك مسلك رسول اللَّه وعمل بسيرته وسنته.

إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ (1) وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ

رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً (3) عند انبلاج فجر النصر: في هذه السورة دار الحديث عن نصرة اللَّه، ثم عن «الفتح» والإنتصار، وبعدها عن اتساع رقعة الإسلام ودخول الناس في دين اللَّه زرافات ووحداناً.

نعم، لابدّ من إعداد القوّة للغلبة على العدو، لكن الإنسان الموحّد يؤمن أنّ النصر من عند اللَّه وحده، ولذلك لا يغتّر بالنصر، بل يتجه إلى شكر اللَّه وحمده.

وبين هذه الثلاثة إرتباط علة ومعلول، فبنصر اللَّه يتحقق الفتح، وبالفتح تزال الموانع من الطريق ويدخل الناس في دين اللَّه أفواجاً.

بعد هذه المراحل الثلاث- التي يشكل كل منها نعمة كبرى- تحل المرحلة الرابعة وهي مرحلة الشكر والحمد.

من جهة اخرى نصراللَّه والفتح هدفهما النهائي دخول الناس في دين اللَّه وهداية البشرية.

«التسبيح»: تنزيه اللَّه من كل عيب ونقص.

و «الحمد»: لوصف اللَّه بالصفات الكمالية.

و «الإستغفار»: إزاء تقصير العبد.

هذا الفتح العظيم ينبغي أن لا يؤدّي بالإنسان إلى الظن بأنّ اللَّه يترك أنصاره وحدهم (ولذلك جاء أمر التسبيح لتنزيهه من هذا النقص) و أن يعلم المؤمنون بأنّ وعده الحق (موصوف بهذا الكمال)، وأن يعترف العباد بنقصهم أمام عظمة اللَّه.

«نهاية تفسير سورة النصر»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 557

111. سورة المسد

محتوى السورة: هذه السورة نزلت في أوائل الدعوة العلنية. وهي السورة الوحيدة التي تحمل هجوماً شديداً بالاسم على أحد أعداء الإسلام والنبي صلى الله عليه و آله آنذاك وهو أبولهب. ومن السورة يتضح أنّه كان يحمل عداء خاصاً للنّبي ويمارس هو وزوجه كل أنواع الأذى بحقّه.

القرآن يصرّح بأنّهما أهل جهنم، وليس لهما طريق للنجاة، وتحققت هذه النبوءة القرآنية، وكلاهما مات على الكفر.

فضيلة تلاوة السورة: في حديث ابي عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «من قرأها رجوت أن لا يجمع اللَّه

بينه وبين أبي لهب في دار واحدة».

إنّ هذه الفضيلة نصيب من بقراءتها يفصل مسيرته عن مسيرة أبي لهب، لا من يقرأها بلسانه ويعمل عمل أبي لهب في أفعاله.

تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَ مَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَ امْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 558

سبب النّزول

سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: صعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ذات يوم الصفا فقال: «يا صباحاه»! فأقبلت إليه قريش، فقالوا له: ما لك؟ فقال: «أرأيتم لو أخبرتكم أنّ العدوّ مصبحكم أو ممسيكم، أما كنتم تصدّقوني». قالوا: بلى. قال: «فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد».

فقال أبولهب: تبّاً لك! ألهذا دعوتنا جميعاً؟ فأنزل اللَّه هذه السورة.

ويروى عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لما نزلت هذه السورة، أقبلت العوراء ام جميل بنت حرب، ولها ولولة وفي يدها فهر، وهي تقول: مذمّماً أبينا، ودينه قلينا، وأمره عصينا.

والنبي صلى الله عليه و آله جالس في المسجد ومعه أبوبكر. فلما رآها أبوبكر قال: يا رسول اللَّه! قد أقبلت وأنا أخاف أن تراك، قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «إنّها لن تراني». وقرأ قرآناً فاعتصم به، كما قال:

«وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالْأَخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا» [الإسراء:

45] فوقفت على أبي بكر، ولم تر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالت: يا أبابكر! أخبرت أنّ صاحبك هجاني. فقال: لا وربّ البيت ما هجاك. فولّت وهي تقول: قريش تعلم أنّي بنت سيّدها.

التّفسير

هذه السورة- كما ذكرنا في سبب نزولها- ترد على بذاءات أبي لهب عم النبي صلى الله عليه و آله

وابن عبد المطلب. وكان من ألد أعداء الإسلام، وحين صدح النبي صلى الله عليه و آله بدعوته واعلنها على قريش وأنذرهم بالعذاب الإلهي قال: تبّاً لك ألهذا دعوتنا جميعاً؟!

والقرآن يرد على هذا الإنسان البذي ء ويقول له: «تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ».

في المجمع: قال طارق المحاربي: بينا أنا بسوق ذي المجاز إذا أنا بشاب يقول: «يا أيّها الناس! قولوا لا إله إلّااللَّه تفلحوا». وإذا برجل خلفه يرميه قد أدمى ساقيه وعرقوبيه، ويقول: يا أيّها الناس! إنّه كذاب فلا تصدّقوه. فقلت: من هذا؟ فقالوا: هو محمّد، يزعم أنّه نبي، وهذا عمّه أبولهب يزعم أنّه كذاب «1».

