سرشناسه : محمدي ري شهري، محمد، 1325-
عنوان و نام پديدآور : موسوعه العقائد الاسلاميه/محمد الريشهري ؛ بمساعده رضا برنجكار ؛ التحقيق مركز بحوث دار الحديث.
مشخصات نشر : قم: موسسه علمي فرهنگي دارالحديث، سازمان چاپ و نشر، 1384.
مشخصات ظاهري : 5 ج.
فروست : مركز بحوث دارالحديث؛ 85
شابك : (دوره):964-7489-99-4 ؛ (ج.1)964-7489-94-3 ؛ (ج.2)964-7489-95-1 ؛ (ج.3)964-7489-96-X ؛ (ج.4)964-7489-97-8 ؛ (ج.5)964-7489-98-6
يادداشت : چاپ دوم
يادداشت : چاپ اول: 1383.
يادداشت : جلد اول كتاب باهمكاري رضا برنجكار و عبدالهادي مسعودي ميباشد.
يادداشت : كتابنامه.
مندرجات : ج 1و 2. المعرفه .--ج 3 و 4 و 5. معرفة الله.
موضوع : اسلام -- عقايد -- احاديث.
موضوع : احاديث شيعه -- قرن 14.
شناسه افزوده : برنجكار، رضا، 1342-
شناسه افزوده : مسعودي، عبدالهادي، 1343-
شناسه افزوده : دارالحديث
شناسه افزوده : دارالحديث
رده بندي كنگره : BP211/5/م334م8
رده بندي ديويي : 297/4172
شماره كتابشناسي ملي : 1028220
ص: 1
ص: 2
ص: 3
ص: 4
ص: 5
ص: 6
ص: 7
ص: 8
ص: 9
المدخلالحمد للّه الأوّل بلا أوّل كان قبله ، والآخر بلا آخر يكون بعده ، الذي قصر عن رؤيته أبصار الناظرين ، و عجزت عن نعته أوهام الواصفين . والحمد للّه على ما عرّفنا من نفسه ، وألهمنا من شكره ، وفتح لنا من أبواب العلم بربوبيّته ، ودلّنا عليه من الإخلاص له في توحيده ، وجنّبنا من الإلحاد والشكّ في أمره . حمدا يرتفع منّا إِلى أعلى علّيّين ، في كتابٍ مرقوم ، يشهده المقرّبون . والصلاة على عبده المصطفى محمّد خاتم النبيّين وآله الطيّبين الطاهرين الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، وعلى أصحابه الذين أحسنوا الصحبة ، واستجابوا له ، وأسرعوا إِلى وفادته ، وسابقوا إِلى دعوته . إِنّ معرفة اللّه سبحانه من أهمّ القضايا التي شغلت ذهن الإنسان على مرّ التاريخ ، وصُنِّفت فيها كتب كثيرة ، لكن هل يتسنّى لنا أن نسأل عن أفضل كتابٍ يُعرِّف الناسَ بخالقهم؟
الكتاب الأفضل في معرفة اللّهلا ريب في أنّ أفضل كتابٍ في معرفة اللّه تعالى هو الكتاب الذي دوّنه أفضلُ عارفٍ باللّه ، وهو اللّه _ جلّ وعلا _ نفسه ، وليس لأحدٍ أن يعرف ذاته كذاته المقدّسة عينها ،
.
ص: 10
ثُمّ لم يعرفه من مخلوقاته أحد كأنبيائه وأوصيائهم ، ومن هنا قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله للإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام : «يا عَلِيُّ ، ما عَرفَ اللّهَ حَقَّ مَعرِفَتِهِ غيري وغَيرَكَ». (1) على هذا الأساس يُعدُّ القرآن الكريم وكلام أهل البيت أفضل وسيلةٍ لمعرفة اللّه _ جلّ شأنه _ وتعريفه ، وأفضل كتاب في معرفة اللّه هو الكتاب المستنير بتعاليم القرآن و السُنّة ، المسترشد بهما ، و أنّ إِهمال هذه التعاليم ، والاستناد على الفكر الوضعيّ الناقص لا يُبعدان الباحثَ عن الطريق الذي يؤدّي به إِلى المقصد فحسب ، بل يجعلانه عرضةً لخطر الضلال أيضا .
دراسة الأبحاث في معرفة اللّهإِنّ الدِّراسة الدقيقة للأبحاث التي توفّرت على معرفة اللّه لحدّ الآن من جهةٍ ، والتأمّل في تعاليم الكتاب والسنّة في هذا الشأن من جهة أُخرى ، تدلّ على مدى قصور المسلمين أو تقصيرهم _ ولا سيما الباحثين منهم _ في هذا المجال . إِنّ هذه الدراسة تُرشد إِلى أنّ اللّه تعالى نفسه هو أفضل من أرشد الناس إِلى أدلّة معرفته بواسطة رُسُله ، وأعمقُ من كان ، وأبسطُ من هدى إِلى ذلك وأنفعُ في الوقت ذاته ، بَيْدَ أنّ ما قاله فيما يتعلّق بالتأمّل والتحقيق في هذه الأدلّة لم يَنَلْ نصيبه من البحث . وتُشعر هذه الدراسة أنّه على الرغم ممّا بذله الباحثون المسلمون من وقتٍ كثير محقّقين في هذا الموضوع ، ومع وجود الكتب الجمّة في هذا المجال ، لكنّ أدلّة اللّه سبحانه على وجوده ما زالت بحاجةٍ إِلى البحث والتحقيق كما هي حقّها . وتهدي هذه الدراسة إِلى أنّ الآيات التي تتحدّث عن معرفة اللّه _ أي: الإنسان ،
.
ص: 11
والحيوانات ، والأرض ، والجبال ، والماء ، والبحار ، والنباتات ، والرياح ، والسحاب ، والمطر ، والشمس ، والقمر ، واللّيل ، والنهار ، والنجوم ، وأخيرا من أصغر ذرّات العالم إِلى أكبر الأجرام السماويّة _ لو دُرست بشكلٍ علميّ جامعيّ من منظور قرآنيّ ، لَمَا تقدّم المسلمون اليوم في الكلام والفلسفة والحكمة فحسب ، بل في جميع العلوم التجريبيّة أيضا ، ولَعَمَرَتهم معرفة اللّه القائمة على تعاليم القرآن ، والدِّين ، والدنيا: «فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْاخِرَةِ» (1) .
التعقّل ، لا التعبّدمن البديهيّ أنّ المقصود من الاستنارة بتعاليم القرآن والحديث لمعرفة اللّه تعالى ليس القبول التعبّدي بها فيُشكل على أنّ حجّيّة القرآن والحديث تستند إِلى إِثبات وجود اللّه ، فلو استند إِثبات وجوده تعالى إِلى الكتاب والسنّة يكون دورا ، وهو باطلٌ عقلاً، بل المقصود هو الاستهداء بالأدلّة والبراهين العقليّة المستقاة من القرآن والحديث بنحوٍ يستطيع العقل فيه أن يدرك وجود الخالق وصفاته عبر التأمّل فيها بغضّ النظر عن قائلها ، فالتعقّل هو المعيار في الإقرار بوجود اللّه لا التعبّد . وفي ضوء ذلك ، لا ضرورة لدراسة أسناد الأحاديث المرتبطة بمعرفة اللّه والتحقيق فيانتسابها إِلى أهل البيت من أجل الاستضاءة بها؛ لأنّ ما فيها من الفاعليّة والتأثير هو البراهين العقليّة الكامنة فيها ، لا انتسابها إِلى أهل البيت عليهم السلام فحسب . أجل ، بعد إِثبات التوحيد والنبوّة ، وحجيّة كلام أهل البيت عليهم السلام عن طريق العقل ، لو ورد عن طريق النقل كلام لهم في صفات اللّه سبحانه لا يستند إِلى البرهان فلابدّ من سبره و تحليله للاقتناع من انتسابه إِليهم. وإِذا ثبت جزما أنّه منهم ، فالعقل يحكم بقبوله تعبّدا .
.
ص: 12
معرفة اللّه من منظار القرآن والحديثإِذا أخذنا بعين الاعتبار الملاحظات المشار إِليها فإنّ المجموعة التي أمامكم تحت عنوان «معرفة اللّه » محاولة في طريق معرفة اللّه تعالى على أساس تعاليمه نفسه . وهذا الكتاب الذي يمثّل امتدادا لكتاب «المعرفة» المتكفّل بدراسة موضوعات متنوّعة ترتبط بالمعرفة من منظار القرآن والحديث ، يقدّم الحلقة الثانية من حلقات «موسوعة العقائد الإسلاميّة في الكتاب والسنّة» . إِنّ كتابنا هذا يتناول النصوص الإسلاميّة في معرفة اللّه لأوّل مرّة ، وقد جُمعت فيه وسُبكت بنظم جديد سهل المنال مشفوعةً بالتحليل وتبيان النقاط المطلوبة لتكون دانيةً إِلى أيدي الباحثين ، وفيما يلي أقسام البحث : القسم الأوّل: «التعرّف على اللّه » ويشتمل على عشرة فصول هي بالترتيب: قيمة معرفة اللّه ، الهداة إِلى معرفة اللّه ، مبادئ معرفة اللّه ، طرق معرفة اللّه ، دور معرفة الخلق في معرفة الخالق ، طرق الوصول إِلى أسمى مراتب معرفة اللّه ، آثار معرفة اللّه ، آفاق معرفة اللّه ، ما ورد في حجب اللّه ، موانع معرفة اللّه . القسم الثاني: «التعرف على توحيد اللّه » ، ويضمّ فصلين : الأوّل : قيمة التوحيد ، وهو في الحقيقة مكمّل للفصل الأوّل من القسم الأوّل ؛ لأنّ معرفة اللّه الحقيقيّة ليست إِلّا توحيده . الثاني : مراتب التوحيد ، وقد نوقش فيه التوحيد في الذات ، والتوحيد في الصفات ، والتوحيد في الأفعال ، والتوحيد في الطاعة ، والتوحيد في العبادة . القسم الثالث : «التّعرف على أسماء اللّه » ، ويتألّف من خمسة فصول بيّنت القصد من أسماء اللّه تعالى ، وفسّرت معاني «الإله» ، و «اللّه » ، و«اللّه أكبر» ، و «باسم اللّه » في لغة الأحاديث المأثورة ، و استبانت أيضا أقسام أسماء اللّه ، والأسماء اللفظيّة ،
.
ص: 13
والأسماء التكوينيّة ، ومنتخبا من الأسماء ، وعدد الأسماء اللفظيّة والتكوينيّة ، وتفسير الاسم الأعظم ، ودور الأسماء الإلهيّة في تدبير عالم الوجود . القسم الرابع: «التعرف على الصفات الثبوتيّة» ، و يشمل ثلاثة وتسعون فصلاً فصول توفّرت على تفسير أبرز الصفات الثبوتيّة لخالق الكَون في الرؤية القرآنيّة والحديثيّة ؛ وذلك في سياق تبيان النقاط المهمّة التي يجدر الاهتمام بها في كيفيّة وصف اللّه سبحانه . القسم الخامس : «التعرّف على الصفات السلبيّة» ويتكوّن من ثمانية فصول تحدّثت عن أهمّ الصفات السلبيّة للحقّ تعالى نحو: المِثْل ، والحدّ ، والتجزّؤ ، والتغيير ، والجسم ، والصورة ، والوالد ، والولد ، والسِّنة ، والنوم ، والحركة ، والسكون على ما أفاده منطوق النصوص الإسلاميّة . وفي الختام يطيب لي أن أقدّم جزيل الشكر وبالغ التقدير لجميع الإخوة الأفاضل والباحثين الكرام العاملين في دار الحديث ممّن أدّوا دورا محمودا في تنظيم هذه المجموعة النفيسة الثمينة ، ولاسيّما الأخ الفاضل الجليل حجّة الإسلام والمسلمين الدكتور رضا بِرِنْجْكار ، أبتهل إِلى المولى الكريم سبحانه _ وهو الكاتب الحقيقيّ لها _ أن يمنّ على الجميع بالأجر والثواب كما هو أهله من الفضل والكرامة . ربّنا تقبّل منّا إِنّك أنت السميع العليم . محمّد المحمّدي الريشهري 7 ربيع الأوّل 1424 ه
.
ص: 14
. .
ص: 15
القسم الأوّل : التعرّف على اللّهالفصل الأوّل : قيمة معرفة اللّهالفصل الثاني: الهداة إلى معرفة اللّهالفصل الثالث: مبادئ معرفة اللّهالفصل الرابع: طرق معرفة اللّهالفصل الخامس: دور معرفة الخلق في معرفة الخالقالفصل السادس : طرق الوصول إلى أسمى مراتب معرفة اللّهالفصل السابع: آثار معرفة اللّهالفصل الثامن: آفاق معرفة اللّهالفصل التاسع: ما ورد في حجب اللّهالفصل العاشر: موانع معرفة اللّه
.
ص: 16
. .
ص: 17
الفصل الأوّل : قيمة معرفة اللّه1 / 1رَأسُ العِلمِ وثَمَرَتُهُالإمام الرضا عليه السلام :جاءَ رَجُلٌ إِلى رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وقالَ : ما رَأسُ العِلمِ؟ قالَ : مَعرِفَةُ اللّهِ حَقَّ مَعرِفَتِهِ . (1)
الإمام عليّ عليه السلام :ثَمَرَةُ العِلمِ مَعرِفَةُ اللّهِ . (2)
1 / 2أَعلَى المَعارِفِالإمام عليّ عليه السلام :مَعرِفَةُ اللّهِ سُبحانَهُ أَعلَى المَعارِفِ . (3)
عنه عليه السلام :العِلمُ بِاللّهِ أَفضَلُ العِلمَينِ . (4)
.
ص: 18
عنه عليه السلام :مَن عَرَفَ اللّهَ كَمُلَت مَعرِفَتُهُ . (1)
1 / 3قِوامُ الدِّينِرسول اللّه صلى الله عليه و آله :دِعامَةُ الدِّينِ وأَساسُهُ المَعرِفَةُ بِاللّهِ عز و جل ، وَاليَقينُ ، وَالعَقلُ النَّافِعُ ؛ وهُوَ الكَفُّ عَن مَعاصِي اللّهِ عز و جل . (2)
الإمام عليّ عليه السلام :أَوَّلُ الدِّينِ مَعرِفَتُهُ . (3)
عنه عليه السلام :رَأسُ الأَمرِ مَعرِفَةُ اللّهِ تَعالى ، وعَمودُهُ طاعَةُ اللّهِ عز و جل . (4)
الإمام الرضا عليه السلام :أَوَّلُ عِبادَةِ اللّهِ مَعرِفَتُهُ . (5)
عنه عليه السلام :لا دِيانَةَ إِلّا بَعدَ المَعرِفَةِ ، ولا مَعرِفَةَ إِلّا بِالإِخلاصِ . (6)
.
ص: 19
1 / 4أَفضَلُ الفَرائِضِتنبيه الخواطر :سَأَلَ رَجُلٌ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله عَن أَفضَلِ الأَعمالِ، فَقالَ : العِلمُ بِاللّهِ وَالفِقهُ في دينِهِ ، وكَرَّرَهُما عَلَيهِ . فَقالَ : يا رَسولَ اللّهِ ، أسأَ لُكَ عَنِ العَمَلِ فَتُخبِرُني عَنِ العِلمِ ! فَقالَ صلى الله عليه و آله : إِنَّ العِلمَ يَنفَعُكَ مَعَهُ قَليلُ العَمَلِ ، وإِنَّ الجَهلَ لا يَنفَعُكَ مَعَهُ كَثيرُ العَمَلِ . (1)
رسول اللّه صلى الله عليه و آله :التَّفَكُّرُ في عَظَمَةِ اللّهِ وجَنَّتِهِ ونارِهِ ساعَةً خَيرٌ مِن قِيامِ لَيلَةٍ. (2)
الإمام الصادق عليه السلام :إِنَّ أَفضَلَ الفَرائِضِ وأَوجَبَها عَلَى الإِنسانِ مَعرِفَةُ الرَّبِّ ، وَالإِقرارُ لَهُ بِالعُبودِيَّةِ . (3)
1 / 5أَطيَبُ اللَّذائِذِرسول اللّه صلى الله عليه و آله :إِذا دَخَلَ أَهلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ نودوا : يا أَهلَ الجَنَّةِ ، إِنَّ لَكُم عِندَ اللّهِ مَوعِدا لَم تَرَوهُ . فَقالوا : وما هُوَ ؟ ألَم يُبَيِّض وُجوهَنا ، ويُزَحزِحنا عَنِ النَّارِ ، ويُدخِلنَا الجَنَّةَ ؟ قالَ : فَيُكشَفُ الحِجابُ ، قالَ : فَيَنظُرونَ إِلَيهِ، فَوَاللّهِ ما أَعطاهُمُ اللّهُ شَيئا
.
ص: 20
أحَبَّ إِلَيهِم مِنهُ . (1)
عنه صلى الله عليه و آله :أَسأَ لُكَ الرِّضاءَ بَعدَ القَضاءِ ، وأَسأَ لُكَ بَردَ العَيشِ بَعدَ المَوتِ ، وأَسأَ لُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلى وَجهِكَ ، وَالشَّوقَ إِلى لِقائِكَ ، في غَيرِ ضَرّاءَ مُضِرَّةٍ ، ولا فِتنَةٍ مُضِلَّةٍ . (2)
الإمام عليّ عليه السلام :ما يَسُرُّني لَو مِتُّ طِفلاً وأُدخِلتُ الجَنَّةَ ولَم أكبُر فَأَعرِفَ رَبّي عز و جل . (3)
الإمام زين العابدين عليه السلام :إِلهي ما ألَذَّ خَواطِرَ الإِلهامِ بِذِكرِكَ عَلَى القُلوبِ ! وما أَحلَى المَسيرَ إِلَيكَ بِالأَوهامِ في مَسالِكِ الغُيوبِ ! وما أَطيَبَ طَعمَ حُبِّكَ ! وما أَعذَبَ شُربَ قُربِكَ ! فَأَعِذنا مِن طَردِكَ وإِبعادِكَ . (4)
الإمام الصادق عليه السلام :لَو يَعلَمُ النَّاسُ ما في فَضلِ مَعرِفَةِ اللّهِ عز و جل ما مَدّوا أَعيُنَهُم إِلى ما مَتَّعَ اللّهُ بِهِ الأَعداءَ مِن زَهرَةِ الحَياةِ الدُّنيا ونَعيمِها ، وكانَت دُنياهُم أَقَلَّ عِندَهُم مِمّا يَطَؤونَهُ بِأَرجُلِهِم ، ولَنَعِموا بِمَعرِفَةِ اللّهِ _ جَلَّ وعَزَّ _ ، وتَلَذَّذوا بِها تَلَذُّذَ مَن لَم يَزَل في رَوضاتِ الجِنانِ مَعَ أَولِياءِ اللّهِ . إِنَّ مَعرِفَةَ اللّهِ عز و جل آنِسٌ مِن كُلِّ وَحشَةٍ ، وصاحِبٌ مِن كُلِّ وَحدَةٍ ، ونورٌ مِن كُلِّ ظُلمَةٍ ، وقُوَّةٌ مِن كُلِّ ضَعفٍ ، وشِفاءٌ مِن كُلِّ سُقمٍ . (5)
راجع : ص 357 (الفصل الأوّل : قيمة التوحيد) .
.
ص: 21
الفصل الثاني: الهداة إلى معرفة اللّه2 / 1اللّهُالكتاب«إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى » . (1)
«يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لَا تَمُنُّواْ عَلَىَّ إِسْلَ_مَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْاءِيمَ_نِ إِن كُنتُمْ صَ_دِقِينَ » . (2)
«لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَ_كِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاءُ» . (3)
«إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لَ_كِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» . (4)
راجع : البقرة : 120 ، آل عمران : 73 ، الأنعام : 71 ، الأعراف: 43 ، طه: 50 ، النور : 35 .
.
ص: 22
الحديثرسول اللّه صلى الله عليه و آله :قالَ اللّهُ _ جَلَّ جَلالُهُ _ : عِبادي ، كُلُّكُم ضالٌّ إِلّا مَن هَدَيتُهُ ، وكُلُّكُم فَقيرٌ إِلّا مَن أَغنَيتُهُ ، وكُلُّكُم مُذنِبٌ إِلّا مَن عَصَمتُهُ . (1)
عنه صلى الله عليه و آله :مَن أَصبَحَ ولايَذكُرُ أَربَعَةَ أَشياءَ أَخافُ عَلَيهِ زَوالَ النِّعمَةِ : أَوَّلُها أن يَقولَ : الحَمدُ للّهِِ الَّذي عَرَّفَني نَفسَهُ ولَم يَترُكني عُميانَ القَلبِ . .. . (2)
الإمام عليّ عليه السلام :اِعرِفُوا اللّهَ بِاللّهِ ، وَالرَّسولَ بِالرِّسالَةِ ، وأُولِي الأَمرِ بِالأَمرِ بِالمَعروفِ وَالعَدلِ وَالإِحسانِ . (3)
عنه عليه السلام_ مِن دُعائِهِ يَومَ الجَمَلِ _: لكِنَّكَ يا مَولايَ بَدَأتَني أَوَّلاً بِإِحسانِكَ ، فَهَدَيتَنيِ لدِينِكَ ، وعَرَّفتَني نَفسَكَ . (4)
عنه عليه السلام_ في دُعاءٍ عَلَّمَهُ نَوفا البِكالِيّ _: أَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي ظَهَرتَ بِهِ لِخاصَّةِ أولِيائِكَ فَوَحَّدوكَ وعَرَفوكَ فَعَبَدوكَ بِحَقيقَتِكَ ، أن تُعَرِّفَني نَفسَكَ لِأُقِرَّ لَكَ بِرُبوبِيَّتِكَ عَلى حَقيقَةِ الإِيمانِ بِكَ ، ولا تَجعَلني يا إِلهي مِمَّن يَعبُدُ الاِسمَ دونَ المَعنى ، وَالحَظني بِلَحظَةٍ مِن لَحَظاتِكَ تُنَوِّر بِها قَلبي بِمَعرِفَتِكَ خاصَّةً ومَعرِفَةِ أولِيائِكَ ،
.
ص: 23
إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ . (1)
عنه عليه السلام_ في دُعاءٍ كانَ يَدعو بِهِ بَعدَ رَكعَتَيِ الفَجرِ _: يا مَن دَلَّ عَلى ذاتِهِ بِذاتِهِ ، وتَنَزَّهَ عَن مُجانَسَةِ مَخلوقاتِهِ ، وجَلَّ عَن مُلاءَمَةِ كَيفِيّاتِهِ . (2)
الكافي عن عليّ بن عقبة :سُئِلَ أَميرُالمُؤمِنينَ عليه السلام : بِمَ عَرَفتَ رَبَّكَ؟ قالَ : بِما عَرَّفَني نَفسَهُ . قيلَ: وكَيفَ عَرَّفَكَ نَفسَهُ؟ قالَ : لا يُشبِهُهُ صورَةٌ ، ولا يُحَسُّ بِالحَواسِّ ، ولا يُقاسُ بِالنَّاسِ ، قَريبٌ في بُعدِهِ بَعيدٌ في قُربِهِ ، فَوقَ كُلِّ شَيءٍ ولا يُقالُ: شَيءٌ فَوقَهُ ، أَمامَ كُلِّ شَيءٍ ولا يُقالُ : لَهُ أَمامٌ ، داخِلٌ فِي الأَشياءِ لا كَشَيءٍ داخلٍ في شَيءٍ ، وخارِجٌ مِنَ الأَشياءِ لا كَشَيءٍ خارِجٍ مِن شَيءٍ ، سُبحانَ مَن هُوَ هكَذا ولا هكَذا غَيرُهُ ، ولِكُلِّ شَيءٍ مُبتَدَأٌ . (3)
التوحيد عن سلمان الفارسيّ :سَأَلَ الجاثَلِيقُ (4) مِن عَلِيٍّ عليه السلام : أخبِرني ، عَرَفتَ اللّهَ بِمُحَمَّدٍ ، أَم عَرَفتَ مُحَمَّدا بِاللّهِ عز و جل ؟ فَقالَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ عليه السلام : ما عَرَفتُ اللّهَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ، ولكِن عَرَفتُ مُحَمَّدا بِاللّهِ عز و جل حينَ خَلَقَهُ وأَحدَثَ فيهِ الحُدودَ مِن طولٍ وعَرضٍ ، فَعَرَفتُ أنَّهُ مُدَبَّرٌ مَصنوعٌ بِاستِدلالٍ وإِلهامٍ مِنهُ وإِرادَةٍ ، كَما أَلهَمَ المَلائِكَةَ طاعَتَهُ وعَرَّفَهُم نَفسَهُ بِلا شِبهٍ ولا كَيفٍ . (5)
.
ص: 24
الإمام الحسين عليه السلام_ مِن دُعائِهِ يَومَ عَرَفَةَ _: أنتَ الَّذي هَدَيتَ . (1)
عنه عليه السلام_ فيما نُسِبَ إلَيهِ مِن دُعاءِ عَرَفَةَ _: إِلهي عَلِمتُ بِاختِلافِ الآثارِ وتَنَقُّلاتِ الأَطوارِ ، أنَّ مُرادَكَ مِنّي أن تَتَعَرَّفَ إِلَيَّ في كُلِّ شَيءٍ حَتّى لا أجهَلَكَ في شَيءٍ... إِلهي تَرَدُّدي فِي الآثارِ يوجِبُ بُعدَ المَزارِ ، فَاجمَعني عَلَيكَ بِخِدمَةٍ توصِلُني إِلَيكَ ، كَيفَ يُستَدَلُّ عَليكَ بِما هُوَ في وُجودِهِ مُفتَقِرٌ إِلَيكَ ، أيَكونُ لِغَيرِكَ مِنَ الظُّهورِ ما لَيسَ لَكَ حَتّى يَكونَ هُوَ المُظهِرُ لَكَ! مَتى غِبتَ حَتّى تَحتاجَ إِلى دَليلٍ يَدُلُّ عَلَيكَ! ومَتى بَعُدتَ حَتّى تَكونَ الآثارُ هِيَ الَّتي توصِلُ إِلَيكَ ! عَمِيَت عَينٌ لا تَراكَ عَلَيها رَقيبا ، وخَسِرَت (2) صَفقَةُ عَبدٍ لَم تَجعَل لَهُ مِن حُبِّكَ نَصيبا . (3)
الإمام زين العابدين عليه السلام_ فِي الدُّعاءِ المَعروفِ بِدُعاءِ أبي حَمزَةَ الثُّمالِيِّ _: (بِكَ) عَرَفتُكَ وأنتَ دَلَلتَني عَلَيكَ ، ودَعَوتَني إِلَيكَ ، ولَولا أنتَ لَم أدرِ ما أنتَ . (4)
عنه عليه السلام :اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وآلِهِ ، وقِنا مِنكَ ، وَاحفَظنا بِكَ ، وَاهدِنا إِلَيكَ ، ولاتُباعِدنا عَنكَ؛ إِنَّ مَن تَقِهِ يَسلَم، ومَن تَهدِهِ يَعلَم، ومَن تُقَرِّبهُ إِلَيكَ يَغنَم. (5)
عنه عليه السلام_ مِن دُعائِهِ يَومَ عَرَفَةَ _: سُبحانَكَ! بَسَطتَ بِالخَيراتِ يَدَكَ ، وعُرِفَتِ الهِدايَةُ مِن عِندِكَ ، فَمَنِ التَمَسَكَ لِدينٍ أو دُنيا وَجَدَكَ . (6)
.
ص: 25
عنه عليه السلام :الحَمدُ للّهِِ الأَوَّلِ بِلا أوَّلٍ كانَ قَبلَهُ، وَالآخِرِ بِلا آخِرٍ يَكونُ بَعدَهُ، الَّذي قَصُرَت عَن رُؤيَتِهِ أَبصارُ النّاظِرينَ، وعَجَزَت عَن نَعتِهِ أَوهامُ الواصِفينَ، ابتَدَعَ بِقُدرَتِهِ الخَلقَ ابتِداعا وَاختَرَعَهُم عَلى مَشِيَّتِهِ اختِراعا، ثُمَّ سَلَكَ بِهِم طَريقَ إِرادَتِهِ وبَعَثَهُم في سَبيلِ مَحَبَّتِهِ. (1) وَالحَمدُ للّهِِ الَّذي لَو حَبَسَ عَن عِبادِهِ مَعرِفَةَ حَمدِهِ عَلى ما أَبلاهُم مِن مِنَنِهِ المُتَتابِعَةِ ، وأسبَغَ عَلَيهِم مِن نِعَمِهِ المُتَظاهِرَةِ ، لَتَصَرَّفوا في مِنَنِهِ فَلَم يَحمَدوهُ ، وتَوَسَّعوا في رِزقِهِ فَلَم يَشكُروهُ ، ولَو كانوا كذلِكَ لَخَرَجوا مِن حُدودِ الإِنسانِيَّةِ إِلى حَدِّ البَهيمِيَّةِ ، فَكانوا كما وَصَفَ في مُحكَمِ كِتابِهِ : «إِنْ هُمْ إِلَا كَالْأَنْعَ_مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً» . (2) وَالحَمدُ للّهِِ عَلى ما عَرَّفَنَا مِن نَفسِهِ ، وألهَمَنا مِن شُكرِهِ ، وفَتَحَ لَنا مِن أَبوابِ العِلمِ بِرُبوبِيَّتِهِ ، ودَلَّنا عَلَيهِ مِنَ الإِخلاصِ لَهُ في تَوحيدِهِ ، وجَنَّبَنا مِنَ الإِلحادِ وَالشَّكِّ في أمرِهِ . (3)
عنه عليه السلام :اللّهُمَّ ... فَصَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وآلِهِ، وَامنَعنا بِعِزِّكَ مِن عِبادِكَ، وأغنِنا عَن غَيرِكَ بِإِرفادِكَ (4) ، وَاسلُك بِنا سَبيلَ الحَقِّ بِإِرشادِكَ. (5)
عنه عليه السلام :سُبحانَكَ ما أَضيَقَ الطُّرُقَ عَلى مَن لَم تَكُن دَليلَهُ! وما أَوضَحَ الحَقَّ عِندَ مَن هَدَيتَهُ سَبيلَهُ! إِلهي فَاسلُكِ بِنا سُبُلَ الوُصولِ إِلَيكَ، وسَيِّرنا في أقرَبِ الطُّرُقِ لِلوُفودِ عَلَيكَ، قَرِّب عَلَينَا البَعيدَ وسَهِّل عَلَينَا العَسيرَ الشَّديدَ. (6)
.
ص: 26
عنه عليه السلام :اللّهُمَّ أَنتَ وَلِيُّ الأَصفِياءِ وَالأَخيارِ، ولَكَ الخَلقُ وَالاِختِيارُ، وقَد أَلبَستَني فِي الدُّنيا ثَوبَ عافِيَتِكَ، وأَودَعتَ قَلبي صَوابَ مَعرِفَتِكَ،... اجعَلنا مِنَ الَّذين أَوضَحتَ لَهُمُ الدَّليلَ عَلَيكَ، وفَسَحتَ لَهُمُ السَّبيلَ إِلَيكَ، فَاستَشعَروا (1) مَدارِعَ الحِكمَةِ، وَاستَطرَفوا (2) سُبُلَ التَّوبَةِ، حَتّى أَناخوا في رِياضِ الرَّحمَةِ، وسَلِموا مِنَ الاِعتِراضِ بِالعِصمَةِ. (3)
عنه عليه السلام :اللّهُمَّ اجعَلني مِنَ الَّذينَ جَدّوا في قَصدِكَ فَلَم يَنكِلوا، وسَلَكُوا الطَّريقَ إِلَيكَ فَلَم يَعدِلوا (4) ، وَاعتَمَدوا عَلَيكَ فِي الوُصولِ حَتّى وَصَلوا، فَرَوِيَت قُلوبُهُم مِن مَحَبَّتِكَ، وأَنِسَت نُفوسُهُم بِمَعرِفَتِكَ، فَلَم يَقطَعهُم عَنكَ قاطِعٌ، ولا مَنَعَهُم عَن بُلوغِ ما أمَّلوهُ لَدَيكَ مانِعٌ، فَهُم فيمَا اشتَهَت أنفُسُهُم خالِدونَ. (5)
عنه عليه السلام :فَيامَن أَكرَمَني بِتَوحيدِهِ ، وعَصَمَني عَنِ الضَّلال بِتَسديدِهِ ، وألزَمَني إِقامَةَ حُدودِهِ ، لا تَسلُبني ما وَهَبتَ لي مِن تَحقيقِ مَعرِفَتِكَ ، وأحيِني بِيَقينٍ أَسلَمُ بِهِ مِن الإِلحادِ في صِفَتِكَ . (6)
الإمام الباقر عليه السلام :يا من أَتحَفَني بِالإِقرارِ بِالوَحدانِيَّةِ ، وحَباني بِمَعرِفَةِ الرُّبوبِيَّةِ ، وخَلِّصني مِنَ الشَّكِّ وَالعَمى ... . (7)
عنه عليه السلام_ لِرَجُلٍ وقَد كَلَّمَهُ بِكَلامٍ كَثيرٍ _: أَيُّهَا الرَّجُلُ ، تَحتَقِرُ الكَلامَ وتَستَصغِرُهُ! اِعلَم
.
ص: 27
أنَّ اللّهَ عز و جل لَم يَبعَثْ رُسُلَهُ حَيثُ بَعَثَها ومَعَها ذَهَبٌ ولا فِضَّةٌ ، ولكِن بَعَثَها بِالكَلامِ ، وإِنَّما عَرَّفَ اللّهَ _ جَلَّ وعَزَّ _ نَفسَهُ إِلى خَلقِهِ بِالكَلامِ وَالدَّلالاتِ عَلَيهِ وَالأَعلامِ . (1)
الإمام الصادق عليه السلام :أسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي تَجَلَّيتَ بِهِ لِلكَليمِ عَلَى الجَبَلِ العَظيمِ ، فَلَمّا بَدا شُعاعُ نورِ الحُجُبِ العَظيمَةِ أثبَتَّ مَعرِفَتَكَ في قُلوبِ العارِفينَ بِمَعرِفَةِ تَوحيدِكَ ، فَلا إِلهَ إِلّا أنتَ . (2)
عنه عليه السلام_ لِلمُفَضَّلِ بنِ عُمَرَ _: فَكِّر يا مُفَضَّلُ ، فيما أُعطِيَ الإِنسانُ عِلمَهُ وما مُنِعَ ؛ فَإِنَّهُ أُعطِيَ عِلمَ جَميعِ ما فيهِ صَلاحُ دينِهِ ودُنياهُ ، فَمِمّا فيهِ صَلاحُ دينِهِ مَعرِفَةُ الخالِقِ _ تبارَكَ وتَعالى _ بِالدَّلائِلِ وَالشَّواهِدِ القائِمَةِ فِي الخَلقِ . (3)
عنه عليه السلام :لا دَليلَ عَلَى اللّهِ بِالحَقيقَةِ غَيرُ اللّهِ ، ولا داعِيَ إِلَى اللّهِ فِي الحَقيقَةِ سِوَى اللّهِ ، إنَّ اللّهَ سُبحانَهُ دَلَّنا بِنَفسِهِ مِن نَفسِهِ عَلى نَفسِهِ . (4)
عنه عليه السلام :لَيسَ للّهِِ عَلى خَلقِهِ أن يَعرِفوا قَبلَ أن يُعَرِّفَهُم ، ولِلخَلقِ عَلَى اللّهِ أن يُعَرِّفَهُم ، وللّهِِ عَلَى الخَلقِ إِذا عَرَّفَهُم أن يَقبَلوهُ . (5)
الكافي عن منصور بن حازم :قُلتُ لِأَبي عَبدِ اللّهِ عليه السلام : إِنّي ناظَرتُ قَوما ، فَقُلتُ لَهُم : إِنَّ اللّهَ _ جَلَّ جَلالُهُ _ أَجَلُّ وأَعَزُّ وأَكرَمُ مِن أن يُعرَفَ بِخَلقِهِ ، بَلِ العِبادُ يُعرَفونَ بِاللّهِ . فَقالَ : رَحِمَكَ اللّهُ . (6)
.
ص: 28
الإمام الصادق عليه السلام :إِنَّ أَمرَ اللّهِ كُلَّهُ عَجيبٌ ، إِلّا أنَّهُ قَدِ احتَجَّ عَلَيكُم بِما قَد عَرَّفَكُم مِن نَفسِهِ . (1)
عنه عليه السلام :مَن زَعَمَ أنَّهُ يَعرِفُ اللّهَ بِحِجابٍ أو بِصورَةٍ أو بِمِثالٍ فَهُوَ مُشرِكٌ ؛ لِأَنَّ الحِجابَ وَالمِثالَ وَالصّورَةَ غَيرُهُ ، وإِنَّما هُوَ واحِدٌ مُوَحَّدٌ ، فَكَيفَ يُوَحِّدُ مَن زَعَمَ أنَّهُ عَرَفَهُ بِغَيرِهِ ! إِنَّما عَرَفَ اللّهَ مَن عَرَفَهُ بِاللّهِ ، فَمَن لَم يَعرِفهُ بِهِ فَلَيسَ يَعرِفُهُ ، إِنَّما يَعرِفُ غَيرَهُ . وَاللّهُ خالِقُ الأَشياءِ لا مِن شَيءٍ ، يُسَمّى بِأَسمائِهِ ، فَهُوَ غَيرُ أسمائِهِ وَالأَسماءُ غَيرُهُ ، وَالموصوفُ غَيرُ الواصِفِ ، فَمَن زَعَمَ أنَّهُ يُؤمِنُ بِما لا يَعرِفُ فَهُوَ ضالٌّ عَنِ المَعرِفَةِ ، لا يُدرِكُ مَخلوقٌ شَيئا إِلّا بِاللّهِ ، ولا تُدرَكُ مَعرِفَةُ اللّهِ إِلّا بِاللّهِ . (2)
الكافي عن عبد الأعلى :قُلتُ لِأَبي عَبدِ اللّهِ عليه السلام : أَصلَحَكَ اللّهُ ، هَل جُعِلَ فِي النّاسِ أَداةٌ يَنالونَ بِهَا المَعرِفَةَ ؟ قالَ : فَقالَ : لا . قُلتُ : فَهَل كُلِّفُوا المَعرِفَةَ ؟ قالَ : لا ، عَلَى اللّهِ البَيانُ : «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَا وُسْعَهَا» (3) و «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَا مَا ءَاتَاهَا» (4) . (5)
تفسير العيّاشي عن محمّد بن حكيم :كَتَبتُ رُقعَةً إِلى أبي عَبدِ اللّهِ عليه السلام فيها : أتَستَطيعُ النَّفسُ المَعرِفَةَ ؟
.
ص: 29
فَقالَ : لا . فَقُلتُ : يَقولُ اللّهُ : «الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَ_اءٍ عَن ذِكْرِى وَ كَانُواْ لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا» (1) ! قالَ : هُوَ كَقَولِهِ : «مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَ مَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ» (2) . قُلتُ : يُعاتِبُهُم (3) ؟ قالَ : لَم يَعتِبهُم بِما صَنَعَ قُلوبُهُم ، ولكِن يُعاتِبُهُم بِما صَنَعوا ، ولَو لَم يَتَكَلَّفوا لَم يَكُن عَلَيهِم شَيءٌ . (4)
الإمام الصادق عليه السلام_ في جَوابِ عَبدِالرَّحيمِ القَصيرِ لمّا سَأَلَهُ عَنِ المَعرِفَةِ وَالجُحودِ هَل هُما مَخلوقانِ _: سَأَلتَ عَنِ المَعرِفَةِ ما هِيَ ، فَاعلَم _ رَحِمَكَ اللّهُ _ أنَّ المَعرِفَةَ مِن صُنعُ اللّهِ عز و جل فِي القَلبِ مَخلوقَةٌ ، وَالجُحودَ صُنعِ اللّهِ فِي القَلبِ مَخلوقٌ ، ولَيسَ لِلعِبادِ فيهِما مِن صُنعٍ ، ولَهُم فيهِمَا الاِختيارُ مِنَ الاِكتِسابِ ، فَبِشَهوَتِهِمُ الإِيمانَ اختارُوا المَعرِفَةَ ، فَكانوا بِذلِكَ مُؤمِنينَ عارِفينَ ، وبِشَهوَتِهِمُ الكُفرَ اختارُوا الجُحودَ ، فَكانوا بِذلِكَ كافِرينَ جاحِدينَ ضُلّالاً ، وذلِكَ بِتَوفيقِ اللّهِ لَهُم وخِذلانِ مَن خَذَلَهُ اللّهُ ، فَبِالاِختِيارِ وَالاِكتسابِ عاقَبَهُمُ اللّهُ وأَثابَهُم . (5)
الكافي عن محمّد بن حكيم :قُلتُ لِأَبي عَبدِ اللّهِ عليه السلام : المَعرِفَةُ مِن صُنعِ مَن هِيَ ؟ قالَ : مِن صُنعِ اللّهِ ، لَيسَ لِلعِبادِ فيها صُنعٌ . (6)
.
ص: 30
التوحيد عن أبي بصير عن الإمام الصادق عليه السلام :أنَّهُ سُئِلَ عَنِ المَعرِفَةِ أهِيَ مُكتَسَبَةٌ ؟ فَقالَ : لا . فَقيلَ لَهُ : فَمِن صُنعِ اللّهِ عز و جل ومِن عَطائِهِ هِيَ ؟ قالَ : نَعَم ، ولَيسَ لِلعِبادِ فيها صُنعٌ . (1)
الإمام الصادق عليه السلام :سِتَّةُ أشياءَ لَيسَ لِلعِبادِ فيها صُنعٌ : المَعرِفَةُ ، وَالجَهلُ ، وَالرِّضا ، وَالغَضَبُ ، وَالنَّومُ ، وَاليَقظَةُ . (2)
الإمام الكاظم عليه السلام :الحَمدُ للّهِِ الَّذي أَكرَمَني بِمَعرِفَتِهِ ومَعرِفَةِ رَسولِهِ صلى الله عليه و آله ، ومَن فَرَضَ اللّهُ طاعَتَهُ رَحمَةً مِنهُ لي ، وتَطَوُّلاً مِنهُ عَلَيَّ بِالإِيمانِ . (3)
قرب الإسناد عن البزنطيّ :قُلتُ لِأَبِي الحَسَنِ الرِّضا عليه السلام : لِلنّاسِ فِي المَعرِفَةِ صُنعٌ ؟ قالَ : لا . قُلتُ : لَهُم عَلَيها ثَوابٌ ؟ قالَ : يَتَطَوَّلُ عَلَيهِم بِالثَّوابِ كَما يَتَطَوَّلُ عَلَيهِم بِالمَعرِفَةِ . (4)
الإمام الجواد عليه السلام :قامَ رَجُلٌ إِلَى الرِّضا عليه السلام ، فَقالَ لَهُ: يَا بنَ رَسولِ اللّهِ صِف لَنا رَبَّكَ ، فَإِنَّ مَن قَبلَنا قَدِ اختَلَفوا عَلَينا .
.
ص: 31
فَقالَ الرِّضا عليه السلام : إِنَّهُ مَن يَصِفُ رَبَّهُ بِالقِياسِ لا يَزالُ الدَّهرَ فِي الاِلتِباسِ ، مائِلاً عَنِ المِنهاجِ ، ظاعِنا فِي الاِعوِجاعِ ، ضالّاً عَنِ السَّبيلِ ، قائِلاً غَيرَ الجَميلِ . أُعَرِّفُهُ بِما عَرَّفَ بِهِ نَفسَهُ مِن غَيرِ رُؤيَةٍ ، وأَصِفُهُ بِما وَصَفَ بِهِ نَفسَهُ مِن غَيرِ صورَةٍ ، لا يُدرَكُ بِالحَواسِّ ولا يُقاسُ بِالنّاسِ ، مَعروفٌ بِغَيرِ تَشبيهٍ ، ومُتَدانٍ في بُعدِهِ لا بِنَظيرٍ ، لا يُمَثَّلُ بِخَليقَتِهِ ولا يَجورُ في قَضِيَّتِهِ ، الخَلقُ إِلى ما عَلِمَ مُنقادونَ وعَلى ما سَطَرَ فِي المَكنونِ (1) مِن كِتابِهِ ماضونَ ، ولا يَعمَلونَ خِلافَ ما عَلِمَ مِنهُم ولا غَيرَهُ يُريدونَ ، فَهُوَ قَريبٌ غَيرُ مُلتَزِقٍ وبَعيدٌ غَيرُ مُتَقَصٍّ ، يُحَقَّقُ ولا يُمَثَّلُ ، ويُوَحَّدُ ولا يُبَعَّضُ ، يُعرَفُ بِالآياتِ ويُثبَتُ بِالعَلاماتِ ، فَلا إِلهَ غَيرُهُ الكَبيرُ المُتَعالِ . (2)
بحار الأنوار عن صُحف إدريس عليه السلام :بِالحَقِّ عُرِفَ الحَقُّ ، وبِالنُّورِ أُهتُدِي إِلَى النُّورِ ، وبِالشَّمسِ أُبصِرَتِ الشَّمسُ ، وبِضَوءِ النّارِ رُئِيَتِ النّارُ ، ولَن يَسَعَ صَغيرٌ ما هُوَ أكبَرُ مِنهُ ، ولا يَقِلُّ ضَعيفٌ ما هُوَ أَقوى مِنهُ ، ولا يُحتاجُ فِي الدَّلالَةِ عَلَى الشَّيءِ المُنيرِ بِما هُوَ دونَهُ ، ولا يَضِلُّ عَنِ الطَّريقِ إِلّا المَأخوذُ بِهِ عَنِ التَّوفيقِ ، وَاللّهُ عَلى كُلِّ شَيءٍ شَهيدٌ . (3)
راجع : ص 45 (الفِطْرَة) و59 (الميثاقُ الفِطريُّ) و62 (تجلّي الفِطْرَةِ عِندَ الشَّدائدِ) .
.
ص: 32
. .
ص: 33
تحليل لأَحاديث معرفة اللّه باللّهقرأنا في أَحاديث هذا الباب أنّ اللّه تعالى عرّف نفسه للناس ، وأنّ عليهم أن يعرفوه به ، وبملاحظة هذه الأحاديث يُثار سؤال وهو: ما المقصود من معرفة اللّه باللّه ؟ للمحدّثين والحكماء آراء شتّى في الإجابة عن السؤال ، كما يلاحظ بنظرةٍ بدائيّة في متن الأحاديث تفاسير مختلفة لمعرفة اللّه باللّه ، لكنّ التأمَّل فيها يستبين أن لا خلاف يلوح في الأُفق . وما يُستشفّ من التأمّل في النصوص المأثورة هو أنّ المعرفة الحقيقيّة للّه سبحانه لا تتيسّر إِلّا باللّه نفسه ، وليس لأحدٍ أن يعرّفه للنّاس حقّ تعريفه إِلّا هو _ جلّ شأنه _ ، من هنا أخذ سبحانه على نفسه هداية النّاس ، كما قال في كتابه: «إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى» (1) ، يُثار هنا سؤال آخر مفاده: كيف يعرّف اللّه نفسه للنّاس ، ويهديهم إِليه؟
كيف عرّف اللّه نفسه للناس؟لو تأمّلنا لرأينا أنّ اللّه تعالى قد عرّفَ نفسه للنّاس ، وهيّأ للبشر أَنواع الآلات
.
ص: 34
والأَدوات والإمكانيّات الداخليّة والخارجيّة لمعرفته بكلّ طريق متيسّر ، من هنا قال شيخ المحدّثين في تفسير كلام أَمير المؤمنين عليّ عليه السلام إِذ قال: «اعرفوا اللّهَ باللّهِ» : «عَرَفنَا اللّهَ بِاللّهِ لأَِنّا إن عَرَفناهُ بعُقولِنا فَهُوَ عز و جل واهِبُها؛ وإن عَرَفناهُ عز و جل بِأَنبِيائِهِ ورُسُلِهِ وحُجَجِهِ عليهم السلام فَهُوَ عز و جلباعِثُهُم ومُرسِلُهُم ومُتَّخِذُهُم حُجَجا؛ وإن عَرَفناهُ بِأَنفُسِنا فَهُوَ عز و جلمُحدِثُها ، فَبِهِ عَرَفناهُ» (1) . إِنّ ما أَودع اللّه في داخل وجود الإنسان لمعرفته ، هو فطرة معرفته ، والعقل والقلب ، تلك الأُمور التي سيأتي تفصيلها في الفصل الثالث تحت عنوان «مبادئ معرفة اللّه » ، وما جعل في خارج وجوده ، هو الوحي والأنبياء . ومهمّة الأَنبياء عليهم السلام ، كما قال الإمام عليّ عليه السلام هي هداية الفطرة والعقل ، وإِزالة الموانع والحجب التي تحول دون معرفة اللّه من بصائرهم: «فَبَعَثَ فيهِم رُسُلَهُ ، وواتَرَ إِلَيهِم أَنبِياءَهُ ، لِيَستَأدوهُم ميثاقَ فِطرَتِهِ ، ويُذَكِّروهُم مَنسِيَّ نِعمَتِهِ ، ويَحتَجّوا عَلَيهِم بِالتَّبليغِ ، ويُثيروا لَهُم دَفائِنَ العُقولِ ، ويُروهُم آياتِ المَقدِرَةِ ...» (2) في ضوء ذلك ، وكما ورد في عدّة أَحاديث (3) ، المعرفة من صنع اللّه ، فهو الذي علّم الإنسان أدوات معرفته ، وهيّأ له سبيل كسبها . و يستطيع الإنسان أن يشاهد مظاهر جماله سبحانه ببصيرته جليّةً ، مستظهرا بهداية الأنبياء وإِزالة موانع المعرفة . وانطلاقا من هذا التحليل يمكننا أن نقدّم ثلاثة تفاسير واضحة لمعرفة اللّه باللّه وفقا لمراتب معرفة اللّه :
.
ص: 35
1 . معرفة اللّه عن طريق الآثاريعرّف اللّه الخالق الحكيم القدير الإنسان بنفسه من خلال إِراءَتِه آثار علمه وقدرته وحكمته في نظام الوجود ، ويشير عدد من الأحاديث إِلى هذا التفسير . «إِنَّما عَرَّفَ اللّهُ _ جَلَّ و عَزَّ _ نَفسَهُ إِلى خَلقِهِ بِالكَلامِ وَالدَّلالاتِ عَلَيهِ وَالأَعلامِ» (1) .
2 . معرفة اللّه عن طريق التنزيه والتقديستنزيه الخالق سبحانه وتقديسه عن مشابهة المخلوقات هو التفسير الثاني لمعرفة اللّه باللّه . قال المحدّث الأقدم الشيخ الكلينيّ قدس سره في تبيان هذا التفسير : «إنّ اللّه خلق الأَشخاص والأَنوار والجواهر والأَعيان ؛ فالأَعيان : الأَبدان ، والجواهر : الأرواح ، وهو _ جلّ وعزّ _ لا يشبه جسما ولا روحا ، وليس لأَحد في خلق الروح الحسّاس الدرّاك أَمر ولا سبب ، هو المتفرّد بخلق الأَرواح والأَجسام ، فإذا نفى عنه الشبهين : شبه الأَبدان وشبه الأَرواح ، فقد عرف اللّه باللّه ، وإذا شبّهه بالروح أو البدن أو النور فلم يعرف اللّه باللّه » (2) . وقال صدر الدِّين الشيرازيّ قدس سره في معرفة اللّه باللّه عن طريق التنزيه والتقديس : «وهو أن يستدلّ أَوّلاً بوجود الأَشياء على وجود ذاته ، ثمّ يعرف ذاته بنفي المثل والشبه عنه . . . فإذا نفى عنه ما عداه وسلب عنه شبه ما سواه سواء كانت أبدانا أو أرواحا ، فعرف أنّه منزّه عن أن يوصف بشيء غير ذاته . . . فمن عرف اللّه بأنّه لا يشبه شيئا من الأَشياء ولا يشبهه شيء ، فقد عرف اللّه باللّه لا بغيره» (3) .
.
ص: 36
وجاء هذا التفسير أَيضا في عدد من الأَحاديث كقول أَمير المؤمنين عليه السلام في جواب من سأَله: كيف عرّفك نفسه؟ «لا يَشبَهُهُ صورَةٌ ، ولا يُحَسُّ بالحَواسِّ ولا يُقاسُ بِالنّاسِ» (1) .
3 . معرفة اللّه عن طريق الشهود القلبيّإِنّ أتمّ تفسير لمعرفة اللّه باللّه هو معرفته بواسطة الشهود القلبيّ إِذ أنّ «استطالة الشيء بنفسه تُغني عن وصفه» ، أو كما جاء في الأدب الفارسيّ (2) ما تعريبه: «بزوغ الشَّمس دليل على الشَّمس» . وأشار عدد من الأحاديث إِلى هذا التفسير (3) كالذي ورد في صُحُف إِدريس عليه السلام : «بِالحَقِّ عُرِفَ الحَقُّ ، وبِالنّورِ أُهتُدِيَ إِلَى النّورِ وبِالشَّمسِ أُبصِرَتِ الشَّمسُ» . (4) وقال صدر الدِّين الشيرازيّ قدس سره في شرح أُصول الكافي حول معرفة اللّه باللّه : «إِنّ معرفة اللّه باللّه له وجهان أحدهما : إِدراك ذاته بطريق المشاهدة وصريح العرفان . والثاني : بطريق التنزيه والتقديس...» (5) . وقال الإمام الخميني رحمه الله في شرح : «اِعرِفُوا اللّهَ بِاللّهِ ، وَالرَّسولَ بِالرِّسالَةِ ، وأُولِي الأَمرِ بِالأَمرِ بِالمَعروفِ وَالعَدلِ وَالإِحسانِ» : «فبعد أن يغادر السالك إلى اللّه _ بخطوات ترويض النفس والتقوى الكاملة _ بيت النفس ، ولم يصطحب معه في هذا الخروج العُلقة الدنيوية، والتعيّنات،
.
ص: 37
ويتحقق له السفر إلى اللّه سبحانه، يتجلى له الحق المتعالي قبل كل شيء، على قلبه المقدس بالأُلوهية ومقام ظهور الأسماء والصفات . ويكون هذا التجلّي أيضا مرتّبا ومنظّما، حيث ينطلق من الأسماء المحاطة مرورا بالأسماء المحيطة حسب شدّة السير وضعفه وحسب قوّة قلب السالك وضعفه على التفصيل الذي لا يستوعبه هذا الكتاب المختصر، حتى ينتهي إلى رفض كل تعيّنات عالم الوجود سواء كانت تعيّنات تعود إلى نفسه أو تعيّنات راجعة إلى غيره والتي تعتبر _ أي هذه التعينات الغيرية _ في المنازل والمراحل التالية من التعيّنات العائدة إلى نفسه أيضا وبعد الرفض المطلق ، يتمّ التجلّي بالأُلوهية، ومقام اللّه الذي هو مقام أحديّة جمع ظهور الأسماء، وتظهر «إعرِفُوا اللّهَ _ بِاللّهِ _ » في مرتبتها الأوّليّة النّازلة . ولدى وصول العارف إلى هذا المقام والمنزلة، يفنى في هذا التجلّي، فإذا وسعته العناية الأزليّة، لحصل للعارف الفاني في هذا التجلّي، استيناس، ولزالت عنه وحشة الطريق ونصب السفر، واستفاق، فلم يقتنع بهذا المقام، ويستمرّ بخطوات ملؤها الشوق والعشق، ويكون الحقّ المتعالي في سفر العشق هذا مبدأ السفر والباعث على السفر ونهاية السفر، وتتمّ خطواته في أنوار التجلّي، فيسمع هاتفا يقول له «تَقَدَّم» ويستمرّ في التقدّم إلى أن تتجلّى في قلبه بصورة مرتّبة ومنظّمة، الأسماء والصفات في مقام الواحديّة، حتى يبلغ مقام الأحديّة، ومقام الاسم الأعظم الذي هو اسم اللّه ، فيتحقق في هذا المقام «اِعرِفُوا اللّهَ بِاللّهِ» في مرتبة عالية . ويوجد أيضا بعد هذا المقام، مقام آخر لا مجال لذكره فعلاً». (1)
.
ص: 38
2 / 2الأَنبياءالكتاب«وَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَا نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَ_هَ إِلَا أَنَا فَاعْبُدُونِ» . (1)
«وَ لَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَ اجْتَنِبُواْ الطَّ_غُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَ مِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَ__لَةُ فَسِيرُواْ فِى الْأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَ_قِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» . (2)
«قُلْ هَ_ذِهِ سَبِيلِى أَدْعُواْ إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِى وَ سُبْحَ_نَ اللَّهِ وَ مَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» . (3)
«أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْاءِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَ إِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَ إِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ» . (4)
الحديثرسول اللّه صلى الله عليه و آله :الحَمدُ للّهِِ ... المُحتَجِبِ بِنورِهِ دونَ خَلقِهِ ... وَابتَعَثَ فيهِمُ النَّبِيِّينَ ... لِيَعقِلَ العِبادُ عَن رَبِّهِم ما جَهِلوهُ؛ فَيَعرِفوهُ بِرُبوبِيَّتِهِ بَعدَما أَنكَروا ، ويُوَحِّدوهُ بِالإِلهِيَّةِ بَعدَما عَضَدوا (5) . (6)
.
ص: 39
الإمام عليّ عليه السلام_ في بَيانِ رِسالَةِ الأَنبِياءِ _: فَبَعَثَ فيهِم رُسُلَهُ ، وواتَرَ (1) إِلَيهِم أنبِياءَهُ؛ لِيَستَأدوهُم ميثاقَ فِطرَتِهِ ، ويُذَكِّروهُم مَنسِيَّ نِعمَتِهِ ، ويَحتَجّوا عَلَيهِم بِالتَّبليغِ . (2)
عنه عليه السلام :إِنَّ اللّهَ _ تَبارَكَ وتَعالى _ بَعَثَ مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله بِالحَقِّ لِيُخرِجَ عِبادَهُ مِن عِبادَةِ عِبادِهِ إِلى عِبادَتِهِ ، ومِن عُهودِ عِبادِهِ إِلى عُهودِهِ ، ومِن طاعَةِ عِبادِهِ إِلى طاعَتِهِ ، ومِن وِلايَةِ عِبادِهِ إلى وِلايَتِهِ ؛ بَشيرا ونَذيرا وداعِيا إلَى اللّهِ بِإِذنِهِ وسِراجا مُنيرا ، عَودا وبَدءا وعُذرا ونُذرا ، بِحُكمٍ قَد فَصَّلَهُ وتَفصيلٍ قَد أَحكَمَهُ ، وفُرقانٍ قَد فَرَّقَهُ وقُرآنٍ قَد بَيَّنَهُ ، لِيَعلَمَ العِبادُ رَبَّهُم إِذ جَهِلوهُ ، ولِيُقِرّوا بِهِ إِذ جَحَدوهُ ، ولِيُثبِتوهُ بَعدَ إِذ أَنكَروهُ . (3)
عنه عليه السلام :بَعَثَ اللّهُ مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله بِالحَقِّ لِيُخرِجَ عِبادَهُ مِن عِبادَةِ الأَوثانِ إِلى عِبادَتِهِ ، ومِن طاعَةِ الشَّيطانِ إِلى طاعَتِهِ ، بِقُرآنٍ قَد بَيَّنَهُ وأحكَمَهُ ، لِيَعلَمَ العِبادُ رَبَّهُم إِذ جَهِلوهُ ، ولِيُقِرّوا بِهِ بَعدَ إِذ جَحَدوهُ ، ولِيُثبِتوهُ بَعدَ إِذ أَنكَروهُ . (4)
الإمام الصّادق عليه السلام_ لِلزِّنديقِ الّذي سألَهُ : مِن أينَ أَثبَتَّ الأَنبياءَ ؟ _: إِنّا لَمّا أثبَتنا أنّ لَنا خالِقا صانِعا مُتَعالِيا عنّا وعن جَميعِ ما خَلَقَ ، وكانَ ذلكَ الصّانِعُ حَكيما مُتَعالِيا لَم يَجُز أن يُشاهِدَهُ خَلقُهُ ، ولا يُلامِسوهُ ، فيُباشِرَهُم ويُباشِروهُ ، ويُحاجَّهُم ويُحاجُّوهُ ، ثَبَتَ أنَّ لَهُ سُفَراءَ في خَلقِهِ يُعَبِّرونَ عَنهُ إِلى خَلقِهِ وعِبادِهِ ، ويَدُلّونَهُم على مصالِحِهِم ومَنافِعِهِم ، وما بهِ بَقاؤهُم وفي تَركِهِ فَناؤهُم . (5)
.
ص: 40
الإمام الكاظم عليه السلام :ما بَعَثَ اللّهُ أنبِياءَهُ ورُسُلَهُ إِلى عِبادِهِ إِلّا لِيَعقِلوا عَنِ اللّهِ . (1)
2 / 3أهل البيترسول اللّه صلى الله عليه و آله :أنا وعَلِيٌّ أبَوا هذِهِ الاُمَّةِ ، مَن عَرَفَنا فَقَد عَرَفَ اللّهَ عز و جل ، ومَن أَنكَرَنا فَقَد أنكَرَ اللّهَ عز و جل . (2)
عنه صلى الله عليه و آله :يا عَلِيُّ ، ما عُرِفَ اللّهُ إِلّا بي ثُمَّ بِكَ ، مَن جَحَدَ وِلايَتَكَ جَحَدَ اللّهَ رُبوبِيَّتَهُ . (3)
الإمام عليّ عليه السلام :إِنَّ اللّهَ _ تَبارَكَ وتَعالى _ لَو شاءَ لَعَرَّفَ العِبادَ نَفسَهُ ، ولكَن جَعَلَنا أبوابَهُ وصِراطَهُ وسَبيلَهُ وَالوَجهَ الَّذي يُؤتى مِنهُ ؛ فَمَن عَدَلَ عَن وِلايَتِنا أو فَضَّلَ عَلَينا غَيرَنا فَإِنَّهُم عَنِ الصِّراطِ لَناكِبونَ ، فَلا سَواءٌ مَنِ اعتَصَمَ النَّاسُ بِهِ ولا سَواءٌ (4) حَيثُ ذَهَبَ النَّاسُ إِلى عُيونٍ كَدِرَةٍ يَفرَغُ بَعضُها في بَعضٍ ، وذَهَبَ مَن ذَهَبَ إِلَينا إِلى عُيونٍ صافِيَةٍ تَجري بِأَمرِ رَبِّها ، لا نَفادَ لَها ولا انقِطاعَ . (5)
عنه عليه السلام :أنَا بابُ حِطَّةٍ ، مَن عَرَفَني وعَرَفَ حَقّي فَقَد عَرَفَ رَبَّهُ ؛ لِأَنّي وَصِيُّ نَبِيِّهِ في أَرضِهِ . (6)
.
ص: 41
عنه عليه السلام :مَعرِفَتي بِالنُّورانِيَّةِ مَعرِفَةُ اللّهِ عز و جل ، ومَعرِفَةُ اللّهِ عز و جل مَعرِفَتي بِالنُّورانِيَّةِ ، وهُوَ الدّينُ الخالِصُ الَّذي قالَ اللّهُ تَعالى : «وَ مَا أُمِرُواْ إِلَا لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَ يُقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَ يُؤْتُواْ الزَّكَوةَ وَ ذَ لِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» (1) . (2)
الإمام الباقر عليه السلام :بِنا عُبِدَ اللّهُ ، وبِنا عُرِفَ اللّهُ ، وبِنا وُحِّدَ اللّهُ _ تَبارَكَ وتَعالى _ . (3)
تفسير العيّاشي عن أبي حمزة الثمالي :قالَ أبو جَعفَرٍ عليه السلام : يا أبا حَمزَةَ ، إِنَّما يَعبُدُ اللّهَ مَن عَرَفَ اللّهَ ، فَأَمّا مَن لا يَعرِفُ اللّهَ كَأَنَّما يَعبُدُ غَيرَهُ هكَذا ضالّاً . قُلتُ : أصلَحَكَ اللّهُ ، وما مَعرِفَةُ اللّهِ ؟ قالَ : يُصَدِّقُ اللّهَ ويُصَدِّقُ مُحَمَّدا رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله في مُوالاةِ عَلِيٍّ وَالاِئتِمامِ بِهِ ، وبِأَئِمَّةِ الهُدى مِن بَعدِهِ ، وَالبَراءَةِ إِلَى اللّهِ مِن عَدُوِّهُم ، وكَذلِكَ عِرفانُ اللّهِ . (4)
الإمام الصادق عليه السلام :جاءَ ابنُ الكَوّاءِ إِلى أَميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام فَقالَ : يا أَميرَ المُؤمِنينَ ، «وَعَلَى الأَْعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلَام بِسِيمَاهُمْ» (5) . فَقالَ : نَحنُ عَلَى الأَعرافِ ، نَعرِفُ أَنصارَنا بِسيماهُم ، ونَحنُ الأَعرافُ الَّذي لا يُعرَفُ اللّهُ عز و جل إِلّا بَسبيلِ مَعرِفَتِنا . (6)
.
ص: 42
عنه عليه السلام :الأَوصِياءُ هُم أَبوابُ اللّهِ عز و جل الَّتي يُؤتى مِنها ، ولَولاهُم ما عُرِفَ اللّهُ عز و جل ، وبِهِمُ احتَجَّ اللّهُ _ تَبارَكَ وتَعالى عَلى _ خَلقِهِ . (1)
عنه عليه السلام :إِنَّ اللّهَ خَلَقَنا فَأَحسَنَ خَلقَنا ، وصوََّرَنا فَأَحسَنَ صُوَرَنا ، فَجَعَلَنا خُزّانَهُ في سَماواتِهِ وأَرضِهِ ، ولَولانا ما عُرِفَ اللّهُ . (2)
الإمام الكاظم عليه السلام_ في زِيارَةِ الأَئِمَّةِ عليهم السلام _: السَّلامُ عَلى مَحالِّ مَعرِفَةِ اللّهِ . . . مَن عَرَفَهُم فَقَد عَرَفَ اللّهَ ، ومَن جَهِلَهُم فَقَد جَهِلَ اللّهَ . (3)
راجع: أهل البيت في الكتاب والسنّة : القسم الثالث / الفصل الأوّل / أبواب اللّه .
2 / 4أَتبَاعُ الأَنبِيَاءِالكتاب«قُلْ هَ_ذِهِ سَبِيلِى أَدْعُواْ إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِى» . (4)
الحديثالكافي عن الزّهريّ :دَخَلَ رِجالٌ مِن قُرَيشٍ عَلى عَلِيِّ بنِ الحُسَينِ _ صَلَواتُ اللّهِ عَلَيهِما _ فَسَأَلوهُ : كَيفَ الدَّعوَةُ إِلَى الدِّينِ ؟
.
ص: 43
قالَ : تَقولُ : بِسمِ اللّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ ، أَدعوكُم إِلَى اللّهِ عز و جل ، وإِلى دينِهِ . وجِماعُهُ أَمرانِ : أَحَدُهُما : مَعرِفَةُ اللّهِ عز و جل ، وَالآخَرُ : العَمَلُ بِرِضوانِهِ . وإِنَّ مَعرِفَةَ اللّهِ عز و جل : أن يُعرَفَ بِالوَحدانِيَّةِ ، وَالرَّأفَةِ ، وَالرَّحمَةِ ، وَالعِزَّةِ ، وَالعِلمِ ، وَالقُدرَةِ ، وَالعُلُوِّ عَلى كُلِّ شَيءٍ ، وأنَّهُ النَّافِعُ الضّارُّ ، القاهِرُ لِكُلِّ شَيءٍ ، الَّذي لا تُدرِكُهُ الأَبصارُ ، وهُوَ يُدرِكُ الأَبصارَ ، وهُوَ اللَّطيفُ الخَبيرُ . وأنَّ مُحَمَّدا عَبدُهُ ورَسولُهُ ، وأنَّ ما جاءَ بِهِ هُوَ الحَقُّ مِن عِندِ اللّهِ عز و جل ، وما سِواهُ هُوَ الباطِلُ . فَإِذا أَجابوا إِلى ذلِكَ فَلَهُم ما لِلمُسلِمينَ ، وعَلَيهِم ما عَلَى المُسلِمينَ . (1)
.
ص: 44
. .
ص: 45
الفصل الثالث: مبادئ معرفة اللّه3 / 1الفِطْرَةالكتاب«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَ لِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لَ_كِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ » . (1)
«صِبْغَةَ اللَّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَ نَحْنُ لَهُ عَ_بِدُونَ » . (2)
«حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ » . (3)
«وَ لَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» . (4)
راجع : العنكبوت : 61 ، الزخرف : 9 .
.
ص: 46
الحديثالكافي عن زرارة عن الإمام الباقر عليه السلام ، قال :سَأَلتُهُ عَن قَولِ اللّهِ عز و جل : «حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ» ؟ قالَ : الحَنيفِيَّةُ مِنَ الفِطرَةِ الَّتي فَطَرَ اللّهُ النّاسَ عَلَيها «لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ» قال : فَطَرَهُم عَلَى المَعرِفَةِ بِهِ . (1)
التوحيد عن زرارة :قُلتُ لِأَبي جَعفَرٍ عليه السلام : _ أَصلَحَكَ اللّهُ _ قَولُ اللّهِ عز و جل في كِتابِهِ : «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا» ؟ قالَ : فَطَرَهُم عَلَى التَّوحيدِ عِندَ الميثاقِ عَلى مَعرِفَتِهِ أنَّهُ رَبُّهُم . قُلتُ : وخاطَبوهُ ؟ قالَ: فَطَأطَأَ رَأسَهُ، ثُمَّ قالَ: لَولا ذلِكَ لَم يَعلَموا مَن رَبُّهُم ولا مَن رازِقُهُم. (2)
معاني الأخبار عن زرارة :سَأَلتُ أبا جَعفَرٍ عليه السلام عَن قَولِ اللّهِ عز و جل : «حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ» وقُلتُ : مَا الحَنيفِيَّةُ ؟ (3) قالَ : هِيَ الفِطرَةُ . (4)
المحاسن عن زرارة :سَأَلتُ أبا جَعفَرٍ عليه السلام عَن قَولِ اللّهِ تَعالى : «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا» .
.
ص: 47
قالَ : فَطَرَهُم عَلى مَعرِفَتِهِ أنَّهُ رَبُّهُم ، ولَو لا ذلِكَ لَم يَعلَموا إِذا سُئِلوا مَن رَبُّهُم ولا مَن رازِقُهُم . (1)
الإمام الباقر عليه السلام :قالَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : كُلُّ مَولودٍ يولَدُ عَلَى الفِطرَةِ ؛ يَعني عَلَى المَعرِفَةِ بِأَنَّ اللّهَ عز و جل خالِقُهُ ، كَذلِكَ قَولُهُ : «وَ لَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» . (2)
الكافي عن زرارة :سَأَلتُ أبا عَبدِ اللّه عليه السلام عَن قَولِ اللّهِ عز و جل : «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا» . قالَ: فَطَرَهُم جَميعا عَلَى التَّوحيدِ . (3)
الكافي عن هشام بن سالم عن الإمام الصادق عليه السلام ، قال :قُلتُ : «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا» ؟ قالَ : التَّوحيدُ . (4)
الإمام الصادق عليه السلام_ في قَولِ اللّهِ عز و جل : «صِبْغَةَ اللَّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً» _: الإسلامُ . (5)
.
ص: 48
تفسير الطبري عن قتادة_ في قَولِهِ تَعالى: «صِبْغَةَ اللَّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً» _: إِنَّ اليَهودَ تَصبِغُ أبناءَها يَهودَ ، وَالنَّصارى تَصبِغُ أبناءَها نَصارى ، وإِنَّ صِبغَةَ اللّهِ الإسلامُ ، فَلا صِبغَةَ أَحسَنُ مِن الإِسلامِ ولا أَطهَرُ ، وهُوَ دينُ اللّهِ الَّذي بَعَثَ بِهِ نوحاوَالأَنبِياءَ بَعدَهُ . (1)
رسول اللّه صلى الله عليه و آله :كُلُّ مَولودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطرَةِ حَتّى يُعرِبَ (2) عَنهُ لِسانُهُ ، فإِذا أعرَبَ عَنهُ لِسانُهُ إِمّا شاكِرا وإِمّا كَفورا . (3)
عنه صلى الله عليه و آله :كُلُّ نَسَمَةٍ تولَدُ عَلَى الفِطرَةِ حَتّى يُعرِبَ عَنها لِسانُها ، فَأَبَواها يُهَوِّدانِها ويُنَصِّرانِها . (4)
مسند ابن حنبل عن الأسود بن سريع :إِنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله بَعَثَ سَرِيَّةً يَومَ حُنَينَ فَقاتَلُوا المُشرِكينَ ، فَأَفضى بِهِمُ القَتلُ إِلَى الذُّرِّيَّةِ ، فَلَمّا جاؤوا قالَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : ما حَمَلَكُم عَلى قَتلِ الذُّرِّيَّةِ ؟ قالوا : يا رَسولَ اللّهِ ، إِنَّما كانوا أَولادَ المُشرِكينَ . قال : أوَهَل خِيارُكُم إِلّا أَولادُ المُشرِكينَ ؟! وَالَّذي نَفسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ما مِن نَسَمَةٍ
.
ص: 49
تولَدُ إِلّا عَلَى الفِطرَةِ حَتّى يُعرِبَ عَنها لِسانُها . (1)
رسول اللّه صلى الله عليه و آله :ما مِن مَولودٍ إِلّا يولَدُ عَلَى الفِطرَةِ ، فَأَبَواهُ يُهَوِّدانِهِ أو يُنَصِّرانِهِ أو يُمَجِّسانِهِ ، كَما تُنتَجُ البَهيمَةُ بَهيمَةً جَمعاءَ هَل تُحِسّونَ فيها مِن جَدعاءَ ؟ (2)
سنن الترمذي عن أبي هريرة :قالَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : كُلُّ مَولودٍ يُولَدُ عَلَى المِلَّةِ ، فَأَبَواهُ يُهَوِّدانِهِ أو يُنَصِّرانِهِ أو يُشَرِّكانِهِ . قيلَ : يا رَسولَ اللّهِ ، فَمَن هَلَكَ قَبلَ ذلِكَ ؟ قالَ : اللّهُ أعلَمُ بِما كانوا عامِلينَ بِهِ . (3)
رسول اللّه صلى الله عليه و آله :كُلُّ مَولودٍ يولَدُ مِن والِدٍ (4) كافِرٍ أو مُسلِمٍ فَإِنَّما يولَدون عَلَى الفِطرَةِ عَلَى الإِسلامِ كُلُّهُم ، ولكِنَّ الشَّياطينَ أتَتهُم فَاجتالَتهُم (5) عَن دينِهِم فَهَوَّدَتهُم ونَصَّرَتهُم ومَجَّسَتهُم ، وأَمَرَتهُم أن يُشرِكوا بِاللّهِ ما لم يُنَزِّل بِهِ سُلطانا . (6)
.
ص: 50
عنه صلى الله عليه و آله :ألا إِنَّ رَبّي أمَرَني أن أُعَلِّمَكُم ما جَهِلتُم مِمّا عَلَّمَني يَومي هذا . . . إِنّي خَلَقتُ (1) عِبادي حُنَفاءَ كُلَّهُم، وإِنَّهُم أَتَتهُمُ الشَّياطينُ فَاجتالَتهُم عَن دينِهِم. (2)
عنه صلى الله عليه و آله_ فِي الدُّعاءِ _: يا مَن فَتَقَ العُقولَ بِمَعرِفَتِهِ . (3)
الإمام عليّ عليه السلام :اللّهُمَّ خَلَقتَ القُلوبَ عَلى إِرادَتِكَ ، وفَطَرتَ العُقولَ عَلى مَعرِفَتِكَ ، فَتَمَلمَلَتِ (4) الأَفئِدَةُ مِن مَخافَتِكَ ، وصَرَخَتِ القُلوبُ بِالوَلَهِ ، وتَقاصَرَ وُسعُ قَدرِ العُقولِ عَنِ الثَّناءِ عَلَيكَ ، وَانقَطَعَتِ الأَلفاظُ عَن مِقدارِ مَحاسِنِكِ ، وكَلَّتِ الأَلسُنُ عَن إِحصاءِ نِعَمِكَ ، فَإِذا وَلَجَت بِطُرُقِ البَحثِ عَن نَعتِكَ بَهَرَتها حَيرَةُ العَجزِ عَن إِدراكِ وَصفِكَ ، فَهِيَ تَرَدَّدُ فِي التَّقصيرِ عَن مُجاوَزَةِ ما حَدَّدتَ لَها ؛ إِذ لَيسَ لَها أن تَتَجاوَزَ ما أَمَرتَها . (5)
تفسير العيّاشي عن زرارة :سَأَلتُ أبا عَبدِ اللّهِ عليه السلام عَن قَولِ اللّهِ : «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ» إِلى قَولِهِ : «قَالُواْ بَلَى» . قالَ : كانَ مُحَمَّدٌ عَلَيهِ وآلِهِ السَّلامُ أوَّلَ مَن قالَ: بَلى . قُلتُ : كانَت رُؤيَةً مُعايَنَةً ؟ قالَ : فَأَثبَتَ المَعرِفَةَ في قُلوبِهِم . (6)
.
ص: 51
الإمام عليّ عليه السلام :الحَمدُ للّهِِ المُلهِمِ عِبادَهُ حَمدَهُ ، وفاطِرِهِم عَلى مَعرِفَةِ رُبوبِيَّتِهِ، الدّالِّ عَلى وُجودِهِ بِخَلقِهِ... لا تَحجُبُهُ الحُجُبُ، وَالحِجابُ بَينَهُ وبَينَ خَلقِهِ خَلقُهُ إِيّاهُم ؛ لِامتِناعِهِ مِمّا يُمكِنُ في ذَواتِهِم، ولِاءِمكانٍ (1) مِمّا يَمتَنِعُ مَنهُ، ولِافتِراقِ الصّانِعِ مِنَ المَصنوعِ، وَالحادِّ مِنَ المَحدودِ، وَالرَّبِّ مِنَ المَربوبِ. (2)
عنه عليه السلام :إِنَّ أفضَلَ ما يَتَوَسَّلُ بِهِ المُتَوَسِّلونَ : الإِيمانُ بِاللّهِ ورَسولِهِ ، وَالجِهادُ في سَبيلِ اللّهِ ، وكَلِمَةُ الإِخلاصِ ؛ فَإِنَّهَا الفِطرَةُ . (3)
الكافي عن بكير بن أعين :كانَ أبو جَعفَرٍ عليه السلام يَقولُ: إِنَّ اللّهَ أَخَذَ ميثاقَ شيعَتِنا بِالوِلايَةِ وهُم ذَرٌّ يَومَ أَخَذَ الميثاقَ عَلَى الذَّرِّ، وَالإِقرارَ لَهُ بِالرُّبوبِيَّةِ ولِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله بِالنُّبُوَّةِ. (4)
الإمام الباقر عليه السلام :كانَت شَريعَةُ نوحٍ عليه السلام أن يُعبَدَ اللّهُ بِالتَّوحيدِ وَالإِخلاصِ وخَلعِ الأَندادِ ، وهِيَ الفِطرَةُ الَّتي فُطِرَ النَّاسُ عَلَيها ، وأخَذَ اللّهُ ميثاقَهُ عَلى نوحٍ عليه السلام وعَلَى النَّبِيِّينَ عليهم السلام أن يَعبُدُوا اللّهَ _ تَبارَكَ وتَعالى _ ولا يُشرِكوا بِهِ شَيئا . (5)
.
ص: 52
الإمام الحسين عليه السلام_ مِن دُعائِهِ يَومَ عَرَفَةَ _: لكِنَّكَ أخرَجتَني رَأفَةً مِنكَ وتَحَنُّنا عَلَيَّ ، لِلَّذي سَبَقَ لي مِنَ الهُدَى الَّذي فيهِ يَسَّرتَني ، وفيهِ أَنشَأتَني ، ومَن قَبلِ ذلِكَ رَؤُفتَ بي بِجَميلِ صُنعِكَ وسَوابِغِ نِعمَتِكَ . . . فَرَبَّيتَني زائِدا في كُلِّ عامٍ ، حَتّى إِذا كَمُلَت فِطرَتي وَاعتَدَلَت سَريرَتي أَوجَبتَ عَلَيَّ حُجَّتَكَ ؛ بِأن أَلهَمتَني مَعرِفَتَك ، ورَوَّعتَني بِعَجائِبِ فِطرَتِكَ ، وأَنطَقتَني لِما ذَرَأتَ في سَمائِكَ وأَرضِكَ مِن بَدائِعِ خَلقِكَ ، ونَبَّهتَني لِذِكرِكَ وشُكرِكَ وواجِبِ طاعَتِكَ وعِبادَتِكَ ، وفَهَّمتَني ما جاءَت بِهِ رُسُلُكَ ، ويَسَّرتَ لي تَقَبُّلَ مَرضاتِكَ ، ومَنَنتَ عَلَيَّ في جَميعِ ذلِكَ بِعَونِكَ ولُطفِكَ . (1)
الإمام الصادق عليه السلام :إِنَّ اللّهَ عز و جل خَلَقَ النّاسَ كُلَّهُم عَلَى الفِطرَةِ الَّتي فَطَرَهُم عَلَيها ، لا يَعرِفُونَ إِيمانا بِشَريعَةٍ ، ولا كُفرا بِجُحودٍ ، ثُمَّ بَعَثَ اللّهُ الرُّسُلَ تَدعو العِبادَ إِلَى الإِيمانِ بِهِ ؛ فَمِنهُم مَن هَدَى اللّهُ ، ومِنهُم مَن لَم يَهدِهِ اللّهُ . (2)
عنه عليه السلام :كانَ إِبراهيمُ عليه السلام في شَبيبَتِهِ (3) عَلَى الفِطرَةِ الَّتي فَطَرَ اللّهُ عز و جلالخَلقَ عَلَيها ، حَتّى هَداهُ اللّهُ _ تَبارَكَ وتَعالى _ إِلى دينِهِ وَاجتَباهُ . (4)
عنه عليه السلام_ في صِفَةِ اللّهِ سُبحانَهُ _: عارِفٌ بِالمَجهولِ ، مَعروفٌ عِندَ كُلِّ جاهِلٍ . (5)
عنه عليه السلام_ لِلمُفَضَّلِ بنِ عُمَرَ _: فَكِّر يا مُفَضَّلُ ، فيما أُعطِيَ الإِنسانُ عِلمَهُ وما مُنِعَ ؛ فَإِنَّهُ أُعطِيَ عِلمَ جَميعِ ما فيهِ صَلاحُ دينِهِ ودُنياهُ ؛ فَمِمّا فيهِ صَلاحُ دينِهِ مَعرِفَةُ الخالِقِ
.
ص: 53
_ تَبارَكَ وتَعالى _ بِالدَّلائِلِ وَالشَّواهِدِ القائِمَةِ فِي الخَلقِ ، ومَعرِفَةُ الواجِبِ عَلَيهِ مِنَ العَدلِ عَلَى النّاسِ كافَّةً ، وبِرَّ الوالِدَينِ ، وأَداءِ الأَمانَةِ ، ومُؤاساةِ أهلِ الخَلَّةِ (1) ، وأَشباهِ ذلِكَ مِمّا قَد توجَدُ مَعرِفَتُهُ وَالإِقرارُ وَالاِعتِرافُ بِهِ فِي الطَّبعِ وَالفِطرَةِ مِن كُلِّ أُمَّةٍ مُوافِقَةٍ أو مُخالِفَةٍ . (2)
عنه عليه السلام :قالَ موسى بنُ عِمرانَ عليه السلام : يا رَبِّ ، أيُّ الأَعمالِ أَفضَلُ عِندَكَ ؟ فَقالَ : حُبُّ الأَطفالِ ؛ فَإِنّي فَطَرتُهُم عَلى تَوحيدي ؛ فَإِن أَمَتُّهُم أَدخَلتُهُم بِرَحمَتي جَنّتي . (3)
الإمام الرضا عليه السلام :بِصُنعِ اللّهِ يُستَدَلُّ عَلَيهِ ، وبِالعُقولِ تُعتَقَدُ مَعرِفَتُهُ ، وبِالفِطرَةِ تَثبُتُ حُجَّتُهُ . (4)
راجع : ص21 (اللّهُ عزّ وجلّ) و59 (الميثاقُ الفِطريُّ) و62 (تجلّي الفطرة عند الشَّدائِد) .
.
ص: 54
. .
ص: 55
توضيح حول فطرة معرفة اللّهإِنّ أوّل مبدأ لمعرفة اللّه هو فطرة الإنسان وجبلّته. وتنقسم الآيات والأَحاديث التي تدلّ على هذا المفهوم _ كما لوحظ في الفصل الثالث _ إِلى ثلاثة طوائف ، هي : الطائفة الأُولى : الآيات والأَحاديث الدالّة على أنّ معرفة اللّه أُودعت في سرائر الناس جميعا بشكل شعور فطريّ . وقد وردت صفوة هذه الآيات والأحاديث في الحديث النبويّ الشريف : «كُلُّ مَولودٍ يولَدُ عَلَى الفِطرَةِ ، يَعني عَلَى المَعرِفَةِ بِأَنَّ اللّهَ عز و جل خالِقُهُ» (1) . الطائفة الثانية : النصوص الدالّة على أنّ اللّه سبحانه أخذ الميثاق من الناس قاطبةً على ربوبيّته قبل ولادتهم ، كقوله تعالى: «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا» (2) . سأَل زُرارةُ _ وهو من أجلّاء أصحاب الإمام الصادق عليه السلام _ الإمامَ عن كيفيّة أخذ
.
ص: 56
اللّه الإقرارَ بربوبيّته من جميع الناس ، فقال عليه السلام : «ثَبَتَتِ المَعرِفَةُ في قُلوبِهِم» . وقد جاء في بعض الأَخبار: «أثبَتَ المَعرِفَةَ في قُلوبِهِم» (1) . و عن ابن مسكان عن أَبي عبد اللّه عليه السلام في قَولِهِ تَعالى : «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى» قال : قُلتُ : مُعايَنَةً كانَ هذا ؟ قالَ عليه السلام : نَعَم ، فَثَبَتَتِ المَعرِفَةُ ونَسُوا المَوقِفَ وسَيَذكُرونَهُ ، ولَولا ذلِكَ لَم يَدرِ أَحَدٌ مَن خالِقُهُ ورازِقُهُ ، فَمِنهُم مَن أَقَرَّ بِلِسانِهِ فِي الذَّرِّ ولَم يُؤمِن بِقَلبِهِ ، فَقالَ اللّهُ : «فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ» (2) . (3) الجدير بالذكر أنّه يمكن تفسير الآيات والأَحاديث التي تناولت بيان الميثاق الفطريّ بتفسيرين : 1 . أن يكون ظاهر هذه الآيات والأَحاديث مشيرا إِلى مرحلةٍ من حياة البشر قبل نشأة الدنيا إِذ عرّف اللّه فيها نفسه لجميع الناس وخاطبهم: «ألستُ بربّكم» ؟ ، فأجابوا كلّهم: «بَلَى» ، واعترفوا بربوبيّته . هكذا انعقد ميثاق بين الإنسان وربّه يُدعى الميثاق الفطريّ ، ويتمثّل أثر هذا الميثاق في المعرفة القلبيّة للإنسان باللّه ، وتتجلّى هذه المعرفة في ظروف خاصّة ،
.
ص: 57
وإِن لم يذكر أحد خصوصيات موقف الميثاق ، كما قال الإمام الصادق عليه السلام في تبيان آية الميثاق: «ثَبَتَت المَعرِفَةُ ونَسُوا المَوقِفَ وسَيَذكُرونَهُ ، ولَولا ذلِكَ لَم يَدرِ أحَدٌ مَن خالِقُهُ و رازِقُهُ» (1) . 2 . أنّ المقصود من السؤال والجواب والميثاق هو غير المتداوَل منها ، وإنّما هو ميثاق فطرة الإنسان مع اللّه تعالى ، واعترافه بربوبيّة اللّه الأَحد هو تلك المعرفة التي أَودعها اللّه في فطرة البشر وثبّتها . الطائفة الثالثة : النصوص التي تدلّ على أنّ طبيعة الإنسان بنحو أنّه إِذا مُنيَ بربقة المصائب والشدائد زالت موانع المعرفة من بصيرته وفي هذه الحالة يشعر بكلّ وجوده حقيقة اللّه سبحانه وتعالى ، ويمدّ يد الفاقة إِلى ذلك الغنيّ. ومحصّلة الآيات القرآنيّة في هذا المجال وردت في كلام نورانيّ للإمام العسكريّ عليه السلام ، فقد قال سلام اللّه عليه: «اللّهُ ، هُوَ الَّذي يَتَأَلَّهُ إِلَيهِ عِندَ الحَوائِجِ والشَّدائِدِ كُلُّ مَخلوقٍ عِندَ انقِطاعِ الرَّجاءِ مِن كُلِّ مَن هُوَ دونَهُ ، وتَقَطُّعِ الأسبابِ مِنَ جَميعِ ما سِواهُ» (2) .
معنى فطرة معرفة اللّهلهذه الفطرة معنيان: الفطرة العقليّة ، والفطرة القلبيّة . إِنّ القصد من فطرة معرفة اللّه العقليّة هو : أنّ اللّه سبحانه خلق عقل الإنسان بشكل يكون التوجّه إِلى الوجود والنظام المسيطر عليه باعثا على إِيجاد الاعتقاد بوجود اللّه ذاتيّا وبلا حاجة إِلى الاستدلال .
.
ص: 58
أمّا الفطرة القلبية لمعرفة اللّه تعني : أنّ اللّه سبحانه قد جعل معرفته في قلب الإنسان وروحه بحيث لو ارتفعت الحجب وأُزيلت الحواجز ، تجلّت تلك المعرفة الأصيلة ، فيجد الإنسان نفسه في رحاب الخالق . بناءً على هذا ، فإنّ التفاوت بين المعرفة الفطريّة العقليّة والقلبيّة ، كالفرق بين العلم والوجدان ، أو بتعبير نصّ الروايات كالفرق بين الإيمان واليقين .
أَوضح براهين التوحيد الفطريّإِنّ القسم الثالث من النصوص التي أُشير إِليها تبيّن أَوضح البراهين التجربيّة على التوحيد الفطريّ ، وقد استند إِليها القرآن مرارا لتعريف اللّه تعالى كحقيقة يعرفها الإنسان ذاتيّا ويجد نفسه محتاجا إِليها . إِنّ التجربة تدلّ على أنّ مشكلات الحياة إِذا ألمّت بالإنسان ، وعجزت كلّ السبل والحِيَل عن حلّها وعلاجها ، أزالت يد البلاء القويّة حجب المعرفة ، وحينئذٍ يغدو الناس جميعا حتّى المنكرون للّه عارفين باللّه مستمدّينه في أُمورهم .
.
ص: 59
3 / 1 _ 1الميثاقُ الفِطرِيُّالكتاب«وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَ_مَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَ_ذَا غَ_فِلِينَ » . (1)
«أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَ_بَنِى ءَادَمَ أَن لَا تَعْبُدُواْ الشَّيْطَ_نَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَ أَنِ اعْبُدُونِى هَ_ذَا صِرَ طٌ مُّسْتَقِيمٌ » . (2)
الحديثتفسير العيّاشي عن زرارة :سَأَلتُ أبا جَعفَرٍ عليه السلام عَن قَولِ اللّهِ : «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءَادَمَ» إِلى قوله : «أَنفُسِهِمْ» . قالَ : أَخرَجَ اللّهُ مِن ظَهرِ آدَمَ ذُرِّيَّتَهُ إِلى يَومِ القِيامَةِ ، فَخَرَجوا وهُم كَالذَّرِّ (3) ، فَعَرَّفَهُم نَفسَهُ وأَراهُم نَفسَهُ ، ولَولا ذلِكَ ما عَرَفَ أَحَدٌ رَبَّهُ ، وذلِكَ قَولُهُ : «وَ لَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» (4) . (5)
الإمام الباقر عليه السلام_ في قَولِهِ تَعالى : «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءَادَمَ» إِلى قَولِهِ : «شَهِدْنَا» _: ثَبَتَتِ المَعرِفَةُ ونَسُوا المَوقِفَ وسَيَذكُرونَهُ ، ولَولا ذلِكَ لَم يَدرِ أحَدٌ مَن خالِقُهُ ولا مَن رازِقُهُ . (6)
.
ص: 60
تفسير العيّاشي عن أبي بصير :قُلتُ لِأَبي عَبدِ اللّهِ عليه السلام : أَخبِرني عَن الذَّرِّ حَيثُ أَشهَدَهُم عَلى أَنفُسِهِم ، «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى» ، وأَسَرَّ بَعضَهُم خِلافَ ما أظهَرَ ، فَقُلتُ : كَيفَ عَلِمُوا القَولَ حَيثُ قيلَ لَهُم : أَلَستُ بِرَبِّكُم ؟ قالَ : إِنَّ اللّهَ جَعَلَ فيهِم ما إِذا سَأَلَهُم أجابوهُ . (1)
تفسير العيّاشي عن أبي بصير عن الإمام الصادق عليه السلام_ في قَولِهِ تَعالى : «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى» _: قالوا بِأَلسِنَتِهِم ؟ قالَ : نَعَم ، وقالوا بِقُلوبِهِم . فَقُلتُ : وأيُّ شَيءٍ كانوا يَومَئِذٍ ؟ قالَ : صَنَعَ مِنهُم ما اكتَفى بِهِ . (2)
الإمام الصادق عليه السلام_ في قَولِهِ تَعالى : «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ» _: كانَ ذلِكَ مُعايَنَةً للّهِِ ، فَأَنساهُمُ المُعايَنَةَ وأَثبَتَ الإِقرارَ في صُدورِهِم ، ولَولا ذلِكَ ما عَرَفَ أَحَدٌ خالِقَهُ ولا رازِقَهُ ، وهُوَ قَولُ اللّهِ : «وَ لَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» (3) . (4)
تفسير القمّي عن ابن مسكان عن الإمام الصادق عليه السلام_ في قَولِهِ تَعالى : «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى» قال: قُلتُ : مُعايَنَةً كانَ هذا ؟
.
ص: 61
قالَ : نَعَم ، فَثَبَتَتِ المَعرِفَةُ ونَسُوا المَوقِفَ وسَيَذكُرونَهُ ، ولَولا ذلِكَ لَم يَدرِ أحَدٌ مَن خالِقُهُ ورازِقُهُ ، فَمِنهُم مَن أقَرَّ بِلِسانِهِ فِي الذَّرِّ ولَم يُؤمِن بِقَلبِهِ ، فَقالَ اللّهُ : «فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ» (1) . (2)
تفسير العيّاشي عن زرارة :سَأَلتُ أبا عَبدِ اللّهِ عليه السلام عَن قَولِ اللّهِ : «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ» إِلى قَولِهِ : «قَالُواْ بَلَى» . قالَ : كانَ مُحَمَّدٌ عَلَيهِ وآلِهِ السَّلامُ أوَّلَ مَن قالَ: بَلى . قُلتُ : كانَت رُؤيَةً مُعايَنَةً ؟ قالَ : فَأَثبَتَ المَعرِفَةَ في قُلوبِهِم ونَسوا ذلِكَ الميثاقَ ، وسَيَذكُرونَهُ بَعدُ ، ولَولا ذلِكَ لَم يَدرِ أَحَدٌ مَن خالِقُهُ ولا مَن رازِقُهُ . (3)
المحاسن عن زرارة :سَألتُ أبا عَبدِاللّهِ عليه السلام عَن قَولِ اللّهِ : «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى» . قالَ : ثَبَتَتِ المَعرِفَةُ في قُلوبِهِم ، ونَسُوا المَوقِفَ ، وسَيَذكُرونَهُ يَوما مّا ، ولَولا ذلِكَ لَم يَدرِ أَحَدٌ مَن خالِقهُ ولا مَن رازِقهُ (4) .
الإمام الصادق عليه السلام :نَحنُ نَحمَدُ اللّهَ عَلَى النِّعَمِ السّابِغَةِ وَالحُجَجِ البالِغَةِ ، وَالبَلاءِ المَحمودِ عِندَ الخاصَّةِ وَالعامَّةِ ، فَكانَ مِن نِعَمِهِ العِظامِ وآلائِهِ الجِسامِ الَّتيأَنعَمَ بِها تَقريرُهُ قُلوبَهُم بِرُبوبِيَّتِهِ ، وأَخذُهُ ميثاقَهُم بِمَعرِفَتِهِ . (5)
.
ص: 62
3 / 1 _ 2تَجَلِّي الفِطرَةِ عِندَ الشَّدائدِالكتاب«وَ إِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ » . (1)
«وَجَ_وَزْنَا بِبَنِى إِسْرَ ءِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَ_هَ إِلَا الَّذِى ءَامَنَتْ بِهِ بَنُواْ إِسْرَ ءِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ » . (2)
«وَ مَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْ_ئرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ » . (3)
راجع : الزمر : 8 ، 49 ، يونس : 12 ، 22 ، الإسراء : 67 ، العنكبوت : 65 ، الأنعام : 40 ، 41 .
الحديثربيع الأبرار :قالَ رَجُلٌ لِجَعفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ عليهماالسلام : مَا الدَّليلُ عَلَى اللّهِ ؟ ولا تَذكُر لِيَ العالَمَ وَالعَرَضَ وَالجَوهَرَ . فَقالَ لَهُ : هَل رَكِبتَ البَحرَ ؟ قالَ : نَعَم . قالَ : هَل عَصَفَت بِكُمُ الرّيحُ حَتّى خِفتُمُ الغَرقَ ؟ قالَ : نَعَم . قالَ : فَهَلِ انقَطَعَ رَجاؤُكَ مِنَ المَركَبِ وَالمَلّاحينَ ؟ قالَ : نَعَم . قالَ : فَهَل تَتَبَّعَت نَفسُكَ أنَّ ثَمَّ مَن يُنجيكَ ؟ قالَ : نَعَم .
.
ص: 63
قالَ : فَإِنَّ ذاكَ هُوَ اللّهُ ، قالَ اللّهُ تَعالى : «ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَا إِيَّاهُ» (1) ، «إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْ_ئرُونَ» . (2)
راجع : ص21 (اللّه عزّوجلّ) و45 (الفِطْرَة) و59 (الميثاق الفِطْريّ) .
الإمام العسكريّ عليه السلام_ في قَولِ اللّهِ عز و جل : «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَ_نِ الرَّحِيمِ» _: «اللّهُ» هُوَ الّذي يَتَأَلَّهُ إِلَيهِ عِندَ الحَوائِجِ وَالشَّدائِدِ كُلُّ مَخلوقٍ عِندَ انقِطاعِ الرَّجاءِ مِن كُلِّ مَن هُوَ دونَهُ ، وتَقَطُّعِ الأَسبابِ مِن جَميعِ ما سِواهُ . يَقولُ : بِاسمِ اللّهِ أي : أَستَعينُ عَلى أُموري كُلِّها بِاللّهِ الَّذي لا تَحِقُّ العِبادَةُ إِلّا لَهُ ، المُغيثِ إِذَا استُغيثَ ، وَالمُجيبِ إِذا دُعِيَ . وهُوَ ما قالَ رَجُلٌ لِلصَّادِقِ عليه السلام : يَابنَ رَسولِ اللّهِ ، دُلَّني عَلَى اللّهِ ما هُوَ ؟ فَقَد أكثَرَ عَلَيَّ المُجادِلونَ وحَيَّروني . فَقالَ لَهُ : يا عَبدَ اللّه ، هَل رَكِبتَ سَفينَةً قَطُّ ؟ قالَ : نَعَم . قالَ : فَهَل كُسِرَ بِكَ حَيثُ لا سَفينَةَ تُنجيكَ ولا سِباحَةَ تُغنيكَ ؟ قالَ : نَعَم . قالَ : فَهَل تَعَلَّقَ قَلبُكَ هُنالِكَ أنَّ شَيئا مِنَ الأَشياءِ قادِرٌ عَلى أن يُخَلِّصَكَ مِن وَرطَتِكَ ؟ فَقالَ : نَعَم . قالَ الصَّادِقُ عليه السلام : فَذلِكَ الشَّيءُ هُوَ اللّهُ القادِرُ عَلَى الإِنجاءِ حَيثُ لا مُنجِيَ ، وعَلَى الإغاثَةِ حَيثُ لا مُغيثَ . ثُمَّ قالَ الصّادِقُ عليه السلام : ولَرُبَّما تَرَكَ بَعضُ شيعَتِنا فِي افتِتاح أمرِهِ بِسمِ اللّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ ، فَيَمتَحِنُهُ اللّهُ بِمَكروهٍ لِيُنَبِّهَهُ عَلى شُكرِ اللّهِ _ تَبارَكَ وتَعالى _ وَالثَّناءِ عَلَيهِ ، ويَمحَقَ عَنهُ وَصمَةَ تَقصيرِهِ عِندَ تَركِهِ قَولَ: بِسمِ اللّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ .
.
ص: 64
قالَ : وقامَ رَجُلٌ إِلى عَلِيِّ بنِ الحُسَينِ عليهماالسلام فَقالَ : أَخبِرني عَن مَعنى «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَ_نِ الرَّحِيمِ» . فَقالَ عَلِيُّ بنُ الحُسَينِ عليهماالسلام : حَدَّثَني أَبي عَن أَخيهِ الحَسَنِ عَن أَبيهِ أميرِالمُؤمِنينَ عليه السلام : أنَّ رَجُلاً قامَ إِلَيهِ فَقالَ : يا أَميرَ المُؤمِنينَ ، أَخبِرني عَن «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَ_نِ الرَّحِيمِ» ما مَعناهُ ؟ فَقالَ : إِنَّ قَولَكَ : «اللّه » أَعظَمُ اسمٍ مِن أَسماءِ اللّهِ عز و جل ، وهُوَ الاِسمُ الَّذي لا يَنبَغي أن يُسَمّى بِهِ غَيرُ اللّهِ ، ولَم يَتَسَمَّ بِهِ مَخلوقٌ . فَقالَ الرَّجُلُ : فَما تَفسيرُ قَولِهِ : «اللّه » ؟ قالَ : هُوَ الَّذي يَتَأَلَّهُ إِلَيهِ عِندَ الحَوائِجِ وَالشَّدائِدِ كُلُّ مَخلوقٍ عِندَ انقِطاعِ الرَّجاءِ مِن جَميعِ مَن هُوَ دونَهُ ، وتَقَطُّعِ الأَسبابِ مِن كُلِّ مَن سِواهُ ، وذلِكَ أنَّ كُلَّ مُتَرَئِّسٍ في هذِهِ الدُّنيا ومُتَعَظِّمٍ فيها وإِن عَظُمَ غِناؤُهُ وطُغيانُهُ وكَثُرَت حَوائِجُ مَن دَونَهُ إِلَيهِ ؛ فَإِنَّهُم سَيَحتاجونَ حَوائِجَ لا يَقدِرُ عَلَيها هذَا المُتَعاظِمُ ، وكَذلِكَ هذَا المُتَعاظِمُ يَحتاجُ حَوائِجَ لا يَقدِرُ عَلَيها ، فَيَنقَطِعُ إِلَى اللّهِ عِندَ ضَرورَتِهِ وفاقَتِهِ ، حَتّى إِذا كَفى هَمَّهُ عادَ إِلى شِركِهِ ، أما تَسمَعُ اللّهَ عز و جل : «قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَ_دِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ» . (1) فَقالَ اللّهُ عز و جل لِعِبادِهِ: أَيُّهَا الفُقَراءُ إِلى رَحمَتي، إِنّي قَد أَلزَمتُكُمُ الحاجَةَ إِلَيَّ في كُلِّ حالٍ، وذِلَّةَ العُبودِيَّةِ في كُلِّ وَقتٍ، فَإِلَيَّ فَافزَعوا في كُلِّ أمرٍ تَأخُذونَ فيهِ ، وتَرجونَ تَمامَهُ وبُلوغَ غايَتِهِ ؛ فَإِنّي إِن أَرَدتُ أن أُعطِيَكُم لَم يَقدِر غَيري عَلى مَنعِكُم، وإِن أَرَدتُ أن أَمنَعَكُم لَم يَقدِر غَيري عَلى إِعطائِكُم؛ فَأَنَا أحَقُّ مَن سُئِلَ ، وأَولى مَن
.
ص: 65
تُضُرِّعَ إِلَيهِ ، فَقولوا عِندَ افتِتاحِ كُلِّ أَمرٍ صَغيرٍ أو عَظيمٍ : «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَ_نِ الرَّحِيمِ» ، أي أَستَعينُ عَلى هذَا الأَمرِ بِاللّهِ الَّذي لا يَحِقُّ العِبادَةُ لِغَيرِهِ ، المُغيثِ إِذَا استُغيثَ ، المُجيبِ إِذا دُعي . (1)
3 / 2العَقلُ3 / 2 _ 1العَقلُ أوَّلُ الأُمورِ ومَبدَؤهاالكافي عن الحسن بن عمّار عن الإمام الصادق عليه السلام :إِنَّ أوَّلَ الأُمورِ ومَبدَأَها وقُوَّتَها وعِمارَتَهَا الَّتيلايَنتَفِعُ شَيءٌ إِلّا بِهِ العَقلُ الَّذيجَعَلَهُ اللّهُ زينَةً لِخَلقِهِ ونورا لَهُم ، فَبِالعَقلِ عَرَفَ العِبادُ خالِقَهُم وأنَّهُم مَخلوقونَ ، وأنَّهُ المُدَبِّرُ لَهُم وأنَّهُمُ المُدَبَّرونَ ، وأنَّهُ الباقي وهُمُ الفانونَ ، وَاستَدَلّوا بِعُقولِهِم عَلى ما رَأَوا مِن خَلقِهِ ؛ مِن سَمائِهِ وأَرضِهِ ، وشَمسِهِ وقَمَرِهِ ، ولَيلِهِ ونَهارِهِ ، وبِأَنَّ لَهُ ولَهُم خالِقا ومُدَبِّرا لَم يَزَل ولا يَزولُ ، وعَرَفوا بِهِ الحَسَنَ مِنَ القَبيحِ ، وأنَّ الظُّلمَةَ فِي الجَهلِ ، وأنَّ النُّورَ فِي العِلمِ ، فَهذا ما دَلَّهُم عَلَيهِ العَقلُ . قيلَ لَهُ : فَهَل يَكتَفِي العِبادُ بِالعَقلِ دونَ غَيرِهِ ؟ قالَ : إِنَّ العاقِلَ _ لِدَلالَةِ عَقلِهِ الَّذي جَعَلَهُ اللّهُ قِوامَهُ وزينَتَهُ وهِدايَتَهُ _ عَلِمَ أنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ ، وأنَّهُ هُوَ رَبُّهُ ، وعَلِمَ أنَّ لِخالِقِهِ مَحَبَّةً ، وأنَّ لَهُ كَراهِيَةً ، وأنَّ لَهُ طاعَةً ، وأنَّ لَهُ مَعصِيَةً ، فَلَم يَجِد عَقلَهُ يَدُلُّهُ عَلى ذلِكَ ، وعَلِمَ أنَّهُ لا يوصَلُ إِلَيهِ إِلّا بِالعِلمِ وطَلَبِهِ ،
.
ص: 66
وأنَّهُ لا يَنتَفِعُ بِعقلِهِ ، إِن لَم يُصِب ذلِكَ بِعِلمِهِ ، فَوَجَبَ عَلَى العاقِلِ طَلَبُ العِلمِ وَالأَدَبِ الَّذي لا قِوامَ لَهُ إِلّا بِهِ . (1)
الإمام الرضا عليه السلام :بِالعُقولِ يُعتَقَدُ التَّصديقُ بِاللّهِ . (2)
3 / 2 _ 2العاقِلُ لا يَستَطيعُ جَحدَ ما لا يَعرِفُالكافي عن هشام بن الحكم :كانَ بِمِصرَ زِنديقٌ تَبلُغُهُ عَن أَبي عَبدِ اللّهِ عليه السلام أشياءُ ، فَخَرَجَ إِلَى المَدينَةِ لِيُناظِرَهُ ، فَلَم يُصادِفهُ بِها ، وقيلَ لَهُ : إِنَّهُ خارِجٌ بِمَكَّةَ ، فَخَرَجَ إِلى مَكَّهَ ونَحنُ مَعَ أَبي عَبدِ اللّهِ ، فَصادَفَنا ونَحنُ مَعَ أَبي عَبدِ اللّهِ عليه السلام فِي الطَّوافِ _ وكانَ اسمَهُ عَبدُ المَلِكِ وكُنيَتَهُ أَبو عَبدِ اللّهِ _ فَضَرَبَ كِتفَهُ كِتفَ أَبي عَبدِ اللّهِ عليه السلام ، فَقالَ لَهُ أَبو عَبدِ اللّهِ عليه السلام : مَا اسمُكَ ؟ فَقالَ : اسمي عَبدُ المَلِكِ . قالَ : فَما كُنيَتُكَ ؟ قالَ : كُنيَتي أَبو عَبدِ اللّهِ . فَقالَ لَهُ أَبو عَبدِ اللّهِ عليه السلام : فَمَن هذَا المَلِكُ الَّذي أنتَ عَبدُهُ ؟ أمِن مُلوكِ الأَرضِ أم مِن مُلوكِ السَّماءِ ؟ وأَخبِرني عَنِ ابنِكَ عَبدُ إِلهِ السَّماءِ أم عَبدُ إِلهِ الأَرضِ ؟ قُل ما شِئتَ تُخصَمُ ! قالَ هِشامُ بنُ الحَكَمِ : فَقُلتُ لِلزِّنديقِ : أما تَرُدُّ عَلَيهِ؟ قالَ : فَقَبَّحَ قَولي . فَقالَ أَبو عَبدِ اللّهِ : إِذا فَرَغتُ مِنَ الطَّوافِ فَأتِنا . فَلَمّا فَرَغَ أبو عَبدِ اللّهِ أتاهُ الزِّنديقُ فَقَعَدَ بَينَ يَدَي أَبي عَبدِ اللّهِ ونَحنُ مُجتَمِعونَ عِندَهُ ، فَقالَ أَبو عَبدِ اللّهِ عليه السلام لِلزِّنديقِ : أتَعلَمُ أنَّ لِلأَرضِ تَحتا وفَوقا ؟ قالَ : نَعَم .
