عنوان و نام پديدآور : مختصر الامثل فی تفسیر کتاب الله المنزل/ناصر مکارم شیرازی
مشخصات نشر : قم: مدرسه الامام علی بن ابی طالب علیه السلام، 1428
مشخصات ظاهری : ج
وضعیت فهرست نویسی : در انتظار فهرستنویسی
شماره کتابشناسی ملی : 1148393
مقدمّة:
إنّ القرآن الكريم يمثّل أعظم رأسمال في حياتنا نحن المسلمين ففي هذا الكتاب السماوي كل شي ء يتصل بحياة الإنسان الدنيوية والأخروية من معارف، وأحكام، ومنهج حياة، وسياسة إسلامية، وطريقة معنوية في حركة الفرد نحو مقام القرب الإلهي وغير ذلك.
على هذا الأساس فإنّ وظيفة كل مسلم تكمن في التعرف أكثر فأكثر على مضامين هذا الكتاب الإلهي، هذا من جهة ...
ومن جهة أخرى فإنّ صوت الإسلام- بعد الصحوة الإسلامية التي يشهدها المسلمون وخاصة بعد الثورة الإسلامية في ايران- قد ملأ آفاق العالم، وأثار فضول غير المسلمين ورغبتهم في الإطلاع أكثر على أسرار ومعارف هذا السفر السماوي. ولهذا السبب ترتفع من كل مكان أصوات تطالب بترجمة وتفسير القرآن الكريم بمختلف اللغات الحيّة في العالم، وبالرغم من قصور حركة الاستجابة لهذه المطالبات على مستوى الواقع، إلّاأننا يجب علينا السعي بجدّية لنكون على مستوى الأمل والطموح في عملية الاستجابة وتحقيق هذه المطالبات.
ولحسن الحظ فإنّ حضور القرآن الكريم في حركة حياة المسلمين الفردية والاجتماعية في العالم، وخاصة في أجواء بلدنا ايران، يزداد ويشتد يوماً بعد آخر، وعدد القرّاء الكبار والحافظين الأجلاء والمفسّرين العارفين في مجتمعنا والحمد اللَّه، ليس بالقليل، وقد صار فرع التفسير في الحوزة العلمية في قم أحد الفروع التخصصية المهمّة في الدراسات العلمية في الحوزة التي تحظى باستقبال واسع من قبل الطلّاب وصار درس التفسير من الدروس الرسمية في الحوزة وأحد موارد الامتحان فيها، ومن هنا جاء «التفسير الأمثل» لعبّر
عن استجابة طبيعية لهذه المرحلة، وهي تفسير يتميّز بالوضوح والمرونة والسهولة وفي ذات الوقت عميق المضامين دقيق المحتويات وناظر في معارفه لما يعيشه المسلمون من مسائل وتحديات يفرضها الواقع الاجتماعي والحضاري في حركة الحياة. ولعل من عوامل استقبال الناس الواسع لهذا التفسير هو ما تقدم من توجّه الناس في العصر الحاضر للقرآن الكريم.
وبالرغم من أنّ جهوداً كبيرة بذلت ولمدّة خمسة عشر سنة، لإخراج هذا التفسير إلى حيز الوجود وبمشاركة مجموعة من الفضلاء الأعزاء في الحوزة العلمية في قم وهم حجج الإسلام السادة: محمد رضا الآشتياني، محمد جعفر الإمامي، داود الالهامي، أسد اللَّه الإيماني، عبدالرسول الحسني، السيد حسن الشجاعي، السيد نور اللَّه الطباطبائي، محمود عبداللهي، محسن قراءتي،
مختصر الامثل، ج 1، ص: 6
محمد محمدي الاشتهاردي، ومساهمة الاخوة الأفاضل الاستاذ محمد علي آذرشب، الشيخ محمد رضا آل صادق، الاستاذ خالد توفيق عيسى السيد محمّد الهاشمي، الاستاد قصي هاشم فاخر، الاستاذ أسد مولوي، الشيخ مهدي الأنصاري، والسيد أحمد القبانچي، والشيخ هاشم الصالحي في تنقيح هذا السفر الجليل.
ولكن الاستقبال الواسع، الذي حظى به هذا التفسير من قبل مختلف شرائح المجتمع الإسلامي بما فيهم خواننا أهل السنّة، قد أزال جميع الاتعاب المذكورة وغرس في قلوب الأعزاء الأمل بأن يقع هذا العمل مورد قبول ورضا اللَّه تبارك وتعالى.
*** وبعد طبع ونشر «التفسير الأمثل» طلب الكثير من الناس العمل على نشر خلاصة لهذا التفسير القيّم، ولرغبتهم في التعرف على مضمون إجمالي للآيات الكريمة وبنفقات أقل وفي ذات الوقت يستفاد من هذه الخلاصة بعنوان متن دراسي في عملية التفسير.
هذا الطلب المتكرر دعانا للتفكير في القيام بتخليص جميع هذه الدورة التفسيرية المكوّنة من 15 جزءاً في خمسة أجزاء، ولكن هذا العمل لم يكن باليسير وقد استغرق التحضير
ودراسة جميع تفاصيله مدّة من الزمان حتى أخذ حجّة الإسلام الشيخ الفاضل أحمد علي بابائي- دامت تأييداته- على عهدته إنجاز هذا المشروع المهم.
وبدوري فقد كنت أقوم بعملية الاشراف ومطالعة ما كتب فضيلته باستمرار وأبدي ملاحظاتي بالمقدار اللازم في الموارد التي تحتاج إلى إلفات نظر وتذكير، وبالجملة فأنا اعتقد أنّ هذا العمل- وبحمد اللَّه- هو عمل قيّم ومثمر ويتضمّن شرحاً وافياً للآيات الشريفة من جهة، وتفسيراً مختصراً لمن يروم قراءة تفسيرية سريعة للقرآن الكريم، وقد سمّي «مختصر الأمثل».
وإذا أتقدم بالشكر والتقدير للجهود التي بذلها فضيلة الشيخ في هذ السبيل، فكلّي أمل في أن يقع هذه الخلاصة، التي تتضمّن مقتطفات مهمّة وحسّاسة من التفسير الكبير، مورد قبول أصحاب الخبرة وعامّة الناس من أهل القرآن ويكون هذا الجهد ذخيرتنا جميعاً يوم القيامة.
ونسأل اللَّه سبحانه أنّ يوفّق كل العاملين على إعلاء راية القرآن في العالم ويسدّد خطاهم وينصرهم على أعدائهم.
ونسأله جلّ وعلا أن يوفّق العلماء والمفكّرين الواعين الملتزمين إلى قيادة هذا التحرك الإسلامي المتصاعد في كل أرجاء العالم الإسلامي، قيادة أصلية قائمة على هدى القرآن الكريم والسنّة الشريفة، إنّه تعالى سميع مجيب.
قم- الحوزة العلمية
ناصر مكارم الشيرازي
مختصر الامثل، ج 1، ص: 7
خصائص السورة: لهذه السورة مكانة متميزة بين سائر سور القرآن الكريم، وتتميز بالخصائص التالية:
1- سياق السورة: تختلف سورة الحمد عن سائر سور القرآن في لحنها وسياقها، شاء اللَّه في هذه السورة أن يعلّم عباده طريقة خطابهم له ومناجاتهم إيّاه.
تبدأ هذه السورة بحمد اللَّه والثناء عليه، وتستمر في إقرار الإيمان بالمبدأ والمعاد «باللَّه ويوم القيامة»، وتنتهي بالتّضرع والطلب.
2- سورة الحمد أساس القرآن: في تفسير العياشي أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال لجابر بن عبد اللَّه الأنصاري: «يا
جابر! ألا اعلّمك أفضل سورة أنزلها اللَّه في كتابه»؟ فقال له جابر: بلى بأبي أنت وامّي يا رسول اللَّه، علّمنيها. فعلّمه الحمد ام الكتاب. ثم قال: «يا جابر ألا اخبرك عنها»؟ قال:
بلى بأبي أنت وامي، فأخبرني فقال: «هى شفاء من كل داء، إلّاالسّام، والسّام الموت».
وفي تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «والذي نفسي بيده ما أنزل اللَّه في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها، هى ام الكتاب وهي السبع المثاني، وهي مقسومة بين اللَّه وبين عبده ولعبده ما سأل».
«الام»: يعني هنا الأساس والجذر، ولعل ابن عباس ينطلق من هذا الفهم إذ يقول:
مختصر الامثل، ج 1، ص: 8
«إنّ لكل شي ء أساساً ... وأساس القرآن الفاتحة» «1».
وفي تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «أيّما مسلم قرأ فاتحة الكتاب اعطي من الأجر كأنّما قرأ ثلثي القرآن واعطي من الأجر كأنّما تصدّق على كل مؤمن ومؤمنة».
3- سورة الحمد شرف النبي صلى الله عليه و آله: يتحدّث القرآن الكريم عن سورة الحمد باعتبارها هبة إلهية لرسوله الكريم، ويقرنها بكل القرآن إذ يقول: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِى وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ» «2».
4- التأكيد على تلاوة هذه السورة: تلاوة هذه السورة تبعث الروح والإيمان والصفاء في النفوس، وتقرّب العبد من اللَّه، وتبعده عن ارتكاب الذنوب والانحرافات، ولذلك كانت ام الكتاب صاعقة على رأس (إبليس) كما ورد في تفسير نور الثقلين عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام: «رنّ إبليس أربع رنّات، أوّلهن يوم لعن، وحين اهبط إلى الأرض، وحين بعث محمّد- صلّى اللَّه عليه وآله- على حين فترة من الرسل، وحين انزلت ام الكتاب».
محتوى السورة: يمكن
تقسيم هذه السورة، من جهة أخرى إلى قسمين: قسم يختص بحمد اللَّه والثناء عليه، وقسم يتضمن حاجات العبد. وإلى هذا التقسيم يشير الحديث الشريف في عيون الأخبار عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال:
«قال اللَّه عزّ وجلّ: قسّمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي، فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل.
إذا قال العبد: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ». قال اللَّه جلّ جلاله: بَدأ عبدي باسمي وحق عليّ أن اتمّم له اموره وابارك له في أحواله.
فإذا قال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ العَالَمِينَ». قال اللَّه جلّ جلاله: حمدني عبدي وعلم أنّ النعم التي له من عندي، وأنّ البلايا التي دفعت عنه فبتطوّلي، اشهدكم أنّي اضيف له إلى نعم الدنيا نعم الآخرة وأدفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا.
وإذا قال: «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ». قال اللَّه جلّ جلاله: شهد لي عبدي أنّي الرّحمن الرّحيم، اشهدكم لِاوفّرنّ من رحمتي حظّه ولُاجزلنّ من عطائي نصيبه.
______________________________
(1) تفسير مجمع البيان، بداية سورة الحمد.
(2) سيأتي تفسير «سبعاً من المثاني» في ذيل الآية (87) من سورة الحجر.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 9
فإذا قال: «مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ». قال اللَّه تعالى: اشهدكم كما اعترف بأنّي أنا مالك يوم الدّين لُاسهّلنّ يوم الحساب حسابه، ولأتقبّلنّ حسناته، ولأتجاوزنّ عن سيّئاته.
فإذا قال العبد: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ». قال اللَّه عزّ وجلّ: صدق عبدي، إيّاي يعبد اشهدكم لُاثيبنّه على عبادته ثواباً يغبطه كل من خالفه في عبادته لي.
فإذا قال: «وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ». قال اللّه تعالى: بي استعان عبدي، وإليّ إلتجأ، اشهدكم لُاعيننّه على أمره، ولُاغيثنّه في شدائده ولآخذنّ بيده يوم نوائبه.
فإذا قال: «اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ». إلى آخر السورة، قال اللَّه عزّ وجلّ: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل وقد استجبت لعبدي وأعطيته ما أمّل وآمنته ممّا
منه وجل».
لماذا سمّيت فاتحة الكتاب؟ «فاتحة الكتاب» اسم اتّخذته هذه السورة في عصر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كما يبدو من الأخبار والأحاديث المنقولة عن النبي الأعظم صلى الله عليه و آله.
وهذه المسألة تفتح نافذة على مسألة مهمة من المسائل الإسلامية، وتلقي الضوء على قضية جمع القرآن، وتوضّح أنّ القرآن جُمع بالشكل الذي عليه الآن في زمن الرسول صلى الله عليه و آله، خلافاً لما قيل بشأن جمع القرآن في عصر الخلفاء، فسورة الحمد ليست أوّل سورة في ترتيب النّزول حتى تسمى بهذا الإسم، ولا يوجد دليل آخر لذلك، وتسميتها بفاتحة الكتاب يرشدنا إلى أنّ القرآن قد جمع في زمن الرسول صلى الله عليه و آله بهذا الترتيب الذي هو عليه الآن.
وثمّة أدلة اخرى تؤيّد حقيقة جمع القرآن بالترتيب الذي بأيدينا اليوم في عصر الرسول صلى الله عليه و آله وبأمره.
روى علي بن إبراهيم القمي في تفسيره عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال لعليّ: يا علي! القرآن خلف فراشي في الصحف والحرير والقراطيس، فخذوه واجمعوه ولا تضيّعوه كما ضيّعت اليهود التوراة فانطلق عليّ فجمعه في ثوب أصفر ثم ختم عليه في بيته وقال: لا أرتدي حتى أجمعه».
وهنا يثار سؤال حول المشهور بين بعض العلماء بشأن جمع القرآن بعد عصر النبي صلى الله عليه و آله، وفي الجواب نقول: إنّ ما روي بشأن جمع القرآن على يد الإمام علي عليه السلام بعد عصر الرسول، لم يكن جمعاً للقرآن وحده، بل هو مجموعة تتضمن القرآن وتفسيره وأسباب نزول الآيات وما شابه ذلك ممّا يحتاجه الفرد لفهم كلام اللَّه العزيز.
كما يؤكد (حديث الثقلين) المروي في المصادر الشيعية
والسنية، حيث أوصى رسول
مختصر الامثل، ج 1، ص: 10
اللَّه صلى الله عليه و آله بوديعته: كتاب اللَّه وعترته، أنّ القرآن كان قد جمع في مجموعة واحدة في عصر الرسول الأعظم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ (7) دأبت الأمم والشعوب على أن تبدأ كل عمل مهم ذي قيمة بإسم كبير من رجالها أي أنّ أصحاب المؤسسة يبدأون العمل باسم تلك الشخصية، ولكن أليس من الأفضل أن يبدأ العمل في اطروحة اريد لها البقاء والخلود باسم وجود خالد قائم لا يعتريه الفناء؟
فصفة الخلود والأبدية يختص بها اللَّه تعالى من بين سائر الوجودات، ومن هنا ينبغي أن يبدأ كل شي ء باسمه وتحت ظله وبالإستمداد منه ولذلك كانت البسملة أوّل آية في القرآن الكريم.
والبسملة لا ينبغى أن تنحصر في اللفظ والصورة، بل لابدّ أن تتعدّى ذلك إلى الإرتباط الواقعى بمعناها، وهذا الإرتباط يخلق الإتجاه الصحيح ويصون من الإنحراف، ويؤدي حتماً إلى نتيجة مطلوبة مباركة، لذلك جاء في الحديث النبوي الشريف: «كل أمر ذي بال لم يذكر فيه اسم اللَّه فهو أبتر» «1».
وفي تفسير الميزان عن الإمام محمّد بن علي الباقر عليه السلام قال: «... وينبغي الإتيان به عند افتتاح كل أمر عظيم أو صغير ليبارك به».
وبعبارة موجزة: فإنّ بقاء العمل وخلوده يتوقف على إرتباطه باللَّه.
من هنا كانت الآية الاولى التي أنزلها اللَّه على نبيّه الكريم تحمل أمراً لصاحب الرسالة أن يبدأ مهمّته الكبرى باسم اللَّه: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ» «2».
ولذلك أيضاً فإنّ نوحاً عليه السلام حينما أراد أن يركب
السفينة في ذلك الطوفان العجيب، ويمخر عباب الأمواج الهادرة، ويواجه ألوان الأخطار على طريق تحقيق هدفه يطلب من أتباعه
______________________________
(1) بحار الأنوار 73/ 305.
(2) سورة العلق/ 1.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 11
أن يردّدوا البسملة في حركات السفينة وسكناتها: «وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَيهَا وَمُرْسَيهَا» «1».
وسليمان عليه السلام يبدأ رسالته إلى ملكة سبأ بالبسملة: «إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمنَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «2».
وانطلاقاً من هذا المبدأ تبدأ كل سور القرآن بالبسملة، كي يتحقق هدفها، وهوالأصل المتمثل بهداية البشرية نحو السعادة، ويحالفها التوفيق من البداية إلى ختام المسيرة. وتنفرد سورة التوبة بعدم بدئها بالبسملة، لأنّها تبدأ بإعلان الحرب على مشركي مكة وناكثي الإيمان، وإعلان الحرب لا ينسجم مع وصف اللَّه بالرّحمن الرّحيم.
وطبيعي أنّ البدء باسم اللَّه الذي تفوق قدرته كل قدرة، يبعث فينا القوة، والعزم، والثقة، والإندفاع، والصمود والأمل أمام الصعاب والمشاكل، والإخلاص والنزاهة في الحركة.
والإمام الصّادق عليه السلام قال: «ولربّما ترك في افتتاح أمر بعض شيعتنا بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم فيمتحنه اللَّه بمكروه وينبّهه على شكر اللَّه تعالى والثناء عليه ويمحو فيه عنه وصمة تقصيره عند تركه قول بسم اللَّه» «3».
بحوث
1- هل البسملة جزء من السورة؟ أجمع علماء الشيعة على أنّ البسملة جزء من سورة الحمد وكل سور القرآن، وكتابتها في مطالع السور أفضل شاهد على ذلك، لأنّنا نعلم أن النصّ القرآني مصون عن أية إضافة، وذكر البسملة معمول به منذ زمن النبي صلى الله عليه و آله.
أضف إلى ذلك، أنّ سيرة المسلمين جرت دوماً على قراءة البسملة في مطالع السور لدى تلاوة القرآن، وثبت بالتواتر قراءة النبي لها، وكيف يمكن أن تكون أجنبية عن القرآن والنبي والمسلمون يواظبون على قراءتها لدى تلاوتهم القرآن.
والمسألة واضحة
إلى درجة كبيرة حتى روى صاحب السنن الكبرى: صلّى معاوية بالمدينة صلاة فلم يقرأ البسملة، فلما سلم ناداه من شهد ذلك من المهاجرين من كل مكان، يا معاوية! أسرقتَ أم نَسيتَ؟
2- لفظ الجلالة جامع لصفاته تعالى: إنّ كلمة «اسم» هي أوّل ما تطالعنا في البسملة من
______________________________
(1) سورة هود/ 41.
(2) سورة النمل/ 30.
(3) بحار الأنوار 73/ 305.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 12
كلمات، وهو في رأي علماء اللغة من «السموّ» على وزن «العُلوّ»، ومعناه الإرتفاع.
وبعد كلمة الإسم نلتقي بكلمة «اللَّه» وهي أشمل أسماء ربّ العالمين، فكل إسم ورد للَّه في القرآن الكريم وسائر المصادر الإسلامية يشير إلى جانب معين من صفات اللَّه، والإسم الوحيد الجامع لكل الصفات والكمالات الإلهيّة أو الجامع لكل صفات الجلال والجمال هو «اللَّه».
ولذلك اعتبرت بقية الإسماء صفات لكلمة «اللَّه» مثل: «الغفور» و «الرّحيم» و «السميع» و «العليم» و «البصير» و «الرزّاق» و «ذوالقوّة» و «المتين» و «الخالق» و «الباري» و «المصوّر».
فكلمة «اللَّه» هي وحدها الجامعة، ومن هنا اتخذت هذه الكلمة صفات عديدة في آية كريمة واحدة، حيث يقول تعالى: «هُوَ اللَّهُ الَّذِى لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبّرُ» «1».
وأحد شواهد جامعية هذا الاسم أنّ الإيمان والتوحيد لا يمكن إعلانه إلّابعبارة «لا إله إلّا اللَّه»، وعبارة (لا إله إلّاالقادر ... أو إلّاالخالق ... أو إلّاالرزّاق) لا تفي بالغرض.
3- الرحمة الإلهية الخاصة والعامة: المشهور بين جماعة من المفسرين أنّ صفة «الرّحمن» تشير إلى الرحمة الإلهيّة العامة، وهي تشمل الأولياء والأعداء، والمؤمنين والكافرين، والمحسنين والمسيئين، فرحمته تعمّ المخلوقات، وخوان فضله ممدود أمام جميع الموجودات.
وصفة «الرّحيم» إشارة إلى رحمته الخاصة بعباده الصالحين المطيعين، قد استحقوها بإيمانهم وعملهم الصالح، وحُرم منها المنحرفون والمجرمون.
لذلك فإنّ
صفة «الرّحمن» ذكرت بصورة مطلقة في القرآن الكريم ممّا يدل على عموميتها، لكن صفة «الرّحيم» ذكرت أحياناً مقيدة، لدلالتها الخاصّة، كقوله تعالى: «وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَّحِيمًا» «2». وأحياناً اخرى مطلقة كما في هذه السورة.
وفي الكافي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام قال: «واللَّه إله كل شي ء الرّحمن بجميع خلقه، والرّحيم بالمؤمنين خاصة». لِم لَم تَرد بقية صفات اللَّه في البسملة؟ في البسملة ذكرت صفتان للَّه فقط هما:
الرحمانية والرحيمية، فما هو السبب؟
______________________________
(1) سورة الحشر/ 23.
(2) سورة الأحزاب/ 43.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 13
الجواب يتضح لو عرفنا أنّ كل عمل ينبغي أن يبدأ بالإستمداد من صفة تعم آثارها جميع الكون وتشمل كل الموجودات، وتنقذ المستغيثين في اللحظات الحساسة.
هذه حقيقة يوضحها القرآن في الآية (156) من سورة الأعراف إذ يقول: «وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْ ءٍ».
ومن جانب آخر نرى الأنبياء وأتباعهم يتوسلون برحمة اللَّه في المواقف الشديدة الحاسمة. فقوم موسى تضرعوا إلى اللَّه أن ينقذهم من تجبّر فرعون وظلمه، وتوسلوا إليه برحمته فقالوا: «وَنَجّنَا بِرَحْمَتِكَ» «1».
وبشأن هود وقومه، يقول القرآن: «فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحمَةٍ مِنَّا» «2».
فإنّ أفعال اللَّه تقوم أساساً على الرحمة، والعقاب له طابع استثنائي لا ينزل إلّافي ظروف خاصة، كما نقرأ في دعاء الجوشن الكبير المروية عن آل بيت رسول اللَّه: «يا من سبقت رحمتُه غضبَه».
فالمجموعة البشرية السائرة على طريق اللَّه ينبغي أن تقيم نظام حياتها على هذا الأساس أيضاً، وأن تقرن مواقفها بالرحمة والمحبة، وأن تترك العنف إلى المواضع الضرورية.
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) العالم مغمور في رحمته تعالى: بعد البسملة، يأتي أول واجبات العباد وهو أن يستحضر دوماً مبدأ عالم الوجود، ونعمه اللامتناهية، هذه النعم التي تحيطنا وتغمر وجودنا، وتهدينا إلى معرفة اللَّه من جهة، وتدفعنا على
طريق العبودية من جهة اخرى.
وعندما نقول أنّ النعم تشكّل دافعاً ومحرّكاً على طريق العبودية، لأنّ الإنسان مفطور على البحث عن صاحب النعمة حينما تصله النعمة، ومفطور على أن يشكر المنعم على إنعامه.
من هنا فإنّ علماء الكلام (علماء العقائد) يتطرقون في بحوثهم الأولية لهذا العلم إلى «وجوب شكر المنعم» باعتباره أمراً فطرياً وعقلياً دافعاً إلى معرفة اللَّه سبحانه.
وإنّما قلنا إنّ النعم تهدينا إلى معرفة اللَّه، لأنّ أفضل طريق وأشمل سبيل لمعرفته سبحانه، دراسة أسرار الخليقة، وخاصة ما يرتبط بوجود النعم في حياة الإنسان.
______________________________
(1) سورة يونس/ 86.
(2) سورة الأعراف/ 72.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 14
وممّا تقدم نفهم لماذا ابتدأت سورة الحمد بعبارة: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ».
«الحمد» في اللغة: الثناء على عمل أو صفة طيبة مكتسبة عن اختيار، أي حينما يؤدّي شخص عملًا طيّباً عن وعي، أو يكتسب عن اختيار صفة تؤهله لأعمال الخير فإنّنا نحمده ونثني عليه. ولو علمنا أنّ الألف واللام في (الحمد) هي لاستغراق الجنس، لعلمنا أنّ كل حمد وثناء يختص باللَّه سبحانه دون سواه.
فثناؤنا على الآخرين ينطلق من ثنائنا عليه تعالى، لأنّ مواهب الواهبين كالأنبياء في هدايتهم للبشر، والمعلمين في تعليمهم، والكرماء في بذلهم وعطائهم، والأطباء في علاجهم للمرضى وتطبيبهم للمصابين، إنّما هي في الأصل من ذاته المقدسة.
وهكذا الشمس حين تغدق علينا بأشعتها، والسحب بأمطارها، والأرض ببركاتها، كل ذلك منه سبحانه، ولذلك فكل الحمد له.
جدير بالذكر أنّ الحمد ليس بداية كل عمل فحسب، بل هو نهاية كل عمل أيضاً كما يعلمنا القرآن. يقول سبحانه في الآية (10) من سورة يونس عن أهل الجنة: «دَعْوَيهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلمٌ وَءَاخِرُ دَعْوَيهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ».
أمّا كلمة «ربّ»: فهي في الأصل بمعنى مالك وصاحب
الشي ء الذي يهتم بتربيته واصلاحه. وكلمة «عالمين»: جمع «عالم» والعالم: مجموعة من الموجودات المختلفة وحين تجمع بصيغة «عالمين» فيقصد منها كل مجموعات هذا العالم.
وفي تفسير نور الثقلين عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في تفسير «ربّ العالمين» قال:
«ربّ العالمين وهم الجماعات من كل مخلوق من الجمادات والحيوانات».
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) إنّ صفتي «الرّحمن» و «الرّحيم» تتكرران في البسملة والحمد، «والملتزمون» بذكر البسملة في السورة يكررون هاتين الصفتين في صلواتهم اليومية الواجبة ثلاثين مرّة، وكذلك في الحمد وبذلك يصفون اللَّه برحمته ستين مرّة يومياً. وهذا في الواقع درس لكل جماعة بشرية سائرة على طريق اللَّه، وتواقة للتخلق بأخلاق اللَّه، أنّه درس يبعد البشرية عن تلك الحالات التي شهدها تاريخ الرق في ظل القياصرة والأكاسرة والفراعنة.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 15
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) الإيمان بيوم القيامة: في هذه السورة تلفت الأنظار إلى أصل مهم آخر من اصول الإسلام، هو يوم القيامة: «مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ» وبذلك يكتمل محور المبدأ والمعاد، الذي يعتبر أساس كل إصلاح أخلاقي واجتماعي في وجود الإنسان.
إنّ تعبير «مالك» يوحي بسيطرة اللَّه التامة وهيمنته المستحكمة على كل شي ء وعلى كل فرد في ذلك اليوم، حيث تحضر البشرية في تلك المحكمة الكبرى للحساب، وتقف أمام مالكها الحقيقي للحساب، وترى كل ما فعلته وقالته، بل وحتى ما فكرت به، حاضراً، فلا يضيع أي شي ء- مهما صغر- ولا ينسى، والإنسان- وحده- يحمل أعباء نتائج أعماله، بل نتائج كل سنّة استنّها في الأرض أو مشروع أقامه.
ومالكية اللَّه في ذلك اليوم دون شك ليست ملكية اعتبارية، نظير ملكيتنا للأشياء في هذا العالم، فملكيتنا هذه عقد يبرم بموجب تعامل ووثائق، وينفسخ بموجب تعامل آخر ووثائق اخرى، لكن ملكية اللَّه لعالم
الكون ملكية حقيقية. وبعبارة اخرى: مالكية اللَّه نتيجة خالقيته وربوبيته، فالذي خلق الموجودات ورعاها وربّاها، وأفاض عليها الوجود لحظة بلحظة، هو المالك الحقيقي للموجودات.
وقد يسأل سائل فيقول: لماذا وصفنا اللَّه بأنّه «مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ» بينما هو مالك الكون كله؟ والجواب هو أنّ اللَّه مالك لعالم الدنيا والآخرة، لكن مالكيته ليوم القيامة أبرز وأظهر، لأنّ الإرتباطات المادية والملكيات الاعتبارية تتلاشى كلها في ذلك اليوم، وحتى الشفاعة لا تتم يومئذ إلّابأمر اللَّه: «يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ» «1».
إنّ الإيمان بيوم القيامة، وبتلك المحكمة الإلهيّة الكبرى التي يخضع فيها كل شي ء للإحصاء الدقيق، له الأثر الكبير في ضبط الإنسان أمام الزلّات، ووقايته من السقوط في المنحدرات، وأحد أسباب قدرة الصلاة على النهي عن الفحشاء والمنكر هو أنّها تذكّر الإنسان بالمبدأ المطلع على حركاته وسكناته وتذكره أيضاً بمحكمة العدل الإلهي الكبرى.
وفي تفسير نور الثقلين عن علىّ بن إبراهيم: كان عليّ بن الحسين عليه السلام: «إذا قرأ «مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ» يكرّرها حتى يكاد أن يموت».
______________________________
(1) سورة الانفطار/ 19.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 16
أمّا تعبير «يَوْمِ الدّينِ» فحيثما ورد في القرآن فهو يعني يوم القيامة، وتكرر ذلك في أكثر من عشرة مواضع من كتاب اللَّه العزيز، وفي الآيات (17 إلى 19) من سورة الإنفطار ورد هذا المعنى بصراحة.
وأمّا سبب تسمية هذا اليوم بيوم الدين، فلأنّ يوم القيامة يوم الجزاء، و «الدين» في اللغة: «الجزاء»، والجزاء أبرز مظاهر القيامة، ففي ذلك اليوم تُكشف السرائر ويُحاسب الناس عمّا فعلوه بدقة، ويرى كل فرد جزاء ما عمله صالحاً أم طالحاً.
وفي تفسير مجمع البيان عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام: «ملك يوم الدّين يعني يوم الحساب». و «الدين» استناداً إلى
هذه الرواية يعني (الحساب).
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) الإنسان بين يدي اللَّه: في هذه الآية يستشعر الإنسان- بعد رسوخ أساس العقيدة ومعرفة اللَّه في نفسه- حضوره بين يدي اللَّه ... يخاطبه ويناجيه، يتحدث إليه أوّلًا عن تعبده، ثم يستمد العون منه وحده دون سواه: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ».
فالآيات السابقة تحدثت عن توحيد الذات والصفات، وهذه الآية تتحدّث عن توحيد العبادة وتوحيد الأفعال.
فتوحيد العبادة: يعني الإعتراف بأنّ اللَّه سبحانه هو وحده اللائق بالعبادة والطاعة والخضوع، وبالتشريع دون سواه، كما يعني تجنب أيّ نوع من العبودية والتسليم لغير ذاته المقدسة.
وتوحيد الأفعال: هو الإيمان بأنّ اللَّه هو المؤثّر الحقيقي في العالم (لا مؤثّر في الوجود إلّا اللَّه). وهذا لا يعني إنكار عالم الأسباب، وتجاهل المسببات، بل يعني الإيمان بأنّ تأثير الأسباب، إنّما كان بأمر اللَّه.
وثمرة هذا الاعتقاد أنّ الإنسان يصبح معتمداً على «اللَّه» دون سواه، ويرى أنّ اللَّه هو القادر العظيم فقط، ويرى ما سواه شبحاً لا حول له ولا قوّة، وهو وحده سبحانه اللائق بالإتكال والاعتماد عليه في كل الامور. وهذا التفكير يحرر الإنسان من الإنشداد إلى أيّ موجود من الموجودات، ويربطه باللَّه وحده. إنّ كلمة «نعبد» و «نستعين» بصيغة الجمع تشير إلى أنّ العبادة- خاصة الصّلاة- تقوم
مختصر الامثل، ج 1، ص: 17
على أساس الجمع والجماعة، وعلى العبد أن يستشعر وجوده ضمن الجمع والجماعة، حتّى حين يقف متضرّعاً بين يدي اللَّه، فما بالك في المجالات الاخرى.
وهذا الاتجاه في العبادة يعني رفض الإسلام لكل ألوان الفردية والإنعزال.
الاستعانة به تعالى في كل الامور: يواجه الإنسان في مسيرته التكاملية قوى مضادة داخلية (في نفسه)، وخارجية (في مجتمعه)، ويحتاج في مقاومة هذه القوى المضادة إلى العون والمساعدة، ومن هنا يلزم
على الإنسان عندما ينهض صباحاً أن يكرر عبارة «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» ليعترف بعبوديته للَّه سبحانه، وليستمد العون منه في مسيرته الطويلة الشاقة، وعندما يجنّ عليه الليل لا يستسلم للرقاد إلّابعد تكرار هذه العبارة أيضاً، والإنسان المستعين حقّاً، هو الذي تتضاءل أمام عينيه كل القوى المتجبّرة المتغطرسة، وكل الجواذب المادية الخادعة، وذلك ما لا يكون إلّاحينما يرتفع الإنسان إلى مستوى القول:
«إِنَّ صَلَاتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ» «1».
السير على الصراط المستقيم: بعد أن يقّر الإنسان بالتسليم لربّ العالمين، ويرتفع إلى مستوى العبودية للَّه والإستعانة به تعالى، يتقدم هذا العبد بأوّل طلب من بارئه، وهو الهداية إلى الطريق المستقيم، طريق الطّهر والخير، طريق العدل والإحسان، طريق الإيمان والعمل الصالح، ليهبه اللَّه نعمة الهداية كما وهبه جميع النعم الاخرى.
فالإنسان في هذه المرحلة مؤمن طبعاً وعارف بربّه، لكنه معرّض دوماً بسبب العوامل المضادة إلى سلب هذه النعمة والانحراف عن الصراط المستقيم.
ثمّة سؤال يتبادر إلى الإذهان عن سبب طلبنا من اللَّه الهداية إلى الصراط المستقيم، تُرى هل نحن ضالون كي نحتاج إلى هذه الهداية؟ وكيف يصدر مثل هذا الأمر عن المعصومين وهم نموذج الإنسان الكامل؟
وفي الجواب نقول: أوّلًا: إنّ الإنسان معرض في كل لحظة إلى خطر التعثر والانحراف عن مسير الهداية ولهذا كان على الإنسان تفويض أمره إلى اللَّه، والإستمداد منه في تثبيت قدمه
______________________________
(1) سورة الأنعام/ 162.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 18
على الصراط المستقيم. ثانياً: إنّ الهداية هي السير على طريق التكامل، حيث يقطع فيه الإنسان تدريجياً مراحل النقصان ليصل إلى المراحل العليا.
وممّا تقدم نفهم سبب تضرع حتى الأنبياء والأئمة عليهم السلام للَّه تعالى ليهديهم «الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ» فالكمال المطلق للَّه تعالى، وجميع ما سواه يسيرون على طريق التكامل، فما الغرابة في أن
يطلب المعصومون من ربّهم درجات عليا.
ولمزيد من التوضيح نذكر الحديث التالى:
في معاني الأخبار عن الإمام جعفر بن محمّد الصّادق عليه السلام قال في تفسير «إِهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ»: «يعني أرشدنا للزوم الطّريق المؤدّي إلى محبّتك، والمبلّغ إلى جنّتك، والمانع من أن نتّبع أهواءنا فنعطب، أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك».
ما هو الصراط المستقيم؟ هذا الصراط كما يبدو من تفحص آيات الذكر الحكيم هو دين التوحيد والالتزام بأوامر اللَّه، ولكنه ورد في القرآن بتعابير مختلفة.
فهو الدين القيّم ونهج إبراهيم عليه السلام ونفي كل أشكال الشرك كما جاء في الآية (161) من سورة الأنعام: «قُلْ إِنَّنِى هَدَينِى رَبّى إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ». فهذه الآية الشريفة عرّفت الصراط المستقيم من ناحية ايديولوجية.
إنّ «الراغب» يقول في مفرداته في معنى الصراط: إنّه الطريق المستقيم، فكلمة الصراط تتضمن معنى الاستقامة ووصفه بالمستقيم كذلك تأكيد على هذه الصفة.
خطّان منحرفان: إنّ هذه الآية تفسير واضح للصراط المستقيم المذكور في الآية السابقة، إنّه صراط المشمولين بأنواع النعم (مثل نعمة الهداية، ونعمة التوفيق، ونعمة القيادة الصالحة، ونعمة العلم والعمل والجهاد والشهادة) لا المشمولين بالغضب الإلهي بسبب سوء فعالهم وزيغ قلوبهم، ولا الضائعين التائهين عن جادة الحق والهدى.
بحثان
1- من هم «الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ»؟ الذين أنعم اللَّه عليهم، تبيّنهم الآية (69) من سورة النساء إذ يقول: «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقًا».
مختصر الامثل، ج 1، ص: 19
نحن- إذن- في سورة الحمد نطلب من اللَّه- صباحاً ومساءاً- أن يجعلنا في خط هذه المجاميع الأربعة: خط الأنبياء، وخط الصديقين، وخط الشهداء، وخط الصالحين، ومن الواضح أنّ علينا أن ننهض في كل
مرحلة زمنيّة بمسؤوليتنا ونؤدّي رسالتنا.
2- من هم «الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ»، ومن هم «الضَّالّينَ»؟ يستفاد من استعمال التعبيرين في القرآن أنّ «المغضوب عليهم» أسوأ وأحطّ من «الضالين» أي إنّ الضالين هم التائهون عن الجادة، والمغضوب عليهم هم المنحرفون المعاندون، أو المنافقون، ولذلك استحقوا لعن اللَّه وغضبه.
في الآية (6) من سورة الفتح يقول تعالى: «وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ».
«الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ». إذن يسلكون- إضافة إلى كفرهم- طريق اللجاج والعناد ومعاداة الحق، ولا يألون جهداً في توجيه ألوان التنكيل والتعذيب لقادة الدعوة الإلهيّة.
«نهاية تفسير سورة الحمد»
مختصر الامثل، ج 1، ص: 21
محتوى السورة: هذه السورة تتميز بشمولها لمبادى ء العقيدة ولكثير من الأحكام العملية (العبادية، والاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية). ففي هذه السورة:
1- موضوعات حول التوحيد ومعرفة الخالق، عن طريق استنطاق أسرار الكون.
2- جولات في عالم المعاد والبعث والنشور مقرونة بأمثلة حسيّة، مثل قصّة إبراهيم عليه السلام وإحياء الطير، وقصّة عُزير عليه السلام.
3- آيات ترتبط بإعجاز القرآن وأهمية كتاب اللَّه العزيز.
4- سرد مطوّل حول وضع اليهود والمنافقين ومواقفهم المعادية للقرآن والإسلام وشدّة ضررهم في هذا المجال.
5- استعراض لتاريخ الأنبياء وخاصة إبراهيم وموسى عليهما السلام.
6- بيان لأحكام إسلامية مختلفة مثل: الصلاة، والصوم، والجهاد، والحج، والقبلة، والزواج والطلاق، والتجارة والدّين، والربا، والإنفاق، والقصاص، وتحريم بعض الأطعمة والأشربة، والقمار، وذكر نبذة من أحكام الوصية وأمثالها.
وأمّا تسميتها بالبقرة، فمأخوذة من قصّة بقرة بني إسرائيل، التي سيأتي شرحها في الآيات (73- 67) إن شاء اللَّه.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 22
فضيلة السورة: في تفسير مجمع البيان: سئل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيّ سور القرآن أفضل؟ قال:
«البقرة». قيل: أيّ آية البقرة أفضل؟ قال: «آية الكرسي».
من
اللازم هنا أن نعيد التأكيد على هذه الحقيقة، وهي أنّ ما ذكر من ثواب وفضيلة وجزاء لتلاوة بعض السور والآيات الخاصة، لا يعني- إطلاقاً- قراءتها بشكل أوراد، ولا الإكتفاء بترديد ألفاظها، بل التلاوة للفهم، والفهم من أجل التفكير، والتفكير لغرض العمل.
صحيح أنّ قراءة القرآن عمل مثاب عليه في أي حال من الأحوال، لكن الثواب الأساس يترتب على التلاوة المقرونة بالتفكير والعمل.
الم (1) ذلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) تحقيق في الحروف المقطعة في القرآن: تسع وعشرون سورة من سور القرآن تبدأ بحروف مقطعة، وهذه الحروف من أسرار القرآن، وذكر المفسرون لها تفاسير عديدة.
جدير بالذكر أنّ التاريخ لم يحدثنا أنّ عرب الجاهلية والمشركين عابوا على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وجود هذه الحروف المقطعة في القرآن، ولم يتخذوا منها وسيلة للطعن والإستهزاء، وهذا يشير إلى أنّهم لم يكونوا جاهلين تماماً بأسرار وجود الحروف المقطعة.
اخترنا عدداً من التفاسير باعتبار مسنديتها وانسجامها مع آخر الدراسات في هذا المجال، وسنذكر هذه التفاسير بالتدريج في بداية هذه السّورة، وسورة آل عمران، وسورة الأعراف، إن شاء اللَّه. ونبدأ الآن بأهمّها:
هذه الحروف إشارة إلى أنّ هذا الكتاب السماوي، بعظمته وأهميته التي حيّرت فصحاء العرب وغير العرب، وتحدّت الجن والإنس في عصر الرسالة وكل العصور، يتكون من نفس الحروف المتيسرة في متناول الجميع.
ومع أنّ القرآن يتكون من هذه الحروف الهجائية والكلمات المتداولة، فإنّ ما فيه من جمال العبارة وعمق المعنى يجعله ينفذ إلى القلب والروح، ويملأ النفس بالرضا والإعجاب، ويفرض احترامه على الأفكار والعقول.
وكما أنّ اللَّه تعالى خلق من التراب موجودات، كالإنسان بما فيه من أجهزة معقّدة محيّرة، وكأنواع الطيور الجميلة الرائقة، والأحياء المتنوعة، والنباتات والزهور المختلفة، وكما أنّنا
مختصر
الامثل، ج 1، ص: 23
ننتج من هذا التراب نفسه ألوان المصنوعات، كذلك اللَّه سبحانه خلق من هذه الحروف الهجائية المتداولة، موضوعات ومعان سامية، في قوالب لفظية جميلة، وعبارات موزونة، وأسلوب خاص، وهذه الحروف الهجائية موجودة تحت تصرف الإنسان، لكنه عاجز عن صنع جمل وعبارات شبيهة بالقرآن.
الأدب في العصر الجاهلي: من المهم أن نذكر هنا أنّ العصر الجاهلي كان عصراً ذهبياً للأدب العربي. فالوثائق المتوفرة بأيدينا تشير إلى أنّ العرب الحفاة الجفاة الجاهليين، كانوا يتمتعون بذوق أدبي رفيع. وكان للأدب سوق رائجة تدلّ على اهتمام العرب بلغتهم وآدابهم، و (سوق عكاظ) وأمثالها من الأسواق الأدبية تعكس هذا الإهتمام بوضوح.
والسوق المذكور كان يشهد- إضافة إلى المعاملات الاقتصادية والقضايا الاجتماعية- حركة أدبية تعرض خلالها أفضل مقطوعات الشعر والنثر، ويتم فيها انتخاب أفضل ما قيل من النظم خلال العام، وكانت القصيدة الفائزة تعدّ فخراً كبيراً للشاعر ولقبيلته.
في مثل هذا العصر من الإنتعاش الأدبي، يتحدى القرآن الناس أن يأتوا بمثله، ولكنهم عجزوا.
الشاهد الناطق على هذا المنحى من تفسير الحروف المقطعة، حديث في تفسير البرهان عن الإمام علىّ بن الحسين عليه السلام حيث يقول: «كذّبت قريش واليهود بالقرآن وقالوا هذا سحر مبين، تقوّله، فقال اللَّه: «الم* ذلِكَ الْكِتَابُ» أي يا محمّد، هذا الكتاب الّذي أنزلته عليك هو الحروف المقطّعة التي منها الف ولام وميم، وهو بلغتكم وحروف هجائكم فأتوا بمثله إن كنتم صادقين واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم».
بعد البسملة وذكر الآية الاولى من سورة البقرة يقول تعالى: «ذلِكَ الْكِتَابُ لَارَيْبَ فِيهِ».
وقوله: «لَارَيْبَ فِيهِ» ليس إدعاء، بل تقرير لحقيقة قرآنية مشهودة، وهي أنّ القرآن يشهد بذاته على حقانيته.
ومن المشهود أنّ مرّ العصور وكرّ الدهور لم يقلل من طراوة القرآن، بل إنّ حقائق القرآن،
ازدادت وضوحاً بتطور العلوم وبانكشاف أسرار الكائنات، وكلما إزداد العلم تكاملًا إزدادت آيات القرآن جلاء وسطوعاً.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 24
بحثان
1- ما هي الهداية؟ كلمة «الهداية» لها عدّة معاني في القرآن الكريم، وكلها تعود أساساً إلى معنيين:
أ) الهداية التكوينية: وهي قيادة ربّ العالمين لموجودات الكون، وتتجلى هذه الهداية في نظام الخليقة والقوانين الطبيعية المتحكمة في الوجود.
ب) الهداية التشريعية: وهي التي تتم عن طريق الأنبياء والكتب السماوية، وعن طريقها يرتفع الإنسان في مدارج الكمال.
2- لماذا اختصت هداية القرآن بالمتقين؟ واضح أنّ القرآن هداية للبشرية جمعاء، فلماذا خصّت الآية الكريمة المتقين بهذه الهداية؟
السبب هو أنّ الإنسان لا يتقبل هداية الكتب السماوية ودعوة الأنبياء، ما لم يصل إلى مرحلة معينة من التقوى (مرحلة التسليم أمام الحق وقبول ما ينطبق مع العقل والفطرة).
الأرض السبخة لا تثمر وإن هطل عليها المطر آلاف المرات، وساحة الوجود الإنساني لا تتقبل بذر الهداية ما لم يتم تطهيرها من اللجاج والتعصب والعناد، ولذلك قال سبحانه في كتابه العزيز أنّه: «هُدًى لِلْمُتَّقِينَ».
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) آثار التقوى في روح الإنسان وبدنه: في بداية هذه السورة قسم القرآن الناس حسب إرتباطهم بخط الإسلام على ثلاثة أقسام:
1- المتقون: وهم الذين تقبلوا الإسلام في جميع أبعاده.
2- الكافرون: ويقعون في النقطة المقابلة للمتقين، ويعترفون بكفرهم، ولا يأبون أن يظهروا عداءهم للإسلام في القول والعمل.
3- المنافقون: ولهم وجهان، فهم مسلمون ظاهراً أمام المسلمين، وكفار أمام أعداء الدين، وشخصيتهم الأصلية هي الكفر طبعاً وإن تظاهروا بالإسلام.
مختصر الامثل، ج 1،
ص: 25
المجموعة الثالثة تضر بالإسلام- دون شك- أكثر من المجموعة الثانية، ولذلك فإنّ القرآن يقابلهم بشدة أكثر كما سنرى.
الآيات المذكورة تدور حول المجموعة الاولى، وتطرح خصائصهم في خمسة عناوين هي:
1- الإيمان بالغيب: «الغيب والشهود» نقطتان متقابلتان، عالم الشهود هو عالم المحسوسات، وعالم الغيب هو ما وراء الحس. لأنّ «الغيب» في الأصل يعني ما بطن وخفي، وقيل عن عالم ماوراء المحسوسات «غيب» لخفائه عن حواسنا.
الإيمان بالغيب هو بالضبط النقطة الفاصلة الاولى بين المؤمنين بالأديان السماوية، وبين منكري الخالق والوحي والقيامة، ومن هنا كان الإيمان بالغيب أوّل سمة ذكرت للمتقين.
«المؤمنين بالغيب» يعتقدون أنّ خالق عالم الوجود غير متناه في العلم والقدرة والإدراك، وأنّه أزلي وأبدي.
وأنّ الموت ليس بمعنى العدم والفناء، بل هو نافذة تطل على عالم أوسع وأكبر.
بينما الإنسان المادي يعتقد أنّ عالم الوجود محدود بما نلمسه ونراه، وأنّ العالم وليد مجموعة من القوانين الطبيعية العمياء الخالية من أي هدف أو تخطيط أو عقل أو شعور، والإنسان جزء من الطبيعة ينتهي وجوده بموته.
ما أكبر الهوّة التي تفصل بين هاتين الرؤيتين للكون والحياة.
الرؤية الاولى تربّي صاحبها على أن ينشد الحق والعدل والخير ومساعدة الآخرين، والثانية، لا تقدم لصاحبها أي مبرر على ممارسة الامور.
من هنا يسود في حياة المؤمنين الحقيقيين التفاهم والإخاء والطهر والتعاون، بينما تهيمن على حياة الماديين روح الاستعمار والاستغلال وسفك الدماء والنهب والسلب، وهذه الرؤية المادية تقمصت في عصرنا الصفات العلمية والتقدمية والتطورية. ولهذا السبب نرى القرآن يتخذ من «الإيمان بالغيب» نقطة البداية في التقوى.
2- الإرتباط باللَّه: الصفة الاخرى للمتقين هي أنّهم: «يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ».
«الصّلاة» باعتبارها رمز الإرتباط باللَّه، تجعل المؤمنين المنفتحين على عالم ماوراء الطبيعة على إرتباط دائم بالخالق العظيم، فهم لا يحنون رؤوسهم إلّاأمام اللَّه، ولا
يستسلمون إلّالربّ السماوات والأرض.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 26
مثل هذا الإنسان يشعر أنّه أسمى من جميع المخلوقات الاخرى، إذ أنّه منح لياقة الحديث مع ربّ العالمين، وهذا الإحساس الوجداني أكبر عامل في تربية الموجود البشري.
3- الإرتباط بالناس: المتقون- إضافة إلى إرتباطهم الدائم بالخالق- لهم إرتباط وثيق ومستمر بالمخلوقين، ومن هنا كانت الصفة الثالثة التي يبيّنها لهم القرآن أنّهم «وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ».
يلاحظ أنّ القرآن لا يقول: ومن أموالهم ينفقون، بل يقول: «وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ» وبذلك وسّع نطاق الإنفاق ليشمل المواهب المادية والمعنوية.
فالمتقون لا ينفقون أموالهم فحسب، بل ينفقون من علمهم ومواهبهم العقلية وطاقاتهم الجسميّة ومكانتهم الاجتماعية، وبعبارة اخرى ينفقون من جميع إمكاناتهم لمن له حاجة إلى ذلك دون توقع الجزاء منه.
4- الإيمان بالأنبياء عليهم السلام: الخاصة الرابعة للمتقين الإيمان بجميع الأنبياء وبرسالاتهم الإلهيّة، «وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ». وفي هذا التعبير القرآني إشارة إلى أنّ المتقين يؤمنون بأنّ الأديان الإلهيّة ليست وسيلة للتفرقة والنفاق، بل على العكس وسيلة للإرتباط وعامل للشدّ بين أبناء البشر.
5- الإيمان بيوم القيامة: آخر صفة في هذه السلسلة من الصفات التي قررها القرآن للمتقين: «وَبِالْأَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ».
إنّهم يوقنون بأنّ الإنسان لم يخلق هملًا وعبثاً. فالخليقة عيّنت للكائن البشري مسيرة تكاملية لا تنتهي إطلاقاً بموته.
المتقون يقرّون بأنّ عدالة اللَّه المطلقة تنتظر الجميع، ولا شي ء من أعمال البشر في هذه الدنيا يبقى بدون جزاء.
الإيمان بيوم القيامة له أثر عميق في تربية الإنسان، يهبه الشجاعة والشهامة، لأنّ أسمى وسام يتقلده الإنسان في هذا العالم هو وسام «الشهادة» على طريق هدف مقدس إلهي، والشهادة أحبّ شي ء للإنسان المؤمن، وبداية لسعادته الأبدية.
الإيمان بيوم القيامة يصون الإنسان من ارتكاب الذنوب. فكلما قوي الإيمان قلت الذنوب.
آخر
آية في هذا البحث تشير إلى النتيجة التي يتلقاها المؤمنون المتصفون بالصفات
مختصر الامثل، ج 1، ص: 27
الخمس المذكورة. تقول: «أُوْلئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».
وقد ضمن ربّ العالمين لهؤلاء هدايتهم وفلاحهم.
واستعمال حرف (على) في عبارة «عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ» يوحي بأنّ الهداية الإلهيّة مثل سفينة يركبها هؤلاء المتّقون لتوصلهم إلى السعادة والفلاح.
واستعمال كلمة «هدًى» في حالة نكرة يشير إلى عظمة الهداية التي شملهم اللَّه بها.
وجملة «هُمُ الْمُفْلِحُونَ» يفيد الإنحصار كما يذكر علماء البلاغة، أي إنّ الطريق الوحيد للفلاح هو طريق هؤلاء المفلحين.
ما هي حقيقة التقوى؟ التقوى من الوقاية، أي الحفظ والصيانة، وهي بعبارة اخرى جهاز الكبح الداخلي الذي يصون الإنسان أمام طغيان الشهوات.
إنّ حالة التقوى والضبط المعنوي من أوضح آثار الإيمان باللَّه واليوم الآخر، ومعيار فضيلة الإنسان وافتخاره، ومقياس شخصيته في الإسلام، حتى أضحت الآية الكريمة: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَيكُمْ» «1» شعاراً إسلامياً خالداً.
جدير بالذكر أنّ التقوى ذات شعب وفروع، منها التقوى المالية والاقتصادية، والتقوى الاجتماعية والسياسية والتقوى الجنسية ....
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَ عَلَى سَمْعِهِمْ وَ عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) المجموعة الثانية: الكفار المعاندون: هذه المجموعة تقف في النقطة المقابلة تماماً للمتقين، والآيتان المذكورتان بيّنتا باختصار صفات هؤلاء. الآية الاولى تقول: إنّ الإنذار لا يجدي نفعاً مع هؤلاء، فهم متعنّتون في كفرهم «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ». بعكس الطائفة الاولى المستعدّة لقبول الحق لدى أوّل ومضة.
هذه المجموعة غارقة في ضلالها وترفض الإنصياع للحق حتى لو اتضح لديها، لأنّهم يفتقدون الأرضية اللازمة لقبول الحق والاستسلام له.
الآية الثانية تشير إلى
سبب هذا اللجاج والتعصب وتقول: «خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى
______________________________
(1) سورة الحجرات/ 13.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 28
سَمْعِهِمْ وَعَلَى أبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ» ولذلك استحقوا أن يكون «وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ».
الإنسان قابل للهداية طبعاً- إن لم يصل إلى هذه المرحلة- مهما بلغ به الضلال، أمّا حينما يبلغ في درجة يفقد معها حسّ التشخيص «فلات حين نجاة» لأنّه افتقد أدوات الوعي والفهم، ومن الطبيعي أن يكون في إنتظاره عذاب عظيم.
بحوث
1- سلب قدرة التشخيص ومسألة الجبر: أوّل سؤال يطرح في هذا المجال يدور حول مسألة الجبر، التي قد تتبادر إلى الأذهان من قوله تعالى: «خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ». فهذا الختم يفيد بقاء هؤلاء في الكفر إجباراً، دون أن يكون لهم اختيار في الخروج من حالتهم هذه، أليس هذا بجبر؟
القرآن الكريم يجيب على هذه التساؤل ويقول: إنّ هذا الختم وهذا الحجاب هما نتيجة إصرار هؤلاء ولجاجهم وتعنّتهم أمام الحق، واستمرارهم في الظلم والطغيان والكفر، يقول تعالى: «بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ» «1».
هذه الحالة التي تصيب الإنسان، هي ردّ فعل لأعمال الإنسان نفسه.
من المظاهر الطبيعية في الموجود البشري، أنّ الإنسان لو تعوّد على انحراف واستأنس به، يتخذ في المرحلة الاولى ماهية ال «حالة» ثم يتحول إلى «عادة» وبعدها يصبح «ملكة» وجزء من تكوين الإنسان حتى يبلغ أحياناً درجة لا يستطيع الإنسان أن يتخلّى عنها أبداً.
لكن الإنسان إختار طريق الانحراف هذا عن علم ووعي، ومن هنا كان هو المسؤول عن عواقب أعماله، دون أن يكون في المسألة جبر، تماماً مثل شخص فقأ عينيه وسدّ أذنيه عمداً، كى لا يسمع ولا يرى.
ولو رأينا أنّ الآيات تنسب الختم وإسدال الغشاوة إلى اللَّه، فذلك لأنّ اللَّه هو الذي منح الانحراف
مثل هذه الخاصية. (تأمّل بدقّة).
2- الختم على القلوب: في الآيات المذكورة وآيات اخرى عبّر القرآن عن عملية سلب حسّ التشخيص والإدراك الواقعي للأفراد بالفعل «ختم» وأحياناً بالفعل «طبع» و «ران».
في اللغة «خَتَمَ» الإناء بمعنى سدّه بالطين أو غيره، وأصلها من وضع الختم على الكتب
______________________________
(1) سورة النّساء/ 155.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 29
والأبواب كي لا تُفتح، والختم اليوم مستعمل في الإستيثاق من الشّي ء والمنع منه كختم سندات الأملاك والرسائل السرّية الهامة. و «طبع» بمعنى ختم أيضاً.
أمّا «ران» فمن «الرين» وهو صدأ يعلو الشي ء الجليّ، واستعمل القرآن هذه الكلمة في حديثه عن قلوب الغارقين في أوحال الفساد والرّذيلة: «كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» «1».
المهم أنّ الإنسان ينبغي أن يكون حذراً لدى صدور الذنب منه، فيسارع إلى غسله بماء التوبة والعمل الصالح، كي لا يتحول إلى صفة ثابتة مختوم عليها في القلب.
3- المقصود من «القلب» في القرآن: لماذا نسب إدراك الحقائق في القرآن إلى القلب، بينما القلب ليس بمركز للإدراك بل مضخة لدفع الدم إلى البدن؟
أنّ القلب في القرآن له معان متعددة منها:
1- بمعنى العقل والإدراك كقوله تعالى: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ» «2».
2- بمعنى الروح والنفس كقوله سبحانه: «وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ» «3».
3- بمعنى مركز العواطف كقوله: «سَأُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ» «4».
لمزيد من التوضيح نقول: في وجود الإنسان مركزان قويان هما:
أ) مركز الإدراك، ويتكون من الدماغ وجهاز الأعصاب.
ب) مركز العواطف، وهو عبارة عن هذا القلب الصنوبري الواقع في الجانب الأيسر من الصدر، والمسائل العاطفية تؤثر أوّل ما تؤثر على هذا المركز.
حينما نواجه مصيبة فإنّنا نحسّ بثقلها على هذا القلب الصنوبري، وحينما يغمرنا الفرح فإنّنا نحسّ بالسرور والإنشراح
في هذا المركز (لاحظ بدقّة).
صحيح أنّ المركز الأصلى للإدراك والعواطف هو الروح والنفس الإنسانية، لكن المظاهر
______________________________
(1) سورة المطفّفين/ 14.
(2) سورة ق/ 37.
(3) سورة الأحزاب/ 10.
(4) سورة الأنفال/ 12.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 30
وردود الفعل الجسمية لها مختلفة. ردود فعل الفهم و الإدراك تظهر أوّلًا في جهاز الدماغ، بينما ردود فعل القضايا العاطفية كالحب والبغض والخوف والسكينة والفرح والهمّ تظهر في القلب بشكل واضح، ويحسّها الإنسان في هذا الموضوع من الجسم.
ممّا تقدم نفهم سبب إرتباط المسائل العاطفية في القرآن بالقلب (العضو الصنوبري المخصوص)، وإرتباط المسائل العقلية بالقلب (أي: العقل أو الدماغ).
وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ مَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ مَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَ نُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَ لكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَ إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَ إِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَ مَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) المجموعة الثالثة: المنافقون: الإسلام واجه في عصر انبثاق الرسالة مجموعة لم تكن تملك الإخلاص اللازم للإيمان، ولا القدرة اللازمة للمعارضة. هذه المجموعة المذبذبة المصابة بازدواج الشخصية كان تشخيصهم صعباً لأنّهم متظاهرون بالإسلام، غير أنّ القرآن بيّن بدقّة مواصفاتهم
وأعطى للمسلمين في كل القرون والأعصار معايير حيّة لمعرفتهم. الآيات المذكورة قبلها بينت في مطلعها الخط العام للنفاق والمنافقين «1»: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْأَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ».
______________________________
(1) «المنافق»: مشتقة من «النفق» و هو الطريق النافذ فى الأرض المحفور فيها للإستتار أو الفرار.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 31
هؤلاء يعتبرون عملهم المذبذب هذا نوعاً من الشطارة والدهاء «يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا». بينما لا يشعر هؤلاء أنّهم يسيئون بعملهم هذا إلى أنفسهم، ويبدّدون بانحرافهم هذا طاقاتهم، ولا يجنون من ذلك إلّاالخسران والعذاب الإلهي. «وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّاأَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ».
في الآية التالية يبيّن القرآن أنّ النفاق في حقيقته نوع من المرض، فإنّ الإنسان السالم له وجه واحد فقط، وفي ذاته انسجام تام بين الروح والجسد، لأنّ الظاهر والباطن، والروح والجسم، يكمل أحدهما الآخر. إذا كان الفرد مؤمناً فالإيمان يتجلّى في كل وجوده، وإذا كان منحرفاً فظاهره وباطنه يدلان على انحرافه.
وازدواجية الجسم والروح مرض آخر وعلّة إضافية. إنّه نوع من التضاد والانفصال في الشخصية الإنسانية: «فِى قُلُوبِهِم مَرَضٌ».
وبما أنّ سنّة اللَّه في الكون اقتضت أن يتيسّر الطريق لكل سالك، وأن تتوفر سبل التقدم لكل من يجهد في وضع قدمه على الطريق. فقد أضاف القرآن قوله: «فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا».
وبما أنّ الكذب رأس مال المنافقين، يبررون به ما في حياتهم من متناقضات، ولهذا أشار القرآن في ختام الآية إلى هذه الحقيقة: «وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ».
ثم تستعرض الآيات خصائص المنافقين، وتذكر أوّلًا أنّهم يتشدّقون بالإصلاح، بينما هم يتحركون على خط التخريب والفساد: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَاتُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ* أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِن لَّايَشْعُرُونَ».
ذكرنا سابقاً أنّ الإنسان، لو تمادى في الغيّ والضلال، يفقد قدرة التشخيص،
بل تنقلب لديه الموازين، ويصبح الذنب والإثم جزءً من طبيعته. والمنافقون أيضاً بإصرارهم على انحرافهم يتطبّعون بخط النفاق، وتتراءى لهم أعمالهم بالتدريج وكأنّهم أعمال إصلاحية، وتغدو بصورة طبيعة ثانية لهم.
علامتهم الاخرى: إعتدادهم بأنفسهم واعتقادهم أنّهم ذووا عقل وتدبير، وأنّ المؤمنين سفهاء وبسطاء: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُوا كَمَا ءَامَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا ءَامَنَ السُّفَهَاءُ».
وهكذا تنقلب المعايير لدى هؤلاء المنحرفين، فيرون الإنصياع للحق وإتّباع الدعوة الإلهيّة سفاهة، بينما يرون شيطنتهم وتذبذبهم تعقلًا ودراية! غير أنّ الحقيقة عكس ما يرون: «أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلكِن لَّايَعْلَمُونَ». أليس من السفاهة أن يضيّع الإنسان
مختصر الامثل، ج 1، ص: 32
وحدة شخصيته، ويتّجه نحو إزدواجية الشخصية وتعدد الشخصيات في ذاته، ويهدر بذلك طاقاته على طريق التذبذب والتآمر والتخريب، وهو مع ذلك يعتقد برجاحة عقله؟! العلامة الثالثة لهؤلاء، هي تلونهم بألوان معينة تبعاً لما تفرضه عليهم مصالحهم، فهم انتهازيون يظهرون الولاء للمؤمنين ولأعدائهم من الشياطين: «وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهزِءُونَ».
وبلهجة قوية حاسمة يرد القرآن الكريم على هؤلاء ويقول: «اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ» «1».
الآية الأخيرة توضّح المصير الأسود المظلم لهؤلاء المنافقين، وخسارتهم في سيرتهم الحياتية الضّالة: «أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّللَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ».
إنّ إزدواجية الشخصية، والتضاد بين المحتوى الداخلي والسلوك الخارجي في وجود المنافقين، يفرز ظواهر عديدة بارزة مشهودة في أعمالهم وأقوالهم وسلوكهم الفردي والاجتماعي.
سعة معنى النفاق: النفاق في مفهومه الخاص صفة اولئك الذين يظهرون الإسلام، ويبطنون الكفر، لكن النفاق له معنىً عام واسع يشمل كل ازدواجية بين الظاهر والباطن، وكل افتراق بين القول والعمل، من هنا قد يوجد في قلب المؤمن بعض ما نسميه
«خيوط النفاق».
ففي الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «ثلاث من كنّ فيه كان منافقاً وإن صام وصلّى وزعم أنّه مسلم: من إذا ائتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف» «2».
الحديث لا يدور هنا طبعاً عن المنافق بالمعنى الخاص، بل عن الذي في قلبه خيوط من النفاق، تظهر على سلوكه بأشكال مختلفة، وخاصة بشكل رياء، كما جاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: «الرّياء شجرة لا تُثمر إلّاالشّرك الخفيّ وأصلها النّفاق» «3».
______________________________
(1) «يعمهون»: من «العَمَه» أي التردّد في الأمر، وأيضاً بمعنى عمى القلب والبصيرة بسبب التحيّر.
(2) بحار الأنوار 69/ 108/ 8.
(3) بحار الأنوار 69/ 300/ 37.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 33
خداع الضمير: الآية المذكورة تشير بوضوح إلى حقيقة خداع الضمير والوجدان، وأنّ الإنسان المنحرف الملوّث كثيراً ما يعمد إلى خداع نفسه ووجدانه للتخلص من تأنيب الضمير، ويصبح بالتدريج مقتنعاً بأنّ قبائحه ليست عملًا انحرافياً، بل هي أعمال إصلاحية «إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ». وبذلك يخدعون أنفسهم ويستمرون في غيّهم.
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَ اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَ إِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (20) مثالان رائعان لوصف حالة المنافقين: بعد أن بيّن القرآن صفات المنافقين وخصائصهم، يقدّم مثالين متحركين لتجسيم وضعهم:
1- «مَثَلُهُمْ» المنافقين «كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَارًا» في ليلة مظلمة، كي يهتدي
بها في الطريق ويبلغ مقصده، «فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِى ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ».
لقد ظن هؤلاء أنّهم قادرون على أن يحققوا أهدافهم بما لديهم من إمكانات إنارة محدودة، ولكن نارهم سرعان ما انطفأت بسبب عوامل جوّية، أو بسبب نفاد الوقود، وظلوا حائرين لا يهتدون سبيلًا.
ثم تضيف الآية الكريمة أنّ هؤلاء فقدوا كل وسيلة لدرك الحقائق: «صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ».
هذا النور الضعيف المؤقّت، إمّا أن يكون إشارة إلى الضمير والفطرة التوحيدية، أو إشارة إلى الإيمان الأوّلي لهؤلاء المنافقين حيث اسدلت عليه ستائر مظلمة على أثر التقليد الأعمى والتعصب المقيت واللجاج والعداء، فتحولت ساحة حياتهم لا إلى ظلمة، بل إلى
مختصر الامثل، ج 1، ص: 34
«ظلمات» في التعبير القرآني.
هذا التشبيه يوضّح واحدة من حقائق النفاق، وهي أنّ عمر النفاق والتذبذب لا يدوم طويلًا، قد يستطيع المنافقون لمدّة قصيرة أن يتمتعوا بمصونية الإسلام والإيمان، وبصداقة الكفار سرّاً، لكن هذه الحالة مثل شعلة ضعيفة معرضة لألوان العواصف، سرعان ما تنطفى، ويظهر الوجه الحقيقي للمنافقين. 2- في المثال الثاني صوّر القرآن حياة المنافقين بشكل ليلة ظلماء مخوفة خطرة، يهطل فيها مطر غزير، وينطلق من كل ناحية منها نور يكاد يخطف الأبصار، ويملأ الجوّ صوت مهيب مرعب يكاد يمزّق الآذان، وفي هذا المناخ القلق ضلّ مسافرٌ طريقه، وبقي في بلقع فسيح لا ملجأ فيه ولا ملاذ، لا يستطيع أن يحتمي من المطر الغزير، ولا من الرعد والبرق، ولا يهتدي إلى طريق لشدّة الظلام. هذه الصورة يرسمها القرآن على النحو التالي: «أوْ كَصَيّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أصَابِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ* يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أضَاءَ لَهُم مَّشَوْا
فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا».
هؤلاء يحسّون كل لحظة بخطر، لأنّهم يطؤون صحراء لا جبال فيها ولا أشجار تحميهم من خطر الرعد والبرق والصواعق.
نعم، هؤلاء حيارى مضطربون، لا يجدون طريقاً يسلكونه، ولا دليلًا يهتدون به، خطر صوت الرعد يهدّد أسماعهم، ونور البرق يكاد يذهب بأبصارهم «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».
هذه الآيات- وإن كانت تتحدث عن المنافقين في عصر نزول الوحي- تمتد لتشمل كل المنافقين في التاريخ، لأنّ خطّ النفاق يقف دوماً بوجه الخط الثوري الصادق الصحيح، ونحن نرى بأعيننا اليوم مدى انطباق ما يقوله القرآن على منافقي عصرنا بدقّة. نرى حيرتهم وخوفهم واضطرابهم، ونرى تعاستهم وبؤسهم وانفضاحهم تماماً مثل تلك المجموعة المسافرة الهائمة في صحراء مقفرة وفي ليلة ظلماء موحشة.
أمّا بشأن الفرق بين المثالين: إنّ قوله تعالى: «مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى ...» يصور حالة المنافقين الذين انخرطوا في صفوف المؤمنين عن اعتقاد حقيقي، ثم تزعزعوا واتّجهوا نحو النفاق. أمّا قوله: «كَصَيّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ ...» فيمثل حالة المنافقين الذين كانوا منذ البداية في صف النفاق، ولم يؤمنوا باللَّه قط.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 35
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَ السَّمَاءَ بِنَاءً وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) فيما سبق من آيات كتاب اللَّه سبحانه تبيّن ثلاث مجموعات هي: مجموعة المتّقين، ومجموعة الكافرين، ومجموعة المنافقين. أمّا الآيات المذكورة فدعت الناس إلى انتخاب طريق المجموعة الاولى وإلى عبادة اللَّه الواحد الأحد. يقول اللَّه تعالى: «يَا أيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ».
1- قوله
تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ» تكرر في القرآن عشرين مرّة تقريباً، وهو نداء عام شامل يشير إلى أنّ القرآن لا يختص بعنصر أو قبيلة أو طائفة أو فئة خاصة، بل يوجّه دعوته إلى البشرية عامة لعبادة اللَّه، وللثورة على كل ألوان الشرك والانحراف عن طريق التوحيد.
