تهذيب شرح نهج البلاغه لابن ابي الحديد المعتزلي المجلد 1

اشارة

سرشناسه : ابن ابي الحديد، عبدالحميد بن هبةالله، 586 - 655ق.

عنوان قراردادي : شرح نهج البلاغه .برگزيده

نهج البلاغه. شرح

عنوان و نام پديدآور : تهذيب شرح نهج البلاغه لابن ابي الحديد المعتزلي/ عبدالهادي الشريفي.

مشخصات نشر : قم: موسسه علمي فرهنگي دارالحديث، سازمان چاپ و نشر، 1426ق. =1384-

مشخصات ظاهري : 2 ج.

فروست : مركز بحوث دارالحديث؛ 101.

شابك : 80000 ريال: دوره: 964-493-100-9 ؛ 140000 ريال: دوره، چاپ دوم 978-964-493-100-0 : ؛ ج.1، چاپ دوم 978-964-493-101-7 : ؛ ج.2: 964-493-102-5 ؛ ج. 2، چاپ دوم 978-964-493-102-4 :

يادداشت : عربي.

يادداشت : ج. 1 و 2 (چاپ دوم: 1428 ق. = 1386).

يادداشت : كتابنامه.

يادداشت : نمايه.

موضوع : علي بن ابي طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق -- خطبه ها

موضوع : علي بن ابي طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق. -- نامه ها

موضوع : علي بن ابي طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق. -- كلمات قصار

شناسه افزوده : شريفي، عبدالهادي ، خلاصه كننده

شناسه افزوده : موسسه علمي - فرهنگي دارالحديث. سازمان چاپ و نشر

رده بندي كنگره : BP38/023 /ش4 1384

رده بندي ديويي : 297/9515

شماره كتابشناسي ملي : 1028381

ص: 1

اشاره

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

تصدير

تصديرحظي كتاب نهج البلاغة منذ مطلع تأليفه باهتمام وافر من لدن العلماء في شتّى بقاع العالم الإسلامي؛ ويكمن سرّ هذا الاهتمام فيما انطوت عليه كلمات الإمام عليّ عليه السلام الّتي وردت بين دفّتيه من أعلى مراتب البلاغة والفَصاحة، إلى درجة أنّ هذا الكتاب يثير شغف كلّ عربي ذي حس مرهف وما يسترعي الالتفات أكثر من ذلك هو ما احتوى عليه من مضامين ذات مغزىً عميق، مسبوكة في صياغة وسياق بلاغي بارع. واستلهاما من هذه الصورة فهذا الكتاب ليس مجرّد نهج بلاغة، بل يخطّ لبني الإنسان نهج الحياة، بل نجد من جانب آخر بأنّ الخطب البليغة الموجودة فيه تختزن بين ثناياها كلّ معاني التوحيد والنبوّة والإمامة والأخلاق، وغير ذلك من المعارف الغزيرة الاُخرى، هذا ناهيك عمّا في رسائله من تبيين لأساليب الحكم وتاريخ موثّق لمجريات ذلك العصر. أمّا بالنسبة إلى الحِكَم والكلمات القصار الّتي وردت فيه فهي زاخرة بالتعاليم القيّمة والإرشادات البليغة الّتي صيغت بأتم دقّة وإيجاز، ولكنّها في الوقت ذاته تعلّم القارئ كلّ ما هو أساسي من دروس الحياة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية. هذه السمات والخصائص الّتي طبعت هذا الكتاب جعلته محطا لأنظار الكثيرين ممّن استهوتهم مفاهيمه ومحتوياته، وحَدّث بهم إلى السعي لاستكشاف مضامينه وسَبر عميق أغواره. ومن هؤلاء الذين نتحَدّث عنهم نخصّ بالذكر ابن أبي الحديد المعتزلي (586 _ 656 ه). فقد كان هذا الرجل أديبا ومؤرخا ومتكلّما بارعا. وقد شمّر عن سواعد الجِد لكتابة شرح لهذا الكتاب الفذ نهج البلاغة، وإهدائه إلى مؤيد الدين محمّد بن أحمد العلقمي الأسدي الحلّي(656 ه)، وبقي منكبّا على إنجاز هذا الشرح منذ عام 644 وحتّى عام 649ه ، حتّى أتمّه في أربع سنين وثمانية أشهر، وقد كتب شرحه ذاك في عشرين مجلدا، وهو متداول اليوم ويعوّل عليه الباحثون.

.

ص: 6

تناول هذا الشرح دراسة كتاب نهج البلاغة من أربعة جوانب وجعلها نَصب عينيه في شرحه وهي كالآتي: الجانب الأول : شرح كلمات الإمام عليّ عليه السلام في الخطب والرسائل والحكم . الجانب الثاني : الردّ على كتاب الشافي في الإمامة وهو من تأليف الشريف المرتضى الّذي كتبه ردّا على كتاب المغني للقاضي عبد الجبّار المعتزلي . الجانب الثالث : سرد مقاطع من تاريخ الإسلام عموما ومن تاريخ الإمام عليّ عليه السلام خصوصا، وقد أقحم هذا السرد التاريخي بين ثنايا شرحه. الجانب الرابع : بحوث استطرادية لغوية، وأدبية، وأخلاقية، وحكمية، وغيرها. وقد أورد آراء المعتزلة بشكل خاصّ في مواضع مناسبة. ومن الطبيعي أنّ ما يطمح إليه معظم القرّاء عند قراءتهم لكتاب شرح نهج البلاغة، ويَصبون إلى أن يضعه في متناول أيديهم هو الجانب الأول، ونادرا ما تحدوهم رغبة إلى الانسياق وراء ما تتضمّنه الجوانب الثلاثة الأُخرى. هذا الكتاب الّذي بين أيديكم يمثّل ثمرة لأتعاب ومساعي رجل فاضل وهو السيّد عبد الهادي الشريفي الّذي عنى باستخراج شرح عبارات نهج البلاغة من كتاب ابن أبي الحديد، واستبعد من ذلك البحوث الزائدة الكلامية والتاريخية وغيرها، وشذّب الكتاب منها. وها هو كتابه هذا تهذيب شرح نهج البلاغة يقدّم للقارئ الكريم شرحا خالصا في بيان كلمات سيّد الفصحاء وإمام البلغاء. ولابدَّ من الإشارة إلى أنّ المُهَذِّب المحترم لهذا الكتاب قد ضبط حركات نصّ كلمات الإمام عليّ عليه السلام ، ونقّح شرحها وحذف الحشو والزوائد منها، وجعلها في سياق متناسق يروي ظمأ المتطلّعين إلى استنطاق معاني البلاغة المكنونة في نهج البلاغة. نسأل اللّه تعالى أن يوفّيه خير الجزاء على جميل مساعيه. معاونية قسم البحوث والدراسات مركز بحوث دار الحديث ربيع الثاني 1326

.

ص: 7

مقدمة الكتاب

مقدّمة الكتاببسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد للّه رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين ، وبعد : إن كتاب « نهج البلاغة » ، أو ما اختاره الشريف الرضي (359 _ 406 ه) أبو الحسن محمّد بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن ابراهيم ابن الإمام موسى الكاظم عليه السلام ، أحد علماء الإمامية الأفذاذ وأشعر شعراء قريش ؛ أروع ما أُثر عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام من خطب وكتب ومواعظ وأدب ، ممّا يتضمّن عجائب البلاغة ، وغرائب الفصاحة ، وجواهر العربية ، وثواقب الكلم الدينيّة والدنيوية ؛ هو أجلّ نتاج أدبي وفكري بشري عرفه التأريخ ، وأكثرها ثباتاً ودواماً وانتشاراً بعد كتاب اللّه العزيز ، والسنّة النبوية الشريفة « وأعظمها فنّاً وفكراً وعمقاً ، ففنيّاً قدّم النهج نموذجاً فنّياً عالياً ، بحيث أنّ ما عداه من النتاج الأدبي هو دونه أو تقليد له ، وأمّا فكريّاً فهو حصيلة ما أودعه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلممن المعرفة لدى الإمام علي عليه السلام « أنا مدينة العلم وعلي بابها » ، هذه المعرفة التي سبقت عصرها الى تخوم العصور » (1) . وجاءت تسميته « بنهج البلاغة » ليدلّ على أنّه النموذج الأسمى لبلاغة التعبير ، والأعلى لسمو الفكر ، وتنوّع الفنون ، والأغراض والأهداف ، فالنهج كتاب لا نظير له بين آثار بني البشر ؛ لأنّه يُعنى بشؤون الإنسان الروحية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية ،

.


1- .تاريخ الأدب العربي في ضوء المنهج الإسلامي ، د . محمود البستاني ، ص209 بتصرّف .

ص: 8

والعلمية ، ويعالج مشاكله دائماً ، وهو بهذا الاعتبار بقي وسيبقى خالداً أبدَ الدهر تهفو إليه القلوب الوالهة الضماء لتستضيء بنور هديه وترتوي من عذب مائه . ولا يكاد أديب أو خطيب أو فقيه أو كاتب أو مفكر بنحو عام يتخلّص من تأثيره . ولا تخلو مكتباتهم من اقتنائه . ولم يكن « نهج البلاغة » كتاباً وضعه مؤلفه في فصول مرتّبة ومنظّمة _ مترابطة الأجزاء والأبواب ، وفي زمان واحد وإنّما هو مختارات من كلام أمير المؤمنين عليه السلام في جميع فنونه ومتشعبات غصونه ، خلال سنيّ عمره المبارك التي أعقبت حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، التي لاقى فيها ألواناً من الأذى والمحن والفتن والحروب ، وشاهد كثيراً من الانحرافات التي ولّدتها نفوس الحاقدين والمنافقين والطامعين من الشانئين والطلقاء وأبنائهم . ورغم طول المدّة واختلاف الأحوال ، تجد موضوعاته ترتبط ارتباطاً عضوياً محكماً لا خلل فيه ولا اختلاف يجمعها وحدة الهدف والغاية والطريقة ، رغم أن الإمام عليه السلام كان يلقي خطبَه وكلامه ارتجالاً وعفو الخاطر ؛ وهو بهذا يكشف عن الروح الربانية الفذة التي كان يتمتّع بها الإمام عليه السلام ، كما يكشف عن أن هذا النتاج لا يمكن أن يصدر إلاّ عن مصدر طاقته فوق طاقة البشر ، يستقي من منبع الغيب والوحي ومن قبس النبوة والعصمة ، وأنّ النهج لوحده يصلح دليلاً موضوعياً على عصمة صاحبه وعظمته لما فيه من قمم فنيّة رائعة وأفكار جليلة معصومة ، « فالتوحيد ، والعدل والمباحث الشريفة الإلهية ما عرفت إلاّ من كلام هذا الرجل ... وإن كلام غيره من أكابر الصحابة لم يتضمّن شيئاً من ذلك أصلاً ، ولا كانوا يتصورنه ، ولو تصوروه لذكروه ، وهذه الفضيلة عندي من أعظم الفضائل » (1) . والنهج العظيم يوضح سيرة وسلوك الإمام عليه السلام أفضل توضيح في غالب مراحل حياته ، وما لابسها من أحداث بشكل مدهش جعل هذا النهج ذات طبيعة خاصة متفردة ، وذلك للطاقة اللغوية والبلاغية الهائلة التي يمتلك ناصيتها الإمام عليه السلام وللعلوم الجمّة التي يكتنزها صدره الشريف . وللبلاغة التي تنثال على لسانه انثيالاً دون تعمّل أو تأمّل . « فقد كان أمير المؤمنين عليه السلام مَشْرع الفصاحة وموردها ، ومنشأ البلاغة ومولدها ، ومنه عليه السلام ظهر مكنونها ، وعنه اُخذت قوانينها ، وعلى أمثلته حذا كلُّ قائل خطيب ، وبكلامه

.


1- .شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد 2/120 .

ص: 9

استعان كل واعظ بليغ ، ومع ذلك فقد سبق وقصّروا ، وتقدّم وتأخروا ؛ لأنّ كلامه الذي عليه مَسْحة من العلم الإلهي وفيه عبقة من الكلام النبوي ... فهو البحر الذي لا يُساجل والجمّ الذي لا يحافل » (1) . يقول ابن أبي الحديد (2) : « اجتمع للإمام عليّ بن أبي طالب من صفات الكمال ، ومحمود الشمائل والخِلال وسناء الحسب وباذخ الشرف ، مع الفطرة النقية ، والنفس المرضيّة ، ما لم يتهيأ لغيره من أفذاذ الرجال ... كل هذه المزايا مجتمعة ، وتلك الصفات متآزرة متناصرة ، وما صاحَبها من نَفْح إلهي ، وإلهام قُدسي ، مكَّنت الإمام علي عليه السلام من وجوه البيان ، وملَّكته أعنّة الكلام ، وألهمته أسمى المعاني وأكرمها ، وهيّأت له أشرف المواقف وأعزّها ، فجرتْ على لسانه الخُطب الرائعة والرسائل الجامعة ، والوصايا النافعة ، والكلمة يرسلها عفو الخاطر فتغدو حِكمة ، والحديث يلقيه بلا تعمّل ولا إعنات فيصبح مثلاً ؛ في أداء محكم ، ومعنى واضح ولفظ عذب سائغ ؛ وإذا هذا الكلام يملأ السهل والجبل ، ينتقل في البدو والحضر ، يرويه على كثرته الرواة ، ويحفظه العلماء والدارسون ... وحسبك أنّه لم يدوّن لأحد من فصحاء الصحابة العُشر ولا نصف العُشر مما دوّن له » . وقال السيد المرتضى : « كان الحسن البصري بارع الفصاحة بليغ المواعظ ، كثير العلم ، وجميع كلامه في الوعظ ، وذم الدنيا ... وجلّه مأخوذ لفظاً أو معنى ، أو معنى دون لفظ من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، فهو القدوة والغاية » (3) . ويقول البيهقي ، وهو من أوائل شرّاح النهج : « ولا شك أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام كان باب مدينة العلوم فما نقول في سقط [الشرر] انفضّ من زند خاطره الواري ، وغيض بدا من فيض نهره الجاري ؛ لابل في شعلة من سراجه الوهّاج ، وغرفة من بحره الموّاج وقطرة من سحاب علمه الغزير ، ولا ينبؤك مثل خبير » (4) . وذهب الشيخ محمّد عبده _ إلى نحو ذلك في مقدّمة شرحه للنهج الذي عوّل فيه على

.


1- .نهج البلاغة ، الشريف الرضي ، المقدمة .
2- .شرح ابن أبي الحديد ، تحقيق محمد أبو الفضل 1/5 .
3- .أمالي المرتضى .
4- .معارج نهج البلاغة ، علي بن زيد البيهقي ، ص97 .

ص: 10

جامع النهج الشريف

شرح ابن أبي الحديد ، وأخذه منه حرفياً دون أن يضيف منه شيئاً _ قائلاً : « تصفحت بعض صفحاته ، وتأملت جملاً من عباراته من مواضع مختلفات ، ومواضيع متفرّقات ، فكان يُخيّل لي في كلّ مقامٍ أنّ حُروباً شبت ، وغارات شُنّت ، وأنّ للبلاغة دولةً وللفصاحة صولة ، وأنّ للأوهام عرامة وللريب دعارة ، وأن جحافل وكتائب الذرابة في عقود النظام ، وصفوف الانتظام تنافح بالصفيح الأبلج ، والقويم الأملج ، وتمتلج المهج برواضع الحجج ، فتفل من دعارة الوساوس ، وتصيب مقاتل الخوانس ، فما أنا إلاّ والحق منتصر ، والباطل منكسر ، ومرَجُ الشك في خمود ، وهرج الريب في ركود ، وأنّ مدبر تلك الدولة وباسل تلك الصولة هو حاملُ لوائها الغالب ، أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ، بل كنت كلما انتقلت من موضع منه إلى موضع ، أحس بتغيّر المشاهد ، وتحوّل المعاهد ، فتارة كنت أجدني في عالم يعمُره من المعاني أرواح عالية ، في حلل من العبارات الزاهية ، تطوف على النفوس الزاكية وتدنو من القلوب الصافية ، توحي إليها رشادَها وتقوم منها مرادُها . وطوراً كانت تنكشف لي الجمل عن وجوه باسره وأنياب كاشرة وأرواح في أشباح النمور ، ومخالب النسور قد تحفزت للوِثَاب ثمّ انقضت للاختلاب ... وأحياناً كنت أشهد أنّ عقلاً نورانياً لا يشبه خلقاً جسدانياً ، فصل عن الموكب الإلهي واتصل بالروح الإنساني ، فخلعه عن غاشيات الطبيعة وسما به إلى الملكوت الأعلى ونمي به إلى مشهد النور الأجلى » (1) .