.
ص: 67
قالَ : فَدَخَلتَ تَحتَها ؟ قالَ : لا . قالَ : فَما يُدريكَ ما تَحتُها ؟ قالَ : لا أَدري إِلّا أنّي أظُنُّ أن لَيسَ تَحتَها شَيءٌ . فَقالَ أَبو عَبدِ اللّهِ عليه السلام : فَالظَّنُّ عَجزٌ ، لِما لا تَستَيقِنُ ؟ ثُمَّ قالَ أَبو عَبدِ اللّهِ : أفَصَعِدتَ السَّماءَ ؟ قالَ : لا . قال : أفَتَدري ما فيها ؟ قالَ : لا . قالَ : عَجَبا لَكَ! لَم تَبلُغِ المَشرِقَ ، ولَم تَبلُغِ المَغرِبَ ، ولَم تَنزِلِ الأَرضَ ، ولَم تَصعَدِ السَّماءَ ، ولَم تَجُز هُناكَ فَتَعرِفَ ما خَلفَهُنَّ ، وأنتَ جاحِدٌ بِما فيهِنَّ ، وهَل يَجحَدُ العاقِلُ ما لا يَعرِفُ ؟! قالَ الزِّنديقُ : ما كَلَّمَني بِهذا أحَدٌ غَيرُكَ! فَقالَ أَبو عَبدِ اللّهِ عليه السلام : فَأَنتَ مِن ذلِكَ في شَكٍّ ؛ فَلَعَلَّهُ هُوَ ، ولَعَلَّهُ لَيسَ هُوَ ؟ فَقالَ الزِّنديقُ : ولَعَلَّ ذلِكَ . فَقالَ أَبو عَبدِاللّهِ عليه السلام : أَيُّهَا الرَّجُلُ، لَيسَ لِمَن لا يَعلَمُ حُجَّةٌ عَلى مَن يَعلَمُ، ولا حُجَّةَ لِلجاهِلِ . يا أَخا أهلِ مِصرَ تَفَهَّم عَنّي، فَإِنّا لا نَشُكُّ فِياللّهِ أبَدا، أما تَرَى الشَّمسَ وَالقَمَرَ وَاللَّيلَ وَالنَّهارَ يَلِجانِ فَلا يَشتَبِهانِ، ويَرجِعانِ قَدِ اضطُرّا لَيسَ لَهُما مَكانٌ إِلّا مَكانَهُما ، فَإِن كانا يَقدِرانِ عَلى أن يَذهَبا فَلِمَ يَرجِعانِ ؟ وإِن كانا غَيرَ مُضطَرَّينِ فَلِمَ لا يَصيرُ اللَّيلُ نَهارا وَالنَّهارُ لَيلاً ؟ أُضطُرّا وَاللّهِ يا أخا أهلِ مِصرَ إِلى دَوامِهِما ، وَالَّذِي اضطَرَّهُما أحكَمُ مِنهُما وأكبَرُ . فَقالَ الزِّنديقُ : صَدَقتَ . (1)
.
ص: 68
3 / 2 _ 3الاِحتِياطُ العَقليُّ فِي العَقائِدِالإمام عليّ عليه السلام_ مِمّا نُقِلَ عَنهُ عليه السلام ، وقيلَ : هُما لِغَيرِهِ _: زَعَمَ المُنَجِّمُ وَالطَّبيبُ كِلاهُما أن لا مَعادَ فَقُلتُ ذاكَ إِلَيكُما إِن صَحَّ قَولُكُما فَلَستُ بِخاسِرٍ أو صَحَّ قَولي فَالوَبالُ عَلَيكُما (1)
عنه عليه السلام_ فِي الدّيوانِ المَنسوبِ إِلَيهِ _: قالَ المُنَجِّمُ وَالطَّبيبُ كِلاهُما لَن يُحشَرَ الأَمواتُ قُلتُ إِلَيكُما (2) إِن صَحَّ قولُكُما فَلَستُ بِخاسِرٍ إِن صَحَّ قَولي فَالخَسارُ إِلَيكُما (3)
الإمام الصادق عليه السلام_ في مُناظَرَتِهِ لِلطَّبيبِ الهِندِيِّ _: قُلتُ : أرَأَيتَ إِن كانَ القَولُ قَولَكَ ، فَهَل يُخافُ عَلَيَّ شَيءٌ مِمّا أُخَوِّفُكَ بِهِ مِن عِقابِ اللّهِ ؟ قالَ : لا . قُلتُ : أفَرَأَيتَ إِن كانَ كَما أَقولُ _ وَالحَقُّ في يَدي _ ألَستُ قَد أَخَذتُ فيما كُنتُ أُحاذِرَ مِن عِقابِ الخالِقِ بِالثِّقَةِ ، وأنَّكَ قَد وَقَعتَ بِجُحودِكَ وإِنكارِكَ فِي الهَلَكَةِ ؟ قالَ : بَلى . قُلتُ : فَأَيُّنا أَولى بِالحَزمِ وأقرَبُ مِنَ النَّجاةِ ؟ قالَ : أنتَ . (4)
الكافي عن أبي منصور المتطبّب :أخبَرَني رَجُلٌ مِن أَصحابي ، قالَ : كُنتُ أنَا وابنُ أبِي العَوجاءِ وعَبدُ اللّهِ بنُ المُقَفَّعِ فِي المَسجِدِ الحَرامِ ، فَقالَ ابنُ المُقَفَّعِ : تَرَونَ
.
ص: 69
هذَا الخَلقَ _ وأومَأَ بِيَدِهِ إِلى مَوضِعِ الطَّوافِ _ ما مِنهُم أحَدٌ أُوجِبُ لَهُ اسمَ الإِنسانِيَّةِ إِلّا ذلِكَ الشَّيخَ الجالِسَ _ يَعني أبا عَبدِ اللّهِ جَعفَرَ بنَ مُحَمَّدٍ عليه السلام _ فَأَمَّا الباقونَ فَرَعاعٌ (1) وبَهائِمُ . فَقالَ لَهُ ابنُ أبِي العَوجاءِ : وكَيفَ أَوجَبتَ هذَا الاِسمَ لِهذَا الشَّيخِ دونَ هؤُلاءِ ؟ قالَ : لِأَنّي رَأَيتُ عِندَهُ ما لَم أرَهُ عِندَهُم . فَقالَ لَهُ ابنُ أَبِي العَوجاءِ : لابُدَّ مِنِ اختِبارِ ما قُلتَ فيهِ مِنهُ . قالَ: فَقالَ لَهُ ابنُ المُقَفَّعِ : لا تَفعَل ؛ فَإِنّي أَخافُ أن يُفسِدَ عَلَيكَ ما في يَدِكَ . فَقالَ : لَيسَ ذا رَأيَكَ ، ولكِنَّكَ تَخافُ أن يَضعُفَ رأيُكَ عِندي في إِحلالِكَ إِيّاهُ المَحَلَّ الَّذي وَصَفتَ . فَقالَ ابنُ المُقَفَّعِ: أمّا إِذا تَوَهَّمتَ عَلَيَّ هذا فَقُم إِلَيهِ ، وتَحَفَّظ مَا استَطَعتَ مِنَ الزَّلَلِ ، ولا تَثنِ عِنانَكَ إِلَى استِرسالٍ فَيُسَلِّمَكَ إِلى عِقالٍ ، وسِمهُ ما لَكَ أو عَلَيكَ . قالَ: فَقامَ ابنُ أَبِي العَوجاءِ، وبَقيتُ أنَا وَابنُ المُقَفَّعِ جالِسَينِ ، فَلَمّا رَجَعَ إِلَينا ابنُ أَبِي العَوجاءِ ، قالَ : وَيلَكَ يَابنَ المُقَفَّعِ ، ما هذا بِبَشَرٍ ! وإِن كانَ فِي الدُّنيا روحانِيٌّ يَتَجَسَّدُ إِذا شاءَ ظاهِرا ويَتَرَوَّحُ إِذا شاءَ باطِنا فَهُوَ هذا ! فَقالَ لَهُ : وكَيفَ ذلِكَ ؟ قالَ : جَلَستُ إِلَيهِ ، فَلَمّا لَم يَبقَ عِندَهُ غَيرِي ابتَدَأَني . فَقالَ : إِن يَكُنِ الأَمرُ عَلى ما يَقولُ هؤُلاءِ _ وهُوَ عَلى ما يَقولونَ ؛ يَعني أهلَ الطَّوافِ _ فَقَد سَلِموا وعَطِبتُم ، وإِن يَكُنِ الأَمرُ عَلى ما تَقولونَ _ ولَيسَ كَما تَقولونَ _ فَقَدِ استَوَيتُم وهُم .
.
ص: 70
فَقُلتُ لَهُ : يَرحَمُكَ اللّهُ ! وأيَّ شَيءٍ نَقولُ؟ وأيَّ شَيءٍ يَقولونَ ؟ ما قَولي وقولُهُم إِلّا واحِدا . فَقالَ : وكَيفَ يَكونُ قَولُكَ وقَولُهُم واحِدا وهُم يَقولونَ : إِنَّ لَهُم مَعادا وثَوابا وعِقابا ، ويَدينونَ بِأَنَّ فِي السَّماءِ إِلها وأنَّها عُمرانٌ ، وأنتُم تَزعُمونَ أنَّ السَّماءَ خَرابٌ لَيسَ فيها أَحَدٌ ؟ (1)
الكافي عن بعض أصحابنا رفعه_ في مُناظَرَةِ الإمامِ الصّادِقِ عليه السلام مَعَ ابنِ أَبِي العَوجاءِ ، قالَ عليه السلام _: أرَأَيتَ لَو كانَ مَعَكَ كيسٌ فيهِ جَواهِرُ، فَقالَ لَكَ قائِلٌ : هَل فِي الكيسِ دينارٌ ؟ فَنَفَيتَ كَونَ الدِّينارِ فِي الكيسِ ، فَقالَ لَكَ : صِف لِيَ الدِّينارَ وكُنتَ غَيرَ عالِمٍ بِصِفَتِهِ ، هَل كانَ لَكَ أن تَنفِيَ كَونَ الدِّينارِ عَنِ الكيسِ وأنتَ لا تَعلَمُ ؟ قالَ : لا . فَقالَ أَبو عَبدِ اللّهِ عليه السلام : فَالعالَمُ أَكبَرُ وأَطوَلُ وأَعرَضُ مِنَ الكيسِ ، فَلَعَلَّ فِي العالَمِ صَنعَةً مِن حَيثُ لا تَعلَمُ صِفَةَ الصَّنعَةِ مِن غَيرِ الصَّنعَةِ ! فَانقَطَعَ عَبدُ الكَريمِ وأَجابَ إِلَى الإِسلامِ بَعضُ أَصحابِهِ ، وبَقِيَ مَعَهُ بَعضٌ . (2)
الكافي عن محمّد بن عبد اللّه الخراسانيّ خادم الرضا عليه السلام :دَخَلَ رَجُلٌ مِنَ الزَّنادِقَةِ عَلى أَبِي الحَسَنِ عليه السلام وعِندَهُ جَماعَةٌ، فَقالَ أَبُو الحَسَنِ عليه السلام : أيُّهَا الرَّجُلُ، أرَأَيتَ إِن كانَ القَولُ قَولَكُم _ ولَيس هُوَ كَما تَقولونَ _ أَلَسنا وإِيّاكُم شَرَعا سَواءً، لايَضُرُّنا ما صَلَّينا وصُمنا وزَكَّينا وأَقرَرنا؟ فَسَكَتَ الرُّجُلُ، ثُمَّ قالَ أَبُو الحَسَنِ عليه السلام : وإِن كانَ القَولُ قَولَنا _ وهُوَ قَولُنا _ أَلَستُم قَد هَلَكتُم ونَجَونا؟ (3)
.
ص: 71
3 / 2 _ 4العَقلُ لا يَستَطيعُ جَحدَ اللّهِالإمام عليّ عليه السلام :الحَمدُ للّهِِ... الَّذي بَطَنَ مِن خَفِيّاتِ الأُمورِ ، وظَهَرَ فِي العُقولِ بِما يُرى في خَلقِهِ مِن عَلاماتِ التَّدبيرِ ، الَّذي سُئِلَتِ الأَنبِياءُ عَنهُ ، فَلَم تَصِفهُ بِحَدٍّ ولا بِبَعضٍ ، بَل وَصَفَتهُ بِفِعالِهِ ودَلَّت عَلَيهِ بِاياتِهِ ، لا تَستَطيعُ عُقولُ المُتَفَكِّرينَ جَحدَهُ ؛ لِأَنَّ مَن كانَتِ السَّماواتُ وَالأَرضُ فِطرَتَهُ وما فيهِنَّ وما بَينَهُنَّ ، وهُوَ الصَّانِعُ لَهُنَّ ؛ فَلا مَدفَعَ لِقُدرَتِهِ . (1)
عنه عليه السلام_ في بَيانِ عَظَمَةِ اللّهِ جَلَّ و عَلا _: وأرانا مِن مَلَكوتِ قُدرَتِهِ ، وعَجائِبِ ما نَطَقَت بِهِ آثارُ حِكمَتِهِ، وَاعتِرافِ الحاجَةِ مِنَ الخَلقِ إِلى أن يُقيمَها بِمِساكِ (2) قُوَّتِهِ ، ما دَلَّنا بِاضطِرارِ قِيامِ الحُجَّةِ لَهُ عَلى مَعرِفَتِهِ ، فَظَهَرَتِ البَدائِعُ الَّتي أحدَثَتها آثارُ صَنعَتِهِ وأَعلامُ حِكمَتِهِ، فَصار كُلُ ما خَلَقَ حُجَّةً لَهُ ودَليلاًعَلَيهِ؛ وإِن كانَ خَلقا صامِتا ، فَحُجَّتُهُ بِالتَّدبيرِ ناطِقَةٌ ، ودَلالَتُهُ عَلَى المُبدِعِ قائِمَةٌ . (3)
عنه عليه السلام :الحَمدُ للّهِِ الَّذي بَطَنَ خَفِيّاتِ الأُمورِ ، ودَلَّت عَلَيهِ أَعلامُ الظُّهورِ ، وَامتَنَعَ عَلى عَينِ البَصيرِ ؛ فَلا عَينُ مَن لَم يَرَهُ تُنكِرُه ، ولا قَلبُ مَن أثبَتَهُ يُبصِرُهُ . . . فَهُوَ الَّذي تَشهَدُ لَهُ أَعلامُ الوُجودِ عَلى إِقرارِ قَلبِ ذي الجُحُودِ . (4)
الإمام زين العابدين عليه السلام :الحَمدُ للّهِِ ... ذِي المِنَنِ الَّتي لا يُحصيهَا العادّونَ ، وَالنِّعَمِ
.
ص: 72
الَّتي لا يُجازيهَا المُجتَهِدونَ ، وَالصَّنائِعِ الَّتي لا يَستَطيعُ دَفعَها الجاحِدونَ ، وَالدَّلائِلِ الَّتي يَستَبصِرُ بِنورِهَا المَوجودونَ . (1)
راجع : ص117 (الباب الأوّل : جوامع آيات معرفة اللّه في الخلقة) .
3 / 3القلب3 / 3 _ 1رُؤيَةُ اللّهِ بِالقَلبِالكتاب«مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى» . (2)
الحديثمجمع البيان عن أبي ذرّ وأبي سعيد الخدري :إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله سُئِلَ عَن قَولِهِ : «مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى» . قالَ : رَأيتُ نُورا . (3)
التوحيد عن محمّد بن الفضيل :سَأَلتُ أَبَا الحَسَنِ عليه السلام : هَل رَأى رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله رَبَّهُ عز و جل ؟ فَقالَ : نَعَم بِقَلبِهِ رَآهُ ، أما سَمِعتَ اللّهَ عز و جل يَقولُ : «مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى» أي لَم يَرَهُ بِالبَصَرِ ، ولكِن رَآهُ بِالفُؤادِ . (4)
.
ص: 73
رسول اللّه صلى الله عليه و آله :أسأ لَكُ بِالاِسمِ الَّذي فَتَقتَ بِهِ رَتقَ عَظيمِ جُفونِ عُيونِ النّاظِرينَ ، الَّذي بِهِ تَدبيرُ حِكمَتِكَ وشَواهِدُ حُجَجِ أَنبِيائِكَ ، يَعرِفونَكَ بِفِطَنِ القُلوبِ ، وأنتَ في غَوامِضِ مُسَرّاتِ سَريراتِ الغُيوبِ . (1)
عنه صلى الله عليه و آله :يا مَن لا يَبعُدُ عَن قُلوبِ العارِفينَ. (2)
السنن الكبرى عن أبي ذرّ :رَأى النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله رَبَّهُ تَبارَكَ وتَعالى بِقَلبِهِ ولَم يَرَهُ بِبَصَرِهِ . (3)
رسول اللّه صلى الله عليه و آله :رَأَيتُ رَبّي عز و جل لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ . (4)
عنه صلى الله عليه و آله :رَأَيتُ رَبّي _ تَبارَكَ وتَعالى _ . (5)
صحيح مسلم عن أبي ذرّ :سَأَلتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله : هَل رَأَيتَ رَبَّكَ ؟ قالَ : نورٌ ، أنّى (6) أَراهُ؟ (7)
.
ص: 74
صحيح مسلم عن عبد اللّه بن شقيق :قُلتُ لِأَبي ذَرٍّ : لَو رَأيتُ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله لَسَأَلتُهُ . فَقالَ : عَن أيِّ شَيءٍ كُنتَ تَسأَلُهُ ؟ قالَ : كُنتُ أسأَلُهُ : هَل رَأَيتَ رَبَّكَ ؟ قالَ أَبو ذَرٍّ : قَد سَأَلتُ ، فَقالَ : رَأَيتُ نورا . (1)
مجمع البيان عن أبي العالية :سُئِلَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله هَل رَأَيتَ رَبَّكَ لَيلَةَ المِعراجِ؟ قالَ : رَأَيتُ نَهرا، ورَأَيتُ وَراءَ النَّهرِ حِجابا ، ورَأَيتُ وَراءَ الحِجابِ نورا لَم أرَ غَيرَ ذلِكَ . (2)
الإمام الرضا عليه السلام :قالَ : رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : لَمّا أُسرِيَ بي إِلَى السَّماءِ ، بَلَغَ بي جَبرَئيلُ مَكانا لَم يَطَأهُ قَطُّ جَبرَئيلُ . فَكُشِفُ لَهُ ، فَأَراهُ اللّهُ مِن نورِ عَظَمَتِهِ ما أَحَبَّ . (3)
التوحيد عن مرازم عن الإمام الصادق عليه السلام :سَمِعتُهُ يَقولُ: رَأى رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله رَبَّهُ عز و جل . يَعني بِقَلبِهِ . (4)
الإمام عليّ عليه السلام :ما رَأَيتُ شَيئا إِلّا وقَد رَأَيتُ اللّهَ قَبلَهُ (5) .
عنه عليه السلام :لَم أَعبُد رَبّا لَم أَرَهُ ، ما رَأَيتُ شَيئا إِلّا ورَأَيتُ اللّهَ فيهِ أو قَبلَهُ أو مَعَهُ (6) .
عنه عليه السلام_ في مُناظَرَتِهِ لِليَهودِيِّ الشَّامِيِّ ، وقَد قالَ لَهُ : فَإنَّ هذا سُلَيمانُ أُعطِيَ مُلكا
.
ص: 75
لا يَنبَغي لِأَحَدٍ مِن بَعدِهِ! _: لَقد كانَ كَذلِكَ ، ومُحَمَّدٌ صلى الله عليه و آله أُعطِيَ ما هُوَ أَفضَلُ مِن هذا ؛ إِنَّهُ أُسرِيَ بِهِ مِنَ المَسجِدِ الحَرامِ إِلَى المَسجِدِ الأَقصى مَسيرَةَ شَهرٍ ، وعُرِجَ بِهِ فِي مَلَكوتِ السَّماواتِ مَسيرَةَ خَمسينَ ألفَ عامٍ ، في أَقَلَّ مِن ثُلثِ لَيلَةٍ ، حَتَّى انتَهى إِلى ساقِ العَرشِ ، فَدَنا بِالعِلمِ فَتَدَلّى فَدُلِّيَ لَهُ مِنَ الجَنَّةِ رَفرَفٌ أخضَرُ ، وغَشِيَ النُّورُ بَصَرَهُ ، فَرَأى عَظَمَةَ رَبِّهِ عز و جلبِفُؤادِهِ ولَم يَرَها بِعَينِهِ ، فَكان كَقابِ قَوسَينِ بَينَهُ وبَينَها أو أدنى . (1)
عنه عليه السلام_ مِن دُعاءٍ عَلَّمَهُ نَوفا البِكالِيَّ _: إِلهي تَناهَت أَبصارُ النّاظِرينَ إِلَيكَ بِسَرائِرِ القُلوبِ ، وطالَعَت أَصغَى السّامِعينَ لَكَ نَجِيّاتِ الصُّدورِ ، فَلَم يَلقَ أَبصارُهُم رَدّا دونَ ما يُريدونَ ، هَتَكتَ بَينَكَ وبَينَهُم حُجُبَ الغَفلَةِ ، فَسَكَنوا في نورِكَ ، وتَنَفَّسوا بِروحِكَ . (2)
الإمام الحسين عليه السلام_ مِن دُعائِهِ يَومَ عَرَفَةَ _: أنتَ الَّذي أَشرَقتَ الأَنوارَ في قُلوبِ أولِيائِكَ ، حَتّى عَرَفوكَ ووَحَّدوكَ . (3)
عنه عليه السلام_ مِن دُعائِهِ يَومَ عَرَفَةَ _: كَيفَ يُستَدَلُّ عَلَيكَ بِما هُوَ في وُجودِهِ مُفتَقِرٌ إِلَيك ، أيَكونُ لِغَيرِكَ مِنَ الظُّهورِ ما لَيسَ لَكَ حَتّى يَكونَ هُوَ المُظهِرُ لَكَ؟ مَتى غِبتَ حَتّى تَحتاجَ إِلى دَليلٍ يَدُلُّ عَلَيكَ؟! ومَتى بَعُدتَ حَتّى تَكونَ الآثارُ هِيَ الَّتي توصِلُ إِلَيكَ؟! عَمِيَت عَينٌ لا تَراكَ عَلَيها رَقيبا ، وخَسِرَت (4) صَفقَةُ عَبدٍ لَم تَجعَل لَهُ مِن حُبِّكَ نَصيبا . إِلهي أَمَرتَ بِالرُّجوعِ إِلَى الآثارِ فَأَرجِعني إِلَيكَ بِكَسوَةِ الأَنوارِ وهِدايَةِ
.
ص: 76
الاِستِبصارِ ، حَتّى أَرجِعَ إِلَيكَ مِنها كَما دَخَلتُ إِلَيكَ مِنها ، مَصونَ السِّرِّ عَنِ النَّظَرِ إِلَيها ، ومَرفوعَ الهِمَّةِ عَنِ الاِعتِمادِ عَلَيها ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ . (1)
الإمام زين العابدين عليه السلام :لَيسَ بَينَ اللّهِ وبَينَ حُجَّتِهِ حِجابٌ ، فَلا (2) للّهِِ دونَ حُجَّتِهِ سِترٌ . (3)
الكافي عن يعقوب بن إسحاق :كَتَبتُ إِلى أَبي مُحَمَّدٍ عليه السلام . . . وسَأَلتُهُ : هَل رَأى رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله رَبَّهُ ؟ فَوَقَّعَ عليه السلام : إِنَّ اللّهَ _ تَبارَكَ وتَعالى _ أرى رَسولَهُ بِقَلبِهِ مِن نورِ عَظَمَتِهِ ما أَحَبَّ . (4)
3 / 3 _ 2مَعنى رُؤيَةِ اللّهِ بِالقَلبِالإمام الصادق عليه السلام :بَينا أَميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام يَخطُبُ عَلى مِنبَرِ الكوفَةِ ، إِذ قامَ إِلَيهِ رَجُلٌ يُقالُ لَهُ ذِعلِبٌ ، ذو لِسانٍ بَليغٍ فِي الخُطَبِ شُجاعُ القَلبِ ، فَقالَ : يا أَميرَ المُؤمِنينَ هَل رَأَيتَ رَبَّكَ؟ قالَ : وَيلَكَ يا ذِعلِبُ ، ما كُنتُ أَعبُدُ رَبّا لَم أَرَهُ . فَقالَ : يا أَميرَ المُؤمِنينَ كَيفََرأَيتَهُ؟ قالَ : وَيلَكَ يا ذِعلِبُ ، لَم تَرَهُ العُيوُن بِمُشاهَدَةِ الأَبصارِ ولكِن رَأَتهُ القُلوبُ بِحَقائِقِ الإِيمانِ ، وَيلَكَ يا ذِعلِبُ ، إِنَّ رَبّي لَطيفُ اللَّطافَةِ لا يُوصَفُ بِاللُّطفِ ، عَظيمُ العَظَمَةِ لا يُوصَفُ بالعِظَمِ ، كَبيرُ الكِبرِياءِ لا يُوصَفُ بِالكِبَرِ ، جَليلُ الجَلالَةِ لا يُوصَفُ بِالغِلَظِ ،
.
ص: 77
قَبلَ كُلِّ شَيءٍ لا يُقالُ شَيءٌ قَبلَهُ ، وبَعدَ كُلِّ شَيءٍ لا يُقالُ لَهُ بَعدٌ ، شاءَ الأَشياءَ لا بِهِمَّةٍ ، دَرّاكٌ (1) لا بِخَديعَةٍ فِي الأَشياءِ كُلِّها ، غَيرُ مُتَمازِجٍ بِها ولا بائِنٌ مِنها ، ظاهِرٌ لا بِتَأويلِ المُباشَرَةِ ، مُتَجَلٍّ (2) لا بِاستِهلالِ رُؤيَةٍ ، ناءٍ لا بِمَسافَةٍ ، قَريبٌ لا بِمُداناةٍ . (3)
عنه عليه السلام :إِنَّ رَجُلاً مِنَ اليَهودِ أتى أَميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام فَقالَ : يا عَليُّ ، هَل رَأيتَ رَبَّكَ؟ فَقالَ: ما كُنتُ بِالَّذي أَعبُدُ إِلها لَم أَرَهُ . ثُمَّ قالَ: لَم تَرَهُ العُيونُ في مُشاهَدَةِ الأَبصارِ ، غَيرَ أنَّ الإيمانَ بِالغَيبِ بَينَ عَقدِ القُلوبِ . (4)
الكافي عن سنان :حَضَرتُ أبا جَعفَرٍ عليه السلام ، فَدَخَلَ عَلَيهِ رَجُلٌ مِنَ الخَوارِجِ ، فَقالَ لَهُ : يا أبا جَعفَرٍ ، أيَّ شَيءٍ تَعبُدُ ؟ قالَ : اللّهَ تَعالى . قالَ : رَأَيتَهُ ؟ قالَ : بَل لَم تَرَهُ العُيونُ بِمُشاهَدَةِ الأَبصارِ ، ولكِن رَأَتهُ القُلوبُ بِحَقائِقِ الإِيمانِ . (5)
تاريخ دمشق عن المدائني :بَينَما مُحَمَّدُ بنُ عَلِيِّ بنِ الحُسَينِ في فِناءِ الكَعبَةِ ، فَإِذا أَعرابِيٌّ فَقالَ لَهُ : هَل رَأَيتَ اللّهَ حَيثُ عَبَدتَهُ ؟
.
ص: 78
فَأَطرَقَ وأَطرَقَ مَن كانَ حَولَهُ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ إِلَيهِ فَقالَ : ما كُنتُ لِأَعبُدَ شَيئا لَم أرَهُ . فَقالَ : وكَيفَ رَأَيتَهُ ؟ قالَ : لَم تَرَهُ الأَبصارُ بِمُشاهَدَةِ العِيانِ ، ولكِن رَأَتهُ القُلوبُ بِحَقائِقِ الإِيمانِ ، لا يُدرَكُ بِالحَواسِّ ، ولا يُقاسُ بِالنَّاسِ ، مَعروفٌ بِالآياتِ ، مَنعوتٌ بِالعَلاماتِ ، لا يَجورُ في قَضِيَّتِهِ ، بانَ مِنَ الأَشياءِ وبانَتِ الأَشياءُ مِنهُ «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ» ، ذلِكَ اللّهُ لا إِلهَ إِلّا هُوَ . فَقالَ الأَعرابِيُّ : اللّهُ أَعلَمُ حَيثُ يَجعَلُ رِسالاتِهِ . (1)
كفاية الأثر عن هشام :كُنتُ عِندَ الصّادِقِ جَعفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ عليهماالسلام إِذ دَخَلَ عَلَيهِ مُعاوِيَةُ بنُ وَهَبٍ ، وعَبدُ المَلِكِ بنُ أَعيَنَ ، فَقالَ لَهُ مُعاوِيَةُ بنُ وَهَبٍ : يَاابنَ رَسولِ اللّهِ ، ما تَقولُ فِي الخَبَرِ الَّذي رُوِيَ أنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله رَأى رَبَّهُ ، عَلى أيِّ صورَةٍ رَآهُ ؟ وعَنِ الحَديثِ الَّذي رَوَوهُ أنَّ المُؤمِنينَ يَرَونَ رَبَّهُم فِي الجَنَّةِ ، عَلى أيِّ صورَةٍ يَرَونَهُ ؟ فَتَبَسَّمَ عَلَيهِ السَّلامُ ، ثُمَّ قالَ : يا فُلانُ ، ما أقبَحَ بِالرَّجُلِ يَأتي عَلَيهِ سَبعونَ سَنَةً ، أو ثَمانونَ سَنَةً ، يَعيشُ في مِلكِ اللّهِ ، ويَأكُلُ مِن نِعَمِهِ ، لا يَعرِفُ اللّهَ حَقَّ مَعرِفَتِهِ . ثُمَّ قالَ عليه السلام : يا مُعاوِيَةُ ، إِنَّ مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله لَم يَرَ رَبَّهُ _ تَبارَكَ وتَعالى _ بِمُشاهَدَةِ العِيانِ ، وإِنَّ الرُّؤيَةَ عَلى وَجهَينِ : رُؤيَةَ القَلبِ ورُؤيَةَ البَصَرِ ؛ فَمَن عَنى بِرُؤيَةِ القَلبِ فَهُوَ مُصيبٌ ، ومَن عَنى بِرُؤيَةِ البَصَرِ فَقَد كَفَرَ بِاللّهِ وبِآياتِهِ ؛ لِقَولِ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله : مَن شَبَّهَ اللّهَ بِخَلقِهِ فَقَد كَفَرَ . (2)
.
ص: 79
التوحيد عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام :قُلتُ لَهُ : أَخبِرني عَنِ اللّهِ عز و جلهَل يَراهُ المُؤمِنونَ يَومَ القِيامَةِ ؟ قالَ : نَعَم ، وقَد رَأَوهُ قَبلَ يَومَ القِيامَةِ . فَقُلتُ : مَتى ؟ قالَ: حينَ قالَ لَهُم: «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى» (1) ، ثُمَّ سَكَتَ ساعَةً، ثُمَّ قالَ: وإِنَّ المُؤمِنينَ لَيَرَونَهُ فِي الدُّنيا قَبلَ يَومِ القِيامَةِ ، ألَستَ تَراهُ في وَقتِكَ هذا ؟ قالَ أبو بَصيرٍ : فَقُلتُ لَهُ : جُعِلتُ فدِاكَ ! فَأُحَدِّثُ بِهذا عَنكَ ؟ فَقالَ : لا ، فَإِنَّكَ إِذا حَدَّثتَ بِهِ فَأَنكَرَهُ مُنكِرٌ جاهِلٌ بِمَعنى ما تَقولُهُ ، ثُمَّ قَدَّرَ أنَّ ذلِكَ تَشبيهٌ كَفَرَ ، ولَيسَتِ الرُّؤيَةُ بِالقَلبِ كَالرُّؤيَةِ بِالعَينِ ، تَعالَى اللّهُ عَمّا يَصِفُهُ المُشَبِّهونَ وَالمُلحِدونَ . (2)
الإمام الصادق عليه السلام_ لِزِنديقٍ سَأَلَهُ كَيفَ يَعبُدُ اللّهَ الخَلقُ ولَم يَرَوهُ ؟ _: رَأَتهُ القُلوبُ بِنورِ الإِيمانِ ، وأَثبَتَتهُ العُقولُ بِيَقظَتِها إِثباتَ العِيانِ ، وأَبصَرَتهُ الأَبصارُ بِما رَأَتهُ مِن حُسنِ التَّركيبِ ، وإِحكامِ التَّأليفِ ، ثُمَّ الرُّسُلُ وآياتُها ، وَالكُتُبُ ومُحكَماتُها ، وَاقتَصَرَتِ العُلَماءُ عَلى ما رَأَت مِن عَظَمَتِهِ دونَ رُؤيَتِهِ . (3)
عنه عليه السلام_ حينَ سَألَهُ مُحَمَّدٌ الحَلَبِيُّ : هَل رَأى رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله رَبَّهُ؟ _: نَعَم ، رَآهُ بِقَلبِهِ. فَأمّا رَبُّنا _ جَلَّ جَلالُهُ _ فَلا تُدرِكُهُ أبصارُ النّاظِرينَ ، وَلا تُحيطُ بِهِ أسماعُ السّامِعينَ . (4)
.
ص: 80
. .
ص: 81
دراسة حول رؤية اللّه القلبيةالقلب أحد طرق معرفة اللّه بناءً على ما ورد في أحاديث هذا الباب. فليس بإمكاننا رؤية اللّه بالقلب فحسب، بل صرّح عظماء المسلمين عن تجربتهم في رؤيته القلبية . والسؤال هنا : ما المقصود برؤية اللّه القلبية؟ ألا يمكننا القول بتعذّر رؤية اللّه بالقلب بنفس السبب الّذي امتنعت رؤيته بالبصر؟!
أقسام الرؤية القلبيةالجواب هو أنّ هناك معنيين لرؤية اللّه القلبية، أحدهما ممكن ، والآخر ممتنع :
1 . إحاطة القلب باللّهالمعنى الأوّل للرؤية القلبية هو: أن يحيط القلب بالذّات المقدّسة للّه سبحانه، ويدركه الإنسان ببصيرة قلبه . وهذا الصنف من الرؤية القلبية للّه مستحيلة كالرؤية الحسية . فليس بإمكان المحدود أن يحيط باللامحدود . ولا فرق في هذا بين البصيرة والباصرة، وكما يقول الإمام علي عليه السلام :
.
ص: 82
لا تُحيطُ بِهِ الأَبصارُ وَالقُلوبُ . (1) وأيضا ممّا قاله عليه السلام : عَظُمَ أن تَثبُتَ رُبوبِيَّتُهُ بِإحاطَةِ قَلبٍ أو بَصَرٍ . (2)
2 . المعرفة الشهودية للّهالمعنى الآخر للرؤية القلبية هو: شكل من التجارب الباطنية الّتي تنكشف بموجبها الحُجب المظلمة والنورانية، وتتجلّى أنوار جلال الحقّ قدس سره وجماله للسالك . وتسمّى هذه الحالة بالمعرفة الشهودية، وأيّ بيان لهذه الحالة للمحجوبة قلوبهم، كوصف الجمال لشخص أعمى . وقد وصف مَن حاز شرف المعرفة الشهودية حالته الباطنية بعبارات ك_«تجلّى اللّه للقلب» . و«رؤية أنوار العظمة الإلهية» ، و«الاتصال بمعدن العظمة». لكن الحقيقة أنّ المعنى الحقيقي لهذه الجمل غير قابل للاستيعاب أيضا للقلوب المحجوبة .
.
ص: 83
الفصل الرابع: طرق معرفة اللّه4 / 1مَعرِفَةُ النَّفسِالكتاب«وَ فِى الْأَرْضِ ءَايَ_تٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَ فِى أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ» . (1)
الحديثالإمام الصادق عليه السلام_ في قَولِهِ سُبحانَهُ : «وَ فِى أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ» _: إِنَّهُ خَلَقَكَ سَميعا بَصيرا ، تَغضَبُ وتَرضى ، وتَجوعُ وتَشبَعُ ؛ وذلِكَ كُلُّهُ مِن آياتِ اللّهِ تَعالى . (2)
التوحيد عن هشام بن سالم (3) :التوحيد عن هشام بن سالم 4 : حَضَرتُ مُحَمَّدَ بنَ النُّعمانِ الأَحوَلَ ، فَقامَ إِلَيهِ رَجُلٌ فَقالَ لَهُ : بِمَ عَرَفتَ رَبَّكَ؟
.
ص: 84
قالَ : بِتَوفيقِهِ وإِرشادِهِ وتَعريفِهِ وهِدايَتِهِ . قالَ : فَخَرَجتُ مِن عِندِهِ ، فَلَقيتُ هِشامَ بنَ الحَكَمِ ، فَقُلتُ لَهُ : ما أَقولُ لِمَن يَسأَلُني فَيَقولُ لي : بِمَ عَرَفتَ رَبَّكَ؟ فَقالَ : إِن سَأَلَ سائِلٌ فَقالَ : بِمَ عَرَفتَ رَبَّكَ؟ قُلتَ : عَرَفتُ اللّهَ _ جَلَّ جَلالُهُ _ بِنَفسي؛ لِأَنَّها أَقرَبُ الأَشياءِ إِلَيَّ، وذلِكَ أنّي أَجِدُها أبعاضا مُجتَمِعَةً وأَجزاءً مُؤتَلِفَةً ، ظاهِرَةَ التَّركيبِ ، مُتَبَيَّنَةَ الصَّنعَةِ ، مَبْنِيَّةً عَلى ضُروبٍ مِنَ التَّخطيطِ وَالتَّصويرِ، زائِدَةً مِن بَعدِ نُقصانٍ، وناقِصَةً مِن بَعدِ زِيادَةٍ، قَد أُنشِئَ لَها حَواسٌّ مُختَلِفَةٌ وجَوارِحُ مُتَبايِنَةٌ؛ مِن بَصَرٍ وَسمعٍ وشَامٍّ وذائِقٍ ولامِسٍ ، مَجبولَةً عَلَى الضَّعفِ وَالنَّقصِ وَالمَهانَةِ ، لا تُدرِكُ واحِدَةٌ مِنها مُدرَكَ صاحِبَتِها ولا تَقوى عَلى ذلِكَ ، عاجِزَةً عِندَ اجتِلابِ المَنافِعِ إِلَيها ودَفعِ المَضارِّ عَنها، وَاستَحالَ فِيالعُقولِ وُجودُ تَأليفٍ لامُؤَلِّفِ لَهُ، وثَباتُ صورَةٍ لا مُصَوِّرَ لَها ، فَعَلِمتُ أنَّ لَها خالِقا خَلَقَها ، ومُصَوِّرا صَوَّرَها ، مُخالِفا لَها عَلى جَميعِ جِهاتِها ، قالَ اللّهُ عز و جل : «وَ فِى أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ» . (1)
رسول اللّه صلى الله عليه و آله :مَن عَرَفَ نَفسَهُ فَقَد عَرَفَ رَبَّهُ . (2)
الأمالي :رُوِيَ أنَّ بَعضَ أَزواجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله سَأَلَتهُ : مَتى يَعرِفُ الإِنسانُ رَبَّهُ ؟ فَقالَ : إِذا عَرَفَ نَفسَهُ . (3)
رسول اللّه صلى الله عليه و آله :أَعرَفُكُم بِنَفسِهِ أَعرَفُكُم بِرَبِّهِ . (4)
.
ص: 85
عوالي اللآلي :رُوِيَ في بَعضِ الأَخبارِ أنَّهُ دَخَلَ عَلى رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله رَجُلٌ اسمُهُ مُجاشِعٌ ، فَقالَ : يا رَسولَ اللّهِ كَيفَ الطَّريقُ إِلى مَعرِفَةِ الحَقِّ؟ فَقالَ صلى الله عليه و آله : مَعرِفَةُ النَّفسِ . فَقالَ : يا رَسولَ اللّهِ ، كَيفَ الطَّريقُ إِلى مُوافَقَةِ الحَقِّ؟ قالَ : مُخالَفَةُ النَّفسِ . قالَ : يا رَسولَ اللّهِ ، فكَيفَ الطَّريقُ إِلى رِضاءِ الحَقِّ؟ قالَ : سُخطُ النَّفسِ . فَقالَ : يا رَسولَ اللّهِ ، فكَيفَ الطَّريقُ إِلى وَصلِ الحَقِّ؟ قالَ : هَجرُ النَّفسِ . فَقالَ : يا رَسولَ اللّهِ ، فكَيفَ الطَّريقُ إِلى طاعَةِ الحَقِّ؟ قالَ : عِصيانُ النَّفسِ . فَقالَ : يا رَسولَ اللّهِ ، فكَيفَ الطَّريقُ إِلى ذِكرِ الحَقِّ؟ قالَ : نِسيانُ النَّفسِ . فَقالَ : يا رَسولَ اللّهِ ، فكَيفَ الطَّريقُ إِلى قُربِ الحَقِّ؟ قالَ : التَّباعُدُ عَن النَّفسِ . فَقالَ : يا رَسولَ اللّهِ ، فكَيفَ الطَّريقُ إِلى أُنسِ الحَقِّ؟ قالَ : الوَحشَةُ مِنَ النَّفسِ . فَقالَ : يا رَسولَ اللّهِ ، كَيفَ الطَّريقُ إِلى ذلِكَ؟
.
ص: 86
قالَ : الاستِعانَةُ بِالحَقِّ عَلَى النَّفسِ (1) .
مصباح الشريعة_ فيما نسبه إلى الإمام الصادق عليه السلام _: قالَ صلى الله عليه و آله : اُطلُبُوا العِلمَ ولَو بِالصّينِ . وهُوَ عِلمُ مَعرِفَةِ النَّفسِ ، وفيهِ مَعرِفَةُ الرَّبِّ . (2)
الإمام عليّ عليه السلام :عَجِبتُ لِمَن يَجهَلُ نَفسَهُ ، كَيفَ يَعرِفُ رَبَّهُ؟! (3)
عنه عليه السلام :أَكثَرُ النّاسِ مَعرِفَةً لِنَفسِهِ أَخوَفُهُم لِرَبِّهِ . (4)
عنه عليه السلام_ فِي الحِكَمِ المَنسوبَةِ إِلَيهِ _: مَن عَجَزَ عَن مَعرِفَةِ نَفسِهِ فَهُوَ عَن مَعرِفَةِ خالِقِهِ أَعجَزُ . (5)
الإمام الصادق عليه السلام :العَجَبُ مِن مَخلوقٍ يَزعُمُ أنَّ اللّهَ يَخفى عَلى عِبادِهِ وهُوَ يَرى أثَرَ الصُّنعِ في نَفسِهِ ، بِتَركيبٍ يُبهِرُ عَقلَهُ ، وتَأليفٍ يُبطِلُ جُحودَه (6) ! (7)
عنه عليه السلام :إِنَّ الصّورَةَ الإِنسانِيَّةَ أَكبَرُ حُجَّةِ اللّهِ عَلى خَلقِهِ ، وهِيَ الكِتابُ الَّذي كَتَبَهُ بِيَدِهِ ، وهِيَ الهَيكَلُ الَّذي بَناهُ بِحِكمَتِهِ ، وهِيَ مَجموعُ صُوَرِ العالَمينَ ، وهِيَ المُختَصَرُ مِنَ العُلومِ فِي اللَّوحِ المَحفوظِ ، وهِيَ الشّاهِدُ عَلى كُلِّ غائِبٍ ، وهِيَ الحُجَّةُ عَلى كُلِّ جاحِدٍ ، وهِيَ الطَّريقُ المُستَقيمُ إِلى كُلِّ خَيرٍ ، وهِيَ الصِّراطُ
.
ص: 87
المَمدودُ بَينَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ . (1)
بحار الأنوار عن صُحف إدريس عليه السلام :مَن عَرَفَ الخَلقَ عَرَفَ الخالِقَ ، ومَن عَرَفَ الرِّزقَ عَرَفَ الرّازِقَ ، ومَن عَرَفَ نَفسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ . (2)
راجع : ص 99 (التَّجرِبَة) و 129 (الباب الثاني : خلق الإنسان) .
.
ص: 88
تحليل حول دور معرفة النفس في معرفة اللّهإِنّ في خلق الإنسان علامات و دلالات واضحة على معرفة اللّه من منظور القرآن الكريم ، وكلّ من لم يكن لجوجا وأَراد أن يقرّ بحقائق الوجود معتمدا على الدليل والبرهان ؛ فإنّه يستطيع أن يتعرّف على خالق العالم وحقيقة الحقائق إِذا أَمعن النظر في حِكَم وجوده ، كما قال سبحانه وتعالى: «وَ فِى خَلْقِكُمْ وَ مَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ ءَايَ_تٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ» (1) . «وَ فِى الْأَرْضِ ءَايَ_تٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَ فِى أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ» (2) . «سَنُرِيهِمْ ءَايَ_تِنَا فِى الْأَفَاقِ وَ فِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ...» (3) . تصرّح الآيات المذكورة بأنّ الدليل في وجود الإنسان لمعرفة خالق العالم ليس واحدا بل توجد أدلّة كثيرة ، ولهذا عبّرت الآيات الكريمة بلفظ الجمع ، بل لا يستطيع الإنسان أن يكون عارفا بنفسه حقّا وغير عارف باللّه .
.
ص: 89
أَقسام أحاديث الدعوة إلى معرفة النفسإِنّ الأحاديث الإسلاميّة مستلهمةً من القرآن الكريم ، تؤكّد معرفة النفس كثيرا ، ويمكن أن نقسّمها أَربعة أَقسام :
1 . قيمة معرفة النفسالقسم الأوّل : إنّ الأحاديث التي تعدّ معرفة النفس أكثر المعارف قيمةً كالّتي رُوِيَت عن أَمير المؤمنين عليّ عليه السلام إِذ قال: «أَفضَلُ المَعرِفَةِ مَعرِفَةُ الإِنسانِ نَفسَهُ» (1) . «المَعرِفَةُ بِالنَّفسِ أَنفَعُ المَعرِفَتَينِ» (2) . «أَفضَلُ الحِكمَةِ مَعرِفَةُ الإِنسانِ نَفسَهُ» (3) . «غايَةُ المَعرِفَةِ أَن يَعرِفَ المَرءُ نَفسَهُ» (4) . «مَعرِفَةُ النَّفسِ أنفَعُ المَعارِفِ» (5) . وعن الإمام الباقر عليه السلام : «لا مَعرِفَةَ كَمَعرِفَتِكَ بِنَفسِكَ» (6) .
2 . مضارّ الجهل بالنفسالقسم الثاني : الأحاديث التي تناولت المضارّ الناشئة عن جهل الإنسان نفسه ، فقد أَكّدت هذه الأحاديث أنّ الإنسان لا يستطيع أن يمتلك رؤية كَونيّة صحيحة ولا
.
ص: 90
يظفر بطريق الفلاح والنجاة في الحياة ما لم يعرف نفسه . فيما يأتي قسم من كلمات الإمام عليّ عليه السلام في هذا الموضوع: «مَن جَهِلَ نَفسَهُ كانَ بِغَيرِ نَفسِهِ أجهَلَ» (1) . «كَيفَ يَعرِفُ غَيرَهُ مَن يَجهَلُ نَفسَهُ» (2) . «لا تَجهَل نَفسَكَ فَإِنَّ الجاهِلَ مَعرِفَةَ نَفسِهِ جاهِلٌ بِكُلِّ شَيءٍ» (3) . «مَن لَم يَعرِف نَفسَهُ بَعُدَ عَن سَبيلِ النَّجاةِ ، وخَبَطَ فِي الضَّلالِ وَالجَهالاتِ» (4) .
3 . مفتاح معرفة الوجودالقسم الثالث : الأحاديث التي تنصّ على أنّ معرفة النفس مقدّمة لمعرفة الوجود ومفتاح لها ، كما نُقل عن الإمام عليّ عليه السلام قوله: «مَن عَرَفَ نَفسَهُ فَهُوَ لِغَيرِهِ أعرَفُ» (5) . وقوله: «مَن عَرَفَ نَفسَهُ فَقَدِ انتَهى إِلى غايَةِ كُلِّ مَعرِفَةٍ وعِلمٍ» (6) .
4 . مفتاح معرفة اللّهالقسم الرابع : الأحاديث التي تجعل معرفة النفس مفتاحا لمعرفة اللّه سبحانه ، بل مساويةً لها ، وقد لوحظت في الفصل الرابع ، أشهرها الحديث الشريف الذي رُوي عن النبيّ صلى الله عليه و آله ، والإمام عليّ عليه السلام ، قالا:
.
ص: 91
«مَن عَرَفَ نَفسَهُ فَقَد عَرَفَ رَبَّهُ» (1) .
5 . القصد من معرفة النفسالقسم الخامس : الأحاديث التي تبيّن القصد من معرفة النفس وتفسّر ذلك ، كالتي وردت في الفصل الرابع ، وجميع الأحاديث التي ستأتي في الباب الثاني حول خلق الإنسان . والآن لمّا كان الحديث الشريف «مَن عَرَفَ نَفسَهُ فَقَد عَرَفَ رَبَّهُ» قد نال اهتمام العلماء ولاسيّما أُولي الحكمة والعرفان من بين جميع الآيات والأَحاديث التي دعت الناس إِلى معرفة النفس ، فمن الضروريّ الالتفات كما يبدو إِلى عدد من الموضوعات في هذا المجال :
وقفة عند حديث «مَن عَرَفَ نَفسَه...»الأوّل : سند الحديثنقل هذا الحديث الشريف «مَن عَرَفَ نَفسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ» في مختلف المصادر الروائيّة _ كما لوحظ في الفصل الرابع _ لكنّه يخلو من سند متّصل بأهل البيت عليهم السلام . إِنّ هذا الحديث واحد من مئة كلمة اختارها أَبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ المتوفّى سنة 255 ه من قصار كلمات أَمير المؤمنين عليه السلام . وسمّاها «مطلوب كلّ طالب من كلام أَمير المؤمنين عليّ بن أَبي طالب» ، وقال في وصفها: «كلّ كلمة تفي بألف من محاسن كلام العرب» (2) . وتذهب بعض الروايات إِلى أنّ مضمون هذا الحديث كان قبل الإسلام أَيضا فقد
.
ص: 92
ورد في صحف إِدريس عليه السلام (1) ، وقد نُقل عن الراغب الاصفهانيّ أنّه قال في رسالة «تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين» : «قد رُوي إِنّه ما أَنزل اللّه من كتاب إِلّا وفيه: اعرف نفسك يا إِنسان تعرف ربّك» (2) . أَجل ، يُصطلح على الحديث المذكور عنوان المُرسَل ، وإِسناده غير واضح ، بَيْدَ أنّ مضمونه قد ورد في الآيات المشار إِليها ، وهو في الحقيقة شرح و تفسير لتلك الآيات ، فلا حاجة إِلى جرح السند وتعديله ، من هنا أَيّده كثير من المحدّثين والمحقّقين واستندوا إِليه . الثاني : شروح الحديث كان هذا الحديث الشريف منذ أمدٍ بعيد مَثار اهتمام العلماء بخاصّة الحكماء وأُولي العرفان ، وقد صُنِّفت رسالات ومقالات كثيرة فيه ، فيما يأتي بعض شروحه المستقلّة: (3) 1 . الرسالة الوجوديّة في معنى قوله صلى الله عليه و آله : «من عرف نفسه فقد عرف ربّه» . طبعة القاهرة . 2 . رسالة «بالفارسيّة» في شرح حديث: «من عرف نفسه» لعماد الدين بن يونس بَنجْهِزاري . طبعها الأُستاذ حسن زاده آمُلي (4) . 3 . رسالة «بالفارسيّة» في شرح حديث: «من عرف نفسه» للعارف عبد اللّه بليانيّ . وطُبعت مع رسائل أُخرى سنة 1394 ه . (5)
.
ص: 93
4 . رسالة في شرح حديث : «من عرف نفسه» للأُستاذ حسن زاده آملي ، وطُبعت باللغة الفارسية بعنوان «هزار و يك كلمه» يعني باللغة العربية : ألف كلمة وكلمة . (1) وقد أَورد العلّامة الطهراني في الذريعة خمس رسائل في شرح هذا الحديث . (2) 5 . عدّة رسائل بالفارسيّة في شرح حديث: «من عرف نفسه» إحداها للأُستاذ حسن زاده آملي . وهي مخطوطة (3) . 6 . والاُخرى لأحمد بن زين الدين الإحسائيّ (4) ، والثالثة لأحمد بن صالح بن طوق القطيفيّ ، والرابعة لصدر الدين الكاشف الدزفوليّ (1174 _ 1256 ه) ، والخامسة لعماد الدين المازندرانيّ ، والسادسة لعلي بن أَحمد بن الحسين آل عبد الجبّار القطيفيّ (1287 ه ) . كما يوجد شرحان للحديث المذكور مجهولي المؤلف . (5) 7 . والسابعة لمولانا برهان البغداديّ . (6) 8 . شرح حديث : «أَعلمكم بنفسه أعلمكم بربّه» ، الملّا إِسماعيل الخواجوئي المازندرانيّ . (7)
.
ص: 94
9 . مرآة المحقّقين في معنى من عرف نفسه ، الشيخ محمود الشبستريّ. (فارسي) . (1) 10 . زبدة الطريق في معنى من عرف نفسه ، درويش علي بن يوسف كوكدي(فارسي) . (2) 11 . معنى من عرف نفسه ، الشيخ حبيب العجميّ . (3) 12 . الغوثيّة شرح من عرف نفسه ، عبد القادر الجيلانيّ . (4) 13 . الفصوص في قول من عرف نفسه ، محيي الدين بن عربي . (5) 14 . النوريّة في حديث من عرف نفسه ، آغا شمس الدين . (6) 15 . أسرار الدقائق ، شرح حديث «من عرف نفسه» ، الشيخ بدر الدين السماويّ . (7) 16 . شرح حديث من عرف نفسه ، الإمام محمّد الغزاليّ . (8) 17 . القول الأشبه في حديث من عرف نفسه ، جلال الدين أَبو بكر السيوطيّ . 9 18 . نقطة الوحدة في معنى من عرف نفسه ، الشيخ أبو إسحاق (تركي) . 10 19 . معنى من عرف نفسه ، الإمام محمّد الغزاليّ (تركي) . 11
.
ص: 95
20 . رسالة قبس المقتبس ، الملّا حبيب شريف الكاشانيّ (فارسي) . (1) 21 . الغوثيّة شرح من عرف نفسه فقد عرف ربّه ، السيّد محمّد مهدي التنكابني(فارسي) . (2) يضاف إِلى هذه الرسائل المستقلّة وجود شروح ضمنيّة كثيرة أَيضا على هذا الحديث ، نشير فيما يأتي إِلى بعضها : 1 . صَدْ كلمه «بالفارسية» ، رشيد الدين وطواط ، الكلمة السادسة ، ص 5 _ 6 . 2 . الميزان في تفسير القرآن ، ج 6 ، ص 169 _ 176 . 3 . صَدْ كلمه «بالفارسية» ، الأُستاذ حسن زاده ، الكلمة 26 . 4 . هزار و يك نكته «بالفارسية» ، النّكات : 105 ، 128 ، 541 .
الثالث : معاني الحديثقيل فيه معان كثيرة ذكر منها الأُستاذ حسن زاده آملي اثنين وتسعين معنىً تحت عنوان: بعض المعاني الواردة في الحديث الشريف: «من عرف نفسه فقد عرف ربّه» (3) . يعتقد البعض أنّ في هذا الحديث إِشاراتٍ لطيفة وإِرشادات بيّنة لأُصول الدين: معرفة اللّه ، والصفات الثبوتيّة والسلبيّة ، والعدل ، والنبوّة ، والإمامة ، والمعاد (4) . ويرى بعض آخر أنّ جميع القضايا الفلسفيّة الأصيلة ومطالب الحكمة المتعالية
.
ص: 96
القويمة والحقائق العرفانيّة الرصينة يمكن استنباطها منه (1) . ويذهب فريق ثالث إِلى أنّ جميع أُصول الدين وفروعه ، وكافّة الأحكام الدنيويّة والأُخرويّة ، وأحكام الربوبيّة والعبوديّة كلّها تلخّصت في هذا الحديث (2) . إِنّ تقويم ما قيل في شرح هذا الحديث يتطلّب فرصة أُخرى ، لكن يبدو أنّ الالتفات إِلى ثلاث نقاط ضروريّ من أَجل تبيان القصد منه بدقّة ، هي : 1 . التأمّل في الآيات الكريمة التي يتعلّق بها هذا الحديث الشريف . 2 . ملاحظة الروايات التي تعدّ بمنزلة الشرح لهذا الحديث. 3 . الرجوع إِلى ما فهمه أَصحاب الأئمّة من معرفة النفس. ويدلّ تحليل لما قيل في معاني الحديث المذكور على أنّ النقاط التي أُشير إِليها إِمّا لم تنل نصيبها من الاهتمام أو قَلّ الاهتمام بها .
الرابع : أَوضح معاني الحديثإِنّ مقتضى الدقّة في الآيات التي تدعو الإنسان إِلى معرفة اللّه بمعرفة نفسه ، ومجموع الأَحاديث التي تبيّنها وتفسّرها ، وكذلك الرجوع إِلى فهم المتكلّمين من أَصحاب أَهل البيت ، كلّ ذلك يُفضي إِلى أنّ أَوضح معاني الحديث الدعوة إِلى معرفة النفس ، والتدبّر في الحِكَم التي مضت في خلق الإنسان ، وتُعبّر عن العلم والقدرة المطلقة لخالقه ، وهذه الحِكَم التي شُرحت في متن القرآن والأَحاديث هي كيفيّة خلق الإنسان من تراب ، وكيفيّة نشأته من نطفة ، وتصوير الجنين في الرحم ، ونفخ
.
ص: 97
الروح في الجنين ، واختلاف الأَلسن والأَلوان ، وتأَمين الأطعمة المطلوبة... إِلخ. وقد فُصّلت في الباب الثاني وهي من أيسر السبل إِلى معرفة اللّه (1) ، وقد أَوجز الإمام الصادق عليه السلام آيات الحكمة وآثار الصنع في وجود الإنسان بقوله: «وَالعَجَبُ مِن مَخلوقٍ يَزعُمُ أَنَّ اللّهَ يَخفى عَلى عِبادِهِ وهُوَ يَرى أَثَرَ الصُّنعِ في نَفسِهِ بِتَركيبٍ يُبهِرُ عَقلَهُ وتَأليفٍ يُبطِلُ حُجَّتَهُ» (2) . وقوله عليه السلام في بيان الآية 53 من سورة فصّلت : «وَ فِى أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ» : «إنَّهُ خَلَقَكَ سَميعا بَصيرا ، تَغضَبُ وتَرضى ، وتَجوعُ وتَشبَعُ ، وذلِكَ كُلُّهُ مِن آياتِ اللّهِ» (3) . من اللافت للنظر أنّ هشام بن الحكم _ وهو من تلاميذ الإمام الصادق عليه السلام وأَصحابه المتكلّمين _ استنبط نفس المعنى من الآيات والأَحاديث الواردة في معرفة النفس ، فقد قال في صدد معرفة اللّه عن طريق معرفة النفس: عَرَفتُ اللّهَ _ جَلَّ جَلالُهُ _ بِنَفسي لأَِنَّها أقرَبُ الأَشياءِ إِلَيَّ ، وذلِكَ أنّي أجِدُها أبعاضا مُجتَمِعَةً وأجزاءً مُؤتَلِفَةً ... (4) . ويشير في الختام إِلى أنّ القصد من قوله تعالى: «وَ فِى أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ» هو هذا المعنى نفسه . لكنّنا نأسف شديد الأَسف على أنّ المعنى الواضح الذي أَكدّه القرآن الكريم والأَحاديث في تبيين حديث معرفة النفس قد غُفِلَ عنه تماما ولم يذكر في عداد الشروح الملحوظة حتّى بوصفه معنىً كسائر المعاني _ التي فُرض بعضها على
.
ص: 98
الحديث الشريف _ ولو أنّ علماء المسلمين أَخذوا برسالة القرآن في معرفة النفس لفاقوا جميع علماء العالم في العلوم المرتبطة بعلم معرفة الإنسان . الخامس : مراتب معرفة النفس لا شكّ في أنّ لمعرفة النفس مراتب كمعرفة اللّه ، لذا نقرأ في الحديث العَلَويّ قوله عليه السلام : «أعرَفُكُم بِنَفسِهِ أعرَفُكُم بِرَبِّهِ» (1) . إِنّ أوطأ المراتب في معرفة النفس ميسّرة لعامّة الناس ، بيد أنّه كلّما زادت معلومات الإنسان بنفسه ، زادت معرفته باللّه سبحانه ، إِلى أن يظفر بالمعرفة الشهوديّة للنّفس ، وهناك يفوز بالمعرفة الشهوديّة للحقّ تعالى ، ويشهد وحدانيّته إِلى جانب الملائكة وأُولي العلم: «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَ_هَ إِلَا هُوَ وَالْمَلَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ» (2) . ولا يتيسّر بلوغ هذه المرتبة من المعرفة إِلّا عن طريق المجاهدة التي سيأتي الحديث عنها في الفصل السادس .
.
ص: 99
4 / 2التَّجرِبَةِالإمام عليّ عليه السلام :عُرِفَ اللّهُ سُبحانَهُ بَفَسخِ العَزائِمِ ، وحَلِّ العُقودِ ، وكَشفِ الضُّرِّ وَالبَلِيَّةِ عَمَّن أَخلَصَ لَهُ النِّيَّةَ . (1)
عنه عليه السلام :عَرَفتُ اللّهَ سُبحانَهُ بِفَسخِ العَزائِمِ ، وحَلِّ العُقودِ ، ونَقضِ الهِمَمِ . (2)
جامع الأخبار :سُئِلَ أَميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام : مَا الدَّليلُ عَلى إِثباتِ الصَّانِعِ ؟ قالَ : ثَلاثَةُ أشياءَ : تَحويلُ الحالِ ، وضَعفُ الأَركانِ ، ونَقضُ الهِمَّةِ . (3)
الإمام الحسين عليه السلام :إِنَّ رَجُلاً قامَ إِلى أَميرِ المُؤمِنينَ ، فَقالَ : يا أَميرَ المُؤمِنينَ ، بِماذا عَرَفتَ رَبَّكَ ؟ قالَ : بِفَسخِ العَزمِ ، ونَقضِ الهَمِّ ، لَمّا هَمَمتُ فَحيلَ بَيني وبَينَ هَمّي ، وعَزَمتُ فَخالَفَ القَضاءُ عَزمي ؛ عَلِمتُ أنَّ المُدَبِّرَ غَيري . (4)
التوحيد عن هشام بن سالم :سُئِلَ أَبو عَبدِ اللّهِ عليه السلام : فَقيلَ لَهُ : بِما عَرَفتَ رَبَّكَ ؟ قالَ : بِفَسخِ العَزمِ ، ونَقضِ الهَمِّ ؛ عَزَمتُ فَفَسَخَ عَزمي ، وهَمَمتُ فَنَقَضَ هَمّي . (5)
.
ص: 100
الإمام الصادق عليه السلام_ لِابنِ أَبِي العَوجاءِ لَمّا قالَ : ما مَنَعَهُ إِن كان الأَمرُ كَما يَقولونَ أن يَظهَرَ لِخَلقِهِ ويَدعوهُم إِلى عِبادَتِهِ حَتّى لا يَختَلِفَ مِنهُمُ اثنانِ ، ولِمَ احتَجَبَ عَنهُم وأرسَلَ إِلَيهِمُ الرُّسُلَ ؟ ولو باشَرَهُم بِنَفسِهِ كانَ أَقرَبَ إِلَى الإِيمانِ بِهِ _: وَيلَكَ وكَيفَ احتَجَبَ عَنكَ مَن أَراكَ قُدرَتَهُ في نَفسِكَ ؛ نُشوءَكَ ولَم تَكُن ، وكِبَرَكَ بَعدَ صِغَرِكَ ، وقُوَّتَكَ بَعدَ ضَعفِكَ وضَعفَكَ بَعدَ قُوَّتِكَ ، وسُقمَكَ بَعدَ صِحَّتِكِ وصِحَّتَكَ بَعدَ سُقمِكَ ، ورِضاكَ بَعدَ غَضَبِكَ وغَضَبَك بَعدَ رِضاكَ ، وحُزنَكَ بَعدَ فَرَحِكَ وفَرَحَكَ بَعدَ حُزنِكَ ، وحُبَّكَ بَعدَ بُغضِكَ وبُغضَكَ بَعدَ حُبِّكَ ، وعَزمَكَ بَعدَ أَناتِكَ وأَناتَكَ بعد عَزمِكَ ، وشَهوَتَكَ بَعدَ كَراهَتِكَ وكَراهَتَكَ بَعدَ شَهوَتِكَ ، ورَغبَتَكَ بَعدَ رَهبَتِكَ ورَهبَتَكَ بَعدَ رَغبَتِكَ ، ورَجاءَكَ بَعدَ يَأسِكَ ويَأسَكَ بَعدَ رَجائِكَ ، وخاطِرَكَ بِما لَم يَكُن في وَهمِك ، وعُزوبَ ما أنتَ مُعتَقِدُهُ عَن ذِهنِكَ . (1)
راجع : ص 83 (معرفة النفس) و 135 ح 3545.
.
ص: 101
توضيح حول تأثير التجربة في معرفة اللّهيمكن أن نفسّر معرفة اللّه عن طريق التجربة بنمطين ، وهما كما يأتي : الأوّل : تطرأ في الحياة الخاصّة لكلّ إِنسان حالات وحوادث متنوّعة ، وهي تعبّر عن تدبير المدبّر من جهة ، وأن لا تأثير للإنسان نفسه في إِيجادها من جهة أُخرى ، كأنّه يعتزم بجزمٍ على القيام بعملٍ ينتهي بضرره في الحقيقة لكنّه ينصرف عنه بلا دليل عقليّ خاصّ يمتلكه ، ثمّ يتبيّن بعد ذلك أنّه لو كان فَعَلَهُ لضرّه وأَخسره ، فمن ذا الذي حال بينه وبين عزمه القاطع وأَنقذه من الخطر؟ إِنّ التأمّل في هذه التجربة كما لوحظ في الكلام العلويّ يوصل الإنسان إِلى نتيجة ، هي أنّ مدبّر حياة الإنسان غيره ، وما هو إِلّا اللّه الحكيم العليم القدير ، كما نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى : «وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ» (1) . أَجل ، فاللّه سبحانه هو الذي يحول بين الإنسان وقلبه ، ويسبّب فسخ عزيمته ونقض همّته . على هذا المنوال نلاحظ أنّ الطفولة ، والشباب ، والشيخوخة ، والضعف ، والقوّة ،
.
ص: 102
والصحّة ، والمرض ، وسائر الحالات التي تعرض للإنسان ، _ وهي خارجة عن إِرادته وتدبيره _ تعبّر عن حكم مدبِّر سواه . وهذا التفسير للتجربة فرع من معرفة اللّه عن طريق معرفة النفس حقّا ، من هنا يتسنّى لنا أن نعدّ هذه الأحاديث من الأحاديث الشارحة للحديث المأثور : «مَن عَرَفَ نَفسَهُ فَقَد عَرَفَ رَبَّهُ» . الثانيّ : معنى معرفة اللّه عن طريق التجربة تجربة تتجلّى للموحّدين المتّقين المخلَصين : «عُرِفَ اللّهُ سُبحانَهُ بِفَسخِ العَزائِمِ ، وحَلِّ العُقودِ ، وكَشفِ الضُّرِّ وَالبَلِيَّةِ عَمَّن أخلَصَ لَهُ النِّيَّةَ» (1) . ولحلّ مشكلات الحياة ودفع بليّاتها طريق آخر غير الطرق العاديّة والمادّيّة المعروفة ، وذلك هو التّقوى ، والتوكّل ، والإخلاص ، وينصّ القرآن الكريم على هذا في قوله عَزَّ من قائل : «وَ مَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَ مَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» (2) . ويؤكّد أَيضا : «وَ الَّذِينَ جَ_هَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا» (3) . ولكلّ باحثٍ أن يجرّب التوحيد ، بل النبوّة عبر الاختبار العمليّ للآيات المذكورة في حياة الموحّدين المتّقين المخلصين .
.
ص: 103
4 / 3التفكّر في حُدوثِ العالَمِالكتاب«أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْ ءٍ أَمْ هُمُ الْخَ__لِقُونَ * أَمْ خَلَقُواْ السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ » . (1)
«اللَّهُ خَ__لِقُ كُلِّشَىْ ءٍ » . (2)
«قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضِ الَّذِى فَطَرَهُنَّ وَ أَنَا عَلَى ذَ لِكُم مِّنَ الشَّ_هِدِينَ» . (3)
راجع : الأنعام : 14 ، يوسف : 101 ، فاطر : 1 ، الزمر : 46 ، الشورى : 11 .
الحديثالإمام عليّ عليه السلام :الحَمدُ للّهِِ ... الدّالِّ عَلى قِدَمِهِ بِحُدوثِ خَلقِهِ ، وبِحُدوثِ خَلقِهِ عَلى وُجودِهِ . . . مُستَشهِدٌ بِحُدوثِ الأَشياءِ عَلى أَزَلِيَّتِهِ ، وبِما وَسَمَها بِهِ مِن العَجزِ عَلى قُدرَتِهِ ، وبِمَا اضطَرَّها إِلَيهِ مِنَ الفَناءِ عَلى دَوامِهِ . (4)
عنه عليه السلام :الحَمدُ للّهِِ المُلهِمِ عِبادَهُ حَمدَهُ ، وفاطِرِهِم عَلى مَعرِفَةِ رُبوبِيَّتِهِ ، الدالِّ عَلى وُجودِهِ بِخَلقِهِ ، وبِحُدوثِ خَلقِهِ عَلى أَزَلِهِ . (5)
عنه عليه السلام :أمّا الاِحتِجاجُ عَلى مَن أَنكَرَ الحُدوثَ مَعَ ما تَقَدَّمَ ، فَهُوَ أنّا لَمّا رَأَينا هذَا
.
ص: 104
العالَمَ المُتَحَرِّكَ مُتَناهِيَةً أَزمانُهُ وأعيانُهُ وحَرَكاتُهُ وأَكوانُهُ ، وجَميعُ ما فيهِ ، ووَجَدنا ما غابَ عَنّا مِن ذلِكَ يَلحَقُهُ النِّهايَةُ ، ووَجَد[نَا ]العَقلَ يَتَعَلِّقُ بِما لا نِهايَةَ ، و لَولا ذلِكَ لَم يَجِدِ العَقلُ دَليلاً يُفَرِّقُ ما بَينَهُما ، ولَم يَكُن لَنا بُدٌّ مِن إِثباتِ ما لا نِهايَةَ لَهُ مَعلوما مَعقولاً أَبَدِيّا سَرمَدِيّا ، لَيسَ بِمَعلومٍ أنَّهُ مَقصورُ القُوى ، ولا مَقدورٌ ولا مُتَجَزِّئٌ ولا مُنقَسِمٌ ، فَوَجَبَ عِندَ ذلِكَ أن يَكونَ ما لا يَتَناهى مِثلَ ما يَتَناهى . وإِذ قَد ثَبَتَ لَنا ذلِكَ ، فَقَد ثَبَتَ في عُقولِنا أنَّ ما لا يَتَناهى هُوَ القَديمُ الأَزَلِيُّ ، وإِذا ثَبَتَ شَيءٌ قَديمٌ وشَيءٌ مُحدَثٌ ، فَقَدِ استَغنَى القَديمُ الباري لِلأَشياءِ عَنِ المُحدَثِ الَّذي أَنشَأَهُ وبَرَأَهُ وأَحدَثَهُ ، وصَحَّ عِندَنا بِالحُجَّةِ العَقلِيَّةِ أنَّهُ المُحدِثُ لِلأَشياءِ ، وأنَّهُ لا خالِقَ إِلّا هُوَ ، فَتَبارَكَ اللّهُ المُحدِثُ لِكُلِّ مُحدَثٍ ، الصّانِعُ لِكُلِّ مَصنوعٍ ، المُبتَدِعُ لِلأَشياءِ مِن غَيرِ شَيءٍ . وإِذا صَحَّ أنّي لا أَقدِرُ أن أُحدِثَ مِثلِي استَحال أن يُحدِثَني مِثلي ، فَتَعالَى المُحدِثُ لِلأَشياءِ عَمّا يَقولُ المُلحِدونَ عُلُوّا كَبيرا . (1)
الإمام الصادق عليه السلام_ لَمّا سُئِلَ: مَا الدَّليلُ عَلى أنَّ لِلعالَمِ صانِعا ؟ : أَكثَرُ الأَدِلَّةِ في نَفسي ؛ لِأَنّي وَجَدتُها لا تَعدو أَحَدَ أمرَين : إِمّا أن أَكونَ خَلَقتُها وأنَا مَوجودٌ ، وإِيجادُ المَوجودِ مُحالٌ ، وإِمّا أن أكونَ خَلَقتُها وأنَا مَعدومٌ ؛ فَكَيفَ يَخلُقُ لا شَيءٌ ؟ فَلَمّا رَأَيتُهُما فاسِدَتَينِ مِنَ الجِهَتَينِ جَميعا عَلِمتُ أنَّ لي صانِعا ومُدَبِّرا . (2)
عنه عليه السلام_ لَمّا سَأَلَهُ أَبو شاكِرٍ الدَّيصانِيُّ: مَا الدَّليلُ عَلى أنَّ لَكَ صانِعا ؟ _ : وَجَدتُ نَفسي
.
ص: 105
لا تَخلو مِن إِحدى جِهَتَينِ : إِمّا أن أَكونَ صَنَعتُها أنَا أو صَنَعَها غَيري ؛ فَإِن كُنتُ صَنَعتُها أنَا فَلا أَخلو مِن أَحَدِ مَعنَيَينِ : إِمّا أن أَكونَ صَنَعتُها وكانَت مَوجودَةً ، أو صَنَعتُها وكانَت مَعدومَةً ؛ فَإِن كُنتُ صَنَعتُها وكانَت مَوجودَةً فَقَدِ استَغنَت بِوُجودِها عَن صَنعَتِها ، وإِن كانَت مَعدومَةً فَإِنَّكَ تَعلَمُ أنَّ المَعدومَ لا يُحدِثُ شَيئا ، فَقَد ثَبَتَ المَعنَى الثّالِثُ أنَّ لي صانِعا ؛ وهُوَ اللّهُ رَبُّ العالَمينَ ، فَقامَ وما أَحارَ جَوابا (1) . (2)
عنه عليه السلام_ لَمّا سَأَلَهُ ابنُ أَبِي العَوجاءِ : مَا الدَّليلُ عَلى حَدَثِ الأَجسامِ ؟ _: إِنّي ما وَجَدتُ شَيئا صَغيرا ولا كَبيرا إِلّا وإِذا ضُمَّ إِلَيهِ مِثلُهُ صارَ أَكبَرَ ، وفي ذلِكَ زَوالٌ وَانتِقالٌ عَنِ الحالَةِ الأُولى ، ولَو كانَ قَديما ما زالَ ولا حالَ ؛ لِأَنَّ الَّذي يَزولُ ويَحولُ يَجوزُ أن يوجَدَ ويَبطُلَ ، فَيَكونُ بِوُجودِهِ بَعدَ عَدَمِهِ دُخولٌ فِي الحَدَثِ ، وفي كونِهِ فِي الأَزَلِ دُخولُهُ فِي العَدَمِ ، ولَن تَجتَمِعَ صِفَةُ الأَزَلِ وَالعَدَمِ وَالحُدوثِ وَالقِدَمِ في شَيءٍ واحِدٍ . فَقالَ عَبدُ الكَريمِ : هَبكَ عَلِمتَ في جَريِ الحالَتَينِ وَالزَّمانَينِ عَلى ما ذَكَرتَ ، وَاستَدلَلتَ بِذلِكَ عَلى حُدوثِها ، فَلَو بَقِيَتِ الأَشياءُ عَلى صِغَرِها ، مِن أينَ كانَ لَكَ أن تَستَدِلَّ عَلى حُدوثِهِنَّ ؟ فَقالَ العالِمُ عليه السلام : إِنَّما نَتَكَلَّمُ عَلى هذَا العالَمِ المَوضوعِ ، فَلَو رَفَعناهُ ووَضَعنا عالَما آخَرَ كانَ لا شَيءَ أَدَلُّ عَلَى الحَدَثِ مِن رَفعِنا إِيّاهُ ووَضِعنا غَيرَهُ ، ولكِن أُجيبُكَ مِن حَيثُ قَدَرتَ أن تُلزِمَنا ، فَنَقولُ : إِنَّ الأَشياءَ لَو دامَت عَلى صِغَرِها لَكانَ فِي الوَهمِ أنَّهُ مَتى ضُمَّ شَيءٌ إِلى مِثلِهِ كانَ أكبَرَ ، وفي جَوازِ التَّغييرِ عَلَيهِ خُروجُهُ مِنَ القِدَمِ ، كَما أنَّ
.
ص: 106
في تَغييرهِ دُخولَهُ فِي الحَدَثِ ، لَيسَ لَكَ وَراءَهُ شَيءٌ يا عَبدَ الكَريمِ ، فَانقَطَعَ وخَزِيَ . (1)
التوحيد عن هشام بن الحكم :دَخَلَ أَبو شاكِرٍ الدَّيصانِيِّ عَلى أَبي عَبدِ اللّهِ الصّادِقِ عليه السلام فَقالَ لَهُ : إِنَّكَ أَحَدُ النُّجومِ الزَّواهِرِ ، وكانَ آباؤُكَ بُدورا بَواهِرَ ، وأُمَّهاتُكَ عَقيلاتٍ عَباهِرَ ، وعُنصُرُكَ مِن أَكرَمِ العَناصِرِ ، وإِذا ذُكِرَ العُلَماءُ فَبِكَ تُثَنَّى الخَناصِرُ ، فخَبِّرني أيُّهَا البَحرُ الخَضِمُّ الزّاخِرُ ، مَا الدَّليلُ عَلى حُدوثِ العالَِمِ ؟ فَقالَ أَبو عَبدِ اللّهِ عليه السلام : نَستَدِلُّ عَلَيهِ بِأَقرَبِ الأَشياءِ . قال : وما هُوَ؟ فَدَعا أَبو عَبدِ اللّهِ عليه السلام بِبَيضَةٍ فَوَضَعَها عَلى راحَتِهِ ، فَقالَ : هذا حِصنٌ مَلمومٌ ، داخِلُهُ غِرقِئُ (2) رَقيقٌ لَطيفٌ ، بِهِ فِضَّةٌ سائِلَةٌ وذَهَبَةٌ مائِعَةٌ ، ثُمَّ تَنفَلِقُ عَن مِثلِ الطّاووسِ ، أ دَخَلَها شَيءٌ ؟ فَقالَ : لا . قالَ : فَهذَا الدَّليلُ عَلى حُدوثِ العالَمِ . قالَ : أَخبَرتَ فَأَوجَزتَ ، وقُلتَ فَأَحسَنتَ ، وقَد عَلِمتَ أنّا لا نَقبَلُ إِلّا ما أَدرَكناهُ بِأَبصارِنا ، أو سَمِعناهُ بِاذانِنا ، أو شَمَمناه بِمَناخِرِنا ، أو ذُقناهُ بِأَفواهِنا ، أو لَمَسناهُ بِأَكُفِّنا ، أو تُصوِّرَ فِي القُلوبِ بَيانا ، أوِ استَنبَطَهُ الرَّوِيّاتُ (3) إِيقانا . فَقالَ أَبو عَبدِ اللّهِ عليه السلام : ذَكَرتَ الحَواسَّ الخَمسَ ، وهِيَ لا تَنفَعُ شَيئا بِغَيرِ دَليلٍ ، كَما لا يُقطَعُ الظُّلمَةُ بِغَيرِ مِصباحٍ . (4)
.
ص: 107
الإمام الصادق عليه السلام :إِنَّ الأَشياءَ تَدُلُّ عَلى حُدوثِها مِن . . . تَحَرُّكِ الأَرضِ ومَن عَلَيها ، وَانقِلابِ الأَزمِنَةِ ، وَاختِلافِ الوَقتِ ، وَالحَوادِثِ الَّتي تَحدُثُ فِي العالَمِ ، مِن زِيادَةٍ ونُقصانٍ ، ومَوتٍ وبَلاءٍ ، وَاضطِرارِ النَّفسِ إِلَى الإِقرارِ بأَنَّ لَها صانِعا ومُدَبِّرا . أما تَرَى الحُلوَ يَصيرُ حامِضا ، وَالعَذبَ مُرّا ، والجَديدَ بالِيا ، وكُلٌّ إِلى تَغَيُّرٍ وفَناءٍ ؟! (1)
الكافي_ في خَبَرِ مُناظَرَةِ الإِمامِ الصّادِقِ عليه السلام لِابنِ أَبِي العَوجاءِ _: فَقالَ[ عليه السلام ]لَهُ : أ مَصنوعٌ أنتَ أو غَيرُ مَصنوعٍ ؟ فَقالَ عَبدُ الكَريمِ بنُ أبِي العَوجاءِ : بَل ، أنَا غَيرُ مَصنوعٍ . فَقالَ لَهُ العالِمُ عليه السلام : فَصِف لي لَو كُنتَ مَصنوعا كَيفَ كُنتَ تَكونُ ؟ فَبَقِيَ عَبدُ الكَريمِ مَلِيّا لا يُحيرُ جَوابا ، ووَلِعَ بِخَشَبَةٍ كانَت بَينَ يَدَيهِ ، وهُوَ يَقولُ : طَويلٌ عَريضٌ عَميقٌ قَصيرٌ مُتَحَرِّكٌ ساكِنٌ ، كُلُّ ذلِكَ صِفَةُ خَلقِهِ . فَقالَ لَهُ العالِمُ : فَإِن كُنتَ لَم تَعلَم صِفَةَ الصَّنعَةِ غَيرَها فَاجعَل نَفسَكَ مَصنوعا لِما تَجِدُ في نَفسِكَ مِمّا يَحدُثُ مِن هذِهِ الأُمورِ . (2)
التوحيد عن أبي الصلت الهرويّ :سَأَلَ المَأمونُ أبَا الحَسَنِ عَلِيَّ بنَ موسَى الرِّضا عليهماالسلامعَن قَولِ اللّهِ عز و جل : «وَ هُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً» (3) . فَقالَ : إِنَّ اللّهَ _ تَبارَكَ وتَعالى _ . . . خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرضَ في سِتَّةِ أيّامٍ وهُوَ
.
ص: 108
مُستَولٍ عَلى عَرشِهِ ، وكانَ قادِرا عَلى أن يَخلُقَها في طَرفَةِ عَينٍ ، ولكِنَّهُ عز و جلخَلَقَها في سِتَّةِ أيّامٍ ؛ لِيُظهِرَ لِلمَلائِكَةِ ما يَخلُقُهُ مِنها شَيئا بَعدَ شَيءٍ ، وتَستَدِلَّ بِحُدوثِ ما يُحدَثُ عَلى اللّهِ تَعالى ذِكرُهُ مَرَّةً بَعدَ مَرَّةٍ . (1)
التوحيد عن الحسين بن خالد عن الإمام الرضا عليه السلام :أنَّهُ دَخَل عَلَيهِ رَجُلٌ ، فَقالَ لَهُ : يَا ابنَ رَسولِ اللّهِ ، مَا الدَّليلُ عَلى حَدَثِ العالَمِ ؟ قال : أنتَ لَم تَكُن ثُمَّ كُنتَ ، وقَد عَلِمتَ أنَّكَ لَم تُكَوِّن نَفسَكَ ، ولا كَوَّنَكَ مَن هُوَ مِثلُكَ . (2)
.
ص: 109
بحث حول عدد الطرق إلى اللّهإِذا تأمّلنا في الآيات والأَحاديث الملحوظة في الفصول الثلاثة المتقدّمة حول طرق معرفة اللّه أمكننا أن ندرك أنّ لمعرفة اللّه من منظور القرآن والحديث ثلاثة طرق أصليّة تعود إِليها الطرق الأُخرى . وهي : 1 . معرفة النفس . 2 . معرفة العالم . 3 . المجاهدة . إِنّ الطريق الأَوّل والثاني علميّان ، والطريق الثالث عمليّ ، فقد أُشير إِلى هذه الطرق في الآية الكريمة الآتية : « سَنُرِيهِمْ ءَايَ_تِنَا فِى الْأفَاقِ وَ فِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ شَهِيدٌ » (1) . والطريق الثالث _ أي : تسخير الجهود كلّها من أجل تطبيق الأَوامر والتعاليم الإلهيّة في الحياة _ هو طريق الوصول إِلى أعلى درجات معرفة اللّه ، أي: المعرفة
.
ص: 110
الشهوديّة ، والطريقان الأَوّل والثاني يمثّلان إِراءة الطريق فحسب ، أمّا الطريق الثالث فإنّه يضمن بلوغ الهدف . «وَ الَّذِينَ جَ_هَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا» (1) . وبطيّ هذا الطريق لا يبلغ الإنسان أعلى مراتب معرفة اللّه فحسب ، بل يظفر بأعلى درجات معرفة النفس ، ومعرفة العالم أيضا . في ضوء ذلك يتسنّى لنا أن نقول : إِنّ الصراط الإلهيّ المستقيم واحد لا أكثر ، وهو الدِّين الذي أراه الأنبياء لتكامل الإنسان . والطرق الأُخرى ليست سُبلاً إِلى اللّه إِلّا إِذا انتهت إِلى هذا الطريق الرئيس .
الطرق إلى اللّه عدد أنفاس الخلائقثمة تساؤل جدير بالإثارة ، وهو: إِذا كانت «الطرق إِلى اللّه عدد أنفاس الخلائق» الواردة في كلام عدد من المحدّثين والحكماء كمبدأ ثابت ، وتارةً تطرح كحديث نبويّ ، فهل ينافي هذا الأَمر وحدة الصراط الإلهيّ المستقيم؟ إِنّ الجواب هو أنّ هذا الكلام لم يرد في أيّ مصدر من المصادر الحديثيّة المعتمدة ، وقد تفرّد المرحوم الملّا أَحمد النراقي _ رضوان اللّه تعالى عليه _ بذكره في كتاب «مَثْنَوي طاقْديس» كحديث من الأَحاديث (2) . سواءٌ أَ كان هذا الكلام حديثا أم لم يكن ، فإنّه لا يعني ما أُستند إِليه بعض أَدعياء الثّقافة في عصرنا من التعدّديّة الدينيّة ، بل يعني أنّ الطرق الفرعيّة المتّصلة بالطريق الأصليّ للدِّين المسمّى الصراط المستقيم كثيرة ، وكلّ شخص يستطيع أن يبلغه من
.
ص: 111
الطريق الذي يناسب قابليّته واستعداده. يقول العلّامة المجلسيّ قدس اللّه سرّه في هذا الشأن : «ثمّ إِنّ أفهام الناس وعقولهم متفاوتة في قبول مراتب العرفان، وتحصيل الاطمئنان، كمّا وكيفا، شدّةً وضعفا، سرعةً وبطئا، حالاً وعلما، وكشفا وعيانا وإِن كان أصل المعرفة فطريا، إِمّا ضروري أو يهتدى إِليه بأدنى تنبيه، فلكلّ طريقة هداه اللّه عز و جلإِليها إِن كان من أهل الهداية، والطرق إِلى اللّه بعدد أنفاس الخلائق، وهم درجات عند اللّه «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَ_تٍ» » (1) . (2)
.
ص: 112
. .
ص: 113
الفصل الخامس: دور معرفة الخلق في معرفة الخالقيعتبر القرآن الكريم جميع ما في عالم الوجود آياتٍ واضحة وعلائم بينة ودلالات قاطعة على وجود خالق الكون ، يعني أنّ الموجودات جميعا من أَصغر الذرّات إِلى أَكبر المجرّات ومن النواة إِلى أَكبر الأَجرام السماوية ومن المخلوقات المرئية وغير المرئية ، كلّها خلقت لتكون آيةً واضحةً ومرآةً صادقةً ودليلاً قاطعا على وجود خالقها . وإِذا لم يكن ثمّة حجاب على نظر الإنسان ، ولم تُغلِق موانعُ المعرفة القلبية والعقلية مسامعَ قلبه وعقله ، فإنّه حيثما يتطلع في مرآة الموجودات الكونيّة من الأَرض والجبال والصحاري والبحار والأَشجار وغيرها ، يتجلّى له الخالق _ جلّ وعلا _ فالكون كلّه شاهد عليه ، وكلّ ما في الآفاق دليلٌ عليه ، فما أَروعَ قول الشاعر : فيا عجبا كيف يُعصى الإله أم كيف يجحده الجاحدُ وفي كلّ شيء له آيةٌ تدلّ على أنّه واحدُ ومن وجهة النظر القرآنية لا يمكن أن يكون الإنسان عارفا بالعالم وغير عارفٍ باللّه ، أي أنّه يرى المخلوقات ولا يرى خالقها ، ولا يمكن أن يتطلّع في مرآة
.
ص: 114
الوجود فلا يتجلّى له خالق الوجود ، إِلّا أن يكون هناك نقصٌ في نظره . إِنّ هذه الحقيقة القرآنية طرحها أَميرالمؤمنين عليّ عليه السلام في مواضع مختلفة بعبارات متعدّدة وبشكلٍ ساحرٍ يستهوي القلوب ، وحديثه عليه السلام في هذا المجال يعدّ من أَبلغ البيان لمعرفة اللّه تعالى عن طريق الآيات والدلالات ، ومنها قوله عليه السلام : «الحَمدُ لِلّهِ المُتَجَلِّيَ لِخَلقِهِ بِخَلقِهِ ، وَالظّاهِرِ لِقُلوبِهِم بِحُجَّتِهِ» (1) . قد تمرّون على هذه العبارة مرّ الكرام ، وفي الواقع أنّ روعتها وعمقها في غِنىً عن الشرح والتوضيح ، فإنّ تجلّي الخالق للإنسان ليس بالأَمر الذي يمكن وصفه بالكتابة والكلام ، إِنّه أَمرٌ ذوقيٌّ نظريّ ، ومن الطبيعي أنّ من سلمت ذائقة روحه وثقبت عين بصيرته مثل أَمير المؤمنين عليّ عليه السلام ؛ فإنّه يعتبر الخلق كلّه مرآة لجمال الخالق وجلاله .
تجلّي الخالق في مرآة الخلقإِنّ إِدراك تجلّي الخالق في مرآة الخلق يتناسب شدّةً وضعفا مع ميزان قوّة رؤية الإنسان ، فكلّما كانت موانع المعرفة عنده أقلّ وقوّة الرؤية العقلية والقلبية أكثر ، فإنّ تجلّي الخالق _ تبارك وتعالى _ في مرآة الخلق بالنسبة له أكثر إِحساسا وأشدّ إِدراكا . إِنّ المحقّق البحراني ، في بيانه لأَنواع الادراكات الإنسانية لتجلّيات الخالق في الخلق ، يُصنّف الناسَ إِلى أَربعة أَصناف فيقول : «إنّ تجلّيه يعود إلى إجلاء معرفته من مصنوعاته لقلوب عباده ، حتى أَشبهت كلّ ذرةٍ من مخلوقاته مرآةً ظهر فيها لهم ، فهم يشاهدونه على قدر قبولهم لمشاهدته وتفاوت تلك المشاهدة بحسب تفاوت أَشعّة أَبصار بصائرهم ؛ فمنهم : من يرى
.
ص: 115
الصنيعة أَولاً والصانع ثانيا . ومنهم : من يراهما معا . ومنهم : من يرى الصانع أولاً . ومنهم : من لا يرى مع الصّانع غيره» (1) . ولأَجل توضيح هذا التقسيم فإنّنا نذكر مثالاً يوضّح إِلى حدّ ما هذا المطلب ؛ لو كانت لديك مرآة وتريد أن تنظر إِلى صورة شيء معيّن فيها ، فإنّك تارة ترى المرآة أَوّلاً ثمّ ترى الصورة ، وتارة ترى المرآة والصورة معا ، أي عند رؤية الصورة تنتبه إِلى المرآة أيضا ، وتارة ترى الصورة أَوّلاً ثُمّ تنتبه إِلى المرآة ، وتارة تُمعِن النّظر في الصورة إِلى الحدّ الذي لا تنتبه إِلّا إِلى الصورة التي في المرآة ، فلا ترى شيئا آخر غيرها . ومع الاعتناء بهذا المثال فإنّه يمكن تقسيم الناس ، الذين يتمتّعون بالبصيرة العقلية من حيث إِدراك تجلّي الخالق في مرآة الخلق ، إِلى أربعة أقسام : القسم الأول : أُولئك الذين يراجعون مرآة الخلق ، فيشاهدون تلك المرآة أَوّلاً ، ثُمّ يتجلّى الخالق ثانيا لعقولهم من خلال مطالعة مرآة الخلق وملاحظتها . القسم الثاني : الذين يتمتعون بقوّة رؤية أَدقّ ، فيعرفون الخالق قبل معرفة القسم الأَوّل ، حيث يرون مرآة الخلق والخالق في آنٍ واحد ، وبعبارة أُخرى : إِنّهم يرون الخالق في هذه المرآة وبواسطتها ، أي في الوقت الذي ترى عيونهم الجبل والبحر والشجر وغيرها من الموجودات ، فإنّهم يرون الخالق _ جلّ وعلا _ بالبصيرة العقلية . القسم الثالث : أُولئك الّذين تعشّقوا الخالق وتولّهوا به إِلى درجة ، حينما ينظرون إِلى مرآة الخلق ، يرون الخالق أَوّلاً ، ثُمّ ينتبهون إِلى الخلق ، فهم يتوصّلون إِلى
.
ص: 116
الخلق عن طريق الخالق ، ولا يتوصّلون إِلى الخالق عن طريق الخلق . القسم الرابع : هم الذين في أَوج المعرفة الإلهية ، وإِنّ معرفتهم ومحبّتهم للّه سبحانه بلغت حدّا بحيث لا يرون شيئا إِلّا هو تعالى ، وهذه المرتبة لا يبلغها إِلّا الأَنبياء عليهم السلام ومن بلغ الكمال من البشر الذين يرون أنّ الوجود الحقيقي منحصر باللّه تعالى وحدَه ، ووجود ما عداه سبحانه اعتباريّ كالظلّ (1) .
.
ص: 117
الباب الأوّل: جوامع آيات معرفة اللّه في الخلقةالكتاب«إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَ_وَ تِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَ_فِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَايَ_تٍ لِّأُوْلِى الْأَلْبَ_بِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَ_مًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَ_وَ تِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَ_ذَا بَ_طِلاً سُبْحَ_نَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ » . (1)
«إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلَ_فِ الَّيْلِ وَ النَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَ بَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّيَ_حِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ لَايَ_تٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ » . (2)
«إِنَّ فِى السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضِ لَايَ_تٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ * وَ فِى خَلْقِكُمْ وَ مَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ ءَايَ_تٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَ اخْتِلَ_فِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَ تَصْرِيفِ الرِّيَ_حِ ءَايَ_تٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * تِلْكَ ءَايَ_تُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَىِّ حَدِيث بَعْدَ اللَّهِ وَ ءَايَ_تِهِ يُؤْمِنُونَ » . (3)
.
ص: 118
«إِنَّ فِى اخْتِلَ_فِ الَّيْلِ وَ النَّهَارِ وَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضِ لَايَ_تٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ » . (1)
«وَ مَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَا بِإِذْنِ اللَّهِ وَ يَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِى السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا تُغْنِى الْايَ_تُ وَ النُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ » . (2)
«قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضِ » . (3)
الحديثرسول اللّه صلى الله عليه و آله_ في بَيانِ صِفاتِ الباري جَلَّ و عَلا _: فَوقَ كُلِّ شَيءٍ عَلا ، ومِن كُلِّ شَيءٍ دَنا ، فَتَجَلّى لِخَلقِهِ مِن غَيرِ أن يَكونَ يُرى . (4)
عنه صلى الله عليه و آله :يا مَن فِي السَّماءِ عَظَمَتُهُ ، يا مَن فِي الأَرضِ آياتُهُ ، يا مَن في كُلِّ شَيءٍ دَلائِلُهُ ، يا مَن فِي البِحارِ عَجائِبُهُ ، يا مَن فِي الجِبالِ خَزائِنُهُ ، يا مَن يَبدَأُ الخَلقَ ثُمَّ يُعيدُهُ ، يا مَن إِلَيهِ يَرجِعُ الأَمرُ كُلُّهُ ، يا مَن أَظهَرَ في كُلِّ شَيءٍ لُطفَهُ ، يا مَن أَحسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ ، يا مَن تَصَرَّفَ فِي الخَلائِقِ قُدرَتُهُ . (5)
الإمام عليّ عليه السلام :إِنَّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله أَتاهُ ناسٌ مِن أَيادٍ ، فَقالَ لَهُم : وَيحَكُم! ما فَعَلَ قُسُّ بنُ ساعِدَةَ ؟ قالوا : ماتَ يا رَسولَ اللّهِ .
.
ص: 119
فَقالَ صلى الله عليه و آله : ما أَحَدٌ كانَ مِن أَهلِ الجاهِلِيَّةِ كانَ أَحَبَّ إِلَيَّ أن أَلقاهُ مِنهُ لِشَيءٍ سَمِعتُهُ مِنهُ فِيسوقٍ، وأنَا مَعَ عَمّي أَبيطالِبٍ غُلامٌ ، سَمِعتُهُ وَالنَّاسُ حَولَهُ، وهُوَ يَقولُ : أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنّي قد بَلَغتُ سِنّا ، فَاسمَعوا مَقالَتي : أَرى سَماءً مَبنيَّةً، وأَرى شَمسا مَضحِيَّةً، وأَرى قَمَرا بَدرِيّا، وأَرى نُجوما تَسري، وأَرى جِبالاً مَرسِيَّةً ، وأَرى أَرضا مَدحُوَّةً ، وأرى لَيلاً ونَهارا ومَطَرا وشِتاءً وصَيفا ونَباتا، وأَرى مَن ماتَ لا يَرجِعُ، فَلا أَدري رَضوا فَقاموا، أم سَخَطوا فَناموا ! أمّا بَعدُ ؛ فَإِنّ لِهذِهِ الأَشياءِ رَبّا يُدَبِّرُها لِمَن عَقِلَ فِي اختلافِ هذِهِ الأَشياءِ . (1)
عنه عليه السلام :كَفى بِإِتقانِ الصُّنعِ لَها [ أي المَخلوقاتِ ] آيَةً ، وبِمُرَكَّبِ الطَّبعِ عَلَيها دَلالَةً ، وبِحُدوثِ الفِطَرِ عَلَيها قِدمَةً ، وبِإِحكامِ الصَّنعَةِ لَها عِبرَةً . (2)
عنه عليه السلام :بِصُنعِ اللّهِ يُستَدَلُّ عَلَيهِ ، وبِالعُقولِ تُعتَقَدُ مَعرِفَتُهُ ، وبِالفِكرَةِ تَثبُتُ حُجَّتُهُ ، وبِاياتِهِ احتَجَّ عَلى خَلقِهِ . (3)
عنه عليه السلام :بِصُنعِ اللّهِ يُستَدَلُّ عَلَيهِ ، وبِالعُقولِ تُعتَقَدُ مَعرِفَتُهُ ، وبِالنَّظرِ تَثبُتُ حُجَّتُهُ . (4)
عنه عليه السلام :بِصُنعِ اللّهِ يُستَدَلُّ عَلَيهِ ، وبِالعُقولِ تُعتَقَدُ مَعرِفَتُهُ ، وبِالتَّفَكُّرِ تَثبُتُ حُجَّتُهُ ، مَعروفٌ بِالدَّلالاتِ ، مَشهودٌ بِالبَيِّناتِ . (5)
.
ص: 120
عنه عليه السلام :ظَهَرَ للعُقولِ بِما أَرانا مِن عَلاماتِ التَّدبيرِ المُتقَنِ ، وَالقَضاءِ المُبرَمِ . (1)
عنه عليه السلام :ظَهَرَ فِي العُقولِ بِما يُرى في خَلقِهِ مِن عَلاماتِ التَّدبيرِ . . . وهُوَ الحَكيمُ العَليمُ ، أَتقَنَ ما أَرادَ مِن خَلقِهِ مِنَ الأَشباحِ كُلِّها ، لا بِمِثالٍ سَبَقَ إِلَيهِ ، ولا لُغوبٍ دَخَلَ عَلَيهِ في خَلقِ ما خَلَقَ لَدَيهِ . (2)
عنه عليه السلام :ظَهَرَت فِي بَدائِعِ الَّذي أَحدَثَها آثارُ حِكمَتِهِ ، وصارَ كُلُّ شَيءٍ خَلَقَ حُجَّةً لَهُ ومُنتَسِبا إِلَيهِ ؛ فَإِن كانَ خَلقا صامِتا فَحُجَّتُهُ بِالتَّدبيرِ ناطِقَةٌ فيهِ . (3)
عنه عليه السلام :عَجِبتُ لِمَن شَكَّ فِي اللّهِ وهُوَ يَرى خَلقَ اللّهِ . (4)
عنه عليه السلام_ لَمّا سُئِلَ عَن إِثباتِ الصّانِعِ _: البَعرَةُ تَدُلُّ عَلَى البَعيرِ ، وَالرَّوثَةُ تَدُلُّ عَلَى الحَميرِ ، وآثارُ القَدَمِ تَدُلُّ عَلَى المَسير ، فَهَيكَلٌ عِلوِيٌّ بِهذِهِ اللَّطافَةِ ، ومَركَزٌ سِفلِيٌّ بِهذِهِ الكَثافَةِ ، كَيفَ لا يَدُلّانِ عَلَى اللَّطيفِ الخَبيرِ ؟! (5)
عنه عليه السلام_ فيما نُسِبَ إلَيهِ أنَّهُ كانَ كَثيرا ما يَقولُ إِذا فَرَغَ مِن صَلاةِ اللَّيلِ _: أَشهَدُ أنَّ السَّماواتِ وَالأَرضَ وما بَينَهُما آياتٌ تَدُلُّ عَلَيكَ، وشواهِدُ تَشهَدُ بِما إِلَيهِ دَعَوتَ. كُلُّ ما يُؤَدّي عَنكَ الحُجَّةَ ، ويَشهَدُ لَكَ بِالرُّبوبِيَّةِ ، مَوسومٌ بِاثارِ نِعمَتِكَ ومَعالِمِ تَدبيرِكَ. عَلَوتَ بِها عَن خَلقِكَ، فَأَوصَلتَ إِلَى القُلوبِ مِن مَعرِفَتِكَ ما آنَسَها مِن وَحشَةِ الفِكرِ ، وكَفاها رَجمَ الاِحتِجاجِ ؛ فَهِيَ مَعَ مَعرِفَتِها بِكَ ووَلَهِها إِلَيكَ شاهِدَةٌ بِأَنَّك لا تَأخُذُكَ
.
ص: 121
الأَوهامُ ، ولا تُدرِكُكَ العُقولُ وَلَا الأَبصارُ . (1)
عنه عليه السلام :بِها [ أي بِالمَخلوقَاتِ ] تَجَلّى صانِعُها لِلعُقولِ . (2)
عنه عليه السلام :الحَمدُ للّهِِ الَّذي ... تَتَلَقّاهُ الأَذهانُ لا بِمُشاعَرَةٍ ، وتَشهَدُ لَهُ المَرائي لا بِمُحاضَرَةٍ . لَم تُحِط بِهِ الأَوهامُ ، بَل تَجَلّى لَها بِها . (3)
عنه عليه السلام :الحَمدُ للّهِِ المُتَجَلّي لِخَلقِهِ بِخَلقِهِ ، وَالظّاهِرِ لِقُلوبِهِم بِحُجَّتِهِ . (4)
عنه عليه السلام :أَقامَ مِن شَواهِدِ البَيِّناتِ عَلى لَطيفِ صَنعَتِهِ ، وعَظيمِ قُدرَتِهِ ، مَا انقادَت لَهُ العُقولُ مُعتَرِفَةً بِهِ ، ومُسَلِّمَةً لَهُ ، ونَعَقَت في أَسماعِنا دَلائِلُهُ عَلى وَحدانِيَّتِهِ . (5)
عنه عليه السلام_ لَمّا قالَ لَهُ الجاثَليقُ في مُناظَرَتِهِ : خَبِّرني عَنهُ تَعالى ، أ مُدرَكٌ بِالحَواسِّ عِندَكَ فَيَسلُكَ المُستَرشِدُ في طَلَبِهِ استِعمالَ الحَواسِّ ، أم كَيفَ طَريقُ المَعرِفَةِ بِهِ إِن لَم يَكُنِ الأَمرُ كَذلِكَ؟ فَقالَ _: تَعالَى المَلِكُ الجَبّارُ أن يُوصَفَ بِمِقدارٍ ، أو تُدرِكَهُ الحَواسُّ أو يُقاسَ بِالنّاسِ ، وَالطَّريقُ إِلى مَعرِفَتِهِ صَنائِعُهُ الباهِرَةُ لِلعُقولِ، الدّالَّةُ ذَوِي الاِعتبارِ بِما هُوَ عِندَهُ مَشهودٌ ومَعقولٌ. (6)
عنه عليه السلام_ في خلَقِ السَّماءِ وَالكَونِ _: وكَذلِكَ السَّماءُ وَالهَواءُ ، وَالرِّياحُ وَالماءُ ، فَانظُر
.
ص: 122
إِلَى الشَّمسِ وَالقَمَرِ ، وَالنَّباتِ وَالشَّجَرِ ، وَالماءِ وَالحَجَرِ ، وَاختِلافِ هذَا اللَّيلِ وَالنَّهارِ ، وتَفَجُّرِ هذِهِ البِحارِ ، وكَثرَةِ هذِهِ الجِبالِ ، وطولِ هذِهِ القِلالِ (1) ، وتَفَرُّقِ هذِهِ اللُّغاتِ ، وَالأَلسُنِ المُختَلِفاتِ . فَالوَيلُ لِمَن أنكَر المُقَدِّرَ ، وجَحَدَ المُدَبِّرَ ! زَعَموا أنَّهُم كَالنَّباتِ ما لَهُم زارِعٌ ، ولا لِاختِلافِ صُوَرِهِم صانِعٌ ؛ ولَم يَلجَؤوا إِلى حُجَّةٍ فيمَا ادَّعَوا ، ولا تَحقيقٍ لِما أَوعَوا . وهَل يَكونُ بِناءٌ مِن غَيرِ بانٍ ، أو جِنايَةٌ مِن غَيرِ جانٍ؟! (2)
عنه عليه السلام_ في ذِكرِ الدُّنيا وَ المَخلوقاتِ _: ولَوِ اجتَمَعَ جَميعُ حَيَوانِها ؛ مِن طَيرِها وبَهائِمِها ، وما كانَ مِن مُراحِها وسائِمِها ، وأَصنافِ أَسناخِها وأَجناسِها ، ومُتَبَلِّدَةِ أُمَمِها وأَكياسِها ، عَلى إِحداثِ بَعوضَةٍ ، ما قَدَرَت عَلى إِحداثِها ، ولا عَرَفَت كَيفَ السَّبيلُ إِلى إِيجادِها ، ولَتَحَيَّرَت عُقولُها في عِلمِ ذلِكَ وتاهَت ، وعَجَزَت قُواها وتَناهَت ، ورَجَعَت خاسِئَةً حَسيرَةً ، عارِفَةً بِأَنَّها مَقهورَةٌ ، مُقِرَّةً بِالعَجزِ عَن إِنشائِها ، مُذعِنَةً بِالضَّعفِ عَن إِفنائِها ! (3)
الإمام الحسين عليه السلام_ فيما نُسِبَ إلَيهِ مِن دُعاءِ عَرَفَةَ _: أنتَ الَّذي تَعَرَّفتَ إِلَيَّ في كُلِّ شَيءٍ ، فَرَأَيتُكَ ظاهِرا في كُلِّ شَيءٍ ، وأنتَ الظّاهِرُ لِكُلِّ شَيءٍ . (4)
الإمام الباقر عليه السلام_ في قَولِ اللّهِ عز و جل : «وَ مَن كَانَ فِى هَ_ذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِى الْاخِرَةِ أَعْمَى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً» (5) _: مَن لَم يَدُلَّهُ خَلقُ السَّماواتِ وَالأَرضِ ، وَاختِلافُ اللَّيلِ وَالنَّهارِ ، ودَوَرانُ الفَلَكِ وَالشَّمسِ وَالقَمَرِ ، وَالآياتُ العَجيباتُ عَلى أنَّ وَراءَ ذلِكَ أَمرا أَعظَمَ
.