2- يركّز القرآن، في دعوته إلى عبادة اللَّه وإلى شكر اللَّه، على نعمة خلق البشر، وهى نعمة تتجلى فيها قدرة اللَّه كما يتجلى فيها علم اللَّه و حكمته.
3- نتيجة هذه العبادة هي التقوى: «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» فعباداتنا لا تزيد اللَّه عظمة وجلالًا، كما أنّ إعراضنا عن العبادة لا ينقص من عظمة اللَّه شيئاً، هذه العبادات مدرسة لتعليم التقوى.
4- عبارة «الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ» لعلّها ردّ على استدلال المشركين الذين برروا عبادتهم للأصنام بتمسكهم بسنة آبائهم والآية الكريمة تشير بهذه العبارة إلى أنّ اللَّه الواحد الأحد، خالق البشر وخالق آبائهم، وكل شرك يعتري المسيرة البشرية في حاضرها وسالفها هو انحراف عن الخط الصحيح.
نِعَم الأرض والسماء: الآية التالية استعرضت قسماً آخر من النعم الإلهيّة التي تستحق الشكر، ذكرت أوّلًا خلق الأرض: «الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا».
إنّ تعبير «فراش» يصوّر بشكل رائع مفهوم الاستقرار والاستراحة.
في تفسير نور الثقلين هذه الحقيقة يعبّر عنها الإمام علىّ بن الحسين عليه السلام مفسراً هذه
مختصر الامثل، ج 1، ص: 36
الآية إذ يقول: «جعلها ملائمةً بطبائعكم، موافقةً لِأجسادكم ولم يجعلها شديدة الحماء والحرارة فتحرقكم ولا شديدة البرودة فتجمدكم ولا شديد طيب الريح فتصدع هاماتكم ولا شديد النّتن فتعطبكم ولا شديدة اللّين كالماء فتغرقكم ولا شديدة الصّلّابة فتمتنع عليكم في دوركم وأبنيتكم وقبور موتاكم ... فلذلك جعل الأرض فراشاً لكم». ثم تتعرض الآية إلى نعمة السماء فتقول: «وَالسَّمَاءَ بِنَاءً».
كلمة «سماء» وردت في القرآن
بمعان مختلفة، وكلها تشير إلى العلو، وأحد معاني السماء «جوّ الأرض» وهو المقصود في الآية الكريمة، وجوّ الأرض هو الطبقة الهوائية الكثيفة المحيطة بالكرة الأرضية، ويبلغ سمكها عدّة مئات من الكيلومترات.
هذه الطبقة الهوائية مثل سقف شفاف يحيط بكرتنا الأرضية من كل جانب، ولو لم يكن هذا السقف لتعرضت الأرض دوماً إلى رشق الشهب والنيازك السماوية المتناثرة، ولما كان للبشر أمان ولا استقرار على ظهر هذا الكوكب.
بعد ذلك تطرقت الآية إلى نعمة المطر: «وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً». ماءً يحي الأرض ويخرج منها الثمرات.
ثم تشير الآية إلى نعمة الثمرات التي تخرج من بركة الأمطار لتكون رزقاً لبني البشر «فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ».
وإخراج الثمرات مدعاة للشكر على رحمة ربّ العالمين لعباده، ومدعاة للإذعان بقدرة ربّ العالمين في إخراج ثمر مختلف ألوانه، من ماء عديم اللون، ليكون قوتاً للإنسان والحيوان، لذلك عطف عليها قوله تعالى: «فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ».
«الأنداد»: جمع «نِد» على وزن ضدّ، وهو الشبيه والشريك. وبعبارة أدق: ندّ الشي ء ونديده مشاركة في جوهره، وذلك ضرب من المماثلة، أي المماثلة في جوهر الذات.
الشّرك في أشكال مختلفة: إنّ الشّرك باللَّه لا ينحصر باتّخاذ الأوثان الحجرية والخشبية آلهة من دون اللَّه كما يفعل الوثنيون، بل إنّ للشرك معنى أوسع، وبشكل عام كل اعتقاد بوجود أشياء لها نفس تأثير اللَّه في الحياة هو نوع من الشرك. وهذا ما يعبّر عنه ابن عبّاس إذ يقول: «الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: واللَّه وحياتك يا فلان وحياتي. ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة، ولولا
مختصر الامثل، ج 1، ص: 37
البط في الدار لأتى اللصوص. وقول الرجل لصاحبه: ما شاء اللَّه
وشئت! وقول الرجل: لولا اللَّه وفلان ... هذا كله به شرك» «1».
مثل هذه التعابير التي يشمّ منها رائحة الشرك رائجة- مع الأسف- بين سواد المسلمين وغير لائقة بالشخص الموحّد، كقولهم: اعتمادي على اللَّه وعليك!
وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) القرآن معجزة خالدة: ظاهرة الكفر والنفاق، تنشأ أحياناً عن عدم فهم محتوى النبوّة ومعجزة الرسول صلى الله عليه و آله، والآيات التي نحن بصددها تعالج هذه المسألة، وتركز على المعجزة القرآنية الخالدة كي تزيل كل شك وترديد في رسالة نبيّ الخاتم صلى الله عليه و آله. تقول الآية: «وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ».
وبهذا الشكل تحدى القرآن كل المنكرين أن يأتوا بسورة من مثله، كي يكون عجزهم دليلًا واضحاً على أصالة هذا الوحي السماوي وعلى الجانب الإلهي للرسالة والدعوة.
ولأجل أن يؤكد هذا التحدي دعاهم أن لا يقوموا بهذا العمل منفردين، بل «وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».
كلمة «شهداء» تشير إلى الفئة التي كانت تساعدهم في رفض رسالة النبي صلى الله عليه و آله وعبارة «مِّن دُونِ اللَّهِ» إشارة إلى عجز جميع البشر عن الإتيان بسورة قرآنية ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، وإلى قدرة اللَّه وحده على ذلك.
وعبارة «إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ» تستهدف حثّهم على قبول هذا التحدي، ومفهومها: لو عجزتم عن هذا العمل فذلك دليل كذبكم، فانهضوا إذن لإثبات ادعائكم.
من هنا فسياق الآيات التالية، يركز على عنصر الإثارة ويقول: «فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ
الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ». وهذه النار ليست حديث مستقبل، بل هي واقع قائم: «أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ».
______________________________
(1) تفسير في ظلال القرآن 1/ 53.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 38
جمع من المفسرين قالوا: إنّ المقصود بالحجارة: الأصنام الحجرية، واستشهدوا لذلك بالآية (98) من سورة الأنبياء: «إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ».
ويبدو من ظاهر الآيات المذكورة، أنّ نار جهنم تستعر من داخل الناس والحجارة، ولا يصعب فهم هذه المسألة لو علمنا أنّ العلم الحديث أثبت أنّ كل أجسام العالم تنطوي في أعماقها على نار عظيمة.
وفي الآيتي (6 و 7) من سورة الهمزة يقول تعالى: «نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ* الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفِدَةِ». خلافاً لنيران هذا العالم التي تنفذ من الخارج إلى الداخل.
بحثان
1- لماذا يحتاج الأنبياء إلى المعجزة؟ «المعجزة»- كما هو واضح من لفظها- عمل خارق يأتي به النبي ويعجز عن الإتيان به الآخرون.
على النبي صاحب المعجزة أن يتحدى الناس بمعجزته، وأن يعلن لهم أنّ معجزته دليل على صدق دعواه.
2- القرآن معجزة نبيّ الأكرم الخالدة: القرآن كتاب يسمو على أفكار البشر، هذا الكتاب الكريم يعتبر- بين معاجز النبي صلى الله عليه و آله- أقوى سند حي على نبوّة الرسول الخاتم، لأنّه معجزة «ناطقة» و «خالدة» و «عالمية» و «معنوية».
أما أنّه معجزة «ناطقة» فإنّ معاجز الأنبياء السابقين لم تكن كذلك، أي أنّها كانت بحاجة إلى وجود النبي لكي يتحدث للناس عن معجزته ويتحداهم بها، ومعاجز النبي الخاتم- عدا القرآن- هي من هذا اللون، أمّا القرآن فمعجزة ناطقة، لا يحتاج إلى تعريف، يدعو لنفسه بنفسه، يتحدى بنفسه المعارضين ويدينهم ويخرج منتصراً من ساحة التحدي، وهو يتحدى اليوم جميع البشر كما كان يتحداهم في عصر الرسالة، أنّه دين ومعجزة، أنّه قانون، ووثيقة تثبت
إلهيّة القانون.
أمّا الخلود والعالمية: فإنّ القرآن حطّم سدود «الزمان والمكان» فهو يطلع علينا اليوم كما طلع على عرب الجاهلية قبل قرون، وما لا يرتبط بزمان أو مكان فإنّه يحوي عناصر الدوام والخلود وسعة دائرته العالمية، وبديهي أنّ الدين العالمي الخالد بحاجة إلى مثل هذه الوثيقة العالمية الخالدة.
أمّا الصّفة «المعنوية» للقرآن فنفهمها حين ننظر إلى معاجز الأنبياء السابقين، ونرى أنّها
مختصر الامثل، ج 1، ص: 39
كانت غالباً «جسمية» مثل: شفاء الأمراض الجسمية المستعصية، وتحدث الطفل في المهد ...
وكانت تتجه نحو تسخير الأعضاء البدنية. أمّا القرآن، فيسخر القلوب والنفوس، ويبعث فيها الإعجاب والإكبار، إنّه يتعامل مع الأرواح والأفكار والعقول البشرية، وواضح امتياز مثل هذه المعجزة على المعاجز الجسمية.
وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَ أُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَ لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) خصائص نِعَم الجنة: آخر آية في بحثنا السابق تحدثت عن مصير الكافرين، وهذه الآية تتحدث عن مصير المؤمنين، كي تتضح الحقيقة أكثر بالمقارنة بين الصورتين، على الطريقة القرآنية في التوضيح. في المقطع الأوّل تقول الآية: «وَبَشّرِ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ».
نعلم أنّ البساتين التي تفتقد الماء الدائم، وتسقى بين حين وحين ليس لها حظ كبير من النظارة، فالنظارة تطفح على البساتين التي تمتلك ماء سقي دائم مستمر لا ينقطع أبداً، ومثل هذه البساتين لا يعتريها جفاف ولا تهددها شحة ماء. وهذه هي بساتين الجنة.
وبعد الإشارة إلى ثمار الجنة المتنوعة تقول الآية: «كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُوا هذَا الَّذِى رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ».
ثم تقول الآية: «وَأُتُوا
بِهِ مُتَشَابِهًا». أي متشابهاً في الجودة والجمال، فهذه الثمار بأجمعها فاخرة بحيث لا يمكن ترجيح إحداها على الاخرى.
وآخر نعمة تذكرها الآية هي: «أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ» من كل أدران الروح والقلب والجسد.
أحد منغّصات نعم الدنيا زوالها، ومن هنا فلا تكون هذه النعم عادة باعثة على السعادة والإطمئنان، أمّا نِعم الجنة ففيها السعادة والطمأنينة لأنّها خالدة لا يعتريها الزوال والفناء، وإلى هذه الحقيقة تشير الآية في خاتمتها وتقول: «وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».
بحثان
1- الأزواج المطهرة: مما يلفت النظر في هذه الآية أنّ الوصف الوحيد الذي استعمله
مختصر الامثل، ج 1، ص: 40
القرآن لمدح الأزواج في جنات النعيم هو أنّها «مطهرة»، وهي إشارة إلى أول شرط في الزوجة هو «الطهر»، وكل ما سواه من الشروط والأوصاف ثانوي. في حديث عن الإمام الصادق عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «قال للناس: إياكم وخضراء الدّمن.
قيل: يا رسول اللَّه! وما خضراء الدّمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء» «1».
2- النعم المادية والمعنوية في الجنة: ذكر القرآن الكريم أنواع النعم المادية في الجنة، ولكنه ذكر إلى جانب هذه النعم المادية نعماً أهم منها هي النعم المعنوية كقوله تعالى في الآية (72) من سورة التوبة: «وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ العَظِيمُ».
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَا ذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)
سبب النّزول
ذكر الطبرسي في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس أنّ اللَّه
لما ضرب المثلين قبل هذه الآية للمنافقين، يعني قوله «مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَارًا» وقوله «أَوْ كَصَيّبٍ مِنَ السَّمَاءِ» قال المنافقون: اللَّه أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال. فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.
قال آخرون: عند نزول الآيات التي تضرب الأمثال بالذباب والعنكبوت، بدأ المشركون ينتقدون ويسخرون، فقال اللَّه تعالى: يا محمّد إنّ اللَّه لا يستحى أن يضرب مثلًا.
التّفسير
هل اللَّه يضرب المثل؟ الفقرة الاولى من الآية تقول: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا».
المثال وسيلة لتجسيد الحقيقة حين يقصد المتحدث بيان ضعف المدعي وتحقيره فإنّ
______________________________
(1) وسائل الشيعة 14/ 19.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 41
بلاغة الحديث تستوجب انتخاب موجود ضعيف للتمثيل به، كيما يتضح ضعف اولئك. في الآية (73) من سورة الحج، مثلًا يقول سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَايَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ».
وما المقصود من «فَمَا فَوْقَهَا»؟ للمفسرين في هذه رأيان:
الأوّل: «فوقها» في الصغر، لأنّ المقام مقام بيان صغر المثال، وهذا مستعمل في الحوار اليومي، نسمع مثلًا رجل يقول لآخر: ألا تستحي أن تبذل كل هذا الجهد من أجل دينار واحد؟ فيجيب الآخر: لا، بل أكثر من ذلك أنا مستعد لأبذل هذا الجهد من أجل نصف دينار! فالزيادة هنا في الصغر.
الثّاني: «فوقها» في الكبر. أي: إنّ اللَّه يضرب الأمثال بالصغير وبالكبير، حسب مقتضى الحال.
لكن الرأي الأوّل يبدو أنسب.
ثم تقول الآية: «فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ». فهؤلاء، بإيمانهم وتقواهم، بعيدون عن اللجاجة والعناد والحقد للحقيقة.
«وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِى بِهِ كَثِيرًا».
فيجيبهم اللَّه بعبارة قصيرة تحسم الموقف وتقول: «وَمَا يُضِلُّ
بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ».
هداية اللَّه وإضلاله: الهداية والضلالة- في المفهوم القرآني- لا يعنيان الإجبار على انتخاب الطريق الصحيح أو الخاطى ء، بل إنّ الهداية- المفهومة من الآيات المتعدّدة- تعني توفّر سبل السعادة، والإضلال: يعني زوال الأرضيّة المساعدة للهداية، دون أن يكون هناك إجبار في المسألة.
توفّر السبل (الذي نسميه التوفيق)، وزوال هذه السبل (الذي نسميه سلب التوفيق)، هما نتيجة أعمال الإنسان نفسه. فلو منح اللَّه فرداً توفيق الهداية، أو سلب من أحد هذا التوفيق، فإنّما ذلك نتيجة الأعمال المباشرة لهذا الفرد أو ذاك.
الفاسقون: هم المنحرفون عن طريق العبودية، لأنّ الفسق في اللغة إخراج النوى من التمر، ثم انتقل إلى الخروج عن طريق اللَّه.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 42
الخاسرون الحقيقيون: هذه الآية الكريمة توضح مواصفات الفاسقين بعد أن تحدثت الآية السابقة عن ضلال هذه الفئة، وتذكر لهم ثلاث صفات:
1- إنّهم «يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ».
هؤلاء لهم مع اللَّه عهود ومواثيق، مثل عهد التوحيد، وعهد الرّبوبية، وعهد عدم اتّباع الشيطان وهوى النفس. لكنهم نقضوا كل هذه العهود، وتمرّدوا على أوامر اللَّه، واتّبعوا أهواءهم وما أراده الشيطان لهم.
طبيعة هذا العهد: كل موهبة يمنحها اللَّه للإنسان يصحبها عهد طبيعي بين اللَّه والإنسان، موهبة العين يصحبها عهد يفرض على الإنسان أى يرى الحقائق، وموهبة الاذن تنطوي على عهد مدوّن في ذات الخلقة يفرض الاستماع إلى نداء الحق ... وبهذا يكون الإنسان قد نقض العهد متى ما غفل عن استثمار القوى الفطرية المودعة في نفسه، أو استخدم الطاقات الموهوبة له في مسير منحرف.
الفاسقون: ينقضون بعض هذه العهود الفطرية الإلهيّة، أو جميعها.
2- الصفة الاخرى لهؤلاء الفاسقين هي أنّهم: «يَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ».
الآية تتحدث عن قطع الفاسقين لِكلّ إرتباط أمر اللَّه به أن
يوصل، بما في ذلك رابطة الرحم، رابطة الصداقة، والروابط الاجتماعية، والرابطة بهداة البشرية إلى اللَّه، والإرتباط باللَّه.
3- علامة الفاسقين الثالثة هي الفساد: «وَيُفْسِدُونَ فِى الْأَرْضِ».
وتؤكد الآية في الخاتمة أنّ «أُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ».
وأيّ خسران أكبر من تبديد كل القوى المادية والمعنوية المودعة في الإنسان الرّاميّة لإسعاده، وإهدارها على طريق الشقاوة والتعاسة والانحراف؟
أهمية صلة الرحم في الإسلام: الآية المذكورة أعلاه، وإن تحدثت عن كل إرتباط أمر اللَّه به أن يوصل، إلّاأنّ الإرتباط الرحمي دون شك أحد مصاديقها البارزة.
لقد أعار الإسلام اهتماماً بالغاً بصلة الرحم وبالتودد إلى الأهل والأقارب، ونهى بشدة عن قطع الإرتباط بالرحم.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 43
رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يصور أهمية صلة الرحم بقوله: «صلة الرحم تعمر الديار وتزيد في الأعمار وإن كان أهلها غير أخيار» «1».
الإسلام مارس هذه العملية على النحو الأكمل في بناء المجتمع الإسلامي القوي الشامخ، وأمر بإصلاح الوحدات الاجتماعية، والكائن الإنساني لا يأبى عادة أن ينصاع إلى مثل هذه الأوامر اللازمة لتقوية إرتباط أفراد الاسرة، لاشتراك هؤلاء الأفراد في الرحم والدم.
وواضح أنّ المجتمع يزداد قوّة وعظمة كلما ازداد التماسك والتعاون والتعاضد في الوحدات الاجتماعية الصغيرة المتمثلة بالاسرة، وإلى هذه الحقيقة قد يشير الحديث الشريف: «صلة الرحم تعمر الديار».
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (29) نعمة الحياة: القرآن في الآيتين يكمل الأدلة التي أوردها في الآيتين (21 و 22) من هذه السورة حول معرفة اللَّه. القرآن يبدأ في أدلته من نقطة لا تقبل الإنكار، ويركز على مسألة (الحياة) بكل ما
فيها من تعقيد وغموض، ويقول: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ».
وفي هذه العبارة تذكير للإنسان بما كان عليه قبل الحياة ... لقد كان ميتاً تماماً مثل الأحجار والأخشاب ولم يكن فيه أي أثر للحياة، لكنه الآن يتمتع بنعمة الحياة، وبنعمة الشعور والإدراك.
إنّ لغز الحياة لم ينحل حتى اليوم على الرغم من كل ما حققه البشر من تقدم هائل في حقل العلم والمعرفة. لكن السؤال يبقى قائماً بحاله: كيف يكفر الإنسان باللَّه وينسب هذه الحياة بتعقيداتها وغموضها وأسرارها إلى صنع الطبيعة العمياء الصّماء الفاقدة لكل شعور وإدراك؟
من هنا نقول إنّ ظاهرة الحياة في عالم الطبيعة أعظم سند لإثبات وجود اللَّه تعالى،
______________________________
(1) بحار الأنوار 71/ 94.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 44
والقرآن يركّز في الآية المذكورة على هذه المسألة بالذات. بعد التذكير بهذه النعمة، تؤكد الآية على دليل واضح آخر وهو «الموت» «ثُمَّ يُمِيتُكُمْ».
نعم ... إنّ خالق الحياة هو خالق الموت أيضاً، وإلى ذلك تشير الآية (2) من سورة الملك:
«الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا».
بعد أن ذكرت الآية هذين الدليلين الواضحين على وجود اللَّه، تناولت المعاد والحياة بعد الموت: «ثُمَّ يُحْيِيكُمْ».
وفي نهاية الآية يقول تعالى: «ثُمَّ إِلَيْهِ تُرجَعُونَ». والمقصود بالرجوع هو الرجوع إلى نعم اللَّه تعالى يوم القيامة.
بعد ذكر نعمة الحياة والإشارة إلى مسألة المبدأ والمعاد، تشير الآية إلى واحدة اخرى من النعمّ الإلهيّة السابقة وتقول: «هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا».
وبهذا تعين الآية قيمة الإنسان في هذه الأرض، وسيادته على ما فيها من موجودات.
وفي القرآن آيات اخرى تؤكد على مكانة الإنسان السامية، وتوضح أنّ هذا الكائن هو الهدف النهائي من خلق كل موجودات الكون.
وتعود الآية إلى ذكر أدلة التوحيد وتقول: «ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ
فَسَوَّيهُنَّ سَبْعَ سَموَاتٍ وَهُوَ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ».
الفعل «استوى»: من «الإستواء» وهو التسلط والإحاطة الكاملة والقدرة على الخلق والتدبير.
السماوات السبع: الأصح في رأينا أنّ المقصود بالسماوات السبع، هو وجود سبع سماوات بهذا العدد. ويستفاد من آيات اخرى أنّ كل الكرات والسيارات المشهودة هي جزء من السماء الاولى، وثمة ستة عوالم اخرى خارجة عن نطاق رؤيتنا ووسائلنا العلمية اليوم، وهذه العوالم السبعة هي التي عبّر عنها القرآن بالسماوات السبع.
في الآية (12) من سورة فصّلت، يقول تعالى: «وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ».
وفي الآية (6) من سورة الصّافات، يقول أيضاً: «إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ».
ويتضح من هاتين الآيتين أنّ ما نراه وما يتكون منه عالم الأفلاك هو جزء من السماء الاولى، وما وراء هذه السماء ست سماوات اخرى ليس لدينا اليوم معلومات عن تفاصيلها.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 45
وَ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَ تَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَ يَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) الإنسان خليفة اللَّه في الأرض: الآيات السابقة ذكرت أنّ اللَّه سبحانه خلق ما في الأرض جميعاً للإنسان، وفي الآيات (30- 39) تركيز على ثلاث مسائل أساسية هي:
1- إخبار اللَّه ملائكته بشأن خلافة الإنسان في الأرض.
2- أمر اللَّه تعالى ملائكته بإكرام
وتعظيم الإنسان الأول.
3- شرح وضع آدم وحياته في الجنة، والحوادث التي أدّت إلى خروجه من الفردوس، ثم توبة آدم، وحياته هو وذريته في الأرض.
الآيات المذكورة تتحدث عن المرحلة الاولى، حين شاء اللَّه أن يخلق على ظهر الأرض موجوداً، يكون فيها خليفته، ويحمل أشعة من صفاته، وتسمو مكانته على مكانة الملائكة.
وبهذه المناسبة تقول الآية الاولى: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلِكَةِ إِنّى جَاعِلٌ فِى الْأَرْضِ خَلِيفَةً».
والخليفة: هو النائب عن الغير، أمّا هذا الغير الذي ينوب الإنسان عنه هو خليفة اللَّه ونائبه على ظهر الأرض، كما ذهب إلى ذلك كثير من المحققين. لأنّ سؤال الملائكة بشأن هذا الموجود الذي قد يفسد في الأرض ويسفك الدماء يتناسب مع هذا المعنى، لأنّ نيابة اللَّه في الأرض لا تتناسب مع الفساد وسفك الدماء.
ثم تذكر الآية سؤال الملائكة الذي وجّهوه لرب العالمين مستفسرين لا معترضين:
«قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ».
اللَّه سبحانه أجاب الملائكة جواباً مغلقاً اتضح في المراحل التالية: «قَالَ إِنّى أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ».
مختصر الامثل، ج 1، ص: 46
الملائكة يعلمون أنّ الهدف من الخلقة هو العبودية والطاعة، وكانوا يرون في أنفسهم مصداقاً كاملًا لذلك، فهم في العبادة غارقون. ولذلك فهم- أكثر من غيرهم- للخلافة لائقون، غير عالمين أنّ بين عبادة الإنسان الملي ء بألوان الشهوات، والمحاط بأشكال الوساوس الشيطانية، والمغريات الدنيوية وبين عبادتهم- وهم خالون من كل هذه المؤثرات- بون شاسع. فأين عبادة هذا الموجود الغارق وسط الأمواج العاتية، من عبادة تلك الموجودات التي تعيش على ساحل آمن؟!
ماذا تعرف الملائكة من ابناء آدم أمثال محمّد صلى الله عليه و آله وابراهيم ونوح وموسى وعيسى والأئمة من أهل البيت عليهم السلام وعباد اللَّه الصالحين والشهداء والمضحون من الرجال
والنساء الذين قدموا وجودهم على مذبح العشق الإلهي، والذين تساوي ساعة من تفكرهم سنوات متمادية من عبادة الملائكة؟
الملائكة في بودقة الإختبار: كان آدم يملك- بفضل اللَّه- قابلية خارقة لفهم الحقائق.
وشاء اللَّه أن ينقل هذه القابلية من مرحلة القوة إلى مرحلة الفعل، وهذا ما عبر عنه القرآن بقوله: «وَعَلَّمَ ءَادَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا».
هذا العلم بالكون وبأسرار الموجودات وخواصها، كان مفخرة كبيرة لآدم طبعاً.
في تفسير العياشي عن أبي العباس عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: سألته عن قول اللَّه «وعلّم آدم الأسماء كلّها» ماذا علّمه؟ قال: «الأرضين والجبال والشعاب والأودية ثم نظر إلى بساط تحته فقال: وهذا البساط ممّا علّمه».
كما منح اللَّه آدم قابلية التسمية، ليستطيع أن يضع للأشياء أسماء، وبذلك يتحدث عن هذه الأشياء بذكر اسمها لا بإحضار عينها، وهذه نعمة كبرى.
«ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلِكَةِ فَقَالَ أَنْبُونِى بِأَسْمَاءِ هؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ». وأمام هذا الاختبار تراجع الملائكة لأنّهم لم يملكوا هذه القدرة العلمية التي منحها اللَّه لآدم، «قَالُوا سُبْحَانَكَ لَاعِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ».
وحان الدور لآدم كي يشرح أسماء الموجودات وأسرارها أمام الملائكة: «قَالَ يَا ءَادَمُ أَنْبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنّى أَعْلَمُ غَيْبَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ».
وهنا اتضح للملائكة أنّ هذا الموجود هو وحده اللائق لاستخلاف الأرض.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 47
جواب على سؤالين: ويبقى سؤالان في هذا المجال، الأوّل يدور حول تعليم اللَّه لآدم، كيف تم ذلك؟ ولو قُدر أن يكون هذا التعليم من نصيب الملائكة لنالوا نفس فضيلة آدم، فهل هناك مفخرة يمتلكها آدم ولا تمتلكها الملائكة؟
أمّا بشأن كيفية التعليم فالجواب هو أنّ هذا التعليم تكويني، أي إنّ اللَّه أودع هذا العلم
في وجود آدم بالقوة، ودفعه خلال مدة قصيرة إلى المرحلة الفعلية.
إطلاق كلمة «تعليم» في القرآن على «التعليم التكويني» ورد في موضع آخر من القرآن، كقوله تعالى: «عَلَّمَهُ الْبَيَانَ» «1». وواضح أنّ اللَّه سبحانه علّم الإنسان البيان في مدرسة الخلقة، أي منحه الكفاءة والخصائص الفطرية اللازمة للبيان والكلام.
أما الشطر الآخر من هذا السؤال فيتبين جوابه لو علمنا أنّ الملائكة كانت لهم خلقة خاصة، ما كانت تؤهلهم لتلقي كل هذه العلوم. إنّهم مخلوقون لهدف آخر، لا لهذا الهدف، وهذه الحقيقة فهمها الملائكة وتقبلوها بعد أن مروا بتلك التجربة المذكورة في الآية. ولعلهم اعتقدوا في البداية أنّهم يحملون الكفاءة اللازمة لهذا الهدف، لكن اللَّه بيّن لهم الفرق بين كفاءتهم وكفاءة آدم بتجربة تعليم الأسماء.
وَ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَ اسْتَكْبَرَ وَ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَ قُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَ كُلَا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَ لَا تَقْرَبَا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَ قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) آدم عليه السلام في الجنة: ينتقل القرآن إلى فصل آخر من موضوع عظمة الإنسان ويقول:
«وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلِكَةِ اسْجُدُوا لِأَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ».
لو أمعنّا النظر في آيات القرآن الكريم لألفينا أنّ موضوع السجود لآدم جاء بعد اكتمال خلقة الإنسان مباشرة، وقبل امتحان الملائكة.
إنّ الآية المذكورة تقرير قرآني واضح صريح لشرف الإنسان وعظمة مكانته، فكل الملائكة يؤمرون بالسجود له بعد اكتمال خلقته.
______________________________
(1) سورة الرّحمن/ 4.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 48
حقاً، إنّ هذا الموجود، اللائق لخلافة اللَّه على الأرض، والمؤهل
لهذا الشوط الكبير من التكامل وتربية أبناء عظام كالأنبياء وخاصة النبي الخاتم صلى الله عليه و آله يستحق كل احترام.
نحن نشعر بالتعظيم والتكريم لمن حوى بعض العلوم وعلم شيئاً من القوانين والمعادلات العلمية، فكيف حال الانسان الأوّل مع كل تلك العلوم والمعارف الزاخرة عن عالم الوجود؟
بحثان
1- لماذا أبى إبليس؟ «الشيطان» اسم جنس شامل للشيطان الأوّل ولجميع الشياطين. أما «إبليس» فاسم علم للشيطان الذي وسوس لآدم. وإبليس- كما صرح القرآن- ما كان من جنس الملائكة وإن كان في صفوفهم، بل كان من طائفة الجن، وهي مخلوقات مادية.
باعثه على الإمتناع عن السجود كبر وغرور وتعصب خاص استولى عليه حيث اعتقد أنّه أفضل من آدم، ولا ينبغي أن يصدر له أمر بالسجود لآدم.
كفر إبليس كان يعود إلى نفس السبب أيضاً، فقد اعتقد بعدم صواب الأمر الإلهي، وبذلك لم يعص فحسب، بل انحرف عقائدياً. وهكذا ذهبت أدراج الرياح كل عباداته وطاعاته نتيجة كبره وغروره. وهكذا تكون دوماً نتيجة الكبر والغرور.
وعبارة «كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ» تشير إلى أنّ إبليس كان قبل صدور الأمر الإلهى إليه بالسجود، قد انفصل عن مسير الملائكة وطاعة اللَّه، وأسرّ في نفسه الإستكبار والجحود.
2- هل كان السّجود للَّه أم لآدم؟ لا شك أنّ السجود يعني «العبادة» للَّه، إذ لا معبود غير اللَّه، وتوحيد العبادة يعني أن لا نعبد إلّااللَّه. من هنا فإنّ الملائكة لم يؤدوا لآدم يعني «سجدة عبادة» قطعاً، بل كان السجود للَّه من أجل خلق هذا الموجود العجيب. أو كان سجود الملائكة لآدم سجود «خضوع» لا عبادة.
جاء في عيون الأخبار عن الإمام عليّ بن موسى الرّضا عليه السلام حديث طويل وفيه: «إنّ اللَّه تبارك وتعالى خلق آدم فأودعنا صلبه وأمر الملائكة بالسجود له تعظيماً لنا وإكراماً
وكان سجودهم للَّه تعالى عبودية، ولآدم إكراماً وطاعة لكوننا في صلبه».
بعد هذا المشهد ومشهد اختبار الملائكة، امر آدم وزوجه أن يسكنا الجنة، كما جاء في قوله تعالى: «وَقُلْنَا يَا ءَادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا
مختصر الامثل، ج 1، ص: 49
هذِهِ الشَّجَرَةَ» «1».
يستفاد من آيات القرآن أنّ آدم خُلق للعيش على هذه الأرض، لكن اللَّه شاء أن يسكنه قبل ذلك الجنة، وهي روضة خضراء موفورة النعمة في هذا العالم.
لعل مرحلة مكوث آدم في الجنة كانت مرحلة تحضيرية لعدم ممارسة آدم للحياة على الأرض وصعوبة تحمل المشاكل الدنيوية بدون مقدمة، ومن أجل تأهيل آدم لتحمل مسؤوليات المستقبل، ولتفهيمه أهمية حمل هذه المسؤوليات والتكاليف الإلهيّة في تحقيق سعادته، ولإعطائه صورة عن الشقاء الذي يستتبع اهمال هذه التكاليف، ولتنبيهه بالمحظورات التي سيواجهها على ظهر الأرض.
ينبغي أن ينضج آدم عليه السلام في هذا الجو إلى حد معين، وأن يعرف أصدقاءه وأعداءه، ويتعلم كيف يعيش على ظهر الأرض، نعم، كانت هذه مجموعة من التعاليم الضرورية التي تؤهله للحياة على ظهر الأرض.
وهنا رأى «آدم» نفسه أمام أمر إلهي يقضي بعدم الاقتراب من الشجرة، لكن الشيطان أبى إلّاأن ينفذ بقسمه في إغواء آدم وذريته. تقول الآية بعد ذلك: «فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ».
نعم. اخرجا من الجنة حيث الراحة والهدوء وعدم الألم والتعب والعناء، على أثر وسوسة الشيطان.
وصدر لهما الأمر الإلهي بالهبوط: «وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوُّ وَلَكُمْ فِى الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ».
وهنا، فهم آدم أنّه ظلم نفسه، وأخرج من الجوّ الهادي الملي بنعم الجنة بسبب استسلامه لوسوسة الشيطان، وهبط في جوّ مفعم بالتعب والمشقة والعناء، مع أنّ آدم كان نبياً ومعصوماً، فإنّ اللَّه يؤاخذ الأنبياء بترك
الأولى- كما سنرى- كما يؤاخذ باقي الأفراد على ذنوبهم، وهو عقاب شديد تلقاه آدم جرّاء عصيانه.
بحوث
1- ما هي جنة آدم؟ يبدو أنّ الجنة التي مكث فيها آدم قبل هبوطه إلى الأرض، لم تكن
______________________________
(1) «الرغد»: على وزن الصمد يعني الكثير والواسع والهني ء؛ وعبارة «حيث شئتما» تعني: من أي مكان شئتما في الجنة، أو من أي نوع شئتم من فاكهة الجنة.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 50
مختصر الامثل ج 1 99
الجنة التي وعد بها المتقون، بل كانت من جنان الدنيا، وصقعاً منعّماً خلّاباً من أصقاع الأرض. ودليلنا على ذلك: أوّلًا: الجنة الموعودة في القيامة نعمة خالدة، والقرآن ذكر مراراً خلودها، فلا يمكن إذن الخروج منها.
ثانياً: إبليس الملعون ليس له طريق للجنة، وليس لوسوسته مكان هناك.
ثالثاً: وردت عن أهل البيت عليهم السلام روايات تصرح بذلك.
في الكافي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام أنّه سئل عن جنة آدم، فقال: «جنة من جنات الدنيا، يطلع فيها الشمس والقمر، ولو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها أبداً».
من هذا يتضح أنّ هبوط آدم ونزوله إلى الأرض لم يكن مكانياً بل مقامياً، أي أنّه هبط من مكانته السامية ومن تلك الجنة المزدانة.
2- المقصود من الشيطان في القرآن: كلمة الشيطان من مادة «شطن» و «الشاطن» هو الخبيث والوضيع، والشيطان تطلق على الموجود المتمرد العاصي، إنساناً كان أو غير إنسان، وتعني أيضاً الروح الشريرة البعيدة عن الحق. وبين كل هذه المعاني قدر مشترك.
والشيطان اسم جنس عام، وإبليس اسم علم خاص، وبعبارة اخرى، الشيطان كل موجود مؤذٍ مغوٍ طاغ متمرد، إنساناً كان أم غير إنسان، وإبليس اسم الشيطان الذي أغوى آدم ويتربّص هو وجنده الدوائر بأبناء آدم دوماً.
من مواضع استعمال هذه الكلمة
في القرآن يفهم أنّ كلمة الشيطان تطلق على الموجود المؤذي المضر المنحرف الذي يسعى إلى بثّ الفرقة والفساد والاختلاف، مثل قوله تعالى:
«إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ» «1».
والاستعمال القرآني لكلمة شيطان يشمل حتى أفراد البشر المفسدين المعادين للدعوة الإلهيّة، كقوله تعالى: «وَكَذلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنّ» «2».
كلمة الشيطان اطلقت على إبليس أيضاً بسبب فساده وإنحرافه.
3- لماذا خُلق الشيطان؟ يثار أحياناً سؤال عن سبب خلق هذا الموجود المضل المغوي، وفي الجواب نقول:
______________________________
(1) سورة المائدة/ 91.
(2) سورة الأنعام/ 112.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 51
أوّلًا: لم يخلق اللَّه الشيطان، شيطاناً، والدليل على ذلك وجوده بين ملائكة اللَّه وعلى الفطرة الطاهرة، لكنه بعد تحرره أساء التصرف، وعزم على الطغيان والتمرد، إنّه إذن خلق طاهراً، وسلك طريق الانحراف مختاراً.
ثانياً: وجود الشيطان لا يسبب ضرراً للأفراد المؤمنين، ولطلاب طريق الحق، في منظار نظام الخليقة، بل إنّه وسيلة لتقدمهم وتكاملهم، إذ إنّ التطور والتقدم يتم من خلال صراع الأضداد.
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) عودة آدم عليه السلام إلى اللَّه: بعد حادثة وسوسة إبليس، وصدور الأمر الإلهي لآدم بالخروج من الجنة، فهم آدم أنّه ظلم نفسه، وهنا أخذ آدم يفكر في تلافي خطئه، فاتجه بكل وجوده إلى بارئه وهو نادم أشد الندم، وأدركته رحمة اللَّه في هذه اللحظات كما تقول الآية:
«فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».
«التوبة» في اللغة بمعنى «العودة» وهي في التعبير القرآني، بمعنى
العودة عن الذنب، إن نُسبت إلى المذنب، وإن نسبت كلمة التوبة إلى اللَّه فتعني عودته سبحانه إلى الرحمة التي كانت مسلوبة عن العبد المذنب. ولذلك فهو تعالى «توّاب» في التعبير القرآني.
على أي حال، لقد حدث ما لا ينبغي أن يحدث- أو ما ينبغي أن يحدث- وقُبلت توبة آدم. لكن الأثر الوضعي للهبوط في الأرض لم يتغير، كما يذكر القرآن: «قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِّنّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَاىَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بَايَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».
الكلمات التي تلقاها آدم: تعددت الآراء في تفسير «الكلمات» التي تلقاها آدم عليه السلام من ربّه. المعروف أنّها الكلمات المذكورة في الآية (23) من سورة الأعراف: «قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّم تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ».
وقال آخرون أنّ المقصود من الكلمات هذا الدعاء:
مختصر الامثل، ج 1، ص: 52
«اللّهمّ لا إله إلّاأنت سبحانك وبحمدك، ربّ إنّي ظلمت نفسي، فاغفر لي إنّك خير الغافرين».
«اللّهمّ لا إله إلّاأنت سبحانك وبحمدك، ربّ إنّي ظلمت نفسي، فارحمني إنّك خير الراحمين».
«اللّهمّ لا إله إلّاأنت سبحانك وبحمدك، ربّ إنّي ظلمت نفسي، فَتُب عليّ إنّك أنت التّوّاب الرّحيم».
وفي روايات وردت عن طرق أهل البيت عليهم السلام أنّ المقصود من «الكلمات» أسماء أفضل مخلوقات اللَّه وهم: محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين- عليهم أفضل الصلاة والسّلام- وآدم توسّل بهذه الكلمات ليطلب العفو من ربّ العالمين فعفا عنه.
هذه التفاسير الثلاثة لا تتعارض مع بعضها.
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) ذكر النِعم الإلهيّة: لما كانت قصّة بني إسرائيل ابتداء من تحررهم من السيطرة الفرعونية واستخلافهم في الأرض، ومروراً بنسيان العهد
الإلهي، وانتهاء بسقوطهم في حضيض الانحراف والعذاب والمشقة، تشبه إلى حدّ كبير قصّة آدم. يوجه القرآن خطابه إلى بني إسرائيل ويقول: «يَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيىَ فَارْهَبُونِ».
الأوامر الثلاثة التي تذكرها الآية الكريمة وهي: تذكّر النعم الإلهية، والوفاء بالعهد، والخوف من اللَّه، تشكل المنهج الإلهى الكامل للبشرية.
ميثاق بني إسرائيل: ميثاق بني إسرائيل الإلهي يتكون من اثني عشر بنداً، عشر منها ذكرت في آيتى (83 و 84) من هذه السورة، وبندان ذكرا في الآية الكريمة: «وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَى عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنّى مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَوةَ وَءَاتَيْتُمُ الزَّكَوةَ وَءَامَنْتُمْ بِرُسُلِى وَعَزَّرْتُمُوهُمْ» «1».
وهما: الإيمان بالأنبياء ومؤازرتهم.
______________________________
(1) سورة المائدة/ 12.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 53
جملة «إِيىَ فَارْهَبُونِ» تأكيد على كسر كل حواجز الخوف القائمة في طريق الوفاء بالعهد الإلهى، وعلى الخوف من اللَّه وحده دون سواه، وهذا الحصر يتضح من تقديم ضمير النصب المنفصل «إيّاى» على جملة «فارهبون».
وَ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَ لَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَ لَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَ لَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَ تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَ آتُوا الزَّكَاةَ وَ ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
سبب النّزول
في تفسير مجمع البيان عن الإمام محمّد بن علي الباقر عليه السلام أنّه قال: «كان حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف وآخرون من اليهود، لهم مأكلة على اليهود في كل سنة، فكرهوا بطلانها بأمر النّبي صلى الله عليه و آله فحرّفوا لذلك آيات من التوراة فيها صفته وذكره فذلك الثّمن الّذي اريد في الآية».
التّفسير
جشع اليهود: الآيات المذكورة أعلاه تتطرق إلى تسعة
من بنود العهد الذي أخذه اللَّه على بني إسرائيل. يقول تعالى: «وَءَامِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدّقًا لِمَا مَعَكُم». فالقرآن مصدق لما مع اليهود من كتاب، أي أنّ البشائر التي زفّتها التوراة والكتب السماوية الاخرى بشأن النبي الخاتم، والأوصاف التي ذكرتها لهذا النبي والكتاب السماوي تنطبق على محمّد صلى الله عليه و آله وعلى القرآن المنزل عليه. فلماذا لا تؤمنون به؟!
ثم يقول سبحانه: «وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ». أي:- لا عجب أن يكون المشركون والوثنيون في مكّة- كفّاراً بالرسالة، بل العجب في كفركم، لأنّكم أهل الكتاب، وكتابكم يحمل بشائر ظهور هذا النبي، وكنتم لذلك تترقبون ظهوره.
المقطع الثالث من الآية يقول: «وَلَا تَشْتَرُوا بَايَاتِى ثَمَنًا قَلِيلًا».
في المقطع الرابع تقول الآية: «وَإِيىَ فَاتَّقُونِ». والخطاب موجّه إلى زعماء اليهود الّذين يخشون أن ينقطع رزقهم، وأن يثور المتعصبون اليهود ضدّهم، وتطلب منهم أن يخشوا اللَّه وحده، أي أن يخشوا عصيان أوامره سبحانه.
في البند الخامس من هذه الأوامر ينهى اللَّه سبحانه عن خلط الحق بالباطل: «وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ».
مختصر الامثل، ج 1، ص: 54
وفي البند السادس ينهى عن كتمان الحق: «وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ».
البند السابع والثامن والتاسع من هذه الأوامر يبيّنه قوله تعالى: «وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَءَاتُوا الزَّكَوةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ».
إنّ الآية لم تقل «أدّوا الصلاة» بل قالت: «أَقِيمُوا الصَّلَوةَ». وهذا الحث يحمّل الفرد مسؤولية خلق المجتمع المصلي ومسؤولية جذب الآخرين نحو الصلاة.
إنّ تعبير «أقيموا» إشارة إلى إقامة الصلاة كاملة، وعدم الاكتفاء بالأذكار والأوراد، وأهم أركان كمال الصلاة حضور القلب والفكر لدى اللَّه سبحانه، وتأثير الصلاة على المحتوى الداخلى للإنسان.
هذه الأوامر الأخيرة تتضمن: أوّلًا بيان إرتباط الفرد بخالقه (الصلاة)، ثم إرتباطه بالمخلوق (الزكاة)، وبعد ذلك إرتباط المجموعة البشرية مع بعضها على طريق اللَّه.
أَ تَأْمُرُونَ
النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَ فَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلَاةِ وَ إِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) الآية الاولى من الآيات التي يدور حولها بحثنا خطاب لعلماء اليهود، وبّخهم اللَّه تعالى على ما كانوا يفعلون من أمر الناس بالإيمان بمحمّد صلى الله عليه و آله وترك أنفسهم في ذلك. لذلك كانت الآية تحمل توبيخاً لهذا العمل: «أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرّ وَتَنْسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ».
منهج الدعاة إلى اللَّه يقوم على أساس العمل أوّلًا ثم القول، فالداعية إلى اللَّه يبلّغ بعمله قبل قوله، كما جاء عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام: «كونوا دعاة الناس بأعمالكم ولا تكونوا دعاةً بألسنتكم» «1».
علماء اليهود كانوا يخشون من انهيار مراكز قدرتهم وتفرق عامة الناس عنهم، إن اعترفوا برسالة خاتم الأنبياء ولذلك حرفوا ما ورد بشأن صفات نبي الخاتم في التوراة.
والقرآن يحث على الاستعانة بالصبر والصلاة للتغلب على الأهواء الشخصية والميول
______________________________
(1) بحار الأنوار 5/ 198.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 55
النفسية، فيقول في الآية التالية: «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَوةِ». ثم يؤكد أنّ هذه الاستعانة ثقيلة لا ينهض بعبئها إلّاالخاشعون: «وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ».
وفي الآية الأخيرة من هذه المجموعة وصف للخاشعين: «الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلقُوا رَبّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ».
«يظنّون»: من مادة «ظنّ» وقد تأتى بمعنى اليقين. وفي هذا الموضع تعني الإيمان واليقين القطعي. لأنّ الإيمان بلقاء اللَّه والرجوع إليه، يحيى في قلب الإنسان حالة الخشوع والخشية والإحساس بالمسؤولية، وهذا أحد آثار تربية الإنسان على الإيمان بالمعاد، حيث تجعل هذه التربية الفرد ماثلًا دوماً أمام مشهد المحكمة الكبرى، وتدفعه إلى النهوض بالمسؤولية وإلى
الحق والعدل.
بحثان
1- ما هو لقاء اللَّه؟ عبارة «لقاء اللَّه» وردت مراراً في القرآن الكريم، وتعني بأجمعها الحضور على مسرح القيامة، من البديهي أنّ المقصود بلقاء اللَّه ليس هو اللقاء الحسي، كلقاء أفراد البشر مع بعضهم، لأنّ اللَّه ليس بجسم، ولا يحده مكان، ولا يُرى بالعين، بل المقصود مشاهدة آثار قدرة اللَّه وجزائه وعقابه ونعمه وعذابه على ساحة القيامة.
أو إنّ المقصود الشهود الباطني والقلبي، لأنّ الإنسان يصل درجة كأنّه يرى اللَّه ببصيرته أمامه، بحيث لا يبقى في نفسه أي شك وترديد.
هذه الحالة قد تحصل للأفراد نتيجة الطّهر والتقوى والعبادة وتهذيب النفس في هذه الدنيا.
هذا الشهود الباطني ينجلي للجميع يوم القيامة، ولا يبقى أحد إلّاوقد آمن إيماناً قاطعاً، لوضوح آثار عظمة اللَّه وقدرته في ذلك اليوم.
2- سبيل التغلب على الصعاب: ثمة منطلقان أساسيان للتغلب على الصعاب والمشاكل، أحدهما داخلي، والآخر خارجي.
أشارت الآية إلى هذين المنطلقين بعبارة «الصبر» و «الصلاة». فالصبر هو حالة الصمود والاستقامة والثبات في مواجهة المشاكل، والصلاة هي وسيلة الإرتباط باللَّه حيث السند القوي المكين.
روى الطبرسي في تفسير مجمع البيان في تفسير هذه الآية: وكان النبي صلى الله عليه و آله إذا حزنه أمر استعان بالصلاة والصوم.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 56
وروى أيضاً عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام أنّه قال: «ما يمنع أحدكم إذا دخل عليه غمّ من غموم الدنيا أن يتوضأ ثم يدخل المسجد فيركع ركعتين يدعو اللَّه فيها، أما سمعت اللَّه تعالى يقول: واستعينوا بالصّبر والصّلوة».
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَ اتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَ لَا
هُمْ يُنْصَرُونَ (48) أوهام اليهود: في هذه الآيات خطاب آخر إلى بني إسرائيل فيه تذكير بنعم اللَّه: «يَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ». هذه النعم سابغة واسعة النطاق، ابتداءً من الهداية والإيمان، وانتهاءً بالنجاة من فرعون ونيل العظمة والاستقلال.
ثم تشير الآية من بين كل هذه النعم إلى نعمة التفضيل على بقية البشر، وهي نعمة مركبة من نعم مختلفة، وتقول: «وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ».
الآية التالية ترفض أوهام اليهود، التي كانوا يتصورون بموجبها أنّ الأنبياء من أسلافها سوف يشفعون لهم، أو أنّهم قادرون على دفع فدية وبدل عن ذنوبهم، كدفعهم الرشوة في هذه الحياة الدنيا. القرآن يخاطبهم ويقول: «وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّاتَجْزِى نَّفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ».
الحاكم أو القاضي في تلك المحكمة الإلهيّة، لا يقبل سوى العمل الصالح، كما في الآيتي (88 و 89) من سورة الشعراء يقول تعالى: «يَوْمَ لَايَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ».
إنّ الآية المذكورة من سورة البقرة، تشير في الواقع إلى ما يجري من محاولات في هذه الحياة الدنيا لإنقاذ المذنب من العقاب.
ففي الحياة الدنيا قد يتقدم إنسان لدفع غرامة عن إنسان مذنب لانقاذه من العقاب، أمّا في الآخرة فإنّه: «لَّاتَجْزِى نَفْسٌ عَنْ نَّفْسٍ».
وربّما يلجأ المذنب في هذه الحياة إلى الشفعاء لينقذوه ممّا ينتظره من الجزاء ويوم القيامة «... لَايُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ».
مختصر الامثل، ج 1، ص: 57
وإذا لم توجد الشفاعة، يتقدم الإنسان في الحياة الدنيا بدفع (العدل) وهوبدل الشي ء من جنسه، أما في الآخرة ف «لَايُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ».
وإذا لم تنفع الوسائل المذكورة كلها، يستصرخ أصحابه لينصروه ويخلصوه من الجزاء، وفي الآخرة لا يقوم بإنقاذهم أحد «وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ».
القرآن الكريم
يؤكد أنّ الاصول الحاكمة على قوانين الجزاء يوم القيامة تختلف كلياً عما هو السائد في هذه الحياة، فالسبيل الوحيد للنجاة يوم القيامة، هو الإيمان والتقوى والاستعانة بلطف الباري تعالى.
تاريخ الشرك وتاريخ المنحرفين من أهل الكتاب، ملي ء بأفكار خرافية تدور حول محور التوسل بمثل الأمور التي ذكرتها الآية الكريمة للفرار من العقاب الاخروي.
ذكر صاحب تفسير المنار بعض العادات المصرية التي لا تزال يعمل بها باسم الدين وهي من إرث قدماء الوثنيين، كاعطائهم لغاسل الميت شيئاً من النقد يسمونه «اجرة المعدية» أي اجرة نقله إلى الجنة.
ثم ذكر المكفرات التي يعتقدها اليهود كقربان الإثم وقربان الخطيئة وقربان السلامة والمحرقة والإكتفاء ممن لم يجد القربان بحمامتين يكفر بهما عن ذنبه.
القرآن ومسألة الشفاعة: «1» العقاب الإلهي في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة، لا ينزل بساحة الإنسان دون شك من أجل الانتقام، بل إنّ العقوبات الإلهيّة تشكل عنصر الضمان في تنفيذ القوانين، وتؤدي في النتيجة إلى تقدم الإنسان وتكامله، من هنا يجب الإحتراز عن أي شي ء يضعف من قوة عنصر الضمان هذا، كي لاتنتشر بين الناس الجرأة على ارتكاب المعاصي والذنوب.
من جهة اخرى، لا يجوز غلق باب العودة والإصلاح بشكل كامل في وجه المذنبين، بل يجب فسح المجال لإصلاح أنفسهم وللعودة إلى اللَّه وإلى الطهر والتقوى.
«الشفاعة» بمعناها الصحيح تستهدف حفظ هذا التعادل. إنّها وسيلة لعودة المذنبين والملوثين بالخطايا، وبمعناها الخاطئ تشجع على ارتكاب الذنوب.
اولئك الذين لم يفرقوا بين المعنى الصحيح والخاطي ء لمسألة الشفاعة، أنكروا هذه
______________________________
(1) «الشفاعة»: من «الشفع» بمعنى «الزوج» و «ضم الشي ء إلى مثله» يقابلها «الوتر» بمعنى «الفرد» ثم اطلقت على انضمام الفرد الأقوى والأشرف إلى الفرد الأضعف لمساعدة هذا الضعيف.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 58
المسألة بشكل كامل، واعتبروها شبيهة بالوساطات
التي تقدم إلى السلاطين والحكام الظالمين. وثمة مجموعة كالوهابيين استندوا إلى الآية الكريمة: «لَايُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ». فأنكروا الشفاعة تماماً، دون الإلتفات إلى سائر الآيات في هذا المجال.
الشّروط المختلفة للشفاعة: آيات الشفاعة تصرح أنّ مسألة الشفاعة في مفهوم الإسلام مقيدة بشروط، هذه الشروط تحدد تارة الخطيئة التي يستشفع المذنب لها، وتحدّد تارة اخرى الشخص المشفوع له، كما تقيد من جهة اخرى الشفيع، وهذه الشروط بمجموعها تكشف عن المفهوم الحقيقي للشفاعة وعن فلسفتها.
ثمّة ذنوب كالظلم مثلًا خارجة عن دائرة الشفاعة حيث يقول القرآن: «مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ» «1».
كما أنّ الشفاعة- وطبقاً للآية (28) من سورة الأنبياء- لا تشمل إلّاأولئك المرتقين إلى درجة «الإرتضاء» وإلى درجة الالتزام بالعهد الإلهي حيث يقول القرآن: «لَايَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمنِ عَهْدًا» «2».
الإرتضاء، واتخاذ العهد، يعنيان على المستوى اللغوي (وكذلك ما ورد من الروايات في تفسير هذه الآيات): الإيمان باللَّه والحساب والميزان والثواب والعقاب، والإعتراف بالحسنات والسيئات، وبما أنزل اللَّه، إيماناً عميقاً في الفكر، ظاهراً في العمل ... إيماناً يبعد صاحبه عن صفات الظالمين الذين لا يؤمنون بأية قيمة إنسانية، ويدفعه إلى إعادة النظر في منهج حياته.
وبشأن الشفعاء ذكر القرآن لهم شرطاً في قوله تعالى: «إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقّ» «3». من هنا فالمشفوع له أيضاً ينبغي أن يسلك طريق الحق في القول والعمل، كي يكون له إرتباط بالشفيع، وهذا الإرتباط الضروري بين الشفيع والمشفوع له يعتبر بدوره عاملًا بنّاءاً في تعبئة الطاقات على طريق الحق.
______________________________
(1) سورة غافر/ 18.
(2) سورة مريم/ 87.
(3) سورة الزخرف/ 86.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 59
وَ إِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ
عَظِيمٌ (49) نعمة الحرية: في هذه الآية إشارة إلى نعمة كبيرة اخرى، منّ بها اللَّه سبحانه على بني إسرائيل، وهي نعمة تحريرهم من براثن الظالمين: «وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِى ذلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ».
القرآن عبّر بكلمة «البلاء» عمّا كان ينزل ببني إسرائيل من عذاب يتمثل في قتل الذكور واستخدام الإناث لخدمة آل فرعون.
و «البلاء»: يعني الإمتحان، فالحوادث والمصائب التي نزلت ببني إسرائيل كانت بمثابة الامتحان لهم، كما قد يأتي البلاء بمعنى العقاب، لأنّ بني إسرائيل سبق لهم أن كفروا بنعمة ربّهم، فكان ما أصابهم من آل فرعون عقاباً على كفرانهم.
من الملفت للنظر أنّ القرآن يسمي ذبح الأبناء واستحياء النساء عذاباً، ولو عرفنا أنّ استحياء النساء يعني استبقائهن، وتركهن أحياء، لاتضح لنا أنّ القرآن يشير إلى أنّ مثل هذا الاستبقاء المذل هو عذاب أيضاً مثل عذاب القتل، وهذا المعنى يشير إليه الإمام أميرالمؤمنين علي عليه السلام إذ يقول: «فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين» «1».
عملية الإماتة كانت شاملة للذكور والإناث مع اختلاف في ممارسة هذه العملية، وفي عالمنا المعاصر يمارس طواغيت الأرض عملية الإماتة أيضاً بأساليب اخرى، وذلك عن طريق قتل روح الرجولة في الذكور، ودفع الإناث إلى مستنقع إشباع الشهوات. وَ إِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَ أَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
النجاة من آل فرعون: الآية السابقة أشارت إلى نجاة بني إسرائيل من براثن الفرعونيين، وهذه الآية توضح طريقة النجاة: «وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ».
قضية غرق آل فرعون في البحر ونجاة بني إسرائيل وردت في سور عديدة مثل سورة الأعراف الآية (126)، وسورة الأنفال الآية (54)، وسورة
الإسراء الآية (103)، وسورة
______________________________
(1) نهج البلاغة، الخطبة 51.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 60
الشعراء الآية (63 و 66)، وسورة الزخرف الآية (55)، والدخان الآية (17) وما بعدها.
في هذه السور ذكرت كل تفاصيل الحادث، أمّا هذه الآية فاكتفت بالإشارة إلى هذه النعمة الإلهية في معرض دعوة بني إسرائيل إلى قبول الرسالة الخاتمة.
الهدف من تذكير بني إسرائيل بهذا الحدث الذي بدأ بخوف شديد وانتهى بانتصار ساحق، هو دفعهم للشكر وللسير على طريق الرسالة الإلهيّة المتمثلة في دين النبي الخاتم.
كما أنّه تذكير للبشرية بالامداد الإلهي الّذي يشمل كل امّة سائرة بجدٍ وإخلاص على طريق اللَّه.
وَ إِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَ إِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَ الْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَ إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) أكبر إنحرافات بني إسرائيل: في هذه الآيات الأربع، تأكيد على مقطع آخر من تاريخ بني إسرائيل، وعلى أكبر انحراف اصيبوا به في تاريخهم الطويل، وهو الانحراف عن مبدأ التوحيد، والإتجاه إلى عبادة العجل، وهذا التأكيد تذكير لهم بما لحقهم من زيغ نتيجة إغواء الغاوين، وتحذير لهم من تكرر هذه التجربة في مواجهة الدين الخاتم: «وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» وهي ليالي افتراق موسى عن قومه، «ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ».
شرح هذا المقطع من تاريخ بني إسرائيل سيأتي في سورة الأعراف الآية (142) وما بعدها، وفي سورة طه الآية (36) وما بعدها.
في الآية التالية يقول سبحانه: «ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذلِكَ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».
وبعد إشارة إلى ما جاء بني إسرائيل من هداية تشريعية: «وَإِذْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ».
ثم يشير القرآن إلى طريقة التوبة المطروحة على بني إسرائيل: «وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا
مختصر الامثل، ج 1، ص: 61
قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».
«البارئ»: هو الخالق، وفي الكلمة إشارة إلى أنّ هذا الأمر الإلهي بالتوبة الشديدة صادر عمّن خلقكم، وعمّن هو أعرف بما يضرّكم وينفعكم.
ذنب عظيم وتوبة فريدة: لا شك أنّ عبادة عجل السامري لم تكن مسألة هينة، لأنّ بني إسرائيل شاهدوا ما شاهدوا من آيات اللَّه ومعجزات نبيهم موسى عليه السلام ثم نسوا ذلك دفعة، وخلال فترة قصيرة من غياب النبي إنحرفوا تماماً عن مبدأ التوحيد وعن الدين الإلهي. ومن هنا كانت الأوامر الإلهية بالتوبة شديدة وتقضي هذه الأوامر أن تقترن التوبة بإعدام جماعي لعدد كبير من المذنبين، على أيديهم أنفسهم.
طريقة تنفيذ هذا الإعدام لا تقل شدة عن الإعدام نفسه، فقد صدرت الأوامر الإلهية أن يقتل المذنبون بعضهم بعضاً، وفي ذلك عذابان للمذنب: عذاب قتل الأصدقاء والمعارف على يديه، وما ينزل به- هو نفسه- من عذاب القتل.
وجاء في الأخبار أنّ موسى أمر في ليلة ظلماء كل الجانحين إلى عبادة العجل، أن يغتسلوا ويرتدوا الأكفان ويعملوا السيف بعضهم في البعض الآخر.
ولعلك تسأل عن السبب في قساوة هذه التوبة ولماذا لم يقبل اللَّه تعالى منهم التوبة دون إراقة للدماء؟
الجواب: إنّ السبب في شدّة هذا الحكم يعود إلى عظمة الذنب الذي إرتكبوه بعد كل ما شاهدوه من آيات ومعاجز، وإلى أنّ هذا الذنب يهدّد وجود الدعوة ومستقبلها لأنّ اصول ومبادئ جميع الأديان السماوية يمكن
اختزالها في التوحيد، فلو تزلزل هذا الأصل فإنّ ذلك يعني انهيار جميع اللبنات الفوقية والمباني الحضارية للدين، فلو تساهل موسى عليه السلام مع ظاهرة عبادة العجل، لأمكن أن تبقى سُنّة في الأجيال القادمة، خاصة وأنّ بني إسرائيل كانوا على مرّ التاريخ قوماً متعنتين لجوجين. ولابدّ إذن من عقاب صارم يبقى رادعاً للأجيال التالية عن السقوط في هاوية الشرك.
وَ إِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)
مختصر الامثل، ج 1، ص: 62
طلب عجيب: هاتان الآيتان تذكّران بني إسرائيل بنعمة إلهيّة اخرى، كما توضحان في الوقت نفسه روح اللجاج والعناد في هؤلاء القوم، وتبيان ما نزل بهم من عقاب إلهي، وما شملهم اللَّه به من رحمة بعد ذلك العقاب. تقول الآية الاولى «وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً».
هذا الطلب قد ينم عن جهل بني إسرائيل، لأنّ إدراك الإنسان الجاهل لا يتعدّى حواسه، ولذلك يرمي إلى أن يرى اللَّه بعينه.
أو قد يحكي هذا الطلب عن ظاهرة لجاج القوم وعنادهم التي يتميزون بها دوماً.
عندئذٍ شاء اللَّه سبحانه أن يرى هؤلاء ظاهرة من خلقه لا يطيقون رؤيتها، ليفهموا أنّ عينهم الظاهرة هذه لا تطيق رؤية كثير من مخلوقات اللَّه، فما بالك برؤية اللَّه سبحانة نزلت الصاعقة على الجبل وصحبها برق شديد ورعد مهيب وزلزال مروع، فتركهم، على الأرض صرعى من شدّة الخوف: «فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ».
اغتم موسى لما حدث بشدة، لأنّ هلاك سبعين نفراً من كبار بني إسرائيل، قد يوفّر الفرصة للمغامرين من أبناء القوم أن يثيروا ضجّة بوجه نبيهم، لذلك تضرع موسى إلى اللَّه أن يعيدهم إلى الحياة،
فقبل طلبه وعادوا إلى الحياة: «ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».
هذه الآية تشير ضمناً إلى إمكان «الرجعة»، أي الرجوع إلى هذه الحياة الدنيا بعد الموت، لأنّ وقوعها في مورد يدل على إمكان الوقوع في موارد اخرى.
وَ ظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَ مَا ظَلَمُونَا وَ لكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) النعم المتنوعة: بعد أن نجا بنو إسرائيل من الفرعونيين، تذكر الآيات (23- 29) من سورة المائدة، أنّ بني إسرائيل امروا لأن يتجهوا إلى أرض فلسطين المقدسة، لكن هؤلاء عصوا هذا الأمر، وأصروا على عدم الذهاب مادام فيها قوم جبارون (العمالقة)، وأكثر من ذلك تركوا أمر مواجهة هؤلاء الظالمين لموسى وحده قائلين له: «فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا ههُنَا قَاعِدُونَ» «1».
______________________________
(1) سورة المائده/ 24.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 63
تألّم موسى لهذا الموقف ودعا ربّه: «قَالَ رَبّ إِنّى لَاأَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِى وَأَخِى فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ» «1». فكتب عليهم التيه أربعين عاماً في صحراء سيناء.
مجموعة من التائهين ندمت على ما فعلته أشد الندم، وتضرعت إلى اللَّه، فشمل اللَّه سبحانه بني إسرائيل ثانية برحمته، وأنزل عليهم نعمه التي تشير الآية إلى بعضها: «وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ».
والظّل له أهمّيّة كبرى لمن يطوي الصحراء طيلة النهار وتحت حرارة الشمس اللّافحة، خاصة أنّ مثل هذا الظّل لا يضيّق الفضاء على الإنسان ولا يمنع عنه هبوب النسيم.
وإضافة إلى الظّل فإنّ اللَّه سبحانه وفّر لبني إسرائيل بعد تيههم الطعام الذي كانوا في أمسّ الحاجة إليه خلال أربعين عاماً خلت من ضياعهم: «وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ».
لكن هؤلاء عادوا إلى الكفران: «وَمَا ظَلَمُونَا وَلكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ».
بحوث
1- المن والسلوى: «المنّ»
شي ء كالطلّ فيه حلاوة يسقط من الشجر و «السلوى» يعني التسلّي، وقال بعض اللغويين وجمع من المفسرين إنّه «طائر».
احتمل بعض المفسرين أن يكون «المنّ» نوعاً من العسل الطبيعي حصل عليه بنو إسرائيل في الجبال والمرتفعات المحيطة بصحراء التيه. وهذا التفسير يؤيد ما ورد من شروح على العهدين (التوراة والإنجيل) حيث جاء: «الأراضي المقدسة معروفة بكثرة أنواع الأوراد والأزهار، ومن هنا فإنّ مجاميع النحل تبني خلاياها في أخاديد الصخور وعلى أغصان الأشجار وثنايا بيوت الناس، بحيث يستطيع أفقر الناس أن يتناول العسل» «2».
بشأن «السلوى» قال بعض المفسرين إنّه العسل، وأجمع الباقون على أنّه نوع من الطير، كان يأتي على شكل أسراب كبيرة إلى تلك الأرض، وكان بنو إسرائيل يتغذون من لحومها.
في النصوص المسيحية تأييد لهذا الرأي حيث ورد في تفسير على العهدين ما يلي: «إعلم أنّ السلوى تتحرك بمجموعات كبيرة من أفريقيا، فتتجه إلى الشمال، وفي جزيرة كابري
______________________________
(1) سورة المائدة/ 25.
(2) قاموس الكتاب المقدس/ 612.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 64
وحدها يصطاد من هذا الطائر 16 ألفاً في الفصل الواحد ... هذا الطائر يجتاز طريق بحر القلزم، وخليج العقبة والسويس، ويدخل شبه جزيرة سيناء. وبعد دخوله لا يستطيع أن يطير في إرتفاعات شاهقة لشدة ما لاقاه من تعب وعناء في الطريق، فيطير على إرتفاع منخفض ولذلك يمكن اصطياده بسهولة» «1». يستفاد من هذا النص أنّ المقصود بالسلوى طير خاص سمين يشبه الحمام معروف في تلك الأرض.
2- لماذا قالت الآية «أنزلنا»؟ عبرت الآية الكريمة عن نعمة تقديم المن والسلوى بالإنزال، وليس الإنزال دائماً إرسال الشي ء من مكان عال، كقوله تعالى: «وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ» «2».
واضح أنّ الأنعام لم تهبط من السماء، من هنا فالإنزال في مثل
هذه المواضع:
إمّا أن يكون «نزولًا مقامياً»، أي نزولًا من مقام أسمى إلى مقام أدنى.
أو أن يكون من «الإنزال» بمعنى الضيافة، يقال أنزلت فلاناً: أي أضفته، والنزل (على وزن رُسُل) ما يعدّ للنازل من الزاد، ومنه قوله تعالى: «فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ» «3». وقوله سبحانه:
«خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِن عِندِ اللَّهِ» «4».
وتعبير «الإنزال» للمن والسلوى، قد يشير إلى أنّ بني إسرائيل كانوا ضيوف اللَّه في الأرض، فاستضافهم بالمن والسلوى.
3- ما هو الغمام؟ قيل: الغمام والسحاب بمعنى واحد، وقيل الغمام هو السحاب الأبيض، وذكروا في وصفه أنّه أبرد من السحاب وأرق، والغمام في الأصل من الغم وهو تغطية الشي ء، وسمي الغمام بهذا الاسم لأنّه يغطي صفحة السماء، وسمي الهمّ غماً بهذا الاسم لأنّه يحجب القلب «5».
______________________________
(1) قاموس الكتاب المقدس/ 483.
(2) سورة الزمر/ 6.
(3) سورة الواقعة/ 93.
(4) سورة آل عمران/ 198.
(5) تفسير روح المعاني 1/ 263؛ والمفردات للراغب، مادة «غمّ».
مختصر الامثل، ج 1، ص: 65
وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) عناد بني إسرائيل: وهنا نصل إلى مقطع جديد من حياة بني إسرائيل، يرتبط بورودهم الأرض المقدسة. تقول الآية الاولى: «وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ».
«القرية»: كل مكان يعيش فيه جمع من الناس، ويشمل ذلك المدن الكبيرة والصغيرة، خلافاً لمعناها الرائج المعاصر. والمقصود بالقرية هنا بيت المقدس.
ثم تقول الآية: «فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ». أي:
حطّ عنّا خطايانا، «نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ».
«حطّة»: في اللغة، تأتي بمعنى التناثر والمراد منها في
هذه الآية الشريفة، إلهنا نطلب منك أن تحطّ ذنوبنا وأوزارنا.
والآية تنتهي بعبارة: «وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ». أي: إنّ المحسنين سينالون المزيد من الأجر إضافة إلى غفران الخطايا.