جامع النهج الشريف :هذا النتاج الجليل تصدّى لجمعه وتبويبه السيد الشريف النقيب أبو الحسن محمّد بن الحسين الرضي الموسوي (539 _ 406 ه) ، وأطلق عليه اسم (نهج البلاغة) ؛ ليشير بذلك إلى أنّ هذا النتاج هو المثال لبلاغه التعبير بعد كتاب اللّه العزيز ، وقد ظهر في عصر ازدهرت فيه الحضارة الإسلاميّة والعربية ، وظهر فيه أشهر النوابغ في مختلف العلوم الانسانية والآداب . والسيد الشريف الرضي هو مفخرة العترة ، الذي جمع إلى شرف النسب النبوي شرف العلم والحلم والأدب ما تتباهى به العصور . يقول عنه الثعالبي (429 ه) : « وهو اليوم

.


1- .شرح نهج البلاغة ، محمد عبده ، المقدمة .

ص: 11

طريقته في الجمع

أبدع أبناء الزمان ، وأنجب سادة العراق ، يتحلّى _ مع محتده الشريف ، ومفخره المنيف _ بأدب ظاهر ، وفضل باهر ، وحظ من جميع المحاسن وافر » (1) . والسيد الرضي كان محدّثاً وأديباً ، وشاعراً ، وهو صاحب المؤلفات التي بلغت ثمانية عشر ، وقد بلغ بعضها العشرة أجزاء ، ومن أهمّها : (المجازات القرآنية) و (مجازات الآثار النبوية) و (نهج البلاغة) ، هذا الثلاثي الرائع الذي ألّفه من كلام اللّه تعالى ، وكلام النبي صلى الله عليه و آله وسلم ، وكلام الوصي عليه السلام ، كان مثار إعجاب العلماء والأُدباء ، ولكن نهج البلاغة كان الأشهر والأفضل والأكثر تداولاً ، ولذلك نال من الشروح والتعليق قديماً وحديثاً ما لم ينل غيره من بقية الكتب البشرية ، حتى قاربت المئتي شرحاً إلى يوم الناس هذا ، ولعل شهرة الرضي جاءت بسبب جمعه لهذا الكتاب ، الذي كان موضع اهتمام المسلمين وغيرهم من العلماء والأُدباء والمحدثين . وقد صرّح السيد الرضي بسبب تسمية ما جمعه ب_ (نهج البلاغة) فقال : « ورأيت من بعدُ تسمية هذا الكتاب ب_ (نهج البلاغة) ، إذ كان يفتح للناظر فيه أبواباً ، ويقرّب عليه طلابها . فيه حاجة العالم والمتعلّم ، وبغية البليغ والزاهد ، ويمضي في أثنائه من عجيب الكلام في التوحيد والعدل ، وتنزيه اللّه سبحانه وتعالى عن شَبَه الخلْق ، ما هو بِلال كلّ غُلّة ، وشفاء كلّ عِلّة ، وجِلاء كلّ شبهة ... » (2) .

طريقته في الجمع :كان للسيد الرضي رحمه الله أُسلوبه الخاص في جمع (نهج البلاغة) وتدوينه ، تحدّث عنها في مقدمة الكتاب ، نعرض لها باختصار ضمن نقاط : 1 _ قام رحمه الله بجمع ما تفرّق من كلام الإمام عليه السلام من مصادره الموثوقة ، ودوّنه في أوراق متفرّقة ليستدرك ما يشذّ عنه مستقبلاً ، ثم عمد إلى اختيار محاسن كلامه ، فحذف ما شاء مما اجتمع عنده ، وانتقى ما شاء وفق ذوقه وسليقته ، ومبناه البلاغي ، ومنهجه في النظم .

.


1- .يتيمة الدهر في محاسن العصر ، الثعالبي 3/155 ، تحقيق د . مفيد محمد قميحة ، الطبعة الأُولى 1403 ه / 1983 م ، دار الكتب العلمية _ بيروت .
2- .نهج البلاغة ، مقدمة الشريف الرضي .

ص: 12

فابتدأ باختيار محاسن الخطب ، ثمّ محاسن الكتب ، ثم محاسن الحكم ، وكان يعترف بعجزه وقصوره عن الإحاطة بأقطار كلامه عليه السلام مع بذل الجهد وبلاغة الوسع ؛ لغزارته وسعة موارده ، يقول الرضي : « ... فأجمعت بتوفيق اللّه تعالى على الابتداء باختيار محاسن الخطب ، ثمّ محاسن الكتب ، ثمّ محاسن الحِكَم والأدب ، مفرداً لكلّ صنف من ذلك باباً ، ومفضّلاً فيه أوراقاً ، لتكون مقدمة لاستدراك ما عساه يشذّ عنّي عاجلاً ، ويقع إليّ آجلاً ... » (1) . 2 _ إنّ جميع ما ضمّه النهج ، أخذه الرضي من المصادر التي سبقته زماناً ، أو التي عاصرته ؛ ولمّا لم تكن غايته فيما يختاره من كلام الإمام عليه السلام تحقيق سنده ، ولا تصحيح روايته ، بقدر اهتمامه بما ينسجم مع الجانب البلاغي والبياني الذي امتاز به ، ولذلك أدرج في النهج ما وجده أمامه من كلمات الإمام وخطبه ، وكتبه في مؤلفات المؤرخين والمحدّثين ، مما نقلوه ورووه عن الإمام عليه السلام ، وعزوه إليه من دون أن يسنده إليه ، وعذره في ذلك أنه لم يكن بعمله هذا راوياً ، بمعنى الرواة ، ولا محدّثاً على طريقة المحدثين ، الذين يدونون الروايات والأحاديث بأسانيد متصلة إلى من صدرت عنه ، وإنّما كان أديباً له حسٌّ أدبي فريد ، تغريه روائع البلاغة والبيان ، ولا يلوي على شيء آخر سواها (2) . ولذا فإنّ الباحث لا يجد كثير صعوبة في العثور على جلّ ما في النهج في أكثر من مصدر مما قد صنّف قبل عصر الرضي رحمه الله . 3 _ لمّا كانت مهمّة الرضي محصورة بالجمع مع التمحيص والتحقيق والانتقاء لضبط مادة النهج ؛ لإبراز بلاغة الإمام عليه السلام وفصاحته ، فلم يراع فيما اختاره التنسيق والتتالي ، ولذا جرّت هذه الطريقة مشاكل على حساب التنسيق الفني ، ودقة التصنيف والنظم ، يقول الرضي : « وربما جاء فيما أختاره من ذلك فصول غير متّسقة ، ومحاسن كلمٍ غير منتظمة ؛ لأني أورد النكت واللّمع ، ولا أقصد التتالي والنسق » (3) . 4 _ صنّف السيد الرضي (النهج) بحسب الفنون النثرية ، لا بحسب الموضوعات ، فابتدأ الخطب ، ثم الرسائل ، ثم الحكم ، وكان من الممكن أن تضاف إليه أشكالٌ اُخر من فنون

.


1- .المصدر السابق .
2- .مصادر نهج البلاغة ، الشيخ عبد اللّه نعمة ، ص56 ، مطابع دار الهدى 1392 ه / 1972 م .
3- .نهج البلاغة مقدمة الشريف الرضي .

ص: 13

النثر ، مثل الدعاء ، الخاطرة ، الزيارة ، والمحاورة ، والمقالة ... الخ ، إلاّ أنه أدرجها ضمن الأبواب اللائقة بها بحسب مقياسه الجمالي والبلاغي ، وأشدّها ملامحة لغرضه : « ورأيت كلامه عليه السلام يدور على أقطاب ثلاثة ، أولها : الخطب والأوامر ؛ وثانيها : الكتب والرسائل ؛ وثالثها : الحكم والمواعظ » 1 . وربما يختار من خطب متعددة فصولاً ويوردها بنسق خطبة واحدة (1) . وقد أشار إلى ذلك ابن أبي الحديد في مواضع كثيرة ففي شرح الخطبة (121) ، فقال : « هذا الكلام يتلو بعضه بعضاً ؛ ولكنه ثلاثة فصول لا يلتصق أحدها بالآخر ؛ وهذه عادة الرضيّ ، تراه ينتخب من جملة الخطبة الطويلة كلمات فصيحة ، يوردها على سبيل التتالي ، وليست متتالية حين تكلّم بها صاحبها » (2) . وفي موضع آخر من شرحه قال : « هذا كلام منقطع عمّا قبله ؛ لأنّ الشريف الرضي رحمه اللهكان يلتقط الفصول التي في الطبقة العليا من الفصاحة من كلام أمير المؤمنين عليه السلام فيذكرها ، ويتخطّى ما قبلها وما بعدها » (3) .

.


1- .اُنظر مصادر نهج البلاغة ، ص56 مصدر سابق ؛ ومدارك نهج البلاغة ، الشيخ هادي كاشف الغطاء ، ص206 ، منشورات مكتبة الأندلس _ بيروت .
2- .شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد 7/298 الأصل (121) ، تحقيق محمد أبوالفضل إبراهيم ، طبعة دار الكتب العلمية (اسماعيليان) _ قم ، اُفست عن طبعة دار إحياء الكتب العربية (عيسى البابي الحلبي وشركاه) _ القاهرة 1960 م .
3- .المصدر السابق 7/188 الأصل (107) ، وهي من خطب الملاحم .

ص: 14

وقال أيضاً في شرح الخطبة (45) : إن الرضي رحمه الله يلتقط كلام أمير المؤمنين عليه السلام التقاطاً ولا يقف مع الكلام المتوالي ، لأنّ غرضه ذكر فصاحته عليه السلام لا غير ، ولو أتى بخطبه كلّها على وجهها لكانت أضعاف كتابه الذي جمعه . وفي الخطبة (133) بنفس المضمون . فنهج البلاغة ، وإن خلا من وحدة النظم والتنسيق والانسجام بين فصوله ، بهذا المعنى الذي ذكرناه ، إلاّ أنه انتظمته وحدة الروح والمثل والأُسلوب على اختلاف موضوعاته ومقاصده وفنونه ، فحينما نطل على (النهج) تغمرنا أنواره المشرقة ، وعبقاته العطرة ، ويستولي على مشاعرنا جوّ روحاني إيماني أخّاذ ، وكأن المكانة السامية والمقام الروحي لأمير المؤمنين وسيد الأوصياء عليه السلام لا تبعد آناً ما ، عمّا هو مسطور فيه ، فتحسُّ بأدب الوحي والنبوة ، وروحانية الإيمان الصادق ، وأخلاق الإمام المعصوم ، كل ذلك في صور فنية رائعة في أعلى طبقات البلاغة والفصاحة . يقول سبط ابن الجوزي البغدادي (654 ه) في تذكرته « كان عليّ عليه السلام ينطق بكلام قد حُفّ بالعصمة ، ويتكلّم بميزان الحكمة ، كلام ألقى اللّه عليه المهابة ، فكلّ من طرق سمعه راعه فهابه ، وقد جمع اللّه له بين الحلاوة والملاحة ، والطلاوة والفصاحة ... ألفاظ يشرق عليها نور النبوة ويحيّر الأفهام والألباب » (1) . وكأننا نقرأ شخصية الإمام وسيرته بين سطور النهج كما وصفها رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : « لايعرفك إلاّ اللّه وأنا » (2) . وقد قدّم السيد الشريف رحمه الله بعمله هذا خدمة كبيرة على مرّ العصور للأدب واللغة والأخلاق ، وللإنسانية عموماً ، وسوف يوفّى أجر المصلحين والمحسنين «إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ» (3) . فالنهج نسخة فريدة بين آثار بني الإنسان تشتمل على معارف إلهية عالية ، ومنهاج للأخلاق ، وقوانين في الاجتماع ، والسياسة ، والحرب ، والاقتصاد ... ودروس في الحكمة ، والأدب ، والعرفان ... الخ . ينهل منه العارف ، والفيلسوف ، والمتكلم ، وعالم الاجتماع

.


1- .تذكرة الخواص ، ص119 الباب السادس ، إصدار مكتبة نينوى الحديثة _ طهران .
2- .مناقب آل أبي طالب ، ابن شهرآشوب 2/60 ؛ مختصر بصائر الدرجات ، الحسن بن سليمان ، ص135 .
3- . ، «وَلاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» . سورة الأعراف 170 ، سورة التوبة 120 .

ص: 15

مصادر الرضي في نهج البلاغة

والسياسة والحرب ، والفقيه ، والحكيم ، والأديب ... .

مصادر الرضي في نهج البلاغة :إنّ الإمام الرضي محمد بن الحسين الموسوي قدس سره ، العالم البصير ، والثبْت الخبير المأمون ، قد تصدّى لجمع كلام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام ، وروايته وتنظيمه في كتاب أسماه (نهج البلاغة) ، ومن أوّل يوم ظهر للوجود ، وعرفه الناس ، تناقله العلماء ، والأُدباء ، وتلقوه بالقبول والاستحسان ، وتصدوا لشرحه وترجمته ، والتعليق عليه عبر القرون ، دونما نكير أو تشكيك إلاّ من بعض الشّذاذ دونما سبب مهم يوجب التشكيك من مناقضة للكتاب الكريم أو السنة الثابتة أو العقل ، ولا لضرورة من ضروريات الدين . وكتاب النهج هذا جدير بأن يكون من أجلّ المصادر وأعلاها وأوثقها ، ولا يحتاج بعد إلى مصدر أو مرجع يوثّقه ، شأنه في ذلك شأن سائر ما يرويه المحدثون الثقات ، فيؤخذ بمروياتهم دون تشكيك ، ولا مطالبة بمصدر ، على أنه جاء جلّه مروياً بالأسانيد في مصادر اُخر سابقة أو معاصرة لجامع النهج . وقد صرّح جامعه الشريف الرضي رحمه الله _ خلاله _ في أبواب متفرّقة ، بأنّه نقل بعض نصوص نهج البلاغة من مصادر مدوّنة ، ذكر أسماءها وأسماء مؤلفيها ، ومن مصادر مروية بالأسانيد المتصلة إلى الإمام علي عليه السلام ، « والظاهر أنّ تخصيص ذلك البعض بذكر المصدر دون غيره من مندرجات الكتاب ، هو أنّ ذلك البعض ممّا لم تتحقق عند المؤلّف نسبته إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، بخلاف غيره فإنّه على ثقة منه ويقين ، فلا يحتاج إلى ذكر مصدر له تكون العهدة عليه في النقل والنسبة ، وهذه عادة القدماء من أهل التأليف » (1) ، ونحن نذكر مصادره المدوّنة ، ثم مصادره المروية بالسند (2) كما ذكرها في ثنايا النهج الشريف .

.


1- .مدارك نهج البلاغة ودفع الشبهات ، الشيخ هادي كاشف الغطاء ، ص235 .
2- .نقلنا هذا الثبت للمصادر من كتاب مدارك نهج البلاغة ، للشيخ الهادي كاشف الغطاء ، ص234 ؛ وكتاب مصادر نهج البلاغة ، للشيخ عبد اللّه نعمة ، ص38 وما بعدها ؛ وكتاب العذيق النضيد بمصادر ابن أبي الحديد ، لاُستاذنا الدكتور أحمد الربيعي ، ص105 .

ص: 16

أوّلاً : المصادر المدوّنة

ثانيا : المصادر المروية بالسند

أولاً : المصادر المدوّنة :1 _ حلف ربيعة واليمن ، لأبي منذر هشام بن محمد الكلبي (204 ه) وهو الحلف الذي عقده الإمام علي عليه السلام بين ربيعة واليمن (1) . 2 _ الجُمل ، لأبي عبد اللّه محمد بن عُمر الواقدي (207 ه) (2) . 3 _ إصلاح المنطق ، لابن السِّكِّيت أبي يوسف يعقوب بن إسحاق (224 ه) ، أصله من الأهواز ، وهو مؤدب ولدي المتوكل العباسي (237 ه) ونديمه 3 . 5 _ كتاب المقامات ، لأبي جعفر محمد بن عبد اللّه الإسكافي (240 ه) ، وهو في مناقب الإمام علي عليه السلام 4 . 7 _ كتاب البيان والتبيين ، لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (255 ه) 5 . 9 _ تاريخ الرسل والملوك ، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (310 ه) .