وفي رواية اخرى: وكان من عظيم خطر أبي لهب ضد الدعوة الإسلامية أنّه كلّما جاء وفد إلى النبي صلى الله عليه و آله يسألون عنه عمّه أبالهب- اعتباراً بكبره وقرابته وأهميته- كان يقول لهم:

إنّه ساحر، فيرجعون ولا يلقونه، فأتاه وفد فقالوا: لا ننصرف حتى نراه، فقال: إنّا لم نزل

______________________________

(1) مجمع البيان 10/ 559.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 559

نعالجه من الجنون فتباً له وتعساً «1».

من هذه الروايات نفهم بوضوح أنّ أبالهب كان يتتبع النبي صلى الله عليه و آله غالباً كالظلّ، وما كان يرى سبيلًا لإيذائه إلّاسلكه، وكان يقذعه بأفظع الألفاظ، ومن هنا كان أشدّ أعداء الرسول والرسالة، ولذلك جاءت هذه السورة لتردّ على أبي لهب وامرأته بصراحة وقوّة.

«مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ»، فليس بامكان أمواله أن تدرأ عنه العذاب الإلهي «سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ».

من الآية الاولى نفهم أنّه كان ثرياً ينفق أمواله في محاربة النبي صلى الله عليه و آله.

وأبولهب ناره ذات لهب يصلاها يوم القيامة، وقيل: يصلاها في الدنيا قبل الآخرة.

و «لهب» جاءت بصيغة النكرة لتدل على عظمة لهب تلك

النار.

لا أبا لهب ولا أي واحد من الكافرين والمنحرفين تغنيه أمواله ومكانته الإجتماعية من عذاب اللَّه، كما يقول سبحانه: «يَوْمَ لَايَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» «2».

بل لم تغنه في الدنيا من سوء المصير.

في تفسير مجمع البيان: قال عكرمة، قال أبو رافع مولى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، وأسلمت ام الفضل وأسلمت وكان العباس يهاب قومه ويكره أن يخالفهم وكان يكتم إسلامه وكان ذا مال كثير متفرق في قومه، وكان أبولهب عدوّ اللَّه قد تخلف عن بدر وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة، وكذلك صنعوا لم يتخلف رجل إلّابعث مكانه رجلًا.

فلما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش كبته اللَّه وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوّة وعزّاً، قال: وكنت رجلًا ضعيفاً وكنت أعمل القداح أنحتها في حجرة زمزم، فواللَّه إنّي لجالس فيها أنحت القداح وعندي ام الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل الفاسق أبولهب، يجرّ رجليه حتى جلس على طنب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري فبينا هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان ابن حرث بن عبد المطلب، وقد قدم. فقال أبو لهب، هلم إليّ يا ابن أخي فعندك الخبر. فجلس إليه والناس قيام عليه، فقال: يا ابن أخي!

______________________________

(1) تفسير الفرقان 30/ 503.

(2) سورة الشعراء/ 88 و 89.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 560

أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال: لا شي ء واللَّه إن كان إلّاأن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا ويأسروننا كيف شاؤوا وأيم اللَّه مع ذلك ما لمت الناس لقينا رجالًا بيضاً على خيل بلق، بين السماء والأرض، ما تليق شيئاً، ولا يقوم

لها شي ء.

قال أبورافع: فرفعت طرف الحجرة بيدي، ثم قلت: تلك الملائكة. قال: فرفع أبولهب يده وضرب وجهي ضربة شديدة، فثاورته واحتملني فضرب بي الأرض، ثم برك علي يضربني وكنت رجلًا ضعيفاً، فقامت ام الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فأخذته فضربته ضربة فلقت رأسه شجة منكرة، وقالت: تستضعفه إن غاب عنه سيده فقام مولياً ذليلًا، فواللَّه ما عاش إلّاسبع ليال حتى رماه اللَّه بالعدسة، فقتله.

ولقد تركه أبناه ليلتين أو ثلاثاً ما يدفناه حتى أنتن في بيته وكانت قريش تتقي العدسة كما يتقي الناس الطاعون، حتى قال لهما رجل من قريش: ويحكما ألا تستحيان إنّ أباكما قد أنتن في بيته لا تغيبانه؟ فقالا: إنّا نخشي هذه القرحة. قال: فانطلقا فأنّا معكما، فما غسلوه إلّاقذفاً بالماء عليه من بعيد ما يسمونه، ثم احتملوه فدفنوه بأعلى مكة إلى جدار، وقذفوا عليه بالحجارة، حتى واروه.

«وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مّن مَّسَدٍ».

الآيتان تتحدثان عن ام جميل امرأة أبي لهب، وأخت أبي سفيان، وعمّة معاوية، وتصفانها بأنّها تحمل الحطب كثيراً، وفي عنقها حبل من ليف.

ولماذا وصفها القرآن بأنّها حمالة الحطب؟

قيل: لأنّها كانت تأخذ الحطب المملوء بالشوك وتضعه على طريق رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لتدمي قدماه.