والقرآن يحدثنا عن عناد مجموعة من بني إسرائيل حتى في ترتيل عبارة الاستغفار، فهؤلاء لم يرددوا العبارة بل بدلوها بعبارة اخرى فيها معنى السخرية والاستهزاء، والقرآن يقول عن هؤلاء المعاندين: «فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِى قِيلَ لَهُمْ». وكانت نتيجة هذا العناد ما يحدثنا عنه كتاب اللَّه حيث يقول: «فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ».
«الرجز»: أصله الاضطراب ومنه قيل رجز البعير إذا اضطرب مشيه لضعفه.
وفي مجمع البيان: إنّ الرجز يعني العذاب عند أهل الحجاز ويروي عن الرّسول صلى الله عليه و آله قوله بشأن مرض الطاعون: «إنّه رجز عذّب به بعض الامم قبلكم».
ومن هنا يتضح سبب تفسير «الرجز» في بعض الروايات أنّه نوع من الطاعون فشا بسرعة بين بني إسرائيل وأهلك جمعاً منهم.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 66
يلفت النظر أنّ من عوارض الطاعون اضطراباً في المشي والكلام، وهذا يتناسب مع أصل معنى «الرجز» تماماً. ومن الملفت للنظر أيضاً أنّ القرآن يؤكد أنّ هذا العذاب نزل «عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» فقط، ولم يشمل جميع بني إسرائيل.
والآية الكريمة بعد ذلك تبين بشكل غير مباشر سنة من سنن اللَّه تعالى، هي أنّ الذنب حينما يتعمق في المجتمع ويصبح عادة اجتماعية، عند ذاك يقترب احتمال نزول العذاب الإلهى.
وَ إِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَ اشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَ لَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) انفجار العيون في الصحراء: تذكير آخر بنعمة اخرى من نعم اللَّه على بني إسرائيل:
وهذا التذكير تشير إليه كلمة «إذ» المقصود منها (واذكروا إذ)، وهذه النعمة أغدقها اللَّه عليهم، حين كان بنو إسرائيل في أمسّ الحاجة إلى الماء وهم في وسط صحراء قاحلة، فطلب موسى عليه السلام من اللَّه عزّ وجلّ الماء: «وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ» فتقبل اللَّه طلبه، وأمر نبيّه أن يضرب الحجر بعصاه: «فَقُلْنَا اضْرِبْ بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا» بعدد قبائل بني إسرائيل.
وكل عين جرت نحو قبيلة بحيث أنّ كل قبيلة كانت تعرف العين التي تخصّها «قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ».
كثرت الأقوال في طبيعة الحجر الذي انفجرت منه العيون.
قال بعض المفسرين: إنّ هذا الحجر كان في ثنايا الجبال المطلة على الصحراء وتدل جملة «انبجست» الواردة في الآية (160) من سورة الأعراف على أنّ المياه جرت قليلة أوّلًا، ثم كثرت حتى ارتوى منها كل قبائل بني إسرائيل مع مواشيهم ودوابهم.
ظاهرة انفجار المياه من الصخور طبيعية لكن الحادثة هنا مقرونة بالإعجاز.
لقد منّ اللَّه على بني إسرائيل بإنزال المن والسلوى، وفي هذه المرة يمنّ عليهم بالماء الذي يعز في تلك الصحراء القاحلة، ثم يقول سبحانه لهم: «كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِّزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِى الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ».
مختصر الامثل، ج 1، ص: 67
وفي هذه العبارة حثّ لهم على ترك العناد وإيذاء الأنبياء، وأن يكون هذا أقل شكرهم للَّه على هذه النعم.
الفرق بين العثو والإفساد: نهى اللَّه سبحانه بني إسرائيل عن الفساد بفعل «لَاتَعْثَوْا» من العثي وهو شدة الفساد. وبهذا يكون معنى «لا تعثوا» هو معنى «المفسدين» ولكنه مع تأكيد أشد.
وقد تشير عبارة النهي بأجمعها إلى حقيقة بدء الفساد من نقطة صغيرة، واتساعها واشتدادها بعد ذلك. أي تبدأ بالفساد وتنتهي بالعثي في الأرض وهو شدة الفساد واتساعه.
وَ إِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى
لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَ قِثَّائِهَا وَ فُومِهَا وَ عَدَسِهَا وَ بَصَلِهَا قَالَ أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ وَ بَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَ كَانُوا يَعْتَدُونَ (61) المطالبة بالأطعمة المتنوعة: بعد أن شرحت الآيات السابقة نعم اللَّه على بني إسرائيل، ذكرت هذه الآية صورة من عنادهم وكفرانهم بهذه النعم الكبرى. تتحدث الآية أوّلًا عن مطالبة بني إسرائيل نبيّهم بأطمعة متنوعة بدل الطعام الواحد (المن والسلوى): «وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا».
فخاطبهم موسى «قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ».
ويضيف القرآن: «وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُو بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بَايَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ ذلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ».
إنّ المقصود من كلمة «مصر» في الآية الكريمة هو المفهوم العام للمدينة، وقوله سبحانه:
«اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ». أي: إنّكم الآن تعيشون في هذه الصحراء ضمن إطار
مختصر الامثل، ج 1، ص: 68
منهج للاختبار وبناء الذات، وليس هذا مكان الأطعمة المتنوعة، إذهبوا إلى المدن حيث التنوع في المأكولات، ولكن لا يوجد فيها المنهج المذكور. التنوع وطبيعة الإنسان: التنوع هو- دون شك- من متطلبات البشر، فلم إذن توجه اللوم والتقريع إلى بني إسرائيل حين طلبوا الخضروات والخيار والفوم والعدس والبصل ليتخلصوا من الطعام الواحد؟!
الجواب يتضح لو علمنا أنّ الحياة الإنسانية تقوم
على أساس حقائق هامة لا يمكن التخلّي عنها، هي الإيمان والطهر والتقوى والتحرّر، وقد تمر الجماعة البشرية بمرحلة يتعارض فيها هذا الأساس الهام مع متطلبات الإنسان من الطعام والشراب واللذائذ الاخرى، وهنا تصبح الجماعة أمام خيارين، إمّا أن تنغمس في اللذات وتترك قيمها وشرفها، أو تضحي بلذاتها من أجل إنسانيتها وكرامتها.
بنو إسرائيل كانوا يعيشون أمام هذين الخيارين.
ولابد من الإشارة إلى أنّ حقيقة حب التنويع استغلها الطامعون والمستعمرون دوماً، ليدفعوا الشعوب إلى هاوية حياة استهلاكية شهوانية هابطة، يعيش الأفراد فيها بين المعلف والمضجع، ناسين شخصيتهم الإنسانية، وغافلين عن النير الذي يطوق أعناقهم.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هَادُوا وَ النَّصَارَى وَ الصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) القانون العام للنجاة: بعد عرض لمقاطع من تاريخ بني إسرائيل، تطرح هذه الآية الكريمة مبدأ عاماً في التقييم وفق المعايير الإلهية، وهذا المبدأ ينص على أنّ الإيمان والعمل الصالح هما أساس تقييم الأفراد، وليس للتظاهر والتصنّع قيمة في ميزان اللَّه: «إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» «1».
______________________________
(1) «الصابئين»: كانوا في الأصل أتباع أحد الأنبياء وإن اختلف المحققون في تعيين نبيّهم، وعدد هؤلاء قليل وهم في حالة إنقراض.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 69
تساؤل هام: بعض المضللين اتخذوا من الآية الكريمة التي نحن بصددها وسيلة لبثّ شبهة مفادها أنّ العمل بأي دين من الأديان الإلهيّة له أجر عنداللَّه، وليس من اللازم أن يعتنق اليهودي أو النصراني الإسلام، بل يكفي أن يؤمن باللَّه واليوم الآخر ويعمل صالحاً.
الجواب: نعلم أنّ
القرآن يفسر بعضه بعضاً، والكتاب العزيز يقول: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإسْلمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ» «1».
كما أنّ القرآن ملي ء بالآيات التي تدعو أهل الكتاب إلى اعتناق الدين الجديد، وتلك الشبهة تتعارض مع هذه الآيات. من هنا يلزمنا أن نفهم المعنى الحقيقي للآية الكريمة. ونذكر تفسيرين لها من أوضح وأنسب ما ذكره المفسرون:
1- لو عمل اليهود والنصارى وغيرهم من أتباع الأديان السماوية بما جاء في كتبهم، لآمنوا حتماً بالنبي صلى الله عليه و آله لأنّ بشارات الظهور وعلائم النبي وصفاته مذكورة في هذه الكتب السماوية.
2- هذه الآية تجيب على سؤال عرض لكثير من المسلمين في بداية ظهور الإسلام، يدور حول مصير آبائهم وأجدادهم الذين لم يدركوا عصر الإسلام، تُرى، هل سيؤاخذون على عدم إسلامهم وإيمانهم؟
الآية المذكورة نزلت لتقول إنّ كل امة عملت في عصرها بما جاء به نبيّها من تعاليم السماء وعملت صالحاً؛ فإنّها ناجية، ولا خوف على أفراد تلك الامة ولا هم يحزنون.
فاليهود المؤمنون العاملون ناجون قبل ظهور المسيح، والمسيحيون المؤمنون العاملون ناجون قبل ظهور نبي الإسلام.
وَ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَ رَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) الإلتزام بالميثاق: هاتان الآيتان تطرحان مسألة أخذ ميثاق بني إسرائيل بشأن العمل بالتوراة، ثم نقضهم للميثاق: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ». والطور جبل
______________________________
(1) سورة آل عمران/ 85.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 70
وسيأتي ذكره. وقلنا لكم: «خُذُوا مَا ءَاتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ». واجعلوا التوراة دوماً نصب أعينكم:
«وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ». لكنكم نقضتم الميثاق وجعلتموه وراء ظهوركم: «ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ».
هذا الميثاق عبارة عن: توحيد اللَّه، والإحسان إلى الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين، والقول الصالح، وإقامة الصلاة، وأداء الزكاة، واجتناب سفك الدماء، هذه المواد وردت في التوراة كذلك. من الآية (12) لسورة المائدة يتضح أيضاً أنّ اللَّه أخذ ميثاق بني إسرائيل أن يؤمنوا بجميع الأنبياء ويساندوهم، وأن ينفقوا في سبيل اللَّه. وفي هذه الآية ضمان للقوم بدخول الجنة إن عملوا بهذا الميثاق.
بحوث
1- رفع جبل الطور: أمّا بشأن كيفية رفع جبل الطور في قوله تعالى: «وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ». يقول الطبرسي عن أبي زيد: حدث هذا حين رجع موسى من الطور، فأتى بالألواح، فقال لقومه: جئتكم بالألواح وفيها التوراة والحلال والحرام فاعملوا بها. قالوا:
ومن يقبل قولك؟! فأرسل اللَّه عزّ وجلّ الملائكة حتى نتقوا (رفعوا) الجبل فوق رؤوسهم، فقال موسى عليه السلام: إن قبلتم ما آتيتكم به وإلّا أرسلوا الجبل عليكم، فأخذوا التوراة وسجدوا للَّه تعالى ملاحظين الجبل (أي وهم ينظرون إلى الجبل من طرف خفي)، فمن ثم يسجد اليهود على أحد شِقّي وجوههم.
الطبرسي- كما ذكرنا- وجمع من المفسرين، يذهبون إلى أنّ جبل الطور رفع فوق رؤوس بني إسرائيل بأمر اللَّه لايجاد الظل عليهم.
ويحتمل أيضاً أن تكون قد انفصلت من الجبل صخرة عظيمة بأمر اللَّه على أثر زلزال شديد أو صاعقة، ومرّت فوق رؤوسهم في لحظات، فرأوها وتصوروا أنها ستسقط عليهم.
2- الإلتزام والإرهاب: مسألة رفع الجبل فوق بني إسرائيل لتهديدهم عند أخذ الميثاق تثير سؤالًا بشأن إمكان تحقيق الالتزام عن طريق التخويف والإرهاب.
هناك من قال: إنّ رفع الجبل فوقهم لا ينطوي على إرهاب وتخويف أو إكراه، لأن أخذ الميثاق بالإكراه لا قيمة له.
الأصح أن نقول: لا مانع من إرغام الأفراد المعاندين المتمردين على الرضوخ للحق
مختصر الامثل، ج 1، ص: 71
بالقوّة. وهذا الإرغام مؤقت هدفه كسر أنفتهم وعنادهم وغرورهم، ومن ثم دفعهم للفكر الصحيح، كي يؤدّوا واجباتهم بعد ذلك عن إرادة واختيار.
على أي حال، هذا الميثاق يرتبط بالمسائل العملية، لا بالجانب الاعتقادي، فالمعتقدات لا يمكن تغييرها بالإكراه.
3- خذوا تعاليم السماء بقوة: خاطب اللَّه سبحانه بني إسرائيل فقال: «خُذُوا مَا ءَاتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ». وعن هذه الآية سئل الإمام جعفر بن محمّد الصّادق عليه السلام عن المقصود من القوة في هذه الآية: أبقوة بالأبدان أم بقوة في القلوب؟ قال: «بهما جميعاً».
وهذا الأمر الإلهي يتجه إلى كل أتباع الأديان الإلهية في كل زمان ومكان، ويطلب منهم أن يتجهزوا بالقوى المادية والقوى المعنوية معاً، لصيانة خط التوحيد وإقامة حاكمية اللَّه في الأرض.
وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَ مَا خَلْفَهَا وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) عصاة يوم السبت: هاتان الآيتان الكريمتان تتحدثان- كالآيات السابقة- عن روح العصيان والتمرد المتغلغلة في اليهود، والتصاقهم الشديد بالمسائل المادية: «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِى السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِينَ» «1».
«فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا». أي: جعلناها عبرة لتلك الامة ولأمم تليها «وَمَوعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ».
ملخص الحادثة التي تشير إليها الآية: «أنّ اللَّه سبحانه أمر اليهود أن يسبتوا- أي أن يقطعوا أعمالهم- يوم السبت، وهذا الأمر شمل طبعاً أولئك القاطنين قرب البحر الذين يعيشون على صيد الأسماك، وشاء اللَّه أن يختبر هؤلاء، فكثرت الأسماك يوم السبت قرب الساحل بينما ندرت في بقية الأيّام. طفق هؤلاء يتحايلون لصيد الأسماك يوم السبت.
فعاقبهم اللَّه على عصيانهم ومسخهم على هيئة حيوان» «2».
______________________________
(1) «خسأ»: طرد وزجر، ويستعمل لطرد الكلب، وللطرد المقرون بالإستهانة
يقال: إخْسأه.
(2) راجع التفاصيل لدى توضيح الآيات (163- 166) من سورة الأعراف.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 72
وَ إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَ تَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَ لَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَ إِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَ لَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَ مَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَ اللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَ يُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَ إِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَ إِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَ إِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَ مَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) قصة بقرة بني إسرائيل: هذه الآيات تتحدث بالتفصيل عن حادثة اخرى من حوادث تاريخ بني إسرائيل، هذا التفصيل لم نألفه في الآيات السابقة.
الحادثة (كما يبيّنها القرآن وكتب التّفسير) على النحو التالي: قتل شخص من بني إسرائيل بشكل غامض، ولم يعرف القاتل. حدث بين قبائل بني إسرائيل نزاع بشأن هذه الحادثة، كل قبيلة تتهم الاخرى بالقتل، توجّهوا إلى موسى ليقضي
بينهم، فما كانت الأساليب الاعتيادية ممكنة في هذا القضاء، وما كان بالإمكان إهمال هذه المسألة لما سيترتب عليها من فتنة بين بني إسرائيل. لجأ موسى- بإذن اللَّه- إلى طريقة إعجازية لحلّ هذه المسألة كما ستوضحها الآيات الكريمة. يقول سبحانه في هذه الآيات: «وَإِذْ قَالَ مُوسى
مختصر الامثل، ج 1، ص: 73
لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا».
«قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ». أي: إنّ الإستهزاء من عمل الجاهلين، وأنبياء اللَّه مبرّؤون من ذلك.
بعد أن أيقنوا جديّة المسألة، «قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنْ لَنَا مَا هِىَ». وعبارة «ربّك» تتكرر في خطاب بني إسرائيل لموسى، وتنطوي على نوع من إساءة الأدب والسخرية، وكأنّ ربّ موسى غير ربّهم!
موسى عليه السلام أجابهم: «قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَافَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلِكَ». أي: إنّها لا كبيرة هرمة ولا صغيرة، بل متوسطة بين الحالتين: «فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ».
لكن بني إسرائيل لم يكفوا عن لجاجتهم: «قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا».
أجابهم موسى: «قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ». أي: إنّها حسنة الصفرة لا يشوبها لون آخر.
ولم يكتف بنو إسرائيل بهذا، بل أصروا على لجاجهم، وضيقوا دائرة انتخاب البقرة على أنفسهم. عادوا و «قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنْ لَّنَا مَا هِىَ». طالبين بذلك مزيداً من التوضيح، متذرعين بالقول: «إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ».
أجابهم موسى: «قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَاذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِى الْحَرْثَ». أي:
ليست من النوع المذلل لحرث الأرض وسقيها.
«مُسَلَّمَةٌ» من العيوب كلها.
«لَّا شِيَةَ فِيهَا». أي: لا لون فيها من غيرها.
حينئذ: «قَالُوا النَ جِئْتَ بِالْحَقِّ». «فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ». أي: أنّهم بعد أن وجدوا بقرة بهذه السمات
ذبحوها بالرغم من عدم رغبتهم بذلك.
بعد أن ذكر القرآن تفاصيل القصّة، عاد فلخص الحادث بآيتين: «وَإذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَءْتُمْ فِيهَا». أي: فاختلفتم في القتل وتدافعتم فيه. «وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ».
«فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا». أي: اضربوا المقتول ببعض أجزاء البقرة، كي يحيى ويخبركم بقاتله. «كَذلِكَ يُحْىِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ».
وبعد هذه الآيات البينات، لم تلن قلوب بني إسرائيل، بل بقيت على قسوتها وغلظتها وجفافها. «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً».
إنّها أشد قسوة من الحجارة، لأنّ بعض الحجارة تتفجر منها الأنهار، أو تنبع منها المياه أو
مختصر الامثل، ج 1، ص: 74
تسقط من خوف اللَّه: «وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ». لكن قلوب بني إسرائيل أشد قسوة من الحجارة، فلا تنفجر منها عاطفة ولا علم، ولا تنبع منها قطرة حب، ولا تخفف من خوف اللَّه.
واللَّه عالم بما تنطوي عليه القلوب وما تفعله الأيدي: «وَمَا اللَّهُ بَغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ».
العِبر في هذه القصة: هذه القصة لها دلالات على قدرة اللَّه اللامتناهية، وكذلك على مسألة المعاد.
إضافة إلى ما سبق، هذه القصة تعلمنا أنّنا ينبغي أن لا نتزمت ولا نتشدد في الامور كي لا يتشدد اللَّه معنا.
ولعل انتخاب البقرة للذبح يستهدف غسل أدمغة هؤلاء القوم من فكرة عبادة العجل. أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَ قَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَ إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَ إِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَ فَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَ
وَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَ مَا يُعْلِنُونَ (77)
سبب النّزول
في تفسير مجمع البيان روي عن الإمام أبي جعفر محمّد بن علي الباقر عليه السلام أنّه قال: «كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتوطئين، إذا لقوا المسلمين حدّثوهم بما في التوراة من صفة محمّد، فنهاهم كبراؤهم عن ذلك، وقالوا: لا تخبروهم بما في التوراة من صفة محمّد فيحاجّوكم به عند ربّكم فنزلت هذه الآية».
التّفسير
لا أمل في هؤلاء: كان سياق الآيات السابقة يتجه نحو سرد تاريخ بني إسرائيل، وفي هاتين الآيتين يتجه الخطاب نحو المسلمين ويقول لهم: لا تعقدوا الآمال على هداية هؤلاء اليهود، فهم مصّرون على تحريف الحقائق ونكران ما عقلوه «أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ
مختصر الامثل، ج 1، ص: 75
كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحْرّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ».
وهذه عظة للمسلمين، ودفع لما قد يعتريهم من يأس نتيجة عدم استطاعتهم إقناع اليهود وجذبهم إلى الدين الجديد.
الآية التالية تلقي الضوء على حقيقة مرّة اخرى بشأن هذه الزمرة المنافقة وتقول: «وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ».
ويتضح من الآية أنّ إيمان هذه الفئة المنافقة من اليهود، كان ضعيفاً إلى درجة أنّهم تصوروا اللَّه مثل إنسان عادي، وظنوا أنهم إذا أخفوا شيئاً عن المسلمين فسيخفى عن اللَّه أيضاً. لذلك تقول الآية التالية بصراحة: «أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ».
وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ
أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
سبب النّزول
في تفسير مجمع البيان: عمد جمع من علماء اليهود إلى تغيير صفات نبيّ الخاتم في التوراة من أجل صيانة مصالحهم، واستمرار الأموال التي كانت تتدفق عليهم سنوياً من جَهَلَة اليهود. فعند ظهور النبي صلى الله عليه و آله غيّروا ما ذكر من صفاته في التوراة وأبدلوها بصفات اخرى على العكس منها، كي يموّهوا الأمر على الاميين الّذين كانوا قد سمعوا من قبل بصفات النبي في التوراة، فمتى ما سألوا علماءهم عن هذا النبي الجديد قرؤوا لهم الآيات المحرفة من التوراة لإقناعهم بهذه الطريقة.
التّفسير
خطّة اليهود في استغلال الجهلة: بعد الحديث عن إنحرافات اليهود في الآيات السابقة قسّمت هاتان الآيتان اليهود إلى مجموعتين: اميين وعلماء ماكرين. عن المجموعة الاولى يقول تعالى: «وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لَايَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِىَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ».
مختصر الامثل، ج 1، ص: 76
«الاميّون»: جمع امّيّ، والامّيّ غير الدارس، وسمّوا بذلك لأنّهم في معلوماتهم كما ولدتهم امهاتهم، أو لشدّة تعلق امّهاتهم بهم، صعب عليهنّ فراقهم جهلًا، ومنعنهم من الذهاب إلى المدرسة. والأماني جمع امنية، ولعل الآية تشير هنا إلى الإمتيازات الموهومة التي كان ينسبها اليهود لأنفسهم، كقولهم: «نَحْنُ أَبْنؤُا اللَّهِ وَأَحِبؤُهُ» «1».
ومن المحتمل أيضاً أن يكون المقصود من الأماني، الآيات المحرفة التي كان علماء اليهود يشيعونها بين الاميين من الناس.
ثمة مجموعة اخرى من العلماء كانت تحرف الحقائق لتحقيق مصالحها، وإلى هؤلاء يشير القرآن: «فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا».
«فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ».
«وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ».
وقد أورد بعض المفسرين حديثاً عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية وفيه ملاحظات هامة:
قال رجل للصادق عليه السلام: إذا كان هؤلاء
العوام من اليهود لا يعرفون الكتاب إلّابما يسمعونه من علمائهم، فكيف ذمّهم بتقليدهم والقبول من علمائهم؟ وهل عوام اليهود إلّا كعوامنا، يقلّدون علماءهم- إلى أن قال- فقال عليه السلام: «بين عوامنا وعوام اليهود فرق من جهة، وتسوية من جهة، أمّا من حيث الاستواء فإنّ اللَّه ذمّ عوامنا بتقليدهم علماءهم، كما ذمّ عوامهم، وأمّا من حيث افترقوا فإنّ عوام اليهود كانوا قدعرفوا علماءهم بالكذب الصّراح، وأكل الحرام، والرشاء وتغيير الأحكام، واضطرّوا بقلوبهم إلى أنّ من فعل ذلك فهو فاسق، لايجوز أن يصدّق على اللَّه، ولا على الوسائط بين الخلق وبين اللَّه، فلذلك ذمّهم، وكذلك عوامنا إذا عرفوا من علمائهم الفسق الظاهر، والعصبيّة الشديدة، والتكالب على الدنيا وحرامها، فمن قلّد مثل هؤلاء فهو مثل اليهود الذين ذمّهم اللَّه بالتقليد لفسقة علمائهم، فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه، وذلك لا يكون إلّابعض فقهاء الشيعة لا كلّهم، فإنّ من ركب من القبائح والفواحش مراكب علماء العامّة، فلا تقبلوا منهم عنّا شيئاً، ولا كرامة، وإنمّا كثر التخليط فيما يتحمّل عنّا أهل البيت لذلك، لأنّ الفسقة يتحمّلون عنّا
______________________________
(1) سورة المائدة/ 18.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 77
فيحرّفونه بأسره لجهلهم، ويضعون الأشياء على غير وجهها لقلّة معرفتهم وآخرون يتعمّدون الكذب علينا» «1».
وَ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) غرور وادعاء فارغ: يشير القرآن الكريم هنا إلى واحدة من إدعاءات اليهود الدالة على غرورهم، هذا الغرور الذي يشكل الأساس لكثير من
انحرافات هؤلاء القوم: «وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً». ثم تجيبهم الآية بأسلوب مُفحِم: «قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَاتَعْلَمُونَ».
اعتقاد اليهود بأنّهم شعب اللَّه المختار، وأنّ عنصرهم متفوق على سائر الأجناس البشرية، وأنّ مذنبيهم لن يدخلوا جهنم سوى أيّام قليلة.
إدّعاء اليهود المذكور في الآية الكريمة لا ينسجم مع أي منطق.
الآية الكريمة تدحض مزاعمهم بدليل منطقي، وتفهمهم أنّ مزاعمهم هذه إمّا أن تكون قائمة على أساس عهد لهم اتخذوه عند اللَّه، ولا يوجد مثل هذا العهد، أو أن تكون من افترائهم الكذب على اللَّه.
ثم تبيّن الآية التالية قانوناً عاماً يقوم على أساس المنطق وتقول: «بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».
وهذا القانون عام يشمل المذنبين من كل فئة وقوم.
وبشأن المؤمنين الأتقياء، فهناك قانون عام شامل تبيّنه الآية التالية: «وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».
بحوث
1- كسب السيّئة: الكسب والإكتساب: الحصول على الشي ء عن إرادة واختيار، من هنا
______________________________
(1) وسائل الشيعة 18/ 94 (كتاب القضاء، باب عدم جواز تقليد غير المعصوم).
مختصر الامثل، ج 1، ص: 78
عبارة «بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيَةً» إشارة إلى اولئك الذين يرتكبون الذنوب عن علم وانتخاب، وتعبير الآية بكلمة «كَسَبَ» قد يكون إشارة إلى المحاسبة الخاطئة العاجلة التي يرتكب المذنب على أساسها ذنبه ظاناً أنّه يكسب بارتكاب الذنب نفعاً، ويتحمل بتركه خسارة. 2- إحاطة الخطيئة: الخطيئة تستعمل غالباً في الذنوب التي لا يرتكبها صاحبها عن عمد، لكنها وردت في هذه الآية بمعنى الذنوب الكبيرة أو بمعنى آثار الذنب في قلب الإنسان وروحه.
مفهوم إحاطة الخطيئة يعني إنغماس الفرد في الذنب إلى درجة يصبح ذلك الفرد سجين ذنبه.
3-
عنصرية اليهود: نفهم من الآيات الكريمة أنّ روح التمييز العنصري لدى اليهود، التي هي مبعث كثير من مشاكل الساحة العالمية اليوم، كانت راسخة لدى اليهود منذ تلك الأيام، وكانوا يعتقدون بوجود تفوق وامتياز لعنصر بني إسرائيل على سائر الأجناس البشرية الاخرى، ولا زالت هذه الذهنية سائدة لدى هؤلاء القوم بعد مرور آلاف السنين على أسلافهم الذين يتحدث عنهم القرآن الكريم، وهذا التعصب العنصري هو الأساس الذي تقوم عليه الدولة الصهيونية الغاصبة اليوم.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 79
وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) وَ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَ ذِي الْقُرْبَى وَ الْيَتَامَى وَ الْمَسَاكِينِ وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَ آتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَ لَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوَانِ وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَ مَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَ لَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) الناكثون: تقدم ذكر ميثاق بني إسرائيل، والقرآن يندد في هذه الآيات بشدة باليهود لنقضهم هذه العهود، ويتوعدهم نتيجة لهذا النقض بالخزي في الحياة الدنيا والعذاب في الآخرة. بنود هذا العهد الذي أقرّ به بنو إسرائيل:
1- التوحيد
وإخلاص العبودية للَّه «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ لَاتَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ».
2- الإحسان إلى الوالدين: «وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا».
3- الإحسان إلى الأقارب واليتامى والفقراء: «وَذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ».
4- التعامل الصحيح مع الآخرين: «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا».
5- إقامة الصلاة: «وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ».
6- إيتاء الزكاة: «وَءَاتُوا الزَّكَوةَ».
مختصر الامثل، ج 1، ص: 80
ثم تذكر الآية الكريمة نقض القوم للميثاق وعدم وفائهم بالعهد: «ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُمْ مُّعْرِضُونَ».
7- عدم سفك الدماء: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَاتَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ».
8- عدم إخراج بني جلدتكم من ديارهم: «وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ».
9- إفداء الأسرى، أي بذل المال لتحريرهم من الأسر (وهذا البند نفهمه من عبارة «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ» وسيأتي ذكرها).
ثم تذكر الآية إقرار القوم بالميثاق: «ثُمَّ أقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ».
ثم يتعرض القرآن إلى نقض بني إسرائيل للميثاق، بقتل بعضهم وتشريد بعضهم الآخر:
«ثُمَّ أَنتُمْ هؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ». ويشير القرآن إلى تعاون بعضهم ضد البعض الآخر: «تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ».
ثم يشير إلى تناقض هؤلاء في مواقفهم، إذ يحاربون بني جلدتهم ويخرجونهم من ديارهم، ثم يفدونهم إن وقعوا في الأسر: «وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ».
فهم يفادونهم استناداً إلى أوامر التوراة، بينما يشردونهم ويقتلونهم خلافاً لما أخذ اللَّه عليهم من ميثاق: «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ».
ومن الطبيعي أن يكون هذا الانحراف سبباً لانحطاط الإنسان في الدنيا والآخرة: «فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْىٌ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيمَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدّ الْعَذَابِ».
وإنحرافات أية امة من الامم لابد أن تعود عليها بالنتائج الوخيمة، ذلك لأنّ اللَّه سبحانه وتعالى أحصاها عليهم بدقة: «وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ».
الآية الأخيرة تشير إلى تخبط بني إسرائيل وتناقضهم في مواقفهم، والمصير الطبيعي الذي ينتظرهم نتيجة لذلك: «أُولئِكَ
الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَوةَ الدُّنْيَا بِالْأَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ».
بحثان
1- إشارة تاريخية: في الآيات إشارة لتناقض بني إسرائيل في مواقف بعضهم من البعض الآخر. قيل في ذلك: «كان بنو إسرائيل إذا استضعف قوم قوماً أخرجوهم من ديارهم، وقد اخذ عليهم الميثاق أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، واخذ عليهم
مختصر الامثل، ج 1، ص: 81
الميثاق إن أسر بعضهم بعضاً أن يفادوهم، فأخرجوهم من ديارهم ثم فادوهم، فآمنوا بالفداء ففدوا وكفروا بالإخراج من الديار فأخرجوهم».
وفي تفسير مجمع البيان روي في المعنيّ بهذه الآية عن ابن عباس: «أنّ قريظة والنضير كانا أخوين كالأوس والخزرج فافترقوا فكانت النضير مع الخزرج وكانت قريظة مع الأوس، فإذا اقتتلوا عاونت كل فرقة حلفاءها، فإذا وضعت الحرب أوزارها فدوا اسراها تصديقاً لما في التوراة، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان لا يعرفون جنة ولا ناراً ولا قيامة ولا كتاباً، فأنبأ اللَّه تعالى اليهود بما فعلوه».
وهكذا سقط اليهود وغيرهم من أهل العناد في مثل هذه التناقضات في حياتهم لانحرافهم عن خط العبودية التامة للَّه تعالى.
2- منهج البقاء وعوامل السقوط: الآيات الكريمة في معرض حديثها عن بني إسرائيل تطرح سنناً كونية في بقاء الشعوب وانحطاطها.
أهم عامل لبقاء الامّة ورفعتها وعزتها في المنظار القرآني، اعتماد الامة على قوة اللَّه وقدرته الأبدية وخضوعها له وحده دون سواه وخشيته وحده دون غيره: «لَاتَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ».
ومن عوامل البقاء أيضاً التلاحم الاجتماعي بين أفراد الامة، وهذا ما يعبر عنه القرآن بالإحسان إلى الوالدين باعتبارهما أقرب أفراد المجتمع إلى الإنسان، ثم الإحسان إلى ذي القربى، ثم بعد ذلك إلى عامّة أفراد المجتمع من الفقراء والمساكين وغيرهم من الناس.
إزالة التمييز الطبقي ورفع الهوّة السحيقة الفاصلة بين الأغنياء
والفقراء في المجتمع، عن طريق إيتاء الزكاة، ومن عوامل بقاء المجتمع أيضاً ورفعته.
أمّا عوامل السقوط فهي عبارة عن تفكك البنية الاجتماعية، ونشوب النزاعات والحروب الداخلية بين أفراد المجتمع، واستضعاف بعضهم بعضاً. «لَاتَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ ...».
ثم الإزدواجية في الالتزام بأحكام اللَّه تعالى عامل هام من عوامل السقوط، يدفع بالأفراد لأن يتحركوا حول محور مصالحهم الآنيّة الذاتية الضيقة، فيلتزموا بالقوانين التي تحفظ لهم منافعهم الشخصية، ويتركوا القوانين النافعة للمجتمع «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ».
مختصر الامثل، ج 1، ص: 82
هذه هي الأسباب والعلل في تكامل وانحطاط الامم والحضارات في منظور القرآن.
وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَ قَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَ آتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَ أَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَ فَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وَ قَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) القلوب المغلفة: الحديث في هاتين الآيتين عن بني إسرائيل، وإن كانت المفاهيم والمعايير التي تطرحها الآيتان عامة وشاملة. تقول الآية الاولى: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ». ثم تذكر بعثة الأنبياء بعد موسى مثل داود وسليمان ويوشع وزكريا ويحيى ...
«وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ». وتشير إلى بعثة عيسى: «وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيّنَاتِ وَأَيَّدْنهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ». لكن تعامل بني إسرائيل كان مع كل هؤلاء الأنبياء قائماً على أساس نزعات هوى النفس: «أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَاتَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ».
وكان موقفهم إمّا اغتيال شخصية النبي أو شخص النبي: «فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ». لو كان اغتيال الشخصية كافياً لتحقيق أهدافهم الدنيئة اكتفوا بذلك، وإن لم يكن كافياً سفكوا دمه!
الآية التالية تذكر ما كانوا يقولونه باستهزاء مقابل دعوة الأنبياء لهم أو دعوة النبي الخاتم صلى
الله عليه و آله: «وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ». و «الغلف»: جمع «أغلف» أي مغلّف.
نعم، إنّها كذلك مغلفة وبعيدة عن نفوذ النور الإلهي إليها، لأنّ أصحابها لعنوا بعد التمادي في الكفر: «بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ».
الآية تبين حقيقة هامة هي: إنّ الإنغماس في الأهواء يبعد الفرد عن اللَّه، ويسدل الحجب على قلبه، فلا تكاد الحقيقة تجد لها طريقاً إلى نفسه.
بحثان
1- ما هو روح القدس؟ للمفسرين آراء مختلفة في معنى روح القدس:
أ) قالوا إنّه جبرائيل، فيكون معنى الآية على هذا إنّ اللَّه أيد عيسى بجبرائيل.
ووجه تسمية جبرائيل بروح القدس، هو أنّ جبرائيل ملك، والجانب الروحي في
مختصر الامثل، ج 1، ص: 83
الملائكة أمر واضح، وإطلاق كلمة «الروح» عليهم متناسب مع طبيعتهم، وإضافة الروح إلى «القدس» إشارة إلى طهر هذا الملك وقداسته الفائقة.
ب) وقيل: إنّ «روح القدس» هو القوة الغيبية التي أيدت عيسى عليه السلام وبهذه القوة الخفية الإلهيّة كان عيسى يحيي الموتى.
هذه القوة الغيبية موجودة طبعاً بشكل أضعف في جميع المؤمنين على اختلاف درجة إيمانهم، وهذا الإمداد الإلهي هو الذي يعين الإنسان في أداء الطاعات وتحمل الصعاب، ويقيه من السقوط في الذنوب والزلات.
2- قلوب غافلة محجوبة: كان اليهود في المدينة يقفون بوجه الدعوة، ويمتنعون عن قبولها، ويتذرعون لذلك بمختلف الحجج، والآية التي نحن بصددها تشير إلى واحدة من ذرائعهم.
«وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلفٌ» ولا ينفذ إليها قول!
كانوا يقولون ذلك عن استهزاء، غير أنّ القرآن أيد مقالتهم، فبكفرهم ونفاقهم اسدل على قلوبهم حجب من الظلمات والذنوب، وابتعدوا عن رحمة اللَّه، «فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ».
وهذه مسألة تطرحها في الآية (155) من سورة النساء حيث يقول تعالى: «وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا».
وَ لَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَ كَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَ لِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)
سبب النّزول
روي العياشي في تفسيره عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «كانت اليهود تجد في كتبها أنّ مهاجر (مكان هجرة) محمّد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ما بين (جبلي) عَيْر واحد، فخرجوا يطلبون الموضع، فمرّوا بجبل يقال له حداد، فقالوا: حداد واحد سواء، فتفرّقوا عنده. فنزل بعضهم بتيماء وبعضهم
مختصر الامثل، ج 1، ص: 84
بفدك وبعضهم بخيبر، فاشتاق الذين بتيماء إلى بعض إخوانهم، فمرّ بهم أعرابي من قيس فتكاروا منه (أي استأجروا إبله) وقال لهم: أمرّ بكم ما بين عَير واحد، (فعلموا أنّهم أصابوا ضالّتهم) فقالوا له: إذا مررت بهما فآذنّا (أخبرنا) بهما، فلمّا توسط بهم أرض المدينة، قال: ذلك عَير، وهذا احد، فنزلوا عن ظهر إبله، وقالوا له: قد أصبنا بغيتنا فلا حاجة بنا إلى إبلك، فاذهب حيث شئت. وكتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك وخيبر: إنّا قد أصبنا الموضع فهلمّوا إلينا. فكتبوا إليهم إنّا قد استقرت بنا الدار واتّخذنا بها الأموال، وما أقربنا منكم، فإذا كان ذلك فما أسرعنا إليكم، واتخذوا بأرض المدينة أموالًا. فلما كثرت أموالهم بلغ ذلك تُبّعاً فغزاهم، فتحصنوا منه، فحاصرهم ثم أمنهم، فنزلوا عليه. فقال لهم: إنّي قد استطبت بلادكم، ولا أراني إلّامقيماً فيكم.
فقالوا له: ليس ذلك لك، إنّها مهاجر نبي، وليس ذلك لأحد حتى يكون ذلك. فقال لهم: فإنّي مخلف فيكم من اسرتي
من إذا كان ذلك ساعده ونصره، فخلف حين تراهم الأوس والخزرج. فلمّا كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود، فكانت اليهود تقول لهم: أما لو بعث محمّد لنخرجنّكم من ديارنا وأموالنا. فلما بعث اللَّه محمّداً صلى الله عليه و آله آمنت الأنصار وكفرت به اليهود، وهو قوله تعالى: «وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا» إلى آخر الآية».
التّفسير
كفروا بما دعوا الناس اليه: هذه الآيات تتحدث أيضاً عن اليهود ومواقفهم، هؤلاء هاجروا ليتخذوا من يثرب سكناً بعد أن وجدوا فيها ما يشير إلى أنّها أرض الرّسول المرتقب، وبقوا فيها ينتظرون بفارغ الصبر النبي الذي بشّرت به التوراة، كما كانوا ينتظرون الفتح والنصر على الذين كفروا تحت لواء هذا النبي، لكنهم مع كل ذلك أعرضوا عن الرسول وعن الرسالة: «وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ».
وهكذا تستطيع الأهواء والمصالح الشخصية أن تقف بوجه طالب الحقيقة، مهما كان الفرد عاشقاً لهذه الحقيقة وتوّاقاً للوصول إليها فيتركها ويعرض عنها، بل تستطيع الأهواء أيضاً أن تحول هذا الفرد إلى عدو لدود لهذه الحقيقة.
ما أشد خسارة هؤلاء اليهود، تركوا أوطانهم وهاموا في الأرض بحثاً عن علامات أرض الرسالة، ثم ها هم خسروا كل شي ء، وباعوا أنفسهم بأسوأ ثمن: «بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أنفُسَهُمْ».
مختصر الامثل، ج 1، ص: 85
لقد ضيعوا كل شي ء وكأنّهم أرادوا أن يكون النبي الموعود من بني إسرائيل، ولهذا تألموا من نزول القرآن على غيرهم، بل ممن شاءه اللَّه: «أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ».
ولذلك شملهم غضب اللَّه المتوالي: «فَبَاءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ
وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ».
«باءو»: بمعنى رجعوا- وأقاموا في المكان- وهنا تعني استحقاقهم لعذاب اللَّه، فكأنّهم عادوا وهم محملون بهذا الغضب الإلهى، أو كأنّهم اتخذوا موقفاً يغضب اللَّه.
هؤلاء القوم كانوا يعيشون على أمل ظهور النبي المنقذ، قبل دعوة موسى وقبل دعوة النبي الخاتم صلى الله عليه و آله وكان موقفهم من الرسولين الكريمين واحداً، هو النكول والإعراض، واستحقوا غضب اللَّه وسخطه مرة بعد اخرى.
وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَ يَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَ لَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَ رَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَ عَصَيْنَا وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) العصبية القومية لدى اليهود: يشير القرآن مرة اخرى إلى عصبية اليهود القومية ويقول: «وَإذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ».
فهم لم يؤمنوا بالإنجيل ولا بالقرآن، بل إنّهم يدورون حول محور العنصرية والمصلحية، فيجرأون على رفض الدعوة التي جاءت تصديقاً لما معهم في التوراة: «وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدّقًا لِّمَا مَعَهُمْ». ويكشف القرآن زيف ادّعائهم مرة اخرى حين يقول لهم: «قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ». هؤلاء يدّعون أنّهم يؤمنون بما أنزل عليهم، فهل التوراة تبيح لهم قتل الأنبياء؟
مختصر الامثل، ج 1، ص: 86
ويعرض القرآن وثيقة اخرى لإدانة اليهود ولكشف زيف إدعائهم فيقول: «وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُّوسَى بِالبَيّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ».
ما هذا
الانحراف نحو عبادة العجل بعد أن جاءتكم البينات إن كنتم في إيمانكم صادقين!
في الآية الثالثة يطرح القرآن وثيقة إدانة اخرى، فيشير إلى مسألة ميثاق جبل الطور ويقول: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا ءَاتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا».
وما كان عصيانهم إلّاعن انغماس في حب الدنيا الذي تمثل في حب عجل السامري الذهبي: «وَأُشْرِبُوا فِى قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهمْ» ولذا نسوا اللَّه عزّ وجلّ؟ كيف يجتمع الإيمان باللَّه مع قتل انبيائه وعبادة العجل ونقض العهود والمواثيق الإلهيّة المؤكدة؟ أجل «قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ».
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَ لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَ مَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) فئة مغرورة: يبدو من تاريخ اليهود- مضافاً لما أخبر القرآن عنه- أنّ هؤلاء القوم كانوا يعتبرون أنفسهم فئة متميزة في العنصر، ومتفوقة على سائر الأجناس البشرية، وكانوا يعتقدون أنّ الجنة خلقت لهم لا لسواهم، وأنّ نار جهنم لن تمسّهم، وأنّهم أبناء اللَّه وخاصته، وأنّهم يحملون جميع الفضائل والمحاسن.
والقرآن الكريم يجيب هؤلاء القوم جواباً دامغاً إذ يقول: «قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْأَخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُم صَادِقِينَ».
لقد كان اليهود يهدفون من كلامهم هذا وأنّ الجنة خالصة لنا دون سائر الناس: أو أنّ النار لا تمسّنا إلّاأيّاماً معدودات- إلى توهين إيمان المسلمين وتخدير عقائدهم.
في الآية التالية تأكيد على ما سبق بشأن ابتعاد القوم
عن الموت: «وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا
مختصر الامثل، ج 1، ص: 87
قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيْمٌ بِالظَّالِمِينَ».
هؤلاء يعلمون ما في ملفّ أعمالهم من وثاق سوداء ومن صحائف إدانة، واللَّه عليم بكل ذلك، ولذلك فهم لا يتمنون الموت، لأنّه بداية حياة يحاسبون فيها على كل أعمالهم.
الآية الأخيرة تذكر انشداد هؤلاء بالأرض وحرصهم الشديد على المال والمتاع:
«وَلَتَجِدَنَّهُمْ أحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَوةٍ». وتذكر الآية أنّ حرصهم هذا يفوق حرص الذين أشركوا: «وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا».
المشركون ينبغي أن يكونوا أحرص من غيرهم على جمع المال والمتاع، لكن هؤلاء من أصحاب الإدعاءات الفارغة، بلغوا من الحرص ما لم يبلغه المشركون.
وبلغ شغفهم بالدنيا أنّه «يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ» لجمع مزيد من متاع الدنيا، أو خوفاً من عقاب الآخرة! لكن هذا العمر الذي يتمناه كل واحد منهم لا يبعده عن العذاب، ولا يغير من مصيره شيئاً «وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ». إذ كل شي ء محصى لدى اللَّه، ولا يعزب عن عمله شي ء «وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ».
بحوث
1- ما هو المراد من الأعوام الألف: المقصود من الأعوام الألف في قوله تعالى: «يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ ألْفَ سَنَةٍ». ليس هذا العدد المعروف، والعرب لم تكن تعرف أنذاك عدداً أكبر من الألف، ولم يكن لما يزيد على الألف اسم عندالعرب، ولذلك كان أبلغ تعبير عن الكثرة.
2- علة ورود كلمة «الحياة» نكرة في الآية: تنكير الحياة في تعبير الآية «وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَوةٍ» تفيد الإستهانة والتحقير. أي إنّ هؤلاء حريصون حتّى على أتفه حياة وأرخصها وأشقاها، ويفضلونها على الآخرة.
3- إفرازات العنصرية: كان التعصب العنصري وراء كثير من الحروب والمآسي التي حدثت على الساحة البشرية خلال جميع عصور التاريخ، واليهود يحتلون دون شك مكان الصدارة بين العنصريين
المتعصبين على مر التاريخ.
لقد دفعتهم عنصريتهم لأن يحتكروا حتى تعاليم موسى، ويزيلوا عنصر الدعوة من دينهم، كي لا يعتنق تعاليمهم أحد غيرهم.
التعصب العنصري شعبة من الشرك، ولذلك حاربه الإسلام بشدة، مؤكداً أنّ كل أبناء البشر من أب واحد وام واحدة، ولا تمايز إلّابالتقوى والعمل الصالح.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 88
4- عوامل الخوف من الموت: أكثر الناس يخافون من الموت، وخوفهم هذا يعود إلى عاملين:
أ) الخوف من الفناء والعدم، فالذين لا يؤمنون بالآخرة لا يرون بعد هذه الحياة استمرارًا لحياتهم، ومن الطبيعي أن يخاف الإنسان من الفناء، وهذا الخوف يلاحق هؤلاء حتى في أسعد لحظات حياتهم فيحوّلها إلى علقم في أفواههم.
ب) الخوف من العقاب، ومثل هذا الخوف يلاحق المذنبين المؤمنين بالآخرة، فيخافون أن يحين حينهم وهم مثقلون بالآثام والأوزار، فينالوا جزاءهم، ولذلك يودّون أن تتأخر ساعة انتقالهم إلى العالم الآخر.
الأنبياء العظام أحيوا في القلوب الإيمان باليوم الآخر، وبذلك أبعدوا شبح الفناء والإنعدام من الأذهان، وبيّنوا أنّ الموت انتقال إلى حياة أبدية خالدة منعّمة.
من جهة اخرى دعا الأنبياء إلى العمل الصالح، كي يبتعد الإنسان عن الخوف من العقاب، ولكي يزول عن القلوب والأذهان كل خوف من الموت.
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدًى وَ بُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَ مَلَائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)
سبب النّزول
جاء في تفسير مجمع البيان: قال ابن عباس: كان سبب نزول هذه الآية ما روي أنّ ابن صوريا وجماعة من يهود أهل فدك، لمّا قدم النبي صلى الله عليه و آله المدينة، سألوه فقالوا: يا محمّد! كيف نومك فقد اخبرنا عن نوم النبي
الذي يأتي في آخر الزمان؟ فقال: «تنام عيناي وقلبي يقظان». قالوا: صدقت يا محمّد ... قالوا: فأخبرنا عن ربّك ما هو؟ فأنزل اللَّه سبحانه «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» إلى آخر السورة. فقال له ابن صوريا: خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك واتبعتك: أيّ ملك يأتيك بما يُنزل اللَّه عليك؟ قال: «جبريل». قال ابن صوريا: ذاك عدونا ينزل بالقتال والشدة والحرب، وميكائيل ينزل باليسر والرخاء، فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك لآمنّا بك.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 89
التّفسير
قوم جدلون: سبب نزول الآية الكريمة يبين طبيعة العناد واللجاج والجدل في اليهود، إبتداء من زمان موسى عليه السلام ومروراً بعصر خاتم الأنبياء وحتى يومنا هذا. حجتهم في هذا الموضع المذكور في الآية ثقل التكاليف التي يأتي بها جبرائيل، والقرآن الكريم يصرح- في الآية (6) من سورة التحريم- بأنّ الملائكة ينفّذون أوامر اللَّه ولا ينحرفون عن طاعته: «لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ».
القرآن يجيب عن ذريعة هؤلاء: «قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ». وما جاء به جبرائيل يصدّق ما نزل في الكتب السماوية السابقة: «مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ». وهو إضافة إلى كل هذا: «وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ».
الآية التالية تؤكد نفس هذا الموضوع تأكيداً مقروناً بالتهديد وتقول: «مَن كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكلَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ».
مشيرة بذلك إلى أنّ موقف الإنسان من اللَّه وملائكته ورسله ومن جبرائيل وميكائيل، لا يقبل التفكيك، وأنّ الموقف المعادي من أحدهم هو معاداة للآخرين.
جبريل وميكال: ورد اسم جبريل ثلاث مرات، واسم ميكال مرة واحدة في القرآن الكريم «1» ويستفاد من الآيات أنّهما ملكان مقربان من ملائكة اللَّه تعالى.
وهناك أحاديث تدور حول ظهور جبرائيل بصور متعددة لدى نزوله على النبي، وكان
في المدينة ينزل على صورة (دحية الكلبي) وهو رجل جميل الطلعة.
يستفاد من سورة النجم أنّ النبي صلى الله عليه و آله شاهد جبرائيل مرتين على هيئته الأصلية «2».
وَ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَ مَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَ وَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَ لَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
______________________________
(1). اسم «جبريل» ورد مرتين فى هذه آلايات و مرة فى سورة التحريم الآية (4) و اسم «ميكال» لم يرد إلا فى هذا الموضع من القرآن.
(2). أعلام القرآن/ 277.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 90
سبب النّزول
في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس: إنّ ابن صوريا قال لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله: يا محمّد! ما جئتنا بشي ء نعرفه، وما أنزل اللَّه عليك من آية بيّنة فنتبعك لها. فأنزل اللَّه هذه الآية.
التّفسير
الناكثون من اليهود: الآية الاولى تشير إلى الآيات والعلامات والدلائل الكافية الواضحة التي توفرت لدى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وتؤكد أنّ المعرضين عن هذه الآيات البينات أدركوا في الواقع حقانية الدعوة، لكنهم هبّوا للمعارضة مدفوعين بأغراضهم الشخصية:
«وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ءَايَاتٍ بَيّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ».
ثم يتطرق القرآن إلى صفة مجموعة من اليهود، وهي صفة النكول ونقض العهود والمواثيق، وكأنّها صفة تاريخية تلازمهم على مر العصور: «أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَايُؤْمِنُونَ».
لقد أخذ اللَّه ميثاقهم في جانب الطور أن يعملوا بالتوراة لكنهم نقضوا الميثاق، وأخذ منهم الميثاق أن يؤمنوا بالنّبي الخاتم المذكور عندهم في التوراة فلم يؤمنوا به.
الآية الأخيرة تؤكد بصراحة أكثر
على هذا الموضوع: «وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَايَعْلَمُونَ».
كان أحبار اليهود يبشرون الناس قبل البعثة النبوية بالرسول الموعود ويذكرون لهم علاماته وصفاته، فلما بعث نبي الإسلام، أعرضوا عما جاء في كتابهم، وكأنّهم لم يروا ولم يقرأوا ما ذكرته التوراة في هذا المجال.
بحثان
1- واضح أنّ تعبير «النزول» أو «الإنزال» بشأن القرآن الكريم لا يعني الإنتقال المكاني من الأعلى إلى الاسفل وأنّ اللَّه مثلًا في السماء وأنزل القرآن إلى الأرض، بل التعبير يشير إلى علو مكانة رب العالمين.
2- القرآن في حديثه عن اليهود لا يوبّخ الجميع بسبب ذنوب الأكثرية، بل يستعمل كلمات مثل «فريق» «أكثر» ليصون حق الأقلية المؤمنة المتقية، وطريقة القرآن هذه في حديثه عن الامم درس لنا كي لا نحيد في أحاديثنا ومواقفنا عن الحق والحقيقة.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 91
وَ اتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَ مَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَ لكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَ مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَ مَارُوتَ وَ مَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ مَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَ يَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَ لَا يَنْفَعُهُمْ وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَ لَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) سليمان وسحرة بابل: يفهم من الأحاديث أنّ مجموعة من الناس مارست السحر في عصر النبي سليمان عليه السلام
فأمر سليمان بجمع كل أوراقهم وكتاباتهم، واحتفظ بها في مكان خاص. بعد وفاة سليمان عمدت جماعة إلى إخراج هذه الكتابات، وبدأوا بنشر السحر وتعليمه، واستغلت فئة هذه الفرصة فأشاعت أنّ سليمان لم يكن نبياً أصلًا.
مجموعة من بني إسرائيل سارت مع هذه الموجة ولجأت إلى السحر، وتركت التوراة.
عندما ظهر النبي الخاتم صلى الله عليه و آله وجاءت آيات القرآن مؤيدة لنبوة سليمان، قال بعض أحبار اليهود: ألا تعجبون من محمّد يقول: سليمان نبي وهو ساحر!
وجاءت الآية ترد على مزاعم هؤلاء وتنفي هذه التهمة الكبرى عن سليمان عليه السلام «1».
الآية الاولى إذن تكشف فضيحة اخرى من فضائح اليهود وهي إتهامهم لنبي اللَّه بالسحر والشعوذة، تقول الآية عن هؤلاء القوم: «وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمنَ».
المقصود بكلمة «الشياطين» قد يكون الطغاة من البشر أو من الجن أو من كليهما.
ثم تؤكد الآية على نفي الكفر عن سليمان: «وَمَا كَفَرَ سُلَيْمنُ».
______________________________
(1) سيرة ابن هشام 2/ 192؛ وتفسير مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 92
فسليمان عليه السلام لم يلجأ إلى السحر، ولم يحقق أهدافه عن طريق الشعوذة: «وَلكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلّمُونَ النَّاسَ السّحْرَ» «1». هؤلاء اليهود لم يستغلّوا ما تعلموه من سحر الشياطين فحسب، بل أساؤوا الاستفادة أيضاً من تعليمات هاروت وماروت: «وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هرُوتَ وَمرُوتَ».
هاروت وماروت ملكان إلهيّان جاءا إلى الناس في وقت راج السحر بينهم وابتلوا بالسحرة والمشعوذين، وكان هدفهما تعليم الناس سبل إبطال السحر، وكما أنّ إحباط مفعول القنبلة يحتاج إلى فهم لطريقة فعل القنبلة، كذلك كانت عملية إحباط السحر تتطلب تعليم الناس اصول السحر، ولكنهما كانا يقرنان هذا التعليم بالتحذير من السقوط في الفتنة بعد تعلم السحر: «وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ
أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ».
وسقط اولئك اليهود في الفتنة، وتوغلوا في انحرافهم، فزعموا أنّ قدرة سليمان لم تكن من النبوّة، بل من السحر والسحرة، وهذا هو دأب المنحرفين دائماً، يحاولون تبرير انحرافاتهم بإتهام العظماء بالانحراف.
هؤلاء القوم لم ينجحوا في هذا الاختبار الإلهي، فأخذوا العلم من الملكين واستغلّوه على طريق الإفساد لا الإصلاح، لكن قدرة اللَّه فوق قدرتهم وفوق قدرة ما تعلموه: «فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ».
لقد تهافتوا على إقتناء هذا المتاع الدنيوي وهم عالمون بأنّه يصادر آخرتهم «وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَيهُ مَا لَهُ فِى الْأَخِرَةِ مِنْ خَلقٍ» «2». لقد باعوا شخصيتهم الإنسانية بهذا المتاع الرخيص «وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ».
لقد أضاعوا سعادتهم وسعادة مجتمعهم عن علم ووعي، وغرقوا في مستنقع الكفر والإنحراف «وَلَوْ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ».
بحثان
1
- قصّة هاروت وماروت: شاع السحر في أرض بابل وأدّى إلى إحراج الناس
______________________________
(1) «السحر»: نوع من الأعمال الخارقة للعادة، تؤثر في وجود الإنسان، و هو أحياناً نوع من المهارة والخفة في الحركة وإيهام للأنظار كما إنّه أحيانا ذو طابع نفسي خيالي.
(2) «الخلاق»: يعني الخُلُق، وقد يعني الحظّ والنصيب وهذا هو معنى الكلمة في الآية.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 93
وازعاجهم، فبعث اللَّه ملكين بصورة البشر، وأمرهما أن يعلما الناس طريقة إحباط مفعول السحر، ليتخلصوا من شر السحرة. كان الملكان مضطرين لتعليم الناس اصول السحر، باعتبارها مقدمة لتعليم طريقة إحباط السحر، واستغلت مجموعة هذه الاصول، فانخرطت في زمرة الساحرين، وأصبحت مصدر أذى للناس. الملكان حذرا الناس- حين التعليم- من الوقوع
في الفتنة، ومن السقوط في حضيض الكفر بعد التعلم، لكن هذا التحذير لم يؤثر في مجموعة منهم «1».
2- لا قدرة لأحد على عمل دون إذن اللَّه: نفهم من قول اللَّه في هذه الآيات أنّ السحرة ما كانوا قادرين على إنزال الضّر بأحد دون إذن اللَّه سبحانه، وليس في الأمر «جبر» ولا إرغام، بل إنّ هذا المعنى يشير إلى مبدأ أساس في التوحيد، وهو أنّ كل القوى في هذا الكون تنطلق من قدرة اللَّه تعالى، النار إذ تحرق إنّما تحرق بإذن اللَّه، والسكين إذ تقطع إنما تقطع بأمر اللَّه، لا يمكن للساحر أن يتدخل في عالم الخليقة خلافاً لإرادة اللَّه.
كل ما نراه من آثار وخواص إنّما هي آثار وخواص جعلها اللَّه سبحانه للموجودات المخلتفة، ومن هذه الموجودات من يحسن الاستفادة من هذه الهبة الإلهيّة ومنهم من يسي ء الاستفادة منها. و «الاختيار» الذي منحه اللَّه للإنسان إنّما هو وسيلة لإختباره وتكامله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَ قُولُوا انْظُرْنَا وَ اسْمَعُوا وَ لِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَ لَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ اللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
سبب النّزول
في تفسير مجمع البيان: لمّا قدّم سبحانه نهي اليهود عن السحر، عقبه بالنهي عن إطلاق هذه اللفظة فقال سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَقُولُوا رَاعِنَا» كان المسلمون يقولون: يا رسول اللَّه! راعنا. أي استمع منّا. فحرّفت اليهود هذه اللفظة، فقالوا: يا محمّد! راعنا. وهم يلحدون إلى الرعونة يريدون به النقيصة والوقيعة فلما عوتبوا قالوا: نقول كما يقول
______________________________
(1) تفسير مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث؛ وسائل الشيعة 12/ 106.
مختصر الامثل،
ج 1، ص: 94
المسلمون، فنهى اللَّه عن ذلك «لَاتَقُولُوا رَاعِنَا» «وَقُولُوا انْظُرْنَا».
التّفسير
لا توفّروا للأعداء فرصة الطعن: الآية الكريمة تخاطب المسلمين قائلة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ».
ممّا سبق من سبب نزول هذه الآية الكريمة نستنتج أنّ على المسلمين أن لا يوفروا للأعداء فرصة الطعن بهم، وأن لا يتيحوا لهم بفعل أو قول ذريعة يسيئون بها إلى الجماعة المسلمة.
حين يشدد الإسلام إلى هذا الحد في هذه المسألة البسيطة، فإنّ تكليف المسلمين في المسائل الكبرى واضح، عليهم في مواقفهم من المسائل العالمية أن يسدوا الطريق أمام طعن الأعداء، وأن لا يفتحوا ثغرة ينفذ منها المفسدون من الداخل والخارج للإساءة إلى سمعة الإسلام والمسلمين.
الآية التالية تكشف عن حقيقة ما يكنّه مجموعة من أهل الكتاب والمشركين من حقد وعداء للجماعة المؤمنة: «مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِنْ رَّبّكُمْ»، وسواء ودّ هؤلاء أم لم يودّوا فرحمة اللَّه لها سنّة إلهيّة ولا تخضع للميول والأهواء: «وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ».
الحاقدون لم يطيقوا أن يروا ما شمل اللَّه المسلمين من فضل ونعمة، وما منّ عليهم من رسالة عظيمة، ولكن فضل اللَّه عظيم.
مغزى قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا»: أكثر من ثمانين موضعاً خاطب اللَّه المسلمين في كتابه الكريم بهذه العبارة، وكل هذه المواضع من القرآن الكريم نزلت في المدينة، ولا وجود لهذه العبارة في الآيات المكية، ولعلّ ذلك يعود إلى تشكل الجماعة المسلمة في المدينة، وإلى ظهور المجتمع الإسلامي بعد الهجرة. ولذلك خاطب اللَّه الجماعة المؤمنة بعبارة «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا»، وهذا الخطاب يتضمن إشارة إلى ميثاق التسليم الذي عقدته الجماعة المسلمة مع ربّهابعد
الإيمان به، وهذا الميثاق يفرض على الجماعة الطاعة والإنصياع لأوامر ربّ العالمين، والإستجابة لما يأتي بعد هذه العبارة من أحكام.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 95
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (106) أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لَا نَصِيرٍ (107) الغرض من النسخ: الآية الاولى تشير أيضاً إلى بعد آخر من أبعاد حملة التشكيك اليهودية ضد المسلمين. كان هؤلاء القوم يخاطبون المسلمين أحياناً قائلين لهم إنّ الدين دين اليهود وأنّ القبلة قبلة اليهود، ولذلك فإنّ نبيّكم يصلي تجاه قبلتنا (بيت المقدس)، وحينما نزلت الآية (144) من هذه السورة وتغيرت بذلك جهة القبلة، من بيت المقدس إلى مكة، غيّر اليهود طريقة تشكيكهم، وقالوا: لو كانت القبلة الاولى هي الصحيحة، فلم هذا التغيير؟
وإذا كانت القبلة الثانية هي الصحيحة، فكل أعمالكم السابقة- إذن- باطلة.
القرآن الكريم في هذه الآية يرد على هذه المزاعم وينير قلوب المؤمنين، ويقول: «مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا» «1». وليس مثل هذا التغيير على اللَّه بعسير «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».
الآية التالية تؤكد مفهوم قدرة اللَّه سبحانه وتعالى وحاكميته في السماوات والأرض وفي الأحكام، فهو البصير بمصالح عباده: «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ». وفي هذه العبارة من الآية أيضاً تثبيت لقلوب المؤمنين، كي لا تتزلزل أمام حملات التشكيك هذه، وتستمر الآية في تعميق هذا التثبيت، مؤكدة أنّ المجموعة المؤمنة ينبغي أن تعتمد على اللَّه وحده، وتستند إلى قوته وقدرته دون سواه، فليس في هذا الكون سند حقيقي
سوى اللَّه سبحانه: «وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِىّ وَلَا نَصِيرٍ».
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)
سبب النّزول
روي عن ابن عباس أنّه قال: إنّ رافع بن حرملة، ووهب بن زيد قالا لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله:
______________________________
(1) «النسخ»: في اللغة الإزالة، وفي الاصطلاح تغيير حكم شرعي واحلال حكم آخر محله.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 96
إئتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه وفجّر لنا أنهاراً نتبعك ونصدقك. فأنزل اللَّه هذه الآية.
التّفسير
حجج واهية: هذا الآية الكريمة، وإن كانت تخاطب مجموعة من المسلمين ضعاف الإيمان أو المشركين إلّاأنّها ترتبط أيضاً بمواقف اليهود.
لعل هذا السؤال وجه إلى الرسول بعد تغيير القبلة، وبعد حملات التشكيك التي شنها اليهود بين المسلمين وغير المسلمين، واللَّه سبحانه في هذه الآية الكريمة نهى عن توجيه مثل هذه الأسئلة السخيفة: «أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ».
مثل هذا العمل إعراض عن الإيمان واتجاه نحو الكفر، ولذلك قالت الآية: «وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ».
الإسلام طبعاً لا يمنع طرح الأسئلة العلمية والمنطقية، ولا يحول دون طلب المعجزة من أجل إثبات صحة الدعوة، لأنّ مثل هذه الأسئلة والطلبات هي طريق الإدراك والفهم والإيمان.
القرآن الكريم ينبه في هذه الآية بأنّ المجموعة البشرية التي لا تسلك طريق العقل والمنطق في اسئلتها ومطالبتها، سينزل بها ما نزل بقوم موسى.
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (109) وَ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَ آتُوا الزَّكَاةَ وَ
مَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) حسد وعناد: كثير من أهل الكتاب وخاصة اليهود لم يكتفوا بإعراضهم عن الدين المبين، بل كانوا يودّون أن يرتد المسلمون عن دينهم، ولم يكن ذلك إلّاعن حسد يستعر في أنفسهم، تقول الآية: «وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِمْ مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ».
مختصر الامثل، ج 1، ص: 97
وأمام هذه المواقف الدنيئة والنظرات الضيّقة والآمال التافهة والنوايا الخبيثة التي تحملها الفئة الكافرة، يحدد الإسلام موقف الجماعة المسلمة، على أساس من رحابة الصدر وسعة الافق وبعد النظرة «فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ». إنّ «أمر اللَّه» في هذه الآية يعني «أمر الجهاد» ولعل الجماعة المسلمة لم تكن على استعداد شامل لخوض معركة دامية حين نزلت هذه الآية.
الآية التالية تأمر المسلمين بحكمين هامين: إقامة الصلاة باعتبارها رمز إرتباط الإنسان باللَّه، وإيتاء الزكاة وهي أيضاً رمز التكافل بين أبناء الامة المسلمة، وكلاهما ضروريان لتحقيق الانتصار على العدو: «وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَءَاتُوا الزَّكَوةَ».
ثم تؤكد الآية على خلود العمل الصالح وبقائه: «وَمَا تُقَدّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ». واللَّه سبحانه عالم بالسرائر، ويعلم دوافع الأعمال، ولا يضيع عنده أجر العاملين «إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».
بحثان
1- «اصفحوا»: من «صفح» وصفح الشي ء عرضه وجانبه كصفحة الوجه وصفحة السيف وصفحة الحجر، والأمر بالصفح هو الأمر بالإعراض، لكن عطفها على «فاعفوا» يفهم أنّه أمر بالإعراض لا عن جفاء بل عفو وسماح.
2- عبارة «إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ» قد تشير إلى أنّ اللَّه قادر أن ينصر المسلمين على أعدائهم بطرق غيبيه، ولكن طبيعة حياة البشر
والكون قائمة على أنّ الأعمال لا تتم إلّا بالتدريج وبعد توفّر المقدمات.
وَ قَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) احتكار الجنة: القرآن في هاتين الآيتين يشير إلى ادعاء آخر من الادعاءات الفارغة لمجموعة من اليهود والنصارى: «وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى . ثم يجيبهم جواباً رادعاً قائلًا: «تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ».
مختصر الامثل، ج 1، ص: 98
ثم تخاطب الآية رسول اللَّه وتقول: «قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».
بعد التأكيد على أنّ إدعاء هؤلاء فارغ لا قيمة له، وأنّه مجرد امنية تخامر أذهانهم، يطرح القرآن المعيار الأساس لدخول الجنة على شكل قانون عام: «بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبّهِ». ومن هنا فالمشمولون بهذا القانون هم في ظلال رحمة اللَّه «وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ».
ذكر عبارة «وَهُوَ مُحْسِنٌ» بعد طرح مسألة التسليم، إشارة إلى أنّ صفة الإحسان ليست طارئة في نفوس المؤمنين، بل هي خصلة نافذة في أعماق هؤلاء.
ونفي الخوف والحزن عن أتباع خط التوحيد سببه واضح، لأنّ هؤلاء يخافون اللَّه دون سواه، بينما المشركون يخشون من كل ما يهدد مصالحهم الدنيوية التافهة، بل يخشون أموراً خرافية موهومة تقلقهم وتقضّ مضاجعهم.
وَ قَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْ ءٍ وَ قَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْ ءٍ وَ هُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
سبب النّزول
في تفسير مجمع البيان: قال ابن عبّاس: إنّه لمّا قدم وفد
نجران من النصارى على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أتتهم أحبار اليهود فتنازعوا عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال رافع بن حرملة: ما أنتم على شي ء، وجحد نبوّة عيسى وكفر بالإنجيل. فقال رجل من أهل نجران: ليست اليهود على شي ء، وجحد نبوّة موسى وكفر بالتوراة، فأنزل اللَّه هذه الآية.
التّفسير
تعصّب وتناقض: فيما مرّ بنا من آيات رأينا جانباً من الادّعاءات الفارغة التي أطلقها جمع من اليهود والنصارى، ورأينا أنّ هذه الادّعاءات الفارغة تستتبعها روح احتكارية ضيّقة، ثم وقوع في التناقضات. تقول الآية: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَىْ ءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَىْ ءٍ».
ثم تضيف الآية: «وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ». أي: إنّ هؤلاء لديهم الكتاب الذي يستطيع أن ينير لهم الطريق في هذه المسائل، ومع ذلك ينطلقون في أحكامهم من التعصب واللجاج والعناد.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 99
ثم تقول الآية: «كَذلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَايَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ». ثم اختتمت الآية بالتأكيد على أنّ الحقائق إن خفيت في هذه الدنيا، فهي لا تخفى في الآخرة حيث تنكشف كل الأوراق:
«فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ».
وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَ سَعَى فِي خَرَابِهَا أُولئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)
سبب النّزول
روي في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ الآية نزلت في قريش حين منعوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله دخول مكة والمسجد الحرام.
التّفسير
أظلم الناس: سبب النّزول توضّح أنّ الآية تتحدث عن اليهود والنصارى والمشركين.