ثانياً : المصادر المروية بالسند :1 _ رواية ضرار بن ضَمْرة (ق1 ه) ، وذكر ابن أبي الحديد في موضع آخر أنه ضرار بن حمزة الضِّبائي ، كان من خواص الإمام علي عليه السلام ، ورواية ضمرة عن الإمام عليه السلام قوله : « يا دنيا

.


1- .شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد ، 18/66 ، 18/68 ، 1/204 ، 19/108 ، 17/131 ، 18/74 ، 2/175 ، 2/186 ، 19/305 ، 18/224 ، 10/64 ، تحقيق محمد أبو الفضل ، اُفست عن الطبعة الأُولى 1378 ه / 1959 م ، عيسى البابي الحلبي وشركاه _ القاهرة .
2- .9 شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد ، 18 / 68 ، 1 / 204 ، 19 / 108 ، 17 / 131 ، 18 / 74 ، 2 / 175 ، 20 / 186 ، 11 / 12 .

ص: 17

غرّي غيري » 1 ؟! 3 _ رواية ابن صدقة العبدي مَسْعدة بن صدقة (ق2 ه) ، كان معاصراً للإمامين الصادقين عليهماالسلام ، وهو من أعلام الجمهور له كتاب (خطب أمير المؤمنين عليه السلام ) (1) . 4 _ رواية ذِعْلب اليمامي أبي محمد ذعلب اليمامي (ق4 ه) ، من رجال الشيعة ومحدّثيهم . يستعمل ابن أبي الحديد لفظ (المحدِّث) بمعنى (المؤرّخ) 3 . 6 _ رواية كميل بن زياد النخعي (82 ه) ، كان من خواص أمير المؤمنين عليه السلام (2) . 7 _ رواية نَوْف بن فُضالة البِكالي الحميري (90 _ 100 ه) ، كان صاحب الإمام عليه السلام ، روى عنه خطبة وحديثاً (3) . 8 _ حكاية الإمام أبي جعفر محمد الباقر بن علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام (114 ه) ، خامس أئمة أهل البيت المعصومين عليهم السلام (4) . 9 _ رواية ثعلب الشيباني أبي العباس أحمد بن يحيى (291 ه) ، عن المأمون العباسي ، عن الإمام علي عليه السلام (5) .

.


1- .شرح نهج البلاغة : 6/398 الأصل (90) ، الخطبة المعروفة بالأشباح ، وهي من جلائل خطبه عليه السلام ؛ الفهرست ، الشيخ الطوسي ، ص248 رقم 744 تحقيق جواد القيّومي ، الطبعة الأُولى 1417 ه ، مؤسسة نشر الفقاهة _ قم ؛ رجال النجاشي ، ص415 رقم 1108 تحقيق السيد موسى الشبيري الزنجاني ، الطبعة الرابعة 1413 ه ، مؤسسة النشر الإسلامي _ قم .
2- .المصدر السابق 17/149 ، 18/246 ، 19/99 .
3- .المصدر السابق 10/76 ، 18/265 .
4- .المصدر السابق 18/240 .
5- .المصدر السابق 20/8 .

ص: 18

شبهات حول كتاب نهج البلاغة

انتهت مصادر الشريف الرضي التي أوردها في نهج البلاغة .

شبهات حول كتاب نهج البلاغة :ما أن ظهر كتاب (نهج البلاغة) الذي جمعه الشريف الرضي رحمه الله ، حتى انفتح الباب أمام الأقلام التي حرّكتها وخزات الحقد والشنآن ، فأثارت الشبهات حول مصداقية النهج الشريف ، وصحة نسبته إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، فزعمت أنّ جميع ما في النهج أو بعضه هو من تأليف السيد الرضي ، أو هو من تأليف أخيه السيد المرتضى (436 ه) ، أو من تأليفهما معاً ، أو من تأليف قوم من فصحاء الشيعة ، وضعوه ليزيدوا الناس يقيناً بما عرفوه من بلاغة الإمام عليه السلام ، وقوة بيانه ، واقتداره وفصاحته ، وساقوا في معرض الشك مزاعم لا تصمد أمام سلطان العلم والمنطق ، وشواهد الأحوال . ولعل أول من شكك في صحة ما اُثر في النهج هو ابن خلكان (681 ه) ، فقد تردد في مؤلف النهج ، أهو الشريف الرضي أم المرتضى (رحمهما اللّه ) ؟ فقال : « قد اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام الإمام عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه ، هل هو جمعه ، أم جمعه أخيه الرضي ؟ وقد قيل : إنّه ليس من كلام عليّ ، وإنّما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه » (1) . ومجمل حجج هؤلاء المنكرين أو المشككين تعود إلى أسباب كثيرة ؛ بعضها يتعلّق بجهة السند ؛ وبعضها الآخر بمضمونه ومحتواه ؛ وبعضها باُسلوبه ، ولعل أكثر الشبهات شهرة وتداولاً هي : 1 _ خلو الكتب التأريخية والأدبية من أكثر ما في النهج ، أو أنّ أكثره عرض منسوباً في غير النهج لغير الإمام عليه السلام . 2 _ طول بعض الخطب ، وتعسّر حفظها على الرواة . وهاتان الشبهتان تتعلقان بالسند .

.


1- .وفيات الأعيان ، ابن خلكان 3/313 ، تحقيق د . إحسان عباس ، دار الثقافة _ بيروت ، اُفست عن طبعة دار صادر 1972 م .

ص: 19

3 _ التعريض بالخلفاء السابقين ، وبعض الصحابة ، كالخطبة الشقشقية وغيرها ، وهذا أمر لا يتناسب وواقع الإمام عليه السلام ، أو أنّه يتنافى وعقيدة المشكك ، أو المنكر . 4 _ كثرة الخطب بما لا يتناسب وحاجة الإمام عليه السلام لمثلها عادة . 5 _ إطالة بعض الكتب المملوءة بالآراء السياسية ، والإدارية ، والقضائية بما لم يعهد من غيره من الخلفاء ، كعهده لمالك الاشتر رضى الله عنه . 6 _ ما يظهر في النهج من الإخبار بالمغيبات . 7 _ اصطباغ بعض محتويات النهج بما لا يتلائم مع عصر الإمام عليه السلام ، كذكره بعض الألفاظ المحدثة ، كلفظه (الأزل) و (الأزلية) ، و(الكيف) ، و(العدم) ، و(الوجود) واستعمال بعض الألفاظ بمصطلحاتها المنطقية أو الفلسفية (كالحدّ) و(العلة) و (المعلول) وغيرها ، والتعرّض لدقائق علم التوحيد ، وأبحاث الرؤية والعدل ، وكلام الخالق وصفاته ووجوده ، التي نشأت بعد عصر الإمام عليه السلام . 8 _ عدم ملائمة اُسلوبه لزمن الإمام عليه السلام ، بما استعمل فيه من الفنون البديعية ، كالسجع والازدواج ، والطباق ، إلى أمثال ذلك ممّا انتشر في العصر العباسي ، وكدقة الوصف للأشياء ، كوصفه للطاووس ، والخفاش ، والجراد ، والسحاب ، والجنة والنار ، وغيرها . هذه جملة الشبهات التي أوردوها . وقبل تناول الشبهات واحدة واحدة ، ينبغي المصير إلى هذه البديهية ؛ وهي أنّ تهافت المشككين في نسبة الكتاب إلى واضعه ، وحدها كافية للتدليل على بطلان دعواهم ، وما زعموه من مينٍ وأقوال متضاربة ، كل واحد منها يكذّب الآخر ، وكل مزعمة تكذّب اُختها . حتى ظهر للمطّلع المنصف على مزاعمهم والمقارن فيما بينها ، والمستقرئ للطريقة التي يرصفون بها دعاواهم ، أنّها تخفي وراءها إحناً وسوء طوية تجاه عترة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم . أمّا في مقام الردّ على ما أثاروه من ذرّ الغبار في العيون ، وما صنعوا من صخب مائن ، وما ألقوه من حبالٍ وعصيٍّ ؛ لإغواء البسطاء والمقلّدين ، فنقول : أولاً _ إنّ خلو الكتب التأريخية والأدبية من أكثر ما في النهج لا ينهض دليلاً على أنّ تلك الخطب غير صادرة عنه عليه السلام ، بعد تواتر نقله عن الرضي رحمه الله ونسبته له ، وتصريح الرضي في جملة من مؤلفاته بنسبته له ، كما جاء في كتاب (حقائق التأويل) قوله : « ... ومن أراد أن

.

ص: 20

يعلم برهان ما أشرنا إليه من ذلك ، فلينعم النظر في كتابنا الذي ألفناه ووسمناه ب_ (نهج البلاغة) ، وجعلناه يشتمل على مختار جميع الواقع إلينا من كلام أميرالمؤمنين عليه السلام » (1) . وكتابه (المجازات النبوية) حيث قال فيه : « ... وقد ذكرنا ذلك في كتابنا الموسوم ب_ (نهج البلاغة) الذي أوردنا فيه مختار جميع كلامه صلّى اللّه عليه وسلّم وعلى الطاهرين من أولاده » (2) . وبعد هذا فإنّ تشكيك ابن خلكان وأضرابه لا اعتبار له ، بخاصة بعد قول المسعودي (346 ه) : « ... والذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر مقاماته أربعمئة خطبة ، ونيّف وثمانون خطبة ، يوردها على البديهة ، تداول الناس ذلك عنه قولاً وعملاً ... » (3) . وقول اليعقوبي أحمد بن إسحاق العباسي (بعد 292 ه) في كتابه (مشاكلة الناس لزمانهم) : « وحفظ الناس عنه الخطب ، فإنّه خطب بأربعمئة خطبة ، حفظت عنه ، وهي التي تدور بين الناس ، ويستعملونها في خطبهم ... » (4) ، ونحو ذلك قول عبد الحميد الكاتب (132 ه) ، وقول ابن نباته (374 ه) ، وغيرهما . وواضح أنّ نهج البلاغة لا يشتمل على هذا العدد ، بل الذي ضمه بين دفتيه حدود 240 خطبة ، 79 كتاباً ، وهو دون ما ذكروه بكثير . وربما كان منشأ الشك في نسبته إلى أخيه المرتضى ، هو تلقيب بعض المؤرخين له بالمرتضى ، تعريفاً له بلقب جدّه إبراهيم ، ثم تفرّد الرضي بلقبه هذا واشتهر به بعد أن اختير نقيباً للهاشميين . كما أنّ تشكيك يعقوب صرّوف صاحب (المقتطف) (5) في مقالة تحت عنوان (عهد الإمام وكتاب السلطان با يزيد الثاني) ، بأنّ نهج البلاغة كلّه مظنون ، وقد اُقحم فيه بعض

.


1- .حقائق التأويل ، الشريف الرضي ، شرح العلاّمة محمد الرضا آل كاشف الغطاء ، المطبوع الجزء الخامس من الكتاب، ص167 مسألة 18، طبعة دارالكتب الإسلامية _ قم، أو ص287 طبعة مؤسسة البعثة _ طهران 1406ه .
2- .المجازات النبوية ، الشريف الرضي ، ص39 _ 40 ، تحقيق طه محمد الزيني .
3- .مروج الذهب ، المسعودي 2/417 ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ، مطبعة السعادة ، مصر 1948 م .
4- .مشاكلة الناس لزمانهم ، ص15 .
5- .مجلة المقتطف : المجلد 42 ، ج3 ص248 الصادرة في آذار 1913 م .

ص: 21

الخطب في عصور متأخرة ، وضرب على ذلك المثل بالتفاوت بين ما بأيدينا من عهد الإمام عليه السلام لمالك الاشتر ، وبين ما وُجد منه في نسخة كتبت للسلطان بايزيد منذ خمسمئة عام ، فوجد أنّ نسخة النهج أبسط وأطول من نسخة السلطان با يزيد المخطوطة سنة 858 ه ، فاستنتج من ذلك أنّ هذه الزيادة إنما حدثت من سنة 858 ه إلى زمن طبع نسخة النهج في مصر أو بيروت سنة 1307 ه ، وبنى على هذا الأمر تشكيكه . هذا التشكيك لا اعتبار له بعد وجود نسخ مقروءة على جامعها الشريف الرضي نفسه كتبت سنة 400 ه ، وموقّع عليها بقلمه ، ومتلقاة منه يداً بيد ، وعصراً بعد عصر ، وهي على وفق ما بأيدينا من النسخ ، ولو كان فيها إقحام أو زيادة لنبّه على ذلك الشرّاح على كثرتهم ، كشرح ابن أبي الحديد (656 ه) الذي فيه النص كاملاً على الصورة الموجودة في النسخة المطبوعة ، وكذا شرح الفيلسوف العارف ابن ميثم البحراني (679 ه) . ومن هذا كله يتضح أنّ نسخة السلطان با يزيد إمّا مختصرة من نسخة النهج ، أو أنها نُسخت على رواية اُخرى ، وما أكثر المصادر التي تروي كلام الإمام عليه السلام . وأما دعوى اختلاق السيد الشريف الرضي للنهج ووضعه له : كلام لا يمكن أن يصدر من عارف بتاريخ الشريف وخلقه ، وورعه وكماله ووثاقته . وبعده عن التعصّب المذهبي ، ورتبته من العلم والأدب ، ومكانته الاجتماعية وما كتبه عنه المؤرخون والمترجمون أكثر مما ذكرنا من حميد الخصال وجليل الفعال ، هذه الصفات تأبى عليه أن يتجاوزها فيختلق وينسب إلى الإمام عليه السلام ما ليس له . فهذا الرجل فوق التهم والظنون . ثم ، لماذا كلّ هذا الإيثار من السيد الرضي ؟ فهلاّ نسب النهج لذاته ليسجّل نفسه في مصافِّ عظماء التاريخ واُدبائهم ؟! إذن فالنهج نهج الإمام عليه السلام ، لكنّ الأقلام المنكوسة الحاقدة هي التي ألصقت بالشريف تهمة الوضع والخيانة والدس ، وبالإمام عليه السلام تهمة العجز والقصور ، وحاشاه صلوات اللّه عليه . مضافاً إلى ما ذكرنا ، فإنّ الكثير من الكتب التأريخية ، والحديثية المعروفة قبل زمان الرضي ، قد تناولت كثيراً من نصوص النهج كاليعقوبي ، والطبري ، والكليني ، والنجاشي ، والجاحظ ، وغيرهم عشرات من أمثالهم . وهناك من المحدِّثين والمؤرخين من جمع كلام الإمام أو خطبه أو قسماً منها ، وقد ذهب

.

ص: 22

بعض هذه المجموعات مع الزمن ، وتلفت ضمن ما تلف من تراثنا العربي والإسلامي ، بسبب الحروب والفتن ، وبقيت أسماؤها فقط ، يعرفها كلّ من عنى بالتراث الإسلامي ، ومن هذه المجموعات : 1 _ كتاب (خطب أمير المؤمنين عليه السلام على الناس في الجمع والأعياد) ، لزيد بن وهب الجهني الكوفي (96 ه) . 2 _ كتاب خطب أمير المؤمنين عليه السلام ، المروية عن إمامنا الصادق عليه السلام (148 ه) . 3 _ كتاب (خطب الإمام عليّ) ، لهشام بن السائب الكلبي (206 ه) . 4 _ كتاب (خطب عليّ عليه السلام وكتبه إلى عماله) ، لأبي الحسن علي بن محمد المدائني (225 ه) . 5 _ كتاب (رسائل أمير المؤمنين عليه السلام ) ، لإبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال الثقفي (283 ه) وعشرات من نظائرها . وبعد هذا ... فهل يمكن أن يُنسب جميع النهج أو بعضه إلى الشريف الرضي ، أو إلى غيره ؟ والواقع أنّ اتهام السيد الرضي بوضع (نهج البلاغة) قديم كما قلنا ، كما أنّ الدفاع عنه قديم أيضاً . ونكتفي في هذا المجال بذكر دفاع شارح النهج ، عز الدين أبي حامد بن أبي الحديد المعتزلي الشافعي ، عن نسبة نهج البلاغة إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، حيث يقول : « إنّ كثيراً من أرباب الهوى يقولون : إنّ كثيراً من (نهج البلاغة) كلام مُحدَث ، صنعه قوم من فصحاء الشيعة ، وربما عَزَوْا بعضه إلى الرضي أبي الحسن وغيره ، وهؤلاء قوم أعمت العصبيّة أعينهم ، فضلّوا عن النهج الواضح ، وركبوا بُنيّات الطريق ، ضلالاً وقلة معرفة بأساليب الكلام ، وأنا أوضّح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط ، فأقول : لا يخلو إمّا أن يكون كلّ (نهج البلاغة) مصنوعاً منحولاً ، أو بعضه . والأوّل باطل بالضرورة ؛ لأنّا نعلم بالتواتر صحّة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، وقد نقل المحدّثون كلُّهم أو جلّهم ، والمؤرّخون كثيراً منه ، وليسوا من الشيعة لينسَبُوا إلى غرض في ذلك . والثاني يدلّ على ما قلناه ؛ لأنّ مَنْ قد أنِسَ بالكلام والخَطَابة ، وشَدَا طرَفاً من علم

.