ص: 123
مِنهُ «فَهُوَ فِى الْأَخِرَةِ أَعْمَى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً» ، فَهُوَ عَمّا لَم يُعايِن أَعمى وأَضَلُّ . (1)
عنه عليه السلام :كَفى لِأُولِي الأَلبابِ بِخَلقِ الرَّبِّ المُسَخِّرِ ، ومُلكِ الرَّبِّ القاهِرِ ، وجَلالِ الرَّبِّ الظّاهِرِ ، ونورِ الرَّبِّ الباهِرِ ، وبُرهانِ الرَّبِّ الصّادِقِ ، وما أَنطَقَ بِهِ أَلسُنَ العِبادِ، وما أَرسَلَ بِهِ الرَّسُلَ، وما أَنزَلَ عَلَى العِبادِ؛ دَليلاً عَلَى الرَّبِّ. (2)
الإمام الصادق عليه السلام_ لَمّا سَأَلَهُ الزِّنديقُ : مَا الدَّليلُ عَلَيهِ ؟ قالَ _: وُجودُ الأَفاعيلِ دَلَّت عَلَى أنَّ صانِعا صَنَعَها . ألا تَرى أنَّكَ إِذا نَظَرتَ إِلى بِناءٍ مُشَيِّدٍ مَبنِيٍّ عَلِمتَ أنَّ لَهُ بانِيا وإِن كُنتَ لَم تَرَ البانِيَ ولَم تُشاهِدهُ؟! (3)
عنه عليه السلام :لَو لَم يَكُنِ الشّاهِدُ دَليلاً عَلَى الغائِبِ ، لَما كانَ لِلخَلقِ طَريقٌ إِلى إِثباتِهِ تَعالى . (4)
عنه عليه السلام_ لِلمُفَضَّلِ بنِ عُمَرَ _: يا مُفَضَّلُ ، أَوَّلُ العِبَرِ وَالأَدِلَّةِ عَلَى الباري _ جَلَّ قُدسُهُ _ تَهيِئَةُ هذَا العالَمِ ، وتَأليفُ أَجزائِهِ ونَظمُها عَلى ما هِيَ عَلَيهِ ؛ فَإِنَّكَ إِذا تَأَمَّلتَ العالَمَ بِفِكرِكَ ومَيَّزتَهُ بِعَقلِكَ وَجَدتَهُ كَالبَيتِ المَبنِيِّ ، المُعَدِّ فيهِ جَميعُ ما يَحتاجُ إِلَيهِ عِبادُهُ ، فَالسَّماءُ مَرفوعَةٌ كَالسَّقفِ ، وَالأَرضُ مَمدودَةٌ كَالبِساطِ ، وَالنُّجومُ مَنضودَةٌ كَالمَصابيحِ ، وَالجَواهِرُ مَخزونَةٌ كَالذَّخائِرِ ، وكُلُّ شَيءٍ فيها لِشَأنِهِ مُعَدٌّ ، وَالإِنسانُ كَالمُمَلَّكِ ذلِكَ البَيتِ ، وَالمُخَوَّلِ جَميعَ ما فيهِ ، وضُروبُ النَّباتِ مُهَيَّأَةٌ لِمَارِبِهِ ، وصُنوفُ الحَيَوانِ مَصروفَةٌ في مَصالِحِهِ ومَنافِعِهِ ، فَفي هذا دَلالةٌ واضِحَةٌ عَلى أنَّ العالَمَ مَخلوقٌ بِتَقديرٍ وحِكمَةٍ ، ونِظامٍ ومُلاءَمَةٍ ، وأنَّ الخالِقَ لَهُ واحِدٌ ، وهُوَ الَّذي
.
ص: 124
أَلَّفَهُ ونَظَمَهُ بَعضا إِلى بَعضٍ . (1)
عنه عليه السلام_ أَيضا _: اِعلَم _ يا مُفَضَّلُ _ أنَّ اسمَ هذَا العالَم بِلِسانِ اليونانِيَّةِ الجارِيَ المَعروفَ عِندَهُم «قوسموس» وتَفسيرُهُ «الزّينَةُ» وكَذلِكَ سَمَّتهُ الفَلاسَفَةُ ومَنِ ادَّعَى الحِكمَةَ ، أفَكانوا يُسَمّونَهُ بِهذَا الاِسمِ إِلّا لِما رَأَوا فيهِ مِنَ التَّقديرِ وَالنِّظامِ ؟ فَلَم يَرضَوا أن يُسَمّوهُ تَقديرا ونِظاما حَتّى سَمَّوهُ زينَةً ؛ لِيُخبِروا أنَّهُ _ مَعَ ما هُوَ عَلَيهِ مِنَ الصَّوابِ وَالإِتقانِ _ عَلى غايَةِ الحُسنِ وَالبَهاءِ . أَعجَبُ _ يا مُفَضَّلُ _ مِن قَومٍ لا يَقضونَ صَناعَةَ الطِّبِّ بِالخَطَاَ وهُم يَرَونَ الطَّبيبَ يُخطِئُ ، ويَقضون عَلَى العالَمِ بِالإِهمالِ ولا يَرَون شَيئا مِنهُ مُهمَلاً ! بَل أعجَبُ مِن أَخَلاقِ مَن ادَّعَى الحِكمَةَ حَتّى جَهِلوا مَواضِعَها فِي الخَلقِ ، فَأَرسَلوا أَلسِنَتَهُم بِالذَّمِّ لِلخالِقِ _ جَلَّ وعَلا _ ! بَلِ العَجَبُ مِنَ المَخذولِ «مانيّ» حينَ ادَّعى عِلمَ الأَسرارِ ، وعَمِيَ عَن دَلائِلِ الحِكمَةِ فِي الخَلقِ ، حَتّى نَسَبَهُ إِلَى الخَطَاَ، ونَسَبَ خالِقَهُ إِلَى الجَهلِ ، تَبارَكَ الحَليمُ الكَريمُ ! وأَعجَبُ مِنهُم جَميعا المُعَطِّلَةُ الَّذين راموا أن يُدرَكَ بِالحِسِّ ما لا يُدرَكُ بِالعَقلِ ، فَلَمّا أَعوَزَهُم ذلِكَ خَرَجوا إِلَى الجُحُودِ وَالتَّكذيبِ فَقالوا : ولِمَ لا يُدرَكُ بِالعَقلِ ؟ قيلَ : لِأَنَّهُ فَوقَ مَرتَبَةِ العَقلِ كَما لا يُدرِكُ البَصَرُ ما هُوَ فَوقَ مَرتَبَتِهِ ؛ فَإِنَّكَ لَو رَأَيتَ حَجَرا يَرتَفِعُ فِي الهَواءِ عَلِمتَ أنَّ رامِيا رَمى بِهِ ، فَلَيسَ هذَا العِلمُ مِن قِبَلِ البَصَرِ ، بَل مِن قِبَلِ العَقلِ ؛ لِأَنَّ العَقلَ هُوَ الَّذي يُمَيِّزُهُ ، فَيَعلَمُ أنَّ الحَجَرَ لا يَذهَبُ عُلوا مِن تِلقاءِ نَفسِهِ . أفَلا تَرى كَيفَ وَقَفَ البَصَرُ عَلى حَدِّهِ فَلَم يَتَجاوَزهُ ؟ فَكذلِكَ يَقِفُ العَقلُ عَلى
.
ص: 125
حَدِّهِ مِن مَعرِفَةِ الخالِقِ فَلا يَعدوهُ ، ولكِن يَعقِلُهُ بِعَقلٍ أقَرَّ أنَّ فيهِ نَفسا ولَم يُعايِنها ولَم يُدرِكها بِحاسَّةٍ مِنَ الحَواسِّ . وعَلى حَسَبِ هذا أَيضا نَقولُ : إِنَّ العَقلَ يَعرِفُ الخالِقَ مِن جِهَةٍ توجِبُ عَلَيهِ الإِقرارَ ، ولا يَعرِفُهُ بِما يوجِبُ لَهُ الإِحاطَةَ بِصِفَتِهِ . . . فَأَمّا أَصحابُ الطَّبائِعِ فَقالوا : إِنَّ الطَّبيعَةَ لا تَفعَلُ شَيئا لِغَيرِ مَعنىً ، ولا تَتَجاوَزُ عَمّا فيهِ تَمامُ الشَّيءِ في طَبيعَتِهِ ، وزَعَموا أنَّ الحِكمَةَ تَشهَدُ بِذلِكَ ، فَقيلَ لَهُم : فَمَن أَعطَى الطَّبيعَةَ هذِهِ الحِكمَةَ وَالوُقوفَ عَلى حُدودِ الأَشياءِ بِلا مُجاوَزَةٍ لَها ، وهذا قَد تَعجِزُ عَنهُ العُقولُ بَعدَ طولِ التَّجارِبِ ، فَإِن أَوجَبوا لِلطَّبيعَةِ الحكِمَةَ وَالقُدرَةَ عَلى مِثلِ هذِهِ الأَفعالِ فَقَد أَقَرّوا بِما أَنكَروا ؛ لِأَنَّ هذِهِ هِيَ صِفاتُ الخالِقِ ، وإِن أَنكَروا أن يَكونَ هذا لِلطَّبيعَةِ فَهذا وَجهُ الخَلقِ يَهتِفُ بِأَنَّ الفِعلَ لِلخالِقِ الحَكيمِ . (1)
عنه عليه السلام :فَنَظَرَتِ العَينُ إِلى خَلقٍ مُختَلِفٍ مُتَّصِلٍ بَعضُهُ بِبَعضٍ ، ودَلَّهَا القَلبُ عَلى أنَّ لِذلِكَ خالِقا ، وذلِكَ أنَّهُ فَكَّرَ حَيثُ دَلَّتهُ العَينُ عَلى ما عايَنَت مِن عِظَمِ السَّماءِ وَارتِفاعِها فِي الهَواءِ ، بِغَيرِ عَمَدٍ ولا دِعامَةٍ تُمسِكُها ، وأنَّها لا تَتَأَخَّرُ فَتَنكَشِطَ، ولاتَتَقَدَّمُ فَتَزولَ، ولاتَهبِطُ مَرَّةً فَتَدنُوَ، ولاتَرتَفِعُ فَلا تُرى. (2)
عنه عليه السلام_ لِزِنديقٍ قالَ لَهُ : أَخبِرني أَيُّهَا الحَكيمُ ، ما بالُ السَّماءِ لا يَنزِلُ مِنها إِلَى الأَرضِ أَحدٌ ، ولا يَصعَدُ مِنَ الأَرضِ إِلَيها بَشَرٌ ، ولا طَريقٌ إِلَيها ولا مَسلَكٌ ، فَلَو نَظَرَ العِبادُ في كُلِّ دَهرٍ مَرَّةً مَن يَصعَدُ إِلَيها ويَنزِلُ لَكانَ ذلِكَ أَثبَتُ فِي الرُّبوبِيَّةِ ، وأَنفى لِلشَّكِّ وأَقوى لِليَقينِ ، وأَجدَرُ أن يَعلَمَ العِبادُ أنَّ هُناكَ مُدَبِّرا إِلَيهِ يَصعَدُ الصّاعِدُ ، ومِن عِندِهِ يَهِبطُ الهابِطُ ؟ _: إِنَّ كُلَّ ماتَرى فِيالأَرضِ مِنَ التَّدبيرِ إِنَّما هُوَ يَنزِلُ مِنَ السَّماءِ ، ومِنها
.
ص: 126
يَظهَرُ ، أما تَرَى الشَّمسَ مِنها تَطلَعُ ، وهِيَ نورُ النَّهارِ ، وفيها قِوامُ الدُّنيا ، ولَو حُبِسَت حارَ مَن عَلَيها وهَلَكَ ، وَالقَمرَ مِنها يَطلَعُ ، وهُوَ نورُ اللَّيلِ ، وبِهِ يُعلَمُ عَدَدُ السِّنينَ وَالحِسابُ وَالشُّهورُ والأَيّامُ ، ولَو حُبِسَ لَحارَ مَن عَلَيها وفَسَدَ التَّدبيرُ ، وفِي السَّماءِ النُّجومُ الَّتي يُهتَدى بِها في ظُلُماتِ البَرِّ والبَحرِ ، ومِنَ السَّماءِ يَنزِلُ الغَيثُ الَّذي فيهِ حَياةُ كُلِّ شَيءٍ ؛ مِنَ الزَّرعِ وَالنَّباتِ وَالأَنعامِ ، وكُلِّ الخَلقِ لَو حُبِسَ عَنهُم لَما عاشوا . وَالرِّيحَ لَو حُبِسَت أيّاما لَفَسَدَتِ الأَشياءُ جَميعا وتَغَيَّرَت ، ثُمَّ الغَيمَ وَالرَّعدَ وَالبَرقَ وَالصَّواعِقَ ، كُلُّ ذلِكَ إِنَّما هُوَ دَليلٌ عَلى أنَّ هُناكَ مُدَبِّرا يُدَبِّرُ كُلَّ شَيءٍ ، ومِن عِندِهِ يَنزِلُ ، وقَد كَلَّمَ اللّهُ موسى وناجاهُ ، ورَفَعَ اللّهُ عيسَى بنَ مَريَمَ ، وَالمَلائِكَةُ تَنزِلُ مِن عِندِهِ ، غَيرَ أنَّكَ لا تُؤمِنُ بِما لَم تَرَهُ بِعَينِكَ ، وفيما تَراهُ بِعَينِكَ كِفايَةٌ أن تَفهَمَ وتَعقِلَ . (1)
عنه عليه السلام :ولَعَمري لَو تَفَكَّروا في هذِهِ الأُمورِ العِظامِ لَعايَنوا مِن أَمرِ التَّركيبِ البَيِّنِ ، ولُطفِ التَّدبيرِ الظّاهِرِ ، ووُجودِ الأَشياءِ مَخلوقَةً بَعدَ أن لَم تَكُن ، ثُمَّ تَحَوُّلِها مِن طَبيعَةٍ إِلى طَبيعَةٍ ، وصَنيعَةٍ بَعدَ صَنيعَةٍ ، ما يَدُلُّهُم ذلِكَ عَلَى الصَّانِعِ ؛ فَإِنَّهُ لا يَخلو شَيءٌ مِنها مِن أن يَكونَ فيهِ أَثرُ تَدبيرٍ وتَركيبٍ يَدُلُّ عَلى أنَّ لَهُ خالِقا مُدَبِّرا ، وتَأليفٍ بِتَدبيرٍ يَهدي إِلى واحِدٍ حَكيمٍ . (2)
الإمام الرضا عليه السلام_ لَمّا سَأَلَهُ رَجُلٌ مِنَ الزَّنادِقَةِ : فَمَا الدَّليلُ عَلَيهِ ؟ _: إِنّي لَمّا نَظَرتُ إِلى جَسَدي ولَم يُمكِنّي فيهِ زِيادَةٌ ولا نُقصانٌ فِي العَرضِ وَالطُّولِ ودَفعِ المَكارِهِ عَنهُ وجَرِّ المَنفَعَةِ إِلَيهِ ، عَلِمتُ أنَّ لِهذَا البُنيانِ بانِيا ، فَأَقرَرتُ بِهِ مَعَ ما أَرى مِن دَوَرانِ الفَلَكِ بِقُدرَتِهِ ، وإِنشاءِ السَّحابِ وتَصريفِ الرِّياحِ ومَجرَى الشَّمسِ وَالقَمَرِ وَالنُّجومِ ،
.
ص: 127
وغَيرِ ذلِكَ مِنَ الآياتِ العَجيباتِ المُبَيَّناتِ ، عَلِمتُ أنَّ لِهذَا مُقَدِّرا ومُنشِئا . (1)
عيون أخبار الرضا عن الحسن بن عليّ بن فضّال :قُلتُ لَهُ [ الإمامِ الرِّضا عليه السلام ] : يَا ابنَ رَسولِ اللّهِ، لِمَ خَلَقَ اللّهُ عز و جل الخَلقَ عَلى أَنواعٍ شَتّى ولَم يَخلُقهُ نَوعا واحِدا؟ فَقالَ : لِئَلّا يَقَعَ فِي الأَوهامِ أنَّهُ عاجِزٌ ، فَلا تَقَعُ صورَةٌ في وَهمِ مُلحِدٍ إِلّا وقَد خَلَقَ اللّهُ عز و جل عَلَيها خَلقا ، ولا يَقولُ قائِلٌ : هَل يَقدِرُ اللّهُ عز و جلعَلى أن يَخلُقَ عَلى صُورَةِ كَذا وكَذا إِلّا وَجَدَ ذلِكَ في خَلقِهِ _ تَبارَكَ وتَعالى _ فَيَعلَمُ بِالنَّظَرِ إِلى أَنواعِ خَلقِهِ أنَّهُ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ . (2)
الإمام الرضا عليه السلام :يُدَلُّ عَلَى اللّهِ عز و جل بِصِفاتِهِ ، ويُدرَكُ بِأَسمائِهِ ، ويُستَدَلُّ عَلَيهِ بِخَلقِهِ . (3)
عنه عليه السلام :نِظامُ تَوحيدِ اللّهِ نَفيُ الصِّفاتِ عَنهُ ؛ لِشَهادَةِ العُقولِ أنَّ كُلَّ صِفَةٍ ومَوصوفٍ مَخلوقٌ ، وشَهادَةِ كُلِّ مَخلوقٍ أنَّ لَهُ خالِقا لَيسَ بِصِفَةٍ ولا مَوصوفٍ ، وشَهادَةِ كُلِّ صِفَةٍ ومَوصوفٍ بِالاِقتِرانِ ، وشَهادَةِ الاِقتِرانِ بِالحَدَثِ ، وشَهادَةِ الحَدَثِ بِالامتِناعِ مِنَ الأَزَلِ المُمتَنِعِ مِنَ الحَدَثِ . (4)
عنه عليه السلام_ في قَولِهِ تَعالى : «وَ مَن كَانَ فِى هَ_ذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِى الْاخِرَةِ أَعْمَى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً» _: يَعني أَعمى عِنِ الحَقائِقِ المَوجودَةِ . (5)
.
ص: 128
الإمام الجواد عليه السلام :كُلُّ مُتَجَزِّىً أو مُتَوَهَّمٍ بِالقِلَّةِ وَالكَثرَةِ فَهُوَ مَخلوقٌ دالٌّ عَلى خالِقٍ لَهُ . (1)
المزار الكبير_ فِي الدُّعاءِ _: صارَ كُلُّ شَيءٍ خَلَقتَهُ حُجَّةً لَكَ ومُنتَسَبا إِلى فِعلِكَ ، وصادِرا عَن صُنعِكَ ، فَمِن بَينِ مُبتَدَعٍ يَدُلُّ عَلى إِبداعِكَ ، ومُصَوَّرٍ يَشهَدُ بِتَصويرِكَ ، ومُقَدَّرٍ يُنبِئُ عَن تَقديرِكَ ، ومُدَبَّرٍ يَنطِقُ عَن تَدبيرِكَ ، ومَصنوعٍ يومِئُ إِلى تَأثيرِكَ ، وأنتَ لِكُلِّ جِنسٍ مِن مَصنوعاتِكَ ومَبروءاتِكَ (2) ومَفطوراتِكَ صانِعٌ و بارِئٌ وفاطِرٌ . (3)
بحار الأنوار عن المولى محمّد تقي المجلسي قدس سره :قالَ سُبحانَهُ : كُنتُ كَنزا مَخفِيّا ، فَأَحبَبتُ أن أُعرَفَ ، فَخَلَقتُ الخَلقَ لِكَي أعرَفَ . (4)
راجع : ص 65 (العقل) .
.
ص: 129
الباب الثّاني: خلق الإنسان2 / 1جَوامِعُ آيات مَعْرِفَةِ اللّهِ في خلق الإنسانالكتاب«وَ فِى خَلْقِكُمْ وَ مَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ ءَايَ_تٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ» .
الحديثالإمام عليّ عليه السلام_ في قَولِهِ تَعالى : «وَ فِى أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ » (1) _: قالَ : سَبيلُ الغائِطِ وَالبَولِ . (2)
عنه عليه السلام :أَيُّهَا المَخلوقُ السَوِيُّ ، وَالمُنشَأُ المَرعِيُّ في ظُلُماتِ الأَرحامِ ، ومُضاعَفاتِ الأَستارِ ، بُدِئتَ مِن سُلالَةٍ مِن طينٍ ، ووُضِعتَ في قَرارٍ مَكينٍ ، إِلى قَدَرٍ مَعلومٍ ، وأَجَلٍ مَقسومٍ ، تَمورُ (3) في بَطنِ أُمِّكَ جَنينا لا تُحيرُ دُعاءً ، ولا تَسمَعُ نِداءً .
.
ص: 130
ثُمَّ أُخرِجتَ مِن مَقَرِّكَ إِلى دارٍ لَم تَشهَدها ، ولَم تَعرِف سُبُلَ مَنافِعِها ؛ فَمَن هَداكَ لِاجتِرارِ الغِذاءِ مِن ثَديِ أُمِّكَ ، وعَرَّفَكَ عِندَ الحاجَةِ مَواضِعَ طَلَبِكَ وَإِرادَتِكَ ؟ (1)
بحار الأنوار عن المفضّل بن عمر عن الإمام الصادق عليه السلام : فَكِّر_ يا مُفَضَّلُ _في أَعضاءِ البَدَنِ أَجمَعَ وتَدبيرِ كُلٍّ مِنها لِلإِربِ (2) ؛ فَاليَدانِ لِلعِلاجِ ، وَالرِّجلانِ لِلسَّعيِ ، وَالعَينانِ لِلاِهتِداءِ ، وَالفَمُ لِلاِغتِذاءِ ، وَالمِعدَةُ لِلهَضمِ ، وَالكَبِدُ لِلتَّخليصِ ، وَالمَنافِذُ لِتَنفيذِ الفُضولِ ، وَالأَوعِيَةُ لِحَملِها ، وَالفَرجُ لِاءِقامَةِ النَّسلِ ، وكَذلِكَ جَميعُ الأَعضاءِ إِذا تَأَمَّلتَها وأَعمَلتَ فِكرَكَ فيها ونَظَرَكَ ؛ وَجَدتَ كُلَّ شَيءٍ مِنها قَد قُدِّرَ لِشَيءٍ عَلى صَوابٍ وحِكمَةٍ . فَقُلتُ : يا مَولايَ ، إِنَّ قَوما يَزعُمونَ أنَّ هذا مِن فِعلِ الطَّبيعَةِ ! فَقالَ : سَلهُم عَن هذِهِ الطَّبيعَةِ ، أهِيَ شَيءٌ لَهُ عِلمٌ وقُدرَةٌ عَلى مِثلِ هذِهِ الأَفعالِ ، أم لَيسَت كَذلِكَ ؟ فَإِن أَوجَبوا لَهَا العِلمَ وَالقُدرَةَ فَما يَمنَعُهُم مِن إِثباتِ الخالِقِ فَإِنَّ هذِهِ صَنعَتُهُ؟ وإِن زَعَموا أنَّها تَفعَلُ هذِهِ الأَفعالَ بِغَيرِ عِلمٍ ولا عَمدٍ ، وكانَ في أَفعالِها ما قَد تَراهُ مِنَ الصَّوابِ وَالحِكمَةِ عُلِمَ أنَّ هذَا الفِعلَ لِلخالِقِ الحَكيمِ ، وأنَّ الَّذي سَمَّوهُ طَبيعَةً هُوَ سُنَّةٌ في خَلقِهِ الجارِيَةِ عَلى ما أَجراها عَلَيهِ ... . أُنظُرِ الآنَ إِلى هذِهِ الحَواسِّ الَّتي خُصَّ بِهَا الإِنسانُ في خَلقِهِ وشُرِّفَ بِها عَلى غَيرِهِ ، كَيفَ جُعِلَتِ العَينانُ فِي الرَّأسِ كَالمَصابيحِ فَوقَ المَنارَةِ لِيَتَمَكَّنَ مِن مُطالَعَةِ الأَشياءِ ، ولَم تُجعَل فِي الأَعضاءِ الَّتي تَحتَهُنَّ كَاليَدَينِ وَالرِّجلَينِ فَتَعرِضَهَا الآفاتُ ، وتُصيبَها مِن مُباشَرَةِ العَمَلِ وَالحَرَكَةِ ما يُعَلِّلُها ويُؤَثِّرُ فيها ويَنقُصُ مِنها ، ولا
.
ص: 131
فِي الأَعضاءِ الَّتي وَسَطَ البَدَنِ كَالبَطنِ وَالظَّهرِ فَيَعسُرَ تَقَلُّبُها وَاطِّلاعُها نَحوَ الأَشياءِ ، فَلَمّا لَم يَكُن لَها في شَيءٍ مِن هذِهِ الأَعضاءِ مَوضِعٌ كانَ الرَّأسُ أَسنَى المَواضِعِ لِلحَواسِّ ، وهُوَ بِمَنزِلَةِ الصَّومِعَةِ لَها . فَجَعَلَ الحَواسَّ خَمسا تَلقى خَمسا لِكَيلا يَفوتَها شَيءٌ مِنَ المَحسوساتِ ، فَخَلَقَ البَصَرَ لِيُدرِكَ الأَلوانَ ؛ فَلَو كانَتِ الأَلوانُ ولَم يَكُن بَصَرٌ يُدرِكُها لَم يَكُن مَنفَعَةٌ فيها ، وخَلَقَ السَّمعَ لِيُدرِكَ الأَصواتَ ؛ فَلَو كانَتِ الأَصواتُ ولَم يَكُن سَمعٌ يُدرِكُها لَم يَكُن فيها إِربٌ ، وكَذلِكَ سائِرُ الحَواسِّ . ثُمَّ هذا يَرجِعُ مُتَكافِئا ؛ فَلَو كانَ بَصَرٌ ولَم يَكُن ألوانٌ لَما كانَ لِلبَصَرِ مَعنىً ، ولَو كانَ سَمعٌ ولَم يَكُن أصواتٌ لَم يَكُن لِلسَّمعِ مَوضِعٌ . فَانظُر كَيفَ قَدَّرَ بَعضَها يَلقى بَعضا فَجَعَلَ لِكُلِّ حاسَّةٍ مَحسوسا يَعمَلُ فيهِ ، ولِكُلِّ مَحسوسٍ حاسَّةً تُدرِكُهُ . ومَعَ هذا فَقَد جُعِلَت أَشياءُ مُتَوَسِّطَةً بَينَ الحَواسِّ وَالمَحسوساتِ ، لا يَتِمُّ الحَواسُّ إِلّا بِها ، كَمِثلِ الضِّياءِ وَالهَواءِ ؛ فَإِنَّهُ لَو لَم يَكُن ضِياءٌ يُظهِرُ اللَّونَ لِلبَصَرِ لَم يَكُنِ البَصَرُ يُدرِكُ اللَّونَ ، ولَو لَم يَكُن هَواءٌ يُؤَدِّي الصَّوتَ إِلَى السَّمعِ لَم يَكُنِ السَّمعُ يُدرِكُ الصَّوتَ ، فَهَل يَخفى عَلى مَن صَحَّ نَظَرُهُ وأَعمَلَ فِكرَهُ أنَّ مِثلَ هذَا الَّذي وَصَفتُ من تَهيِئَةِ الحَواسِّ وَالمَحسوساتِ بَعضُها يَلقى بَعضا ، وتَهِيئَةِ أَشياءَ أُخَرَ بِها تَتِمُّ الحَواسُّ لا يَكونُ إِلّا بِعَمدٍ وتَقديرٍ مِن لَطيفٍ خَبيرٍ ؟ (1)
الإمام الصادق عليه السلام_ في بَيانِ مَراحِلِ كَمالِ الطِّفلِ _: لَو كانَ المَولودُ يُولَدُ فَهِما عاقِلاً لَأَنكَرَ العالَمَ عِنَد وِلادَتِهِ، ولَبَقِيَ حَيرانَ تائِهَ العَقلِ إِذا رَأى ما لَم يَعرِف ووَرَدَ عَلَيهِ ما لَم يَرَ مِثلَهُ مِنِ اختِلافِ صُوَرِ العالَمِ مِنَ البَهائِمِ وَالطَّيرِ إِلى غَيرِ ذلِكَ مِمّا يُشاهِدُهُ
.
ص: 132
ساعَةً بَعدَ ساعَةٍ ويَوما بَعدَ يَومٍ، وَاعتَبَرَ ذلِكَ بِأَنَّ مَن سُبِيَ مِن بَلَدٍ إِلى بَلَدٍ وهُوَ عاقِلٌ يَكونُ كَالوالِهِ الحَيرانِ، فَلا يُسرِعُ في تَعَلُّمِ الكَلامِ وقَبولِ الأَدَبِ كَما يُسرِعُ الَّذي يُسبى صَغيرا غَيرَ عاقِلٍ . ثُمَّ لَو وُلِدَ عاقِلاً كانَ يَجِدُ غَضاضَةً (1) إِذا رَأى نَفسَهُ مَحمولاً مُرضَعا مُعَصَّبا بِالخِرَقِ مُسَجّىً فِي المَهدِ ؛ لِأَ نَّهُ لا يَستَغني عَن هذا كُلِّهِ لِرِقَّةِ بَدَنِهِ ورُطوبَتِهِ حينَ يولَدُ، ثُمَّ كانَ لا يوجَدُ لَهُ مِنَ الحَلاوَةِ وَالوَقعِ مِنَ القُلوبِ ما يوجَدُ لِلطِّفلِ، فَصارَ يَخرُجُ إِلَى الدُّنيا غَبِيّا غافِلاً عَمّا فيهِ أهلُهُ فَيَلقَى الأَشياءَ بِذِهنٍ ضَعيفٍ ومَعرِفَةٍ ناقِصَةٍ، ثُمَّ لا يَزالُ يَتَزايَدُ فِي المَعرِفَةِ قَليلاً قَليلاً وشَيئا بَعدَ شَيءٍ وحالاً بَعدَ حالٍ حَتّى يَألَفَ الأَشياءَ ويَتَمَرَّنَ ويَستَمِرَّ عَلَيها، فَيَخرُجَ مِن حَدِّ التَّأَمُّلِ لَها وَالحَيرَةِ فيها إِلَى التَّصَرُّفِ وَالاِضطِرابِ إِلَى المَعاشِ بِعَقلِهِ وحيلَتِهِ، وإِلَى الاِعتِبارِ وَالطَّاعَةِ وَالسَّهوِ وَالغَفلَةِ وَالمَعصِيَةِ. وفي هذا أَيضا وُجوهٌ أُخَرُ ؛ فَإِنَّهُ لَو كانَ يولَدُ تامَّ العَقلِ مُستَقِلّاً بِنَفسِهِ لَذَهَبَ مَوضِعُ حَلاوَةِ تَربِيَةِ الأَولادِ ، وما قَدَرَ أن يَكونَ لِلوالِدَينِ فِي الاِشتِغالِ بِالوَلَدِ مِنَ المَصلَحَةِ وما يوجِبُ التَّربِيَةَ لِلآباءِ عَلَى الأَبناءِ مِنَ المُكَلَّفاتِ بِالبِرِّ وَالعَطفِ عَلَيهِم عِندَ حاجَتِهِم إِلى ذلِكَ مِنهُم، ثُمَّ كانَ الأَولادُ لا يَألَفونَ آباءَهُم ، ولا يَألَفُ الآباءُ أَبناءَهُم ؛ لِأَنَّ الأَولادَ كانوا يَستَغنونَ عَن تَربِيَةِ الآباءِ وحِياطَتِهِم فَيَتَفَرَّقونَ عَنهُم حينَ يولَدونَ، فَلا يَعرِفُ الرَّجُلُ أَباهُ وأُمَّهُ ولا يَمتَنِعُ مِن نِكاحِ أُمِّهِ وأُختِهِ وذَواتِ المَحارِمِ مِنهُ إِذا كانَ لا يَعرِفُهُنَّ، وأَقَلُّ ما في ذلِكَ مِنَ القَباحَةِ ، بَل هُوَ أَشنَعُ وأَعظَمُ وأَفظَعُ وأَقبَحُ وأَبشَعُ لَو خَرَجَ المَولودُ مِن بَطنِ أُمِّهِ وهُوَ يَعقِلُ أن يَرى مِنها ما لا يَحِلُّ لَهُ ولا يَحسُنُ بِهِ أن يَراهُ. أفَلا تَرى كَيفَ أُقيمَ كُلُّ شَيءٍ مِنَ الخِلقَةِ عَلى غايَةِ الصَّوابِ
.
ص: 133
وخَلا مِنَ الخَطَاَ دَقيقُهُ وجَليلُهُ. (1)
راجع : ص 83 (معرفةُ النَّفسِ) و 99 (التَّجرِبَةِ).
2 / 2خَلقُ الإِنسانِ مِنَ التُّرابِالكتاب«وَمِنْ ءَايَ_تِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ » . (2)
«فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَ_هُم مِّن طِينٍ لَازِب » . (3)
«خَلَقَ الْاءِنسَ_نَ مِن صَلْصَ_لٍ كَالْفَخَّارِ » . (4)
راجع : الحجّ : 5 ، الأنعام : 2 ، الحِجْر : 26 ، المؤمنون : 12 ، غافر : 67 ، فاطر : 11 .
الحديثعلل الشرائع عن أبي عبد اللّه بن يزيد :حَدَّثَني يَزيدُ بنُ سَلّامٍ أنَّهُ سَأَلَ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله فَقالَ لَهُ .. . : فَأَخبِرني عَن آدَمَ لِمَ سُمِّيَ آدَمَ ؟ قالَ : لِأَنَّهُ خُلِقَ مِن طينِ الأَرضِ وأَديمِها . قالَ : فَادَمُ خُلِقَ مِن طينٍ كُلِّهِ أو طينٍ واحدٍ ؟ قالَ : بَل مِنَ الطِّينِ كُلِّهِ ، ولَو خُلِقَ مِن طينٍ واحِدٍ لَما عَرَفَ النّاسُ بَعضُهُم بَعضا ، وكانوا عَلى صورَةٍ واحِدَةٍ .
.
ص: 134
قالَ : فَلَهُم فِي الدُّنيا مَثَلٌ ؟ قالَ : التُّرابُ فيهِ أَبيضُ وفيهِ أَخضَرُ وفيهِ أَشقَرُ وفيهِ أَغبَرُ وفيهِ أَحمَرُ وفيهِ أَزرَقُ ، وفيهِ عَذبٌ وفيهِ مِلحٌ ، وفيهِ خَشِنٌ وفيهِ لَيِّنٌ وفيهِ أَصهَبُ ، فَلِذلِكَ صارَ النّاسُ فيهِم لَيِّنٌ وفيهِم خَشِنٌ ، وفيهِم أَبيَضُ وفيهِم أَصفَرُ وأحمَرُ وأَصهَبُ وأَسوَدُ عَلى ألوانِ التُّرابِ . (1)
الإمام الصادق عليه السلام :أَوَّلُ مَن قاسَ إِبليسُ ؛ قالَ : «خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ» (2) ، ولَو عَلِمَ إِبليسُ ما جَعَلَ اللّهُ في آدَمَ لَم يَفتَخِر عَلَيهِ . ثُمَّ قالَ : إِنَّ اللّهَ عز و جل خَلَقَ المَلائِكَةَ مِنَ النّورِ ، وخَلَقَ الجانَّ مِنَ النّارِ ، وخَلَقَ الجِنَّ؛ صِنفا مِنَ الجانِّ مِنَ الرِّيحِ ، وخَلَقَ صِنفا مِنَ الجِنِّ مِنَ الماءِ ، وخَلَقَ آدَمَ مِن صَفحَةِ الطّينِ . (3)
2 / 3خَلقُ الإِنسانِ مِنَ النُّطفَةِالكتاب«وَ هُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَ صِهْرًا وَ كَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا » . (4)
«فَلْيَنظُرِ الْاءِنسَ_نُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ » . (5)
.
ص: 135
«أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ * فَجَعَلْنَ_هُ فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ » . (1)
«إِنَّا خَلَقْنَا الْاءِنسَ_نَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَ_هُ سَمِيعَا بَصِيرًا » . (2)
راجع : النحل : 4 ، القيامة : 37 ، 38 ، فاطر : 11 ، غافر : 67 ، المؤمنون : 14 ، يس : 77 .
الحديثالإمام عليّ عليه السلام_ مِن خُطبَةٍ يَصِفُ فيها خَلقَ الإِنسانِ _: أم هذَا الَّذي أَنشَأَهُ في ظُلُماتِ الأَرحامِ وشُغُفِ الأَستارِ نُطفَةً دِهاقا .. . ثُمَّ مَنَحَهُ قَلبا حافِظا ، ولِسانا لافِظا ، وبَصَرا لاحِظا ؛ لِيَفهَمَ مُعتَبِرا ، ويُقَصِّرَ مُزدَجِرا ، حَتّى إِذا قامَ اعتِدالُهُ ، وَاستَوى مِثالُهُ ، نَفَرَ مُستَكبِرا . (3)
عنه عليه السلام_ في تَقديسِ اللّهِ جَلَّ و عَلا _: عالِمُ السِّرِّ مِن ضَمائِرِ المُضمِرينَ . . . ومَحَطِّ الأَمشاجِ (4) مِن مَسارِبِ (5) الأَصلابِ . (6)
الإمام الباقر عليه السلام_ في قَولِهِ تَعالى : «أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ» _: ماءُ الرَّجُلِ وماءُ المَرأَةِ اختَلَطا جَميعا . (7)
بحار الأنوار عن صحُف إدريس عليه السلام :فازَ _ يا أُخنوخُ _ مَن عَرَفَني ، وهَلَك مَن أَنكَرَني . عَجَبا لِمَن ضَلَّ عَنّي ولَيسَ يَخلو في شَيءٍ مِنَ الأَوقاتِ مِنّي ، كَيفَ يَخلو وأنا أَقرَبُ إِلَيهِ مِن كُلِّ قَريبٍ ، وأَدنى إِلَيهِ مِن حَبلِ الوَريدِ ؟
.
ص: 136
ألَستَ أَيُّهَا الإِنسانُ العَظيمُ عِندَ نفَسِهِ في بُنيانِهِ ، القَوِيُّ لَدى هِمَّتِهِ في أَركانِهِ ، مَخلوقا مِنَ النُّطفَةِ المَذِرةِ ، ومُخرَجا مِنَ الأَماكِنِ القَذِرَةِ ، تَنحَطُّ مِن أَصلابِ الآباءِ كَالنُّخاعَةِ إِلى أَرحامِ النِّساءِ ، ثُمَّ يَأتيكَ أَمري فَتَصيرُ عَلَقَةً ، لَو رَأَتكَ العُيونُ لَاستَقذَرَتكَ ، ولَو تَأَمَّلَتكَ النُّفوسُ لَعافَتكَ ، ثُمَّ تَصيرُ بِقُدرَتي مُضغَةً لا حَسَنَةً فِي المَنظَرِ ، ولا نافِعَةً فِي المَخبَرِ ، ثُمَّ أَبعَثُ إِلَيكَ أَمرا مِن أَمري ، فَتُخلَقُ عُضوا عُضوا ، وتُقَدَّرُ مَفصِلاً مَفصِلاً ، مِن عِظامٍ مَغشِيَّةٍ ، وعُروقٍ مُلتَوِيَةٍ ، وأَعصابٍ مُتَناسِبَةٍ ، ورِباطاتٍ ماسِكَةٍ ، ثُمَّ يَكسوكَ لَحما ، ويُلبِسُكَ جِلدا ، تُجامَعُ مِن أَشياءَ مُتَبايِنَةٍ ، وتُخلَقُ مِن أَصنافٍ مُختَلِفَةٍ ، فَتَصيرُ بِقُدرَتي خَلقا سَوِيّا لا روحَ فيكَ تُحَرِّكُكَ ، ولا قُوَّةَ لَكَ تُقِلُّكَ ... فَأَنفُخُ فيكَ الرّوحَ ، وأَهَبُ لَكَ الحَياةَ ، فَتَصيرُ بِإِذني إِنسانا ، لا تَملِكُ نَفعا ولا ضَرّا ، ولا تَفعَلُ خَيرا ولا شَرّا ، مَكانُكَ مِن أُمِّكَ تَحتَ السُّرَّةِ ، كَأنَّكَ مَصرورٌ في صُرَّةٍ ، إِلى أن يَلحَقَكَ ما سَبَقَ مِنّي مِنَ القَضاءِ ، فَتَصيرَ مِن هُناكَ إِلى وَسعِ الفَضاءِ ، فَتَلقى ما قَدَّرَكَ مِنَ السَّعادَةِ أوِ الشَّقاءِ ، إِلى أَجَلٍ مِنَ البَقاءِ مُتَعَقِّبٌ لا شَكَّ بِالفَناءِ ، أأنتَ خَلَقتَ نَفسَكَ ، وسَوَّيتَ جِسمَكَ ، ونَفَختَ روحَكَ ؟ إِن كُنتَ فَعَلتَ ذلِكَ وأنتَ النُّطفَةُ المَهينَةُ ، وَالعَلَقَةُ المُستَضعَفَةُ ، وَالجَنينُ المَصرورُ في صُرَّةٍ ، فَأَنتَ الآنَ في كَمالِ أَعضائِكَ ، وطَراءَةِ مائِكَ ، وتَمامِ مَفاصِلِكَ ، ورَيَعانِ شَبابِك ، أَقوى وأَقدَرُ ؛ فَاخلُق لِنَفسِكَ عُضوا آخَرَ ، وَاستَجلِب قُوَّةً إِلى قُوَّتِكَ ، وإِن كُنتَ أنتَ دَفَعتَ عَن نَفسِكَ في تِلكَ الأَحوالِ طارِقاتِ الأَوجاعِ وَالأَعلالِ ، فَادفَع عَن نَفسِكَ الآنَ أَسقامَكَ ، ونَزِّه عَن بَدَنِكَ آلامَكَ ، وإِن كُنتَ أنتَ نَفَختَ الرّوحَ في بَدَنِكَ وجَلَبتَ الحَياةَ الَّتي تُمسِكُكَ ، فَادفَعِ المَوتَ إِذا حَلَّ بِكَ ، وأبقِ يَوما واحِدا عِندَ حُضورِ أَجَلِكَ . فَإِن لَم تَقدِر أَيُّهَا الإِنسانُ عَلى شَيءٍ مِن ذلِكَ ، وعَجَزتَ عَنهُ كُلِّهِ ، فَاعلَم أنَّكَ
.
ص: 137
حَقّا مَخلوقٌ ، وأنّي أنَا الخالِقُ ، وأنَّكَ أنتَ العاجِزُ ، وأنّي أنَا القَوِيُّ القادِرُ ، فَاعرِفني حينَئِذٍ وَاعبُدني حَقَّ عِبادَتي ، وَاشكُر لي نِعمَتي أَزِدكَ مِنها ، وَاستَعِذ بي مِن سُخطَتي أُعِذكَ مِنها ؛ فَإِنّي أنَا اللّهُ الَّذي لا أعبَأُ بِما أَخلُقُ ، ولا أَتعَبُ ولا أَنصَبُ فيما أَرزُقُ ، ولا أَلغَبُ ، إِنّما أَمري إِذا أَرَدتُ شَيئا أن أَقولَ لَهُ كُن فَيَكونُ . (1)
2 / 4تَصويرُ الجَنينِ فِي الرَّحِمِالكتاب«هُوَ الَّذِى يُصَوِّرُكُمْ فِى الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَ_هَ إِلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ » . (2)
«يَ_أَيُّهَا الْاءِنسَ_نُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ » . (3)
«خَلَقَ السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ » . (4)
«اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَ السَّمَاءَ بِنَاءً وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ رَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَ_تِ ذَ لِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَ__لَمِينَ » . (5)
«هُوَ اللَّهُ الْخَ__لِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِى السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ » . (6)
«لَقَدْ خَلَقْنَا الْاءِنسَ_نَ فِى كَبَدٍ » . (7)
.
ص: 138
«مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا » . (1)
«يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أُمَّهَ_تِكُمْ خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِى ظُ_لُمَ_تٍ ثَلَ_ثٍ ذَ لِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَ_هَ إِلَا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ» . (2)
الحديثالإمام الباقر عليه السلام_ في قَولِهِ تَعالى : «وَلَقَدْ خَلَقْنَ_كُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَ_كُمْ» (3) _: أمّا «خَلَقْنَ_كُمْ» ؛ فَنُطفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضغَةً ، ثُمَّ عَظما ثمَّ لَحما ، وأمّا «صَوَّرْنَ_كُمْ» ؛ فَالعَينَ وَالأَنفَ وَالأُذُنَينِ وَالفَمَ وَاليَدَينِ وَالرِّجلَينِ صَوَّرَ هذا ونَحوَهُ ، ثُمَّ جَعَلَ الدَّميمَ وَالوَسيمَ وَالطَّويلَ وَالقَصيرَ وأَشباهَ هذا . (4)
الإمام الصادق عليه السلام :إِنَّ اللّهَ _ تَبارَكَ وتَعالى _ يَقولُ في كِتابِهِ : «لَقَدْ خَلَقْنَا الْاءِنسَ_نَ فِى كَبَدٍ» يَعني : مُنتَصِبا في بَطنِ أُمِّهِ ، مَقاديمُهُ إِلى مَقاديمِ أُمِّهِ ، ومَاخيرُهُ إِلى مَاخيرِ أُمِّهِ ، غِذاؤُهُ مِمّا تَأكُلُ أُمُّهُ ، ويَشرَبُ مِمّا تَشرَبُ أُمُّهُ ، تُنَسِّمُهُ (5) تَنسيما . (6)
علل الشرائع عن حمّاد بن عثمان :قُلتُ لِأَبي عَبدِ اللّهِ عليه السلام : إِنّا نَرَى الدَّوابَّ في بُطونِ أَيديهَا الرُّقعَتَينِ مِثلَ الكَيِّ ؛ فَمِن أيِّ شَيءٍ ذلِكَ ؟ فَقالَ : ذلِكَ موَضِعُ مِنخَرَيهِ في بَطنِ أُمِّهِ وَابنُ آدَمَ مُنتَصِبٌ في بَطنِ أُمِّهِ ، وذلِكَ قَولُ اللّهِ تَعالى : «لَقَدْ خَلَقْنَا الْاءِنسَ_نَ فِى
.
ص: 139
كَبَدٍ» وما سِوَى ابنِ آدَمَ فَرَأسُهُ في دُبُرِهِ ويَداهُ بَينَ يَدَيهِ . (1)
تفسير القمّي : «لَقَدْ خَلَقْنَا الْاءِنسَ_نَ فِى كَبَدٍ» أي مُنتَصِبا ولَم يُخلَق مِثلُهُ شَيءٌ . (2)
تفسير ابن أبي حاتم عن أبي ذرّ :قالَ رَسولُ اللّه صلى الله عليه و آله : إذا مَكَثَ المَنِيُّ فِي الرَّحِمِ أربَعينَ لَيلَةً أتاهُ مَلَكُ النُّفوسِ فَعَرَجَ بِهِ إلىَ الرَّبِّ فَيَقولُ : يا رَبِّ أذَكَرُ أم اُنثى؟ فَيَقضِي اللّهُ ما هُوَ قاضٍ فَيَقولُ : أشَقِيٌّ أم سَعيدٌ؟ فَيُكتَبُ ما هُوَ لاقٍ . وقَرَأَ أبو ذَرٍّ مِن فاتِحَةِ التَّغابُنِ خَمسَ آياتٍ (3) إلى قَولِهِ : «وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ» . (4)
الإمام الحسين عليه السلام :أَقبَلَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله عَلى عَلِيٍّ عليه السلام فَقالَ : يا أَبَا الحَسَنِ ... ما أَوَّلُ نِعمَةٍ بَلاكَ اللّهُ عز و جل وأَنعَمَ عَلَيكَ بِها ؟ قالَ : أن خَلَقَني _ جَلَّ ثَناؤُهُ _ ولَم أَكُ شَيئا مَذكورا . قالَ : صَدَقتَ ، فَمَا الثّانِيَةُ؟ قالَ : أن أَحسَنَ بي إِذ خَلَقَني فَجَعَلَني حَيّا لا مَيِّتا . قالَ : صَدَقتَ ، فَمَا الثّالِثَةُ ؟ قالَ : أن أَنشَأَني _ فَلَهُ الحَمدُ _ في أَحسَنِ صورَةٍ وأعدَلِ تَركيبٍ .
.
ص: 140
قالَ : صَدَقتَ . (1)
الإمام الباقر عليه السلام :إِذا وَقَعَتِ النُّطفَةُ فِي الرَّحِمِ استَقَرَّت فيها أَربَعينَ يَوما ، وتَكونُ عَلَقَةً أَربَعينَ يَوما ، وتَكونُ مُضغَةً أَربَعينَ يَوما ، ثُمَّ يَبعَثُ اللّهُ مَلَكَينِ خَلّاقَينِ فَيُقالُ لَهُما : اُخلُقا كَما يُريدُ اللّهُ ذَكَرا أو أُنثى ، صَوِّراهُ واكتُبا أَجَلَهُ ورِزقَهُ ومَنِيَّتَهُ وشَقِيّا أو سَعيدا ، وَاكتُبا للّهِِ الميثاقَ الَّذي أَخَذَهُ عَلَيهِ فِي الذَّرِّ بَينَ عَينَيهِ ، فَإِذا دَنا خُروجُهُ مِن بَطنِ أُمِّهِ بَعَثَ اللّهُ إِلَيهِ مَلَكا يُقالُ لَهُ زاجِرٌ فَيَزجُرُهُ ، فَيَفزَعُ فَزَعا فَيَنسَى الميثاقَ ويَقَعُ إِلَى الأَرضِ يَبكي مِن زَجرَةِ المَلَكِ . (2)
عنه عليه السلام_ في ذِكرِ أطوارِ الخِلقَةِ _: ثُمَّ يَبعَثُ اللّهُ مَلَكَينِ خَلّاقَينِ يَخلُقانِ فِي الأَرحامِ ما يَشاءُ اللّهُ ، فَيَقتَحِمانِ في بَطنِ المَرأَةِ مِن فَمِ المَرأَةِ فَيَصلانِ إِلَى الرَّحِمِ ، وفيهَا الرّوحُ القَديمَةُ المَنقولَةُ في أَصلابِ الرِّجالِ وَأَرحامِ النِّساءِ ، فَيَنفُخانِ فيها روحَ الحَياةِ وَالبَقاءِ ، ويَشُقّانِ لَهُ السَّمعَ وَالبَصَرَ وجَميعَ الجَوارِحِ وجَميعَ ما فِي البَطنِ بِإِذنِ اللّهِ ، ثُمَّ يوحِي اللّهُ إِلَى المَلَكَينِ : اُكتُبا عَلَيهِ قَضائي وقَدَري ونافِذَ أَمري ، وَاشتَرِطا لِيَ البَداءَ فيما تَكتُبانِ ، فَيَقولانِ : يا رَبِّ ما نَكتُبُ ؟ فَيوحِي اللّهُ إِلَيهِما أنِ ارفَعا رُؤوسَكُما إِلى رَأسِ أُمِّهِ ، فَيَرفَعانِ رُؤوسَهُما ، فَإِذَا اللَّوحُ يَقرَعُ جَبهَةَ أُمِّهِ ، فَيَنظُرانِ فيهِ ، فَيَجِدانِ فِي اللَّوحِ صورَتَهُ وزينَتَهُ وأَجَلَهُ وميثاقَهُ شَقِيّا أو سَعيدا وجَميعَ شَأنِهِ . قالَ : فَيُملي أَحَدُهُما عَلى صاحِبِهِ فَيَكتُبانِ جَميعَ ما فِي اللَّوحِ ويَشتَرِطانِ البَداءَ فيما يَكتُبانِ . (3)
الإمام الصادق عليه السلام_ في بَيانِ كَيفِيَّةِ نُشوءِ الأَبدانِ _: أَوَّلُ ذلِكَ تَصويرُ الجَنينِ فِي
.
ص: 141
الرَّحِمِ حَيثُ لا تَراهُ عَينٌ ولا تَنالُهُ يَدٌ، ويُدَبِّرُهُ حَتّى يَخرُجَ سَوِيّا مُستَوفِيا جَميعَ ما فيهِ قِوامُهُ وصَلاحُهُ مِنَ الأَحشاءِ وَالجَوارِحِ وَالعَوامِلِ ، إِلى ما في تَركيبِ أَعضائِهِ مِنَ العِظامِ وَاللَّحمِ وَالشَّحمِ وَالمُخِّ وَالعَصَبِ وَالعُروقِ وَالغَضاريفِ ، فَإِذا خَرَج إِلَى العالَمِ تَراهُ كَيفَ يَنمي بِجَميعِ أَعضائِهِ ، وهُوَ ثابِتٌ عَلى شَكلٍ وهَيئَةٍ لا تَتَزايَدُ ولا تَنقُصُ ، إِلى أن يَبلُغَ أشُدَّهُ ، إِن مُدَّ في عُمُرِهِ أو يَستَوفِي مُدَّتَهُ قَبلَ ذلِكَ، هَل هذا إِلّا مِن لَطيفِ التَّدبيرِ وَالحِكمَةِ؟ (1)
عنه عليه السلام :إِنَّ اللّهَ _ تَبارَكَ وتَعالى _ إِذا أرادَ أن يَخلُقَ خَلقا جَمَعَ كُلَّ صورَةٍ بَينَهُ وبَينَ آدَمَ ، ثُمَّ خَلَقَهُ عَلى صورَةِ إِحداهُنَّ ، فَلا يَقولَنَّ أَحَدٌ لِوَلَدِهِ هذا لا يُشبِهُني ولا يُشبِهُ شَيئا مِن آبائي . (2)
عنه عليه السلام_ لِلمُفَضَّل بنِ عُمَرَ _: نَبتَدِئُ _ يا مُفَضَّلُ _ بِذِكرِ خَلقِ الإِنسانِ فَاعتَبِر بِهِ؛ فَأَوَّلُ ذلِكَ ما يُدَبَّرُ بِهِ الجَنينُ فِي الرَّحِمِ ، وهُوَ مُحجوبٌ في ظُلُماتٍ ثَلاثٍ : ظُلمَةِ البَطنِ، وظُلمَةِ الرَّحِمِ، وظُلمَةِ المَشيمَةِ، حَيثُ لا حيلَةَ عِندَهُ فيطَلَبِ غِذاءٍ ولادَفعِ أذىً، ولَا استِجلابِ مَنفَعَةٍ ولادَفعِ مَضَرَّةٍ؛ فَإِنَّهُ يَجري إِلَيهِ مِن دَمِ الحَيضِ ما يَغذوهُ كَما يَغذُو الماءُ النَّباتَ ، فَلا يَزالُ ذلِكَ غِذاؤُهُ حَتّى إِذا كَمُلَ خَلقُهُ، وَاستَحكَمَ بَدَنُهُ، وقَوِيَ أَديمُهُ عَلى مُباشَرَةِ الهَواءِ ، وبَصَرُهُ عَلى مُلاقاةِ الضِّياءِ، هاجَ الطَّلقُ بِأُمِّهِ فَأَزعَجَهُ أَشَدَّ إِزعاجٍ وأَعنَفَهُ حَتّى يولَدَ، و إِذا وُلِدَ صُرِفَ ذلِكَ الدَّمُ الَّذي كانَ يَغذوهُ مِن دَمِ أُمِّهِ إِلى ثَديَيها، فَانقَلَبَ الطَّعمُ وَاللَّونُ إِلى ضَربٍ آخَرَ مِنَ الغِذاءِ ، وهُوَ أَشَدُّ مُوافَقَةً لِلمَولودِ مِنَ الدَّمِ ، فَيُوافيهِ في وَقتِ حاجَتِهِ إِلَيهِ ، فَحينَ يُولَدُ قَد تَلَمَّظَ وحَرَّكَ شَفَتَيهِ طَلَبا لِلرِّضاعِ فَهُوَ يَجِدُ ثَديَي أُمِّهِ كَالإداوَتَينِ (3) المُعَلَّقَتَينِ
.
ص: 142
لِحاجَتِهِ إِلَيهِ ، فَلا يَزالُ يَغتَذي بِاللَّبَنِ ما دامَ رَطبَ البَدَنِ ، رَقيقَ الأَمعاءِ ، لَيِّنَ الأَعضاءِ ، حَتّى إِذا تَحَرَّكَ وَاحتاجَ إِلى غِذاءٍ فيهِ صَلابَةٌ لِيَشتَدَّ ويَقوى بَدَنُهُ طَلَعَت لَهُ الطَّواحِنُ مِنَ الأَسنانِ وَالأَضراسِ ، لِيَمضَغَ بِهِ الطَّعامَ فَيَلينَ عَلَيهِ ويَسهُلَ لَهُ إِساغَتُهُ ، فَلا يَزالُ كَذلِكَ حَتّى يُدرِكَ ، فَإِذا أَدرَكَ وكانَ ذَكَرا طَلَعَ الشَّعرُ في وَجهِهِ ، فَكانَ ذلِكَ عَلامَةَ الذَّكَرِ وعِزَّ الرَّجُلِ الَّذي يَخرُجُ بِهِ مِن حَدِّ الصِّبا وشَبَهَ النِّساءِ ، وإِن كانَت أُنثى يَبقى وَجهُها نَقِيّا مِنَ الشَّعر ، لِتَبقى لَهَا البَهجَةُ وَالنَّضارَةُ الَّتي تُحَرِّكُ الرِّجالَ لِما فيهِ دَوامُ النَّسلِ وبَقاؤُهُ . اِعتَبِر _ يا مُفَضَّلُ _ فيما يُدَبَّرُ بِهِ الإِنسانُ في هذِهِ الأَحوالِ المُختَلِفَةِ ، هَل تَرى يُمكِنُ أن يَكونَ بِالإِهمالِ ؟ أفَرَأَيتَ لَو لَم يَجرِ إِلَيه ذلِكَ الدَّمُ وهُوَ فِي الرَّحِمِ ؛ ألَم يَكُن سَيَذوي (1) ويَجِفُّ كَما يَجِفُّ النَّباتُ إِذا فَقَدَ الماءَ ؟ ولَو لَم يُزعِجهُ المَخاضُ عِندَ استِحكامِهِ ؛ ألَم يَكُن سَيَبقى فِي الرَّحِمِ كَالمَوؤودِ فِي الأَرضِ ؟ ولَو لَم يُوافِقهُ اللَّبَنُ مَعَ وِلادَتِهِ ؛ ألَم يَكُن سَيَموتُ جوعا ، أو يَغتَذي بِغِذاءٍ لا يُلائِمُهُ ولا يَصلَحُ عَلَيهِ بَدَنُهُ ؟ ولَو لَم تَطلَع عَلَيهِ الأَسنانُ في وَقتِها ؛ ألَم يَكُن سَيَمتَنِعُ عَلَيهِ مَضغُ الطَّعامُ وإِساغَتُهُ ، أو يُقيمُهُ عَلَى الرِّضاعِ فَلا يَشُدُّ بَدَنَهُ ، ولا يَصلَحَ لِعَمَلٍ ؟ ثُمَّ كانَ تَشتَغِلُ أُمُّهُ بِنَفسِهِ عَن تَربِيَةِ غَيرِهِ مِنَ الأَولادِ ، ولَو لَم يَخرُجِ الشَّعرُ في وَجهِهِ في وَقتِهِ ؛ ألَم يَكُن سَيَبقى في هَيئَةِ الصِّبيانِ وَالنِّساءِ ؛ فَلا تَرى لَهُ جَلالَةً ولا وَقارا ؟ فَإِن كانَ الإِهمالُ يَأتي بِمِثلِ هذَا التَّدبيرِ فَقَد يَجِبُ أن يَكونَ العَمدُ وَالتَّقديرُ يَأَتِيانِ بِالخَطَاَ وَالمُحالِ ؛ لِأَنَّهُما ضِدُّ الإِهمالِ ، وهذا فَظيعٌ مِنَ القَولِ ، وجَهلٌ مِن قائِلِهِ ؛ لِأَنَّ الإِهمالَ لا يَأتي بِالصَّوابِ ، وَالتَّضادَّ لا يَأتي بِالنِّظامِ ، تَعالَى اللّهُ عَمّا يَقولُ المُلحِدونَ عُلُوّا كَبيرا . (2)
.
ص: 143
2 / 5نَفخُ الرّوحِ في الجَنينِالكتاب«وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْاءِنسَ_نَ مِن سُلَ__لَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَ_هُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَ_مًا فَكَسَوْنَا الْعِظَ_مَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَ_هُ خَلْقًا ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَ__لِقِينَ » . (1)
«كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ كُنتُمْ أَمْوَ تًا فَأَحْيَ_كُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ » . (2)
راجع : الحجّ : 66 ، الجاثية : 26 ، 56 .
الحديثالإمام الباقر عليه السلام_ في قَولِهِ تَعالى : «ثُمَّ أَنشَأْنَ_هُ خَلْقًا ءَاخَرَ» _: هُوَ نَفخُ الرّوحِ فيهِ . (3)
عنه عليه السلام :إِنَّ اللّهَ عز و جل إِذا أَرادَ أن يَخلُقَ النُّطفَةَ الَّتي مِمّا أَخَذَ عَلَيها الميثاقَ في صُلبِ آدَمَ أو ما يَبدو لَهُ فيهِ ويَجعَلَها فِي الرَّحِمِ حَرَّكَ الرَّجُلَ لِلجِماعِ ، وأَوحى إِلَى الرَّحِمِ أنِ افتَحي بابَكِ حَتّى يَلِجَ فيكَ خَلقي وقَضائِيَ النّافِذُ وقَدَري ، فَتَفتَحُ الرَّحِمُ بابَها ، فَتَصِلُ النُّطفَةُ إِلَى الرَّحِمِ ، فَتَرَدَّدُ فيهِ أَربَعينَ يَوما ، ثُمَّ تَصيرُ عَلَقَةً أَربَعينَ يَوما ، ثُمَّ تَصيرُ مُضغَةً أَربَعينَ يَوما ، ثُمَّ تَصيرُ لَحما تَجري فيهِ عُروقٌ مُشتَبِكَةٌ . ثُمَّ يَبعَثُ اللّهُ مَلَكَينِ خَلّاقَينِ يَخلُقانِ فِي الأَرحامِ ما يَشاءُ اللّهُ ، فَيَقتَحِمانِ في بَطنِ المَرأَةِ مِن فَمِ المَرأَةِ ، فَيَصِلانِ إِلَى الرَّحِمِ وفيهَا الرّوحُ القَديمَةُ المَنقولَةُ في أصلابِ
.
ص: 144
الرِّجالِ وأَرحامِ النِّساءِ ، فَيَنفُخانِ فيها روحَ الحَياةِ وَالبَقاءِ ، ويَشُقّانِ لَهُ السَّمعَ وَالبَصَرَ وجَميعَ الجَوارِحِ وجَميعَ ما فِي البَطنِ بِإِذنِ اللّهِ . (1)
الإمام الصّادق عليه السلام_ فِي الجَنينِ _: إِذا بَلَغَ أَربَعَةَ أشهُرٍ فَقَد صارَت فيهِ الحَياةُ ، وقَدِ استَوجَبَ الدِّيَةَ . (2)
2 / 6اِختِلافُ الأَلسِنَةِ وَالأَلوانِالكتاب«وَ مِنْ ءَايَ_تِهِ خَلْقُ السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضِ وَاخْتِلَ_فُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوَ نِكُمْ إِنَّ فِى ذَ لِكَ لَايَ_تٍ لِّلْعَ__لِمِينَ». (3)
«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَ تٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَ نُهَا وَ مِنَ الْجِبَالِ جُدَد بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَ نُهَا وَ غَرَابِيبُ سُودٌ * وَ مِنَ النَّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعَ_مِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَ نُهُ كَذَ لِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَ_ؤُاْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ » . (4)
الحديثمجمع الزوائد عن ابن عبّاس :جاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله فَقالَ : أيَصبِغُ رَبُّكَ ؟ فقالَ : نَعَم ، صِباغا لا يَنفَضُّ ؛ أَحمَرَ وأَصفَرَ وأَبيَضَ . (5)
الإمام الصادق عليه السلام_ لِلمُفَضَّلِ بنِ عُمَرَ _: تَأَمَّل _ يا مُفَضَّلُ _ ما أَنعَمَ اللّهُ تَقَدَّسَت أَسماؤُه
.
ص: 145
بِهِ عَلَى الإِنسانِ ، مِن هذَا النُّطقِ الَّذي يُعَبِّرُ بِهِ عَمّا في ضَميرِهِ ، وما يَخطُرُ بِقَلبِهِ ، ونَتيجَةِ فِكرِهِ ، وبِهِ يَفهَمُ عَن غَيرِهِ ما في نَفسِهِ ، ولَو لا ذلِكَ كانَ بِمَنزِلَةِ البَهائِمِ المُهمَلَةِ ، الَّتي لا تُخبِرُ عَن نَفسِها بِشَيءٍ ، ولا تَفهَمُ عَن مُخبِرٍ شَيئا . (1)
2 / 7الرَّزقالكتاب«يَ_أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَ__لِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ لَا إِلَ_هَ إِلَا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ » . (2)
«اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَ لِكُم مِّن شَىْ ءٍ سُبْحَ_نَهُ وَ تَعَ_لَى عَمَّا يُشْرِكُونَ » . (3)
«قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ» . (4)
«قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَ الأَْبْصَ_رَ وَ مَن يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ وَ مَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ » . (5)
«أَمَّن يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَءِلَ_هٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَ_نَكُمْ إِن كُنتُمْ صَ_دِقِينَ » . (6)
.
ص: 146
«أَمَّنْ هَ_ذَا الَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِى عُتُوٍّ وَ نُفُورٍ » . (1)
راجع: الأنفال : 26 ، النحل : 72 ، غافر : 64 ، البقرة : 22 و172 ، الجاثية : 5 ، إبراهيم : 32 ، الذاريات : 58 .
الحديثالإمام زين العابدين عليه السلام :قَالَ عز و جل : «فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَ تِ رِزْقًا لَّكُمْ» يَعني : مِمّا يُخرِجُهُ مِنَ الأَرضِ رِزقا لَكُم ، «فَلَا تَجْعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادًا» أي : أَشباها وأَمثالاً مِنَ الأَصنامِ الَّتي لا تَعقِلُ ولا تَسمَعُ ولا تُبصِرُ ولا تَقدِرُ عَلى شَيءٍ ، «وَ أَنتُمْ تَعْلَمُونَ» (2) أنَّها لا تَقدِرُ عَلى شَيءٍ مِن هذِهِ النِّعَمِ الجَليلَةِ الَّتي أَنعَمَها عَلَيكُم رَبُّكُم _ تَبارَكَ وتَعالى _ . (3)
الإمام عليّ عليه السلام :تَمورُ في بَطنِ أُمِّكَ جَنينا ، لا تُحيرُ دُعاءً ولا تَسمَعُ نِداءً ، ثُمَّ أُخرِجتَ مِن مَقَرِّكَ إِلى دارٍ لَم تَشهَدها ، ولَم تَعرِف سُبُلَ مَنافِعِها ؛ فَمَن هَداكَ لِاجتِرارِ الغِذاءِ مِن ثَديِ أُمِّكَ، وعَرَّفَكَ عِندَالحاجَةِ مَواضِعَ طَلَبِكَ وإِرادَتِكَ ؟ (4)
الإمام الحسين عليه السلام_ مِن دُعائِهِ يَومَ عَرَفَةَ _: أنتَ الَّذي رَزَقتَ ، أنتَ الَّذي أَعطَيتَ . (5)
الإمام الصادق عليه السلام :ما أَقبَحَ بِالرَّجُلِ يَأتي عَلَيهِ سَبعونَ سَنَةً ، أو ثَمانونَ سَنَةً ، يَعيشُ في مُلكِ اللّهِ ، ويَأكُلُ مِن نِعَمِهِ ، لا يَعرِفُ اللّهَ حَقَّ مَعرِفَتِهِ . (6)
بحار الأنوار عن صُحف إدريس عليه السلام :يا أَيُّهَا الإِنسانُ ، اُنظُر وتَدَبَّر ، وَاعقِل وتَفَكَّر ، هَل
.
ص: 147
لَكَ رازِقٌ سِوايَ يَرزُقُكَ ؟ أو مُنعِمٌ غَيري يُنعِمُ عَلَيكَ ؟ ألَم أُخرِجكَ مِن ضيقِ مَكانِكَ فِي الرَّحِمِ إِلى أَنواعٍ مِنَ النِّعَمِ ؟ أخرَجتُكَ مِنَ الضّيقِ إِلَى السَّعَةِ ، ومِنَ التَّعَبِ إِلَى الدَّعَةِ ، ومِنَ الظُّلمَةِ إِلَى النّورِ ، ثُمَّ عَرَفتُ ضَعفَكَ عَمّا يُقيمُكَ ، وعَجزَكَ عَمّا يَفوتُكَ ، فَأَدرَرتُ لَكَ مِن صَدرِ أُمِّكَ عَينَينِ مِنهُما طَعامُكَ وشَرابُكَ ، وفيهِما غِذاؤُكَ ونَماؤُكَ ، ثُمَّ عَطَفتُ بِقَلبِها عَلَيكَ ، وصَرَفتُ بِوُدِّها إِلَيكَ ، كَي لا تَتَبَرَّمَ بِكَ مَعَ إِيذائِكَ لَها ، ولا تَطرَحَكَ مَعَ إِضجارِك إِيّاها ، ولا تَقَزَّزَكَ مَعَ كَثرَةِ عاهاتِكَ ، ولا تَستَقذِرَكَ مَعَ تَوالي آفاتِكَ وقاذوراتِكَ ، تَجوعُ لِتُشبِعَكَ ، وتَظمَأُ لِتُروِيَكَ ، وتَسهَرُ لِتُرقِدَكَ ، وتَنصَبُ لِتُريحَكَ ، وتَتعَبُ لِتُرفِدَكَ ، وتَتَقَذَّرُ لِتُنظِّفَكَ ، لَولا ما أَلقَيتُ عَلَيها مِنَ المَحَبَّةِ لَكَ لَأَلقَتكَ في أَوّلِ أذىً يَلحَقُها مِنكَ ، فَضلاً عَن أن تُؤثِرَكَ في كُلِّ حالٍ ، ولا تُخَلِّيكَ لَها مِن بالٍ ، ولَو وَكَلتُكَ إِلى وُكدِكَ (1) ، وجَعَلتُ قُوَّتَكَ وقِوامَكَ مِن جُهدِكَ ، لَمُتَّ سَريعا ، وفُتَّ ضائِعا . هذِهِ عادَتي فِي الإِحسانِ إِلَيكَ، وَالرَّحمَةِ لَكَ ، إِلى أن تَبلُغَ أَشُدَّكَ ، وبَعدَ ذلِكَ إِلى مُنتَهى أَجلِكَ ، أُهَيِّئُ لَكَ في كُلِّ وَقتٍ مِن عُمُرِكَ ما فيهِ صَلاحُ أَمرِكَ مِن زِيادَةٍ في خَلقِكَ ، وتَيسيرٍ لِرِزقِكَ ، أُقدِّرُ مُدَّةَ حَياتِكَ قَدرَ كِفايَتِكَ ما لا تَتَجاوَزُهُ وإِن أَكثَرتَ مِنَ التَّعَبِ ، ولا يَفوتُكَ وإِن قَصُرتَ فِي الطَّلَبِ ؛ فَإِن ظَنَنتَ أنَّكَ الجالِبُ لِرِزقِكَ ، فَما لَكَ تَرومُ أن تَزيدَ فيهِ ولا تَقدِرَ ؟ أم ما لَكَ تَتعَبُ في طَلَبِ الشَّيءِ فَلَستَ تَنالُهُ ، ويَأتيكَ غَيرُهُ عَفوا مِمّا لا تَتَفَكَّرُ فيهِ ، ولا تَتَعَنّى لَهُ ، أم ما لَكَ تَرى مَن هُوَ أَشَدُّ مِنكَ عَقلاً وأَكثَرُ طَلَبا مَحروما مَجذوذا ؟ ومَن هُوَ أَضعَفُ مِنكَ عَقلاً وأَقَلُّ طَلَبا مَحروزا مَجدودا ؟ أَتَراكَ أنتَ الَّذي هَيَّأتَ لِمَشرَبِكِ ومَطعَمِكَ سِقاءَينِ في صَدرِ أُمِّكَ ؟ أم
.
ص: 148
تَراكَ سَلَّطتَ عَلى نَفسِكَ وَقتَ السَّلامَةِ الدَّاءَ ، أو جَلَبتَ لَها وَقتَ السُّقمِ الشِّفاءَ ؟ ألا تَنظُرُ إِلَى الطَّيرِ الَّتي تَغدو خِماصا ، وتَروحُ بِطانا ؟ ألَها زَرعٌ تَزرَعُهُ ، أو مالٌ تَجمَعُهُ ، أو كَسبٌ تَسعى فيهِ ، أوِ احتِيالٌ تَتَوَسَّمُ بِتَعاطيهِ ؟ اِعلَم أَيُّهَا الغافِلُ ، أنَّ ذلِكَ كُلَّهُ بِتَقديري ، لا أُنادُّ ولا أُضادُّ في تَدبيري ، ولا يَنقُصُ ولا يَزادُ مِن تَقديري ؛ ذلِكَ أنّي أنَا اللّهُ الرَّحيمُ الحَكيمُ . (1)
2 / 8الطَّيِّبات من الرِّزقالكتاب«اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَ السَّمَاءَ بِنَاءً وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ رَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَ_تِ ذَ لِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَ__لَمِينَ » (2)
«يَ_أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَ_تِ مَا رَزَقْنَ_كُمْ وَ اشْكُرُواْ لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ » . (3)
راجع : البقرة : 57 ، الأعراف : 32 و160 ، الأنفال : 26 ، النحل : 72 ، الإسراء : 70 ، طه : 81 ، المؤمنون : 51 .
الحديثالإمام زين العابدين عليه السلام_ مِن دُعاءٍ لَهُ فِي التَّحميدِ للّهِِ عز و جل _: الحَمدُ للّهِِ الَّذِي اختارَ لَنا مَحاسِنَ الخَلقِ ، وأَجرى عَلَينا طَيِّباتِ الرِّزقِ ، وجَعَلَ لَنا الفَضيلَةَ بِالمَلَكَةِ عَلى جَميعِ الخَلقِ ، فَكُلُّ خَليقَتِهِ مُنقادَةٌ لَنا بِقُدرَتِهِ ، وصائِرَةٌ إِلى طاعَتِنا بِعِزَّتِهِ . (4)
.
ص: 149
2 / 9شَهوَةُ الأَكلِالكافي عن عبد اللّه بن بكير عن رجل :أمَرَ أَبو عَبدِ اللّهِ عليه السلام بِلَحمٍ فَبُرِّدَ ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ مِن بَعدُ ، فَقالَ : الحَمدُ للّهِِ الَّذي جَعَلَني أَشتَهيهِ . (1)
الإمام الصادق عليه السلام_ لِلمُفَضَّلِ بنِ عُمَرَ _: فَكِّر _ يا مُفَضَّلُ _ فِي الأَفعالِ الَّتي جُعِلَت فِي الإِنسانِ مِنَ الطَّعمِ وَالنَّومِ وَالجِماعِ وما دُبِّرَ فيها ؛ فَإِنَّهُ جُعِلَ لِكُلِّ واحِدٍ مِنها فِي الطِّباعِ نَفسِهِ مُحَرِّكٌ يَقتَضيهِ ويَستَحِثُّ بِهِ . . . ولَو كانَ الإِنسانُ إِنَّما يَصيرُ إِلى أَكلِ الطَّعامِ لِمَعرِفَتِهِ بِحاجَةِ بَدَنِهِ إِلَيهِ ، ولَم يَجِد مِن طِباعِهِ شَيئا يَضطَرُّهُ إِلى ذلِكَ ؛ كانَ خَليقا أن يَتَوانى عَنهُ أَحيانا بِالتَّثَقُّلِ وَالكَسَلِ ، حَتّى يَنحَلَّ بَدَنُهُ فَيَهلِكَ . (2)
2 / 10وُصولُ الغِذاءِ إلَى البَدَنِالإمام الصادق عليه السلام_ لِلمُفضَّلِ بنِ عُمَرَ _: فَكِّر _ يا مُفَضَّلُ _ في وُصولِ الغِذاءِ إِلَى البَدَنِ وما فيهِ مِنَ التَّدبيرِ ؛ فَإِنَّ الطَّعامَ يَصيرُ إِلَى المِعدَةِ فَتَطبَخُهُ ، وتَبعَثُ بِصَفوِهِ إِلَى الكَبِدِ في عُروقٍ رِقاقٍ واشِجَةٍ (3) بَينَها ، قَد جُعِلَت كَالمَصفى لِلغِذاءِ ، لِكَيلا يَصِلَ إِلَى الكَبِدِ مِنهُ شَيءٌ فَيَنكَأَها ، وذلِكَ أنَّ الكَبِدَ رَقيقَةٌ لا تَحتَمِلُ العُنفَ ، ثُمَّ إِنّ الكَبِدَ تَقبَلُهُ ، فَيَستَحيلُ بِلُطفِ التَّدبيرِ دَما ، ويَنفُذُ إِلَى البَدَنِ كُلِّهِ في مَجاري مُهَيَّأَةٍ لِذلِكَ ، بِمَنزِلَةِ
.
ص: 150
المَجارِي الَّتي تُهَيَّأُ لِلماءِ حَتّى يَطَّرِدَ فِي الأَرضِ كُلِّها ، ويَنفُذُ ما يَخرُجُ مِنهُ مِنَ الخَبَثِ وَالفُضولِ إِلى مَفائِضَ قَد أُعِدَّت لِذلِكَ ، فَما كانَ مِنهُ مِن جِنسِ المِرَّةِ الصَّفراءِ جَرى إِلَى المَرارَةِ ، وما كانَ مِن جِنسِ السَّوداءِ جَرى إِلَى الطِّحالِ ، وما كانَ مِنَ البُلَّةِ وَالرُّطوبَةِ جَرى إِلَى المَثانَةِ . فَتَأَمَّل حِكمَةَ التَّدبيرِ فِي تَركيبِ البَدَنِ ، ووَضعِ هذِهِ الأَعضاءِ مِنهُ مَواضِعَها ، وإِعدادِ هذِهِ الأَوعِيَةِ فيهِ لِتَحمِلَ تِلكَ الفُضولَ ، لِئَلّا تَنتَشِرَ فِي البَدَنِ فَتُسقِمَهُ وتَنهَكَهُ ، فَتَبارَكَ مَن أَحسَنَ التَّقديرَ وأَحكَمَ التَّدبيرَ ، ولَهُ الحَمدُ كَما هُوَ أَهلُهُ ومُستَحِقُّهُ . (1)
2 / 11النَّومالكتاب«وَ مِنْ ءَايَ_تِهِ مَنَامُكُم بِالَّيْلِ وَ النَّهَارِ وَ ابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِى ذَ لِكَ لَايَ_تٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ » . (2)
«أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَ النَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِى ذَ لِكَ لَايَ_تٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ » . (3)
راجع : الفرقان : 47 ، النبأ : 9 ، الزمر : 42 .
الحديثالإمام الصادق عليه السلام_ لِلمفُضَّلِ بنِ عُمَرَ _: فَكِّر _ يا مُفَضَّلُ _ فِي الأَفعالِ الَّتي جُعِلَت فِي الإِنسان مِنَ الطَّعمِ وَالنَّومِ . . . لَو كانَ إِنَّما يَصيرُ إِلَى النَّومِ بِالتَّفَكُّرِ في حاجَتِهِ إِلى راحَةِ البَدَنِ وإِجمامِ قُواهُ كانَ عَسى أن يَتَثاقَلَ عَن ذلِكَ فَيَدمَغَهُ حَتّى يَنهَكَ بَدنُهُ . (4)
.
ص: 151
2 / 12اللِّباسالكتاب«يَ_بَنِى ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَ رِى سَوْءَ تِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَ لِكَ خَيْرٌ ذَ لِكَ مِنْ ءَايَ_تِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ » . (1)
«وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِ_لَ_لاً وَ جَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَ_نًا وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرَ بِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَ سَرَ بِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَ لِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ » . (2)
«وَ تَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا» . (3)
راجع: فاطر: 12 .
الحديثالإمام الباقر عليه السلام_ في قَولِهِ تعالى : «يَ_بَنِى ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَ رِى سَوْءَ تِكُمْ وَرِيشًا...» _: فَأَمَّا اللِّباسُ فَالثِّيابُ الَّتي يَلبَسونَ ، وأمَّا الرِّياشُ فَالمَتاعُ وَالمالُ ، وأمّا لِباسُ التَّقوى فَالعَفافُ ؛ لِأَنَّ العَفيفَ لا تَبدو لَهُ عُورَةٌ وإِن كانَ عارِيا مِنَ الثِّيابِ ، وَالفاجِرُ بادِي العَورَةِ وإِن كان كاسِيا مِنَ الثِّيابِ ، يَقولُ : «وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَ لِكَ خَيْرٌ» يَقولُ : العَفافُ خَيرٌ «ذَ لِكَ مِنْ ءَايَ_تِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» . (4)
.
ص: 152
2 / 13البَيتالكتاب«وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَ جَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الْأَنْعَ_مِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَ يَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَ مِنْ أَصْوَافِهَا وَ أَوْبَارِهَا وَ أَشْعَارِهَا أَثَ_ثًا وَ مَتَ_عًا إِلَى حِينٍ » . (1)
الحديثالإمامُ الباقرُ عليه السلام_ في قولِ اللّه : «لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا كَذَ لِكَ» _: لَم يَعْلَم_وا صَنْعَةَ البُيوتِ . (2)
2 / 14الزوجالكتاب«وَ مِنْ ءَايَ_تِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَ جًا لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِى ذَ لِكَ لَايَ_تٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ » . (3)
«فَاطِرُ السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَ جًا وَ مِنَ الْأَنعَ_مِ أَزْوَ جًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ » . (4)
«وَ اللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَ جًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَ لَا تَضَعُ إِلَا بِعِلْمِهِ وَ مَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَا فِى كِتَ_بٍ إِنَّ ذَ لِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ » . (5)
راجع : الأعراف : 189 ، النحل : 72 ، النجم : 45 ، القيامة : 39 ، النبأ : 8 ، الليل : 3 .
.
ص: 153
الحديثالإمام الصادق عليه السلام_ لِلمُفَضَّلِ بنِ عُمَرَ _: لَو رَأَيتَ فَردا مِن مِصراعَينِ فيهِ كَلُّوبٌ (1) أكُنتَ تَتَوَهَّمُ أنَّهُ جُعِلَ كَذلِكَ بِلا مَعنىً ؟ بَل كُنتَ تَعلَمُ ضَرورَةً أنَّهُ مَصنوعٌ يَلقى فَردا آخَرَ، فَتَبَرُّزُهُ لِيَكونَ فِي اجتِماعِهِما ضَربٌ مِنَ المَصلَحَةِ، وهكَذا تَجِدُ الذَّكَرَ مِنَ الحَيَوانِ كَأَنَّهُ فَردٌ مِن زَوجٍ مُهَيَّأٌ مِن فَردٍ أُنثى، فَيَلتَقِيانِ لِما فيهِ مِن دَوامِ النَّسلِ وبَقائِهِ ، فَتَبّا وخَيبَةً وتَعسا لِمُنتَحِلِي الفَلسَفَةِ ! كَيفَ عَمِيَت قُلوبُهُم عَن هذِهِ الخِلقَةِ العَجيبَةِ حَتّى أَنكَرُوا التَّدبيرَ وَالعَمدَ فيها؟! (2)
2 / 15أَداةُ التَّعلمِالكتاب«الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْاءِنسَ_نَ مَا لَمْ يَعْلَمْ » . (3)
«وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَ_تِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْ_ئا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصَ_رَ وَ الْأَفْ_ئدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ » . (4)
الحديثتفسير القمّيّ : «اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ» قالَ : عَلَّمَ الإِنسانَ الكِتابَةَ الَّتي بِها تَتِمُّ أُمورُ الدُّنيا في مَشارِقِ الأَرضِ ومَغارِبِها . (5)
.
ص: 154
. .
ص: 155
تأمّلات حول آيات معرفة اللّه في خلق الإنسانمن وجهة النظر القرآنية في خلق الإنسان آيات بيّنات ودلالات واضحات تقوده إِلى معرفة اللّه سبحانه ، وهذا يعني أن الإنسان لا يمكن أن يرى نفسه دون أن يرى ربّه ، أو يكون عارفا بنفسه وغير عارفٍ بربّه ، ففي القرآن الكريم آيات كثيرة تتحدّث عن هذا الموضوع ، يمكن تقسيمها موضوعيا إِلى تسعة أقسام ، فيما يلي توضيح موجز (1) حول هذه الآيات :
1 . خلق الإنسان من ترابإِنّ الباحث في كيفية السير التكاملي للتراب والتفاعلات الّتي تحدث في هذه المادة الجامدة حتّى تصير إِنسانا ، يلاحظ مدى النظم والحكمة والتدبير ، بالقدر الذي لو كان يتحلّى بأَدنى حدٍّ من الإنصاف فليس له إِلّا الاعتراف بالخالق الحكيم والإذعان للمدبّر العالم القادر . فالقرآن الكريم يتضمّن نظريات دقيقة تلفت النظر حول المواد الأَوليّة الّتي
.
ص: 156
تشكّل النواة الأُولى لخلق الإنسان ، وقد أَذعن التطور العلمي بصحّتها وصحّة ارتباط هذا الكتاب السماوي بمصدر الوحي الإلهي . إِنّ التراب (1) من وجهة النظر القرآنية عبارة عن عصارة الطين (2) والماء (3) والعَلق (4) والنطفة (5) ، وتلك مبادئ خلق الإنسان التي تجعل من العقل حين يتأَمّلها ويتأَمّل السير التكاملي للتراب حتّى يصير إِنسانا كاملاً ، لا مناص له إِلّا الاعتراف بالخالق القادر الحكيم ، وممّا يجدر ذكره أنّه قبل أَربعة عشر قرنا وفي الأجواء التي كان الناس يعتقدون فيها بأن المرأة هي مجرد وعاء لخلق الإنسان وليس لها أي دور في وجوده ، إِنّ القرآن الكريم يصرّح بواضح العبارة بأنّ النواة الأُولى في خلق الإنسان مَزيجٌ من نطفة الرجل والمرأة ، قال تعالى : «إِنَّا خَلَقْنَا الْاءِنسَ_نَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ» (6) . (7)
2 . تصوير الجنينبعد تكميل المواد اللازمة لإنشاء البدن وتهيئتها لأَجل تصوير الجنين ، يفصل الخالق العالم القادر خلايا الدماغ والعين والأُذن والقلب واليد والرِّجْل وسائر الأَعضاء بعضها عن بعض ، وتتعرف كلّ واحدة على واجبها ، ثُمّ يصوّره وفق ما توجبه حكمته البالغة ، قال تعالى : «هُوَ الَّذِى يُصَوِّرُكُمْ فِى الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَ_هَ إِلَا هُوَ
.
ص: 157
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (1) .
3 . إيجاد الحياةإِنّ القرآن الكريم يوعز في موارد متعددة (2) ظاهرة الحياة العجيبة إِلى خالق الكون القادر على كلّ شيء ، ويعتبر ذلك واحدة من الآيات الإلهية والأَدلة التي لا تقبل الإنكار على وجود اللّه تعالى ، فبناءً على هذه الحقيقة يتوجه أَحيانا باللوم إِلى المنكرين ، قال تعالى : «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ كُنتُمْ أَمْوَ تًا فَأَحْيَ_كُمْ» (3) .
4 . النومالنوم هو الأَساس لتجديد القوى المنهكة ورمزٌ للنشاط والحيوية ، وهو يستهلك نحو ثلث عمر الإنسان ، وقد ثبت أن قلّة النوم والأَرَق يؤديان إِلى سلب النشاط والحيوية ، فضلاً عن تلف الأَعصاب وإِنهاك القوى وضعف جهاز التفكّر ، كما أنّ إِدامة الأرق يؤدي إِلى الموت المحقق ، حتّى أنّه قيل : «إِنّه من الممكن بقاء الإنسان حيّا بدون غذاء إِلى ستّة أسابيع ، ولكنه سيموت إِذا لم ينم عشرة أَيام بلياليها» (4) ، بناءً على ما تقدّم فإنّ تدبير النوم لحياة الإنسان واحدة من الدلالات التي تشير إِلى معرفة الخالق _ جل وعلا _ ، قال تعالى : «وَ مِنْ ءَايَ_تِهِ مَنَامُكُم بِالَّيْلِ وَ النَّهَارِ وَ ابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِى ذَ لِكَ لَأيَ_تٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» (5) .
.
ص: 158
5 . الرزقإِنّ توفير مصادر التغذية التي يحتاج إِليها الإنسان ، وكلّ الأَحياء الأُخرى والتوفيق بين حاجات الإنسان الغذائية وبين سعيه وجهده الطبيعي ، دليل آخر على التوحيد ومعرفة اللّه سبحانه ، قال تعالى : «هَلْ مِنْ خَ__لِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ لَا إِلَ_هَ إِلَا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ» (1) ؟!
6 . الزوجلو فرضنا جدلاً أنّ رجلاً قد خلق عن طريق الصِّدَف المتوالية ، فهل يمكن التصديق بخلق موجود آخر من نفس الجنس باسم المرأة وعن طريق الصدفة أَيضا ، وبعث الطمأنينة في الحياة المشتركة بينهما على أساس العشق والمحبة لأجل الحفاظ على النسل؟! أليس هذا البرهان كافيا لِئَن يُثبت أنّ وراء عالم الوجود خالقا حكيما وقادرا ؟ بلى ، قال تعالى : «وَ مِنْ ءَايَ_تِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَ جًا لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَاوَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِى ذَ لِكَ لَايَ_تٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» (2) .
7 . اللباسإِنّ وجود مصادر اللباس في الأَرض مثل وجود مصادر الغذاء والماء ، يثبت أنّ العالم وُجِد وفق خطّة حكيمة وحسابات دقيقة لم تخفَ فيها عن النظر الثاقب لموجدها حتّى أَبسط المسائل الجزئية مادامت ضرورية لإدامة الحياة ، إِنه يعلم أنّ الإنسان لا يمتلك المقاومة إِزاء الحرّ والبرد مثل باقي الحيوانات ، فضلاً عن أنّ رعاية شؤون العفّة والحفاظ على القيم الأَخلاقية لا يتيسران بدون وجود اللباس ،
.
ص: 159
من هنا وفّر الخالق للإنسان المصارد التي يحتاج إِليها لأَجل تهيئة اللباس والمسكن ، كما وفّر له المواد اللازمة لصناعة الملابس التي يحتاج إِليها للزينة أو تلك التي ضرورية في الحرب ، قال تعالى : «وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا ... » وقال : «قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَ رِى سَوْءَ تِكُمْ» وقال : «وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرَ بِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَ سَرَ بِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ» وقال : «تَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا» (1) .
8 . أَدوات استيعاب العلمإِنّ تدارك الأَدوات الداخلية والخارجية لاستيعاب العلم آية أُخرى تضاف إِلى آيات خلق الإنسان ، ودليل آخر يضاف إِلى إِثبات التوحيد ومعرفة الخالق . لقد وفّر الخالق الحكيم من ناحية أَدوات استيعاب العلم في بواطن وجود الإنسان ، قال تعالى : «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَ_تِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْ_ئا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصَ_رَ وَ الْأَفْ_ئدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (2) . ومن ناحية أُخرى وفّر له أَنواع اللوازم والآلات الضرورية الخارجية للقراءة والكتابة ودراسة العلم . إِنّ النقطة التي تجدر الإشارة إِليها هي أن القرآن الكريم أَقسم بالقلم والكتاب من بين أَدوات التعليم والتعلم ، قال تعالى : «ن وَ الْقَلَمِ وَ مَا يَسْطُرُونَ» وذلك لأنّ القلم والكتاب يُعدّان مصدرين خارجيين لكلّ العلوم والمعارف الإنسانية ، ومن هنا فإنّ هذا الكتاب السماوي يعتبر القلم والكتابة من الآيات الإلهية التي تشير إِلى وجود الشعور والتدبير في نظام الوجود ، قال تعالى : «الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْاءِنسَ_نَ مَا لَمْ
.
ص: 160
يَعْلَمْ» (1) .
9 . اختلاف اللغات والصورإِنّ اختلاف لغات الناس وصورهم وأَلوانهم واحدة أُخرى من دلائل معرفة الخالق _ جلّ وعلا _ ، فإذا كان الصانع مجردا من الشعور حاله حال المصانع الانتاجية الأُخرى فإنّ إِنتاجه سيكون بلا شكّ على وتيرةٍ واحدةٍ ونمطٍ واحدٍ . ومن جهة أُخرى فإنّ الحياة الاجتماعية لا يمكن أن تتيسّر دون تهيئة الأَسباب التي تؤدي إِلى معرفة الناس بعضهم لبعض ، فلو فرضنا أنّ كلَّ النَّاس في مجتمع ما قد خُلقوا على شكل واحد ، وقيافة واحدة ، ولون واحد ، ونبرة صوتية واحدة بحيث لا يمكن التمييز بين شخص وآخر؛ الوالد عن الولد ، والزوجة عن غيرها ، والمجرم عن البريء ، والآمر عن المأمور ، والرئيس عن المرؤوس ، الدائن عن المَدِين ، والصديق عن العدو ، فكيف يمكن تصوّر العيش في مثل مجتمع هكذا؟ وفي هذا الاتّجاه يؤكّد القرآن الكريم : «وَ مِنْ ءَايَ_تِهِ خَلْقُ السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضِ وَاخْتِلَ_فُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوَ نِكُم إِنَّ فِى ذَ لِكَ لَأيَ_تٍ لِّلْعَ__لِمِينَ» (2) .
.
ص: 161
الباب الثّالث: خلق الحيوانالكتاب«وَ فِى خَلْقِكُمْ وَ مَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ ءَايَ_تٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ » . (1)
«وَ أَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ» . (2)
«أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَ_مًا فَهُمْ لَهَا مَ__لِكُونَ * وَ ذَلَّلْنَ_هَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَ مِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَ لَهُمْ فِيهَا مَنَ_فِعُ وَ مَشَارِبُ أَفَلَايَشْكُرُونَ» . (3)
«وَ إِنَّ لَكُمْ فِى الْأَنْعَ_مِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِى بُطُونِهَا وَ لَكُمْ فِيهَا مَنَ_فِعُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَ عَلَيْهَا وَ عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ » . (4)
«وَ جَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَ الْأَنْعَ_مِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُاْ عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ» . (5)
.
ص: 162
«وَ الْأَنْعَ_مَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْ ءٌ وَ مَنَ_فِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ » . (1)
«وَ إِنَّ لَكُمْ فِى الْأَنْعَ_مِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِى بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشَّ_رِبِينَ » . (2)
«أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَ تٍ فِى جَوِّ السَّ_مَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَا اللَّهُ إِنَّ فِى ذَ لِكَ لَايَ_تٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ » . (3)
«قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَ_مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى » . (4)
الحديثالإمام عليّ عليه السلام :لَو فَكَّروا في عَظِيمِ القُدرَةِ ، وجَسيمِ النِّعمَةِ ، لَرَجَعوا إِلَى الطَّريقِ ، وخافوا عَذابَ الحَريقِ ، ولكِنِ القُلوبُ عَليلَةٌ ، وَالبَصائِرُ مَدخولَةٌ . ألا يَنظُرونَ إِلى صَغيرِ ما خَلَقَ ، كَيفَ أَحكَمَ خَلقَهُ ، وأَتقَنَ تَركيبَهُ ، وفَلَقَ لَهُ السَّمعَ وَالبَصَرَ ، وسَوّى لَهُ العَظمَ وَالبَشَرَ ؟! اُنظُروا إِلَى النَّملَةِ في صِغَرِ جُثَّتِها ، ولَطافَةِ هَيئَتِها ، لا تَكادُ تُنالُ بِلَحظِ البَصَرِ ، ولا بِمُستَدرَكِ الفِكرِ ، كَيفَ دَبَّت عَلى أَرضِها ، وصُبَّت (ضُنَّت) على رِزقِها، تَنقُلُ الحَبَّةَ إِلى جُحرِها، وتُعِدُّها في مُستَقَرِّها، تَجمَعُ في حَرِّها لِبَردِها، وفي وِردِها لِصَدرِها، مَكفولٌ بِرِزقِها، مَرزوقَةٌ بِوِفقِها، لا يُغفِلُهَا المَنّانُ، ولا يَحرِمُهَا الدَّيّانُ، ولَو فِي الصَّفَا اليابِسِ، وَالحَجَرِالجامِسِ! ولَو فَكَّرتَ في مَجاري أَكلِها ، في عُلوِها وسُفلِها ، وما فِي الجَوفِ مِن شَراسيفِ
.
ص: 163
بَطنِها، وما فِي الرَّأسِ مِن عَينِها وأُذُنِها، لَقَضَيتَ مِن خَلقِها عَجَبا، ولَقيتَ من وَصفِها تَعَبا! فَتَعالَى الَّذي أَقامَها عَلى قَوائِمِها ، وبَناها عَلى دَعائِمِها لَم يَشرَكهُ في فِطرَتِها فاطِرٌ ، ولَم يُعِنُهُ عَلى خَلقِها قادِرٌ . ولَو ضَرَبتَ في مَذاهِبِ فِكرِكَ لِتَبلُغَ غاياتِهِ ، ما دَلَّتكَ الدَّلالَةُ إِلّا عَلى أنَّ فاطِرَ النَّملَةِ هُوَ فاطِرُ النَّخلَةِ (النَّحلَةِ) ؛ لِدَقيقِ تَفصيلِ كُلِّ شَيءٍ ، وغامِضِ اختِلافِ كُلِّ حَيٍّ (شَيءٍ) ، ومَا الجَليلُ وَاللَّطيفُ وَالثَّقيلُ وَالخَفيفُ وَالقَوِيُّ وَالضَّعيفُ في خَلقِهِ إِلّا سَواءٌ ... . فَالوَيلُ لِمَن أنكَرَ المُقَدِّرَ وَجَحَدَ المُدَبِّرَ! زَعَموا أنَّهُم كَالنَّباتِ ما لَهُم زارِعٌ ، ولا لِاختِلافِ صُوَرِهِم صانِعٌ ، ولَم يَلجَؤوا إِلى حُجَّةٍ فيمَا ادَّعَوا ، ولا تَحقيقٍ لِما أوعَوا ؛ وهَل يَكونُ بِناءٌ مِن غَيرِ بانٍ ، أو جِنايَةٌ مِن غَيرِ جانٍ؟! وإِن شِئتَ قُلتَ فِي الجَرادَةِ ، إِذ خَلَقَ لَها عَينَينِ حَمراوَينِ ، وأَمرَجَ لَها حَدَقَتَينِ قَمراوَينِ ، وجَعَلَ لَهَا السَّمعَ الخَفِيَّ ، وفَتَحَ لَهَا الفَمَ السَّوِيَّ ، وجَعَلَ لَهَا الحِسَّ القَوِيَّ ، ونابَينِ بِهِما تَقرِضُ ، ومِنجَلَينِ بِهِما تَقبِضُ . يَرهَبُها الزُّرّاعُ في زَرعِهِم ، ولا يَستَطيعونَ ذَبَّها ولَو أَجلَبوا بِجَمعِهِم ، حَتّى تَرِدَ الحَرثَ في نَزَواتِها ، وتَقضي مِنهُ شَهَواتِها ، وخَلقُها كُلُّهُ لا يُكَوِّنُ إِصبَعا مُستَدِقَّةً . فَتَبارَكَ اللّهُ الَّذي يَسجُدُ لَهُ مَن فِي السَّماواتِ وَالأَرضِ طَوعا وكَرها ، ويُعَفِّرُ لَهُ خَدّا ووَجها ، ويُلقي إِلَيهِ بِالطّاعَةِ سِلما وضَعفا ، ويُعطي لَهُ القِيادَ رَهبَةً وخَوفا، فَالطَّيرُ مُسَخَّرَةٌ لِأَمرِهِ، أَحصى عَدَدَ الرِّيشِ مِنها وَالنَّفسَ، وأَرسى قَوائِمَها عَلَى النَّدى وَاليَبسِ، وقَدَّرَ أَقواتَها، وأَحصى أَجناسَها؛ فَهذا غُرابٌ وهذا عُقَابٌ، وهذا حَمامٌ وهذا نَعَامٌ، دَعا كُلَّ طائِرٍ بِاسمِهِ، وكَفَلَ لَهُ بِرِزقِهِ. (1)
.
ص: 164
جامع الأخبار :سُئِلَ جَعفَرٌ الصّادِقُ عليه السلام : مَا الدَّليلُ عَلى صانِعِ العالَمِ ، قالَ : لَقيتُ حِصنا مَزلَقا أَملَسَ لا فُرجَةَ فيهِ ولا خِلَلَ ، ظاهِرُهُ مِن فِضَّةٍ مائِعَةٍ ، وباطِنُهُ مِن ذَهَبٍ مائعٍ ، اِنفَلَقَ مِنهُ طاووسٌ وغُرابٌ ونَسرٌ وعُصفورٌ ، فَعَلِمتُ أنَّ لِلخَلقِ صانِعا . (1)
الكافي عن محمّد بن إسحاق :أَتى [ عَبدُ اللّهِ الدَّيصانيُّ ] بابَ أَبي عَبدِ اللّهِ فَاستَأذَنَ عَلَيهِ فَأَذِنَ لَهُ ، فَلَمّا قَعَدَ ، قالَ لَهُ : يا جَعفَرَ بنَ مُحَمَّدٍ ، دُلَّني عَلى مَعبودي . . . فَقالَ لَهُ أَبو عَبدِ اللّهِ عليه السلام : اِجلِس ، وإِذا غُلامٌ لَهُ صَغيرٌ في كَفِّهِ بَيضَةٌ يَلعَبُ بِها ، فَقالَ لَهُ أَبو عَبدِ اللّهِ عليه السلام : ناوِلني _ يا غُلامُ _ البَيضَةَ ، فَناوَلَهُ إِيّاها ، فَقالَ لَهُ أَبو عَبدِ اللّهِ عليه السلام : يا دَيصانيُّ ، هذا حِصنٌ مَكنونٌ ، لَهُ جِلدٌ غَليظٌ ، وتَحتَ الجِلدِ الغَليظِ جِلدٌ رَقيقٌ ، وتَحتَ الجِلدِ الرَّقيقِ ذَهَبَةٌ مائِعَةٌ وفِضَّةٌ ذائِبَةٌ ، فَلاَ الذَّهَبَةُ المائِعَةُ تَختَلِطُ بِالفِضَّةِ الذّائِبَةِ ، ولَا الفِضَّةُ الذّائِبَةُ تَختَلِطُ بِالذَّهَبَةِ المائِعَةِ ، فَهِيَ عَلى حالِها لَم يَخرُج مِنها خارِجٌ مُصلِحٌ فَيُخبِرَ عَن صَلاحِها ، ولا دَخَلَ فيها مُفسِدٌ فَيُخبِرَ عَن فَسادِها ، لا يُدرى لِلذَّكَرِ خُلِقَت أم لِلأُنثى ، تَنفَلِقُ عَن مِثلِ أُلوانِ الطَّواويسِ ، أتَرى لَها مُدَبِّرا ؟ قالَ : فَأَطرَقَ مَلِيّا ، ثُمَّ قالَ : أَشهَدُ أن لا إِلهَ إِلَا اللّهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ وأنَّ مُحَمَداعَبدُهُ ورَسولُهُ ، وأنَّكَ إِمامٌ وحُجَّةٌ مِنَ اللّهِ عَلى خَلقِهِ ، وأنَا تائِبٌ مِمّا كُنتُ فيهِ . (2)
الإمام الصادق عليه السلام_ لِلمُفَضَّلِ بنِ عُمَرَ _: تَأمَّل _ يامُفَضَّلُ _ جِسمَ الطّائِرِ وخِلقَتَهُ ؛ فَإنَّهُ حينَ قُدِّرَ أن يَكونَ طائِرا فِي الجَوِّ خُفِّفَ جِسمُهُ وأُدمِجَ خَلقُهُ، فَاقتُصِرَ بِهِ مِنَ القَوائِمِ الأَربَعِ عَلَى اثنَتَينِ، ومِنَ الأَصابِعِ الخَمسِ عَلى أَربَعٍ ، ومِن مَنفَذَينِ لِلزِّبلِ وَالبَولِ عَلى
.
ص: 165
واحِدٍ يَجمَعُهُما ، ثُمَّ خُلِقَ ذا جُؤجُؤٍ مُحَدَّدٍ لِيَسهُلَ عَلَيهِ أن يَخرِقَ الهَواءَ كَيفَ ما أَخَذَ فيهِ ، كَما جُعِلَ السَّفينَةُ بِهذِهِ الهَيئَةِ لَتَشُقَّ الماءَ وتَنفذَ فيهِ ، وجُعِلَ في جَناحَيهِ وذَنَبِهِ ريشاتٌ طُولٌ مِتانٌ لِيَنهَضَ بِها لِلطَّيَرانِ ، وكُسِيَ كُلُّهُ الرّيشَ لِيُداخِلَهُ الهَواءُ فَيُقِلَّهُ . ولَمّا قُدِّرَ أن يَكونَ طُعمُهُ الحَبَّ وَاللَّحمَ يَبلَعُهُ بَلعا بِلا مَضغٍ ؛ نُقِصَ مِن خَلقِهِ الأسنانُ ، وخُلِقَ لَهُ مِنقارٌ صُلبٌ جاسٍ يَتَناولَ بِهِ طُعمَهُ فَلا يَنسَجِحُ مِن لَقطِ الحَبِّ ، ولا يَتَقَصَّفُ مِن نَهشِ اللَّحمِ . ولَمّا عُدِمَ الأَسنانَ وصارَ يَزدَرِدُ الحَبَّ صَحيحا وَاللَّحمَ غَريضا ، أُعينَ بِفَضلِ حَرارَةٍ فِي الجَوفِ تَطحَنُ لَهُ الطُّعمَ طَحنا يَستَغني بِهِ عَن المَضغِ ؛ وَاعتَبِر ذلِكَ بِأنَّ عَجَمَ العِنَبِ وغَيرِهِ يَخرُجُ مِن أَجوافِ الإنسِ صَحيحا ، ويُطحَنُ في أَجوافِ الطَّيرِ لا يُرى لَهُ أثَرٌ ! ثُمَّ جُعِلَ مِمّا يَبيضُ بَيضا ولا يَلِدُ وِلادَةً ؛ لِكَيلا يَثقُلَ عِنِ الطَّيَرانِ ، فَإنَّهُ لَو كانَتِ الفِراخُ في جَوفِهِ تَمكُثُ حَتّى تَستَحكِمَ لَأَثقَلَتهُ وعاقَتهُ عَن النُّهوضِ وَالطَّيَرانِ . فَجَعَلَ كُلَّ شَيءٍ مِن خَلقِهِ مُشاكِلاً لِلأَمرِ الَّذي قَدَّر أن يَكونَ عَلَيهِ (1) .
تفسير القمّي_ في قَولِهِ تَعالى : «وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَىْ ءٍ مَّوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَ_يِشَ وَ مَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَ زِقِينَ» (2) _: قالَ : لِكُلِّ ضَربٍ مِنَ الحَيَوانِ قَدَّرنا شَيئا مُقَدَّرا . (3)
راجع : بحار الأنوار : ج 3 ص 90 _ 109 .
.
ص: 166
. .
ص: 167
تأمّلات حول آيات معرفة اللّه في خلق الحيوانإِنّ الحكمة التي أُشير لها في صدد خلق الإنسان غالبا ما تصدق على خلق الحيوان كذلك ، فضلاً عن أنّ هناك نصوص إِسلامية خاصّة بخلق الحيوان تؤكّد ذكر الأَدلة والإشارات الخاصة بمعرفة اللّه تعالى ، سنشيرهنا باختصار إِلى عدد منها :
1 . أَنواع الحيوانإِنّ القرآن الكريم قد ذكر الدليل على معرفة اللّه سبحانه من خلال تنوع الحيوانات في أَربعة مواضع ، وهي : قوله تعالى : «وَ مِنْ ءَايَ_تِهِ خَلْقُ السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ» (1) وقوله تعالى : «وَ فِى خَلْقِكُمْ وَ مَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ ءَايَ_تٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ» (2) وقوله تعالى : «وَ أَلْقَى فِى الْأَرْضِ رَوَ سِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَ بَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ» (3) وقوله تعالى: «إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلَ_فِ الَّيْلِ وَ النَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى
.