«نهاية تفسير سورة المسد»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 561

112. سورة الاخلاص

محتوى السورة: هذه السورة تركز على توحيد اللَّه.

في الكافي في نزول السورة عن محمّد بن مسلم عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّ اليهود سألوا رسول اللَّه فقالوا: أنسب لنا ربّك فلبث ثلاثاً لا يجيبهم. ثم نزلت قل هو اللَّه أحد إلى آخرها».

وفي الإحتجاج عن العسكري عليه السلام إنّ السائل عبد اللَّه بن صوريا اليهودي. وفي بعض روايات أهل السنة إنّ السائل عبد اللَّه بن

سلام سأله صلى الله عليه و آله ذلك بمكة ثم آمن وكتم إيمانه. وفي بعضها أنّ أناساً من اليهود سألوه ذلك وفي غير واحد من رواياتهم أنّ مشركي مكة سألوه ذلك.

فضيلة تلاوة السورة: وردت في فضيلة هذه السورة نصوص كثيرة تدل على مكانة هذه السورة بين سور القرآن. في المجمع عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة»؟ قلت: يا رسول اللَّه! ومن يطيق ذلك؟ قال: «اقرأوا قل هو اللَّه أحد».

وفي الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّ النبي صلى الله عليه و آله صلّى على سعد بن معاذ. فقال: لقد وافى من الملائكة سبعون ألفاً ملك، وفيهم جبرئيل عليه السلام يصلون عليه فقلت: يا جبرئيل بما يستحق صلاتكم عليه؟ قال: بقراءته قل هواللَّه أحد قائماً، وقاعداً وراكباً وماشياً وذاهباً وجائياً».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 562

وفي الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً قال: «من مضى به يوم واحد فصلّى فيه الخمس صلوات ولم يقرأ فيها بقل هو اللَّه أحد، قيل له: يا عبد اللَّه لست من المصلين».

وفي المجمع عن سهل بن سعد الساعدي قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و آله فشكا إليه الفقر، وضيق المعاش. فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «إذا دخلت بيتك، فسلم إن كان فيه أحد، وإن كان لم يكن فيه أحد، فسلم واقرأ «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» مرة واحدة».

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ (3) وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) جواباً عن الأسئلة المكررة التي طرحت من قبل الأفراد والجماعات بشأن أوصاف اللَّه سبحانه

تقول الآية: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ».

الضمير (هو) في الآية للمفرد الغائب ويحكي عن مفهوم مبهم، وهو في الواقع يرمز إلى أنّ ذاته المقدسة في نهاية الخفاء، ولا تنالها أفكار الإنسان المحدودة وإن كانت آثاره أظهر من أي شي ء آخر، كما ورد في الآية (53) من سورة فصّلت: «سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِى الْأَفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ».

ثم بعد الضمير تكشف الآية عن هذه الحقيقة الغامضة وتقول: «اللَّهُ الصَّمَدُ».

عن أبي جعفر الباقر عليه السلام عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: «رأيت الخضر عليه السلام في المنام قبل بدر بليلة، فقلت له: علمني شيئاً أنصر به على الأعداء. فقال: قل: يا هو، يا من لا هو إلّاهو. فلمّا أصبحت قصصتها على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال لي: يا علي عُلمت الإسم الأعظم، فكان على لساني يوم بدر».

«... كان علي عليه السلام يقول ذلك يوم صفين وهو يطارد، فقال له عمّار بن ياسر: يا أميرالمؤمنين ما هذه الكنايات؟ قال: اسم اللَّه الأعظم وعماد التوحيد للَّه لا إله إلّا هو ...» «1».

«اللَّه» اسم علم للباري سبحانه وتعالى. ومفهوم كلام الإمام علي عليه السلام أنّ جميع صفات الجلال والجمال الإلهية اشير إليها بهذه الكلمة، ومن هنا سميت باسم اللَّه الأعظم.

______________________________

(1) التوحيد للشيخ الصدوق/ 89.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 563

هذا الإسم لا يطلق على غير اللَّه، بينما أسماء اللَّه الاخرى تشير عادة إلى واحدة من صفات جماله وجلاله مثل: العالم والخالق والرازق، وتطلق غالباً على غيره أيضاً مثل:

(رحيم، وكريم، وعالم، وقادر ...).

هذا الإسم المقدس تكرر أكثر من «ألف مرّة» في القرآن الكريم، ولم يبلغه أي اسم من الأسماء المقدسة في مقدار تكراره. وهو اسم ينير القلب، ويبعث في

الإنسان الطاقة والطمأنينة، ويغمر وجوده صفاءً ونوراً.

«أحد»: يعني اللَّه أحد وواحد، لا بمعنى الواحد العددي أو النوعي أو الجنسي، بل بمعنى الوحدة الذاتية. بعبارة أوضح: وحدانيته تعني عدم وجود المثل والشبيه والنظير.

الدليل على ذلك واضح: فهو ذات غير متناهية من كل جهة، ومن المسلم أنّه لا يمكن تصور ذاتين غير متناهيتين من كل جهة، إذ لو كان ثمّة ذاتان، لكانت كلتاهما محدودتين، ولمّا كان لكل واحدة منهما كمالات الاخرى (تأمل بدقّة).