ص: 23

البيان ، وصار له ذوقٌ في هذا الباب ، لابدّ أن يفرّق بين الكلام الركيك والفصيح ، وبين الفصيح والأفصح ، وبين الأصيل والمولّد ، وإذا وقَف على كرّاسٍ واحد يتضمّن كلاماً لجماعة من الخطباء ، أو لاثنين منهم فقط ، فلابدّ أن يفرّق بين الكلامين ، ويميّز بين الطريقتين ... . وأنت إذا تأملت (نهج البلاغة) وجدته كلَّه ماءً واحداً ، ونَفَساً واحداً ، واُسلوباً واحداً ، كالجسم البَسيط ، الذي ليس بعضٌ من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهيّة ، وكالقرآن العزيز ، أوّله كأوسطه ، وأوسطه كآخره ، وكلّ سورة منه ، وكل آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفنّ والطريق والنظم لباقي الآيات والسور ؛ ولو كان بعض (نهج البلاغة) منحولاً وبعضه صحيحاً ، لم يكن ذلك كذلك ؛ فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلالُ مَنْ زعم أنّ هذا الكتاب أو بعضَه منحولٌ إلى أمير المؤمنين عليه السلام . واعلم أنّ قائل هذا القول يطرُق على نفسه ما لا قِبَل له به ؛ لأنّا متى فَتَحْنا هذا الباب ، وسلّطنا الشكوك على أنفسنا في هذا النحو ، لم نثِقْ بصحّة كلام منقول عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلمأبداً ، وساغ لطاعنٍ أن يطعن ويقول : هذا الخبر منحول ؛ وهذا الكلام مصنوع ، وكذلك ما نُقِل عن أبي بكر وعمر من الكلام والخُطب والمواعظ والأدب وغير ذلك ، وكلّ أمر جعله هذا الطاعن مستنداً له فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم ، والأئمة الراشدين ، والصحابة والتابعين ، والشعراء والمترسّلين ، والخطباء ، فلناصِرِي أمير المؤمنين عليه السلام أن يستندوا إلى مثله فيما يروونه عنه من (نهج البلاغة) وغيره ، وهذا واضح (1) . وأمّا نسبة بعض خطب النهج لغير الإمام عليه السلام ، فقد كان من اختلاق المؤرخين وفعلهم عن خطأ أو عمدٍ ، كالخطبة التي نُسبت إلى معاوية ، الذي ألقاها في جماعة من قريش قبيل وفاته : « أيها الناس ، إنّا قد أصبحنا في دهر عنود ، وزمَنٍ كنود ، يُعدّ فيه المحسن مسيئاً ، ويزداد الظالم فيه عتواً ... الخ » (2) . فقد شكّك الجاحظ في هذه النسبة _ بعد أن ذكر هذه الخطبة ، وذكر من نَسَبَها إلى معاوية _ لأسباب أهمها : « أن هذا الكلام بكلام عليّ عليه السلام أشبه ... ثم قال : ومتى وجدنا

.


1- .شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد 10/128_ 129 .
2- .نهج البلاغة ، ص47 الخطبة 32 .

ص: 24

معاوية في حال من الأحوال يسلك في كلامه مسلك الزّهّاد ، ومذاهب العُبّاد ؟! » (1) . أقول : هذا مع العلم أنّ الجاحظ كان معتزلياً عثماني المذهب ، لا يميل لعليّ عليه السلام ، ولا يفضله على عثمان أو غيره من الخلفاء (2) . وأنّى للرضي أو غيره من فصحاء الشيعة وغيرهم محاكاة الإمام عليه السلام ، أو مجاراته في اُسلوبه وطريقته ، أو في معانيه وألفاظه . ثانياً _ أمّا التشكيك بنسبة الخطب له عليه السلام ؛ لطولها ، ولتعذّر حفظها على الرواة ، فهو كسابقه تشكيك لا قيمة له ، إذا عرفنا أنّ العرب كانوا في تلك العصور يعتمدون على قوة وسرعة الحافظة ، فقد كانوا يحفظون القصائد الطوال لمجرد سماعها . حكى صاحب الإغاني ، أنّ ابن عباس رحمه الله حفظ قصيدة عمر بن أبي ربعية : (أمن آل نعم أنت غاد فمبكر) لمجرد سماعها بقراءة واحدة . وخطب النهج ليست بدعاً من خطب النبي صلى الله عليه و آله وسلم أو الخلفاء ، ولو كان الحفظ يتعذر ، لكان الشك يسري إلى كلّ ما حفظ من خطب النبي صلى الله عليه و آله وسلم والخلفاء ، والولاة وغيرهم من أهل الجاهلية والإسلام . ومن المحتمل أنّ خطب الإمام عليه السلام كانت تكتب بعد سماعها من قبل أصحابه ومريديه . ثالثاً _ أمّا وجود خطب تعرّض فيها الإمام عليه السلام لبعض الصحابة والخلفاء السابقين ، وطعنت عليهم ونالت منهم ، وأكثر هذه التعريضات جاءت في الخطبة الشقشقية ، وقد ذكر ذلك غير واحد ممن شكك في النهج كابن تيمية والذهبي ، وقد صرّح الأخير في ميزان الاعتدال ، بقوله : « ومن طالع كتابه نهج البلاغة جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين عليّ رضى الله عنه ، ففيه السبّ الصراح والحطّ من السيدين أبي بكر وعمر ... » (3) . والجواب : إنّ التعرض لنقد الصحابة _ في الواقع _ لا ينسجم مع عقيدة المشكك ومذهبه، باعتباره قائم على بدعة عدالة الصحابة وتنزيههم . والواقع التاريخي والموضوعي يرفضه

.


1- .شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد 2/175 ؛ وراجع البيان والتبيين ، الجاحظ 2/56 _ 58 ، تحقيق وشرح السندوبي ، الطبعة الأُولى 1345 ه / 1927 م ، المطبعة الرحمانية _ مصر .
2- .شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد 1/7 .
3- .ميزان الاعتدال ، الذهبي 3/124 رقم 5827 ، تحقيق علي محمد البجاوي ، دار الفكر _ بيروت .

ص: 25

بشكل قاطع ، حيث أنّ كثيراً من الأخبار في غير النهج تؤكد وقوع التساب والتشاجر ، والتخاصم ، والاغتياب وشهر السلاح والاغتيال بين الصحابة . وقد ذكر ابن أبي الحديد ذلك في شرحه مفصّلاً (1) . وأمّا الواقع السياسي ، فإنّ الإمام عليه السلام بحكم إقصائه وابتزاز حقه ودفعه فقد نقم على بعض الصحابة ، وهذا أمر يقتضيه على أي حال ، سواء لحظنا الإمام عليه السلام كبشر ... يغضب ويتألم ويرضى ، إذا تعرّض إلى حيف وظلم كالذي تعرّض له يوم السقيفة وما بعده ، أو يوم الشورى ، أو غيرها وهو صاحب الحق ، أو اقتحامهم بيته ، وجرأتهم على انتهاك حرمة زوجته سيدة النساء . أم لحظناه كحجة للّه وإمام هدىً يتوقف أداء رسالته على تأكيد مظلوميته ، وأنّه صاحب الحقّ المنصوص عليه من النبي صلى الله عليه و آله وسلم ، والمقصيّ عن مقام الإمامة والخلافة ، فيبيّن ذلك على الملأ حتى تتم له الحجة على الناس ، ويتم إيصال تعاليم الإسلام والنبي صلى الله عليه و آله وسلمووصاياه إليهم . ثم إنّ هذه الخطبة _ الشقشقية _ رويت في مصادر كثيرة قبل الشريف الرضي ، وكلّها تستمد من مصدر واحد وهو ابن عباس ، متّفقة في معناها وإن اختلفت ألفاظها ، فلو كان واضعها الرضي لنقلت عن النهج بوجه واحد في جميع المصادر . وفي معرض دفاع ابن أبي الحديد عن نسبة هذه الخطبة إلى الإمام عليه السلام ينقل هذه القصة الظريفة ، ثم يذكر بعض المصادر قبل عصر السيد الرضي ، فيقول : « قال مصدّق (2) : وكان ابن الخشاب صاحب دعابة وهزل ، قال : فقلت له : أتقول إنها منحولة ؟! فقال : لا واللّه ، وإني لأعلم أنّها كلامه ، كما أعلم أنك مصدّق . قال : فقلت له : إنّ كثيراً من الناس يقولون إنها من كلام الرضيّ رحمه الله .

.


1- .شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد 20/17 _ 35 .
2- .مصدق بن شبيب بن الحسين الصلحي الواسطي ؛ ذكره القفطي في إنباه الرواة 3/274 ، وقال : إنّه قدم بغداد ، وقرأ بها على ابن الخشاب ، وحبشي بن محمد الضرير ، وعبد الرحمن بن الأنباري وغيرهم ، وتوفي ببغداد سنة (605 ه) .

ص: 26

فقال : أنَّى للرضيّ ولغير الرضي هذا النَّفَس وهذا الأُسلوب ! قد وقفنا على رسائل الرضي ، وعرفنا طريقته وفنّه في الكلام المنثور ، وما يقع من هذا الكلام في خَلِّ ولا خَمْر . ثم قال : واللّه لقد وقفتُ على هذه الخطبة في كتب صُنِّفت قبل أن يخلق الرضي بمئتي سنة ، ولقد وجدتُها مسطورة بخطوط أعرفها ، وأعرف خطوط مَنْ هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يخلق النقيبُ أبو أحمد والد الرضيّ . قلت : وقد وجدت أنا كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي (1) إمام البغداديين من المعتزلة ، وكان في دولة المقتدر قبل أن يُخلق الرضي بمدة طويلة . ووجدت أيضاً كثيراً منها في كتاب أبي جعفر ابن قِبَة (2) أحد متكلّمي الإمامية ، وهو الكتاب المشهور المعروف بكتاب (الإنصاف) ، وكان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي رحمه الله ، ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضيّ رحمه الله موجوداً » (3) . رابعاً _ أمّا قضية كثرة الخطب ، فإنها كانت قياساً إلى كثرة الدواعي والأغراض ، وتراكم الأحداث والظروف السياسية ، والعسكرية ، والاجتماعية ، والأخلاقية ، قليلة ؛ لأنّ كلّ هذه الأُمور تحتاج إلى كلام كثير هو أضعاف ما ورد في النهج من الخطب . وقد ذكرنا روايتي المسعودي واليعقوبي وغيرهما ، بأنّ المروي أكثر من ذلك المدوّن في النهج بكثير (4) .

.


1- .أبو القاسم البلخي عبد اللّه بن أحمد بن محمود الكعبي البلخي ، كان رأس طائفة من المعتزلة يقال لهم (الكعبية) ، من آرائه : أنّ اللّه سبحانه وتعالى ليست له إرادة وأن جميع أفعاله واقعة منه بغير إرادة ولا مشيئة منه لها . (توفي 319 ه) ، وفي الأعيان وفاته (317 ه) ، ذكره النديم في الفهرست ، ص357 تحقيق رضا تجدّد _ طهران 1391 ه ، وقال : « كان من أهل بلخ ، يطوف البلاد ويجول الأرض ؛ حسن المعرفة بالفلسفة والعلوم القديمة ... ورأيت بخطّه شيئاً كثيراً في علوم كثيرة مسودات ودساتير لم يخرج منها إلى الناس كتاب تام » . وراجع وفيات الأعيان ، ابن خلكان 3/45 رقم 330 مصدر سابق ؛ الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية ، عبد القادر بن محمد الحنفي 2/296 رقم 693 تحقيق د . عبد الفتاح محمد الحلو ، مكتبة الإيمان ، اُفست عن طبعة مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه 1398 ه _ القاهرة .
2- .هو أبو جعفر محمّد بن عبد الرحمن بن قِبَة الرازي ؛ من متكلّمي الشيعة وحذاقهم ، وله من الكتب ، كتاب الإنصاف في الإمامة . توفي بعد سنة (328 ه) ؛ الفهرست ، الطوسي ص207 رقم 596 مصدر سابق ؛ فهرست النديم ، ص225 ، الفن الثاني من المقالة الخامسة ، مصدر سابق .
3- .شرح نهج البلاغة 1/205 .
4- .مروج الذهب ، المسعودي 2/417 ، مصدر سابق ؛ ومشاكلة الناس لزمانهم ، اليعقوبي ، ص15 .

ص: 27

خامساً _ وأما الإطالة في الكتب ، وبخاصة عهد مالك ، فهي ضرورة اقتضتها ظروف الحركة التغييرية التي تبناها الإمام عليه السلام ، بعد بروز ظاهرة الفساد الإداري واستهتار الولاة ، فأراد الإمام عليه السلام أن يعهد عهداً ، يكون منهاجاً يسير عليه الولاة عموماً ، ويُقرأ على الأُمة ليكون شاهداً ورقيباً على تصرفاتهم ، وحتى مالك الأشتر ؛ في حنكته وحزمه وتقواه ، يحتاج إلى نصح الإمام عليه السلام وتوجيهه ، ثم إنّ هذا العهد الذي يرسم علاقة الحاكم مع القضاة ، والقواد والتجار ، والعمال ، والجند ، والرعية ... لا يسعه إلاّ الإطالة والإسهاب النافع ، والبيان الشافي ، كما هو الحال في زماننا حينما يُكتب دستور للأُمّة أو تُعيّن فيه وظائف الحاكم أو المحكومين . سادساً _ وأما إخباره بالمغيبات ، كإخباره عن قيام دولة بني اُميّة وسقوطها ، ومصير الخوارج ، ومصرع ذي الثدية ، وحركة الزنج ، وحروب التتار وفظائعهم ، وغير ذلك مما أجمع المؤرخون على تحققها وتواتر نقلها . فلا يكفي مجرد التشكيك فيها أو تهويلها لرفع اليد عنها ، اللهم إلاّ أن يقال باستحالة الإخبار بالمغيبات في حق الإمام عليه السلام . على أنّه عليه السلام لا يدّعي ذلك لنفسه ، كما صرّح بذلك للرجل الكلبي الذي بادره قائلاً : لقد اُعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب ، فأجابه الإمام عليه السلام : « ليس هو بعلم غيب وإنما هو تعلّم من ذي علم » . ولا يَستغرب ذلك من الإمام صلى الله عليه و آله وسلم او يَستكثر عليه إلاّ من لا يعرف منزلة الإمام ومقامه ، وأنّ النبي صلى الله عليه و آله وسلم قد اختصّه بعلمه وسرّه وعنايته ، كما أخبره صلى الله عليه و آله وسلم بالمغيّبات على نحو الإجمال ، ثم هداه إلى أفضل الطرق التي يعي بسببها تفصيل ما أجمله صلى الله عليه و آله وسلم له . كإخباره بما سيقع من حوادث ووقائع تجري من بعده ، كقتال الناكثين والقاسطين والمارقين . ثم ، من قال إنّه لا يجوز له عليه السلام أن يخبر عن حوادث تقع في مستقبل الزمان ، أخذ علمها عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم عن اللّه تعالى ؟! وما هو المانع من أن يُطلع اللّه على غيبه من ارتضى من الرسل ، كما جاء في قوله تعالى : «عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ» (1) ، وأن يأمر بإعلانه للناس لمصلحة ما ؟!

.


1- .سورة الجن 26 و 27 .