ص: 168
فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَ بَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّيَ_حِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ لَأيَ_تٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» (1) . يقول الاُستاذ «ميكستر» أُستاذ علم الحيوان في «كالج وتن» : إِنّ أَنواع الحيوانات كثيرة جدّا ، إِذا أَردنا إِحصاءها فإنّها ستكون بعدد النجوم ... ومع وجود هذا التنوع فإن هناك نظاما وترتيبا خاصّا لكلِّ نوع من هذه الأَنواع (2) .
2 . حِكمة صغر الحَشراتيقول العالم الرومي «بيني» : إِذا كان للزنبور هيبة العقاب وللخُنفساء قوة الأَسد ، فإنّ عالمنا سيكون سوقا للفوضى! لكن الحِكمة البالغة لخالق العالم جعلت كلّ شيء متناسبا مع النظام العام السَّائد على العالم ، قال تعالى : «إِنَّا كُلَّ شَىْ ءٍ خَلَقْنَ_هُ بِقَدَرٍ» (3) .
3 . ميزات كلّ حيوانإِنّ أَحد الدلائل الإلهية الكبرى في خلق الحيوانات هو أنَّ لكلِّ نوع منها ميزات معينة تنطبق على ظروف حياته ، ولو فقدت تلك الميزات فلا يمكنها إِدامة الحياة ، والاستدلال بهذا البرهان كان واحدا من أَدلة نبيّ اللّه موسى عليه السلام لأَجل إِثبات التوحيد لفرعون حينما قال فرعون له ولأَخيه هارون : «فَمَن رَّبُّكُمَا
.
ص: 169
يَ_مُوسَى» (1) فقال موسى مجيبا : «رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىْ ءٍ خَلْقَهُ» (2) . (3) أي : أنّ لكلّ شيء في نظام الخلق ميزات متعلقة به تنطبق على حاجاته ، وهذا التوافق دليل واضح على أنّ الخالق الحكيم القادر هو المدّبر لعالم الوجود . يقول الإمام الصادق عليه السلام في بيانه للميزات التي تحتاج إِليها الطيور مشيرا إِلى هذه الحكمة المهمّة في نظام الخلق : «فَجَعَلَ كُلَّ شَيءٍ مِن خَلقِهِ مُشاكِلاً لِلأَمرِ الَّذي قَدَّرَ أن يَكونَ عَلَيهِ» (4) .
4 . الشعور الفطري للحيواناتيقول «كرسى موريسن» في أَدلته السبعة على إِثبات وجود اللّه تعالى : إِنّ دليلي الثالث هو سلوك الحيوانات الّذي يقودنا بكلّ صراحة إِلى وجود الخالق الرحيم ، اللّه الّذي وهب لها الشعور الفطري ، ولو كانت محرومة من مثل هذا الشعور لما استطاعت أَداء أي دورٍ (5) . إِنّ الاستدلال بالشعور الفطري كان الدليل الثاني لنبيّ اللّه موسى عليه السلام على إِثبات التوحيد لفرعون : «رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى» .
5 . دور الحيوانات في حياة الإنسانتعرّض القرآن الكريم إِلى ذكر دور الحيوانات في حياة الإنسان في آيات عديدة ،
.
ص: 170
ويعتبر ذلك من أَدلّة التوحيد ، لأنّه يحكي عن إِحاطة علم الخالق بحاجات الإنسان وضمانها له ، قال تعالى : «وَ أَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ» (1) إِلى آخر الآية .
6 . خضوع الحيوانات للإنسانإِنّ الحيوانات وسائر الموجودات خاضعة للإنسان ، كما أنّ عددا منها مسخّرٌ لخدمة البشر ، هذا مع أنّها ليست أَقلّ من البشر من حيث العدد ولا هي عاجزة من حيث القوة ، فمن ذلّلها إِذا وجعلها خاضعة للإنسان وفي خدمته؟ يقول القرآن الكريم في جوابه على هذا السؤال : «وَ ذَلَّلْنَ_هَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَ مِنْهَا يَأْكُلُونَ» (2) ، كما يقول الإمام الصادق عليه السلام في بيان سبب خضوع الحيوانات للإنسان : «ثمّ مُنِعَت الذِّهنَ وَالعَقلَ لِتَذِلَّ لِلإِنسانِ فَلا تَمتَنِعُ عَلَيهِ» (3) . افرض أنّ الحيوانات وسائر الموجودات إِذا كانت تتمتع بنعمة العقل واتخاذ القرار بالحرب والقتال ضد الإنسان ، فكيف سيكون مصير المجتمع البشري؟!
.
ص: 171
الباب الرّابع: خلق النّباتالكتاب«وَ هُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَىْ ءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَ_لْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّ_تٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَ_بِهٍ انظُرُواْ إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِى ذَ لِكُمْ لَايَ_تٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ » . (1)
«وَ مِنْ ءَايَ_تِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَ_شِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ » . (2)
«وَ الْأَرْضَ مَدَدْنَ_هَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَ سِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَىْ ءٍ مَّوْزُونٍ » . (3)
«إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَىِّ ذَ لِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ» . (4)
«أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّ رِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَ_هُ حُطَ_مًا فَظَ_لْتُمْ تَفَكَّهُونَ » . (5)
.
ص: 172
«أَفَرَءَيْتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ * ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِ_ئونَ » . (1)
راجع : إبراهيم : 32 ، عبس : 26 و 27 ، النحل : 65 ، يس : 34 .
الحديثالسنن الكبرى عن أَبي هريرة :قالَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : لا يَقولَنَّ أَحَدُكُم : زَرَعتُ ، ولكِن لِيَقُل : حَرَثتُ . قالَ أَبو هُرَيرَةَ : ألَم تَسمَعوا إِلى قَولِ اللّهِ عز و جل : «أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّ رِعُونَ» . (2)
المستدرك على الصحيحين عن حجر بن قيس المدريّ :بِتُّ عِندَ أَميرِ المُؤمِنينَ عَلِيِّ بنِ أَبي طالِبٍ عليه السلام فَسَمِعتُهُ وهُوَ يُصَلِّي اللَّيلَ يَقرَأُ ، فَمَرَّ بِهذِهِ الآيَةِ : «أَفَرَءَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَ__لِقُونَ» (3) ، قالَ : بَل أنتَ يا رَبِّ _ ثَلاثا _ ثُمَّ قَرَأَ : «أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّ رِعُونَ» ، قالَ : بَل أنتَ يا رَبِّ ، بل أنتَ يا رَبِّ ، بَل أنتَ يا رَبِّ ، ثُمَّ قَرَأَ : «أَفَرَءَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِى تَشْرَبُونَ * ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ » (4) ، قالَ : بَل أنتَ يا رَبِّ _ ثَلاثا _ ثُمَّ قَرَأَ : «أَفَرَءَيْتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ * ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِ_ئونَ» قالَ : بَل أنتَ يا رَبِّ _ ثَلاثا _ . (5)
.
ص: 173
الإمام الصادق عليه السلام_ لِلمُفَضَّلِ بنِ عُمَرَ _: تَأَمَّلِ الحِكمَةَ في خَلقِ الشَّجَرِ وأَصنافِ النَّباتِ ؛ فَإِنَّها لَمّا كانَت تَحتاجُ إِلَى الغِذاءِ الدّائِمِ كَحاجَةِ الحَيَوانِ ، ولَم يَكُن لَها أَفواهٌ كَأَفواهِ الحَيَوانِ ، ولا حَرَكَةٌ تَنبَعِثُ بِها لِتَناوُلِ الغِذاءِ ، جُعِلَت أُصولُها مَركوزَةً فِي الأَرضِ لِتَنزِعَ مِنهَا الغِذاءَ فَتُؤَدِّيَهُ إِلَى الأَغصانِ وما عَلَيها مِنَ الوَرَقِ وَالثَّمَرِ ، فَصارَتِ الأَرضُ كَالأُمِّ المُرَبِّيَةِ لَها ، وصارَت أُصولُها الَّتي هِيَ كَالأَفواهِ مُلتَقِمَةً لِلأَرضِ لِتَنزِعَ مِنهَا الغِذاءَ كَما يُرضِعُ أَصنافَ الحَيَوانِ أُمَّهاتُها . (1)
.
ص: 174
تأمّلات حول آيات معرفة اللّه في خلق النباتلقد لوحظ فيما مضى ، أنّ القرآن والأَحاديث الإسلامية يدعوان الإنسان إِلى التأَمل والمطالعة في خلق شتّى النّباتات والحِكَم الّتي أُخذت بعين الاعتبار فيها في طريق معرفة اللّه ، ومن وجهة نظر القرآن الكريم أنّ حياة النباتات من جهات مختلفة يمكن أن تقود المفكرين إِلى خالق العالم الحكيم ، فيما يلي نشير إِلى عددٍ منها :
1 . بعث الحياة في المواد الميتةإِنّ النقطة الأُولى الجديرة بالبحث هي التحقيق في كيفية بعث الحياة والنضارة في البذور الميتة والفروع الذابلة من النبات ، قال تعالى : «وَ مِنْ ءَايَ_تِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَ_شِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ» (1) .
2 . التنظيم الدقيق الموزون للنباتاتإِنّ التنظيم الدقيق والتَّعقيد والجمال والتوازن العجيب في حياة عالم النبات ، حين يلاحظه العقل لا يتردّد في الاعتراف والإذعان للخالق المدبر القادر الحكيم ، قال
.
ص: 175
تعالى : «وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَىْ ءٍ مَّوْزُونٍ» (1) .
3 . أَنواع النباتاتإِنّ النباتات كالحيوانات من حيث تعدّد أَنواعها التي يصعب احصاؤها ، ولكلِّ نوع من أَنواع النبات مقررات وخصائص معينة في نظام الخلق ، وكلّ منها يعدّ آية على وجود الخالق المدبر ، قال تعالى : «وَ تَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْج بَهِيجٍ * ذَ لِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ» (2) .
4 . نظام الزوجية في النباتاتعندما أعلن شارل لينه في أَواسط القرن الثامن عشر عن اكتشاف كون النباتات تشتمل على الجنسين الذكر والأُنثى أَيضا ، أَثار هذا الموضوع غضب الجهاز الدِّيني المسيحي ، فعدّوا مؤلفاته من كتب الضلال ، إِلّا أنّ القرآن الكريم صرّح بهذه الحقيقة قبل أَربعة عشر قرنا معلنا قانون الزوجية في عالم النبات ، وداعيا النّاس إِلى التفكّر بهذه الدلالة التوحيدية على طريق السير إِلى معرفة اللّه سبحانه . قال تعالى : «أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * إِنَّ فِى ذَ لِكَ لَايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ» (3) وسيأتي (4) أنه يظهر من القرآن والأَحاديث أنّ قانون الزوجية عامّ لكل موجودات العالم ولا يخصّ عالم النبات وحدَه .
.
ص: 176
. .
ص: 177
الباب الخامس: خلق الأزواجالكتاب«وَ مِن كُلِّ شَىْ ءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ » . (1)
«سُبْحَ_نَ الَّذِى خَلَقَ الْأَزْوَ جَ كُلَّهَا مِمَّا تُن_بِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَ مِمَّا لَا يَعْلَمُونَ » . (2)
«أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * إِنَّ فِى ذَ لِكَ لَايَةً وَ مَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ » . (3)
راجع : الرعد : 3 ، النحل : 72 ، طه : 53 ، الروم : 21 ، لقمان : 10 ، فاطر : 11 ، الزخرف : 12 ، الشورى : 11 ، ق : 7 ، الذاريات : 49 ، النجم : 45 ، الرحمن : 52 ، القيامة : 39 ، النبأ : 8 ، الليل : 3 .
الحديثالإمام عليّ عليه السلام :مُؤَلِّفٌ بَينَ مُتَعادِياتِها ، ومُفَرِّقٌ بَينَ مُتَدانِياتِها ، دالَّةٌ بِتَفرِيقِها عَلى مُفَرِّقِها ، وبِتَأليفِها عَلى مُؤَلِّفِها ، وذلِكَ قَولُهُ تَعالى : «وَ مِن كُلِّ شَىْ ءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ
.
ص: 178
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ » (1) . (2)
رسول اللّه صلى الله عليه و آله_ في رده على الدهرية الذين يقولون أنَّ العالم قديم غير محدث _: هذَا الَّذي تُشاهِدونَهُ مِنَ الأَشياءِ بَعضُها إِلى بَعضٍ يَفتَقِرُ ؛ لِأَنَّهُ لا قِوامَ لِلبَعضِ إِلّا بِما يَتَّصِلُ بِهِ ، ألا تَرَى البِناءَ مُحتاجا بَعضُ أَجزائِهِ إِلى بَعضٍ ، وإِلّا لَم يَتَّسِق ولَم يَستَحكِم ، وكَذلِكَ سائِرُ ما تَرَونَ . (3)
الإمام عليّ عليه السلام :... وأمَّا الجَماداتُ فَهُوَ يُمسِكُها بِقُدرَتِهِ ، ويُمسِكُ المُتَّصِلَ مِنها أن يَتَهافَتَ ، ويُمسِكُ المُتَهافِتَ مِنها أن يَتَلاصَقَ . (4)
عنه عليه السلام :أَحالَ الأَشياءَ لِأَوقاتِها ، ولَأَمَ (5) بَينَ مُختَلِفاتِها ، وغَرَّزَ غَرائِزَها ، وأَلزَمَها أَشباحَها . (6)
عنه عليه السلام :فَأَقامَ مِنَ الأَشياءِ أَوَدَها (7) ، ونَهَجَ حُدودَها ، ولاءَم بِقُدرَتِهِ بَينَ مُتَضادِّها ،
.
ص: 179
ووَصَلَ أَسبابَ قَرائِنِها . (1)
الإمام الرضا عليه السلام :ولَم يَخلُق شَيئا فَردا قائِما بِنَفسِه دونَ غَيرِهِ لِلَّذي أَرادَ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى نَفسِهِ ، وإِثباتِ وُجودِهِ ، وَاللّهُ _ تَبارَكَ وتَعالى _ فَردٌ واحِدٌ ، لا ثانِيَ مَعَهُ يُقيمُهُ ، ولا يَعضُدُهُ ولا يُمسِكُهُ ، وَالخَلقُ يُمسِكُ بَعضُهُ بَعضا بِإِذنِ اللّهِ ومَشِيئَتهِ . (2)
.
ص: 180
. .
ص: 181
تأمّلات حول آيات معرفة اللّه في خلق الأزواجإِنّ قانون الزوجية العامّة الذي يحكم عالم المادة ، هو أَهمّ القوانين التكوينية لخلق العالم ؛ لأنّ وجود عالم المادة وبقاءه رهنٌ بهذا القانون ، وممّا تجدر الإشارة إِليه هو أنّ اكتشاف هذا القانون في الوقت الحاضر حصيلة لمساعٍ علميّة حثيثة استمرت لعدّة قرون ، فحسبا لقول انشتاين : لقد أَدرك البشر بعد مضي 2500 سنة من البحث والدراسة أَسرار قلعة الذرّة ، فتوصّل إِلى أنّ جميع العالم المادي يتكون من الذرّة ، وأنّ الذرّة تتكوّن من اتحاد الألكترون والبروتون ، وأنّ وجود المادة وبقاءها رهنٌ بحالة الاتصال والتجاذب القائمة بين نوعين متضادين ، الأَول موجب ، والآخر سالب ، بينما يظهر من القرآن الكريم قبل أربعة عشر قرنا بأنّ خلق العالم قائم على أساس الزّوجيَّة . وأنّ حكمة قانون الزوجية العامة وفلسفته هو تذكير الإنسان ولفت انتباهه إِلى الخالق الحكيم جلّت قدرته ، والتحرك في الاتجاه الذي رسمه لضمان سعادة البشر ، قال تعالى : «وَ مِن كُلِّ شَىْ ءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ إِنِّى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ» (1) .
.
ص: 182
وقد أَكّد الإمام الرضا عليه السلام على أنّ الحكمة من نظام الزوجية العامة هو إِثبات وجود اللّه تعالى والدلالة على وحدانيته ، قال عليه السلام : «ولَم يَخلُق شَيئا فَردا قائِما بِنَفسِهِ دونَ غَيرِهِ لِلَّذي أَرادَ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى نَفسِهِ وإثباتِ وُجودِهِ ، فَاللّهُ _ تَبارَكَ وتَعالى _ فَردٌ واحِدٌ لا ثانِيَ مَعَهُ يُقيمُهُ ولا يَعضدُهُ ولا يُمسِكُهُ ، وَالخَلقُ يُمسِكُ بَعضَهُ بَعضا بِإِذنِ اللّهِ ومَشيئَتِهِ» (1) . بناءً على هذه التأَملات في قانون الزوجية العامّة الذي يحكم هذا العالم ، وعلى ضوء ما جاء عن هذا القانون في القرآن والسُّنّة ، يتبيّن لنا أنّه ليس دليلاً على التوحيد وحسب ، ولكنه برهان على النبوة والإمامة أيضا .
.
ص: 183
الباب السادس: خلق الأرضالكتاب«وَ فِى الْأَرْضِ ءَايَ_تٌ لِّلْمُوقِنِينَ » . (1)
«وَ مِنْ ءَايَ_تِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَ الْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ». (2)
«إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَ لَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا » . (3)
«قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الْأَرْضَ فِى يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَ لِكَ رَبُّ الْعَ__لَمِينَ * وَ جَعَلَ فِيهَا رَوَ سِىَ مِن فَوْقِهَا وَ بَ_رَكَ فِيهَا وَ قَدَّرَ فِيهَا أَقْوَ تَهَا فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ » . (4)
«أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَ_دًا * وَ الْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَ خَلَقْنَ_كُمْ أَزْوَ جًا » . (5)
«وَ مَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَ نُهُ إِنَّ فِى ذَ لِكَ لَايَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ » . (6)
.
ص: 184
«أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَ أَمْوَ تًا » . (1)
«اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَ السَّمَاءَ بِنَاءً وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ رَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَ_تِ ذَ لِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَ__لَمِينَ » . (2)
راجع : البقرة : 22 ، آل عمران: 190 ، يونس: 6 ، الحِجر : 19 ، طه : 53 ، الأنبياء : 31 ، الرعد : 3 و 4 ، إبراهيم : 32 ، النحل : 10 و 18 ، الكهف : 7 ، الشعراء : 7 و 8 و149 ، النمل : 60 و 61 ، لقمان : 10 و 11 ، فاطر : 27 و 28 ، يس : 33 و 36 ، غافر: 57 ، فصّلت : 39 ، الشورى : 29 ، الزخرف : 10 ، الجاثية : 13 ، ق : 7 و 8 ، الذاريات : 48 و 49 ، الرحمن : 10 و 13 ، الحديد : 17 ، الطلاق : 12 ، الملك : 15 ، نوح : 19 و 20 ، المرسلات : 27 ، الطارق : 12 ، الغاشية: 20، الشمس : 6 .
الحديثتفسير القمّي :نَظَرَ أَميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام في رُجوعِهِ مِن صِفّينَ إِلَى المَقابِرِ فَقالَ : هذِهِ كِفاتُ الأَمواتِ ، أي مَساكِنُهُم ، ثُمَّ نَظَرَ إِلى بُيوتِ الكوفَةِ فَقالَ : هذِهِ كِفاتُ الأَحياءِ ، ثُمَّ تَلا قَولَهُ : «أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَ أَمْوَ تًا» . (3)
الإمام زين العابدين عليه السلام_ في قَولِ اللّهِ عز و جل : «الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَ شًا» (4) _: جَعَلَها مُلائِمَةً لِطَبائِعِكُم ، مُوافِقَةً لِأَجسادِكُم ، لَم يَجعَلها شَديدَةَ الحَميِ وَالحَرارَةِ فَتُحرِقَكُم ، ولا شَديدَةَ البَردِ فَتُجمِدَكُم ، ولا شَديدَةَ طِيبِ الرّيحِ فَتَصدَعَ هاماتِكُم ، ولا شدَيدَةَ النَّتنَ فَتُعطِبَكُم ، ولا شَديدَةَ اللّينِ كَالماءِ فَتُغرِقَكُم ، ولا شَديدَةَ الصَّلابَةِ فَتَمتَنِعَ عَلَيكُم في دورِكم وأَبنِيَتِكُم وقُبورِ مَوتاكُم ، ولكِنَّهُ عز و جلجَعَلَ فيها مِنَ المَتانَةِ ما تَنتَفِعونَ بِهِ ، وتَتَماسَكونَ وتَتَماسَكُ عَلَيها أَبدانُكُم وبُنيانُكُم ، وجعَلَ فيها ما تَنقادُ بِهِ لِدورِكُم
.
ص: 185
وقُبورِكُم وكَثيرٍ مِن مَنافِعِكُم ، فَلِذلِكَ جَعَلَ الأَرضَ فِراشا لَكُم . (1)
تفسير القمّي : «أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الْأَرْضَ فِى يَوْمَيْنِ» ومَعنى يَومَينِ ، أي وَقتَينِ ، اِبتِداءُ الخَلقِ وَانقِضاؤهُ «وَ جَعَلَ فِيهَا رَوَ سِىَ مِن فَوْقِهَا وَ بَ_رَكَ فِيهَا وَ قَدَّرَ فِيهَا أَقْوَ تَهَا» أي لا يَزولُ ويَبقى «فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ» يَعني في أَربَعَةِ أوقاتٍ . (2)
رسول اللّه صلى الله عليه و آله_ في دُعاءِ الجَوشَنِ الكَبيرِ _: يا مَن فِي السَّماءِ عَظَمَتُهُ ، يا مَن فِي الأَرضِ آياتُهُ ، يا مَن في كُلِّ شَيءٍ دَلائِلُهُ . . . يا مَن جَعَلَ الأَرضَ مِهادا . (3)
عنه صلى الله عليه و آله :إِنَّ اللّهَ _ تَبارَكَ وتَعالى _ فَرَغَ مِن خَلقِهِ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ : أَوَّلُهُنَّ يَومُ الأَحَدِ ، والإِثنَينِ ، وَالثُّلاثاءِ ، وَالأَربِعاءِ ، وَالخَميسِ ، وَالجُمُعَةِ ؛ خَلَقَ يَومَ الأَحَدِ السَّماواتِ ، وخَلَقَ يَومَ الإِثنَينِ الشَّمسَ وَالقَمَرَ ، وخَلَقَ يَومَ الثُّلاثاءِ دَوابَّ البَحرِ ودَوابَّ البَرِّ ، وفَجَّرَ الأَنهارَ وقَوَّتَ الأَقواتَ وخَلَقَ الأَشجارَ يَومَ الأَربَعاءِ ، وخَلَقَ يَومَ الخَميسِ الجَنَّةَ وَالنّارَ ، وخَلَقَ آدَمَ عليه السلام يَومَ الجُمُعَةِ ، ثُمَّ أَقبَلَ عَلَى الأَمرِ يَومَ السَّبتِ . (4)
عنه صلى الله عليه و آله :إِنَّ الأَرضَ بِكُم بَرَّةٌ ؛ تَتَيَمَّمونَ مِنها ، وتُصَلّونَ عَلَيها فِي الحَياةِ الدُّنيا ، وهِيَ لَكُم كِفاتٌ فِي المَماتِ ، وذلِكَ مِن نِعمَةِ اللّهِ . (5)
.
ص: 186
الإمام عليّ عليه السلام :اللّهُمَّ رَبَّ السَّقفِ المَرفوعِ . . . ورَبَّ هذِهِ الأَرضِ الَّتي جَعَلتَها قَرارا لِلأَنامِ ، ومَدرَجا لِلهَوامِّ وَالأَنعامِ ، وما لا يُحصى مِمّا يُرى وما لا يُرى . (1)
عنه عليه السلام_ فِي الدُّعاءِ _: سُبحانَكَ ما أَعظَمَ شَأنَكَ ، وأَعلى مَكانَكَ ، وأَنطَقَ بِالصِّدقِ بُرهانَكَ ، وأَنفَذَ أَمرَكَ ، وأَحسَنَ تَقديرَكَ ، سَمَكتَ السَّماءَ فَرَفَعتَها ، ومَهَّدتَ الأَرضَ فَفَرَشتَها ، وأَخرَجتَ مِنها ماءً ثَجّاجا (2) ، ونَباتا رَجراجا ، فَسَبَّحَكَ نَباتُها ، وجَرَت بِأَمرِكَ مِياهُها ، وقاما عَلى مُستَقَرِّ المَشيئَةِ كَما أَمَرتَهُما . (3)
عنه عليه السلام_ أَيضا _: أنتَ الَّذي فِي السَّماءِ عَظَمَتُكَ ، وفِي الأَرضِ قُدرَتُكَ وعَجائِبُكَ . (4)
عنه عليه السلام_ في تَعظيمِ اللّهِ جَلَّ و عَلا _: فَمَن فَرَّغَ قَلبَهُ وأَعمَلَ فِكرَهُ لِيَعلَمَ كَيفَ أَقَمتَ عَرشَكَ ، وكَيفَ ذَرَأتَ خَلقَكَ ، وكَيفَ عَلَّقتَ فِي الهَواءِ سَماواتِكَ ، وكَيفَ مَدَدتَ عَلى مَورِ الماءِ أَرضَكَ ، رَجَعَ طَرفُهُ حَسيرا ، وعَقلُهُ مَبهورا ، وسَمعُهُ والِها ، وفِكرُهُ حائِرا . (5)
عنه عليه السلام_ في عَجيبِ صَنعَةِ الكَونِ _: وأَرسى أَرضا يَحمِلُهَا الأَخضَرُ المُثعَنجِرُ (6) وَالقَمقامُ (7) المُسَخَّرُ (المُسَجَّرُ) ، قَد ذَلَّ لِأَمرِهِ ، وأَذعَنَ لِهَيبَتِهِ ، ووَقَفَ الجارِي مِنهُ
.
ص: 187
لِخَشيَتِهِ ، وجَبَلَ جَلاميدَها ونُشوزَ مُتونِها وأطوادِها ، فَأَرساها في مَراسيها ، وأَلزَمَها قَراراتِها ، فَمَضَت رُؤوسُها فِي الهَواءِ ، ورَسَت أُصولُها فِي الماءِ ، فَأَنهَدَ جِبالَها عَن سُهولِها ، وأَساخَ قواعِدَها في مُتونِ أَقطارِها ومَواضِعِ أَنصابِها ، فَأَشهَقَ قِلالَها ، وأَطالَ أَنشازَها ، وجَعَلَها لِلأَرضِ عِمادا ، وأَرَّزَها فيها أَوتادا ، فَسَكَنتَ عَلى حَرَكَتِها مِن أن تَميدَ بِأَهلِها ، أو تَسيخَ بِحَملِها ، أو تَزولَ عَن مَواضِعِها . فَسُبحانَ مَن أَمسَكَها بَعدَ مَوَجانِ مِياهِها ، وأَجمَدَها بَعدَ رُطوبَةِ أَكنافِها ، فَجَعَلَها لِخَلقِهِ مِهادا ، وبَسَطَها لَهُم فِراشا ، فَوقَ بَحرٍ لُجِّيٍّ ، راكِدٍ لا يَجري ، وقائِمٍ لا يَسري ، تُكَركِرُه (1) الرِّياحُ العَواصِفُ وتَمخُضُهُ الغَمامُ الذَّوارِفُ ، «إِنَّ فِى ذَ لِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى» (2) . (3)
عنه عليه السلام_ في صِفَةِ الأَرضِ ودَحوِها عَلَى الماءِ _: كَبَسَ الأَرضَ عَلى مَورِ أَمواجٍ مُستَفحِلَةٍ، ولُجَجِ بِحارٍ زاخِرَةٍ، تَلتَطِمُ أواذِيُّ أَمواجِها، وتَصطَفِقُ مُتَقاذِفاتُ أَثباجِها ، وتَرغو زَبَدا كَالفُحولِ عِندَ هِياجِها ، فَخَضَعَ جِماحُ الماءِ المُتَلاطِمِ لِثِقَلِ حَملِها ، وسَكَنَ هَيجُ ارتِمائِهِ إِذ وَطِئَتهُ بِكَلكَلِها وذَلَّ (ظَلَّ) مُستَخذِيا إِذ تَمَعَّكَت عَلَيهِ بِكَواهِلِها ، فَأَصبَحَ بَعدَ اصطِخابِ أَمواجِهِ ساجِيا مَقهورا ، وفي حِكمَةِ الذُّلِّ مُنقادا أَسيرا . وسَكَنَتِ الأَرضُ مَدحُوَّةً في لُجَّةِ تَيّارِهِ ، ورَدَّت مِن نَخوةِ بَأوِهِ وَاعتِلائِهِ ، وشُموخِ أَنفِهِ وسُمُوِّ غُلوائِهِ ، وكَعَمَتهُ عَلى كِظَّةِ جَريَتِهِ ، فَهَمَدَ بَعدَ نَزَقاتِهِ ، ولَبَدَ بَعدَ زَيَفانِ وَثباتِهِ . فَلَمّا سَكَنَ هَيجُ الماءِ مِن تَحتِ أَكنافِها ، وحَملِ شَواهِقِ الجِبالِ الشُّمَّخِ البُذَّخِ
.
ص: 188
عَلى أَكتافِها ، فَجَّرَ يَنابيعَ العُيونِ مِن عَرانينِ أُنوفِها ، وفَرَّقَها في سُهوبِ بيدِها وأَخاديدِها ، وعَدَّلَ حَرَكاتِها بِالرّاسِياتِ مِن جَلاميدِها ، وذَواتِ الشَّناخيبِ الشُّمِّ مِن صَياخيدِها ، فَسَكَنَت مِنَ المَيَدانِ لِرَسوبِ الجِبالِ في قِطَعِ أَديمِها ، وتَغَلغُلِها مُتَسَرِّبَةً في جَوباتِ خَياشيمِها ، ورُكوبِها أَعناقَ سُهولِ الأَرَضينَ وجَراثيمِها . وفَسَحَ بَينَ الجَوِّ وبَينَها ، وأَعَدَّ الهَواءَ مُتَنَسَّما لِساكِنِها ، وأَخرَجَ إِلَيها أَهلَها عَلى تَمامِ مَرافِقِها ، ثُمَّ لَم يَدَع جُرُزَ الأَرضِ الَّتي تَقصُرُ مِياهُ العُيونِ عَن رَوابيها ، ولا تَجِدُ جَداوِلُ الأَنهارِ ذَريعَةً إِلى بُلوغِها ، حَتّى أَنشَأَ لَها ناشِئَةَ سَحابٍ تُحيي مَواتَها ، وتَستَخرِجُ نَباتَها . أَلَّفَ غَمامَها بَعدَ افتِراقِ لُمَعِهِ ، وتَبايُنِ قَزَعِهِ ، حَتّى إِذا تَمَخَّضَت لُجَّةُ المُزنِ فيهِ ، وَالتَمَعَ بَرقُهُ في كُفَفِهِ ، ولَم يَنَم وَميضُهُ في كَنَهوَرِ رَبابِهِ (1) ، ومُتَراكِمِ سَحابِهِ ، أَرسَلَهُ سَحّا مُتَدارِكا ، قَد أَسَفَّ هَيدَبُهُ ، تَمريهِ الجَنوبُ دِررَ أَهاضيبِهِ ودُفَعَ شَابيبِهِ . فَلَمّا أَلقَتِ السَّحابُ بَركَ بِوانَيها، وبَعاعَ مَا استَقَلَّت بِهِ مِنَ العِب ءِ المَحمولِ عَلَيها ، أَخرَجَ بِهِ مِن هَوامِدِ الأَرضِ النَّباتَ ، ومِن زُعرِ الجِبالِ الأَعشابَ ، فَهِيَ تَبهَجُ بِزينَةِ رِياضِها ، وتَزدَهي بِما أُلبِسَتهُ مِن رَيطِ أَزاهيرِها ، وحِليَةِ ما سُمِطَت بِهِ مِن ناضِرِ أَنوارِها ، وجَعَلَ ذلِكَ بَلاغا لِلأَنام ، ورِزقا لِلأَنعامِ، وخَرَقَ الفِجاجَ في آفاقِها، وأَقامَ المَنارَ لِلسّالِكينَ عَلى جَوادِّ طُرُقِها. (2)
الإمام زين العابدين عليه السلام_ فِي الدُّعاءِ _: خَلَقتَنا بِقُدرَتِكَ ولَم نَكُ شَيئا ، وصَوَّرتَنا فِي الظَّلماءِ بِكُنهِ لُطفِكَ ، وأَنهَضتَنا إِلى نَسيمِ رَوحِكَ ، وغَذَوتَنا بِطيبِ رِزقِكَ ، ومَكَّنتَ لَنا
.
ص: 189
في مِهادِ أَرضِكَ ، ودَعَوتَنا إِلى طاعَتِكَ . (1)
الإمام الصادق عليه السلام_ لِلمُفَضَّلِ بنِ عُمَرَ _: فَكِّر _ يا مُفَضَّلُ _ فيما خَلَقَ اللّهُ عز و جلعِليةَ هذِهِ الجَواهِرِ الأَربَعَةِ لِيَتَّسِعَ ما يُحتاجُ إِلَيهِ مِنها ، فَمِن ذلِكَ سَعَةُ هذِهِ الأَرضِ وَامتِدادُها ، فَلَولا ذلِكَ كَيفَ كانَت تَتَّسِعُ لِمَساكِنِ النّاسِ ومَزارِعِهِم ومَراعيهِم ومَنابِتِ أخشابِهِم وأَحطابِهِم ، وَالعَقاقيرِ العَظيمَةِ ، وَالمَعادِنِ الجَسيمَةِ غِناؤُها ؟ ولَعَلَّ مَن يُنكِرُ هذِهِ الفَلَواتِ الخاوِيَةَ وَالقِفارَ الموحِشَةَ فَيَقولُ : ما المَنفَعَةُ فِيها ؟ فَهِيَ مَأوى هذِهِ الوُحوشِ ومَحالُّها ومَرعاها ، ثُمَّ فيها بَعدُ مُتَنَفَّسٌ ومُضطَرَبٌ لِلنّاسِ إِذَا احتاجوا إِلَى الاِستِبدالِ بِأَوطانِهِم ؛ فَكَم بَيداءَ وكَم فَدفَدٍ (2) حالَت قُصورا وجِنانا بِانتِقالِ النّاسِ إِلَيها وحُلولِهِم فيها ، ولَولا سَعَةُ الأَرضِ وفُسحَتُها لَكانَ النّاسُ كَمَن هُوَ في حِصارٍ ضَيِّقٍ لا يَجِدُ مَندوحَةً عَن وَطَنِهِ إِذا حَزَبَهُ أَمرٌ يَضطَرُّهُ إِلَى الاِنتِقالِ عَنهُ . ثُمَّ فَكِّر في خَلقِ هذِهِ الأَرضِ _ عَلى ما هِيَ عَلَيهِ _ حينَ خُلِقَت راتِبَةً راكِنَةً ، فَتَكونَ مَوطِنا مُستَقَرّا لِلأَشياءِ ، فَيَتَمَكَّنُ النّاسُ مِنَ السَّعىِ عَلَيها في مَاربِهِم ، وَالجُلوسِ عَلَيها لِراحَتِهِم ، وَالنَّومِ لِهَدئِهِم ، وَالإِتقانِ لِأَعمالِهِم ؛ فَإِنَّها لَو كانَت رَجراجَةً مُتَكَفِّئَةً لَم يَكونوا يَستَطيعونَ أن يُتقِنُوا البِناءَ وَالتِّجارَةَ وَالصِّناعَةَ وما أَشبَه ذلِكَ ، بَل كانوا لا يَتَهَنَّؤونَ بِالعَيشِ وَالأَرضُ تَرتَجُّ مِن تَحتِهِم . وَاعتَبِر ذلِكَ بِما يُصيبُ النّاسَ حينَ الزَّلازِلِ عَلى قِلَّةِ مَكثِها حَتّى يَصيروا إِلى تَركِ مَنازِلِهِم وَالهَرَبِ عَنها . . . ثُمَّ إِنَّ الأَرضَ في طِباعِها الَّذي طَبَعَهَا اللّهُ عَلَيهِ بَارِدَةٌ يابِسَةٌ وكَذلِكَ الحِجارَةُ ،
.
ص: 190
وإِنَّمَا الفَرقُ بَينَها وبَينَ الحِجارَةِ فَضلُ يُبسٍ فِي الحِجارَةِ ، أفَرَأَيتَ لَو أنَّ اليُبسَ أَفرَطَ عَلَى الأَرضِ قَليلاً حَتّى تَكونَ حَجَرا صَلدا أكانَت تُنبِتُ هذَا النَّباتَ الّذي بِهِ حَياةُ الحَيَوانِ ؟ وكانَ يُمكِنُ بِها حَرثٌ أو بِناءٌ ؟ أفَلا تَرى كَيفَ تَنصب (1) مِن يُبسِ الحِجارَةِ وجُعِلَت عَلى ما هِيَ عَلَيهِ مِنَ اللّينِ وَالرَّخاوَةِ ولِتُهَيَّأَ لِلاِعتِمادِ ؟ ومِن تَدبيرِ الحَكيمِ _ جَلَّ وعَلا _ في خِلقَةِ الأَرضِ أنَّ مَهَبَّ الشِّمالِ أَرفَعُ مِن مَهَبِّ الجَنوبِ ، فَلِمَ جَعَلَ اللّهُ عز و جل كَذلِكَ إِلّا لِيَنحَدِرَ المِياهُ عَلى وَجهِ الأَرضِ فَتَسقِيَها وتُروِيَها ؟ ثُمَّ تَفيضَ آخِرَ ذلِكَ إِلَى البَحرِ ، فَكَأَنّما يَرفَعُ أَحَدَ جانِبَيِ السَّطحِ ويَخفَضُ الآخَرَ لِيَنحَدِرَ الماءُ عَنهُ ولا يَقومَ عَلَيهِ ، كَذلِكَ جَعَلَ مَهَبَّ الشِّمالِ أَرفَعَ مِن مَهَبِّ الجَنوبِ لِهذِهِ العِلَّةِ بِعَينِها ، ولَولا ذلِكَ لَبَقِيَ الماءُ مُتَحَيِّرا عَلى وَجهِ الأَرضِ ، فَكانَ يَمنَعُ النَّاسَ مِن إِعمالِها ، ويَقطَعُ الطُّرُقَ وَالمَسالِكَ . (2)
عنه عليه السلام_ أَيضا _: فَكِّر _ يا مُفَضَّلُ _ في هذِهِ المَعادِنِ وما يَخرُجُ مِنها مِنَ الجَواهِرِ المُختَلِفَةِ ، مِثلَ الجُصِّ وَالكِلسِ وَالجِبسِ والزَّرانيخِ والمَرتَك (3) وَالقونيا وَالزّيبَقِ وَالنُّحاسِ وَالرَّصاصِ وَالفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَالزَّبَرجَدِ وَالياقوتِ وَالزُّمُرُّدِ وضُروبِ الحِجارَةِ ، وكَذلِكَ ما يَخرُجُ مِنها مِن القارِ وَالمومِيا (4) وَالكِبريتِ وَالنَّفطِ وغَيرِ ذلِكَ مِمّا يَستَعمِلُهُ النّاسُ في مَآرِبِهِم . فَهَل يَخفى عَلى ذي عَقلٍ أنّ هذِهِ كُلَّها ذَخائِرُ ذُخِرَت لِلإِنسانِ في هذِهِ الأَرضِ
.
ص: 191
لِيَستَخرِجَها فَيَستَعمِلَها عِندَ الحاجَةِ إِلَيها ؟ ثُمَّ قَصُرَت حيلَةُ النّاسِ عَمّا حاولَوا مِن صَنعَتِها عَلى حَصرِهِم وَاجتِهادِهِم في ذلِكَ ؛ فإِنَّهُم لَو ظَفِروا بما حاوَلوا مِن هذَا العِلمِ كانَ لا مَحالَةَ سَيَظهَرُ ويَستَفيضُ فِي العالَمِ حَتّى تَكثُرَ الذَّهَبُ وَالفِضَّةُ ويَسقُطا عِندَ النّاسِ فَلا يَكونَ لَهُما قيمَةٌ . (1)
الكافي عن هشام بن الحكم_ في خَبرِ مُحاجَّةِ الإِمامِ الصّادِقِ عليه السلام لِزِنديقٍ مِن أَهلِ مِصرَ: قالَ أَبو عَبدِ اللّهِ عليه السلام : يا أَخا أَهلِ مِصرَ ، إِنَّ الَّذي تَذهَبونَ إِلَيهِ وتَظُنّونَ أنَّهُ الدَّهرُ إِن كانَ الدَّهرُ يَذهَبُ بِهِم لِمَ لا يَرُدُّهُم؟ وإِن كانَ يَرُدُّهُم لِمَ لا يَذهَبُ بِهِم ؟ القَومُ مُضطَرّونَ . يا أخا أَهلِ مِصرَ ، لِمَ السَّماءُ مَرفوعَةٌ ، وَالأَرضُ مَوضوعَةٌ ؟ لِمَ لا تَسقُطُ (2) السَّماءُ عَلَى الأَرضِ ؟ لِمَ لا تَنحَدِرُ الأَرضُ فَوقَ طِباقِها ولا يَتَماسَكانِ ولا يَتَماسَكُ مَن عَلَيها ؟ قالَ الزِّنديقُ : أَمسكَهَمُا اللّهُ رَبُّهُما وسَيِّدُهُما . قالَ : فَامَنَ الزِّنديقُ عَلى يَدَي أَبي عَبدِ اللّهِ عليه السلام . (3)
.
ص: 192
. .
ص: 193
تأَمّلات حول آيات معرفة اللّه في خلق الأرضتُعدُّ الأَرض واحدة أُخرى من الدلائل الواضحة على التوحيد ومعرفة الخالق _ جلّ وعلا _ ، وقد أَقسم اللّه تعالى بها في قوله : «وَالْأَرْضِ وَ مَا طَحَ_اهَا» (1) وأَشار القرآن الكريم في أَكثر من ثلاثين موضعا إِلى الخلق والنظم والتدبير السَّائد على الأَرض ، ودعا أَتباعه إِلى دراسة علم طبقات الأَرض باعتباره أَحد الطرق الموصلة إِلى معرفة اللّه سبحانه . ومن وجهة نظر القرآن والأَحاديث الإسلامية ، هناك المزيد من الدروس والعبر التي تدلّنا على التوحيد ومعرفة اللّه من خلال خلق الأَرض ، نشير إِلى أَهمّها :
أَولاً : حجم الأَرضإِنّ أَول ما يطالعنا من دلائل التوحيد عند تأَمّل خلق الأَرض ، هو مقدار حجمها الهائل ، فلو كانت الأَرض بمقدار القمر ، وكان قطرها يعادل ربع قطرها الحالي ، فإنّ قوة الجاذبية لا تكفي لحفظ الماء والهواء على الأَرض ، فترتفع درجات الحرارة بشكل مهلك ، وبخلاف ذلك ، لو كان قطر الأَرض ضعف قطرها الحالي ، فإنّ سطح
.
ص: 194
الأَرض سيكون أَربعة أَضعاف سطحها الحالي ، وترتفع قوة جذبها إِلى ضعفين عمّا هي عليه الآن ، كما تنخفض درجات الحرارة بشكل خطير ، ويرتفع ضغط الهواء من كيلو غرام على السنتيمتر المربع الواحد إِلى كيلو غرامين ، وكلّ هذه العوامل لها ردود فعل شديدة على الحياة في الأَرض . إِنّ هذا لهو فعل الخالق الحكيم الذي جعل كلّ شيء في نظام الخلق بالمقدار الذي تقتضيه فلسفة خلقه ، قال تعالى : «إِنَّا كُلَّ شَىْ ءٍ خَلَقْنَ_هُ بِقَدَرٍ» (1) . (2)
ثانيا : استقرار الأَرض في الفضاءإِنّ الدرس الآخر المستفاد من تأَمّل خلق الأَرض ، هو كون الأَرض عائمةً في الفضاء ، والسيطرة عليها عن طريق أَعمدة غير مرئيّة تتمثّل بقوة الجاذبية ، وهذا الأَمر العجيب الجدير بالتأَمل يعتبره القرآن الكريم إِحدى آيات قدرة الخالق الحكيم وتدبيره ، فيصرّح بالقول : «وَ مِنْ ءَايَ_تِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَ الْأَرْضُ بِأَمْرِهِ» (3) . إِنّ لهذه الآية دلالة واضحة بأنّ الأَرض وسائر الأَجرام السماوية قائمةٌ في الفضاء بدون أَعمدة وأُسس وروابط مادية محسوسة ، وليس ثمة شيء يقيمها غير أَمر اللّه تعالى (4) ، وفي آية أُخرى ، يؤكّد القرآن الكريم بأنّ اللّه تعالى وحدَه هو الذي يحفظ السَّماء والأَرض ويمنعهما من السقوط ، حيث يقول :
.
ص: 195
«إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضَ أَن تَزُولَا» (1) . على ضوء آيات القرآن الكريم أَشارت الأَحاديث الإسلامية أَيضا إِلى مسأَلة كون الأَرض عائمة في الفضاء بعبارات واضحة ، مثل : «بَسَطَ الأَرضَ عَلَى الهَواءِ بِغَيرِ أَركانٍ». (2) و «أقامَها بِغَيرِ قَوائِمَ ، ورَفَعَها بِغَيرِ دَعائِمَ» (3) و«أقامَ الأَرضَ بِغَيرِ سَنَدٍ» (4) و«اِستَقَرَّتِ الأَرَضونَ بِأَوتادِها فَوقَ الماءِ» (5) وغيرها . والنقطة المهمة الأُخرى الجديرة بالذكر هي كيفية إِجراء الأَمر الإلهي في إِقامة الأرض والأَجرام السَّماوية في الفضاء ، وحفظها ضمن مداراتها الخاصة ، وقد ذُكرت هذه المسأَلة بوضوح في آيتين أُخريين ، هما قوله تعالى : «اللَّهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَ_وَ تِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا» (6) . وقوله : «خَلَقَ السَّمَ_وَ تِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا» (7) . إِنّ هاتين الآيتين توضّحان الأَمر والإمساك الإلهيين الواردين في الآيتين المتقدّمتين آنفا ، أي أنّ عدم سقوط السَّماوات والأَرض بأمر اللّه سبحانه ، وبواسطة
.
ص: 196
دعائم غير مرئية ، تسمّى علميا اليوم قوة الجاذبية ، من هنا فإنّ أَحد أَصحاب الإمام الرضا عليه السلام واسمه حسين بن خالد حينما سأَله عليه السلام عن قوله تعالى : «وَ السَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ» (1) ، أَجاب الإمام عليه السلام : «هِيَ مَحبوكَةٌ إِلَى الأرضِ» وشبّك بين أَصابعة ، ثُمّ تابع حسين ابن خالد السؤال مجددا : كيف هي محبوكة إِلى الأَرض ، واللّه يقول : «رَفَعَ السَّمَ_وَ تِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا» ؟ فقال الإمام عليه السلام : «سُبحانَ اللّهِ! ألَيسَ اللّهُ يَقولُ : «بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا» ؟!» قال حسين بن خالد : بلى . فقال الإمام عليه السلام : «ثَمَّ عَمَدٌ ولكِن لا تَرَونَها» (2) .
ثالثا : استقرار الأَرض بأَربع عشرة حركةالدرس الآخر في خلق الأَرض هو كونها مستقرّةً بشكل تام بواسطة أَربعة عشر نوعا من أَنواع الحركة (3) ، بيد أنّها تبدو لساكنيها كأَنّها ثابتة وليس ثمة أيّ حركة ، وعندما نحاول إِدراك الأَهمية الفائقة لهذا الموضوع لابد أن نتصوّر بأنّ هذه السفينة الفضائية العظيمة التي اسمها الأَرض ، تحمل اليوم نحو ستّة مليارات مسافر ، وتطير في الفضاء في حركتها الوضعية بسرعة تعادل «1440» كيلومتر في الساعة ، وفي حركتها التبعية بسرعة «000/70» كيلومتر ، وفي حركتها الانتقالية بسرعة «280/107» كيلومتر ، وهي مع هذا الوصف مستقرة استقرارا تاما ، وقد أكد القرآن
.
ص: 197
الكريم والحديث الشريف مكررا هذا الدرس البليغ باعتباره أَحد الأدلة على معرفة اللّه سبحانه ، ودعا النَّاس إِلى التأَمّل فيه ، قال تعالى : «اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا» (1) . وقال : «أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَ_دًا» (2) .
رابعا : توفير المعادن والفلزاتلقد أَودع الخالق الحكيم أَنواعا متعددة من المعادن والفلزات في باطن الأَرض ، كي يستفيد منها الإنسان ويوفّر حاجاته المختلفة ، وفي ذلك دليلٌ آخر على معرفة اللّه سبحانه من خلال التأَمل في آفاق الأرض ، ولا ريب في أنّ وجود هذه المعادن والفلزات يعتبر من العوامل الأَصيلة التي تسهم في تقدم الفنّ والعلم والحضارة البشريّة (3) . فضلاً عن جميع ما أَشرنا إِليه سابقا ، فإنّ كلّ التدابير المتّخذة في نظام الخلق لجعل الأَرض صالحةً لحياة الإنسان _ وقد بحثنا بعضها في أَبواب أُخرى من هذه المجموعة _ تعتبر من آيات معرفة اللّه سبحانه في خلق الأَرض .
راجع : موسوعة ميزان الحكمة : ج 2 (القسم الحادي عشر : الأرض) .
.
ص: 198
. .
ص: 199
الباب السابع: خلق الجبالالكتاب«وَ تَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَ هِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْ ءٍ إِنَّهُ خَبِير بِمَا تَفْعَلُونَ » . (1)
«وَ الْجِبَالَ أَوْتَادًا » . (2)
«وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِ_لَ_لاً وَ جَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَ_نًا» . (3)
«وَ أَلْقَى فِى الْأَرْضِ رَوَ سِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ» . (4)
الحديثالإمام عليّ عليه السلام :الحَمدُ للّهِِ الَّذي ... وَتَّدَ بِالصُّخورِ مَيَدانَ (5) أَرضِهِ . (6)
.
ص: 200
عنه عليه السلام_ فِي صِفَةِ الأَرضِ _: وعَدَّلَ حَرَكاتِها بِالرّاسِياتِ مِن جَلاميدِها ، وذَواتِ الشَّناخيبِ الشُّمِّ مِن صَياخيدِها . (1)
عنه عليه السلام_ أَيضا _: وأَرسى أَرضا يَحمِلُهَا الأَخضَرُ ... وجَبَلَ جَلاميدَها ونُشوزَ مُتونِها وأَطوادِها ، فَأَرساها في مَراسيها ، وأَلزَمَها قَراراتِها ، فَمَضَت رُؤوسُها فِي الهَواءِ ، ورسَتَ أُصولُها فِي الماءِ ، فَأَنهَدَ جِبالَها عَن سُهولِها ، وأَساخَ قَواعِدَها في مُتونِ أَقطارِها ومَواضِعِ أَنصابِها ، فَأَشهَقَ قِلالَها ، وأَطالَ أَنشازَها ، وجَعَلَها لِلأَرضِ عِمادا ، وأَرَّزها فيها أَوتادا ، فَسَكَنَت عَلى حَرَكَتِها من أن تَميدَ بِأَهلِها ، أو تَسيخَ بِحَملِها ، أو تَزولَ عَن مَواضِعِها ، فَسُبحانَ مَن أَمسَكَها بَعدَ مَوَجانِ مِياهِها . (2)
عنه عليه السلام :اللّهُمَّ رَبَّ السَّقفِ المَرفوعِ ، وَالجَوِّ المَكفوفِ . . . ورَبَّ الجِبالِ الرَّواسِي الَّتي جَعَلتَها لِلأَرضِ أَوتادا ، ولِلخَلقِ اعتِمادا . (3)
الإمام الصادق عليه السلام_ لِلمُفَضَّلِ بنِ عُمَرَ _: أُنظُر _ يا مُفَضَّلُ _ إِلى هذِهِ الجِبالِ المَركومَةِ مِنَ الطّينِ وَالحِجارَةِ الَّتي يَحسَبُهَا الغافِلونَ فَضلاً لا حاجَةَ إِلَيها ، وَالمَنافِعُ فيها كَثيرةٌ ؛ فَمِن ذلِكَ أن يَسقُطَ عَلَيها الثُّلوجُ فَيَبقى (4) في قِلالِها لِمَن يَحتاجُ إِلَيهِ ، ويَذوبُ ما ذابَ مِنهُ فَتَجري مِنهُ العُيونُ الغَزيرَةُ الَّتي تَجتَمِعُ مِنها الأَنهارُ العِظامُ ، ويَنبُتُ فيها ضُروبٌ مِنَ النَّباتِ وَالعَقاقيرِ الَّتي لا يَنبُتُ مِثلُها فِي السَّهلِ ، ويَكونُ فيها كُهوفٌ ومَقايلُ لِلوُحوشِ مِنَ السِّباعِ العادِيَةِ ، ويُتَّخَذُ مِنهَا الحُصونُ وَالقِلاعُ المَنيعَةُ لِلتَّحَرُّزِ مِنَ الأَعداءِ ، ويُنحَتُ مِنهَا الحِجارَةُ لِلبِناءِ وَالأَرحاءِ ، ويوجَدُ فيها مَعادِنُ لِضُروبٍ مِنَ
.
ص: 201
الجَواهِرِ ، وفيها خِلالٌ أُخرى لا يَعرِفُها إِلّا المُقَدِّرُ لَها في سابِقِ عِلمِهِ . (1)
تفسير القمّي : «وَ تَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَ هِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْ ءٍ» قالَ : فِعلَ اللّهِ الَّذي أَحكَمَ كُلَّ شَيءٍ . (2)
.
ص: 202
. .
ص: 203
تأمّلات حول آيات معرفة اللّه في خلق الجبالوأَخيرا بتقدّم علم طبقات الأَرض «الجيولوجيا» أَثبت هذا العلم ضرورة وجود الجبال لغرض ضمان استقرار الأَرض وصلاحيتها للحياة ، لكن القرآن الكريم استطاع كشف هذا السّر العلمي قبل أَربعة عشر قرنا من الزمان ، حيث بيّن بصراحة بعض الأَدوار التي تلعبها الجبال في حياة الإنسان ، وقد استخدم هذا الكتاب السَّماوي اصطلاح «الجبال» تسعا وثلاثين مرة ، وعبّر عنها بكلمة «الرواسي» في تسع مرات ، كما دعا النَّاس إِلى التأَمل والمطالعة لهذه الظاهرة العجيبة للسير في معرفة اللّه تعالى ، وفيما يلي أَهم الملاحظات المثيرة من خلال تأَمل خلق الجبال :
أولاً : نصب الجبالإِنّ الملاحظة الأُولى الجديرة بالتأَمل التي دعا القرآن الكريم الإنسان إِلى التأَمّل فيها ، هي كيفية نصب الجبال في الأَرض ، قال تعالى : «أَفَلَا يَنظُرُونَ ... إِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ» (1) . حقا من يستطيع أن ينصب هذه الجبال بهذا الحجم والوزن في قلب الأَرض ، وأن يربط جذورها بعضها ببعض غير الخالق القادر الحكيم؟ هل مثل هذا
.
ص: 204
العمل العظيم من صنع الصدفة الصّماء العمياء؟!
ثانيا : دور الجبال في استقرار الأَرضإنّ الأَرض تقع في معرض الاهتزاز والاضطراب الشديد والتلاشي من جهتين : 1 . الحركات السريعة المتعددة ، الوضعية والتبعية ، والانتقالية . 2 . استعداد الغازات المتراكمة في أَعماق الأَرض للانفجار بشدة متناهية . من هنا فإنّ الأَرض تحتاج إِلى روابط محكمة دائمة وأَوتاد عظيمة تتناسب مع حجمها ووزنها ، لكي تربط طبقاتها المختلفة بعضها ببعض ، وتمنعها من الاهتزاز والتلاشي ، وقد أَشارت التحقيقات العلمية إِلى أنّ الروابط الدائمة والأَوتاد المحكمة التي توجب استحكام الأَرض واستقرارها ، هي الجبال بجذورها العميقة ووزنها الثقيل ، وقد بيّن القرآن الكريم في ثلاثة موارد فائدة الجبال في الحدّ من اضطراب الأَرض وتزلزلها ، قال تعالى : «وَجَعَلْنَا فِى الْأَرْضِ رَوَ سِىَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ» (1) . وقال : «وَ أَلْقَى فِى الْأَرْضِ رَوَ سِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ» (2) . وقال : «وَ أَلْقَى فِى الْأَرْضِ رَوَ سِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَ أَنْهَ_رًا وَ سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» (3) . وفي موضع آخر ذكر الجبال باعتبارها أَوتادا للأَرض حيث قال :
.
ص: 205
«أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَ_دًا * وَ الْجِبَالَ أَوْتَادًا» (1) . وقد تقدّم كلام دقيق بديع لأَميرالمؤمنين عليّ عليه السلام في تفسير هذه الآيات وتبيينها في الباب السادس (2) .
ثالثا : دور الجبال في حفظ الإنسانإِنّ الجبال تحافظ على الإنسان من جهات مختلفة _ فهي تقف كالسدّ العظيم والجدران الشاهقة بوجه الرياح الباردة الّتي تهبّ من المحيط المنجمد الشمالي _ ولولا تلك الأَسوار الشَّوامخ والجدران الشواهق لاختلّت ظروف العيش في بيئة الحياة نتيجة تلك الرياح العاتية الباردة ، ثمّ إِنّ الجبال تقف حائلاً أمام الرياح البحرية الرطبة التي تحمل الغيوم ، وبالنتيجة يتساقط المطر أو الثلج حول أَطرافها . فضلاً عن ذلك فإنّ الجبال الشاهقة تغيّر درجات حرارة المناطق المجاورة لها فتخفّف من وطأَة الحرارة الشديدة ، يقول تعالى في إِشارة إِلى واحدة من حِكم خلق الجبال : «وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِ_لَ_لاً وَ جَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَ_نًا» (3) .
رابعا : دور الجبال في تصفية المياهإنّ إحدى طرق تصفية المياه كما يلي : حينما تمرّ المياه خلال الطبقات المختلفة المتراكمة بعضها فوق بعض ، فإنّ الشَّوائب والجراثيم تترسّب في ثنايا المنافذ ، ومن ثمّ يتخلّل الماء من تحتها رقراقا عذبا ، كذلك تلعب الجبال دورا مهما في تصفية
.
ص: 206
المياه الثلجية وعذوبتها ؛ ذلك لأنّ الثلوج التي تُختزن في أَعالي الجبال عند فصل الشتاء تذوب بالتدريج ، ويمرّ ماؤها متخلّلاً طبقات الجبال الصخرية ، فيصفى بشكل طبيعي ، ويجري من تحت الجبال على شكل عيون وينابيع رَقراقةً عذبة ، وكلّما ازداد ارتفاع الجبال ازدادت مياهها عذوبةً ونقاءً (1) ، وقد أَشار القرآن الكريم إِلى هذا الأَمر باعتباره درسا في معرفة اللّه سبحانه ، حيث يقول : «وَ جَعَلْنَا فِيهَا رَوَ سِىَ شَ_مِخَ_تٍ وَ أَسْقَيْنَ_كُم مَّاءً فُرَاتًا» (2) .
خامسا : فوائد أُخرى للجباللم تقتصر منافع الجبال وأَدوارها في حياة الإنسان على ما ذكرناه فحسب ، لذا فإنّ الإمام الصادق عليه السلام حينما يشير في حديثٍ له إِلى فوائد الجبال المتعددة ومنها : خزن الثلوج ، وعيون الماء ، وأَنواع الأَعشاب الطبيعيّة ، وتوفير البيئة الصالحة لعيش الحيوانات البرية وغيرها ، يقول عليه السلام : «وفيها خِلالٌ أُخرى لا يَعرِفُها إلّا المُقَدِّرُ لَها في سابِقِ عِلمِهِ» (3) .
.
ص: 207
الباب الثامن: خلق الماءالكتاب«أَفَرَءَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِى تَشْرَبُونَ * ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَ_هُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ » . (1)
«أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَ_هُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَىْ ءٍ حَىٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ » . (2)
«وَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَ جًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى» . (3)
راجع : النحل : 10 و11 و65 ، البقرة : 164 ، الحجّ : 63 ، النمل : 60 ، إبراهيم : 32 ، الفرقان : 48 ، الأنفال : 11 ، النور : 45 .
الحديثالإمام زين العابدين عليه السلام_ في قَولِهِ تَعالى : «وَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً» _: يَعني المَطَرَ يُنزِلُهُ مِن عُلوٍ لِيَبلُغَ قُلَلَ جِبالِكُم وتِلالِكُم وهِضابَكُم وأَوهادَكُم (4) ، ثُمَّ فَرَّقَهُ رَذاذا
.
ص: 208
ووابِلاً (1) وهَطلاً لِتَنشَفَهُ أَرَضوكُم ، ولَم يَجعَل ذلِكَ المَطَرَ نازِلاً عَلَيكُم قِطعَةً واحِدَةً ، فَيُفسِدَ أَرَضيكُم وأَشجارَكَم وزُروعَكُم وثِمارَكُم . (2)
رسول اللّه صلى الله عليه و آله :لا تَمنَعوا عِبادَ اللّهِ فَضلَ الماءِ وَالكَلَاَ ولا نارا ؛ فَإِنَّ اللّهَ جَعَلَها مَتاعا (3) لِلمُقوينَ ، وقُوَّةً لِلمُستَضعَفينَ . (4)
الإمام الصادق عليه السلام :كانَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله إِذا شَرِبَ الماءَ قالَ : الحَمدُ للّهِِ الَّذي سَقانا عَذبا زُلالاً ، ولَم يَسقِنا مِلحا أُجاجا ، ولَم يُؤاخِذنا بِذُنوبِنا . (5)
عنه عليه السلام_ وسَأَلَهُ رَجُلٌ عَن طَعمِ الماءِ _: سَل تَفَقُّها ولا تَسأَل تَعَنُّتا ! طَعمُ الماءِ طَعمُ الحَياةِ . (6)
.
ص: 209
.
.
ص: 210
تأمّلات حول آيات معرفة اللّه في خلق الماءإنّ القرآن الكريم يعتبر خلق الماء أَحد الآيات والدلالات الكبرى على معرفة اللّه سبحانه ، وهو الآية التي يتمكن الباحثون عن طريق البحث والمطالعة فيها التعرّف على الخالق الحكيم ، والنقاط التي أَكّدها هذا الكتاب السماوي في هذا الخصوص عبارة عن :
1 . رمز الحياةيعدّ الماء من وجهة نظر القرآن الكريم رمزا للحياة ، ودوره في إِيجاد الأَحياء وديمومة الحياة دليل واضح قاطع على التوحيد ، من هذه الناحية يتوجّه هذا الكتاب السَّماوي إِلى أُولئك الذين يصرّون على الكفر رغم مشاهدة هذا الدليل الواضح باللوم والتقريع ، قال تعالى : «أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَ_هُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَىْ ءٍ حَىٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ» (1) . ويقول أَيضا :
.
ص: 211
«وَ اللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِى ذَ لِكَ لَأيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» (1) .
2 . زينة الأَرضإِنّ جمال الأَرض وطراوتها ونضارتها لها علاقة مباشرة بالتدبير الحكيم في خلق الماء والسحاب والهواء والمطر ، قال تعالى : «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ» (2) . وقد خاطب القرآن الكريم المشركين ودعاهم إلى التفكّر في هذا التدبير ، وعبْر هذا السبيل دعاهم إِلى التوحيد ، قال تعالى : «ءَاللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُن_بِتُواْ شَجَرَهَا أَءِلَ_هٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ» (3) .
3 . ضمان مصادر الغذاءإِنّ التأَمّل في دور الماء في ضمان مصادر الغذاء يجعل الإنسان أَيضا يتعرف على الخالق الحكيم ، قال تعالى : «اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَ تِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِىَ فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَ_رَ» (4) .
.
ص: 212
4 . ضمان حاجة الشربإِنّ خلق الماء العذب السائغ إِلى جانب الماء المالح الأُجاج لضمان حاجات شرب الكائنات الحيّة يعتبر واحدا من دلائل التوحيد ومعرفة اللّه سبحانه ، وإِذا لم يكن للماء أيّ دور سوى هذا فهو كافٍ لإثبات الحكمة والتدبير في الخلق ، وقد جاء في القرآن الكريم حول آية التوحيد هذه قوله : «أَفَرَءَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِى تَشْرَبُونَ * ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَ_هُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ» (1) وقوله : «قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَآءٍ مَّعِينِ» (2) .
5 . أساس النظافة والطهارةإِنّ النظافة تعتبر واحدة من حِكَم خلق الماء ، وفي هذا المجال لا يمكن أن يحلّ محلّه أيّ شيء ، وهذه الحكمة لوحدها كافية لئن تضع هذا الأَصل الحيويّ في صفّ الآيات الإلهيّة العظمى والدلائل الكبرى لمعرفة اللّه تعالى ، وقد أَشار القرآن الكريم إِلى هذه الحكمة في موضعين كما يلي؛ قال تعالى : «وَ أَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا» . (3) وقال تعالى : «وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ» (4) . وهناك نقاط مهمة أُخرى في خلق الماء جديرة بالتأَمل والمطالعة ، لكن لا مجال لشرحها وتوضيحها في هذا المقال (5) .
.
ص: 213
الباب التاسع: خلق البحرالكتاب«وَ هُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ » . (1)
«وَ هُوَ الَّذِى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَ_ذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَ هَ_ذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَ جَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَ حِجْرًا مَّحْجُورًا » . (2)
راجع : الفرقان : 53 ، النمل : 61 ، الجاثية : 12 ، الطور : 6 ، الملك : 30 ، الرحمن : 19 _ 22 .
الحديثرسول اللّه صلى الله عليه و آله :اللّهُمَّ إِنّي أسأَ لُكَ . . . بِالاِسمِ الَّذِي استَقَرَّت بِهِ الأَرَضونَ عَلى قَرارِها ، وَالجِبالُ عَلى أَماكِنِها ، وَالبِحارُ عَلى حُدودِها . (3)
عنه صلى الله عليه و آله_ في دعاء الجوشن الكبير _: يا مَن فِي كُلِّ شَيءٍ دَلائِلُهُ ، يا مَن فِي
.
ص: 214
البِحارِ عَجائِبُهُ . (1)
الإمام عليّ عليه السلام :أنتَ الَّذي فِي السَّماءِ عَظَمَتُكَ ، وفِي الأَرضِ قُدرَتُكَ ، وفِي البِحارِ عَجائِبُكَ . (2)
بحار الأنوار عن سلمان الفارسي :رَأيتُ عَلى حَمائِلِ سَيفِ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام كِتابةً فَقُلتُ : يا أميرَ المُؤمِنينَ ما هذِهِ الكِتابَةُ عَلى سَيفِكَ؟ فَقالَ : هذِهِ إحدى عَشرَةَ كَلِمَةً عَلّمَنيها رَسولُ اللّه صلى الله عليه و آله : ... يا مَنِ البِحارُ بِقُدرَتِهِ مَجرِيَّةٌ . (3)
الإمام عليّ عليه السلام :الحَمدُ للّهِِ الَّذي لا مَقنوطٌ مِن رَحمَتِهِ ، ولا مَخلُوٌّ مِن نِعمَتِهِ ، ولا مُؤيِسٌ مِن رَوحِهِ ، ولا مُستَنكَفٌ عَن عِبادَتِهِ الَّذي بِكَلِمَتِهِ قامَتِ السَّماواتُ السَّبعُ ، وَاستَقَرَّتِ الأَرضُ المِهادُ ، وثَبَتَتِ الجبالُ الرَّواسي ، وجَرَتِ الرِّياحُ اللَّواقِحُ ، وسارَ في جَوِّ السَّماءِ السَّحابُ ، وقامَت عَلى حُدودِهَا البِحارُ . (4)
فاطمة عليهاالسلام :الحَمدُ للّهِِ الَّذي مَن تَوَكَّلَ عَلَيهِ كَفاهُ ، الحَمدُ للّهِِ سامِكِ (5) السَّماءِ ، وساطِحِ الأَرضِ ، وحاصِرِ البِحارِ . (6)
الإمام الحسن عليه السلام :اللّهُمَّ يا مَن جَعَلَ بَينَ البَحرَينِ حاجِزا وبُروجا وحِجرا مَحجورا . (7)
.
ص: 215
الإمام الصادق عليه السلام :إِذا أَرَدتَ أن تَعرِفَ سَعَةَ حِكمَةِ الخالِقِ ، وقِصَرَ عِلمِ المَخلوقينَ ؛ فَانظُر إِلى ما فِي البِحارِ مِن ضُروبِ السَّمَكِ ، ودَوابِّ الماءِ ، وَالأَصدافِ وَالأَصنافِ الَّتي لا تُحصى ولا تُعرَفُ مَنافِعُها إِلَا الشَّيءَ بَعدَ الشَّيءِ ، يُدرِكُهُ النّاسُ بِأَسبابٍ تُحدَثُ . (1)
الإمام الكاظم عليه السلام :سُبحانَ مَن أَلَجَّ البِحارَ بِقُدرَتِهِ . (2)
.
ص: 216
تأمّلات حول آيات معرفة اللّه في خلق البحرإِنّ الخالق الحكيم جعل من البحار إِحدى الآيات الكبرى لمعرفته ، لِما تتضمنه تلك البحار من مصادر الحياة والثروة الدائمة التي سخّرها الخالق لخدمة المجتمع الإنساني . ولقد تعرّض القرآن الكريم والسنة الشريفة لذكر الدلائل الخفية في عالم البحار بشكل مكرر ، ودعا الإنسان إِلى التأَمل والمطالعة حول عجائب البحار وخفاياها المحيّرة وبيان دورها في حياة الإنسان ، وفيما يلي نشير بشكل مجمل إِلى النقاط الجديرة بالذكر في هذا المجال التي أَكّدتها النصوص الإسلامية :
1 . دور البحار في ضمان مصادر الغذاءلا ريب في أنّ البحر يوفّر قسما لا بأس به من المواد الغذائية التي يحتاج إِليها الإنسان ، وهذا من الوجهة القرآنية يُعدّ علامة من علامات التدبير في نظام الخلق ودليلاً واضحا على معرفة اللّه سبحانه ، قال تعالى : «هُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا » (1) . إِنّ أَسماك البحر تلعب دورا رئيسا في غذاء الإنسان ، كما أنّها مصدر لغذاء كثير
.
ص: 217
من أَنواع الطيور ، فطبقا للاحصاءات العلمية فإنّ الطيور البحرية لسواحل الجزر الصخرية والجبال الساحلية فقط تستهلك فيكل عام 000/500/2 طن من الأَسماك ، هذا فضلاً عن أنّ البحر يعتبر مصدرا دائما للأَملاح الضرورية في غذاء الإنسان .
2 . دور البحار في ضمان وسائل الزينةإِنّ البحر إِضافة إِلى توفيره قسما من المواد الغذائية التي يحتاج إِليها الإنسان ، يوفّر له أَيضا قسما من وسائل الزينة والحلي ، والقرآن الكريم يشير إِلى هذه الحكمة بقوله : «وَ تَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا» (1) وقوله : «مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ * فَبِأَىِّ ءَالَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجَانُ» (2) . اللؤلؤ : درّ ثمين _ كلّما كان أكبر ، كان أثمن _ ينشأ في بطن أنواع من الصدفيات في قاع البحار . والمرجان من الحيوانات البحرية الجميلة يستخدم للزينة وله فوائد طبية أَيضا.
3 . دور البحر في الحمل والنقللقد أَشار القرآن الكريم إِلى دور البحر في الحمل والنقل باعتبارهما من آيات التدبير ومعرفة الخالق سبحانه ، قال تعالى : «وَ ءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَ خَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ * وَ إِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَ لَا هُمْ يُنقَذُونَ» (3) وحتّى في الوقت الحاضر وعلى الرغم من تعدّد وسائط النقل الجوي
.
ص: 218
والبري فإنّ السفن تؤدي دورا مهمّا في الحمل والنقل .
4 . الحائل غير المرئي بين بحرينتعرّض القرآن الكريم في موضعين إِلى ذكر ظاهرة مثيرة للعجب ؛ وهي جعل حاجزٍ غير مرئي بين بحرين متلاصقين بحيث لا يلتبس أَحدهما بالآخر ولا يغلب عليه ، وقد اعتبر ذلك آيةً من آيات التدبير في نظام الخلق ومن الأَدلة على معرفة الخالق _ جلّ وعلا _ . الموضع الأوّل : في سورة الفرقان : «وَ هُوَ الَّذِى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَ_ذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَ هَ_ذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَ جَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَ حِجْرًا مَّحْجُورًا» (1) . البرزخ : هو الحجاب غير المرئي بين ماءين أَحدهما عذب والآخر مالح ، ولعلّه بسبب التفاوت بينهما في الكثافة والوزن الخاص لكلّ منهما بحيث لا يختلطان لمدّة طويلة ، ولتوضيح هذا الأمر فإنّ كلّ الأَنهار الكبرى للماء العذب التي تصبّ في البحر ، تدفع المياه المالحة إِلى الخلف ، فيصير الماء في جانب الساحل عذبا ، ويستمر هذا الوضع لمدّة طويلة ، وممّا يجدر ذكره أنّه بمساعدة ظاهرة المدّ والجزر لمياه البحر تندفع المياه العذبة في الأَنهار وهي صالحة للاستفادة منها لغرض الزراعة . الموضع الثاني : في سورة الرحمن : «مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ» علاوة على ما تقدم من المعاني السابقة ، يمكن الإشارة في هذه الآية إِلى أنّ الأَنهار العظيمة التي تجري في المحيطات ، ومن أَهمها ما يسمّى ب_ «كلف استريم» ، هذه المياه بعضها يتحرك في المناطق التي بالقرب من خطِّ الاستواء فهي حارّة ، حتّى أنّ لونها يغاير أَحيانا لون المياه المجاورة لها ، وقد يصل عرضها إِلى «150» كيلومترا ، وعمقها إِلى بضعة مئات من الأَمتار ، وتصل سرعتها في بعض
.
ص: 219
المناطق خلال يوم واحد إِلى مِئة وستين كيلومترا ، وممّا يجدر ذكره أنّ هذه الأَنهار العظيمة لا تختلط مع المياه المجاورة لها إِلا قليلاً (1) .
5 . عجائب البحارلا ريب في أنّ كلّ ما في عالم الخلق عجيب يشير إِلى قدرة الخالق وحكمته ، لكنّ بعض الظواهر أَكثر إِثارة من غيرها ، وفي هذا الجانب يقول الرسول الأَكرم صلى الله عليه و آله في بعض دعائه : «يا مَن في كُلِّ شَيءٍ دَلائِلُهُ ، يا مَن فِي البِحارِ عَجائِبُهُ» (2) . إِنّ التأَمّل في خلق عشرات آلاف الأَنواع من الأَحياء البحرية وكذلك التّأَمّل في حياتها لدليل على هذا الكلام .
6 . الكشف التدريجي لمنافع البحر مع تقدّم العلمإِنّ الذي تقدّم ممّا ذكرناه عن أَدلّة معرفة الخالق من خلال خلق البحار ودورها في حياة الإنسان ، عبارة عن ظواهر مفهومة للنَّاس في عصر النزول وما تلاه من القرون ، وممّا لاريب فيه أنّ منافع البحار ودلائل معرفة اللّه الخفية فيها ، لا تقتصر على التي ذكرناها ، إِذ أنّ للبحر منافع أُخرى تدخل في حياة الإنسان ، إِن لم تكن أكثر وأَهمّ من الفوائد التي ذكرناها فبلا شكّ أنّها ليست أَقلّ منها ، ومنها : نزول المطر ، ولطافة الجو ، وضمان رطوبة الأَرض ، فضلاً عن استخراج عناصر كثيرة من ماء البحر دخلت في صناعات الأَدوية بعد تطور العلم ، مثل : المغنيسيوم ، والبوتاسيوم ، وسلفات الصوديوم وغيرها . لقد أَشار الإمام الصادق عليه السلام إِلى الكشف التدريجي لمنافع البحر وإِلى الفوائد
.
ص: 220
والأَدلّة التي لم تُعرَف في تلك الأَيام بقوله عليه السلام : «إِذا أرَدتَ أَن تَعرِفَ سَعَةَ حِكمَةَ الخالِقِ وقِصَرِ عِلمِ المَخلوقينَ ، فَانظُر إِلى ما فِي البِحارِ مِن ضُروبِ السَّمَكِ ودَوابِّ الماءِ وَالأَصدافِ ، وَالأَصنافِ الَّتي لا تُحصى ولا تُعرَفُ مَنافِعُها إِلَا الشَّيء يُدرِكُهُ النّاسُ بِأَسبابٍ تَحدُثُ » (1) .
.
ص: 221
الباب العاشر: خلق الرّياح والسّحاب والمطرالكتاب«وَ مِنْ ءَايَ_تِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَ تٍ وَ لِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ» . (1)
«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِى سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَ__لِهِ وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَ يَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَ_رِ » . (2)
«وَ اخْتِلَ_فِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَ تَصْرِيفِ الرِّيَ_حِ ءَايَ_تٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ » . (3)
راجع : البقرة: 164 ، الأعراف: 57 ، الحِجْر : 22 ، الإسراء : 69 ، الأنبياء : 81 ، الفرقان : 48 ، النمل : 63 ، الروم : 51 ، فاطر : 9 ، الذاريات : 1 ، القمر : 19 ، المرسلات : 1 ، 3 .
الحديثتفسير القمّي :قولُهُ : «وَ تَصْرِيفِ الرِّيَ_حِ ءَايَ_تٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» أي تَجيءُ مِن كُلِّ
.
ص: 222
جانِبٍ ، ورُبَّما كانَت حارَّةً ، ورُبَّما كانَت بارِدَةً ، ومِنها ما يُسَيِّرُ السَّحابَ ، ومِنها ما يَبسُطُ الرِّزقَ فِي الأَرضِ ، ومِنها ما يَلقَحُ الشَّجَرَةَ . (1)
نثر الدرّ :كانَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَقولُ عِندَ هُبوبِ الرِّيحِ : اللّهُمَّ اجعَلها رِياحا ولا تَجعَلها ريحا . وَالعَرَبُ تَقولُ : لا يَلقَحُ السَّحابُ إِلّا مِن رِياحٍ ، ومُصَدِّقُ ذلِكَ قوَلُ اللّهِ تَعالى : «وَ اللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَ_حَ فَتُثِيرُ سَحَابًا» (2) . (3)
رسول اللّه صلى الله عليه و آله :إِنَّ اللّهَ عز و جل جَعَلَ السَّحابَ غَرابيلَ لِلمَطَرِ ، هِيَ تُذيبُ البَرَدَ (4) حَتّى يَصيرَ ماءً لِكَيلا لا يَضُرَّ بِهِ شَيئا يُصيبُهُ . الَّذي تَرَونَ فيهِ مِنَ البَرَدِ وَالصَّواعِقِ نِقمَةٌ مِنَ اللّهِ عز و جل ، يُصيبُ بِها مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ . (5)
الإمام عليّ عليه السلام :السَّحابُ غِربالُ المَطَرِ ، لَولا ذلِكَ لَأَفسَدَ كُلَّ شَيءٍ وَقَعَ عَلَيهِ . (6)
الإمام الصادق عليه السلام :لَولَا السَّحابُ لَخَرِبَتِ الأَرضُ ، فَما أَنبَتَت شَيئا ، ولكِنَّ اللّهَ يَأَمُرُ السَّحابَ فَيُغَربِلُ الماءَ ، فَيُنزِلُ قَطرا ، وأنَّهُ أُرسِلَ عَلى قَومِ نوحٍ بِغَيرِ سَحابٍ . (7)
.
ص: 223
تأملات حول آيات معرفة اللّه في خلق الرياح والسحاب والمطرمن جملة الدلالات الإلهيّة الكبرى التي ذكرها القرآن الكريم في كثير من آياته هي الهواء والسحاب والمطر ، فقد ورد ذكرها فيه نحو 105 مرة بأَسمائها المتعدّدة وآثارها المختلفة ، معا أو متفرقةً ، ويمكن تأمّل هذا المبحث كسائر المباحث القرآنية في الطبيعيات من جانبين : الأَول : وجود النظام الخاص في إنشاء الهواء والسحاب والمطر ، والحكمة الجارية في خلقها . الثاني : الإعجاز القرآني وكيفية الاستنتاج في هذا المجال ، فضمن الآيات التي ورد فيها ذكر الهواء والسحاب والمطر والكيفيات المتعلّقة بها ، تأتي بعض التعبيرات التي يُستنتج منها أنّها تنطبق انطباقا عجيبا دقيقا على اكتشافات علم الأَنواء الجويّة والمعلومات والنظريات العلمية الحديثة ، ممّا يدلّ على أن مُرسِل القرآن ومُنزِله هو نفس مُرسِل الهواء ومنزل المطر ، هذا مع أنّ القرآن لا يريد تدوين أُصول الفيزياء ، وقوانينه أو يعلّمنا نظريات الأَنواء الجوية ، كلّا لكن نريد أن نقول في هذا المجال أن القرآن الكريم تكلّم عن الهواء والمطر بشكل لم يأت نظيره في أي كلام أو كتاب
.
ص: 224
بشري إلى ما قبل القرن الأخير ، وقد ألّف في هذا الموضوع المهندس مهدي بازرگان كتابا مستقلاً (بالفارسية) تحت عنوان «باد و باران در قرآن» أي «الريح والمطر في القرآن» أُوصي الراغبين بالاستزادة حول هذا الموضوع بمطالعة هذا الكتاب .
.
ص: 225
الباب الحادي عشر: خلق الليل والنّهارالكتاب«وَ مِنْ ءَايَ_تِهِ الَّيْلُ وَ النَّهَارُ وَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ » . (1)
«وَ هُوَ الَّذِى خَلَقَ الَّيْلَ وَ النَّهَارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ » . (2)
«إِنَّ فِى اخْتِلَ_فِ الَّيْلِ وَ النَّهَارِ وَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضِ لَايَ_تٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ » . (3)
«وَ جَعَلْنَا الَّيْلَ وَ النَّهَارَ ءَايَتَيْنِ فَمَحَوْنَا ءَايَةَ الَّيْلِ وَ جَعَلْنَا ءَايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسَابَ» . (4)
«قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَ_مَةِ مَنْ إِلَ_هٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ » . (5)
«قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَ_مَةِ مَنْ إِلَ_هٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ
.
ص: 226
تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ » . (1)
راجع : آل عمران : 27 ، الأنعام: 96، الأعراف: 54 ، يونس : 67 ، الرعد : 3 ، إبراهيم : 33 ، الحجّ : 61 ، المؤمنون : 80 ، النور: 44، الفرقان: 47 و 62 ، النمل: 27 ، القصص : 73 ، الروم : 23 ، لقمان : 29 ، فاطر : 13 ، يس: 37، الزمر: 5 ، غافر: 61، الحديد: 6 ، النبأ : 10 و 11 ، الفجر : 1 و 4 .
الحديثالإمام زين العابدين عليه السلام_ مِن دُعائِهِ عِندَ الصَّباحِ وَالمَساءِ _: الحَمدُ للّهِِ الَّذي خَلَقَ اللَّيلَ وَالنَّهارَ بِقُوَّتِهِ ، ومَيَّزَ بَينَهُما بِقُدرَتِهِ ، وجَعَلَ لِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما حَدّا مَحدودا ، وأَمَدا مَمدودا ، يولِجُ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما في صاحبِهِ ، ويولِجُ صاحِبَهُ فيهِ ، بِتَقديرٍ مِنهُ لِلعِبادِ فيما يَغذوهُم بِهِ ، ويُنشِئُهُم عَلَيهِ . فَخَلَقَ لَهُمُ اللَّيلَ لِيَسكُنوا فيهِ مِن حَرَكاتِ التَّعَبِ ، ونَهَضاتِ النَّصَبِ (2) ، وجَعَلَهُ لِباسا لِيَلبَسوا مِن راحَتِهِ ومَنامِهِ ، فَيَكونَ ذلِكَ لَهُم جَماما وقُوَّةً ، ولِيَنالوا بِهِ لَذَّةً وشَهوَةً . وخَلَقَ لَهُم النَّهارَ مُبصِرا لِيَبتَغوا فيهِ مِن فَضلِهِ ولِيَتَسبَّبوا إِلى رِزقِهِ ويَسرَحوا في أَرضِهِ ، طَلَبا لِما فيهِ نَيلُ العاجِلِ مِن دُنياهُم ، ودَرَكُ الآجِلِ في أُخراهُم ، بِكُلِّ ذلِكَ يُصلِحُ شَأَنَهُم ، ويَبلو أَخبارَهُم ، ويَنظُرُ كَيفَ هُم في أَوقاتِ طاعَتِهِ ، ومنازِلِ فُروضِهِ ، ومَواقِعِ أَحكامِهِ «لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَ__ئواْ بِمَا عَمِلُواْ وَ يَجْزِىَ الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى» (3) . اللّهُمَّ فَلَكَ الحَمدُ عَلى ما فَلَقتَ لَنا مِنَ الإِصباحِ ، ومَتَّعتَنا بِهِ مِن ضَوءِ النَّهارِ ، وبَصَّرتَنا مِن مَطالِبِ الأَقواتِ ، ووَقَيتَنا فِيهِ مِن طَوارِقِ الآفاتِ . (4)
.
ص: 227
تأمّلات في آيات معرفة اللّه في خلق اللّيل والنّهارلقد دعا القرآن الكريم النَّاس في أَكثر من ثلاثين موضعا إِلى التأَمّل في اللّيل والنهار باعتبارهما آيتين تقودان إِلى معرفة اللّه سبحانه وظاهرتين عجيبتين في نظام الخلق تحكيان عن حكمة الخالق وعظمته ، وقد عبّر القرآن الكريم عن هاتين الظاهرتين بتعبيرات عديدة : منها : ما يصرّح بأنّ اللّيل والنهار من آيات يوجود اللّه تعالى ، حيث يقول : «وَ مِنْ ءَايَ_تِهِ الَّيْلُ وَ النَّهَارُ» . (1) ويقول : «وَ جَعَلْنَا الَّيْلَ وَ النَّهَارَ ءَايَتَيْنِ» . (2) ومنها : ما يصرّح بأنّهما من خلق اللّه وكونهما مسخّرين للإنسان بأَمره تعالى ، يقول : «وَ هُوَ الَّذِى خَلَقَ الَّيْلَ وَ النَّهَارَ» . (3)
.
ص: 228
ويقول : «وَ سَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَ النَّهَارَ» (1) . ومنها : ما يصرّح بأنّه تعالى هو الذي : «يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَ يُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ » (2) . وهناك تعبيرات أُخرى تدعو العقلاء إِلى التأَمّل والتفكر في ظاهرة اللّيل والنهار ، ولعلّ أَوضح تعبير يفهمه جلّ النَّاس عن حكمة توالي اللّيل والنهار ، هو ما جاء في الآيات 71 _ 73 من سورة القصص ، حيث يقول تعالى : «قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَ_مَةِ مَنْ إِلَ_هٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَ_مَةِ مَنْ إِلَ_هٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَ مِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَ النَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» . نشير هنا إِلى أنّ الأَرض لو كانت لا تدور حول محورها ، وبقي نصفها غارقا في ظلام سرمدي ونصفها الآخر في ضياءٍ دائمٍ ، فليس بالإمكان مطلقا العيش عليها ، وعلى ضوء هذا يمكن القول إِنّ دوران الأَرض المنظّم ، وتوالي اللّيل والنهار بشكل دقيق محسوب ، يحكي عن دقّة النظم والتدبير ، ويدلّ على توحيد الخالق تعالى . وممّا يجدر ذكره على ضوء ما جاء في القرآن الكريم أنّ الاستدلال باللّيل والنهار على وجود اللّه لا يتيسّر لجميع الأَفهام ، بل أَشارت الآيات القرآنية إِلى فئات معينة تستطيع التأَمل في ظاهرة اللّيل والنهار لغرض معرفة خالق الوجود والسير
.
ص: 229
على صراط الحياة المستقيم ، وتلك الفئات كما يلي :
1 . أُولو الأَبصارقال تعالى : «يُقَلِّبُ اللَّهُ الَّيْلَ وَ النَّهَارَ إِنَّ فِى ذَ لِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِى الْأَبْصَ_رِ» (1) .
2 . أُولو الأَلبابقال تعالى : «إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَ_وَ تِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَ_فِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَايَ_تٍ لِّأُوْلِى الْأَلْبَ_بِ» (2) .
3 . أَهل التقوىقال تعالى : «إِنَّ فِى اخْتِلَ_فِ الَّيْلِ وَ النَّهَارِ وَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضِ لَايَ_تٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ» (3) .
4 . أَهل الإيمانقال تعالى : «أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَ النَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِى ذَ لِكَ لَأيَ_تٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» (4) .
.
ص: 230
وفي الواقع أنّ الشرط الأَساسي للاستفادة من آيات معرفة اللّه سبحانه ودلائلها ، هو التخلص من موانع المعرفة وحُجبها (1) ، لو حجبت الرّؤية العقليّة عن النَّاس لسُلب منهم إِمكان إِدراك الحقائق العقلية ، ومن هنا فإنَّ القرآن الكريم يعدّ الأَشخاص من أُولي الأَبصار وأُولي الأَلباب وأَهل التقوى والإيمان ، إِذا كانوا يستفيدون من رؤية عقولهم ؛ لأَجل إِدراك الحقائق التي توصلهم إِلى سلوك طريق الحياة الصحيح . بناءً على ذلكِ فإنّ أَقلّ درجات التقوى ، هي التقوى العقلية الضرورية إِلى حدّ الوصول إِلى أَدنى درجات معرفة اللّه الّتي تسهم في إِزالة موانع المعرفة شرط الاستفادة من التأَمل في آيات معرفة اللّه ، فإذا ارتقت التقوى العقلية بواسطة الإيمان إِلى التقوى الشرعية ، فإنّها تزيد من مراتب معرفة الإنسان إِلى أَعلى درجات التقوى حتّى يصل إِلى قمة هرم المعرفة فلا يرى في عالم الوجود شيئا إِلّا اللّه سبحانه (2) . على ضوء ما تقدّم من التحليل نصل إِلى نتيجة مفادها أنّ الآيات التي تعتبر جماعات خاصة _ مثل : «أُولي الأَلباب» و «أُولي الأَبصار» ... _ لفهم أَدلة معرفة اللّه ، تشير إِلى شرطية رفع موانع المعرفة وحجبها للوصول إِلى معرفة اللّه ودرجات تلك المعرفة ، وأنّ كلّاً من تلك الآيات في الحقيقة مكملة للأُخرى .
.
ص: 231
الباب الثاني عشر: خلق الشمس والقمرالكتاب«وَ مِنْ ءَايَ_تِهِ الَّيْلُ وَ النَّهَارُ وَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَ لَا لِلْقَمَرِ وَ اسْجُدُواْ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ » . (1)
«وَ الشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَ_ا ذَ لِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَ الْقَمَرَ قَدَّرْنَ_هُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَن_بَغِى لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَ لَا الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَ كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ » . (2)
«الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ » . (3)
«فَالِقُ الْاءِصْبَاحِ وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَ لِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» . (4)
«هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَ الْقَمَرَ نُورًا وَ قَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسَابَ مَا
.
ص: 232
خَلَقَ اللَّهُ ذَ لِكَ إِلَا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْايَ_تِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ » . (1)
راجع : البقرة : 189 ، الأعراف : 54 ، يونس : 6 ، الرعد : 2 ، إبراهيم : 33 ، النحل : 12 ، الإسراء : 12 ، الكهف : 86 و 90 ، الأنبياء : 33 ، المؤمنون : 80 ، الفرقان : 45 و 46 و 61 ، العنكبوت : 61 ، لقمان : 29 ، فاطر : 13 ، الصافّات : 5 ، الزمر : 5 ، الرحمن : 17 ، المعارج : 40 ، نوح : 16 ، المدثّر : 32 ، التكوير : 1 ، الفجر : 1 و 4 ، الشمس : 1 و 2 .
الحديثرسول اللّه صلى الله عليه و آله_ لَمّا رَأَى الشَّمسَ عِندَ غُروبِها قالَ _: في نارِ اللّهِ الحامِيَةِ ، لَولا ما يَزَعُها (2) مِن أَمرِ اللّهِ لَأَهلَكَت ما عَلَى الأَرضِ . (3)
الإمام عليّ عليه السلام_ مِن قَولِهِ عِندَ رُؤيَةِ الهِلالِ _: أَيُّهَا الخَلقُ المُطيعُ ، الدّائِبُ السَّريعُ ، المُتَرَدِّدُ في فَلَكِ التَّدبيرِ ، المُتَصَرِّفُ في مَنازِلِ التَّقديرِ ، آمَنتُ بِمَن نَوَّرَ بِكَ الظُّلَمَ ، وأَضاءَ بِكَ البُهَمَ ، وجَعَلَكَ آيَةً مِن آياتِ سُلطانِهِ ، وَامتَهَنَكَ بِالزِّيادَةِ وَالنُّقصانِ ، وَالطُّلوعِ والأُفولِ ، وَالإِنارَةِ وَالكُسوفِ ، في كُلِّ ذلِكَ أنتَ لَهُ مُطيعٌ وإِلى إِرادَتِهِ سَريعٌ ، سُبحانَهُ ما أَحسَنَ ما دَبَّرَ وأَتقَنَ ما صَنَعَ في مُلكِهِ ! وجَعَلَكَ اللّهُ هِلالَ شَهرٍ حادِثٍ لِأَمرٍ حادِثٍ ، جَعَلَكَ اللّهُ هِلالَ أَمنٍ وإِيمانٍ ، وسَلامَةٍ وإِسلامٍ ، هِلالَ أَمَنَةٍ مِنَ العاهاتِ وسَلامَةٍ مِنَ السَّيِّئاتِ ، اللّهُمَّ اجعَلنا أَهدى مَن طَلَعَ عَلَيهِ ، وأَزكى مَن نَظَرَ إِلَيهِ ، وصَلَّى اللّهُ عَلى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وآلِهِ ، اللّهُمَّ افعَل بي كَذا وكَذا يا أَرحَمَ الرَّاحِمينَ . (4)
.
ص: 233
تأمّلات حول آيات معرفة اللّه في خلق الشمس والقمرتعتبر الشَّمس والقمر في وجهة نظر القرآن دليلين واضحين على الخالق القادر الحكيم ، وقد دعا القرآن الكريم المجتمع البشريّ نحو سبع عشرة مرّة بأَساليب متباينة إِلى التأَمّل في هاتين الظاهرتين العجيبتين في عالم الخلق ، كما قال سبحانه وتعالى : «وَ مِنْ ءَايَ_تِهِ الَّيْلُ وَ النَّهَارُ وَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ» (1) . إِنّ الدروس التي تستعرض خَلْقَ الشَّمس والقمر في مسير معرفة اللّه يمكن إِجمالها في العناوين (2) التالية :
أَوّلاً : نظام الشمس والقمرقال تعالى : «وَ الشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَ_ا ذَ لِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَ الْقَمَرَ قَدَّرْنَ_هُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَن_بَغِى لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ
.
ص: 234
وَ لَا الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَ كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» (1) .
ثانيا : حركة الشَّمس والقمررغم أنّ الشمس تعتبر مركز المنظومة الشَّمسية ، والأَرض تدور حولها ، إِلّا أنّها ليست ساكنة ، فلها حركات وضعية باتجاه الشمال ، وتدور حول مركز المجرّة ، وللقمر كذلك حركات انتقاليه ووضعية ، فهو يدور حول الأرض ، ويدور مع المجموعة الشَّمسية . وقد وردت في القرآن الكريم آيات عديدة ترشد إِلى معرفة اللّه من خلال التأمّل في الحركة المنظمة للشَّمس والقمر ، منها قوله تعالى : «وَ هُوَ الَّذِى خَلَقَ الَّيْلَ وَ النَّهَارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» (2) . ومنها قوله تعالى : «وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لِأَجَلٍ مُّسَمًّى» (3) .
ثالثا : سجود الشَّمس والقمر للّهالمقصود من سجود الشَّمس والقمر للّه سبحانه هو نهاية الخضوع والطاعة والتسليم التكويني له تعالى ، بحيث إِنّهما لم يقصّرا في أَداء ما أَمرهما به في نظام الخلق منذ ملايين السنين ، ولم يتجاوزا مدارهما المعيّن لهما ولو بمقدار ذرّة واحدة ، قال تعالى : «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِى السَّمَ_وَ تِ وَ مَن فِى الْأَرْضِ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ ... » (4) .
.
ص: 235
رابعا : تسخير الشَّمس والقمر للإنسانإِنّ النقطة الأَهمّ الجديرة بالتأَمّل في طريق معرفة اللّه من خلال خلق الشَّمس والقمر ، هي أنّ الشَّمس بحجمها الذي يفوق حجم الأَرض بمليون وثلاثمئة وواحدٍ وتسعين أَلف مرّة (1) ، والقمر بحجمه الذي يعادل 491 من حجم الأَرض 2 ، كلاهما أَزاء أَمر الخالق ساجدان وخاضعان ، ومسخّران لخدمة حياة الإنسان ، وقد تكرّر ذكر هذا الأَمر في القرآن الكريم ، فقال : «وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَ النَّهَارَ» (2) . وقد يتبادر إِلى الذهن هذا السؤال : أيّ ربح يجنيه الإنسان من تسخير الشَّمس والقمر؟ وبعبارة أُخرى : ما دور الشَّمس والقمر في حياة الإنسان؟ للإجابة على هذا السؤال لاحظ العنوان الخامس والسادس فيما يلي .
خامسا : دور الشَّمس في توفير الضوء والحياةإِنّ وجود الحياة على سطح الكرة الأَرضية يرتبط ارتباطا وثيقا لا انفصام له بضوء الشَّمس ، بناءً على ذلك فإنّ خلق الشَّمس وتسخيرها للإنسان هو في الحقيقة مقدمة لخلق الإنسان واستمرار حياته «وَ جَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا» (3) وحينما ينطفئ هذا
.
ص: 236
السراج الوهّاج سيحلّ الظلام والبرد القاتل ، ويخيّم على كلّ أَطراف الأَرض ، فلا يهبّ نسيم ، ولا هناك سحاب ، ولا مطر أو ثلج و تنضب العيون ، وتتوقف الأَنهار والشلالات ، ولا تنمو النباتات ، ولن يبقى أيّ مصدر من مصادر الغذاء ، وتغطّي كتل الثلوج العظيمة سطح الأَرض ، وبالتّالي يخمد سراج الحياة على وجه الأَرض . وممّا يجدر ذكره أنّ مصادر الضوء والذخائر المعدنية الموجودة الآن في بواطن الأَرض ، مثل : النفط والفَحم والذّهب والفضّة وغيرها هي أَيضا رهنٌ لضوء الشَّمس .
سادسا : دور الشَّمس والقمر في تقويم التاريخإِنّ حساب الزمان يعتبر واحدا من الأَركان الأَساسية في حياة الإنسان ، والشَّمس والقمر علاوة على ما يلعبانه من أَدوار مهمّة في حياة الإنسان ، فهما وسيلتان لحساب الزَّمان ومعرفة التاريخ ، إِنّهما على الرّغم من حجمهما ووزنهما الهائلين ، ساعتان دقيقتان تعملان بنظم ودقّة متناهية ، بحيث إِنّهما تعملان ملايين السنين ولم يقصّرا أو يزوّدا حتّى ثانية واحدة أو أَقلّ من الثانية ، وهذا واحد من الدروس على طريق معرفة اللّه سبحانه ، قال تعالى : «فَالِقُ الْاءِصْبَاحِ وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَ لِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» (1) .
.
ص: 237
الباب الثالث عشر: خلق السّماواتالكتاب«إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَ_وَ تِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَ_فِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَايَ_تٍ لِّأُوْلِى الْأَلْبَ_بِ » . (1)
«لَخَلْقُ السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَ لَ_كِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ » . (2)
«وَ مِنْ ءَايَ_تِهِ خَلْقُ السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَ هُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ». (3)
«إِنَّ فِى السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضِ لَايَ_تٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ » . (4)
«قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِى السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا تُغْنِى الْايَ_تُ وَ النُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ » . (5)
«وَ كَأَيِّن مِّنْ ءَايَةٍ فِى السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَ هُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ » . (6)
«وَ جَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَ هُمْ عَنْ ءَايَ_تِهَا مُعْرِضُونَ » . (7)
.
ص: 238
«الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَ_وَ تٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَ_نِ مِن تَفَ_وُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَ هُوَ حَسِيرٌ » . (1)
راجع : البقرة : 22 ، آل عمران : 191 ، يونس : 6، ق : 6 .
الحديثالإمام زين العابدين عليه السلام_ في قَولِهِ تَعالى : «وَالسَّمَاءَ بِنَ_اءً» (2) _: سَقفا مِن فَوقِكُم مَحفوظا ، يُديرُ فيها شَمسَها وقَمَرَها ونُجومَها لِمَنافِعِكُم . (3)
تفسير القمّي : «وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَ_وَ تٍ طِبَاقًا» (4) قالَ : بَعضُها طَبَقٌ لِبَعضٍ «مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَ_نِ مِن تَفَ_وُتٍ » (5) قال : يَعني مِن فَسادٍ «فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ» أي مِن عَيبٍ «ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ» قالَ : اُنظُر في مَلَكوتِ السَّماواتِ وَالأَرضِ «كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَ هُوَ حَسِيرٌ» (6) ، أي يَقصُرُ وهُوَ حَسيرٌ ، أي مُنقَطِعٌ . قَولُهُ : «وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَ_بِيحَ» (7) قالَ : بِالنُّجومِ . (8)
تفسير القمّي :قوله : «وَ كَأَيِّن مِّنْ ءَايَةٍ فِى السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَ هُمْ عَنْهَا
.
ص: 239
مُعْرِضُونَ» (1) قالَ : الكُسوفُ وَالزَّلزَلَةُ وَالصَّواعِقُ . (2)
رسول اللّه صلى الله عليه و آله :بَينا رَجُلٌ مُستَلقٍ عَلى ظَهرِهِ يَنظُرُ إِلَى السَّماءِ وإِلَى النُّجومِ ويَقولُ : وَاللّهِ إِنَّ لَكِ لَرَبّا هُوَ خالِقُكِ ، اللّهُمَّ اغفِر لي _ قالَ : _ فَنَظَرَ اللّهُ عز و جل إِلَيهِ ، فَغَفَرَ لَهُ . (3)
الإمام عليّ عليه السلام_ في تَمجيدِ اللّهِ عز و جل _: سُبحانَكَ ما أَعظَمَ ما نَرى مِن خَلقِكَ ، وما أَصغَرَ كُلَّ عَظيمَةٍ في جَنبِ قُدرَتِكَ ، وما أَهوَلَ ما نَرى مِن مَلَكوتِكَ ، وما أَحقَرَ ذلِكَ فيما غابَ عَنّا مِن سُلطانِكَ ، وما أَسبَغَ نِعَمَكَ فِي الدُّنيا ، وما أَصغَرَها في نِعَمِ الآخِرَةِ ! (4)
عنه عليه السلام_ أَيضا _: ومَا الَّذي نَرى مِن خَلقِكَ ، ونَعجَبُ لَهُ مِن قُدرَتِكَ ، ونَصِفُهُ مِن عَظيم سُلطانِكَ ، وما تَغَيَّبَ عَنّا مِنهُ وقَصُرَت أَبصارُنا عَنهُ ، وَانتَهَت عُقولُنا دونَهُ ، وحالَت سُتورُ الغُيوبِ بَينَنا وبَينَهُ أَعظَمُ . فَمَن فَرَّغَ قَلبَهُ ، وأَعمَلَ فِكرَهُ ؛ لِيَعلَمَ كَيفَ أَقَمتَ عَرشَكَ ، وكَيفَ ذَرَأتَ خَلقَكَ ، وكَيفَ عَلَّقتَ فِي الهَواء سَماواتِكَ ، وكَيفَ مَدَدتَ عَلى مَورِ الماءِ أَرضَكَ ؛ رَجَعَ طَرفُهُ حَسيرا ، وعَقلُهُ مَبهورا ، وسَمعُهُ والِها ، وفِكرُهُ حائِرا . (5)
عنه عليه السلام :فَمِن شَواهِدِ خَلقِهِ خَلقُ السَّماواتِ مُوَطَّداتٍ بِلا عَمَدٍ ، قائِماتٍ بِلا سَنَدٍ ، دَعاهُنَّ فَأَجَبنَ طائِعاتٍ مُذعِناتٍ ، غَيرَ مُتَلَكِّئاتٍ ولا مُبطِئاتٍ ، ولَولا إِقرارُهُنَّ لَهُ بِالرُّبوبِيَّةِ ، وإِذعانُهُنَّ بِالطَّواعِيَةِ ، لَما جَعَلَهُنَّ مَوضِعا لِعَرشِهِ، ولا مَسكَنا لِمَلائِكَتِهِ،
.
ص: 240
ولا مَصعَدا لِلكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ مِن خَلقِهِ. جَعَلَ نُجومَها أَعلاما يَستَدِلُّ بِهَا الحَيرانُ في مُختَلَفِ فِجاجِ الأَقطارِ. لَم يَمنَع ضَوءَ نورِها ادلِهمامُ سُجُفِ (1) اللَّيلِ المُظلِمِ، ولَا استَطاعَت جَلابيبُ سَوادِ الحَنادِسِ أن تَرُدَّ ما شاعَ فِي السَّماواتِ مِن تَلَألُوَ نورِ القَمَرِ . (2)
عنه عليه السلام :ونَظَمَ بِلا تَعليقٍ رَهَواتِ فُرَجِها ، ولاحَمَ صُدوعَ انفِراجِها ، ووَشَّجَ بَينَها وبَينَ أَزواجِها، وذَلَّلَ لِلهابِطينَ بِأَمرِهِ وَالصّاعِدينَ بِأَعمالِ خَلقِهِ حُزونَةَ مِعراجِها ، وناداها بَعدَ إِذ هِيَ دُخانٌ ، فَالتَحَمَت عُرى أَشراجِها ، وفَتَقَ بَعدَ الاِرتِتاقِ صَوامِتَ أَبوابِها ، وأَقامَ رَصَدا مِنَ الشُّهُبِ الثَّواقِبِ عَلى نِقابِها ، وأَمسَكَها مِن أن تَمورَ في خَرقِ الهَواءِ بِأَيدِهِ ، وأَمَرَها أن تَقِفَ مُستَسلِمَةً لِأَمرِهِ ، وجَعَلَ شَمسَها آيَةً مُبصِرَةً لِنَهارِها ، وقَمَرِها آيَةً مَمحُوَّةً مِن لَيلِها ، وأَجراهُما في مَناقِلِ مَجراهُما ، وقَدَّر سَيرَهُما في مَدارِجِ دَرَجِهِما ، لِيُمَيِّزَ بَينَ اللَّيلِ وَالنَّهارِ بِهِما، ولِيُعلَمَ عَدَدُ السِّنينَ وَالحِسابُ بِمَقاديرِهِما، ثُمَّ عَلَّقَ في جَوِّها فَلَكَها، وناطَ بِها زينَتَها، مِن خَفِيّات دَرارِيِّها، ومَصابيحِ كَواكِبِها، ورَمى مُستَرِقِي السَّمعِ بِثَواقِبِ شُهُبِها ، وأَجراها عَلى إِذلالِ تَسخيرِها ، مِن ثَباتِ ثابِتِها ، ومَسيرِ سائِرِها ، وهُبوطِها وصُعودِها ، ونُحوسِها وسُعودِها . (3)
.
ص: 241
تأمّلات حول آيات معرفة اللّه في خلق السماءإِنّ كلمة «السَّماء» مشتقة في اللغة من الجذر «سمو» بمعنى كلّ عالٍ مطلّ ، من هنا يطلق لفظ السَّماء على سقف البيت (1) ، وقد وردت هذه اللفظة في القرآن الكريم «313» مرّة بصورة مفرد أو جمع ، وعبّرت عن معانٍ مختلفة ، كما يلي : 1 . الجهة العليا المجاورة للأَرض ، كما في قوله تعالى : «أَلَمْ تَرَكَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَ فَرْعُهَا فِى السَّمَاءِ» (2) . 2 . المنطقة البعيدة عن سطح الأَرض «محلّ السحاب» ، كما في قوله تعالى : «وَ نَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَ_رَكًا» (3) . 3 . الطبقة الجوية المتراكمة في أَطراف الأَرض ، كما في قوله تعالى : «وَ جَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا» (4) . 4 . الأَجرام السَّماوية ، كما في قوله تعالى : «رَفَعَ السَّمَ_وَ تِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا» .
.