«اللَّهُ الصَّمَدُ». وهو وصف آخر لذاته المقدسة.

وفي جامع الأخبار: سئل ابن الحنفية عن الصمد، فقال: قال علي عليه السلام: «تأويل الصمد لا اسم ولا جسم، ولا مثل ولا شبه، ولا صورة ولا تمثال، ولا حدّ ولا حدود، ولا موضع ولا مكان، ولا كيف ولا أين، ولا هنا ولا ثمّة، ولا ملأ ولا خلأ، ولا قيام ولا قعود، ولا سكون ولا حركة، ولا ظلماني ولا نوراني، ولا روحاني ولا نفساني، ولا يخلو منه موضع ولا يسعه موضع، ولا على لون، ولا على خطر قلب، ولا على شمّ رائحة، منفي عنه هذه الأشياء».

هذه الرواية توضّح أنّ «الصمد» له مفهوم واسع ينفي كل صفات المخلوقين عن ساحته المقدسة.

الآية التالية تردّ على معتقدات اليهود والنصارى ومشركي العرب وتقول: «لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ».

إنّها ترد على المؤمنين بالتثليث (الربّ الأب، والربّ الإبن، وروح القدس).

النصارى تعتقد أنّ المسيح ابن اللَّه، واليهود ذهبت إلى أنّ العزير ابن اللَّه: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهُونَ قَوْلَ الَّذِينَ

مختصر الامثل، ج 5، ص: 564

كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» «1».

ومشركو العرب كانوا يعتقدون أنّ الملائكة بنات اللَّه: «وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ» «2».

ثم تبلغ الآية الأخيرة

غاية الكمال في أوصاف اللَّه تعالى: «وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ». أي ليس له شبيه ومثل اطلاقاً.

«الكفو»: هوالكف ء في المقام والمنزلة والقدر، ثم اطلقت الكلمة على كل شبيه ومثيل.

استناداً إلى هذه الآية، اللَّه سبحانه منزّه عن عوارض المخلوقين وصفات الموجودات وكل نقص ومحدودية، وهذا هو التوحيد الذاتي والصفاتي، مقابل التوحيد العددي.

من هنا فهو تبارك وتعالى لا شبيه له في ذاته، ولا نظير له في صفاته، ولا مثيل له في أفعاله، وهو متفرد لا نظير له من كل الجهات.

أمير المؤمنين علي عليه السلام يقول في الخطبة (186) نهج البلاغة: «لم يلد فيكون مولوداً، ولم يولد فيصير محدوداً ... ولا كف ء له فيكافئه، ولا نظير له فيساويه».

هذا التفسير الرائع يكشف عن أسمى معاني التوحيد وأدقّها.

بحوث

الأوّل: التوحيد: التوحيد يعني وحدانية ذات اللَّه تعالى ونفي أي شبيه ومثيل له، وإضافة إلى الدليل النقلي المتمثل في النصوص الدينية ثمّة دلائل عقلية كثيرة أيضاً تثبت ذلك نذكر قسماً منها باختصار:

1- برهان صرف الوجود: وملخصه أنّ اللَّه سبحانه وجود مطلق لا يحده قيد ولا شرط، ومثل هذا الوجود سيكون غير محدود دون شك، فلو كان محدوداً لمُني بالعدم، والذات المقدسة التي ينطلق منها الوجود لا يمكن أن يعترضها العدم والفناء، وليس في الخارج شي ء يفرض عليه العدم، ولذلك لا يحدّه حدّ.

______________________________

(1) سورة التوبة/ 30.

(2) سورة الأنعام/ 100.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 565

من جهة اخرى لا يمكن تصوّر وجودين غير محدودين في العالم، إذ لو كان ثمّة وجودان لكان كل واحد منهما فاقداً حتماً لكمالات الآخر، أي لا يملك كمالاته، ومن هنا فكلاهما محدودان، وهذا دليل واضح على وحدانية ذات واجب الوجود (تأمّل بدقّة).

2- البرهان العلمي: عندما ننظر إلى الكون الذي يحيط بنا،

نلاحظ في البداية موجودات متفرقة ... الأرض والسماء والشمس والقمر والنجوم وأنواع النباتات والحيوانات، وكلّما ازددنا إمعاناً في النظر الفينا مزيداً من الترابط والإنسجام بين أجزاء هذا العالم وذراته، وظهر لنا أنّه مجموعة واحدة تتحكم فيها جميعاً قوانين واحدة.

هذه الوحدة في نظام الوجود، والقوانين الحاكمة عليه، والإنسجام التام بين أجزائه كلّها ظواهر تشهد على وحدانية الخالق.

3- برهان التمانع: (الدليل العلمي الفلسفي)، وهو دليل آخر على إثبات وحدانية اللَّه، مستلهم من قوله سبحانه: «لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ» «1».