ص: 28

علاوة على أنّ في القرآن الكريم إخباراً لكثير من المغيبات والحوادث المستقبلية بين آياته . وهناك اليوم وفي ضوء العلم الحديث محاولات تفسيرية على اُسس علمية للإخبار بالمغيبات ، وقد ذهب العلماء إلى وجود قوى خارقة ، وملكات نفسية عالية ، تستنتج القضايا الاجتماعية من مقدماتها وأسبابها . وإذا كان كذلك ... فمن أولى بذلك من عليّ عليه السلام ؟ لما عُرف من تقدّمه في العلم ، وسابقته في تقواه ، وطهارته وسمو ملكاته النفسية ، وصفاء روحه وتعلّقها بحضيرة القدس الأعلى ... . سابعاً _ أمّا موضوع اشتمال النهج بما لا يتلائم مع عصر الإمام عليه السلام ؛ لورود ألفاظ محدثة لم تكن مألوفة ومستعملة في عصره ، ولم يذكرها أهل اللغة ، كالأزل ، والكيف وغيرها ، فإنّه وإن ذكر ذلك الزمخشري (1) ، فإنّه غير قادح فيه بعد ورودها في كلام أفصح من نطق بالضاد بعد الرسول صلى الله عليه و آله وسلم ، ولا يُقبل اجتهاد اللغوي في قبال النصّ العربي . ثم ، إنّ لغويين آخرين أسبق من الزمخشري زماناً ، وأكثر منه إتقاناً ، كأصحاب القاموس والمصباح والمجمع قد ذكروا بعض هذه الكلمات وشرحوا معناها ، ولم يدفعوها عن قدمها . على أنّ ورودها في (نهج البلاغة) دليل قدمها ، اُسوة بسائر الكلمات التي يُستدل على قدمها بأبيات من الشعر ، أو فقرات من النثر العربي البليغ . أمّا استعمال بعض الألفاظ بمصطلحات فلسفية أو منطقية ، كالحدّ ، والعدم ، والمعلول وغيرها ، فإنّها استُعملت في النهج بمعانيها اللغوية ، ولا يقدح فيه نقل المناطقة ذلك في عرفهم ، ولا يمنع استعمالها في كلام العرب ، ومنهم الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام . وأمّا التنظير والتفريع والقياس فهو من ذهنية العرب وفطرتهم ، وهو موجود في القرآن الكريم ، وأحاديث الرسول صلى الله عليه و آله وسلم ، فضلاً عن كلام العرب . وأمّا ورود بعض الأفكار الفلسفية كدقائق علم التوحيد ، وأبحاث العدل ، والرؤية ،

.


1- .أساس البلاغة ، الزمخشري ، ص15 الطبعة الأُولى 1992 م ، دار بيروت للطباعة والنشر ، على مطابع دار صادر .

ص: 29

وصفات الخالق وغيرها .. فهذا كلام لا يصحّ ؛ لأنّ من يطالع النهج لا يجد فيه نظرية كاملة يحتاج في معرفتها إلى درس واستقراء ، حتى يُحتجّ باشتماله على علوم لم تُعرف إلاّ بعد زمن طويل . ثم لو أخذنا بهذا الشكل من التشكيك ، لَلَزم إنكار جذور علم الكلام الذي ظهرت بوادره منذ نزول القرآن الكريم حين يستدلّ على وجود الخالق ، أو نفي الآلهة ، وللزم أن إنكار مواهب الإمام وعلمه الذي هو مِن علم النبي صلى الله عليه و آله وسلموتجاربه وعصمته ، وأنّه عليه السلام هو القرآن الناطق . ثامناً _ أمّا اُسلوبه ، وما فيه من صناعة لفظية من سجع ، وطباق ، ومقابلة ، وازدواج ... فإنّها وإن اشتهرت في العصور العباسية ، لكنها ليست مبتدعة في السبك العربي كي يوجب وجودها في النهج الشك في نسبته للإمام عليه السلام . فهذا القرآن الكريم معجزة البلاغة جاء حافلاً بالمحسنات على أسمى مثال ، كسورة الرحمن ، والقمر وغيرهما ، وهذه خطب الرسول صلى الله عليه و آله وسلموالخلفاء وكتبهم ، بعضها مسجوعة ، وقد عقد الدكتور زكي مبارك فصلاً في كتابه (النثر الفني) (1) لدراسة أساليب صدر الإسلام ، وأورد فيه نصوصاً كثيرة مسجوعة ، يُعرف منها قيمة القول : بأنّ السجع من خصائص العصور المتأخرة من أيام العباسيين . وأمّا المطابقة والجناس والتقابل وغيرها من أنواع البديع فهو كثير في القرآن ، ومجيؤها في النهج لا يعني بحال أنّه منحول البتة . وقد جاءت أساليب الإمام منمّقة لا تكلّف فيها ولا عقد ولا التواء . وما يقال عن الأُسلوب ، يقال عن دقة الوصف ، كما في وصفه للطاوس ، والخفاش ، والجراد وغيرها . ولا يُستبعد صدوره ممن تتلمذ للقرآن الكريم ، الذي فيه من دقائق الوصف للحيوانات وغيرها ، كما في الآيات التي ورد فيها ذكر النحل ، والنمل ، والبعوضة ، والغراب . كما أنّ من تتلمذ للقرآن الكريم ، الذي فيه من آيات التوحيد الباهرات ، وصفات الخالق العظيم ، لا يُستكثر عليه أن يأتي بأمثال هذه الأفكار الدقيقة في التوحيد ، والعدل ، والرؤية ، كقوله عليه السلام : « من حدّه فقد عدّه » . والصحيح أن يقال : إنّ اُسلوب الإمام عليه السلام بزّ اُسلوب البلغاء جميعاً ، ولهذا كان كلامه فوق

.


1- .النثر الفني ، زكي مبارك 1/75 .

ص: 30

كلام المخلوقين ، ودون كلام الخالق . وما دام أنّ لخطبه ورسائله وكلماته عليه السلام نظائر في القرآن الكريم ، وفي أحاديث النبي الأقدس صلى الله عليه و آله وسلم ، فلا قيمة للتشكيك في صحة ما ورد في النهج الشريف . وما هذه الشبهات إلاّ غارة يشنّها أعداء الإسلام قديماً وحديثاً ، وهي لا تقوى على مصادمة الحق والصدق ، وقد تصدّى غير واحد من الأعلام على مرّ العصور لدفعها (1) . ولا شك أنّ الدكتور زكي مبارك كان أكثر إنصافاً حين قال في معرض دفاعه مستخفّاً بمن شكك في نهج البلاغة : « الذين نسبوا نهج البلاغة إلى الرضي يحتجّون بأنّه وضعها لإغراض شيعية . فلم لا نقول من جانبنا بأنّ تهمة الوضع جاءت لتأييد خصوم الحملات الشيعيّة » (2) . وأخيراً فإنّ اعتقادنا في كتاب (نهج البلاغة) وفي جامعه السيد الرضي ، هو أنّ جميع ما فيه من الخطب والوصايا والحكم والآداب ، حاله كحال ما يُروى عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم ، وعن أهل بيته الأطهار عليهم السلام في جوامع الأخبار الصحيحة ، وفي الكتب الدينية المعتبرة . وإنّ منه ما هو قطعي الصدور ، ومنه ما يدخله أقسام الحديث المعروفة . وأمّا مؤلفه وجامعه الشريف الرضي رحمه الله ، فاعتقادنا فيه أنه منزّه عن كلّ ما يشين الرواة ويقدح في عدالتهم ، وأنه لم ينشئ شيئاً من نفسه وأدخله في النهج ، كما أنه لم يُدخل فيه شيئاً يعلم أنه لغير أمير المؤمنين عليه السلام . بل لم يكن كحاطب ليل ، فهو لا يروي شيئاً إلاّ بعد التثبت ، ولا ينقله إلاّ عمّن يعتمد عليه من الرواة ، وأهل السير والتاريخ . فجميع ما في النهج هو من كلام مولانا أمير المؤمنين عليه السلام على رواية الثقة العدل ، ولا دخيل فيه ولا وضع (3) .

.


1- .انظر في هذا المجال : مدارك نهج البلاغة ، الشيخ هادي كاشف الغطاء ؛ مصادر نهج البلاغة ، الشيخ عبد اللّه نعمة ؛ ومصادر نهج البلاغة ، للمحقّق السيد عبد الزهراء الخطيب ؛ وغيرها .
2- .النثر الفني 1/81 ، مصدر سابق .
3- .مدارك نهج البلاغة ودفع الشبهات ، الشيخ هادي كاشف الغطاء ، ص197 .

ص: 31

ابن أبي الحديد الشافعي المعتزلي

ابن أبي الحديد الشافعي المعتزلي(586 _ 656 ه)شارح نهج البلاغةهو عزّ الدين أبو حامد عبد الحميد بن هبة اللّه بن محمّد بن محمّد بن الحسين بن أبي الحديد المدائني البغدادي ، مؤلف شرح نهج البلاغة ، أحد جهابذة العلماء وأثبات المؤرخين ، كان أديباً ناقداً ، ولغوياً متقِناً ، وعارفاً بأخبار العرب ، وشاعراً مجيداً ، وكاتباً بديع الإنشاء ، وأصولياً حاذقاً ، ومتكلّماً نظّاراً . ولد في المدائن سنة (586 ه) ، وترعرع فيها ، وتوفي ببغداد سنة (656 ه) (1) . أبوه بهاء الدين أبو الحسين هبة اللّه المدائني البغدادي (530 _ 613 ه) المدرّس في المدرسة النظامية ، وأُستاذ الأدب والحديث في بغداد والمدائن ، وقد تقلّد في الأخيرة الخطابة والقضاء مدة طويلة ، حتى نعته مترجموه بالخطيب وبالقاضي (2) . له أربعة أولاد ، الأصغر منهم أبو البركات محمد ، توفي شاباً وكان كاتباً لأوقاف النظامية (3) . وأبرزهم عبد الحميد (الشارح) ومن بعده موفق الدين أحمد ، ويسمى القاسم الشافعي الأشعري ، ولد في المدائن ، ودرس في الشام وبغداد ، وبعد أن أكمل دراسته ، أقام في المدرسة النظامية ببغداد لمدة سنتين ، ثم قام بمهمّة التدريس فيها ، كما درّس في المدرسة الفخرية _ نسبة إلى فخر الدولة أبي المظفر الحسين بن هبة اللّه الشافعي (578 ه) _

.


1- .الوفيات ، ابن خلكان 5/392 ؛ البداية والنهاية ، ابن كثير 13/119 ؛ نسمة السحر ، الصنعاني 2/138 ؛ روضات الجنات ، الخوانساري 5/20 ؛ مقدمة شرح النهج ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم 1/13 ؛ عصر الدول والإمارات ، شوقي ضيف ، ص378 .
2- .المختصر ، ابن الذهبي محمد بن أحمد 3/227 ؛ والجامع ، ابن الساعي 9/88 .
3- .الجامع ، ابن الساعي 9/88 .

ص: 32

دراسته وأساتذته

وقد شغل كذلك عدة مناصب أُخرى مهمة (1) . يقول ابن خلكان عنه وعن أخيه عبد الحميد (الشارح) ، « إنهما كانا فقيهين أديبين ، لهما أشعار مليحة » ويقول عنهما ابن كثير : « وكان ، أي عبد الحميد ، أكثر فضيلة وأدباً من أخيه موفق الدين أبي المعالي ، وكان الآخر أيضاً فاضلاً ، وقد ماتا في هذه السنة (أي 656 ه) رحمهما اللّه تعالى (2) . يقول عنه الملك الأشراف الغساني الشافعي (803 ه) : كان أديباً فاضلاً ، شافعي المذهب ، ينتحل في الاُصول مذهب المعتزلة وله في ذلك تصنيف وردّ على المخالفين (3) .

دراسته وأساتذته :تلقى عبد الحميد بن أبي الحديد بعض معارفه في المدائن ، ثم انتقل إلى المدرسة النظامية _ في بغداد _ وهو غلام ، وقد صرّح بذلك في شرح النهج ، بأنه كان طالباً في النظامية وهو غلام (4) ، ودرس فيها على أساتذة شوافع . ولابد أنه درس على أبيه (بهاء الدين) المدرّس في النظامية . أمّا شيوخه الآخرون فقد صرّح في شرح النهج بعشرة منهم ، وذكر ما قرأه على كلّ واحد منهم ، أو رواه عنه ، وقد يذكر وقت القراءة أو الرواية ، ومذهب أستاذه واعتداله أو تعصّبه ، وكان بعضهم شوافع ، وبعضهم حنابلة وبعضهم أحنافاً وبعضهم علويين . والمرجّح أنه درس على الأحناف والحنابلة في مدارسهم الموقوفة على أبناء مذاهبهم ، أما العلويون ففي بيوتهم ، وكان أكثر شيوخه من الشافعيين (5) . أما شيوخه من الشوافع فهم : 1 _ أبو حفص عمر بن عبد اللّه الدبّاس البغدادي (597 ه) كان حنبلياً ثم صار شافعياً 6 .

.


1- .العسجد المسبوك ، الملك الأشرف الغسّاني ، ص641 .
2- .البداية والنهاية 13/199 .
3- .العسجد المسبوك ، الملك الأشرف الغساني ، ص641 _ 642 .
4- .شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد 14/280 .
5- .العذيق النضيد ، د . أحمد الربيعي ، ص70 .

ص: 33

الخلفاء الذين عاصرهم

3 _ أبو الخير مصدّق بن شبيب الواسطي (605 ه) (1) . أمّا شيوخه الحنابلة فهم : 4 _ جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي البغدادي (597 ه) 2 . 6 _ أبو القاسم الحسين بن عبد اللّه العُكْبرَي 3 . أما شيوخه من العلويين فهم : 8 _ أبو جعفر يحيى بن محمد بن أبي زيد الحسني البصري النقيب (613 ه) 4 . 10 _ شمس الدين فخار بن مَعَدّ الموسوي (630 ه) .

الخلفاء الذين عاصرهم :1 _ الناصر لدين اللّه ، أبو العباس أحمد بن الحسن المستضيء (622 ه) ولادته سنة 553 ه ، وخلافته سنة 575 ه حتى وفاته 622 ه (2) . وقد نظم ابن أبي الحديد قصائده العلويات السبع للناصر الذي مدحه في (العينية) وعصب برأسه الطلب بثأر الإمام الحسين عليه السلام ، الشهيد بكربلاء (61 ه) يقول فيها : تاللّهِ لا أنسى الحسينَ وشلْوَهتحت السنابك بالعراءِ موزّعُ متلفّعاً حمرَ الثياب وفي غدٍبالخضر في فردوسه يتلفَّعُ لهفي على تلك الدماء تُراق فيأيدي أُمية عنوةً وتُضيّعُ يأبى أبو العباس أحمدُ إنّهخير الورى من أن تُطلَّ ويَمنْعُ فهو الولي لثأرها وهو الحموللعبئها إذْ كلّ عَودٍ يَضْلعُ

.


1- .8. شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1 / 205 ، 3 / 199 ، 9 / 307 ، 5 / 170 ، 9 / 192 ، (7 / 132 ، 174 ، 9 / 248 ، 10 / 214 ، 11 / 115 ، 13 / 301 ، 14 / 67) ، 9 / 235 ، 1 / 41 .
2- .الأعلام ، الزركلي 1/110 ؛ روضات الجنات ، الخوانساري 5/346 .

ص: 34

وظائفه

ذكر ابن الفوطي : أن ابن أبي الحديد نظمها في صباه سنة 611 ه ، ومن أجل هذه القصيدة وستة اُخرى اتهم بالتشيع بل بالغلو في الرفض . 2 _ الظاهر بأمر اللّه . أبو نصر محمد بن أبي العباس أحمد الناصر (623 ه ) ، وولادته كانت سنة 571 ه ، ومدة خلافته سنة واحدة ، بين سنتي 22 _ 623 ه (1) . 3 _ المستنصر باللّه ، منصور بن أبي نصر محمد الظاهر (640 ه ) ، ولادته سنة 588 ه ، وخلافته من سنة 623 ه حتى وفاته (2) ، وهو الذي نظم له ابن أبي الحديد قصائده (المستنصريات) وقد بلغت خمس عشرة قصيدة أكثرها في مدحه ، نظمها في السنوات 629 _ 631 ه ، بعد أن أُلحق بدواوين الدولة وصار من موظفيها ، وإنه لينقلب عباسياً ضد العلويين ، يحطب في حبل العباسيين ويدعو لهم . والمستنصر هذا هو باني المدرسة المستنصرية ، التي سيأتي الحديث عنها لاحقاً . 4 _ المستعصم باللّه ، أبو أحمد عبد اللّه بن منصور المستنصر ( 656 ه ) ، ولادته 609 ه ، وخلافته من سنة 640 ه حتى وفاته ، وهو آخر العباسية (3) .