ص: 242
5 . ما يحيط بجميع الأَجرام السَّماوية ، كما في قوله تعالى : «وَ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَ_بِيحَ» (1) . 6 . مقام القرب الإلهي الذي ينتهي إِليه زمام جميع الأُمور ، كما في قوله تعالى : «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ» (2) . أما الدروس المستقاة من خلق السَّماوات على طريق معرفة الخالق _ جلّ وعلا _ ، التي أَشار إِليها القرآن الكريم ، فهي تتعلق بالمعنى الثالث والرابع والخامس من المعاني المتقدمة ، من هنا فإنّ المحاور الجديرة بالتأَمّل والبحث هي ، كما يلي :
أَولاً : سعة السَّماءإِنّ الملاحظة الأُولى الحريّة بالتأَمّل عند مشاهدة السَّماء ، هي سعتها المحيِّرة التي تفوق التصور ، فوَفقا للحسابات العلمية إِنّنا لو سافرنا في طائرة مفترضة تسير بسرعة الضوء _ أي أنّها تقطع في كل ثانية ثلاثمئة أَلف كيلومتر _ فإنّنا سنصل إِلى الشَّمس بعد ثماني دقائق وعشرين ثانية ، ونصل إِلى الجدي بعد خمسين سنة ، وإِلى العيوق بعد تسعين سنة ، وإِذا أَردنا أن نسافر إِلى أول مجرّة وبنفس السرعة المتقدّمة ، فإنّ رحلتنا تستغرق سبعمئة أَلف سنة ضوئية ، ولقطع المسافة من طرف المجرّة إِلى طرفها الآخر نحتاج إِلى مئتي سنة ضوئية ، وعلى أَساس مايقوله علماء النجوم : هناك في الكون ما لا يقلّ عن مئة أَلف مجرّة مثل مجرّتنا ، وممّا يزيد من الحيرة والعجب هو أنّ كلّ ما ذكرناه عن سفرنا الكونيّ الذّهني يعتبر في وجهة النظر القرآنية منحصرا في سماء واحدة ، هي السَّماء الأُولى أو الدنيا (3) .
.
ص: 243
إِنّ أَميرالمؤمنين عليه السلام يقول مشيرا إِلى هذه العظمة التي لا تُوصَف ، وذلك في معرض دعائه مخاطبا الخالق القادر الحكيم : سُبحانَكَ ما أَعظَمَ ما نَرى من خَلقِكَ! وما أَصغَرَ كُلَّ عَظيمَةٍ في جَنبِ قُدرَتِكَ! وما أَهوَلَ ما نَرى مِن مَلَكوتِكَ ! ومَا أحقَرَ ذلِكَ فيما غابَ عَنّا مِن سُلطانِكَ ! (1)
ثانيا : مصابيح السَّماءمن جهة أُخرى يدعو القرآن الكريم في آيات عديدة بالنظر إِلى السَّماء والنّجوم التي فيها باعتبارها مصابيح مضيئة جميلة ، جعلها أَحسن الخالقين دليلاً على علمه وقدرته وحكمته قال سبحانه وتعالى : «أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَ_هَا وَ زَيَّنَّ_هَا» (2) . فإنّ مثل هذا النظر والتأَمّل ربّما يفوق فضلاً على كثير من العبادات ، كما يستفاد ذلك من سلوك الإمام زين العابدين عليه السلام : قُرِّبَ إِلى عَلِيِّ بنِ الحُسَينِ عليه السلام طَهورُهُ في يَومِ وِردِهِ ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الإِناءِ لِيَتَوَضَّأَ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ فَنَظَرَ إلَى السَّماءِ وَالقَمَرِ وَالكَواكِبِ ، ثُمَّ جَعَلَ يُفَكِّرُ في خَلقِها ، حَتّى أصبَحَ وأذَّنَ المُؤَذِّنُ ويَدُهُ فِي الإِناءِ (3) .
ثالثا : السقف المحفوظلقد أَشرنا في معاني السَّماء الواردة في القرآن الكريم ، إِلى أن أَحدها يعني الجوّ المحيط في أطراف الأَرض ، يقول «فرانك آلن» أُستاذ الفيزياء الحيويّة : إِن الغلاف
.
ص: 244
الغازي المتكوّن من عدّة غازات يحافظ على الحياة على سطح الأَرض ، حيث يبلغ سَمْكه نحو «800» كيلومتر ، بحيث يستطيع أن يقف كالدرع الواقي للأَرض ويحفظها من شرّ النيازك والشهب ومختلف الأَحجار السَّماوية المُمِيتة التي تصطدم به ، وهي تنزل بمقدار عشرين مليون حجر في اليوم ، وتبلغ سرعتها في الفضاء ، نحو خمسين كيلومتر في الثانية . كما يحافظ الغلاف الغازي على درجة الحرارة عند سطح الأَرض في الحدود المناسبة للحياة ، ويدّخر مقدارا كبيرا من الماء والبخار اللازمين للحياة وينقلهما من المحيطات إِلى اليابسة . كما أنّ سُمْك الغلاف الغازي المحيط بالأَرض يجعل الأَشعة الكونية النافذة عبره إِلى أَطراف الأَرض بمعدلٍ كافٍ لنموّ النّباتات ، وخلال ذلك يقوم الغلاف الغازي بإتلاف كلّ الجراثيم المضرّة ويُوجِد الفيتامينات المفيدة (1) . إِنّ هذه التحقيقات في الواقع تفسير لهذا الدرس في معرفة اللّه ، الذي يقول فيه القرآن : «وَ جَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَ هُمْ عَنْ ءَايَ_تِهَا مُعْرِضُونَ» . وقوله تعالى : «أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِى ذَ لِكَ لَأَيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ» (2) .
.
ص: 245
رابعا : استقرار الأَجرام السَّماوية في الفضاءاستقرار الأجرام السَّماوية في الفضاء بدون عمد ولا دعامة والسيطرة عليها بواسطة قوة الجاذبية التي عبّر عنها القرآن الكريم بالعمد غير المرئيّة ، هو درس آخر من دروس التوحيد ومعرفة اللّه تعالى ، من وجهة نظر القرآن الكريم ، وقد أشار إِلى ذلك في موضعين : قوله تعالى : «اللَّهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَ_وَ تِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا» . وقوله تعالى : «خَلَقَ السَّمَ_وَ تِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا» (1) . على ضوء هاتين الآيتين وحديث الإمام الرضا عليه السلام الذي قدمناه في الفقرة الثانية من دروس معرفة اللّه من خلال خلق الأَرض ، يُرفَع الستار عن حقيقة علميّة لم يكن يعرفها أَحد في زمان النزول ، إِذ كانت هيئة «بطليموس» هي السّائدة آنذاك على المحافل العلمية وأَفكار الناس ، حيث تقول : إِنّ السَّماء تتكون من عدّة كرات متداخلة بعضها فوق بعض كطبقات البصل ، وإِنّ أيّا من تلك الكرات ليست حرّةً عائمة في الفضاء بدون أَعمدة ، بل كلّ منها تعتمد على الأُخرى وتتّكئ عليها ، هذه هي فحوى نظرية بطليموس ، التي توصّل العلم والمعرفة البشرية إِلى كونها موهومة وليس لها أي واقعية ، وذلك بعد نحو أَلف سنة من عصر النزول ، حيث أَثبت العلم بأنّ كلّ واحد من الأَجرام السَّماوية عائم في مكانه ومستقرّ في مداره بدون أن يعتمد على شيء أو يتّكئ عليه ، والشيء الوحيد الذي يُقرّها في مواضعها ضمن مداراتها هو تعادل قوة الجذب والدفع ، حيث إِنّ إِحدى القوتين ترتبط بوزن
.
ص: 246
الكوكب والثانية ترتبط بحركته ، وذلك التعادل بصورة عمود غير مرئيّ يحافظ على الأَجرام السَّماوية في مواضعها .
خامسا : النظام الدقيق السَّائد على الأَجرام السَّماويةإِنّ الحركة المنظّمة الدّقيقة للأَجرام السَّماوية في مداراتها الخاصَّة درس آخر للتوحيد ، فإنّ النظام السَّائد على الأَجرام السَّماوية لا يضمن عدم اصطدام بعضها ببعض فحسب ، بل يساعد على التّنبّؤ بالنسبة إِلى الأَحداث السَّماوية ، فهل يمكن التصديق بالقول : إِنّ الصدفة العمياء ، هي التي جعلت مليارات الأَجرام السَّماوية التي أَكثرها أَكبر حجما من الأَرض بآلاف المرات ، تتحرك ملايين السنين بسرعة فائقة بدون أَدنى انحراف عن مداراتها؟ إِنّ القرآن الكريم قد بيّن هذا الدرس عن معرفة اللّه سبحانه في قوله : «إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَ لَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا» (1) . وفي قوله تعالى : «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى الْأَرْضِ وَ الْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ يُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ» (2) .
سادسا : الاهتداء بالنجومإِنّ الدرس الحكيم الآخر في خلق السَّماء الذي أَشار إِليه القرآن هو الاهتداء بالنجوم ، الذي يعتبر أَحد بركات النظام المهيمن على السَّماء ، فلو كانت حركة
.
ص: 247
النجوم غير منظّمة ومداراتها غير معينة ، كيف يستطيع الإنسان أن يهتدي إِلى طريقه وهو في عرض البحار أو مفازات الصحاري الجرداء أو الطرق المجهولة في السَّماء؟ إِنّها النجوم التي تساعده في تعيين جهته ، ومداراتها التي تُعينه على الاهتداء إِلى طريقه (1) ، وقد عبّر القرآن الكريم عن هذا الدرس التوحيدي بقوله : «هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِى ظُ_لُمَ_تِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْايَ_تِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» (2) . ولكن يشترط هنا الأَخذ بنظر الاعتبار توضيحنا المتقدّم (3) ، وهو أنّ الذين يستطيعون الاستفادة من هذه الدروس في مسير التوحيد ومعرفة اللّه ، هم أُولئك الذين أَزالوا حُجب المعرفة عن أَبصار عقولهم وفهمهم فحسب ، كما في قوله تعالى : «قَدْ فَصَّلْنَا الْأيَ_تِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ » . هؤلاء هم الذين كلما ازدادت معرفتهم بأَسرار السَّماء وما فيها من الآيات ، ازدادوا إِيمانا ويقينا ، كما روي عن أَميرالمؤمنين عليه السلام : مَنِ اقتَبَسَ عِلما مِن عِلمِ النُّجومِ مِن حَمَلَةِ القُرآنِ ازدادَ بِهِ إيمانا ويَقينا ، ثُمَّ تَلا : «إِنَّ فِى اخْتِلَ_فِ الَّيْلِ وَ النَّهَارِ وَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضِ لَأيَ_تٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ» (4) . (5)
.
ص: 248
. .
ص: 249
الفصل السادس : طرق الوصول إلى أسمى مراتب معرفة اللّه6 / 1ذِكرُ اللّهِالكتاب«يَ_أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً * هُوَ الَّذِى يُصَلِّى عَلَيْكُمْ وَ مَلَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّ_لُمَ_تِ إِلَى النُّورِ وَ كَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا» (1) .
الحديثعدّة الداعي :في بَعضِ الأَحاديثِ القُدسِيَّةِ : أَيُّما عَبدٍ اطَّلَعتُ عَلى قَلبِهِ فَرَأَيتُ الغالِبَ عَلَيهِ التَّمَسُّكَ بِذِكري تَوَلَّيتُ سِياسَتَهُ ، وكُنتُ جَليسَهُ ومُحادِثَهُ وأَنيسَهُ . (2)
رسول اللّه صلى الله عليه و آله :يَقولُ اللّهُ تَعالى : إِذا كانَ الغالِبُ عَلى عَبدِيَ الاِشتِغالَ بي جَعَلتُ نَعيمَهُ ولَذَّتَهُ في ذِكري، فَإِذا جَعَلتُ نَعيمَهُ ولَذَّتَهُ فيذِكري عَشَقَني وعَشَقتُهُ ، فَإِذا عَشَقَني وعَشَقتُهُ رَفَعتُ الحِجابَ فيما بَيني وبَينَهُ ، وصِرتُ مَعالِما بَين عَينَيهِ ،
.
ص: 250
لا يَسهو إِذا سَهَا النَّاسُ ، أُولئِكَ كَلامُهُم كَلامُ الأَنبِياءِ . (1)
الإمام عليّ عليه السلام :ذِكرُ اللّهِ قوتُ النُّفوسِ ، ومُجالَسَةُ المَحبوبِ . (2)
عنه عليه السلام :ذاكِرُ اللّهِ مُؤانِسُهُ . (3)
عنه عليه السلام_ في مُناجاتِهِ في شَهرِ شَعبانَ _: (أسأَ لُكَ) أن تُصَلِّيَ عَلى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ، وأن تَجعَلَني مِمَّن يُديمُ ذِكرَكَ ولا يَنقُضُ عَهدَكَ . (4)
مصباح الشريعة_ فيما نَسَبَهُ إِلَى الإِمامِ الصّادِقِ عليه السلام _: إِنَّ العَبدَ إِذا ذَكَرَ اللّهَ تَعالى بِالتَّعظيمِ خالِصا اِرتَفَعَ كُلُّ حِجابٍ بَينَهُ وبَينَ اللّهِ مِن قَبلِ ذلِكَ . . . وإِذا غَفَلَ عَن ذِكرِ اللّهِ كَيفَ تَراهُ بَعدَ ذلِكَ مَوقوفا مَحجوبا قَد قَسا وأَظلَمَ مُنذُ فارَقَ نورَ التَّعظيمِ . (5)
6 / 2الصَّلاةرسول اللّه صلى الله عليه و آله :الصَّلاةُ مِن شَرائِعِ الدّينِ ، وفيها مَرضاةُ الرَّبِّ عز و جل ، وهِيَ مِنهاجُ الأَنبِياءِ ، ولِلمُصَلّي حُبُّ المَلائِكَةِ ، وهُدىً وإِيمانٌ ، ونورُ المَعرِفَةِ . (6)
عنه صلى الله عليه و آله :صَلاةُ اللَّيلِ مَرضاةُ الرَّبِّ ، وحُبُّ المَلائِكَةِ ، وسُنَّةُ الأَنبِياءِ ، ونُورُ المَعرِفَةِ ،
.
ص: 251
وأُصَلُ الإِيمانِ . (1)
الإمام عليّ عليه السلام_ في تَفسيرِ مَقاطِعِ الأَذانِ وَالإِقامَةِ _: ومَعنى «قَد قامَتِ الصَّلاةُ» فِي الإِقامَةِ ، أي حانَ وَقتُ الزِّيارَةِ وَالمُناجاةِ ، وقَضاءِ الحَوائِجِ ، ودَركِ المُنى ، وَالوُصولِ إِلَى اللّهِ عز و جل ، وإِلى كَرامَتِهِ وغُفرانِهِ وعَفوِهِ ورِضوانِهِ . (2)
6 / 3الجَوعُ وَالصَّومالإمام عليّ عليه السلام_ في ذِكرِ حَديثِ مِعراجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله _: قالَ [ صلى الله عليه و آله ] : يا رَبِّ ما ميراثُ (3) الجوعِ؟ قالَ : الحِكمَةُ ، وحِفظُ القَلبِ ، وَالتَّقَرُّبُ إِلَيَّ ، وَالحُزنُ الدَّائمُ ، وخِفَّةُ المُؤنَةِ بَينَ النَّاسِ، وقَولُ الحَقِّ، ولا يُبالي عاشَ بِيُسرٍ أم بِعُسرٍ... . الصَّومُ يُورِثُ الحِكْمَةَ ، وَالحِكْمَةُ تُورِثُ المَعْرِفَةَ ، وَالمَعْرِفَةُ تُورثُ اليَقينَ . . . . يا أَحمَدُ ، إِنَّ العَبدَ إِذا جاعَ بَطنُهُ وحَفِظَ لِسانَهُ عَلَّمتُهُ الحِكمَةَ ، وإِن كانَ كافرا تَكونُ حِكمَتُهُ حُجَّةً عَلَيهِ ووَبالاً ، وإِن كانَ مُؤمِنا تَكونُ حِكمَتُهُ لَهُ نُورا وبُرهانا وشِفاءً ورَحمةً ؛ فَيَعلَمَ ما لَم يَكُن يَعلَمُ ويُبصِرَ ما لَم يَكُن يُبصِرُ ، فَأوَّلُ ما أُبَصِّرُهُ عُيوبَ نَفسِهِ حَتّى يُشغَلَ بِها عَن عُيوبِ غَيرِهِ ، وأُبَصِّرُهُ دَقائِقَ العِلمِ حَتّى لا يَدخُلَ عَلَيهِ الشَّيطانُ . (4)
.
ص: 252
6 / 4مَحَبَّةُ اللّهِرسول اللّه صلى الله عليه و آله :المَحَبَّةُ أَساسُ المَعرِفَةِ . (1)
الإمام عليّ عليه السلام_ في ذِكرِ حَديثِ مِعراجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله _: قالَ اللّهُ تَعالى : ... أمَّا الحَياةُ الباقِيَةُ ، فَهِيَ الَّتي يَعمَلُ لِنَفسِهِ حَتّى تَهونَ عَلَيهِ الدُّنيا ، وتَصغُرَ في عَينَيهِ ، وتَعظُمَ الآخِرَةُ عِندَهُ . . . فَإِذا فَعَلَ ذلِكَ أَسكَنتُ في قَلبِهِ حُبّا حَتّى أَجعَلَ قَلبَهُ لي ، وفَراغَهُ وَاشتِغالَهُ وهَمَّهُ وحَديثَهُ مِنَ النِّعمَةِ الَّتي أَنعَمتُ بِها عَلى أَهلِ مَحَبَّتي مِن خَلقي ، وأَفتَحَ عَينَ قَلبِهِ وسَمعِهِ حَتّى يَسمَعَ بِقَلبِهِ ، ويَنظُرَ بِقَلبِهِ إِلى جَلالي وعَظَمَتي . (2)
عنه عليه السلام_ فِي الحِكَمِ المَنسوبَةِ إِلَيهِ _: مَنِ اشتاقَ خَدَمَ ، ومَن خَدَمَ اتَّصَلَ ، ومَنِ اتَّصَلَ وَصَلَ ، ومَن وَصَلَ عَرَفَ . (3)
الإمام زين العابدين عليه السلام :إِلهي فَاجعَلنا مِنَ الَّذينَ تَوَشَّحَت أَشجارُ الشَّوقِ إِلَيكَ في حَدائِقِ صُدورِهِم . . . وقَرَّت بِالنَّظَرِ إِلى مَحبوبِهِم أَعيُنُهُم . (4)
الإمام الصّادق عليه السلام :وَهَبَ [ اللّهُ ] لِأَهلِ مَحَبَّتِهِ القُوَّةَ عَلى مَعرِفَتِهِ ، ووَضَعَ عَنهُم ثِقلَ العَمَلِ بِحَقيقَةِ ما هُم أَهلُهُ . (5)
مختصر بصائر الدرجات عن يونس بن ظبيان عن الصادق عليه السلام :إِنَّما أُولُو الأَلبابِ الَّذينَ عَمِلوا بِالفِكرَةِ حَتّى وَرِثوا مِنهُ حُبَّ اللّهِ ؛ فَإنَّ حُبَّ اللّهِ إِذا وَرِثَهُ القَلبُ استَضاءَ وأَسرَعَ
.
ص: 253
إِلَيهِ اللُّطفُ ، فَإِذا نَزَلَ مَنزِلَةَ اللُّطفِ صارَ مِن أَهلِ الفَوائِدِ ، [ فَإِذا صارَ مِن أهلِ الفَوائِدِ] (1) تَكَلَّمَ بِالحِكمَةِ ، فَإِذا تَكَلَّمَ بِالحِكمَةِ صارَ صاحِبَ فِطنَةٍ ، فَإِذا نَزَلَ مَنزِلَةَ الفِطنَةِ عَمِلَ بِها فِي القُدرَةِ ، فَإِذا عَمِلَ بِها فِي القُدرَةِ عَرَفَ الأَطباقَ السَّبعَةَ ، فَإِذا بَلَغَ إِلى هذِهِ المَنزِلَةِ صارَ يَتَقَلَّبُ فِكرُهُ بِلُطفٍ وحِكمَةٍ وبَيانٍ ، فَإِذا بَلَغَ هذِهِ المَنزِلَةَ جَعَلَ شَهوَتَهُ ومَحَبَّتَهُ في خالِقِهِ ، فَإِذا فَعَلَ ذلِكَ نَزَلَ المَنزِلَةَ الكُبرى ، فَعايَنَ رَبَّهُ في قَلبِهِ ، ووَرِثَ الحِكمَةَ بِغَيرِ ما وَرِثَهُ الحُكَماءُ ، ووَرِثَ العِلمَ بِغَيرِ ما وَرِثَهُ العُلماءُ ، ووَرِثَ الصِّدقَ بِغَيرِ ما وَرِثَهُ الصِّدِّيقونَ . إِنَّ الحُكَماءَ وَرِثُوا الحِكمَةَ بِالصَّمتِ ، وإِنَّ العُلَماءَوَرِثُوا العِلمَ بِالطَلَبِ ، وإِنَّ الصِّدِّيقينَ وَرِثُوا الصِّدقَ بِالخُشوعِ وطُولِ العِبادَةِ ، فَمَن أَخَذَ بِهذِهِ الصَّفَةِ إِمّا أن يُسفَلَ أو يُرفَعَ ، وأَكثَرُهُم يُسفلُ ولا يُرفعُ إِذا لَم يَرعَ حَقَّ اللّهِ ولَم يَعمَل بِما أَمَرَ بِهِ فَهذِهِ مَنزِلَةُ مَن لَم يَعرِفهُ حَقَّ مَعرِفَتِهِ ، ولَم يُحِبَّهُ حَقَّ مَحَبَّتِهِ ، فَلا تُغَرَّنَّكَ صَلاتُهُم وصِيامُهُم ورِواياتُهُم وكَلامُهُم وعُلومُهُم ؛ فَإِنَّهُمُ حُمُرٌ مُستَنفِرَةٌ . ثُمَّ قالَ : يا يونُسُ ، إِذا أَرَدتَ العِلمَ الصَّحيحَ فَعِندَنا أَهلَ البَيتِ ؛ فَإِنّا وَرِثناهُ ، وأُوتينا شَرعَ الحِكمَةِ وفَصلَ الخِطابِ . (2)
حلية الأَولياء عن إبراهيم بن أَدهم :إِنَّ اللّهَ تَعالى أَوحى إِلى يَحيَى بنِ زَكَرِيّا عليهماالسلام : يا يَحيى إِنّي قَضَيتُ عَلى نَفسي ألّا يُحِبَّني عَبدٌ مِن عِبادي أَعلَمُ ذلِكَ مِنهُ إِلّا كُنتُ سَمعَهُ الَّذي يَسمَعُ بِهِ ، وبَصَرَهُ الَّذي يُبصِرُ بِهِ ، ولِسانَهُ الَّذي يَتَكَلَّمُ بِهِ ، وقَلبَهُ الَّذي يَفهَمُ بِهِ ، فَإِذا كانَ ذلِكَ كَذلِكَ بَغَّضتُ إِلَيهِ الاشتِغالَ بِغَيري ، وأَدَمتُ فِكرَتَهُ ، وأَسهَرتُ لَيلَهُ ، وأَظمَأَتُ نَهارَهُ .
.
ص: 254
يا يَحيى ، أنا جَليسُ قَلبِهِ وغايَةُ أُمنِيَّتِهِ وأَمَلِهِ ، أهَبُ لَهُ كُلَّ يَومٍ وساعَةٍ ؛ فَيَتَقَرَّبُ مِنّي وأتَقَرَّبُ مِنهُ ، أَسمَعُ كَلامَهُ وأُجيبُ تَضَرُّعَهُ ، فَوَعِزَّتي وجَلالي لَأَبعَثَنَّهُ مَبعَثا يَغبِطُهُ بِهِ النَّبِيّونَ وَالمُرسَلونَ ، ثُمَّ آمُرُ مُنادِيا يُنادي : هذا فُلانُ بنُ فُلانٍ ، وَلِيُّ اللّهِ وصَفِيُّهُ ، وخِيَرَتُهُ مِن خَلقِهِ ، دَعاهُ إِلى زِيارَتِهِ لِيَشفِيَ صَدرَهُ مِنَ النَّظَرِ إِلى وَجهِهِ الكَريمِ . (1)
المحجّة البيضاء :في أَخبارِ داوودَ عليه السلام : إِنَّ اللّهَ عز و جل أوحى إِلَيهِ : ... يا داوودُ ، إنّي خَلَقتُ قُلوبَ المُشتاقينَ مِن رِضواني ، ونَعَّمتُها بِنُورِ وَجهي . . . فَقالَ داوودُ : يا رَبِّ ، بِمَ نالوا مِنكَ هذا ؟ قالَ : بِحُسنِ الظَّنِّ ، وَالكَفِّ عَنِ الدُّنيا وأَهلِها ، وَالخَلَواتِ بي ومُناجاتِهِم لي ، وإِنَّ هذا مَنزِلٌ لا يَنالُهُ إِلّا مَن رَفَضَ الدُّنيا وأَهلَها ، ولَم يَشتَغِل بِشَيءٍ مِن ذِكرِها ، وفَرَّغَ قَلبَهُ لي ، وَاختارَني عَلى جَميعِ خَلقي ، فَعِندَ ذلِكَ أَعطِفُ عَلَيهِ ، فَأُفَرِّغُ نَفسَهُ لَهُ ، وأَكشِفُ الحِجابَ فيما بَيني وبَينَهُ ، حَتّى يَنظُرَ إِلَيّ نَظَرَ النّاظِرِ بِعَينِهِ إِلَى الشَّيءِ . (2)
راجع : المحبّة في الكتاب والسنّة : (القسم الثاني / الفصل السابع / لقاء اللّه ) .
تعليق :إِنّ حبّ اللّه سبحانه أَحد الطرق إِلى بلوغ كمال معرفته ، كما جاء في أَحاديث هذا الفصل ، من جهة أُخرى نقرأ في الفصل السابع أنّ أَوّل أَثر لمعرفة اللّه _ جلّ شأنه _ هو حبّه ، فكيف يمكن أن يكون حبّ اللّه طريقا لبلوغ معرفته ، ونتيجةً ومحصَّلةً لذلك في آنٍ واحدٍ؟
.
ص: 255
الجواب هو أنّه لا مِراءَ في أنّ حبّه تعالى ثمرة لمعرفته ؛ لأنّ الإنسان لايمكن أن يُحبّ من لا يعرفه ، لكنّ حبّ اللّه بدوره مقدّمة لنيل درجات أَعلى من معرفة اللّه . بتعبير آخر : كلّ درجة من المعرفة ممهِّدة لحبّ أَكثر ، وكلّ درجة من الحبّ مقدّمة لمعرفةٍ أَوفر ، حتّى يظفر السالك بأَعلى درجات المعرفة الشهوديّة ، وهذا هو معنى «المحبّة أَساس المعرفة» .
6 / 5الاِنقِطاعُ إلَى اللّهِرسول اللّه صلى الله عليه و آله_ فِي الدُّعاءِ _: إِلهي مَن ذَا الَّذِي انقَطَعَ إِلَيكَ فَلَم تَصِلهُ؟! (1)
عنه صلى الله عليه و آله :إِنَّ العَبدَ . . . إِذا تَوَجَّهَ إِلى مُصَلّاهُ لِيُصَلِّيَ ، قالَ اللّهُ عز و جل لِمَلائِكَتِهِ : يا مَلائِكَتيأما تَرَونَ هذا عَبدي كَيفَ قَدِ انقَطَعَ عَن جَميعِ الخَلائِقِ إِلَيَّ، وأَمَّلَ رَحمَتي وجودي ورَأفَتي؟ أُشهِدُكم أنّي أَختَصُّهُ بِرَحمَتي وكَراماتي . (2)
الإمام عليّ عليه السلام_ من مُناجاتِهِ فِي شَهرِ شَعبانَ _: إِلهي هَب لي كَمالَ الاِنقِطاعِ إِلَيكَ ، وأَنِر أَبصارَ قُلوبِنا بِضِياءِ نَظَرِها إِلَيكَ ، حَتّى تَخرِقَ أَبصارُ القُلوبِ حُجُبَ النُّورِ ، فَتَصِلَ إِلى مَعدِنِ العَظَمَةِ ، وتَصيرَ أَرواحُنا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدسِكَ . (3)
عنه عليه السلام :الوُصلَةُ بِاللّهِ فِي الاِنقِطاعِ عَنِ النَّاسِ. (4)
عنه عليه السلام :لَن تَتَّصِلَ بِالخالِقِ حَتّى تَنقَطِعَ عَنِ الخَلقِ. (5)
.
ص: 256
الإمام زين العابدين عليه السلام_ مِن دُعائِهِ يَومَ الجُمُعَةِ _: اللّهُمَّ وجَدِّد لي وُصلَةَ الاِنقِطاعِ إِلَيكَ ، وَاصدُد قُوى سَبَبي عَن سِواكَ ، حَتّى أَفِرَّ عَن مَصارِعِ الهَلَكاتِ إِلَيكَ ، وأَحُثَّ الرِّحلَةَ إِلى إِيثارِكَ بِاستِظهارِ اليَقينِ فيكَ ؛ فَإِنَّهُ لا عُذرَ لِمَن جَهِلَكَ بَعدَ استِعلاءِ الثَّناءِ عَلَيكَ ، ولا حُجَّةَ لِمَنِ اختُزِلَ عَن طَريقِ العِلمِ بِكَ مَعَ إِزاحَةِ اليَقينِ مَواقِعَ الشَّكِّ فيكَ ، ولا يَبلُغُ إِلى فَضائِلِ القِسَمِ إِلّا بِتَأييدِكَ وتَسديدِكَ ، فَتَوَلَّني بِتَأييدٍ مِن عَونِكَ ، وكافِني عَلَيهِ بِجَزيلِ عَطائِكَ . (1)
6 / 6وِلايَةُ أَهلِ البَيتِرسول اللّه صلى الله عليه و آله :نَحنُ الوَسيلَةُ إِلَى اللّهِ ، وَالوُصلَةُ إِلى رِضوانِ اللّهِ ، ولَنا العِصمَةُ وَالخِلافَةُ وَالهِدايَةُ ، و فينَا النُّبُوَّةُ وَالوِلايَةُ وَالإِمامَةُ ، ونَحنُ مَعدِنُ الحِكمَةِ و بابُ الرَّحمَةِ وشَجَرَةُ العِصمَةِ ، ونَحنُ كَلِمَةُ التَّقوى وَالمَثَلُ الأَعلى وَالحُجَّةُ العُظمى وَالعُروَةُ الوُثقى الَّتي مَن تَمَسَّكَ بِها نَجا . (2)
الإمام عليّ عليه السلام :تَقَرَّبوا إِلَى اللّهِ بِتَوحيدِهِ وطاعَةِ مَن أَمَرَكُم أن تُطيعوهُ ، ولا تُمسِكوا بِعِصَمِ الكَوافِرِ (3) . (4)
.
ص: 257
عنه عليه السلام :نَحنُ الأَعرافُ الَّذي لا يُعرَفُ اللّهُ عز و جل إِلّا بِسَبيلِ مَعرِفَتِنا . . . إِنّ اللّهَ _ تَبارَكَ وتَعالى _ لَو شاءَ لَعَرَّفَ العِبادَ نَفسَهُ ، ولكِن جَعَلَنا أَبوابَهُ وصِراطَهُ وسَبيلَهُ وَالوَجهَ الَّذي يُؤتى مِنهُ ، فَمَن عَدَلَ عَن وِلايَتِنا أَو فَضَّلَ عَلَينا غَيرَنا فَإِنَّهُم عَنِ الصِّراطِ لَناكِبونَ (1) . فَلا سَواءٌ مَنِ اعتَصَمَ النّاسُ بِهِ ولا سَواءٌ ، حَيثُ ذَهَبَ النّاسُ إِلى عُيونٍ كَدِرَةٍ يَفرَغُ بَعضُها في بَعضٍ ، و ذَهَبَ مَن ذَهَبَ إِلَينا إِلى عُيونٍ صافِيَةٍ تَجري بِأَمرِ رَبِّها ، لا نَفادَ لَها ولَا انقِطاعَ . (2)
الإمام الباقر عليه السلام_ في وَصفِ الأَئِمَّةِ عليهم السلام _: هُمُ الصِّراطُ المُستَقيمُ ، هُمُ السَّبيلُ الأَقوَمُ . . . أَمنٌ لِمَن التَجَأَ إِلَيهِمُ ، وأَمانٌ لِمَن تَمَسَّكَ بِهِم ، إِلَى اللّهِ يَدعونَ . (3)
الامام الصادق عليه السلام :إِذا نَظَرتَ إِلَى السَّماءِ فَقُل : سُبحانَ مَن جَعَلَ فِي السَّماءِ بُروجا ، وجَعَلَ فيها سِراجا وقَمَرا مُنيرا ، وجَعَلَ لَنا نُجوما قِبلَةً نَهتَدي بِها إِلَى التَّوَجُّه إِلَيهِ في ظُلُماتِ البَرِّ وَالبَحرِ ، اللّهُمَّ كَما هَدَيتَنا إِلَى التَّوَجُّهِ إِلَيكَ إِلى (4) قِبلَتِكَ المَنصوبَةِ لِخَلقِكَ ، فَاهدِنا إِلى نُجومِكَ الَّتي جَعَلتَها أَمانا لِأَهلِ الأَرضِ ولِأَهلِ السَّماءِ حَتّى نَتَوَجَّهَ بِهِم إِلَيكَ ، فَلا يَتَوَجَّهُ المُتَوَجِّهونَ إِلَيكَ إِلّا بِهِم ، ولا يَسلُكُ الطَّريقَ إِلَيكَ مَن سَلَكَ مِن غَيرِهِم ، ولا لَزِمَ المَحَجَّةَ مَن لَم يَلزَمهُم ، اِستَمسَكتُ بِعُروَةِ اللّهِ الوُثقى ، وَاعتَصَمتُ بِحَبلِ اللّهِ المَتينِ . (5)
.
ص: 258
عنه عليه السلام_ في كِتابِهِ إِلَى المُفَضَّلِ _: ... وَاللّهُ _ تَبارَكَ و تَعالى _ إِنَّما أَحَبَّ أن يُعرَفَ بِالرِّجالِ وأن يُطاعَ بِطاعَتِهِم ، فَجَعَلَهُم سَبيلَهُ و وَجهَهُ الَّذي يُؤتى مِنهُ ، لايَقبَلُ مِنَ العِبادِ غَيرَ ذلِكَ «لَا يُسْ_ئلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْ_ئلُونَ» (1) . (2)
الإمام الرضا عليه السلام :مَن سَرَّهُ أن يَنظُرَ إِلَى اللّهِ بِغَيرِ حِجابٍ ، ويَنظُرَ اللّهُ إِلَيهِ بِغَيرِ حِجابٍ فَليَتَوَلَّ آلَ مُحَمَّدٍ ، وَليَتَبَرَّأ مِن عَدُوِّهِم ، وليَأتَمَّ بِإِمامِ المُؤمِنينَ مِنهُم ؛ فَإِنَّهُ إِذا كانَ يَومُ القِيامَةِ نَظَرَ اللّهُ إِلَيهِ بِغَيرِ حِجابٍ ، ونَظَرَ إِلَى اللّهِ بِغَيرِ حِجابٍ . (3)
الإمام الهادي عليه السلام_ فِي الزِّيارَةِ الجامِعَةِ الكَبيرَةِ _: مَن أَرادَ اللّهَ بَدَأَ بِكُم ، ومَن وَحَّدَهُ قَبِلَ عَنكُم ، ومَن قَصَدَهُ تَوَجَّهَ بِكُم (4) .
راجع : ص 40 (أهل البيت) .
6 / 7الاستعانةُ بِاللّهالإمام عليّ عليه السلام_ مِن مُناجاتِهِ في شَهرِ شَعبانَ _: إِلهي وأَلحِقني بِنُورِ عِزِّكَ الأَبهَجِ ؛ فَأَكونَ لَكَ عارِفا وعَن سِواكَ مُنحَرِفا ، ومِنكَ خائِفا مُراقِبا ، يا ذَا الجَلالِ وَالإِكرامِ . (5)
.
ص: 259
عنه عليه السلام_ مِن دُعاءٍ عَلَّمَهُ نَوفا البَكالِيَّ _: أسَأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي ظَهَرتَ بِهِ لِخاصَّةِ أَولِيائِكَ ، فَوَحَّدوكَ وعَرَفوكَ فَعَبَدوكَ بِحَقيقَتِكَ ، أن تُعَرِّفَني نَفسَكَ لِأُقِرَّ لَكَ بِرُبوبِيَّتِكَ عَلى حَقيقَةِ الإِيمانِ بِكَ ، ولا تَجعَلَني يا إِلهي مِمَّن يَعبُدُ الاِسمَ دونَ المَعنى ، وَالحَظني بِلَحظَةٍ مِن لَحَظاتِكَ تُنَوِّرُ بِها قَلبي بِمَعرِفَتِكَ خاصَّةً ومَعرِفَةِ أَوليائِكَ ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ . (1)
الإمام الحسين عليه السلام_ مِن دُعائِهِ يَومَ عَرَفَةَ _: إِلهي تَرَدُّدي فِي الآثارِ يوجِبُ بُعدَ المَزارِ ، فَاجمَعني عَلَيكَ بِخِدمَةٍ توصِلُني إِلَيكَ ، كَيفَ يُستَدَلُّ عَلَيكَ بِما هُوَ في وُجودِهِ مُفتَقِرٌ إِلَيكَ ؟ أيَكونُ لِغَيرِكَ مِنَ الظُّهورِ ما لَيسَ لَكَ حَتّى يَكونَ هُوَ المُظهِرُ لَكَ ! مَتى غِبتَ حَتّى تَحتاجَ إِلى دَليلٍ يَدُلُّ عَلَيكَ ! . . . وبِكَ أَستَدِلُّ عَلَيكَ ، فَاهدِني بِنُورِكَ إِلَيكَ . (2)
الإمام زين العابدين عليه السلام :اللّهُمَّ اجعَلني مِنَ الَّذينَ جَدّوا في قَصدِكَ فَلَم يَنكِلوا ، و سَلَكُوا الطَّريقَ إِلَيكَ فَلَم يَعدِلوا ، وَاعتَمَدوا عَلَيكَ فِي الوُصولِ حَتّى وَصَلوا . (3)
عنه عليه السلام :اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ، وَاجعَلنا مِنَ الَّذينَ فَتَقتَ لَهُم رَتقَ عَظيمِ غَواشي جُفونِ حَدَقِ عُيونِ القُلوبِ ، حَتّى نَظَروا إِلى تَدبيرِ حِكمَتِكَ ، وشَواهِدِ حُجَجِ بَيِّناتِكَ ، فَعرَفوكَ بِمَحصولِ فِطَنِ القُلوبِ ، وأنتَ في غَوامِضِ سُتُراتِ حُجُبِ القُلوبِ . فَسُبحانَكَ أيُّعَينٍ تَقومُ بِها نُصبَ نُورِكَ، أم تَرقَأُ إِلى نُورِ ضِياءِ قُدسِكَ، أو أيُّ فَهمٍ يَفهَمُ ما دونَ ذلِكَ إِلَا الأَبصارَ الَّتي كَشَفتَ عَنها حُجُبَ العَمِيَّةِ ، فَرَقَت أَرواحُهُم عَلى أَجنِحَةِ المَلائِكَةِ ، فَسَمّاهُم أَهلُ المَلَكوتِ زُوّارا ، وأَسماهُم أَهلُ الجَبَروتِ عُمّارا ،
.
ص: 260
فَتَرَدَّدوا في مَصافِّ المُسَبِّحينَ ، وتَعَلَّقوا بِحِجابِ القُدرَةِ ، وناجَوا رَبَّهُم عِندَ كُلِّ شَهوَةٍ ، فَحَرَّقَت (1) قُلوبُهُم حُجُبَ النّورِ ، حَتّى نَظَروا بِعَينِ القُلوبِ إِلى عِزِّ الجَلالِ في عِظَمِ المَلَكوتِ ، فَرَجَعَتِ القُلوبُ إِلَى الصُّدورِ عَلَى النِّيّاتِ بِمَعرِفَةِ تَوحيدِكَ ، فَلا إِلهَ إِلّا أنتَ ، وَحدَكَ لا شَريكَ لَكَ ، تَعالَيتَ عَمّا يَقولُ الظّالِمونَ عُلُوّا كَبيرا . (2)
عنه عليه السلام :لِقاؤُكَ قُرَّةُ عَيني ، ووَصلُكَ مُنى نَفسي ، وإِلَيكَ شَوقي ، وفي مَحَبَّتِكَ وَلَهي ، وإِلى هَواكَ صَبابَتي ، وَرِضاكَ بُغيَتي ، ورُؤيَتُكَ حاجَتي . (3)
عنه عليه السلام :إِلهي فَاجعَلنا مِمَّنِ اصطَفَيتَهُ لِقُربِكَ ووِلايَتِكَ ، وأَخلَصتَهُ لِوُدِّكَ ومَحَبَّتِكَ ، وشَوَّقتَهُ إِلى لِقائِكَ ، ورَضَّيتَهُ بِقَضائِكَ ، ومَنَحتَهُ بِالنَّظَرِ إِلى وَجهِكَ . . . وخَصَصتَهُ بِمَعرِفَتِكَ . . . وَامنُن بِالنَّظَرِ إِلَيكَ عَلَيَّ . (4)
عنه عليه السلام :أسأَ لُكَ بِسُبُحاتِ (5) وَجهِكَ ، وبِأَنوارِ قُدسِكَ ، وأَبتَهِلُ إِلَيكَ بِعَواطِفِ رَحمَتِكَ ، ولَطائِفِ بِرِّكَ ، أن تُحَقِّقَ ظَنّي بِما أُؤَمِّلُهُ مِن جَزيلِ إِكرامِكَ ، وجَميلِ إِنعامِكَ ، فِي القُربى مِنكَ ، وَالزُّلفى لَدَيكَ ، وَالتَّمَتُّعِ بِالنَّظَرِ إِلَيكَ . (6)
عنه عليه السلام :إِلهي فَاجعَلنا مِنَ الَّذينَ تَوَشَّحَت أَشجارُ الشَّوقِ إِلَيكَ في حَدائِقِ صُدورِهِم ، وأَخَذَت لَوعَةُ مَحَبَّتِكَ بِمَجامِعِ قُلوبِهِم ، فَهُم إِلى أَوكارِ الأَفكارِ يَأوونَ ، وفي رِياضِ القُربِ وَالمُكاشَفَةِ يَرتَعونَ . . . قَد كُشِفَ الغِطاءُ عَن أَبصارِهِم . . . وَانشَرَحَت
.
ص: 261
بِتَحقيقِ المَعرِفَةِ صُدورُهُم . . . وقَرَّت بِالنَّظَرِ إِلى مَحبوبِهِم أَعيُنُهم . . . وَاجعَلنا مِن أَخَصِّ عارِفيكَ . (1)
الإمام الصادق عليه السلام_ مِن دُعاءٍ عَلَّمَهُ زُرارَةَ _: اللّهُمَّ عَرِّفني نَفسَكَ ؛ فَإِنَّكَ إِن لَم تُعَرِّفني نَفسَكَ لَم أَعرِف نَبِيَّكَ ، اللّهُمَّ عَرِّفني رَسولَكَ ؛ فَإِنَّكَ إِن لَم تُعَرِّفني رَسولَكَ لَم أَعرِف حُجَّتَكَ ، اللّهُمَ عَرِّفني حُجَّتَكَ ؛ فَإِنَّكَ إِن لَم تُعَرِّفني حُجَّتَكَ ضَلَلتُ عَن ديني . (2)
الإمام الرضا عليه السلام_ في تَفسيرِ قَولِهِ تَعالى : «اهْدِنَا الصِّرَ طَ الْمُسْتَقِيمَ» (3) _: اِستِرشادٌ لِأَدبِهِ ، وَاعتِصامٌ بِحَبلِهِ ، وَاستِزادَةٌ فِي المَعرِفَةِ بِرَبِّهِ وبِعَظَمَتِهِ وبِكِبرِيائِهِ . (4)
راجع : ص 433 ح 4009 .
.
ص: 262
تحليل حول طرق الوصول إلى أَسمى درجات معرفة اللّهإِنّ مامرّ من النصوص تحت عنوان «طرق الوصول إِلى أَسمى مراتب معرفة اللّه (1) » يعدّ من أَهمّ التعاليم في السير والسلوك إِلى اللّه وأَقومها وأَضمنها ، وهو ما أُشير إِليه في النصوص الإسلاميّة ، ولا يتسنّى العبور من منازل السلوك وبلوغ ذروة اليقين والمعرفة الشهوديّة إِلّا بالعمل بها ، وعلى هذا المنوال تبدأُ حركة الإنسان نحو الكمال المطلق حقّا وموجز القول في بيان هذه الطرق ، كما يلي :
أَوّلاً : ذكر اللّهأَلا بذكر اللّه سبحانه تبدأُ أَوّل خطوة في السير والسلوك إِلى اللّه ، قال الإمام أَميرالمؤمنين عليّ بن أَبي طالب عليه السلام عن تأثير ذكر اللّه في بناء الإنسان : «أصلُ صَلاحِ القَلبِ اشتِغالُهُ بِذِكرِ اللّهِ» . (2) إِنّ ذكر اللّه في الحقيقة مفتاح تزكية النفس ، ذلك أَنّه يُفرغ المرء من بهيميّته ويطهّر قلبه من الرذائل الأَخلاقيّة ، ويُعِدّه لتلقّي نور اليقين تدريجا ، وقد اهتمّت النّصوص الإسلاميّة بالتأثير المصيريّ الحاسم لذكر اللّه في بناء الإنسان مفصّلاً ،
.
ص: 263
نشيرهنا _ على سبيل المثال _ إِلى ثلاثة أَقسام منها : القسم الأَوّل : الأَحاديث الَّتي تؤكّد تأثير الذكر في تهذيب القلب و وقايتهِ من الأَمراض ، كالذي نُقل عن الإمام أَميرالمؤمنين عليه السلام إِذ قال : «ذِكرُ اللّهِ مَطرَدَةٌ لِلشَّيطانِ» . (1) «ذِكرُ اللّهِ رَأسُ مالِ كُلِّ مُؤمِنٍ ، ورِبحُهُ السَّلامَةُ مِنَ الشَّيطانِ» . (2) «ذِكرُ اللّهِ دَواءُ أعلالِ النُّفوس» . (3) «يا مَنِ اسمُهُ دَواءٌ وذِكرُهُ شِفاءٌ» . (4) القسم الثاني : الأَحاديث التي ترى أنّ ذكر اللّه تعالى يُفضي إِلى شرح الصدر وتنوير القلب والفكر ، وبعث الحياة وإيجاد الحواسّ الباطنيّة ، والنضج والتكامل المعنويّ ككلام الإمام أَميرالمؤمنين عليه السلام في هذا المجال : «إِنَّ اللّهَ سُبحانَهُ وتَعالى جَعَلَ الذِّكرَ جلاءً لِلقُلوبِ ، تَسمَعُ بِهِ بَعدَ الوَقرةِ ، وتُبصِرُ بِهِ بَعدَ العِشوَةِ ، وتَنقادُ بِهِ بَعدَ المُعانَدَةِ» . (5) وكلامه عليه السلام : «دَوامُ الذِّكرِ يُنيرُ القَلبَ وَالفِكرَ» . (6) وكلامه عليه السلام : «مُداوَمَةُ الذِّكرِ قوتُ الأَرواحِ ومِفتاحُ الصَّلاحِ» . (7)
.
ص: 264
القسم الثالث : الأَحاديث التي تنصّ على أنّ ثمرة ذكر اللّه هي معرفة اللّه ، والأُنس به ومحبّته ، كالمأثور عن النبيّ صلى الله عليه و آله ، قال : «مَن أكثَرَ ذِكرَ اللّهِ عز و جل أَحَبَّهُ اللّهُ» . (1) وقال أميرالمؤمنين عليه السلام : «الذِّكرُ مِفتاحُ الأُنسِ» . (2) إنّ جميع الأَحاديث التي مرّت في الباب الأَوّل والثاني من هذا الفصل أَيضا ، وفي هذا الضوء ، ذكر اللّه في الخطوة الأُولى من خطوات السلوك يصقل مرآة القلب من صداَ الأَخلاق الرديئة وسيّئات الأَعمال ، وفي الخطوة الثانية يمهّد الأَرضية لانعكاس المعارف الشهوديّة فيه بعد تنويره ، ومن ثَمّ الظفر بمعرفة اللّه ومحبّته . وبالنظر إِلى عطيات ذكر اللّه وبركاته وتأثيره الهامّ في بناء الإنسان والمجتمع التوحيديّ ، أَكّد القرآن الكريم والأَحاديث المأثورة كثرة الذكر ، بل استمراره وديمومته مرارا ، قال تعالى : «يَ_أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا» (3) . وقال سبحانه : «فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَوةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَ_مًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ» (4) . وقال جلّ شأنه :
.
ص: 265
«الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَ_مًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ» (1) . وقال الإمام الصادق عليه السلام : «ما مِن شَيء إِلّا ولَهُ حَدٌّ يَنتَهي إِلَيه ، إِلَا الذِّكر فَلَيسَ لَهُ حَدٌّ يَنتَهي إِلَيهِ... ثمّ تلا قوله تعالى : «يَ_أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا» » (2) . ومن الضروريّ الالتفات إِلى النقاط الآتية فيما يتعلّق بتأَثير الذكر في بناء الإنسان :
1 . استمرار الذكر وديمومتهإِنّ ما يُفضي إِلى ظهور معطيات الذكر في تخلية القلب وتجليه وبلوغ المعرفة الشهوديّة هو استمرار الذكر وديمومته ، كما صرّح به عدد من النصوص المتقدّمة ، ولعلّ الخروج من الظلمات والدخول إِلى عالم النُّور في الآية الثانية والأَربعين من سورة الأَحزاب بعد الأمر بكثرة الذكر يعود إِلى هذا السبب ، قال تعالى : «يَ_أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً * هُوَ الَّذِى يُصَلِّى عَلَيْكُمْ وَ مَلَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّ_لُمَ_تِ إِلَى النُّورِ وَ كَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا» (3) . من هنا ، فإنّ الذكر الذي لا ديمومة له ولا يتمكّن من القلب يتعذّر عليه أَن يقوم بدور في مسير المعرفة الشهوديّة . لقد قدم الفقيه والمحدّث الكبير المرحوم الفيض الكاشانيّ رحمه الله خمسةً وعشرين تعليما في رسالة «زاد السالك» أَجاب فيها عن رسالة أَحد العلماء ، وقد سأَله عن
.
ص: 266
كيفيّة سلوك طريق الحقّ ، حيث قال في التعليم الثامن عشر: إنّ الانشغال بقدرٍ من الأَذكار والأَوراد في أَوقات معيّنة ، ولا سيّما بعد فريضة الصلاة ، وترويض اللسان على ذكر الحقّ تعالى في أَغلب الأَحيان ما أَمكن ، ولو كانت الجوارح منهمكة بأُمور أُخرى ، فتلك سعادة نِعِمّا وأُثر عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام أنّ لسانه كان مترطّبا بالكلمة الطيّبة المتمثّلة بالتهليل؛ قول : «لا إله إلّا اللّه » ؛ وذلك عند أَكله ، وكلامه ، ومشيه ، وما شابهها (1) . إذ إنّ هذا ممدّ لكلّ سالك وعون قويّ له ، وإذا اقترن الذكر القلبيّ بالذكر اللسانيّ ، فستفتح له الأَبواب وتُقبل عليه البركات خلال مدّة قليلة ، و عليه أن يسعى في ذكر الحقّ دوما وأَبدا ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ؛ لئلّا يغفل عن اللّه سبحانه ، إذ إنّ أَيّ عمل لا يقوم مقام الذكر الدائم في السلوك ، وهذا مدد قويّ في ترك مخالفة الحقّ سبحانه في ارتكاب المعاصي (2) .
2 . أَتمّ مصاديق الذِّكرالصلاة أَتمّ مصاديق الذِّكر ، والآية الكريمة «أَقِمِ الصَّلَوةَ لِذِكْرِى» (3) تشير إِلى هذه النقطة الدَّقيقة ، وإِذا أُقيمت الصلاة بآدابها وشروطها بخاصّة حضور القلب ، فإنّها في الخطوة الأُولى تُبعد جميع الرذائل والأَدناس عن الإنسان ، وتجعله متّصفا بصفة التقوى . وفي الخطوة الثانية ، توصل السالك إِلى بساط المعرفة الشهوديّة والقرب وحبّ
.
ص: 267
اللّه ، كمّا أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عدّ «نور المعرفة» (1) من بركات الصلاة ، وشبّهها الإمام عليّ عليه السلام بمعراج الروح إِلى «الوصول إِلى اللّه » (2) وزيارته .
3 . حقيقة الذِّكرالنقطة الأُخرى هي أنّ حقيقة الذِّكر ، هي الشعور بالحضور في رحاب اللّه _ جلّ جلاله _ ، من هنا فإنّ الذكر اللفظيّ بلا توجّه قلبيّ لا يؤثّر في تنوير القلب تأَثيرا يُذكَر . وآية التوجّه القلبيّ إِلى خالق الكون الشعور بالمسؤوليّة في جميع المجالات ، والذِّكر بهذا المعنى بخاصّة استمراره وديمومته صعب مستصعب ، كما قال الإمام الصادق عليه السلام لأَحد أَصحابه : «ألا أُخبِرُكَ بِأَشَدِّ ما فَرَضَ اللّهُ عز و جل عَلى خَلقِهِ [ ثلاث ]؟ قُلتُ : بَلى . قالَ : إنصافُ النّاسِ مِن نَفسِكَ ، ومُؤاساتُكَ أخاكَ ، وذِكرُ اللّهِ في كُلِّ مَوطِنٍ . أما إنّي لا أقولُ : سُبحانَ اللّهِ ، وَالحَمدُ للّهِِ ، ولا إلهَ إلَا اللّهُ ، واللّهُ أكبَرُ ، وإن كانَ هذا مِن ذاكَ ، ولكِن ذِكرُ اللّهِ _ جَلَّ وعَزَّ _ في كُلِّ مَوطِنٍ إذا هَجَمتَ عَلى طاعَةٍ أو عَلى مَعصِيَةٍ» (3) .
4 . شرط الانتفاع بالذِّكرإنّ من الشروط المهمّة لقبول الصلاة والاستمتاع ببركاتها التي أَكّدتها النصوص الإسلاميّة هي الزكاة ، من هنا يدعو القرآن الكريم النَّاس إِلى إيتاء الزكاة مع إِقامة الصلاة ، لقد قال الإمام الرضا عليه السلام في هذا الشأن :
.
ص: 268
«إنَّ اللّهَ عز و جل أمَرَ بِثَلاثَةٍ مَقرونٍ بِها ثَلاثَةٌ أُخرى : أمَرَ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ، فَمَن صَلّى ولم يُزَكِّ لَم تُقبَل مِنهُ صَلاتُهُ...» (1) . وبلغ إِيتاء الزكاة من التأثير في الإفادة من معطيات الصلاة مبلغا أنّ الإمام الصادق عليه السلام قال فيه : «لاصَلاةَ لِمَن لا زَكاةَ لَهُ» (2) . ومن الحريّ بالذكر أَنّ الزكاة في مفهومها العام تشمل مطلق الحقوق الماليّة الواجبة والمستحبّة ، لذلك حينما سئل الإمام الصادق عليه السلام : في كم تجب الزكاة من المال؟ قال : «الزَّكاةُ الظّاهِرَةَ أمِ الباطِنَةَ تُريدُ؟» قالَ : أُريدُهُما جَميعا ، فَقالَ : «أمَّا الظّاهِرَةُ فَفي كُلِّ ألفٍ خَمسَةٌ وعشرونَ دِرهما ، وأمَّا الباطِنَةُ فَلا تَستَأثِر عَلى أَخيكَ بِما هُوَ أَحوَجُ إِلَيهِ (3) مِنكَ» (4) . من هنا ، يتسنّى لنا أَن نقول : إِنّ مطلق الإحسان إِلى النَّاس ، وحلّ معضلاتهم لوجه اللّه تعالى شرط للانتفاع التام ببركات مطلق الذكر ، وعلى رأسها الصلاة .
ثانيا : رعاية آداب الطعاملقد أَشرنا إِلى أَنّ ذكر اللّه عز و جل غذاء الروح ، وكلّما ازداد هذا الغذاء فيها زادت قوّتها ، وعظم صفاء القلب ونورانيّته ، وعلى العكس من ذلك الأَغذية المادّيّة ، فكلّما أَكثر الإنسان منها تضاعف ضررها على جسمه وروحه ، والاكتفاء بالمقدار الضروريّ
.
ص: 269
من الزاد يضمن صحّة الإنسان جسما وروحا . ويمكن أَن نقسّم الأَحاديث المأثورة عن تأثير الأَكل على السير والسلوك والمعرفة إِلى أَربعة أَقسام :
1 . الطّعام الحلال وصفاء القلبالقسم الأَوّل : الأَحاديث التي تنصّ على أَنّ تناول الغذاء الحلال يُفضي إِلى صفاء القلب واستنارته ، كما رُوي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : «مَن أكَلَ مِنَ الحَلالِ صَفا قَلبُهُ ورَقَّ» (1) . «مَن أكَلَ الحَلالَ أربَعينَ يَوما، نَوَّرَ اللّهُ قَلبَهُ، وأَجرى يَنابيعَ الحِكمَةِ مِن قَلبِهِ عَلى لِسانِهِ » (2) .
2 . قلّة الطعام وتنوير القلبالقسم الثاني : الأَحاديث التي تذهب إِلى أَنّ قلّة الطعام والجوع باعثان على تنوير القلب ، كالذي أُثر عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . قال : «إذا أقَلَّ الرَّجُلُ الطُّعمَ مُلِئَ جَوفُهُ نورا» (3) . وقال : «نورُ الحِكمَةِ الجوعُ» (4) .
.
ص: 270
3 . تأثير الصِّيام في المعرفة الشهوديّةالقسم الثالث : الأَحاديث التي ترى أنّ الصِّيام سبب في وصول الإنسان إِلى درجة اليقين ، كما جاء في حديث المعراج : «الصَّومُ يورِثُ الحِكمَةَ ، وَالحِكمَةُ تورِثُ المَعرِفَةَ ، وَالمَعرِفَةُ تورِثُ اليَقينَ» (1) . جدير بالذّكر أنّ اليقين أَعلى مراتب الإيمان ، وهو المعرفة الشهوديّة نفسها .
4 . الحافز الربّانيّ على الأَكل واستنارة القلبالقسم الرابع : الأَحاديث التي توصي بامتلاك دافع ربّانيّ في كلّ عمل ، ومنها الأَكل ، كالذي نُقل عن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم قوله في وصيّته لأَبي ذرّ : «يا أَبا ذَرٍّ لِيَكُن لَكَ في كُلِّ شَيءٍ نِيَّةٌ صالِحَةٌ ، حَتَّى فِي النَّومِ وَالأَكلِ» (2) . إنّ ثمرة الإخلاص في جميع الأَعمال استنارة البصيرة ، كما رُوي عن الإمام أَميرالمؤمنين عليه السلام أَنّه قال : «عِندَ تَحَقُّقِ الإِخلاصِ تَستَنيرُ البَصائِرُ» (3) . وهذه الدرجة من الإخلاص إِذا تواصلت أَربعين يوما ، فإنّ القلب يستنير ويظفر بالمعارف الحقيقيّة الأَصيلة حتّى تجري ينابيع الحكمة على لسان صاحبه . قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم :
.
ص: 271
«ما أَخلَصَ عَبدٌ للّهِِ عز و جل أَربَعينَ صَباحا إِلّا جَرَت يَنابيعُ الحِكمَةِ مِن قَلبِهِ عَلى لِسانِهِ» (1) . وإذا كان السالك صائما في هذه الأَيّام الأَربعين ، فلا ريب في أَنّ بلوغ المقصد سيكون أَقرب ، كما روي عن الإمام أَميرالمؤمنين عليه السلام قوله : «مَن أخلَصَ للّهِِ أربَعينَ صَباحا ، يَأكُلُ الحَلالَ ، صائِما نهارَهُ ، قائِما لَيلَهُ ، أجرَى اللّهُ سُبحانَهُ يَنابيعَ الحِكمَةِ مِن قَلبِهِ عَلى لِسانِهِ» (2) .
ثالثا : ولاية أهل البيتإنّ طريق التوحيد والسلوك إِلى المعرفة الشهوديّة والكمال المطلق صعب مستصعَب ، وفيه قُطّاع طرقٍ كثيرون ، فقطعه بلا توجيه وإِرشاد ومؤازرة من القادة الربّانيّين الذين بلغوا الهدف وعُصموا من الزلل _ وهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلموأَهل بيته عليهم السلام _ عمل خَطِر مُوبِق ، بل مُحال ، فمن المهمّ هنا الالتفات إِلى ثلاث نقاط وهي ، كما يأتي :
1 . تأثير أَهل البيت في معرفة اللّهفي ضوء الأَحاديث الملحوظة ، إنّ أَهل البيت هم أَبواب معرفة اللّه وسبل الوصول إِلى رضوانه ، أَي : إِنّهم وحدهم المحيطون بالمعارف الإسلاميّة الأَصيلة ، وهم الذين يستطيعون أن يعرّفوا الناس بخالقهم الحقيقيّ ، ويهدونهم حتّى بلوغ أَسمى مراتب التوحيد على أَساس تعاليم الوحي ، كما نخاطبهم بذلك في الزيارة الجامعة الكبيرة المرويّة عن الإمام الهادي عليه السلام :
.
ص: 272
«بِمُوالاتِكُم عَلَّمَنَا اللّهُ مَعالِمَ دينِنا» (1) .
2 . تأثير أَهل البيت في الهداية الباطنيّة للإنسانإنّ دراسة دقيقة للنصوص الإسلاميّة المأثورة في الإمامة والقيادة تدلّ على أنّ تأثير أَهل البيت ، وبعامّة الكُمَّل في كلّ عصر الذين يسمّون الأَئمّة في هداية النَّاس هو أَكثر من إِراءة الطريق إِلى الكمال المطلق ، بل يضاف إلى الهداية العامّة ، إنّ الإمام يرافقُ المستعدّين ويمدّهم في قطع الطريق وبلوغ الهدف أَيضا ، أَي : إنّ نفوس أُولئك المستعدّين تتربّى بقبس الأَنوار الباطنيّة للإمام تكوينيّا ، وتسير صوب الكمال المطلق . لقد نقل المرحوم الكلينيّ _ رضوان اللّه عليه _ في باب «الأئمّة نور اللّه » من كتابه الجليل «الكافي» ستّ روايات فُسّرت فيها كلمة «النور» في عدد من الآيات القرآنيّة بأَئمّة أَهل البيت ، منها رواية نقلها أَبو خالد الكابليّ ، فقال : سأَلت أَبا جعفر [ الإمام الباقر عليه السلام ]عن قوله تعالى : «فَ_ئامِنُواْ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ النُّورِ الَّذِى أَنزَلْنَا» (2) فقال : «النّورُ وَاللّهِ الأَئِمَّةُ مِن آلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله إِلى يَومِ القِيامَةِ ، وهُم وَاللّهِ نورُ اللّهِ الَّذي أُنزِلَ ، وهُم وَاللّهِ نورُ اللّهِ فِي السَّماواتِ وفِي الأَرضِ ، وَاللّهِ يا أبا خالِدٍ لَنورُ الإِمامِ في قُلوبِ المُؤمِنينَ أنوَرُ مِنَ الشَّمسِ المُضيئَةِ بِالنَّهارِ؛ وهُم وَاللّهِ يُنَوِّرونَ قُلوبَ المُؤمِنينَ ، ويَحجُبُ اللّهُ عز و جل نورَهُم عَمَّن يَشاءُ فَتُظلِمُ قُلوبُهُم؛ وَاللّهِ يا أبا خالِدٍ لا يُحِبُّنا عَبدٌ ويَتَوَلّانا حَتّى يُطَهِّرَ اللّهُ قَلبَهُ ...» (3) . فمن وحي هذا الكلام نعرف أنّ الإمام كالشَّمس الساطعة تشعُّ على الباطن
.
ص: 273
الخافي للعالم أَكثر ممّا تشعّه الشَّمس المحسوسة ، وتُنير ملكوت السَّماوات والأَرض وسرائر المؤمنين . وهذا النور لا يُبيّن طريق السير والسلوك لهم فحسب ، بل يرافقهم حتّى بلوغ الهدف . بعبارة أُخرى : كما أنّ الشَّمس المحسوسة _ فضلاً عن إِضاءتها _ تؤثّر في التكامل المادّي للإنسان تكوينيّا ، فإنّ الشمس المعنويّة للإمام _ مضافا إلى إِرشادها التشريعيّ _ تؤثّر في التكامل المعنويّ للإنسان تكوينيّا أَيضا . إنّ العلّامة الطباطبائيّ _ رضوان اللّه عليه _ يقول في هذا الشأن : «أَطلق القرآن الكريم كلمة الإمام على مَن له درجات القرب ، وكان أَميرا لقافلة أَهل الولاية ، وحافظا لارتباط الإنسانية بهذه الحقيقة ، فالإمام هو الّذي اصطفاه اللّه سبحانه للسير بصراط الولاية قُدما ، وهو الّذي أَمسك بزمام الهداية المعنوية ، وعندما تشعُّ الولاية في قلوب العباد فإنّها أَشعة وخطوط ضوئيّة من منبع النور الّذي عنده ، والمواهب المتفرّقة روافد متصلة ببحره اللامتناهي» (1) . «وبالجمله فالإمام هادٍ يهدي بأَمر ملكوتيّ يصاحبه ، فالإمامة بحسب الباطن نحو ولاية للنَّاس في أَعمالهم ، وهدايتها إيصالها إيّاهم إلى المطلوب بأَمر اللّه دون مجرّد إراءة الطريق الذي هو شأَن النبيّ والرسول وكلّ مؤمن يهدي إلى اللّه سبحانه بالنصح والموعظة الحسنة» (2) . بكلام آخر : إِنّ الهداية الباطنيّة النورانيّة التي تتهيّأ للإنسان إِثر قيامه بالواجبات الإلهيّة تُفاض عليه بواسطة الإنسان الكامل والإمام (3) ، من هنا ، لا تفعل الأَعمال الصالحة في تكامل الإنسان فعلها بلاصلة معنويّة به ، ولهذا عُدَّت ولاية أَهل البيت
.
ص: 274
شرطا لقبول الأَعمال ، كما قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : «وَالَّذي بَعَثَني بِالحَقِّ نَبِيّا لَو أَنَّ رَجُلاً لَقِيَ اللّهَ بِعَمَلِ سَبعينَ نَبِيّا ثُمَّ لَم يَأتِ بِوِلايَةِ أُولِي الأَمرِ مِنّا أهلَ البَيتِ ما قَبِلَ اللّهُ مِنهُ صَرفا ولا عَدلاً» . (1) ونقرأَ في الزيارة الجامعة المرويّة عن الإمام الهادي عليه السلام : «وبِمُوالاتِكُم تُقبَلُ الطّاعَةُ المُفتَرَضَةُ ، ولَكُمُ المَوَدَّةُ الواجِبَةُ» . (2) أجل ، ببركة ولاية أَهل البيت عليهم السلام وطاعتهم يستطيع السالك أن يظفر بأَعلى مراتب التوحيد والمعرفة الشهوديّة ، كما قال الإمام الرضا عليه السلام : «مَن سَرَّهُ أَن يَنظُرَ إِلَى اللّهِ بِغَيرِ حِجابٍ ، ويَنظُرَ اللّهُ إلَيهِ بِغَيرِ حِجابٍ فَليَتَوَلَّ آلَ مُحَمَّدٍ ، وَليَتَبَرّأ مِن عَدُوِّهِم» . (3)
3 . التأثير المتبادل لمعرفة اللّه ومعرفة أَهل البيتالنقطة الأُخرى اللافتة للنظر فيما يخصّ تأثير أَهل البيت في معرفة اللّه هي تأَكيد عدد من الروايات _ كما لوحظ (4) _ أَنّ معرفة اللّه عز و جل لا تتيسّر إِلّا عن طريق معرفة أَهل البيت عليهم السلام ، ومن جهة أُخرى ، جاء في بعض الرّوايات أنّ معرفة أَهل البيت متأخّرة عن معرفة اللّه ، ونقرأ في دعاءٍ علّمه الإمام الصادق عليه السلام زرارة قوله : «اللّهُمَّ عَرِّفني نَفسَكَ فَإِنَّكَ إن لَم تُعَرِّفني نَفسَكَ لَم أعرِف نَبِيَّكَ ، اللّهُمَّ عَرِّفني رَسولَكَ فَإِنَّكَ إن لَم تُعَرِّفني رَسولَكَ لَم أعرِف حُجَّتَكَ ، اللّهُمَّ عَرِّفني حُجَّتَكَ فَإِنَّكَ إن لَم تُعَرِّفني حُجَّتَكَ ضَلَلتُ عَن ديني» . (5)
.
ص: 275
وأَبْيَنُ من هذا الكلام ، حين سأل رئيس النصارى أَميرالمؤمنين عليه السلام قائلاً : عرفتَ اللّه بمحمّدٍ ، أَم عرفت محمّدا باللّه ؟ فقال عليه السلام : «ما عَرَفتُ اللّهَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله وسلم ، ولكِن عَرَفتُ مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله وسلم بِاللّهِ ...» . (1) فكيف يمكن الجمع بين هاتين الطائفتين من الروايات؟ الجواب هو أنّ هذه الأَحاديث تعبّر عن التأثير المتبادل لمعرفة اللّه ومعرفة أَهل البيت ، فمن جهةٍ معرفة النبيّ صلى الله عليه و آله وأَهل بيته ، كما جاء في الحديث أَعلاه فرع من معرفة اللّه ، ذلك أنّ النبوّة لا تكتسب معناها إلّا بعد إِثبات وجود اللّه ، ومن جهةٍ أُخرى ، ما لم يَدْعُ الأَنبياءُ النَّاس إلى معرفة اللّه ، وما لم يهيّئوا أَرضيّة التفكّر في براهين التوحيد بين ظهراني النَّاس ، لا يتوجّه أَحد صوب معرفة اللّه عز و جل ، حينئذٍ _ كما بيّنا _ لا يتسنّى نيلُ الدرجات العليا من معرفة اللّه إلّا عن طريق تعليمات النبيّ صلى الله عليه و آله وأَهل بيته عليهم السلام وإِرشاداتهم . على هذا الأَساس لا تعارض بين الطائفتين من الروايات المشار إليها ، أي : في البداية يدعو الأَنبياء وأَوصياؤهم النَّاس إلى معرفة اللّه على أَساس البرهان ، وبعد أن عرفوا اللّه سبحانه تدعوهم عقولهم إلى اتّباع رسل اللّه والقادة الربّانيّين ، ويمهّد أَئمّة الدين الأَرضيّة لتعالي الإنسان وبلوغ الدرجات العليا من مراتب معرفة اللّه .
رابعا : الاستعانة باللّهإنّ التعليم الرابع في السلوك إلى اللّه هو التضرّع إلى اللّه _ جلّ شأنه _ والاستعانة به ، وللدعاء في إِيصال السالك إلى الهدف طريقيّة وموضوعيّة ، وتعود طريقيّته إلى أنّه مصدر توفيق الإنسان للقيام بسائر برامج السلوك ، أَمّا موضوعيّته فتؤول إلى أنّه لُبُّ
.
ص: 276
العبادة (1) . بل يمكن أن نقول إِذا تحقّقت شروط الدعاء فإنّه من أَقرب طرق الوصول إلى الهدف ، بل هو نفسه الطريق الأَقرب إلى ذلك ، كما قال تعالى : «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» (2) . من هنا ، يعير الأَنبياء وأَولياء اللّه أَهميّة خاصّة للدعاء ومناجاة اللّه سبحانه ، وكانوا يستمدّونه قبل غيرهم . قال الإمام الباقر عليه السلام _ في تفسير قوله تعالى : «إِنَّ إِبْرَ هِيمَ لَأَوَّ هٌ حَلِيمٌ » _: «الأوّاهُ هُوَ الدَّعّاءُ» (3) . قال الإمام الصادق عليه السلام في جدّه أَميرالمؤمنين عليه السلام : «كانَ أميرُالمُؤمِنينَ عليه السلام رَجُلاً دَعّاءً» . (4) وما ورد في الباب السابع من هذا الفصل ، نموذج من أَدعية أَهل البيت عليهم السلام التي ترشدنا إلى الحصول على مراتب عالية من معرفة اللّه _ جلّ شأنه _ . وبشأن هذا الأَمر نقطتان جديرتان بالاهتمام ، هما :
1 . الدعاء مع السعيالنقطة الأُولى هي أنّ الدعاء يُثمر إذا رافقه السعي وبذل غاية الجهد للقيام بسائر التعاليم المشار إليها ، بل لا تتحقّق حقيقة الدعاء إلّا بالمجاهدة ، لذا قال الإمام
.
ص: 277
الرضا عليه السلام في حديث عنه : «مَن سَأَلَ اللّهَ التَّوفيقَ ولَم يَجتَهِد فَقَدِ استَهَزأَ بِنَفسِهِ» (1) . 2 . أهمّ شروط الدعاء لاستجابة الدعاء شروط فصّلتها الأَحاديث والروايات المأثورة (2) ، لكنّ أَهمّها الإخلاص ، وموافقة القلب اللسان بخاصّة الانقطاع (3) عن الأَسباب والتوجّه التامّ إلى المولى الحقّ عظم شأنه ، بل إنّ سائر الشروط مقدّمة لتحقيق هذه الحالة عند المتضرّع الداعي ، كما نقل عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال في جواب من طلب منه الاسم الأَعظم حتّى يُستجاب دعاؤه : «كُلُّ اسمٍ مِن أَسماءِ اللّهِ ، فَفَرِّغ قَلبَكَ عَن كُلِّ ما سِواهُ وَادعُهُ بِأَيِّ اسمٍ شِئتَ» . (4) إنّ أَفضل عامل للانقطاع عن غير اللّه عشقه ومحبّته سبحانه. وإكسير المحبّة يستقطب السالك إلى اللّه استقطابا يقطع آصرة روحه عن كلّ ما سواه ، وكلّما زاد الحبّ زادت حالة الانقطاع عن غير اللّه وتضاعف الاتّصال بمعدن العظمة .
خامسا : إحياء العقل وإماتة النفستتنامى القوى العقلانيّة للسالك إلى اللّه تدريجا بتطبيقه التعاليم الأَربعة التي مرّ شرحها ، وتموت فيه الأَهواء البهيميّة إِلى أن يبلغ نقطةً يقول إمام العارفين وأَميرالمؤمنين _ صلوات اللّه وسلامه عليه _ في وصفه لها : «قَد أَحيا عَقلَهُ ، وأَماتَ نَفسَهُ ، حَتّى دَقَّ جَليلُهُ ، ولَطُفَ غَليظُهُ ، وبَرَقَ لَهُ لامِعٌ كَثيرُ
.
ص: 278
البَرقِ ، فَأَبانَ لَهُ الطَّريقَ وسَلَكَ بِهِ السَّبيلَ ، وتَدافَعَتهُ الأَبوابُ إلى بابِ السَّلامَةِ ، ودارِ الإقامَةِ ، وثَبَتَت رِجلاهُ بِطُمَأنينَةِ بَدَنِهِ في قَرارِ الأَمنِ وَالرّاحَةِ بِما استَعمَلَ قَلبَهُ ، وأَرضى رَبَّهُ» (1) . إلهي أَيّها المنّان بالجسيم الرحمن الرحيم بحرمة أَنبيائك وأَوليائك وبحقّ محمّدوأَهل بيته _ صلواتك عليه وعليهم _ أَن تمنّ على ذي القلم الكسير عبدك البائس المتهتّك بالتوفيق للسلوك نحوك ، وتُذيقه حلاوة معرفتك الحقيقيّة ، وتصونه من شديد اللوم الذي تخاطب به عبادك بقولك : «لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ» ، ولا تفضحه في الدارَين . اللّهمَّ اجعلني من الذين جدّوا في قصدك فلم ينكلوا ، وسلكوا الطريق إليك فلم يعدلوا ، واعتمدوا عليك في الوصول حتّى وصلوا فرويت قلوبهم من محبّتك ، وآنست نفوسهم بمعرفتك فلم يقطعهم عنك قاطع ، ولا منعهم عن بلوغ ما أَمّلوه لديك مانع ، فهم فيما اشتهت أَنفسهم خالدون ولا يحزنهم الفزع الأَكبر وتتلقّاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون .
.
ص: 279
الفصل السابع: آثار معرفة اللّه7 / 1مَحَبَّةُ اللّهِالكتاب«وَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ» . (1)
الحديثرسول اللّه صلى الله عليه و آله_ في دُعاءِ الجَوشَنِ الكَبيرِ _: يا مَن هُوَ غايَةُ مُرادِ المُريدينَ ، يامَن هُوَ مُنتَهى هِمَمِ العارِفينَ ، يا مَن هُوَ مُنتَهى طَلَبِ الطّالِبينَ . (2)
الإمام عليّ عليه السلام_ فِي الدُّعاءِ _: يا أَمَلَ العارِفينَ ، ورَجاءَ الآمِلينَ . (3)
عنه عليه السلام :الشَّوقُ خُلصانُ العارِفينَ . (4)
.
ص: 280
عنه عليه السلام_ في خُطبَةٍ لَهُ في صِفَةِ المَلائِكَةِ _: ووَصَلَت حَقائِقُ الإِيمانِ بَينَهُم وبَينَ مَعرِفَتِهِ ، وقَطَعَهُمُ الإِيقانُ بِهِ إلَى الوَلَهِ (1) إلَيهِ ، ولَم تُجاوِز رَغَباتُهُم ما عِندَهُ إلى ما عِندَ غَيرِهِ . قَد ذاقوا حَلاوَةَ مَعرِفَتِهِ ، وشَرِبوا بِالكَأسِ الرَّوِيَّةِ مِن مَحَبَّتِهِ ، وتَمَكَّنَت مِن سُوَيداءِ (2) قُلوبِهِم وَشيجَةُ (3) خيفَتِهِ . (4)
عنه عليه السلام :الشَّوقُ شيمَةُ الموقِنينَ (5) .
عنه عليه السلام_ في دُعائِهِ _: يا غايَةَ آمالِ العارِفينَ ، يا غِياثَ المُستَغيثينَ ، يا حَبيبَ قُلوبِ الصَّادِقينَ (6) .
الإمام الحسن عليه السلام :مَن عَرَفَ اللّهَ أَحَبَّهُ (7) .
الإمام زين العابدين عليه السلام :إلهي ما أَلَذَّ خَواطِرَ الإِلهامِ بِذِكرِكَ عَلَى القُلوبِ! وما أَحلَى المَسيرَ إلَيكَ بِالأَوهامِ في مَسالِكِ الغُيوبِ! وما أَطيَبَ طَعمَ حُبِّكَ! وما أَعذَبَ شِربَ قُربِكَ! فَأَعِذنا مِن طَردِكَ وإبعادِكَ، وَاجعَلنا مِن أَخَصِّ عارِفيكَ. (8)
مصباح الشريعة_ فيما نسب إلى الإمام الصّادِقِ عليه السلام _: نَجوَى العارِفينَ تَدورُ عَلى
.
ص: 281
ثَلاثَةِ أُصولٍ : الخَوفِ وَالرَّجاءِ وَالحُبِّ ؛ فَالخَوفُ فَرعُ العِلمِ ، وَالرَّجاءُ فَرعُ اليَقينِ ، وَالحُبُّ فَرعُ المَعرِفَةِ (1) ؛ فَدَليلُ الخَوفِ الهَرَبُ ، ودَليلُ الرَّجاءِ الطَّلَبُ ، ودَليلُ الحُبِّ إيثارُ المَحبوبِ عَلى ما سِواهُ ؛ فَإذا تَحَقَّقَ العِلمُ فِي الصَّدرِ خافَ ، وإذا صَحَّ الخَوفُ هَرَبَ ، وإذا هَرَبَ نَجا وإذا أَشرَقَ نورُ اليَقينِ فِي القَلبِ شاهَدَ الفَضلَ ، وإذا تَمَكَّنَ مِنهُ رَجا ، وإذا وَجَدَ حَلاوَةَ الرَّجاءِ طَلَبَ ، وإذا وُفِّقَ لِلطَّلَبِ وَجَدَ ، وإذا تَجَلّى ضِياءُ المَعرِفَةِ فِي الفُؤادِ هاجَ ريحُ المَحَبَّةِ ، وإذا هاج ريحُ المَحَبَّةِ استَأنَسَ في ظِلالِ المَحبوبِ ، وآثَرَ المَحبوبَ عَلى ما سِواهُ . (2)
مصباح الشريعة_ فيما نسب إلى الإمام الصّادق عليه السلام _: العارِفُ شَخصُهُ مَعَ الخَلقِ وقَلبُهُ مَعَ اللّهِ تَعالى ، ولَو سَها قَلبُهُ عَنِ اللّهِ تَعالى طَرفَةَ عَينٍ لَماتَ شَوقا إلَيهِ ، وَالعارِفُ أَمينُ وَدائِعِ اللّهِ تَعالى ، وكَنزُ أَسرارِهِ ، ومَعدِنُ نورِه ، ودَليلُ رَحمَتِهِ عَلى خَلقِهِ ، ومَطِيَّةُ عُلومِهِ ، وميزانُ فَضلِهِ وعَدلِهِ ، وقَد غَنِيَ عَنِ الخَلقِ وَالمُرادِ وَالدُّنيا ؛ فَلا مُؤنِسَ لَهُ سِوَى اللّهِ ، ولا نُطقَ ولا إشارَةَ ولا نَفَسَ إلّا بِاللّهِ تَعالى وللّهِِ ومِنَ اللّهِ ومَعَ اللّهِ ، فَهُوَ في رِياضِ قُدسِهِ مُتَرَدِّدٌ ، ومِن لَطائِفِ فَضلِهِ مُتَزَوِّدٌ ، وَالمَعرِفَةُ أَصلٌ فَرعُهُ الإِيمانُ . (3)
.
ص: 282
7 / 2خَشيَةُ اللّهِالكتاب«إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَ_ؤُاْ» . (1)
الحديثسنن الدارمي عن عطاء :قالَ موسى : ... يا رَبِّ ، أَيُّ عِبادِكَ أَخشى لَكَ ؟ قالَ : أَعلَمُهُم بي . (2)
رسول اللّه صلى الله عليه و آله :مَن كانَ بِاللّهِ أَعرَفَ كانَ مِنَ اللّهِ أَخوَفَ . (3)
الإمام عليّ عليه السلام :أَعلَمُ النّاسِ بِاللّهِ أَكثَرُهُم خَشيَةً لَهُ . (4)
عنه عليه السلام :أَعلَمُ النّاسِ بِاللّهِ سُبحانَهُ أَخوَفُهُم مِنهُ . (5)
عنه عليه السلام :عَجِبتُ لِمَن عَرَفَ اللّهَ كَيفَ لا يَشتَدُّ خَوفُهُ ؟! (6)
عنه عليه السلام :الخَوفُ جِلبابُ العارِفينَ . (7)
عنه عليه السلام :البُكاءُ مِن خيفَةِ اللّهِ لِلبُعدِ عَنِ اللّهِ عِبادَةُ العارِفينَ . (8)
.
ص: 283
عنه عليه السلام :يَنبَغي لِمَن عَرَفَ اللّهَ سُبحانَهُ ألّا يَخلُوَ قَلبُهُ مِن رَجائِهِ وخَوفِهِ . (1)
عنه عليه السلام_ مِن دُعاءٍ كانَ يَدعو بِهِ بَعدَ رَكعَتَيِ الفَجرِ _: سُبحانَكَ اللّهُمَّ وبِحَمدِكَ! مَن ذا يَعرِفُ قَدرَكَ فَلا يَخافُكَ ، ومَن ذا يَعلَمُ ما أَنتَ فَلا يَهابُكَ؟! (2)
الإمام زين العابدين عليه السلام_ في تَمجيدِ اللّهِ عز و جل _: سُبحانَكَ ، عَجَبا لِمَن (3) عَرَفَكَ كَيفَ لا يَخافُكَ ؟! (4)
عنه عليه السلام :مَا العِلمُ بِاللّهِ وَالعَمَلُ إِلّا إِلفانِ مُؤتَلِفانِ ؛ فَمَن عَرَفَ اللّهَ خافَهُ . (5)
عنه عليه السلام_ مِن دُعائِهِ في زِيارَةِ قَبرِ أَميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام _: اللّهُمَّ إِنَّ قُلُوبَ المُخْبِتينَ إِلَيكَ والِهَةٌ ، ... وأَفئِدَةَ العارِفينَ مِنكَ فازِعَةٌ . (6)
الإمام الباقر عليه السلام :في حِكمَةِ آلِ داوودَ : ... يا ابنَ آدَمَ ، أَصبَحَ قَلبُكَ قاسِيا وأَنتَ لِعَظَمَةِ اللّهِ ناسِيا ؛ فَلَو كُنتَ بِاللّهِ عالِما ، وبِعَظَمَتِهِ عارِفا لَم تَزَل مِنهُ خائِفا ، ولِوَعدِهِ راجِيا ، وَيحَكَ ، كَيفَ لا تَذكُرُ لَحَدَكَ ، وَانفِرادَكَ فيهِ وَحدَكَ؟ ! (7)
الإمام الصادق عليه السلام :إِنَّ اللّهَ _ تَبارَكَ وتَعالى _ أَوحى إِلى داوودَ عليه السلام : . . . ما لي أَراكَ ساكِتا ؟
.
ص: 284
قالَ : خَشيَتُكَ أَسكَتَتني . (1)
7 / 3الرَّغبَةُ فيما عِندَ اللّهِرسول اللّه صلى الله عليه و آله :قالَ داوودُ عليه السلام : يا رَبِّ! حَقٌّ لِمَن عَرَفَكَ أَلّا يَقطَعَ رَجاءَهُ مِنكَ . (2)
الإمام عليّ عليه السلام :يَنبَغي لِمَن عَرَفَ اللّهَ سُبحانَهُ أَن يَرغَبَ فيما لَدَيهِ . (3)
عنه عليه السلام :عَجِبتُ لِمَن عَرَفَ رَبَّهُ كَيفَ لا يَسعى لِدارِ البَقاءِ! (4)
عوالي اللآلي :فِي الحَديثِ أَنَّ داوودَ عليه السلام قالَ : يا رَبِّ ، ما يَحمِلُ (5) لِمَن عَرَفَكَ أَن يَقطَعَ رَجاءَهُ مِنكَ . (6)
7 / 4طاعَةُ اللّهِالإمام زين العابدين عليه السلام :مَا العِلمُ بِاللّهِ وَالعَمَلُ إِلّا إِلفانِ مُؤتَلِفانِ ؛ فَمَن عَرَفَ اللّهَ خافَهُ
.
ص: 285
وحَثَّهُ الخَوفُ عَلَى العَمَلِ بِطاعَةِ اللّهِ ، وإِنَّ أَربابَ العِلمِ وأَتباعَهُمُ الَّذينَ عَرَفُوا اللّهَ فَعَمِلوا لَهُ ورَغِبوا إِلَيهِ ، وقَد قالَ اللّهُ : «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَ_ؤُاْ» . (1)
7 / 5اجتِنابُ المَحارِمِرسول اللّه صلى الله عليه و آله :مَن عَرَفَ اللّهَ وعَظَّمَهُ مَنَعَ فاهُ مِنَ الكَلامِ ، وبَطنَهُ مِنَ الطَّعامِ ، وعَفا (2) نَفسَهُ بِالصِّيامِ وَالقِيامِ . (3)
الإمام عليّ عليه السلام :مَن عَرَفَ كَفَّ . (4)
الإمام الرضا عليه السلام :إِن قالَ قائِلٌ : لِمَ أُمِرَ الخَلقُ بِالإِقرارِ بِاللّهِ وبِرَسولِهِ وحُجَّتِهِ وبِما جاءَ مِن عِندِ اللّهِ ؟ قيلَ : لِعِلَلٍ كَثيرَةٍ : مِنها : أَنَّ مَن لَم يُقِرَّ بِاللّهِ لَم يَتَجَنَّب مَعاصِيَهُ ، ولَم يَنتَهِ عَنِ ارتِكابِ الكَبائِرِ ، ولَم يُراقِب أَحَدا فيما يَشتَهي ويَستَلِذُّ مِنَ الفَسادِ وَالظُّلمِ ، وإِذا فَعَلَ النّاسُ هذِهِ الأَشياءَ
.
ص: 286
وَارتَكَبَ كُلُّ إِنسانٍ ما يَشتَهي ويَهواهُ مِن غَيرِ مُراقَبَةٍ لِأَحَدٍ كانَ في ذلِكَ فَسادُ الخَلقِ أَجمَعينَ ، ووُثوبُ بَعضِهِم عَلى بَعضٍ ، فَغَصَبُوا الفُروجَ وَالأَموالَ ، وأَباحُوا الدِّماءَ وَالسَّبيَ ، وقَتَلَ بَعضُهُم بَعضا مِن غَيرِ حَقٍّ ولا جُرمٍ ، فَيَكونُ في ذلِكَ خَرابُ الدُّنيا ، وهَلاكُ الخَلقِ ، وفَسادُ الحَرثِ وَالنَّسلِ . ومِنها : أَنَّ اللّهَ عز و جل حَكيمٌ ، ولا يَكونُ الحَكيمُ ولا يُوصَفُ بِالحِكمَةِ إِلّا الَّذي يَحظُرُ الفَسادَ ويَأمُرُ بِالصَّلاحِ ويَزجُرُ عَنِ الظُّلمِ ويَنهى عَنِ الفَواحِشِ ، ولا يَكونُ حَظرُ الفَسادِ وَالأَمرُ بِالصَّلاحِ وَالنَّهيُ عَنِ الفَواحِشِ إِلّا بَعدَ الإِقرارِ بِاللّهِ ومَعرِفَةِ الآمِرِ وَالنَّاهي ؛ فَلَو تُرِكَ النَّاسُ بِغَيرِ إِقرارٍ بِاللّهِ ولا مَعرِفَةٍ لَم يَثبُت أَمرٌ بِصَلاحٍ ، ولا نَهيٌ عَن فَسادٍ ؛ إِذ لا آمِرَ ولا ناهِيَ . ومِنها : أَنّا قَد وَجَدنَا الخَلقَ قَد يَفسُدونَ بِأُمورٍ باطِنَةٍ مَستورَةٍ عَنِ الخَلقِ ، فَلَولَا الإِقرارُ بِاللّهِ وخَشيَتُهُ بِالغَيبِ لَم يَكُن أَحَدٌ إِذا خَلا بِشَهوَتِهِ وَإِرادَتِهِ يُراقِبُ أَحَدا في تَركِ مَعصِيَةٍ وَانتِهاكِ حُرمَةٍ وَارتِكابِ كَبيرٍ (1) ، إِذا كانَ فِعلُهُ ذلِكَ مَستورا عَنِ الخَلقِ بِغَيرِ مُراقِبٍ لِأَحَدٍ فَكانَ يَكونُ في ذلِكَ هَلاكُ الخَلقِ أَجمَعينَ ، فَلَم يَكُن قِوامُ الخَلقِ وصَلاحُهُم إِلّا بِالإِقرارِ مِنهُم بِعَليمٍ خَبيرٍ يَعلَمُ السِّرَّ وأَخفى ، آمِرٌ بِالصَّلاحِ ، ناهٍ عَنِ الفَسادِ ، ولا يَخفى عَلَيهِ خافِيَةٌ ؛ لِيَكونَ في ذلِكَ انزِجارٌ لَهُم يَخلون بِهِ مِن أَنواعِ الفَسادِ . (2)
.
ص: 287
7 / 6الزُّهدُ فِي الدُّنياالإمام عليّ عليه السلام :يَسيرُ المَعرِفَةِ يوجِبُ الزُّهدَ فِي الدُّنيا . (1)
عنه عليه السلام :مَن صَحَّت مَعرِفَتُهُ انصَرَفَت عَنِ العالَمِ الفاني نَفسُهُ وهِمَّتُهُ . (2)
عنه عليه السلام :ثَمَرَةُ المَعرِفَةِ العُزوفُ عَن دارِ الفَناءِ . (3)
عنه عليه السلام :كُلُّ عارِفٍ عائِفٌ . (4)
الإمام زين العابدين عليه السلام :إِنَّ جَميعَ ما طَلَعَت عَلَيهِ الشَّمسُ في مَشارِقِ الأَرضِ ومَغارِبِها ، بَحرِها وبَرِّها وسَهلِها وجَبَلِها عِندَ وَلِيٍّ مِن أَولِياءِ اللّهِ وأَهَلِ المَعرِفَةِ بِحَقِّ اللّهِ كَفَيءِ الظِّلالِ . (5)
الإمام الصّادق عليه السلام :مَن عَرَفَ اللّهَ خافَ اللّهَ ، ومَن خافَ اللّهَ سَخَت نَفسُهُ عَنِ الدُّنيا . (6)
عنه عليه السلام :إِنَّ أَعلَمَ النّاسِ بِاللّهِ أَخوَفُهُم للّهِِ ، وأَخوَفُهُم لَهُ أَعلَمُهُم بِهِ ، وأَعلَمُهُم بِهِ أَزهَدُهم فيها (7) . (8)
.
ص: 288
7 / 7التَّقوىرسول اللّه صلى الله عليه و آله :لِكُلِّ شَيءٍ مَعدِنٌ ، ومَعدِنُ التَّقوى قُلوبُ العارِفينَ . (1)
الإمام عليّ عليه السلام :الحَمدُ للّهِِ الَّذي أَلهَمَ بِفَواتِحِ عِلمِهِ النّاطِقينَ، وأَنارَ بِثَواقِبِ (2) عَظَمَتِهِ قُلوبَ المُتَّقينَ. (3)
مصباح الشريعة_ فيما نسب إلى الإمام الصّادق عليه السلام _: التَّقوى ماءٌ يَنفَجِرُ مِن عَينِ المَعرِفَةِ بِاللّهِ تَعالى ، يَحتاجُ إِلَيهِ كُلُّ فَنٍّ مِنَ العِلمِ ، وهُوَ لا يَحتاجُ إِلّا إِلى تَصحيحِ المَعرِفَةِ بِالخُمودِ تَحتَ هَيبَةِ اللّهِ وسُلطانِهِ . (4)
7 / 8التَّوَحُّدالإمام عليّ عليه السلام :مَن عَرَفَ اللّهَ تَوَحَّدَ . (5)
عنه عليه السلام :مَن عَرَفَ الحَقَّ لَم يَعتَدَّ بِالخَلقِ . (6)
.
ص: 289
7 / 9التَّواضُعُ للّهِالإمام عليّ عليه السلام :لا يَنبَغي لِمَن عَرَفَ عَظَمَةَ اللّهِ أَن يَتَعَظَّمَ ؛ فَإِنَّ رِفعَةَ الَّذينَ يَعلَمونَ ما عَظَمَةُ اللّهِ أَن يَتَواضَعوا لَهُ . (1)
7 / 10التَّسليمُ لِقَضاءِ اللّهِالإمام الباقر عليه السلام :أَحَقُّ خَلقِ اللّهِ أَن يُسَلِّمَ لِما قَضَى اللّهُ عز و جل مَن عَرَفَ اللّهَ عز و جل . (2)
الإمام الصادق عليه السلام_ لِسُفيانَ الثَّورِيِّ _: يا سُفيانُ ، ثِق بِاللّهِ تَكُن عارِفا . (3)
7 / 11الرِّضا بِقَضاءِ اللّهِرسول اللّه صلى الله عليه و آله :قالَ اللّهُ عز و جل : عَلامَةُ مَعرِفَتي في قُلوبِ عِبادي حُسنُ مَوقِعِ قَدري ألّا أُشتَكى ولا أُستَبطى ولا أُستَخفى . (4)
الإمام زين العابدين عليه السلام_ من دُعاءٍ نُسِبَ إِلَيهِ _: كَيفَ أَحزَنُ وقَد عَرَفتُكَ؟! (5)
.
ص: 290
الإمام الصادق عليه السلام :إِنَّ أَعلَمَ النّاسِ بِاللّهِ أَرضاهُم بِقَضاءِ اللّهِ عز و جل . (1)
مصباح الشريعة_ فيما نسب إلى الإمام الصَّادِقُ عليه السلام _: صِفَةُ الرِّضا أَن يَرضَى المَحبوبَ والمَكروه ، وَالرِّضا شُعاعُ نورِ المَعرِفَةِ . (2)
موسى عليه السلام_ في خِطابِهِ لِلباري جَلَّ و عَلا _: يا رَبِّ ، حَقٌّ لِمَن عَرَفَكَ أَن يَرضى بِما صَنَعتَ . (3)
7 / 12استِبشارُ الوَجهِ وحُزنُ القَلبِالإمام عليّ عليه السلام :العارِفُ وَجهُهُ مُستَبشِرٌ مُتَبَسِّمٌ ، وقَلبُهُ وَجِلٌ مَحزونٌ . (4)
عنه عليه السلام :كُلُّ عارِفٍ مَهمومٌ . (5)
تعليق:تقدّم سابقا نفي الحزن عن العارف ، بيد أنّ في هذا الحديث قد جاء اعتبار الحزن من خصائصه ، وفي الجمع بين الحديثين يمكن القول : إنّ العارف مسرور من جهة ومحزون من جهة أُخرى ؛ فهو من ناحية مترع بالأمل والسرور حينما ينظر إلى رحمة اللّه وصفاته الجمالية ، ومن ناحية أُخرى محزون حينما يفكر بغضب اللّه
.
ص: 291
سبحانه وصفاته الجلالية ، ويمكن القول أيضا : إنّ العارف يصبح مسرورا حينما يتجلّى الخالق تعالى لقلبه ، ويضحى حزينا في غير ذلك لفقدانه تلك الحال ، أو أنّ العارف مسرور بالدرجات العُلى التي وصل إليها في معرفة الحقّ تعالى ، وحزين حينما يكون فاقدا لتلك الدرجات .
7 / 13الغِنى عَن خَلقِ اللّهِالإمام عليّ عليه السلام :مَن سَكَنَ قَلبَهُ العِلمُ بِاللّهِ سَكَنَهُ الغِنى عَن خَلقِ اللّهِ . (1)
7 / 14السَّهَرُ بِذِكرِ اللّهِالإمام عليّ عليه السلام :سَهَرُ العُيونِ بِذِكرِ اللّهِ خُلصانُ العارِفينَ ، وحُلوانُ المُقَرَّبينَ . (2)
إرشاد القلوب :كانَ مِمّا ناجى بِهِ الباري تَعالى داوودَ عليه السلام : ... يا داوودُ ، إِنَّ العارِفينَ كَحَلوا أَعيُنَهُم بِمِروَدِ (3) السَّهَرِ، وقاموا لَيلَهُم يَسهَرونَ يَطلُبونَ بِذلِكَ مَرضاتي. (4)
7 / 15كَثرَةُ الدُّعاءِالإمام عليّ عليه السلام :أَعلَمُ النّاسِ بِاللّهِ أَكثَرُهُم لَهُ مَسأَلَةً . (5)
.
ص: 292
عنه عليه السلام_ مِن دُعائِهِ _: إِلهي كَيفَ أَدعوكَ وقَد عَصَيتُكَ؟! وكَيفَ لا أَدعوكَ وقَد عَرَفتُكَ؟! (1)
الإمام زين العابدين عليه السلام :يا مَن آنَسَ العارِفينَ بِطيبِ مُناجاتِهِ . (2)
7 / 16استِجابَةُ الدُّعاءِرسول اللّه صلى الله عليه و آله :قالَ اللّهُ عز و جل : مَن أَهانَ لي وَلِيّا فَقَد أَرصَدَ لِمُحارَبَتي . وما تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبدٌ بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افتَرَضتُ عَلَيهِ ، وإِنَّهُ لَيَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنّافِلَةِ حَتّى أُحِبَّهُ، فَإِذا أَحبَبتُهُ كُنتُ سَمعَهُ الَّذي يَسمَعُ بِهِ، وبَصَرَهُ الَّذي يُبصِرُ بِهِ، ولِسانَهُ الَّذي يَنطِقُ بِهِ، ويَدَهُ الَّتي يَبطِشُ بِها، إِن دَعانيأَجَبتُهُ، وإِن سَأَلَني أَعطَيتُهُ . (3)
عنه صلى الله عليه و آله :إِنَّ اللّهَ تَعالى قالَ : مَن عادى لي وَلِيّا فَقَد آذَنتُهُ بِالحَربِ . وما تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبدي بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمّا افتَرَضتُ عَلَيهِ . وما يَزالُ عَبدي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوافِلِ حَتّى أُحِبَّهُ ، فَإِذا أَحبَبتُهُ كُنتُ سَمعَهُ الَّذي يَسمَعُ بِهِ ، وبَصَرَهُ الَّذي يُبصِرُ بِهِ ، ويَدَهُ الَّتي يَبطِشُ بِها ، ورِجلَهُ الَّتي يَمشي بِها ، وإِن سَأَلَني لَأُعطِيَنَّهُ ، ولَئِنِ استَعاذَني لَأُعيذَنَّهُ . (4)
.
ص: 293
عنه صلى الله عليه و آله :إِنَّ اللّهَ عز و جل يَقولُ : ما يَزالُ عَبدي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوافِلِ حَتّى أُحِبَّهُ؛ فَأَكونَ أَنَا سَمعَهُ الَّذي يَسمَعُ بِهِ ، وبَصَرَهُ الَّذي يُبصِرُ بِهِ ، ولِسانَهُ الَّذي يَنطِقُ بِهِ ، وقَلبَهُ الَّذي يَعقِلُ بِهِ ، فَإِذا دَعا أَجَبتُهُ ، وإِذا سَأَلَني أَعطَيتُهُ . (1)
عنه صلى الله عليه و آله :لَو عَرَفتُمُ اللّهَ تَعالى حَقَّ مَعرِفَتِهِ لَزالَت بِدُعائِكُمُ الجِبالُ! (2)
عنه صلى الله عليه و آله :لَو عَرَفتُمُ اللّهَ عز و جل حقَّ مَعرِفَتِهِ لَمَشَيتُم عَلَى البُحورِ ، ولَزالَت بِدُعائِكُمُ الجِبالُ . ولَو خِفتُمُ اللّهَ حَقَّ خَوفِهِ لَعَلِمتُمُ العِلمَ الَّذي لَيسَ مَعَهُ جَهلٌ ، وما بَلَغَ ذلِكَ أَحَدٌ ولا أَتى ، اللّهُ عز و جل أَعظَمُ مِن أَن يَبلُغَ أَحَدٌ أَمرَهُ كُلَّهُ! (3)
7 / 17الفَوزُ وَالفَلاحُالإمام عليّ عليه السلام :مَن عَرَفَ اللّهَ سُبحانَهُ لَم يَشقَ أَبَدا . (4)
بحار الأنوار عن صُحف إدريس عليه السلام :فازَ يا أَخنوخُ مَن عَرَفَني ، وهَلَكَ مَن أَنكَرَني ، عَجَبا لِمَن ضَلَّ عَنّي ولَيسَ يَخلو في شَيءٍ مِنَ الأَوقاتِ مِنّي ، كَيفَ يَخلو وأَنَا أَقرَبُ إِلَيهِ مِن كُلِّ قَريبٍ ، وأَدنى إِلَيهِ مِن حَبلِ الوَريدِ؟ (5)
راجع : ص 361 ، ح 3900 .
.
ص: 294
7 / 18المجتمع الأَمثلالكتاب«مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْاخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعَا بَصِيرًا» (1) .
«وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَ_تٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَْرْضِ وَلَ_كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَ_هُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ» (2) .
الحديثالإمام عليّ عليه السلام_ في كِتابِهِ إِلى مُحَمَّدِ بنِ أَبي بَكرٍ وأَهلِ مِصرَ _: عَلَيكُم بِتَقوَى اللّهِ ؛ فَإِنَّها تَجمَعُ مِنَ الخَيرِ ما لا يَجمَعُ غَيرُها ، ويُدرَكُ بِها مِنَ الخَيرِ ما لا يُدرَكُ بِغَيرِها ؛ مِن خَيرِ الدُّنيا وخَيرِ الآخِرَةِ ، قالَ اللّهُ عز و جل : « وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هَ_ذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَ لَدَارُ الْاخِرَةِ خَيْرٌ وَ لَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ » (3) . اِعلَموا _ يا عِبادَ اللّهِ _ أَنَّ المُؤمِنَ يَعمَلُ لِثَلاثٍ مِنَ الثَّوابِ : إِمّا لِخَيرِ الدُّنيا ، فَإِنَّ اللّهَ يُثيبُهُ بِعَمَلِهِ في دُنياهُ ؛ قالَ اللّهُ سُبحانَهُ لإِِبراهيمَ : «وَ ءَاتَيْنَ_هُ أَجْرَهُ فِى الدُّنْيَا وَ إِنَّهُ فِى الْاخِرَةِ لَمِنَ الصَّ__لِحِينَ » (4) ، فَمَن عَمِلَ للّهِِ تَعالى أَعطاهُ أَجرَهُ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ ، وكَفاهُ المُهِمَّ فيهِما . وقَد قالَ اللّهُ عز و جل : «يَ_عِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هَ_ذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَ أَرْضُ اللَّهِ وَ سِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّ_بِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ » (5) ،
.
ص: 295
فَما أَعطاهُمُ اللّهُ فِي الدُّنيا لَم يُحاسِبهُم بِهِ فِي الآخِرَةِ . قالَ اللّهُ عز و جل : «لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَ زِيَادَةٌ» (1) ، فَالحُسنى هِيَ الجَنَّةُ ، وَالزِّيادَةُ هِيَ الدُّنيا . وإِمّا لِخَيرِ الآخِرَةِ ، فَإِنَّ اللّهَ عز و جل يُكَفِّرُ بِكُلِّ حَسَنَةٍ سَيِّئَةً ؛ قالَ اللّهُ عز و جل : «إِنَّ الْحَسَنَ_تِ يُذْهِبْنَ السَّيِّ_ئاتِ ذَ لِكَ ذِكْرَى لِلذَّ كِرِينَ » (2) ، حَتّى إِذا كانَ يَومُ القِيامَةِ حُسِبَت لَهُم حَسَناتُهُم ، ثُمَّ أَعطاهُم بِكُلِّ واحِدَةٍ عَشرَ أَمثالِها إِلى سَبعِمِئَةِ ضِعفٍ ؛ قالَ اللّهُ عز و جل : «جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَ_اءً حِسَابًا » (3) ، وقالَ : «أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَ هُمْ فِى الْغُرُفَ_تِ ءَامِنُونَ » (4) . فَارغَبوا في هذا _ رَحِمَكُمُ اللّهُ _ وَاعمَلوا لَهُ ، وتَحاضّوا (5) عَلَيهِ . وَاعلَموا _ يا عِبادَ اللّهِ _ أَنَّ المُتَّقينَ حازوا عاجِلَ الخَيرِ وآجِلَهُ ؛ شارَكوا أَهلَ الدُّنيا في دُنياهُم ، ولَم يُشارِكهُم أَهلُ الدُّنيا في آخِرَتِهِم ؛ أَباحَهُمُ اللّهُ مِنَ الدُّنيا ما كَفاهُم وبِهِ أَغناهُم ؛ قالَ اللّهُ عَزَّ اسمُهُ : « قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَ الطَّيِّبَ_تِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِىَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَ_مَةِ كَذَ لِكَ نُفَصِّلُ الآْيَ_تِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» (6) . سَكَنُوا الدُّنيا بِأَفضَلِ ما سُكِنَت ، وأَكَلوها بِأَفضَلِ ما أُكِلَت ؛ شارَكوا أَهلَ الدُّنيا في دُنياهُم ، فَأَكَلوا مَعَهُم مِن طَيِّباتِ ما يَأكُلونَ ، وشَرِبوا مِن طَيِّباتِ ما يَشرَبونَ ، ولَبِسوا
.
ص: 296
مِن أَفضَلِ ما يَلبَسونَ ، وسَكَنوا مِن أَفضَلِ ما يَسكُنونَ ، وتَزَوَّجوا مِن أَفضَلِ ما يَتَزَوَّجونَ ، ورَكِبوا مِن أَفضَلِ ما يَركَبونَ ؛ أَصابوا لَذَّةَ الدُّنيا مَعَ أَهلِ الدُّنيا ، وهُم غَدا جيرانُ اللّهِ ، يَتَمَنَّونَ عَلَيهِ فَيُعطيهِم ما تَمَنَّوهُ ، ولا يَرُدُّ لَهُم دَعوَةً ، ولا يَنقُصُ لَهُم نَصيباً مِنَ اللَّذَّةِ . فَإِلى هذا _ يا عِبادَ اللّهِ _ يَشتاقُ إِلَيهِ مَن كانَ لَهُ عَقلٌ ، ويَعمَلُ لَهُ بِتَقوَى اللّهِ ، ولا حَولَ ولا قُوَّةَ إِلّا بِاللّهِ . (1)
راجع : ص 17 (الفصل الأوّل : قيمة معرفة اللّه ) و 359 (الفصل الأوّل : قيمة التوحيد) ، التنمية الإقتصادية في الكتاب والسنّة : القسم الأوّل / الفصل الأوّل / سعادة الدنيا والآخرة و القسم الأوّل / الفصل الثاني / قوام الدين والدنيا.
.