القرآن يقول لهؤلاء جميعاً ولكل من يسلك طريقاً مشابهاً لهؤلاء: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ
أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِى خَرَابِهَا». ثم تقول الآية: «أُولئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ». أي: إنّ المسلمين والموحدين ينبغي أن يكونوا على درجة من القوة والمقاومة بحيث لا يستطيع الظلمة أن يمدوا أيديهم إلى هذه الأماكن المقدسة.
والآية تبين بعد ذلك العقاب الذي ينتظر هؤلاء الظلمة ممن يريد أن يفصل بين اللَّه وعباده: «لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى الْأَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ».
وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
سبب النّزول
روي في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس: إنّ اليهود أنكروا تحويل القبلة إلى الكعبة عن بيت المقدس فنزلت الآية ردّاً عليهم.
التّفسير
الآية السابقة تحدثت عن الظالمين الذين يمنعون مساجد اللَّه أن يذكر فيها اسمه ويسعون في خرابها، وهذه الآية تواصل موضوع الآية السابقة، فتقول: «وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ
مختصر الامثل، ج 1، ص: 100
مختصر الامثل ج 1 149
فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ». تؤكد هذه الآية أنّ منع الناس عن إحياء المساجد لا يقطع الطريق أمام عبودية اللَّه، فشرق هذا العالم وغربه للَّه سبحانه، فاللَّه سبحانه وتعالى لا يحده مكان، ولذلك تقول الآية بعد ذلك: «إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ».
فلسفة القبلة: اللَّه موجود في كل جهة ومكان، فلماذا وجب الإتجاه نحو القبلة في الصلاة؟
واضح أنّ الإتجاه نحو القبلة لا يعني تحديد ذات الباري تعالى في مكان وفي جهة، بل إنّ الإنسان موجود مادي، ولابد أن يصلي باتجاه معين، ثم إنّ ضرورة الوحدة والتنسيق في صفوف المسلمين تفرض اتجاههم في الصلاة نحو قبلة واحدة، وإلّا ساد الهرج والفوضى، وتفرقت الصفوف وتشتتت.
أضف إلى ذلك أنّ الكعبة التي جعلت قبلة للمسلمين بقعة مقدسة ومن أقدم قواعد التوحيد، والإتجاه نحوها يوقظ في النفوس
ذكريات المسيرة التوحيدية.
وَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) خرافات اليهود والنصارى والمشركين: المسيحيون وجمع من اليهود والمشركون تبنّوا عقيدة تافهة بشأن اتخاذ اللَّه ابناً. الآية الكريمة التي نحن بصددها ذكرت هذا المعتقد المنحرف تقول: «وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا». ثم تجيب عليهم أوّلًا بتنزيه اللَّه عن هذه النسبة:
«سُبْحَانَهُ». فما حاجة اللَّه إلى الولد؟ هل هو محتاج إلى المساعدة أو إلى بقاء النسل؟ نعم، لا يمكن نسبة أي إحتياج إلى اللَّه «بَل لَّهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ»، وجميع الكون خاضع له «كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ».
وليس هو مالك جميع موجودات الكون فحسب، بل هو خالقها ... بل مبدعها أي موجدها دون إحتياج إلى مادة أولية في هذا الإيجاد: «بَدِيعُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».
ما حاجة اللَّه إلى الولد وهو النافذ الإرادة في جميع الموجودات؟ «وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ».
والمراد من عبارة «كُنْ فَيَكُونُ» هي الإرادة التكوينية للَّه تعالى وحاكميته في الخليقة.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 101
دلائل نفي الولد: نسبة الولد إلى اللَّه سبحانه، هي دون شك وليدة سذاجة فكرية، قائمة على أساس مقارنة كل شي ء بالوجود البشري المحدود. الإنسان يحتاج إلى الولد لأسباب عديدة: فهو من جانب ذو عمر محدود يحتاج إلى توليد المثل لاستمرار نسله.
ومن جهة اخرى هو ذو قوة محدودة تضعف بالتدريج، ويحتاج لذلك- وخاصة في فترة الشيخوخة- إلى من يساعده في أعماله.
وهو أيضاً ينطوي على عواطف وحبّ للأنيس، وذلك يتطلب وجود فرد أنيس في حياة الإنسان، والولد يلبي هذه الحاجة.
واضح أنّ كل هذه الامور لا يمكن أن تجد لها مفهوماً بشأن اللَّه سبحانه،
وهو خالق عالم الوجود والقادر على كل شي ء، وهوالأزلي الأبدي.
أضف إلى ذلك، الولد يستلزم أن يكون الوالد جسماً واللَّه منزّه عن ذلك.
وَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْ لَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) حجج اخرى: بمناسبة ذكر حجج اليهود في الآيات السابقة، تتحدث الآية عن حجج مجموعة اخرى من المعاندين ويبدو أنّهم المشركون العرب فتقول: «وَقَالَ الَّذِينَ لَايَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا ءَايَةٌ».
والقرآن يجيب على هذه الطلبات التافهة قائلًا: «كَذلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْأَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ».
لو أنّ هؤلاء يستهدفون حقاً إدراك الحقيقة، ففي هذه الآيات النازلة على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله دلالة واضحة بينة على صدق أقواله، فما الداعي إلى نزول آية مستقلة على كل واحد من الأفراد؟! وما معنى الإصرار على أن يكلمهم اللَّه مباشرة؟!
الآية التالية تخاطب النبي صلى الله عليه و آله وتبين موقفه من الطلبات المذكورة وتقول: «إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا».
فمسؤولية الرّسول بيان الأحكام الإلهيّة، وتقديم المعاجز، وتوضيح الحقائق، وهذه الدعوة ينبغي أن تقترن بتبشير المهتدين وإنذار العاصين وهذه مسؤوليتك أيّها الرسول،
مختصر الامثل، ج 1، ص: 102
وأمّا الفئة التي لا تذعن للحق بعد كل هذه الآيات فانت غير مسؤول عنها: «وَلَا تُسَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ».
وَ لَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ
يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
أسباب النّزول
في تفسير الدرّ المنثور عن ابن عباس أنّ يهود المدينة ونصارى نجران، كانوا يرجون أن يصلّى النبي صلى الله عليه و آله إلى قبلتهم، فلمّا صرف اللَّه القبلة إلى الكعبة شقّ ذلك عليهم وآيسو أن يوافقهم على دينهم فأنزل اللَّه «وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى الآية لتعلن للنبي أنّه لا يرضي كل فرقة منهم إلّاأن يتبع ملّتهم أي: قبلتهم.
وبشأن نزول الآية الثانية وردت روايات مختلفة، ففي تفسير مجمع البيان عن ابن عباس:
نزلت في أهل السفينة الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة وكانوا أربعين رجلًا، إثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من رهبان الشام، منهم بحيرا. وقيل: هم من آمن من اليهود كعبد اللَّه بن سلام، وشعبة بن عمرو، وتمام بن يهودا، وأسد واسيد إبني كعب وابن يامين.
التّفسير
إرضاء هذه المجموعة محال: الآية السابقة رفعت المسؤولية عن النبي صلى الله عليه و آله إزاء الضالين المعاندين. والآية أعلاه تواصل الموضوع السابق وتخاطب الرسول بأن لا يحاول عبثاً في كسب رضا اليهود والنصارى لأنّه: «وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ».
واجبك أن تقول لهم: «إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى . هدى اللَّه هو الهدى البعيد عن الخرافات وعن الأفكار التافهة التي تفرزها عقول الجهّال.
ثم تقول الآية: «وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِى جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِىّ وَلَا نَصِيرٍ».
مختصر الامثل، ج 1، ص: 103
وبعد أن ذمّ القرآن الفئة المذكورة من اليهود والنصارى، أشاد باولئك الذين آمنوا من أهل الكتاب وانضموا تحت راية الرسالة الخاتمة: «الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ [أي: بالتفكر والتدبر ثم العمل به
أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ». أي: يؤمنون بالرسول الكريم صلى الله عليه و آله «وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ».
بحوث
1- سؤال عن عصمة الأنبياء: العبارة القرآنية: «وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أهوَاءَهُمْ» قد تثير سؤالًا بشأن عصمة الأنبياء، فهل يمكن للنبي صلى الله عليه و آله- وهو معصوم- أن يتبع أهواء المنحرفين من اليهود والنصارى؟
في الجواب نقول: مثل هذه التعبيرات تكررت في القرآن الكريم، ولا تتعارض مع مقام عصمة الأنبياء لأنّها- من جهة- جملة شرطية والجملة الشرطية لا تدل على تحقق الشرط.
ومن جهة اخرى، عصمة الأنبياء لا تجعل الذنب على الأنبياء محالًا، بل المعصوم له قدرة على إرتكاب الذنب، ولم يسلب منه الإختيار، ومع ذلك لم يتلوث بالذنوب.
من جهة ثالثة، هذا الخطاب وإن اتّجه إلى النبي صلى الله عليه و آله ولكن قد يكون موجهاً إلى الناس جميعاً.
2- للإسترضاء حدود: صحيح أنّ الإنسان الرّسالي يجب أن يسعى بأخلاقه إلى جذب الأعداء إلى صفوف الدعوة، لكن مثل هذا الموقف يجب أن يكون تجاه المخالفين الذين يتحركون في مخالفتهم من موقع الغفلة والمرونة، أمّا الموقف تجاه المعاندين المتصلبين فينبغي أن يكون غير ذلك، ولا يجوز إهدار الوقت مع هؤلاء، بل لابدّ من الإعراض عنهم وتركهم.
3- حق التلاوة: عبّر القرآن عن الفئة المهتدية من أهل الكتاب بأنّهم «يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ»، وهو تعبير عميق.
في تفسير الميزان عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية: «يرتّلون آياته، ويتفقّهون به، ويعملون بأحكامه، ويرجون وعده، ويخافون وعيده، ويعتبرون بقصصه، ويأتمرون بأوامره، وينتهون بنواهيه، ما هو واللَّه حفظ آياته ودرس حروفه، وتلاوة سوره ودرس أعشاره وأخماسه «1»، حفظوا حروفه وأضاعوا حدوده، وإنّما هو تدبّر آياته والعمل بأحكامه، قال اللَّه تعالى: «كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ
مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا ءَايَاتِهِ»
______________________________
(1) المقصود من الأعشار والأخماس تقسيمات القرآن.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 104
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَ اتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَ لَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَ لَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) مرّة اخرى يتّجه الخطاب الإلهي إلى بني إسرائيل ليذكرهم بالنعم التي احيطوا بها، فتقول الآية: «يَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ». أي: على كل من كان يعيش في ذلك الزمان.
كل نعمة تقترن بمسؤولية، وتقترن بالتزام وتكليف إلهي جديد، ولذلك قال سبحانه في الآية التالية: «وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّاتَجْزِى نَفْسٌ عَنْ نَّفْسٍ شَيًا». «وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ». أي:
غرامة أو فدية، «وَلَا تَنْفَعُهَا شَفعَةٌ» إلّابإذن اللَّه، ولا يستطيع أحد غير اللَّه أن يساعد أحداً «وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ».
وَ إِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) الإمامة قمة مفاخر إبراهيم عليه السلام: هذه الآية وما بعدها تتحدث عن بطل التوحيد نبيّ اللَّه الكبير إبراهيم عليه السلام وعن بناء الكعبة وأهمّية هذه القاعدة التوحيدية العبادية.
والهدف من هذه الآيات- وعددها ثماني عشرة آية- ثلاثة امور:
أوّلًا: أن تكون مقدمة لمسألة تغيير القبلة التي ستطرح بعد ذلك.
ثانياً: لفضح إدّعاءات اليهود والنصارى بشأن انتسابهم لإبراهيم.
ثالثاً: لتفهيم مشركي العرب أيضاً ببعدهم عن منهج النبي الكبير محطم الأصنام، والرّد على ما كانوا يتصوّرونه من إرتباط بينهم وبين إبراهيم.
الآية الكريمة تقول أوّلًا: «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ». وبعد أن اجتاز هذه الاختبارات بنجاح استحق أن يمنحه اللَّه الوسام الكبير: «قَالَ إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا».
وهنا تمنّى إبراهيم عليه السلام
أن يستمر خط الإمامة من بعده، وأن لا يبقى محصوراً بشخصه «قَالَ وَمِنْ ذُرّيَّتِى». لكنّ اللَّه أجابه: «قَالَ لَايَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ».
مختصر الامثل، ج 1، ص: 105
وقد استجيب طلب إبراهيم عليه السلام في استمرار خط الإمامة في ذريّته، لكن هذا المقام لا يناله إلّاالطاهرون المعصومون من ذرّيّته لا غيرهم.
بحوث
1- المقصود من «الكلمات»: من دراسة آيات القرآن الكريم بشأن إبراهيم عليه السلام نفهم أنّ المقصود من الكلمات هو مجموعة المسؤوليات والمهام الثقيلة الصعبة التي وضعها اللَّه على عاتق إبراهيم عليه السلام وهي عبارة عن:
أخذ ولده إلى المذبح والاستعداد التام لذبحه، إطاعة لأمر اللَّه سبحانه.
إسكان الزوج والولد في واد غير ذي زرع بمكة، حيث لم يسكن فيه إنسان.
النهوض بوجه عَبَدة الأصنام وتحطيم الأصنام، والوقوف ببطولة في تلك المحاكمة التاريخية، ثم إلقاؤه في وسط النيران، وثباته ورباطة جأشه في كل هذه المراحل.
الهجرة من أرض عبدة الأصنام والإبتعاد عن الوطن، والإتجاه نحو أصقاع نائية لأداء رسالته ... وأمثالها «1».
كان كل واحد من هذه الاختبارات ثقيلًا وصعباً حقّاً، لكنّه بقوّة إيمانه نجح فيها جميعاً، وأثبت لياقته لمقام «الإمامة».
2- من هو الإمام؟ يتبيّن من الآية الكريمة التي نحن بصددها، أنّ منزلة الإمامة الممنوحة لإبراهيم عليه السلام بعد كل هذه الاختبارات، تفوق منزلة النبوّة والرسالة.
روي في الكافي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام يقول: «إنّ اللَّه تبارك وتعالى اتّخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبيّاً، وإنّ اللَّه اتّخذه نبيّاً قبل أن يتخذه رسولًا، وإنّ اللَّه اتّخذه رسولًا قبل أن يتخذه خليلًا، وإنّ اللَّه اتّخذه خليلًا قبل أن يجعله إماماً، فلما جمع له الأشياء، قال: «إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا» قال: فمن عظمها في عين إبراهيم قال: «وَمِنْ ذُرّيَّتِى قَالَ لَايَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ»
قال: لا يكون السفيه إمام التقي».
3- الفرق بين النبوة والإمامة والرسالة: يفهم من الآيات الكريمة والمأثور عن المعصومين، أنّ حملة المهمات من قبل اللَّه تعالى لهم منازل مختلفة:
______________________________
(1) روى عن ابن عباس أنه استخرج اختبارات إبراهيم من أربع سور قرآنية فكانت ثلاثين موضعاً (تفسير المنار، ذيل الآية مورد البحث)، وخلاصتها ما ذكرناه.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 106
أ) منزلة النبوة: أي إستلام الوحي من اللَّه، فالنبي هو الذي ينزل عليه الوحي، ومايستلمه من الوحي يعطيه للناس إن طلبوا منه ذلك.
ب) منزلة الرسالة: وهي منزلة إبلاغ الوحي، ونشر أحكام اللَّه، وتربية الأفراد عن طريق التعليم والتوعية. فالرّسول إذن هو المكلف بالسعي في دائرة مهمته لدعوة الناس إلى اللَّه وتبليغ رسالته، وبذل الجهد لتغيير فكري عقائدي في مجتمعه.
ج) منزلة الإمامة: وهي منزلة قيادة البشرية، فالإمام يسعى إلى تطبيق أحكام اللَّه عملياً عن طريق إقامة حكومة إلهية وإستلام مقاليد الأمور اللازمة.
بعبارة اخرى، مهمة الإمام تنفيذ الأوامر الإلهية، بينما تقتصر مهمة الرسول على تبليغ هذه الأوامر.
4- مَن الظالم؟ المقصود من «الظلم» في التعبير القرآني: «لَايَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ» لا يقتصر على ظلم الآخرين، بل الظلم (مقابل العدل)، وقد استعمل هنا بالمعنى الواسع للكلمة، ويقع في النقطة المقابلة للعدل: وهو وضع الشي ء في محله.
فالظلم إذن وضع الشخص أو العمل أو الشي ء في غير مكانه المناسب.
ولمّا كانت منزلة الإمامة والقيادة الظاهرية والباطنية للبشرية منزلة ذات مسؤوليات جسيمة هائلة عظيمة، فإنّ لحظة من الذنب والمعصية خلال العمر تسبب سلب لياقة هذه المنزلة عن الشخص. لذلك نرى أئمّة آل البيت عليهم السلام يثبتون بهذه الآية تعيّن الخلافة بعد النبي مباشرة لعلي عليه السلام وإنحصارها به، مشيرين إلى أنّ الآخرين عبدوا الأصنام في الجاهلية، وعلي عليه السلام
وحده لم يسجد لصنم. وأيّ ظلم أكبر من عبادة الأصنام؟ ألم يقل لقمان لابنه: «يَا بُنَىَّ لَاتُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» «1».
5- تعيين الإمام من قبل اللَّه: من الآية مورد البحث نفهم ضمنياً أنّ الإمام (القائد المعصوم لكل جوانب المجتمع) يجب أن يكون معيناً من قبل اللَّه سبحانه، لما يلي:
أوّلًا: الإمامة ميثاق إلهي، وطبيعي أن يكون التعيين من قبل اللَّه، لأنّه طرف هذا الميثاق.
ثانياً: الأفراد الذين تلبسوا بعنوان الظلم، ومارسوا في حياتهم لحظة ظلم بحق أنفسهم أو بحق الآخرين، كأن تكون لحظة شرك مثلًا، لا يليقون للإمامة، فالإمام يجب أن يكون طيلة عمره معصوماً.
______________________________
(1) سورة لقمان/ 13.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 107
وهل يعلم ذلك في نفوس الأفراد إلّااللَّه؟
ولو أردنا بهذا المعيار أن نعيّن خليفة لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله فلا يمكن أن يكون غير علي عليه السلام.
وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَ عَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْعَاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) عظمة بيت اللَّه: بعد الإشارة إلى مكانة إبراهيم عليه السلام في الآية السابقة، تناولت هذه الآية موضوع عظمة الكعبة التي وضع قواعدها إبراهيم عليه السلام فهي تبدأ بالتذكير بعبارة «وَإذ» أي:
اذكروا: «وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا».
«المثابة»: من الثوب، أي عودة الشي ء إلى حالته الاولى، ولما كانت الكعبة مركزاً يتجه إليه الموحدون كل عام، فهي محل لعودة جسمية وروحية إلى التوحيد والفطرة الاولى، ومن هنا كانت مثابة.
الكعبة- طبقاً للآية أعلاه- ملاذ وبيت آمن، والإسلام وضع الأحكام المشددة بشأن إبعاد هذه الأرض المقدسة عن كل نزاع واشتباك وحرب وإراقة دماء، وليس أفراد البشر آمنين هناك فحسب، بل الحيوانات
والطيور آمنة أيضاً في هذه البقعة، ولا يحق لأحد أن يمصها بسوء.
وهذه الصفة للبيت هي استجابة لأحد مطاليب إبراهيم عليه السلام من ربّه.
ثم تضيف الآية: «وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرهِيمَ مُصَلًّى».
ثم تشير الآية إلى المسؤولية المعهودة إلى إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام بشأن تطهير البيت للطائفين والمجاورين والمصلين: «وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرهِيمَ وَإِسْمعِيلَ أَنْ طَهّرَا بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ».
والتطهير: تعني تطهير هذا البيت ظاهرياً ومعنوياً من كل تلويث.
بيت اللَّه: وصفت الكعبة بأنّها بيت اللَّه، وعبّرت الآية عن الكعبة ب «بيتى»، وواضح أنّ اللَّه ليس بجسم، ولا يحده بيت، ولا يحتاج إلى ذلك، وهذه الإضافة هي «إضافة تشريفية» تبين قدسية الشي ء الذي ينسب إلى اللَّه، ولذلك كان شهر رمضان «شهر اللَّه» وكانت الكعبة «بيت اللَّه».
مختصر الامثل، ج 1، ص: 108
وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذَا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (126) إبراهيم يدعو ربّه: في هذه الآية توجه إبراهيم إلى ربّه بطلبين هامين لسكنة هذه الأرض المقدسة، أشرنا إلى أحدهما في الآية السابقة. القرآن يذكّر بما قاله إبراهيم: «وَإِذْ قَالَ إِبْرهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هذَا بَلَدًا ءَامِنًا».
والطلب الآخر هو: «وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ».
وهكذا يطلب إبراهيم «الأمن» أوّلًا، ثم «المواهب الاقتصادية»، إشارة إلى أنّ الاقتصاد السالم لا يتحقق إلّابعد الأمن الكامل.
واللَّه سبحانه استجاب لإبراهيم طلبه الثاني أيضاً، ولكنّه «قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَليِلًا» في الدّنيا، «ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» في الحياة الآخرة.
وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
(127) رَبَّنَا وَ اجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَ تُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) إبراهيم يبني الكعبة: نفهم بوضوح من خلال آيات الذكر الحكيم أنّ بيت الكعبة كان موجوداً قبل إبراهيم، وكان قائماً منذ زمن آدم. وهذه الآية تدلّ على أنّ بيت الكعبة كان له نوع من الوجود حين جاء إبراهيم مع زوجه وابنه الرضيع إلى مكّة. وتقول الآية 96 من سورة آل عمران: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا». ومن المؤكّد أنّ عبادة اللَّه وإقامة أماكن العبادة لم تبدأ في زمن إبراهيم، بل كانتا منذ أن خلق الإنسان على ظهر هذه الأرض.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 109
عبارة الآية الاولى من الآيات محل البحث تؤكد هذا المعنى، إذ تقول: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».
فإبراهيم وإسماعيل قد رفعا قواعد البيت التي كانت موجودة.
في الآيتين التاليتين يتضرع إبراهيم وإسماعيل إلى ربّ العالمين بخمسة طلبات هامة.
قالا أوّلًا: «رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ».
ثم أضافا: «وَمِنْ ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ».
وطلبا تفهم طريق العبادة: «وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا»، ليعبدا اللَّه حق عبادته.
ثم طلبا التوبة: «وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».
الآية الأخيرة تضمنت الطلب الخامس، وهو هداية الذريّة: «رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَاتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».
ولعل التفاوت بين «الكتاب» و «الحكمة» في أنّ الكتاب يعني الكتب السماوية، والحكمة تعني العلوم والأسرار والعلل والنتائج الموجودة في الأحكام، وهي التي يعلمها النبي أيضاً.
بحوث
1- هدف بعثة الأنبياء: في الآيات أعلاه،
بعد أن يطلب إبراهيم وإسماعيل من اللَّه ظهور نبي الإسلام، يذكران ثلاثة أهداف لبعثة:
الأوّل: تلاوة آيات اللَّه على الناس، أى إيقاظ الأفكار والأرواح في ظل الآيات الإلهية المبشرة والمنذرة.
«يتلو» من تلا، أي اتبع الشي ء بالشي ء، وسميت «التلاوة» كذلك لأنّها قراءة وفق تتبع ونظم. هي مقدمة لليقظة والإعداد والتعليم والتربية.
الثاني: «تعليم الكتاب والحكمة» ولا تتحقق التربية إلّابالتعليم.
ولعل التفاوت بين «الكتاب» و «الحكمة» في أنّ الكتاب يعني الكتب السماوية، والحكمة تعني العلوم والأسرار والعلل والنتائج الموجودة في الأحكام، وهي التي يعلمها النبي أيضاً.
الثالث: «التزكية» وهو الهدف الأخير.
«التزكية»: في اللغة هي الإنماء، وهي التطهير أيضاً.
وبذلك يتلخص الهدف النهائي من بعثة الأنبياء في دفع الإنسان على مسيرة التكامل «العلمي» و «العملي».
مختصر الامثل، ج 1، ص: 110
2- هل «التعليم» مقدم أم «التربية»؟ في أربعة مواضع ذكر القرآن مسألة التربية والتعليم باعتبارهما هدف الأنبياء، وفي ثلاثة مواضع منها قُدمت «التربية» على «التعليم» (البقرة، 151- آل عمران، 164- الجمعة، 2). وفي موضع واحد تقدم التعليم على التربية (آية بحثنا). ونعلم أنّ التربية لا تتم إلّابالتعليم. لذلك حين يتقدم التعليم على التربية في الآية فإنّما ذلك بيان للتسلسل المنطقي الطبيعي لهما، وفي المواضع التي تقدمت فيها التربية، فقد يكون ذلك إشارة إلى أنّها الهدف، لأنّ الهدف الأصلي هو التربية، وما عداها مقدمة لها.
3- النبي من الناس: تعبير «منهم» في الآية «وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ» يشير إلى أنّ القادة البشرية ينبغي أن يكونوا بشراً بنفس صفات البشر الغريزية، كي يكونوا القدوة اللائقة في الجوانب العملية، ومن الطبيعي أنّهم- لو كانوا من غير البشر- ما استطاعوا إدراك حاجات الناس والمشكلات العويصة الكامنة لهم في حياتهم، ولا أمكنهم أن يكونوا قدوة واسوة لهم.
وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ
إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَ لَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَ وَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) إبراهيم الإنسان النموذج: الآيات السابقة ألقت الضوء على جوانب من شخصية إبراهيم عليه السلام فتحدثت عن بعض خدماته وطلباته الشاملة للجوانب المادية والمعنوية. من مجموع ما مر نفهم أنّ اللَّه سبحانه شاء أن يكون هذا النبي، شيخ الموحدين وقدوة الرساليين، على مر العصور. لذلك تقول الآية الاولى من آيات بحثنا هذا: «وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ». أليس من السفاهة أن يعرض الإنسان عن مدرسة الطهر والنقاء والفطرة والعقل وسعادة الدنيا والآخرة، ويتجه إلى طريق الشرك والكفر والفساد وضياع العقل والانحراف عن الفطرة وفقدان الدين والدنيا؟
ثم تضيف الآية: «وَلَقَدِ اصْطَفَيْنهُ فِى الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الْأَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ».
الآية التالية تؤكد على صفة اخرى من صفات إبراهيم التي هي في الواقع أساس بقية
مختصر الامثل، ج 1، ص: 111
صفاته العظيمة وتقول: «إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ».
ووصية إبراهيم بنيه في أواخر أيام حياته تجسيد آخر لهذه الحياة الشامخة: «وَوَصَّى بِهَا إِبْرهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ». فكل من إبراهيم ويعقوب وصّيا أبناءهما بالقول: «يَا بَنِىَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ».
لعل القرآن الكريم، بنقله وصية إبراهيم، يريد أن يقول للإنسان إنّه مسؤول عن مستقبل أبنائه، عليه أن يهتم بمستقبلهم المعنوي قبل أن يهتم بمستقبلهم المادي.
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبَائِكَ
إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ إِلهاً وَاحِداً وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَ لَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)
سبب النّزول
في تفسير الصافي: إنّ اليهود قالوا لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله: ألست تعلم أنّ يعقوب أوصى بنيه باليهودية يوم مات؟ فنزلت.
التّفسير
كما رأينا في سبب النزول، وظاهر الآية يدل على ذلك أيضاً، كان جمع من منكري الإسلام ينسبون ما لا ينبغي نسبته إلى النبي يعقوب، والقرآن يردّ عليهم بالقول: «أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ». هذا الذي نسبوه إليه ليس بصحيح، بل الذي حدث آنذاك «إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى».
في الجواب: «قَالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ ءَابَائِكَ إِبْرهِيمَ وَإِسْمعِيلَ وَإِسْحقَ إِلهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ».
آخر آية في بحثنا، تجيب على توهّم آخر من توهمات اليهود، فكثير من هؤلاء كانوا يستندون إلى مفاخر الآباء والأجداد وقرب منزلة أسلافهم من اللَّه تعالى، فلا يرون بأساً في انحرافهم هم ظانين أنّهم ناجون بوسيلة اولئك الأسلاف. يقول القرآن: «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ».
مختصر الامثل، ج 1، ص: 112
وبذلك أرادت الآية أن توجه أنظار هؤلاء إلى أعمالهم وسلوكهم وأفكارهم، وتصرفهم عن الإنغماس في الإفتخار بالماضين.
وَ قَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَ مَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَ مَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْبَاطِ وَ مَا أُوتِيَ مُوسَى وَ عِيسَى وَ مَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ
مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
سبب النّزول
في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس: إنّ عبد اللَّه بن صوريا وكعب بن الأشرف ومالك بن الضيف وجماعة من اليهود ونصارى أهل نجران خاصموا أهل الإسلام. كل فرقة تزعم أحق بدين اللَّه من غيرها، فقالت اليهود: نبيّنا موسى أفضل الأنبياء، وكتابنا التوراة أفضل الكتب. وقالت النصارى: نبيّنا عيسى أفضل الأنبياء، وكتابنا أفضل الكتب، وكل فريق منهما قال للمؤمنين: كونوا على ديننا، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.
التّفسير
نحن على حق لا غيرنا: التمحور والإنغماس في الذاتية يؤدي إلى أن يحتكر الإنسان الحق لنفسه، ويعتبر الآخرين على باطل، ويسعى إلى أن يجرهم إلى معتقداته. الآية الاولى تتحدث عن مجموعة من أهل الكتاب يحملون مثل هذه النظرة الضيقة، ونقلت عنهم القول:
«وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا». فيرد عليهم القرآن مؤكداً أنّ الأديان المحرفة لا تستطيع إطلاقاً أن تهدي الإنسان: «قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ».
الآية التالية تأمر المسلمين أن «قُولُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرهِيمَ وَإِسْمعِيلَ وَإِسْحقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِىَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبّهِمْ لَا نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ».
لا يجوز أن ننطلق من محور الذاتية في الحكم على هذا النبي أو ذاك، بل يجب أن ننظر إلى
مختصر الامثل، ج 1، ص: 113
الأنبياء بمنظار رسالي، ونعتبرهم جميعاً رسل ربّ العالمين ومعلمي البشرية، قد أدى كل منهم دوره في مرحلة تاريخية معينة، وكان هدفهم واحداً، وهو هداية الناس في ظل التوحيد الخالص والحق والعدالة.
ثم يضيف القرآن قائلًا: «فَإِنْ ءَامَنُوا بِمِثْلِ مَا ءَامَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَّإِن
تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ».
ولو تخلى هؤلاء عن عنصرية وذاتياتهم، وآمنوا بجميع أنبياء اللَّه فقد اهتدوا أيضاً، وإلّا فقد ضلوا سواء السبيل.
ثم تثبت الآية على قلوب المؤمنين وتبعث فيهم الثقة والطمأنينة بالقول: «فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ» لأقوالهم «الْعَلِيمُ» بمؤامراتهم.
صِبْغَةَ اللَّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَ نَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَ تُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَ هُوَ رَبُّنَا وَ رَبُّكُمْ وَ لَنَا أَعْمَالُنَا وَ لَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَ مَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَ لَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141) التخلي عن غير صبغة اللَّه: بعد الدعوة التي وجهتها الآيات السابقة لإتباع الأديان بشأن إنتهاج طريق جميع الأنبياء، أول آية في بحثنا تأمرهم جميعاً بترك كل صبغة، أي دين، غير «صِبْغَةَ اللَّهِ». ثم تضيف الآية: «وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً». أي: لا أحسن من اللَّه صبغة، «وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ» في إتباع ملة إبراهيم التي هي صبغة اللَّه.
ذكر المفسرون أنّ النصارى دأبوا على غسل أبنائهم بعد ولادتهم في ماء أصفر اللون، ويسمونه غسل التعميد، ويجعلون ذلك تطهيراً للمولود من الذنب الذاتي الموروث من آدم!
القرآن يرفض هذا المنطق الخاوي ويقول: من الأفضل أن تتركوا هذه الصبغات الظاهرية الخرافية المفرقة وتصطبغوا بصبغة اللَّه لتطهر روحكم.
كان اليهود وغيرهم يحاجّون المسلمين بصور شتى، كانوا يقولون: إنّ جميع الأنبياء
مختصر الامثل، ج 1، ص: 114
مبعوثون منا، وإنّ ديننا أقدم الأديان، وكتابنا أعرق الكتب السماوية. القرآن
يردّ على كل هذه الأقاويل ويقول: «قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِى اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ».
واعلموا أيضاً أن لا امتياز لأحد على غيره إلّابالأعمال، وكل شخص رهن أعماله «وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ».
مع فارق، هو إنّ كثيراً منكم يشركون في توحيدهم: «وَنَحْنُ لَهْ مُخْلِصُونَ».
الآية التالية تجيب على واحد آخر من هذه الإدعاءات الفارغة وتقول: «أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرهِيمَ وَإِسْمعِيلَ وَإِسْحقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى .
ثم تجيب الآية عن هذا الإدعاء بشكل رائع فتقول: «قُلْ ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ».
فاللَّه أعلم أنّهم ما كانوا يهوداً ولا نصارى.
وقد تعلمون أنتم وإن كنتم لا تعلمون فاطلاق مثل هذه الأقوال بدون علم وتثبيت تهمة وذنب، وكتمان للحقيقة «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ».
اعلموا أنّه «وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْلَمُونَ».
في آخر آية من الآيات التي نحن بصددها يقول سبحانه لهؤلاء القوم العنودين الجدليين:
افترضوا أنّ إدعاءاتكم صحيحة، فهذا لا يعود عليكم بالنفع لأنّه «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ».
تغيير القبلة: هذه الآية وآيات تالية تتحدث عن حادث مهم من حوادث التاريخ الإسلامي، كان له آثاره الكبيرة في المجتمع آنذاك. رسول الإسلام صلى الله عليه و آله صلّى صوب (بيت المقدس) بأمر ربّه مدة ثلاثة عشر عاماً بعد البعثة في مكة، وبضعة أشهر في المدينة بعد الهجرة. ثم تغيّرت القبلة، وأمر اللَّه المسلمين أن يصلّوا تجاه (الكعبة).
لم يكفّ اليهود بعد هذا التغيير عن اعتراضاتهم، بل واصلوا حربهم الإعلامية بشكل آخر، بدأوا يلقون التشكيكات بشأن هذا التغيير، والقرآن الكريم يتحدث عن هذه الإعتراضات: «سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا» «1».
______________________________
(1) «السفهاء»: جمع «سفيه» أطلقت في الأصل على من خفّت حركة
جسمه، وقيل: زمام سفيه، أي كثير الإضطراب خفيف الوزن. ثم استعملت الكلمة في خفة النفس لنقصان العقل في الامور الدينية والدنيوية.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 115
بدأوا يرددون: لو كانت القبلة الاولى هي الصحيحة فلِمَ هذا التغيير؟
اللَّه سبحانه يجيب على هذا الإعتراض، فأمر رسوله أن «قُلْ لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِى مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ».
فليس للمكان قداسة ذاتية، إنّما يكتسب قداسته بإذن اللَّه، وكل مكان ملك للَّه، والمهم هو الطاعة والإستسلام لربّ العالمين. تغيير القبلة في الواقع مرحلة من مراحل الاختبار الإلهي، وكل مرحلة خطوة على الصراط المستقيم نحو الهداية الإلهيّة.
وَ كَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَ مَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) الامة الوسط: هذه الآية تشير إلى جانب من أسباب تغيير القبلة، تقول أوّلًا: «وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا». أي كما جعلنا القبلة وسطا، كذلك جعلناكم امة في حالة اعتدال.
أما سبب كون قبلة المسلمين قبلة وسطاً، فلأنّ النصارى- الذين يعيش معظمهم في غرب الكرة الأرضية- يولون وجوههم صوب الشرق تقريباً حين يتجهون إلى قبلتهم في بيت المقدس حيث مسقط رأس السيد المسيح، واليهود- الذين يتواجدون غالباً في الشامات وبابل- يتجهون نحو الغرب تقريباً حين يقفون تجاه بيت المقدس.
أمّا «الكعبة» فكانت بالنسبة للمسلمين في المدينة تجاه الجنوب، وبين المشرق والمغرب، وفي خط وسط.
والهدف من ذلك: «لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا».
و «شهادة» الامّة المسلمة على الناس، و «شهادة» النبي على المسلمين، قد تكون إشارة إلى الاسوة والقُدوَة،
لأنّ الشاهد ينتخب من بين أزكى الناس وأمثلهم.
فيكون معنى هذا التعبير القرآني أنّ الامة المسلمة نموذجية بما عندها من عقيدة ومنهج، كما أنّ النبي صلى الله عليه و آله فرد نموذجي بين أبناء الامّة.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 116
ثم تشير الآية إلى سرّ آخر من أسرار تغيير القبلة فتقول: «وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ».
ثم تضيف الآية: «وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ».
لولا الهداية الإلهيّة، لما وجدت في نفس الإنسان روح التسليم المطلق أمام أوامر اللَّه.
وأمام وسوسة الأعداء المضللين والأصدقاء الجاهلين، الذين راحوا يشككون في صحة ما سبق من العبادات قبل تغيير القبلة، تقول الآية: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ».
أسرار تغيير القبلة: لما كانت الكعبة في بداية البعثة المباركة بيتاً لأصنام المشركين، فقد امر المسلمون مؤقتاً بالصلاة تجاه بيت المقدس، ليتحقق الإنفصال التام بين الجبهة الإسلامية وجبهة المشركين.
وبعد الهجرة وإقامة الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي، حدث الإنفصال الكامل بين الجبهتين، ولم تعد هناك ضرورة لاستمرار وضع القبلة، حينئذ عاد المسلمون إلى الكعبة أقدم قاعدة توحيدية، وأعرق مركز للأنبياء.
ومن الطبيعي أن يستثقل الصلاة نحو بيت المقدس اولئك الذين كانوا يعتبرون الكعبة الرصيد المعنوي لقوميتهم، وأن يستثقلوا أيضاً العودة إلى الكعبة بعد أن اعتادوا على قبلتهم الاولى (بيت المقدس).
المسلمون بهذا التحول وُضعوا في بوتقة الاختبار، لتخليصهم مما علق في نفوسهم من آثار الشرك، ولتنقطع كل انشداداتهم بماضيهم المشرك، ولتنمو في وجودهم روح التسليم المطلق أمام أوامر اللَّه سبحانه.
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ مَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) كل الوجوه شطر الكعبة: هذه الآية تشير إلى الأمر الإلهي بتغيير القبلة وتقول: «قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَاءِ فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَيهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ».
مختصر الامثل، ج 1، ص: 117
ذكرت الرواية أنّ هذا الأمر الإلهي نزل في لحظة حساسة ملفتة للأنظار، حين كان الرسول والمسلمون يؤدون صلاة الظهر. فأخذ جبرائيل بذراع الرسول صلى الله عليه و آله وأدار وجهه نحو الكعبة. وتذكر الرواية أنّ صفوف المسلمين تغيرت على أثر ذلك، وترك النساء مكانهن للرجال وبالعكس.
إنّ تغيير القبلة من علامات نبيّ الخاتم المذكورة في الكتب السابقة، فقد كان أهل الكتاب على علم بأنّ النبي المبعوث «يصلّي إلى القبلتين». لذلك تضيف الآية: «وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ».
ثم تقول الآية: «وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ». فهؤلاء الذين يكتمون ما جاء في كتبهم بشأن تغيير قبلة نبيّ الخاتم، ويستغلون هذه الحادثة لإثارة ضجة بوجه المسلمين، بدل أن يتخذوها دليلًا على صدق دعوى النبي، سيلاقون جزاء أعمالهم، واللَّه ليس بغافل عن أعمالهم ونياتهم.
إنّ ضرورة إتجاه المسلمين شطر المسجدالحرام كان باعثاً على تطور علم الهيئة وعلم الجغرافيا والفلك عند المسلمين بسرعة مدهشة خلال العصور الإسلامية الاولى، لأنّ معرفة جهة القبلة في مختلف بقاع الأرض ما كانت متيسرة من دون معرفة بهذه العلوم.
وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَ مَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَ مَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) لا يرضون بأي ثمن: مر بنا في تفسير الآية السابقة أنّ تغيير
القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة لا يمكن أن يثير شبهة حول النبي، بل إنّه من دلائل صحة دعواه، فأهل الكتاب قد قرأوا عن صلاة النبي الموعود إلى قبلتين، لكن تعصبهم منعهم من قبول الحق. لذلك تقول الآية: «وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلّ ءَايَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ».
ثم تضيف الآية: «وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ». أي: إنّ هؤلاء لا يستطيعون مهما افتعلوا من ضجيج، أن يغيروا مرة اخرى قبلة المسلمين، فهذه هي القبلة الثابتة النهائية.
ثم تقول الآية: «وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ».
لا النصارى بتابعين قبلة اليهود، ولا اليهود بتابعين قبلة النصارى.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 118
ولمزيد من التأكيد والحسم ينذر القرآن النبي ويقول: «وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ».
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) يعرفون حق المعرفة ولكن ...: استمراراً لحديث القرآن عن تعصب مجموعة من أهل الكتاب ولجاجهم، تقول الآية: «الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ».
إنّهم يعرفون النبي صلى الله عليه و آله واسمه وعلاماته من خلال كتبهم الدينية، «وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ».
وهناك طبعاً فريق سارع لاعتناق الإسلام بعد أن رأى هذه الصفات والعلامات في نبيّ الأكرم، مثل عبداللَّه بن سلام وهو من علماء اليهود، ونقل عنه بعد إسلامه قوله «أنا أعلم به منّي بابني».
ثم تؤكد الآية ما سبق أن طرحته بشأن تغيير القبلة، أو بشأن أحكام الإسلام بشكل عام: «الْحَقُّ مِن رَّبّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ». أي المترددين.
وبهذه العبارة تثبّت الآية فؤاد النبي، وتنهاه عن أي ترديد أمام افتراءات الأعداء بشأن تغيير القبلة وغيرها، وإن
جنّد هؤلاء الأعداء كل طاقاتهم للمحاربة.
المخاطب في الآية وإن كان شخص النبي صلى الله عليه و آله ولكن الهدف هو تربية البشرية كما ذكرنا من قبل، فمن المؤكد أنّ النبي المتصل بالوحي الإلهي لا يعتريه تردد، لأنّ الوحي بالنسبة له ذو جانب حسي وعين اليقين.
لكل امة قبلة: هذه الآية الكريمة تردّ على الضجة التي أثارها اليهود حول تغيير القبلة وتقول: «وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيهَا».
كان للأنبياء على مرّ التاريخ وجهات عديدة يولّونها، وليست القبلة كاصول الدين لا تقبل التغيير، فلا تطيلوا الحديث في أمر القبلة، وبدل ذلك «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ» لأنّ معيار القيمة الوجودية للإنسان هي أعمال البرّ والخير.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 119
ثم تتغير لهجة الآية إلى نوع من التحذير والتهديد لُاولئك المفترين، والتشجيع للمحسنين فتقول: «أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا» في تلك المحكمة الكبرى حيث يتلقى كل جزاء عمله.
وقد يخال بعض أنّ جمع الناس لمثل هذا اليوم عجيب، فكيف تجتمع ذرات التراب المتناثرة لترتدي ثانية حلّة الحياة؟! لذلك تجيب الآية بالقول: «إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».
وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ مَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِي وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) الخوف من اللَّه فقط: هذه الآيات تتابع الحديث عن مسألة تغيير القبلة ونتائجها. الآية الاولى تأمر النبي عليه السلام وتقول: «وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ» من أية مدينة، وأية ديار «فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ».
ولمزيد من التأكيد تقول الآية: «وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَّبّكَ».
وتنتهي
الآية بتهديد المتآمرين: «وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ».
الآية التالية كررت الحكم العام بشأن التوجه إلى المسجد الحرام في أي مكان: «وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ».
صحيح أنّ هذه العبارة القرآنية تخاطب النبي صلى الله عليه و آله لكنّها تقصد دون شك مخاطبة عامة المسلمين، ولمزيد من التأكيد تخاطب الجملة التالية المسلمين وتقول: «وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ».
ثم تشير الآية إلى ثلاث مسائل هامة:
1- إلجام المعارضين- تقول الآية: «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ».
قبل تغيير القبلة كانت ألسنة المعارضين من اليهود والمشركين تقذف المسلمين بالتهم
مختصر الامثل، ج 1، ص: 120
والحجج، اليهود يعترضون قائلين: إنّ النبي الموعود يصلي إلى قبلتين، وهذه العلامة غير متوفرة في محمّد صلى الله عليه و آله والمشركون يعترضون على النبي قائلين: كيف ترك محمّد الكعبة وهو يدعي أنّه بعث لإحياء ملة إبراهيم. هذا التغيير أنهى كل هذه الإعتراضات. لكن هذا لا يمنع الأفراد اللجوجين المعاندين أن يصروا على مواقفهم، وأن يرفضوا كل منطق، لذلك تقول الآية: «إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ».
2- عندما وصفت الآية هؤلاء المعاندين أنّهم ظالمون، فقد يثير هذا الوصف خوفاً في نفوس البعض لذلك قالت الآية: «فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِى».
وهذه الفقرة من الآية تطرح أصلًا عاماً أساسياً من اصول التربية التوحيدية الإسلامية، هو عدم الخوف من أي شي ء سوى اللَّه.
3- وآخر هدف ذكر لتغيير القبلة هو إتمام النعمة: «وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ».
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَ يُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لَا تَكْفُرُونِ (152) مهمة رسول اللَّه: ذكرت الفقرة الأخيرة من الآية السابقة أنّ أحد أسباب تغيير القبلة هو إتمام
النعمة على الناس وهدايتهم، والآية أعلاه ابتدأت بكلمة «كما» إشارة إلى أنّ تغيير القبلة ليس هو النعمة الوحيدة التي أنعمها اللَّه عليكم، بل منّ عليكم بنعم كثيرة «كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ».
وكلمة «منكم» قد تعني أنّ الرسول بشر مثلكم، والإنسان وحده هو القادر على أن يكون مربي البشر وقدوتهم وأن يتحسس آمالهم وآلامهم، وتلك نعمة كبرى أن يكون الرسول بشراً «منكم».
بعد ذكر هذه النعمة يشير القرآن إلى أربع نِعَم عادت على المسلمين ببركة هذا النبي صلى الله عليه و آله:
1- «يَتْلُوا عَلَيْكُمْ ءَايَاتِنَا». «يتلو»: من «التلاوة» أي من إتيان الشي ء متوالياً، والإتيان بالعبارات المتوالية (وبنظام صحيح) هي التلاوة. النبي صلى الله عليه و آله إذن يقرأ عليكم آيات
مختصر الامثل، ج 1، ص: 121
اللَّه متتالية، لتنفذ إلى قلوبكم، ولإعداد أنفسكم إلى التعليم والتربية.
2- «وَيُزَكّيكُمْ». «التزكية»: هو الزيادة والإنماء، أي إنّ النبي بفضل آيات اللَّه يزيدكم كمالًا مادياً ومعنوياً، ويزيل ألوان الرذائل التي كانت تغمر مجتمعكم في الجاهلية.
3- «وَيُعَلّمُكُمُ الْكِتَابَ والْحِكْمَةَ». التعليم طبعاً مقدم بشكل طبيعي على التربية، ولكنّ القرآن- كما ذكرنا- يقدم التربية في مواضع تأكيداً على أنّها هي الهدف النهائي.
انّ الكتاب إشارة إلى آيات القرآن والوحى الإلهى النازل على النبى بشكل إعجازي والحكمة لها معنى واسع يشمل الكتاب والسنة معاً، أمّا استعمالها القرآني مقابل «الكتاب» (كما في هذه الآية) فيشير إلى أنّها «السنّة» لا غير.
4- «وَيُعَلّمُكُمْ مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ». وهذا الموضوع طرحته الفقرات السابقة من الآية، حيث دار الحديث عن تعليم الكتاب والحكمة لكن القرآن عاد فأكد ذلك في فقرة مستقلة تنبيهاً على أنّ الأنبياء لم يكونوا قادة أخلاقيين واجتماعيين فحسب، بل كانوا هداة طريق العلم والمعرفة، وبدون هدايتهم لم يكتب النضج للعلوم الإنسانية.
بعد
استعراض جانب من النعم الإلهيّة في الآية، تذكر الآية التالية أنّ هذه النعم تستدعي الشكر، وبالاستفادة الصحيحة من هذه النعم يؤدي الإنسان حق شكر الباري تعالى:
«فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِى وَلَا تَكْفُرُونِ».
واضح أنّ عبارة «فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ» تشير إلى أصل تربوي وتكويني، أي اذكروني ...
اذكروا الذات المقدسة التي هي معدن الخيرات والحسنات والمبرات ولتطهر أرواحكم وأنفسكم.
كذلك المقصود من «الشكر وعدم الكفران» استثمار كل نعمة في محلها وعلى طريق نفس الهدف الذي خلقت له، كي يؤدّي ذلك إلى زيادة الرحمة الإلهيّة.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَ لَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَ لكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)
سبب النّزول
روي في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس بشأن نزول الآية الثانية أنّها نزلت في قتلى
مختصر الامثل، ج 1، ص: 122
بدر، وقتل من المسلمين يومئذ أربعة عشر رجلًا، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار، وكانوا يقولون: مات فلان. فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.
التّفسير
الشهداء أحياء: الآيات السابقة عرضت مفاهيم التعليم والتربية والذكر والشكر، وفي الآية الاولى من آيتي بحثنا دار الحديث حول الصبر الذي لا تتحقق المفاهيم السابقة بدونه.
تقول الآية أوّلًا: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَوةِ».
واجهوا المشاكل والصعاب بهاتين القوتين فالنصر حليفكم: «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ».
خلافاً لما يتصور بعض الناس «الصبر» لا يعني تحمل الشقاء وقبول الذلة والإستسلام للعوامل الخارجية، بل الصبر يعني المقاومة والثبات أمام جميع المشاكل والحوادث.
الموضوع الآخر الذي أكدت عليه الآية أعلاه باعتباره السند الهام إلى جانب الصبر هو «الصلاة». في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «كان عليّ عليه السلام إذا هاله شي ء فزع إلى الصّلاة ثم تلا هذه الآية «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ
وَالصَّلَوةِ»».
فالآية أعلاه تطرح مبدأين هامين: الأول الاعتماد على اللَّه، ومظهره الصلاة؛ والآخر الاعتماد على النفس، وهو الذي عبرت عنه الآية بالصبر.
وبعد ذكر الصبر والاستقامة تتحدث الآية التالية عن خلود الشهداء، الذين يجسدون أروع نماذج الصابرين على طريق اللَّه. تقول الآية: «وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ». ثم تؤكّد هذا المفهوم ثانية بالإستدراك. «بَلْ أَحْيَاءٌ وَلكِن لَّاتَشْعُرُونَ».
في كل حركة- أساساً- تنزوي مجموعة محبة للعافية، وتبتعد عن الامة الثائرة، ولا تكتفي هي بالتقاعس والتكاسل، بل تسعى إلى تثبيط عزائم الآخرين وبثّ الرخوة والتماهل في المجتمع.
القرآن الكريم يتحدث عن مثل هذه الفئة كراراً ويؤنبهم بشدة.
هذه الآية تثبت بوضوح بقاء الروح والحياة البرزخية للبشر (الحياة بعد الموت وقبل البعث). سنفصل الحديث في هذا الموضوع عند تناولنا الآية (169) من سورة آل عمران.
وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَرَاتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
مختصر الامثل، ج 1، ص: 123
الدنيا دار اختبار إلهي: بعد ذكر مسألة الشهادة في سبيل اللَّه، والحياة الخالدة للشهداء، تعرضت هذه الآية للاختبار الإلهي العام، ولمظاهره المختلفة، باعتباره سنّة كونية لا تقبل التغيير «وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَىْ ءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْضٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ».
ولما كان الإنتصار في هذه الاختبارات، لا يتحقق إلّافي ظل الثبات والمقاومة، قالت الآية بعد ذلك: «وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ». فالصابرون هم الذين يستطيعون أن يخرجوا منتصرين من هذه الامتحانات، لا غيرهم.
الآية التالية تعرّف الصابرين وتقول: «الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ».
الإقرار التام بالعبودية المطلقة للَّه، يعلمنا أن لا نحزن على
ما فاتنا، لأنّه سبحانه مالكنا ومالك جميع ما لدينا من مواهب، إن شاء منحنا إيّاها، وإن استوجبت المصلحة أخذها منّا، وفي المنحة والمحنة مصلحة لنا.
والإلتفات المستمر إلى حقيقة عودتنا إلى اللَّه سبحانه، يشعرنا بزوال هذه الحياة، وبأنّ نقص المواهب المادية ووفورها عرض زائل، ووسيلة لإرتقاء الإنسان على سلم تكامله، فاستشعار العبودية والعودة في عبارة «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ» له الأثر الكبير في تعميق روح المقاومة والاستقامة والصبر في النفس.
وآخر آية في بحثنا هذا، تتحدث عن الألطاف الإلهيّة الكبرى، التي تشمل الصابرين الصامدين المتخرجين بنجاح من هذه الامتحانات الإلهيّة: «أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبّهِمْ وَرَحْمَةٌ».
هذه الصلوات والرحمة تجعل هؤلاء على بصيرة من أمرهم، في مسيرتهم الحياتية المحفوفة بالمزالق والأخطار، لذلك تقول الآية: «وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ».
بحوث
1- لماذا الإختبار الإلهي؟ أوّل ما يتبادر للذهن في هذا المجال هو سبب هذا الاختبار، فنحن نختبر الأفراد لنفهم ما نجهله عنهم. فهل أنّ اللَّه سبحانه وتعالى بحاجة إلى مثل هذا الاختبار لعباده، وهو العالم بكل الخفايا والأسرار؟ وهل هناك شي ء خفي عنه حتى يظهر له بهذا الإمتحان؟
والجواب أنّ مفهوم الاختبار الإلهي يختلف عن الاختبار البشري.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 124
اختباراتنا البشرية تستهدف رفع الإبهام والجهل، والاختبار الإلهي قصده «التربية». في أكثر من عشرين موضعاً تحدث القرآن عن الاختبار الإلهى، باعتباره سنّة كونية لا تنقص من أجل تفجير الطاقات الكامنة ونقلها من القوة إلى الفعل وبالتالي فالاختبار الإلهي من أجل تربية العباد. يقول سبحانه في الآية (154) من سورة آل عمران: «وَلِيَبْتَلِىَ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ».
ويقول أمير المؤمنين علي عليه السلام في بيان سبب الاختبارات الإلهيّة: «... وإن كان سبحانه أعلم بهم من
أنفسهم، ولكن لتظهر الأفعال الّتي بها يستحقّ الثواب والعقاب» «1».
أي: أنّ الصفات الكامنة لا يمكن أن تكون وحدها معياراً للثواب والعقاب، فلابد أن تظهر من خلال أعمال الإنسان، واللَّه يختبر عباده ليتجلى ما يضمرونه في أعمالهم، ولكي تنتقل قابلياتهم من القوة إلى الفعل، وبذلك يستحقون الثواب أو العقاب.
2- الإختبار الإلهي عام: نظام الحياة في الكون نظام تكامل وتربية، وكل الموجودات الحية تطوي مسيرة تكاملها، حتى الأشجار تعبر عن قابلياتها الكامنة بالأثمار، من هنا فإنّ كل البشر، حتى الأنبياء، مشمولون بقانون الاختبار الإلهي كي تنجلي قدراتهم.
الإمتحانات تشمل الجميع ولا يجرى عن طريق الحوادث الصعبة القاسية فحسب، بل قد يمتحن اللَّه عبده بالخير وبوفور النعمة.
3- عوامل النجاح في الإمتحان: هنا يتعرض الإنسان لاستفهام آخر، وهو أنّه إذا كان القرار أن يتعرض جميع أفراد البشر للامتحان الإلهي، فما هو السبيل لاحراز النجاح والتوفيق في هذا الامتحان؟ القرآن يعرض هذه السبل في القسم الأخير من آية بحثنا وفي آيات اخرى:
أ) أهمّ عامل للانتصار أشارت إليه الآية بعبارة: «وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ». فالآية تبشّر بالنجاح اولئك الصابرين المقاومين، ومؤكدة أنّ الصبر رمز الإنتصار.
ب) الإلتفات إلى أنّ نكبات الحياة ومشاكلها مهما كانت شديدة وقاسية فهي مؤقّتة وعابرة وهذا الإدراك يجعل كل المشاكل والصعاب عرضاً عابراً وسحابة صيف، وهذا المعنى تضمنته عبارة: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ».
______________________________
(1) نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 93.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 125
إِنَّ الصَّفَا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
سبب النّزول
جاء في تفسير مجمع البيان أنّ المشركين كانوا يسعون بين الصفا والمروة، وقد وضعوا على الصفا صنماً يقال له «أساف»
وعلى المروة صنماً يقال له «نائلة» وكان المشركون إذا طافوا بهما مسحوهما فتحرّج المسلمون عن الطواف بهما لأجل الصنمين. فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.
التّفسير
أعمال الجهلة لا توجب تعطيل الشعائر: هذه الآية الكريمة تستهدف إزالة ما علق في ذهن المسلمين ونفوسهم من رواسب بشأن الصفا والمروة كما مرّ في سبب النزول، وتقول للمسلمين: «إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ».
ومن هذه المقدمة تخرج الآية بنتيجة هي: «فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا». لا ينبغي أن تكون أعمال المشركين الجاهليين عاملًا على إيقاف العمل بهذه الشعيرة، وعلى تقليل شأن وقدسية هذين المكانين.
ثم تقول الآية أخيراً: «وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ».
فاللَّه يشكر عباده المتطوعين للخير بأن يجازيهم خيراً، وهو سبحانه عالم بسرائرهم، يعلم من تعلق قلبه بهذه الأصنام ومن تبرأ منها.
بحثان
1- الصفا والمروة: الصفا والمروة اسمان لجبلين صغيرين في مكة، يقعان اليوم بعد توسيع المسجد الحرام، في الضلع الشرقي للمسجد، في الجهة التي يقع فيها الحجر الأسود ومقام إبراهيم.
«الشعائر»: جمع شعيرة أي العلامة، وشعائر اللَّه أي العلامات التي تذكر الإنسان باللَّه، وتعيد إلى الأذهان ذكريات مقدسة.
«اعتمر»: أي أدى العمرة، والعمرة في الأصل الملحقات الإضافية في البناء، وفي الشريعة تطلق على الأعمال الخاصة، التي يؤديها المسلم إلى جانب أعمال الحج، أو يؤديها لوحدها في العمرة المفردة، وبينها وبين أعمال الحج أوجه اشتراك وافتراق.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 126
2- من أسرار السعي بين الصفا والمروة: إبراهيم عليه السلام بلغه الكبر ولم يُرزق ولداً، فدعى ربّه أن لا يتركه فرداً، فاستجاب له، ورزقه من جاريته هاجر ولداً سماه «إسماعيل».
لم تستطع «سارة» زوجته الاولى أن تطيق الحالة الجديدة، وقد رزق إبراهيم ولداً من غيرها، فأمر اللَّه
إبراهيم أن يهاجر بالطفل والأم إلى مكة حيث الأرض القاحلة المجدبة آنذاك، ويسكنهما هناك.
امتثل إبراهيم أمر ربّه، وذهب بهما إلى صحراء مكة وأسكنهما في تلك الأرض، وهمّ بالرجوع، فضجّت زوجته بالبكاء، إذ كيف تستطيع أن تعيش امرأة وحيدة مع طفل رضيع في مثل هذه الأرض؟
بكاء هاجر ومعه بكاء الطفل الرضيع هزّ إبراهيم من الأعماق، لكنه لم يزد على أن ناجى ربّه قائلًا: «رَّبَّنَا إِنّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَوةَ فَاجْعَلْ أَفِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» «1». ثم ودّع زوجه وطفله بحزن وألم عميقين.
لم يمض وقت طويل حتى نفذ طعام الام وماؤها، وجفّ لبنها، بكاء الطفل أضرم في نفس الأم ناراً، ودفعها لأن تبحث بقلق واضطراب عن الماء، اتجهت أولًا إلى جبل «الصفا» فلم تجد للماء أثراً، لَفت نظرها بريق ماء عند جبل «المروة» فأسرعت إليه فوجدته سراباً، ثم رأت عند المروة بريقاً لدى الصفا أسرعت إليه فما وجدت شيئاً، وهكذا جالت سبع مرات بين الصفا والمروة بحثاً عن الماء، وفي النهاية، وبعد أن أشرف الطفل على الموت، انفجرت عند رجله فجأة عين زمزم، فشرب الطفل وامه ونجيا من الموت المحقق.
في الصفا والمروة درس في التضحية بكل غال ونفيس، حتى بالطفل الرضيع، من أجل المبدأ والعقيدة.
السعي بينهما يعلمنا أن نعيش دائماً أمل النجاح والانتصار.
السعي بين الصفا والمروة يقول لنا: اعرفوا قدر نعمة هذا الدين وهذا المركز التوحيدي، فثمة أفراد حفظوا الشريعة وشعائرها لنا بدمائهم على مرّ التاريخ.
من أجل إحياء كل تلك الأحاسيس والمشاعر في النفوس، أمر اللَّه الحجيج أن يسعوا سبع مرات بين الصفا والمروة.
______________________________
(1) سورة إبراهيم/ 37.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 127
أضف إلى ما
تقدم أنّ السعي يقضي على كبر الإنسان وغروره، فلا أثر للتبختر والتصنع في السعي، بل لابد من قطع هذه المسافة ذهاباً ومجيئاً مع كافة الناس، وبنفس لباس الناس، وبهرولة أحياناً! ولذلك ورد في الروايات أنّ السعي إيقاظ للمتكبرين.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَ الْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
سبب النّزول
في الدر المنثور عن ابن عباس قال: سأل «معاذ بن جبل» و «سعد بن معاذ» و «خارجة بن زيد» نفراً من أحبار يهود عن بعض ما في التوراة (قد ترتبط بظهور النبي الخاتم) فكتموهم إيّاه وأبوا أن يخبروهم فأنزل اللَّه فيهم «إنّ الذين يكتمون ما أنزلنا» الآية.
التّفسير
حرمة كتمان الحق: الآية- وإن خاطبت كما في سبب النزول، علماء اليهود- غير محدودة بمخاطبيها، بل تبين حكماً عاماً بشأن كاتمي الحق. الآية الكريمة تتحدث عن هؤلاء بشدة وتقول: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنهُ لِلنَّاسِ فِى الْكِتَابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللعِنُونَ».
كتمان الحقائق لا ينحصر دون شك في كتمان علامات النبوّة والبشائر بالنبي الخاتم صلى الله عليه و آله بل يشمل كتمان كل حقيقة تستطيع أن تدفع الناس إلى الفهم الصحيح بالمعنى الواسع لهذه الكلمة.
ولما كان القرآن كتاب هداية، فإنّه لا يغلق منافذ الأمل والتوبة أمام الأفراد، ولا يقطع أملهم في العودة مهما ارتكسوا في الذنوب، لذلك تبين الآية التالية طريق النجاة من هذا الذنب الكبير وتقول: «إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».
ومن الملفت للنظر، أنّ اللَّه لم يقل أنّه يقبل
التوبة ممن تاب، بل يقول: من تاب فأنا أيضاً أتوب عليه، وهذه دالة على كثرة محبة اللَّه وسبق عطفه على عباده التائبين.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 128
كتمان الحق في الأحاديث: حملت الأحاديث بشدة أيضاً على كاتمي الحق، فروي في المجمع عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «من سُئل عن علم يعلمه فكتمه الجم يوم القيامة بلجام من نار».
ونعيد هنا القول أنّ ابتلاء الناس بمسألة والحاجة إلى بيانها يحل محل السؤال، وبيان الحقائق في هذه الحالة واجب.
وذكر الطبرسي في الاحتجاج: قيل لأمير المؤمنين عليه السلام: من خير خلق اللَّه بعد ائمة الهدى ومصابيح الدجى؟ قال: «العلماء إذا صلحوا». قيل: فمن شرّ خلق اللَّه بعد إبليس وفرعون و ...؟ قال: «العلماء إذا فسدوا، هم المظهرون للأباطيل، الكاتمون للحقائق، وفيهم قال اللَّه عزّ وجلّ: «أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللعِنُونَ».
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ مَاتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلَائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَ لَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) الذين ماتوا وهم كفار: تحدثت الآيات السابقة عن نتيجة كتمان الحقائق، وهذه الآيات تكمل الموضوع السابق، وتتناول جزاء الذين يواصلون طريق الكفر والكتمان والعناد إلى آخر عمرهم. تقول الآية: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».
هؤلاء أيضاً مثل كاتمي الحق، مستحقون للعنة اللَّه والملائكة وجميع الناس، مع اختلاف هو أنّ هؤلاء المصرّين على الكفر حتى نهاية حياتهم لا رجعة لهم طبعاً ولا توبة.
ثم تقول الآية التالية إنّ هؤلاء الكفار المصرّين على كفرهم حتى اللحظات الأخيرة من حياتهم: «خَالِدِينَ فِيهَا لَايُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ
وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ».
ولما كان التوحيد ينهي كل هذه المصائب، فالآية الثالثة تطرح هذا الأصل وتقول:
«وَإِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ».
ثم تؤكد هذا الأصل وتقول: «لَّاإِلهَ إِلَّا هُوَ».
بعد ذلك تصف الآية اللَّه بأنّه: «الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ». لتقول إنّ اللَّه الذي يسع كل الموجودات، برحمته العامة والمؤمنين برحمته الخاصة، هو اللائق بالعبودية لا الموجودات المحتاجة.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 129
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَ بَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَ السَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) مظاهر عظمة اللَّه في الكون: آخر آية في المبحث الماضي دارت حول توحيد اللَّه، وهذه الآية تقدم الدليل على وجود اللَّه ووحدانيته.
قبل أن ندخل في تفسير الآية، لابد من مقدمة موجزة. حيثما كان «النظم والإنسجام» فهو دليل على وجود العلم والمعرفة، وأينما كان «التنسيق» فهو دليل على الوحدة، من هنا، حينما نشاهد مظاهر النظم والإنسجام في الكون من جهة، والتنسيق ووحدة العمل فيه من جهة اخرى، نفهم وجود مبدأ واحد للعلم والقدرة صدرت منه كل هذه المظاهر.
بعد هذه المقدمة نعود إلى تفسير الآية، هذه الآية الكريمة تشير إلى ستة أقسام من آثار النظم الموجود في عالم الكون، وكل واحد منها آية تدل على وحدانية المبدأ الأكبر.
1- «إِنَّ فِى خَلْقِ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».
يقول العلم لنا اليوم: إنّ في السماء آلافاً مؤلفة من المجرات، ومنظومتنا الشمسية جزء من واحدة من المجرات، وفي مجرتنا وحدها مئات الملايين من الشموس والنجوم الساطعة، وحسب دراسات العلماء يوجد بين هذه الكواكب مليون كوكب مسكون بمليارات الموجودات الحية.
حقاً ما
أعظم هذا الكون! وما أعظم قدرة خالقه!
2- «وَاخْتِلفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ».
من الدلائل الاخرى على ذاته المقدسة وصفاته المباركة تعاقب الليل والنهار، والظلمة والنور بنظام خاص، فينقص أحدهما بالتدريج ليزيد في الآخر، وما يتبع ذلك من تعاقب الفصول الأربعة، وتكامل النباتات وسائر الأحياء في ظل هذا التكامل.
3- «وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ».
الإنسان يمخر عباب البحار والمحيطات بالسفن الكبيرة والصغيرة، مستخدماً هذه السفن للسفر ولنقل المتاع.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 130
4- «وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلّ دَابَّةٍ».
من مظاهر قدرة اللَّه وعظمته المطر الذي يحيي الأرض، فتهتز ببركته وتنمو فيها النباتات وتحيا الدواب بحياة هذه النباتات، وكل هذه الحياة تنتشر على ظهر الأرض من قطرات ماء لا حياة فيها.
5- «وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ» لا على سطح البحار والمحيطات لحركة السفن فحسب، بل على الجبال والهضاب والسهول أيضاً لتلقيح النباتات فتخرج لنا ثمارها اليانعة.
6- «وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ والْأَرْضِ». والسحب المتراكمة في أعالي الجو، المحمّلة بمليارات الأطنان من المياه خلافاً لقانون الجاذبية، والمتحركة من نقطة إلى اخرى دون ايجاد خطر، من مظاهر عظمة اللَّه سبحانه.
وكل تلك العلامات والمظاهر «لَأَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» لا للغافلين الصم البكم العمي.
وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَ لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَ رَأَوُا الْعَذَابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَ قَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَ مَا هُمْ بِخَارِجِينَ
مِنَ النَّارِ (167) أئمة الكفر يتبرأون من أتباعهم: تناولت الآيات السابقة دلائل وجود اللَّه سبحانه وإثبات وحدانيته، عن طريق عرض مظاهر لنظام الكون. وهذه الآيات تتحدث عن أولئك الذين أعرضوا عن كل تلك الدلائل الواضحة، وساروا على طريق الشرك والوثنية وتعدد الآلهة ... عن اولئك الذين يحنون رؤوسهم تعظيماً أمام الآلهة المزيفة، ويتعشقونها ويشغفون بها حباً لا يليق إلّاباللَّه سبحانه مصدر كل الكمالات وواهب جميع النعم. تقول الآية: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا» «1».
______________________________
(1) «الأنداد»: جمع «ند» وهو (المثل)، وقال جمع من علماء اللغة، هو المثل المشابه في الجوهر، أي إنّ المشركين كانوا يعتقدون بأنّ هذه الأنداد تحمل الصفات الإلهيّة.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 131
ولم يتخذ المشركون هؤلاء الأنداد للعبادة فحسب، بل «يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ اللَّهِ».
«وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ». لأنّهم أصحاب عقل وإدراك، فلا يستوي من يحب عن عقل وبصيرة، ومن يحب عن جهل وخرافة وتخيل.
حب المؤمنين ثابت عميق لا يتزلزل، وحب المشركين سطحي تافه لا بقاء له ولا استمرار. لذلك تقول الآية: «وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ». لرأوا سوء فعلهم وسوء عاقبتهم.
في هذه اللحظات تزول حجب الجهل والغرور والغفلة من أمام أعينهم، وحين يرون أنفسهم دون ملجأ أو ملاذ، يتجهون إلى قادتهم ومعبوديهم، ولات حين ملاذ بغير اللَّه «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ».
واضح أنّ المعبودين هنا ليسوا الأصنام الحجرية أو الخشبية، بل الطغاة الجبابرة الذين استعبدوا الناس، فقدم لهم المشركون فروض الولاء والطاعة.
هؤلاء الغافلون المغفّلون حين يرون ما حلّ بهم يمنون أنفسهم: «وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا» لكنها
امنية لا تتحقق.
ثم تقول الآية: «كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ».