4- دعوة الأنبياء إلى اللَّه الواحد الأحد: وهو دليل آخر على وحدانية اللَّه، إذ لو كان هناك خالقان كل واحد منهما واجب الوجود في العالم، لاستلزم أن يكون كل واحد منهما منبعاً للفيض، فلا يمكن لوجود ذي كمال مطلق أن يبخل في الإفاضة لأنّ عدم الفيض نقص بالنسبة للوجود الكامل، وحكمته تستوجب أن يشمل الجميع بفيضه.

أمير المؤمنين علي عليه السلام يقول لإبنه الحسن المجتبى عليه السلام وهو يوصيه: «واعلم يا بني أنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته، ولكنّه إله واحد كما وصف نفسه» «2».

الثاني: فروع دوحة التوحيد: تذكر للتوحيد عادة أربعة فروع:

1- توحيد الذات: (وهو ما شرحناه أعلاه).

2- توحيد الصفات: أي إنّ صفات اللَّه ليست زائدة على ذاته، وليست منفصلة عن بعضها، بل هو وجود كلّه علم، وكلّه قدرة، وكلّه أزلية وأبدية.

ولو لم يكن ذلك لإستلزم التركيب، وإن كان مركباً لاحتاج إلى الأجزاء والمحتاج لا يكون واجباً للوجود.

______________________________

(1) سورة الأنبياء/ 22.

(2) نهج البلاغة، الرسالة 31.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 566

3- التوحيد الأفعالي: ويعني أنّ كل وجود وكل حركة وكل فعل في العالم يعود

إلى ذاته المقدسة، حتى الأفعال التي تصدر منّا هي في أحد المعاني صادرة عنه، فهو الذي منحنا القدرة والإختيار وحرية الإرادة، ومع أنّنا نفعل الأفعال بأنفسنا، وأنّنا مسؤولون تجاهها.

فالفاعل من جهة هو اللَّه سبحانه لأنّ كل ما عندنا يعود إليه: (لا مؤثّر في الوجود إلّااللَّه).

4- التوحيد في العبادة: أي تجب عبادته وحده دون سواه، ولا يستحق العبادة غيره، لأنّ العبادة يجب أن تكون لمن هو كمال مطلق، ومطلق الكمال، لمن هو غني عن الآخرين، ولمن هو واهب النعم وخالق كل الموجودات وهذه صفات لا تجتمع إلّافي ذات اللَّه سبحانه.

الثالث: التوحيد الأفعالي: توحيد الأفعال له بدوره فروع كثيرة نشير إلى ستة من أهمها:

1- توحيد الخالقية: والقرآن الكريم يقول في الآية (16) من سورة الرعد: «قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَىْ ءٍ».

ودليله واضح، فحين ثبت بالأدلة السابقة أنّ واجب الوجود واحد، وكل ما عداه ممكن الوجود، يترتب على ذلك أنّ خالق كل الموجودات واحد أيضاً.

2- توحيد الربوبية: أي إنّ اللَّه وحده هو مدبّر العالم ومربّيه ومنظّمه؛ كما جاء في الآية (164) من سورة الأنعام: «قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِى رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلّ شَىْ ءٍ».

دليل ذلك أيضاً وحدة واجب الوجود، وتوحيد الخالق في عالم الكون.

3- التوحيد في التقنين والتشريع: يقول سبحانه في الآية (44) من سورة المائدة:

«وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ».

لمّا ثبت أنّه سبحانه هو المدير والمدبّر، فليس لأحد غيره حتماً صلاحية التقنين. إذ لا سهم لغيره في تدبير العالم كي يستطيع أن يضع قوانين منسجمة مع نظام التكوين.

4- التوحيد في المالكية: سواء «الملكية الحقيقية» أي السلطة التكوينية على الشي ء، أم «الملكية الحقوقية» وهي السلطة القانونية على الشي ء، فهي له سبحانه؛ كما في الآية (189) من سورة

آل عمران يقول تعالى: «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ». وفي الآية (7) من سورة الحديد يقول سبحانه: «وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ».

والدليل على ذلك هو نفس الدليل على توحيد الخالقية، وحين يكون هو سبحانه خالق كل شي ء فهو مالك كل شي ء أيضاً، فكلّ ملكية يجب أن تستمد وجودها من مالكيته.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 567

5- توحيد الحاكمية: لابدّ للمجتمع البشري من حكومة، لأنّ الحياة الإجتماعية تتطلب ذلك، فلا يمكن بدون حكومة أن تقسم المسؤوليات، وتنظم المشاريع، ويحال دون التعدي والتجاوز.

ومن جهة اخرى، مبدأ الحرية يقرر أن لا أحد له حق الحكومة على أحد، إلّاإذا سمح بذلك المالك الأصلي والصاحب الحقيقي. من هنا فالإسلام يرفض كل حكومة لا تنتهي إلى الحكومة الإلهية ومن هنا أيضاً نرى شرعية الحكم للنبي صلى الله عليه و آله وللأئمة المعصومين عليهم السلام ثم للفقيه الجامع للشرائط بعدهم.

ومن الممكن أن يجيز الناس أحداً ليحكمهم، ولكن اتفاق الناس بأجمعهم غير ممكن في مجتمع عادة، ولذلك لا يمكن إقامة مثل هذه الحكومة عملياً «1».