ص: 297
تلخيص ما مرَّ من دور معرفة اللّهيمكن أَن نلخّص ما مرّ من معطيات معرفة اللّه وبركاتها ودورها في حياة الإنسان في قسمين:
1 . دور معرفة اللّه في الحياة الفرديّةإنّ أَهمّ بركات معرفة اللّه في الحياة الفرديّة ، حبّ اللّه تعالى والأُنس به ، إذ إنّ الإنسان يعشق الجمال فطريّا ، ولمّا كان اللّه سبحانه جامعا لكلّ ضروب الجمال ، وكان جمال أُولي الجمال مستمدّا منه ، فإنّ المرء لا يمكن أَن يعرف اللّه ولا يحبّه! فقد قال الإمام الحسن المجتبى عليه السلام : «مَن عَرَفَ اللّهَ أَحَبَّهُ» (1) . وكلّما زادت معرفة الإنسان بخالقه زاد حبّه له إِلى أن يصبح في مقام «التامّين في محبّة اللّه » (2) . إنّ المحبّة التي تنبثق عن المعرفة بالنظر إلى أَوامر اللّه ونواهيه ، وما وعد اللّه
.
ص: 298
سبحانه في ثواب من عمل بأَوامره وجزاء من خالف نواهيه ، تقترن بالخشية والرغبة ، وتدعو المرء إلى جميع القيم العقيديّة ، والأَخلاقيّة ، والعمليّة السّامية ، وترك المفاهيم الّتي تضاد القيم .
2 . دور معرفة اللّه في الحياة الاجتماعيّةلمّا كانت معرفة اللّه هي الأَساس للقيم العقيديّة والأَخلاقيّة والعمليّة فهي أَعرف قواعد المجتمع الإنسانيّ المثاليّ أَصالةً أَيضا ، من هنا لا يمكن أَن نتوقّع من مجتمع لا يعتقد باللّه مراعاة القيم الإنسانيّة وعلى رأسها العدالة الاجتماعيّة ، لذا قال الإمام الرضا عليه السلام في فلسفة عبادة اللّه : «لِعِلَلٍ كَثيرَةٍ ، مِنها أنَّ مَن لَم يُقِرَّ بِاللّهِ عز و جل لَم يَتَجَنَّب مَعاصِيَهُ ، ولَم يَنتَهِ عَنِ ارتِكابِ الكَبائِرِ ولَم يُراقِب أحَدا فيما يَشتَهي ويَستَلِذُّ مِنَ الفَسادِ وَالظُّلمِ...» (1) . لا ريب في أَنّ استقرار القيم الأَخلاقيّة في المجتمع لا يتيسّر بلا أَساس دينيّ ولا اعتقاد باللّه ، ولو كان العالم عبثا وبلا شعور ، وتساوى العادل والظالم ، والمحسن والمسيء في بلوغ نقطة واحدة بعد الموت ، فبأيّ دليل يمكن أن ندعو المجتمع إلى رعاية القيم الإنسانيّة السّاميّة ، أي : العدالة ، والإيثار ، ومكافحة الظلم والجريمة؟ ولأيّ سبب يضحّي الإنسان نفسه للآخرين ولا يضحيّ الآخرون أنفسهم له؟! من هنا ينبغي أن نقول : إنّ المادّيّة تقتضي إلغاء القيم الأَخلاقيّة ، وتبنّي القيم الأَخلاقيّة يستلزم إلغاء المادّيّة . وعلى العكس من ذلك فإنّ الاعتقاد باللّه وهدفيّة عالم الوجود ممهّدان للمجتمع
.
ص: 299
الأَمثل والتكامل المادّيّ والمعنويّ للإنسان ، كما قال خالق الوجود _ جلّ شأنه _ : « مَن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ » (1) . وإذا قُدّر للمجتمع البشريّ يوما أن يرسّخ صلته بخالق الكون ، كما ينبغي فإنّه يمهّد لنفسه أَفضل أَنواع الحياة ، على أَمل ذلك اليوم المنشود إن شاء اللّه (2) .
.
ص: 300
. .
ص: 301
الفصل الثامن: آفاق معرفة اللّه8 / 1حَقُّ مَعرِفَةِ اللّهِ وحدُّهاالتوحيد عن ابن عبّاس :جاءَ أَعرابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ، فَقالَ : يا رَسولَ اللّهِ عَلِّمني مِن غَرائِبِ العِلمِ . قالَ : ما صَنَعتَ في رَأسِ العِلمِ حَتّى تَسأَلَ عَن غَرائِبِهِ ؟! قالَ الرَّجُلُ : ما رَأسُ العِلمِ يا رَسولَ اللّهِ ؟ قالَ : مَعرِفَةُ اللّهِ حَقَّ مَعرِفَتِهِ . قالَ الأَعرابِيُّ : وما مَعرِفَةُ اللّهِ حَقَّ مَعرِفَتِهِ ؟ قالَ : تَعرِفُهُ بِلا مِثلٍ ولا شِبهٍ ولا نِدٍّ ، وأَنَّهُ واحِدٌ أَحَدٌ ، ظاهِرٌ باطِنٌ ، أَوَّلٌ آخِرٌ ، لا كُفوَ لَهُ ولا نَظيرَ ، فَذلِكَ حَقُّ مَعرِفَتِهِ . (1)
.
ص: 302
الإمام الكاظم عليه السلام :أَوَّلُ الدِّيانَةِ بِهِ مَعرِفَتُهُ ، وكَمالُ مَعرِفَتِهِ تَوحيدُهُ ، وكَمالُ تَوحيدِهِ نَفيُ الصِّفاتِ عَنهُ . (1)
التوحيد عن طاهر بن حاتم بن ماهويه :كَتَبتُ إِلَى الطَيِّبِ _ يَعني أَبَا الحَسَنِ موسى عليه السلام _ : مَا الَّذي لا تُجزِئُ مَعرِفَةُ الخالِقِ بِدونِهِ ؟ فَكَتَبَ : لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ ، ولَم يَزَل سَميعا وعَليما وبَصيرا ، وهُوَ الفَعّالُ لِما يُريدُ . (2)
الإمام الرضا عليه السلام_ لَمّا سُئِلَ عَن أَدنَى المَعرِفَةِ _: الإِقرارُ بِأَنَّهُ لا إِلهَ غَيرُهُ ، ولا شِبهَ لَهُ ولا نَظيرَ ، وأَنَّهُ قَديمٌ مُثبَتٌ مَوجودٌ غَيرُ فَقيدٍ ، وأَنَّهُ لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ . (3)
الإمام الصادق عليه السلام :إِنَّ أَفضَلَ الفَرائِضِ وأَوجَبَها عَلَى الإِنسانِ مَعرِفَةُ الرَّبِّ وَالإِقرارُ لَهُ بِالعُبودِيَّةِ ، وحَدُّ المَعرِفَةِ أَنَّهُ لا إِلهَ غَيرُهُ ولا شَبيهَ لَهُ ولا نَظيرَ لَهُ ، وأَنَّهُ يُعرَفُ أَنَّهُ قَديمٌ مُثبَتٌ بِوُجودٍ غَيرِ فَقيدٍ ، مَوصوفٌ مِن غَيرِ شَبيهٍ ولا مُبطِلٍ ، لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ وهُوَ السَّميعُ البَصيرُ . (4)
الإمام الرضا عليه السلام_ فِي الفِقهِ المَنسوبِ إلَيهِ _: أَروي أَنَّ المَعرِفَةَ التَّصديقُ وَالتَّسليمُ وَالإِخلاصُ فِي السِّرِّ وَالعَلانِيَةِ ، وأَروي أَنَّ حَقَّ المَعرِفَةِ أَن يُطيعَ ولا يَعصِيَ ، ويَشكُرَ ولا يَكفُرَ . (5)
.
ص: 303
8 / 2لا تُدرِكُهُ الأَبصارُالكتاب«لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَ_رُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَ_رَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ » . (1)
«يَسْ_ئلُكَ أَهْلُ الْكِتَ_بِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَ_بًا مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَ لِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّ_عِقَةُ بِظُ_لْمِهِمْ» . (2)
«وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَ_تِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِى وَلَ_كِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَ_نَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ » . (3)
الحديثرسول اللّه صلى الله عليه و آله :فَوقَ كُلِّ شَيءٍ عَلا ، ومِن كُلِّ شَيءٍ دَنا ، فَتَجَلّى لِخَلقِهِ مِن غَيرِ أَن يَكونَ يُرى ، وهُوَ بِالمَنظَرِ الأَعلى . (4)
الإمام الصادق عليه السلام_ في قَولِهِ تَعالى : «لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَ_رُ» _: إِحاطَةُ الوَهمِ ... اللّهُ أَعظَمُ مِن أَن يُرى بِالعَينِ . (5)
.
ص: 304
الإمام الرضا عليه السلام_ في قَولِ اللّهِ عز و جل : «لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَ_رُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَ_رَ» _: لا تُدرِكُهُ أَوهامُ القُلوبِ ، فَكَيفَ تُدرِكُهُ أَبصارُ العُيونِ ! (1)
المحاسن عن أبي هاشم الجعفريّ :أَخبَرَنِي الأَشعَثُ بنُ حاتِمٍ أَنَّهُ سَأَلَ الرِّضا عليه السلام عَن شَيءٍ مِنَ التَّوحيدِ ، فَقالَ : أَلا تَقرَأُ القُرآنَ ؟ قُلتُ : نَعَم . قالَ : اِقرَأ : «لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَ_رُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَ_رَ» ، فَقَرَأتُ . فَقالَ : مَا الأَبصارُ ؟ قُلتُ : أَبصارُ العَينِ . قالَ : لا ، إِنَّما عَنَى الأَوهامَ ؛ لا تُدرِكُ الأَوهامُ كَيفِيَّتَهُ ، وهُوَ يُدرِكُ كُلَّ فَهمٍ . (2)
الكافي عن أبي هاشم الجعفريّ :قُلتُ لِأَبي جَعفَرٍ عليه السلام (3) : «لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَ_رُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَ_رَ» ؟ فَقالَ : يا أَبا هاشِمٍ ، أَوهامُ القُلوبِ أَدَقُّ مِن أَبصارِ العُيونِ ، أَنتَ قَد تُدرِكُ بِوَهمِكَ السِّندَ وَالهِندَ وَالبُلدانَ الَّتي لَم تَدخُلها ولا تُدرِكُها بِبَصَرِكَ ، وأَوهامُ القُلوبِ لا تُدرِكُهُ فَكَيفَ أَبصارُ العُيونِ ؟! (4)
التوحيد عن صفوان بن يحيى :سَأَلَني أَبو قُرَّةَ المُحَدِّثُ أَن أُدخِلَهُ عَلى أَبِي الحَسَنِ الرِّضا عليه السلام فَاستَأَذَنتُهُ في ذلِكَ فَأَذِنَ لي ، فَدَخَلَ عَلَيهِ فَسَأَلَهُ عَنِ الحَلالِ وَالحَرامِ
.
ص: 305
وَالأَحكامِ حَتّى بَلَغَ سُؤالُهُ التَّوحيدَ ، فَقالَ أَبو قُرَّةَ : إِنّا رُوّينا أنَّ اللّهَ عز و جلقَسَّمَ الرُّؤيَةَ وَالكَلامَ بَينَ اثنَينِ ، فَقَسَّمَ لِمُوسى عليه السلام الكَلامَ وَلِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله الرُّؤيَةَ . فَقالَ أَبُو الحَسَنِ عليه السلام فَمَنِ المُبَلِّغُ عَنِ اللّهِ عز و جل إِلَى الثَّقَلَينِ الجِنِّ وَالإنسِ : «لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَ_رُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَ_رَ» (1) «وَ لَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا» (2) و «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ» (3) أَلَيسَ مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله ؟ قالَ : بَلى؟ قالَ : فَكَيفَ يَجِيءُ رَجُلٌ إِلَى الخَلقِ جَميعا فَيُخبِرُهُم أَنَّهُ جاءَ مِن عِندِ اللّهِ وَأَنَّهُ يَدعوهُم إِلَى اللّهِ بِأَمرِ اللّهِ وَيَقولُ : «لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَ_رُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَ_رَ» «وَ لَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا» وَ «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ» ثُمَّ يَقولُ : أَنَا رَأَيتُهُ بِعَيني ، وَأَحَطتُ بِهِ عِلما وَهُوَ عَلى صُورَةِ البَشَرِ ، أَما تَستَحيونَ؟! ما قَدَرَتِ الزَّنادِقَةُ أَن تَرمِيَهُ بِهذا ؛ أَن يَكونَ يَأتِي عَنِ اللّهِ بِشَيءٍ ، ثُمَّ يَأتي بِخِلافِهِ مِن وَجهٍ آخَرَ!! قالَ أَبو قُرَّةَ : فَإنَّهُ يَقولُ : «وَ لَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى» (4) ؟ فَقالَ أَبُو الحَسَنِ عليه السلام : إِنَّ بَعدَ هذِهِ الآيَةِ ما يَدُلُّ عَلى ما رَأَى ، حَيثُ قالَ : «مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى» (5) يَقولُ : ما كَذَبَ فُؤادُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ما رَأَت عَيناهُ ، ثُمَّ أَخبَرَ بِما رَأَى فَقالَ : «لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَ_تِ رَبِّهِ الْكُبْرَى» (6) ، فَاياتُ اللّهِ عز و جلغَيرُ اللّهِ ، وَقَد قالَ : «وَ لَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا» 7 فَإذا رَأَتهُ الأَبصارُ فَقَد أَحاطَت بِهِ العِلمُ وَوَقَعَتِ المَعرِفَةُ .
.
ص: 306
فَقالَ أَبو قُرَّةَ : فَتُكَذِّبُ بِالرِّواياتِ؟ فَقالَ أَبُو الحَسَنِ عليه السلام : إِذا كانَتِ الرِّواياتُ مُخالِفَةً لِلقُرآنِ كَذَّبتُ بِها ، وَما أَجمَعَ المُسلِمون عَلَيهِ أَنَّهُ لا يُحاطُ بِهِ عِلمٌ (1) وَلا تُدرِكُهُ الأَبصارُ ، وَلَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ . (2)
الإمام عليّ عليه السلام :ظاهِرٌ لا بِتَأويلِ المُباشَرَةِ ، مُتَجَلٍّ لا بِاستِهلالِ رُؤيَةٍ . (3)
عنه عليه السلام :الرّادِعُ أَناسِيَّ (4) الأَبصارِ عَن أَن تَنالَهُ أَو تُدرِكَهُ . (5)
عنه عليه السلام_ فِي تَمجيدِ اللّهِ عز و جل _: لَم يَنتَهِ إِلَيكَ نَظَرٌ ، ولَم يُدرِككَ بَصَرٌ . أَدرَكتَ الأَبصارَ ، وأَحصَيتَ الأَعمالَ (الأَعمارَ) . (6)
عنه عليه السلام :لَم تَقَع عَلَيهِ الأَوهامُ فَتُقَدِّرَهُ شَبَحا ماثِلاً ، ولَم تُدرِكهُ الأَبصارُ فَيَكونَ بَعدَ انتِقالِها حائِلاً... كَلَّت (7) عَن إِدراكِهِ طُروفُ العُيونِ، وقَصُرَت دونَ بُلوغِ صِفَتِهِ أَوهامُ الخَلائِقِ . (8)
.
ص: 307
عنه عليه السلام :مَن جازَ عَلَيهِ البَصَرُ والرُّؤيَةُ فَهُوَ مخَلوقٌ ، ولابُدَّ لِلمَخلوقِ مِنَ الخالِقِ . (1)
عنه عليه السلام :لا تَنالُهُ الأَبصارُ مِن مَجدِ جَبَروتِهِ ؛ إِذ حَجَبَها بِحُجُبٍ لا تَنفُذُ في ثِخَنِ كَثافَتِهِ ، ولا تَخرِقُ إِلى ذِي العَرشِ مَتانَةَ خَصائِصِ سُتُراتِهِ ، الَّذي صَدَرَتِ الأُمورُ عَن مَشِيئَتِهِ . (2)
عنه عليه السلام :الحَمدُ للّهِِ . . . المُمتَنِعَةِ مِنَ الصِّفاتِ ذاتُهُ ، ومِنَ الأَبصارِ رُؤيَتُهُ ، ومِنَ الأَوهامِ الإحاطَةُ بِهِ . (3)
عنه عليه السلام :قَد حَسَرَ (4) كُنهُهُ نَوافِذَ الأَبصارِ ، وقَمَعَ وُجودُهُ جَوائِلَ (5) الأَوهامِ . (6)
فاطمة عليهاالسلام :المُمتَنِعُ مِنَ الأَبصارِ رُؤيَتُهُ ، ومِنَ الأَلسُنِ صِفَتُهُ ، ومِنَ الأَوهامِ كَيفِيَّتُهُ . (7)
الإمام الحسين عليه السلام_ فِي وِترِهِ _: اللّهُمَّ إِنَّكَ تَرى ولا تُرى ، وأَنتَ بِالمَنظَرِ الأَعلى ، وإِنَّ إِلَيكَ الرُّجعى ، وإِنَّ لَكَ الآخِرَةَ والاُولى ، اللّهُمَّ إِنّا نَعوذُ بِكَ مِن أَن نَذِلَّ ونَخزى . (8)
الإمام زين العابدين عليه السلام :الحَمدُ للّهِِ الأَوَّلِ بِلا أَوَّلٍ كانَ قَبلَهُ ، وَالآخِرِ بِلا آخِرٍ يَكونُ
.
ص: 308
بَعدَهُ ، الَّذي قَصُرَت عَن رُؤيَتِهِ أَبصارُ النّاظِرينَ ، وعَجَزَت عَن نَعتِهِ أَوهامُ الواصِفينَ . (1)
الإمام الصّادق عليه السلام :يَا ابنَ آدَمَ ، لَو أَكَلَ قَلبَكَ طائِرٌ لَم يُشبِعهُ ، وبَصَرُكَ لَو وُضِعَ عَلَيهِ خَرقُ إِبرَةٍ لَغَطّاهُ ، تُريدُ أَن تَعرِفَ بِهِما مَلَكوتَ السَّماواتِ وَالأَرضِ ؟! إِن كُنتَ صادِقا فَهذِهِ الشَّمسُ خَلقٌ مِن خَلقِ اللّهِ ، فَإِن قَدَرتَ أَن تَملَأَ عَينَيكَ مِنها فَهُوَ كَما تَقولُ . (2)
الأمالي عن إبراهيم الكرخيّ :قُلتُ لِلصّادِقِ عليه السلام : إِنَّ رَجُلاً رَأَى رَبَّهُ عز و جل في مَنامِهِ، فمَا يَكونُ ذلِكَ ؟ فَقالَ : ذلِكَ رَجُلٌ لا دينَ لَهُ ، إِنَّ اللّهَ _ تَبارَكَ وتَعالى _ لا يُرى فِي اليَقظَةِ ولا فِي المَنامِ ، ولا فِي الدُّنيا ولا فِي الآخِرَةِ . (3)
الأمالي عن إسماعيل بن الفضل :سَأَلتُ أَبا عَبدِاللّهِ جَعفَرَ بنَ مُحَمَّدٍ الصّادِقَ عليه السلام عَنِ اللّهِ _ تَبارَكَ وتَعالى _ هَل يُرى فِي المَعادِ ؟ فَقالَ : سُبحانَ اللّهِ وتَعالى عَن ذلِكَ عُلُوّا كَبيرا ! يَا ابنَ الفَضلِ ، إِنَّ الأَبصارَ لا تُدرِكَ إِلّا ما لَهُ لَونٌ وكَيفِيَّةٌ ، وَاللّهُ خالِقُ الأَلوانِ وَالكَيفِيَّةِ . (4)
الإمام الرضا عليه السلام :إِنَّ أَوهامَ القُلوبِ أَكبَرُ مِن أَبصارِ العُيونِ ، فَهُوَ لا تُدرِكُهُ الأَوهامُ وهُوَ يُدرِكُ الأَوهامَ . (5)
التوحيد عن محمّد بن عبداللّه الخراساني خادم الرضا عليه السلام :دَخَلَ رَجُلٌ مِنَ الزَّنادِقَةِ (6) عَلَى الرِّضا عليه السلام وعِندَهُ جَماعَةٌ... قالَ [الرَّجُلُ]: فَلِمَ لا تُدرِكُهُ حاسَّةُ البَصَرِ؟ قالَ:
.
ص: 309
لِلفَرقِ بَينَهُ وبَينَ خَلقِهِ الَّذينَ تُدرِكُهُم حاسَّةُ الأَبصارِ مِنهُم ومِن غَيرِهِم، ثُمَّ هُوَ أَجَلُّ مِن أَن يُدرِكَهُ بَصَرٌ، أَو يُحيطَ بِهِ وَهمٌ، أَو يَضبُطَهُ عَقلٌ. (1)
الكافي عن أحمد بن إسحاق :كَتَبتُ إِلى أَبِي الحَسَنِ الثّالِثِ عليه السلام أَسأَلُهُ عَنِ الرُّؤيَةِ ومَا اختَلَفَ فيهِ النّاسُ ، فَكَتَبَ : لا تَجوزُ الرُّؤيَةُ ما لَم يَكُن بَينَ الرّائي وَالمَرئِيِّ هَواءٌ يَنفُذُهُ البَصَرُ ، فَإِذَا انقَطَعَ الهَواءُ (2) عَنِ الرّائي وَالمَرئِيِّ لَم تَصِحَّ الرُّؤيَةُ وكانَ في ذلِكَ الاِشتِباهُ ؛ لِأَنَّ الرّائِيَ مَتى ساوَى المَرئِيَّ فِي السَّبَبِ الموجِبِ بَينَهُما فِي الرُّؤيَةِ وَجَبَ الاِشتباهُ وكانَ ذلِكَ التَّشبيهُ ؛ لِأَنَّ الأَسبابَ لابُدَّ مِن اتِّصالِها بِالمُسَبَّباتِ . (3)
الكافي عن محمّد بن عبيد :كَتَبتُ إِلى أَبِي الحَسَنِ الرِّضا عليه السلام أَسأَلُهُ عَنِ الرُّؤيَةِ وما تَرويهِ العامَّةُ وَالخاصَّةُ وسَأَلتُهُ أَن يَشرَحَ لي ذلِكَ ، فَكَتَبَ بِخَطِّهِ : اِتَّفَقَ الجَميعُ لا تَمانُعَ بَينَهُم أَنَّ المَعرِفَةَ مِن جِهَةِ الرُّؤيَةِ ضَرورَةٌ ، فَإِذا جازَ أَن يُرَى اللّهُ بِالعَينِ وَقَعَتِ المَعرِفَةُ ضَرورَةً ، ثُمَّ لَم تَخلُ تِلكَ المَعرِفَةُ مِن أَن تَكونَ إِيمانا أَو لَيسَت بِإِيمانٍ ؛ فَإِن كانَت تِلكَ المَعرِفَةُ مِن جِهَةِ الرُّؤيَةِ إِيمانا ، فَالمَعرِفَةُ الَّتي في دارِ الدُّنيا مِن جِهَةِ الاِكتِسابِ لَيسَت بِإيِمانٍ؛ لِأَنَّها ضِدُّهُ ، فَلا يَكونُ فِي الدُّنيا مُؤمِنٌ؛ لِأَنَّهُم لَم يَرَوُا اللّهَ
.
ص: 310
عَزَّ ذِكرُهُ ، وإِن لَم تَكُن تِلكَ المَعرِفَةُ الَّتي مِن جِهَةِ الرُّؤيَةِ إِيمانا ، لَم تَخلُ هذِهِ المَعرِفَةُ الَّتي مِن جِهَةِ الاِكتِسابِ أَن تَزولَ ، ولا تَزولَ فِي المَعادِ . فَهذا دَليلٌ عَلى أَنَّ اللّهَ عز و جل لا يُرى بِالعَينِ؛ إِذِ العَينُ تُؤَدّي إِلى ما وَصَفناهُ . (1)
.
ص: 311
كلام في بطلان القول بجواز رؤية اللّه بالبصريعتقد أَتباع مدرسة أَهل البيت بامتناع الرؤية الحسّيّة للّه تعالى على أَساس تعاليم الكتاب والسنّة والحكم القطعيّ للعقل والبرهان ، ومِثلهم في هذه العقيدة أَتباع مدرسة المعتزلة من أَهل السنّة ، أمّا الأَشاعرة وطائفة من أَهل الحديث الذين يُدْعَون المشبّهة أَو الحشويّة ، فإنّهم يقولون بإمكان الرؤية الحسّيّة إِلّا أَنّ الحشويّه يقولون : بأنّ اللّه سبحانه وتعالى جسمٌ ، والأَشاعرة _ على ما نقل القاضي الإيجيّ _ «معتقدون أَنّ اللّه ليس جسما ولا في جهةٍ ، ولذا يستحيل مواجهته وتقليب العين إِليه وأمثال ذلك ، مع ذلك يصحّ أَن ينكشف لعباده انكشاف القمر ليلة البدر ، كما ورد في الأَحاديث» . (1) والفرق الآخر بين الأَشاعرة والحشويّة أَنّ الحشويّة يقولون : إِنّ اللّه يُرى في الدنيا والآخرة . (2) أَمّا الأَشاعرة فيذهبون إِلى أَنّ اللّه لا يُرى بالعين إِلّا في الآخرة ، ولكن رؤيته لا تستلزم كونه جسما ، ولا تشبيها للخالق بالمخلوق .
.
ص: 312
الدليل العقليّ للقائلين بجواز الرؤيةعلى الرغم من أَنّ القائلين بإمكان رؤية اللّه بالعين يزعمون أَنّ لهم دليلاً عقليّا وآخر نقليّا ، لكنّ بطلان دليلهم العقليّ من الوضوح بمكانٍ أَنّه لا يحتاج إِلى نقاش ، نحو : صِرف وجود الأَشياء يقتضي إِمكان رؤيتها (1) ، أَو قول ابن تيميّة : «فإنّ الرؤية وجود محض ، وهي إِنّما تتعلّق بموجود لا بمعدوم ، فما كان أَكمل وجود ، بل كان وجوده واجبا فهو أَحقّ بها ممّا يلازمه من العدم...» . (2) والجواب عن هذا الكلام هو : أَوّلاً : إِنّ إِثبات هذا الزعم بأنّ صرف الوجود يقتضي إِمكان الرؤية ، أَو أَنّ ما كان أَكمل وجودا ، فهو أَحقّ بالرؤية يحتاج إِلى دليل . ثانيا : دلّت التجربة على أَنّ كثيرا من الأَشياء تتعذّر رؤيته الحسّيّة ، فهل استطاع أَحد أَن يرى قوّة التفكّر بالعين لحدّ الآن؟! ثالثا : كما لوحظ في الروايات المأثورة عن أَهل البيت عليهم السلام ، فإنّ العين لا تستطيع أَن ترى إِلّا ما كان له لون وكيفيّة ، ومثل هذا الشيء لا يمكن أَن يكون خالقا غير محدود .
الدليل النقليّ للقائلين بجواز الرؤيةأَمّا دليلهم النقليّ الذي وصفه القاضي الإيجيّ بأنّه الدليل الأَصليّ لإثبات إِمكان الرؤية فهو الأَحاديث التي نشير إِلى عدد منها فيما يأتي : 1 . عن ابن عمر ، عن النبيّ صلى الله عليه و آله في قوله تعالى : «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ...» (3)
.
ص: 313
«من البهاء والحسن ، ناظرة في وجه اللّه تعالى» (1) . 2 . وعنه أَيضا : قالَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : «إِنَّ أَدنى أَهلِ الجَنَّةِ مَنزِلَةً لَمَن يَرى في مُلكِهِ أَلفَي سَنَةٍ ، وإِنَّ أَفضَلَهُم مَنزِلَةً لَمَن يَنظُرُ في وَجهِ اللّهِ تَعالى كُلَّ يَومٍ مَرَّتَينِ ، ثُمَّ تَلا : «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ» قالَ : البَياضُ وَالصَّفاء «إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ» (2) قالَ : يَنظُرُ كُلَّ يَومٍ في وَجهِ اللّهِ عز و جل» . (3) 3 . وفي صحيح مسلم عن النبيّ صلى الله عليه و آله : «إِذا دَخَلَ أَهلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ ، قالَ : يَقولُ اللّهُ _ تَبارَكَ وتَعالى _ : تُريدونَ شَيئا أَزيدُكُم ؟ فَيَقولونَ : أَلَم تُبَيِّض وُجوهَنا ؟ أَلَم تُدخِلنَا الجَنَّةَ وتُنَجِّنا مِنَ النّارِ ؟ قالَ : فَيَكشِفُ الحِجابَ ، فَما أُعطوا شَيئا أَحَبَّ إِلَيهِم مِنَ النَّظَرِ إِلى رَبِّهِم عز و جل» . (4) وجواب ما استندوا إِليه كدليلٍ نقليّ على إِمكان الرؤية بالبصر هو : على فرض أَن نقبل زعم أَهل الحديث صحّة الأَحاديث المذكورة ، نقول : أَوّلاً : للرؤية في هذه الروايات قابليّة الانطباق على الرؤية القلبيّة بالتفسير الصحيح الذي سيأتي .
.
ص: 314
ثانيا : نظرا إِلى أَنّ القرآن والبرهان فنّدا إِمكان الرؤية الحسيّة ، فلو أَنّ روايةً لا تقبل التوجيه ، فهي مرفوضة قطعا ، لذا قال الإمام الرضا عليه السلام في جواب أَبي قرّة حين سأله : فتكذّب بالروايات؟ : «إذا كانَتِ الرِّواياتُ مُخالِفَةً لِلقُرآنِ كَذَّبتُ بِها» (1) . كذلك لا يصحّ الاستدلال بقوله تعالى : «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ » على إِمكان الرؤية الحسيّة ؛ لأَنّ الجمع بين هذه الآية وسائر الآيات التي تدلّ على عدم إِمكان الرؤية الحسيّة نحو قوله تعالى : «لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَ_رُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَ_رَ » (2) يقتضي أَنّ الرؤية الحسيّة غير مقصودة ، كما فسّرت الروايات المأثورة عن أَهل البيت عليهم السلام النظر إِلى اللّه في الآية المذكورة بالنظر إِلى رحمة اللّه ، أَو ثوابه ، أَو النظر إِلى وجه الأَنبياء والأَولياء (3) . ومن الجدير بالذكر أَنّ ماورد في هذه الروايات نماذجُ من مصاديق تفسير النظر إِلى وجه اللّه ، والنموذج الأَمثل الأَسطع هو رؤية اللّه القلبيّة التي سيأتي تفسيرها (4) ، ولم يُشر إِلى هذا المعنى فى الروايات المذكورة للحيلولة دون استغلاله فى ما لا ينبغي .
.
ص: 315
8 / 3لا تَحُسُّهُ الحَواسُّالإمام عليّ عليه السلام :لا تَلمِسُهُ لامِسَةٌ ، ولا تُحِسُّهُ حاسَّةٌ . (1)
الكافي عن عليّ بن عُقبة :سُئِلَ أَميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام : بِمَ عَرَفتَ رَبَّكَ ؟ قالَ : بِما عَرَّفَني نَفسَهُ . قيلَ : وكَيفَ عَرَّفَكَ نَفسَهُ ؟ قالَ : لا يُشبِهُهُ صورَةٌ ، ولا يُحَسُّ بِالحَواسِّ ، ولا يُقاسُ بِالنّاسِ . (2)
الإمام الصادق عليه السلام_ في تَنزيهِهِ سُبحانَهُ وتَعالى _: سُبحانَ مَن لا يَعلَمُ أَحَدٌ كَيفَ هُوَ إِلّا هُوَ ، لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ وهُوَ السَميعُ البَصيرُ ، لا يُحَدُّ ولا يُحَسُّ ولا يُجَسُّ (3) ، ولا تُدرِكُهُ الأَبصارُ ولَا الحَواسُّ ، ولا يُحيطُ بِهِ شَيءٌ ، ولا جِسمٌ ولا صورَةٌ ولا تَخطيطٌ (4) ولا تَحديدٌ . (5)
عنه عليه السلام_ كانَ يَقولُ _: الحَمدُ للّهِِ الَّذي لا يُحَسُّ ولا يُجَسُّ ولا يُمَسُّ ، ولا يُدرَكُ بِالحَواسِّ الخَمسِ ، ولا يَقَعُ عَلَيهِ الوَهمُ ، ولا تَصِفُهُ الأَلسُنُ ، وكُلُّ شيءٍ حَسَّتهُ الحَواسُّ أَو لَمَسَتهُ الأَيدي فَهُوَ مَخلوقٌ . (6)
.
ص: 316
عنه عليه السلام_ لِزندِيقٍ قالَ لَهُ : فَما هُوَ ؟ _: لا يُدرَكُ بِالحَواسِّ الخَمسِ ، لا تُدرِكُهُ الأَوهامُ ولا تَنقُصُهُ الدُّهورُ ولا تُغَيِّرُهُ الأَزمانُ . (1)
عنه عليه السلام :غَيرُ مَحسوسٍ ولا مَجسوسٍ ، لا تُدرِكُهُ الأَبصارُ . (2)
عنه عليه السلام :كُلُّ موَهومٍ بِالحَواسِّ مُدرَكٌ بِهِ تَحُدُّهُ الحَواسُّ وتُمَثِّلُهُ فَهُوَ مَخلوقٌ . (3)
عنه عليه السلام_ في مُناظَرَتِهِ لِلطَّبيبِ الهِندِيِّ _: قُلتُ : إِنَّهُ لَمّا عَجَزَت حَواسُّكَ عَن إِدراكِ اللّهِ أَنكَرتَهُ، وأَنَا لَمّا عَجَزَت حَواسّي عَن إِدراكِ اللّهِ تَعالى صَدَّقتُ بِهِ. قالَ : وكَيفَ ذلِكَ ؟ قُلتُ : لِأَنَّ كُلَّ شَيءٍ جَرى فيهِ أَثرُ تَركيبٍ لِجِسمٍ ، أَو وَقَعَ عَلَيهِ بَصَرٌ لِلَونٍ ، فَما أَدرَكَتهُ الأَبصارُ وَنالَتهُ الحَواسُّ فَهُ وَ غَيرُ اللّهِ سُبحانَهُ؛ لِأَنَّهُ لا يُشبِهُ الخَلقَ ، وأَنَّ هذَا الخَلقَ يَنتَقِلُ بِتَغييرٍ وزَوالٍ ، وكُلُّ شَيءٍ أَشبَهَ التَّغييرَ وَالزَّوالَ فَهُوَ مِثلُهُ ، ولَيسَ المَخلوقُ كَالخالِقِ ، ولاَ المُحدَثُ كَالمُحدِثِ . (4)
الإمام الرضا عليه السلام_ لِلزِّنديقِ الَّذي سَأَلَ : كَيفَ هُوَ وأَينَ هُوَ ؟ _: وَيلَكَ! إِنَّ الَّذي ذَهَبتَ إِلَيه غَلَطٌ . هُوَ أَيَّنَ الأَينَ بِلا أَينٍ ، وكَيَّفَ الكَيفَ بِلا كَيفٍ ، فَلا يُعرَفُ بِالكَيفوفِيَّةِ ، ولا بِأَينونِيَّةِ ، ولا يُدرَكُ بِحاسَّةٍ ، ولا يُقاسُ بِشَيءٍ . (5)
.
ص: 317
8 / 4لا يَبلُغُ أَحَدٌ كُنهَ مَعرِفَتِهِرسول اللّه صلى الله عليه و آله_ فِي الدُّعاءِ _: يا مَن لا يَعلَمُ ما هُوَ إِلّا هُوَ . (1)
عنه صلى الله عليه و آله_ في تَنزيهِ اللّهِ سُبحانَهُ _: سُبحانَكَ ما عَرَفناكَ حَقَّ مَعرِفَتِكَ . (2)
عوالي اللآلي :رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله أَنَّهُ قالَ : لا يَبلُغُ أَحدٌ كُنهَ (3) مَعرِفَتِهِ . فَقيلَ : ولا أَنتَ يا رَسولَ اللّهِ ؟ قالَ : ولا أَنَا ، اللّهُ أَعلى وأَجَلُّ أَن يَطَّلِعَ أَحدٌ عَلى كُنهِ مَعرِفَتِهِ . (4)
الإمام عليّ عليه السلام :الحَمدُ للّهِِ الَّذي أَظهَرَ مِن آثارِ سُلطانِهِ وجَلالِ كِبرِيائِهِ ما حَيَّرَ مُقَلَ (5) العُقولِ مِن عَجائِبِ قُدرَتِهِ ، ورَدَعَ خَطَراتِ هَماهِمِ (6) النُّفوسِ عَن عِرفانِ كُنهِ صِفَتِهِ . (7)
عنه عليه السلام :الحَمدُ للّهِِ . . . الظّاهِرِ بِعَجائِبِ تَدبيرِهِ لِلنّاظِرينَ ، وَالباطِنِ بِجَلالِ عِزَّتِهِ عَن فِكرِ المُتَوَهِّمينَ . (8)
عنه عليه السلام :الحَمدُ للّهِِ الّذي مَنَعَ الأَوهامَ أَن تَنالَ إِلّا وُجودَهُ ، وحَجَبَ العُقولَ أَن تَتَخيََّلَ
.
ص: 318
ذاتَهُ ؛ لِامتِناعِها مِنَ الشَّبَهِ وَالتَّشاكُلِ . (1)
عنه عليه السلام :لَم تَبلُغهُ العُقولُ بِتَحديدٍ فَيَكونَ مُشَبَّها ، ولَم تَقَع عَلَيهِ الأَوهامُ بِتَقديرٍ فَيَكونَ مُمَثَّلاً . (2)
عنه عليه السلام :مَنِ اعتَمَدَ عَلَى الرَّايِ وَالقِياسِ في مَعرِفَةِ اللّهِ ، ضَلَّ وتَشَعَّبَت عَلَيهِ الأُمورُ . (3)
عنه عليه السلام :تبَارَكَ اللّهُ الَّذي لا يَبلُغُهُ بُعدُ الهِمَمِ ، ولا ينَالُهُ غَوصُ الفِطَنِ . (4)
عنه عليه السلام :تَتَلقّاهُ الأَذهانُ لا بِمُشاعَرَةٍ ، وتَشهَدُ لَهُ المَرائيُ لا بِمُحاضَرَةٍ ، لَم تُحِط بِهِ الأَوهامُ ، بَل تَجَلّى لَها بِها . (5)
عنه عليه السلام_ في تَنزيهِ اللّهِ سُبحانَهُ _: إِنَّكَ أَنتَ اللّهُ الَّذي لَم تَتَناهَ فِيالعُقولِ فَتَكونَ فيمَهَبِّ فِكرِها مُكَيَّفا، ولا فيرَوِيّاتِ خَواطِرِها فَتَكونَ مَحدودا مُصَرَّفا (6) . (7)
عنه عليه السلام :عَظُمَ عَن أَن تَثبُتَ رُبوبِيَّتُهُ بِإِحاطَةِ قَلبٍ أَو بَصَرٍ . (8)
.
ص: 319
عنه عليه السلام :لا تَنالُهُ التَّجزِئَةُ وَالتَّبعيضُ ، ولا تُحِيطُ بِهِ الأَبصارُ وَالقُلوبُ . (1)
عنه عليه السلام_ في تَمجيدِ اللّهِ عز و جل _: فَلَسنا نَعلَمُ كُنهَ عَظَمَتِكَ ، إِلّا أَنّا نَعلَمُ أَنَّكَ حَيٌّ قَيّومٌ لا تَأَخُذُكَ سِنَةٌ ولا نَومٌ ، لَم يَنتَهِ إِلَيكَ نَظَرٌ ، ولَم يُدرِككَ بَصَرٌ . (2)
عنه عليه السلام :مُحَرَّمٌ عَلى بَوارِعِ ثاقِباتِ الفِطَنِ تَحديدُهُ ، وعَلى عَوامِقِ ناقِباتِ الفِكرِ تَكييفُهُ . . . مُمتَنِعٌ عَنِ الأَوهامِ أَن تَكتَنِهَهُ ، وعَنِ الأَفهامِ أَن تَستَغرِقَهُ ، وعَنِ الأَذهانِ أَن تُمَثِّلَهُ . (3)
عنه عليه السلام_ في تَمجيدِ اللّهِ عز و جل _: كَلَّتِ الأَوهامُ عَن تَفسيرِ صِفَتِكَ ، وَانحَسَرَتِ العُقولُ عَن كُنهِ عَظَمَتِكَ . . . وكَلَّ دونَ ذلِكَ تَحبيرُ (4) اللُّغاتِ ، وضَلَّ هُنالِكَ التَّدبيرُ في تَصاريفِ الصِّفاتِ ؛ فَمَن تَفَكَّرَ في ذلِكَ رَجَعَ طَرفُهُ (5) إِلَيهِ حَسيرا ، وعَقلُهُ مَبهورا ، وتَفَكُّرُهُ مُتَحَيِّرا . (6)
عنه عليه السلام :فَلَيسَت لَهُ صِفةٌ تُنالُ ، ولا حَدٌّ تُضرَبُ لَهُ فيهِ الأَمثالُ ، كَلَّ دونَ صِفاتِهِ تَحبيرُ اللُّغاتِ ، فَضَلَّ هُناكَ تَصاريفُ الصِّفاتِ ، وحارَ في مَلَكوتِهِ عَميقاتُ مَذاهِبِ التَّفكيرِ ، وَانقَطَعَ دونَ الرُّسوخِ في عِلمِهِ جَوامِعُ التَّفسيرِ ، وحالَ دونَ غَيبِهِ المَكنونِ حُجُبٌ مِنَ الغُيوبِ تَاهَت في أَدنى أَدانيها طامِحاتُ (7) العُقولِ في
.
ص: 320
لَطيفاتِ الأُمورِ . (1)
عنه عليه السلام :أَزَلُهُ نُهيَةٌ لِمَجاوِلِ الأَفكارِ ، ودَوامُهُ رَدعٌ لِطامِحاتِ العُقولِ . (2)
عنه عليه السلام_ كانَ يَقولُ إِذا سَبَّحَ اللّهُ تَعالى ومَجَّدَهُ _: سُبحانَهُ مَن إِذا تَناهَتِ (3) العُقولُ في وَصفِهِ كانَت حائِرَةً عَن دَرَكِ السَّبيلِ إِلَيهِ ، وتَبارَكَ مَن إِذا غَرَقَتِ الفِطَنُ (4) في تَكييفِهِ لَم يَكُن لَها طَريقٌ إِلَيهِ غَيرَ الدَّلالَةِ عَلَيهِ. (5)
عنه عليه السلام :تَوَلَّهَتِ القُلوبُ إِلَيهِ لِتَجرِيَ في كَيفِيَّةِ صِفاتِهِ، وغَمَضَت مَداخِلُ العُقولِ في حَيثُ لا تَبلُغُهُ الصِّفاتُ لِتَناوُلِ عِلمِ ذاتِهِ ، رَدَعَها (6) وهِيَ تَجوبُ مَهاوِيَ سُدَفِ الغُيوبِ مُتَخَلِّصَةً إِلَيهِ سُبحانَهُ. (7)
عنه عليه السلام :العَجزُ عَن دَركِ الإِدراكِ إِدراكٌ . (8)
عنه عليه السلام_ فِي الدّيوانِ المَنسوبِ إِلَيهِ _: كَيفِيَّةُ المَرءِ لَيسَ المَرءُ يُدرِكُها فَكَيفَ كَيفِيَّةُ الجَبّارِ فِي القِدَمِ هُوَ الَّذي أَنشَأَ الأَشياءَ مُبتَدِعا فَكَيفَ يُدرِكُهُ مُستَحدَثُ النَّسَمِ (9)
.
ص: 321
فاطمة عليهاالسلام :الحَمدُ للّهِِ الَّذِي احتَجَبَ عَن كُلِّ مَخلوقٍ يَراهُ بِحَقيقَةِ الرُّبوبِيَّةِ وقُدرَةِ الوَحدانِيَّةِ، فَلَم تُدرِكهُ الأَبصارُ. (1)
الإمام الحسن عليه السلام :لا تُدرِكُ العُقولُ وأَوهامُها ، ولا الفِكَرُ وخَطَراتُها، ولَا الأَلبابُ وأَذهانُها صِفَتَهُ فَتَقولَ : مَتى ؟ ولا بُدِئَ مِمّا ؟ ولا ظاهِرٌ عَلى ما ؟ ولا باطِنٌ فيما ؟ ولا تارِكٌ فَهَلّا (2) ؟ (3)
الإمام الحسين عليه السلام :اِحتَجَبَ عَنِ العُقولِ ، كَمَا احتَجَبَ عَنِ الأَبصارِ . (4)
الإمام زين العابدين عليه السلام_ مِن دُعائِهِ يَومَ عَرَفَةَ _: أَنتَ الَّذي قَصُرَتِ الأَوهامُ عَن ذاتِيَّتِكَ ، وعَجَزَتِ الأَفهامُ عَن كَيفِيَّتِكَ ، ولَم تُدرِكِ الأَبصارُ مَوضِعَ أَينِيَّتِكَ . (5)
عنه عليه السلام_ من دُعائِهِ في صَلاةِ اللَّيلِ _: ضَلَّت فيكَ الصِّفاتُ ، وتَفَسَّخَت دونَكَ النُّعوتُ ، وحارَت في كِبرِيائِكَ لَطائِفُ الأَوهامِ . (6)
عنه عليه السلام_ مِن دُعائِهِ فِي القُنوتِ _: اللّهُمَّ إِنّي دَعَوتُكَ دُعاءَ مَن عَرَفَكَ وتَسَبَّلَ (7) إِلَيكَ ، وآلَ بِجَميعِ بَدَنِهِ إِلَيكَ ، سُبحانَكَ ! طَوَتِ الأَبصارُ في صَنعَتِكَ مَديدَتَها ، وثَنَتِ الأَلبابُ عَن كُنهِكَ أَعِنَّتَها ، فَأَنتَ المُدرِكُ غَيرُ المُدرَكِ ، وَالمُحيطُ غَيرُ المُحاطِ . (8)
.
ص: 322
الإمام الباقر عليه السلام :إِنَّما يُعقَلُ ما كانَ بِصِفَةِ المَخلوقِ ، ولَيسَ اللّهُ كَذلِكَ . (1)
عنه عليه السلام_ لِجابِرٍ الجُعفِيِّ _: يا جابِرُ ، إِنَّ اللّهَ _ تَبارَكَ وتَعالى _ لا نَظيرَ لَهُ ولا شَبيهَ ، تَعالى عَن صِفَةِ الواصِفينَ ، وجَلَّ عَن أَوهامِ المُتَوَهِّمينَ ، وَاحتَجَبَ عَن أَعيُنِ النّاظِرينَ ، لا يَزولُ مَعَ الزّائِلينَ ، ولا يَأفِلُ مَعَ الآفِلينَ ، لَيسَ كَمَثلِهِ شَيءٌ وهُوَ السَّميعُ العَليمُ . (2)
الإمام الصادق عليه السلام :إِنَّ اللّهَ _ تَبارَكَ وتَعالى _ لا تُقَدَّرُ قُدرَتُهُ ، ولا يَقدِرُ العِبادُ عَلى صِفَتِهِ ، ولا يَبلُغونَ كُنهَ عِلمِهِ ولا مَبلَغَ عَظَمَتِهِ ، ولَيسَ شَيءٌ غَيرَهُ ، هُوَ نورٌ لَيسَ فيهِ ظُلمَةٌ ، وصِدقٌ لَيسَ فيهِ كِذبٌ ، وعَدلٌ لَيسَ فيهِ جَورٌ ، وحَقٌّ لَيسَ فيهِ باطِلٌ ، كَذلِكَ لَم يَزَل ولا يَزالُ أَبَدَ الآبِدينَ . (3)
الإمام الكاظم عليه السلام :إِنَّهُ لا تُقَدِّرُهُ العُقولُ ، ولا تَقَعُ عَلَيهِ الأَوهامُ . (4)
الإمام الرضا عليه السلام :لا تَضبُطُهُ العُقولُ ، ولا تَبلُغُهُ الأَوهامُ ، ولا تُدرِكُهُ الأَبصارُ ، ولا يُحيطُ بِهِ مِقدارٌ . عَجَزَت دونَهُ العِبارَةُ ، وكَلَّت دونَهُ الأَبصارُ ، وضَلَّ فيهِ تَصاريفُ الصِّفاتِ . اِحتَجَبَ بِغَيرِ حِجابٍ مَحجوبٍ ، وَاستَتَرَ بِغَيرِ سِترٍ مَستورٍ ، عُرِفَ بِغَيرِ رُؤيَةٍ ، ووُصِفَ بِغَيرِ صورَةٍ . (5)
.
ص: 323
عنه عليه السلام :ما تَوَهَّمتُم مِن شَيءٍ فَتَوَهَّمُوا اللّهَ غَيرَهُ . (1)
الإمام الجواد عليه السلام :رَبُّنا _ تَبارَكَ وتَعالى _ لا شِبهَ لَهُ ولا ضِدَّ ولا نِدَّ ، ولا كَيفَ ولا نِهايَةَ ولا تَبصارَ بَصَرٍ ، ومُحَرَّمٌ عَلَى القُلوبِ أَن تُمَثِّلَهُ ، وعَلَى الأَوهامِ أَن تَحُدَّهُ ، وعَلَى الضَّمائِرِ أَن تُكَوِّنَهُ ، جَلَّ وعَزَّ عَن أَداةِ خَلقِهِ وسِماتِ بَرِيَّتِهِ ، وتَعالى عَن ذلِكَ عُلُوّا كَبيرا . (2)
الإمام الهادي عليه السلام :إِلهي تاهَت أَوهامُ المُتَوَهِّمينَ ، وقَصُرَ طَرفُ الطارِفينَ ، وتلاشَت أَوصافُ الواصِفينَ ، واَضمَحَلَّت أَقاويلُ المُبطِلينَ عَنِ الدَّركِ لِعَجيبِ شَأنِكَ ، أَوِ الوُقوع بِالبُلوغِ إِلى عُلُوِّكَ . (3)
8 / 5النَّهيُ عَنِ التَّفَكُّرِ في ذاتِهرسول اللّه صلى الله عليه و آله_ في قَولِهِ تَعالى : «وَ أَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى» (4) _: لا فِكرَةَ فِي الرَّبِّ . (5)
الإمام الصادق عليه السلام :إِنَّ اللّهَ عز و جل يَقولُ : «وَ أَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى» ، فَإِذَا انتَهَى الكَلامُ إِلَى اللّهِ فَأَمسِكوا . (6)
.
ص: 324
رسول اللّه صلى الله عليه و آله :تَفَكَّروا في خَلقِ اللّه ولا تَفَكَّروا فِي اللّهِ فَتَهلِكوا . (1)
عنه صلى الله عليه و آله :تَفَكَّروا في آلاءِ اللّهِ ولا تَتَفَكَّروا فِي اللّهِ . (2)
عنه صلى الله عليه و آله :تَفَكَّروا في كُلِّ شَيءٍ ، ولا تَفَكَّروا فِي اللّهِ تَعالى . (3)
تنبيه الخواطر عن ابن عبّاس :إِنَّ قَوما تَفَكَّروا فِي اللّهِ عز و جل ، فَقالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله : تَفَكَّروا في خَلقِ اللّهِ ولا تَفَكَّروا فِي اللّهِ ؛ فَإِنَّكُم لَن تُقَدِّروا قَدرَهُ . (4)
العظمة عن ابن عبّاس :دَخَلَ عَلَينا رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ونَحنُ فِي المَسجِدِ حَلَقٌ ، قالَ لَنا رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : فيمَ أَنتُم ؟ قُلنا : نَتَفَكَّرُ فِي الشَّمسِ كَيفَ طَلَعَت ، وكَيفَ غَرَبَت . قالَ: أَحسَنتُم! كونوا هكَذا، تَفَكَّروا فِيالمَخلوقِ ولاتَفَكَّروا فِيالخالِقِ. (5)
الإمام عليّ عليه السلام :مَن تَفَكَّرَ في ذاتِ اللّهِ أَلحَدَ . (6)
عنه عليه السلام :مَن أَفكَرَ في ذاتِ اللّهِ تَزَندَقَ (7) . (8)
.
ص: 325
الإمام الباقر عليه السلام :إِيّاكُم وَالتَّفَكُّرَ فِي اللّهِ ، ولكِن إِذا أَرَدتُم أَن تَنظُروا إِلى عَظَمَتِهِ فَانظُروا إِلى عَظيمِ خَلقِهِ . (1)
عنه عليه السلام :تَكَلَّموا في خَلقِ اللّهِ ولا تَتَكَلَّموا فِي اللّهِ ؛ فَإِنَّ الكَلامَ فِي اللّهِ لا يَزدادُ صاحِبُهُ إِلّا تَحَيُّرا . (2)
عنه عليه السلام :تَكَلَّموا فيما دونَ العَرشِ ولا تَكَلَّموا فيما فَوقَ العَرشِ ؛ فَإِنَّ قَوما تَكَلَّموا فِي اللّهِ عز و جل فَتاهوا حَتّى كانَ الرَّجُلُ يُنادى مِن بَينِ يَدَيهِ فَيُجيبُ مِن خَلفِهِ ، ويُنادى مِن خَلفِهِ فَيُجيبُ مِن بَينَ يَدَيهِ . (3)
عنه عليه السلام :اُذكُروا مِن عَظَمَةِ اللّهِ ما شِئتُم ولا تَذكُروا ذاتَهُ ؛ فَإِنَّكُم لا تَذكُرونَ مِنهُ شَيئا إِلّا وهُوَ أَعظَمُ مِنهُ . (4)
عنه عليه السلام :دَعُوا التَّفَكُّرَ فِي اللّهِ؛ فَإِنَّ التَّفَكُّرَ فِي اللّهِ لا يَزيدُ إِلّا تَيها ؛ لِأَنَّ اللّهَ _ تَبارَكَ وتَعالى _ لا تُدرِكُهُ الأَبصارُ ولا تَبلُغُهُ الأَخبارُ . (5)
الإمام الصادق عليه السلام :إِيّاكُم وَالتَّفَكُّرَ فِي اللّهِ؛ فَإِنَّ التَّفَكُّرَ فِي اللّهِ لا يَزيدُ إِلّا تَيهاً ؛ لِأَنَّ اللّهَ عز و جل لا تُدرِكُهُ الأَبصارُ ولا يوصَفُ بِمِقدارٍ . (6)
.
ص: 326
عنه عليه السلام :مَن نَظَرَ فِي اللّهِ كَيفَ هُوَ هَلَكَ . (1)
راجع : ص 375 ح 3934 .
8 / 6النَّهيُ عَنِ التعمّق في صفتهالإمام عليّ عليه السلام :أُنظُر أَيُّهَا السَّائِلُ ؛ فَما دَلَّكَ القُرآنُ عَلَيهِ مِن صِفَتِهِ فَائتَمَّ بِهِ ، وَاستَضِئ بِنورِ هِدايَتِهِ ، وما كَلَّفَكَ الشَّيطانُ عِلمَهُ مِمّا لَيسَ فِي الكِتابِ عَلَيكَ فَرضُهُ ولا في سُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله وأَئِمَّةِ الهُدى أَثَرُهُ ، فَكِل عِلمَهُ إِلَى اللّهِ سُبحانَهُ ؛ فَإِنَّ ذلِكَ مُنتَهى حَقِّ اللّهِ عَلَيكَ . وَاعلَم أَنَّ الرّاسِخينَ فِي العِلمِ هُمُ الَّذينَ أَغناهُم عَنِ اقتِحام السُّدَدِ المَضروبَةِ دونَ الغُيوبِ ، الإِقرارُ بِجُملَةِ ما جَهِلوا تَفسيرَهُ مِنَ الغَيبِ المَحجُوبِ ، فَمَدَحَ اللّهُ تَعالى اعتِرافَهُم بِالعَجزِ عَن تَناوُلِ ما لَم يُحيطوا بِهِ عِلما ، وسَمّى تَركَهُمُ التَّعَمُّقَ فيما لَم يُكَلِّفهُمُ البَحثَ عَن كُنهِهِ رُسوخا . فَاقتَصِر عَلى ذلِكَ ، ولا تُقَدِّر عَظَمَةَ اللّهِ سُبحانَهُ عَلى قَدرِ عَقلِكَ فَتَكونَ مِنَ الهالِكينَ . (2)
عنه عليه السلام :الكُفرُ عَلى أَربَعِ دَعائِمَ : عَلَى التَّعَمُّقِ ، وَالتَّنازُعِ ، وَالزَّيغِ ، وَالشِّقاقِ؛ فَمَن تَعَمَّقَ لَم يُنِب إِلَى الحَقِّ . . . (3) .
.
ص: 327
الإمام زين العابدين عليه السلام_ كانَ إِذا قَرَأَ هذِهِ الآيَةَ : «وَ إِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا» (1) يقولُ _: سُبحانَ مَن لَم يَجعَل في أَحَدٍ مِن مَعرِفَةِ نِعَمِهِ إِلّا المَعرِفَةَ بِالتَّقصيرِ عَن مَعرِفَتِها ، كَما لَم يَجعَل في أَحَدٍ مِن مَعرِفَةِ إِدراكِهِ أَكثَرَ مِنَ العِلمِ أَنَّهُ لا يُدِركُهُ ، فَشَكَرَ _ جَلَّ وعَزَّ _ مَعرِفَةَ العارِفينَ بِالتَّقصيرِ عَن مَعرِفَةِ شُكرِهِ فَجَعَلَ مَعرِفَتَهُم بِالتَّقصيرِ شُكرا ، كَما عَلِمَ عِلمَ العالِمينَ أَنَّهُم لا يُدرِكونَهُ فَجَعَلَهُ إِيمانا ، عِلما مِنهُ أَنَّهُ قَدَّ وُسعِ العِبادِ فَلا يَتجاوَزُ ذلِكَ . (2)
الكافي عن عاصم بن حميد :سُئِلَ عَلِيُّ بنُ الحُسَينِ عليهماالسلام عَنِ التَّوحيدِ فَقالَ : إِنَّ اللّهَ عز و جل عَلِمَ أَنَّهُ يَكونُ في آخِرِ الزَّمانِ أَقوامٌ مُتَعَمِّقونَ ، فَأَنزَلَ اللّهُ تَعالى «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ » (3) وَالآياتِ مِن سورَةِ الحَديدِ إِلى قَولِهِ : «وَ هُوَ عَلِيم بِذَاتِ الصُّدُورِ» (4) ، فَمَن رامَ وَراءَ ذلِكَ فَقَد هَلَكَ . (5)
.
ص: 328
. .
ص: 329
كلام حول معنى «التعمّق» في معرفة اللّهوَهِمَ عددٌ من كبار أُولي العرفان في تفسير الحديث الذي نقله المرحوم الكليني رحمه اللهعن الإمام زين العابدين عليه السلام حول «التعمّق» غافلين عن معناه في اللغة والأَحاديث المأثورة ، فقد فسّروا كلامه عليه السلام : «إِنَّ اللّهَ عز و جل عَلِمَ أَنَّهُ يَكونُ في آخِرِ الزَّمانِ أَقوامٌ مُتَعَمِّقونَ ، فَأَنزَلَ اللّهُ تَعالى «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ » وَالآياتِ مِن سورَةِ الحَديدِ إِلى قَولِهِ: «وَ هُوَ عَلِيم بِذَاتِ الصُّدُورِ» ، فَمَن رامَ وَراءَ ذلِكَ فَقَد هَلَكَ» (1) . بأنّه لمّا كان اللّه تعالى يعلم بأنّ أُناسا سوف يأتون في آخر الزمان يستقصون و يتمعّنون ، أَنزل سورة التوحيد والآيات الأُولى من سورة الحديد ، و بهذا البيان استخرجوا مدح أَهل العرفان في آخر الزمان و طبّقوا الحديث المذكور على ما فهموهُ من التوحيد ، بيد أَنّ مراجعةً للمصادر الأَصيلة في اللغة والحديث التي وردت فيها كلمة «التعمّق» ، والتدقيق في ذيل كلامه عليه السلام يجعلان الباحث يوقن بأنّ فهمهم للحديث المذكور غير سديد قطعا ، وتوضيح ذلك
.
ص: 330
فيما يلي :
1 . «التعمّق» في اللّغةقال الخليل بن أَحمد الفراهيديّ: «المتعمّق: المبالغ في الأَمر المتشدّد فيه ، الذي يطلب أَقصى غايته»، (1) ومثله عن ابن منظور في لسان العرب. (2) وفي ضوء ذلك نلاحظ أَنّ غاية الجهد لبلوغ العمق وأَقصى الشيء يُسمّى في اللغة تعمّقا .
2 . الأَحاديث التي تناولت كلمة «التعمّق»إِنّ التنقيب في مواضع استعمال كلمة «التعمّق» في الأَحاديث المنقولة في مصادر الفريقين لا يُريب الباحث في أَنّ القصد من هذه الكلمة في الثقافة الإسلاميّة هو الإفراط ، والتطرّف ، والخروج من حدّ الاعتدال ، ويمكن أَن نقسّم هذه الأَحاديث إِلى أَربعة أَقسام :
أ _ مدح ترك التعمّق في صفات اللّهالطائفة الأُولى : الأَحاديث التي تصف الراسخين في العلم وتُثني على تركهم التعمّق في صفات اللّه ، بل في جميع القضايا الغيبيّة ، مثل قول أَمير المؤمنين عليّ بن أَبي طالب عليه السلام : «فَمَدَحَ اللّهُ تَعالَى اعتِرافَهُم بِالعَجزِ عَن تَناوُلِ ما لَم يُحيطوا بِهِ عِلما ، وسَمّى تَركَهُمُ التَّعَمُّقَ فيما لَم يُكَلِّفهُمُ البَحثَ عَن كُنهِهِ رُسوخا» (3) .
.
ص: 331
ولهذه الأَحاديث أَهمّيّة خاصّة في هذا المبحث لاتّساقها والقرآن الكريم .
ب _ خطر مطلق التعمّقالطائفة الثانية : الأَحاديث التي تصف مطلق التعمّق بالخطر كالذي أُثر عن الإمام أَمير المؤمنين عليه السلام من عدّه التعمّق دعامة من دعائم الكفر: «الكُفرُ عَلى أَربَعِ دَعائِمَ: عَلَى التَّعَمُّقِ ... فَمَن تَعَمَّقَ لَم يُنِب إِلَى الحَقِّ». (1)
ج _ التحذير من التعمّق في الدِّينالطائفة الثالثة : الأَحاديث التي حذّرت من التطرّف في قضايا الدين الفرعيّة نحو قوله صلى الله عليه و آله : «إِيّاكُم وَالتَّعَمُّقَ فِي الدّينِ ! فَإِنَّ اللّهَ تَعالى قَد جَعَلَهُ سَهلاً ، فَخُذوا مِنهُ ما تُطيقونَ ...» (2) . وقول الإمام الكاظم عليه السلام : «لا تَعَمُّقَ فِي الوُضوءِ» (3) . وقال العلّامة المجلسيّ في بيان هذه الرواية : «أَي : بإكثار الماء ، أَو بالمبالغة كثيرا في إِيصال الماء زائدا عن الإسباغ المطلوب» (4) .
.
ص: 332
د _ عاقبة التعمّق في الدِّينالطائفة الرابعة : الأَحاديث التي ترى أَنّ عاقبة التطرّف والإفراط الدِّينيّ هي الخروج من الدِّين ، كما نقل عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله قوله: «إنَّ أقواما يَتَعَمَّقونَ فِي الدّينِ يَمرُقونَ كَما يَمرُقُ السَّهمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ». (1) ونلاحظ في ضوء ما تقدّم أَنّ التعمّق في معرفة اللّه والشؤون الدِّينيّة ، كما تفيده ثقافة الحديث في الإسلام ليس فحسب ، بل محظورٌ مذمومٌ أَيضا . وما ورد في كلام الإمام زين العابدين عليه السلام «إِنّ أقواما سَيَتَعَمَّقونَ في آخِرِ الزَّمانِ» يعبّر عن انحرافهم العقيديّ ، إِذ أنّ اللّه تعالى أَنزل سورة التوحيد والآيات الأُولى من سورة الحديد لئلّا يعمّ انحرافهم . إِنّ ما جاء في ذيل كلام الإمام عليه السلام إِذ قال: «فَمَن رامَ وَراءَ ذلِكَ هَلَكَ» يدلّ على أَنّ المسلمين يجب أَن يكتفوا في معرفة صفات اللّه ، بماورد في هذه الآيات وما وضّحه أَهل البيت عليهم السلام في هذا المجال ، ولا يسبروا الغور في المباحث التي لا يبلغ عُمقَها فكرهم (2) ، فلا عاقبة للتعمّق في ذات اللّه سبحانه وصفاته إِلّا الهلاك .
راجع : ج 2 ص 158 (خطر التعمّق) .
.
ص: 333
الفصل التاسع: ما ورد في حجب اللّه9 / 1لا حِجابَ بَينَ اللّهِ وبَينَ خَلقِهِالإمام عليّ عليه السلام_ في صِفَةِ الخالِقِ جَلّ وعَلا _: لا شَبَحٌ فيُتَقَصّى ، ولا مَحجوبٌ فَيُحوى . (1)
عنه عليه السلام_ في جَوابِ مَن قالَ لَهُ كَيفَ رَأيتَ رَبَّكَ _: بِمُقارَنَتِهِ بَينَ الأَشياءِ عُرِفَ أَن لا قَرينَ لَهُ . . . حَجَبَ بَعضَها عَن بَعضٍ لِيُعلَمَ أَن لا حِجابَ بَينَهُ وبَينَ خَلقِهِ . (2)
التوحيد عن الحارث الأعور عن الإمام عليّ عليه السلام :أَنَّهُ دَخَلَ السّوقَ ، فَإِذا هُوَ بِرَجُلٍ مُوَلّيهِ ظَهرَهُ يَقولُ : لا وَالَّذِي احتَجَبَ بِالسَّبعِ . فَضَرَبَ عَلِيٌّ عليه السلام ظَهرَهُ ، ثُمَّ قالَ : مَنِ الَّذِي احتَجَبَ بِالسَّبعِ ؟ قالَ : اللّهُ يا أَميرَ المُؤمِنينَ .
.
ص: 334
قالَ : أَخطَأتَ ثَكَلَتكَ أُمُّكَ ! إِنَّ اللّهَ عز و جل لَيسَ بَينَهُ وبَينَ خَلقِهِ حِجابٌ ؛ لِأَنَّهُ مَعَهُم أَينَما كانوا . قال : ما كَفّارَةُ ما قُلتُ يا أَميرَ المُؤمِنينَ ؟ قالَ : أن تَعلَمَ أنَّ اللّهَ مَعَكَ حَيثُ كُنتَ . قالَ : أُطعِمُ المَساكينَ ؟ قالَ : لا ، إِنَّما حَلَفتَ بِغَيرِ رَبِّكَ . (1)
الإمام الصادق عليه السلام :مَن زَعَمَ أَنَّهُ يَعرِفُ اللّهَ بِحِجابٍ أَو بِصورَةٍ أَو بِمِثالٍ فَهُوَ مُشرِكٌ ؛ لِأَنَّ حِجابَهُ ومِثالَهُ وصورَتَهُ غَيرُهُ . (2)
الكافي عن ابن أَبي العوجاء :قُلتُ لَهُ [ أَي الإمامِ الصادِقِ عليه السلام ] : ... ولِمَ احتَجَبَ عَنهُم وأَرسَل إِلَيهِمُ الرُّسُلَ ؟ ولو باشَرَهُم بِنَفسِهِ كانَ أَقرَبَ إِلَى الإِيمانِ بِهِ ؟ فَقالَ لي : وَيلَكَ ! وكَيفَ احتَجَبَ عَنكَ مَن أَراكَ قُدرَتَهُ في نَفسِكَ ؛ نُشوءَكَ ولَم تَكُن ، وكِبَرَكَ بَعدَ صِغَرِكَ ، وقُوَّتَكَ بَعدَ ضَعفِكَ وضَعفَكَ بَعدَ قُوَّتِكَ ، وسُقمَكَ بَعدَ صِحَّتِكَ وصِحَّتَكَ بَعدَ سُقمِكَ ، ورِضاكَ بَعدَ غَضَبِكَ وغَضَبَكَ بَعدَ رِضاكَ ، وحُزنَكَ بَعدَ فَرَحِكَ وفَرَحَكَ بَعدَ حُزنِكَ ، وحُبَّكَ بَعدَ بُغضِكَ وبُغضَكَ بَعدَ حُبِّكَ ، وعَزمَكَ بَعدَ أَناتِكَ وأَناتَكَ بَعدَ عَزمِكَ ، وشَهوَتَكَ بَعدَ كَراهَتِكَ وكَراهَتَكَ بَعدَ شَهوَتِكَ ، ورَغبَتَكَ بَعدَ رَهبَتِكَ ورَهبَتَكَ بَعدَ رَغبَتِكَ ، ورَجاءَكَ بَعدَ يَأسِكَ ويَأسَكَ بَعدَ رَجائِكَ ، وخاطِرَكَ بِما لَم يَكُن في وَهمِكَ ، وعُزوبَ ما أَنتَ مُعتَقِدُهُ عَن ذِهنِكَ ، وما زالَ يُعَدِّدُ عَلَيَّ قُدرَتَهُ الَّتي هِيَ في
.
ص: 335
نَفسِيَ الَّتي لا أَدفَعُها حَتّى ظَنَنتُ أَنَّهُ سَيَظهَرُ فيما بَيني وبَينَهُ . (1)
9 / 2مَحجوبٌ بَغَيرِ حِجابٍالإمام الكاظم عليه السلام :لَيسَ بَينَهُ وبَينَ خَلقِهِ حِجابٌ غَيرُ خَلقِهِ ، احتَجَبَ بِغَيرِ حِجابٍ مَحجوبٍ ، وَاستَتَرَ بِغيرِ سِترٍ مَستورٍ . (2)
الإمام الرضا عليه السلام :اِحتَجَبَ بِغَيرِ حِجابٍ مَحجوبٍ ، وَاستَتَر بِغَيرِ سِترٍ مَستورٍ . (3)
9 / 3لا حِجابَ بَينَهُ وبَينَ خَلقِهِ غَيرَ خَلقِهِالإمام عليّ عليه السلام_ في جَوابِ مَن قالَ لَهُ : كَيفَ رأيتَ رَبَّكَ؟ _: بِمُقارَنَتِهِ بَينَ الأَشياءِ عُرِفَ أَن لا قَرينَ لَهُ . . . حَجَبَ بَعضَها عَن بَعضٍ ، لِيُعلَمَ أَن لا حِجابَ بَينَهُ وبَينَ خَلقِهِ غَيرَ خَلقِهِ . (4)
عنه عليه السلام :لا تَشمُلُهُ المَشاعِرُ ، ولا تَحجُبُهُ الحُجُبُ ، وَالحِجابُ بَينَهُ وبَينَ خَلقِه خَلقُهُ إِيّاهُم ؛ لِامتِناعِهِ مِمّا يُمكِنُ في ذَواتِهِم ، ولِاءمكانٍ مِمّا يَمتَنِعُ مِنهُ ، ولِافتِراقِ الصّانِعِ
.
ص: 336
مِنَ المَصنوعِ ، وَالحادِّ مِنَ المَحدودِ ، وَالرَّبِّ مِنَ المَربوبِ . (1)
الإمام الرضا عليه السلام :خَلقُ اللّهِ الخَلقَ حِجابٌ بَينَهُ وبَينَهُم ، ومُبايَنَتُهُ إِيّاهُم مُفارَقَتُهُ إِنِّيَّتَهُم . (2)
9 / 4حِجابُهُ النُّورُالكتاب«وَ هُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى » . (3)
«يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ » . (4)
الحديثالإمام زين العابدين عليه السلام_ في قَولِهِ تَعالى : . . . «ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى» _: ذاكَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله دَنا مِن حُجُبِ النُّورِ ، فَرَأَى مَلَكوتَ السَّماواتِ ، ثُمَّ تَدَلّى صلى الله عليه و آله ، فَنَظَرَ مِن تَحتِهِ إِلى مَلَكوتِ الأَرضِ حَتّى ظَنَّ أَنَّهُ فِي القُربِ مِنَ الأَرضِ كَقابِ قَوسَينِ أَو أَدنى . (5)
.
ص: 337
الإمام الرضا عليه السلام_ في قَولِهِ عز و جل : «يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ» _: حِجابٌ مِن نُورٍ يُكشَفُ فَيَقَعُ المُؤمِنونَ سُجَّدا . (1)
رسول اللّه صلى الله عليه و آله :إِنَّ اللّهَ عز و جل ... حِجابُهُ النّورُ ، لَو كَشَفَهُ لَأَحرَقَت سُبُحاتُ وَجهِهِ مَا انتَهى إِلَيهِ بَصَرُهُ مِن خَلقِهِ (2) . (3)
عنه صلى الله عليه و آله_ فِي الدُّعاءِ _: اللّهُمَّ إِنّي أَسأَ لُكَ يا مَنِ احتَجَبَ بِشُعاعِ نورِهِ عَن نَواظِرِ خَلقِهِ ، يا مَن تَسَربَلَ بِالجَلالِ وَالعَظَمَةِ ، وَاشتَهَرَ بِالتَّجَبُّرِ في قُدسِهِ . (4)
عنه صلى الله عليه و آله :الحَمدِ للّهِِ . . . وهُوَ الكَينونُ أَوَّلاً ، والدَّيمومُ أَبدا المُحتَجِبُ بِنورِهِ دونَ خَلقِهِ ، فِي الأُفُقِ الطَّامِحِ ، وَالعِزِّ الشَّامِخِ ، وَالمُلكِ الباذِخِ ، فَوقَ كُلِّ شَيءٍ عَلا ، ومِن كُلِّ شَيءٍ دَنا ، فَتَجَلّى لِخَلقِهِ مِن غَيرِ أَن يَكونَ يُرى ، وهُوَ بِالمَنظَرِ الأَعلى ، فَأَحَبَّ الاِختِصاصَ بِالتَّوحيدِ ؛ إِذِ احتَجَبَ بِنُورِهِ ، وسَما في عُلُوِّهِ ، واستَتَرَ عَن خَلقِهِ ، وبَعَثَ إِلَيهِمُ الرُّسُلَ ؛ لِتَكونَ لَهُ الحُجَّةُ البالِغَةُ عَلى خَلقِهِ ، ويَكونَ رُسُلُهُ إِلَيهِم شُهداءَ عَلَيهِم ، وَابتَعَثَ فيهِمُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرينَ ومُنذِرينَ ، لِيَهلِكَ مَن هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ، ويَحيا مَن حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ، ولِيَعقِلَ العِبادُ عَن رَبِّهِم ما جَهِلوهُ ، فَيَعرِفوهُ بِرُبوبِيَّتِهِ بَعدَ ما أَنكَروا ، ويُوَحِّدوهُ
.
ص: 338
بِالإِلهِيَّةِ بَعدَما عَضَدوا . (1)
الإمام عليّ عليه السلام_ في مُناجاتِهِ في شَهرِ شَعبانَ _: إِلهي هَب لي كَمالَ الاِنقِطاعِ إِلَيكَ ، وأَنِر أَبصارَ قُلوبِنا بِضِياءِ نَظَرِها إِلَيكَ ، حَتّى تَخرِقَ أَبصارُ القُلوبِ حُجُبَ النّورِ، فَتَصِلَ إِلى مَعدِنِ العَظَمَةِ، وتَصيرَ أَرواحُنا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدسِكَ. (2)
التوحيد عن يونس بن عبد الرحمن :قُلتُ لِأَبِي الحَسَنِ موسَى بنِ جَعفَرٍ عليهماالسلام : لِأَيِّ عِلَّةٍ عَرَجَ اللّهُ بِنَبِيِّهِ صلى الله عليه و آله إِلَى السَّماءِ ، ومِنها إِلى سِدرَةِ المُنتَهى ، ومِنها إِلى حُجُبِ النُّورِ ، وخاطَبَهُ وناجاهُ هُناكَ وَاللّهُ لا يُوصَفُ بِمَكانٍ ؟ فَقالَ عليه السلام : إِنَّ اللّهَ _ تَبارَكَ وتَعالى _ لا يُوصَفُ بِمَكانٍ ولا يَجري عَلَيهِ زَمانٌ ، ولكِنَّهُ عز و جل أَرادَ أَن يُشَرِّفَ بِهِ مَلائِكَتَهُ وسُكّانَ سَماواتِهِ ، ويُكرِمَهُم بِمُشاهَدَتِهِ ، ويُرِيَهُ مِن عَجائِبِ عَظَمَتِهِ ما يُخبِرُ بِهِ بَعدَ هُبوطِهِ ، ولَيسَ ذلِكَ عَلى ما يَقولُ المُشَبِّهونَ ، سُبحانَ اللّهِ وتَعالى عَمّا يُشرِكونَ . (3)
9 / 5حِجابُهُ النُّورُ وَالظُّلمَةُرسول اللّه صلى الله عليه و آله :إِنَّ اللّهَ عز و جل دونَ سَبعينَ أَلفَ حِجابٍ مِن نورٍ وظُلمَةٍ ، وما يَسمَعُ مِن نَفسٍ
.
ص: 339
شَيئا من حِسِّ تِلكَ الحُجُبِ إِلّا زَهَقَت . (1)
عنه صلى الله عليه و آله :إِنَّ بَينَ اللّهِ وبَينَ خَلقِهِ سَبعينَ (تِسعينَ) (2) أَلفَ حِجابٍ ، وأَقرَبُ الخَلقِ إِلَى اللّهِ أَنَا وإِسرافيلُ ، وبَينَنا وبَينَهُ أَربَعَةُ حُجُبٍ ، حِجابٌ مِن نُورٍ ، وحِجابٌ مَن ظُلمَةٍ ، وحِجابٌ مِنَ الغَمامِ ، وحِجابٌ مِنَ الماءِ . (3)
عوالي اللآلي :رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله أَنَّهُ قالَ : إِنَّ للّهِِ سَبعينَ حِجابا . وفي رِوايَةٍ أُخرى : سَبعَمِئَةِ حِجابٍ . وفي أُخرى : سَبعينَ أَلفَ حِجابٍ مِن نُورٍ وظُلمَةٍ ، لَو كَشَفَها عَن وَجهِهِ لَاحتَرَقَت (4) سُبُحاتُ وَجهِهِ ما أَدرَكَهُ بَصَرُهُ مِن خَلقِهِ . (5)
الإمام زين العابدين عليه السلام_ في مُناجاتِهِ _: اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ، وَاجعَلنا مِنَ الَّذين فَتَقتَ لَهُم رَتقَ عَظيمِ غَواشي جُفونِ حَدَقِ عُيونِ القُلوبِ ، حَتّى نَظَروا إِلى تَدبيرِ حِكمَتِكَ وشَواهِدِ حُجَجِ بَيِّناتِكَ ، فَعَرَفوكَ بِمَحصولِ فِطَنِ القُلوبِ ، وأَنتَ في غَوامِضِ سُتُراتِ حُجُبِ القُلوبِ ، فَسُبحانَكَ أَيُّ عَينٍ تَقومُ بِها نُصبَ نُورِكَ ، أَم تَرقَأُ إِلى نورِ ضِياءِ قُدسِكَ ؟ أَو أَيُّ فَهمٍ يَفهَمُ ما دونَ ذلِكَ إِلَا الأَبصارَ الَّتي كَشَفتَ عَنها حُجُبَ العَمِيَّةِ ، فَرَقَت أَرواحُهُم عَلى أَجنِحَةِ المَلائِكَةِ ، فَسَمّاهُم أَهلُ المَلَكوتِ
.
ص: 340
زُوّارا ، وأَسماهُم أَهلُ الجَبَروتِ عُمّارا ، فَتَرَدَّدوا في مَصافِّ المُسَبِّحينَ ، وتَعَلَّقوا بِحِجابِ القُدرَةِ ، وناجَوا رَبَّهُم عِندَ كُلِّ شَهَوةٍ ، فَحَرَّقَت (1) قُلوبُهُم حُجُبَ النُّورِ ، حَتّى نَظَروا بِعَينِ القُلوبِ إِلى عِزِّ الجَلالِ في عِظَمِ المَلَكوتِ ، فَرَجَعَتِ القُلوبُ إِلَى الصُّدورِ عَلَى النِّيّاتِ بِمَعرِفَةِ تَوحيدِكَ ، فَلا إِلهَ إِلّا أَنتَ وَحدَكَ لا شَريكَ لَكَ ، تَعالَيتَ عَمّا يَقولُ الظّالِمونَ عُلُوّا كَبيرا . (2)
.
ص: 341
نظرة على روايات الحجبإِنّ ما رُوي في حجب اللّه تعالى ينقسم _ كما لوحظ _ إِلى خمسة أَقسام هي : الأَوّل : الروايات التي تؤكّد انعدام الحجاب بين اللّه والخلق ، وهذه الروايات تشير إِلى صفته سبحانه و تعالى بالظاهر ، وقد تمّ تبيينها في عدد من الروايات ، كما يأتي : «الظّاهِر لِقُلوبِهِم بِحُجَّتِهِ» (1) . «الظّاهِر بِعجائِبِ تَدبيرِهِ لِلنّاظِرينَ» (2) . الثاني : الروايات التي تدلّ على أَنّ اللّه _ جلّ شأنه _ محجوب مع أَنّه لا حجاب له ، وهي تشير إِلى صفته _ جلّ وعلا _ بالباطن ، كما جاء توضيحه في كلام الإمام أَمير المؤمنين عليه السلام إِذ قال: «الباطِن بِجَلالِ عِزَّتِهِ عَن فِكرِ المُتَوَهِّمينَ» 3 . الثالث : الروايات التي تدلّ على أَنّ الحجاب بين اللّه والخلق يتمثّل في كَونهم مخلوقين ، إِذ من المحال أَن يُحيط المخلوق المحدود بالخالق الذي لا حدود له ، فضلاً عن أَنّ جميع الأَحاديث التي مرّت في الباب الرابع من هذا الفصل تدلّ على
.
ص: 342
هذا المعنى أَيضا . (1) الرابع : الروايات التي تعبّر عن حجاب اللّه _ عزّ وجلّ _ بالنّور . ولعلّ المراد من الحجب النورانيّة _ كما قيل _ رؤية العابد عبادة نفسه ، فإنّ العبادة نور ، لكن إِنْ رآها السالك يُصَب بنوع من الأَنانية التي تحجب المعرفة الشهودية. وقيل : إِنّ المراد بالحجب النورانيّة ، المخلوقات الأَفضل ، بمعنى أَنّ كلّ مخلوق أَفضل يحجب ما دونه ؛ لأَنّه واسطة الفيض إِليه . ولكن لا يستقيم هذا الاحتمال مع ما مرّ من الأَحاديث في هذا الشأَن ، فتأَمّل . إِذا ، يتيسّر لنا أَن نقول : إِنّ المراد من خرق حجب النُّور بأَبصارُ القلوب الوارد في المناجاة الشعبانيّة : «وأنِر أَبصارَ قُلوبِنا بِضِياءِ نَظَرِها إِلَيكَ حَتّى تَخرِقَ أَبصارُ القُلوبِ حُجُبَ النّورِ فَتَصِلَ إلى مَعدِنِ العَظَمَةِ ...» هو أَنّ السالك في سلوكه إِلى اللّه يبلغ نقطةً تُماط فيها حجب الأَنانيّة كلّها نتيجة لشدّة حبّ اللّه سبحانه فلا يَرَى شيئا إِلّا اللّه سبحانه وتعالى ، وكما قال الشاعر الفارسيّ حافظ الشيرازيّ ما تعريبه : لا حجاب بين العاشق والمعشوق فنفسك هي الحجاب يا حافظ فأزحها وهذه المرحلة من معرفة اللّه وإِن كانت تمثّل أَعلى منازل السلوك وأَسمى درجات المعرفة لكنّها لا تعني إِحاطة المخلوق بالخالق ومعرفة كنه اللّه سبحانه قطعا ، من هنا فإنّ سيد المرسلين وإمام أَهل المعرفة أجمعين إِذ يصرح على أنّ معرفة الكنه غير ميسّرة له أَيضا ، يقول:
.
ص: 343
«اللّهُ أعلى وأجَلُّ أن يَطَّلِعَ أَحَدٌ عَلى كُنهِ مَعرِفَتِهِ» . (1) وقال أَيضا : «يامَن لا يَعلَمُ ما هُوَ إلّا هُوَ» . (2) وقال كذلك: «سُبحانَكَ ما عَرَفناكَ حَقَّ مَعرِفَتِكَ» . (3) الخامس : الروايات التي تقسم حجب اللّه تعالى إِلى حجب نورانيّة وظلمانيّة ، وأَشرنا قبل ذلك إِلى المعنى المحتمَل للحجبِ النورانيّة، (4) أَمّا القصد من الحجب الظلمانيّة فهو _ على ما يبدو _ الصدأَ الذي يرين على البصائر ويحول دون معرفة اللّه بسبب الأَعمال غير الصالحة ، كما جاء في القرآن الكريم : «كَلَا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * كَلَا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ» (5) . وسيأتي شرح هذه الموانع في الفصل العاشر . ويقول الشاعر حافظ الشيرازيّ مشيرا إِلى هذه الحجب ما تعريبه : لا نقاب ولا حجاب يحول دون جمال الحبيب ولكن أزح الغبار حتّى يتيسّر لك النظر . توضيح العلّامة المجلسيّ حول روايات الحجب : قال العلّامة المجلسيّ رحمه الله في تبيين الروايات التي هي مثار البحث:
.
ص: 344
«والتحقيق أَنّ لتلك الأَخبار ظهرا وبطنا وكلاهما حقّ فأما ظهرها ، فإنّه سبحانه كما خلق العرش والكرسي مع عدم احتياجه إِليهما ، كذلك خلق عندهما أَستارا وحجبا وسرادقات ، وحشاها من أَنواره الغريبة المخلوقة له ؛ ليظهر لمن يشاهدها من الملائكة وبعض النبيين ولمن يسمعها من غيرهم عظمة قدرته وجلال هيبته وسعة فيضه ورحمته ، ولعلّ اختلاف الأَعداد باعتبار أَنّ في بعض الإطلاقات اعتبرت الأَنواع ، وفي بعضها الأَصناف ، وفي بعضها الأَشخاص أَو ضمّ بعضها إِلى بعض في بعض التعبيرات ، أَو أكتُفي بذكر بعضها في بعض الروايات ، وأَما بطنها فلأنّ الحجب المانعة عن وصول الخلق إِلى معرفة كُنه ذاته وصفاته أُمور كثيرة : منها : ما يرجع إِلى نقص المخلوق وقواه ومداركه بسبب الإمكان والافتقار والاحتياج والحدوث ، وما يتبع ذلك من جهات النقص والعجز ، وهي الحجب الظلمانية. ومنها : ما يرجع إِلى نوريته وتجرّده وتقدّسه ووجوب وجوده وكماله وعظمته وجلاله وسائر ما يتبع ذلك ، وهي الحجب النورانية ، وارتفاع تلك الحجب بنوعيه محال ، فلو ارتفعت لم يبقَ بغير ذات الحق شيء ، أَو المراد بكشفها رفعها في الجملة بالتخلّي عن الصفات الشهوانية والأَخلاق الحيوانية ، والتخلّق بالأَخلاق الربّانية بكثرة العبادات والرياضات والمجاهدات وممارسة العلوم الحقّة ، فترتفع الحجب بينه وبين ربِّه سبحانه في الجملة ، فيحرق ما يظهر عليهم من أَنوار جلاله تعيّناتهم وإِراداتهم وشهواتهم ، فيرون بعين اليقين كماله سبحانه ونقصهم ، وبقاءه وفناءهم وذلهم ، وغناه وافتقارهم ، بل يرون وجودهم المستعار في جنب وجوده الكامل عدما ، وقدرتهم الناقصة في جنب قدرته الكاملة عجزا ، بل يتخلّون عن إِرادتهم وعلمهم وقدرتهم ،
.
ص: 345
فيتصرّف فيهم إِرادته وقدرته وعلمه سبحانه ، فلا يشاؤون إِلّا أَن يشاء اللّه ، ولا يريدون سوى ما أَراد اللّه ، ويتصرّفون في الأَشياء بقدرة اللّه ، فيحيون الموتى ، ويردّون الشَّمس، ويشقّون القمر، كما قال أَمير المؤمنين عليه السلام : «ما قَلَعتُ بابَ خَيبرَ بِقُوَّةٍ جِسمانِيَّةٍ ، بَل بِقُوَّةٍ رَبّانِيَّةٍ» (1) . والمعنى الذي يمكن فهمه ولا ينافي أُصول الدِّين من الفناء في اللّه والبقاء باللّه هو هذا المعنى 2 ، وبعبارة اُخرى : الحجب النورانية الموانع التي للعبد عن
.
ص: 346
الوصول إِلى قربه وغاية ما يمكنه من معرفته سبحانه من جهة العبادات كالرياء والعجب والسمعة والمراء وأَشباهها ، والظلمانية ما يحجبه من المعاصي عن الوصول إِليه ، فإذا ارتفعت تلك الحجب تجلّى اللّه له في قلبه ، وأَحرق محبّة ما سواه حتّى نفسه عن نفسه ... وكلّ ذلك لا يوجب عدم وجوب الإيمان بظواهرها إِلّا بمعارضة نصوص صحيحة صريحة صارفة عنها وأَول الإلحاد سلوك التأويل من غير دليل ، واللّه الهادي إِلى سواء السبيل» (1) .
.
ص: 347
الفصل العاشر: موانع معرفة اللّه10 / 1السَّيِّئاتُالكتاب«ثُمَّ كَانَ عَ_قِبَةَ الَّذِينَ أَسَ__ئواْ السُّوأَى أَن كَذَّبُواْ بِ_ئايَ_تِ اللَّهِ وَ كَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ » . (1)
«كَلَا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * كَلَا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ» . (2)
الحديثالكافي عن محمّد بن يزيد الرفاعي رفعه :إِنَّ أَميرَ المؤمِنينَ عليه السلام سُئِلَ عَنِ الوُقوفِ بِالجَبَلِ ، لِمَ لَم يَكُن فِي الحَرَمِ ؟ فَقالَ : لِأَنَّ الكَعبةَ بَيتُهُ وَالحَرَمَ بابُهُ ، فَلَمّا قَصَدوهُ وافِدينَ وَقَفَهُم بِالبابِ يَتَضَرَّعونَ . قيلَ لَهُ : فَالمَشعَرُ الحَرامُ لِمَ صارَ فِي الحَرَمِ ؟
.
ص: 348
قالَ : لِأَنَّهُ لَمّا أَذِنَ لَهُم بِالدُّخولِ وَقَفَهُم بِالحِجابِ الثّاني ، فَلَمّا طالَ تَضَرُّعُهُم بِها أَذِنَ لَهُم لِتَقريبِ قُربانِهِم ، فَلَمّا قَضَوا تَفَثَهُم (1) [ و] (2) تَطَهَّروا بِها مِنَ الذُّنوبِ الَّتي كانَت حِجابا بَينَهُم وبَينَهُ أَذِنَ لَهُم بِالزِّيارَةِ عَلَى الطَّهارَةِ . (3)
الإمام زين العابدين عليه السلام_ فِي الدُّعاءِ _: وأَعلَمُ أنَّكَ لِلرّاجي بِمَوضِعِ إِجابَةٍ . . . وأَنَّ الرّاحِلَ إِلَيكَ قَريبُ المَسافَةِ ، وأَنَّكَ لا تَحتَجِبُ عَن خَلقِكَ إِلّا أَن تَحجُبَهُمُ الأَعمالُ دونَكَ . (4)
الاحتجاج :لَمّا دَخَلَ عَليُّ بنُ الحُسَينِ عليه السلام وحَرَمُهُ عَلى يَزيدَ _ لَعَنَهُ اللّهُ _ ، وجيءَ بِرَأَسِ الحُسَينِ عليه السلام ، ووُضِعَ بَينَ يَدَيهِ في طَستٍ ، فَجَعَلَ يَضرِبُ ثَناياهُ بِمِخصَرَةٍ (5) كانَت في يَدِهِ ... . فَقامَت إِلَيهِ زَينَبُ بِنتُ عَلِيٍّ _ وأُمُّها فاطِمَةُ بِنتُ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله _ وقالَت : الحَمدُ للّهِِ رَبِّ العالَمينَ وَالصَلاةُ عَلى جَدّي سَيِّدِ المُرسَلينَ ، صَدَقَ اللّهُ سُبحانَهُ كَذلِكَ يَقولُ : «ثُمَّ كَانَ عَ_قِبَةَ الَّذِينَ أَسَ__ئواْ السُّوأَى أَن كَذَّبُواْ بِ_ئايَ_تِ اللَّهِ وَ كَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ» (6) . أَظَنَنتَ يا يَزيدُ ، أَنَّكَ حينَ أَخَذتَ عَلَينا أَقطارَ الأَرضِ ، وضَيَّقتَ عَلَينا آفاقَ
.
ص: 349
السَّماءِ ، فَأَصبَحنا لَكَ في إِسارِ الذُّلِّ ، نُساقُ إِلَيكَ سَوقا في قِطارٍ ، وأَنتَ عَلَينا ذُو اقتِدارٍ ، أَنَّ بِنا مِنَ اللّهِ هَوانا وعَلَيكَ مِنهُ كَرامَةً وَامتِنانا ، وأَنَّ ذلِكَ لِعِظَمِ خَطَرِكَ وجَلالَةِ قَدرِكَ ، فَشَمَختَ بِأَنفِكَ ، ونَظَرتَ في عِطفِكَ ، تَضرِبُ أَصدَرَيكَ (1) فَرَحا ، وتَنفُضُ (2) مِذرَوَيكَ (3) مَرَحا ، حينَ رَأَيتَ الدُّنيا لَكَ مُستَوسِقَةً وَالأُمورَ لَدَيكَ مُتَّسِقَةً ، وحينَ صَفا لَكَ مُلكُنا ، وخَلَصَ لَكَ سُلطانُنا ، فَمَهلاً مَهلاً لا تَطِش جَهلاً ، أَنَسيتَ قَولَ اللّهِ عز و جل : «وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ» (4) . (5)
بحار الأنوار عن محمّد بن أبي مسهر عن أبيه عن جدّه :كَتَبَ المُفَضَّلُ بنُ عُمَرَ الجُعفِيُّ إِلى أَبي عَبدِ اللّهِ جَعفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ الصّادِقِ عليهماالسلام يُعلِمُهُ أنَّ أَقواما ظَهَروا مِن أَهلِ هذِهِ المِلَّةِ يَجحَدونَ الرُّبوبِيَّةَ ، ويُجادِلونَ عَلى ذلِكَ ، ويَسأَلُهُ أَن يَرُدَّ عَلَيهِم قَولَهُم ، ويَحتَجَّ عَلَيهِم فيمَا ادَّعَوا بِحَسَبِ ما احتَجَّ بِهِ عَلى غيَرِهِم ، فَكَتَبَ أَبو عَبدِ اللّهِ عليه السلام : بِسمِ اللّهِ الرّحمنِ الرّحيم أَمّا بَعدُ ؛ وَفَّقَنَا اللّهُ وإِيّاكَ لِطاعَتِهِ ، وأَوجَبَ لَنا بِذلِكَ رِضوانَهُ بِرَحمَتِهِ . وَصَلَ كِتابُكُ تَذكُرُ فيِهِ ما ظَهَرَ في مِلَّتِنا ، وذلِكَ مِن قَومٍ مِن أَهلِ الإِلحادِ بِالرُّبوبِيَّةِ ، قَد كَثُرَت عِدَّتُهُم ، وَاشتَدَّت خُصومَتُهُم ، وتَسأَلُ أَن أَصنَعَ لِلرَّدِّ عَلَيهِم ، وَالنَّقضِ لِما في أَيديهِم ، كِتابا عَلى نَحوِ ما رَدَدتُ عَلى غَيرِهِم ، مِن أَهلِ البِدَعِ وَالاِختِلافِ .
.
ص: 350
ونَحنُ نَحمَدُ اللّهَ عَلَى النِّعَمِ السّابِغَةِ ، وَالحُجَجِ البالِغَةِ ، وَالبَلاءِ المَحمودِ عِندَ الخاصَّةِ وَالعامَّةِ ، فَكانَ مِن نِعَمِهِ العِظامِ وآلائِهِ الجِسامِ الَّتي أَنعَمَ بِها تَقريرُهُ قُلوبَهُم بِرُبوبِيَّتِهِ ، وأَخذُهُ مِيثاقَهُم بِمَعرِفَتِهِ ، وإِنزالُهُ عَلَيهِم كِتابا فيهِ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدورِ ، مِن أَمراضِ الخَواطِرِ ومُشتَبَهاتِ الأُمورِ ، ولَم يَدَع لَهُم ولا لِشَيءٍ مِن خَلقِهِ حاجَةً إِلى مَن سِواهُ ، وَاستَغنى عَنهُم ، وكانَ اللّهُ غَنِيّا حَميدا . ولَعَمري ما أُتِيَ الجُهّالُ مِن قِبَلِ رَبِّهِم وإِنَّهُم لَيَرَونَ الدَّلالاتِ الواضِحاتِ وَالعَلاماتِ البَيِّناتِ في خَلقِهِم ، وما يُعايِنونَ مِن مَلَكوتِ السَّماواتِ وَالأَرضِ ، وَالصُّنعِ العَجيبِ المُتقَنِ الدَّالِّ عَلَى الصَّانِعِ ، وَلكِنَّهُم قَومٌ فَتَحوا عَلى أَنفُسِهِم أَبوابَ المَعاصي ، وسَهَّلوا لَها سَبيلَ الشَّهَواتِ ، فَغَلَبَتِ الأَهواءُ عَلى قُلوبِهِم ، وَاستَحوَذَ الشَّيطانُ بِظُلمِهِم عَلَيهِم ، وكَذلِكَ يَطبَعُ اللّهُ عَلى قُلوبِ المُعتَدينَ . (1)
الإمام الرضا عليه السلام_ لَمّا سَأَلَهُ رَجُلٌ مِنَ الزَّنادِقَةِ عَن سَبَبِ احتجابِ الباري عز و جل_: إِنَّ الحِجابَ عَلَى الخَلقِ لِكَثرَةِ ذُنوبِهِم ، فَأَمّا هُوَ فَلا يَخفى عَلَيهِ خافِيَةٌ في آناءِ اللَّيلِ وَالنَّهارِ . (2)
10 / 2الظُّلمالكتاب«بَلْ هُوَ ءَايَ_ت بَيِّنَ_تٌ فِى صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَ مَا يَجْحَدُ بِ_ئايَ_تِنَا إِلَا الظَّ__لِمُونَ » . (3)
.
ص: 351
«وَجَحَدُواْ بِهَا وَ اسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُ_لْمًا وَ عُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَ_قِبَةُ الْمُفْسِدِينَ » . (1)
«قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِى يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَ_كِنَّ الظَّ__لِمِينَ بِ_ئايَ_تِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ » . (2)
الحديثتفسير الطبري عن أبي صالح :جاءَ جِبريلُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله وهُوَ جالِسٌ حَزينٌ ، فَقالَ لَهُ : ما يَحزُنُكَ ؟ فَقالَ : كَذَّبني هؤُلاءِ . فَقالَ لَهُ جِبرِيلُ : إِنَّهُم لا يُكَذِّبونَكَ ، إِنَّهُم لَيَعلَمونَ أَنَّكَ صادِقٌ «وَلَ_كِنَّ الظَّ__لِمِينَ بِ_ئايَ_تِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» . (3)
الإمام عليّ عليه السلام :إِنَّ أبا جَهلٍ قالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه و آله : إِنّا لا نُكَذِّبُكَ ولكِن نُكَذِّبُ بِما جِئتَ بِهِ ، فَأَنزَلَ اللّهُ : «فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَ_كِنَّ الظَّ__لِمِينَ بِ_ئايَ_تِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» . (4)
10 / 3الاِستِكبارالكتاب«سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَ_تِىَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِى الأَْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٍ لَا يُؤْمِنُواْ بِهَا
.
ص: 352
وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَىِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَ لِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِ_ئايَ_تِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَ_فِلِينَ » . (1)
راجع : النمل: 14 ، المؤمنون: 46 ، الجاثية: 8 و 31 ، الأحقاف: 10 ، غافر: 35 ، لقمان : 7 ، الزمر: 59 _ 60 .
الحديثالإمام عليّ عليه السلام :بُنِيَ الكُفرُ عَلى أَربَعِ دَعائِمَ: الفِسقِ ، وَالغُلُوِّ ، وَالشَّكِّ ، وَالشُّبهَةِ. وَالفِسقُ عَلى أَربَعِ شُعَبٍ: عَلَى الجَفاءِ، وَالعَمى، وَالغَفلَةِ، وَالعُتُوِّ. (2)
عنه عليه السلام :مَنِ استَكبَرَ أَدبَرَ عَنِ الحَقِّ . (3)
الإمام الصادق عليه السلام :أُصولُ الكُفرِ ثَلاثَةٌ: الحِرصُ ، وَالاِستِكبارُ ، وَالحَسَدُ . (4)
10 / 4الجَهلالإمام الصادق عليه السلام_ لِلمُفَضَّلِ بنِ عُمَرَ: يا مُفَضَّلُ ، إِنَّ الشُّكّاكَ جَهِلُوا الأَسبابَ وَالمَعانِيَ فِي الخِلقَةِ ، وقَصُرَت أَفهامُهُم عَن تَأَمُّلِ الصَّوابِ وَالحِكمَةِ فيما ذَرَأَ الباري جَلَّ قُدسُهُ ، وبَرَأَ مِن صُنوفِ خَلقِهِ فِي البَرِّ وَالبَحرِ وَالسَّهلِ وَالوَعرِ ، فَخَرَجوا بِقِصَرِ عُلومِهِم إِلَى الجُحودِ ، وبِضَعفِ بَصائِرِهِم إِلَى التَّكذيبِ وَالعُنودِ ، حَتّى أَنكَروا خَلقَ
.
ص: 353
الأَشياءِ ، وَادَّعَوا أَنَّ كَونَها بِالإِهمالِ ، لا صَنعَةَ فيها ولا تَقديرَ ولا حِكمَةَ مِن مُدَبِّرٍ ولا صانِعٍ ، تَعالَى اللّهُ عَمّا يَصِفونَ . (1)
10 / 5الغَفلَةالإمام عليّ عليه السلام_ مِن دُعاءٍ عَلَّمَهُ نَوفا البِكالِيَّ _: إِلهي تَناهَت أَبصارُ النّاظِرينَ إِلَيكَ بِسَرائِرِ القُلوبِ ، وطالَعَت أَصغَى السّامِعينَ لَكَ نَجِيّاتِ الصُّدورِ ، فَلَم يَلقَ أَبصارَهُم رَدٌّ دونَ ما يُريدونَ ، هَتَكتَ بَينَكَ وبَينَهُم حُجُبَ الغَفلَةِ ، فَسَكَنوا في نورِكَ وتَنَفَّسوا بِرَوحِكَ . (2)
10 / 6الهَوىمروج الذهب :قدَ كانَ مَن ذَكَرنا مِنَ الأُمَمِ لا يَجحَدُ الصّانِعَ _ جَلَّ وعَزَّ _ ، ويَعلَمونَ أَنَّ نوحا عليه السلام كانَ نَبِيّا ، وأَنَّهُ وَفى لِقَومِهِ بِما وَعَدَهُم مِنَ العَذابِ ، إِلّا أَنَّ القَومَ دَخَلَت عَلَيهِم شُبَهٌ بَعدَ ذلِكَ لِتَركِهِمُ البَحثَ واستِعمالَ النَّظَرِ ، ومالَت نُفوسُهُم إِلَى الدَّعَةِ (3) ، وما تَدعو إِلَيهِ الطَّبائِعُ مِنَ المَلاذِّ وَالتَّقليدِ ، وكانَ في نُفوسِهِم هَيبَةُ الصّانِعِ ، وَالتَّقَرُّبُ إِلَيهِ بِالتَّماثيلِ وعِبادَتُها ؛ لِظَنِّهِم أَنَّها مُقَرِّبَةٌ لَهُم إِلَيهِ . (4)
مصباح الشريعة_ فيما نَسَبَهُ إلَى الإِمامِ الصّادِقِ عليه السلام _: لا حِجابَ أَظلَمُ وأَوحَشُ
.
ص: 354
بَينَ العَبدِ وبَينَ اللّهِ مِنَ النَّفسِ وَالهَوى ، ولَيسَ لِقَتلِهِما وقَطعِهِما سِلاحٌ وآلَةٌ مِثلُ الاِفتِقارِ إِلَى اللّهِ ، وَالخُشوعِ وَالخُضوعِ وَالجوعِ وَالظَّمَاَ بِالنَّهارِ وَالسَّهَرِ بِاللَّيلِ ؛ فَإِن ماتَ صاحِبُهُ ماتَ شَهيدا ، وإِن عاشَ وَاستَقامَ أَدّى عاقِبَتُهُ إِلَى الرِّضوانِ الأَكبَرِ . (1)
10 / 7مَرَضُ القَلبِالإمام عليّ عليه السلام :لَو فَكَّروا في عَظيمِ القُدرَةِ وجَسيمِ النِّعمَةِ لَرَجَعُوا إِلَى الطَّريقِ ، وخَافُوا عَذابَ الحَريقِ ، ولكِنِ القُلوبُ عَليلَةٌ وَالبَصائِرُ مَدخُولَةٌ . (2)
راجع : ج 2 ص 163 (الفصل الأوّل : حجب العلم والحكمة) .
.
ص: 355
القسم الثاني : التعرّف على توحيد اللّهوفيه فصلان :الفصل الأوّل: قيمة التّوحيدالفصل الثاني : مراتب التّوحيد
.
ص: 356
. .
ص: 357
ص: 358
1 / 3كَلِمَةُ التَّقوىرسول اللّه صلى الله عليه و آله_ في تَفسيرِ «لا إِلهَ إِلَا اللّهُ» _: قَولُهُ : لا إِلهَ إِلَا اللّهُ يَعني وَحدانِيَّتَهُ ، لا يُقبَلُ الأَعمالُ إِلّا بِها ، وهِيَ كَلِمَةُ التَّقوى ، يُثَقِّلُ اللّهُ بِهَا المَوازينَ يَومَ القِيامَةِ . (1)
1 / 4ثَمَنُ الجَنَّةِرسول اللّه صلى الله عليه و آله :التَّوحيدُ ثَمَنُ الجَنَّةِ . (2)
عنه صلى الله عليه و آله :إِنَّ اللّهَ عز و جل قالَ : ما جَزاءُ مَن أَنعَمتُ عَلَيهِ بِالتَّوحيدِ إِلَا الجَنَّةُ . (3)
عنه صلى الله عليه و آله :مَن ماتَ وهُوَ يَعلَمُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَا اللّهُ دَخَلَ الجَنَّةَ . (4)
عنه صلى الله عليه و آله :مَن قالَ : «لا إِلهَ إِلَا اللّهُ» مُخلِصا دَخَلَ الجَنَّةَ ، وإِخلاصُهُ أَن تَحجُزَهُ «لا إِلهَ
.
ص: 359
إِلَا اللّهُ» عَمّا حَرَّمَ اللّهُ عز و جل . (1)
عنه صلى الله عليه و آله :إِنَّ «لا إِلهَ إِلَا اللّهُ» كَلِمَةٌ عَظيمَةٌ كَريمَةٌ عَلَى اللّهِ عز و جل ، مَن قالَها مُخلِصا استَوجَبَ الجَنَّةَ ، ومَن قالَها كاذِبا عَصَمَت مالَهُ ودَمَهُ ، وكانَ مَصيرُهُ إِلى النّارِ . (2)
عنه صلى الله عليه و آله_ في مَوعِظَتِهِ لِابنِ مَسعودٍ _: إِذا تَكَلَّمتَ ب_ «لا إِلهَ إِلَا اللّهُ» ولَم تَعرِف حَقَّها ؛ فَإِنَّهُ مَردودٌ عَلَيكَ . (3)
1 / 5حَياةُ النَّفسِالإمام عليّ عليه السلام :التَّوحيدُ حَياةُ النَّفسِ . (4)
1 / 6عُروَةُ اللّهِ الوُثقىالإمام الباقر عليه السلام :عُروَةُ اللّهِ الوُثقى التَّوحيدُ . (5)
.
ص: 360
1 / 7حِصنُ اللّهِرسول اللّه صلى الله عليه و آله :حَدَّثَني جَبرَئيلُ سَيِّدُ المَلائِكَةِ ، قالَ : قالَ اللّهُ سَيِّدُ السّاداتِ عز و جل : إِنّي أَنَا اللّهُ لا إِلهَ إِلّا أَنَا ، فَمَن أَقَرَّ لي بِالتَّوحيدِ دَخَلَ حِصني ، ومَن دَخَلَ حِصني أَمِنَ مِن عَذابي . (1)
1 / 8أفضَلُ الأَعمالِرسول اللّه صلى الله عليه و آله :«لا إِلهَ إِلَا اللّهُ» ، لا يَسبِقُها عَمَلٌ ، ولا تَترُكُ ذَنبا . (2)
الأَمالي عن محمّد بن سماعة :سَأَلَ بَعضُ أَصحابِنَا الصّادِقَ عليه السلام ، فَقالَ لَهُ : أَخبِرني أَيُّ الأَعمالِ أَفضَلُ ؟ قالَ : تَوحيدُكَ لِرَبِّكَ . قالَ : فَما أَعظَمُ الذُّنوبِ ؟ قالَ : تَشبيهُكَ لِخالِقِكَ . (3)
1 / 9سَبَبُ المَغفِرَةِرسول اللّه صلى الله عليه و آله :إِذا قالَ العَبدُ : «أَشهَدُ أَن لا إِلهَ إِلَا اللّهُ» ، قالَ اللّهُ تَعالى : يا مَلائِكَتي ،
.