لكنها حسرة غير نافعة ... فاليوم يوم الجزاء وليس يوم تلافي الأخطاء.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّباً وَ لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَ الْفَحْشَاءِ وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)
سبب النّزول
في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس أنّها نزلت في ثقيف وخزاعة وبني عامر بن صعصعة وبني مدلج لما حرّموا على أنفسهم من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة والوصيلة، فنهاهم اللَّه عن ذلك.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 132
التّفسير
خطوات الشيطان: ذمّت الآيات السابقة الشرك والمشركين، وأحد أنواع الشرك إيكال أمر التقنين والتشريع وتقرير الحلال والحرام إلى غير اللَّه. الآية أعلاه اعتبرت هذا العمل شيطانياً وقالت: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِى الْأَرْضِ حَللًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ».
تكرر في القرآن طلب الإستفادة من الأطعمة، وورد الطلب عادة مقيداً بالحلال وبالطيب. و «الحلال»: ما أبيح تناوله والطيب ما طاب ووافق الطبع السليم، و يقابله «الخبيث» الذي يشمأز منه الإنسان.
و «الخطوات»: جمع «خطوة» وهي المرحلة التي يقطعها الشيطان للوصول إلى هدفه وللتعزير بالناس.
عبارة «لَاتَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطنِ» تكررت خمس مرات في القرآن الكريم، وكانت في موضعين بشأن الإستفادة من الأطعمة والرزق الإلهي، وهي تحذير من استهلاك هذه النعم الإلهية في غير موضعها، وحثّ على الاستفادة منها على طريق العبودية والطاعة لا الفساد والطغيان في الأرض.
عبارة «إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ» تكررت في القرآن الكريم عشر مرات بعد الحديث عن الشيطان، كي تحفّز الإنسان، وتجعله متأهباً لمجابهة هذا العدو اللدود الظاهر.
الآية التالية تؤكد على عداء الشيطان، وعلى هدفه المتمثل
في شقاء الإنسان، وتقول:
«إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَاتَعْلَمُونَ».
منهج الشيطان يتلخص في ثلاثة أبعاد هي: السوء والفحشاء والتقول على اللَّه.
«الفحشاء»: من «الفحش» وهو كل عمل خارج عن حد الإعتدال ويشمل كل المنكرات والقبائح المبطنة والعلنية.
الإنحرافات التدريجية: عبارة «خُطُوَاتِ الشَّيْطنِ» قد تشير إلى مسألة تربوية دقيقة، وهي أنّ الإنحرافات تدخل ساحة الإنسان بشكل تدريجي. وساوس الشيطان تدفع بالفرد على هذه الصورة التدريجية نحو هاوية السقوط، وليست هذه طريقة الشيطان الأصلي فحسب، بل كل الأجهزة الشيطانية تنفذ خططها المشؤومة على شكل «خطوات» لذلك يحذر القرآن كثيراً من اتخاذ الخطوة الاولى على طريق الإنزلاق.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 133
وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَ وَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لَا يَهْتَدُونَ (170) وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَ نِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) التقليد الأعمى: تشير الآية إلى منطق المشركين الواهي في تحريم ما أحل اللَّه، أو عبادة الأوثان وتقول: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا».
ويدين القرآن هذا المنطق الخرافي، القائم على أساس التقليد الأعمى لعادات الآباء والأجداد، فيقول: «أَوَ لَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لَايَعْقِلُونَ شَيًا وَلَا يَهْتَدُونَ». أي: إنّ إتّباع الآباء صحيح لو أنّهم كانوا على طريق العقل والهداية.
أما أسلاف هؤلاء فلم يكونوا يعلمون، ولم يكونوا قد اهتدوا بمن يعلم وهذا اللون من التقليد الأعمى هو السبب في تخلف البشرية لأنّه تقليد الجاهل للجاهل.
الآية التالية تبين سبب تعصب هؤلاء وإعراضهم عن الإنصياع لقول الحق تقول:
«وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ بِمَا لَايَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً
وَنِدَاءً». تقول الآية: إنّ مثلك في دعوة هؤلاء المشركين إلى الإيمان ونبذ الخرافات والتقليد الأعمى كمن يصيح بقطيع الغنم (لإنقاذهم من الخطر) ولكن الأغنام لاتدرك منه سوى أصوات غير مفهومة.
ثم تضيف الآية لمزيد من التأكيد والتوضيح أنّ هؤلاء «صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لَايَعْقِلُونَ».
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَ اشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَ لَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) الطيبات والخبائث: القرآن ينهج اسلوب التأكيد والتكرار بأشكال مختلفة في معالجته للإنحرافات المزمنة، وفي هذه الآيات عودة إلى مسألة تحريم المشركين في الجاهلية لبعض الأطعمة دونما دليل، مع فارق هو أنّ الخطاب يتجه في هذه الآيات إلى المؤمنين، بينما خاطبت الآيات السابقة جميع الناس. تقول الآية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُلُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا
مختصر الامثل، ج 1، ص: 134
رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ». هذه النعم الطيّبة المحلّلة المتناسبة مع الفطرة الإنسانية السليمة قد خلقت لكم، فلم لا تستفيدون منها؟ الآية التالية تبين بعض ألوان الأطعمة المحرمة، وتقول: «إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ».
ولما كانت بعض الضرورات تدفع الإنسان إلى تناول الأطعمة المحرمة حفظاً لحياته، فقد استثنت الآية هذه الحالة وقالت: «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ».
ومن أجل أن تقطع الآية الطريق أمام من يتذرع بالإضطرار، أكدت على كون المضطر «غير باغ» و «لا عاد». و «الباغي»: هو الطالب، والمراد هنا طالب اللذة و «العادي»: هو المتجاوز للحد، أي المتجاوز حد الضرورة، فالرخصة هنا إذن لمن لا
يريد اللذة في تناول هذه الأطعمة، ولا يتجاوز حد الضرورة اللازمة لنجاته من الموت.
وفي الختام تقول الآية: «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ». فإنّ اللَّه الذي حرّم تلك الأطعمة أباح تناولها في موارد الضرورة برحمته الخاصة.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ لَا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَ الْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
سبب النّزول
المعنى في هذه الآية أهل الكتاب بإجماع المفسرين؛ إلّاأنّها متوجهة على قول كثير منهم إلى جماعة قليلة من اليهود وهم علماؤهم ككعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وكعب بن أسد. وكانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا ويرجون كون النبي منهم. فلما بعث من غيرهم خافوا زوال مأكلتهم فغيّروا صفته فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.
التّفسير
إدانة كتمان الحق مرة اخرى: هذه الآيات تأكيد على ما مرّ في الآية (159) بشأن كتمان
مختصر الامثل، ج 1، ص: 135
الحق. الآية الاولى تقول: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ».
هذه الهدايا والعطايا التي ينالونها من هذا الطريق نيران محرقة تدخل بطونهم.
ثم تتعرض الآية إلى عقاب معنوي سينال هؤلاء أشد من العقاب المادي، وتقول: «وَلَا يُكَلّمُهُمُ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيمَةِ وَلَا يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».
يستفاد من هذه الآية والآية التالية أنّ واحدة من أعظم المواهب الإلهيّة في الآخرة أن يكلّم اللَّه المؤمنين تلطفاً بهم. أي: إنّ المؤمنين سينالون في الآخرة نفس المنزلة التي نالها أنبياء
اللَّه في الدنيا وأية لذة أعظم من هذه اللذة!
بديهي أنّ تكليم اللَّه عباده بمعني إنّه بقدرته الواسعة يخلق في الفضاء أمواجاً صوتية خاصة قابلة للسمع والإدراك، (كما كلّم اللَّه موسى عند جبل الطور)، أو أنّه يتكلم مع خاصة عباده بلسان القلب عن طريق الإلهام.
وقد يسأل سائل عن تكليم اللَّه المجرمين يوم القيامة، استناداً إلى ما ورد في الآيات كقوله تعالى: «قَالَ اخْسُوا فِيهَا وَلَا تُكَلّمُونِ» «1».
والجواب: أنّ المقصود من التكليم في آيات بحثنا، هو تكليم عن لطف وحب واحترام، لا عن تحقير وطرد وعقوبة فذلك من أشد الجزاء.
الآية التالية تحدد وضع هذه المجموعة وتبين نتيجة صفقتها الخاسرة وتقول: «أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّللَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ». فهؤلاء خاسرون من ناحيتين: من ناحية تركهم الهداية واختيار الضلالة، ومن ناحية حرمانهم من رحمة اللَّه واستحقاقهم بدل ذلك العقاب الإلهي، وهذه مبادلة لا يقدم عليها إنسان عاقل. لذلك تتحدث الآية عن هؤلاء بلغة التعجب وتقول: «فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ».
آخر آية في بحثنا تقول إنّ ذلك التهديد والوعيد بالعذاب لكاتمي الحق، يعود إلى أنّ اللَّه أنزل القرآن بالدلائل الواضحة، حتى لم تبق شبهة لأحد: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ».
مع ذلك فإنّ زمرة محرفة تعمد إلى كتمان الحقائق صيانة لمصالحها، وتثير الإختلاف في الكتاب السماوي لتتصيد في الماء العكر.
______________________________
(1) سورة المؤمنون/ 108.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 136
مثل هؤلاء الذين يثيرون الإختلاف في الكتاب السماوي بعيدون عن الحقيقة: «وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتلَفُوا فِى الْكِتَابِ لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ».
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلَائِكَةِ وَ الْكِتَابِ وَ النَّبِيِّينَ وَ آتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَ الْيَتَامَى وَ الْمَسَاكِينَ وَ ابْنَ
السَّبِيلِ وَ السَّائِلِينَ وَ فِي الرِّقَابِ وَ أَقَامَ الصَّلَاةَ وَ آتَى الزَّكَاةَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
سبب النّزول
في تفسير مجمع البيان: لما حولت القبلة وكثر الخوض في نسخها وصار كأنّه لا يراعى بطاعة اللَّه إلّاالتوجه للصلاة وأكثر اليهود والنصارى ذكرها، أنزل اللَّه سبحانه هذه الآية.
التّفسير
أساس البرّ: مرّ بنا الحديث عن الضجة التي أثيرت بين اعداء الإسلام والمسلمين الجدد بشأن تغيير القبلة. الآية أعلاه تخاطب هؤلاء وتقول: «لَّيْسَ الْبِرَّ أن تُوَلُّوا وَجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ».
ثم يبين القرآن أهم أصول البّر والإحسان وهي ستة، فيقول: «وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ وَالْمَلِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيّينَ».
ثم تذكر الآية الإنفاق بعد الإيمان وتقول: «وَءَاتَى الْمَالَ عَلَى حُبّهِ ذَوِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِى الرّقَابِ».
إنفاق المال ليس بالعمل اليسير على الجميع، لأنّ حب المال موجود بدرجات متفاوتة في كل القلوب، وعبارة «عَلَى حُبّهِ» إشارة إلى هذه الحقيقة. هؤلاء يندفعون للإنفاق رغم هذا الحب للمال من أجل رضا اللَّه سبحانه.
والأصل الثالث من أصول البرّ إقامة الصلاة: «وَأَقَامَ الصَّلَوةَ». والصلاة إن أدّاها الفرد بشروطها وحدودها وباخلاص وخضوع تصده عن كل ذنب وتدفعه نحو كل سعادة وخير.
والأصل الرابع: أداء الزكاة والحقوق المالية الواجبة: «وَءَاتَى الزَّكَوةَ».
مختصر الامثل، ج 1، ص: 137
فالآية سبق أن ذكرت الإنفاق المستحب، وهنا تذكر الإنفاق الواجب. بعض الناس يكثر من المستحبات في الإنفاق ويتساهل في الواجب، وبعضهم يلتزم بالواجب فقط ولا ينفق درهماً في إيثار. والمحسنون الحقيقيون هم الذين ينفقون في المجالين معاً.
الخامس من الاصول: الوفاء بالعهد: «وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا»، فالثقة المتبادلة رأس مال الحياة الاجتماعية، وترك الوفاء بالعهد من
الذنوب التي تزلزل الثقة وتوهن عرى العلاقات الاجتماعية.
في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «ثلاث لم يجعل اللَّه عزّ وجلّ لأحد فيهنّ رخصة: أداء الأمانة إلى البرّ والفاجر والوفاء بالعهد للبرّ والفاجر وبرّ الوالدين برّين كانا أو فاجرين».
الأساس السادس والأخير من اسس البرّ في نظر الإسلام: الصبر «وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَاءِ حال الفقر والمسكنة وَالضَّرَّاءِ حال المرض وَحِينَ الْبَأْسِ حال القتال مع الأعداء» «1».
ثم تؤكد الآية على أهمية الاسس الستة وعلى عظمة من يتحلّى بها، فتقول: «أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ».
صدقهم يتجلى في انطباق أعمالهم وسلوكهم مع إيمانهم ومعتقداتهم، وتتجلى تقواهم في إلتزامهم بواجبهم تجاه اللَّه وتجاه المحتاجين والمحرومين وكل المجتمع الإنساني.
والملفت للنظر أنّ الصفات الست المذكورة تشمل الاصول الإعتقادية والأخلاقية والمناهج العملية.
سبب النّزول
في تفسير مجمع البيان: نزلت هذه الآية في حيّين من العرب لأحدهما طَوْل على الآخر وكانوا يتزوجون نساءهم بغير مهور وأقسموا لنقتلن بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا
______________________________
(1) «البأساء»: من البؤس وهو الفقر؛ و «الضّرّاء»: تعني الألم والمرض؛ و «حين البأس»: أي حين الحرب.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 138
الرجل منهم، وبالرجل منا الرجلين منهم وجعلوا جراحاتهم على الضعف من جراح أولئك حتى جاء الإسلام، فأنزل اللَّه هذه الآية.
التّفسير
في القصاص حياة: الآيات السابقة طرحت المنهج الإسلامي في «البر»، وهنا يقدم القرآن الكريم- وهكذا في الآيات التالية- مجموعة من الأحكام الإسلامية، إكمالًا لبيان المنهج الإسلامي في الحياة. تبدأ هذه الأحكام من مسألة حفظ حرمة الدماء، وهي مسألة هامة في الحياة الاجتماعية، فتنفي العادات والتقاليد الجاهلية، وتقول للمؤمنين: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِى الْقَتْلَى .
«القصاص»: من «قصّ» يقال قصّ أثره: أي تلاه شيئاً بعد شي ء، ومنه القصاص لأنّه يتلو أصل الجناية
ويتبعه، وقيل هو أن يفعل بالثاني مثل ما فعله هو بالأول، مع مراعاة المماثلة، ومنه أخذ القصص كأنّه يتبع آثارهم شيئاً بعد شي ء.
الآية كما ذكرنا تستهدف بيان الموقف الصحيح من المجرم، ولفظ القصاص يدل على إنزال عقوبة بالمجرم مماثلة لما إرتكبه هو، لكن الآية لا تكتفي بذلك، بل بينت التفاصيل فقالت:
«الْحُرُّ بِالْحُرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى .
ثم تبين الآية أنّ القصاص، حق لأولياء المقتول، وليس حكماً إلزامياً، فإن شاؤوا أن يعفوا ويأخذوا الدية، وإن شاؤوا ترك الدية فلهم ذلك، وتقول: «فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْ ءٌ». فبعد تبدل حكم القصاص عند عفو أولياء المقتول إلى دية «فَاتّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ».
أي: فعل العافي إتّباع بالمعروف، وهو أن لا يُشدد في طلب الدية وينظر من عليه الدية «وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحسَانٍ». أي: على المعفو عنه أن يبادر إلى دفع الدية عند الإمكان وأن لا يماطل.
ثم تؤكد الآية على ضرورة الالتزام بحدود ما أقره اللَّه، وعدم تجاوز هذه الحدود: «ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ».
وهذا الأمر بالقصاص وبالعفو يشكل تركيباً انسانياً منطقياً، فهو من جهة يدين التقاليد السائدة في الجاهلية الاولى والجاهليات التالية إلى يومنا هذا القاضية بالإنتقام للمقتول الواحد بقتل الآلاف.
ومن جهة اخرى، يفتح باب العفو أمام المذنب، مع الحفاظ على احترام الدم وردع القاتلين.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 139
ومن جهة ثالثة، لا يحق للطرفين بعد العفو وأخذ الدية التعدي، خلافاً للجاهليين الذين كانوا يقتلون القاتل أحياناً حتى بعد العفو وأخذ الدية.
الآية التالية قصيرة العبارة وافرة المعنى، تجيب على كثير من الأسئلة المطروحة في حقل القصاص، ويقول: «وَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيَوةٌ يَا أُولِى الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ».
هذه الآية تبين أنّ القصاص ليس انتقاماً، بل السبيل إلى
ضمان حياة الناس.
هل انتقص قانون القصاص المرأة؟ قد يظن البعض أنّ قانون القصاص الإسلامي قد انتقص المرأة حين قرر أنّ «الرجل» لا يقتل «بالمرأة»، أي إنّ الرجل- قاتل المرأة- لا يقتص منه.
وليس الأمر كذلك، ومفهوم الآية لا يعني عدم جواز قتل الرجل بالمرأة، بل يجوز لأولياء المقتولة أن يطلبوا القصاص من الرجل القاتل، بشرط أن يدفعوا نصف ديته.
ولمزيد من التوضيح نقول: الرجال يتحملون غالباً مسؤوليات إعالة الاسرة، ويؤمنون نفقاتها الاقتصادية، ولا يخفى الفرق بين أثر غياب الرجل وغياب المرأة على العائلة اقتصادياً، ولو لم يراع هذا الفرق لُاصيبت عائلة المقتص منه بأضرار مالية، ولوقعت في حرج اقتصادي، ودفع نصف الدية يحول دون تزلزل تلك العائلة اقتصادياً.
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) الوصية بالمعروف: الآيات السابقة ذكرت تشريع القصاص، وهذه الآيات تذكر تشريع الوصية، باعتباره جزءاً من النظام المالي، وتذكر باسلوب الحكم الإلزامي فتقول:
«كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ».
ثم تضيف الآية أنّ هذه الوصية كتبت «حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ».
جاء في الآية الكريمة بشأن كتابة الوصية كونها «حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ» من هنا قيل إنّها مستحبة استحباباً مؤكداً، ولو كانت واجبة لقالت الآية «حقّاً على المؤمنين».
مختصر الامثل، ج 1، ص: 140
يلفت النظر أنّ الآية الكريمة عبرت عن المال بكلمة «خير» فقالت: «إِن تَرَكَ خَيْرًا».
وهذا يعني أنّ الإسلام يعتبر الثروة المستحصلة عن طريق مشروع، والمستخدمة على طريق تحقيق منافع المجتمع
ومصالحه خيراً وبركة.
هذا التعبير يشير ضمنياً إلى مشروعية الثروة، لأنّ الأموال غير المشروعة ليست خيراً بل شرّاً وبالًا.
تقييد الوصية «بِالْمَعْرُوفِ» إشارة إلى أنّ الوصية ينبغي أن تكون موافقة للعقل من كل جهة، لأنّ «المعروف» هو المعروف بالحُسْنِ لدى العقل. يجب أن تكون الوصية متعقلة في مقدارها وفي نسبة توزيعها، دون أن يكون فيها تمييز، ودون أن تؤدّي إلى نزاع وإنحراف عن اصول الحق والعدالة.
حين تكون الوصية جامعة للخصائص المذكورة فهي محترمة ومقدسة، وكل تبديل وتغيير فيها محظور وحرام. لذلك تقول الآية التالية: «فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدّلُونَهُ».
ولا يظنن المحرفون المتلاعبون أنّ اللَّه غافل عما يفعلون، كلّا «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».
ولعل هذه الآية تشير إلى أن تلاعب «الوصي» (وهو المسؤول عن تنفيذ الوصية) لا يصادر أجر الموصي. فالموصي ينال أجره، والإثم على الوصي المحرّف في كمية الوصية أو كيفيتها أو في أصلها.
بيّن القرآن فيما سبق الأحكام العامة للوصية، وأكد على حرمة كل تبديل فيها، ولكن في كل قانون استثناء، و الآية الثالثة من آيات بحثنا هذا تبين هذا الاستثناء وتقول: «فَمَنْ خَافَ مِنْ مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».
الإستثناء يرتبط بالوصية المدونة بشكل غير صحيح، وهنا يحق للوصي أن ينبه الموصي على خطئه إن كان حياً، وأن يعدّل الوصية إن كان ميتاً.
عبرت الآية «بالجنف» عن الانحرافات التي تصيب الموصي في وصيته عن سهو، و «بالإثم» عن الانحرفات العمدية.
عبارة «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» تشير إلى ما قد يقع فيه الوصي من خطأ غير عمدي
مختصر الامثل، ج 1، ص: 141
عندما يعدّل الوصية المنحرفة وتقول: إنّ اللَّه يعفو عن مثل هذا الخطأ.
بحثان
1- فلسفة الوصية: الإرث يوزع
حسب القانون الإسلامي بنسب معينة على عدد محدود من الأقارب، وقد يكون بين الأقارب والأصدقاء والمعارف من له حاجة ماسة إلى المال، ولكن لا سهم له في قانون الإرث، وقد يكون بين الورثة من له حاجة أكبر إلى المال من بقية الورثة.
من هنا وضع الإسلام قانون الوصية إلى جانب قانون الإرث، وأجاز للمسلم أن يتصرف في ثلث أمواله (بعد الوفاة) بالشكل الذي يرشد لمل ء هذا الفراغ.
أضف إلى ما سبق، قد يرغب إنسان أن يعمل بعد مماته الخيرات التي ما اتيح له أن يعملها في حياته، ومنطق العقل يفرض أن لا يحرم هذا الشخص من مثل هذا العمل الخيري.
النصوص الإسلامية أكدت على ضرورة الوصية كثيراً، من ذلك ما روي عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «ما ينبغي لِامرى مسلم أن يبيت ليلة إلّاووصيته تحت رأسه» «1».
والمقصود بوضع الوصية تحت الرأس إعدادها وتهيئتها طبعاً.
وفي رواية اخرى: «من مات بغير وصية مات ميتة جاهليّة» «2».
2- العدالة في الوصية: في الروايات الإسلامية تأكيد وافر على «عدم الجور» و «عدم الضرار» في الوصية، يستفاد منها جميعاً أنّ تعدي الحدود الشرعية المنطقية في الوصية عمل مذموم ومن كبائر الذنوب.
روي عن الإمام الباقر عليه السلام: «من عدل في وصيته كان كمن تصدق بها في حياته ومن جار في وصيته لقي اللَّه عزّ وجلّ يوم القيامة وهو عنه معرض» «3».
والجور في الوصية هو الوصية بأكثر من الثلث، وحرمان الورثة من حقهم المشروع، أو التمييز بين الورثة بسبب عواطف شخصية سطحية.
______________________________
(1) وسائل الشيعة 13/ 352.
(2) وسائل الشيعة 13/ 352.
(3) وسائل الشيعة 13/ 359.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 142
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَ الْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) الصوم مدرسة التقوى: في سياق طرح مجموعة من الأحكام الإسلامية، تناولت هذه الآيات أحكام واحدة من أهم العبادات، وهي عبادة الصوم، وبلهجة مفعمة بالتأكيد قالت الآية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ».
ثم تذكر الآية مباشرة فلسفة هذه العبادة التربوية، في عبارة قليلة الألفاظ، عميقة المحتوى، وتقول: «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ».
الآية التالية تتجه أيضاً إلى التخفيف من تعب الصوم وتقول: «أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ» فالفريضة لا تحتل إلّامساحة صغيرة من أيّام السنة.
ثم تقول: «فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ». فالمريض والمسافر معفوان من الصوم، وعليهما أن يقضيا صومهما في أيام اخرى.
ثم تصدر الآية عفواً عن الطاعنين في السنّ، وعن المرضى الذين لا يرجى شفاؤهم، وترفع عنهم فريضة الصوم ليدفعوا بدلها كفارة، فتقول: «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ» «1».
______________________________
(1) «يطيقونه»: من «الطوق» وهو الحلقة التي تلقى على العنق، أو توجد عليه بشكل طبيعي (كطوق الحمام) ثم أطلقت الكلمة على نهاية الجهد والطاقة.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 143
ثم يقول الآية: «فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ». أي من تطوع للإطعام أكثر من ذلك
فهو خير له.
وأخيراً تبين الآية حقيقة هي: «وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ».
والآية يدل على تأكيد آخر على فلسفة الصوم، وعلى أنّ هذه العبادة- كسائر العبادات- لا تزيد اللَّه عظمة أو جلالًا، بل تعود كل فوائدها على الناس.
آخر آية في بحثنا تتحدث عن زمان الصوم وبعض أحكامه ومعطياته تقول: «شَهْرُ رَمَضَانَ» هو الشهر الذي فرض فيه الصيام.
وهو «الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ». أي: معيار معرفة الحق والباطل.
ثم تؤكد ثانية حكم المسافر والمريض وتقول: «فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ».
والقرآن بهذا التكرار يفهم المسلمين أنّ الصوم في حالة السلام والحضر حكم إلهي والإفطار في حال السفر والمرض حكم إلهي أيضاً لا تجوز مخالفته.
وفي آخر الآية إشارة اخرى إلى فلسفة تشريع الصوم، تقول: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ». فالصوم- وإن كان على الظاهر نوعاً من التضييق والتحديد- مؤدّاه راحة الإنسان ونفعه على الصعيدين المادي والمعنوى.
ثم تقول الآية: «وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ». أي: يلزم على كل إنسان سليم أن يصوم شهراً، فذلك ضروري لتربية جسمه ونفسه، لذلك وجب على المريض والمسافر أن يقضي ما فاته من شهر رمضان ليكمل العدة، وحتى الحائض- التي اعفيت من قضاء الصلاة- غير معفوّة عن قضاء الصوم.
والعبارة الأخيرة من الآية تقول: «وَلِتُكَبّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَيكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».
لتكبروه على ما وفّر لكم من سبل الهداية، ولتشكروه على ما أنعم عليكم.
بحوث
1- الآثار التربوية والإجتماعية والصحية للصوم: من فوائد الصوم الهامة «تلطيف» روح الإنسان و «تقوية» إرادته و «تعديل» غرائزه.
على الصائم أن يكف عن الطعام والشراب على الرغم من جوعه وعطشه وهكذا عليه أن يكف عن ممارسة العمل
الجنسي، ليثبت عملياً أنّه ليس بالحيوان الأسير بين المعلف
مختصر الامثل، ج 1، ص: 144
والمضجع، وأنّه يستطيع أن يسيطر على نفسه الجامحة وعلى أهوائه وشهواته. الأثر الروحي والمعنوي للصوم يشكّل أعظم جانب من فلسفة هذه العبادة.
والصوم يرفع الإنسان من عالم البهيمة إلى عالم الملائكة وعبارة «لَعَلَّكُم تَتَّقُون» تشير إلى هذه الحقايق.
وهكذا الحديث المعروف: «الصوم جنّة من النار» «1» يشير إلى هذه الحقايق.
وروي عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «إنّ للجنة باباً يدّعى الرّيّان لا يدخل فيها إلّاالصّائمون» «2».
الأثر الإجتماعى للصوم لا يخفى على أحد. فالصوم درس المساواة بين أفراد المجتمع.
سأل الإمام الصادق عليه السلام عن علة الصيام، فقال: «إنّما فرض اللَّه الصّيام ليستوي به الغنيّ والفقير؛ وذلك أنّ الغنيّ لم يكن ليجد مسّ الجوع فيرحم الفقير لأنّ الغنيّ كلّما أراد شيئاً قدر عليه فأراد اللَّه تعالى أن يسوّى بين خلقه وأن يذيق الغنيّ مسّ الجوع والألم ليرقّ على الضّعيف ويرحم الجائع» «3».
الآثار الصحية للصوم: أهمية «الإمساك» في علاج الأمراض ثابتة في الطب القديم والحديث. لأنّ العامل في كثير من الأمراض الإسراف في تناول الأطعمة المختلفة. المواد الغذائيه الزائدة تتراكم في الجسم على شكل مواد دهنية وتدخل هي والمواد السكرية في الدم، وهذه المواد الزائدة وسط صالح لتكاثر أنواع الميكروبات والأمراض، وفي هذه الحالة يكون الإمساك أفضل طريق لمكافحة هذه الأمراض، وللقضاء على هذه المزابل المتراكمة في الجسم.
الصوم يحرق الفضلات والقمامات المتراكمة في الجسم، وهو في الواقع عملية تطهير شاملة للبدن، اضافة إلى أنّه استراحة مناسبة لجهاز الهضم وتنظيف له.
عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «صوموا تصحّوا» «4».
وعنه صلى الله عليه و آله أيضاً «المعدة بيت كل داء والحمية رأس كل دواء»
«5».
2- الصوم في الامم السابقة: يظهر من النصوص الموجودة في التوراة والإنجيل، أنّ
______________________________
(1) بحار الأنوار 93/ 256.
(2) بحار الأنوار 93/ 252.
(3) وسائل الشيعة 7/ 3 (أوّل كتاب الصوم).
(4) بحار الأنوار 93/ 255.
(5) بحار الأنوار 59/ 290.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 145
الصوم كان موجوداً بين اليهود والنصارى، وكانت الامم الاخرى تصوم في أحزانها ومآسيها.
ويظهر من التوراة أنّ موسى عليه السلام صام أربعين يوماً، و كان اليهود يصومون لدى التوبة والتضرع إلى اللَّه. السيد المسيح عليه السلام صام أيضاً أربعين يوماً كما يظهر من «الإنجيل».
بهذا نستطيع أن نجد في نصوص الكتب الدينية القديمة (حتى بعد تحريفها) شواهد على ما جاء في القرآن الكريم: «كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ».
3- امتياز شهر رمضان: هذا الشهر- إنّما اختير شهراً للصوم- لأنّه يمتاز عن بقية الشهور. والقرآن الكريم بيّن مزية هذا الشهر في الآية الكريمة بأنّه «الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ».
وفي الروايات الإسلامية أنّ كل الكتب السماوية: «التوراة» و «الإنجيل» و «الزبور» و «الصحف» و «القرآن» نزلت في هذا الشهر، فهو إذن شهر تربية وتعليم.
4- قاعدة «لا حرج»: آيات بحثنا فيها إشارة إلى أنّ اللَّه يريد بالناس اليسر ولا يريد بهم العسر، وهذه الإشارة تدور طبعاً هنا حول موضوع الصوم وفوائده وحكم المسافر والمريض، لكن اسلوبها العام يجعلها قاعدة تشمل كل الأحكام الإسلامية، ويصيّر منها سنداً لقاعدة «لا حرج» المعروفة.
هذه القاعدة تقول: لا تقوم قوانين الإسلام على المشقة، وإن أدّى حكم إسلامي إلى حرج ومشقة، فإنّه يرفع عنه مؤقتاً، ولذلك أجاز الفقهاء التيمم لمن يشق عليه الوضوء، والصلاة جلوساً لمن يشق عليه الوقوف.
وَ إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ
(186)
سبب النّزول
في تفسير مجمع البيان: إنّ سائلًا سأل النبي صلى الله عليه و آله أقريب ربّنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزلت الآية.
التّفسير
سلاح اسمه الدعاء: بعد أن ذكرت الآيات السابقة مجموعة هامة من الأحكام الإسلامية،
مختصر الامثل، ج 1، ص: 146
تناولت هذه الآية موضوع الدعاء باعتباره أحد وسائل الإرتباط بين العباد والمعبود سبحانه. هذه الآية تخاطب النبي صلى الله عليه و آله وتقول: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنّى فَإِنّى قَرِيبٌ».
إنّه أقرب مما تتصورون، أقرب منكم إليكم، بل «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» «1».
ثم تقول الآية: «أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ». إذن «فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ».
ويلفت النظر في الآية، أنّ اللَّه سبحانه أشار إلى ذاته المقدسة سبع مرات، وأشار إلى عباده سبعاً! مجسداً بذلك غاية لطفه وقربه وإرتباطه بعباده.
الدعاء نوع من العبادة والخضوع والطاعة، والإنسان- عن طريق الدعاء- يزداد إرتباطاً باللَّه تعالى، وكما أنّ كل العبادات ذات أثر تربوي كذلك الدعاء له مثل هذا الأثر.
والقائلون أنّ الدعاء تدخّل في أمر اللَّه وأنّ اللَّه يفعل ما يشاء، لا يفهمون أنّ المواهب الإلهية تغدق على الإنسان حسب استعداده وكفاءته ولياقته، وكلما ازداد استعداده ازداد ما يناله من مواهب.
في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّ عند اللَّه عزّ وجلّ منزلة لا تنال إلّابمسألة».
ويقول أحد العلماء: «حينما ندعو فإنّنا نربط أنفسنا بقوّة لا متناهية تربط جميع الكائنات مع بعضها» «2».
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ ابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا
الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَ لَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
______________________________
(1) سورة ق/ 16.
(2) آئين زندگي (فارسي)/ 156.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 147
سبب النّزول
روي في تفسير مجمع البيان أنّ الأكل كان محرّماً في شهر رمضان بالليل بعد النوم، وكان النكاح حراماً بالليل والنهار في شهر رمضان، وكان رجل من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقال له مطعم بن جيبر ... شيخاً ضعيفاً، وكان صائماً، فأبطأت عليه أهله بالطعام فنام قبل أن يفطر، فلمّا انتبه قال لأهله: قد حُرّم عليّ الأكل في هذه الليلة. فلمّا أصبح حضر حفر الخندق فاغمي عليه، فرآه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فرقّ له.
وكان قوم من الشباب ينكحون بالليل سرّاً في شهر رمضان، فأنزل اللَّه هذه الآية فأحلّ النكاح بالليل في شهر رمضان، والأكل بعد النوم إلى طلوع الفجر.
التّفسير
رخصة في أحكام الصوم: مر بنا في سبب نزول الآية أنّ النكاح كان محرماً في ليالي شهر رمضان إضافة إلى نهاره، وأنّ الأكل والشرب كانا محرمين في الليل أيضاً بعد النوم، ولعل ذلك كان اختباراً للجيل الإسلامي الأول وإعداداً له كي يتقبل أحكام الصوم الثابتة. الآية الكريمة تتضمن أربعة أحكام إسلامية في حقل الصوم والإعتكاف. تقول أوّلًا: «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ» «1».
ثم تذكر الآية سبب الحكم فتقول: «هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ».
واللباس يحفظ الجسم من الحر والبرد وأنواع الأخطار من جهة، ويستر عيوب الجسم من جهة اخرى، أضف إلى أنّه زينة للإنسان، وتشبيه الزوج باللباس يشمل كل هذه الجوانب.
ثم يبين القرآن سبب تغيير هذا القانون الإلهي ويقول: «عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ
تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ». فاللَّه سبحانه وسّع عليكم الأمر وخففه، وجعل فيه رخصة بلطفه ورحمته، كي لا تتلوثوا بالذنوب.
«فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ».
ثم تبين الآية الحكم الثاني وتقول: «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ».
وتبين الآية الحكم الثالث: «ثُمَّ أَتِمُّوا الصّيَامَ إِلَى الَّيلِ».
______________________________
(1) «الرفث»: هو الحديث المكشوف عن المسائل الجنسية، واستعير لمعنى الجماع كما في الآية.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 148
هذه الجملة تأكيد على حظر الأكل والشرب والنكاح في أيام شهر رمضان للصائمين، وتشير إلى أنّ الحظر يبدأ من طلوع الفجر وينتهي عند الليل.
تطرح الآية بعد ذلك الحكم الرابع وتقول: «وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِى الْمَسَاجِدِ». هذا الحكم يرتبط بالاعتكاف، وهو شبيه بالاستثناء من الحكم السابق، ففي الاعتكاف الذي لا تقلّ مدته عن ثلاثة أيام، لا يحق للمعتكف الصائم أن يباشر زوجته لا في الليل ولا في النهار.
في ختام الآية عبارة تشير إلى كل ما ورد فيها من أحكام تقول: «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا». لأنّ الإقتراب من الحدود يبعث على الوسوسة، وقد يدفع الإنسان إلى تجاوز الحدود والوقوع في الذنب.
نعم، «كَذلِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ ءَايَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ».
التقوى هي الأوّل والآخر: في أول آية ترتبط بأحكام الصوم ورد ذكر التقوى على أنّها الهدف النهائي للصوم، وفي آخر آية أيضاً وردت عبارة «لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» وهذا يؤكد أنّ كل مناهج الإسلام وسيلة لتربية الروح والتقوى والفضيلة والإرادة والإحساس بالمسؤولية.
وَ لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) المبادي ء الأوّلية للإقتصاد الإسلامي: هذه الآية الكريمة تشير إلى أحد الاصول المهمة والكلية للاقتصاد الإسلامي الحاكمة على مجمل المسائل الاقتصادية،
بل يمكن القول إنّ جميع أبواب الفقه الإسلامي في دائرة الاقتصاد تدخل تحت هذه القاعدة وهو قوله تعالى: مختصر الامثل ج 1 169
«وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ».
إنّ مفهوم الآية عام يستوعب كل تصرف في أموال الآخرين من غير الطريق المشروع مشمولًا لهذا النهي الإلهي، وكذلك فإنّ جميع المعاملات التي لا تتضمن هدفاً سليماً ولا ترتكز على أساس عقلائي فهي مشمولة لهذه الآية.
والملفت للنظر أنّ بعض المفسرين قالوا: إنّ جعل هذه الآية مورد البحث بعد آيات الصوم (آيات 182- 187) علامة على وجود نوع من الإرتباط بينهما، فهناك نهي عن الأكل والشرب من أجل أداء عبادة إلهيّة، وهنا نهي عن أكل أموال الناس بالباطل الذي يعتبر أيضاً نوع من الصوم ورياضة للنفوس، فهما في الواقع فرعان لأصل التقوى. تلك
مختصر الامثل، ج 1، ص: 149
التقوى التي وردت في الآية بعنوان الهدف النهائي للصوم «1».
إنّ التعبير ب (الأكل) يعطي معنىً واسعاً حيث يشمل كل أنواع التصرفات، أي أنّه تعبير كنائي عن أنواع التصرّفات، و (الأكل) هو أحد المصاديق البارزة له.
ثم يشير في ذيل الآية إلى نموذج بارز لأكل المال بالباطل والذي يتصور بعض الناس أنّه حق وصحيح لأنّهم أخذوه بحكم الحاكم فيقول: «وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ».
وباء الرشوة: من الأوبئة الاجتماعية التي ابتلي بها البشر منذ أقدم العصور وباء الإرتشاء، وكانت هذه الظاهرة المرضيّة دوماً من موانع إقامة العدالة الاجتماعية ومن عوامل جرّ القوانين لصالح الطبقات المقتدرة، بينما سُنت القوانين لصيانة مصالح الفئات الضعيفة من تطاول الفئات القوية عليهم.
ولهذا شدد الإسلام على مسألة الرشوة وأدانها وقبّحها واعتبرها من الكبائر.
جدير بالذكر أنّ قبح الرشوة قد يدفع بالراشين إلى أن يغطّوا رشوتهم بقناع
من الأسماء الاخرى كالهدية ونظائرها، ولكن هذه التغطية لا تغيّر من ماهية العمل شيئاً، والأموال المستحصلة عن هذا الطريق محرمة غير مشروعة.
وهذا «الأشعث بن قيس» يتوسل بهذه الطريقة، فيبعث حلوى لذيذة إلى بيت أمير المؤمنين علي عليه السلام أملًا في أن يستعطف الإمام تجاه قضيةٍ رفعها إليه، ويسمي ما قدّمه هدية، فيأتيه جواب الإمام صارماً قاطعاً، قال عليه السلام: «هبلتك الهبول، أعن دين اللَّه أتيتني لتخدعني؟ ... واللَّه لو اعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي اللَّه في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته وإنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها ما لعليّ ولنعيم يفنى ولذة لا تبقى «2».
ذم الإسلام الرشوة حتى أنّ أحد الولاة تسلم بعنوان هدية فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «هلا جلست في دارك لتأتيك هدية»؟ «3»
أين المسلمين اليوم من هذه التعاليم الدقيقة الصارمة الهادفة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية بشكل حقيقي عملي في الحياة؟!
______________________________
(1) تفسير في ظلال القرآن 1/ 252.
(2) نهج البلاغة، الخطبة 224.
(3) الإمام علي عليه السلام صوت العدالة الإنسانية 1/ 184.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 150
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَ الْحَجِّ وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
سبب النّزول
روي في تفسير مجمع البيان أنّ معاذ بن جبل قال: يا رسول اللَّه! إنّ اليهود يكثرون مسألتنا عن الأهلّة. فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية، لتقول إنّ للأهلّة فوائد مادية ومعنوية في نظام الحياة الإنسانية.
التّفسير
كما اتضح من سبب نزول هذه الآية الشريفة من أنّ جماعة سألوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن
الهلال وما يحصل عليه من تغييرات متدرجة وعن أسبابها ونتائجها، فيجيب القرآن الكريم على سؤالهم بقوله: «يَسَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ». «أهلّة»: جمع «هلال» ويعني القمر في الليلة الاولى والثانية من الشهر.
ثم تقول الآية: «قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجّ».
فما يحصل عليها من تغييرات منتظمة تدريجية، يجعل منها تقويماً طبيعياً يساعد الناس على تنظيم امورهم الحَيَويّة القائمة على التوقيت وتحديد الزمن، وكذلك على تنظيم امور عباداتهم المحددة بزمان معين كالحج والصوم، والهلال هو المرجع في تعيين هذا الزمان، وبالاستهلال ينظّم الناس امور عبادتهم وشؤون دنياهم.
من امتيازات قوانين الإسلام أنّ أحكامه قائمة عادةً على المقاييس الطبيعية لأنّ هذه المقاييس متوفرة لدى جميع الناس، ولا يؤثر عليها مرور الزمان شيئاً.
ثم إنّ القرآن أشار في ذيل هذه الآية وبمناسبة الحديث عن الحج وتعيين موسمه بواسطة الهلال الذي ورد في أول الآية، إلى إحدى عادات الجاهليين الخرافية في مورد الحج ونهت الآية الناس عن ذلك، حيث تقول: «وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».
وهذه الآية لها معنىً أوسع وأشمل، وذلك أنّ الإنسان عندما يقدم على أي عمل من
مختصر الامثل، ج 1، ص: 151
الأعمال سواء كان دينياً أو دنيوياً لابد له من أن يرده من طريق صحيح لا من الطرق المنحرفة، فالعبادة في الحج أيضاً لابد أن يبتدأ الإنسان بها في الوقت المقرر وتعيينه بواسطة الهلال.
جملة «وَلَيْسَ الْبِرُّ» يمكنها أن تكون إشارة إلى نكتة لطيفة اخرى أيضاً وهي أنّ سؤالكم عن الأهلّة بدل سؤالكم عن المعارف الدينية بمثابة مَن يترك الدخول إلى داره من الباب الأصلي ثم يرده من ظهر البيت فهو عمل مستقبح ومستهجن.
أسئلة مختلفة من رسول اللَّه صلى الله
عليه و آله: وردت في (15) مورد من الآيات القرآنية جملة «يسئلونك» وهذه علامة على أنّ الناس يسألون من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مسائل مختلفة كراراً ومراراً، والملفت للنظر أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مضافاً إلى أنّه لا ينزعج من هذه الأسئلة، فإنّه يستقبلهم بصدر رحب، ويجيب على أسئلتهم من خلال الآيات القرآنية.
إنّ السؤال هو أحد حقوق الناس في مقابل القادة، وهذا الحق مشروع حتى للأعداء أيضاً، فبإمكانهم طرح اسئلتهم بشكل معقول. فالسؤال مفتاح حل المشكلات. والسؤال بوّابة العلوم. والسؤال وسيلة انتقال المعارف المختلفة.
وأساساً فإنّ طرح الأسئلة المختلفة في كل مجتمع علامة على التحرك الفكري والحضاري والثقافي للناس، ووجود كل هذه الأسئلة في عصر النبي صلى الله عليه و آله هو علامة على تحرك أفكار الناس في ذلك المحيط ضمن تعليمات القرآن الكريم والدين الإسلامي.
وَ قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَ لَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَ لَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَ قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)
سبب النّزول
في تفسير مجمع البيان: هذه أوّل آية نزلت في القتال، فلمّا نزلت كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقاتل من قاتله ويكفّ عمّن كفّ عنه حتى نزلت «اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم» الذي أجاز جهاد وقتال جميع المشركين.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 152
التّفسير
القرآن أمر في هذه الآية الكريمة بمقاتلة الذين يشهرون السلاح بوجه
المسلمين. تقول الآية: «وَقَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم».
عبارة «فِى سَبِيلِ اللَّهِ» توضّح الهدف الأساسي من الحرب في المفهوم الإسلامي، فالحرب ليست للإنتقام ولا للعلو في الأرض والتزعم، ولا للاستيلاء على الأراضي، ولا للحصول على الغنائم، وهذا الهدف المقدس يضع بصماته على جميع أبعاد الحرب في الإسلام ويصبغ كيفيّة الحرب وكميّتها ونوع السلاح والتعامل مع الأسرى وأمثال ذلك بصبغة «في سبيل اللَّه».
ثم توصي الآية الشريفة بضرورة رعاية العدالة حتى في ميدان القتال وفي مقابل الأعداء وتقول: «وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ».
أجل، فالحرب في الإسلام للَّه وفي سبيل اللَّه، ولا يجوز أن يكون في سبيل اللَّه اعتداء ولا عدوان، لذلك يوصي الإسلام برعاية كثير من الاصول الخلقية في الحرب، وهو ما تفتقر إليه حروب عصرنا أشد الإفتقار.
الإمام عليّ عليه السلام يقول لأفراد جيشه وذلك قبل شروع القتال في صفين: «لا تقاتلوهم حتى يبدؤوكم فإنّكم بحمد اللَّه على حجة، وترككم إياهم حتى يبدؤوكم حجة اخرى لكم عليهم. فإذا كانت الهزيمة بإذن اللَّه فلا تقتلوا مدبراً ولا تُصيبوا مُعوراً ولا تجهزوا على جريح، ولا تهيجوا النّساء بأذًى وإن شتمن أعراضكم وسببن امراءكم» «1».
في الآية التالية التي تعتبر مكملة للأمر الصادر في الآية السابقة تتحدث هذه الآية بصراحة أكثر وتقول: إنّ هؤلاء المشركين هم الذين أخرجوا المؤمنين من ديارهم وصبّوا عليهم ألوان الأذى والعذاب، فيجب على المسلمين أن يقتلوهم أينما وجدوهم، وأنّ هذا الحكم هو بمثابة دفاع عادل ومقابلة بالمثل، لأنّهم قاتلوكم وأخرجوكم من مكة «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ».
ثم يضيف اللَّه تعالى: «وَالفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ».
«الفتنة»: من «فَتْن» تعني وضع الذهب في النار للكشف عن درجة جودته وإصالته،
______________________________
(1) نهج البلاغة، الرسالة 14.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 153
فلهذا
استعملت في كل مورد يكون فيه نوع من الشدة، مثل الامتحان الذي يقترن عادةً بالشدة ويتزامن مع المشكلات، والعذاب أيضاً نوع آخر من الشدة، وكذلك المكر والخديعة التي تُتّخذ عادةً بسبب أنواع الضغوط والشدائد، وكذلك الشرك وإيجاد المانع في طريق إيمان الناس حيث يتضمن كل ذلك نوع من الشدة والضغط.
وأنّ عبادة الأوثان وما يتولد منها من أنواع الفساد الفردي والاجتماعي كانت سائدة في أرض مكة المكرمة حيث لوّثت بذلك الحرم الإلهي الآمن، فكان فسادها أشد من القتل فلذلك تقول هذه الآية مورد البحث مخاطبةً المسلمين: لا ينبغي لكم ترك قتال المشركين خوفاً من سفك الدماء فإنّ عبادة الأوثان أشد من القتل.
ثم تشير الآية إلى مسألة اخرى في هذا الصدد فتقول: إنّ على المسلمين أن يحترموا المسجد الحرام دائماً وأبداً، ولذلك لا ينبغي قتال الكفار عند المسجد الحرام، إلّاأن يبدؤكم بالقتال «وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ».
«فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ». لأنّهم عندما كسروا حرمة هذا الحرم الإلهي الآمن فلا معنى للسكوت حينئذ ويجب مقابلتهم بشدة لكي لا يسيئوا الاستفادة من قداسة الحرم وإحترامه.
ولكن بما أنّ الإسلام في منهجه التربوي للناس يقرن دائماً الإنذار بالبشارة معاً، والثواب والعقاب كذلك، لكي يؤثر في المسلمين تأثيراً سليماً، فلذلك فسح المجال في الآية التالية للعودة والتوبة فقال: «فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».
الآية التالية تشير إلى هدف الجهاد في الإسلام وتقول: «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَاتَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ لِلَّهِ».
ثم تضيف: فإن ترك هؤلاء المشركون عقائدهم الباطلة وأعمالهم الفاسدة فلا تتعرضوا لهم «فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ».
وحسب الظاهر ذُكر في هذه الآية ثلاثة أهداف للجهاد وهي:
1- إزالة الفتنة.
2- محو الشرك وعبادة الأوثان.
3- التصدّي للظلم والعدوان.
مسألة الجهاد
في الإسلام: إنّ الحكّام الطواغيت والفراعنة وأمثالهم من النمروديين
مختصر الامثل، ج 1، ص: 154
والقارونيين الذين يعترضون دائماً على دعوة الأنبياء الإصلاحية ويقفون بوجهها ولا يرضون إلّابإزالة الدين الإلهي من الوجود يتضح أنّ على المؤمنين والمتدينين في الوقت الّذي يعتمدون على العقل والمنطق والأخلاق في تفاعلهم الإجتماعي مع الآخرين عليهم أن يتصدّوا لهؤلاء الظالمين والطّواغيت ويشقّوا طريقهم بالجهاد وتحطيم هذه الموانع والعوائق التي يقيمها حكّام الجور في طريقهم. وأساساً فإنّ الجهاد هو قانون عام في عالم الأحياء، فجميع الكائنات الحية تجاهد عوامل الفناء من أجل بقائها.
وإنّ من افتخاراتنا نحن المسلمين أنّ ديننا يقرن المسائل الدينية بالحكومة ويعتمد على الجهاد كأحد أركان المنظومة العقائدية لهذا الدين، غاية الأمر يجب ملاحظة أهداف هذا الجهاد الإسلامي، وهذا هو الذي يفصل بيننا وبين الآخرين.
وكما تقدم في الآيات أعلاه أنّ الجهاد في الإسلام يتعقب عدة أهداف مباحة:
1- الجهاد من أجل إطفاء الفتن: وبعبارة اخرى الجهاد الابتدائي من أجل التحرير، فنحن نعلم أنّ اللَّه عزّ وجلّ قد أنزل على البشرية شرائع وبرامج لسعادة البشر وتحريرهم وتكاملهم وإيصالهم إلى السعادة والرفاه، وأوجب على الأنبياء عليهم السلام أن يبلّغوا هذه الشرائع والإرشادات إلى الناس، فلو تصور أحد الأفراد أو طائفة من الناس أنّ إبلاغ هذه الشرائع للناس سوف يعيقه عن نيل منافعه الشخصية وسعى لإيجاد الموانع ووضع العصي في عجلات الدعوة الإلهية، فللأنبياء الحق في إزالة هذه الموانع بطريقة المسالمة أوّلًا وإلّا فعليهم استخدام القوة في إزالة هذه الموانع عن طريق الدعوة لنيل الحرية في التبليغ وليحرر الناس من قيود الأسر والعبودية الفكرية والاجتماعية.
2- الجهاد الدفاعي: إنّ جميع القوانين السماوية والبشرية تبيح للفرد أو الجماعة الدفاع عن النفس والاستفادة مما وسعهم من قوة في
هذا السبيل، ويسمى مثل هذا الجهاد ب (الجهاد الدفاعي) ومن ذلك غزوة الأحزاب واحد ومؤتة وتبوك وحنين ونظائرها من الحروب الإسلامية التي لها جنبة دفاعية.
3- الجهاد لحماية المظلومين: إنّ حماية المظلومين في مقابل عدوان الظالمين هو أصل في الإسلام يجب مراعاته، حتى لو أدّى الأمر إلى الجهاد واستخدام القوة، فالإسلام لا يرضى للمسلمين الوقوف متفرجين على ما يرد على المظلومين في العالم، وهذا الأمر من الأوامر المهمة في الشريعة الإسلامية المقدسة التي تحكي عن حقانية هذا الدين.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 155
4- الجهاد من أجل دحر الشرك وعبادة الأوثان: الإسلام يدعوا البشرية إلى اعتناق الدين الخاتم الأكمل وهو يحترم مع ذلك حرية العقيدة، وبذلك يُعطي أهل الكتاب الفرصة الكافية للتفكير في أمر إعتناق الرسالة الخاتمة، فإن لم يقبلوا بذلك فإنّه يعاملهم معاملة الأقلية المعاهدة (أهل الذمة) ويتعايش معهم تعايشاً سلميّاً ضمن شروط خاصة بسيطة وميسورة، لكن الشرك والوثنية ليسا بدين ولا عقيدة ولا يستحقان الإحترام، بل هما نوع من الخرافة والحمق والانحراف ونوع من المرض الفكري والأخلاقي الذي ينبغي أن يستأصل مهما كلّف الثمن.
ومما تقدم من ذكر أهداف الجهاد يتضح أنّ الإسلام أقام الجهاد على اسس منطقية وعقلية، ولكننا نعلم أنّ أعداء الإسلام وخاصة القائمون على الكنيسة والمستشرقين المغرضين سعوا كثيراً لتحريف الحقائق ضد مسألة الجهاد الإسلامي، واتّهموا الإسلام باستعمال الشدة والقوة والسيف من أجل تحميل الإيمان به وتهجمّوا كثيراً على هذا القانون الإسلامي.
والظاهر أنّ خوفهم وهلعهم إنّما هو من تقدم الإسلام المضطرد في العالم بسبب معارفه السّامية وبرنامجه السليم، ولهذا سعوا لإعطاء الإسلام صبغة موحشة كيما يتمكنوا من الوقوف أمام انتشار الإسلام.
الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَ الْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) احترام الأشهر الحُرم والمقابلة بالمثل: كان المشركون على علم بأنّ الإسلام يحضر الحرب في الأشهر الحرم (ذي القعدة وذي الحجة ومحرم ورجب) لذلك أرادوا أن يشنّوا هجوماً مباغتاً على المسلمين في هذه الأشهر الحُرم متجاهلين حرمتها ظانين أنّ المسلمين ممنوعون من المواجهة. الآية الكريمة تكشف مؤامرة المشركين وتحمّل المسلمين مسؤولية مواجهة العدوان حتى في الأشهر الحُرم فتقول الآية: «الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ». أي:
أنّ الأعداء لو كسروا حرمة واحترام هذه الأشهر الحُرم وقاتلوكم فيها فلكم الحق أيضاً في المقابلة بالمثل، لأنّ «وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ».
مختصر الامثل، ج 1، ص: 156
«حُرُمات»: جمع «حُرمة» وتعني الشي ء الذي يجب حفظه واحترامه، وقيل للحرم: حرم لأنّه مكان محترم ولا يجوز هتكه، ويقال الأعمال الممنوعة والقبيحة حرام لهذا السبب، كي لا تخامر أذهان المشركين فكرة انتهاك حرمة هذه الشهور.
ثم تشرّع الآية حكماً عاماً يشمل ما نحن فيه وتقول: «فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ».
فالإسلام- وخلافاً للمسيحية الحالية التي تقول (إذا لطمك شخص على خدّك الأيمن فأدِر له الأيسر) «1»- لا يقول بمثل هذا الحكم المنحرف الذي يبعث على جرأة المعتدي وتطاول الظالم، وحتّى المسيحيين في هذا الزمان لا يلتزمون مطلقاً بهذا الحكم أيضاً، ويردون على كل عدوان مهما كان قليلًا بعدوان أشد، وهذا أيضاً مخالف لدستور الإسلام في الرّد، فالإسلام يقول: يجب التصدّي للظالم والمعتدي، ويُعطي الحق للمظلوم والمُعتدى عليه المقابلة بالمثل، فالاستسلام في منطق الإسلام يعني الموت، والمقاومة والتصدّي هي الحياة.
وقوله تعالى «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» إشارة إلى أنّ اللَّه لا يهمل المتقي في خِضمّ المشكلات، بل يعينه ويرعاه.
وَ أَنْفِقُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) هذه الآية تكمّل ما مرّ من آيات الجهاد فكما أنّ الجهاد بحاجة إلى الرجال المخلصين والمجرّبين كذلك بحاجة إلى المال والثروة أي بحاجة إلى الاستعداد البدني والمعنوي والمعدّات الحربية، صحيح أنّ العامل الحاسم في تقرير مصير الحرب هو الرجال بالدرجة الاولى، ولكن الجندي بحاجة إلى أدوات الحرب (أعم من السلاح والأدوات ووسائل النقل والغذاء والوسائل الصحية) فإنّه بدونها لا يمكنه أن يفعل شيئاً. من هنا أوجب الإسلام تأمين وسائل الجهاد مع الأعداء، ومن ذلك ما ورد في الآية أعلاه حيث تأمر بصراحة: «وَأَنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ».
وهذا المعنى يتأكد خاصة في عصر نزول هذه الآيات حيث كان المسلمون في شوق شديد إلى الجهاد كما يحدّثنا القرآن عن اولئك الّذين أتوا النبي يطلبون منه السلاح ليشاركوا
______________________________
(1) انجيل متّى الباب 5، الرقم 39- 42.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 157
في ساحة الجهاد وإذ لم يجدوا ذلك عادوا مهمومين محزونين «تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ» «1».
فعبارة «وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» بالرغم من أنّها واردة في ترك الإنفاق في الجهاد الإسلامي، ولكن مفهومها واسع يشمل موارد اخرى كثيرة، منها أنّ الإنسان ليس له الحق في اتخاذ الطرق الخطرة للسفر (سواء من الناحية الأمنية أو بسبب العوامل الجوية أو غير ذلك) دون أن يتخذ لنفسه الاحتياطات اللازمة لذلك، كما لا يجوز له تناول الغذاء الذي يحتمل قوياً أن يكون مسموماً وحتى أن يرد ميدان القتال والجهاد دون تخطيط مدروس، ففي جميع هذه الموارد الإنسان مسؤول عن نفسه فيما لو ألقى بها في الخطر بدون عذر مقبول.
وتصور
بعض الجهلاء من أنّ كل ألوان الجهاد الابتدائي هو إلقاء النفس في التهلكة وحتى أنّهم أحياناً يعتبرون قيام سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء مصداق لهذه الآية، وهذا ناشى ء من الجهل المطبق وعدم درك مفهوم الآية الشريفة، لأنّ إلقاء النفس بالتهلكة يتعلق بالموارد التي لا يكون فيها الهدف أثمن من النفس وإلّا فلابد من التضحية بالنفس حفاظاً على ذلك الهدف المقدس كما صنع الإمام الحسين عليه السلام وجميع الشهداء في سبيل اللَّه كذلك.
وفي آخر الآية أمر بالإحسان ويقول: «وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ».
أمّا ما هو المراد بالإحسان هنا؟ فهناك عدة احتمالات في كلمات المفسرين، منها: أنّ المراد هو حسن الظن باللَّه (فلا تظنّوا أنّ إنفاقكم هذا يؤدي إلى الاختلال في معاشكم)، والآخر هو الاقتصاد والاعتدال في مسألة الإنفاق، واحتمال ثالث هو دمج الإنفاق مع حسن الخلق للمحتاجين بحيث يتزامن مع البشاشة وإظهار المحبة وتجنّب أي لون من ألوان المنة والأذى للشخص المحتاج، ولا مانع من أن يكون المراد في مفهوم الآية جميع هذه المعاني الثلاث.
الإنفاق مانع عن انهيار المجتمع: إنّ هذه الآية بالرغم من أنّها وردت في ذيل آيات الجهاد، ولكنها تبين حقيقة كلية واجتماعية، وهي أنّ الإنفاق بشكل عام سبب لنزاهة المجتمع من المفاسد المدمّرة، لأنّه حينما يترك أفراد المجتمع الإنفاق وتتراكم الثروة في أحد أقطاب
______________________________
(1) سورة التوبة/ 92.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 158
المجتمع تنشأ طبقة محرومة بائسة، ولا يلبث أن يحدث انفجار عظيم فيه يحرق الأثرياء وثروتهم ويتضح من ذلك إرتباط الإنفاق بابعاد التهلكة. ومن هنا فالإنفاق يعود بالخير على الأثرياء قبل أن يصيب خيره المحرومين، لأنّ تعديل الثروة يصون الثروة كما قال الإمام علي عليه السلام: «حصّنوا أموالكم بالزّكاة» «1».
وَ
أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَ لَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) بعض أحكام الحج المهمة: في هذه الآية ذُكرت أحكام كثيرة:
1- في مطلع الآية تأكيداً على أنّ أعمال العمرة والحج ينبغي أن تكون للَّه وطلب مرضاته فقط «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالعُمْرَةَ لِلَّهِ». من هنا لا ينبغي أن يشوب أعمال الحج نيّة اخرى غير الدافع الإلهي وكذلك الإتيان بالعمل العبادي هذا كاملًا وتاماً بمقتضى جملة «وَأَتِمُّوا».
2- ثم إنّ الآية تشير إلى الأشخاص الذين لا يحالفهم التوفيق لأداء مناسك الحج والعمرة بعد لبس ثياب الإحرام بسبب المرض الشديد أو خوف العدو وأمثال ذلك، فتقول:
«فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ». فمثل هذا الشخص عليه أن يذبح ما تيّسر له من الهدي ويخرج بذلك من إحرامه.
3- ثم إنّ الآية الشريفة تشير إلى أمر آخر من مناسك الحج فتقول: «وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُم حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ».
4- ثم تقول الآية: «فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ».
«نُسُك»: في الأصل جمع «نسيكة» بمعنى حيوان مذبوح، وهذه المفردة جاءت بمعنى
______________________________
(1) نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 146.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 159
العبادة أيضاً. هذا الاصطلاح يأتي في أعمال الحج و «نسيكة» بمعنى «ذبيحة».
إنّ مثل هذا الشخص مخيّراً بين ثلاث
امور (الصوم والصدقة أو ذبح شاة).
5- ثم تضيف الآية: «فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ».
وهذه إشارة إلى أنّه يجب الذبح في حج التمتع ولا فرق في هذا الهدي بين أن يكون من الإبل أو من البقر أو من الضّأن دون أن يخرج من الإحرام.
6- ثم إنّ الآية تبيّن حكم الأشخاص غير القادرين على ذبح الهدي في حج التمتع فتقول:
«فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلثَةِ أَيَّامٍ فِى الْحَجّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ». فعلى هذا فلو لم يجد الإنسان أضحيةً أو أنّ وضعه المالي لا يطيق ذلك فيجب عليه جبران ذلك بصيام عشرة أيام.
إنّ التعبير بكلمة (كاملة) إشارة إلى أنّ صوم الأيام العشرة يحلّ محل الهدي بشكل كامل، ولهذا ينبغي للحجاج أن يطمأنّوا لذلك وأنّ جميع ما يترتب على الأضحية من ثواب وبركة سوف يكون من نصيبهم أيضاً.
7- ثم إنّ الآية الشريفة تتعرض إلى بيان حكم آخر وتقول: «ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ». فعلى هذا لا يكون لأهل مكة أو الساكنين في أطرافها حج التمتع، فوظيفته حج القِران أو الإفراد (وتفصيل هذا الموضوع مذكور في الكتب الفقهية).
وبعد بيان هذه الأحكام السبعة تأمر الآية في ختامها بالتقوى وتقول: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ». ولعل هذا التأكيد يعود إلى أنّ الحج عبادة إسلامية هامة ولا ينبغي للمسلمين التساهل في أداء مناسكه وأنّ ذلك سيؤدّي إلى اضرار كثيرة، وأحياناً يسبّب فساد الحج وزوال بركاته المهمة.
بحثان
1- أهمية الحج بين الواجبات الإسلامية: يُعتبر الحج من أهم العبادات التي شُرّعت في الإسلام ولها آثار وبركات كثيرة جدّاً، فهو مصدر عظمة الإسلام وقوّة الدين واتحاد المسلمين، والحج هو الشعيرة العبادية التي ترعب
الأعداء وتضخ في كل عام دماً جديداً في شرايين المسلمين.
والحج هو تلك العبادة التي أسماها أمير المؤمنين عليه السلام ب (علم الإسلام وشعاره) وقال عنها في وصيته في الساعات الأخيرة من حياته: «اللَّه اللَّه في بيت ربّكم لا تُخَلّوه ما بقيتم فإنّه إن
مختصر الامثل، ج 1، ص: 160
تُرك لم تُناظَروا» «1». أي أنّ البلاء الإلهي سيشملكم دون إمهال. 2- أقسام الحج: لقد قسّم الفقهاء العظام وبإلهام من الآيات والأحاديث الشريفة عن النبي وآله: الحج إلى ثلاثة أقسام: حج التمتع، حج القِران، وحج الإفراد.
أمّا حج التمتع فيختص بمن كان على مسافة 48 ميلًا فصاعداً من مكة (16 فرسخ وما يعادل 96 كيلومتر تقريباً)، وأمّا حج القِران والإفراد فيتعلقان بمن كان أدنى من هذه الفاصلة. ففي حج التمتع يأتي الحاج بالعمرة أوّلًا، ثم يحلّ من إحرامه وبعد ذلك يأتي بمراسم الحج في أيامه المخصوصة، ولكن في حج القِران والإفراد يبدأ أوّلًا بأداء مراسم الحج، ثم بعد الانتهاء منها يشرع بمناسك العمرة مع تفاوت أنّ الحاج في حج القِران يأتي ومعه هديه، أمّا في حج الإفراد فلا هدي فيه.
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَ لَا فُسُوقَ وَ لَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَ مَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَ اتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَ اذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) تواصل هذه الآيات الشريفة بيان أحكام الحج وزيارة بيت اللَّه الحرام
وتقرر طائفة من التشريعات الجديدة:
1- تقول الآية: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ».
والمراد بهذه الأشهر: هي شوال، ذي القعدة، ذي الحجة.
2- ثم تأمر الآية الكريمة فيمن أحرم إلى الحج وشرع بأداء مناسك الحج وتقول: «فَمَن فَرَضَ فِيْهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِى الْحَجّ».
______________________________
(1) نهج البلاغة، الرسالة 47، (وصيّة الإمام لابنيه الحسن والحسين عليهما السلام).
مختصر الامثل، ج 1، ص: 161
«رفث»: بالأصل بمعنى الكلام والحديث المتضمن ذكر بعض الامور القبيحة أعم من الامور الجنسية أو مقدماتها، ثم بات كناية عن الجماع.
«فسوق»: بمعنى الذنب والخروج من طاعة اللَّه.
و «جدال»: تأتي بمعنى المكالمة المقرونة بالنزاع، وهي في الأصل بمعنى شدّ الحبل ولفّه، ومن هنا استعملت في الجدال بين اثنين، لأنّ كلّاً منهما يشدّ الكلام ويحاول إثبات صحة رأيه ونظره.
وهكذا ينبغي أن تكون أجواء الحج طاهرة من التمتعات الجنسية وكذلك من الذنوب والجدال العقيم وأمثال ذلك، لأنّها أجواء عبادية تتطلّب الإخلاص وترك اللذائذ المادية وتقتبس روح الإنسان من ذلك المحيط الطاهر قوة جديدة تسوقها إلى عالم آخر بعيداً عن عالم المادة، وفي نفس الوقت تقوي الالفة والإتحاد والإتفاق والاخوة بين المسلمين باجتناب كل ما ينافي هذه الامور.
3- بعد ذلك تعقب الآية وتبين المسائل المعنوية للحج وما يتعلق بالإخلاص وتقول:
«وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ».
وهذا أوّل لطف إلهي يناله الصالحون، فالمرحلة الاولى من لذّة الإنسان المؤمن هي إحساسه بأنّ ما يعمله في سبيل اللَّه إنّما هو بعين اللَّه، ويا لها لذة.
وتضيف الآية: «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى .
والعبارة تنطوي على توعية المسلمين بالنسبة لعطاء الحج المعنوي وتفتّح أبصارهم على ما في ساحة الحج من معان عميقة تشدّ الإنسان بتاريخ الرسل والأنبياء وبمشاهد تضحية إبراهيم بطل التوحيد، وبمظاهر عظمة اللَّه سبحانه ممّا لا
يوجد في مكان آخر، ولابد للحاج أن يستلهم من هذه الساحه زاداً يعينه على مواصلة مسيرته نحو اللَّه فيما بقي من عمره.
«وَاتَّقُونِ يَا أُولِى الْأَلْبَابِ».
الآية التالية ترفع بعض الإشتباهات في مسألة الحج وتقول: «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبّكُمْ».
لقد كان التعامل الاقتصادي بكافة ألوانه محضوراً في موسم الحج عند الجاهليين، وكانوا يعتقدون ببطلان الحج إذا اقترن بالنشاط الاقتصادي، فالآية مورد البحث تعلن بطلان هذا الحكم الجاهلي وتؤكد أنّه لا مانع من التعامل الاقتصادي والتجاري في موسم الحج،
مختصر الامثل، ج 1، ص: 162
وتسمح بابتغاء فضل اللَّه في هذا الموسم عن طريق العمل والكد. وهذا مضافاً إلى أنّ سفر المسلمين من كل فجّ عميق إلى بيت اللَّه الحرام لعقد مؤتمر الحج العظيم يستطيع أن يكون منطلقاً لتحرك اقتصادي عام في المجتمعات الإسلامية.
ثم تعطف الآية الشريفة على ما تقدم من مناسك الحج وتقول: «فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَيكُمْ وَإِن كُنتُم مِّنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالّينَ».
ثم تقول الآية في حديثها هذا: «ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ». فهذا المقطع يتضمّن أمراً بالإفاضة أي بالإندفاع والحركة من المشعر الحرام إلى أرض مِنى.
ففي نهاية الآية تُعطي أمراً بالاستغفار والتوبة وتقول: «وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».
ففي هذا المقطع من الآيات إشارة إلى ثلاث مواقف من مواقف الحج (عرفات) وهي صحراء وتقع على بعد 20 كيلومتراً تقريباً من مكّة، ثم الوقوف ب (المشعر الحرام أو المزدلفة) والثالث أرض (منى وهي محل ذبح الأضاحي ورمي الجمرات وحلّ الإحرام وأداء مناسك العيد.
بحثان
1- أوّل موقف للحجيج: تقدم أنّ حجاج بيت اللَّه الحرام يتجهون بعد أداء مناسك العمرة نحو أداء مناسك الحج، وأوّل موقف يقفون فيه هو في
«عرفات»، وفي سبب تسمية هذه الأرض بهذا الاسم هي أنّ هذه الأرض المشرفة التي تبدأ منها اولى مراحل الحج محيط مناسب جدّاً لمعرفة اللَّه تعالى. والحاج في هذا الموقف يشعر حقّاً بانشداد روحي ومعنوي لا يمكن التعبير عنه بالكلمات.