وظائفه :نال الحظوة عند الخلفاء والوزراء العباسيين ، وقد مدحهم وأخذ جوائزهم ، ونال عدة مناصب في بغداد وواسط والحلة ، منها : أنه كان كاتباً في دار التشريفات سنة 629 ه ، وكاتباً في المخزن وهو بيت المال سنة 630 ه ، وصار كاتباً في دار الخلافة سنة 631 ه ، وكان في سنة 642 ه مشرفاً في ولاية الحلّة ولا يزال يعمل في دواوين الدولة حتى عزل عنها سنة 642 ه . وتولّى أعمالاً مختلفة أُخرى ، ففي سنة 656 ه تولى الإشراف على خزائن الكتب في بغداد ، وفي السنة نفسها صار كاتب السلّة وهو رأس الدواوين وأعلاها وأقربها من الخليفة ، وهذا آخر مناصبه ، ولم تطل حياته بعدها ، وكان مرموق الجانب مهاباً إلى أن مات سنة 656 ه ؛ في بغداد (4) .

.


1- .الأعلام ، الزركلي 5/320 .
2- .نفس المصدر 7/304 .
3- .المصدر السابق 4/140 .
4- .العذيق النضيد، د. أحمد الربيعي، ص82 وما بعدها ؛ وعصر الدول والإمارات، الدكتور شوقي ضيف، ص380 .

ص: 35

مؤلفاته

مؤلفاته :1 _ الاعتبار : هو شرح وتعليق على كتاب « الذريعة إلى أُصول الشريعة » للشريف المرتضى ( 436 ه ) ، ذكره ابن الفوطي في التلخيص . 2 _ انتقاد المستصفى للغزالي (505 ه) . 3 _ تعليقات وحواشي على المفصّل في النحو للزمخشري (538 ه) . 4 _ تلخيص نقض السفيانية للجاحظ (255 ه) ، ذكره ابن أبي الحديد في شرح النهج 4/80 . 5 _ شرح (المحصل في علم الاصول) للفخر الرازي ، مطبوع في مجلدين . 6 _ شرح المحصول في علم الاصول ، للفخر الرازي وهو يجري مجرى النقض له . 7 _ شرح نهج البلاغة . اقتصر فيه على تفسير الألفاظ الغريبة لكنه رأى أن هذه النغبة لا تشفي فبسط القول في شرحه في عشرين جزءاً هي هذه التي بأيدي الناس اليوم . 8 _ شرح الياقوت لابن نوبخت ، وهو من رجال القرن الرابع الهجري ، كما شرحه العلامة الحلي (726 ه) بكتابه (أنوار الملكوت) . 9 _ (العبقري الحسان) في الكلام والتاريخ والأدب ، وأنه ضمنه أشياء من أشعاره وإنشائه . 10 _ الفلك الدائر على المثل السائر ، وهو نقض كتاب « المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر » لابن الأثير (637 ه) . 11 _ مقالات الشيعة : بدأ بتأليفه قبل شرح النهج الذي شغله عنه . ذكر ذلك في شرح النهج 8/122 . 12 _ (مناقضة السفيانية) وكتاب السفيانية للجاحظ (255 ه) ذكره ابن أبي الحديد في شرح النهج 10/101 . 13 _ الوشاح الذهبي في العلم الأدبي ، يدل اسمه على أنه في الأدب . ذكره البحراني في كشكوله 2/117 . 14 _ ديوان شعره :

.

ص: 36

مذهب ابن أبي الحديد وعقيدته

كان لابن أبي الحديد ديوان مشهور بين الناس ، لكنه لم يصل إلينا ، ذَكَره الخوانساري في روضاته 5/22 . 15 _ العلويات السبعة : سبع قصائد طوال ، كلها في مدح أمير المؤمنين عليه السلام وأهل البيت عليهم السلام . قال ابن الفوطي : إنه نظمها في حياته وهو في المدائن سنة 611 ه ، للخليفة العباسي أبي العباس أحمد بن الناصر لدين اللّه ، وقد ذكره ابن أبي الحديد في عينيّته . 16 _ المستنصريات : وهي خمس عشرة قصيدة طويلة ، أكثرها في مدح المستنصر باللّه العباسي (640 ه) . 17 _ نظم فصيح ثعلب : (الفصيح) كتيب صغير في اللغة كثير الفائدة ، ألّفه أحمد بن يحيى الشيباني (291 ه) ، وقد نظمه ابن أبي الحديد بأرجوزة (1)(2) .

مذهب ابن أبي الحديد وعقيدته :لم يشكّ أحد من المؤرخين في أنّ ابن أبي الحديد معتزلي غارق في الاعتزال ، إلاّ أنهم اختلفوا في انتمائه المذهبي ؛ فذهب بعضهم إلى أنّه كان شيعياً غالياً ، بل رافضياً متطرّفاً في الرفض وتحوّل إلى المذهب الشافعي مذهب الدولة الرسمي ، وذهب آخرون إلى أنه كان حنبلياً ، وآخرون إلى أنّه كان شافعياً منذ صباه إلاّ أنّه معتزلي على طريقة مدرسة بغداد الاعتزالية . قال الدكتور شوقي ضيف : يبدو أنه _ أي عز الدين عبد الحميد (الشارح) _ شبّ على الاعتزال والتشيّع جميعاً ، وكان ولا يزال يغدو ويروح إلى بغداد وإلى حيّ الكرخ الشيعي خاصّة ... حتى إذا بلغ الخامسة والعشرين من عمره نظم قصائده السبع العلويات وهي في

.


1- .أخذنا هذا الثبت من مصنفاته من عدة مصادر تلفيقاً من كتاب العذيق النضيد للدكتور أحمد الربيعي ، ومن مقدمة شرح النهج لمحمد أبو الفضل إبراهيم ، ومن عصر الدول والامارات للدكتور شوقي ضيف .
2- .انظر في ترجمة ابن أبي الحديد : وفيات الأعيان 5/391 ؛ وفوات الوفيات لابن شاكر الكتبي 1/519 ؛ والغيث المسجم للصفدي 2/91 ؛ وروضات الجنات للخوانساري 5/20 ؛ والأعلام للزركلي 3/289 .

ص: 37

مديح علي بن أبي طالب ، وبيان فضائله ، وفيها لايبدو شيعياً إمامياً في هذه الحقبة من حياته ، بل يبدو رافضياً غالياً في الرفض ... من مثل قوله في علي عليه السلام أو كما يسميه حيدراً : واللّهِ لولا حيدرٌ ما كانت ال_دّنيا ولا جَمعَ البرية مجمعُ من أجله خُلق الزمان وضوّءَتشهبٌ كنسْنَ وجنّ ليل أدرع علم الغيوب إليه غير مدافعوالصبح أبيض مسفِرٌ لا يدفع وإليه في يوم المعادِ حسابناوهو الملاذ لنا غداً والمفزع ثم يعقّب شوقي بشرح الأبيات بما ينسجم وهواه ، ثم يتحدّث عن ابن أبي الحديد : ويترك المدائن إلى بغداد نهائياً في تأريخه غير معروف تماماً ، ويبدو أنّه تخلّى عن رفضه ورجع إلى صوابه (1) . أما المحقق الشيخ محمد أبو الفضل ابراهيم ، فذهب إلى نفس الرأي ، لكنّه أضاف : وأصبح كما يقول صاحب نسمة السحر معتزلياً جاحظياً في أكثر شرحه للنهج ، بعد أن كان شيعياً غالياً (2) . وقبل الإجابة على ما أورده هذان العلمان ، نلفت نظر القارئ الكريم إلى عدة ملاحظات نسلّط من خلالها الضوء على عقيدة ابن أبي الحديد منذ صباه وحتى شيخوخته : 1 _ تعدّ المدارس النظامية أهم مدارس أهل السنّة في عهد السلاجقة وقد أُنشئت بناءً على أمر نظام الملك بن علي الطوسي (408 _ 485 ه) وزير السلطان إلب أرسلان ملكشاه . وقد اشترط نظام الملك ، أن تكون هذه المدارس خاصة بالشافعية تعصباً منه لهذا المذهب (3) . وفي نصّ آخر : كان نظام الملك شافعي المذهب يوقف كلّ مدرسة من المدارس التي ينشؤها على أصحاب الإمام الشافعي (4) . ونستطيع القول إنّ تأسيس المدرسة المستنصرية _ فيما بعد _ يعتبر امتداداً لفكرة

.


1- .عصر الدول والإمارات ، ص378 .
2- .مقدمة شرح نهج البلاغة ، ص14 .
3- .المنتظم ، ابن الجوزي 16/91 ؛ رحلة ابن جبير ، ص164 .
4- .السلاجقة في التاريخ ، أحمد كمال الدين ، ص223 .

ص: 38

تأسيس المدرسة النظامية ، أو لفكرة تأسيس المدارس بوجه عام ؛ وهي مقاومة الدعوة الشيعية ، بتخريج عدد من المثقفين الذين يفهمون عن الدولة أغراضها وأهدافها ، ولمّا كان مقاومة المذهب الشيعي تعتبر هدفاً من أهداف الدولة ، لذا فإن المستنصر العباسي اتخذ من أصحاب المذاهب الأربعة عناصر متحدة داخل إطار يعرف بالمدرسة المستنصرية (1) . أقول : إن شروط القبول في المدرسة النظامية هو أن يكون الطالب شافعياً محضاً بحسب اشتراط واقفها . ومن باب أولى أن يكون موظفوها والمشرفون عليها كل واحد منهم شافعياً دون أدنى شك ، ولعل مقتضى قبول ابن أبي الحديد فيها طالباً منذ صباه ، أنّه كان شافعياً ، شأنه شأن والده وأخويه الذين شغلوا مناصب فيها (2) . نعم ، اعتنق مذهب الاعتزال على طريقة مدرسة بغداد في الاعتزال . وهذا ما سنوضحه في النقطة التالية : 2 _ تميّزت مدرسة بغداد (الاعتزالية) _ بعد انتقال بشر بن المعتمر إليها _ بميلها إلى التشيع ؛ حتى أُطلق عليها اسم (متشيعة بغداد) (3) . ويقول القاضي عبد الجبار المعتزلي : إن المتقدمين من المعتزلة ذهبوا إلى أن أفضل الناس بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أبوبكر ، ثمّ عمر ، ثمّ عثمان ، ثمّ علي ، إلاّ واصل بن عطاء ، فإنه يفضّل أمير المؤمنين علياً على عثمان فلذلك سموه شيعياً (4) . ويذهب الملطي وهو من أقدم مؤرخي العقائد : إلى أن معتزلة بغداد _ الجعفران والإسكافي _ يقولون : إن علي بن أبي طالب رضى الله عنه أفضل الناس بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، بل إنه بناءً على هذا يعتبرهم فرقة من فريق الزيدية ، فيقول : « الفرقة الرابعة من الزيدية هم معتزلة بغداد » (5) . من هذه النصوص نستكشف أنهم يطلقون على من يقول بتفضيل الإمام علي عليه السلام على عثمان أنه شيعي أو زيدي ، بينما يطلقون على من يفضّل علياً عليه السلام على سائر الخلفاء

.


1- .المدرسة المستنصرية ، حسين أمين ، ص30 ؛ عصر الدول والإمارات ، شوقي ضيف ، ص277 .
2- .ذكر ابن أبي الحديد ، أنه حضر وهو غلام بالنظامية (شرح النهج 14/280) .
3- .الانتصار ، الخياط ، ص100 ، دار الكتب المصرية 1925 م .
4- .شرح الاصول الخمسة ، ص129 ، 766 .
5- .التنبيه والرد على الأهواء والبدع ، الملطي ، ص34 ، 40 ، تقديم فتحي العقيلي ط 1368 ه .

ص: 39

والصحابة أنّه شيعي غالٍ ، هذا الإطلاق إنما هو وفق المصطلح السُّنّي للتشيع لا المصطلح الإمامي ، حيث يعد أهل السنة كلّ من يفضل علياً على عثمان شيعياً ، وكلّ من يفضل علياً على أبي بكر شيعياً غالياً . قال ابن المرتضى : روي أنّ أبا الهذيل العلاّف لما مات (235 ه) ، صلّى عليه أحمد بن أبي دؤاد القاضي ؛ فكبّر عليه خمساً ، ثمّ لمّا مات هشام بن عمرو ؛ كبّر عليه أربعاً ، فقيل له في ذلك ، فقال : إن أبا الهذيل كان يتشيّع لبني هاشم ، فصلّيتُ عليه بصلاتهم . وأبو الهذيل كان يفضّل علياً على عثمان ، وكان الشيعي في ذلك الزمان من يفضل علياً عليه السلام على عثمان (1) . 3 _ رأي ابن أبي الحديد في الإمامة مبيّناً مذهب المعتزلة فيها : قال ابن أبي الحديد ما خلاصته : اتفق شيوخنا كافة رحمهم الله ؛ المتقدمون منهم والمتأخرون والبصريون والبغداديون ، على أن بيعة أبي بكر بيعة صحيحة شرعية ، وأنّها لم تكن عن نصّ ، وإنما كانت بالاختيار الذي ثبت بالإجماع ، وبغير الإجماع كونه طريقاً إلى الإمامة واختلفوا في التفضيل ، فقال قدماء البصريين : إن أبابكر أفضل من علي عليه السلام وهؤلاء يجعلون ترتيب الأربعة في الفضل كترتيبهم في الخلافة . وقال البغداديون قاطبة قدماؤهم ومتأخروهم : إن علياً عليه السلام أفضل من أبي بكر . وأمّا نحن (أي ابن أبي الحديد نفسه) فنذهب إلى ما يذهب إليه شيوخنا من تفضيله عليه السلام ، وقد ذكرنا في كتبنا الكلامية ما معنى الأفضل ، وهل المراد الأكثر ثواباً ، أو الأجمع لمزايا الفضل والخلال الحميدة ؟ وبيّنا أنه عليه السلام أفضل على التفسيرين معاً (2) . وكرر نحو هذا في الجزء العاشر ، ص101 ، وقال في موضع آخر من الجزء الثالث ، ص98 معلقاً على رواية ابن ديزيل بسنده إلى زيد بن أرقم قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : « ألا أدلَّكم على ما إن تسالمتم عليه لم تهلكوا ؟ إنَّ وليَّكم اللّه وإنَّ إمامكم علي بن أبي طالب ، فناصحوه ، وصدِّقوه ، فإنَّ جبريل أخبرني بذلك » . قال : فإن قلتَ هذا نصٌّ صريحٌ في الإمامية ، فما الذي تصنع المعتزلة بذلك .

.


1- .المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل ، أحمد بن يحيى بن المرتضى ، تصحيح توما أرنلد ، ص28 ، دار الصياد .
2- .مقدمة شرح النهج ، ص7 _ 9 .

ص: 40

قلتُ : يجوز أن يريد أنَّه إمامهم في الفتاوى والأحكام الشرعية ، لا في الخلافة . وقال أيضاً : ولهذا كان أصحابنا (أي المعتزلة) أصحاب النجاة والخلاص والفوز في هذه المسألة ، في شرح قوله عليه السلام : « يهلك فيّ رجلان : محبٌّ مفرط ، وباهتٌ مُفْتَرٍ » ؛ لأنّهم سلكوا طريقة مقتصدة ، قالوا : هو _ أي الإمام عليه السلام _ أفضل الخلق في الدنيا ، وأكثرهم خصائص ومزايا ومناقب ، وكلّ من عاداه أو حاربه ، أو أبغضه ، فإنّه عدوٌّ للّه سبحانه ، وخالدٌ في النار مع الكفّار والمنافقين ، إلاّ أنْ يكون ممّن قد ثَبَتَتْ توبتُه ومات على تولّيه وحبّه . فأمّا الأفاضل من المهاجرين والأنصار الذين ولوا الإمامة قبله ، فلو أنّه أنكر إمامتهم ، وغضب عليهم ، وسخط فعلهم ، فضلاً عن أن يشهر عليهم السيف ، أو يدعو إلى نفسه ؛ لقلنا إنّهم من الهالكين ، كما لو غضب عليهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ؛ لأنّه قد ثبت أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلمقال له عليه السلام : « حربك حربي وسلمك سلمي » ، وأنّه قال صلى الله عليه و آله وسلم : « اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه » ، وقال له : « لا يحبُّك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق » . ولكنّا رأيناه رضي إمامتهم ، وبايعهم ، وصلّى خلفهم وأنكحهم ، وأكل من فيئهم ، فلم يكن لنا أن نتعدّى فعله ، ولا نتجاوز ما اشتهر عنه ، ألا ترى أنّه لما برئ من معاوية برئنا منه ، ولما لعنه لعنّاه ، ولمّا حكم بضلال أهل الشام ومن كان فيهم من بقايا الصحابة ، كعمرو بن العاص وابنه وغيرهما ؛ حكمنا أيضاً بضلالهم . وقال أيضاً : فأمّا من قال بتفضيله على الناس كافّة من التابعين فَخَلْقٌ كثير كأُويس القرني ، وزيد ابن صوحان ، وصَعْصعة أخيه ، وجندب الخير ، وعبيدة السلماني وغيرهم مما لا يحصى كثرة . ولم تكن لفظة الشيعة تعرف في ذلك العَصْر إلاّ لمن قال بتفضيله ولم تكن مقالة الإمامية ومن نحا نحوها من الطاعنين في إمامة السلف مشهورة حينئذٍ على هذا النحو من الاشتهار ؛ فكان القائلون بالتفضيل هم المسمَّون الشيعة ، وجميع ما ورد من الآثار والأخبار في فضل الشيعة وأنهم موعودون بالجنة فهؤلاء هم المعنيون به دون غيرهم ؛ ولذلك قال أصحابنا المعتزلة في كتبهم وتصانيفهم : نحن الشيعة حقاً . فهذا القولُ هو أقرب إلى السلامة وأشبه بالحقِّ من القولين المقتسِمين طرفي الإفراط والتفريط إن شاء اللّه (1) .