ص: 361
عَلِمَ عَبدي أَنَّهُ لَيسَ لَهُ رَبٌّ غَيري ، أُشهِدُكُم أَنّي غَفَرتُ لَهُ . (1)
عنه صلى الله عليه و آله :لا يَزالُ قَولُ: «لا إِلهَ إِلَا اللّهُ» يَرفَعُ سَخَطَ اللّهِ عَنِ العِبادِ ، حَتّى إِذا نَزَلوا بِالمَنزِلِ الَّذي لا يُبالونَ ما نَقَصَ مِن دينِهِم إِذا سَلِمَت دُنياهُم ، فَقالوا عِندَ ذلِكَ ، قالَ اللّهُ تَعالى لَهُم : كَذِبتُم كَذِبتُم . (2)
1 / 10سَبَبُ دَفعِ البَلاءِرسول اللّه صلى الله عليه و آله :«لا إِلهَ إِلَا اللّهُ» تَدفَعُ عَن قائِلِها تِسعَةً وتِسعينَ بابا مِنَ البَلاءِ أَدناهَا الهَمُّ . (3)
راجع: ص 17 (الفصل الأوّل : قيمَةُ مَعرِفَةِ اللّهِ) .
1 / 11سَبَبُ الفلاحرسول اللّه صلى الله عليه و آله :قولوا: «لا إِلهَ إِلَا اللّهُ» تُفلِحوا . (4)
.
ص: 362
. .
ص: 363
الفصل الثاني : مراتب التّوحيدالمرتبة الاولى : التّوحيد في الذّاتموضوع التَّوحيد من أَهمّ موضوعات معرفة اللّه سبحانه بعد إِثبات وجوده ، وهو جدير بالمناقشة والتحليل من جوانب مختلفة . لقد تمّ في هذا الفصل تنظيم النصوص المرتبطة بأهمّ المباحث التَّوحيديّة تحت عنوان مراتب التَّوحيد ، وهي تبدأَ من التَّوحيد في الذّات ، وتنتهي بالتَّوحيد في العبادة الذي يمثّل أَعلى المراتب في معرفة اللّه تعالى ، وذلك على المنوال الذي تلاحظونه . إِنّ التوحيد الذاتيّ الذي يجسّد أَوّل مرتبة من مراتب التَّوحيد ، بمعنى نفي الشريك ، والتشبيه ، والجزء عن ذات الحقّ تعالى ، وستلاحظون في الأَبواب الآتية البراهين العقليّة على توحيد الذات وتفسيرها و تبيانها من وحي القرآن والحديث .
.
ص: 364
1 / 1ما يَدُلُّ عَلى وَحدَةِ ذاتِهِالكتاب«وَ مَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَ_هًا ءَاخَرَ لَا بُرْهَ_نَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَ_فِرُونَ» . (1)
«أَمَّن يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَءِلَ_هٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَ_نَكُمْ إِن كُنتُمْ صَ_دِقِينَ» . (2)
الحديثالإمام عليّ عليه السلام_ في وَصِيَّتِهِ لِابنِهِ الحَسَنِ عليه السلام _: اِعلَم يا بُنَيَّ أَنَّهُ لَو كانَ لِرَبِّكَ شَريكٌ لَأَتَتكَ رُسُلُهُ ، ولَرَأَيتَ آثارَ مُلكِهِ وسُلطانِهِ ، ولَعَرَفتَ أفعالَهُ وصِفاتِهِ ، ولكِنَّهُ إِلهٌ واحِدٌ كَما وَصَفَ نَفسَهُ ، لا يُضادُّهُ في مُلكِهِ أَحَدٌ . (3)
الإمام الصادق عليه السلام_ لَمّا سُئِلَ: كَيفَ هُوَ اللّهُ الواحِدُ؟ _: واحِدٌ في ذاتِهِ فَلا واحِدٌ كَواحِدٍ ؛ لِأَنَّ ما سِواهُ مِنَ الواحِدِ مُتَجَزِّئٌ ، وهُوَ تَبارَكَ وتَعالى واحِدٌ لا يَتَجَزَّأُ ولا يَقَعُ عَلَيهِ العَدُّ . (4)
عنه عليه السلام_ لَمّا سُئِلَ: مَا الدَّليلُ عَلَى الواحِدِ؟ _: ما بِالخَلقِ مِنَ الحاجَةِ . (5)
الإمام الرضا عليه السلام_ لَمّا سَأَلَهُ رَجُلٌ مِنَ الثَّنَوِيَّةِ: إِنَّ صانِعَ العالَمِ اثنانِ ، فَمَا الدَّليلُ عَلى
.
ص: 365
أَنَّهُ واحِدٌ؟ قالَ _: قَولُكَ: إِنَّهُ اثنانِ دَليلٌ عَلى أَنَّهُ واحِدٌ ؛ لِأَنَّكَ لَم تَدَّعِ الثّانِيَ إِلّا بَعدَ إِثباتِكَ الواحِدَ ، فَالواحِدُ مُجمَعٌ عَلَيهِ ، وأَكثَرُ مِن واحِدٍ مُختَلَفٌ فيهِ . (1)
راجع : ص 400 (ما يدلُّ على وحدةِ الرُّبوبيَّة) و 402 (ما يدلّ على وحدةِ التَّدبير) .
1 / 2تَفسيرُ التَّوحيدِرسول اللّه صلى الله عليه و آله :إِنَّ لِكُلِّ شَيءٍ نِسبَةً ، وإِنَّ نِسبَةَ اللّهِ : «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» (2) . (3)
عنه صلى الله عليه و آله :التَّوحيدُ ظاهِرُهُ في باطِنِهِ ، وباطِنُهُ في ظاهِرِهِ ، ظاهِرُهُ مَوصوفٌ لا يُرى ، وباطِنُهُ مَوجودٌ لا يَخفى ، يُطلَبُ بِكُلِّ مَكانٍ ولَم يَخلُ مِنهُ مَكانٌ طَرفَةَ عَينٍ ، حاضِرٌ غَيرُ مَحدودٍ ، وغائِبٌ غَيرُ مَفقودٍ . (4)
عنه صلى الله عليه و آله :اللّهُ واحِدٌ واحِدِيُّ المَعنى ، وَالإِنسانُ واحِدٌ ثَنَوِيُّ المَعنى ؛ جِسمٌ وعَرَضٌ وبَدَنٌ وروحٌ . (5)
الإمام عليّ عليه السلام_ في صِفَةِ اللّهِ سُبحانَهُ _: كُلُّ مُسمّىً بِالوَحدَةِ غَيرَهُ قَليلٌ . (6)
عنه عليه السلام_ في قَولِ المُؤَذِّنِ: أَشهَدُ أَن لا إِلهَ إِلَا اللّهُ _: إِعلامٌ بِأَنَّ الشَّهادَةَ لا تَجوزُ
.
ص: 366
إِلّا بِمَعرِفَتِهِ مِنَ القَلبِ ، كَأَنَّهُ يَقولُ: أَعلَمُ أَنَّهُ لا مَعبودَ إِلَا اللّهُ عز و جل ، وأَنَّ كُلَّ مَعبودٍ باطِلٌ سِوَى اللّهِ عز و جل ، وأُقِرُّ بِلِساني بِما في قَلبي مِنَ العِلمِ بِأَنَّهُ لا إِلهَ إِلَا اللّهُ ، وأَشهَدُ أَنَّهُ لا مَلجَأَ مِنَ اللّهِ إِلّا إِلَيهِ ، ولا مَنجى مِن شَرِّ كُلِّ ذي شَرٍّ وفِتنَةِ كُلِّ ذي فِتنَةٍ إِلّا بِاللّهِ. وفِي المَرَّةِ الثّانِيَةِ: أَشهَدُ أَن لا إِلهَ إِلَا اللّهُ. مَعناهُ: أَشهَدُ أَن لا هادِيَ إِلَا اللّهُ ، ولا دَليلَ لي إِلَى الدّينِ إِلَا اللّهُ ، وأُشهِدُ اللّهَ بِأَنّي أَشهَدُ أَن لا إِلهَ إِلَا اللّهُ ، وأُشهِدُ سُكّانَ السَّماواتِ وسُكّانَ الأَرَضينَ وما فيهِنَّ مِنَ المَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجمَعينَ ، وما فيهِنَّ مِنَ الجِبالِ وَالأَشجارِ وَالدَّوابِّ وَالوُحوشِ ، وكُلِّ رَطبٍ ويابِسٍ بِأَنَّي أَشهَدُ أَن لا خالِقَ إِلَا اللّهُ ، ولا رازِقَ ولا مَعبودَ ولا ضارَّ ولا نافِعَ ولا قابِضَ ولا باسِطَ ولا مُعطِيَ ولا مانِعَ ولا ناصِحَ ولا كافِيَ ولا شافِيَ ولا مُقَدِّمَ ولا مُؤَخِّرَ إِلَا اللّهُ ، لَهُ الخَلقُ وَالأَمرُ ، وبِيَدِهِ الخَيرُ كُلُّهُ ، تَبارَكَ اللّهُ رَبُّ العالَمينَ . (1)
فاطمة عليهاالسلام_ فِي احتِجاجِها عَلَى القَومِ لَمّا مَنَعوها فَدَكا _: أَشهَدُ أَن لا إِلهَ إِلَا اللّهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ ، كَلِمَةٌ جَعَلَ الإِخلاصَ تَأويلَها ، وضَمَّنَ القُلوبَ مَوصولَها ، وأَنارَ فِي التَّفَكُّرِ مَعقولَها . (2)
الإمام الباقر عليه السلام_ في قَولِ اللّهِ _تَبارَكَ وتَعالى _ : «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» _ : «قُل» أَي أَظهِر ما أَوحَينا إِلَيكَ ونَبَّأَناكَ بِهِ بِتَأليفِ الحُروفِ الَّتي قَرَأَناها لَكَ، لِيَهتَدِيَ بِها مَن أَلقَى السَّمعَ وهُوَ شَهيدٌ، و«هُوَ» اسمٌ مُكَنّىً مُشارٌ إِلى غائِبٍ، فَالهاءُ تَنبيهٌ عَلى مَعنىً ثابِتٍ، وَالواوُ
.
ص: 367
إِشارَةٌ إِلَى الغائِبِ عَنِ الحَواسِّ ، كَما أَنَّ قَولَكَ: «هذا» إِشارَةٌ إِلَى الشّاهِدِ عِندَ الحَواسِّ؛ وذلِكَ أَنَّ الكُفّارَ نَبَّهوا عَن آلِهَتِهِم بِحَرفِ إِشارَةِ الشّاهِدِ المُدرَكِ، فَقالوا: هذِهِ آلِهَتُنَا المَحسوسَةُ المُدرَكَةُ بِالأَبصارِ، فَأَشِر أَنتَ يا مُحَمَّدُ إِلى إِلهِكَ الَّذي تَدعو إِلَيهِ حَتّى نَراهُ ونُدرِكَهُ ولا نَأَ لَهَ فيهِ . فَأَنزَلَ اللّهُ _ تَبارَكَ وتَعالى _ : «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» فَالهاءُ تَثبيتٌ لِلثّابِتِ، وَالواوُ إِشارَةٌ إِلَى الغائِبِ عَن دَرَكِ الأَبصارِ ولَمسِ الحَواسِّ، وأَنَّهُ تَعالى عَن ذلِكَ ، بَل هُوَ مُدرِكُ الأَبصارِ ومُبدِعُ الحَواسِّ. (1)
عنه عليه السلام :تَعَلُّقُ القَلبِ بِالمَوجودِ شِركٌ ، وبِالمَفقودِ كُفرٌ . (2)
الإمام الصادق عليه السلام :هُوَ واحِدٌ واحِدِيُّ الذَّاتِ ، بائِنٌ مِن خَلقِهِ . (3)
عنه عليه السلام :خالِقُنا لا مَدخَلَ لِلأَشياءِ فيهِ ؛ لِأَنَّهُ واحِدٌ واحِدِيُّ الذَّاتِ ، واحِدِيُّ المَعنى . (4)
عنه عليه السلام :مَن قَال لِلإِنسانِ: واحِدٌ ، فَهذا لَهُ اسمٌ ولَهُ شَبيهٌ ، وَاللّهُ واحِدٌ وهُوَ لَهُ اسمٌ ولا شَيءَ لَهُ شَبيهٌ ، ولَيسَ المَعنى واحِدا. وأَمَّا الأَسماءُ فَهِيَ دَلالَتُنا عَلَى المُسَمّى ؛ لِأَنّا قَد نَرَى الإِنسانَ واحِدا وإِنَّما نُخبِرُ واحِدا إِذا كانَ مُفرَدا ، فَعُلِمَ أَنَّ الإِنسانَ في نَفسِهِ لَيسَ بِواحِدٍ فِي المَعنى ؛ لِأَنَّ أَعضاءَهُ مُختَلِفَةٌ وأَجزاءَهُ لَيسَت سَواءً ، ولَحمَهُ غَيرُ دَمِهِ ، وعَظمَهُ غَيرُ عَصَبِهِ ، وشَعرَهُ غَيرُ ظُفرِهِ ، وسَوادَهُ غَيرُ بَياضِهِ ، وكَذلِكَ سائِرُ الخَلقِ.
.
ص: 368
وَالإِنسانُ واحِدٌ فِي الاِسمِ ، ولَيسَ بِواحِدٍ فِي الاِسمِ وَالمَعنى وَالخَلقِ ، فَإِذا قيلَ للّهِِ فَهُوَ الواحِدُ الَّذي لا واحِدَ غَيرُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا اختِلافَ فيهِ . (1)
عنه عليه السلام_ لَمّا سُئِلَ عَن «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» _: نِسبَةُ اللّهِ إِلى خَلقِهِ ، أَحَدا صَمَدا (2) أَزَلِيّا صَمَدِيّا ، لا ظِلَّ لَهُ يُمسِكُهُ ، وهُوَ يُمسِكُ الأَشياءَ بِأَظِلَّتِها ، عارِفٌ بِالمَجهولِ ، مَعروفٌ عِندَ كُلِّ جاهِلٍ ، فَردانِيّا ، لا خَلقُهُ فيهِ ولا هُوَ في خَلقِهِ ، غَيرُ مَحسوسٍ ولا مَجسوسٍ (3) ، لا تُدرِكُهُ الأَبصارُ ، عَلا فَقَرُبَ ودَنا فَبَعُدَ ، وعُصِيَ فَغَفَرَ وأُطيعَ فَشَكَرَ ، لا تَحويهِ أَرضُهُ ولا تُقِلُّهُ سَماواتُهُ ، حامِلُ الأَشياءِ بِقُدرَتِهِ ، دَيمومِيٌّ أَزَلِيٌّ ، لا يَنسى ولا يَلهو ولا يَغلَطُ ولا يَلعَبُ ، ولا لِاءِرادَتِهِ فَصلٌ ، وفَصلُهُ جَزاءٌ ، وأَمرُهُ واقِعٌ ، لَم يَلِد فَيورَثَ ، ولَم يُولَد فَيُشارَكَ ، ولَم يَكُن لَهُ كُفُوا أَحَدٌ . (4)
عنه عليه السلام :إِنَّ اليَهودَ سَأَلوا رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، فَقالوا: اِنسِب لَنا رَبَّكَ ! فَلَبِثَ ثَلاثا لا يُجيبُهُم ، ثُمَّ نَزَلَت: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» إِلى آخِرِها . (5)
التوحيد عن هشام بن سالم :دَخَلتُ عَلى أَبي عَبدِاللّهِ عليه السلام فَقالَ لي: أتَنعَتُ اللّهَ؟ فَقُلتُ: نَعَم . قالَ: هاتِ .
.
ص: 369
فَقُلتُ: هُوَ السَّميعُ البَصيرُ. قالَ: هذِهِ صِفَةٌ يَشتَرِكُ فيهَا المَخلوقونَ! قُلتُ: فَكَيفَ تَنعَتُهُ؟ فَقالَ: هُوَ نُورٌ لا ظُلمَةَ فيهِ ، وحَياةٌ لا مَوتَ فيهِ ، وعِلمٌ لا جَهلَ فيهِ ، وحَقٌّ لا باطِلَ فيهِ . فَخَرَجتُ مِن عِندِهِ ، وأَنا أَعلَمُ النَّاسِ بِالتَّوحيدِ. (1)
الإمام الصادق عليه السلام_ لَمّا سُئِلَ: كَيفَ هُوَ اللّهُ الواحِدُ؟ _: واحِدٌ في ذاتِهِ فَلا واحِدٌ كَواحِدٍ ؛ لِأَنَّ ما سِواهُ مِنَ الواحِدِ مُتَجَزِّئٌ ، وهُوَ _ تَبارَكَ وتَعالى _ واحِدٌ لا يَتَجَزَّأُ ولا يَقَعُ عَلَيهِ العَدُّ . (2)
الإمام الرضا عليه السلام :إِنَّ اللّهَ المُبدِئُ الواحِدُ ، الكائِنُ الأَوَّلُ ، لَم يَزَل واحِدا لا شَيءَ مَعَهُ ، فَردا لا ثانِيَ مَعَهُ . (3)
الكافي عن عبد العزيز بن المهتدي :سَأَلتُ الرِّضا عليه السلام عَنِ التَّوحيدِ ، فَقالَ: كُلُّ مَن قَرَأَ: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» وآمَنَ بِها فَقَد عَرَفَ التَّوحيدَ. قُلتُ : كَيفَ يَقرَؤُها؟ قالَ : كَما يَقرَؤُهَا النّاسُ ، وزادَ فيهِ : كَذلِكَ اللّهُ رَبّي ، كَذلِكَ اللّهُ رَبّي . (4)
.
ص: 370
الكافي عن الفتح بن يزيد الجرجاني_ أَنَّهُ قالَ لِأَبِي الحَسَنِ عليه السلام (1) لَمّا سَمِعَ كلامَهُ فِي التَّوحيدِ _: لكِنَّكَ قُلتَ: الأَحَدُ الصَّمَدُ ، وقُلتَ: لا يُشبِهُهُ شَيءٌ ، وَاللّهُ واحِدٌ وَالإِنسانُ واحِدٌ ، أَلَيسَ قَد تَشابَهَتِ الوَحدانِيَّةُ؟! قالَ: يا فَتحُ ، أَحَلتَ (2) ثَبَّتَكَ اللّهُ ، إِنَّمَا التَّشبيهُ فِي المَعاني ، فَأَمّا فِي الأَسماءِ فَهِيَ واحِدَةٌ ، وهِيَ دالَّةٌ عَلَى المُسَمّى . (3)
الإمام الجواد عليه السلام :ما سِوَى الواحِدِ مُتَجَزِّئٌ ، وَاللّهُ واحِدٌ لا مُتَجَزِّئٌ ولا مُتَوَهَّمٌ بِالقِلَّةِ وَالكَثرَةِ ، وكُلُّ مُتَجَزِّىً أَو مُتَوَهَّمٍ بِالقِلَّةِ وَالكَثرَةِ فَهُوَ مَخلوقٌ دالٌّ عَلى خالِقٍ لَهُ . (4)
الكافي عن أبي هاشم الجعفري :سَأَلتُ أَبا جَعفَرٍ الثّانِيَ عليه السلام : ما مَعنَى الواحِدِ؟ فَقالَ: إِجماعُ الأَلسُنِ عَلَيهِ بِالوَحدانِيَّةِ كَقَولِهِ تَعالى: «وَ لَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» (5) . (6)
.
ص: 371
1 / 3المَذهَبُ الحَقُّ فِي التَّوحيدِالإمام الصادق عليه السلام :النّاسُ فِي التَّوحيدِ عَلى ثَلاثَةِ أَوجُهٍ: مُثبِتٌ ونافٍ ومُشَبِّهٌ ؛ فَالنافي مُبطِلٌ ، وَالمُثبِتُ مُؤمِنٌ ، وَالمُشَبِّهُ مُشرِكٌ . (1)
عنه عليه السلام_ في كِتابِهِ لِعَبدِ الرَّحيمِ القَصيرِ _: سَأَلتَ _ رَحمِكَ اللّهُ _ عَنِ التَّوحيدِ وما ذَهَبَ إِلَيهِ مَن قَبلَكَ ، فَتَعالَى اللّهُ الَّذي لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ وهُوَ السَّميعُ البَصيرُ، تَعالى عَمّا يَصِفُهُ الواصِفونَ المُشَبِّهونَ اللّهَ بِخَلقِهِ، المُفتَرونَ عَلَى اللّهِ! فَاعلَم _ رَحِمَكَ اللّهُ _ أَنَّ المَذهَبَ الصَّحيحَ فِي التَّوحيدِ ما نَزَلَ بِهِ القُرآنُ مِن صِفاتِ اللّهِ _ جَلَّ وعَزَّ _ ، فَانفِ عَنِ اللّهِ تَعالَى البُطلانَ وَالتَّشبيهَ ، فَلا نَفيَ ولا تَشبيهَ ، هُوَ اللّهُ الثّابِتُ المَوجودُ ، تَعالَى اللّهُ عَمّا يَصِفُهُ الواصِفونَ ، ولا تَعدُوا القُرآنَ فَتَضِلّوا بَعدَ البَيانِ . (2)
التوحيد عن محمّد بن عيسى بن عبيد :قال لي أَبُو الحَسَنِ عليه السلام : ما تَقولُ إِذا قيلَ لَكَ: أَخبِرني عَنِ اللّهِ عز و جل شَيءٌ هُوَ أَم لا؟ قالَ: فَقُلتُ لَهُ: قَد أَثبَتَ اللّهُ عز و جل نَفسَهُ شَيئا ، حَيثُ يَقولُ : «قُلْ أَىُّ شَىْ ءٍ أَكْبَرُ شَهَ_دَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيد بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ» (3) ، فَأَقولُ: إِنَّهُ شَيءٌ لا كَالأَشياءِ ؛ إِذ في نَفيِ الشَّيئِيَّةِ عَنهُ إِبطالُهُ ونَفيُهُ .
.
ص: 372
قالَ لي: صَدَقتَ وأَصَبتَ ، ثُمَّ قالَ لِيَ الرِّضا عليه السلام : لِلنّاسِ فِي التَّوحيدِ ثَلاثَةُ مَذاهِبَ: نَفيٌ ، وتَشبيهٌ ، وإِثباتٌ بِغَيرِ تَشبيهٍ. فَمَذهَبُ النَّفيِ لا يَجوزُ ، ومَذهَبُ التَّشبيهِ لا يَجوزُ ؛ لِأَنَّ اللّهَ _ تَبارَكَ وتَعالى _ لا يُشبِهُهُ شَيءٌ ، وَالسَّبيلُ فِي الطَّريقَةِ الثّالِثَةِ إِثباتٌ بِلا تَشبيهٍ . (1)
راجع : ج 4 ص 22 (الخروج من حدّ التشبيه والتعطيل) .
1 / 4التَّوحيدُ الخالِصُالإمام عليّ عليه السلام :أَوَّلُ الدّينِ مَعرِفَتُهُ ، وكَمالُ مَعرِفَتِهِ التَّصديقُ بِهِ ، وكَمالُ التَّصديقِ بِهِ تَوحيدُهُ ، وكَمالُ تَوحيدِهِ الإِخلاصُ لَهُ ، وكَمالُ الإِخلاصِ لَهُ نَفيُ الصِّفاتِ عَنهُ ، لِشَهادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّها غَيرُ المَوصوفِ ، وشَهادَةِ كُلِّ مَوصوفٍ أَنَّهُ غَيرُ الصِّفَةِ . (2)
الإمام الصادق عليه السلام :اللّهُ غايَةُ مَن غَيّاهُ ، وَالمُغَيّى (3) غَيرُ الغايَةِ ، تَوَحَّدَ بِالرُّبوبِيَّةِ ، ووَصَفَ
.
ص: 373
نَفسَهُ بِغَيرِ مَحدودِيَّةٍ ، فَالذّاكِرُ اللّهَ غَيرُ اللّهِ ، وَاللّهُ غَيرُ أَسمائِهِ ، وكُلُّ شَيءٍ وَقَعَ عَليهِ اسمُ شَيءٍ سِواهُ فَهُوَ مَخلوقٌ . أَلا تَرى إِلى قَولِهِ: «العِزَّةُ للّهِِ ، العَظَمَةُ للّهِِ» وقالَ : «وَلِلَّهِ الأَْسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا» (1) وقالَ : «قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَ_نَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى» (2) فَالأَسماءُ مُضافَةٌ إِلَيهِ ، وهُوَ التَّوحيدُ الخالِصُ . (3)
عنه عليه السلام :اِسمُ اللّهِ غَيرُ اللّهِ ، وكُلُّ شَيءٍ وَقَعَ عَلَيهِ اِسمُ شَيءٍ فَهُوَ مَخلوقٌ ما خَلا اللّهَ ، فَأَمّا ما عَبَّرَتِ الأَلسُنُ عَنهُ أَو عَمِلَتِ الأَيدي فيهِ فَهُوَ مَخلوقٌ وَاللّهُ غايَةُ مَن غاياهُ ، وَالمُغيّى غَيرُ الغايَةِ ، وَالغايَةُ مَوصوفَةٌ ، وكُلُّ مَوصوفٍ مَصنوعٌ ، وصانِعُ الأَشياءِ غَيرُ مَوصوفٍ بِحَدٍّ مُسَمّىً ، لَم يَتَكَوَّن فَتُعرَفَ كَينونَتُهُ بِصُنعِ غَيرِهِ ، ولَم يَتَناهَ إِلى غايَةٍ إِلّا كانَت غَيرَهُ ، لا يَذِلُّ مَن فَهِمَ هذَا الحُكمَ أَبَدا ، وهُوَ التَّوحيدُ الخالِصُ ، فَاعتَقِدوهُ وصَدِّقوهُ وتَفَهَّموهُ بِإِذنِ اللّهِ عز و جل . ومَن زَعَمَ أَنَّهُ يَعرِفُ اللّهَ بِحِجابٍ أَو بِصورَةٍ أَو بِمِثالٍ فَهُوَ مُشرِكٌ ؛ لِأَنَّ الحِجابَ وَالمِثالَ وَالصّورَةَ غَيرُهُ ، وإِنَّما هُوَ واحِدٌ مُوَحَّدٌ ، فَكَيفَ يُوَحِّدُ مَن زَعَمَ أَنَّهُ عَرَفَهُ بِغَيرِهِ ، إِنَّما عَرَفَ اللّهَ مَن عَرَفَهُ بِاللّهِ فَمَن لَم يَعرِفهُ بِهِ فَلَيسَ يَعرِفُهُ ، إِنَّما يَعرِفُ غَيرَهُ ، وَاللّهُ خالِقُ الأَشياءِ لا مِن شَيءٍ. يُسَمّى بِأَسمائِهِ فَهُوَ غَيرُ أَسمائِهِ وَالأَسماءُ غَيرُهُ ، وَالمَوصوفُ غَيرُ الواصِفِ. فَمَن زَعَمَ أَنَّهُ يُؤمِنُ بِما لا يَعرِفُ فَهُوَ ضالٌّ عَنِ المَعرِفَةِ. لا يُدرِكُ مَخلوقٌ شَيئا
.
ص: 374
إِلّا بِاللّهِ ، ولا تُدرَكُ مَعرِفَةُ اللّهِ إِلّا بِاللّهِ ، وَاللّهُ خِلوٌ مِن خَلقِهِ ، وخَلقُهُ خِلوٌ مِنهُ. إِذا أَرادَ اللّهُ شَيئا كانَ كَما أَرادَ بِأَمرِهِ مِن غَيرِ نُطقٍ ، لا مَلجَأَ لِعِبادِهِ مِمّا قَضى ، ولا حُجَّةَ لَهُم فيمَا ارتَضى ، لَم يَقدِروا عَلى عَمَلٍ ولا مُعالَجَةٍ مِمّا أَحدَثَ في أَبدانِهِمُ المَخلوقَةِ إِلّا بِرَبِّهِم ، فَمَن زَعَمَ أَنَّهُ يَقوى عَلى عَمَلٍ لَم يُرِدهُ اللّهُ عز و جل ، فَقَد زَعَمَ أَنَّ إِرادَتَهُ تَغلِبُ إِرادَةَ اللّهَ تَبارَكَ اللّهُ رَبُّ العالَمينَ (1) . (2)
الإمام الجواد عليه السلام :الحَمدُ للّهِِ إِقرارا بِنِعمَتِهِ ، ولا إِلهَ إِلَا اللّهُ إِخلاصا لِوَحدانِيَّتِهِ . (3)
1 / 5ما يَمتَنِعُ فِي التَّوحيدِالإمام عليّ عليه السلام :ما وَحَّدَهُ مَن كَيَّفَهُ ، ولا حَقيقَتَهُ أَصابَ مَن مَثَّلَهُ ، ولا إِيّاهُ عَنى مَن شَبَّهَهُ . (4)
عنه عليه السلام :دَليلُهُ آياتُهُ ، ووُجودُهُ إِثباتُهُ ، ومَعرِفَتُهُ تَوحيدُهُ ، وتَوحيدُهُ تَمييزُهُ مِن خَلقِهِ ، وحُكمُ التَّمييزِ بَينونَةُ صِفَةٍ لا بَينونَةُ عُزلَةٍ ، إِنَّهُ رَبٌّ خالِقٌ غَيرُ مَربوبٍ مَخلوقٍ ، كُلَّما يُتَصَوَّرُ فَهُوَ بِخِلافِهِ . (5)
.
ص: 375
عنه عليه السلام_ لَمّا سُئِلَ عَنِ التَّوحيدِ _: التَّوحيدُ أَلّا تَتَوَهَّمَهُ . (1)
الإمام الصادق عليه السلام_ لَمّا سَأَلَهُ رَجُلٌ أَن يَذكُرَ لَهُ مِنَ التَّوحيدِ ما يَسهَلُ الوُقوفُ عَلَيهِ ويَتَهَيَّأُ حِفظُهُ _: أَمَّا التَّوحيدُ فَأَلّا تُجَوِّزَ عَلى رَبِّكَ ما جازَ عَلَيكَ . (2)
الإمام الرضا عليه السلام :لَيسَ اللّهَ عَرَفَ مَن عَرَفَ بِالتَّشبيهِ ذاتَهُ ، ولا إِيّاهُ وَحَّدَ مَنِ اكتَنَهَهُ ، ولا حَقيقَتَهُ أَصابَ مَن مَثَّلَهُ ، ولا بِهِ صَدَّقَ مَن نَهّاهُ . (3)
الكافي عن أَبي الحسن عليه السلام :اللّهُ _ جَلَّ جَلالُهُ _ هُوَ واحِدٌ لا واحِدَ غَيرُهُ ، لَا اختِلافَ فيهِ ، ولا تَفاوُتَ ، ولا زِيادَةَ ولا نُقصانَ . (4)
.
ص: 376
. .
ص: 377
المرتبة الثّانية : التّوحيد في الصّفاتإِنّ التَّوحيد الوصفيّ يعني نفي الصفات الزائدة عن الذات الإلهية ، وهذا المطلب يلازم التَّوحيد الذاتي؛ إِذ على أَساس التَّوحيد الذاتي أَنّ اللّه تعالى غير مركّب من أَجزاء ، وقبول الصفات الزائدة على الذات يستلزم أَنّ اللّه تعالى مركّب من الذات والصفات . والتَّوحيد الوصفيّ يتعلّق بصفات الذات لا صفات الفعل ، وبعبارة أُخرى : إِنّ صفات الذات كالعلم والقدرة هي عين ذاته تعالى ، أَمّا صفات الفعل كالإرادة والكلام فهي من أَفعاله تعالى وهي حادثة . لقد اعتبر بعض المحقّقين التّوحيد الوصفيّ بمعنى توحيد اللّه سبحانه في الصفات الكمالية ، وهذا الرأي مفاد بعض الأَحاديث ، مثل : «كُلُّ عَزيزٍ غَيرَهُ ذَليلٌ ، وكُلُّ قَوِيٍّ غَيرَهُ ضَعيفٌ ، وكُلُّ مالِكٍ غَيرَهُ مَملوكٌ ...» . (1) وقد ذكرنا هذا المعنى للتوحيد الوصفيّ والأَحاديث المتعلقة به في ذيل التَّوحيد الذاتي .
.
ص: 378
2 / 1صِفاتُ اللّهِ عَينُ ذاتِهِالإمام عليّ عليه السلام :أَوَّلُ عِبادَةِ اللّهِ مَعرِفَتُهُ ، وأَصلُ مَعرِفَتِهِ تَوحيدُهُ ، ونِظامُ تَوحيدِهِ نَفيُ التَّشبيهِ عَنهُ ، جَلَّ عَن أَن تَحُلَّهُ الصِّفاتُ؛ لِشَهادَةِ العُقولِ أَنَّ كُلَ مَن حَلَّتهُ الصِّفاتُ مَصنوعٌ ، وشَهادَةِ العُقولِ أَنَّهُ _ جَلَّ جَلالُهُ _ صانِعٌ لَيسَ بِمَصنوعٍ. بِصُنعِ اللّهِ يُستَدَلُّ عَلَيهِ، وبِالعُقولِ تُعتَقَدُ مَعرِفَتُهُ، وبِالنَّظَرِ تَثبُتُ حُجَّتُهُ. جَعَلَ الخَلقَ دَليلاً عَلَيهِ ، فَكَشَفَ بِهِ عَن رُبوبِيَّتِهِ. هُوَ الواحِدُ الفَردُ في أَزَلِيَّتِهِ ، لا شَريكَ لَهُ في إِلهِيَّتِهِ ، ولا نِدَّ لَهُ في رُبوبِيَّتِهِ ، بِمُضادَّتِهِ بَينَ الأَشياءِ المُتَضادَّةِ عُلِمَ أَن لا ضِدَّ لَهُ ، وبِمُقارَنَتِهِ بَينَ الأُمورِ المُقتَرِنَةِ عُلِمَ أَن لا قَرينَ لَهُ . (1)
الإمام الباقر عليه السلام :إِنَّ رَبّي _ تَبارَكَ وتَعالى _ كانَ ولَم يَزَل حَيّا بِلا كَيفٍ ، ولَم يَكُن لَهُ كانَ ولا كانَ لِكَونِهِ كَونُ كَيفٍ ، ولا كانَ لَهُ أَينٌ ، ولا كانَ في شَيءٍ ولا كانَ عَلى شَيءٍ ، ولَا ابتَدَعَ لِمَكانِهِ مَكانا ولا قَوِيَ بَعدَما كَوَّنَ الأَشياءَ ، ولا كانَ ضَعيفا قَبلَ أَن يُكَوِّنَ شَيئا ، ولا كانَ مُستَوحِشا قَبلَ أَن يَبتَدِعَ شَيئا ، ولا يُشبِهُ شَيئا مَذكورا ، ولا كانَ خِلوا مِنَ المُلكِ قَبلَ إِنشائِهِ ولا يَكونُ مِنهُ خِلوا بَعدَ ذَهابِهِ ، لَم يَزَل حَيّا بِلا حَياةٍ ومَلِكا قادِرا قَبلَ أَن يُنشِئَ شَيئا ، ومَلِكا جَبّارا بَعدَ إِنشائِهِ لِلكَونِ . فَلَيسَ لِكَونِهِ كَيفٌ ولا لَه أَينٌ ولا لَهُ حَدٌّ ، ولا يُعرَفُ بِشَيءٍ يُشبِهُهُ ولا يَهرَمُ لِطولِ البَقاءِ ، ولا يَصعَقُ لِشَيءٍ ، بَل لِخَوفِهِ تَصعَقُ الأَشياءُ كُلُّها ، كانَ حَيّا بِلا حَياةٍ حادِثَةٍ ، ولا كَونٍ مَوصوفٍ ولا كَيفٍ مَحدودٍ ولا أَينٍ مَوقوفٍ عَلَيهِ ، ولا مَكانٍ جاوَرَ شَيئا ،
.
ص: 379
بَل حَيٌّ يُعرَفُ ومَلِكٌ لَم يَزَل لَهُ القُدرَةُ وَالمُلكُ ، أَنشَأَ ما شاءَ حينَ شاءَ بِمَشيئَتِهِ ، لا يُحَدُّ ولا يُبَعَّضُ ولا يَفنى ، كانَ أَوَّلاً بِلا كَيفٍ ويَكونُ آخِرا بِلا أَينٍ ، وكُلُّ شَيءٍ هالِكٌ إِلّا وَجهَهُ ، لَهُ الخَلقُ وَالأَمرُ تَبارَكَ اللّهُ رَبُّ العالَمينَ . (1)
الكافي عن محمّد بن مسلم عن الإمام الباقر عليه السلام_ في صِفَةِ القَديمِ _: إِنَّهُ واحِدٌ ، صَمَدٌ ، أَحَدِيُّ المَعنى ، لَيسَ بِمَعانٍ كَثيرَةٍ مُختَلِفَةٍ . قالَ: قُلتُ: _ جُعِلتُ فِداكَ _ يَزعُمُ قَومٌ مِن أَهلِ العِراقِ أَنَّهُ يَسمَعُ بِغَيرِ الَّذي يُبصِرُ ، ويُبصِرُ بِغَيرِ الَّذي يَسمَعُ! قالَ: فَقالَ: كَذَبوا وأَلحَدوا وشَبَّهوا ؛ تَعالَى اللّهُ عَن ذلِكَ ، إِنَّهُ سَميعٌ بَصيرٌ ، يَسمَعُ بِما يُبصِرُ ، ويُبصِرُ بِما يَسمَعُ . قالَ: قُلتُ: يَزعُمونَ أَنَّهُ بَصيرٌ عَلى ما يَعقِلونَهُ . قالَ: فَقالَ: تَعالَى اللّهُ! إِنَّما يُعقَلُ ما كانَ بِصِفَةِ المَخلوقِ ، ولَيسَ اللّهُ كَذلِكَ. (2)
الإمام الصادق عليه السلام :رَبُّنا نورِيُّ الذّاتِ ، حَيُّ الذّاتِ ، عالِمُ الذّاتِ ، صَمَدِيُّ الذّاتِ . (3)
عنه عليه السلام_ لِزِنديقٍ حينَ سَأَلَهُ: أَتَقولُ: إِنَّهُ سَميعٌ بَصيرٌ؟ _: هُوَ سَميعٌ بَصيرٌ ، سَميعٌ بِغَيرِ جارِحَةٍ وبَصيرٌ بِغَيرِ آلَةٍ ، بَل يَسمَعُ بِنَفسِهِ ويُبصِرُ بِنَفسِهِ ، ولَيسَ قَولي: «إِنَّهُ سَميعٌ بِنَفسِهِ» أَنَّهُ شَيءٌ وَالنَّفسُ شَيءٌ آخَرُ ، ولكِنّي أَرَدتُ عِبارَةً عَن نَفسي إِذ كُنتُ مَسؤولاً ، وإِفهاما لَكَ إِذ كُنتَ سائِلاً ، فَأَقولُ: يَسمَعُ بِكُلِّهِ لا أَنَّ كُلَّهُ لَهُ بَعضٌ ؛ لِأَنَّ
.
ص: 380
الكُلَّ لَنا (لَهُ) بَعضٌ ، ولكن أَرَدتُ إِفهامَكَ وَالتَّعبيرَ عَن نَفسي ، ولَيسَ مَرجِعي في ذلِكَ كُلِّهِ إِلّا أَنَّهُ السَّميعُ البَصيرُ ، العالِمُ الخَبيِرُ بِلَا اختِلافِ الذّاتِ ولا اختِلافِ مَعنىً . (1)
عنه عليه السلام :لَم يَزَلِ اللّهُ عَليما سَميعا بَصيرا ، ذاتٌ عَلّامَةٌ سَميعَةٌ بَصيرةٌ . (2)
التوحيد عن أبان بن عثمان الأحمر :قُلتُ لِلصّادِقِ جَعفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ عليهماالسلام : أَخبِرني عَنِ اللّهِ _ تَبارَكَ وتَعالى _ لَم يَزَل سَميعا بَصيرا عَليما قادِرا ؟ قالَ: نَعَم. قُلتُ لَهُ: إِنَّ رَجُلاً يَنتَحِلُ مُوالاتَكُم أَهلَ البَيتِ ، يَقولُ: إِنَّ اللّهَ _ تَبارَكَ وتَعالى _ لَم يَزَل سَميعا بِسَمعٍ ، وبَصيرا بِبَصَرٍ ، وعَليما بِعِلمٍ ، وقادِرا بِقُدرَةٍ! فَغَضِبَ عليه السلام ثُمَّ قالَ: مَن قالَ ذلِكَ ودانَ بِهِ فَهُوَ مُشرِكٌ ولَيسَ مِن وِلايَتِنا عَلى شَيءٍ ، إِنَّ اللّهَ _ تَبارَكَ وتَعالى _ ذاتٌ عَلّامَةٌ سَميعَةٌ بَصيرَةٌ قادِرَةٌ . (3)
الإمام الكاظم عليه السلام :أَوَّلُ الدِّيانَةِ بِهِ مَعرِفَتُهُ ، وكَمالُ مَعرِفَتِهِ تَوحيدُهُ ، وكَمالُ تَوحيدِهِ نَفيُ الصِّفاتِ عَنهُ ؛ بِشَهادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّها غَيرُ المَوصوفِ ، وشَهادَةِ المَوصوفِ أَنَّهُ غَيرُ الصِّفَةِ ، وشَهادَتِهِما جَميعا بِالتَّثنِيَةِ المُمتَنِعِ مِنهُ الأَزَلُ . (4)
.
ص: 381
الإمام الرضا عليه السلام :أَوَّلُ عِبادَةِ اللّهِ مَعرِفَتُهُ ، وأَصلُ مَعرِفَةِ اللّهِ تَوحيدُهُ ، ونِظامُ تَوحيدِ اللّهِ نَفيُ الصِّفاتِ عَنهُ ؛ لِشَهادَةِ العُقولِ أَنَّ كُلَّ صِفَةٍ ومَوصوفٍ مَخلوقٌ ، وشَهادَةِ كُلِّ مَخلوقٍ أَنَّ لَهُ خالِقا لَيسَ بِصِفَةٍ ولا مَوصوفٍ ، وشَهادَةِ كُلِّ صِفَةٍ ومَوصوفٍ بِالاِقتِرانِ ، وشَهادَةِ الاِقتِرانِ بِالحَدَثِ ، وشَهادَةِ الحَدَثِ بِالامتِناعِ مِنَ الأَزَلِ المُمتَنِعِ مِنَ الحَدَثِ . (1)
التوحيد عن الحسين بن خالد :سَمِعتُ الرِّضا عَلِيَّ بنَ موسى عليهماالسلام يَقولُ: لَم يَزَلِ اللّهُ _ تَبارَكَ وتَعالى _ عَليما قادِرا حَيّا قَديما سَميعا بَصيرا. فَقُلتُ لَهُ: يَا ابنَ رَسولِ اللّهِ ، إِنَّ قَوما يَقولونَ: إِنَّهُ عز و جل لَم يَزَل عالمِا بِعِلمٍ ، وقادِرا بِقُدرَةٍ ، وحَيّا بِحَياةٍ ، وقَديما بِقِدَمٍ ، وسَميعا بِسَمعٍ ، وبَصيرا بِبَصَرٍ. فَقالَ عليه السلام : مَن قالَ ذلِكَ ودانَ بِهِ فَقَدِ اتَّخَذَ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخرى ، ولَيسَ مِن وِلايَتِنا عَلى شَيءٍ . ثُمَّ قالَ عليه السلام : لَم يَزَلِ اللّهُ عز و جل عَليما قادِرا حَيّا قَديما سَميعا بَصيرا لِذاتِهِ ، تَعالى عَمّا يَقولُ المُشرِكونَ وَالمُشَبِّهونَ عُلُوّا كَبيرا . (2)
2 / 2الفَرقُ بَينَ صِفاتِ ذاتِهِ وصِفاتِ فِعلِهِالكافي عن أبي بصير عن الإمام الصادق عليه السلام :لَم يَزَلِ اللّهُ عز و جل رَبَّنا وَالعِلمُ ذاتُهُ
.
ص: 382
ولا مَعلومَ ، وَالسَّمعُ ذاتُهُ ولا مَسموعَ ، وَالبَصَرُ ذاتُهُ ولا مُبصَرَ ، وَالقُدرَةُ ذاتُهُ ولا مَقدورَ، فَلَمّا أَحدَثَ الأَشياءَ وكانَ المَعلومُ وَقَعَ العِلمُ مِنهُ عَلَى المَعلومِ، وَالسَّمعُ عَلَى المَسموعِ ، وَالبَصَرُ عَلَى المُبصَرِ ، وَالقُدرَةُ عَلَى المَقدورِ ... . قُلتُ: فَلَم يَزَلِ اللّهُ مُتَكَلِّما؟ قالَ: فَقالَ: إِنَّ الكَلامَ صِفَةٌ مُحدَثَةٌ لَيسَت بِأَزَلِيَّةٍ ، كانَ اللّهُ عز و جل ولا مُتَكَلِّمَ . (1)
الإمام الصادق عليه السلام _ لَمّا سُئِلَ:لَم يَزَلِ اللّهُ مُريدا؟ _ : إِنَّ المُريدَ لا يَكونُ إِلّا لِمُرادٍ مَعَهُ ، لَم يَزَلِ اللّهُ عالِما قادِرا ثُمَّ أَرادَ . (2)
الكافي عن بكير بن أعين :قُلتُ لِأَبي عَبدِاللّهِ عليه السلام : عِلمُ اللّهِ ومَشيئَتُهُ هُما مُختَلِفانِ أَو مُتَّفِقانِ؟ فَقالَ: العِلمُ لَيسَ هُوَ المَشيئَةُ ، أَلا تَرى أَنَّكَ تَقولُ: سَأَفعَلُ كَذا إِن شاءَ اللّهُ ، ولا تَقولُ سَأَفعَلُ كَذا إِن عَلِمَ اللّهُ! فَقَولُكَ: «إِن شاءَ اللّهُ» دَليلٌ عَلى أَنَّهُ لَم يَشَأ ، فَإِذا شاءَ كانَ الَّذي شاءَ كَما شاءَ ، وعِلمُ اللّهِ السّابِقُ (3) لِلمَشيئَةِ . (4)
التوحيد عن الحسن بن محمّد النوفلي_ في ذِكرِ مَجلِسِ الرِّضا عليه السلام مَعَ سُلَيمانَ المَروزِيِّ مُتَكَلِّمِ خُراسانَ عِندَ المَأَمونِ فِي التَّوحيدِ _: ... فَقالَ المَأمونُ : يا سُلَيمانُ ، سَل أَبا الحَسَنِ عَمّا بَدا لَكَ ، وعَلَيكَ بِحُسنِ الاِستِماعِ وَالإِنصافِ .
.
ص: 383
قالَ سُلَيمانُ: يا سَيِّدي أَسأَ لُكَ ؟ قالَ الرِّضا عليه السلام : سَل عَمّا بَدا لَكَ . قالَ: ما تَقولُ فيمَن جَعَلَ الإِرادَةَ اسما وصِفَةً ، مِثلَ حَيٍّ وسَميعٍ وبَصيرٍ وقَديرٍ؟ قالَ الرِّضا عليه السلام : إِنَّما قُلتُم : حَدَثَتِ الأَشياءُ وَاختَلَفَت ؛ لِأَنَّهُ شاءَ وأَرادَ ، ولَم تَقولوا : حَدَثَت وَاختَلَفَت ؛ لِأَنَّهُ سَميعٌ بَصيرٌ ، فَهذا دَليلٌ عَلى أَنَّها لَيست بِمِثلِ سَميعٍ ولا بَصيرٍ ولا قَديرٍ . قالَ سُلَيمانُ: فَإِنَّهُ لَم يَزَل مُريدا ، قالَ: يا سُلَيمانُ ، فَإِرادَتُهُ غَيرُهُ ؟ قالَ : نَعَم . قالَ : فَقَد أَثبَتَّ مَعَهُ شَيئا غَيرَهُ لَم يَزَل ! قالَ سُلَيمانُ: ما أَثبَتُّ . قالَ الرِّضا عليه السلام : أَهِيَ مُحدَثَةٌ؟ قالَ سُلَيمانُ: لا ، ما هِيَ مُحدَثَةٌ . فَصاحَ بِهِ المَأَمونُ ، وقالَ: يا سُلَيمانُ ، مِثلُهُ يُعايا أَو يُكابَرُ ؟! عَلَيكَ بِالإِنصافِ ، أَما تَرى مَن حَولَكَ مِن أَهلِ النَّظَرِ ؟ ثُمَ قالَ: كَلِّمهُ يا أَبَا الحَسَنِ ، فَإِنَّهُ مُتَكَلِّمُ خُراسانَ . فَأَعادَ عَلَيهِ المَسأَلَةَ ، فَقالَ : هِيَ مُحدَثَةٌ يا سُلَيمانُ ؛ فَإِنَّ الشَّيءَ إِذا لَم يَكُن أَزَلِيّا كانَ مُحدَثا ، وإِذا لَم يَكُن مُحدَثا كانَ أَزَلِيّا . قالَ سُلَيمانُ: إِرادَتُهُ مِنهُ ، كَما أَنَّ سَمعَهُ مِنهُ وبَصَرَهُ مِنهُ وعِلمَهُ مِنهُ . قالَ الرِّضا عليه السلام : فَإِرادَتُهُ نَفسُهُ؟
.
ص: 384
قالَ: لا . قالَ عليه السلام : فَلَيسَ المُريدُ مِثلَ السَّميعِ وَالبَصيرِ . قالَ سُلَيمانُ: إِنَّما أَرادَ نَفسُهُ ، كَما سَمِعَ نَفسُهُ وأَبصَرَ نَفسُهُ وعَلِمَ نَفسُهُ. قالَ الرِّضا عليه السلام : ما مَعنى أَرادَ نَفسُهُ ؟ أَرادَ أَن يَكونَ شَيئا ، أَو أَرادَ أَن يَكونَ حَيّا ، أَو سَميعا أَو بَصيرا أَو قَديرا! قالَ: نَعَم . قالَ الرِّضا عليه السلام : أَفَبِإِرادَتِهِ كانَ ذلِكَ؟! قالَ سُلَيمانُ: لا . قالَ الرِّضا عليه السلام : فَلَيسَ لِقَولِكَ: أَرادَ أَن يَكونَ حَيّا سَمعيا بَصيرا مَعنىً إِذا لَم يَكُن ذلِكَ بِإِرادَتِهِ ! قالَ سُلَيمانُ: بَلى ، قَد كانَ ذلِكَ بِإِرادَتِهِ . فَضَحِكَ المَأمونُ ومَن حَولَهُ وضَحِكَ الرِّضا عليه السلام ، ثُمَّ قالَ لَهُم: اِرفَقوا بِمُتُكَلِّمِ خُراسانَ . يا سُلَيمانُ ، فَقَد حالَ عِندَكُم عَن حالَةٍ وتَغَيَّرَ عَنها ، وهذا مِمّا لا يُوصَفُ اللّهُ عز و جل بِهِ . فَانقَطَعَ. ثُمَّ قالَ الرِّضا عليه السلام : يا سُلَيمانُ، أَسأَ لُكَ مَسأَلَةً . قالَ: سَل _ جُعِلتُ فِداكَ! _ . قالَ: أَخبِرني عَنكَ وعَن أَصحابِكَ تُكَلِّمونَ النّاسَ بِما يَفقَهونَ ويَعرِفونَ ، أَو بِما لا يَفقَهونَ ولا يَعرِفونَ؟! قالَ: بَل ، بِما يَفقَهونَ ويَعرِفونَ . قالَ الرِّضا عليه السلام : فَالَّذي يَعلَمُ النّاسُ أَنَّ المُريدَ غَيرُ الإِرادَةِ ، وأَنَّ المُريدَ قَبلَ الإِرادَةِ ،
.
ص: 385
وأَنَّ الفاعِلَ قَبلَ المَفعولِ ، وهذا يُبطِلُ قَولَكُم: إِنَّ الإِرادَةَ وَالمُريدَ شَيءٌ واحِدٌ . قالَ: _ جُعِلتُ فِداكَ ! _ لَيسَ ذاكَ مِنهُ عَلى ما يَعرِفُ النّاسُ ولا عَلى ما يَفقَهونَ . قالَ عليه السلام : فَأَراكُمُ ادَّعَيتُم عِلمَ ذلِكَ بِلا مَعرِفَةٍ ، وقُلتُم: الإِرادَةُ كَالسَّمعِ وَالبَصَرِ إِذا كانَ ذلِكَ عِندَكُم عَلى ما لا يُعرَفُ ولا يُعقَلُ ! فَلَم يُحِر جَوابا . ثُمَّ قالَ الرِّضا عليه السلام : يا سُلَيمانُ ، هَل يَعلَمُ اللّهُ عز و جل جَميعَ ما فِي الجَنَّةِ وَالنّارِ؟! قالَ سُلَيمانُ: نَعَم . قالَ: أَفَيَكونُ ما عَلِمَ اللّهُ عز و جل أَنَّهُ يَكونُ مِن ذلِكَ؟ قالَ: نَعَم . قالَ: فَإِذا كانَ حَتّى لا يَبقى مِنهُ شَيءٌ إِلّا كانَ أَيَزيدُهُم أَو يَطويهِ عَنهُم ؟ قالَ سُلَيمانُ: بَل يَزيدُهُم . قالَ: فَأَراهُ في قَولِكَ: قَد زادَهُم ، ما لَم يَكُن في عِلمِهِ أَنَّهُ يَكونُ . قالَ: _ جُعِلتُ فِداكَ ! _ وَالمَزيدُ لا غايَةَ لَهُ . قالَ عليه السلام : فَلَيسَ يُحيطُ عِلمُهُ عِندَكَم بِما يَكونُ فيهِما إِذا لَم يُعرَف غايَةُ ذلِكَ ، وإِذا لَم يُحِط عِلمُهُ بِما يَكونُ فيهِما لَم يَعلَم ما يَكونُ فيهِما قَبلَ أَن يَكونَ ، تَعالَى اللّهُ عَن ذلِكَ عُلُوّا كَبيرا . قالَ سُلَيمانُ: إِنَّما قُلتُ: لا يَعلَمُهُ ؛ لِأَنَّهُ لا غايَةَ لِهذا ، لِأَنَّ اللّهَ عز و جل وَصَفَهُما بِالخُلودِ وكَرِهنا أَن نَجعَلَ لَهُمَا انقِطاعا . قالَ الرِّضا عليه السلام : لَيسَ عِلمُهُ بِذلِكَ بِموجِبٍ لِانقِطاعِهِ عَنهُم ؛ لِأَنَّهُ قَد يَعلَمُ ذلِكَ ثُمَّ
.
ص: 386
يَزيدُهُم ثُمَّ لا يَقطَعُهُ عَنهُم ، وكَذلِكَ قالَ اللّهُ عز و جل في كِتابِهِ: «كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَ_هُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ» (1) وقالَ عز و جل لِأَهلِ الجَنَّةِ: «عَطَ_اءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ» (2) وقالَ عز و جل: «وَ فَ_كِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَا مَقْطُوعَةٍ وَ لَا مَمْنُوعَةٍ» (3) فَهُوَ _ جَلَّ وعَزَّ _ يَعلَمُ ذلِكَ ولا يَقطَعُ عَنهُم الزِّيادَةَ . أَرَأَيتَ ما أَكَلَ أَهلُ الجَنَّةِ وما شَرِبوا أَلَيسَ يُخلِفُ مَكانَهُ؟! قالَ: بَلى . قالَ: أَفَيَكونُ يَقطَعُ ذلِكَ عَنهُم وقَد أَخلَفَ مَكانَهُ؟! قالَ سُلَيمانُ: لا . قالَ: فَكَذلِكَ كُلُّ ما يَكونُ فيها إِذا أَخلَفَ مَكانَهُ فَلَيسَ بِمَقطوعٍ عَنهُم . قالَ سُلَيمانُ: بَل يَقطَعُهُ عَنهُم فَلا يَزيدُهُم . قالَ الرِّضا عليه السلام : إِذا يَبيدُ ما فيهِما ، وهذا يا سُلَيمانُ إِبطالُ الخُلودِ وخِلافُ الكِتابِ ؛ لِأَنَّ اللّهَ عز و جل يَقولُ: «لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَ لَدَيْنَا مَزِيدٌ» (4) ويَقولُ عز و جل : «عَطَ_اءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ» ويَقولُ عز و جل: «وَ مَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ» (5) ويَقولُ عز و جل: «خَ__لِدِينَ فِيهَا أَبَدًا» (6) ويَقولُ عز و جل: «وَ فَ_كِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَا مَقْطُوعَةٍ وَ لَا مَمْنُوعَةٍ» ! فَلَم يُحِر جَوابا. ثُمَّ قالَ الرِّضا عليه السلام : يا سُلَيمانُ ، أَلا تُخبِرُني عَنِ الإِرادَةِ فِعلٌ هِيَ أَم غَيرُ فِعلٍ؟
.
ص: 387
قالَ: بَل هِيَ فِعلٌ . قالَ: فَهِيَ مُحدَثَةٌ ؛ لِأَنَّ الفِعلَ كُلَّهُ مُحدَثٌ . قالَ: لَيسَت بِفِعلٍ . قالَ: فَمَعَهُ غَيرُهُ لَم يَزَل . قالَ سُلَيمانُ: الإِرادَةُ هِيَ الإِنشاءُ . قالَ: يا سُلَيمانُ هذَا الَّذِي ادَّعَيتُموهُ (1) عَلى ضِرارٍ وأَصحابِهِ مِن قَولِهِم: إِنَّ كُلَّ ما خَلَقَ اللّهُ عز و جل في سَماءٍ أَو أَرضٍ أَو بَحرٍ أَو بَرٍّ مِن كَلبٍ أَو خِنزيرٍ أَو قِردٍ أَو إِنسانٍ أَو دابَّةٍ إِرادَةُ اللّهِ عز و جل ، وإِنَّ إِرادَةَ اللّهِ عز و جل تَحيا وتَموتُ ، وتَذهَبُ ، وتَأكُلُ وتَشرَبُ ، وتَنكَحُ وتَلِدُ ، وتَظلِمُ ، وتَفعَلُ الفَواحِشَ ، وتَكفُرُ ، وتُشرِكُ ، فَتُبَرِّئُ مِنها وتُعاديها ، وهذا حَدُّها. قالَ سُلَيمانُ: إِنَّها كَالسَّمعِ وَالبَصَرِ وَالعِلمِ . قالَ الرِّضا عليه السلام : قَد رَجَعتَ إِلى هذا ثانِيَةً ، فَأَخبِرني عَنِ السَّمعِ وَالبَصَرِ وَالعِلمِ أَمَصنوعٌ؟ قالَ سُلَيمانُ: لا . قالَ الرِّضا عليه السلام : فَكَيفَ نَفَيتُموهُ فَمَرَّةً قُلتُم لَم يُرِد ومَرَّةً قُلتُم أَرادَ ، ولَيسَت بِمَفعولٍ لَهُ! قالَ سُلَيمانُ: إِنَّما ذلِكَ كَقَولِنا مَرَّةً عَلِمَ ومَرَّةً لَم يَعلَم .
.
ص: 388
قالَ الرِّضا عليه السلام : لَيسَ ذلِكَ سَواءً ؛ لِأَنَّ نَفيَ المَعلومِ لَيسَ بِنَفيِ العِلمِ ، ونَفيَ المُرادِ نَفيُ الإِرادَةِ أَن تَكونَ ؛ لِأَنَّ الشَّيءَ إِذا لَم يُرَد لَم يَكُن إِرادَةٌ ، وقَد يَكونُ العِلمُ ثابِتا وإِن لَم يَكُنِ المَعلومُ بِمَنزِلَةِ البَصَرِ؛ فَقَد يَكونُ الإِنسانُ بَصيرا وإِن لَم يَكُن المُبصَرُ ، ويَكونُ العِلمُ ثابِتا وإِن لَم يَكُنِ المَعلومُ . (1) قالَ سُلَيمانُ: إِنَّها مَصنوعَةٌ . قالَ عليه السلام : فَهِيَ مُحدَثَةٌ لَيسَت كَالسَّمعِ وَالبَصَرِ ؛ لِأَنَّ السَّمعَ وَالبَصَرَ لَيسا بِمَصنوعَينِ وهذِهِ مَصنوعَةٌ . قالَ سُلَيمانُ: إِنَّها صِفَةٌ مِن صِفاتِهِ لَم تَزَل . قالَ: فَيَنبَغي أَن يَكونَ الإِنسانُ لَم يَزَل ؛ لِأَنَّ صِفَتَهُ لَم تَزَل ! قالَ سُلَيمانُ: لا ؛ لِأَنَّهُ لَم يَفعَلها . قالَ الرِّضا عليه السلام : يا خُراسانِيُّ ما أَكثَرَ غَلَطَكَ ! أَفَلَيسَ بِإِرادَتِهِ وقَولِهِ تَكَوُّنُ الأَشياءِ؟! قالَ سُلَيمانُ: لا . قالَ: فَإِذا لَم يَكُن بِإِرادَتِهِ ولا مَشيئَتهِ ولا أَمرِهِ ولا بِالمُباشَرَةِ فَكَيفَ يَكونُ ذلِكَ؟! تَعالَى اللّهُ عَن ذلِكَ . فَلَم يُحِر جَوابا. ثُمَّ قالَ الرِّضا عليه السلام : أَلا تُخبِرُني عَن قَولِ اللّهِ عز و جل: «وَ إِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا» (2) يَعني بِذلِكَ أَنَّهُ يُحدِثُ إِرادَةً؟!
.
ص: 389
قالَ لَهُ: نَعَم . قالَ: فَإِذا أَحدَثَ إِرادَةً كانَ قَولُكَ : إِنَّ الإِرادَةَ هِيَ هُوَ أَم شَيءٌ مِنهُ باطِلاً ؛ لِأَنَّهُ لا يَكونُ أَن يُحدِثَ نَفسَهُ ولا يَتَغَيَّرَ عَن حالِهِ ، تَعالَى اللّهُ عَن ذلِكَ . قالَ سُلَيمانُ: إِنَّهُ لَم يَكُن عَنى بِذلِكَ أَنَّهُ يُحدِثُ إِرادَةً . قالَ: فَما عَنى بِهِ ؟ قالَ: عَنى فِعلَ الشَّيءِ. قالَ الرِّضا عليه السلام : وَيلَكَ ! كَم تُرَدِّدُ هذِهِ المَسأَلَةَ ، وقَد أَخبَرتُكَ أَنَّ الإِرادَةَ مُحدَثَةٌ ؛ لِأَنَّ فِعلَ الشَّيءِ مُحدَثٌ . قالَ: فَلَيسَ لَها مَعنىً . قالَ الرِّضا عليه السلام : قَد وَصَفَ نَفسَهُ عِندَكُم حَتّى وَصَفَها بِالإِرادَةِ بِما لا مَعنى لَهُ، فَإِذا لَم يَكُن لَها مَعنىً قَديمٌ ولا حَديثٌ بَطَلَ قَولُكُم : إِنَّ اللّهَ لَم يَزَل مُريدا. قالَ سُلَيمانُ: إِنَّما عَنَيتُ أَنَّها فِعلٌ مِنَ اللّهِ لَم يَزَل . قالَ: أَلا تَعلَمُ أَنَّ ما لَم يَزَل لا يَكونُ مَفعولاً وحَديثا وقَديما في حالَةٍ واحِدَةٍ؟! فَلَم يُحِر جَوابا. قالَ الرِّضا عليه السلام : لا بَأسَ ، أَتمِم مَسأَلَتَكَ . قالَ سُلَيمانُ: قُلتُ: إِنَّ الإِرادَةَ صِفَةٌ مِن صِفاتِهِ . قالَ الرِّضا عليه السلام : كَم تُرَدِّدُ عَلَيَّ أَنَّها صِفَةٌ مِن صِفاتِهِ . وصِفَتُهُ مُحدَثَةٌ أَو لَم تَزَل؟! قالَ سُلَيمانُ: مُحدَثَةٌ .
.
ص: 390
قالَ الرِّضا عليه السلام : اللّهُ أَكبَرُ ، فَالإِرادَةُ مُحدَثَةٌ وإِن كانَت صِفَةً مِن صِفاتِهِ لَم تَزَل ؟ فَلَم يَرُدَّ شَيئا. قالَ الرِّضا عليه السلام : إِنَّ ما لَم يَزَل لا يَكونُ مَفعولاً . قالَ سُلَيمانُ: لَيسَ الأَشياءُ إِرادَةً ، ولَم يُرِد شَيئا. قالَ الرِّضا عليه السلام : وَسوَستَ يا سُلَيمانُ ، فَقَد فَعَلَ وخَلَقَ ما لَم يُرِد خَلقَهُ ولا فِعلَهُ ، وهذِهِ صِفَةُ مَن لا يَدري ما فَعَلَ ، تَعالَى اللّهُ عَن ذلِكَ. قالَ سُلَيمانُ: يا سَيِّدي قَد أَخبَرتُكَ أَنَّها كَالسَّمعِ وَالبَصَرِ وَالعِلمِ . قالَ المَأمونُ: وَيلَكَ يا سُلَيمانُ ، كَم هذَا الغَلَطُ وَالتَّرَدُّدُ ، اقطَع هذا وخُذ في غَيرِهِ إِذ لَستَ تَقوى عَلى هذَا الرَّدِّ . قالَ الرِّضا عليه السلام : دَعهُ يا أَميرَالمُؤمِنينَ ، لا تَقطَع عَلَيهِ مَسأَلَتَهُ فَيَجعَلَها حُجَّةً . تَكَلَّم يا سُلَيمانُ . قالَ: قَد أَخبَرتُكَ أَنَّها كَالسَّمعِ وَالبَصَرِ وَالعِلمِ . قالَ الرِّضا عليه السلام : لا بَأسَ ، أَخبِرني عَن مَعنى هذِهِ أَمعنىً واحِدٌ أَم مَعانٍ مُختَلِفَةٌ؟! قالَ سُلَيمانُ: بَل مَعنىً واحِدٌ . قالَ الرِّضا عليه السلام : فَمَعنَى الإِراداتِ كُلِّها مَعنىً واحِدٌ؟ قالَ سُلَيمانُ: نَعَم . قالَ الرِّضا عليه السلام : فَإِن كانَ مَعناها مَعنىً واحِدا كانَت إِرادَةُ القِيامِ وإِرادَةُ القُعودِ
.
ص: 391
وإِرادَةُ الحَياةِ وإِرادَةُ المَوتِ ، إِذا كانَت إِرادَتُهُ واحِدَةً لَم يَتَقَدَّم بَعضُها بَعضا ولَم يُخالِف بَعضُها بَعضا ، وكانَ شَيئا واحِدا ! قالَ سُلَيمانُ: إِنَّ مَعناها مُختَلِفٌ . قالَ عليه السلام : فَأَخبِرني عَنِ المُريدِ أَهُوَ الإِرادَةُ أَو غَيرُها؟! قالَ سُلَيمانُ: بَل هُوَ الإِرادَةُ . قالَ الرِّضا عليه السلام : فَالمُريدُ عِندَكُم يَختَلِفُ إِن كانَ هُوَ الإِرادَةُ ؟ قالَ: يا سَيِّدي ، لَيسَ الإِرادَةُ المُريدَ . قالَ عليه السلام : فَالإِرادَةُ مُحدَثَةٌ ، وإِلّا فَمَعَهُ غَيرُهُ. افهَم وزِد في مَسأَلَتِكَ. قالَ سُلَيمانُ: فَإِنَّها اسمٌ مِن أَسمائِهِ . قالَ الرِّضا عليه السلام : هَل سَمّى نَفسَهُ بِذلِكَ؟ قالَ سُلَيمانُ: لا ، لَم يُسَمِّ نَفسَهُ بِذلِكَ . قالَ الرِّضا عليه السلام : فَلَيسَ لَكَ أَن تُسَمِّيَهُ بِما لَم يُسَمِّ بِهِ نَفسَهُ . قالَ: قَد وَصَفَ نَفسَهُ بِأَنَّهُ مُريدٌ . قالَ الرِّضا عليه السلام : لَيسَ صِفَتُهُ نَفسَهُ أَنَّهُ مُريدٌ إِخبارا عَن أنَّهُ إِرادَةٌ ولا إِخبارا عَن أَنَّ الإِرادَةَ اسمٌ مِن أَسمائِهِ . قالَ سُلَيمانُ: لِأَنَّ إِرادَتَهُ عِلمُهُ . قالَ الرِّضا عليه السلام : يا جاهِلُ ، فِإِذا عَلِمَ الشَّيءَ فَقَد أَرادَهُ .
.
ص: 392
قالَ سُلَيمانُ: أَجَل . قالَ عليه السلام : فَإِذا لَم يُرِدهُ لَم يَعلَمهُ . قالَ سُلَيمانُ: أَجَل . قالَ عليه السلام : مِن أَينَ قُلتَ ذاكَ ، ومَا الدَّليلُ عَلى أَنَّ إِرادَتَهُ عِلمُهُ ، وقَد يَعلَمُ ما لا يُريدُهُ أَبَدا ، وذلِكَ قَولُهُ عز و جل : «وَ لَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ» (1) فَهُوَ يَعلَمُ كَيفَ يَذهَبُ بِهِ وهُوَ لا يَذهَبُ بِهِ أَبَدا . قالَ سُلَيمانُ: لِأَنَّهُ قَد فَرَغَ مِنَ الأَمرِ فَلَيسَ يَزيدُ فيهِ شَيئا . قالَ الرِّضا عليه السلام : هذا قَولُ اليَهودِ. فَكَيفَ قالَ عز و جل: «ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ» (2) ؟ قالَ سُلَيمانُ: إِنَّما عَنى بِذلِكَ أَنَّهُ قادِرٌ عَلَيهِ . قالَ عليه السلام : أَفَيَعِدُ ما لا يَفي بِهِ؟! فَكَيفَ قالَ عز و جل: «يَزِيدُ فِى الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ» (3) وقالَ عز و جل : «يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِندَهُ أُمُّ الْكِتَ_بِ» (4) وقَد فَرَغَ مِنَ الأَمرِ ؟! فَلَم يُحِر جَوابا . قالَ الرِّضا عليه السلام : يا سُلَيمانُ ، هَل يَعلَمُ أَنَّ إِنسانا يَكونُ ولا يُريدُ أَن يَخلُقَ إِنسانا أَبَدا ، وأَنَّ إِنسانا يَموتُ اليَومَ ولا يُريدُ أَن يَموتَ اليَومَ؟ قالَ سُلَيمانُ: نَعَم . قالَ الرِّضا عليه السلام : فَيَعلَمُ أَنَّهُ يَكُون ما يُريدُ أَن يَكونَ ، أَو يَعلَمُ أَنَّهُ يَكونُ ما لا يُريدُ أَن يَكونَ؟!
.
ص: 393
قالَ: يَعلَمُ أَنَّهُما يَكونانِ جَميعا . قالَ الرِّضا عليه السلام : إِذا يَعلَمُ أَنَّ إِنسانا حَيٌّ مَيِّتٌ ، قائِمٌ قاعِدٌ ، أَعمى بَصيرٌ في حالٍ واحِدَةٍ ، وهذا هُوَ المُحالُ ! قالَ: _ جُعِلتُ فِداكَ ! _ فَإِنَّهُ يَعلَمُ أَنَّهُ يَكونُ أَحدُهُما دونَ الآخَرِ . قالَ عليه السلام : لا بَأسَ ، فَأَيَّهُمُا يَكونُ ؛ الَّذي أَرادَ أَن يَكونَ ، أَوِ الَّذي لَم يُرِد أَن يَكونَ ؟ قالَ سُلَيمانُ: الَّذي أَرادَ أَن يَكونَ . فَضَحِكَ الرِّضا عليه السلام وَالمَأمونُ وأَصحابُ المَقالاتِ. قالَ الرِّضا عليه السلام : غَلَطتَ وتَرَكتَ قَولَكَ: إِنَّهُ يَعلَمُ أَنَ إِنسانا يَموتُ اليَومَ وهُوَ لا يُريدُ أَن يَموتَ اليَومَ ، وأَنَّهُ يَخلُقُ خَلقا وهُوَ لا يُريدُ أَن يَخلُقَهُم، فَإِذا لَم يَجُزِ العِلمُ عِندَكُم بِما لَم يُرِد أَن يَكونَ فَإِنَّما يَعلَمُ أَن يَكونَ ما أَرادَ أَن يَكونَ. قالَ سُلَيمانُ: فَإِنَّما قَولي: إِنَّ الإِرادَةَ لَيسَت هُوَ ولا غَيرَهُ . قالَ الرِّضا عليه السلام : يا جاهِلُ ، إِذا قُلتَ: لَيسَت هُوَ ؛ فَقَد جَعَلتَها غَيرَهُ ، وإِذا قُلتَ: لَيسَت هِيَ غَيرَهُ ؛ فَقَد جَعَلتَها هُوَ ! قالَ سُلَيمانُ: فَهُوَ يَعلَمُ كَيفَ يَصنَعُ الشَّيءَ؟ قالَ عليه السلام : نَعَم . قالَ سُلَيمانُ: فَإِنَّ ذلِكَ إِثباتٌ لِلشَّيءِ . قالَ الرِّضا عليه السلام : أَحَلتَ ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ قَد يُحسِنُ البِناءَ وإِن لَم يَبنِ ، ويُحسِنُ الخِياطَةَ
.
ص: 394
وإِن لَم يَخِط ، ويُحسِنُ صنعَةَ الشَّيءِ وإِن لَم يَصنَعهُ أَبَدا . ثُمَّ قالَ لَهُ: يا سُلَيمانُ هَل يَعلَمُ أَنَّهُ واحِدٌ لا شَيءَ مَعَهُ؟! قالَ: نَعَم . قالَ: أَفَيَكونُ ذلِكَ إِثباتا لِلشَّيءِ؟ قالَ سُلَيمانُ: لَيسَ يَعلَمُ أَنَّهُ واحِدٌ لا شَيءَ مَعَهُ. قالَ الرِّضا عليه السلام : أَفَتَعلَمُ أَنتَ ذاكَ؟ قالَ: نَعَم . قالَ: فَأَنتَ يا سُلَيمانُ أَعلَمُ مِنهُ إِذا ! قالَ سُلَيمانُ: المَسأَلَةُ مُحالٌ . قالَ: مُحالٌ عِندَكَ أَنَّهُ واحِدٌ لا شَيءَ مَعَهُ ، وأَنَّهُ سَميعٌ بَصيرٌ حَكيمٌ عَليمٌ قادِرٌ؟ قالَ: نَعَم . قالَ عليه السلام : فَكَيفَ أَخبَرَ اللّهُ عز و جل أَنَّهُ واحِدٌ حَيٌّ سَميعٌ بَصيرٌ عَليمٌ خَبيرٌ وهُوَ لا يَعلَمُ ذلِكَ! وهذا رَدُّ ما قالَ وتَكذيبُهُ ، تَعالَى اللّهُ عَن ذلِكَ . ثُمَّ قالَ الرِّضا عليه السلام : فَكَيفَ يُريدُ صُنعَ ما لا يَدري صُنعَهُ ولا ما هُوَ! وإِذا كانَ الصّانِعُ لا يَدري كَيفَ يَصنَعُ الشَّيءَ قَبلَ أَن يَصنَعَهُ فَإِنَّما هُوَ مُتَحَيِّرٌ ، تَعالَى اللّهُ عَن ذلِكَ. قالَ سُلَيمانُ: فَإِنَّ الإِرادَةَ القُدرَةُ . قالَ الرِّضا عليه السلام : وهُوَ عز و جل يَقدِرُ عَلى ما لا يُريدُهُ أَبَدا ، ولا بُدَّ مِن ذلِكَ لِأَنَّهُ قالَ
.
ص: 395
_ تَبارَكَ وتَعالى _ : «وَ لَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ» فلَو كانَتِ الإِرادَةُ هِيَ القُدرَةُ كانَ قَد أَرادَ أَن يَذهَبَ بِهِ لِقُدرَتِهِ . فَانقَطَعَ سُليمانُ . قالَ المَأمونُ عِندَ ذلِكَ: يا سُلَيمانُ ، هذا أَعلَمُ هاشِمِيٍّ. ثُمَّ تَفَرَّقَ القَومُ . (1)
.
ص: 396
. .
ص: 397
المرتبة الثّالثة : التّوحيد في الأفعالإِنّ التَّوحيد في الأَفعال ، يعني : كلّ فعل يحدث في هذا العالم هو تحت سلطنة الخالق وبمشيئته وتقديره تعالى ، وليس ثمة فاعل يوازي الخالق أَو مستقلّ عنه ، وينطبق هذا المعنى على جميع الأَفعال الإلهيّة ، ومن بين الأَفعال الإلهية المهمّة : الخلق ، والربوبية ، والتدبير ، من هنا طرحت في ذيل التَّوحيد في الأَفعال .
3 / 1التَّوحيدُ فِي الخالِقِيَّةِالكتاب«قُلِ اللَّهُ خَ__لِقُ كُلِّ شَىْ ءٍ وَ هُوَ الْوَ حِدُ الْقَهَّ_رُ» . (1)
«هُوَ اللَّهُ الْخَ__لِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى» . (2)
«هَلْ مِنْ خَ__لِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ» . (3)
.
ص: 398
الحديثرسول اللّه صلى الله عليه و آله_ فِي الدُّعاءِ _: يا لا إِلهَ إِلّا أَنتَ ، لَيسَ خالِقا ولا رازِقا سِواكَ يا اللّهُ ، وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الظّاهِرِ في كُلِّ شَيءٍ بِالقُدرَةِ وَالكِبرِياءِ وَالبُرهانِ وَالسُّلطانِ يا اللّهُ . (1)
عنه صلى الله عليه و آله :قالَ اللّهُ عز و جل : ومَن أَظلَمُ مِمَّن ذَهَبَ يَخلُقُ كَخَلقي ! فَليَخلُقوا ذَرَّةً (2) أَو لِيَخلُقوا حَبَّةً أَو شَعيرَةً . (3)
عنه صلى الله عليه و آله :سُبحانَكَ الَّذي لا إِلهَ غَيرُهُ ... بَديعُ السَّماواتِ وَالأَرضِ ، المُبدِعُ غَيرَ المُبتَدِعِ ، خالِقُ ما يُرى وما لا يُرى . (4)
الإمام الصادق عليه السلام :إِنَّ اللّهَ عز و جل خَلَقَ الخَلقَ لا شَريكَ لَهُ ، لَهُ الخَلقُ وَالأَمرُ وَالدُّنيا وَالآخِرَةُ ، وهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيءٍ وخالِقُهُ ، خَلَقَ الخَلقَ وأَوجَبَ أَن يَعرِفوهُ بِأَنبِيائِهِ ، فَاحتَجَّ عَلَيهِم بِهِم ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه و آله هُوَ الدَّليلُ عَلَى اللّهِ عز و جل ، وهُوَ عَبدٌ مَخلوقٌ مَربوبٌ اِصطَفاهُ اللّهُ لِنَفسِهِ بِرِسالَتِهِ . (5)
راجع : ج4 ص171 (الفصل الثاني والعشرون : الخالق) و ج 5 ص 3 (الفصل الخمسون : الفاعل ، الفعّال) .
.
ص: 399
3 / 2التَّوحيدُ فِي الرُّبوبِيَّةِ3 / 2 _ 1لا رَبَّ غَيرُهُرسول اللّه صلى الله عليه و آله :يا اللّهُ لا إِلهَ إِلّا أَنتَ وَحدَكَ لا شَريكَ لَكَ ولا إِلهَ غَيرُكَ ، أَنتَ رَبُّ الأَربابِ ، ومالِكُ الرِّقابِ ، وصاحِبُ العَفوِ وَالعِقابِ ، أَسأَ لُكَ بِالرُّبوبِيَّةِ الَّتِي انفَرَدتَ بِها أَن تُعتِقَني مِنَ النَّارِ بِقُدرَتِكَ . (1)
الإمام عليّ عليه السلام_ مِن خُطبَةٍ لَهُ فِي التَّوحيدِ _: عَلِمَ ما خَلَقَ وخَلَقَ ما عَلِمَ لا بِالتَّفكيرِ في عِلمٍ حادِثٍ أَصابَ ما خَلَقَ ، ولا شُبهَةٍ دَخَلَت عَلَيهِ فيما لَم يَخلُق ، لكِن قَضاءٌ مُبرَمٌ وعِلمٌ مُحكَمٌ وأَمرٌ مُتقَنٌ ، تَوَحَّدَ بِالرُّبوبِيَّةِ وخَصَّ نَفسَهُ بِالوَحدانِيَّةِ . (2)
عنه عليه السلام_ مِن خُطبَتِهِ بِصِفِّينَ _: فَإِنَّما أَنَا وأَنتُم عَبيدٌ مَملوكونَ لِرَبٍّ لا رَبَّ غَيرُهُ ، يَملِكُ مِنّا ما لا نَملِكُ مِن أَنفُسِنا . (3)
الإمام الصادق عليه السلام :اَللّهُ غايَةُ مَن غَيّاهُ ، وَالمُغَيّى غَيرُ الغايَةِ ، تَوَحَّدَ بِالرُّبوبِيَّةِ ووَصَفَ نَفسَهُ بِغَيرِ مَحدودِيَّةٍ . (4)
.
ص: 400
الإمام الهادي عليه السلام_ فِي الدُّعاءِ _: يا مَن تَفَرَّدَ بِالرُّبوبِيَّةِ وتَوَحَّدَ بِالوَحدانِيَّةِ ، يا مَن أَضاءَ بِاسمِهِ النَّهارُ وأَشرَقَت بِهِ الأَنوارُ . (1)
3 / 2 _ 2ما يَدُلُّ عَلى وَحدَةِ الرُّبوبِيَّةِالإمام عليّ عليه السلام :اَللّهُ أَكبَرُ الحَليمُ العَليمُ الَّذي لَهُ في كُلِّ صِنفٍ مِن غَرائِبِ فِطرَتِهِ وعَجائِبِ صَنعَتِهِ آيَةٌ بَيِّنَةٌ تَوجِبُ لَهُ الرُّبوبِيَّةَ ، وعَلى كُلِّ نَوعٍ مِن غَوامِضِ تَقديرِهِ وحُسنِ تَدبيرِهِ دَليلٌ واضِحٌ وشاهِدُ عَدلٍ يَقضِيانِ لَهُ بِالوَحدانِيَّةِ . (2)
عنه عليه السلام_ مِن كَلامِهِ فِي التَّوحيدِ _: بِصُنعِ اللّهِ يُستَدَلُّ عَلَيهِ ، وبِالعُقولِ تُعتَقَدُ مَعرِفَتُهُ ، وبِالنَّظَرِ تَثبُتُ حُجَّتُهُ ، جَعَلَ الخَلقَ دَليلاً عَلَيهِ فَكَشَفَ بِهِ عَن رُبوبِيَّتِهِ ، هُوَ الواحِدُ الفَردُ في أَزَلِيَّتِهِ ، لا شَريكَ لَهُ في إِلهِيَّتِهِ ، ولا نِدَّ لَهُ في رُبوبِيَّتِهِ . (3)
الإمام الكاظم عليه السلام_ لِهِشامِ بنِ الحَكَمِ _: إِنَّ اللّهَ _ تَبارَكَ وتَعالى _ بَشَّرَ أَهلَ العَقلِ وَالفَهمِ في كِتابِهِ ، فَقالَ: «فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَ أُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الْأَلْبَ_بِ» (4) ، يا هِشامُ ، إِنَّ اللّهَ _ تَبارَكَ وتَعالى _ أَكمَلَ لِلنّاسِ الحُجَجَ بِالعُقولِ ، ونَصَرَ النَّبِيّينَ بِالبَيانِ ودَلَّهُم عَلى رُبوبِيَّتِهِ بِالأَدِلَّةِ ، فَقالَ: «وَ إِلَ_هُكُمْ إِلَ_هٌ وَ حِدٌ لَا إِلَ_هَ إِلَا هُوَ الرَّحْمَ_نُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِى خَلْقِ
.
ص: 401
السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلَ_فِ الَّيْلِ وَ النَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَ بَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّيَ_حِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ لَايَ_تٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ » (1) . (2)
راجع : ج 4 ص 217 (الفصل السادس والعشرون : الربّ) .
3 / 3التَّوحيدُ فِي التَّدبيرِ3 / 3 _ 1لا يُدَبِّرُ الأَمرَ إلَا اللّهُالكتاب«قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَ الأَْبْصَ_رَ وَ مَن يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ وَ مَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ» . (3)
الحديثرسول اللّه صلى الله عليه و آله :يا مَن لا يُدَبِّرُ الأَمرَ إِلّا هُوَ . (4)
.
ص: 402
3 / 3 _ 2ما يَدُلُّ عَلى وَحدَةِ التَّدبيرِالكتاب«لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَ_نَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ» . (1)
«مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَ_هٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَ_ه بِمَا خَلَقَ وَ لَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَ_نَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ» . (2)
«قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءَالِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْاْ إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلاً * سُبْحَ_نَهُ وَ تَعَ__لَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا» . (3)
الحديثتفسير القمّي : «قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءَالِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْاْ إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلاً » قالَ: لَو كانَتِ الأَصنامُ آلِهَةً كَما يَزعُمونَ لَصَعِدوا إِلَى العَرشِ . (4)
تفسير القمّي :رَدَّ اللّهُ عَلَى الثَّنَوِيَّةِ الَّذينَ قالوا بِإِلهَينِ ، فَقالَ اللّهُ تَعالى: «مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَ_هٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَ_ه بِمَا خَلَقَ وَ لَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ » قالَ: لَو كانَ إِلهَينِ كَما زَعَمتُم لَكانا يَختَلِفانِ ، فَيَخلُقُ هذا ولا يَخلُقُ هذا ، ويُريدُ هذا ولا يُريدُ هذا ، ويَطلُبُ كُلُّ واحِدٍ مِنهُمَا الغَلَبَةَ ، وإِذا أَرادَ أَحَدُهُما خَلقَ إِنسانٍ أَرادَ
.
ص: 403
الآخَرُ خَلقَ بَهيمَةٍ ، فَيَكونُ إِنسانا وبَهيمَةً في حالَةٍ واحِدَةٍ ، وهذا غَيرُ مَوجودٍ ، فَلَمّا بَطَلَ هذا ثَبَتَ التَّدبيرُ وَالصُّنعُ لِواحِدٍ ، ودَلَّ أَيضا التَّدبيرُ وثَباتُهُ وقِوامُ بَعضِهِ بِبَعضٍ عَلى أنَّ الصّانِعَ واحِدٌ ، وذلكَ قَولُهُ: «مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ » إِلى قَولِهِ: «لَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ » ، ثُمَّ قالَ آنِفا: «سُبْحَ_نَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ » . (1)
الإمام عليّ عليه السلام_ في خُطبَةٍ لَهُ _: لَو ضَرَبتَ في مَذاهِبِ فِكرِكَ لِتَبلُغَ غاياتِهِ ، ما دَلَّتكَ الدَّلالَةُ إِلّا عَلى أَنَّ فاطِرَ النَّملَةِ هُوَ فاطِرُ النَّخلَةِ (النَّحلَةِ) ، لِدَقيقِ تَفصيلِ كُلِّ شَيءٍ ، وغامِضِ اختِلافِ كُلِّ حَيٍّ ، ومَا الجَليلُ وَاللَّطيفُ ، وَالثَّقيلُ وَالخَفيفُ ، وَالقَوِيُّ وَالضَّعيفُ في خَلقِهِ إِلّا سَواءٌ . (2)
عنه عليه السلام :لَمّا لَم يَكُن إِلى إِثباتِ صانِعِ العالَمِ طَريقٌ إِلّا بِالعَقلِ ؛ لِأَنَّهُ لا يُحَسُّ فَيُدرِكُهُ العِيانُ أَو شَيءٌ مِنَ الحَواسِّ ، فَلَو كانَ غَيرَ واحِدٍ ، بَلِ اثنَينِ أَو أَكثَرَ لَأَوجَبَ العَقلُ عِدَّةَ صُنّاعٍ كَما أَوجَبَ إِثباتَ الصَّانِعِ الواحِدِ ، ولَو كانَ صانِعُ العالَمِ اثنَينِ لَم يَجرِ تَدبيرُهُما عَلى نِظامٍ ، ولَم يَنسَق أَحوالُهُما عَلى إِحكامٍ ولا تَمامٍ ؛ لِأَنَّهُ مَعقولٌ مِنَ الاِثنَينِ الاِختِلافُ في دَواعيهِما وأَفعالِهِما . ولا يَجوزُ أَن يُقالَ: إِنَّهُما مُتَّفِقانِ ولا يَختَلِفانِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَن جازَ عَلَيهِ الاِتِّفاقُ جازَ عَلَيهِ الاِختِلافُ ، أَلا تَرى أَنَّ المُتَّفِقَينِ لا يَخلو أَن يَقدِرَ كُلٌّ مِنهُما عَلى ذلِكَ أَو لا يَقدِرُ كُلٌّ مِنهُما عَلى ذلِكَ ، فَإِن قَدَرا كانا جَميعا عاجِزَينِ ، وإِن لَم يَقدِرا كانا جاهِلَينِ ، وَالعاجِزُ وَالجاهِلُ لا يَكونُ إِلها ولا قَديما . (3)
.
ص: 404
الإمام الصادق عليه السلام_ لِلمُفَضَّلِ بنِ عُمَرَ _: يا مُفَضَّلُ ، أَوَّلُ العِبَرِ وَالأَدِلَّةِ عَلَى الباري جَلَّ قُدسُهُ تَهيِئَةُ هذَا العالَمِ وتَأليفُ أَجزائِهِ ونَظمُها عَلى ما هِيَ عَلَيهِ ؛ فَإِنَّكَ إِذا تَأَمَّلتَ العالَمَ بِفِكرِكَ ومَيَّزتَهُ بِعَقلِكَ وَجَدتَهُ كَالبَيتِ المَبنِيِّ المُعَدِّ فيهِ جَميعُ ما يَحتاجُ إِلَيهِ عِبادُهُ ، فَالسَّماءُ مَرفوعَةٌ كَالسَّقفِ ، وَالأَرضُ مَمدودَةٌ كَالبِساطِ ، وَالنُّجومُ مَنضودَةٌ كَالمَصابيحِ ، وَالجَواهِرُ مَخزونَةٌ كَالذَّخائِرِ ، وكُلُّ شَيءٍ فيها لِشَأنِهِ مُعَدٌّ ، وَالإِنسانُ كَالمُمَلَّكِ ذلِكَ البَيتِ ، وَالمُخَوَّلِ جَميعَ ما فيهِ ، وضُروبُ النَّباتِ مُهَيَّأَةٌ لِمَارِبِهِ ، وصُنوفُ الحَيَوانِ مَصروفَةٌ في مَصالِحِهِ ومَنافِعِهِ ، فَفي هذا دَلالَةٌ واضِحَةٌ عَلى أَنَّ العالَمَ مَخلوقٌ بِتَقديرٍ وحِكمَةٍ ، ونِظامٍ ومُلائَمَةٍ ، وأَنَّ الخالِقَ لَهُ واحِدٌ وهُوَ الَّذي أَلَّفَهُ ونَظَمَه بَعضا إِلى بَعضٍ . (1)
عنه عليه السلام_ مِن كَلامِهِ فِي التَّوحيدِ بَعدَ أَن ذَكَرَ بَعضَ آياتِ اللّهِ سُبحانَهُ _: فَكُلُّ هذا مِمّا يَستَدِلُّ بِهِ القَلبُ عَلَى الرَّبِّ سُبحانَهُ وتَعالى، فَعَرَفَ القَلبُ بِعَقلِهِ أَنَّ مَن دَبَّرَ هذِهِ الأَشياءَ هُوَ الواحِدُ العَزيزُ الحَكيمُ الَّذي لَم يَزَل ولا يَزالُ، وأَنَّهُ لَو كانَ فِي السَّماواتِ وَالأَرَضينَ آلِهَةٌ مَعَهُ سُبحانَهُ لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ، ولَعَلا بَعضُهُم عَلى بَعضٍ، ولَفَسَدَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُم عَلى صاحِبِهِ. وكَذلِكَ سَمِعَتِ الأُذُنُ ما أَنزَلَ المُدَبِّرُ مِنَ الكُتُبِ تَصديقا لِما أَدرَكَتهُ القُلوبُ بِعُقولِها، وتَوفيقِ اللّهِ إِيّاها، وما قالَهُ مَن عَرَفَهُ كُنهَ مَعرِفَتِهِ بِلا وَلَدٍ ولا صاحِبَةٍ ولا شَريكٍ، فَأَدَّتِ الأُذُنُ ما سَمِعَت مِنَ اللِّسانِ بِمَقالَةِ الأَنبِياءِ إِلَى القَلبِ. (2)
.
ص: 405
عنه عليه السلام_ في مُناظَرَتِهِ لِلزِّنديقِ _: لا يَخلو قَولُكَ: إِنَّهُمَا اثنانِ ، مِن أَن يَكونا قَديمَينِ قَوِيَّينِ ، أَو يَكونا ضَعيفَينِ ، أَو يَكونَ أَحدُهُمُا قَوِيّا وَالآخَرُ ضَعيفا ؛ فَإِن كانا قَوِيَّينِ فَلِمَ لا يَدفَعُ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما صاحِبَهُ ويَتَفَرَّدُ بِالتَّدبيرِ؟ وإِن زَعَمتَ أَنَّ أَحَدَهُما قَوِيٌّ وَالآخَرَ ضَعيفٌ ، ثَبَتَ أَنَّهُ واحِدٌ كَما نَقولُ ، لِلعَجزِ الظّاهِرِ فِي الثّاني فَإِن قُلتَ: إِنَّهُمَا اثنانِ ؛ لَم يَخلُ مِن أَن يَكونا مُتَّفِقَينِ مِن كُلِّ جِهَةٍ أَو مُفتَرِقَينِ مِن كُلِّ جِهَةٍ ؛ فَلَمّا رَأَينَا الخَلقَ مُنتَظِما وَالفَلَكَ جارِيا وَالتَّدبيرَ واحِدا وَاللَّيلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمسَ وَالقَمَرَ دَلَّ صِحَّةُ الأَمرِ وَالتَّدبيرِ وَائتِلافُ الأَمرِ عَلى أَنَّ المُدَبِّرَ واحِدٌ. ثُمَّ يَلزَمُكَ إِنِ ادَّعَيتَ اثنَينِ فُرجَةٌ ما بَينَهُما حَتّى يَكونَا اثنَينِ ، فَصارَتِ الفُرجَةُ ثالِثا بَينَهُما قَديما مَعَهُما ، فَيَلزَمُكَ ثَلاثَةٌ ، فَإِنِ ادَّعَيتَ ثَلاثَةً لَزِمَكَ ما قُلتَ فِي الاِثنَينِ حَتّى تَكونَ بَينَهُم فُرجَةٌ فَيَكونوا خَمسَةً ، ثُمَّ يَتَناهى فِي العَدَدِ إِلى ما لا نِهايَةَ لَهُ فِي الكَثرَةِ . (1)
عنه عليه السلام_ لَمّا سُئِلَ : مَا الدَّليلُ عَلى أَنَّ اللّهَ واحِدٌ؟ قالَ _: اِتِّصالُ التَّدبيرِ ، وتمَامُ الصُّنعِ ، كَما قالَ عز و جل : «لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَا اللَّهُ لَفَسَدَتَا» . (2)
عنه عليه السلام_ بَعدَ الإِشارَةِ إِلى آياتِ اللّهِ سُبحانَهُ فِي السَّماءِ وَالأَرضِ _: فَعَرَفَ القَلبُ بِالأَعلامِ المُنيرَةِ الواضِحَةِ أَنَّ مُدَبِّرَ الأُمورِ واحِدٌ ، وأَنَّهُ لَو كانَ اثنَينِ أَو ثَلاثَةً لَكانَ
.
ص: 406
في طولِ هذِهِ الأَزمِنَةِ وَالأَبَدِ وَالدَّهرِ اختِلافٌ فِي التَّدبيرِ ، وتَناقُضٌ فِي الأُمورِ ، ولَتَأَخَّرَ بَعضٌ وتَقَدَّمَ بَعضٌ ، ولَكانَ تَسَفَّلَ بَعضُ ما قَد عَلا ولَعَلا بَعضُ ما قَد سَفَلَ ، ولَطَلَعَ شَيءٌ وغابَ ؛ فَتَأَخَّرَ عَن وَقتِهِ أَو تَقَدَّمَ ما قَبلَهُ ، فَعَرَفَ القَلبُ بِذلِكَ أَنَّ مُدَبِّرَ الأَشياءِ ما غابَ مِنها وما ظَهَرَ هُوَ اللّهُ الأَوَّلُ ، خالِقُ السَّماءِ ومُمسِكُها ، وفارِشُ الأَرضِ وداحيها (1) ، وصانِعُ ما بَينَ ذلِكَ مِمّا عَدَّدنا وغَيرِ ذلك مِمّا لَم يُحصَ . (2)
الإمام الكاظم عليه السلام_ فِي الدُّعاءِ _: لَيسَ لَكَ فِي الخَلقِ شَريكٌ ، ولَو كانَ لَكَ شَريكٌ لَتَشابَهَ عَلَينا ولَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ ، ولَعَلا عُلُوّا كَبيرا ، جَلَّ قَدرُكَ عَن مُجاوَرَةِ الشُّركَاءِ . (3)
3 / 3 _ 3ما يُنافِي التَّوحيدَ فِي التَّدبيرِالكتاب«وَ مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَا وَ هُم مُّشْرِكُونَ» . (4)
الحديثالإمام الباقر عليه السلام_ في قَولِهِ تَعالى: «وَ مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم ... » _: مِن ذلِكَ قَولُ الرَّجُلِ: لا ، وحَياتِكَ . (5)
تفسير العياشي عن مالك بن عطيّة عن الإمام الصادق عليه السلام_ أَيضا _: هُوَ الرَّجُلُ يَقولُ:
.
ص: 407
لَولا فُلانٌ لَهَلَكتُ ، ولَولا فُلانٌ لَأَصَبتُ كَذا وكَذا ، ولَولا فُلانٌ لَضاعَ عِيالي ، أَلا تَرى أَنَّهُ قَد جَعَلَ للّهِِ شَريكا في مُلكِهِ يَرزُقُهُ ويَدفَعُ عَنهُ؟! قالَ قُلتُ: فَيَقولُ: لَولا أَنَّ اللّهَ مَنَّ عَلَيَّ بِفُلانٍ لَهَلَكتُ؟ قالَ: نَعَم ، لا بَأسَ بِهذا . (1)
راجع : ج 5 ص 185 (الفصل الثاني والسبعون : المدبّر) .
.
ص: 408
. .
ص: 409
المرتبة الرّابعة : التّوحيد في الحكمالتَّوحيد فيالحكم عبارة عن توحيده تعالى في تشريع الأَحكام وتقنينها. ويرى القرآن الكريم أَنّ للّه سبحانه وحده حقّ التشريع ووضع القوانين والأَمر بتطبيقها ، ويَعدُّ اتّباع كلّ قانون لحياة الانسان الفرديّة والاجتماعيّة ما عدا قانون اللّه شركا . إِنّ الدليل على أَنّ تشريع القوانين و تنفيذها للّه وحده ، هو أَنّ مَن يعرف الإنسان وحاجاته ، ويعلم مبادئ تكامله أَكثر من غيره ، ومن كان متحرّرا من الهوى والخوف في تنفيذ القانون ، هو أَفضل المشرّعين ، وما من أَحد يتّصف بهذه الخصائص بشكل كامل إِلّا اللّه سبحانه ، ولمّا كان تعالى خالقا للإنسان ، عارفا بقابليّاته وحاجاته ، العالم المطلق الذي يخبُر مبادئ تكامله ، والغنيّ المطلق ، فلا مانع يحول دون حكمه أَو حكومته . على هذا الأَساس يصف القرآن الكريم اللّهَ سبحانه بأنّه «خير الحاكمين» و «أَحكم الحاكمين» و «خير الفاصلين» . وأَنّ التشريع له وحدَه «إِن الحكم إِلّا للّه » ، وأَنّ الحكومة حقّ لخلفائه في الأَرض . قال جلّ شأنه : «يَ_دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَ_كَ خَلِيفَةً فِى الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لَا تَتَّبِعِ الْهَوَى» (1) .
.
ص: 410
الكتاب«وَهُوَ خَيْرُ الْحَ_كِمِينَ» . (1)
«وَ أَنتَ أَحْكَمُ الْحَ_كِمِينَ» . (2)
«مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِىٍّ وَ لَا يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا» . (3)
«إِنِ الْحُكْمُ إِلَا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَ_صِلِينَ» . (4)
«إِنِ الْحُكْمُ إِلَا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَا تَعْبُدُواْ إِلَا إِيَّاهُ ذَ لِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لَ_كِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» . (5)
«وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْ ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَ لِكُمُ اللَّهُ رَبِّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ» . (6)
«أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَ_سِبِينَ» . (7)
الحديثرسول اللّه صلى الله عليه و آله :لا تُسَمّوا أَولادَكُمُ الحَكَمَ ولا أَبَا الحَكَمِ ؛ فَإِنَّ اللّهَ هُوَ الحَكَمُ . (8)
الإمام زين العابدين عليه السلام :اللّهُمَّ لا أَشكو إِلى أَحَدٍ سِواكَ ، ولا أَستَعينُ بِحاكِمٍ غَيرِكَ ، حاشاكَ . (9)
راجع : ج 4 ص 125 (الفصل الخامس عشر : الحاكم) .
.
ص: 411
. .
ص: 412
المرتبة الخامسة : التّوحيد في الطّاعةإِنّ معنى التَّوحيد في الطَّاعة هو أَنّه ليس لأَحد أَن يُطاع إِلّا اللّه والذين اختارهم لأُمور عباده ، فاتّباع غير أَمر اللّه إِذا كان خلاف أَمره شركٌ ، وإِن كان الآمر هوى النفس الذي يعبّر القرآن عنه بالإله في قوله تعالى: «أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَ_هَهُ هَوَاهُ » (1) . والتَّوحيد في الطَّاعة شرط للتَّوحيد في التشريع والتقنين ، ذلك إِذا كان التشريع للّه وحده فإنّ إِطاعة غيره إِذا كان أَمره مخالفا لأَمر اللّه تعني اتّخاذ شريك للّه في التشريع . وفي ضوء ذلك، فاجتناب طاعة الأَهواء غير المشروعة والجبابرة الذين يعبّر عنهم القرآن الكريم بالطواغيت ، بل اجتناب اتّباع كل شيء وكلّ شخص يدعو الإنسان إِلى القيام بعمل يخالف أَمر اللّه سبحانه ضروريّ للحصول على هذه المرتبة من التَّوحيد ، و بجملة واحدة: إِنّ الإثم ومعصية اللّه في الحقيقة والواقع شرك في الطَّاعة.
.
ص: 413
بناءً على هذا فالموحّد الذي ليس بمشرك مطلقا هو الذي يجتنب الإثم و معصية اللّه مطلقا ، لذا قال الإمام الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى: «وَ مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَا وَ هُم مُّشْرِكُونَ» : «شِركُ طاعَةٍ ولَيسَ شِركَ عِبادَةٍ» . (1) والتَّوحيد في الطاعة كالتقوى له ثلاث مراحل هي: الاُولى : أَداء الواجبات وترك المحرّمات الإلهيّة . الثانية : عمل المستحبّات وترك المكروهات . الثالثة : اجتناب كلّ ما ليس له صبغة إِلهيّة سواءٌ كان حراما أَم مكروها أَم مباحا . ففي وصيّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله لأَبي ذرّ _ رضوان اللّه عليه _ حين قال له: «يا أباذَرٍّ، لِيَكُن لَكَ في كُلِّ شَيءٍ نِيَّةٌ صالِحَةٌ حَتَّى فِي النَّومِ وَالأَكلِ» . (2) إِشارة إِلى هذه المرحلة من التَّوحيد التي تعدّ من أَعلى مراحل التَّوحيد في الطَّاعة قال اللّه عز و جل : «فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَ اسْمَعُواْ وَ أَطِيعُواْ وَ أَنفِقُواْ خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَ مَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» . (3) «مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَ_كَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا» . (4) «يَ_أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الْأَمْرِ مِنكُمْ» . (5)
.
ص: 414
«وَ مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَا وَ هُم مُّشْرِكُونَ» . (1) «وَ لَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَ اجْتَنِبُواْ الطَّ_غُوتَ» . (2) «وَ الَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّ_غُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَ أَنَابُواْ إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى» . (3) «اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَ_نَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلَا لِيَعْبُدُواْ إِلَ_هًا وَ حِدًا لَا إِلَ_هَ إِلَا هُوَ سُبْحَ_نَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» . (4) «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا» . (5)
الحديثتفسير العيّاشي عن أَبي الصباح الكناني عن الإمام الباقر عليه السلام :إِيّاكُم وَالوَلائِجَ (6) ، فَإِنَّ كُلَّ وَليجَةٍ دونَنا فَهِيَ طاغوتٌ _ أَو قالَ : نِدٌّ _ . (7)
الإمام الصادق عليه السلام_ في قَولِهِ تَعالى: «وَ مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَا وَ هُم مُّشْرِكُونَ» _: شِركُ طاعَةٍ ولَيسَ شِركَ عِبادَةٍ . (8)
عنه عليه السلام_ أيضا _: يُطيعُ الشَّيطانَ مِن حَيثُ لا يَعلَمُ فَيُشرِكُ . (9)
.
ص: 415
الكافي عن عبد اللّه الكاهلي عن الإمام الصادق عليه السلام :لَو أَنَّ قَوما عَبَدُوا اللّهَ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ ، وأَقامُوا الصَّلاةَ ، وآتَوُا الزَّكاةَ ، وحَجُّوا البَيتَ ، وصاموا شَهرَ رَمَضانَ ؛ ثُمَّ قالوا لِشَيءٍ صَنَعَهُ اللّهُ أَو صَنَعَهُ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : أَلا صَنَعَ خِلافَ الَّذي صَنَعَ؟ أَو وَجَدوا ذلِكَ في قُلوبِهِم ، لَكانوا بِذلِكَ مُشرِكينَ . ثُمَ تَلا هذِهِ الآيَةَ: «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا» . ثُمَّ قالَ أَبو عَبدِاللّهِ عليه السلام : عَلَيكُم بِالتَّسليمِ . (1)
الإمام الصادق عليه السلام :إِنَّ بَني أُمَيَّةَ أَطلَقوا لِلنَّاسِ تَعليمَ الإِيمانِ ولَم يُطلِقوا تَعليمَ الشِّركِ ، لِكَي إِذا حَمَلوهُم عَلَيهِ لَم يَعرِفوهُ . (2)
عنه عليه السلام_ وقَد سَأَلَهُ أَبو بَصيرٍ عَن قَولِهِ تَعالى: «اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَ_نَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ» _: أَمَا وَاللّهِ ما دَعَوهُم إِلى عِبادَةِ أَنفُسِهِم ، ولَو دَعَوهُم إِلى عِبادَةِ أَنفُسِهِم لَما أَجابوهُم ، ولكِن أَحَلّوا لَهُم حَراما وحَرَّموا عَلَيهِم حَلالاً فَعَبَدوهُم مِن حَيثُ لا يَشعُرونَ . (3)
عنه عليه السلام_ لِأَبي بَصيرٍ في قَولِهِ تَعالى: «وَ الَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّ_غُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَ أَنَابُواْ إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى» (4) _: أَنتُم هُم ، ومَن أَطاعَ جَبّارا فَقَد عَبَدَهُ . (5)
عنه عليه السلام :مَرَّ عيسى بنُ مَريَمَ عليه السلام عَلى قَريَةٍ قَد ماتَ أَهلُها ... فَقالَ: يا أَهلَ هذِهِ القَريَةِ ،
.
ص: 416
فَأَجابَهُ مِنهُم مُجيبٌ: لَبَّيكَ يا روحَ اللّهِ وكَلِمَتَهُ . فَقالَ: وَيحَكُم ، ما كانَت أَعمالُكُم؟ قالَ: عِبادَةُ الطَّاغوتِ وحُبُّ الدُّنيا ، مَعَ خَوفٍ قَليلٍ وأَمَلٍ بَعيدٍ وغَفلَةٍ في لَهوٍ ولَعِبٍ . فَقالَ: كَيفَ كانَ حُبُّكُم لِلدُّنيا؟ قالَ: كَحُبِّ الصِّبِيِّ لِاُمِّهِ ؛ إِذا أَقبَلَت عَلَينا فَرِحنا وسُرِرنا ، وإِذا أَدبَرَت عَنّا بَكَينا وحَزَنّا . قالَ: كَيفَ كانَت عِبادَتُكُم لِلطّاغوتِ؟ قالَ: الطّاعَةُ لِأَهلِ المَعاصي . (1)
عنه عليه السلام :مَعنى صِفَةِ الإِيمانِ الإِقرارُ وَالخُضوعُ للّهِِ بِذُلِّ الإِقرارِ وَالتَّقَرُّبُ إِلَيهِ بِهِ وَالأَداءُ لَهُ بِعِلمِ كُلِّ مَفروضٍ مِن صَغيرٍ أَو كَبيرٍ مِن حَدِّ التَّوحيدِ فَما دونَهُ إِلى آخِرِ بابٍ مِن أَبوابِ الطّاعَةِ أَوَّلاً فَأَوّلاً ، مَقرونٌ ذلِكَ كُلُّهُ بَعضُهُ إِلى بَعضٍ مَوصولٌ بَعضُهُ بِبَعضٍ ، فَإِذا أَدَّى العَبدُ ما فَرَضَ عَلَيهِ مِمّا وَصَلَ إِلَيهِ عَلى صِفَةِ ما وَصَفناهُ ، فَهُوَ مُؤمِنٌ مُستَحِقٌّ لِصِفَةِ الإِيمانِ ... . ومَعنَى الشِّركِ: كُلُّ مَعصِيَةٍ عُصِيَ اللّهُ بِها بِالتَّدَيُّنِ فَهُوَ مُشرِكٌ صَغيرَةً كانَت المَعصِيَةُ أَو كَبيرَةً ، فَفاعِلُها مُشرِكٌ . (2)
.