الحجيج في هذه الأرض القاحلة متجمعون بشكل واحد وبزيّ واحد، قد هربوا من بريق الحياة وزخرفها وصخبها وضجيجها ولاذوا بهذه الأرض المشرفة المفعمة بذكريات الرسالات السماوية، حيث يحمل نسيمها نداء جبرائيل وصوت الخليل ودعوة النبي الخاتم صلى الله عليه و آله وصحبه المجاهدين، وتنطق أرضها بصور الجهاد والتضحية والإنقطاع إلى اللَّه على مرّ التاريخ، كأنّ هذه الأرض نافذة تشرف على عالم ما وراء الطبيعة، يرتوي فيها الإنسان من منهل العرفان، وينساق مع تسبيح الخليقة العام، بل يعود أيضاً إلى ذاته التي انفصل عنها زمناً طويلًا فيعرف نفسه، نعم إنّها «عرفات» وما أجمل هذا الاسم!
2- درس الوحدة والاتحاد: جاء في بعض الروايات الشريفة أنّ قبائل قريش كانت
مختصر الامثل، ج 1، ص: 163
ترى لنفسها مكانة دينية خاصة بين العرب، ومن هنا فإنّهم تركوا الوقوف في عرفات لأنّها خارج الحرم المكي.
الآية الكريمة تبطل كل هذه الأوهام وتأمر بوقوف الحجاج جميعاً في عرفات، ثم التحرك منها نحو المشعر الحرام.
والأمر بالاستغفار في ختام الآية حثّ على ترك تلك الأوهام والأفكار الجاهلية، والإتجاه نحو تعلّم دروس الحج في المساواة.
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)
سبب النّزول
في تفسير مجمع البيان روى عن الإمام الباقر عليه السلام: إنّ الجاهليين كانوا إذا فرغوا من الحج، يجتمعون هناك، ويعدّون مفاخر آبائهم ومآثرهم ويذكرون أيّامهم القديمة وأياديهم الجسمية، فأمرهم سبحانه أن يذكروه مكان ذكرهم آباءهم في هذا الموضع.
التّفسير
هذه الآيات تواصل الأبحاث المتعلقة بالحج في الآيات السابقة. الآية الاولى من الآيات محل البحث تقول: «فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا».
وليس المراد من هذه العبارة أنّكم اذكروا أسلافكم وأذكروا اللَّه كذلك، بل هو إشارة إلى هذه الحقيقة بأنّكم تذكرون أسلافكم من أجل بعض الخصال والمواهب الحميدة، فلماذا لا تذكرون اللَّه تعالى ربّ السماوات والأرض والرازق والواهب لجميع هذه النعم في العالم وهو منبع ومصدر جميع الكمالات وصفات الجلال والجمال.
«ذكر اللَّه» في هذه الآية يشمل جميع الأذكار الإلهية بعد أداء مناسك الحج.
بعد ذلك يوضّح القرآن طبيعة مجموعتين من الناس وطريقة تفكيرهم ... مجموعة لا
مختصر الامثل، ج 1، ص: 164
تفكر إلّابمصالحها المادية ولا تتجّه في الدعاء إلى اللَّه إلّامن هذه المنطلقات المادية فتقول:
«فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى الْأَخِرَةِ مِنْ خَلقٍ». والمجموعة الثانية تتحدث عنهم الآية بقولها: «وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الْأَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ».
وهذه الفقرات من الآيات محل البحث تشير إلى هاتين الطائفتين وأنّ الناس في هذه العبادة العظيمة على نوعين.
أمّا ما المراد من «الحسنة»؟ فقد ورد في تفسير مجمع البيان عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال:
«من اوتي قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً وزوجة مؤمنة تعينه على أمر دنياه واخراه فقد اوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ووُقي عذاب النار».
وواضح أنّ الحسنة هذا له مفهوم واسع بحيث يشمل جميع المواهب
المادية والمعنوية، وما ورد في الرواية أعلاه فهو بيان لأبرز المصاديق لا حصر الحسنة بهذه المصاديق.
وفي آخر آية إشارة إلى الطائفة الثانية (الذين طلبوا من اللَّه الحسنة في الدنيا والآخرة) فتقول: «أُوَلئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ».
وفي الحقيقة هذه الآية تقع في النقطة المقابلة للجملة الأخيرة من الآية السابقة «وَمَا لَه فِى الْأخِرَةِ مِن خَلقٍ».
وَ اذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) هذه الآية آخر آية وردت في بيان مناسك الحج وإبطال السنن الجاهلية في المفاخرات الموهومة بالنسبة للأسلاف فتوصي المسلمين (بعد مراسم العيد) أن يذكروا اللَّه تعالى:
«وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ».
أمّا المراد من «أذكار» فقد ورد في الأحاديث الإسلامية أنّها تعني تلاوة التكبيرات التالية بعد خمسة عشرة صلاة في هذه الأيام (ابتداء من صلاة الظهر من يوم العيد حتى صلاة الصبح من اليوم الثالث العشر) وهي «اللَّه أكبر اللَّه أكبر لا إله إلّااللَّه واللَّه أكبر اللَّه أكبر وللَّه
مختصر الامثل، ج 1، ص: 165
الحمد، اللَّه أكبر على ما هدانا، اللَّه أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام».
ثم تشير الآية إلى هذا الحكم الشرعي: «فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى . وهذا التعبير إشارة إلى نوع من التخيير في أداء ذكر اللَّه بين يومين أو ثلاثة أيام.
وفي نهاية الآية نلاحظ أمراً كليّاً بالتقوى حيث تقول الآية: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ».
يمكن أن تكون هذه الجملة إشارة إلى أنّ المناسك الروحانية في الحج تطهّر الإنسان من الذنوب السابقة كيوم ولدته امّه، ولكن عليكم تقوى
اللَّه والحذر من الوقوع في الذنب مرة اخرى.
وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ يُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَ إِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ وَ اللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَ إِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَ لَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)
سبب النّزول
في تفسير روح المعاني: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي: أقبل إلى النبي صلى الله عليه و آله في المدينة فأظهر له الإسلام وأعجب النبي صلى الله عليه و آله ذلك منه وقال: إنّما جئت أريد الإسلام واللَّه تعالى يعلم إنّي لصادق. ثم خرج من عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فمر بزرع من المسلمين وحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر (وبهذا أظهر ما في باطنه من النفاق).
التّفسير
الآية الاولى تشير إلى بعض المنافقين حيث تقول: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ».
«ألد»: تأتي بمعنى ذو العداوة الشديدة؛ و «خصام»: لها معنىً مصدري وهو الخصومة والعداوة.
ثم تضيف الآية التالية بعض العلامات الباطنية لعداوة مثل هذا الإنسان وهي: «وَإِذَا
مختصر الامثل، ج 1، ص: 166
تَوَلَّى سَعَى فِى الْأَرْضِ لِيُفسِدَ فِيهَا وَيُهلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَايُحِبُّ الْفَسَادَ». أجل لأنّ هؤلاء لو كانوا صادقين في إيمانهم وإظهارهم المحبة لما أفسدوا في الأرض مطلقاً، فبالرغم من أنّ ظاهرهم المحبة الخالصة إلّاأنّهم في الباطن أشد الناس قساوة ووحشية.
«حرث»: بمعنى الزراعة؛ «نسل»: بمعنى الأولاد وتُطلق أيضاً على أولاد الإنسان وغير الإنسان.
إنّ التعبير «يُهْلِكُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ» كلام مختصر وجامع لكل المصاديق حيث يشمل الإفساد والتخريب بالنسبة للأموال والنفوس في المجتمع البشري.
والآية
الاخرى تضيف: «وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ» «1». فتشتعل في قلبه نيران التعصب واللجاج وتجرّه إلى المعصية والإثم.
فمثل هذا الشخص لا يستمع إلى نصيحة الناصحين ولا يهتم للإنذارات الإلهية، بل يستمر على عناده وإرتكابه للآثام والمنكرات مغروراً، فلا يكون جزاؤه إلّاالنار، ولذلك يقول في نهاية الآية: «فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ».
وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَ اللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)
سبب النّزول
روى الثعلبيّ في تفسيره: لمّا أراد النّبي صلى الله عليه و آله الهجرة إلى الغار خلّف عليّاً عليه السلام لقضاء ديونه وردّ الودائع التي كانت عنده، وأمره ليلة خروج إلى الغار وقد أحاط المشركون بالدار وقال له: «يا عليّ! اتّشح ببردي الحضرمي ثم نم على فراشي فإنّه لا يخلص إليك منهم مكروه إن شاء اللَّه تعالى». ففعل ما أمره، فأوحى عزّ وجلّ إلى جبرئيل وميكائيل: أنّي قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر فأيّكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كل منهما الحياة فأوحى اللَّه عزّ وجلّ إليهما: ألا كنتما مثل عليّ بن أبي طالب آخيت بينه وبين محمّد فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه. فنزلا فكان
______________________________
(1) «العزّة»: في مقابل الذلّة في الأصل، ولكن هنا ورد بمعنى الغرور والنخوة.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 167
جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبرئيل يقول: بخّ بخّ مَن مثلك يا بن أبي طالب؟ يُباهي اللَّه تبارك وتعالى بك ملائكته. فأنزل اللَّه عزّ وجلّ على رسوله وهو متوجّه إلى المدينة في شأن علي بن أبي طالب عليه السلام: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ» الآية. (ولهذا سُمّيت هذه الليلة التاريخية بليلة المبيت).
ويقول (أبو جعفر الإسكافي) كما جاء
في شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المجلد 3 الصفحة 270: «إنّ حديث الفراش قد ثبت بالتواتر فلا يجحده إلّامجنون أو غير مخالط لأهل الملّة».
التّفسير
بالرغم من أنّ الآية محل البحث تتعلق كما ورد في سبب النزول بحادثة هجرة النبي صلى الله عليه و آله وتضحية الإمام علي عليه السلام ومبيته على فراش النّبي، ولكنّ مفهومها ومحتواها الكلي- كما في سائر الآيات القرآنية- عام وشامل، وأنّها تقع في النقطة المقابلة للآيات السابقة التي تتحدّث عن المنافقين. تقول الآية: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ».
إنّ جملة «وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ» قد تكون إشارة إلى أنّ اللَّه عزّ وجلّ في الوقت الذي هو رحيم ورؤوف بالعباد هو الّذي يشري الأنفس بأغلى الأثمان وهو رضوان اللَّه تعالى عن الإنسان.
ومما يستلفت النظر أنّ البائع هو الإنسان، والمشتري هو اللَّه تعالى، والبضاعة هي النفس، وثمنها هو رضوان اللَّه تعالى، في حين نرى في موارد اخرى أنّ ثمن مثل هذه المعاملات هو الجنة الخالدة والنجاة من النار.
فهذه الآية ومع الإلتفات إلى سبب النزول المذكور آنفاً تُعد أعظم الفضائل للإمام علي عليه السلام الواردة في اكثر المصادر الإسلامية.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَ لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) بعد الإشارة إلى الطائفتين (المؤمنين المخلصين والمنافقين المفسدين) في الآيات السابقة
مختصر الامثل، ج 1، ص: 168
تدعو هذه الآيات الكريمة كل المؤمنين إلى السّلم والصلح وتقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ادْخُلُوا فِى السّلْمِ كَافَّةً». يستفاد من مفهوم هذه الآية أنّ السلام لا يتحقق إلّافي ظل الإيمان.
واضح أنّ الاطر المادية الأرضية (من اللغة والعنصر و
...) هي عوامل تفرقة بين أفراد البشر وبحاجة إلى حلقة إتصال محكمة تربط بين قلوب الناس.
ويسلّموا لجميع ثم تضيف الآية: «وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ».
«خطوات»: جمع «خطوة» وهنا تكررت هذه الحقيقة من أنّ الانحراف عن الصلح والعدالة، والتسليم لإرادة الأعداء ودوافع العداوة والحرب وسفك الدماء يبدأ من مراحل بسيطة وينتهي بمراتب حادة وخطرة.
وتتضمن جملة «إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ» برهاناً ودليلًا حيّاً حيث تقول أنّ عداء الشيطان للإنسان ليس بأمر خفي مستتر، فهو منذ بداية خلق آدم أقسم أن يبذل جهده لإغواء جميع البشر إلّاالمخلصين الّذين لا ينالهم مكر الشيطان، فمع هذا الحال كيف يمكن التغافل عن وسوسة الشيطان.
الآية التالية إنذار لجميع المؤمنين حيث تقول: «فَإن زَلَلْتُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ». فلو انحرفتم وسرتم مع وساوس الشيطان على خلاف مسار الصلح والسلام فإنّكم لا تستطيعون بذلك الفرار من العدالة الإلهية.
المنهج بيّن والطريق بيّن والهدف بيّن، ومعلوم من هنا لا عذر لمن يزل عن الطريق، فلو انحرفتم فأنتم المقصرون، فاعلموا أنّ اللَّه قادر حكيم لا يستطيع أحد أن يفرّ من عدالته.
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَ الْمَلَائِكَةُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) قد يبدو للوهلة الاولى أنّ في هذه الآية الكريمة نوعاً من الإبهام والتعقيد، لكن ذلك يزول عند إمعان النظر بتعبيراتها. الآية تخاطب الرسول صلى الله عليه و آله وتقول: «هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن
مختصر الامثل، ج 1، ص: 169
يَأتِيَهُمُ اللَّهُ فِى ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلِكَةُ وَقُضِىَ الْأَمْرُ» «1».
والمراد من جملة «قضي الأمر» الوارد في الآية هى نزول العذاب الإلهي على الكفار المعاندين لأنّ ظاهر الآية يتعلق بهذه الحياة
الدنيا.
وفي نهاية الآية تقول: «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» الامور المتعلقة بإرسال الأنبياء ونزول الكتب السماوية وتبيين حقائق يوم القيامة والحساب والجزاء والثواب والعقاب وكلها تعود إليه.
استحالة رؤية اللَّه: لا شك أنّ الرؤية الحسية لا تكون إلّاللأجسام التي لها لون ومكان وتأخذ حيّز من الفراغ، فعلى هذا لا معنى لرؤية اللَّه تعالى الذي هو فوق الزمان والمكان.
إنّ الذات المقدسة يستحيل رؤيتها بهذه العين لا في الدنيا ولا في الآخرة، والأدلة العقلية على هذه المسألة واضحة إلى درجة أنّه لا حاجة لشرحها وبيانها.
وطبعاً لا شك في إمكانية رؤية اللَّه تعالى بعين القلب، سواء في هذه الدنيا أو في عالم آخر، ومن المسلم أنّ ذاته المقدسة في يوم القيامة لها ظهور أقوى وأشد من ظهورها في هذا العالم مما يستدعي أن تكون المشاهدة أقوى.
سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) تشير هذه الآية إلى أحد مصاديق الآيات السابقة، لأنّ الحديث في الآيات السابقة كان يدور حول المؤمنين والكافرين والمنافقين، وأنّ الكافرين كانوا يتجاهلون آيات اللَّه وبراهينه الواضحة ويتذرعون بمختلف الحجج والمعاذير، وبني إسرائيل مصداق واضح لهذا المعنى، وتقول الآية: «سَلْ بَنِى إِسْرَاءِيلَ كَمْ ءَاتَيْنَاهُمْ مِّنْ ءَايَةٍ بَيّنَةٍ».
ولكنهم تجاهلوا وتغافلوا عن هذه الآيات والعلائم الواضحة وأنفقوا المواهب الإلهية والنعم الربانية في موارد مذمومة ومنحرفة، ثم تقول الآية: «وَمَن يُبَدّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا
______________________________
(1) «ظُلل»: جمع «ظلة» يقال لكل شي ء يصنع ظلًا، و «غمام»: بمعنى السحاب.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 170
مختصر الامثل ج 1 200
جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ».
والمراد من «تبديل النعمة» هو استخدام الإمكانات والطّاقات والمصادر المادية والمعنوية الموهوبة على طريق تخريبي انحرافي
وممارسة الظلم والطغيان.
ولا تنحصر مسألة تبديل النعمة والمصير المؤلم لها ببني إسرائيل.
فالعالم المتطور صناعيّاً يعاني اليوم من هذه المأساة الكبرى، فمع وفور النعم والطاقات لدى الإنسان المعاصر وفوراً لم يسبق له مثيل في التاريخ نجد صوراً شتّى من تبديل النعم وتسخيرها بشكل فضيع في طريق الإبادة والفناء بسبب ابتعادهم عن التعاليم الإلهية للأنبياء، حيث حوّروا هذه النعم إلى أسلحة مدمّرة من أجل بسط سيطرتهم الظالمة واستعمارهم للبلدان الاخرى، وبذلك جعلوا من الدنيا مكاناً غير آمن، وجعلوا الحياة الدنيا غير آمنة من كل ناحية.
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَ يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
سبب النّزول
روى في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس قال: نزلت الآية في أبي جهل وغيره من رؤساء قريش، بسطت لهم الدنيا وكانوا يسخرون من قوم من المؤمنين، فقراء، مثل عبد اللَّه بن مسعود، وعمّار وبلال وخباب ويقولون: لو كان محمّد نبيّاً لاتبعه أشرافنا.
التّفسير
الكافرون عبيد الدنيا: نزول الآية طبقاً للرواية المذكورة بشأن رؤساء قريش لا يمنع أن تكون مكملة لموضوع الآية السابقة بشأن اليهود وأن نستنتج منها قاعدة كلية. تقول الآية:
«زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا». ولذلك أفقدهم الغرور والتكبر شعورهم.
«وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا» في حين أنّ المؤمنين والمتقين في أعلى علّيين في الجنة، وهؤلاء في دركات الجحيم «وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ».
لأنّ المقامات المعنوية تتّخذ صور عينية في ذلك العالم، ويكتسب المؤمنون درجات أسمى من هؤلاء، وكأنّ هؤلاء يسيرون في أعماق الأرض بينما يحلّق الصالحون في أعالي السماء، وليس ذلك بعجيب «وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ».
وهذه بشارة للمؤمنين الفقراء وإنذار وتهديد للأغنياء والأثرياء المغرورين.
وكون ذلك الرزق الإلهي بدون
حساب للمؤمنين إشارة إلى أنّ الثواب والمواهب الإلهية
مختصر الامثل، ج 1، ص: 171
ليست بمقدار أعمالنا إطلاقاً، بل هي مطابقة لكرمه ولطفه، ونعلم أنّ كرمه ولطفه ليس لهما حدود ونهاية.
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) بعد بيان حال المؤمنين والمنافقين والكفار في الآيات السابقة شرع القرآن الكريم في هذه الآية في بحث اصولي جامع بالنسبة لظهور الدّين وأهدافه والمراحل المختلفة التي مر بها. في البداية تقول الآية: «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً».
فتبدأ هذه الآية ببيان مراحل الحياة البشرية وكيفية ظهور الدين لإصلاح المجتمع بواسطة الأنبياء وذلك على مراحل:
المرحلة الاولى: مرحلة حياة الإنسان الابتدائية حيث لم يكن للإنسان قد ألف الحياة الاجتماعية، ولم تبرز في حياته التناقضات والاختلافات، وكان يعبد اللَّه تعالى استجابةً لنداء الفطرة ويؤدي له فرائظ البسيطة، وهذه المرحلة يحتمل أن تكون في الفترة الفاصلة بين آدم ونوح عليهما السلام.
المرحلة الثانية: وفيها اتخذت حياة الإنسان شكلًا اجتماعياً، ولابد أن يحدث ذلك لأنّه مفطور على التكامل، وهذا لا يتحقق إلّافي الحياة الاجتماعية.
المرحلة الثالثة: هي مرحلة التناقضات والاصطدامات الحتمية بين أفراد المجتمع البشري بعد استحكام وظهور الحياة الاجتماعية، وهذه الاختلافات سواء كانت من حيث الإيمان والعقيدة، أو من حيث العمل وتعيين حقوق الأفراد والجماعات تحتّم وجود قوانين لرعاية وحلّ هذه الاختلافات، ومن هنا نشأت الحاجة الماسّة إلى تعاليم الأنبياء وهدايتهم.
المرحلة الرابعة: وتتميز ببعث اللَّه تعالى الأنبياء لإنقاذ الناس، حيث تقول الآية:
«فَبَعَثَ
اللَّهُ النَّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ».
مختصر الامثل، ج 1، ص: 172
فمع الإلتفات إلى تبشير الأنبياء وإنذارهم يتوجه الإنسان إلى المبدأ والمعاد ويشعر أنّ وراءه جزاءً على أعماله فيحسّ أنّ مصيره مرتبط مباشرةً بتعاليم الأنبياء وما ورد في الكتب السماوية من الأحكام والقوانين الإلهيّة لحلّ التناقضات والنّزاعات المختلفة بين أفراد البشر، لذلك تقول الآية: «وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ».
المرحلة الخامسة: هي التمسك بتعاليم الأنبياء وما ورد في كتبهم السماوية لإطفاء نار الخلافات والنزاعات المتنوعة (الاختلافات الفكرية والعقائدية والاجتماعية والأخلاقية).
المرحلة السادسة: واستمر الوضع على هذا الحال حتى نفذت فيهم الوساوس الشيطانية وتحرّكت في أنفسهم الأهواء النفسانية، وبهذا تقول الآية بعد ذلك: «وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ».
المرحلة السابعة: الآية الكريمة بعد ذلك تُقسّم الناس إلى قسمين، القسم الأوّل المؤمنون الذين ينتهجون طريق الحق والهداية ويتغلبون على كل الاختلافات بالاستنارة بالكتب السماوية وتعليم الأنبياء، فتقول الآية: «فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقّ بِإِذْنِهِ». في حين أنّ الفاسقين والمعاندين ماكثون في الضلالة والاختلاف.
وختام الآية تقول: «وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ». وهذه الفقرة إشارة إلى حقيقة إرتباط مشيئة اللَّه تعالى بأعمال الأفراد، فجميع الأفراد الراغبون في الوصول إلى الحقيقة يهديهم اللَّه تعالى إلى صراط مستقيم ويزيد في وعيهم وهدايتهم وتوفيقهم في الخلاص من الاختلافات والمشاجرات الدنيوية مع الكفار وأهل الدنيا ويرزقهم السكينة والاطمئنان، ويبين لهم طريق النجاة والاستقامة.
يستفاد من الآية أعلاه أنّ بداية انثباق الدين بمعناه الحقيقي كانت مقترنة مع ظهور المجتمع البشري بمعناه الحقيقي، من هنا نفهم سبب كون نوح أوّل انبياء اولوا العزم وأوّل أصحاب الشريعة والرسالة لا آدم.
يَسْأَلُونَكَ مَا ذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا
أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ وَ الْيَتَامَى وَ الْمَسَاكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ وَ مَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
سبب النّزول
في تفسير مجمع البيان: إنّ الآية نزلت يوم الخندق لما اشتدت المخافة وحوصِر المسلمون
مختصر الامثل، ج 1، ص: 173
في المدينة فدعاهم اللَّه إلى الصبر ووعدهم بالنصر.
التّفسير
يبدو من الآية الكريمة أنّ جماعة من المسلمين كانت ترى أنّ إظهار الإيمان باللَّه وحده كاف لدخولهم الجنة، ولذلك لم يوطّنوا أنفسهم على تحمل الصعاب والمشاقّ ظانين أنّه سبحانه هو الكفيل بإصلاح امورهم ودفع شرّ الأعداء عنهم.
الآية تردّ على هذا الفهم الخاطى ء فتقول: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ».
وبما أنّهم كانوا في غاية الإستقامة والصبر مقابل تلك الحوادث والمصائب، وكانوا في غاية التوكل وتفويض الأمر إلى اللطف الإلهي، فلذلك تعقب الآية: «أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ».
إنّ الآية أعلاه تحكي إحدى السنن الالهية في الأقوام البشرية جميعاً، وتنذر المؤمنين في جميع الأزمنة والأعصار أنّهم ينبغي عليهم لنيل النصر والتوفيق والمواهب الاخروية أن يتقبّلوا الصعوبات والمشاكل ويبذلوا التضحيات في هذا السبيل، وإنّ هذه المشاكل والصعوبات ما هي إلّاامتحان وتربية للمؤمنين ولتمييز المؤمن الحقيقي عن المتظاهر بالإيمان.
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَ عَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)
سبب النّزول
في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس قال: أنّ الآية نزلت في عمرو بن الجموح وكان شيخاً كبيراً ذا مال كثير، فقال يا رسول اللَّه! بماذا أتصدق؟ وعلى مَن أتصدق؟ فأنزل اللَّه سبحانه هذه الآية.
التّفسير
يتعرّض القرآن الكريم في آيات عديدة
إلى الإنفاق والبذل في سبيل اللَّه، وحثّ المسلمين بطرق عديدة على الإنفاق والأخذ بيد الضعفاء، وهذه الآية تتناول مسألة الإنفاق من جانب آخر، فثمة سائل عن نوع المال الذي ينفقه، ولذلك جاء تعبير الآية بهذا الشكل: «يَسَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ».
مختصر الامثل، ج 1، ص: 174
وفي الجواب بيّنت الآية نوع الإنفاق، ثم تطرّقت أيضاً إلى الأشخاص المستحقين للنفقة.
بشأن المسألة الاولى: ذكرت الآية كلمة «خير» لتبين بشكل جامع شامل ما ينبغي أن ينفقه الإنسان، وهو كل عمل ورأسمال وموضوع يشتمل على الخير والفائدة للناس، وبذلك يشمل كل رأسمال مادي ومعنوي مفيد. وبالنسبة للمسألة الثانية:- أي موارد الإنفاق- فتذكر الآية أوّلًا الأقربين وتخصّ الوالدين بالذكر، ثم اليتامى ثم المساكين، ثم أبناء السبيل، ومن الواضح أنّ الإنفاق للأقربين- إضافة إلى ما يتركه من آثار تترتب على كل إنفاق- يوطّد عرى القرابة بين الأفراد.
«وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ». لعل في هذه العبارة من الآية إشارة إلى أنّه يحسن بالمنفقين أن لا يصرّوا على اطلاع الناس على أعمالهم، ومن الأفضل أن يسرّوا انفاقهم تأكيداً لإخلاصهم في العمل، لأنّ الذي يجازي على الاحسان عليم بكل شي ء، ولا يضيع عنده سبحانه عمل عامل من البشر.
الآية السابقة تناولت مسألة الإنفاق بالأموال، وهذه الآية تدور حول التضحية بالدم والنفس في سبيل اللَّه، فالآيتان يقترن موضوعهما في ميدان التضحية والفداء، فتقول الآية:
«كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ».
التعبير بكلمة «كُتِب» إشارة إلى حتمية هذا الأمر الإلهي ومقطوعيته.
«كُره» وإن كان مصدراً إلّاأنّه استعمل هنا باسم المفعول يعني مكروه، فالمراد من هذه الجملة أنّ الحرب مع الأعداء في سبيل اللَّه أمر مكروه وشديد على الناس العاديين، لأنّ الحرب تقترن بتلف الأموال والنفوس وأنواع المشقات والمصائب، وأما بالنسبة لعشاق
الشهادة في سبيل الحق ومن له قدم راسخ في المعركة فالحرب مع أعداء الحق بمثابة الشراب العذب للعطشان، ولا شك في أنّ حساب هؤلاء يختلف عن سائر الناس وخاصة في بداية الإسلام.
ثم تشير هذه الآية الكريمة إلى مبدأ أساس حاكم في القوانين التكوينية والتشريعية الإلهية وتقول: «وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ».
مختصر الامثل، ج 1، ص: 175
وعلى العكس من تجنّب الحرب وطلب العافية وهو الأمر المحبوب لكم ظاهراً، إلّاأنّه «وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ».
ثم تضيف الآية وفي الختام: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ». فهنا يؤكد الخالق جلّ وعلا بشكل حاسم أنّه لا ينبغي لأفراد البشر أن يحكموا أذواقهم ومعارفهم في الامور المتعلقة بمصيرهم، لأنّ علمهم محدود من كل جانب ومعلوماتهم بالنسبة إلى مجهولاتهم كقطرة في مقابل البحر.
فهؤلاء الناس لا يحق لهم مع الإلتفات إلى علمهم المحدود أن يتعرضوا على علم اللَّه اللّامحدود ويعترضوا على أحكامه الإلهيّة، بل يجب أن يعلموا يقيناً أنّ اللَّه الرّحمن الرّحيم حينما يُشرّع لهم الجهاد والزكاة والصوم والحج فكل ذلك لما فيه خيرهم وصلاحهم.
ثم إنّ هذه الحقيقة تعمّق في الإنسان روح الانضباط والتسليم أمام القوانين الإلهية وتؤدي إلى توسعة آفاق إدراكه إلى أبعد من دائرة محيطه المحدود وتربطه بالعالم اللّامحدود يعني علم اللَّه تعالى.
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ كُفْرٌ بِهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَ إِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَ الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَ لَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كَافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ وَ أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
(217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هَاجَرُوا وَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
سبب النّزول
في تفسير مجمع البيان: قال المفسرون: بعث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله سريّة من المسلمين وأمّر عليهم عبداللَّه بن جحش الأسدي- وهو ابن عمّة النّبي- وذلك قبل بدر بشهرين، على رأس سبعة عشر شهراً من مقدمه المدينة، فانطلقوا حتى هبطوا نخلة- وهي أرض بين مكة
مختصر الامثل، ج 1، ص: 176
والطائف- فوجدوا بها عمرو بن الحضرمي في عير تجارة لقريش في آخر يوم من جمادي الآخرة، وكانوا يرون أنّه من جمادي، وهو رجب- من الأشهر الحرم- فاختصم المسلمون فقال قائل منهم: هذه غرة من عدو وغُنْم رزقتموه ولا ندري أمن الشهر الحرام هذا اليوم أم لا. وقال قائل منهم: لا نعلم هذا اليوم إلا من الشهر الحرام ولا نرى أن تستحلوه لطمع أشفيتم عليه. فغلب على الأمر الذي يريدون عرض الحياة الدنيا، فشدوا على ابن الحضرمي فقتلوه وغنموا عيره فبلغ ذلك كفار قريش. وكان ابن الحضرمي أوّل قتيل قتل بين المشركين والمسلمين وذلك أوّل في ء أصابه المسلمون فركب وفد كفار قريش حتى قدموا على النبي صلى الله عليه و آله فقالوا: أيحلّ القتال في الشهر الحرام؟ فأنزل اللَّه سبحانه هذه الآية.
نزلت الآية الثانية في قصّة عبداللَّه بن جحش وأصحابه لما قاتلوا في رجب، وقتل واقد السهمي ابن الحضرمي فظنّ قوم أنّهم إن أسلموا من الإثم فليس لهم أجر، فأنزل اللَّه سبحانه الآية فيهم بالوعد.
التّفسير
الآية الاولى تتصدّى للجواب عن الأسئلة المرتبطة بالجهاد والاستثناءات في هذا الحكم الإلهي فتقول الآية: «يَسَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ». ثم تُعلن الآية حرمة القتال وأنّه من الكبائر «قُلْ
قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ». أي إثم كبير.
وبهذا يُمضي القرآن الكريم بجديّة السنّة الحسنة التي كانت موجودة منذ قديم الأزمان بين العرب الجاهليّين بالنسبة إلى تحريم القتال في الأشهر الحرم (رجب، ذي القعدة، ذي الحجة، محرم).
ثم تضيف الآية أنّ هذا القانون لا يخلو من الاستثناءات، فلا ينبغي السّماح لبعض المجموعات الفاسدة لاستغلال هذا القانون في إشاعة الظلم والفساد، فعلى الرغم من أنّ الجهاد حرام في هذه الأشهر الحرم، ولكن الصد عن سبيل اللَّه والكفر به وهتك المسجد الحرام وإخراج الساكنين فيه وأمثال ذلك أعظم إثماً وجرماً عنداللَّه «وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ».
ثم تضيف الآية بأنّ إيجاد الفتنة والسعي في إضلال الناس وحرفهم عن سبيل اللَّه ودينه أعظم من القتل «وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ» لأنّ القتل ما هو إلّاجناية على جسم الإنسان،
مختصر الامثل، ج 1، ص: 177
والفتنة جناية على روح الإنسان وإيمانه «1».
ثم إنّ الآية تحذر المسلمين أن لا يقعوا تحت تأثير الإعلان الجاهلي للمشركين، لأنّهم لا يقنعون منكم إلّابترككم لدينكم إن استطاعوا «وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا». فينبغي على هذا الأساس أن تقفوا أمامهم بحزم وقوة ولا تعتنوا بوسوساتهم وأراجيفهم حول الأشهر الحرم.
ثم تنذر الآية المسلمين وتحذرهم من الإرتداد عن دين اللَّه: «وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِى الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».
فما أشد عقاب المرتد عن الإسلام، لأنّ ذلك يُبطل كلما قدّمه الفرد من عمل صالح ويستحق بذلك العذاب الإلهي الأبدي.
الآية التالية تشير إلى النقطة المقابلة لهذه الطائفة، وهم المؤمنون المجاهدون وتقول: «إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَّحِيمٌ».
أجل، فهذه الطائفة التي يتحلّى أفرادها بهذه الصفات الثلاث المهمة (الإيمان والهجرة والجهاد) قد يرتكبون خطأً بسبب جهلهم وعدم اطلاعهم (كما صدر ذلك من عبداللَّه بن جحش الوارد في سبب النزول) إلّاأنّ اللَّه تعالى يغفر لهم زلّتهم بلطفه ورحمته.
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَ يَسْأَلُونَكَ مَا ذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ وَ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
سبب النّزول
نزلت في جماعة من الصحابة أتوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالوا: أفتنا في الخمر والميسر، فإنّها
______________________________
(1) قدمنا بحثاً مفصلًا عن معنى «الفتنة» في ذيل الآية (191) من هذه السورة المبحوثة.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 178
مذهبة للعقل مسلبة للمال. وعن سبب نزول الآية الثانية فقد ورد في تفسير القمي عن الإمام الصادق عليه السلام وفي تفسير مجمع البيان قال ابن عباس: لمّا أنزل اللَّه «وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ» «1». و «إِنَّ الَّذِين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلُونَ سَعِيرًا» «2». إنطلق كل من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه واشتدّ ذلك عليهم فسألوا عنه، فنزلت هذه الآية.
التّفسير
الآية الاولى تُجيب عن سؤالين حول الخمر والقمار «يَسَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ».
«الخمر»: بمعنى كل مايع مسكر، سواء اخذ من العنب أو الزبيب أو التمر أو شي ء آخر، بالرغم من أنّ الوارد في اللغة أسماء مختلفة لكل واحد من أنواع المشروبات الكحولية.
«الميسر»: من مادة
(اليُسر) وإنّما سمي بذلك لأنّ المُقامر يستهدف الحصول على ثروة بيسر ودون عناء.
ثم تقول الآية في الجواب: «قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا».
وبناء على ذلك، فكل إنسان عاقل لا يقدم على الإضرار بنفسه كثيراً من أجل نفع ضئيل.
السؤال الثالث المذكور في الآية محل البحث هو السؤال عن الإنفاق فتقول الآية:
«وَيَسَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ».
«العفو» يُطلق على مصاديق مختلفة منها: المغفرة والصفح وإزالة الأثر، الحد الوسط بين شيئين، المقدار الإضافي لشي ء، وأفضل جزء من الثروة.
ويمكن أن يكون العفو في الآية هو المعنى الأوّل، أي الصفح عن أخطاء الآخرين، وبذلك يكون معنى الآية الكريمة: أنفقوا الصفح والمغفرة فهو أفضل الإنفاق.
ولا يبعد هذا الاحتمال لو أخذنا بنظر الاعتبار أوضاع شبه الجزيرة العربية عامة وخاصة مكة والمدينة محل نزول القرآن من حيث هيمنة روح التنافر والعداء والحقد بين الناس، والجواب بهذا المعنى لا يتنافي مع سؤالهم بشأن الإنفاق المالي، لأنّهم قد يسألون عن
______________________________
(1) سورة الإسراء/ 34.
(2) سورة النّساء/ 10.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 179
موضوع كان ينبغي أن يسألوا عن أهم منه، والقرآن يستثمر فرصة سؤالهم المعبر عن استعدادهم للسّماع والقبول ليجيبهم بما هو أهم وألزم، وهذا من شؤون الفصاحة والبلاغة حيث يترك سؤالهم ليتناول موضوعاً أهم.
وأخيراً يقول تعالى في ختام الآية: «كَذلِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْأَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ».
ويذكر بدون فصل في الآية التالية المحور الأصلي للتفكر ويقول: «فِى الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ».
إنّ الإنسان إضافة إلى وجوب التسليم أمام أوامر اللَّه يجب أن يُطيع هذه الأوامر عن تفكر وتعقل لا عن اتّباع أعمى، وبعبارة اخرى أنّ الإنسان يجب عليه بموازاة الطاعة العملية أن يسعى إلى فهم أسرار وروح الأحكام الإلهية.
ثم تذكر الآية السؤال الرابع وجوابه وتقول: «وَيَسَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى
قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ». وعلى هذا الأساس فالقرآن يوصي المسلمين بعدم إهمال اليتامى، فإنّ الإعراض عن تحمل مسؤوليتهم وتركهم وشأنهم أمر مذموم.
ثم تضيف الآية: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ». أجل، إنّ اللَّه مطلّع على نياتكم ويعلم من يقصد السوء بالاستفادة من أموال اليتامى ليحيف عليهم ومن هو مخلص لهم.
والفقرة الأخيرة من الآية تؤكد بأنّ اللَّه تعالى قادر على أن يُضيّق ويشدّد عليكم برعاية اليتامى مع فصل أموالهم عن أموالكم، لكن اللَّه لا يفعل ذلك أبداً، لأنّه عزيز وحكيم، ولا داعي لأن يُضيّق على عباده «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».
وَ لَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَ لَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَ اللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَ الْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَ يُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
سبب النّزول
في تفسير القرطبي: نزلت هذه الآية في أبي مِرثَد الغَنَويّ، بعثه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مكة سرّاً ليُخرج رجلًا من أصحابه؛ وكانت له بمكة امرأةٌ يحبّها في الجاهلية يقال لها (عَناق) فجاءته؛ فقال لها: إنّ الإسلام حرّم ما كان في الجاهلية؛ قالت: فتزوّجني؛ قال: حتى أستأذن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأتى النبي صلى الله عليه و آله فاستأذنه فنهاه عن التزوج بها؛ لأنّه كان مسلماً وهي مشركة.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 180
التّفسير
هذه الآية وطبقاً لسبب النزول المذكور أعلاه بمثابة جواب عن سؤال آخر حول الزواج مع المشركين فتقول: «وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ». ثم تضيف مقايسة وجدانيّة فتقول: «وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ».
لأنّ الهدف
من الزواج ليس هو اللّذة الجنسية فقط، فالمرأة شريكة عمر الإنسان ومربية لأطفاله وتشكّل قسماً مهماً من شخصيته، فعلى هذا الأساس كيف يصحّ استقبال الشرك وعواقبه المشؤومة لاقترانه بجمال ظاهري ومقدار من الأموال والثروة.
ثم إنّ الآية الشريفة تقرّر حكماً آخر وتقول: «وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ».
وبهذا الترتيب منع الإسلام من زواج المرأة المؤمنة مع الرجل المشرك كما منع نكاح الرجل المؤمن من المرأة المشركة حتى أنّ الآية رجّحت العبد المؤمن أيضاً على الرجال المشركين من أصحاب النفوذ والثروة والجمال الظاهري، لأنّ هذا المورد أهم بكثير من المورد الأوّل وأكثر خطورة، فتأثير الزوج على الزوجة أكثر عادةً من تأثير الزوجة على زوجها.
وفي ختام الآية تذكر دليل هذا الحكم الإلهي لزيادة التفكر والتدبر في الأحكام وتقول:
«أُوَلئِكَ [أي المشركين يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ».
ثم تضيف الآية: «وَيُبَيّنُ ءَايَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ».
أشار في «تفسير في ظلال القرآن» إلى نكتة ظريفة، وهي أنّ هذه الآية و (21) آية اخرى تأتي بعدها تُبيّن الأحكام المتعلقة بتشكيل الاسرة في أبعادها المختلفة، وفي هذه الآيات بيّن القرآن الكريم اثني عشر حكماً شرعياً:
1- يتضمن النهي عن زواج المسلم بمشركة، 2- يتعلق بالنهي عن مباشرة النساء في المحيض، 3- حكم الأيمان بصفة عامة- تمهيداً للحديث عن الإيلاء والطلاق- ويربط حكم الأيمان باللَّه وتقواه، 4- حكم الإيلاء ويتبعه حكم الطلاق، 5- حكم عدّة المطلّقة، 6- حكم عدد الطلقات، 7- حكم الإمساك بمعروف أو تسريح باحسان بعد الطلاق، 8- حكم الرضاعة والاسترضاع والأجر، 9- الحكم بعدّة المتوفى عنها زوجها، 10- حكم التعريض بخطبة النساء في أثناء العدّة، 11- حكم المطلّقة قبل الدخول في حالة ما إذا
فرض لها مهر وفي
مختصر الامثل، ج 1، ص: 181
حالة ما إذا لم يفرض، 12- حكم المتعة للمتوفى عنها زوجها وللمطلّقة.
وهذه الأحكام مع مجمل الإرشادات الأخلاقية في هذه الآيات تبين أنّ مسأله تشكيل الاسرة هو نوع من العبادة للَّه تعالى ويجب أن يكون مقروناً بالتفكر والتدبر.
وَ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
سبب النّزول
ذكر في تفسير ابن كثير ذيل الآية مورد البحث: إنّ اليهود كانت إذا حاضت المرأة منهم لم يواكلوها ولم يجامعوها في البيوت فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه و آله فأنزل اللَّه عزّ وجل «وَيَسَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ...».
وذكر قطب الدين الراوندي في فقه القرآن: قيل: كانوا في الجاهلية يجتنبون مؤاكلة الحائض ومشاربتها حتى كانوا لا يجالسونها في بيت واحد فسألوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن ذلك واستعلموا ذلك أواجب هو أم لا؟ فنزلت الآية.
التّفسير
أحكام النساء في العادة الشهرية: في الآية الاولى نلاحظ سؤال آخر عن العادة الشهرية للنساء، فتقول الآية: «وَيَسَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى». وتضيف بلافاصلة:
«فَاعْتَزِلُوا النّسَاءَ فِى الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ».
لأنّ الجماع في أيام الحيض، فهو إضافة إلى ما فيه من اشمئزاز، ينطوي على أذى وضرر ثبت لدى الطب الحديث، ومن ذلك احتمال تسبيب عقم الرجل والمرأة، وإيجاد محيط مناسب لتكاثر جراثيم الأمراض الجنسية مثل السفلس والتهابات الأعضاء التناسلية للرجل والمرأة، ودخول مواد الحيض المليئة بمكروبات الجسم في عضو الرجل، وغير ذلك
من الأضرار المذكورة في كتب الطب، لذلك ينصح الأطباء باجتناب الجماع في هذه الحالة.
جملة «يَطْهُرْنَ» بمعنى طهارة النساء من دم الحيض وأمّا جملة «فَإِذَا تَطَهَّرْنَ» تعني
مختصر الامثل، ج 1، ص: 182
الغُسل من الحيض. فعلى هذا الأساس وطبقاً للجملة الاولى تكون المقاربة الجنسية بعد انتهاء دم الحيض جائزة حتى لو لم تغتسل وأمّا الجملة الثانية فتعني أنّها ما لم تغتسل فلا يجوز مقاربتها. وعلى هذا فالآية لا تخلو من إبهام ولكن مع الإلتفات إلى أنّ الجملة الثانية تفسير للجملة الاولى ونتيجة لها (ولهذا اعطفت بفاء التفريع) فالظاهر أنّ (تَطَهَّرْنَ) أيضاً بمعنى الطهارة من دم الحيض وبذلك تجوز المقاربة الجنسية بمجرد الطهارة من العادة الشهرية وهذا هو ما ذهب إليه الفقهاء العظام في الفقه وأفتوا بحلية المقاربة الجنسية بعد الطهارة من الحيض حتى قبل الغسل ولكن لا شك في أنّ الأفضل أن تكون بعد الغسل.
الفقرة الثانية من الآية تقول: «فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ». أي: أن يكون الجماع من حيث أمر اللَّه وقد تكون هذه الفقرة تأكيداً لما قبلها، أي آتوا نساءكم في حالة النقاء والطّهر فقط لا في غير هذه الحالة.
الآية الثانية إشارة لطيفة إلى الغاية النهائية من العملية الجنسية فتقول: «نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ».
في هذه الآية الكريمة شبّهت النساء بالمزرعة وقد يثقل هذا التشبيه على بعض، ويتساءل لماذا شبّه اللَّه نصف النوع البشري بهذا الشكل؟
ولو أمعنا النظر في قوله سبحانه لوجدنا فيه إشارة رائعة لبيان ضرورة وجود المرأة في المجتمع الإنساني، فالمرأة بموجب هذا التعبير ليست وسيلة لإطفاء الشهوة، بل وسيلة لحفظ حياة النوع البشري.
«وَقَدّمُوا لِأَنفُسِكُمْ». هذا الأمر القرآني يشير إلى أنّ الهدف النهائي من الجماع ليس هو الاستمتاع باللذة الجنسية، فالمؤمنون
يجب أن يستثمروه على طريق تربية أبناء صالحين، وأن يقدّموا هذه الخدمة التربوية المقدسة ذخيرة لُاخراهم، وبذلك يؤكد القرآن على رعاية الدقة في انتخاب الزوجة كي تكون ثمرة الزواج إنجاب أبناء صالحين وتقديم هذه الذخيرة الاجتماعية الإنسانية الكبرى.
وفي ختام هذه الآية تأمر بالتقوى وتقول: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلقُوهُ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ».
مختصر الامثل، ج 1، ص: 183
وَ لَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
سبب النّزول
في تفسير مجمع البيان: نزلت في عبد اللَّه بن رواحة حين حلف أن يدخل على ختنه ولا يكلمه، ولا يصلح بينه وبين امرأته فكان يقول إنّي حلفت بهذا فلا يحل لي أن أفعله، فنزلت الآية.
التّفسير
لا ينبغي القسم قدر المستطاع: كما قرأنا في سبب النزول أنّ الآيتين أعلاه ناظرتان إلى سوء الاستفادة من القسم، فكانت هذه مقدمة إلى الأبحاث التالية في الآيات الكريمة عن الإيلاء والقسم وترك المقاربة الجنسية. في الآية الاولى يقول تعالى: «وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لّاَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».
وفي الآية التالية نلاحظ تكملة لهذا الموضوع وأنّ القسم لا ينبغي أن يكون مانعاً من أعمال الخير فتقول: «لَّايُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ وَلكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ». أي عن إرادة وإختيار.
في هذه الآية يشير اللَّه تعالى إلى نوعين من القسم:
الأوّل: القسم اللغو الذي لا أثر له، ولا يُعبأ به، هذا النوع من القسم يتردد على ألسن بعض الناس دون التفات، ويكررونه في كلامهم عن عادة لهم، فإنّ العمل بهذا القسم غير واجب ولا كفارة عليه، لأنّه لم
يكن عن عزم وإرادة.
النوع الثاني: القَسم الصادر عن إرادة وعزم، أو بالتعبير القرآني هو القَسم الداخل في إطار كسب القلب، ومثل هذا القَسم معتبر ويجب الالتزام به ومخالفته ذنب موجب للكفارة.
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَ إِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
مختصر الامثل، ج 1، ص: 184
القَسَم على ترك وطء الزوجة أو الإيلاء «1» تقليد جاهلي كان شائعاً بين العرب، واستمرّ معمولًا به عند المسلمين الجدد قبل نزول حكم الطلاق.
كان الرجل في الجاهلية- حين يغضب على زوجته- يقسِم على عدم وطئها، فيشدّد عليها بهذه الطريقة الفضّة، لا هو يطلق سراحها بالطلاق لتتزوج من رجل آخر، ولا يعود إليها بعد هذا القَسم ليصالحها ويعايشها وطبعاً لا يواجه الرجل غالباً صعوبة في ذلك لأنّه يتمتع بعدة زوجات.
الآية الكريمة وضعت لهذه القضية حدّاً، فذكرت أنّ الرجل يستطيع خلال مدة أقصاها أربعة أشهر أن يتخذ قراراً بشأن زوجته: إمّا أن يعود عن قَسمه ويعيش معها، أو يطلّقها ويخلّي سبيلها. «لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ».
والغاية من الامهال أربعة أشهر هو إعطاء الفرصة للزوج ليفكر في أمره مع زوجته وينقذها من هذا الحال. ثم تضيف: «فَإِن فَاءُو فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ». أي إن عادوا وجدوا اللَّه غفوراً رحيماً، والعبارة تدل أيضاً أنّ العودة عن هذا القَسم ليس ذنباً، بالرغم من ترتب الكفارة عليه.
«وَإِن عَزَمُوا الطَّلقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ». أي فلا مانع من ذلك مع توفّر الشروط اللازمة.
وفيما لو أهمل الزوج كلا الطريقين ولم يختر أحدهما، فلم يرجع إلى الحياة الزوجية السليمة، ولم يطلّق، ففي هذه الصورة يتدخّل حاكم الشرع ويأمر بالقاء الزوج في السجن، ويشدد عليه حتى يختار
أحدهما، وينقذ الزوجة من حالتها المعلّقة.
وَ الْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَ لَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحاً وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) كان الكلام في الآية السابقة عن الطلاق، وهنا تذكر الآية بعض أحكام الطلاق وما يتعلق به حيث ذكرت خمسة أحكام له في هذه الآية. في البداية ذكرت الآية عدّة الطلاق:
______________________________
(1) «ايلاء»: من مادة «الو» بمعنى القدرة والعزم، وبما أنّ القسم نموذج من هذا المعنى ولذا اطلق على الطلاق.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 185
«وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلثَةَ قُرُوءٍ».
وبما أنّ الطلاق يشترط فيه أن تكون المرأة في حالة الطهر الذي لم يجامعها زوجها فيه فيُحسب ذلك الطّهر مرة واحدة، وبعد أن ترى المرأة دم الحيض مرة وتطهر منه حينئذ تتم عدّتها بمجرد أن ينتهي الطّهر الثالث وتشرع ولو للحظة في العادة، فيجوز لها حينئذ الزواج.
الحكم الثاني المستفاد من هذه الآية هو قوله تعالى: «وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ».
الإسلام قرّر أن تكون المرأة بنفسها هي المرجع في معرفة بداية العدّة ونهايتها حيث إنّ المرأة نفسها أعلم بذلك من الآخرين.
الحكم الثالث المستفاد من الآية هو أنّ للزوج حق الرجوع إلى زوجته في عدّة الطلاق الرجعي، فتقول الآية: «وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِى ذلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلحًا». وبهذا يستطيع الزوج استئناف علاقته الزوجية بدون تشريفات خاصة إذا كانت المرأة في عدّة الطلاق الرجعي، فإذا قصد الرجوع يتحصل بمجرد كلمة أو عمل يصدر منه بهذا القصد.
ثم تبين الآية حكماً
رابعاً وتقول: «وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ». وعلى هذا كما أنّ للرجال حقوقاً على النساء، فكذلك للنساء حقوق على الرجال أيضاً، فيجب عليهم مراعاتها، لأنّ الإسلام اهتمّ بالحقوق بصورة متعادلة ومتقابلة.
وكلمة «بالمعروف» التي تأتي بمعنى الأعمال الحسنة المعقولة والمنطقية تكررت في هذه السلسلة من الآيات اثنا عشر مرّة (من الآية مورد البحث إلى الآية 241) كيما تحذّر النساء والرجال من عاقبة سوء الاستفادة من حقوق الطّرف المقابل وعليهم إحترام هذه الحقوق والاستفادة منها في تحكيم العلاقة الزوجية وتحصيل رضا اللَّه تعالى.
يوجد الاختلافات الكبيرة بين الجنسين على صعيد القوى الجسمية والروحية، ولهذا السبب كانت إدارة الاسرة بعهدة الرجل ومقام المعاونة بعهدة المرأة، وعلى أي حال فلا يكون هذا التفاوت مانعاً من تفوّق بعض النساء من الجهات المعنوية والعلمية والتقوائية على كثير من الرجال.
وأخيراً تقول الآية: «وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» وهذا إشارة إلى أنّ الحكمة الإلهية والتدبير الرباني يستوجبان أن يكون لكل شخص في المجتمع وظائف وحقوق معينة من قبل قانون الخلقة ويتناسب مع قدراته وقابلياته الجسمية والروحية، وبذلك فإنّ الحكمة الإلهية
مختصر الامثل، ج 1، ص: 186
تستوجب أن تكون للمرأة في مقابل الوظائف والمسؤوليّات الملقاة على عاتقها حقوقاً مسلّمة كيما يكون هناك تعادل بين الوظيفة والحق.
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
سبب النّزول
في تفسير المجمع البيان: جاءت إمرأة إلى إحدى زوجات النبي فشكت أنّ زوجها يطلّقها ويسترجعها، يضارّها بذلك. وكان الرجل في الجهالية
إذا طلّق امرأته، ثم راجعها قبل أن تنقضي عدّتها كان له ذلك، وإن طلّقها ألف مرة؛ لم يكن للطلاق عندهم حدّ، فذكرت ذلك لرسول اللَّه، فنزلت الطلاق مرتان.
التّفسير
ذكرنا في تفسير الآية السابقة إنّ الإسلام قرّر قانون (العدّة) و (الرجوع) لإصلاح وضع الاسرة ومنع تشتتها وتمزّقها، لكن بعض المسلمين الجدد استغلّوا هذا القانون كما كانوا عليه في الجاهلية، وعمدوا إلى التضييق على الزوجة بتطليقها المرة بعد الاخرى والرجوع إليها قبل انتهاء العدة، وبهذه الوسيلة ضيّقوا الخناق على النساء.
هذه الآية تحول بين هذا السلوك المنحط وتقرّر أنّ الطلاق والرجوع مشروعان لمرتين، أمّا إذا تكرر الطلاق للمرة الثالثة فلا رجوع، والطلاق الأخير هو الثالث، والمراد من عبارة «الطَّلقُ مَرَّتَانِ» هو أنّ الطلاق الذي يمكن معه الرجوع مرتان والطلاق الثالث لا رجوع بعده. وتضيف الآية: «فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ».
فعلى هذا يكون الطلاق الثالث هو الأخير لا رجعة فيه. وبعبارة اخرى: أنّ المحبة والحنان المتقابل بين الزوجين يمكن إعادتهما في المرتين السابقتين وتعود المياه إلى مجاريها، وفي غير هذه الصورة إذا تكرر منه الطلاق في المرة الثالثة فلا يحق له الرجوع إلّابشرائط معينة تأتي في الآية التالية.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 187
إنّ المراد من التسريح بإحسان أن يؤدّي للمرأة حقوقها بعد الانفصال النهائي، ولا يسعى الإضرار بها عملًا وقولًا بأن يعيبها في غيابها أو يتّهمها بكلمات رخيصة ويُسقط شخصيتها وسمعتها أمام الناس، وبذلك يحرمها من إمكانية الزواج المجدد، فكما أنّ الصلح والرجوع إلى الزوجة يجب أن يكون بالمعروف والإحسان والمودّة، فكذلك الانفصال النهائي يجب أن يكون مشفوعاً بالإحسان أيضاً، ولهذا تضيف الآية الشريفة: «وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيًا».
فعلى هذا الأساس لا يستطيع الزوج عند الانفصال النهائي أن
يأخذ ما أعطاها من مهرها شيئاً، وهذا المعنى أحد مصاديق التسريح بإحسان.
وتستطرق الآية إلى ذكر مسألة «طلاق الخلع» وتقرّر أنّه في حالة واحدة تجوز استعادة المهر وذلك عند رغبة المرأة نفسها بالطلاق حيث تقول الآية: «إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ». ثم تضيف: «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ». أي الفدية أو التعويض الذي تدفعه المرأة للتّخلص من الرابطة الزوجية، هذه الحالة تختلف عن الاولى في أنّ الطالب للفرقة هي المرأة نفسها ويجب عليها دفع الغرامة والتعويض للرجل الذي يريد ويطلب بقاء العُلقة الزوجية، وبذلك يتمكن الزوج بهذه الغرامة والفدية أن يتزوج مرة اخرى ويختار له زوجة ثانية.
وفي ختام الآية تشير إلى مُجمل الأحكام الواردة فيها وتقول: «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ».
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)
سبب النّزول
في تفسير مجمع البيان، وتفسير روح المعاني أيضاً: جاءت امرأة رفاعة بن وهب القُرظيّ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالت: إنّي كنت عند رفاعة فطلّقني فبتّ طلاقي فتزوجني عبد الرحمن بن الزبير وما معه الأمثل هُدبة الثوب (وإنّه طلّقني قبل أن يمسّني) فتبسم النبي صلى الله عليه و آله فقال:
«أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى يذوق عُسَيلَتَك، وتذوقي عُسَيلَتَه».
مختصر الامثل، ج 1، ص: 188
التّفسير
جاء في الآية السابقة إجمالًا أنّ للمرأة وللرجل بعد الطلاق الثاني أحد أمرين: إمّا أن يتصالحا ويرجعا إلى الحياة الزوجية، وإمّا أن ينفصلا إنفصالًا نهائياً. هذه الآية حكمها حكم الفقرة التابعة
لمادة قانونية. فهذه الآية تقول إنّ حكم الإنفصال حكم دائمي، إلّاإذا اتخذت المرأة زوجاً آخر، وطلّقها بعد الدخول بها، فعندئذ لها أن ترجع إلى زوجها الأوّل إذا رأيا أنّهما قادران على أن يعيشا معاً ضمن حدود اللَّه.
ويستفاد من الرّوايات عن أئمة الدين أنّ لهذا الزواج الثاني شرطين، أوّلًا: أن يكون هذا الزواج دائمياً، والثاني: أن يتبع عقد الزواج الإتصال الجنسي.
وَ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ لَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَ لَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ مَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَ الْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (231) تستمر هذه الآية في تبيان الأحكام التي أقرّها الإسلام للطلاق، لكي لا تهمل حقوق المرأة وحرمتها. تقول الآية: ما دامت العدّة لم تنته وحتى في آخر يوم من أيامها، فإنّ للرجل أن يصالح زوجته ويعيدها إليه في حياة زوجية حميمة: «فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ».
وإذا لم تتحسّن الظروف بينهما فيطلق سراحها «أَوْ سَرّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ».
ولكن كل رجوع أو تسريح يجب أن يكون في جوّ من الإحسان والمعروف وأن لا يخالطه شي ء من روح الإنتقام.
ثم تشير الآية إلى المفهوم المقابل لذلك وتقول: «وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ».
هذه الجملة تفسير لكلمة «معروف» أي أنّ الرجوع يجب أن يكون على أساس من الصفاء والوئام، وذلك لأنّ الجاهليين كانوا يتخذون من الطلاق والرجوع وسيلة للإنتقام، ولهذا يقول القرآن بلهجة قاطعة: إنّ استرجاع الزوجة يجب أن لا يكون رغبة في الإيذاء والإعتداء، إذ أنّ ذلك- فضلًا عن كونه ظلماً للزوجة- ظلم للزوج أيضاً.
مختصر الامثل، ج 1،
ص: 189
ثم يحذّر القرآن الجميع: «وَلَا تَتَّخِذُوا ءَايَاتِ اللَّهِ هُزُوًا».
هذا التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى حال الأشخاص الذين يستغلّون الأحكام الشرعية لتبرير مخالفاتهم ويتمسكون بالظواهر من أجل بعض الحيل الشرعية، فالقرآن يعتبر هذا العمل نوع من الاستهزاء بآيات اللَّه، ومن ذلك نفس مسألة الزواج والطلاق والرجوع في زمان العدّة بنيّة الإنتقام وإلحاق الضرر بالمرأة والتظاهر بأنّه يستفيد من حقه القانوني.
فعلى هذا لا ينبغي الإغماض عن روح الأحكام الإلهية والتمسك فقط بالظواهر الجامدة لها، فلا ينبغي إتخاذ آيات اللَّه ملعبة بيد هؤلاء، فإنّه يُعتبر ذنب عظيم ويترتب عليه عقوبة أليمة.
ثم تضيف الآية: «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ».
هذه تحذيرات من أجل أن تعلموا: أوّلًا: أنّ اللَّه تعالى عدّ تلك التصرفات من خرافات وتقاليد الجاهلية الشنيعة بالنسبة إلى الزواج والطلاق وغير ذلك، فأنقذكم منها وأرشدكم إلى أحكام الإسلام الحياتية، فينبغي أن تعرفوا قدر هذه النعمة العظيمة وتؤدّوا حقها، و ثانياً: بالنسبة إلى حقوق المرأة ينبغي أن لا تسيئوا إليها بالاستفاده من موقعيتكم، ويجب أن تعلموا أنّ اللَّه تعالى مطلع حتى على نياتكم.
وَ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَ أَطْهَرُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)
سبب النّزول
في تفسير مجمع البيان: نزلت في معقل بن يسار عضل اخته جملاء أن ترجع إلى الزواج الأوّل وهو عاصم بن عدي فإنّه كان طلّقها وخرجت من العدّة ثم أراد أن يجتمعا بعقد آخر، فمنعها من ذلك، فنزلت الآية.
مختصر الامثل، ج 1، ص:
190
التّفسير
فصم قيد آخر من قيود أسر النساء: ذكرنا في البحوث السابقة كيف كانت النسوة يعشن في أسر العادات الجاهلية، وكيف كنّ تحت سيطرة الرجال دون أن يعنى أحد برغبتهن ورأيهن. واختيار الزوج كان واحداً من قيود ذلك الأسر، إذ أنّ رغبة المرأة وإرادتها لم يكن لها أي تأثير في الأمر، فحتّى من كانت تتزوج زواجاً رسمياً ثم تطلّق لم يكن لها حق الرجوع ثانية بمحض إرادتها، بل كان ذلك منوطاً برغبة وليّها أو أوليائها، وكانت ثمة حالات يرغب فيها الزوجان بالعودة إلى الحياة الزوجية بينهما، ولكن أولياء المرأة كانوا يحولون دون ذلك تبعاً لمصالحهم أو لتخيلاتهم وأوهامهم.
إلّا أنّ القرآن أدان هذه العادة، ورفض أن يكون للأولياء مثل هذا الحق، إذ إنّ الزوجين- وهما ركنا الزواج الأصليان، إذا توصّلا إلى إتفاق بالعودة بعد الانفصال- يستطيعان ذلك دون أن يكون لأحد حق الإعتراض عليهما. تقول الآية: «وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ».
ويتبين من هذه الآية أنّ الثيّبات- أي اللّواتي سبق لهنّ الزواج ثم طلّقن أو مات أزواجهن- إذا شئن الزواج ثانية فلا يلزمهن موافقة أوليائهن أبداً.
ثم تضيف الآية وتحذّر ثانية وتقول: «ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ». ثم من أجل التأكيد أكثر تقول: «ذلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ».
يشير هذا المقطع من الآية إلى أنّ هذه الأحكام قد شُرّعت لمصلحتكم غاية الأمر أنّ الأشخاص الذين ينتفعون بها هم الذين لهم أساس عقائدي من الإيمان باللَّه والمعاد ولا يتبعون أهواءهم.
وَ الْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا
لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَ لَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَ عَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَ تَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَ إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
مختصر الامثل، ج 1، ص: 191
أحكام الرضاع السبعة: هذه الآية في الواقع استمرار للأبحاث المتعلقة بمسائل الزواج والحياة الزوجية، وتبحث مسألة مهمة هي مسألة (الرضاع)، وتذكر بعبارات مقتضبة، وفي نفس الوقت ذات معنىً عميق، الجزئيات المتعلقة بالرضاع المختلفة، فهناك على العموم سبعة أحكام في هذا الباب:
1- تقول الآية في أوّلها: «وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ».
«والدات»: جمع (والدة) وهي في اللغة بمعنى الام، ولكن كلمة الام لها معنىً أوسع وهي قد تُطلق على الوالدة وعلى الجدة أي والدة الوالدة، وقد تعني أصل الشي ء وأساسه.
وفي هذا المقطع من الآية نلاحظ أنّ حق الإرضاع خلال سنتي الرضاعة يعود للُام، فهي التي لها أن ترضع مولودها خلال هذه المدة وأن تعتني به، وعلى الرغم من أنّ (الولاية) على الأطفال الصغار قد اعطيت للأب، فإنّ تخصيصها بحق الحضانة والرعاية والرضاعة يعتبر حقاً ذا جانبين، فهو يرعى حال الطفل كما يرعى حال الام.
2- ليس من الضروري أن تكون مدة رضاعة الطفل سنتين حتماً، إنّما السنتان لمن يريد أن يقضي دورة رضاعة كاملة «لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ». ولكن للُام أن تقلل من هذه الفترة حسب مقتضيات صحة الطفل وسلامته.
3- نفقة الام في الطعام واللباس، حتى عند الطلاق أثناء فترة الرضاعة تكون على والد الطفل، لكي تتمكن الام من الإنصراف إلى العناية بطفلها وإرضاعه مرتاحة البال وبدون قلق. «وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ».
هنا
تعبير «المولود له» بدلًا من «الأب» يستلفت الإنتباه، ولعله جاء لاستثارة عواطف الابوة فيه في سبيل حثّه على أداء واجبه. أي أنّه إذا كان قد وضع على عاتقه الإنفاق على الوليد وامّه خلال هذه الفترة فذلك لأنّ الطفل ابنه وثمرة فؤاده وليس غريباً عنه.
إنّ الإتيان بقيد «المعروف» يشير إلى أنّ طعام الام ولباسها ينبغي أن يكونا من اللائق بها والمتعارف عليه، فلا يجوز التقتير ولا الإسراف.
ولرفع كل غموض محتمل تشير الآية إلى أنّ على كل أب أن يؤدّي واجبه على قدر طاقته «لَاتُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا».
4- لا يحق لأيّ من الوالدين أن يجعلا من مستقبل وليدهما ومصيره أمراً مرتبطاً بما قد يكون بينهما من اختلافات، حيث لا يؤمن معه أن تتعرض روحية الوليد بضربة لا يمكن تفادي آثارها. «لَاتُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ». على الأب أن يحذر انتزاع الوليد
مختصر الامثل، ج 1، ص: 192
من أحضان امه خلال فترة الرضاعة فيعتدي بذلك على حق الام في حضانة وليدها، كما أنّ على الام التي اعطيت هذا الحق أن لا تستغله وأن لا تتذرّع بمختلف الأعذار الموهومة للتنصّل من إرضاع وليدها، أو أن تحرم الأب من رؤية طفله. 5- ثم تبين الآية حكماً آخر يتعلق بما بعد وفاة الأب فتقول: «وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ».
يعني أنّ الورثة يجب عليهم تأمين احتياجات الام في مرحلة الرضاعة للطفل.
6- وتتحدث الآية أيضاً عن مسألة فطام الطفل عن الرضاعة وتجعله بعهدة كل من الأبوين على الرغم مما جاء في الآيات السابقة من تحديد فترة الرضاعة، إلّاأنّ للأبوين أن يفطما الطّفل وقت ما يشاءان حسب ما تقتضيه صحة الطفل وسلامته الجسمية، وتقول الآية: «فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا».
7- أحياناً
تمتنع الام من حضانة الطفل وممارسة حقها في إرضاعه ورعايته أو أنّه يوجد هناك مانع حقيقي لذلك، ففي هذه الصورة يجب التفكير في حلّ هذه المسألة ولهذا تقول الآية: «وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلدَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا ءَاتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ».
وعلى هذا الأساس لا مانع من اختيار مرضعة بدل الام بعد توافق الطرفين بشرط أنّ هذا الأمر لا يسبّب إهدار حقوق الام بالنسبة إلى المدة الفائتة من الرضاعة.
وفي الختام تحذّر الآية الجميع وتقول: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».
فلا ينبغي للاختلافات التي تحصل بين الزوجين أن تؤدي إلى إيقاد روح الإنتقام فيهما حيث يعرّض مستقبلهما ومستقبل الطفل إلى الخطر، فلابد أن يعلم الجميع بأنّ اللَّه تعالى يراقب أعمالهم بدقة.
وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَ لكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً وَ لَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
مختصر الامثل، ج 1، ص: 193
خرافات تبعث على تعاسة المرأة: إنّ واحدة من المشاكل الرئيسية في حياة المرأة هي الزواج بعد موت زوجها. إنّ احترام الحياة الزوجية بعد موت أحد الزوجين أمر فطري، بحيث نجد في مختلف القبائل تقاليداً وطقوساً خاصة بهذا الموضوع على الرغم من أنّ بعض هذه العادات كانت تبلغ حدّ الإفراط الذي يقيّد المرأة بقيود ثقيلة تبلغ حدّ القضاء على
حياتها احتراماً لذكرى زوجها الراحل، كقيام بعض القبائل بحرق المرأة بعد موت زوجها، أو بدفنها حيّة معه في قبره، وبعض آخر كانوا يحرمون المرأة من الزواج بعد زوجها مدى الحياة، وفي بعض القبائل كان على المرأة أن تقضي بعض الوقت بجانب قبر زوجها تحت خيمه سوداء قذرة وفي ملابس رثّة بعيدة عن كل نظافة أو زينة أو اغتسال. إلّاأنّ الآية المذكورة تلغي كل هذه الخرافات، ولكنّها تحافظ على احترام الحياة الزوجية بإقرار العدة.
«وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ».
وبما أنّ أولياء وأقرباء المرأة يتدخّلون أحياناً في أمرها أو يأخذون بمصالحهم بنظر الاعتبار في زواجها المجدد تقول الآية في ختامها: «وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ». وسيجازي كل شخص بما عمله من أعمال سيئة أو حسنة.
وحسب ما وصلنا من أئمة المسلمين فإنّ على الأرامل في هذه الفترة أن يحافظن على مظاهر الحزن، أي ليس لهنّ أن يتزينّ مطلقاً، بل ينبغي التجرد من كل زينة، ولا شك أنّ فلسفة المحافظة على هذه العدة توجب ذلك أيضاً.
وإنّه مما يلفت النظر أنّ الأحكام الإسلامية بشأن العدة تأمر المرأة بالتزام العدة حتى وإن لم يكن هناك أي احتمال بأن تكون حاملًا.
الآية الثانية تشير إلى أحد الأحكام المهمة للنساء في العدة (بمناسبة البحث عن عدة الوفاة في الآيات السابقة) فتقول: «وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِن لَّاتُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَن تَقُولُوا قَوْلًا مَّعْرُوفًا».
فهذه الآية تبيح للرجال أن يخطبوا النساء اللواتي في عدة الوفاة بالكناية أو الإضمار في النفس «أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ» وهذا الحكم في الواقع من
أجل الحفاظ على حريم الزواج السابق من جهة، وكذلك لا يحرم الأرملة من حقها في تعيين مصيرها من جهة اخرى.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 194
ومن الطبيعي أن تفكر المرأة في مصيرها بعد وفاة زوجها، وكذلك يفكّر بعض الرجال بالزواج بهنّ للشروط اليسيرة السهلة في الزواج بالأرامل.
ثم تضيف الآية: «وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ». فمن المسلّم أنّ الشخص إذا عقد على المرأة في عدتها يقع العقد باطلًا، بل إنّه إذا أقدم على هذا العمل عالماً بالحرمة فإنّ هذه المرأة ستحرم عليها أبداً.
وبعد ذلك تعقّب الآية: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ».
لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَ لَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) في هاتين الآيتين نلاحظ أحكاماً اخرى للطلاق استمراراً للأبحاث السابقة. تقول الآية في البداية: «لَّاجُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً» «1». وهذا يعني جواز طلاق النساء قبل المقاربة الجنسية وقبل تعيين المهر، وهذا في صورة ما إذا علم الرجل أو كلا الزوجين بعد العقد وقبل المواقعة أنّهما لا يستطيعان استمرار الحياة الزوجية هذه، فمن الأفضل أن يتفارقا في هذا الوقت بالذات، لأنّ الطلاق في المراحل اللّاحقة سيكون أصعب.
ثم تبين الآية حكماً آخراً في هذا المجال وتقول: «وَمَتّعُوهُنَّ». أي: يجب أن تمنح المرأة هديّة
تناسب شؤونها فيما لو جرى الطلاق قبل المضاجعة وقبل تعيين المهر، ولكن يجب أن يؤخذ بنظر الاعتبار قدرة الزوج المالية في هذه الهديّة، ولذلك تعقّب الآية الشريفة بالقول:
«عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ». أي: أنّ الهديّة
______________________________
(1) «مس»: بمعنى الملامسة وهنا كناية عن الجماع؛ و «فريضة»: بمعنى الواجب وهنا جاءت بمعنى المهر.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 195
لابد أن تكون بشكل لائق وبعيدة عن الإسراف والبخل، ومناسبة لحال المُهدي والمُهدى إليه.
ولما كان لهذه الهديّة أثر كبير للقضاء على روح الإنتقام وفي الحيلولة دون إصابة المرأة بعُقد نفسية بسبب فسخ عقد الزواج، فإنّ الآية تعتبر هذا العمل من باب الإحسان «حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ». أي أن يكون ممزوجاً بروح الإحسان واللطف.
الملاحظة الاخرى في هذه الآية هي أنّ القرآن يعبّر عن الهدية التي يجب أن يعطيها الرجل للمرأة باسم (متاع) فالمتاع في اللغة هو كل ما يستمتع به المرء وينتفع به، ويطلق غالباً على غير النقود، لأنّ الأموال لا يمكن التمتع بها مباشرةً، بل لابد أوّلًا من تبديلها إلى متاع، ولهذا كان تعبير القرآن عن الهديّة بالمتاع.
ولهذا العمل أثر نفسي خاص، فكثيراً ما يحدث أن تكون الهدية من المأكل أو الملبس ونظائرهما مهما كانت زهيدة الثمن أثر بالغ في نفوس المُهدى إليهم لا يبلغه أبداً أثر الهديّة النقدية، لذلك نجد أنّ الروايات الواصلة إلينا عن أئمة الأطهار: تذكر هذه الهدايا بصورة مأكل أو ملبس أو أرض زراعية.
وتتحدث الآية التالية عن حالة الطلاق الذي لم يسبقه المضاجعة ولكن بعد تعيين المهر فتُبين أنّ الحكم في هذا اللون من الطلاق الذي يكون قبل المضاجعة وبعد تعيين المهر يوجب على الزوج دفع نصف المهر المعين «وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ
أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ».
وهذا هو الحكم القانوني لهذه المسألة، فيجب دفع نصف المهر إلى المرأة بدون أيّة نقيصة ولكن الآية تتناول الجوانب الأخلاقية والعاطفية وتقول: «إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النّكَاحِ».
أجل، فإنّ الآية في الجملة التالية تقول: «وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».
جملة «وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى تبين جانباً آخر من واجبات الزوج الإنسانية وهو أن يظهر الزوج التنازل والكرم فلا يسترجع شيئاً من المهر إن كان قد دفعه وإن لم يكن دفعه بعد فمن الأفضل دفعه كاملًا متنازلًا عن النصف الذي هو من حقه، وذلك لأنّ المرأة التي تنفصل عن زوجها بعد العقد تواجه صدمة نفسية شديدة ولا شك أنّ تنازل الرجل عن
مختصر الامثل، ج 1، ص: 196
حقّه من المهر لها يكون بمثابة البلسم لجرحها.
ونلاحظ تأكيداً في سياق الآية الشريفة على أصل (المعروف) و (الإحسان) فحتى بالنسبة إلى الطلاق والانفصال لا ينبغي أن يكون مقترناً بروح الإنتقام والعداوة، بل ينبغي أن يتم على أساس السماحة والإحسان بين الرجل والمرأة.
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَ قُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
سبب النّزول
في تفسير مجمع البيان (وفي الدر المنثور أيضاً) عن زيد بن ثابت: إنّ النبي صلى الله عليه و آله كان يصلّي بالهاجرة «1» وكانت أثقل الصلوات على أصحابه، فلا يكون وراءه إلّاالصف أو الصفان، فقال: «لقد هممت أن أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة بيوتهم». فنزلت هذه الآية.
التّفسير
أهمية الصلاة وخاصة الوسطى: بما أنّ الصلاة أفضل وسيلة مؤثرة تربط بين الإنسان وخالقه، لذلك ورد
التأكيد في آيات القرآن الكريم عليها، ومن ذلك ما ورد في الآية محل البحث حيث تقول: «حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَوةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ».
المراد من «الصَّلَوةِ الْوُسْطَى هي صلاة الظهر والتأكيد على هذه الصلاة كان بسبب حرارة الجو في الصيف، أو بسبب انشغال الناس في امور الدنيا والكسب فلذلك كانوا لا يعيرون لها أهمية.
وفي الآية الثانية تؤكد على أنّ المسلم لا ينبغي له ترك الصلاة حتى في أصعب الظروف والشرائط كما في ميدان القتال، غاية الأمر أنّ الكثير من شرائط الصلاة في هذا الحال تكون غير لازمة كالإتجاه نحو القبلة وأداء الركوع والسجود بالشكل الطبيعي، ولذا تقول الآية:
«فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا».
سواءً كان الخوف في حال الحرب أو من خطر آخر، فإنّ الصلاة يجب أداءها بالإيماء والإشارة للركوع والسجود، سواءً كنتم مشاة أو راكبين.
______________________________
(1) الهاجرة: نصف النهار عند اشتداد الحرّ.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 197
«فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ». ففي هذه الصورة، أي في حالة الأمان يجب عليكم أداء الصلاة بالصورة الطبيعية مع جميع آدابها وشرائطها.
ومن الواضح أنّ أداء الشكر لهذا التعليم الإلهي للصلاة في حالة الأمن والخوف هو العمل على وفق هذه التعليمات.
فالآية توضّح أنّ إقامة الصلاة والإرتباط بين العبد وخالقه يجب أن يتحقق في جميع الظروف والحالات، وبهذا تتحصل نقطة ارتكاز للإنسان واعتماده على اللَّه.
وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَ لِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) تعود هذه الآيات لتذكر بعض مسائل الزواج والطلاق
والامور المتعلقة بها وفي البداية تتحدّث عن الأزواج الذين يتوسّدون فراش الاحتضار ولهم زوجات فتقول: «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ». أي أنّ الأشخاص من المسلمين إذا حانت ساعة وفاتهم وبقيت زوجاتهم على قيد الحياة فينبغي أن يوصوا بأزواجهم في النفقة والسكن في ذلك البيت لمدّة سنة كاملة، وهذا طبعاً في صورة ما إذا بقيت الزوجة في بيت زوجها ولم تخرج خارج البيت، ولهذا تضيف الآية: «فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِى مَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَّعْرُوفٍ». كأن يخترن زوجاً جديداً، فلا مانع من ذلك ولا إثم عليكم ولكن يسقط حقها في النفقة والسكنى.
وفي ختام الآية تشير إلى أنّه لا ينبغي التخوّف من عاقبة خروج النسوة، فتقول بأنّ اللَّه قادر على فتح أبواب اخرى أمامهنّ بعد وفاة الأزواج فلو حدثت مشكلة في البيت ولحقت بها مصيبة فإنّ ذلك سيكون لحكمة حتماً لأنّ اللَّه تعالى عزيز حكيم: «وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».
فلو أغلق باباً بحكمته فسوف يفتح اخرى بلطفه.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 198
يعتقد الكثير من المفسرين أنّ هذه الآية قد نسخت بالآية (234) من هذه السورة التي سبق بيانها وفيها ورد أنّ عدّة الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيام وعلى الرغم من أنّ تلك الآية تأتي قبل هذه الآية من حيث الترتيب ولكننا نعلم أنّ الآيات في السورة لم ترتّب بحسب نزولها بل قد نجد آيات متأخرة في النزول وضعت متقدمة في الترتيب.
في الآية الثانية يبين القرآن الكريم حكماً آخر من أحكام الطلاق ويقول: «وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ». أي أنّ المتقين يجب عليهم تقديم هديّة لائقة للنساء المطلقات.
وبالرغم من أنّ ظاهر الآية يشمل جميع النساء المطلقات، ولكن بقرينة الآية (236)
السابقة نفهم أنّ هذا الحكم يختص بمورد النسوة التي لم يقرّر لهنّ مهر بعد وقوع الطلاق قبل الوطى ء.
إنّ هذه الهدية- وطبق الروايات الواردة من الأئمة المعصومين عليهم السلام- تُعطى إلى المرأة بعد تمام العدة والإفتراق الكامل لا في عدة الطلاق الرجعي. وبعبارة اخرى: أنّ هذه الهدية ليست وسيلة للعودة، بل للوداع النهائي.
وفي آخر آية من الآيات مورد البحث والتي هي آخر آية من الآيات المتعلقة بالطلاق تقول: «كَذلِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ».
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)
سبب النّزول
في تفسير مجمع البيان: نزلت في أهل داوردان قرية قُبُلَ واسط، وقع فيهم طاعون فخرجوا هاربين فأماتهم اللَّه. قيل: إنّ ملكاً من ملوك بني اسرائيل أمرهم أن يخرجوا إلى قتال عدوهم فخرجوا فعسكروا. ثم جنبوا وكرهوا الموت، فاعتلوا وقالوا: إنّ الأرض التي نأتيها بها الوباء فلا نأتيها حتى ينقطع منها الوباء! فأرسل اللَّه عليهم الموت، فلمّا رأوا أنّ الموت كثر فيهم خرجوا من ديارهم فراراً من الموت. فلمّا رأى الملك ذلك قال: اللّهمّ ربّ
مختصر الامثل، ج 1، ص: 199
يعقوب وإله موسى، قد ترى معصية عبادك فأرهم آية من أنفسهم حتى يعلموا أنّهم لا يستطيعون الفرار منك! فأماتهم اللَّه جميعاً وأمات دوابهم وأتى عليهم ثمانية أيّام حتى انتفخت وأروحت أجسادهم.
قالوا: وأتى على ذلك مدّة حتى بليت أجسادهم وعريت عظامهم وتقطعت أوصالهم فمرّ عليهم حزقيل «1» وجعل يتفكر فيهم متعجباً منهم. فأوحى اللَّه إليه: يا حزقيل تريد أن أريك آية وأريك كيف احيي الموتى؟ قال: نعم. فأحياهم اللَّه تعالى.
التّفسير
هذه الآية تشير
إشارة عابرة ولكنها معبّرة عن قصة أحد الأقوام السالفة التي انتشر بين أفرادها مرض خطير وموحش بحيث هرب الآلاف منهم من ذلك المكان فتقول الآية: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ».
ثم إنّ الآية أشارت إلى عاقبتهم فقالت: «فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ» لتكون قصّة موتهم وحياتهم مرّة اخرى عبرة للآخرين.
ومن الواضح أنّ المراد من «مُوتُوا» هو أمر اللَّه التكويني الحاكم على كل حيّ في عالم الوجود. أي إنّ اللَّه تعالى أوجد أسباب هلاكهم فماتوا جميعاً في وقت قصير، وهذه أشبه بالأمر الذي ورد في الآية (82) من سورة يس: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ».
وجملة «ثُمَّ أَحْيَاهُمْ» إشارة إلى عودتهم إلى الحياة بعد موتهم إستجابة لدعاء (حزقيل النّبي عليه السلام) كما ذكرنا في سبب نزول الآية، ولمّا كانت عودتهم إلى الحياة مرّة اخرى من النعم الإلهية البينة (نعمة لهم ونعمة لبقية الناس للعبرة) ففي ختام الآية تقول: «إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَشْكُرُونَ». فليست نعمة اللَّه وألطافه وعنايته تنحصر بهؤلاء، بل لجميع الناس.
العالم الشيعي المعروف ب «الصدوق» استدلّ بهذه الآية على القول بالرجعة وقال: (إنّ من معتقداتنا الرجعة) أي رجوع طائفة من الناس الذين ماتوا في الأزمنة الغابرة إلى هذه الدنيا مرّة اخرى، ويمكن كذلك أن تكون هذه الآية دليلًا على المعاد وإحياء الموتى يوم القيامة.
______________________________
(1) قيل: إنّ حزقيل هو ثالث خلفاء بني إسرائيل بعد موسى (تفسير مجمع البيان).
مختصر الامثل، ج 1، ص: 200
وَ قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَ اللَّهُ يَقْبِضُ وَ يَبْسُطُ وَ
إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
سبب النّزول
في تفسير مجمع البيان في سبب نزول الآية الثانية: إنّ النبي صلى الله عليه و آله قال: «من تصدّق بصدقة فله مثلها في الجنة». فقال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول اللَّه إنّ لي حديقتين إن تصدقت بإحداهما فإنّ لي مثليها في الجنة؟ قال: «نعم». قال: وامّ الدحداح معي؟ قال: «نعم». قال:
والصبية معي؟ قال: «نعم». فتصدّق بأفضل حديقتيه فدفعها إلى رسول اللَّه. فنزلت الآية، فضاعف اللَّه له صدقته ألفي ألف وذلك قوله: «أَضْعَافًا كَثِيرَةً».
التّفسير
هذه الآيات تشرع في حديثها عن الجهاد. في البداية تقول الآية: «وَقَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ». يسمع أحاديثكم ويعلم نيّاتكم ودوافعكم النفسية في الجهاد.
ثم يضيف القرآن في الآية التالية: «مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً». أي: ينفق من الأموال التي رزقه اللَّه تعالى إيّاها في طريق الجهاد وحماية المستضعفين والمعوزين. فعلى هذا يكون إقراض اللَّه تعالى بمعنى المصارف التي ينفقها الإنسان في طريق الجهاد.
وفي ختام الآية يقول: «وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ».
وتشير الآية إلى أنّه لا تتصوروا إنّ الإنفاق والبذل سوف يؤدّي إلى قلة أموالكم، لأنّ سعة وضيق ارزاقكم بيد اللَّه.
لماذا ورد التعبير بالقرض؟ لقد ورد التعبير بالقرض في مورد الإنفاق في عدّة آيات قرآنية، وهذا من جهة يحكي عظيم لطف اللَّه بالنسبة لعباده، وأهمية مسألة الإنفاق من جهة اخرى.
يقول الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة الخطبة (183): «واستقرضكم وله خزائن السماوات والأرض وهو الغنيّ الحميد وإنّما أراد أن يبلوكم أيّكم أحسن عملًا».
مختصر الامثل، ج 1، ص: 201
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ
هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَنْ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَ مَا لَنَا أَنْ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ قَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَ أَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَ قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَ زَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ وَ اللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَ قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَ آلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَ جُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَ لَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَ جُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَ ثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَ انْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ قَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَ لَوْ لَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَ لكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
مختصر الامثل، ج 1،
ص: 202
مختصر الامثل ج 1 239
اليهود الذين كانوا قد استضعفوا تحت سلطة الفراعنة استطاعوا أن ينجوا من وضعهم المأساوي بقيادة موسى عليه السلام الحكيمة حتى بلغوا القوّة والعظمة. لقد أنعم اللَّه على اليهود ببركة نبيّهم الكثير من النِعم بما فيها «صندوق العهد»، إلّاأنّ تلك النِعم والانتصارات أثارت في اليهود الغرور شيئاً فشيئاً، وأخذوا بمخالفة القوانين، وأخيراً اندحروا على أيدي الفلسطينيين وخسروا قوّتهم ونفوذهم بخسارتهم صندوق العهد.
استمرّت حالهم على هذا سنوات طوالًا، إلى أن أرسل إليهم اللَّه نبيّاً اسمه «اشموئيل» لإنقاذهم وهدايتهم، فتجمّع حوله اليهود الذين كانوا قد ضاقوا ذرعاً بالظلم وكانوا يبحثون عن ملجأ يأوون إليه، وطلبوا منه أن يختار لهم قائداً وأميراً لكي يتوحّدوا تحت لوائه، ويحاربوا العدوّ متّحدين يداً ورأياً، لإستعادة عزّتهم الضائعة.
فتوجّه اشموئيل إلى اللَّه يعرض عليه ما يطلبه القوم فأوحى إليه: أن اخترنا «طالوت» ملكاً عليهم.
التّفسير
في أوّل آية يخاطب اللَّه تعالى نبيّه الكريم ويقول: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِى إِسْرَاءِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِىّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلَكًا نُّقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ».
«الملأ»: هم الجماعة يجتمعون على رأي فيملأون العيون رواءً ومنظراً والنفوس بهاءً وجلالًا ولذلك يقال لأشراف كل قوم (الملأ) لأنّهم بما لهم من مقام ومنزلة يملأون العين.
وعلى الرغم من أنّ الجماعة المذكورة كانت تريد أن تدفع العدو المعتدي الذي أخرجهم من أرضهم ويعيدوا ما اخذ منهم، فقد وُصفت تلك الحرب بأنّها في سبيل اللَّه، وبهذا يتبين أنّ ما يساعد على تحرر الناس وخلاصهم من الأسر ورفع الظلم والعدوان يعتبر في سبيل اللَّه.
ولما كان نبيهم يعرف فيهم الضعف والخوف قال لهم: يمكن أن يصدر إليكم الأمر للجهاد فلا تطيعون «قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا
تُقَاتِلُوا».
ولكنهم قالوا: كيف يمكن أن نتملّص من محاربة العدو الذي أجلانا عن أوطاننا وفرّق
مختصر الامثل، ج 1، ص: 203
بيننا وبين أبنائنا «قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا» وبذلك أعلنوا وفاءهم وتمسكهم بالعهد.
ومع ذلك فإنّ هذا الجمع من بني إسرائيل لم يمنعهم اسم اللَّه ولا أمره ولا الحفاظ على استقلالهم والدفاع عن وجودهم ولا تحرير أبنائهم من نقض العهد، ولذلك يقول القرآن مباشرة بعد ذلك: «فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ».
وذكر صاحب تفسير روح المعاني (والتفسير الكبير أيضاً) أنّ عدّة من بقي مع طالوت (313 نفر) بعدد جيش الإسلام يوم بدر.
وعلى كل حال فإنّ نبيّهم أجابهم على طلبهم التزاماً منه بواجبه وجعل عليهم طالوت ملكاً بأمر من اللَّه تعالى: «وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا».
يظهر من كلمة «ملكاً» أنّ طالوت لم يكن قائداً للجيش فحسب، بل كان ملكاً على ذلك المجتمع.
ومن هنا بدأت المخالفات والاعتراضات وقال بعضهم: «قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ».
وهذا هو أوّل اعترضاً ونقض في العهد من قِبل بني إسرائيل لنبيّهم مع أنّه قد صرح لهم أنّ اللَّه هو اختار طالوت، وفي الواقع أنّهم اعترضوا على اللَّه تعالى.
غير أنّ القرآن الكريم يشير إلى الجواب القاطع على هذا الاعتراض إذ يقول: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِى الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ».
وهذا يعني أوّلًا: أنّ هذا الاختيار هو اختيار اللَّه تعالى؛ وثانياً: إنّكم على خطأ كبير في تشخيص شرائط القيادة، لأنّ النسب الرفيع والثروة الكبيرة ليستا امتيازين للقائد إطلاقاً لأنّهما من الامتيازات الاعتبارية الخارجيّة، أمّا العلم والمعرفة وكذلك القوة الجسمية فهما
امتيازان واقعيان ذاتيان حيث يلعبان دوراً مهماً في شخصية القائد.
ثم تضيف الآية: «وَاللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ».
هذه الجملة يمكن أن تكون إشارة إلى شرط ثالث للقائد، وهو توفير اللَّه تعالى الإمكانيات وآليات القيادة ووسائل الحكم.
الآية التالية تبين أنّ بني إسرائيل لم يكونوا قد اطمأنوا كل الاطمئنان إلى أنّ طالوت مبعوث من اللَّه تعالى لقيادتهم على الرغم من أنّ نبيهم صرح بذلك لهم ولهذا طلبوا منه
مختصر الامثل، ج 1، ص: 204
الدليل، فكان جوابه أنّ الدليل سيكون مجي ء التابوت أو صندوق العهد إليهم: «وَقَالَ لَهُمُ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ءَايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ».
إنّ التابوت هو الصندوق الذي وضعت فيه ام موسى ابنها موسى وألقته في اليم، وبعد أن انتشل أتباع فرعون الصندوق من البحر وأتوا به إليه وأخرجوا موسى منه، ظل الصندوق في بيت فرعون ثم وقع بأيدي بني إسرائيل، فكانوا يحترمونه ويتبركون به.
موسى عليه السلام وضع فيه الألواح المقدسة- التي تحمل على ظهرها أحكام اللَّه- ودرعه وأشياء اخرى تخصّه وأودع كل ذلك في أواخر عمره لدى وصيه يوشع ابن نون.
وبهذا ازدادت أهمية هذا الصندوق عند بني إسرائيل، فكانوا يحملونه معهم كلما نشبت حرب بينهم وبين الأعداء، ليصعّد معنوياتهم.
ولكن بعد هبوط التزاماتهم الدينية وغلبة الأعداء عليهم سلب منهم الصندوق.
واشموئيل- كما تذكر الآية- وعدهم بإعادة الصندوق باعتباره دليلًا على صدق قوله.
«فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَى وَءَالُ هرُونَ».
هذه الفقرة من الآية تبين أنّ الصندوق كما قلنا كان يحتوي على أشياء تضفي السكينة على بني إسرائيل وترفع معنوياتهم في الحوادث المختلفة.
«تَحْمِلُهُ الْمَلِكَةُ».
كيف جاء الملائكة بصندوق العهد؟ جاء في التاريخ أنّه عندما وقع صندوق العهد بيد عبدة الأصنام في فلسطين وأخذوه إلى حيث يعبدون فيه
أصنامهم، أصابتهم على أثر ذلك مصائب كثيرة، فقال بعضهم: ما هذه المصائب إلّابسبب هذا الصندوق، فعزموا على إبعاده عن مدينتهم وديارهم، ولمّا لم يرض أحد بالقيام بالمهمة اضطّروا إلى ربط الصندوق ببقرتين وأطلقوهما في الصحراء، واتفق هذا في الوقت الذي تمّ فيه نصب طالوت ملكاً على بني إسرائيل. وأمر اللَّه الملائكة أن يسوقوا الحيوانين نحو مدينة اشموئيل. وعندما رأى بنو إسرائيل الصندوق بينهم، اعتبروه إشارة من اللَّه على اختيار طالوت ملكاً عليهم.
وعليه نسب حمل الصندوق إلى الملائكة، لأنّهم هم الذين ساقوا البقرتين إلى بني إسرائيل.
ويستفاد مما تقدم أنّه بالرغم من ثبوت مسألة القيادة الإلهية لطالوت بالأدلة والمعاجز الإلهيّة، فهناك بعض الأفراد لضعف إيمانهم لم يسلّموا إلى هذا الحق، وقد ظهرت هذه الحقيقة
مختصر الامثل، ج 1، ص: 205
على أعمالهم العبادية، ومن ذلك تشير الجملة الأخيرة في هذه الآية: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ».
ثم إنّ بني إسرائيل رضخوا لقيادة طالوت فصنع منهم جيوشاً كثيرة وساروا إلى القتال، وهنا تعرض بني إسرائيل لاختبار عجيب ومن الأفضل أن نجمع تلك الأحداث ومجريات الامور من القرآن نفسه حيث يقول: «فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّى وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ» «1».
ويتضح في هذه الموارد الإمتحان الكبير الذي تعرض له بنو إسرائيل وهو المقاومة الشديدة للعطش وكان هذا الامتحان ضرورياً لجيش طالوت وخاصة مع سوابق هذا الجيش السيئة في بعض الحروب السابقة لأنّ الانتصار يتوقف على مقدار الانضباط وقدرة الإيمان والاستقامة في مقابل الأعداء والطاعة لأوامر القيادة.
وشرب الأكثرية كما قلنا في سرد الحكاية وكما جاء بإيجاز في الآية.
وهكذا جرت التصفية الثانية في جيش طالوت، وكانت التصفية
الاولى عندما نادى المنادي للاستعداد للحرب وطلب الجميع بالاشتراك في الجهاد إلّاالذين كانت لهم التزامات تجارية أو عمرانية أو نظائرها.
«فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَاطَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ».
تفيد هذه الآية أنّ تلك القلة التي نجحت في الامتحان هي وحدها التي تحرّكت معه، ولكن عندما خطر لهؤلاء القلة أنّهم مقدمون على مواجهة جيش جرّار وقوي، ارتفعت أصواتهم بالتباكي على قلة عددهم، وهكذا بدأت المرحلة الثالثة في التصفية.
«قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُّلقُوا اللَّهِ كَمْ مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ». إنّ «يظنّون» هنا تعني يعلمون، أي أنّهم على يقين من قيام يوم القيامة.
في الآية التالية يذكر القرآن الكريم موضوع المواجهة الحاسمة بين الجيشين ويقول: «وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ».
«برزوا»: من مادة «بروز» بمعنى الظهور، فعندما يستعد المحارب للقتال ويتّجه إلى
______________________________
(1) «جنود»: جمع «جند» في الأصل بمعنى الأرض الكثيره الأحجار والمتراكمة الصخور ثم اطلقت على كل شي ء متراكم وعادةً تأتي بمعنى الجيش الكبير.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 206
الميدان يقال أنّه برز للقتال، وإذا طلب القتال من الأعداء يقال أنّه طلب مبارزاً. انّ طالوت وجنوده طلبوا من اللَّه العلي القدير ثلاثة امور، الأوّل: الصبر والاستقامة، الثاني: أن يثبّت أقدامهم حتى لا يُرجّح الفرار على القرار، الثالث: من الامور التي طلبها جيش طالوت هو «وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ» وهو في الواقع الهدف الأصلي من الجهاد ويُنفّذ النتيجة النهائية للصبر والإستقامة وثبات الأقدام.
ومن المسلّم أنّ اللَّه تعالى سوف لا يترك عبادة هؤلاء لوحدهم أمام الأعداء مع قلة عددهم وكثرة جيش العدو، ولذلك تقول الآية التالية: «فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ».
وكان داود في
ذلك الوقت شابّاً صغير السن وشجاعاً في جيش طالوت. أنّ داود كان ماهراً في قذف الحجارة بالقلّاب حيث وضع في قلّابه حجراً أو اثنين ورماه بقوة وبمهارة نحو جالوت، فأصاب الحجر جبهته بشدة فصرعه في الوقت، فتسّرب الخوف إلى جميع أفراد جيشه، فانهزموا بسرعة أمام جيش طالوت، وكأنّ اللَّه تعالى أراد أن يظهر قدرته في هذا المورد وأنّ الملك العظيم والجيش الجرّار لا يستطيع الوقوف أمام شاب مراهق مسلح بسلاح ابتدائي لا قيمة له.
تضيف الآية: «وَءَاتَيهُ اللَّهُ المُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ». وعلى الرّغم من أنّ الآية لا تقول أنّ داود هذا هو داود النبي والد سليمان عليهما السلام ولكن جملة «وَءَاتَيهُ اللَّهُ المُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ» تدلّ على أنّه وصل إلى مقام النبوة.
وفي ختام الآية إشارة إلى قانون كلي فتقول: «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ».
وهذه الآيات بشارة للمؤمنين الذين يقفون في مواقع أمامية من مواجهة الطواغيت والجبابرة فينتظرون نصرة اللَّه لهم.
و آخر آية في هذا البحث تقول: «تِلْكَ ءَايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ».
تشير هذه الآية إلى القصص الكثيرة التي وردت في القرآن بشأن بني إسرائيل وأنّ كلّا منها دليل على قدرة اللَّه وعظمته ومنزهة عن كل خرافة واسطورة (بالحق) حيث نزلت على نبي الأكرم صلى الله عليه و آله وكانت إحدى دلائل صدق نبوته وأقواله.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 207
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَ آتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَ أَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ
آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَ لكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) دور الأنبياء في حياة البشر: هذه الآية تشير إلى درجات الأنبياء ومراتبهم وجانباً من دورهم في حياة المجتمعات البشرية، تقول الآية: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ».
«مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ». هذه إشارة إلى بعض فضائل الأنبياء، وواضح أنّ المقصود بالآية موسى عليه السلام المعروف باسم «كليم اللَّه».
ثم تضيف الآية: «وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ». ومع الإلتفات إلّاأنّ الآية أشارت إلى التفاضل بين الأنبياء بالدرجات والمراتب، فيمكن أن يكون المراد في هذا التكرار إشارة إلى أنبياء معينين وعلى رأسهم نبي الإسلام الكريم لأنّ دينه آخر الأديان وأكملها.
أو أنّ المقصود من بعض الأنبياء السابقين، مثل إبراهيم إذ يقول سبحانه في الآية التالية:
«وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم». أي: لو شاء اللَّه ما أخذت امم هؤلاء الأنبياء تتقاتل فيما بينها بعد رحيل أنبيائها.
«وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيّنَاتِ وَأَيَّدْنهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ». أي أنّنا وهبنا عيسى عليه السلام براهين واضحة مثل شفاء المرضى المزمنين وإحياء الموتى والمعارف الدينية السامية.
أمّا المراد من (روح القدس) هو جبرائيل حامل الوحي الإلهي.
وتشير الآية كذلك إلى وضع الامم والأقوام السالفة بعد الأنبياء والاختلافات التي جرت بينهم فتقول: «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيّنَاتُ».
فمقام الأنبياء وعظمتهم لن يمنعا من حصول الاختلافات والإقتتال والحرب بين أتباعهم لأنّها سنّة إلهية أن جعل اللَّه الإنسان حرّاً ولكنه أساء الاستفادة من هذه الحرية: «وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ».
ثم تؤكد الآية أنّ اللَّه تعالى قادر على منع الاختلافات بين الناس بالإرادة التكوينية وبالجبر، ولكنه يفعل ما يريد وفق الحكمة المنسجمة مع تكامل الإنسان
ولذلك تركه مختاراً
مختصر الامثل، ج 1، ص: 208
«وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ».
ولا شك في أنّ بعض الناس أساء استخدام هذه الحرية، ولكن وجود الحرية في المجموع يُعتبر ضرورياً لتكامل الإنسان لأنّ التكامل الإجباري لا يُعدّ تكاملًا.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَ لَا خُلَّةٌ وَ لَا شَفَاعَةٌ وَ الْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) الإنفاق من أهمّ أسباب النجاة يوم القيامة: بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن الامم الماضية وجهاد حكوماتها الإلهيّة والاختلافات التي حدثت بعد الأنبياء عليهم السلام تخاطب هذه الآية المسلمين وتشير إلى أحد الواجبات المهمة عليهم التي تسبّب في تقوية بنيتهم الدّفاعيّة وتوحّد كلمتهم فتقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم».
جملة «مِمَّا رَزَقْنَاكُم» لها مفهوم واسع حيث يشمل الإنفاق الواجب والمستحب وكذلك الإنفاق المعنوي كالتعليم وأمثال ذلك، ولكن مع الإلتفات إلى التهديد الوارد في ذيل الآية لا يبعد أن يكون المراد به الإنفاق الواجب يعني الزكاة وأمثالها، مضافاً إلى أنّ الإنفاق الواجب هو الّذي يعزّز بيت المال ويقوّم كيان الحكومة.
ثم تضيف الآية: «مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لَّابَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ» «1».
«وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ». لأنّهم بتركهم الإنفاق والزكاة يظلمون أنفسهم ويظلمون الناس.
إنّ الكفر في الآية يعني التمرد والعصيان والتخلف عن إطاعة أمر اللَّه.
اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ لَا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَ هُوَ الْعَلِيُّ
الْعَظِيمُ (255)
______________________________
(1) «خُلّة»: مأخوذة من مادة «خلل» بمعنى الفاصلة بين شيئين وبما أنّ المحبّة والصداقة تحل في وجود الإنسان وروحه وتملأ الفواصل لذا اطلقت هذه المفردة على الصداقة العميقة.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 209
آيةالكرسي من أهم آيات القرآن: يكفي لبيان أهمية وفضيلة هذه الآية ما جاء في تفسير مجمع البيان عن ابي بن كعب قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «يا أبا المنذر! أيّ آية في كتاب اللَّه أعظم؟» قلت: اللَّه لا إله إلّا هو الحي القيوم. قال: فضرب في صدري، ثم قال: «لِيَهْنِئْكَ العلم. والذي نفس محمّد بيده! إنّ لهذه الآية للساناً وشفتين، تقدس الملك عند ساق العرش».
وفي حديث آخر في المجمع عن عليّ عليه السلام قال سمعت رسول اللَّه يقول: «... سيّد القرآن البقرة وسيّد البقرة آية الكرسي. يا علي! إنّ فيها لخمسين كلمة في كل كلمة خمسون بركة».
وروى في المجمع عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «من قرأ آية الكرسي مرّة، صرف اللَّه عنه ألف مكروه من مكاره الدنيا وألف مكروه من مكاره الآخرة، أيسر مكروه الدنيا الفقر وأيسر مكروه الآخرة عذاب القبر».
وعن في المجمع أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «إنّ لكل شي ء ذروة وذروة القرآن آية الكرسي».
تبدأ الآية بذكر الذات المقدسة ومسألة التوحيد في الأسماء الحسنى والصفات العُليا للَّه عزّ وجلّ فتقول: «اللَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ».
«اللَّه»: يعني الذات الواحدة الجامعة لصفات الكمال، إنّه خالق عالم الوجود.
«الحي»: من كانت فيه حياة، وهذه الصفة المشبّهة كمثيلاتها تدلّ على الدوام والاستمرار، وحياة اللَّه حياة حقيقية لأنّ حياته عين ذاته وليس عارضة عليه مأخوذة من غيره، في الآية (58) من سورة الفرقان يقول: «وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَىّ الَّذِى لَايَمُوتُ».
«القيوم»: صيغة مبالغة من القيام.
لذلك فالكلمة تدلّ على الموجود الذي قيامه بذاته، وقيام كل الكائنات بوجوده.
ويتضح من هذا أنّ «قيّوم» هي في الواقع أساس كل صفات الفعل، وعليه فإنّ صفات الخالق والرازق والهادي والمحيي وأمثالها تتجمع كلها في «القيّوم».
وفي الحقيقة أنّ (الحي) يشمل جميع الصّفات الإلهية كالعلم والقدرة والسميع والبصير وأمثال ذلك، و (القيوم) تتحدث عن احتياج جميع المخلوقات إليه، ولذا قيل أنّ الاسم الأعظم الإلهي هو مجموع هاتين الصفتين.
ثم تضيف الآية: «لَاتَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ». «سنة»: عبارة عن النوم العارض للعين ولكن عندما يتوغّل كثيراً في الإنسان ويتعمّق ويعرض على العقل فيقال له (نوم).
وتشير هذه الآية إلى حقيقة استمرار فيض اللطف الإلهي وديمومته وعدم انقطاعه عن وجوده لحظة واحدة.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 210
«لَّهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ». لا يكون هناك قيام بشؤون العالم بغير ملكية السماوات والأرض وما فيها، لذلك فهذه الآية- بعد ذكر قيومية اللَّه- تشير إلى حقيقة كون العالم كله ملك خاص للَّه، وأنّ كل تصرف يحدث فيه فبأمر منه.
من الواضح أنّ التقيد بهذا يعتبر في الواقع عاملًا مهماً من عوامل التربية، إذا اعتقد الإنسان أنّه ليس المالك الحقيقي لما يملك وإنّما هو يتصرف به لفترة قصيرة من الزمن، فسيمتنع- دون شكّ- عن الإعتداء على حقوق الآخرين وعن الحرص والطمع والاحتكار والبخل وأمثالها مما يتولد في الإنسان نتيجة التصاقه بالدنيا، فيكون ذلك مدعاةً لتربيته تربية تجعله قانعاً بحقوقه المشروعة.
«مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ». وهذا ردّ على ادعاء المشركين الذين يقولون إننا نعبد الأوثان لتكون شفعاءنا عند اللَّه كما ورد في الآية (3) من سورة الزمر: «مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى .
وهذه الآية من نوع الاستفهام الاستنكاري، أي ما من أحد
يتقدم بشفاعة إليه إلّابإذنه.
هذه الآية تكمل معنى قيومية اللَّه ومالكيته المطلقة لجميع ما في عالم الوجود.
«يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ». بعد الإشارة إلى الشفاعة في الآية السابقة، وإلى أنّ هذه الشفاعة لا تكون إلّابإذن اللَّه، تأتي هذه الجملة لبيان سبب ذلك فتقول إنّ اللَّه عالم بماضي الشفعاء ومستقبلهم، وبما خفي عليهم أيضاً.
وعلى هذا فأنّ اللَّه محيط بكلّ أبعاد الزمان والمكان فكل عمل حتى الشفاعة يجب أن تكون بإذنه.
وفي ثامن صفة مقدسة تقول الآية: «وَلَا يُحِيطُونَ بِشَىْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ».
ومن هذه الفقرة من الآية يستفاد أمرين:
الأوّل: أنّه لا أحد يعلم شيئاً بذاته، فجميع العلوم والمعارف البشرية إنّما هي من اللَّه تعالى.
والآخر: هو أنّ اللَّه تعالى قد يضع بعض العلوم الغيبية في متناول من يشاء من عباده فيطلعهم على ما يشاء من أسرار الغيب.
وفي تاسع وعاشر صفة إلهية تقول الآية: «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يُودُهُ حِفْظُهُمَا».
مختصر الامثل، ج 1، ص: 211
وفي الصفة الحادية عشر والثانية عشر تقول الآية: «وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ».
وعلى هذا أنّ العرش حكومة اللَّه وقدرته يهيمن على السموات والأرض جميعاً وأنّ كرسىّ علمه يحيط بكل هذه العوالم، وما من شي ء يخرج عن نطاق حكمه ونفوذ علمه. أي أنّ اللَّه الذي هو أرفع وأعلى من كل شبيه وشريك، ومنزه عن كل نقص وعيب، وهو العظيم اللّامحدود، لا يصعب عليه أي عمل ولا يتعبه حفظ عالم الوجود وتدبيره، ولا يغفل عنه أبداً، وعلمه محيط بكل شي ء.
بل يستفاد من بعض الروايات أنّ الكرسي أوسع بكثير من السماوات والأرض. فقد جاء في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: «ما السماوات والأرض عند الكرسي إلّا كحلقة خاتم في فلاة، وما الكرسي عند العرش إلّاكحلقة
في فلاة».
لم يتوصّل العلم البشري بَعد لمعرفته وكشف الستار عن هذا المعنى.
إنّ جميع الروايات التي اوردت فضيلة آية الكرسي وعبّرت عنها بآية الكرسي تدلّ على أنّها آية واحدة لا أكثر.
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
سبب النّزول
في تفسير مجمع البيان: نزلت في رجل من الأنصار يدعى أبا الحصين. وكان له ابنان، فقدم تجّار الشام إلى المدينة، يحملون الزيت. فلمّا أرادوا الرجوع من المدينة أتاهم ابنا أبي الحصين، فدعوهما إلى النصرانية، فتنصّرا ومضيا إلى الشام. فأخبر أبو الحصين رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فأنزل اللَّه تعالى «لَاإِكْرَاهَ فِى الدّينِ».
التّفسير
إنّ آية الكرسي هي مجموعة من توحيد اللَّه تعالى وصفاته الجمالية والجلالية التي تشكّل أساس الدين، وبما أنّها قابلة للأستدلال العقلي في جميع المراحل وليست هناك حاجة للإجبار والإكراه تقول هذه الآية: «لَاإِكْرَاهَ فِى الدّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَىّ».
«الرشد»: لغوياً تعني الهداية للوصول إلى الحقيقة، بعكس (الغيّ) التي تعني الانحراف عن الحقيقة والإبتعاد عن الواقع.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 212
وهذه الآية ردّ حاسم على الذين يتهمّون الإسلام بأنّه توسل أحياناً بالقوة وبحدّ السيف والقدرة العسكرية في تقدمه وإنتشاره.
ثم إنّ الآية الشريفة تقول كنتيجة لما تقدم: «فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَاانْفِصَامَ لَهَا».
«الطاغوت»: صيغة مبالغة من طغيان، بمعنى الإعتداء وتجاوز الحدود، ويطلق على كل ما يتجاوز الحد، لذلك فالطاغوت هو الشيطان والصنم والمعتدي والحاكم الجبار والمتكبر، وكل معبود غير اللَّه، وكل طريق لا ينتهي إلى اللَّه.
والمقصود بالطاغوت هو كل متعدّ للحدود وكل مذهب منحرف ضال.
«وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ». الإشارة في نهاية الآية إلى الحقيقة
القائلة إنّ الكفر والإيمان ليسا من الامور الظاهرية، لأنّ اللَّه عالم بما يقوله الناس علانية- وفي الخفاء- وكذلك هو عالم بما يكنّه الناس في ضمائرهم وقلوبهم.
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) بعد أن أشير في الآيات السابقة إلى مسألة الإيمان والكفر وإتضاح الحق من الباطل والطريق المستقيم عن الطريق المنحرف توضّح هذه الآية الكريمة إستكمالًا للموضوع أنّ لكل من المؤمن والكافر قائداً وهادياً فتقول: «اللَّهُ وَلِىُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا». فهم يسيرون في ظل هذه الولاية من الظلمات إلى النور: «يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ».
ثم تضيف الآية إنّ أولياء الكفار هم الطاغوت (الأوثان والشيطان والحاكم الجائر وأمثال ذلك) فهؤلاء يسوقونهم من النور إلى الظلمات: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ» ولهذا السبب «أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَ اللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
مختصر الامثل، ج 1، ص: 213
تعقيباً على الآية السابقة التي تناولت هداية المؤمنين بواسطة نور الولاية والهداية الإلهيّة، وضلال الكافرين لإتّباعهم الطاغوت، يذكر اللَّه تعالى في هذه الآية: عدة شواهد لذلك، وأحدها ما ورد في الآية أعلاه وهي تتحدث عن الحوار الذي دار بين إبراهيم عليه السلام وأحد الجبارين في زمانه ويدعى (نمرود) فتقول: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْرهِيمَ فِى رَبّهِ».
وتعقّب الآية بجملة اخرى تشير فيها إلى الدافع الأساس لها
وتقول: إنّ ذلك الجبار تملّكه الغرور والكبر وأسكره الملك «أَن ءَاتَيهُ اللَّهُ المُلْكَ».
وما أكثر الأشخاص الذين نجدهم في الحالات الطبيعية أفراد معتدلين ومؤمنين، ولكن عندما يصلون إلى مقام أو ينالون ثروةً فإنّهم ينسون كل شي ء ويسحقون كل المقدسات.
وتضيف الآية أنّ ذلك الجبار سأل إبراهيم عن ربّه: من هو الإله الذي تدعوني إليه؟ «إِذْ قَالَ إِبْرهِيمُ رَبّىَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ».
الواقع أنّ أعظم قضية في العالم هي قضية الخلقة، يعني قانون الحياة والموت الذي هو أوضح آية على علم اللَّه وقدرته.
ولكن نمرود الجبار إتّخذ طريق المجادلة والسفسطة وتزييّف الحقائق لإغفال الناس والملأ من حوله فقال: إنّ قانون الحياة والموت بيدي «قَالَ أَنَا أُحْىِ وَأُمِيتُ».
ومن أجل إثبات هذه الدعوى الكاذبة استخدم حيلة كما ورد في الرواية المعروفة حيث أمر بإحضار سجينين أطلق سراح أحدهما وأمر بقتل الآخر، ثم قال لإبراهيم والحضّار:
أرأيتم كيف أحيي واميت.
ولكن إبراهيم قدّم دليلًا آخر لإحباط هذه الحيلة وكشف زيف المدعي بحيث لا يمكنه بعد ذلك من إغفال الناس فقال: «قَالَ إِبْرهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ» وهنا ألقم هذا المعاند حجراً «فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ وَاللَّهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».
وبهذا اسقط في يدي العدوّ المغرور، وعجز عن الكلام أمام منطق إبراهيم عليه السلام الحي، وهذا أفضل طريق لاسكات كل عدوّ عنيد.
ويتضح ضمناً من جملة «وَاللَّهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» أنّ الهداية والضلالة بالرغم من أنّهما من أفعال اللَّه تعالى، إلّاأنّ مقدماتهما بيد العباد، فارتكاب الآثام من قبيل الظلم والجور والمعاصي المختلفة تشكّل على القلب والبصيرة حُجُباً مظلمة تمنع من ادراك الحقائق على حقيقتها.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 214
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَ هِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ
مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَ شَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَ انْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (259) هذه الآية تقصّ حكاية أحد الأنبياء القدامى، وهي من الشواهد الحيّة على مسألة البعث. الآية تشير إلى حكاية رجل سافر على حماره ومعه طعام وشراب، فمرّ بقرية قد تهدّمت وتحوّلت إلى أنقاض تتخلّلها عظام أهاليها النخرة، وإذ رأى هذا المشهد المروع قال:
كيف يقدر اللَّه على إحياء هؤلاء الأموات؟
عند ذلك أماته اللَّه مدة مائة سنة، ثم أحياه مرّة اخرى وسأله: كم تظنّ أنّك بقيت في هذه الصحراء؟ فقال وهو يحسب أنّه بقي سويعات: يوماً أو أقل، فخاطبه اللَّه بقوله: بل بقيت هنا مائة سنة، انظر كيف أنّ طعامك وشرابك طوال هذه المدة لم يصبه أي تغيّر بإذن اللَّه. ولكن لكي تؤمن بأنّك قد أمضيت مائة سنة كاملة هنا انظر إلى حمارك الذي تلاشى ولم يبق منه شي ء بموجب نواميس الطبيعة، بخلاف طعامك وشرابك، ثم انظر كيف إننا نجمع أعضاءه ونحييه مرّة اخرى، فعندما رأى كل هذه الامور أمامه قال: «أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ». أي: إنّني الآن على يقين بعد أن رأيت البعث بصورة مجسمة أمامي.
ومَن هذا النبي الذي تحدثت عنه هذه الآية؟ جاء في تفسير مجمع البيان: إنّ أشهر الأقوال: إنّه «العزير» ويؤيده حديث عن الإمام الصادق عليه السلام.
نعود إلى تفسير الآية: «أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْىِ هذِهِ اللَّهُ
بَعْدَ مَوْتِهَا».
هذه الآية تكملة للآية السابقة التي دارت حول التوحيد، هذه الآية والآيات التالية تجسّد مسألة المعاد.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 215
«عروش»: جمع عرش وهنا تعني السقف؛ و «خاوية»: في الأصل بمعنى خالية ولكنها هنا كناية عن الخراب والدمار وعليه فإنّ قوله «وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا» تعني أنّ دور تلك القرية كانت كلها خربة، فقد هوت سقوفها ثم انهارت الجدران عليها وهذا هو الخراب التام.
«فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ». إنّ ظاهر الآية يدل على أنّ النبي قد فارق الحياة، وبعد مائة سنة استأنف الحياة مرة اخرى، ولا شك أنّ موتاً وحياة كهذين هما من خوارق العادات، وإن لم يكن مستحيلًا، وعلى كل حال فإنّ الحوادث الخارقة للعادة في القرآن ليست منحصرة بهذه الحادثة بحيث نعمد إلى تأويلها.
«قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ». يسأل اللَّه نبيه في هذه الآية عن المدّة التي قضاها في النوم، فيتردد في الجواب بين قضائه يوماً كاملًا أو جزءاً من اليوم، ويستفاد من هذا التردّد أنّ الساعة التي أماته اللَّه فيها تختلف عن الساعة التي أحياه فيها من ساعات النهار، كأن تكون إماتته قد حدثت مثلًا قبل الظهر، واعيد إلى الحياة بعد الظهر، لذلك انتابه الشكّ إن كان قد نام يوماً كاملًا بليله ونهاره، أم أنّه لم ينم سوى بضع ساعات من النهار، ولهذا بعد أن قال إنّه قضى يوماً، راوده الشك فقال: «أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ». ولكنّه ما لبث أن سمع اللَّه يقول له: «بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ».
ثم أنّ اللَّه تعالى أمر نبيّه بأن ينظر إلى طعامه الذي كان معه من جهة، وينظر إلى مركوبه من جهة اخرى ليطمئن إلى واقعية الأمر فالأوّل بقي سالماً تماماً، أمّا الثاني
فتلاشى وأصبح رميماً، ليعلم قدرة اللَّه على حفظ الأشياء القابلة للفساد خلال هذه الأعوام ويدرك من جهة اخرى مرور الزمان على وفاته: «فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ». أي أنّ اللَّه القادر على إبقاء ما يسرع إليه التفسّخ والفساد كالطعام والشراب، قادر أيضاً على إحياء الموتى بيسر، فإبقاء الطعام والشراب نوع من إدامة الحياة لهذه المواد السريعة التفسّخ وعملية الإبقاء هذه ليست بأيسر من إحياء الموتى.
«وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ». إنّ الآيات التالية تشير إلى أنّ حماره قد تلاشى تماماً بمضيّ الزمان ولولا ذلك لما كان هناك ما يشير إلى انقضاء مائة سنة.
«وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِّلنَّاسِ». أي أنّ حكايتك هذه ليست آية لك وحدك، بل هي كذلك للناس جميعاً.
«وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا». واضح أنّ العظام المقصودة هي
مختصر الامثل، ج 1، ص: 216
عظام حماره المتلاشي، لا عظام أهل القرية لما في ذلك من انسجام مع الآيات السابقة.
«فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ». عندما اتّضحت كل هذه المسائل للنبيّ المذكور قال إنّه يعلم أنّ اللَّه قادر على كل شي ء.
وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) تجلّ آخر للمعاد في هذه الدنيا: يذكر القرآن الكريم حول مسألة المعاد بعد قصّة عزير قصّة اخرى عن إبراهيم عليه السلام ليكتمل البحث، ويذكر معظم المفسرين والمؤرخين في تفسير هذه الآية الرواية التالية:
روى في الكافي (وفي تفسير العياشي أيضاً) عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام أنّه
قال: لمّا رأى إبراهيم عليه السلام ملكوت السماوات والأرض التفت ... فرأى جيفة على ساحل البحر بعضها في الماء وبعضها في البرّ تجي ء سباع البحر فتأكل ما في الماء ثم ترجع فيشتمل على بعض فيأكل بعضها بعضاً وتجي ء سباع البرّ فتأكل منها فيشتمل بعضها على بعض فيأكل بعضها بعضاً فعند ذلك تعجّب إبراهيم عليه السلام ممّا رأى وقال: يا ربّ أرني كيف تحيي الموتى؟
هذه أمم يأكل بعضها بعضاً. قال: أوَلم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئنّ قلبي. يعني حتى أرى هذا كما رأيت الأشياء كلها. قال: خذ أربعة من الطير فقطّعنّ وأخلطهنّ كما اختلطت هذه الجيفة في هذه السباع التي أكل بعضها بعضاً فخلط ثم اجعل على كل جبل منهنّ جزءاً ثم ادعهنّ يأتينك سعياً فلمّا دعاهنّ أجبنه وكانت الجبال عشرة، قال: وكانت الطيور: الديك، والحمامة، والطاووس والغراب.
«وَإِذْ قَالَ إِبْرهِيمُ رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الْمَوْتَى .
سبق أن قلنا إنّ هذه الآية تكملة للآية السابقة في موضوع البعث، يفيد تعبير «أَرِنِى كَيْفَ ...» أنّه طلب الرؤية والشهود عياناً لكيفية حصول البعث لا البعث نفسه.
«قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى».
كان من الممكن أن يتصور بعضهم أنّ طلب إبراهيم عليه السلام هذا إنّما يدل على تزلزل إيمان
مختصر الامثل، ج 1، ص: 217
إبراهيم عليه السلام ولإزالة هذا التوهم أوحى إليه السؤال: «أوَلم تؤمن؟» لكي يأتي جوابه موضحاً الأمر، ومزيلًا كل التباس قديقع فيه البعض في تلك الحادثة، لذلك أجاب إبراهيم عليه السلام: «بَلَى وَلكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلبِى».
«قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا».
«صرهنّ»: من «الصَوْر» أي التقطيع، أو الميل، أو النداء، ومعنى التقطيع أنسب. أربعة من الطير واذبحهنّ وقطّعهنّ واخلطهنّ.
لقد كان
المقصود أن يشاهد إبراهيم عليه السلام نموذجاً من البعث وعودة الأموات إلى الحياة بعد أن تلاشت أجسادها.
وبذلك قام إبراهيم بهذا العمل وعندما دعاهنّ تجمّعت أجزائهنّ المتناثرة وتركبت من جديد وعادت إلى الحياة، وهذا الأمر أوضح لإبراهيم عليه السلام أنّ المعاد يوم القيامة سيكون كذلك على شكل واسع وبمقياس كبير جداً.
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) تعتبر مسألة الإنفاق إحدى أهمّ المسائل التي أكدّ عليها الإسلام والقرآن الكريم، والآية أعلاه هي أوّل آية في مجموعة الآيات الكريمة من سورة البقرة التي تتحدث عن الإنفاق، ولعل ذكرها بعد الآيات المتعلقة بالمعاد من جهة أنّ أحد الأسباب المهمة للنجاة في الآخرة هو الإنفاق في سبيل اللَّه. تقول الآية الشريفة: «مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِى كُلّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ». فيكون المجموع المتحصّل من حبّة واحدة سبعمائة حبّة، وتضيف الآية بأنّ ثواب هؤلاء لاينحصر بذلك: «وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ».
وذلك بإختلاف النيّات ومقدار الإخلاص في العمل وفي كيفيته وكميته. ولا عجب في هذا الثواب الجزيل لأنّ رحمة اللَّه تعالى واسعة وقدرته شاملة وهو مطلع على كل شي ء «وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ».
الإنفاق ومشكلة الفوارق الطبقية: بالتدقيق في آيات القرآن الكريم يتضح أنّ واحداً من الأهداف التي يسعى لها الإسلام هو إزالة هذه الفوارق غير العادلة الناشئة من الظلم
مختصر الامثل، ج 1، ص: 218
الاجتماعي بين الطبقتين الغنية والفقيرة، ورفع مستوى معيشة الذين لا يستطيعون رفع حاجاتهم الحَيَوية ولا توفير حدّ أدنى من متطلباتهم اليومية دون مساعدة الآخرين.
وللوصول إلى هذا الهدف وضع الإسلام برنامجاً واسعاً يتمثّل
بتحريم الربا مطلقاً، وبوجوب دفع الضرائب الإسلامية كالزكاة والخمس، والحثّ على الإنفاق، والقرض الحسن، والمساعدات المالية المختلفة، وأهمّ من هذا كله هو إحياء روح الأخوة الإنسانية في الناس.
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَ لَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) الإنفاق المقبول: الآية السابقة بيّنت أهمية الإنفاق في سبيل اللَّه بشكل عام، ولكن هذه الآية بينت بعض شرائط هذا الإنفاق (ويستفاد ضمناً من عبارات هذه الآية أنّ الإنفاق هنا لا يختص بالإنفاق في الجهاد). تقول الآية: «الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا ... وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» «1».
يستفاد بوضوح من هذه الآية أنّ الإنفاق في سبيل اللَّه لا يكون مقبولًا عند اللَّه تعالى إذا تبعته المنة وما يوجب الأذى والألم للمعوزين والمحتاجين، وعليه فإنّ من ينفق ماله في سبيل اللَّه ولكنه يمنّ به على من ينفق عليه، أو ينفقه بشكل يوجب الأذى للآخرين فإنّه يحبط ثوابه وأجره بعمله هذا.
بل لعل المنة التي يمنّ بها عليه ونظرة التحقير التي ينظر بها إليه ذات أضرار باهضة يفوق ثمنها ما أنفقه من مال.
«لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ». تُطمئن هذه الآية المنفقين أنّ أجرهم محفوظ عند اللَّه لكي يواصلوا هذا الطريق بثقة ويقين، فما كان عند اللَّه باق ولا ينقص منه شي ء، بل أنّ عبارة (ربّهم) قد تشير إلى أنّ اللَّه تعالى سيزيد في أجرهم وثوابهم.
في تفسير البرهان، ذيل الآية مورد البحث، عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «من أسدى إلى مؤمن معروفاً ثم آذاه بالكلام أو منّ عليه فقد أبطل صدقته».
______________________________
(1) «منّ»: بمعنى حجر الميزان المعروف ثم
اطلقت على النعم المهمة التي يلاحظ فيها الجانب العملي «ومنن اللَّه تعالى من هذا القبيل» وإن كان الملحوظ فيها الجانب اللفظي كانت قبيحة جدّاً وفي الآية أعلاه وردت بهذا المعنى الثاني.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 219
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَ مَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَ اللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) هذه الآية تكمّل ما بحثته الآية السابقة في مجال ترك المنّة والأذى عند الإنفاق والتصدّق فتقول: إنّ الكلمة الطيبة للسائلين والمحتاجين والصفح عن أذاهم أفضل من الصدقة التي يتبعها الأذى: «قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى».
ويجب أن يكون معلوماً أنّ ما تنفقوه في سبيل اللَّه فهو في الواقع ذخيرةٌ لكم لإنقاذكم ونجاتكم لأنّ اللَّه تعالى غير محتاج إليكم وإلى أموالكم وحليم في مقابل جهالاتكم «وَاللَّهُ غَنِىٌّ حَلِيمٌ».
روي في تفسير مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث، عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إذا سأل السائل فلا تقطعوا عليه مسألته حتى يفرغ منها، ثم ردّوا عليه بوقار ولين إمّا ببذل يسير أو ردّ جميل، فإنّه قد يأتيكم من ليس بإنسٍ ولا جانٍ ينظرونكم كيف صنيعكم فيما خوّلكم اللَّه تعالى».
في هذا الحديث يبيّن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله جانباً من آداب الإنفاق. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْ ءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَ اللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَ اللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) دوافع الإنفاق ونتائجه: في هاتين الآيتين نهي للمؤمنين عن المنّ والأذى عند إنفاقهم في سبيل اللَّه، لأنّ ذلك يحبط أعمالهم، ثم يضرب القرآن مثلًا للإنفاق المقترن بالمنّ والأذى، ومثلًا آخر للإنفاق المنطلق من الإخلاص والعواطف الإنسانية.
يقول تعالى في المثال الأوّل: «فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ ...» «1».
______________________________
(1) قيل: إنّ حزقيل هو ثالث خلفاء بني إسرائيل بعد موسى (تفسير مجمع البيان).
مختصر الامثل، ج 1، ص: 220
تصوّر قطعة حجر صلد تغطّيه طبقة خفيفة من التراب، وقد وضعت في هذا التراب بذور سليمة، ثم عرّض الجميع للهواء الطلق وأشعة الشمس، فإذا سقط المطر المبارك على هذا التراب لا يفعل شيئاً سوى اكتساح التراب والبذور وبعثرتها، ليظهر سطح الحجر بخشونته وصلابته التي لا تنفذ فيها الجذور، وهذا ليس لأنّ أشعة الشمس والهواء الطلق والمطر كان لها تأثير سي ء، بل لأنّ البذر لم يزرع في المكان المناسب، ظاهر حسن وباطن خشن لا يسمح بالنفوذ إليه، قشرة خارجية من التربة لا تعين على نموّ النبات الذي يتطلّب الوصول إلى الأعماق لتتغذّى الجذور.
ويشبّه القرآن الإنفاق الذي يصاحبه الرياء والمنة والأذى بتلك الطبقة الخفيفة من التربة التي تغطّي الصخرة الصلدة والتي لا نفع فيها، بل أنّها بمظهرها تخدع الزارع وتذهب بأتعابه أدراج الرياح، هذا هو المثل الذي ضربه القرآن في الآية الاولى للإنفاق المرائي الذي يتبعه المنّ والأذى.
وفي نهاية الآية يقول تعالى: «وَاللَّهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ». وهو إشارة إلى أنّ اللَّه تعالى سوف يسلبهم التوفيق والهداية، لأنّهم أقدموا على الرياء والمنّة والأذى بأقدامهم، واختاروا طريق الكفر باختيارهم ومثل هذا الشخص لا يليق بالهداية.
في الآية التالية نقرأ مثالًا جميلًا آخر يقع في النقطة المقابلة لهذه الطائفة من المنفقين، وهؤلاء هم الذين ينفقون
أموالهم في سبيل اللَّه بدافع من الإيمان والإخلاص فتقول الآية:
«وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ».
تصوّر هذه الآية مزرعة خضراء يانعة تقع على أرض مرتفعة خصبة تستقبل الهواء الطلق وأشعة الشمس الوافرة والمطر الكثير النافع، وإذا لم يهطل المطر الوابل ينزل الطلّ وهو المطر الخفيف وذرات الهباب ليحافظ على طراوة المزرعة ولطافتها، فتكون النتيجة أنّ مزرعة كهذه تعطي ضعف ما تعطي المزارع الاخرى، فهذه الأرض فضلًا عن كونها خصبة بحيث يكفيها الطلّ والمطر الخفيف ناهيك عن المطر الغزير لإيناع حاصلها، وفضلًا عن كونها تستفيد كثيراً من الهواء الطلق وإشعة الشمس وتلفت الأنظار لجمالها، فإنّها لوقوعها على مرتفع تكون في مأمن من السيول.
فالآية الشريفة تريد أن تقول: إنّ الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللَّه لتمكّن الإيمان واليقين في قلوبهم وأرواحهم هم أشبه بتلك المزرعة ذات الحاصل الوافر المفيد والثمين.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 221
وفي ختام الآية تقول: «وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ». فهو سبحانه يعلم ما إذا كان الدافع على هذا الإنفاق إلهيّاً مقترناً بالمحبة والإحترام، أو للرياء المشفوع بالمنّة والأذى.
أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَ أَصَابَهُ الْكِبَرُ وَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) هنا يضرب القرآن مثلًا آخر يبين حاجة الإنسان الشديدة إلى الأعمال الصالحات يوم القيامة، وكيف أنّ الرياء والمن والأذى تؤثّر على الأعمال الصالحات فتزيل بركتها.
يتجسّد هذا التمثيل في صاحب مزرعة مخضرة ذات أشجار متنوعة كالنخيل والأعناب، وتجري فيها المياه بحيث لا تتطلّب السقي، لكن السنون نالت من صاحبها وتحلّق حوله أبناؤه الضعفاء، وليس ثمة ما يقيم أودهم سوى
هذه المزرعة، فإذا جفّت فلن يقدر هو ولا أبناؤه على إحيائها، وفجأةً تهبّ عاصفة محرقة فتحرقها وتبيدها، في هذه الحالة ترى كيف يكون حال هذا العجوز الهرم الذي لا يقوى على الإرتزاق وتأمين معيشته ومعيشة أبنائه الضعفاء؟ وما أعظم أحزانه وحسراته!
«أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ» «1».
إنّ حال اولئك الذين يعملون عملًا صالحاً ثم يحبطونه بالرياء والمن والأذى أشبه بحال من تعب وعانى كثيراً حتى إذا حان وقت اقتطاف النتيجة ذهب كل شي ء ولم يبق سوى الحسرات والآهات. وتضيف الآية: «كَذلِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْأَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ».
لما كان منشأ كل تعاسة وشقاء- وعلى الأخص كل عمل أحمق كالمن على الناس- هو عدم إعمال العقل والتفكير في الامور، فإنّ اللَّه في ختام الآية يحثّ الناس على التعمق في التفكير في آياته: «كَذلِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْأَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ».
______________________________
(1) «الإعصار»: ريح تثير الغبار و هى تهب من اتجاهين مختلفين بحيث إنها تتجه من الأرض عمودياً إلى السماء.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 222
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَ مِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ لَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
سبب النّزول
روى في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام أنّها نزلت في أقوام لهم أموال من ربا في الجاهلية، وكانوا يتصدّقون منها فنهاهم اللَّه عن ذلك وأمر بالصدقة من الطيّب الحلال.
التّفسير
الأموال التي يمكن إنفاقها: هذه الآية تبين نوعية الأموال التي يمكن أن تنفق في سبيل اللَّه. في بداية
الآية يأمر اللَّه المؤمنين أن ينفقوا من (طيبات) أموالهم. أي الأموال الجيدة النافعة والتي لا شبهة فيها من حيث حليتها. «وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ».
تقول هذه الآية: إننا وضعنا مصادر الثروة هذه تحت تصرفكم، لذلك ينبغي أن لا تمتنعوا عن إنفاق خير ما عندكم في سبيل اللَّه.
«وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بَاخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ» «1».
اعتاد معظم الناس أن ينفقوا من فضول أموالهم التي لا قيمة لها أو الساقطة التي لم تعد تنفعهم في شي ء، إنّ هذا النوع من الإنفاق لا هو يربّي روح المنفق، ولا هو يرتق فتقاً لمحتاج، بل لعلّه إهانة له وتحقير، فجاءت هذه الآية تنهى بصراحة عن هذا.
الآية تشير إلى فكرة عميقة وهي أنّ للإنفاق في سبيل اللَّه طرفين، فالمحتاجون في طرف، واللَّه في طرف آخر، فإذا اختير المال المنفق من زهيد الأشياء ففي ذلك إهانة لمقام اللَّه العزيز الذي لم يجده المنفق جديراً بطيبات ما عنده كما هو إهانة للذين يحتاجونه، وهم ربما يكونون من ذوي الدرجات الإيمانية السامية، وعندئذ يسبّب لهم هذا المال الردي ء الألم والعذاب النفسي.
وفي ختام الآية يقول: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌ». أي لا تنسوا أنّ اللَّه لا حاجة به
______________________________
(1) «تيمّم»: في الأصل بمعنى القصد أي شي ء وجاءت هنا بهذا المعنى واطلقت هذه الكلمة على التيمم لأنّ الإنسان يقصد الاستفادة من التراب الطاهر كما يقول القرآن: «فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيّبًا» (سورة النساء/ 43).
مختصر الامثل، ج 1، ص: 223
لإنفاقكم فهو غنيّ من كل جهة، بل أنّ جميع المواهب والنعم تحت أمره وفي دائرة قدرته، ولذلك فهو حميد ومستحق للثناء والحمد، لأنّه وضع كل هذه النعم بين أيديكم.
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَ اللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً
مِنْهُ وَ فَضْلًا وَ اللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) مكافحة موانع الإنفاق: تشير الآية هنا وتعقيباً على آيات الإنفاق إلى أحد الموانع المهمة للإنفاق، وهو الوساوس الشيطانية، فتقول الآية في هذا الصدد: «الشَّيْطنُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ».
ويقول لكم: لا تنسوا مستقبل أطفالكم وتدبروا في غدكم، وأمثال هذه الوساوس المضلة، ومضافاً إلى ذلك يدعوكم إلى الإثم وإرتكاب المعصية: «وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ».
«الفحشاء»: تعني كل عمل قبيح وشنيع، ويكون المراد به في سياق معنى الآية البخل وترك الإنفاق في كثير من الموارد حيث يكون نوع من المعصية والإثم، لأنّ الإنفاق وإن بدأ في الظاهر أنّه أخذ، ولكنه في الواقع عطاء لرؤوس أموالهم مادياً ومعنوياً.
جاء في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «أنّ في الإنفاق شيئين من اللَّه وشيئين من الشيطان، فاللذان من اللَّه هما غفران الذنوب والسعة في المال، واللذان من الشيطان هما الفقر والأمر بالفحشاء».
«وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا». وعليه فإنّ المقصود بالمغفرة هو غفران الذنوب، والمقصود بالفضل هو إزدياد رؤوس الأموال بالإنفاق.
«وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ». في هذا إشارة إلى أنّ للَّه قدرة واسعة وعلماً غير محدود، فهو قادر على أن يفي بما يعد، ولا شك أنّ المرء يطمئن إلى هذا الوعد، لا كالوعد الذي يعده الشيطان المخادع الضعيف الذي يجرّ المرء إلى العصيان، فالشيطان ضعيف وجاهل بالمستقبل، ولذلك ليس وعده سوى الضلال والتحريض على الإثم.
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَ مَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) مع الإلتفات إلى ما تقدم في الآية السابقة التي تحدثت عن تخويف الشيطان من الفقر ووعد الرحمن بالمغفرة والفضل الإلهي، ففي هذه الآية مورد البحث دار الحديث عن الحكمة
مختصر الامثل، ج 1، ص: 224
والمعرفة والعلم لأنّ الحكمة
فقط هي التي يمكنها التفريق والتمييز بين هذين الدافعين الرحماني والشيطاني وتدعوا الإنسان إلى ساحل المغفرة والرحمة الإلهية وترك الوساوس الشيطانية وعدم الإعتناء بالتخويف من الفقر. فتقول الآية: «يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ». وقد ذكر لكلمة «الحكمة» معان كثيرة منها (المعرفة والعلم بأسرار العالم) ومنها (العلم بحقائق القرآن) و (الوصول إلى الحق بالقول والعمل) و (معرفة اللَّه تعالى) و (أنّها النور الإلهي الذي يميّز بين وساوس الشيطان وإلهامات الرحمان).
والظاهر هو أنّ الحكمة تأتي بالمعنى الواسع حيث تشمل جميع هذه الامور بما فيها النبوّة التي هي نوع من العلم والإطلاع والإدراك.
«وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا».
رغم أنّ واهب الحكمة هو اللَّه فإنّ اسمه لم يرد في هذه الآية وإنّما بني الفعل للمجهول «وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ».
«وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبَابِ».
«التذكّر»: هو حفظ العلوم والمعارف في داخل الروح، والألباب جمع لب وهو قلب كل شي ء ومركزه، ولهذا قيل العقل اللّب.
تقول هذه الفقرة من الآية إنّ أصحاب العقول هم الذين يحفظون هذه الحقائق ويتذكرونها، رغم أنّ جميع الناس ذو عقل- عدا المجانين- فلا يوصفون جميعاً باولي الألباب، بل هؤلاء هم الذين يستخدمون عقولهم فيشقّون طريقهم على ضوء نورها الساطع.
وَ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَ إِنْ تُخْفُوهَا وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) تحدثت الآيات السابقة عن الإنفاق وبذل المال في سبيل اللَّه، وأن ينفق الشخص ذلك المال من الطيّب دون الخبيث، وأن يكون مشفوعاً بالمحبة والإخلاص وحسن الخلق، أمّا في
مختصر الامثل، ج 1، ص: 225
هاتين الآيتين أعلاه فيدور الحديث عن
كيفية الإنفاق وعلم اللَّه تعالى بذلك. فيقول اللَّه تعالى في الآية الاولى: «وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ».