.


1- .شرح النهج 20/220 _ 226 .

ص: 41

أقول : ممّا ذكرنا يتبيّن أنّ ابن أبي الحديد لم يكن شيعياً ، بالمصطلح الإمامي للتشيّع ، وإنّما عدّ شيعياً بناء على الفهم السني للتشيع كما وضّحناه سابقاً ، وإلاّ فابن أبي الحديد كان شافعياً معتزلياً وبقي كذلك إلى آخر عمره يتعبّد بالفقه الشافعي ، وينكر الوصية بالإمامة والخلافة ويذهب الى الانتخاب كما ينكر العصمة للإمام ، ويبرر أعمال الصحابة ويوجهها بما يناسب مذهبه ... الخ وأما ما ذهب إليه الشيخ محمد أبو الفضل ابراهيم ، وشوقي ضيف ، من أنّه كان شيعياً غالياً (رافضياً) ثم عدل إلى المذهب الشافعي والاعتزال غير صحيح وهو مبتنٍ على هذا الفهم الخاطئ للتشيع ، أو على التعصّب المرفوض الذي لا ينظر بعين الحق . والصحيح أنه كان شافعياً شأنه شأن والده وإخوته الثلاثة وهو مقتضى قبولهم في المدرسة النظامية التي لا تقبل بين صفوفها إلاّ الشوافع . نعم ، تحوّل إلى الاعتزال على طريقة متأخري مدرسة بغداد الذين يذهبون إلى تفضيل الإمام علي عليه السلام على جميع الصحابة دون استثناء ، وقد صرّح بذلك في عينيّته حيث يقول : ورأيت دين الاعتزال وإنَّنيأهوى لأجلك كلَّ من يتشيّعُ وأما قول الصنعاني (1121 ه) صاحب (نسمة السحر) الذي ذكره محمد أبو الفضل « أنّه كان معتزلياً جاحظياً ، في أكثر شرحه للنهج ، بعد أن كان شيعياً غالياً » فيردّه أنّ الجاحظ من القسم الآخر من المعتزلة أي من (مدرسة البصرة) ، الذي يذهب إلى تفضيل أبي بكر على علي عليه السلام بل يفضّل عثمان عليه عليه السلام ، كما يظهر ذلك مِن كتابه (العثمانية) (ص3) وفيه ناقش كلّ حجج الشيعة التي احتجّت بها على أفضلية الإمام عليه السلام ، حتى حاول إحباط كلَّ فضيلة للإمام عليه السلام (ص206) . وقد تصدّى الإسكافي المعتزلي البغدادي لحجج الجاحظ في كتابه (المقامات) وكذلك ابن أبي الحديد في كتابه (مناقضة السفيانية) . وقال ابن كثير الدمشقي الشافعي (774 ه) معرِّفاً بعقيدة ابن أبي الحديد : « ... الكاتب المطبق ، الشيعي الغالي ، كان حظياً عند الوزير ابن العلقمي ، لِما بينهما من المناسبة والمقاربة والمشابهة في التشيع والأدب والفضيلة » (1) . والجواب عنه : لعل ابن كثير نبز ابن أبي الحديد بالتشيع والغلو _ بل غيره من المحققين المتأخرين أمثال محمد أبو الفضل ، والدكتور شوقي ضيف وغيرهما _ بسبب عَلوياته التي

.


1- .البداية والنهاية 12/199 .

ص: 42

مدح فيها الإمام علي عليه السلام وأهل البيت عليهم السلام ، لكن هل يغمز المسلم بالغلو في التشيع والولاء والحبّ لأهل البيت عليهم السلام الذين جعل اللّه ورسوله حبَّهم فريضة من فرائض الدين ، وأوجب الصلاة عليهم في الصلوات الخمس كل يوم ؟ وكيف يُنعت عزّ الدين بالغلو في التشيع بعد أن أنكر « النصّ » في شرح النهج ، وبعد أن ألّف كتاباً في الردّ على غلاة الشيعة أسماه (مقالات الشيعة) ، وبعد أن نقض ذريعة الشريف المرتضى وشافيته دفاعاً عن مذهب الاعتزال ؟ ولم ينظم علوياته إلاّ أيام الخليفة الناصر العباسي (622 ه) الذي لم تكن بيده يوم تولى الخلافة غير بغداد ، فأعلن أنّه من الشيعة الإمامية ؛ ليأتلفهم ، وهم يومذاك أكثر أهل بغداد والعراق ، وتشيّعُ الناصرِ ، تشيّعٌ سياسي لا مذهبي ، وإلاّ لقلب دولته إلى مذهب الشيعة الإمامية ، فهتف عزّ الدين ابن أبي الحديد بعلوياته ، لتكون جوازه إلى ديوان الناصر . ولما ألّف ابن أبي الحديد (شرح النهج) بطلب من ابن العلقمي الأسدي وزير المستعصم ، كان ينظر بعين إلى الخليفة الشافعي ، وبعين إلى الوزير الشيعي ، وحاول يراعه المحافظة على هذه المعادلة وهو يرقم شرح النهج (1) . حتى إنه في قصيدته التي بعثها إلى الوزير العلقمي يشكره فيها على هديته ، يؤكد على مذهبه في الاعتزال : أحب الاعتزال وناصريهذوي الألباب والنظر الدقيق وذكر السيوطي : أنه تدل سيرة عبد الحميد بن أبي الحديد وأشقائه الثلاثة وأبيهم أنهم من الشيعة الإمامية ، إلاّ أنهم انتحلوا المذهب الشافعي بعد انخراطهم في وظائف العباسيين ، وكان القادر باللّه العباسي أول من انتحل المذهب الشافعي من الخلفاء العباسيين (2) . إننا لو سلّمنا بضمون هذا النص لأمكن تفسير تحوّل هذه الأسرة من مذهبها الشيعي إلى المذهب الشافعي مذهب الخليفة ، وتلوّن مشاعر عز الدين بن أبي الحديد وآرائه وتقلبها بحسب ما يحصل عليه من مكاسب ومنافع دنيويه آنيّة ، ولكن يصعب الالتزام بذلك لما قلناه سابقاً . ومع ذلك فقد ظهر في علوياته محايداً وأميناً ، حافظ على استقلال شخصيته وأمانتها .

.


1- .العذيق النضيد ، د . أحمد الربيعي ، ص64 .
2- .تاريخ الخلفاء ، ص412 .

ص: 43

وأمر مهم آخر يدّلك على انحراف ابن أبي الحديد عن مذهب أهل البيت عليهم السلام ، وهو عدم اعترافه بإيمان أبي طالب عليه السلام ، وهو يعلم أنّ من لم يقرّ بإيمانه كان مصيره إلى النار . روى بنفسه ذلك عن الإمام الرضا عليه السلام ، كما روى عن الإمام علي عليه السلام قوله : « مامات أبو طالب حتى أعطى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم من نفسه الرضا » . وهو يعلم حبّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلملأبي طالب ولو كان كافراً لما جاز له حبّه ، كما استفاض الحديث وهو قوله صلى الله عليه و آله وسلملعقيل : « أنا أُحبّك حبّين حبّاً لك وحبّاً لحبِّ أبي طالب فإنّه كان يحبّك » . كما روى أبن أبي الحديد أشعاراً كثيرة له عليه السلام في تمجيد النبي صلى الله عليه و آله وسلم وتأييد الإسلام ، كما ذكر مواقفه قولاً وفعلاً دفاعاً عن الإسلام والمسلمين . ومع ذلك لما صنّف أحد الطالبيين (ولعله استاذه فخار بن معد الموسوي) كتاباً في إسلام أبي طالب ، وبعثه إلى ابن أبي الحديد يسأله بيان رأيه في إسلام أبي طالب عليه السلام ، وبوثاقة الأدلة عليه ، يقول : فتحرّجت أن أحكم بذلك حكماً قاطعاً لما عندي من التوقّف فيه ، ولم استجز أنْ أقعد عن تعظيم حق أبي طالب ، فإني أعلم أن حقّه واجب على كلّ مسلم في الدنيا إلى أن تقوم الساعة ، فكتبتُ على ظاهر المجلَّد : ولولا أبو طالب وابنهلما مثل الدين شخصاً فقاما فذاك بمكة آوى وحامىوهذا بيثرب جسَّ الحِماما وهذان البيتان مطلع السبعة الأبيات ، التي قال بعدها : فوفيته حقّه من التعظيم والإجلال ، ولم أجزم بأمر عندي فيه وَقْفَة (1) . وتوقّفه هذا يدلّ على عدم تشيعه . ومن الجدير بالذكر ، أن ابن أبي الحديد ، لم يعتمد في رواياته وأخباره على كتب الإمامية ، نعم ذكر ثلاثة منها ، وهي : كتاب سليم بن قيس الهلالي ( ت 77 ه ) ذكره في ج12/212 ، 216 _ 217 ، وكتاب محمد بن جرير الطبري الآملي ( المسترشد في الإمامة ) ، ذكره في ج2/36 ، ج11/69 ، وكتاب الإرشاد للشيخ المفيد ، ذكره في ج14/132 . أمّا الكتابان الأولان ، فقد ذكرهما ابن أبي الحديد ، للردّ عليهما ، وأمّا الكتاب الثالث ، فقد ذكره ليقول عنه : إنّه مخالف لكتب علي عليه السلام وخطاباته . وأخيراً فإنّ قراءة متأنية لشرح النهج ، لا تجد صعوبة في اكتشاف عقيدة ابن أبي

.


1- .انظر : شرح نهج البلاغة 14/84 .

ص: 44

منهجيته في تأليف شرح النهج

الحديد ، وهدفه من تأليفه هذا ، فقد كان يقصد المصادمة والرد على عقائد مذهب أهل البيت عليهم السلام ، وربما يطعن فيها بشكل يجرح العواطف ، ويثير الأحقاد ، ويفرّق الكلمة ، ويحاول أن ينتصر في موارد كثيرة لأهل السنة ، وكثيراً ما كان يصرف الألفاظ ويؤوّل العبارات التي تثبت حقانية الإمام وتؤكد مظلوميته ، عن ظواهرها بلا صارف واضح ، تأييداً لمذهب أصحابه ، وقد صرّح بذلك مراراً « فإنّا لم نترك موضعاً يوهم خلاف مذهبنا إلاّ أوضحناه وفسّرناه على وجه يوافق الحقّ » ]شرح النهج 20/35 ] . كما كان يذهب إلى صحة إمامة المفضول مع وجود الفاضل . ويدعي أن أصحابه هم الشيعة حقّاً ، وأنّ فهمه وفهم أصحابه للتشيع هو الفهم الصحيح ، والمعتزلة هم أصحابه وهم الشيعة وهم الفرقة الناجية دون سواهم .

منهجيته في تأليف شرح النهج :ألف ابن أبي الحديد كتابه « شرح نهج البلاغة » لمؤيد الدين محمّد بن أحمد العلقمي الأسدي الحلي (656 ه) ، وزير المستعصم باللّه (656 ه) . وقد كان ابن العلقمي قد أسس مكتبة عامة في بغداد سنة (644 ه) (1) ، وانتدب العلماء إلى إهداء مؤلفاتهم إليها ، أو التأليف لها ، وقد ندب ابن أبي الحديد إلى شرح (نهج البلاغة) ، فشرحه في عشرين جزءاً ، هي هذه التي بأيدي الناس اليوم ، وقد شرع بتأليفه في غرّة رجب (644 ه) حتى سلخ صفر (649 ه) ، وهي أربع سنوات وثمانية أشهر ، إنّها مدة خلافة أمير المؤمنين علي عليه السلام ، ولا شك أنّ هذا الشرح هو أفضل الشروح وأوسعها بسبب طاقة الشارح وعلمه وأدبه وتنوع ثقافته ، وهو يعد بحق موسوعة تاريخية أدبية ثقافية عقائدية كبيرة متشعّبة الفوائد والموضوعات ، فخرج الكتاب « كتاباً كاملاً في فنّه ، واحداً بين أبناء جنسه ، ممتعاً بمحاسنه ، جليلة فوائده ، شريفة مقاصده ، عظيماً شأنه ، عالية منزلته ومكانه » (2) . ويمكن الكشف عن محاور أربعة مهمة في هذه الموسوعة حاول ابن أبي الحديد أن

.


1- .الحوادث ، ابن الفوطي ، ص206 ، 277 ؛ هامش شرح نهج البلاغة 1/4 .
2- .شرح نهج البلاغة 1/4 .

ص: 45

يركّز البحث حولها في شرحه ، وهي : الأول : شرح خطب ورسائل وكلمات الإمام عليه السلام وحكمه ، وكان قد اقتصر فيه أولاً على شرح الألفاظ الغريبة في كتاب مختصر ، لكنه رأى « أن هذه النغبة لا تشفي أواماً ولا تزيد الحائم إلاّ حياماً ، فتنكّب ذلك المسلك ورفض ذلك المنهج وبسط القول في شرحه بسطاً ... » (1) . وكان نتيجة ذلك عشرين جزءاً ، بسط القول في شرح كلام أمير المؤمنين عليه السلام . وكان ابن أبي الحديد يركز في هذا المحور على تأويل كلام أمير المؤمنين عليه السلام في مواطن بحسب هواه ومعتقده أو مذهب أصحابه ، يقول : « إنا لم نترك موضوعاً يوهم خلاف مذهبنا إلاّ وأوضحناه وفسّرناه على وجه يوافق الحق ... » (2) . الثاني : الرد على السيد المرتضى في كتابه « الشافي في الإمامة » الذي ردّ فيه على القاضي عبد الجبار المعتزلي في كتابه « المغني » في بحث الإمامة تأييداً للقاضي المعتزلي ودفاعاً عن مذهب الاعتزال . الثالث : سرد عام لبعض جوانب تاريخ الإسلام عموماً وتاريخ الإمام علي عليه السلام وحروبه أيام خلافته بشكل خاص ، وقد أورد هذه المادّة التأريخية بشكل متفرّق بين ثنايا موسوعته الكبيرة ، وإن كان قد أفرط في نقل الحوادث التأريخية ، حتى خرج عن مقصوده ومنهجه . الرابع : بحوث استطرادية في علم البلاغة والأدب (شعراً ونثراً) ، والأخلاق والحكمة ، وجملة من المفاهيم الدينية والعقائدية ، بخاصة آراء المعتزلة التي استبسل في الدفاع عنها ، كما ذكر طاقات من شعره ونثره خلالها . والذي كان يهمّنا هو المحور الأول ، فقد كان محور كتابنا هذا ( التهذيب ) مع إضافات مهمة وتفسير لكثير من كلمات الإمام علي عليه السلام ومقاصده التي لم يذكرها ابن أبي الحديد في شرحه ،مع ردود علمية على تأوّلاته لكل كلام صريح يخالف مذهب أصحابه أوردناها في الهامش ، وسوف نفصل القول في ذلك لاحقاً إن شاء اللّه تعالى .

.


1- .نفس المصدر 1/3 _ 6 .
2- .نفس المصدر 20/35 .