ص: 417
المرتبة السادسة : التّوحيد في العبادةالعبادة في اللغة هي : اللين والذلّ (1) ، وعبادة اللّه : التذلّل والخضوع أَمامه، ويُستعمَل التَّوحيد في العبادة قرآنيّا وروائيّا بمعنيين هما: 1 . إِطاعة اللّه وحده وترك عبادة غيره ، كما جاء في قوله تعالى: «وَ لَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَ اجْتَنِبُواْ الطَّ_غُوتَ» . (2) وقوله سبحانه: «وَ الَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّ_غُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَ أَنَابُواْ إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى» . (3) وهذا المعنى للتَّوحيد في العبادة هو نفس التَّوحيد في الطَّاعة الذي تقدّم توضيحه من قبل . 2 . خلوص النيّة في عبادة اللّه وحدَه . إِنّ التَّوحيد في الطّاعة و إِن كان يلازم التَّوحيد في العبادة أَيضا _ لأَنّ طاعة
.
ص: 418
الأَوامر الإلهيّة بنحو مطلق يستلزم إِخلاص النيّة _ ولكن ارتأينا لتوحيد العبادة عنوانا مستقلاً ، للتنبّه على أَنّ الرياء في الطَّاعة والعبادة شرك. أَعلى مراتب التَّوحيد إِنّ أَعلى مراتب الإخلاص أَو التَّوحيد في العبادة ، هي أَنّ الإنسان في عبادته وطاعته للّه تعالى لا يطلب أَجرا ، بل إِنّ عشق اللّه سبحانه وحبّه يدفعانه إِلى طاعته ، كما قال الإمام الصادق عليه السلام : «إِنَّ النّاسَ يَعبُدونَ اللّهَ عز و جل عَلى ثَلاثَةِ أوجُهٍ ، فَطَبَقَةٌ يَعبُدونَهُ رَغبَةً في ثَوابِهِ فَتِلكَ عِبادَةُ الحرُصَاءِ ، وهُوَ الطَّمَعُ ، وآخَرونَ يَعبُدونَهُ فَرَقا مِنَ النّارِ فَتِلكَ عِبادَةُ العَبيدِ ، وهِيَ الرَّهبَةُ ، ولكِنّي أعبُدُهُ حُبّا لَهُ عز و جل فَتِلكَ عِبادَةُ الكِرامِ ، وهُوَ الأَمنُ». (1) قال سبحانه وتعالى : «وَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَا نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَ_هَ إِلَا أَنَا فَاعْبُدُونِ» . (2) «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» . (3) «أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى مَنْ هُوَ كَ_ذِبٌ كَفَّارٌ» . (4) «قُلْ يَ_أَهْلَ الْكِتَ_بِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَا نَعْبُدَ إِلَا اللَّهَ
.
ص: 419
وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْ_ئا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» . (1) «قُلْ يَ_أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى شَكٍّ مِّن دِينِى فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَ لَ_كِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُمْ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَ لَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَ لَا يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّ__لِمِينَ» . (2) «قُلْ إِنَّ صَلَاتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ الْعَ__لَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَ لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ» . (3) «قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَا إِلَ_هُكُمْ إِلَ_هٌ وَ حِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَ__لِحًا وَ لَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا» . (4)
راجع : البقرة: 83 ، يوسف: 40 .
الحديثالمعجم الكبير عن شدّاد بن أَوس :قالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله : إِذا جَمَعَ اللّهُ الأَوَّلينَ وَالآخِرينَ بِبَقيعٍ (5) واحِدٍ يَنفُذُهُمُ البَصَرُ ويُسمِعُهُمُ الدَّاعي ، قالَ: أَنَا خَيرُ شَريكٍ ، كُلُّ عَمَلٍ كانَ عُمِلَ لي في دارِ الدُّنيا كانَ لي فيهِ شَريكٌ فَأَنَا أَدَعُهُ اليَومَ ، ولا أَقبَلُ اليَوم إِلّا
.
ص: 420
خالِصا . ثُمَّ قَرَأَ: «إِلَا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ» (1) «مَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَ__لِحًا وَ لَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا» . (2)
رسول اللّه صلى الله عليه و آله :لم آتِكُم إِلّا بِخَيرٍ ؛ آتَيتُكم أَن تَعبُدُوا اللّهَ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ ... وأَن تَدَعُوا اللّاتَ وَالعُزّى . (3)
الإمام الصادق عليه السلام_ في قَولِهِ تَعالى: «فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَ__لِحًا وَ لَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا» _: الرَّجُلُ يَعمَلُ شَيئا مِنَ الثَّوابِ لا يَطلُبُ بِهِ وَجهَ اللّهِ إِنَّما يَطلُبُ تَزكِيَةَ النّاسِ ، يَشتَهي أَن يُسمِعَ بِهِ النّاسَ ، فَهذَا الَّذي أَشرَكَ بِعِبادَةِ رَبِّهِ . (4)
عنه عليه السلام_ في قَولِهِ تَعالى «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» (5) _: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» : إِخلاصُ العِبادَةِ ، «وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» : أَفضَلُ ما طَلَبَ بِه العِبادُ حَوائِجَهُم. (6)
عنه عليه السلام_ في قَولِ اللّهِ عز و جل : «حَنِيفًا مُّسْلِمًا» _: خالِصا مُخلِصا ، لَيسَ فيهِ شَيءٌ مِن عِبادَةِ الأَوثانِ . (7)
الإمام الرضا عليه السلام : «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» رَغبَةٌ وتَقَرُّبٌ إِلَى اللّهِ تَعالى ذِكرُهُ ، وإِخلاصٌ لَهُ بِالعَمَلِ دونَ غَيرِهِ ، «وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» اِستِزادَةٌ مِن تَوفيقِهِ وعِبادَتِهِ وَاستِدامَةٌ لِما
.
ص: 421
أَنعَمَ اللّهُ عَلَيهِ ونَصَرَهُ . (1)
الإمام العسكريّ عليه السلام_ في تَفسيرِ «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» _: قالَ اللّهُ عز و جل: قولوا يا أَيُّهَا الخَلقُ المُنعَمُ عَلَيهِم: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» أَيُّهَا المُنعِمُ عَلَينا ، نُطيعُكَ مُخلِصينَ مَعَ التَّذَلُّلِ وَالخُشوعِ بِلا رِياءٍ ولا سُمعَةٍ «وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» : مِنكَ نَسأَلُ المَعونَةَ عَلى طاعَتِكَ لِنُؤَدِّيَها كَما أَمَرتَ ، ونَتَّقِيَ مِن دُنيانا عَمّا عَنهُ نَهَيتَ ، ونَعتَصِمَ مِنَ الشَّيطانِ ومِن سائِرِ مَرَدَةِ الإِنسِ مِنَ المُضِلّينَ ، ومِنَ المُؤذينَ الظّالِمينَ بِعِصمَتِكَ . (2)
الإمام عليّ عليه السلام :العِبادَةُ الخالِصَةُ ألّا يَرجُوَ الرَّجُلُ إِلّا رَبَّهُ ، ولا يَخافَ إِلّا ذَنبَهُ . (3)
عنه عليه السلام :طوبى (4) لِمَن أَخلَصَ للّهِِ العِبادَةَ وَالدُّعاءَ ، ولَم يَشغَل قَلبَهُ بِما تَرى عَيناهُ ، ولَم يَنسَ ذِكرَ اللّهِ بِما تَسمَعُ أُذُناهُ . (5)
عنه عليه السلام :مِن أَحَبِّ الكَلامِ إِلَى اللّهِ هؤُلاءِ الكَلِماتُ: اللّهُمَّ لا إِلهَ إِلّا أَنتَ ، اللّهُمَّ لا نَعبُدُ إِلّا إِيّاكَ ، اللّهُمَّ لا نُشرِكُ بِكَ شَيئا ، اللّهُمَّ إِنّي ظَلَمتُ نَفسي فَاغفِرلي ؛ فَإِنَّهُ لا يَغفِرُ الذُّنوبَ إِلّا أَنتَ . (6)
الإمام الصادق عليه السلام :اللّهُمَّ إِنّي أُشهِدُكَ وكَفى بِكَ شَهيدا ، وأُشهِدُ مَلائِكَتَكَ وحَمَلَةَ
.
ص: 422
عَرشِكَ وسُكّانَ سَماواتِكَ وأَرضِكَ ، بِأَنَّكَ أَنتَ اللّهُ الَّذي لا إِلهَ إِلّا أَنتَ ، المَعبودُ الَّذي لَيسَ مِن لَدُن عَرشِكَ إِلى قَرارِ أَرضِكَ مَعبودٌ يُعبَدُ سِواكَ إِلّا باطِلٌ مُضَمحِلٌّ غَيرُ وَجهِكَ الكَريمِ ، لا إِلهَ إِلّا أَنتَ المَعبودُ فَلا مَعبودَ سِواكَ ، تَعالَيتَ عَمّا يَقولُ الظّالِمونَ عُلُوّا كَبيرا . (1)
الإمام الرضا عليه السلام_ في كِتابِهِ لِلمَأمونِ لَمّا سَأَلَهُ أَن يَكتُبَ لَهُ مَحضَ الإِسلامِ عَلى سَبيلِ الإِيجازِ وَالاِختِصارِ _: إِنَّ مَحضَ الإِسلامِ شَهادَةُ أَن لا إِلهَ إِلَا اللّهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ ، إِلها واحِدا أَحَدا فَردا صَمَدا قَيّوما (2) سَميعا بَصيرا قَديرا قَديما قائِما باقِيا ، عالِما لا يَجهَلُ ، قادِرا لا يَعجِزُ ، غَنِيّا لا يَحتاجُ ، عَدلاً لا يَجورُ ، وأَنَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيءٍ ولَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ ، لا شِبهَ لَهُ ولا ضِدَّ لَهُ ولا نِدَّ لَهُ ولا كُفؤَ لَهُ ، وأَنَّهُ المَقصودُ بِالعِبادَةِ وَالدُّعاءِ وَالرّغبَةِ وَالرَّهبَةِ . (3)
.
ص: 423
القسم الثالث : التعرّف على أسماء اللّهوفيه فصول :الفصل الأوّل : معنى أسماء اللّهالفصل الثاني: أصناف أسماء اللّهالفصل الثالث: عدد أسماء اللّهالفصل الرابع : الإسم الأعظمالفصل الخامس : دور أسماءِ اللّه في تدبير العالم
.
ص: 424
. .
ص: 425
الفصل الأوّل : معنى أسماء اللّههناك اختلاف في الآراء حول الجذر اللغوي للاسم ، فالكوفيّون يرون أَنّه مشتقّ من«الوسم» بمعنى العلامة ، ويرى البصريّون أَنّه مشتقّ من «السموّ» بمعنى العلوّ والرفعة ، بيد أَنّهم يعترفون بأنّه يستعمل من حَيثُ المَعنى اللغوي بمعنى العلامة . (1) أَمّا «الصفة» فقد جاءت بهذه الهيئة ولكنّ أَصلها اللغوي هو «الوصف» كما أَنّ «العِدَة» اشتقّت من «الوعد» . و بناءً على هذا فإنّ «الصفة» هي مصدر بمعنى الوصف، ولكنّها في كثير من الأَحيان تستعمل بمعنى اسم المصدر ، و يراد منها حينئذٍ الأَمارة والعلامة (2) ، غير أَنّ الصفة أَمارة تبيّن إِحدى خصائص الموصوف (3) . وعلى هذا فالاسم والصفة كلاهما بمعنى العلامة والأَمارة للمسمّى والموصوف؛ فالاسم يشمل كلّ علامة و أَمارة ، و أَمّا الصفة ، فهي علامة مخصّصة و مقيّدة . و من هنا فإنَّ بين الاسم والصفة علاقة عموم و خصوص مطلق ، أَي
.
ص: 426
أَنّ كلّ صفة اسم ولكن ليس كلّ اسم صفة ، فالأَعلام و الأَسماء الخاصّة ، مثل «زيد» و «بكر» أَسماء وليست صفات . أَمّا الأَسماء الدالّة على الأَوصاف فهي أسماء وصفات كالعالم والعلم . (1) أَمّا في علوم الأَدب والعرفان و الكلام فإنّ للاسم والصفة إِطلاقات أُخرى أَيضا؛ فطبقا لإحدى الإطلاقات في العلوم الأدبية ، تكون المصادر كالعلم والقدرة أسماء وليست بصفات ، أما المشتقات كالعالم والقادر فهي صفات وليست بأسماء . و يحمل الاسم والصفة في العرفان النظري مَعنىً معاكسا تماما للمعنى المذكور . (2) وأَمّا الأَحاديث في بيان أَسماء اللّه وصفاته فلم يؤخذ فيها بنظر الاعتبار التفاوت الموجود في الاصطلاحات المختلفة للاسم والصفة ؛ وأُطلق الاسم والصفة كلاهما على الكمالات من قبيل «العلم» ، و على الصفات المتّصفة بالكمالات مثل «العالم» ، نذكر على سبيل المثال أَنّ بعض الأَحاديث في خصوص السميع و البصير استخدمت فيها لفظة «الصفة» (3) . وفي بعضها الآخر استخدمت لفظة «الاسم» (4) ، بل إِنّ هذين المعنيين أُطلقا حتى على كلمتي العلم والعالِم في الحديث الواحد . وقد صرّحت بعض الأَحاديث بأنّ الاسم والصفة على مَعنى واحد ، فقد رُوي عَن الإمام الباقر عليه السلام أَنّه قالَ:
.
ص: 427
«إنَّ الأَسماءَ صِفاتٌ وَصَفَ بِها نَفسَهُ» . (1) و عندما سأَل محمّد بن سنان الإمام الرضا عليه السلام : مَا الاِسمُ؟ قالَ : «صِفَةٌ لمَوصوفٍ» . (2) بناءً على ما سبق ذكرُه فإنّ جميع أَسماء اللّه صفاتُه ، و كلّ صفاته أَسماؤه . وقد جاء الفصل بين الأَسماء والصفات في تقسيمات هذا الكتاب بناءً على ما اقتضاه نظم التأليف وليس من باب الفصل في المعنى. بناءً على المعنى اللغوي للاسم والصفة ، وانطلاقا من وحدة مصداقهما بشأَن اللّه تعالى ، نستنتج في ضوء الأَحاديث الواردة في هذا المجال أَنّ أَسماء اللّه هي من نوع صفاته، وأَنّه تعالى ليس له اسم إِلّا ويحمل صفة من صفاته . ومن هنا فإنّ اللّه سبحانه و تعالى ليس له اسم عَلَم جامد غير مشتقّ جاء كعلامة له فقط من غير أَن ينطوي على وصف من أَوصافه ، و يمكن القول بعبارة أُخرى : إِنّ الاسم بشأن اللّه مقيّد ، وكون أَسماء اللّه علامة هي من جهة كونها ذات دلالة على وصف خاصّ به. و سنرى عند تفسير لفظ الجلالة «اللّه » أَنّ لهذا الاسم جذر اشتقاقي أَيضا ، وقد ذكرت الأَحاديث الشريفة جذورا مختلفة له. (3) قال العلّامة الطباطبائي قدس سره في بيان معنى الأَسماء الحسنى : «نحن أَوّل ما نفتح أَعيننا ونشاهد من مناظر الوجود ما نشاهده يقع إِدراكنا على أَنفسنا وعلى أَقرب الأُمور منّا ، وهي روابطنا مع الكون الخارج من
.
ص: 428
مستدعيات قوانا العاملة لإبقائنا ، فأَنفسنا وقوانا وأَعمالنا المتعلّقة بها ، هي أَوّل ما يدقّ باب إدراكنا لكنّا لا نرى أَنفسنا إِلّا مرتبطة بغيرها ولا قوانا ولا أَفعالنا إِلّا كذلك ، فالحاجة من أَقدم ما يشاهده الإنسان ، يشاهدها من نفسه ومن كلّ ما يرتبط به من قواه وأَعماله والدنيا الخارجة ، وعند ذلك يقضي بذات ما يقوم بحاجته ويسدّ خلّته وإِليه ينتهي كلّ شيء ، وهو اللّه سبحانه ، ويصدّقنا في هذا النظر والقضاء قوله تعالى : «يَ_أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِىُّ» . (1) وقد عجز التاريخ عن العثور على بدء ظهور القول بالربوبيّة بين الأَفراد البشريّة ، بل وجده وهو يصاحب الإنسانيّة إِلى أَقدم العهود التي مرّت على هذا النوع حتّى أَنّ الأَقوام الوحشيّة التي تحاكي الإنسان الأَوّلي في البساطة لما اكتشفوهم في أَطراف المعمورة كقطّان أَميركا وأُستراليا وجدوا عندهم القول بقوى عالية هي وراء مستوى الطبيعة ينتحلون بها ، وهو قول بالربوبيّة وإِن اشتبه عليهم المصداق فالإذعان بذات ينتهي إِليها أَمر كلّ شيء من لوازم الفطرة الإنسانيّة لايحيد عنه إِلّا من انحرف عن إِلهام فطرته لشبهة عرضت له كمن يضطرّ نفسه على الاعتياد بالسمّ وطبيعته تحذّره بإلهامها ، وهو يستحسن ما ابتلي به . ثمّ إِنّ أَقدم ما نواجهه في البحث عن المعارف الإلهيّة أَنّا نذعن بانتهاء كلّ شيء إِليه ، وكينونته ووجوده منه فهو يملك كلّ شيء لعلمنا أَنّه لو لم يملكها لم يمكن أَن يفيضها ويفيدها لغيره على أَنّ بعض هذه الأَشياء ممّا ليست حقيقته إِلّا مبنيّة على الحاجة منبئة عن النقيصة ، وهو تعالى منزّه عن كلّ حاجة ونقيصة ؛ لأَنّه الذي إِليه يرجع كلّ شيء في رفع حاجته ونقيصته .
.
ص: 429
فله الملك _ بكسر الميم وبضمّها _ على الإطلاق ، فهو سبحانه يملك ما وجدناه في الوجود من صفة كمال ؛ كالحياة والقدرة والعلم والسمع والبصر والرزق والرحمة والعزّة وغير ذلك . فهو سبحانه حيّ ، قادر ، عليم ، سميع ، بصير ؛ لأَنّ في نفيها إِثبات النقص ولا سبيل للنقص إِليه . ورازق ، ورحيم ، وعزيز ، ومحيي ، ومميت ، ومبدئ ، ومعيد ، وباعث ، إِلى غير ذلك ؛ لأَنّ الرزق والرحمة والعزّة والإحياء والإماتة والإبداء والإعادة والبعث له ، وهو السبّوح القدّوس العليّ الكبير المتعال ، إِلى غير ذلك ، نعني بها نفي كلّ نعت عدميّ ، وكلّ صفة نقص عنه . فهذا طريقنا إِلى إِثبات الأَسماء والصفات له تعالى على بساطته ، وقد صدّقنا كتاب اللّه في ذلك حيث أَثبت الملك _ بكسر الميم _ والملك _ بضمّ الميم _ له على الإطلاق في آيات كثيرة لا حاجة إِلى إِيرادها» . (1)
.
ص: 430
1 / 1أسماؤُهُ تَعبيرٌالإمام الرضا عليه السلام_ مِن كَلامِهِ فِي التَّوحيدِ _: أَسماؤُهُ تَعبيرٌ ، وأَفعالُهُ تَفهيمٌ ، وذاتُهُ حَقيقَةٌ . (1)
عنه عليه السلام_ لَمّا سُئِلَ عَنِ الاِسمِ ما هُوَ ؟ قالَ _: صِفَةٌ لِمَوصوفٍ . (2)
الإمام عليّ عليه السلام_ في دُعاءٍ عَلَّمَهُ نَوفا البِكالِيَّ _: فَأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي ظَهَرتَ بِهِ لِخاصَّةِ أَولِيائِكَ فَوَحَّدوكَ وعَرَفوكَ فَعَبَدوكَ بِحَقيقَتِكَ أَن تُعَرِّفَني نَفسَكَ ؛ لِأُقِرَّ لَكَ بِرُبوبِيَّتِكَ عَلى حَقيقَةِ الإِيمانِ بِكَ ، ولا تَجعَلني يا إِلهي مِمَّن يَعبُدُ الاِسمَ دونَ المَعنى ، وَالحَظني بِلَحظَةٍ مِن لَحَظاتِكَ تُنَوِّرُ بِها قَلبي بِمَعرِفَتِكَ خاصَّةً ومَعرِفَةِ أَولِيائِكَ ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ . (3)
الكافي عن عبد الرحمن بن أبي نجران :_ أو قُلتُ لَهُ _كَتَبتُ إِلى أَبي جَعفَرٍ عليه السلام : جَعَلَنِي اللّهُ فِداكَ ! نَعبُدُ الرَّحمنَ الرَّحيمَ الواحِدَ الأَحَدَ الصَّمَدَ ؟ قالَ : فَقالَ : إِنَّ مَن عَبَدَ الاِسمَ دونَ المُسَمّى بِالأَسماءِ أَشرَكَ وكَفَرَ وجَحَدَ ولَم يَعبُد شَيئا ، بَلِ اعبُدِ اللّهَ الواحِدَ الأَحَدَ الصَّمَدَ ، المُسَمّى بِهذِهِ الأَسماءِ دونَ الأَسماءِ ؛ إِنَّ الأَسماءَ صِفاتٌ وَصَفَ بِها نَفسَهُ . (4)
.
ص: 431
الإمام الصادق عليه السلام_ لَمّا سَأَلَهُ الزِّنديقُ عَنِ اللّهِ : ما هُوَ ؟ _: هُوَ الرَّبُّ ، وهُوَ المَعبودُ ، وهُوَ اللّهُ ، ولَيسَ قَولي : «اللّه » إِثباتَ هذِهِ الحُروفِ أَلفٍ ، لامٍ ، هاءٍ ، ولكِنّي أَرجِعُ إِلى مَعنى هُوَ شَيءٌ خالِقُ الأَشياءِ وصانِعُها ، وَقَعَت عَلَيهِ هذِهِ الحُروفُ ، وهُوَ المَعنَى الَّذي يُسَمّى بِهِ اللّهُ ، وَالرَّحمنُ وَالرَّحيمُ وَالعَزيزُ وأَشباهُ ذلِكَ مِن أَسمائِهِ ، وهُوَ المَعبودُ _ جَلَّ وعَزَّ _ . (1)
الكافي عن النضر بن سويد :عَن هِشامِ بنِ الحَكَمِ أَنَّهُ سَأَلَ أَبا عَبدِ اللّهِ عليه السلام عَن أَسماءِ اللّهِ وَاشتِقاقِها : «اللّه » مِمّا هُوَ مُشتَقٌّ ؟ فَقالَ : يا هِشامُ ، «اللّهُ» مُشتَقٌّ مِن إِلهٍ ، وإِلهٌ يَقتَضي مَألوها ، وَالاِسمُ غَيرُ المُسَمّى ، فَمَن عَبَدَ الاِسمَ دونَ المَعنى فَقَد كَفَرَ ولَم يَعبُد شَيئا ، ومَن عَبَدَ الاِسمَ وَالمَعنى فَقَد أَشرَكَ وعَبَدَ اثنَينِ ، ومَن عَبَدَ المَعنى دونَ الاِسم فَذاكَ التَّوحيدُ ، أَفَهِمتَ يا هِشامُ ؟ قالَ : قُلتُ : زِدني . قالَ : للّهِِ تِسعَةٌ وتِسعونَ اسما ، فَلَو كانَ الاِسمُ هُوَ المُسَمّى لَكان كُلُّ اسمٍ مِنها إِلها ، ولكِنَّ «اللّهَ» مَعنىً يُدَلُّ عَلَيهِ بِهذِهِ الأَسماءِ ، وكُلُّها غَيرُهُ . يا هِشامُ ، الخُبزُ اسمٌ لِلمَأَكولِ ، وَالماءُ اسمٌ لِلمَشروبِ ، وَالثَّوبُ اسمٌ لِلمَلبوسِ ، وَالنَّارُ اسمٌ لِلمُحرِقِ . أَفَهِمتَ يا هِشامُ فَهما تَدفَعُ بِهِ وتُناضِلُ بِهِ أَعداءَنا المُتَّخِذينَ مَعَ اللّهِ عز و جل غَيرَهُ ؟ قُلتُ : نَعَم .
.
ص: 432
فَقالَ : نَفَعَكَ اللّهُ بِهِ وثَبَّتَكَ يا هِشامُ . قالَ : فَوَاللّهِ ما قَهَرَني أَحَدٌ فِي التَّوحيدِ حَتّى قُمتُ مَقامي هذا . (1)
الإمام الصادق عليه السلام :مَن عَبَدَ اللّهَ بِالتَّوَهُّمِ فَقَد كَفَرَ ، ومَن عَبَدَ الاِسمَ دونَ المَعنى فَقَد كَفَرَ ، ومَن عَبَدَ الاِسمَ وَالمَعنى فَقَد أَشرَكَ ، ومَن عَبَدَ المَعنى بِإِيقاعِ الأَسماءِ عَلَيهِ بِصِفاتِهِ الَّتي وَصَفَ بِها نَفسَهُ فَعَقَدَ عَلَيهِ قَلبُهُ ، ونَطَقَ بِهِ لِسانُهُ في سَرائِرِهِ وعَلانِيَتِهِ فَأُولئِكَ أَصحابُ أَميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام حَقّا _ وفي حَديثٍ آخَرَ _ : أُولئِكَ هُمُ المُؤمِنونَ حَقّا _ . (2)
عنه عليه السلام_ لِزِنديقٍ سَأَلَهُ : كَيفَ جازَ لِلخَلقِ أَن يَتَسَمَّوا بِأَسماءِ اللّهِ تَعالى ؟ _: إِنَّ اللّهَ جَلَّ ثَناؤُهُ وتَقَدَّسَت أَسماؤُهُ أَباحَ لِلنّاسِ الأَسماءَ ، ووَهَبَها لَهُم ، وقَد قالَ القائِلُ مِنَ النّاسِ لِلواحِدِ : واحِدٌ ، ويَقولُ للّهِِ : واحِدٌ ، ويَقولُ : قَوِيٌّ ، وَاللّهُ تَعالى قَوِيٌّ ، ويَقولُ : صانِعٌ ، وَاللّهُ صانِعٌ ، ويَقولُ : رازِقٌ ، وَاللّهُ رازِقٌ ، ويَقولُ : سَميعٌ بَصيرٌ ، وَاللّهُ سَميعٌ بَصيرٌ ، وما أَشبَهَ ذلِكَ . فَمَن قالَ لِلإِنسانِ : واحِدٌ فَهذا لَهُ اسمٌ ولَهُ شَبيهٌ ، وَاللّهُ واحِدٌ وهُوَ لَهُ اسمٌ ولا شَيءَ لَهُ شَبيهٌ ، ولَيسَ المَعنى واحِدا . وأَمَّا الأَسماءُ فَهِيَ دَلالَتُنا عَلَى المُسَمّى ؛ لِأَنّا قَد نَرَى الإِنسانَ واحِدا وإِنَّما نُخبِرُ واحِدا إِذا كانَ مُفرَدا ، فَعُلِمَ أَنَّ الإِنسانَ في نَفسِهِ لَيسَ بِواحِدٍ فِي المَعنى ؛ لِأَنَّ أَعضاءَهُ مُختَلِفَةٌ ، وأَجزاءَهُ لَيسَت سَواءً ، ولَحمَهُ غَيرُ دَمِهِ ، وعَظمَهُ غَيرُ عَصَبِهِ ، وشَعرَهُ غَيرُ ظُفرِهِ ، وسَوادَهُ غَيرُ بَياضِهِ ، وكَذلِكَ سائِرُ الخَلقِ ، وَالإِنسانُ واحِدٌ في الاِسمِ ، ولَيسَ بِواحِدٍ فِي الاِسمِ وَالمَعنى وَالخَلقِ ، فَإِذا قيلَ للّهِِ فَهُوَ الواحِدُ الَّذي
.
ص: 433
لا واحِدَ غَيرُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا اختِلافَ فيهِ ، وهُوَ _ تَبارَكَ وتَعالى _ سَميعٌ وبَصيرٌ وقَوِيٌّ وعَزيزٌ وحَكيمٌ وعَليمٌ ، فَتَعالَى اللّهُ أَحسَنُ الخالِقينَ . (1)
عنه عليه السلام :اِسمُ اللّهِ غَيرُهُ ، وكُلُّ شَيءٍ وَقَعَ عَلَيهِ اسمُ شَيءٍ فَهُوَ مَخلوقٌ ما خَلَا اللّهَ . (2)
الكافي عن ابن سنان :سَأَلتُ أَبَا الحَسَنِ الرِّضا عليه السلام : هَل كانَ اللّهُ عز و جل عارِفا بِنَفسِهِ قَبلَ أَن يَخلُقَ الخَلقَ ؟ قالَ : نَعَم . قُلتُ : يَراها ويَسمَعُها ؟ قالَ : ما كانَ مُحتاجا إِلى ذلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَم يَكُن يَسأَلُها ولا يَطلُبُ مِنها ، هُوَ نَفسُهُ ونَفسُهُ هُوَ ، قُدرَتُهُ نافِذَةٌ ، فَلَيسَ يَحتاجُ إِلى أَن يُسَمِّيَ نَفسَهُ ، ولكِنَّهُ اختارَ لِنَفسِهِ أَسماءً لِغَيرِهِ يَدعوهُ بِها ؛ لِأَنَّهُ إِذا لَم يُدعَ بِاسمِهِ لَم يُعرَف ، فَأَوَّلُ مَا اختارَ لِنَفسِهِ «العَلِيُّ العَظيمُ» لِأَنَّهُ أَعلَى الأَشياءِ كُلِّها ، فَمَعناهُ اللّهُ ، وَاسمُهُ العَلِيُّ العَظيمُ هُوَ أَوَّلُ أَسمائِهِ ، عَلا عَلى كُلِّ شَيءٍ . (3)
الإمام الرضا عليه السلام :اِعلَم أَنَّهُ لا يَكونُ صِفَةٌ لِغَيرِ مَوصوفٍ ، ولَا اسمٌ لِغَيرِ مَعنىً ، ولا حَدٌّ لِغَيرِ مَحدودٍ ، وَالصِّفاتُ وَالأَسماءُ كُلُّها تَدُلُّ عَلَى الكَمالِ وَالوُجودِ ، ولا تَدُلُّ عَلَى الإِحاطَةِ ، كَما تَدُلُّ عَلَى الحُدودِ الَّتي هِيَ التَّربيعُ وَالتَّثليثُ وَالتَّسديسُ ؛ لِأَنَّ اللّهَ _ عَزَّ وجَلَّ وتَقَدَّسَ _ تُدرَكُ مَعرِفَتُهُ بِالصِّفاتِ وَالأَسماءِ ، ولا تُدرَكُ بِالتَّحديدِ بِالطّولِ
.
ص: 434
وَالعَرضِ وَالقِلَّةِ وَالكَثرَةِ وَاللَّونِ وَالوَزنِ وما أَشبَهَ ذلِكَ ، ولَيسَ يَحُلُّ بِاللّهِ جَلَّ وتَقَدَّسَ شَيءٌ مِن ذلِكَ حَتّى يَعرِفَهُ خَلقُهُ بِمَعرِفَتِهِم أَنفُسَهُم بِالضَّرورَةِ الَّتي ذَكَرنا ، ولكِن يُدَلُّ عَلَى اللّهِ عز و جل بِصِفاتِهِ ، ويُدرَكُ بِأَسمائِهِ . . . فَلَو كانَت صِفاتُهُ جَلَّ ثَناؤُهُ لا تَدُلُّ عَلَيهِ ، وأَسماؤُهُ لا تَدعو إِلَيهِ ، وَالمَعلَمَةُ مِنَ الخَلقِ لا تُدرِكُهُ لِمَعناهُ كانَت العِبادَةُ مِنَ الخَلقِ لِأَسمائِهِ وصِفاتِهِ دُونَ مَعناهُ ، فَلَولا أَنَّ ذلِكَ كَذلِكَ لَكانَ المَعبودُ المُوَحَّدُ غَيرَ اللّهِ تَعالى ؛ لِأَنَّ صِفاتِهِ وأَسماءَهُ غَيرُهُ . (1)
تعليق:كما لاحظنا فإنّ الأَحاديث بيّنت أَوجها مختلفة لإطلاق الأسماء والصفات . وهذه الأَسماء والصفات يجب أَن تستخدم بشكل لايفضي إِلى أُمور من قبيل تشبيه الخالق بالمخلوق ، أَو نفي الخالق أَو تعطيل المعرفة ، أَو إِيجاد صور ذهنيّة و إِحاطة بالذات الإلهيّة ، فالباري عز و جل يوصف تارة بأَفعاله ، وقد تفسّر صفات اللّه تارة أُخرى تفسيرا سلبيّا. والإنسان يقيم علاقته مع اللّه _ جلّ و علا _ من خلال هذه الأَسماء والصفات ، و يدعوه و يتضرّع إِلَيهِ في إِطار معرفته له ، ولكن ينبغي الالتفات إِلى أَن أَسماء اللّه لا موضوع لها ، وكلّها تعبير عَن الذات الإلهية المقدّسة ، والإنسان يتوجّه عَن طريق هذه الأَسماء إِلى اللّه الذي يعرفه بالفطرة .
1 / 1 _ 1مَعنَى «الإلهِ»الإمام عليّ عليه السلام_ فِي الدُّعاءِ _: أَنتَ إِلهِي المالِكُ الَّذي مَلَكتَ المُلوكَ، فَتَواضَعَ لِهَيبَتِكَ
.
ص: 435
الأَعِزّاءُ ودانَ لَكَ بِالطّاعَةِ الأَولِياءُ، فَاحتَوَيتَ بِإِلهِيَّتِكَ عَلَى المَجدِ وَالسَّناءِ. (1)
عنه عليه السلام :لَيسَ بِإِلهٍ مَن عُرِفَ بِنَفسِهِ، هُوَ الدّالُّ بِالدَّليلِ عَلَيهِ، وَالمُؤَدّي بِالمَعرِفَةِ إِلَيهِ. (2)
عنه عليه السلام :اللّهُمَّ أَنتَ الَّذي لايَتَعاظَمُكَ غُفرانُ الذُّنوبِ وكَشفُ الكُروبِ... لِأَنَّكَ الباقِي الرَّحيمُ الَّذي تَسَربَلتَ (3) بِالرُّبوبِيَّةِ، وتَوَحَّدتَ بِالإِلهِيَّةِ وتَنَزَّهتَ مِنَ الحَيثوثِيَّةِ ، فَلَم يَجِدكَ واصِفٌ مَحدودا بِالكَيفوفِيَّةِ... . (4)
الإمام الحسن عليه السلام_ لَمّا سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَسمَعُ الشَّيءَ فَيَذكُرُهُ دَهرا ، ثُمَّ يَنساهُ في وَقتٍ الحاجَةِ إِلَيهِ كَيفَ هذا؟ _: أَمَّا الرَّجُلُ الَّذي يَنسَى الشَّيءَ ، ثُمَّ يَذكُرُهُ فَما مِن أَحدٍ إِلّا عَلى رَأَسِ فُؤادِهِ حُقَّةٌ مَفتوحَةُ الرَّأَسِ، فَإِذا سَمِعَ الشَّيءَ وَقَعَ فيها، فَإِذا أَرادَ اللّهُ أَن يُنسِيَها أَطبَقَ عَلَيها، وإِذا أَرادَ اللّهُ أَن يُذَكِّرَهُ فَتَحَها، وهذا دَليلُ الإِلهِيَّةِ. (5)
الإمام زين العابدين عليه السلام :اللّهُمَّ لَكَ الحَمدُ بَديعَ السَّماواتِ وَالأَرضِ، ذَا الجَلالِ وَالإِكرامِ، رَبَّ الأَربابِ وإِلهَ كُلِّ مَألوهٍ ، وخالِقَ كُلِّ مَخلوقٍ. (6)
الإمام الباقر عليه السلام :إِنَّ تَفسيرَ الإلهِ هُوَ الَّذي أَلِهَ الخَلقُ عَن دَركِ ماهِيَّتِهِ وكَيفِيَّتِهِ ، بِحِسٍّ أَو بِوَهمٍ ، لا بَل هُوَ مُبدِعُ الأَوهامِ وخالِقُ الحَواسِّ . (7)
.
ص: 436
عنه عليه السلام_ في قُنوتِهِ _: اللّهُمَّ . . . بِعُبَيدِكَ ضَعفُ البَشَرِيَّةِ وعَجَزُ الإِنسانِيَّةِ، ولَكَ سُلطانُ الإِلهِيَّةِ ومَلكَةُ البَرِيَّةِ. (1)
الإمام الصّادق عليه السلام :لايُكَوِّنُ الشَّيءَ لا مِن شَيءٍ إِلّا اللّهُ، ولا يَنقُلُ الشَّيءَ مِن جَوهَرِيَّتِهِ إِلى جَوهَرٍ آخَرَ إِلَا اللّهُ، ولا يَنقُلُ الشَّيءَ مِنَ الوُجودِ إِلَى العَدَمِ إِلَا اللّهُ. (2)
عنه عليه السلام :قَدِمَ وَفدٌ مِن أَهلِ فِلَسطينَ عَلَى الباقِرِ عليه السلام فَسَأَلوهُ عَن مَسائِلَ فَأَجابَهُم، ثُمَّ سَأَلوهُ عَنِ الصَّمَدِ ، فَقالَ: تَفسيرُهُ فيهِ ؛ الصَّمَدُ خَمسَةُ أَحرُفٍ : فَالأَلِفُ دَليلٌ عَلى إِنِّيَّتِهِ، وهُوَ قَولُهُ عز و جل : «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَ_هَ إِلَا هُوَ» (3) وذلِكَ تَنبيهٌ وإِشارَةٌ إِلَى الغائِبِ عَن دَرَكِ الحَواسِّ، وَاللّامُ دَليلٌ عَلى إِلهِيَّتِهِ بِأَنَّهُ هُوَ اللّهُ، وَالأَلِفُ وَاللّامُ مُدغَمانِ لا يَظهَرانِ عَلَى اللِّسانِ ولا يَقَعانِ فِي السَّمعِ ويَظهَرانِ فِي الكِتابَةِ، دَليلانِ عَلى أَنَّ إِلهِيَّتَهُ بِلُطفِهِ خافِيَةٌ لا تُدرَكُ بِالحَواسِّ، ولا تَقَعُ في لِسانِ واصِفٍ ولا أُذُنِ سامِعٍ ؛ لِأَنَّ تَفسيرَ الإِلهِ هُوَ الَّذي أَلِهَ الخَلقُ عَن دَرَكِ ماهِيَّتِهِ وكَيفِيَّتِهِ بِحِسٍّ أَو بِوَهمٍ، لا بَل هُوَ مُبدِعُ الأَوهامِ وخالِقُ الحَواسِّ، وإِنَّما يَظهَرُ ذلِكَ عِندَ الكِتابَةِ، [ فَهُوَ] (4) دَليلٌ عَلى أَنَّ اللّهَ سُبحانَهُ أَظهَرَ رُبوبيَّتَهُ في إِبداعِ الخَلقِ، وتَركيبِ أَرواحِهِمُ اللَّطيفَةِ في أَجسادِهِمُ الكَثيفَةِ، فَإِذا نَظَرَ عَبدٌ إِلى نَفسِهِ لَم يَرَ روحَهُ، كَما أَنَّ لامَ الصَّمَدِ لا تَتَبَيَّنُ ولا تَدخُلُ في حاسَّةٍ مِنَ الحَواسِّ الخَمسِ، فَإِذا نَظَرَ إِلَى الكِتابَةِ ظَهَرَ له ما خَفِيَ ولَطُفَ . فَمَتى تَفَكَّرَ العَبدُ في ماهِيَّةِ البارئِ وكَيفِيَّتِهِ، أَلِهَ فيهِ وتَحَيَّرَ ولَم تُحِط فِكرَتُهُ
.
ص: 437
بِشَيءٍ يَتَصَوَّرُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ عز و جل خالِقُ الصُّوَرِ، فَإِذا نَظَرَ إِلى خَلقِهِ ثَبَتَ لَهُ أَنَّهُ عز و جلخالِقُهُم ومُرَكِّبُ أَرواحِهِم في أَجسادِهِم. (1)
الكافي عن هشام بن الحكم :قالَ أَبو شاكِرٍ الدَّيَصانِيُّ : إِنَّ فِي القُرآنِ آيَةً هِيَ قَولُنا . قُلتُ: ما هِيَ؟ فَقالَ: «وَ هُوَ الَّذِى فِى السَّمَاءِ إِلَ_هٌ وَ فِى الْأَرْضِ إِلَ_هٌ» (2) فَلَم أَدرِ بِما أُجيبُهُ! فَحَجَجتُ فَخَبَّرتُ أَبا عَبدِ اللّهِ عليه السلام ، فَقالَ: هذا كَلامُ زَنديقٍ خَبيثٍ، إِذا رَجَعتَ إِلَيهِ فَقُل لَهُ: مَا اسمُكَ بِالكوفَةِ؟ فَإِنَّهُ يَقولُ: فُلانٌ . فَقُل لَهُ : مَا اسمُكَ بِالبَصرَةِ؟ فَإِنَّهُ يَقولُ: فُلانٌ . فَقُل: كَذلِكَ اللّهُ رَبُّنا فِي السَّماءِ إِلهٌ وفِي الأَرضِ إِلهٌ ، وفِي البِحارِ إِلهٌ وفِي القِفارِ إِلهٌ وفي كُلِّ مَكانٍ إِلهٌ . قالَ: فَقَدِمتُ فَأَتَيتُ أَبا شاكِرٍ فَأَخبَرتُهُ، فَقالَ: هذِهِ نُقِلَت مِنَ الحِجازِ. (3)
الإمام الرضا عليه السلام_ مِن كَلامٍ لَهُ في تَوحيدِ اللّهِ سُبحانَهُ _: لَهُ مَعنَى الرُّبوبِيَّةِ إِذ لا مَربوبَ ، وحَقيقَةُ الإِلهِيَّةِ إِذ لا مَألوهَ. (4)
1 / 1 _ 2مَعنَى «اللّهِ»الإمام عليّ عليه السلام :«اللّهُ» مَعناهُ المَعبودُ الَّذي يَألَهُ فِيهِ الخَلقُ ويؤلَهُ إِلَيهِ ، وَاللّهُ هُوَ المَستورُ
.
ص: 438
عَن دَركِ الأَبصارِ ، المَحجوبُ عَنِ الأَوهامِ وَالخَطَراتِ . (1)
عنه عليه السلام :«اللّهُ» أَعظَمُ اسمٍ مِنَ أَسماءِ اللّهِ عز و جل ، وهُوَ الاِسمُ الَّذي لا يَنبَغي أَن يُسَمّى بِهِ غَيرُ اللّهِ ، ولَم يَتَسَمَّ بِهِ مَخلوقٌ . (2)
عنه عليه السلام :لا إِلهَ إِلَا اللّهُ رَبُّ كُلِّ شَيءٍ ووارِثُهُ، لا إِلهَ إِلَا اللّهُ إِلهُ الآلِهَةِ. (3)
الإمام زين العابدين عليه السلام_ لَمّا سُئِلَ عَن مَعنى بِسمِ اللّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ _: حَدَّثَني أَبي، عَن أخيهِ الحَسَنِ عَن أبيهِ أَميرِ المُؤمِنينَ عليهم السلام : أَنَّ رَجُلاً قامَ إِلَيهِ فَقالَ: يا أَميرَ المُؤمِنينَ، أخبِرني عَن «بِسمِ اللّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ» ما مَعناهُ؟ فَقالَ: إِنَّ قَولَكَ «اللّهُ» أَعظَمُ اسمٍ مِن أَسماءِ اللّهِ عز و جل ، وهُوَ الاِسمُ الَّذي لا يَنبَغي أَن يُسَمّى بِهِ غَيرُ اللّهِ، ولَن يَتَسَمَّ بِهِ مَخلوقٌ. فَقالَ الرَّجُلُ: فَما تَفسيرُ قَولِهِ : «اللّه »؟ قالَ: هُوَ الَّذي يَتَأَلَّهُ (4) إِلَيهِ عِندَ الحَوائِجِ وَالشَّدائِدِ كُلُّ مخَلوقٍ عِندَ انقِطاعِ الرَّجاءِ مِن جَميعِ مَن هُوَ دونَهُ، وتَقَطُّعِ الأَسبابِ مِن كُلِّ مَن سِواهُ، وذلِكَ أَنَّ كُلَّ مُتَرَئِّسٍ في هذِهِ الدُّنيا ومُتَعَظِّمٍ فيها _ وإِن عَظُمَ غِناؤُهُ وطُغيانُهُ وكَثُرَت حَوائِجُ مَن دونَهُ إِلَيهِ _ فَإِنَّهُم سَيَحتاجونَ حَوائِجَ لا يَقدِرُ عَلَيها هذَا المُتَعاظِمُ، وكَذلِكَ هذَا المُتَعاظِمُ يَحتاجُ حَوائِجَ لا يَقدِرُ عَلَيها، فَيَنقَطِعُ إِلَى اللّهِ عِندَ ضَرورَتِهِ وفاقَتِهِ، حَتّى إِذا كَفى هَمَّهُ عادَ
.
ص: 439
إِلى شِركِهِ . أَما تَسمَعُ اللّهَ عز و جل يَقولُ: «قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَ_دِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ» . (1) فَقالَ اللّهُ عز و جل لِعِبادِهِ: أَيُّهَا الفُقَراءُ إِلى رَحمَتي، إِنّي قَد أَلزَمتُكُمُ الحاجَةَ إِلَيَّ في كُلِّ حالٍ، وذِلَّةَ العُبودِيَّةِ في كُلِّ وَقتٍ، فَإِلَيَّ فَافزَعوا في كُلِّ أَمرٍ تَأخُذونَ فيهِ وتَرجونَ تَمامَهُ وبُلوغَ غايَتِهِ، فَإِنّي إِن أَرَدتُ أَن أُعطِيَكُم لَم يَقدِر غَيري عَلى مَنعِكُم، وإِن أَرَدتُ أَن أَمنَعَكُم لَم يَقدِر غَيري عَلى إِعطائِكُم، فَأَنَا أَحَقُّ مَن سُئِلَ وأَولى مَن تُضُرِّعَ إِلَيهِ، فَقولوا عِندَ افتِتاحِ كُلِّ أَمرٍ صَغيرٍ أَو عَظيمٍ . «بِسمِ اللّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ» أَي أَستَعينُ عَلى هذَا الأَمرِ بِاللّهِ الَّذي لا يَحِقُّ العِبادَةُ لِغَيرِهِ ، المُغيثِ إِذَا استُغيثَ، وَالمُجيبِ إِذا دُعِيَ، الرَّحمنِ الَّذي يَرحَمُ، بِبَسطِ الرِّزقِ عَلَينَا، الرَّحيمِ بِنا في أَديانِنا ودُنيانا وآخِرَتِنا، خَفَّفَ عَلَينَا الدّينَ وجَعَلَهُ سَهلاً خَفيفا، وهُوَ يَرحَمُنا بِتَمَيُّزِنا مِن أَعدائِهِ. (2)
الإمام الباقر عليه السلام :«اللّهُ» مَعناهُ المَعبودُ الَّذي أَلِهَ الخَلقُ عَن دَركِ ماهِيَّتِهِ ، وَالإِحاطَةِ بِكَيفِيَّتِهِ ، ويَقولُ العَرَبُ: أَلِهَ الرَّجُلُ إِذا تَحَيَّرَ فِي الشَّيءِ فَلَم يُحِط بِهِ عِلما ، ووَلَهَ إِذا فَزِعَ إِلى شَيءٍ مِمّا يَحْذَرُهُ ويَخافُهُ ، فَالإلهُ هُوَ المَستورُ عَن حَواسِّ الخَلقِ . . . فَمَعنى قَولِهِ: «اللّهُ أَحَدٌ» المَعبودُ الَّذي يَألَهُ الخَلقُ عَن إِدراكِهِ ، وَالإِحاطَةِ بِكَيفِيَّتِهِ ، فَردٌ بِإِلهِيَّتِهِ ، مُتَعالٍ عَن صِفاتِ خَلقِهِ . (3)
.
ص: 440
الإمام الكاظم عليه السلام_ في مَعنَى «اللّهِ» _: اِستَولى عَلى ما دَقَّ وجَلَّ . (1)
الإمام الرضا عليه السلام :إِنَّ في تَسمِيَةِ اللّهِ عز و جل الإِقرارَ بِرُبوبِيَّتِهِ وتَوحيدِهِ . (2)
راجع : ص 431 ح 4004 و 4005 و 442 ح 4035، بحار الأنوار : ج3 ص226 .
1 / 1 _ 3مَعنى «اللّهُ أَكبَرُ»رسول اللّه صلى الله عليه و آله_ في تَفسيرِ «اللّهُ أَكبَرُ» _: أَمّا قَولُهُ : «اللّهُ أَكبَرُ» فَهِيَ كَلِمَةٌ لَيسَ أَعلاها كَلامٌ ، وأَحَبُّها إِلَى اللّهِ ، يَعني لَيسَ أَكبَرُ مِنهُ ؛ لِأَنَّهُ يُستَفتَحُ الصَّلواتُ بِهِ ، لِكَرامَتِهِ عَلَى اللّهِ ، وهُوَ اسمٌ مِن أَسماءِ اللّهِ الأَكبَرِ . (3)
الكافي عن ابن محبوب عمّن ذكره عن الإمام الصّادق عليه السلام :قالَ رَجُلٌ عِندَهُ: «اللّهُ أَكبَرُ» . فَقالَ : اللّهُ أَكبَرُ مِن أَيِّ شَيءٍ ؟ فَقالَ : مِن كُلِّ شَيءٍ . فَقالَ أَبو عَبدِ اللّهِ عليه السلام : حَدَّدتَهُ . فَقالَ الرَّجُلُ : كَيفَ أَقولُ ؟
.
ص: 441
قالَ : قُل : اللّهُ أَكبَرُ مِن أَن يُوصَفَ . (1)
الكافي عن جميع بن عمير :قالَ أَبو عَبدِ اللّهِ عليه السلام : أيُّ شَيءٍ «اللّهُ أكبَرُ» ؟ فَقُلتُ : اللّهُ أَكبَرُ مِن كُلِّ شَيءٍ . فَقالَ : وكانَ ثَمَّ شَيءٌ فَيَكونُ أَكبَرَ مِنهُ ؟! فَقُلتُ : وما هُوَ ؟ قالَ : اللّهُ أَكبَرُ مِن أَن يُوصَفَ . (2)
راجع : ج 5 ص 101 (الفصل التاسع والخمسون : الكبير ، المتكبّر) .
1 / 1 _ 4مَعنى «بِاسمِ اللّهِ»الإمام زين العابدين عليه السلام_ فِي الدُّعاءِ _: . . . بِاسمِ اللّهِ كَلِمَةِ المُعتَصِمينَ ومَقالَةِ المُتَحَرِّزينَ . (3)
التوحيد عن الحسن بن عليّ بن فضّال :سَأَلتُ الرِّضا عَلِيَّ بنَ موسى عليهماالسلامعَن «بِاسمِ اللّهِ» . قالَ : مَعنى قَولِ القائِلِ : بِاسمِ اللّهِ ، أَي أَسِمُ عَلى نَفسي سِمَةً مِن سِماتِ اللّهِ عز و جل ؛ وهِيَ العِبادَةُ .
.
ص: 442
قالَ : فَقُلتُ لَهُ : ما السِّمَةُ ؟ فَقالَ : العَلامَةُ . (1)
الكافي عن عبد اللّه بن سنان :سَأَلتُ أَبا عَبدِ اللّهِ عليه السلام عَن تَفسيرِ «بِسمِ اللّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ» قالَ: الباءُ بَهاءُ اللّهِ، وَالسّينُ سَناءُ اللّهِ، وَالميمُ مَجدُ اللّهِ . ورَوى بَعضُهُم : الميمُ مُلكُ اللّهِ، وَاللّهُ إِلهُ كُلِّ شَيءٍ، الرَّحمنُ بِجَميعِ خَلقِهِ ، وَالرَّحيمُ بِالمُؤمِنينَ خاصَّةً. (2)
الإمام العسكريّ عليه السلام_ في قَولِ اللّهِ عز و جل : «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَ_نِ الرَّحِيمِ» _: اللّهُ هُوَ الَّذي يَتَأَلَّهُ إِلَيهِ عِندَ الحَوائِجِ وَالشَّدائِدِ كُلُّ مَخلوقٍ عِندَ انقِطاعِ الرَّجاءِ مِن كُلِّ مَن هُوَ دونَهُ ، وتَقَطُّعِ الأَسبابِ مِن جَميعِ ما سِواهُ ، يَقولُ : «بِاسمِ اللّهِ» أَي أَستَعينُ عَلى أُموري كُلِّها بِاللّهِ الَّذي لا تَحِقُّ العِبادَةُ إِلّا لَهُ ، المُغيثِ إِذَا استُغيثَ ، وَالمُجيبِ إِذا دُعِيَ . (3)
راجع : ص 438 ح 4025 .
.
ص: 443
الفصل الثاني: أصناف أسماء اللّه2 / 1الأَسماءُ اللَّفظِيَّةُالإمام عليّ عليه السلام :ما مِن حَرفٍ إِلّا وهُوَ اسمٌ مِن أَسماءِ اللّهِ عز و جل . (1)
الإمام الصادق عليه السلام :هذِهِ «ك_هيعص» أَسماءُ اللّهِ مُقَطَّعَةً . (2)
2 / 2الأَسماءُ التَّكوِينِيَّةُالإمام عليّ عليه السلام :أَنَا أَسماءُ اللّهِ الحُسنى ، وأَمثالُهُ العُليا ، وآياتُهُ الكُبرى . (3)
عنه عليه السلام :نَحنُ الاِسمُ المَخزونُ المَكنونُ ، نَحنُ الأَسماءُ الحُسنَى الَّتي إِذا سُئِلَ اللّهُ عز و جل بِها
.
ص: 444
أَجابَ ، نَحنُ الأَسماءُ المَكتوبَةُ عَلَى العَرشِ . (1)
الإمام الباقر عليه السلام_ في قَولِهِ تَعالى : «تَبَ_رَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِى الْجَلَ_لِ وَ الْاءِكْرَامِ» (2) _: نَحنُ جَلالُ اللّهِ وكَرامَتُهُ الَّتي أَكرَمَ اللّهُ العِبادَ بِطاعَتِنا . (3)
الإمام الصادق عليه السلام :مِنَّا . . . الاِسمُ المَخزونُ وَالعِلمُ المَكنونُ . (4)
عنه عليه السلام_ في زِيارَةِ أَميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام _: السَّلامُ عَلَى اسمِ اللّهِ الرَّضِيِّ ، ووَجهِهِ المُضيءِ . (5)
الإمام الرضا عليه السلام :إِذا نَزَلَت بِكُم شِدَّةٌ فَاستَعينوا بِنا عَلَى اللّهِ ، وهُوَ قَولُ اللّهِ : «وَلِلَّهِ الأَْسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا» (6) قالَ أَبو عَبدِ اللّهِ عليه السلام : نَحنُ وَاللّهِ الأَسماءُ الحُسنى ، الَّذي لا يُقبَلُ مِن أَحَدٍ إِلّا بِمَعرِفَتِنا ، قالَ: «فَادْعُوهُ بِهَا» . (7)
الإمام الهادي عليه السلام :نَحنُ الكَلِماتُ الَّتي لا تُدرَكُ فَضائِلُنا ولا تُستَقصى . (8)
راجع : بحار الأنوار : ج24 ص173 باب «إنّهم عليهم السلام كلمات اللّه وولايتهم الكلم الطيّب» .
.
ص: 445
2 / 3المُستَأثَرُ مِنَ الأَسماءِرسول اللّه صلى الله عليه و آله_ في دُعائِهِ المُسَمّى بِالأَسماءِ الحُسنى _: يا اللّهُ وَأَسأَلُكَ بِاسمِكَ الَّذي لا يُحيطُ بِهِ عِلمُ العُلَماءِ ، يا اللّهُ وَأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي لا يَحويهِ حُكمُ الحُكَماءِ . (1)
عنه صلى الله عليه و آله :إِنَّ للّهِِ تَعالى أَربعَةَ آلافِ اسمٍ : أَلفٌ لا يَعلَمُها إِلَا اللّهُ ، وأَلفٌ لا يَعلَمُها إِلَا اللّهُ وَالمَلائِكَةُ ، وأَلفٌ لا يَعلَمُها إِلَا اللّهُ وَالمَلائِكَةُ وَالنَّبِيّونَ ، وأَمَّا الأَلفُ الرّابِعُ فَالمُؤمِنونَ يَعلَمونَهُ : ثَلاثُمِئَةٍ مِنها فِي التَّوراةِ ، وثَلاثُمِئَةٍ فِي الإِنجيلِ ، وثَلاثُمِئَةٍ فِي الزَّبورِ ، ومِئَةٌ فِي القُرآنِ ، تِسعةٌ وتِسعونَ ظاهِرَةٌ ، وواحِدٌ مَكتومٌ ، مَن أَحصاها دَخَلَ الجَنَّةَ . (2)
عنه صلى الله عليه و آله :ما قالَ عَبدٌ قَطُّ إِذا أَصابَهُ هَمٌّ وحُزنٌ : «اللّهُمَّ إِنّي عَبدُكَ وَابنُ عَبدِكَ وَابنُ أَمَتِكَ ، ناصِيَتي بِيَدِكَ ، ماضٍ فِيَّ حُكمُكَ ، عَدلٌ فِيَّ قَضاؤُكَ ، أَسأَ لُكَ بِكُلِّ اسمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيتَ بِهِ نَفسَكَ ، أَو أَنزَلتَهُ في كتابِكَ ، أَو عَلَّمتَهُ أَحَدا مِن خَلقِكَ ، أَوِ استَأثَرتَ بِهِ في عِلمِ الغَيبِ عِندَكَ ، أَن تَجعَلَ القُرآنَ رَبيعَ قَلبي ، ونورَ صَدري ، وجَلاءَ حُزني ، وذَهابَ هَمّي» إِلّا أَذهَبَ اللّهُ عز و جل هَمَّهُ ، وأَبدَلَهُ مَكانَ حُزنِهِ فَرَحا . (3)
الإمام الصادق عليه السلام_ لِمَن قالَ لَهُ : يَدخُلُنِي الغَمُّ _: أَكثِر من أَن تَقولَ : «اَللّهُ اللّهُ رَبّي لا أُشرِكُ بِهِ شَيئا» ، فَإذا خِفتَ وَسوَسَةً أَو حَديثَ نَفسٍ فَقُل : «اللّهُمَّ إِنّي عَبدُكَ وَابنُ
.
ص: 446
عَبدِكَ وَابنُ أَمَتِكَ ، ناصِيَتي بِيَدِكَ ، عَدلٌ فِيَّ حُكمُكَ ، ماضٍ فِيَّ قَضاؤُكَ ، اللّهُمَّ إِنّي أَسأَ لُكَ بِكُلِّ اسمٍ هُوَ لَكَ أَنزَلتَهُ في كِتابِكَ ، أَو عَلَّمتَهُ أَحَدا مِن خَلقِكَ ، أَوِ استَأثَرتَ بِهِ في عِلمِ الغَيبِ عِندَكَ ، أَن تُصَلِّيَ عَلى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ ، وأَن تَجعَلَ القُرآنَ نورَ بَصَري ، ورَبيعَ قَلبي ، وجَلاءَ حُزني ، وذَهابَ هَمّي ، اللّهُ اللّهُ رَبّي لا أُشرِكُ بِهِ شَيئا» . (1)
الإمام الكاظم عليه السلام_ فِي الدُّعاءِ _: اللّهُمَّ إِنّي أَسأَ لُكَ بِكُلِّ اسمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيتَ بِهِ نَفسَكَ ، أَو أَنزَلتَهُ في شَيءٍ مِن كُتُبِكَ ، أَوِ استَأثَرتَ بِهِ في عِلمِ الغَيبِ عِندَكَ ، أَو عَلَّمتَهُ أَحَدا مِن خَلقِكَ ، أَن تَجعَلَ القُرآنَ رَبيعَ قَلبي ، وشِفاءَ صَدري ، ونورَ بَصَري ، وذَهابَ هَمّي وحُزني ؛ فَإِنَّهُ لا حَولَ ولا قُوَّةَ إِلّا بِكَ . (2)
راجع : ج 5 ص 41 ح 5004 .
.
ص: 447
الفصل الثالث: عدد أسماء اللّه3 / 1عَدَدُ الأَسماءِ اللَّفظِيَّةِرسول اللّه صلى الله عليه و آله :إِنَّ فِي القُرآنِ تِسعَةً وتِسعينَ اسما ، مَن أَحصاها كُلَّها دَخَلَ الجَنَّةَ . (1)
عنه صلى الله عليه و آله :إِنَّ للّهِِ تِسعَةً وتِسعينَ اسما ، مِئَةً إِلّا واحِدا ، مَن أَحصاها دَخَلَ الجَنَّةَ . (2)
عنه صلى الله عليه و آله :إِنَّ للّهِِ _ تَبارَكَ وتَعالى _ تِسعَةً وتِسعينَ اسما ؛ مِئَةً إِلّا واحِدا، مَن أَحصاها دَخَلَ الجَنَّةَ، وهِيَ : اللّهُ، الإِلهُ ، الواحِدُ ، الأَحَدُ ، الصَّمَدُ (3) ، الأَوَّلُ ، الآخِرُ ، السَّميعُ ، البَصيرُ، القَديرُ،
.
ص: 448
القاهِرُ ، العَلِيُّ ، الأَعلَى ، الباقِي ، البَديعُ ، البارِئُ ، الأَكرَمُ، الظّاهِرُ، الباطِنُ، الحَيُّ، الحَكيمُ ، العَليمُ ، الحَليمُ ، الحَفيظُ ، الحَقُّ ، الحَسيبُ (1) ، الحَميدُ ، الحَفيُّ ، الرَّبُّ ، الرَّحمنُ ، الرَّحيمُ ، الذَّارِئُ (2) ، الرَّزّاقُ ، الرَّقيبُ ، الرَّؤوفُ، الرَّائِي، السَّلامُ، المُؤمِنُ، المُهيمِنُ ، العَزيزُ ، الجَبّارُ ، المُتَكَبِّرُ ، السَّيِّدُ ، السُّبّوحُ (3) ، الشَّهيدُ ، الصّادِقُ ، الصّانِعُ ، الطّاهِرُ ، العَدلُ ، العَفُوُّ ، الغَفورُ ، الغَنِيُّ ، الغِياثُ ، الفاطِرُ ، الفَردُ ، الفَتّاحُ ، الفالِقُ ، القَديمُ ، المَلِكُ ، القُدّوسُ ، القَوِيُّ ، القَريبُ ، القَيّومُ ، القابِضُ ، الباسِطُ ، قاضِي الحاجاتِ ، المَجيدُ ، المَولَى ،المَنّانُ ، المُحيطُ، المُبينُ، المُقيتُ، المُصَوِّرُ، الكَريمُ ، الكَبيرُ ، الكافي ،كاشِفُ الضُّرِّ ، الوَترُ ، النُّورُ ، الوَهّابُ ، النّاصِرُ ، الواسِعُ ، الوَدودُ ، الهادِي ، الوَفِيُّ ، الوَكيلُ ، الوارِثُ ، البَرُّ ، الباعِثُ ، التَّوّابُ ، الجَليلُ ، الجَوادُ ، الخَبيرُ ، الخالِقُ ، خَيرُ النّاصِرينَ ، الدَّيّانُ (4) ، الشَّكورُ ، العَظيمُ ، اللَّطيفُ ، الشَّافي . (5)
الإمام الصادق عليه السلام_ لَمّا سُئِلَ عَنِ الأَسماءِ التِّسعَةِ وَالتِّسعينَ الَّتي مَن أَحصاها دَخَلَ الجَنَّةَ 6 _: هِيَ فِي القُرآنِ :
.
ص: 449
فَفِيالفاتِحَةِ خَمسَةُ أَسماءٍ: يا أللّهُ، يارَبُّ، يا رَحمانُ، يا رَحيمُ، يا مالِكُ. وفِي البَقَرَةِ ثَلاثَةٌ وثَلاثونَ اسما : يا مُحيطُ ، يا قَديرُ ، يا عَليمُ ، يا حَكيمُ ، يا عَلِيُّ ، يا عَظيمُ ، يا تَوّابُ ، يا بَصيرُ ، يا وَلِيُّ ، يا واسِعُ ، يا كافي ، يا رَؤوفُ ، يا بَديعُ ، يا شاكِرُ ، يا واحِدَ ، يا سَميعُ ، يا قابِضُ ، يا باسِطُ ، يا حَيُّ ، يا قَيّومُ ، يا غَنِيُّ ، يا حَميدُ ، يا غَفورُ ، يا حَليمُ ، يا إِلهُ ، يا قَريبُ ، يا مُجيبُ ، يا عَزيزُ ، يا نَصيرُ ، يا قَوِيُّ ، يا شَديدُ ، يا سَريعُ ، يا خَبيرُ . وفي آلِ عِمرانَ : يا وَهّابُ ، يا قائِمُ ، يا صادِقُ ، يا باعِثُ ، يا مُنعِمُ ، يا مُتَفَضِّلُ. وفِي النِّساءِ : يا رَقيبُ ، يا حَسيبُ ، يا شَهيدُ ، يا مُقيتُ ، يا وَكيلُ ، يا عَلِيُّ ، يا كَبيرُ . وفِي الأَنعامِ : يا فاطِرُ ، يا قاهِرُ ، يا لَطيفُ ، يا بُرهانُ . وفِي الأَعرافِ : يا مُحيي ، يا مُميتُ . وفِي الأَنفالِ : يا نِعمَ المَولى ، يا نِعمَ النَّصيرُ . وفي هودٍ : يا حَفيظُ ، يا مَجيدُ ، يا وَدودُ ، يا فَعّالُ لِما يُريدُ . وفِي الرَّعدِ : يا كَبيرُ ، يا مُتَعالِ . وفِي إِبراهيمُ : يا مَنّانُ ، يا وارِثُ . وفِي الحِجرِ : يا خَلّاقُ . وفي مَريمَ : يا فَردُ .
.
ص: 450
وفي طه : يا غَفّارُ . وفي «قَد أَفلَحَ» : يا كَريمُ . وفِي النُّور : يا حَقُّ ، يا مُبينُ . وفِي الفُرقانِ : يا هادي . وفي سَبَأٍ : يا فَتّاحُ . وفِي الزُّمَرِ : يا عالِمُ . وفي غافِرٍ : يا غافِرُ ، يا قابِلَ التَّوبَةِ ، يا ذَا الطَّولِ ، يا رَفيعُ . وفِي الذَّارِياتِ : يا رَزّاقُ ، يا ذَا القُوَّةِ ، يا مَتينُ . وفِي الطور : يا برّ . وفِي «اقتَرَبَت» : يا مَليكُ ، يا مُقتَدِرُ . وفِي الرَّحمن : يا ذَا الجَلالِ وَالإِكرامِ ، يا رَبَّ المَشرِقَينِ ، يا رَبُّ المَغرِبَينِ ، يا باقي ، يا مُهَيمِنُ . وفِي الحَديدِ : يا أَوَّلُ ، يا آخِرُ ، يا ظاهِرُ ، يا باطِنُ . وفِي الحَشرِ : يا مَلِكُ ، يا قُدّوسُ ، يا سَلامُ ، يا مُؤمِنُ ، يا مُهَيمِنُ ، يا عَزيزُ ، يا جَبّارُ ، يا مُتَكَبِّرُ ، يا خالِقُ ، يا بارِئُ ، يا مُصَوِّرُ . وفِي البُروجِ : يا مُبدِئُ ، يا مُعيدُ . وفِي الفَجرِ : يا وَترُ . وفِي الإِخلاصِ : يا أَحَدُ ، يا صَمَدُ . (1)
.
ص: 451
كلام في عدد الأسماء الحسنى اللفظيةقال العلّامة الطباطبائي قدس سره : «لا دليل في الآيات الكريمة على تعيّن عدد للأسماء الحسنى تتعين به ، بل ظاهر قوله : «اللَّهُ لَا إِلَ_هَ إِلَا هُوَ لَهُ الْأَسْمَآءُ الْحُسْنَى» (1) ، وقوله: «وَلِلَّهِ الأَْسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا» (2) ، وقوله : «لَهُ الْأَسْمَآءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِى السَّمَ_وَ تِ وَ الْأَرْضِ» (3) ، وأَمثالها من الآيات أَنّ كلّ اسم في الوجود هو أَحسن الأَسماء في معناها فهو له تعالى فلا تتحدّد أَسماؤه الحسنى بمحدّد . والذي ورد منها في لفظ الكتاب الإلهي مئة وبضعة وعشرون اسما ، هي : أ _ الإله ، الأَحد ، الأَول ، الآخر ، الأَعلى ، الأَكرم ، الأَعلم . أَرحم الراحمين ، أَحكم الحاكمين ، أَحسن الخالقين ، أَهل التقوى ، أَهل المغفرة ، الأَقرب ، الأَبقى . ب _ البارئ ، الباطن ، البديع ، البرّ ، البصير . ت _ التوّاب . ج _ الجبّار ، الجامع .
.
ص: 452
ح _ الحكيم ، الحليم ، الحي ، الحق ، الحميد ، الحسيب ، الحفيظ ، الحفي . خ _ الخبير ، الخالق ، الخلاق ، الخير ، خير الماكرين ، خير الرازقين ، خير الفاصلين ، خير الحاكمين ، خير الفاتحين ، خير الغافرين ، خير الوارثين ، خير الرَّاحمين ، خير المنزلين . ذ _ ذوالعرش ، ذوالطول ، ذوالانتقام ، ذو الفضل العظيم ، ذوالرَّحمة ، ذوالقوة ، ذوالجلال والإكرام ، ذوالمعارج . ر _ الرّحمن ، الرَّحيم ، الرؤوف ، الرَّب ، رفيع الدَّرجات ، الرَّزاق ، الرَّقيب . س _ السَّميع ، السَّلام ، سريع الحساب ، سريع العقاب . ش _ الشَّهيد ، الشَّاكر ، الشَّكور ، شديد العقاب ، شديد المحال . ص _ الصَّمد . ظ _ الظَّاهر . ع _ العليم ، العزيز ، العفو ، العلي ، العظيم ، علّام الغيوب ، عالم الغيب والشَّهادة . غ _ الغنيّ ، الغفور ، الغالب ، غافر الذنب ، الغفار . ف _ فالق الإصباح ، فالق الحبّ والنوى ، الفاطر ، الفتّاح . ق _ القوي ، القدّوس ، القيّوم ، القاهر ، القهّار ، القريب ، القادر ، القدير ، قابل التوب ، القائم على كل نفس بما كسبت . ك _ الكبير ، الكريم ، الكافي . ل _ اللطيف . م _ الملك ، المؤمن ، المهيمن ، المتكبرّ ، المصوّر ، المجيد ، المجيب ، المبين ،
.
ص: 453
المولى ، المحيط ، المقيت ، المتعال ، المحيي ، المتين ، المقتدر ، المستعان ، المبدي ، مالك الملك . ن _ النَّصير ، النُّور . و _ الوهّاب ، الواحد ، الولي ، الوالي ، الواسع ، الوكيل ، الودود . ه_ الهادي . وقد تقدّم أَنّ ظاهر قوله : «وللّه الأَسماء الحسنى» «وله الأَسماء الحسنى» أَنّ معاني هذه الأَسماء له تعالى حقيقة وعلى نحو الأَصالة ، ولغيره تعالى بالتبع فهو المالك لها حقيقة ، وليس لغيره إِلّا ما ملكه اللّه من ذلك ، وهو مع ذلك مالك لما ملكه غيره لم يخرج عن ملكه بالتمليك ، فله سبحانه حقيقة العلم مثلاً ، وليس لغيره منه إِلّا ما وهبه له ، وهو مع ذلك له لم يخرج من ملكه وسلطانه . . . وأَمّا ما ورد مستفيضا ممّا رواه الفريقان عن النَّبي صلى الله عليه و آله : «إِنَّ للّهِِ تِسعَةً وتِسعينَ اسما مِئَةً إِلّا واحِدا مَن أَحصاها دَخَلَ الجَنَّةَ» أَو ما يقرب من هذا اللفظ فلا دلالة فيها على التوقيف . هذا بالنظر إِلى البحث التفسيري ، وأَمّا البحث الفقهي فمرجعه فن الفقه والاحتياط في الدِّين يقتضي الاقتصار في التسمية بما ورد من طريق السمع ، وأَمّا مجرّد الإجراء والإطلاق من دون تسمية فالأَمر فيه سهل» . (1)
.
ص: 454
3 / 2عدد الأَسماء التكوينيّةالكتاب«وَ لَوْ أَنَّمَا فِى الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَ_مٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَ_تُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ » . (1)
«قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَ_تِ رَبِّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَ_تُ رَبِّى وَ لَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا » . (2)
«وَ إِن تَعُدُّواْ نَعَمتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا» . (3)
الحديثالإمام الصادق عليه السلام_ في تَفسيرِ قَولِهِ تَعالى: «قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ . . .» _: قَد أَخبَرَكَ أَنَّ كَلامَ اللّهِ عز و جل لَيسَ لَهُ آخِرٌ ولا غايَةٌ ، ولا يَنقَطِعُ أَبَدا . (4)
تعليقأَسماء اللّه وكلماته التكوينيّة بمعناها العامّ تشمل جميع مخلوقات اللّه ، و على هذا الأَساس فإنّ كلمات اللّه لا عدَّ لها ولاحصر ، والمخلوقات غير قادرة على إِحصائها ، ولكن هذا لايعني طبعا أَنّ اللّه غير قادر على إِحصائها؛ فهو تعالى يعلم عدد جميع مخلوقاته؛ ولهذا نرى القرآن الكريم يعلن: «وَ أَحْصَى كُلَّ شَىْ ءٍ عَدَدَا» (5) ، «لَا يُغَادِرُ
.
ص: 455
صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَا أَحْصَ_اهَا» (1) ، «وَ كُلَّ شَىْ ءٍ أَحْصَيْنَ_هُ كِتَ_بًا» . (2) وإِضافة إِلى الأَسماء والكلمات التكوينيّة العامّة ، فإنّ للّه تعالى أَسماء وكلمات تكوينيّة خاصّة أَيضا تذكر تحت عنوان «أَسماء اللّه الحسنى» ، أو «أَمثاله العليا» ، أو «آياته الكبرى» ، أَو «اسم اللّه الرضيّ» ، و مصداقُها البارز الأَنبياءُوالأَولياء وأَهل البيت عليهم السلام .
.
ص: 456
. .
ص: 457
ص: 458
مُهج الدعوات عن معاوية بن عمّار ع_ن الإمام الصادق عليه السلام : «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَ_نِ الرَّحِيمِ » اِسمُ اللّهِ الأَكبَرُ . أَو قالَ : الأَعظَمُ . (1)
4 / 1 _ 2آياتٌ مِنَ القُرآنِرسول اللّه صلى الله عليه و آله :اِسمُ اللّهِ الأَعظَمُ في هاتَينِ الآيَتَينِ : «وَ إِلَ_هُكُمْ إِلَ_هٌ وَ حِدٌ لَا إِلَ_هَ إِلَا هُوَ الرَّحْمَ_نُ الرَّحِيمُ» (2) ، وفاتِحَةِ سورَةِ آلِ عِمرانَ : «الم * اللَّهُ لَا إِلَ_هَ إِلَا هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ» (3) . (4)
عنه صلى الله عليه و آله :اِسمُ اللّهِ الأَعظَمُ الَّذي إِذا دُعِيَ بِهِ أَجابَ في سُوَرٍ ثَلاثٍ : البَقَرَةِ ، وآلِ عِمرانَ ، وطه . (5)
عنه صلى الله عليه و آله :اِسمُ اللّهِ الأَعظَمُ الَّذي إِذا دُعِيَ بِهِ أَجابَ في هذِهِ الآيِةِ مِن آلِ عِمرانَ : «قُلِ
.
ص: 459
اللَّهُمَّ مَ__لِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ» (1) إِلى آخِرِهِ . (2)
عنه صلى الله عليه و آله :هَل أَدُلُّكُم عَلَى اسمِ اللّهِ الأَعظَمِ الَّذي إِذا دُعِيَ بِهِ أَجابَ ، وإِذا سُئِلَ بِهِ أَعطى الدَّعوَةُ الَّتي دَعا بِها يونُسُ ، حَيثُ ناداهُ فِي الظُّلُماتِ الثَّلاثِ : «لَا إِلَ_هَ إِلَا أَنتَ سُبْحَ_نَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّ__لِمِينَ» (3) . (4)
عنه صلى الله عليه و آله :اِسمُ اللّهِ الأَعظَمُ في سِتِّ آياتٍ في آخِرِ سورَةِ الحَشرِ . (5)
كنز العمّال عن البراء بن عازب :قُلتُ لِعَلِيٍّ عليه السلام : يا أَميرَ المُؤمِنينَ ، أسأَ لُكَ بِاللّهِ ورَسولِهِ إِلّا خَصَصتَني بِأَعظَمِ ما خَصَّكَ بِهِ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وَاختَصَّهُ بِهِ جِبريلُ ، وأَرسَلَهُ بِهِ الرَّحمنُ ، فَضَحِكَ ، ثُمَّ قالَ لَهُ : يا بَراءُ إِذا أَرَدتَ أَن تَدعُوَ اللّهَ عز و جل بِاسمِهِ الأَعظَمِ ، فَاقرَأَ مِن أَوَّلِ سورَةِ الحَديدِ إِلى آخِرِ سِتِّ آياتٍ مِنها إِلى « . . . عَلِيم بِذَاتِ الصُّدُورِ» ، وآخِرَ سورَةِ الحَشرِ يَعني أَربَعَ آياتٍ ، ثُمَّ ارفَع يَدَيكَ فَقُل : «يا مَن هُوَ هكَذا ، أَسأَ لُكَ بِحَقِّ هذِهِ الأَسماءِ أَن تُصَلِّيَ عَلى مُحَمِّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ ، وأَن تَفعَلَ بي كَذا وكَذا مِمّا تُريدُ» . فَوَ الَّذي لا إِلهَ غَيرُهُ لَتُقبِلَنَّ (6) بِحاجَتِكَ إِن شاءَ اللّهُ . (7)
.
ص: 460
الإمام الصادق عليه السلام :اِسمُ اللّهِ الأَعظَمُ مُقَطَّعٌ في أُمِّ الكِتابِ . (1)
عنه عليه السلام : «ال_م» هُوَ حَرفٌ مِن حُروفِ اسمِ اللّهِ الأَعظَمِ المُقَطَّعِ فِي القُرآنِ ، الَّذي يُؤَلِّفُهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله وَالإِمامُ ، فَإِذا دَعا بِهِ أُجيبَ . (2)
4 / 1 _ 3نُصوصٌ مِنَ الأَدعِيَةِرسول اللّه صلى الله عليه و آله_ لَمّا سَمِعَ رَجُلاً يَقولُ : اللّهُمَّ إِنّي أَسأَ لُكَ بِأَنَّ لَكَ الحَمدَ لا إِلهَ إِلّا أَنتَ وَحدَكَ لا شَريكَ لَكَ ، المَنّانُ ، بَديعُ السَّماواتِ وَالأَرضِ ، ذُوالجَلالِ وَالإِكرامِ _: لَقَد سَأَلَ اللّهَ بِاسمِهِ الأَعظَمِ، الَّذي إِذا سُئِلَ بِهِ أَعطى ، وإِذا دُعِيَ بِهِ أَجابَ . (3)
سنن ابن ماجة عن بريدة :سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله رَجُلاً يَقولُ : اللّهُمَّ إِنّي أَسأَ لُكَ بِأَنَّكَ أَنتَ اللّهُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذي لَم يَلِد ولَم يولَد ولَم يَكُن لَهُ كُفُوا أَحَدٌ . فَقالَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : لَقَد سَأَلَ اللّهَ بِاسمِهِ الأَعظَمِ ، الَّذي إِذا سُئِلَ بِهِ أَعطى ، وإِذا دُعِيَ بِهِ أَجابَ . (4)
.
ص: 461
سنن أبي داوود عن حفص عن أنس :أَنَّهُ كانَ مَعَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله جالِسا ورَجُلٌ يُصَلّي ، ثُمَّ دَعَا : اللّهُمَّ إِنّي أَسأَ لُكَ بأَنَّ لَكَ الحَمدَ لا إِلهَ إِلّا أَنتَ ، المَنّانُ ، بَديعُ السَّماواتِ وَالأَرضِ، يا ذَا الجَلالِ وَالإِكرامِ ، يا حَيُّ يا قَيّومُ . فَقالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله : لَقَد دَعا اللّهَ بِاسمِهِ العَظيمِ ، الَّذي إِذا دُعِيَ بِهِ أَجابَ ، وإِذا سُئِلَ بِهِ أَعطى . (1)
الأدب المفرد عن أنس :كُنتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله دَعا رَجُلٌ فَقالَ : يا بَديعَ السَّماواتِ ، يا حَيُّ يا قَيّومُ ، إِنّي أَسأَ لُكَ . فَقالَ : أتَدرونَ بِما دَعا ؟ وَالَّذي نَفسي بِيَدِهِ ، دَعَا اللّهَ بِاسمِهِ الَّذي إِذا دُعِيَ بِهِ أَجابَ . (2)
الإمام الحسين عليه السلام عن الإمام عليّ عليه السلام :رَأَيتُ الخِضرَ عليه السلام فِي المَنامِ قَبلَ بَدرٍ بِلَيلَةٍ ، فَقُلتُ لَهُ : عَلِّمني شَيئا أُنصَرُ بِهِ عَلَى الأَعداءِ . فَقالَ : قُل : «يا هُوَ ، يا مَن لا هُوَ إِلَا هُوَ» ، فَلَمّا أَصبَحتُ قَصَصتُها عَلى رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، فَقالَ لي : يا عَلِيُّ عُلِّمتَ الاِسمَ الأَعظَمَ . فَكانَ عَلى لِساني يَومَ بَدرٍ . وإِنَّ أَميرَ المُؤمِنينَ عليه السلام قَرَأَ «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» ، فَلَمّا فَرَغَ قالَ : يا هُوَ ، يا مَن لا هُوَ إِلّا هُوَ ، اغفِر لي وَانصُرني عَلَى القَومِ الكافِرينَ . وكانَ عَلِيٌّ عليه السلام يَقولُ ذلِكَ يَومَ صِفّينَ وهُوَ يُطارِدُ ، فَقالَ لَهُ عَمّارُ بنُ ياسِرٍ : يا أَميرَ المُؤمِنينَ ، ما هذِهِ الكِناياتُ ؟
.
ص: 462
قالَ : اِسمُ اللّهِ الأَعظَمُ ، وعِمادُ التَّوحيدِ للّهِِ لا إِلهَ إِلّا هُوَ ، ثُمَّ قُرَأَ : «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَ_هَ إِلَا هُوَ» ، وآخِرَ الحَشرِ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلّى أَربَع رَكعاتٍ قَبلَ الزَّوالِ. (1)
الإمام زين العابدين عليه السلام :كُنتُ أَدعُو اللّهَ سُبحانَهُ سَنَةً عَقيبَ كُلِّ صَلاةٍ أَن يُعَلِّمَنِي الاِسمَ الأَعظَمَ، فَإِنّي ذاتَ يَومٍ قَد صَلَّيتُ الفَجرَ ، إِذ غَلَبتَني عَينايَ وأَنَا قاعِدٌ ، وإِذا أَنَا بِرَجُلٍ قائِمٍ بَينَ يَدَيَّ يَقولُ لي : سَأَلتَ اللّهَ تَعالى أَن يُعَلِّمَكَ الاِسمَ الأَعظَمَ؟ قُلتُ : نَعَم . قالَ : قُل : «اللّهُمَّ إِنّي أَسأَ لُكَ بِاسمِكَ اللّهِ ، اللّهِ ، اللّهِ ، اللّهِ ، اللّهِ ، الَّذي لا إِلهَ إِلّا هُوَ رَبُّ العَرشِ العَظيمِ» . قالَ : فَوَ اللّهِ ما دَعَوت بِها (2) لِشَيءٍ إِلّا رَأَيتُ نُجحَهُ . (3)
الإمام الرضا عليه السلام :مَن قالَ بَعدَ صَلاةِ الفَجرِ : «بِسمِ اللّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ ، لا حَولَ ولا قُوَّةَ إِلّا بِاللّهِ العَلِيِّ العَظيمِ» مِئَةَ مَرَّةٍ ، كانَ أَقرَبَ إِلَى اسمِ اللّهِ الأَعظَمِ مِن سَوادِ العَينِ إِلى بَياضِها ، وإِنَّهُ دَخَلَ فيهَا اسمُ اللّهِ الأَعظَمُ . (4)
4 / 1 _ 4كُلُّ اسمٍ مِن أَسماءِ اللّهِرسول اللّه صلى الله عليه و آله_ لَمّا سُئِلَ عَنِ اسمِ اللّهِ الأَعظَمِ _: كُلُّ اسمٍ مِن أَسماءِ اللّهِ، فَفَرِّغ قَلبَكَ
.
ص: 463
عَن كُلِّ ما سِواهُ ، وَادعُهُ بِأَيِّ اسمٍ شِئتَ ، فَلَيسَ فِي الحَقيقَةِ للّهِِ اسمٌ دونَ اسمٍ ، بَل هُوَ الواحِدُ القَهّارُ . (1)
4 / 2مَن كانَ عِندَهُ الاِسمُ الأَعظَمُالكتاب«قالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَ_بِ أَنَا ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَءَاهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قالَ هَ_ذَا مِن فَضْلِ رَبِّى لِيَبْلُوَنِى ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ » . (2)
الحديثالإمام الباقر عليه السلام :إِنَّ اسمَ اللّهِ الأَعظَمَ عَلى ثَلاثَةٍ وسَبعينَ حَرفا ، وإِنَّما كانَ عِندَ آصَفَ مِنها حَرفٌ واحِدٌ ، فَتَكَلَّمَ بِهِ ، فَخُسِفَ بِالأَرضِ ما بَينَهُ وبَينَ سَريرِ بِلقَيسَ ، حَتّى تَناوَلَ السَّريرَ بِيَدِهِ ، ثُمَّ عادَتِ الأَرضُ كَما كانَت أَسرَعَ مِن طَرفَةِ عَينٍ ، ونَحنُ عِندَنا مِنَ الاِسمِ الأَعظَمِ اثنانِ وسَبعونَ حَرفا ، وحَرفٌ واحِدٌ عِندَ اللّهِ تَعالى، اِستَأثَرَ بِه في عِلمِ الغَيبِ عِندَهُ ، ولا حَولَ ولا قُوَّةَ إِلّا بِاللّهِ العَلِيِّ العَظيمِ . (3)
الإمام الصادق عليه السلام :كانَ سُلَيمانُ عِندَهُ اسمُ اللّهِ الأَكبَرُ ، الَّذي إِذا سَأَلَهُ أَعطى ، وإِذا
.
ص: 464
دَعا بِهِ أَجابَ ، ولَو كانَ اليَومَ لَاحتاجَ إِلَينا . (1)
عنه عليه السلام :سَلمانُ عُلِّمَ الاِسمَ الأَعظَمَ . (2)
بصائر الدرجات عن عبد اللّه بن بكير عن أَبي عبد اللّه عليه السلام :كُنتُ عِندَهُ فَذَكَروا سُليمانَ وما أُعطِيَ مِنَ العِلمِ وما أُوتِيَ مِنَ المُلكِ ، فَقالَ لي : وما أُعطِيُ سُليمانُ بنُ داوودَ؟ إِنَّما كانَ عِندَهُ حَرفٌ واحِدٌ مِنَ الاِسمِ الأَعظَمِ ، وصاحِبُكُمُ الَّذي قالَ اللّهُ : «قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدَا بَيْنِى وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَ_بِ» (3) وكانَ وَاللّهِ عِندَ عَلِيٍّ عليه السلام عِلمُ الكِتابِ ، فَقُلتُ : صَدَقتَ وَاللّهِ، جُعِلتُ فِداكَ! (4)
الإمام الصادق عليه السلام :إِنَّ عيسَى بنَ مَريَمَ عليه السلام أُعطِيَ حَرفَينِ وكانَ يَعمَلُ بِهِما ، وأُعطِيَ موسى أَربَعَةَ أَحرُفٍ ، وأُعطِيَ إِبراهيمُ ثَمانِيَةَ أَحرُفٍ ، وأُعطِيَ نوحٌ خَمسَةَ عَشَرَ حَرفا ، وأُعطِيَ آدَمُ خَمسَةً وعِشرينَ حَرفا ، وإِنَّ اللّهَ تَعالى جَمَعَ ذلِكَ كُلَّهُ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ، وإِنَّ اسمَ اللّهِ الأَعظَمَ ثَلاثَةٌ وسَبعونَ حَرفا ، أَعطى مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله اثنَينِ وسَبعينَ حَرفا ، وحُجِبَ عَنهُ حَرفٌ واحِدٌ . (5)
عنه عليه السلام :إِنَّ اللّهَ سُبحانَهُ وتَعالى جَعَلَ اسمَهُ الأَعظَمَ عَلى ثَلاثَةٍ وسَبعينَ حَرفا ، فَأَعطى آدَمَ مِنها خَمسَةً وعِشرينَ حَرفا ، وأَعطى نوحا مِنها خَمسَةَ عَشَرَ حَرفا ، وأَعطى
.
ص: 465
إِبراهيمَ مِنها ثَمانِيَةَ أَحرُفٍ ، وأَعطى موسى مِنها أَربَعَةَ أَحرُفٍ ، وأَعطى عيسى مِنها حَرفَينِ ؛ فَكانَ يُحيي بِهِمَا (1) المَوتى ، ويُبرِئُ الأَكمَهَ وَالأَبرَصَ ، وأَعطى مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله اثنَينِ وسَبعينَ حَرفا ، وَاحتَجَبَ بِحَرفٍ لِئَلّا يَعلَمَ أحَدٌ ما في نَفسِهِ ، ويَعلَمُ ما في أَنفُسِ العِبادِ . (2)
الإمام الرضا عليه السلام :أُعطِيَ بَلعَمُ بنُ باعورا الاِسمَ الأَعظَمَ ، فَكان يَدعو بِهِ فَيُستَجابُ لَهُ. (3)
راجع : أهل البيت في الكتاب والسنّة : (القسم الرابع / الفصل الثاني / اسم اللّه الأعظم) .
.
ص: 466
. .
ص: 467
تحقيق في معنى الاسم الأعظمتكرّر موضوع الاسم الأَعظم للّه عز و جل في الأَحاديث ، وبخاصّة في الأَدعية كثيرا ، وذُكر أَنّ كلّ إِنسان يدعو اللّه به يُستجاب دعاؤه ، وأَنّ أَهل البيت عليهم السلام يعرفون جميع حروفه إِلّا حرفا واحدا منه ، فما ذلك الاسم؟ إِنّ روايات الباب مختلفة كما لوحظ ولا يمكن الإجابة عن هذا السؤال بشكلٍ قاطع من وجهة نظر الروايات ، لكن يتسنّى لنا أَن نقول: هَبْ أَنّ هذه الروايات صحيحة فإنّ الاسم الأَعظم الذي كان عند الأَنبياء وأَهل البيت عليهم السلام بالخصائص المذكورة له يجب أَن يكون شيئا غير الأَلفاظ الواردة في الروايات المذكورة لا محالة . لقد أَدّى فقدان الدليل القاطع على المراد من الاسم الأَعظم إِلى تضارب الآراء فيه ، حتّى نقل السيوطيّ عشرين قولاً منها: ذهب جماعة منهم : أَبو جعفر الطبريّ ، وأبو الحسن الأَشعريّ ، وأبو حاتم بن حيّان ، والباقلاني إِلى أَنّ الأَسماء الإلهيّة كلّها عظيمة ، ولا وجود لاسم أَعظم من الأَسماء الأُخرى .
.
ص: 468
وذهب بعضهم : إِلى وجود الاسم الأَعظم ، لكن لا يعلمه إِلّا اللّه تعالى وحدَه . ورأَى بعض آخر : أَنّ الاسم الأَعظم خافٍ بين الأَسماء الحسنى . وقال آخرون: الاسم الأَعظم ، هو كلّ اسم يدعو به العبد ربّه بكلّ وجوده (1) . ومنهم : من ذكر أَنّ الاسم الأَعظم اسم جامع للأَسماء كلّها (2) . ومنهم : من يعتقد أَنّ الأَنبياء مظاهر أُمّهات أَسماء الحقّ ، وهي داخلة في الاسم الأَعظم الجامع ، ومظهر الحقيقة المحمّديّة (3) . أَجل ، إِنّ الخلاف في تبيان ما غمضت حقيقته على الباحثين طبيعيّ ، بيد أَنّي وجدتُ بين الآراء المختلفة التي لاحظتها أَنّ كلام العلّامة الطباطبائي في تبيينه هو أَفضلها .
أَفضل تحقيق في تبيان الاسم الأَعظمقال العلّامة الطباطبائي قدس سره _ في بيان معنى الاسم الأَعظم _ : «شاع بين النّاس أَنّه اسم لفظي من أَسماء اللّه سبحانه إِذا دعي به استجيب ، ولا يشذّ من أَثره شيء غير أَنّهم لما لم يجدوا هذه الخاصّة في شيء من الأَسماء الحسنى المعروفة ولا في لفظ الجلالة ، اعتقدوا أَنّه مؤلّف من حروف مجهولة تأليفا مجهولاً لنا لو عثرنا عليه أَخضعنا لإرادتنا كلّ شيء . وفي مزعمة أَصحاب العزائم والدعوات أَنّ له لفظا يدلُّ عليه بطبعه لا بالوضع
.
ص: 469
اللغوي غير أَنّ حروفه وتأليفها تختلف باختلاف الحوائج والمطالب ، ولهم في الحصول عليه طرق خاصة يستخرجون بها حروفا أَولاً ، ثمّ يؤلّفونها ويدعون بها على ما نعرفه من راجع فنهم (1) . وفي بعض الروايات الواردة إِشعار ما بذلك ، كما ورد أَنّ «بسم اللّه الرحمن الرحيم» أَقرب إِلى اسم اللّه الأَعظم من بياض العين إِلى سوادها ، وما ورد أَنّه في آية الكرسي ، وأَوّل سورة آل عمران ، وما ورد أَنّ حروفه متفرقة في سورة الحمد يعرفها الإمام وإِذا شاء أَلّفها ودعا بها فأستجيب له ، وما ورد أَنّ آصف بن برخيا وزير سليمان دعا بما عنده من حروف اسم اللّه الأَعظم فأَحضر عرش ملكة سبأ عند سليمان في أَقل من طرفة عين ، وما ورد أَنّ الاسم الأَعظم على ثلاثة وسبعين حرفا قسم اللّه بين أَنبيائه اثنين وسبعين منها ، واستأَثر واحدا منها عنده في علم الغيب ، إِلى غير ذلك من الروايات المشعرة بأنّ له تأليفا لفظيا . والبحث الحقيقي عن العلّة والمعلول وخواصّها يدفع ذلك كلّه فإنّ التأثير الحقيقي يدور مدار وجود الأَشياء في قوته وضعفه والمسانخة بين المؤثر والمتأَثر، والاسم اللفظي إِذا اعتبرنا من جهة خصوص لفظه كان مجموعة أَصوات مسموعة هي من الكيفيات العرضية ، وإِذا اعتبر من جهة معناه المتصوّر كان صورة ذهنية لا أَثر لها من حيث نفسها في شيء البتة ، ومن المستحيل أَن يكون صوت أَوجدناه من طريق الحنجرة أَو صورة خيالية نصوّرها في ذهننا بحيث يقهر بوجوده وجود كلّ شيء ، ويتصرّف فيما نريده على ما نريده فيقلب السماء أَرضا والأَرض سماءً ويحوّل الدنيا إِلى الآخرة وبالعكس وهكذا ، وهو في نفسه معلول لإرادتنا . والأَسماء الإلهية واسمه الأَعظم خاصّة وإِن كانت مؤثرة في الكون ووسائط
.
ص: 470
وأَسبابا لنزول الفيض من الذات المتعالية في هذا العالم المشهود ، لكنها إِنّما تؤثر بحقائقها لا بالأَلفاظ الدالّة في لغة كذا عليها ، ولا بمعانيها المفهومة من أَلفاظها المتصورة في الأَذهان ، ومعنى ذلك أَنّ اللّه سبحانه هو الفاعل الموجد لكلّ شيء بما له من الصفة الكريمة المناسبة له التي يحويها الاسم المناسب ، لا تأثير اللفظ أَو صورة مفهومة في الذهن أَو حقيقة أُخرى غير الذات المتعالية ، إِلّا أَنّ اللّه سبحانه وعد إِجابة دعوة ، من دعاه كما في قوله : «أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ» (1) ، وهذا يتوقّف على دعاء وطلب حقيقي ، وأَن يكون الدعاء والطلب منه تعالى لا من غيره _ كما تقدم في تفسير الآية _ فمن انقطع عن كلّ سبب واتصل بربِّه لحاجة من حوائجه فقد اتصل بحقيقة الاسم المناسب لحاجته فيؤثر الاسم بحقيقته ويستجاب له ، وذلك حقيقة الدعاء بالاسم فعلى حسب حال الإسم الذي انقطع إِليه الداعي يكون حال التأثير خصوصا وعموما ، ولو كان هذا الاسم هو الاسم الأَعظم انقاد لحقيقته كلّ شيء واستجيب للداعي به دعاؤه على الإطلاق. وعلى هذا يجب أَن يحمل ما ورد من الروايات والأَدعية في هذا الباب دون الاسم اللفظي أَو مفهومه. ومعنى تعليمه تعالى نبيا من أَنبيائه أَو عبدا من عباده أسما من أَسمائه أَو شيئا من الاسم الأَعظم هو أَن يفتح له طريق الانقطاع إِليه تعالى باسمه ذلك في دعائه ومسألته فإن كان هناك اسم لفظي وله معنى مفهوم فإنّما ذلك ؛ لأَجل أَن الأَلفاظ ومعانيها وسائل وأَسباب تحفظ بها الحقائق نوعا من الحفظ فافهم ذلك» (2) .
.
ص: 471
الفصل الخامس : دور أسماءِ اللّه في تدبير العالمرسول اللّه صلى الله عليه و آله_ في دُعائِهِ المُسمّى بِالأَسماءِ الحُسنى _: أَسأَ لُكَ وأَدعوكَ بِاسمِكَ الَّذي تَقطَعُ بِهِ العُروقَ مِنَ العِظامِ ، ثُمَّ تُنبِتُ عَلَيهَا اللَّحمَ بِمَشِيئَتِكَ ، فَلا يَنقُصُ مِنها مِثقالُ ذَرَّةٍ بِعَظيمِ ذلِكَ الاِسمِ بِقُدرَتِكَ يا اللّهُ . وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي تَعلَمُ بِهِ ما فِي السَّماءِ وما فِي الأَرضِ وما فِي الأَرحامِ ولا يَعلَمُ ذلِكَ أَحَدٌ غَيرُكَ يا اللّهُ . وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي تَنفُخُ بِهِ الأَرواحَ فِي الأَجسادِ فَيَدخُلُ بِعَظيمِ ذلِكَ الاِسمِ كُلُّ روحٍ إِلى جَسَدِها ، ولا يَعلَمُ بِتِلكَ الأَرواحِ الَّتي صَوَّرتَ في جَسَدِهَا المُسَمّى في ظُلُماتِ الأَحشاءِ إِلّا أَنتَ يا اللّهُ . وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّتي (1) تَعلَمُ بِهِ ما فِي القُبورِ وتُحَصِّلُ بِهِ ما فِي الصُّدورِ يا اللّهُ . وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي أَنبَتَّ بِهِ اللُّحومَ عَلَى العِظامِ فَتَنبُتُ عَلَيها بِذلِكَ الاِسمِ يا اللّهُ .
.
ص: 472
وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ القادِرِ بِكَ عَلى كُلِّ شَيءٍ يا أللّهُ . وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي خَلَقتَ بِهِ الحَياةَ مِن مَشيئَتِكَ العُظمى إِلى أَجَلٍ مُسَمّىً يا اللّهُ . وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي خَلَقتَ بِهِ المَوتَ وأَجرَيتَهُ فِي الخَلقِ عِندَ انقِطاعِ آجالِهِم وفَراغِ أَعمالِهِم يا اللّهُ . وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي طَيَّبتَ بِهِ نُفوسَ عِبادِكَ ، فَطابَت لَهُم أَسماؤُكَ الحُسنى وآلآؤُكَ الكُبرى يا اللّهُ . وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ المُصَوِّرِ الماجِدِ الواحِدِ الَّذي خَشَعَت لَهُ الجِبالُ وما فيها يا اللّهُ . وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي تَقولُ بِهِ لِلشَّيءِ كُن فَيَكونُ بِقُدرَتِكَ يا اللّهُ . . . وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الّذي تَجري بِهِ الفُلكَ فِي البَحرِ المُسَلسَلِ المَحبوسِ بِقُدرَتِكَ يا اللّهُ . وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الّذي يُسَبِّحُ لَكَ بِهِ قَطرُ المَطَرِ وَالسَّحابُ الحامِلاتُ قَطَراتِ رَحمَتِكَ يا اللّهُ . وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي أَجرَيتَ بِهِ وابِلَ السَّحابِ فِي الهَواءِ بِقُدرَتِكَ يا اللّهُ . وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي تُنَزِّلُ بِهِ قَطرَ المَطَرِ مِنَ المُعصِراتِ ماءً ثَجّاجا (1) فَتَجعَلُهُ فَرَجا يا اللّهُ . وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذِي مَلَأتَ بِهِ قُدسَكَ بِعَظيمِ التَّقديسِ يا قُدّوسُ يا اللّهُ . وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذِي استَعانَ بِهِ حَمَلَةُ عَرشِكَ فَأَعَنتَهُم وطَوَّقتَهُمُ احتِمالَهُ
.
ص: 473
فَحَمَلوهُ بِذلِكَ الاِسمِ يا اللّهُ . وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي خَلَقتَ بِهِ الكُرسِيَّ سَعَةَ السَّماواتِ وَالأَرضِ يا اللّهُ . وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي خَلَقتَ بِهِ العَرشَ العَظيمَ الكَريمَ وعَظَّمتَ خَلقَهُ فَكان كَما شِئتَ أَن يَكونَ بِذلِكَ الاِسمِ يا عَظيمُ يا اللّهُ . وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي طَوَّقتَ بِهِ العَرشَ بِهَيبَةِ العِزَّةِ وَالسُّلطانِ يا اللّهُ . وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي تُخرِجُ بِهِ نَباتَ الأَرضِ مَنافِعَ لِخَلقِكَ وغِيَاثا يا اللّهُ ... . وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي خَلَقتَ بِهِ النُّجومَ وجَعَلتَ مِنها رُجوما لِلشَّياطينِ ما بَينَ السَّماءِ وَالأَرضِ يا اللّهُ . وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي تَنتَثِرُ بِهِ الكَواكِبُ نَثرا لِدَعوَتِكَ يا اللّهُ . وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي يَطيرُ بِهِ الطَّيرُ في جَوِّ السَّماءِ صافّاتٍ بِأَمرِكَ يا اللّهُ . وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي أُحضِرَت بِهِ الأَرَضونَ لِأَمرِكَ يا اللّهُ . وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي يُسَبِّحُ لَكَ بِهِ كُلُّ شَيءٍ بِلُغاتٍ مُختَلِفَةٍ يا اللّهُ ... . وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي شَقَقتَ بِهِ الأَرضَ شَقّا ، وأَنبَتَّ فيها حَبّا وعِنَبا وقَضبا (1) ، وزَيتونا ونَخلاً ، وحَدائِقَ غُلبا (2) ، وفاكِهَةً وأَبّا (3) يا اللّهُ . وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي تُخرِجُ بِهِ الحُبوبَ مِنَ الأَرضِ ، فَتُزَيِّنُ بِها الأَرضَ ، فَتُذَكِّرُ بِنِعمَتِكَ يا أللّهُ .
.
ص: 474
وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي تُسَبِّحُ لَكَ بِهِ الضَّفادِعُ فِي البِحارِ وَالأَنهارِ وَالغُدرانِ بِأَلوانِ صِفاتِها وَاختِلافِ لُغاتِها يا أللّهُ ... . وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الظّاهِرِ في كُلِّ شَيءٍ بِالقُدرَةِ وَالكِبرِياءِ وَالبُرهانِ وَالسُّلطانِ يا اللّهُ . (1)
الإمام عليّ عليه السلام_ في دُعائِهِ المَعروفِ بِدُعاءِ كُمَيلٍ _: اللّهُمَّ إِنّي أَسأَلُكَ . . . بِأَسمائِكَ الَّتي غَلَبَت (2) أَركانَ كُلِّ شَيءٍ . (3)
الإمام زين العابدين عليه السلام_ في دُعائِهِ عَقيبَ الصَّلاةِ _: اللّهُمَّ إِنّي أَسأَلُكَ بِاسمِكَ الَّذي بِهِ تَقومُ السَّماءُ وَالأَرضُ ، وبِاسمِكَ الَّذي بِهِ تَجمَعُ المُتَفَرِّقَ وتُفَرِّقُ المُجتَمِعَ ، وبِاسمِكَ الَّذي تُفَرِّقُ بِهِ بَينَ الحَقِّ وَالباطِلِ ، وبِاسمِكَ الَّذي تَعلَمُ بِهِ كَيلَ البِحارِ وعَدَدَ الرِّمالِ ووَزنَ الجِبالِ ، أَن تَفعَلَ بي كَذا وكَذا . (4)
الإمام الصادق عليه السلام_ في دُعاءِ الإِلحاحِ _: اللّهُمَّ إِنّي أَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي بِهِ تَقومُ السَّماءُ وبِهِ تَقومُ الأَرضُ، وبِهِ تُفَرِّقُ بَينَ الحَقِّ وَالباطِلِ ، وبِهِ تَجمَعُ بَينَ المُتَفَرِّقِ ، وبِهِ تُفَرِّقُ بَينَ المُجتَمِعِ ، وبِهِ أَحصَيتَ عَدَدَ الرِّمالِ وزِنَةَ الجِبالِ وكَيلَ البِحارِ . (5)
الإمام الكاظم عليه السلام_ في دُعاءٍ لَهُ بَعدَ صَلاةِ جَعفَرٍ _: أَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي تَحشُرُ بِهِ
.
ص: 475
المَوتى إِلَى المَحشَرِ ، يا مَن لا يَقدِرُ عَلى ذلِكَ أَحَدٌ غَيرُهُ ، أَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي تُحيي بِهِ العِظامَ وهِيَ رَميمٌ . (1)
الإمام المهدي عليه السلام_ في قُنوتِهِ _: أَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي كَوَّنتَ بِهِ طَعمَ المِياهِ . وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي أَجرَيتَ بِهِ الماءَ في عُروقِ النَّباتِ بَينَ أَطباقِ الثَّرى ، وسُقتَ الماءَ إِلى عُروقِ الأَشجارِ بَينَ الصَّخرَةِ الصَّمّاءِ . وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي كَوَّنتَ بِهِ طَعمَ الثِّمارِ وأَلوانَها . وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي بِهِ تُبدِئُ وتُعيدُ . وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الفَردِ الواحِدِ المُتَفَرِّدِ بِالوَحدانِيَّةِ المُتَوَحِّدِ بِالصَّمَدانِيَّةِ بِاسمِكَ (2) . وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي فَجَّرتَ بِهِ الماءَ مِنَ الصَّخرَةِ الصَّماءِ وسُقتَهُ مِن حَيثُ شِئتَ . وأَسأَ لُكَ بِاسمِكَ الَّذي خَلَقتَ بِهِ خَلقَكَ ورَزَقتَهُم كَيفَ شِئتَ وكَيفَ شاؤوا . (3)
.
ص: 476
. .
ص: 477
الفهرس التفصيلي .
ص: 478
. .
ص: 479
. .
ص: 480
. .
ص: 481
. .
ص: 482
. .
ص: 483
. .
ص: 484
. .
ص: 485
. .
ص: 486
. .
ص: 487
. .
ص: 488
. .