تقول الآية: إنّ كل ما تنفقونه في سبيل اللَّه سواءً كان قليلًا أو كثيراً، جيداً أم رديئاً، من حلال إكتسب أم من حرام، مخلصاً كان في نيّته أم مرائياً، إتّبعه المنّ والأذى أم لم يتبعه، أكان الإنفاق ممّا أوجب اللَّه تعالى عليه أم ممّا أوجبه الإنسان على نفسه بنذر وشبهه، فإنّ اللَّه تعالى يعلم تفاصيله ويثيب عليه أو يعاقب.
وفي الختام تقول الآية: «وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ».
«الظالمين»: هنا إشارة إلى المحتكرين والبخلاء والمرائين والذين ينفقون بالمن والأذى، فإنّ اللَّه تعالى لا ينصرهم، وسوف لا ينفعهم ما أنفقوا لا في الدنيا ولا في الآخرة.
أجل فهؤلاء ليس لهم ناصر في الدنيا ولا شفيع في الآخرة، وهذه النتيجة من الخصائص المترتبة على الظلم والجور بأيّ صورة كان.
ويستفاد من هذه الآية ضمناً مشروعية النذر ووجوب العمل بمؤدّاه.
في الآية الثانية إشارة إلى كيفية الإنفاق من حيث السرّ والعلن فتقول: «إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِىَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ».
وسوف يعفو اللَّه عنكم بذلك: «وَيُكَفّرُ عَنكُم مِّن سَيَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ».
وقد جاء في بعض الأحاديث أنّ الإنفاق الواجب يفضّل فيه الإظهار، والمستحب يفضّل فيه الإخفاء.
هنالك أحاديث كثيرة بشأن غفران الذنوب بالإنفاق وردت عن أهل البيت عليهم السلام وفي كتب أهل السنة. من ذلك ما روى في تفسير مجمع البيان: «صدقة السرّ تطفي ء غضب الربّ وتطفي ء الخطيئة كما يطفي ء الماء النار».
يستفاد من جملة «وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» هو أنّ اللَّه عالم بما تنفقون سواء أكان علانية أم سرّاً كما أنّه عالم بنياتكم وأغراضكم من إعلان إنفاقكم ومن إخفائه.
لَيْسَ
عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَ مَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَ مَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَ مَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)
مختصر الامثل، ج 1، ص: 226
سبب النّزول
في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس: كان المسلمون يمتنعون عن الصدقة على غير أهل دينهم، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.
التّفسير
تحدثت الآيات السابقة عن مسألة الإنفاق في سبيل اللَّه بشكل عام، ولكن في هذه الآية الحديث عن جواز الإنفاق على غير المسلمين، بمعنى أنّه لا ينبغي ترك الإنفاق على المساكين والمحتاجين من غير المسلمين حتى تشتدّ بهم الأزمة والحاجة فيعتنقوا الإسلام بسبب ذلك.
تقول الآية: «لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَيهُمْ». فلا يصحّ أن تجبرهم على الإيمان وترك الإنفاق عليهم نوع من الإجبار على دخولهم إلى الإسلام وهذا الاسلوب مرفوض ورغم أنّ المخاطب في هذه الآية الشريفة هو النبي الأكرم صلى الله عليه و آله إلّاأنّه في الواقع يستوعب كل المسلمين.
ثم تضيف الآية: «وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاءُ» ومن تكون له اللياقة للهداية.
فبعد هذا التذكر تستمر الآية في بحث فوائد الإنفاق في سبيل اللَّه فتقول: «وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ».
وفي آخر عبارة من هذه الآية الكريمة نلاحظ تأكيداً أكثر على مقدار الإنفاق وكيفيته حيث تقول الآية: «وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَاتُظْلَمُونَ».
يعني أنّكم لا ينبغي أن تتصوروا أنّ إنفاقكم سيعود عليكم بربح قليل، بل إنّ جميع ما أنفقتم وتنفقون سيعود إليكم كاملًا، وذلك في اليوم الذي تحتاجون إليه بشدة، فعلى هذا لا تترددوا في الإنفاق أبداً.
ولكن لا ينبغي أن يتصور أنّ نتائج الإنفاق اخروية فحسب، بل إنّ له منافع في هذه الدنيا أيضاً
مادية ومعنوية.
لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَ مَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
سبب النّزول
في تفسير مجمع البيان عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «نزلت الآية في أصحاب الصفّة وهم
مختصر الامثل، ج 1، ص: 227
نحو أربعمائة رجل لم يكن لهم مساكن بالمدينة ولا عشائر يأوون إليهم، فجعلوا أنفسهم في المسجد، وقالوا: نخرج في كل سرية يبعثها رسول اللَّه فحثّ الناس عليهم، وكان الرجل إذا أكل وعنده فضل، أتاهم به إذا أمسى».
التّفسير
خير مواضع الإنفاق: يبيّن اللَّه في هذه الآية أفضل مواضع الإنفاق وهي التي تتّصف بالصفات التالية:
1- «لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ». أي الذين شغلتهم الأعمال الهامّة كالجهاد ومحاربة العدو، وتعليم فنون الحرب، وتحصيل العلوم الاخرى عن العمل في سبيل الحصول على لقمة العيش كأصحاب الصفّة الذين كانوا خير مصداق لهذا الوصف «1».
ثم للتأكيد تضيف الآية: «لَايَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الْأَرْضِ». أي الذين لا يقدرون على الترحال لكسب العيش بالسفر إلى القرى والمدن الاخرى حيث تتوفر نِعم اللَّه تعالى، وعليه فإنّ القادرين على كسب معيشتهم يجب أن يتحمّلوا عناء السفر في سبيل ذلك وأن لا يستفيدوا من ثمار أتعاب الآخرين إلّاإذا كانوا منشغلين بعمل أهمّ من كسب العيش كالجهاد في سبيل اللَّه.
2- الذين «يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ». هؤلاء الذين لا يعرف الآخرون شيئاً عن بواطن امورهم ولكنهم- لما فيهم من عفة النفس والكرامة- يظنّون أنّهم من الأغنياء.
ولكن هذا لا يعني أنّهم غير معروفين. لذا تضيف الآية: «تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ». فإنّ على وجوههم علامات تنطق بما يعانون يدركها العارفون، فلون وجناتهم ينبي ء عما خفي من أسرارهم.
3- والثالث
من صفات هؤلاء أنهم لايصرّون في الطلب والسؤال: «لَايَسَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا» «2». أي أنّهم لا يشبهون الفقراء الشحّاذين الذين يلحّون في الطلب من الناس، فهم يمتنعون عن السؤال فضلًا عن الإلحاف، فالإلحاح في السؤال شيمة ذوي الحاجات العاديين وهؤلاء ليسوا عاديين.
______________________________
(1) «حصر»: بمعنى الحبس والمنع والتضييق و جاءت هنا بمعنى جميع الامور التى تمنع الإنسان من تأمين معاشه.
(2) «الحاف»: من مادة «لحاف» بمعنى الغطاء المعروف، واطلق على الاصرار فى السؤال لانه يغطى قلب الشخص المقابل.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 228
«وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ». في هذه الآية حثّ على الإنفاق وعلى الأخص الإنفاق على ذوي النفوس العزيزة الأبية، لأنّ المنفقين إذا علموا أنّ اللَّه عالم بما ينفقون حتى وإن كان سرّاً وأنّه سوف يثيبهم على ذلك، فستزداد رغبتهم في هذا العمل الكبير.
الاستجداء بدون حاجة حرام: إنّ أحد الذنوب الكبيرة هو السؤال والاستجداء والطلب من الناس من دون حاجة، لذلك وقد ورد في روايات متعددة النهي عن هذا العمل بشدة، ففي الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: «إنّ الصّدقة لا تَحلّ لِغنىّ».
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهَارِ سِرّاً وَ عَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
سبب النّزول
جاء في تفسير العياشي عن أبي اسحاق، قال: كان لعليّ بن أبي طالب عليه السلام أربعة دراهم لم يملك غيرها، فتصدّق بدرهم ليلًا وبدرهم نهاراً وبدرهم سرّاً وبدرهم علانيةً فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و آله فقال: «يا علي ما حملك على ما صنعت؟» قال: «إنجاز موعود اللَّه». فأنزل اللَّه «الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّيلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً» الآية «1».
التّفسير
في هذه الآية يدور الحديث أيضاً عن
مسألة اخرى مما يرتبط بالإنفاق في سبيل اللَّه وهي الكيفيات المتنوعة والمختلفة للإنفاق، فتقول الآية: «الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّيلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ».
ومن الواضح أنّ إنتخاب أحد هذه الطرق المختلفة يتمّ مع رعاية الشرائط الأفضل للإنفاق، يعني أنّ المنفق يجب عليه مراعاة الجوانب الأخلاقية والاجتماعية في إنفاقه الليلي أو النهاري العلني أو السرّي.
ويمكن أن يكون تقديم الليل على النهار والسرّ على العلانية في الآية مورد البحث إشارة
______________________________
(1) ورد مضمون هذا الحديث في كتب تفسير أهل السنّة أيضاً، وينقله صاحب (الدرّ المنثور) عن ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن عساكر ومجاهد. ويرى البعض أنّ علماء الشيعة بالاتّفاق وأكثر علماء السنّة ذهبوا إلى أنّ هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام وفي علماء السنّة: الواحدي، الثّعلبي، مجاهد، السّدي، الكلبي، أبي صالح، علي بن حرب الطائي، القشيري، الثّمالي، الماوَردي، ابن أبي الحديد وغيرهم.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 229
إلى أنّ صدقة السرّ أفضل إلّاأن يكون هناك موجب لإظهاره رغم أنّه لا ينبغي نسيان الإنفاق على كل حال.
ومن المسلّم أنّ الشي ء الذي يكون عند اللَّه (وخاصة بالنظر إلى صفة الربوبية الناظرة إلى التكامل والنمو) لا يكون شيئاً قليلًا وغير ذا قيمة، بل يكون متناسباً مع ألطاف اللَّه تعالى وعناياته التي تتضمن بركات الدنيا وكذلك حسنات الآخرة والقرب إلى اللَّه تعالى.
ثم تضيف الآية: «وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ». لأنّهم يعلمون أنّهم بإزاء ما أنفقوه سوف ينالون أضعافه من فضل اللَّه وبركات إنفاقهم الفردية والاجتماعية والأخلاقية في الدنيا والآخرة.
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ
جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَ مَنْ عَادَ فَأُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَ يُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَ اللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَ آتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) في الآيات التي مضت كان الكلام على الإنفاق وبذل المال لمساعدة المحتاجين وفي سبيل رفاه المجتمع، وفي هذه الآيات يدور الكلام على الربا الذي يقف في الجهة المضادّة للإنفاق.
يقول تعالى: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبَوا لَايَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطنُ مِنَ الْمَسّ» «1».
فالآية تشبّه المرابي بالمصروع أو المجنون الذي لا يستطيع الإحتفاظ بتوازنه عند السير، فيتخبّط في خطواته. أي أنّ الذين يقومون في الدنيا قياماً غير متعقّل وغير متوازن يخالطه اكتناز جنوني للثروة سسيحشرون يوم القيامة كالمجانين.
______________________________
(1) «يتخبّطه»: من مادة «الخبط» هو فقدان توازن الجسم عند المشي أو القيام.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 230
«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَوا». هذه الآية تبين منطق المرابين فهم يقولون: ما الفرق بين التجارة والربا؟ ويقصدون أنّ كليهما يمثّلان معاملة تبادل بتراضي الطرفين واختيارهما.
يقول القرآن جواباً على ذلك: «وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَوا» ولم يزد في ذلك شرحاً وتفصيلًا، ربما لوضوح الإختلاف.
«فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مّن رَبّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ».
تقول الآية إنّ من بلغته نصيحة اللَّه بتحريم الربا واتّعظ فله الأرباح التي أخذها من قبل «أي أنّ القانون ليس رجعياً» لأنّ القوانين الرجعية تولد الكثير من المشاكل والاضطرابات في حياة الناس، ولذلك فإنّ القوانين تنفّذ عادةً من تاريخ سنّها.
وهذا لا يعني بالطبع أنّ للمرابين أن
يتقاضوا أكثر من رؤوس أموالهم من المدينين بعد نزول الآية، بل المقصود إباحة ما جنوه من أرباح قبل نزول الآية.
ثم يقول: «وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ». أي أنّ النظر إلى أعمال هؤلاء يوم القيامة يعود إلى اللَّه، وإن كان ظاهر الآية يدلّ على أنّ مستقبل هؤلاء من حيث معاقبتهم أو العفو عنهم غير واضح، ولكن بالتوجّه إلى الآية السابقة نفهم أنّ القصد هو العفو، ويظهر من هذا أنّ إثم الربا من الكبر بحيث إنّ حكم العفو عن الذين كانوا يتعاطونه قبل نزول الآية لا يذكر صراحة.
«وَمَنْ عَادَ فَأُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ». أي أنّ من يواصل تعاطي الربا على الرغم من كل تلك التحذيرات، فعليه أن ينتظر عذاباً أليماً في النار دائماً.
إنّ العذاب الخالد لا يكون نصيب من آمن باللَّه، لكن الآية تعد المصرّين على الربا بالخلود في النار، ذلك لأنّهم بإصرارهم هذا يحاربون قوانين اللَّه، ويلجّون في ارتكاب الإثم، وهذا دليل على عدم صحّة إيمانهم، وبالتالي فهم يستحقون الخلود في النار.
ثم إنّ الآية التالية تبين الفرق بين الربا والصدقة وتقول: «يَمْحَقُ اللَّهُ الرّبَوا وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ».
ثم يضيف: «وَاللَّهُ لَايُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ». يعني الذين تركوا ما في الصدقات من منافع طيبة والتمسوا طريق الربا الذي يوصلهم إلى نار جهنم.
«المحق»: النقصان التدريجي؛ و «الربا»: هو النمو التدريجي.
فالقرآن يقول إنّ اللَّه يسوق رؤوس الأموال الربوية إلى الفناء.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 231
وبالمقابل، فالأشخاص الذين يتقدمون إلى المجتمع بقلوب مليئة بالعواطف الإنسانية وينفقون من رؤوس أموالهم وثرواتهم يقضون بها حاجات المحتاجين من الناس يحظون بمحبة الناس وعواطفهم عموماً، وأموال هؤلاء فضلًا عن عدم تعرضها لأي خطر تنمو بالتعاون العام نموّاً طبيعياً، وهذا ما يعنيه القرآن بقوله: «وَيُربِى الصَّدَقَاتِ».
«الكفار»: من الكفور، بوزن
فجور، وهو المغرق في نكران الجميل والكفر بالنعمة، و «الأثيم»: هو الموغل في ارتكاب الآثام.
هذه الفقرة من الآية تشير إلى أنّ المرابين بتركهم الإنفاق والإقراض والبذل في سبيل رفع الحاجات العامة يكفرون بما أغدق اللَّه عليهم من النِعم، بل أكثر من ذلك يسخّرون هذه النِعم على طريق الإثم والظلم والفساد، ومن الطبيعي أنّ اللَّه لا يحب أمثال هؤلاء.
«إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ وَءَاتَوُا الزَّكَوةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ».
مقابل المرابين الآثمين الكافرين بأنعم اللَّه، هناك اناس من المؤمنين تركوا حبّ الذات، وأحيوا عواطفهم الفطرية، وارتبطوا باللَّه بإقامة الصلاة، وأسرعوا لمعونة المحتاجين بدفع الزكاة، وبذلك يحولون دون تراكم الثروة وظهور الاختلاف الطبقي المؤدّي إلى الكثير من الجرائم. هؤلاء ثوابهم محفوظ عند اللَّه ويرون نتائج أعمالهم في الدنيا والآخرة.
ثم إنّ هؤلاء لا يعرفون القلق والحزن، ولا يهدّدهم الخطر الذي يتوجّه إلى المرابين من قبل ضحاياهم في المجتمع.
وأخيراً فإنّهم يعيشون في اطمئنان تام «وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ».
مختصر الامثل، ج 1، ص: 232
سبب النّزول
في تفسير القمي: كان سبب نزولها أنّه لما أنزل اللَّه تعالى (الذين يأكلون الربا) فقام خالد بن الوليد إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: يا رسول اللَّه! ربا أبي في ثقيف، وقد أوصاني عند موته بأخذه فأنزل اللَّه تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ».
التّفسير
في الآية الاولى يخاطب اللَّه المؤمنين ويأمرهم بالتقوى ثم يأمرهم أن يتنازلوا عما بقي لهم في ذمّة الناس من فوائد ربوية «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِىَ مِنَ الرّبَوا إِن كُنتُم مُّوْمِنِينَ».
يلاحظ أنّ الآية بدأت بذكر الإيمان باللَّه واختتمت بذكره، ممّا يدلّ بوضوح على عدم انسجام الربا مع الإيمان باللَّه.
«فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا
بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ».
تتغيّر في هذه الآية لهجة السياق القرآني، فبعد أن كانت الآيات السابقة تنصح وتعظ، تهاجم هذه الآية المرابين بكل شدة، وتنذرهم بلهجة صارمة أنّهم إذا واصلوا عملهم الربوي ولم يستسلموا لأوامر اللَّه في الحق والعدل واستمرّوا في امتصاص دماء الكادحين المحرومين فلا يسع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلّاأن يتوسل بالقوة لإيقافهم عند حدّهم وإخضاعهم للحق، وهذا بمثابة إعلان الحرب عليهم، وهي الحرب التي تنطلق من قانون: «قَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِى ءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ» «1».
يستفاد من هذه الآية أنّ للحكومة الإسلامية أن تتوسل بالقوة لمكافحة الربا.
«وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَاتَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ».
أمّا إذا تبتم ورجعتم عن غيّكم وتركتم تعاطي الربا فلكم أن تتسلّموا من الناس المدينين لكم رؤوس أموالكم فقط «بغير ربح». وهذا قانون عادل تماماً لأنّه يحول دون أن تظلموا الناس ودون أن يصيبكم ظلم.
إنّ تعبير «لَاتَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ» وإن كان قد جاء بشأن المرابين ولكنه شعار إسلامي
______________________________
(1) سورة الحجرات/ 9.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 233
واسع وعميق. يعني أنّ المسلمين بقدر ما يجب عليهم تجنّب الظلم، يجب عليهم كذلك أن لا يستسلموا للظلم ولو قلّ الذين يتحمّلون الظلم لقلّ الظالمون أيضاً.
«وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ».
استكمالًا لبيان حق الدائن في الحصول على رأسماله «بدون ربح» تبين الآية هنا حقّاً من حقوق المدين إذا كان عاجزاً عن الدفع، ففضلًا عن عدم جواز الضغط عليه وفرض فائدة جديدة عليه كما كانت الحال في الجاهلية، فهو حقيق بأن يمهل مزيداً من الوقت لتسديد أصل الدَين عند القدرة والإستطاعة.
«وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ». وهذه في الواقع خطوة أبعد من المسائل الحقوقية، أي أنّها مسألة أخلاقية وإنسانية تكمل البحث
الحقوقي المتقدم، تقول الآية للدائنين أنّ الأفضل من كل ما سبق بشأن المدين العاجز عن الدفع هو أن يخطو الدائن خطوة إنسانية كبيرة فيتنازل للمدين عما بقي له بذمّته، فهذا خير عمل إنساني يقوم به، وكل من يدرك منافع هذا الأمر يؤمن بهذه الحقيقة.
من المألوف في القرآن أنّه بعد بيان تفاصيل الأحكام وجزئيات الشريعة الإسلامية يطرح تذكيراً عاماً شاملًا يؤكد به ما سبق قوله، لكي تنفذ الأحكام السابقة نفوذاً جيداً في العقل والنفس.
لذلك فإنّه في هذه الآية يذكّر الناس بيوم القيامة ويوم الحساب والجزاء، ويحذّرهم من اليوم الذي ينتظرهم حيث يوضع أمام كل امرى ء جميع أعماله دون زيادة ولا نقصان، وكل ما حفظ في ملفّ عالم الوجود يسلّم إليه دفعة واحدة، عندئذ تهوله النتائج التي تنتظره، ولكن ذلك حصيلة ما زرعه بنفسه وما ظلمه فيه أحد، إنّما هو نفسه ظلم نفسه «وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ».
ومما يلفت النظر أنّ تفسير «الدرّ المنثور» ينقل بطرق عديدة أنّ هذه الآية هي آخر آية نزلت على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولا يُستبعد هذا إذا أخذنا مضمونها بنظر الاعتبار.
إنّ للربا أثراً أخلاقياً سيئاً جدّاً في نفسيّة المدين ويثير في قلبه الكره والضغينة، ويفصم عرى التعاون الاجتماعي بين الأفراد والملل.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 234
في الأحاديث الإسلامية إشارة إلى آثار الربا الأخلاقية السيئة وردت في جملة قصيرة عن علة تحريم الربا عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّما حرّم اللَّه عزّ وجلّ الربا لكي لا يمتنع الناس من اصطناع المعروف» «1».
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَ لَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَ لْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ
الْحَقُّ وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَ لَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَ لَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَ لَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَ أَدْنَى أَنْ تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَكْتُبُوهَا وَ أَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَ لَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَ لَا شَهِيدٌ وَ إِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (282) تدوين الأوراق التجارية: بعد أن شنّ القرآن على الربا والاحتكار والبخل حرباً شعواء، وضع تعليمات دقيقة لتنظيم الروابط التجارية والاقتصادية، لكي تنمو رؤوس الأموال نموّاً طبيعياً دون أن تعتريها عوائق أو تنتابها خلافات ومنازعات.
تضع هذه الآية التي هي أطول آيات القرآن تسعة عشر بنداً من التعليمات التي تنظّم الشؤون المالية، نذكرها على التوالي:
1- إذا أقرض شخص شخصاً أو عقد صفقة، بحيث كان أحدهما مديناً، فلكي لا يقع أيّ
______________________________
(1) وسائل الشيعة 12/ 423/ 4 (الباب 1 من أبواب الربا).
مختصر الامثل، ج 1، ص: 235
سوء تفاهم واختلاف في المستقبل، يجب أن يكتب بينهما العقد بتفاصيله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ». هذه الآية تشمل جميع المعاملات التي فيها دَين يبقى في ذمّة المدين، بما في ذلك القرض.
2- لكي يطمئن الطرفان على صحة العقد ويأمنا احتمال تدخّل أحدهما فيه، فيجب أن يكون الكاتب شخصاً ثالثاً:
«وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ».
3- على كاتب العقد أن يقف إلى جانب الحق وأن يكتب الحقيقة الواقعة «بِالْعَدْلِ».
4- يجب على كاتب العقد، الذي وهبه اللَّه علماً بأحكام كتابة العقود وشروط التعامل، أن لا يمتنع عن كتابة العقد، بل عليه أن يساعد طرفي المعاملة في هذا الأمر الاجتماعي: «وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ».
5- على أحد الطرفين أن يملي تفاصيل العقد على الكاتب ولكن أيّ الطرفين؟ تقول الآية: المدين الذي عليه الحق: «وَلْيُمْلِلِ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ».
6- على المدين عند الإملاء أن يضع اللَّه نصب عينيه، فلا يترك شيئاً إلّاقاله ليكتبه الكاتب: «وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيًا».
7- إذا كان المدين واحداً ممّن تنطبق عليه صفة «السفيه» وهو الخفيف العقل الذي يعجز عن إدارة أمواله ولا يميّز بين ضرره ومنفعته، أو «الضعيف» القاصر في فكره والضعيف في عقله المجنون، أو «الأبكم والأصم» الذي لا يقدر على النطق، فإنّ لوليّه أن يملي العقد فيكتب الكاتب بموجب إملائه: «فَإِن كَانَ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَايَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ».
8- على «الولي» في الإملاء والاعتراف بالدَين، أن يلتزم العدل وأن يحافظ على مصلحة موكّله وأن يتجنّب الإبتعاد عن الحق: «فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ».
9- بالإضافة إلى كتابة العقد، على الطرفين أن يستشهدا بشاهدين: «وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ» «1».
10 و 11- يجب أن يكون الشاهدان بالغين ومسلمين وهذا يستفاد من عبارة «مِن رِّجَالِكُمْ». أي ممّن هم على دينكم.
______________________________
(1) قال بعض إنّ التفاوت بين «شاهد» و «شهيد»: هو أنّ الشاهد يقال لمن حضر الواقعة حتى يمكنه أن يشهد عليها، والشهيد هو الذي يؤدّي الشهادة.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 236
12- يجوز اختيار شاهدتين من النساء وشاهد من الرجال: «فإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ
فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ».
13- لابدّ أن يكون الشاهدان موضع ثقة: «مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ». يتبين من هذه الآية أنّ الشهود يجب أن يكونوا ممّن يُطمأنّ إليهم من جميع الوجوه، وهذه هي «العدالة» التي وردت في الأخبار أيضاً.
14- وإذا كان الشاهدان من الرجال، فلكل منهما أن يشهد منفرداً، أمّا إذا كانوا رجلًا واحداً وامرأتين، فعلى المرأتين أن تدليا بشهادتهما معاً لكي تذكّر إحداهما الاخرى إذا نسيت شيئاً أو أخطأت فيه.
أمّا سبب اعتبار شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل واحد، فهو لأنّ المرأة كائن عاطفي وقد تقع تحت مؤثرات خارجية، لذلك فوجود امرأة اخرى معها يحول بينها وبين التأثير العاطفي وغيره: «أَن تَضِلَّ إِحْدَيهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَيهُمَا الْأُخْرَى .
15- ويجب على الشهود إذا دُعوا إلى الشهادة أن يحضروا من غير تأخير ولا تهاون كما قال: «وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا».
وهذا من أهم الأحكام الإسلامية ولا يقوم القسط والعدل إلّابه.
16- تجب كتابة الدين سواء أكان الدَين صغيراً أو كبيراً، لأنّ الإسلام يريد أن لا يقع أيّ نزاع في الشؤون التجارية، حتى في العقود الصغيرة التي قد تجرّ إلى مشاكل كبيرة: «وَلَا تَسَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ». والسأم هو الملل من أمر لكثرة لبثه.
وتشير الآية هنا إلى فلسفة هذه الأحكام، فتقول إنّ الدقة في تنظيم العقود والمستندات تضمن من جهة تحقيق العدالة، كما أنّها تطمئن الشهود من جهة اخرى عند أداء الشهادة، وتحول من جهة ثالثة دون ظهور سوء الظن بين أفراد المجتمع: «ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا».
17- إذا كان التعاقد نقداً فلا ضرورة للكتابة: «إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا».
18- في المعاملات النقدية وإن لم تحتج إلى كتابة
عقد، لابدّ من شهود: «وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ».
19- وآخر حكم تذكره الآية هو أنّه ينبغي ألّا يصيب كاتب العقد ولا الشهود أيّ ضرر
مختصر الامثل، ج 1، ص: 237
بسبب تأييدهم الحق والعدالة: «وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ».
ثم تقول الآية إنّه إذا آذى أحد شاهداً أو كاتباً لقوله الحق فهو إثم وفسوق يخرج المرء من مسيرة العبادة للَّه: «وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ».
وفي الختام، وبعد كل تلك الأحكام، تدعو الآية الناس إلى التقوى وإمتثال أمر اللَّه:
«وَاتَّقُوا اللَّهَ». ثم تقول إنّ اللَّه يعلّمكم كل ما تحتاجونه في حياتكم المادية والمعنوية:
«وَيُعَلّمُكُمُ اللَّهُ». وهو يعلم كل مصالح الناس ومفاسدهم ويقرّر ما هو الصالح لهم: «وَاللَّهُ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ».
إنّ جملة «وَاتَّقُوا اللَّهَ» وجملة «وَيُعَلّمُكُمُ اللَّهُ» رغم أنّهما ذكرتا في الآية بصورة مستقلّة وقد عطفت إحداهما على الاخرى، ولكن إقترانهما معاً إشارة إلى الإرتباط الوثيق بينهما، ومفهوم ذلك هو أنّ التقوى والورع وخشية اللَّه لها أثر عميق في معرفة الإنسان وزيادة علمه وإطلاعه.
وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَ لَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) هذه الآية تكمل البحث في الآية السابقة وتشتمل على أحكام اخرى:
1- عند التعامل إذا لم يكن هناك من يكتب لكم عقودكم، كأن يقع ذلك في سفر، عندئذ على المدين أن يضع شيئاً عند الدائن بإسم الرهن لكي يطمئن الدائن: «وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ».
قد يبدو من ظاهر الآية لأوّل وهلة أنّ تشريع «قانون الرهن» يختص بالسفر، ولكن بالنظر إلى الجملة التالية وهي «وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا» يتبين أنّ القصد هو
بيان نموذج لحالة لا يمكن الوصول فيها إلى كاتب وعليه فللطرفين أن يكتفيا بالرهن حتى في موطنهما.
2- يجب أن يبقى الرهن عند الدائن حتى يطمئن «فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ».
3- جميع هذه الأحكام- من كتابة العقد واستشهاد الشهود وأخذ الرهن- تكون في حالة عدم وجود ثقة تامة بين الجانبين وإلّا فلا حاجة إلى كتابة عقد وعلى المدين أن يحترم ثقة الدائن به، فيسدّد دَينه في الوقت المعين وأن لا ينسى تقوى اللَّه: «فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا
مختصر الامثل، ج 1، ص: 238
فَلْيُؤَدّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ». 4- على الذين لهم علم بما للآخرين من حقوق في المعاملات أو في غيرها، إذا دعوا للإدلاء بشهادتهم أن لا يكتموها لأنّ كتمان الشهادة من الذنوب الكبيرة «وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ».
طبيعي أنّ الشهادة تجب علينا إذا لم يستطع الآخرون إثبات الحق بشهادتهم، أمّا إذا ثبت الحق فيسقط وجوب الإدلاء بالشهادة عن الآخرين، أي أنّ أداء الشهادة واجب كفائي.
وبما أنّ كتمان الشهادة والإمتناع عن الإدلاء بها يكون من أعمال القلب، فقد نسب هذا الإثم إلى القلب، فقال: «فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ» ومرّة اخرى يؤكد في ختام الآية ضرورة ملاحظة الأمانة وحقوق الآخرين: «وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ».
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (284) هذه تكملة للجملة الأخيرة في الآية السابقة وتقول: «لِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ». ولهذا السبب فهو يعلم جميع أفعال الإنسان الظاهرية منها والباطنية «وَإِن تُبْدُوا مَا فِى أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ».
يعني لا ينبغي لكم أن تتصوروا أنّ أعمالكم
الباطنية مثل كتمان الشهادة والذنوب القلبية الاخرى سوف تخفى على اللَّه تعالى الحاكم على الكون بأجمعه والمالك للسموات والأرض، فإنّه لا يخفى عليه شي ء، فلا عجب إذا قيل أنّ اللَّه تعالى يحاسبكم على ذنوبكم القلبية ويجازيكم عليها: «فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذّبُ مَن يَشَاءُ».
في ختام الآية تقول: «وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ». فهو عالم بكل شي ء يجري في هذا العالم، وقادر أيضاً على تشخيص اللّياقات والملكات، وقادر أيضاً على مجازات المتخلفين.
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلَائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قَالُوا سَمِعْنَا وَ أَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)
مختصر الامثل، ج 1، ص: 239
علائم الإيمان وطريقه: لقد شرعت سورة البقرة ببيان بعض المعارف الإسلامية والاعتقادات الحقّة واختتمت بهذه المواضيع أيضاً كما في الآية أعلاه والآية التي بعدها، وبهذا تكون بدايتها ونهايتها متوافقة ومنسجمة.
وقد ذكر بعض المفسرين في تفسير بحر المحيط في سبب نزول هذه الآية أنّه لما نزل «وَإِن تُبْدُوا مَا فِى أَنفُسِكُمْ» الآية، أشفقوا منها ما تقرر الأمر على أن قالوا سمعنا وأطعنا فرجعوا إلى التضرع والاستكانة فمدحهم اللَّه وأثنى عليهم وقدّم ذلك بين يدى رفقه بهم وكشفه لذلك الكرب الذي أوجبه تأولهم فجمع لهم تعالى التشريف بالمدح والثناء ورفع المشقة في أمر الخواطر وهذه ثمرة الطاعة والإنقطاع إلى اللَّه تعالى كما جرى لبني إسرائيل ضد ذلك من ذمهم وتحميلهم المشقات من الذلة والمسكنة والجلاء إذ قالوا سمعنا وعصينا وهذه ثمرة العصيان والتمرد على اللَّه أعاذنا اللَّه تعالى من نقمه.
في البداية تقول: «ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ». فهذا المعنى وهذه الخصيصة تعتبر من إمتيازات الأنبياء الإلهيين جميعاً بأنّهم
مؤمنون بما جاءوا به إيماناً قاطعاً، فلا شك ولا شبهة في قلوبهم عن معتقداتهم، فقد آمنوا بها قبل الآخرين واستقاموا وصبروا عليها قبل الآخرين.
ثم تضيف الآية الكريمة: «وَالمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَانُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ». وهذه الجملة الأخيرة من كلام المؤمنين أنفسهم، حيث يؤمنون بجميع الأنبياء والمرسلين وشرائعهم.
ثم تضيف الآية أنّ المؤمنين مضافاً إلى إيمانهم الراسخ والجامع فإنّهم في مقام العمل أيضاً كذلك: «وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ».
وبهذا يتناغم الإيمان بالمبدأ والمعاد مع الالتزام العملي بجميع الأحكام الشرعية والدساتير الإلهية.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 240
مختصر الامثل ج 1 279
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَ عَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَ لَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَ لَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَ اعْفُ عَنَّا وَ اغْفِرْ لَنَا وَ ارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) كما تقدم في تفسير الآية السابقة أنّ هاتين الآيتين تتعلقان بالأشخاص الذين استوحشوا من تعبير الآية السابقة في أنّ اللَّه تعالى مطلع على نياتهم وسيحاسبهم ويجازيهم عليها فقالوا: لا أحد منا يصفو قلبه عن الوسوسة والخاطرات القلبية. فالآية الحاضرة تقول: «لَايُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا».
إنّ كل الأحكام يمكن تقييدها وتفسيرها بهذه الآية حيث تتحدّد في إطار قدرة الإنسان.
ثم تضيف الآية: «لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ».
فالآية تنبّه الناس إلى مسؤولياتهم وعواقب أعمالهم، وتفنّد الأساطير التي تبري ء بعض الناس من عواقب أعمالهم، أو تجعلهم مسؤولين عن أعمال الآخرين دون دليل.
«رَبَّنَا لَاتُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا».
لما كان المؤمنون يعرفون أنّ مصيرهم يتحدّد بما كسبت أيديهم من أعمال
صالحة أو سيئة بموجب قانون «لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت» لذلك يتضرعون ويخاطبون اللَّه بلفظ «الرب» الذي يوحي بمعاني اللطف في النشأة والتربية قائلين: إذا كنا قد أذنبنا بسبب النسيان أو الخطأ، فاغفر لنا ذنوبنا برحمتك الواسعة وجنّبنا العقاب.
وعليه فإنّ النسيان الناشي ء عن التساهل يوجب العقاب.
فالخطأ يقال عادة في الامور التي تقع لغفلة من الإنسان وعدم إنتباه منه، أمّا النسيان فهو أن يتّجه الإنسان للقيام بعمل ما ولكنه ينسى كيف يقوم بذلك.
«رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا». «الإصر»: عقد الشي ء
مختصر الامثل، ج 1، ص: 241
وحبسه. وتطلق على الحمل الثقيل الذي يمنع المرء من الحركة.
وفي هذا المقطع من الآية يطلب المؤمنون من اللَّه تعالى طلبين: الأوّل أن يرفع عنهم الفروض الثقيلة التي قد تمنع الإنسان من إطاعة اللَّه، وهذا هو ما ورد (في الكافي) على لسان النبي صلى الله عليه و آله بشأن التعاليم الإسلامية، إذ قال: «بعثني (اللَّه تعالى) بالحنيفيّة السّهلة السّمحة».
وفي الطلب الثاني يريدون منه أن يعفيهم من الإمتحانات الصعبة والعقوبات التي لا تطاق «وَلَا تُحَمّلْنَا مَا لَاطَاقَةَ لَنَا بِهِ».
إنّ المؤمنين طلبوا من اللَّه أن يزيل الآثار التكوينية والطبيعية لزللهم عن أرواحهم ونفوسهم. وفي المرحلة الثالثة يطلبون «رحمته الواسعة» التي تشمل كل شي ء.
«أَنتَ مَوْلنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ».
وفي آخر دعواهم يخاطبون اللَّه على أنّه مولاهم الذي يتعهّدهم بالرعاية والتربية ويطلبون منه أنّ يمنحهم الفوز والانتصار على الأعداء.
«نهاية تفسير سورة البقرة»
مختصر الامثل، ج 1، ص: 243
محتوى السورة:
1- إنّ قسماً مهمّاً من هذه السورة يرتبط بمسألة التوحيد وصفات اللَّه والمعاد والمعارف الإسلامية الاخرى.
2- وقسم آخر منها يتعلق بمسألة الجهاد وأحكامه المهمة والدقيقة، وكذلك الدروس المستفادة من غزوتي بدر واحد.
3- وفي قسم
من هذه السورة يدور الحديث حول سلسلة من الأحكام الإسلامية في ضرورة وحدة صفوف المسلمين وفريضة الحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتولي والتبري ومسألة الأمانة والإنفاق في سبيل اللَّه وترك الكذب وضرورة الاستقامة والصبر في مقابل الأعداء والمشكلات والامتحانات الإلهية المختلفة وذكر اللَّه على كل حال.
4- وتطرّقت هذه السورة إلى تكملة للأبحاث التي تتحدث عن تاريخ الأنبياء عليهم السلام وقصة مريم وكرامتها ومنزلتها عند اللَّه وكذلك المؤامرات التي كان يحوكها أتباع الديانة اليهودية والمسيحية ضدّ الإسلام والمسلمين.
فضيلة تلاوة هذه السورة: روى في تفسير مجمع البيان عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «من قرأ سورة آل عمران اعطى بكلّ آية منها أماناً على جِسر جهنّم».
مختصر الامثل، ج 1، ص: 244
وفي تفسير نور الثقلين عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ البقرة وآل عمران جائا يوم القيامة يظلّانه على رأسه مثل الغمامتين أو مثل الغيابتين».
الم (1) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَ الْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَ أَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)
سبب النّزول
في تفسير مجمع البيان: نزلت أوائل السورة إلى نيف وثمانين آية في وفد نجران «1»، وكانوا ستين راكباً، قدموا على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وفيهم أربعة عشر رجلًا من أشرافهم وفي الأربعة عشر ثلاثة نفر يؤول إليهم أمرهم: العاقب أمير القوم، وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلّاعن رأيه واسمه عبد المسيح والسيد ثمالهم، وصاحب رحلهم، واسمه الأيهم وأبو حارثة بن علقمة أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم. وكان قد شرف فيهم،
ودرس كتبهم، وكانت ملوك الروم قد شرّفوه ومَوّلوه وبنو له الكنائس، لعلمه واجتهاده.
فقدموا على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله المدينة ودخلوا مسجده حين صلّى العصر، عليهم ثياب الحِبَرات، جُبَبٌ وأردية في جمال رجال بَلحَرِث بن كعب، يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: ما رأينا وفداً مثلهم وقد حانت صلاتهم فأقبلوا يضربون بالناقوس وقاموا فصلّوا في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالت الصحابة: يا رسول اللَّه! هذا في مسجدك؟ فقال رسول اللَّه: «دعوهم فصلوا إلى المشرق». فتكلم السيد والعاقب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقال لهما رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «أسلما». قالا: قد أسلمنا قبلك. قال: «كذبتما يمنعكما من الإسلام دعاؤكما للَّه ولداً، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير». قالا: إن لم يكن ولد اللَّه فمن أبوه؟ وخاصموه جميعاً في عيسى. فقال لهما النبي صلى الله عليه و آله: «ألستم تعلمون أنّه لا يكون ولد إلّا ويشبه أباه»؟ قالوا: بلى. قال: «ألستم تعلمون أنّ ربّنا حيّ لا يموت، وأنّ عيسى يأتي عليه
______________________________
(1) «نجران»: منطقة في جبال اليمن الشمالية على بعد نحو عشرة منازل من صنعاء، وتسكنها قبائل همدان التي كان لها في الجاهلية صنم باسم «يعوق».
مختصر الامثل، ج 1، ص: 245
الفناء»؟ قالوا: بلى. قال: «ألستم تعلمون أنّ ربّنا قيّم على كل شي ء ويحفظه ويرزقه»؟ قالوا:
بلى. قال: «فهل يملك عيسى من ذلك شيئاً»؟ قالوا: لا. قال: «ألستم تعلمون أنّ اللَّه لا يخفى عليه شي ء في الأرض ولا في السماء»؟ قالوا: بلى. قال: «فهل يعلم عيسى من ذلك إلّاما علم»؟ قالوا:
لا. قال: «فإنّ ربّنا صَوّر عيسى في الرحم كيف شاء وربّنا لا يأكل ولا
يشرب ولا يُحدث». قالوا:
بلى. قال: «ألستم تعلمون أنّ عيسى حملته امّه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غُذِي كما يُغذى الصبي، ثم كان يطعم ويشرب ويحدث»؟ قالوا: بلى. قال: «فكيف يكون هذا كما زعمتم»؟ فسكتوا، فأنزل اللَّه فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية.
التّفسير
فيما يتعلق بالحروف المقطعة في القرآن، سبق الحديث عنها في بداية سورة البقرة فلا موجب لتكرار ذلك. في الآية الثانية يقول تعالى: «اللَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ».
سبق أنّ شرحنا هذه الآية في الآية (255) من سورة البقرة.
الآية التي تليها تخاطب نبي الإسلام صلى الله عليه و آله وتقول: إنّ اللَّه تعالى قد أنزل عليك القرآن الذي فيه دلائل الحق والحقيقة، وهو يتطابق تماماً مع ما جاء به الأنبياء والكتب السابقة (التوراة والإنجيل) التي بشّرت به وقد أنزلها اللَّه تعالى أيضاً لهداية البشر: «نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَيةَ وَالْإِنجِيلَ» «1».
ثم تضيف الآية: «مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ».
وبعد إتمام الحجة بنزول الآيات الكريمة من اللَّه تعالى وشهادة الفطرة والعقل على صدق دعوة الأنبياء، فلا سبيل للمخالفين سوى العقوبة، ولذلك تقول الآية محل البحث بعد ذكر حقانية الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله والقرآن المجيد: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَايَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ».
ومن أجل أن لا يتوهّم أحد أو يشك في قدرة اللَّه تعالى على تنفيذ تهديداته تضيف الآية: «وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ».
«عزيز»: في اللغة بمعنى كل شي ء صعب وغير قابل للنفوذ، ولذلك يقال للأرض الصعبة العبور (عزاز) وكذلك يطلق على كل أمر يصعب الحصول عليه لقلّته وندرته (عزيز) وكذلك تطلق هذه الكلمة على الشخص القوي والمقتدر الذي يصعب التغلّب عليه
أو
______________________________
(1) «الحق»: هو الموضوع الثابت المكين الذي لا باطل فيه.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 246
يستحيل التغلّب عليه، وكلما أطلقت كلمة (عزيز) على اللَّه تعالى يراد بها هذا المعنى، أي أنّه لا أحد يقدر على التغلّب عليه، وأنّ كل المخلوقات خاضعة لمشيئته وإرادته.
إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي الْأَرْضِ وَ لَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) علم اللَّه وقدرته المطلقة: هاتان الآيتان تكمّلان الآيات السابقة. في البداية تقول الآية الشريفة: «إِنَّ اللَّهَ لَايَخْفَى عَلَيْهِ شَىْ ءٌ فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى السَّمَاءِ».
فكيف يمكن أن يختفي عن أنظاره شي ء من الأشياء في حين أنّه حاضر وناظر في كل مكان، فلا يخلو منه مكان؟! وبما أنّ وجوده غيرمحدود، فلا يخلو منه مكان معين، ولهذا فهو أقرب إلينا من كل شي ء حتى من أنفسنا، وفي نفس الوقت الذي يتنزّه فيه اللَّه تعالى عن المكان والمحل، فإنّه محيط بكلّ شي ء.
ثم تبين الآية التالية واحدة من علم وقدرة اللَّه تعالى الرائعة، بل هي إحدى روائع عالم الخلقة ومظهر بارز لعلم اللَّه وقدرته المطلقة حيث تقول الآية: «هُوَ الَّذِى يُصَوّرُكُمْ فِى الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ». ثم تضيف: «لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».
إنّه لأمر عجيب ومحيّر حقّاً أن يصوّر اللَّه الإنسان وهو في رحم امّه صوراً جميلة ومتنوعة في أشكالها ومواهبها وصفاتها وغرائزها.
وهذه الآية تؤكد أنّ المعبود الحقيقي ليس سوى اللَّه القادر الحكيم الذي يستحق العبادة، فلماذا إذن يختارون مخلوقات كالمسيح عليه السلام ويعبدونها؟!
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَ أُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَ مَا يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَ مَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)
سبب النّزول
جاء في تفسير نور الثقلين نقلًا عن كتاب «معاني الأخبار» حديث عن الإمام الباقر عليه السلام ما مضمونه: أنّ نفراً من اليهود ومعهم «حيي بن أخطب» وأخوه، جاءوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله
مختصر الامثل، ج 1، ص: 247
واحتجّوا بالحروف المقطعة «الم» وقالوا: بموجب حساب الحروف الأبجدية، فإنّ الألف في الحساب الأبجدي تساوي الواحد، واللّام تساوي 30، والميم تساوي 40، وبهذه فإنّ فترة بقاء امّتك لا تزيد على إحدى وسبعين سنة! ومن أجل أن يلجمهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تساءل وقال ما معناه: لماذا حسبتم «ألم» وحدها؟ ألم تروا أنّ في القرآن «المص» و «الر» ونظائرها من الحروف المقطعة، فإذا كانت هذه الحروف تدلّ على مدة بقاء امتي، فلماذا لا تحسبونها كلها؟ (مع أنّ القصد من هذه الحروف أمر آخر) وعندئذ نزلت هذه الآية.
التّفسير
المحكم والمتشابه في القرآن: تقدم في الآيات السابقة الحديث عن نزول القرآن بعنوان أحد الدلائل الواضحة والمعجزات البيّنة لنبوة الرسول صلى الله عليه و آله ففي هذه الآية تذكر أحد مختصّات القرآن وكيفية بيان هذا الكتاب السماوي العظيم للمواضيع والمطالب فيقول في البداية: «هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ». أي: آيات صريحة وواضحة والتي تعتبر الأساس والأصل لهذا الكتاب السماوي «هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ». ثم إنّ هناك آيات اخرى غامضة بسبب علوّ مفاهيمها وعمق معارفها أو لجهات اخرى «وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ».
هذه الآيات المتشابهة إنّما ذكرت لاختبار العلماء الحقيقيين وتميزهم عن الأشخاص المعاندين اللجوجين الذين يطلبون الفتنة، فلذلك تضيف الآية: «فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ
مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ» «1». فيفسّرون هذه الآيات المتشابهة وفقاً لأهواءهم كيما يضلّوا الناس ويشبّهوا عليهم.
«وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ».
ثم تضيف الآية: أنّ هؤلاء أي الراسخون في العلم بسبب دركهم الصحيح لمعنى المحكمات والمتشابهات «يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبّنَا». أجل «وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبَابِ».
من هذه الآية نستنتج أنّ آيات القرآن قسمان: قسم معانيها واضحة جدّاً بحيث لا يمكن إنكارها ولا إساءة تأويلها وتفسيرها، وهذه هي الآيات «المحكمات» وقسم آخر مواضيعها رفيعة المستوى أو أنّها تدور حول عوالم بعيدة عن متناول أيدينا، كعلم الغيب، وعالم يوم القيامة، وصفات اللَّه، بحيث إنّ معرفة معانيها النهائية وإدراك كنه أسرارها
______________________________
(1) «زيغ»: في الأصل بمعنى الانحراف عن الخط المستقيم والتمايل إلى جهة، والزيغ في القلب بمعنى الانحراف العقائدي عن صراط المستقيم.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 248
يستلزم مستوىً عالياً من العلم، وهذه هي الآيات «المتشابهات».
المنحرفون والشواذ من الناس يسعون لاستخدام إبهام هذه الآيات لتفسيرها بحسب أهوائهم وبخلاف الحق، لكي يثيروا الفتنة بين الناس ويضلّوهم عن الطريق المستقيم، بيدَ أنّ اللَّه والراسخين في العلم يعرفون أسرار هذه الآيات ويشرحونها للناس.
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَ هَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) النجاة من الزيغ: بالنظر لاحتمال أن تكون الآيات المتشابهات وأسرارها موضع زلل الناس، فإنّ الراسخين في العلم المؤمنين يلجأون إلى ربّهم إضافة إلى استعمال رأسمالهم العلمي في إدراك حقيقة الآيات. وهذا ما تبيّنه هاتان الآيتان على لسان الراسخين في العلم، وتقولان إنّ الراسخين في العلم والمفكّرين من ذوي البصيرة لا يفتأون يراقبون أرواحهم وقلوبهم لئلّا
ينحرفوا نحو الطرق الملتوية، فيطلبون لذلك العون من اللَّه، فالغرور العلمي يخرج بعض العلماء عن مسيرهم إلى متاهات الضلال، لأنّهم لا يلتفتون إلى عظمة الخلق والخالق وتفاهة ما عندهم من علم، فيحرمون من هداية اللَّه، أمّا العلماء المؤمنون فيقولون:
«رَبَّنَا لَاتُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ».
وليس أشدّ تأثيراً في السيطرة على الميول والأفكار من الاعتقاد بيوم القيامة والمعاد، إنّ الراسخين في العلم يصحّحون أفكارهم عن طريق الإعتقاد بالمبدأ والمعاد، ويحولون دون التأثّر بالميول والأحاسيس المتطرّفة التي تؤدّي إلى الزلل، ونتيجة لذلك يستقيمون على الصراط المستقيم بأفكار سليمة ودون عائق، نعم هؤلاء هم القادرون على الاستفادة من آيات اللَّه كل الاستفادة. «رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَّارَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَايُخْلِفُ الْمِيعَادَ».
في الحقيقة تشير الآية الاولى إلى إيمان هؤلاء الكامل «بالمبدأ»، وتشير الآية الثانية إلى إيمانهم الراسخ «بالمعاد».
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَ لَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)
مختصر الامثل، ج 1، ص: 249
بعد بيان مواقف الكفار والمنافقين والمؤمنين من الآيات «المحكمات» و «المتشابهات» في الآيات السابقة، تقول هذه الآية: إذا كان الكفار المعاندون يحسبون أنّهم بثرواتهم وأبنائهم قادرون على الدفاع عن أنفسهم في الآخرة فهم على خطأ كبير، فهذه الوسائل قد يكون لها تأثيرها المؤقت في هذه الدنيا، ولكنها عند اللَّه لن يكون لها أي تأثير، لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة، لذلك ينبغي ألّا يغترّ الإنسان بهذه الامور فتحمله على إرتكاب الإثم، وإلّا فإنّه يصلى ناراً سيكون هو حطبها. «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِىَ
عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلدُهُم مّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ».
يفيد هذا التعبير أنّ نار الجحيم مستعرة بوجود المذنبين، وهؤلاء المذنبون هم الذين يديمون أوارها ولهيبها.
ثم تشير الآية إلى نموذج من الامم السالفة التي كانت قد اوتيت الثروة الإنسانية والمادية الكثيرة، ولم تستطيع هذه الثروة أن تكون مانع من هلاكهم. «كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بَايَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ».
هذا في الواقع إنذار للكافرين المعاندين على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لكي يعتبروا بمصير الفراعنة والأقوام السالفة، ويصحّحوا أعمالهم.
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمِهَادُ (12)
سبب النّزول
في تفسير مجمع البيان: نزلت في اليهود لما قتل الكفار ببدر وهزموا، قالت اليهود: إنّه النبي الامي الذي بشرنا به موسى، ونجده في كتابنا بنعته وصفته، وأنّه لا تُردّ له راية. ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتى تنظروا إلى وقعة اخرى.
فلما كان يوم احد ونكّب أصحاب رسول اللَّه، شكوا وقالوا: لا واللَّه ما هو به. فغلب عليهم الشقاء فلم يسلموا. وقد كان بينهم وبين رسول اللَّه عهد إلى مدة لم تنقض، فنقضوا ذلك العهد قبل أجله، وانطلق كعب بن الأشرف إلى مكة في ستين راكباً، فوافقوهم وأجمعوا أمرهم على رسول اللَّه لتكونن كلمتنا واحدة، ثم رجعوا إلى المدينة. فأنزل اللَّه فيهم هذه الآية.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 250
التّفسير
مع ما تقدم في سبب النزول يتضح أنّ الكفار المغرورين بأموالهم وأولادهم، وعددهم وعدّتهم يتوقعون هزيمة الإسلام، ولكن القرآن الكريم يصرح في هذه الآية بأنّهم سيُغلبون، ويخاطب النبي صلى الله عليه و آله بأن يخبرهم بذلك وأنّ عاقبتهم في الدنيا والآخرة ليست سوى الهزيمة والذلّ والعذاب الأليم: «قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا
سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ» «1».
هناك أخبار غيبية كثيرة في القرآن الكريم تعتبر من أدلة عظمته وإعجازه والآية أعلاه واحدة من هذه الأخبار الغيبية.
وفي هذه الآية يبشّر اللَّه نبيه صلى الله عليه و آله بالانتصار على جميع الأعداء.
ولم تمض فترة طويلة حتى تحققت نبوءة الآية وهُزم يهود المدينة «بنو قريضة وبنو النضير» وفي خيبر- أهم معقل من معاقلهم- اندحروا وتلاشت قواهم كما هُزم المشركون في فتح مكة هزيمة نكراء.
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ أُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَ اللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
سبب النّزول
في تفسير مجمع البيان: نزلت هذه الآية في قصّة بدر، وكان المسلمون 313 رجلًا على عدّة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر؛ 77 رجلًا من المهاجرين و 236 رجلًا من الأنصار، وكان صاحب لواء رسول اللَّه والمهاجرين عليّ بن أبي طالب عليه السلام وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة. وكانت الإبل في جيش رسول اللَّه 70 بعيراً، و الخيل فرسين: فرس للمقداد بن أسود وفرس لمرثد بن أبي مرثد وكان معهم من السلاح ستة أدرع، وثمانية سيوف، خاضوا بها تلك الحرب الكبيرة، في وجه عدوّ يزيد عدده على الألف، وكانت خيلهم مائة فرس، وجميع من استشهد يومئذ 14 رجلًا من المهاجرين و 8 من الأنصار في مقابل 70 قتيلًا و 70 أسيراً من الأعداء وعادوا إلى المدينة تزيّنهم أكاليل النصر.
______________________________
(1) «مهاد»: بمعنى المكان المهيأ، كما يقول الراغب، وهي في الأصل من مادة (مَهْد) وهو محل استراحة الطفل.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 251
التّفسير
تعقيباً على الآيات السابقة التي حذّر القرآن فيها الكافرين من الإغترار بالمال والأبناء
والأتباع، جاءت هذه الآية شاهداً حيّاً على هذا الأمر، فتدعوهم إلى الاعتبار بما جرى في معركة بدر التاريخية. «قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ فِى فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا». كيف لا تكون لهم عبرة وهم يرون أنّ جيشاً صغيراً لا يملك شيئاً من العدّة سوى الإيمان الراسخ ينتصر على جيش يفوقه أضعافاً في العدد والعدّة.
«يَرَوْنَهُم مّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ». تقول الآية: إنّ الكفار كانوا يرون جند المسلمين ضعف عددهم، أي أنّهم إذا كانوا 313 شخصاً كان الكفار يرونهم أكثر من 600 شخص، ليزيد من خوفهم، وكان هذا أحد أسباب هزيمة الكفار.
«وَاللَّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ». تشير الآية إلى حقيقة أنّ اللَّه ينصر من يشاء.
«إِنَّ فِى ذلِكَ لَعِبْرَةً لّاُولِى الْأَبْصَارِ» «1». في ختام الآية يؤكّد سبحانه أنّ الذين وهبوا البصيرة بحيث يرون الحقائق كما هي، يعتبرون بهذا الانتصار الذي أحرزه اناس مؤمنون، ويدركون أنّ أساس هذا الانتصار هو الإيمان ... الإيمان وحده.
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعَامِ وَ الْحَرْثِ ذلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) تعقيباً على الآيات السابقة التي اعتبرت الإيمان رأس المال الحقيقي للإنسان- لا المال والبنين والأنصار- تشير هذه الآية إلى حقيقة أنّ الزوجة والأبناء والأموال إنّما هي ثروات تنفع في الحياة المادية هذه، ولكنها لا يمكن أن تشكّل هدف الإنسان الأصيل، صحيح أنّه بغير هذه الوسائل لا يمكن السير في طريق السعادة والتكامل المعنوي، إلّاأنّ الاستفادة منها في هذا السبيل شي ء وحبّها وعبادتها- بغير أن تكون مجرد وسيلة يستفاد منها- شي ء آخر.
______________________________
(1) «عبرة»: فى الأصل من مادة «عبور» بمعنى الإنتقال من مرحلة إلى اخرى أو من مكان إلى آخر،
ويقال لدمع العين «عبرة» على وزن «حسرة» لانه يعبر من العين، ويقال للكلمات التى تمر من خلال اللسان و الاذن «عبارات» أيضاً، و كذلك يقال للحوادث «عبرة» لأجل أن الإنسان عند ما يراها يعلم بمخلفاتها من الحقائق.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 252
«زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ ...» «1». إنّ التفسير الذي يبدو صحيحاً هو أنّ اللَّه هو الذي زيّن للناس ذلك عن طريق الخلق والفطرة والطبيعة الإنسانية.
إنّ اللَّه هو الذي جعل حبّ الأبناء والثروة في جبلّة الإنسان لكي يختبره ويسير به في طريق التربية والتكامل كما- في الآية (7) من سورة الكهف- يقول القرآن: «إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا».
قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَ أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ رِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَ قِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَ الصَّادِقِينَ وَ الْقَانِتِينَ وَ الْمُنْفِقِينَ وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) هذه الآية توضّح الخط البياني الصاعد لتكامل الحياة الإنسانية الذي اشير إليه في الآية السابقة، تقول الآية: هل اخبركم بحياة أرفع وأسمى من هذه الحياة المادية المحدودة في الدنيا، تلك الحياة فيها كل ما في هذه الحياة من النِعم لكنها صورتها الكاملة الخالية من أيّ نقص وعيب خاصة بالمتقين. «قُلْ أَؤُنَبّئُكُم بِخَيْرٍ مّن ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبّهِمْ جَنَّاتٌ».
بساتينها، لا كبساتين الدنيا، لا ينقطع الماء عن الجريان بجوار أشجارها: «تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ».
ونِعمها دائمة أبدية، لا كنِعم الدنيا السريعة الزوال: «خَالِدِينَ فِيهَا».
نساؤها خلافاً لكثير من غواني هذه الدنيا، ليس في أجسامهن ولا أرواحهن نقطة ظلام وخبث: «وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ».
كل هذا بإنتظار
المتقين. وأسمى من ذلك كله، النِعم المعنوية التي تفوق كل تصور وهي:
«رِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ».
وتخبر الآية المؤمنين أنّهم إذا امتنعوا عن اللذائذ غير المشروعة والأهواء الطاغية
______________________________
(1) «الشهوات»: جمع شهوة، أي حبّ شي ء من الأشياء حبّاً شديداً، ولكنّها في هذه الآية بمعنى المشتهيات.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 253
الممزوجة بالمعصية، فإنّهم سيفوزون في الآخرة بلذائذ مشابهة ولكن بمستوى أرفع وخالية من كل نقص وعيب إلّاأنّ هذا لا يعني حرمان النفس من لذائذ الحياة الدنيا التي لهم أن يتمتعوا بها بصورة مشروعة.
«الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءَامَنَّا».
في هذه الآية والآية التي بعدها نتعرّف على المتقين الذين كانوا في الآية السابقة مشمولين بنِعم اللَّه العظيمة في العالم الآخر، فتعددان ستّ صفات من صفاتهم الممتازة:
1- إنّهم يتوجّهون إلى اللَّه بكل جوارحهم والإيمان يضي ء قلوبهم ولذلك يحسّون بمسؤولية كبيرة في كل أعمالهم ويخشون عقاب أعمالهم خشية شديدة فيطلبون مغفرته والنجاة من النار: «فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ».
2- مثابرون صابرون ذوو همّة، ومقاومون عند مواجهتهم الحوادث في مسيرة إطاعتهم للَّه وتجنّبهم المعاصي، وعند ابتلائهم بالشدائد الفردية والاجتماعية «الصَّابِرِينَ».
3- صادقون ومستقيمون وما يعتقدون به في الباطن يعملون به في الظاهر ويتجنّبون النفاق والكذب والخيانة والتلوّث «وَالصَّادِقِينَ».
4- في طريق العبودية للَّه خاضعون ومتواضعون ومواظبون على ذلك «وَالْقَانِتِينَ» «1».
5- لا ينفقون من أموالهم فحسب، بل ينفقون من جميع ما لديهم من النِعم المادّية والمعنوية في سبيل اللَّه، فيعالجون بذلك أدواء المجتمع «وَالْمُنْفِقِينَ».
6- في أواخر الليل وعند السحر، أي عندما يسود الهدوء والصفاء وحين يغطّ الغافلون في نوم عميق وتهدأ ضوضاء العالم المادّي، يقوم ذوو القلوب الحيّة اليقظة، ويذكرون اللَّه ويطلبون المغفرة منه وهم ذائبون في نور اللَّه وجلاله، وتلهج كل ذرّة من وجودهم بتوحيده سبحانه «وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ».
روي في
تفسير البرهان عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال: «من قال في آخر الوتر في السحر: استغفر اللَّه وأتوب إليه، سبعين مرّة، ودام على ذلك سنة كتبه اللَّه من المستغفرين بالأسحار».
______________________________
(1) «قانتين»: من مادة «قنوت» بمعنى الخضوع أمام اللَّه وأيضاً بمعنى المداومة على الطاعة والعبودية.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 254
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ الْمَلَائِكَةُ وَ أُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) تعقيباً على البحث في الآيات السابقة حول المؤمنين الحقيقيين، تشير هذه الآية إلى بعض أدلة التوحيد ومعرفة اللَّه فتقول بأنّ اللَّه تعالى يشهد بوحدانيته (من خلال إيجاد النظام الكوني العجيب)، كما تشهد الملائكة، ويشهد بعد ذلك العلماء والذين ينظرون إلى حقائق العالم بنور العلم والمعرفة: «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ».
هذه الآية من الآيات التي كانت موضع اهتمام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله دائماً وكان يردّدها في مواضع مختلفة.
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) «الدين»: في الأصل بمعنى الجزاء والثواب، ويطلق على «الطاعة» والإنقياد للأوامر، و «الدين» في الاصطلاح: مجموعة العقائد والقواعد والآداب التي يستطيع الإنسان بها بلوغ السعادة في الدنيا، وأن يخطو في المسير الصحيح من حيث التربية والأخلاق الفردية والجماعية.
«الإسلام»: يعني التسليم وهو هنا التسليم للَّه وعلى ذلك، فإنّ معنى «إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلمُ»: إنّ الدين الحقيقي عند اللَّه هو التسليم لأوامره وللحقيقة، في الواقع لم تكن روح الدين في كل الأزمنة سوى الخضوع والتسليم للحقيقة.
وإنّما أطلق اسم الإسلام على الدين الذي
جاء به الرسول الأكرم لأنّه أرفع الأديان.
ثم إنّ الآية تذكر علة الاختلاف الديني على الرغم من الوحدة الحقيقية للدين الإلهي وتقول: «وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ».
فعلى هذا إنّ الاختلاف ظهر أوّلًا: بعد العلم والإطلاع على الحقائق، وثانياً: كانت الدوافع لذلك هي الظلم والطغيان والحسد.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 255
فالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله مثلًا- بالإضافة إلى أنّ المعجزات والدلائل الواضحة في نصوص دينه تؤكد صدقه- وردت أوصافه وعلاماته في الكتب السماوية السابقة التي بقي قسم منها في أيدي اليهود والنصارى، ولذلك بشّر علماؤهم بظهوره قبل ظهوره، ولكنهم بعد أن بُعث رأوا مصالحهم في خطر، فأنكروا كل ذلك، يحدوهم الظلم والحسد والطغيان.
«وَمَنْ يَكْفُرْ بَايَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ».
هذا بيان لمصير أمثال هؤلاء الذين لا يعترفون بآيات اللَّه، إنّهم سوف يتلقّون نتائج عملهم هذا، فاللَّه سريع في تدقيق حساباتهم.
المراد من «آيات اللَّه» في هذه الآية ما يشمل جميع آياته وبراهينه وكتبه السماوية، ولعلها تشمل أيضاً الآيات التكوينية في عالم الوجود.
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَ مَنِ اتَّبَعَنِ وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَ الْأُمِّيِّينَ أَ أَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) «المحاجّة»: أن يسعى كل واحد في ردّ الآخر عن حجّته ومحجّته دفاعاً عن عقيدته.
من الطبيعي أن يقوم أتباع كل دين بالدفاع عن دينهم، ويرون أنّ الحق بجانبهم، لذلك يخاطب القرآن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قائلًا: قد يحاورك أهل الكتاب (اليهود والنصارى ...) فيقولون إنّهم قد أسلموا بمعنى أنّهم قد استسلموا للحق، وربّما هم يصرّون على ذلك، كما فعل مسيحيّو نجران مع رسول
اللَّه صلى الله عليه و آله.
فالآية لا تطلب من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن يتجنّب محاورتهم ومحاججتهم، بل تأمره أن يسلك سبيلًا آخر وذلك عندما يبلغ الحوار منتهاه فعليه لكي يهديهم ويقطع الجدل والخصام أن يقول لهم: إنّني وأتباعي قد أسلمنا للَّه واتّبعنا الحق «فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ».
ثم يسأل أهل الكتاب والمشركين إن كانوا هم أيضاً قد أسلموا للَّه واتّبعوا الحق فعليهم أن يخضعوا للمنطق: «وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمّيّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا».
فإذا لم يستسلموا للحقيقة المعروضة أمامهم، فإنّهم لا يكونون قد أسلموا للَّه. عندئذ لا تمضي
مختصر الامثل، ج 1، ص: 256
في مجادلتهم، لأنّ الكلام في هذه الحالة لا تأثير له وما عليك إلّاأن تبلّغ الرسالة لا غير:
«وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلغُ». ومن الواضح أنّ المراد ليس هو التسليم اللّساني والادعائي، بل التسليم الحقيقي والعملي في مقابل الحق. وفي الختام يقول: «وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ». فهو سبحانه يعلم المدعي من الصادق وكذلك اغراض ودوافع المتحاجّين، ويرى أعمالهم الحسنة والقبيحة ويجازي كل شخص بعمله.
يتّضح من هذه الآية بكل جلاء أنّ اسلوب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لم يكن اسلوب فرض الفكرة والعقيدة، بل كان اسلوبه السعي إلى توضيح الحقائق أمام الناس ثم يتركهم وشأنهم لكي يتخذوا قرارهم في اتّباع الحق بأنفسهم.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ يَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ وَ مَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) تعقيباً للآية السابقة التي تضمّنت أنّ اليهود والنصارى والمشركين كانوا يجادلون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولا يستسلمون للحق، ففي الآية
الاولى إشارة إلى بعض علامات هذا الأمر حيث تقول الآية: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بَايَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ».
وتشير هذه الآية في البداية إلى ثلاث ذنوب كبيرة وهي الكفر بآيات اللَّه وقتل الأنبياء بغير الحق وقتل الذين يدعون إلى العدالة ويدافعون عن أهداف الأنبياء، وكل واحد من هذه الذنوب يكفي لوحده لجعل الإنسان معانداً ومتصلّباً بكفره وعدم تسليمه للحق، بل يسعى لخنق كل صوت يدعو إلى الحق.
ثم إنّ الآية تشير إلى ثلاثة عقوبات مترتّبة على إرتكاب هذه الذنوب، ففي البداية تشير الآية: «فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ».
ثم تقول: «أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِى الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ» فلو فرض أنّهم عملوا بعض الأعمال الصالحة فإنّها ستمحى وتزول بسبب الذنوب الكبيرة التي يرتكبونها.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 257
والثالث أنّ الآية تقول: «وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ» فلا أحد يحميهم من العقوبات الإلهيّة التي تنتظرهم ولا أحد يشفع لهم في ذلك اليوم.
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ وَ غَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَ هُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)
سبب النّزول
في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس أنّ رجلًا وامرأة من أهل خيبر زنيا وكانا ذوي شرف فيهم، وكان في كتابهم الرجم، فكرهوا رجمهما لشرفهما، ورجوا أن يكون عند رسول اللَّه رخصة في أمرهما، فعرفوا أمرهما إلى رسول اللَّه، فحكم عليهما بالرجم، فقال له النعمان بن أوفى، وبحرّي بن عمرو: جُرْتَ عليهما يا محمّد، ليس عليهما الرجم
فقال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:
«بيني وبينكم التوراة». قالوا: أنصفتنا. قال: «فمن أعلمكم بالتوراة»؟ قالوا: رجل أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا. فأرسلوا إليه فقدم المدينة، وكان جبرائيل قد وصفه لرسول اللَّه، فقال له رسول اللَّه: «أنت ابن صوريا»؟ قال: نعم. قال: «أنت أعلم اليهود»؟ قال:
كذلك يزعمون. قال: فدعا رسول اللَّه بشي ء من التوراة فيها الرجم مكتوب، فقال له:
«إقرأ». فلما أتى على آية الرجم، وضع كفه عليها وقرأ ما بعدها. فقال ابن سلام: يا رسول اللَّه! قد جاوزها. وقام إلى ابن صوريا، ورفع كفه عنها، ثم قرأ على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعلى اليهود، بأنّ المحصن والمحصنة إذا زنيا، وقامت عليهما البيّنة رجما، وإن كانت المرأة حبلى، انتظر بها حتى تضع ما في بطنها. فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله باليهودين فرجما. فغضب اليهود لذلك.
فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية «1».
______________________________
(1) في التوراة الموجودة حاليّاً، في سفر اللاويّين في الفصل العشرين، الجملة العاشرة، نقرأ ما يلي: «إذا زنا أحد بامرأة غيره، أي بامرأة جاره (مثلًا) يجب قتل الزاني والزانية». على الرغم من أنّ الرجم نفسه لم يرد، فقد ورد العقاب بالموت، وربما يكون التصريح بالرجم قد ورد في النسخة التي كانت موجودة على عهد رسول اللَّه.
مختصر الامثل، ج 1، ص: 258
التّفسير
هذه الآيات تصرّح ببعض تحريفات أهل الكتاب الذين كانوا يتوسّلون بالتبريرات والأسباب الواهية لتفادي إجراء حدود اللَّه، مع أنّ كتابهم كان صريحاً في بيان حكم اللَّه بغير إبهام، وقد دُعوا للخضوع للحكم الموجود في كتابهم: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ».
ولكن عصيانهم كان ظاهراً ومصحوباً بالإعراض والطغيان واتخاذ موقف المعارض