6- توحيد الطاعة: اللَّه سبحانه هو وحده «واجب الإطاعة» في هذا الكون، وهو تعالى مصدر مشروعية إطاعة غيره، أي إنّ إطاعة غيره يجب أن تعدّ إطاعة له.

دليل ذلك واضح أيضاً، حين تكون الحاكمية له دون سواه فيجب أن يكون هو المطاع دون غيره، ولذلك نحن نعتبر إطاعتنا للأنبياء والأئمّة المعصومين عليهم السلام ومن ينوب عنهم هي انعكاس عن طاعتنا للَّه؛ كما في الآية (59) من سورة النّساء يقول تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الْأَمْرِ مِنكُمْ». وفي الآية (80) من نفس السورة يقول تعالى: «مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ».

«نهاية تفسير سورة الإخلاص»

______________________________

(1) لذلك إذا تعينت حكومة عن

طريق الإنتخابات وبأكثرية الأصوات، فلابدّ من تنفيذ الفقيه الجامع للشرائط كي تكون لها شرعية إلهيّة.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 569

113. سورة الفلق

محتوى السورة: تتضمن السورة تعاليم للنبي صلى الله عليه و آله خاصة، وللناس عامة تقضي أن يستعيذوا باللَّه من شرّ كل الأشرار، وأن يوكلوا أمرهم إليه، ويأمنوا من كل شرّ في اللجوء إليه.

فضيلة السورة: عن عقبة بن عامر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «انزلت عليّ آيات لم ينزل مثلهنّ المعوذتان».

وأبوعبيدة الحذاء عن أبي جعفر محمّد بن علي الباقر عليه السلام قال: «من أوتر بالمعوذتين، وقل هو اللَّه أحد، قيل له: يا عبد اللَّه! أبشر فقد قبل اللَّه وترك».

وعن النبي صلى الله عليه و آله قال: «يا عقبة! ألا اعلمك سورتين هما أفضل القرآن، أو من أفضل القرآن»؟ قلت: بلى يا رسول اللَّه. فعلّمني المعوذتين، ثم قرأ بهما في صلاة الغداة، وقال لي: «إقرأهما كلّما قمت ونمت».

إنّ هذه الفضائل نصيب من جعل روحه وعقيدته وعمله منسجماً مع محتوى السورة.

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَ مِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَ مِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَ مِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 570

بربّ الفلق أعوذ: يخاطب اللَّه سبحانه نبيّه باعتباره الاسوة والقدوة، ويقول له: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ مِن شَرّ مَا خَلَقَ».

«الفلق»: من «فَلَق» أي شقّ وفَصَل؛ وسمي طلوع الصبح بالفلق لأنّ ضوء الصبح يشق ظلمة الليل؛ ومثله الفجر، اطلق على طلوع الصبح لنفس المناسبة.

وقيل: إنّ الفلق يعني ولادة كل الموجودات الحيّة، بشرية كانت أم حيوانية أم نباتية.

فولادة هذه الموجودات تقترن بفلق حبّتها أو بيضتها، والولادة من أعجب مراحل وجود هذه الأحياء.

وقيل: إنّ

الفلق له معنى واسع يشمل كل خلق، لأنّ الخلق، هو شقّ ستار العدم ليسطع نور الوجود.

وكل واحد من هذه المعاني الثلاثة (طلوع الصبح- وولادة الموجودات الحيّة- وخلق كل موجود) ظاهرة عجيبة تدل على عظمة الباري والخالق والمدبّر، ووصف اللَّه بذلك له مفهوم عميق.

«مِن شَرّ مَا خَلَقَ» ... من كل موجود شرّير من الإنس والجن والحيوان وحوادث الشرّ والنفس الأمارة بالسوء، وهذا لا يعني أنّ الخلق الإلهي ينطوي في ذاته على شرّ، لأنّ الخلق هو الإيجاد، والإيجاد خير محض. يقول سبحانه: «الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْ ءٍ خَلَقَهُ» «1».

بل الشرّ يعرض المخلوقات حين تنحرف عن قوانين الخلقة، وتنسلخ عن المسير المعين لها، على سبيل المثال، أنياب الحيوانات وسيلة دفاعية تستخدمها أمام الأعداء، كما نستخدم نحن السلاح للدفاع مقابل العدو، فلو أنّ هذا السلاح استخدم في محله فهو خير، وإن لم يستعمل في محله كأن صوّب تجاه صديق فهو شرّ.

وجدير بالذكر أنّ كثيراً من الامور نحسبها شرّاً وفي باطنها خير كثير، مثل الحوادث والبلايا التي تنفض عن الإنسان غبار الغفلة وتدفعه إلى التوجه نحو اللَّه هذه ليس من الشرّ حتماً.

«وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ». «غاسق»: من الغسق، وهو شدّة ظلمة الليل في منتصفه.

«غاسق»: تعني إذن في الآية: الفرد المهاجم، أو الموجود الشرّير الذي يتستر بظلام الليل لشنّ هجومه.

«وقب»: من الوَقب، وهو الحفرة، ثم استعمل الفعل «وَقَبَ» للدخول في الحفرة؛ وكأنّ

______________________________

(1) سورة السّجدة/ 7.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 571

هذه الموجودات الشريرة المضرة تستغل ظلام الليل، فتصنع الحفر الضارة لتحقق مقاصدها الخبيثة، وقد يكون الفعل يعني: نَفَذَ وتوغّل.

«وَمِن شَرّ النَّفثَاتِ فِى الْعُقَدِ».

«النفاثات»: من «النفث» وهو البصق القليل؛ ولمّا كان البصق مقروناً بالنفخ، فاستعملت نفث بمعنى نفخ أيضاً.

كثير من المفسرين قالوا إنّ

«النفاثات» هي النساء الساحرات، وهي صيغة جمع للمؤنث ومبالغة من نَفثَ، وهذه النسوة كن يقرأن الأوراد وينفخن في عقد، وبذلك يعملن السحر، وقيل: إنّها إشارة للنساء اللاتي كن يوسوسن في اذن الرجال وخاصة الأزواج ليثنوهم عن عزمهم وليوهنوا إرادتهم في أداء المهام الكبرى.

الفخر الرازي يقول أنّ النساء لأجل كثرة حبّهن في قلوب الرجال يتصرفن في الرجال يحولنهم من رأى إلى رأى ومن عزيمة إلى عزيمة «1».

وهذا المعنى في عصرنا أظهر من أي وقت آخر، إذ إنّ إحدى أهم وسائل نفوذ الجواسيس في أجهزة السياسة العالمية استخدام النساء، اللائي ينفثن في العقد، فتنفتح مغاليق الأسرار في القلوب ويحصلن على أدقّ الأسرار.

وقيل: إنّ النفاثات هي النفوس الشريرة، أو الجماعات المشككة التي تبعث بوساوسها عن طريق وسائل إعلامها لتوهن عزيمة الجماعات والشعوب.

ولا يستبعد أن تكون الآية ذات مفهوم عام جامع يشمل كل اولئك ويشمل أيضاً النمامين والذين يهدمون بنيان المحبة بين الأفراد.

«وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ».

هذه الآية تبيّن أنّ الحسد أسوأ الصفات الرذيلة وأحطها، لأنّ القرآن وضعه في مستوى أعمال الحيوانات المتوحشة والثعابين اللاسعة والشياطين الماكرة.

«الحسد»: خصلة سيئة شيطانية تظهر في الإنسان نتيجة عوامل مختلفة؛ مثل: ضعف الإيمان، وضيق النظر، والبخل. وهو يعني طلب وتمنّي زوال النعمة من شخص آخر.

الحسد منبع لكثير من الذنوب الكبيرة.

في الكافي عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «إنّ الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب».

«نهاية تفسير سورة الفلق»

______________________________

(1) التفسير الكبير 32/ 196.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 573

114. سورة الناس

محتوى السورة: الإنسان معرض دائماً لوساوس الشيطان، وشياطين الجن والإنس يسعون دائماً للنفوذ في قلبه وروحه، ومقام الإنسان في العلم مهما ارتفع، ومكانته في المجتمع مهما سمت يزداد تعرضه لوساوس الشياطين ليبعدوه عن جادة الحق. وليبيدوا العالم

بفساد العالِم.

هذه السورة تأمر النبي صلى الله عليه و آله باعتباره القدوة والاسوة أن يستعيذ باللَّه من شرّ الموسوسين.

محتوى هذه السورة شبيه بمحتوى سورة الفلق، فكلاهما يدوران حول الإستعاذة باللَّه من الشرور والآفات، مع فارق أنّ سورة الفلق تتعرض لأنواع الشرور، وهذه السورة تركز على شرّ (الوسواس الخناس).

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع عن الفضل بن يسار قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: «إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله اشتكى شكوى شديدة، ووجع وجعاً شديداً، فأتاه جبرائيل وميكائيل عليهما السلام، فقعد جبرائيل عليه السلام عند رأسه وميكائيل عند رجليه، فعوّذه جبرائيل بقل أعوذ بربّ الفلق وميكائيل بقل أعوذ بربّ الناس».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 574

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ (6) بربّ الناس أعوذ: في هذه السورة يتجه الخطاب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله باعتباره الاسوة والقدوة: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ».

يلاحظ أنّ الآيات ركزت على ثلاث من صفات اللَّه سبحانه هي (الربوبية والمالكية والالوهية) وترتبط كلّها إرتباطاً مباشراً بتربية الإنسان ونجاته من براثن الموسوسين.

المقصود من الإستعاذة باللَّه ليس طبعاً ترديد الإستعاذة باللسان فقط، بل على الإنسان أن يلجأ إليه جلّ وعلا في الفكر والعقيدة والعمل أيضاً، مبتعداً عن الطرق الشيطانية والأفكار المضللة الشيطانية، والمناهج والمسالك الشيطانية والمجالس والمحافل الشيطانية، ومتجهاً على طريق المسيرة الرحمانية، وإلّا فإنّ الإنسان الذي أرخى عنان نفسه تجاه وساوس الشيطان لا تكفيه قراءة هذه السورة ولا تكرار الفاظ الإستعاذة باللسان.

على المستعيذ الحقيقي أن يقرن قوله «ربّ الناس» بالإعتراف بربوبية اللَّه تعالى، وبالإنضواء تحت

تربيته؛ وأن يقرن قوله «ملك الناس» بالخضوع لمالكيته، وبالطاعة التامة لأوامره؛ وأن يقرن قوله: «إله الناس» بالسير على طريق عبوديته، وتجنب عبادة غيره.

ومن كان مؤمناً بهذه الصفات الثلاث؛ وجعل سلوكه منطلقاً من هذا الإيمان فهو دون شك سيكون في مأمن من شرّ الموسوسين.

هذه الأوصاف الثلاثة تشكل في الواقع ثلاثة دروس تربوية هامّة ... ثلاث سبل وقاية ...

وثلاث طرق نجاة من شرّ الموسوسين، إنّها تؤمن على مسيرة الإنسان من الأخطار.

«مِن شَرّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ».

«الوسواس»: أصلها- كما يقول الراغب في المفردات- صوت الحُلي (اصطكاك حلية بحلية)، ثم اطلق على أي صوت خافت، ثم على ما يخطر في القلب من أفكار وتصورات سيئة، لأنّها تشبه الصوت الباهت الذي يوسوس في الاذن.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 575

«الوسواس»: مصدر، ويأتي بمعنى اسم الفاعل بمعنى الموسوس، وهي في الآية بهذا المعنى.

«الخنّاس»: صيغة مبالغة من الخنوس وهو التراجع، لأنّ الشياطين تتراجع عند ذكر اسم اللَّه؛ والخنوس له معنى الإختفاء أيضاً، لأن التراجع يعقبه الإختفاء عادة.

فقوله سبحانه: «مِن شَرّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ». أي: أعوذ باللَّه من شرّ الموسوس ذي الصفة الشيطانية الذي يهرب ويختفي من ذكر اسم اللَّه.

عمل الشيطان هو التزيين، واخفاء الباطل تحت طلاء الحق، والكذب في قشر من الصدق، والذنب في لباس العبادة، والضلال خلف ستار الهداية.

وبإيجاز، الموسوسون متسترون، وطرقهم خفية، وفي هذا تحذير لكل سالكي طريق اللَّه أن لا يتوقعوا رؤية الشياطين في صورتهم الأصلية، أو رؤية مسلكهم على شكله المنحرف.

أبداً ... فهم موسوسون خناسون ... وعملهم الحيلة والمكر والخداع والتظاهر والرياء وإخفاء الحقيقة.

جملة «مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ» تنبيه على حقيقة هامّة هي إنّ «الوسواس الخناس» لا ينحصر وجوده في مجموعة معينة، ولا في فئة خاصة، بل هو موجود

في الجن والإنس ... في كل جماعة وفي كل ملبس، فلابدّ من الحذر منه أينما كان، والإستعاذة باللَّه منه في كل أشكاله وصوره.

أصدقاء السوء، والجلساء المنحرفون، وأئمة الظلم والضلال، والولاة الجبابرة الطواغيت، والكتاب والخطباء الفاسدون، والمدارس الإلحادية والإلتقاطية المخادعة، ووسائل الإعلام المزوّرة الملفّقة، كلّها هي وأمثالها تندرج ضمن المفهوم الواسع للوسواس الخناس وتتطلب من الإنسان أن يستعيذ باللَّه منها.

في أمالي للشيخ الصدوق عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام قال: «لمّا نزلت هذه الآية: «وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ» [آل عمران: 135] صعد إبليس جبلًا بمكة يقال له ثور، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه فقالوا: يا سيّدنا لم دعوتنا؟ قال: نزلت هذه الآية، فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين، فقال: أنا لها بكذا وكذا. قال: لست لها. فقام آخر فقال مثل ذلك، فقال: لست لها. فقال الوسواس الخناس:

أنا لها. قال: بماذا؟ قال: أعدهم وأمنيهم حتى يواقعوا الخطيئه، فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم

مختصر الامثل، ج 5، ص: 576

الإستغفار، فقال: أنت لها، فوكّله بها إلى يوم القيامة».

«نهاية تفسير سورة الناس»

اللّهمّ! احفظنا من شرّ كل وسواس خناس.

ربّنا! التآمر دقيق، والعدوّ متربّص، والمخططات خفية رهيبة، ولا نجاة منها إلّابلطفك وفضلك.

يا كريم! بفضلك وبمنّك وبنعمتك استطعت بعد ثلاثة عاماً أن ننهي هذا التفسير.

يا غفور ويا رحيم! تعلم أنّنا في هذه اللحظات مغمورون بفرحة ممزوجة بالشكر فنبتهل إليك ونتضرع أن تغفر لنا زلاتنا فإنّك أرحم الراحمين.

وتقبل منّا يا ربّ هذا الجهد المتواضع بكرمك، واجعله لنا ذخراً يوم نلقاك.

وآخر دعوانا أن الحمد للَّه ربّ العالمين

قم- الحوزة العلميّة

أحمد- علي بابائي

13 رجب 1427

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.