ص: 46

شروح نهج البلاغة

شروح نهج البلاغة :لم ينل كتاب بشري على مدى التأريخ ما ناله كتاب « نهج البلاغة » من الإعجاب والتقدير والاهتمام من قبل العلماء والباحثين والأُدباء ؛ فقد اهتموا به شرحاً وتعليقاً وحفظاً وترجمة ودرساً ، منذ عصر السيد الشريف وحتى اليوم ، تجاوزت المئة شرحاً ، عدا ما صنّف في خطبه ورسائله (1) . ولما يحتوي من معالم المعرفة وشتى الفنون ، تنوّع شارحوه ومفسروه ، فكان منهم الإمامي والشافعي والحنفي والزيدي والمعتزلي والأشعري ، وكان منهم أيضاً الأديب والفيلسوف والمحدّث والمتكلّم والفقيه والمؤرّخ واللغوي ، وما بين عربي وفارسي وتركي وهندي وغيرهم . ولعل أفضل هذه الشروح وأعلاه وأبسطها وأمتنها وأحفلها بالعلوم والآداب والمعارف هو شرح عز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي الشافعي (656 ه) ، الذي صنّفه بأمر الوزير الفاضل العلقمي الأسدي ، ثم زعم أنه لا يعلم أحداً سبقه إلى شرحه ، غيرقطب الدين الراوندي الإمامي (573 ه) الذي أفرط ابن أبي الحديد في الزراية عليه ومناقضته في مواضع غير قليلة من صفحات شرحه يقول : « ولم يشرح هذا الكتاب قبلي _ فيما أعلمه _ إلاّ واحد ؛ وهو سعيد بن هبة اللّه بن الحسن الفقيه المعروف بالقطب الراوندي (573 ه) وكان من فقهاء الإمامية ، ولم يكن من رجال هذا الكتاب ... الخ (2) . وزعمه هذا ليس بشيء بعد أن ثبت تاريخياً أنّه قد سبقه اثنا عشر شارحاً منذ عصر الرضي إلى عصر ابن أبي الحديد نفسه ، ذكر المهتمون بشروح النهج اسماءهم وأسماء شروحهم وقد تجاهل ابن أبي الحديد ذلك (3) . مضافاً إلى مَن صنّف في خطبه عليه السلام . وفي هذا الشرح قد بسط ابن أبي الحديد القول في شرح كلام أمير المؤمنين عليه السلام في

.


1- .الذريعة ، المحقق الطهراني 4/144 و 14/111 _ 161 ؛ ما هو نهج البلاغة ، الشهرستاني ، ص13 . الغدير ، الأميني 4/186 ؛ مصادر نهج البلاغة وأسانيده ، الحسيني الخطيب ، ص247 _ 257 ؛ الشريف الرضي ، محمد هادي الأميني ، ص157 ؛ وفهرست الشيخ النجاشي ؛ وفهرست الشيخ الطوسي . وإن لم تصل إلينا كتبهم .
2- .شرح النهج 1/5 .
3- .شرح النهج ، ابن ميثم البحراني 1 المقدمة ؛ وما هو نهج البلاغة ، الشهرستاني ، ص13 .

ص: 47

عشرين جزءاً ، ومن محاسنه أيضاً رجوعه إلى نسخة نهج البلاغة التي بخطّ الشريف الرضي ، واختار منها ما رواه في النهج (1) . « فخرج هذا الكتاب كتاباً كاملاً في فَنّه ، واحداً بين أبناء جنسه ، مُمْتِعاً بمحاسنه ؛ جليلةً فوائدُه ، شريفة مقاصده ، عالية منزلته ومكانه ؛ ولا عجبَ أن يُتقرّب بسيّد الكتب إلى سيد الملوك ، وبجامع الفضائل إلى جامع المناقب ، وبواحد العصر إلى أوحد الدهر ؛ فالأشياء بأمثالها أليق ، وإلى أشكالها أقرب ؛ وشِبْه الشيء إليه منجذِب ، ونحوه دان ومقترب » (2) . ولما فرغ من تأليفه سنة (649 ه) أنفذه على يد أخيه موفق الدين أبي المعالي أحمد إلى الوزير ابن العلقمي ، فبعث إليه الوزير بمئة ألف وخلعة سنيّة من الملابس ، وفرس عربي أصيل ، فشكره ابن أبي الحديد وكتب إليه هذه القصيدة (3) : أيا ربَّ العباد رَفَعْتَ ضَبْعِيوطُلْتَ بمنكبي وبللتَ ريقي وزيغَ الأشعريّ كشفت عنّيفلم أسلُك بُنَيَّاتِ الطَّريقِ أحبُّ الإعتزالَ وناصريهِذَوِي الألبابِ والنَّظَرِ الدقيقِ فأهلُ العدلِ والتوحيدِ أهليونعم فريقهمْ أبداً فَريقي وشرح النهج لم اُدْرِكْهُ إلاّبعَونِكَ بعدَ مَجْهَدَةٍ وضِيقِ تَمثَّلُ إذ بدَأت به لعينيهُناكَ كذِرْوَةِ الطَّود السَّحيقِ فتَمَّ بحُسنِ عونكَ وهو أنأىمن العيُّوقِ أو بيض الاَنُوقِ بآل العلقميِّ ورت زناديوقامَت بين أهل الفضل سُوقِي فكم ثوبٍ أنيقٍ نلتُ منهُمونلتُ بهم وكم طِرْفٍ عتِيقِ أدامَ اللّهُ دَوْلَتُهم وأنحىعلى أعدائِهِم بالحنْفَقِيقِ (4)

.


1- .شرح النهج ، ابن أبي الحديد 20/93 ، 180 .
2- .شرح النهج ، 1/4 _ 5 .
3- .الحوادث ، ابن الغوطي ، ص209 ، 277 ، 228 ؛ الكشكول ، البحراني 2/116 ؛ روضات الجنات ، الخوانساري 5/21 .
4- .شرح النهج 1/10 ، 11 المقدمة .

ص: 48

عملي في الكتاب

عملي في الكتاب :1 _ استخلاص المحور الرئيس من موسوعة شرح نهج البلاغة ، والذي من أجله أُلّف الكتاب ، وصدر الأمر من الوزير ابن العلقمي رحمه الله ، وموضوعه شرح خطب ورسائل وحكم الإمام علي عليه السلام دون الالتفات إلى سائر المحاور إلاّ ما يصبّ في رفد هذا الموضوع وبيانه ، وترصدت كل شاردة وواردة من أجل جمع شتاته بأمانة دون زيادة أو نقيصة ، حسب ما أراد ابن أبي الحديد وطبقاً لمعتقده ومذهب أصحابه . 2 _ لم أتدخل في تغيير عباراته وألفاظه ، حتى تلك التي يدافع فيها عن وقائع وأحداث وموضوعات لا يصححها مذهب أهل البيت عليهم السلام ، بل وحتى التي تصادم ضرورياته أو تخالف متبنياته . ولكنّني ناقشتها مناقشة موضوعية موجزة ، وذلك في الهامش ، اعتماداً على المصادر الموثوقة ، وبيّنت مقاصد الإمام عليه السلام ووضحت مداليل كلامه عليه السلام بإيجاز غير مخلّ يتناسب مع هدف الكتاب . 3 _ شرح الألفاظ الغريبة التي أهمل الشارح بيان معانيها ، وأثبتّها كذلك في الهامش ، تعميماً للفائدة ، واعتمدت في ذلك على كتب اللغة ، والتأريخ ، وشروح النهج القديمة والحديثة . 4 _ حذف هوامش المحقق الشيخ أبي الفضل إبراهيم المتعلقة بتحقيقه للمتن التي أشار بها إلى اختلاف النسخ لأنا لسنا بصددها في هذا الكتاب ، إلا أنني أشرت إلى هذا الاختلاف الواقع بين النسخ في فهرست الجزء الثاني . 5 _ ضبط النص نتيجة للمطالعة الصحيحة ، ومن خلال مراجعة عدة نسخ غير نسخة المحقق ، منها نسخة العلامة المحقق الشيخ محمد تقي التستري في كتابه الموسوم (بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة) ونسخة الشيخ فارس تبريزيان ؛ لانها نسخة محققة تحقيقاً جيداً وتمتاز بضبط النصّ ومقابلته على أقدم نسختين ، ونسخة كتاب ( إرشاد المؤمنين إلى معرفة نهج البلاغة المبين ) ليحيى بن ابراهيم الجحّاف ( 1102 ه ) الزيدي ، بتحقيق السيد محمد جواد الجلالي . 6 _ المحافظة على أرقام الخطب والرسائل والحكم بحسب ترقيم شرح ابن أبي الحديد بتحقيق محمد أبو الفضل ؛ لأنّ هذا الكتاب هو مقتطع من شرحه الكبير المترامي الأطراف .

.

ص: 49

7 _ تخريج الآيات الكريمة وعرضها على القرآن الكريم . 8 _ تخريج الأحاديث الشريفة من مصادرها الأصلية . 9 _ إرجاع النصوص الكلامية والتأريخية والأدبية إلى أصحابها . أسأل اللّه تبارك وتعالى أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم ، وأنْ يتقبّله بقبوله الحسن الجميل ، ويختم لي بعفوه ، ويجعله لي ولوالدي ولأخي المغيّب الشهيد السيد هاشم ذخراً ليومٍ لا ينفع فيه مال ولا بنون إلاّ من أتى اللّهَ بقلب سليم . والحمد للّه رب العالمين والصلاة وأتمّ التسليم على محمّد وآله الطاهرين . السيد عبد الهادي الشريفي غرّة رمضان المبارك 1424 ه

.

ص: 50

. .

ص: 51

مقدمة الشريف الرضي (جامع النهج)

[ مقدمة الشريف الرضي ]قال الرضيّ رحمه الله :بِسمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ( أمّا بعدَ حَمْدِ اللّه الذي جعل الحمدَ ثمنا لنعمائه ، ومَعاذا من بلائه ، ووسيلاً إلى جنانه ، وسببا لزيادة إحسانه . والصلاةُ على رسوله ، نبيّ الرحمة ، وإمام الأئمة ، وسراجِ الأُمّة ، المنتجَب من طينة الكَرَم ، وسلالة المجد الأقدم ، ومغرِس الفَخار المعرِق ، وفَرْع العلاء المُثْمر المورِق ؛ وعلى أهلِ بيته مصابيح الظُّلَم ، وعِصَم الأمم ، ومنار الدين الواضحة ، ومثاقيلِ الفضل الراجحة . فصلّى اللّه عليهم أجمعين ، صلاة تكون إزاءً لفضلهم ، ومكافأة لعملهم ، وكِفاء لطيب أصلهم وفرعهم ، ما أنار فجر طالع ، وخَوَى نجم ساطع ) .

الشرح :اعلم أنّي لا أتعرّضُ في هذا الشرح للكلام فيما قد فرغ منه أئمةُ العربية ، ولا لتفسير ما هو ظاهر مكشوف . ونبتدئ الآن فنقول : قال لي إمام من أئمة اللغة في زماننا : هو الفِخار ، بكسر الفاء ، قال : وهذا مما يغلَط فيه الخاصة فيفتحونها ، وهو غير جائز ، وعندي أنّه لا يبعد أن تكون الكلمة مفتوحة الفاء ، وتكون مصدر « فَخَر » لا مصدر « فاخر » ، والعِصَم : جمع عِصْمة ، وهو ما يعتصم به . والمنار : الأعلام ، واحدها مَنارة ، بفتح الميم . والمثاقيل : جمع مثقال ، وهو مقدار وَزْن الشيء ، تقول : مثقال حبّة ، ومثقال قيراط ، ومثقال دينار . وليس كما تظنه العامة

.

ص: 52

أنه اسم للدينار خاصة ؛ فقوله : « مثاقيل الفضل » ، أي زنات الفضل ، وهذا من باب الاستعارة . وقوله : « تكون إزاءً لفضلهم » ، أي مقابلة له . ومكافأة ، بالهمز ، من كافأته أي جازيته ، وكِفاء ، بالهمز والمد ، أي نظيرا . وخَوى النجم ، أي سقط . وطينة المجد ؛ أصله . وسلالة الكرم ؛ فرعه . والوسيل : جمع وسيلة وهو ما يُتقرب به ، ولو قال : « وسَبيلا إلى جِنانه » لكان حسنا وإنّما قصد الإغراب .

قال الرضيّ رحمه الله :( فإنّي كنتُ في عُنْفوان السنّ ، وغضاضة الغُصْن ، ابتدأت تأليف كتاب في خصائص الأئمة : ، يشتمِل على محاسن أخبارهم ، وجواهر كلامهم ، حَدَاني عليه غرضٌ ذكرتُه في صَدْر الكتاب ، وجعلتُه أمام الكلام . وفرغت من الخصائص التي تَخُصّ أميرَ المؤمنين عليّاً، صلوات اللّه عليه ، وعاقت عن إتمام بقيَّة الكتاب مُحاجزاتُ الأيام ، ومماطلات الزمان . وكنت قد بوّبت ما خرج من ذلك أبوابا ، وفصّلته فصولاً ، فجاء في آخرها فصلٌ يتضمّن محاسنَ ما نُقل عنه عليه السلام ؛ من الكلام القصير في المواعظ والحِكَمِ والأمثال والآداب ؛ دون الخُطَب الطويلة ، والكُتبِ المبسوطة ؛ فاستحسنَ جماعةٌ من الأصدقاء ما اشتمل عليه الفصلُ المقدّم ذكره ، معجَبين ببدائعه ، ومتعجِّبين من نواصعه ؛ وسألوني عِنْدَ ذلك أنْ أبدأ بتأليف كتاب يحتوي على مُخْتَارِ كلامِ أمير المؤمنين عليه السلام في جميعِ فنونه ، ومتشعِّبات غصونه ، من خُطَبٍ وكتب ومواعظَ وأدب ؛ علما أنّ ذلك يتضمّن من عجائب البلاغة ، وغرائب الفصاحة ، وجواهر العربية ، وثواقب الكَلِم الدينية والدنياويّة ؛ ما لا يوجدُ مجتمعا في كلام ، ولا مجموعَ الأطرافِ في كتاب ؛ إذْ كان أميرُ المؤمنين عليه السلام مَشْرَع الفصاحة وموردَها ، ومنشأ البلاغة ومولدَها ؛ ومنه عليه السلام ظهر مكنونُها ، وعنه أُخذَتْ قوانينها ، وعلى أمثلته حذا كلّ قائل خطيب ، وبكلامه استعان كلّ واعظ بليغ ؛ ومع ذلك فقد سَبَق وقصّروا ، وقد تَقَدّم وتأخّروا ؛ لأنّ كلامَه عليه السلام الكلامُ الذي عليه مَسْحةٌ من العلم الإلهي ، وفيه عَبْقة من الكلام النبويّ ) .

الشرح :عنفوان السنّ : أولها . ومحاجزات الأيام : ممانعاتها . ومماطلات الزمان : مدافعاته . وقوله :

.

ص: 53

« معجَبين » ثم قال : و « متعجبين » ، ف_ « معجَبين » من قولك : أُعجِب فلان برأيه ، وبنفسه فهو معجَب بهما ، والاسم : العُجْب بالضم ؛ ولايكون ذلك إلاّ في المستحسَن ، و « متعجبين » من قولك : تعجبت من كذا ، والاسم : العَجَب . وقد يكون في الشيء يُستحسن ويُستقبح ويُتَهوّل منه ويستغرب ؛ ومراده هنا التهوُّل والاستغراب ؛ وفي بعض الروايات : « معجِبين ببدائعه » ، أي أنّهم يعجِبون غيرهم . والنواصع : الخالصة . وثواقب الكلم : مضيئاتها ؛ ومنه الشهاب الثاقب . وحذا كلّ قائل : اقتفى واتّبع . وقوله : « مَسْحة » يقولون : على فلان مَسحة من جمال ؛ مثل قولك : شيء ، وكأنه هاهنا يريد ضوءا وصِقالا . وقوله : « عبقة » ، أي رائحة ، ولو قال عِوض « العلم الإلهي » « الكتاب الإلهي » لكان أحسن .

قال الرضيّ رحمه الله :( فأجبتُهم إلى الابتداء بذلك ، عالماً بما فيه من عظيم النفع ، ومنشور الذكر ، ومذخور الأجر . واعتمدت به أن أُبيّن من عظيم قَدْر أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الفضيلة ، مضافة إلى المحاسن الدّثِرة ، والفضائل الجمّة ، وأنّه انفرد ببلوغ غايتها عن جميع السلف الأولين ، الذين إنّما يُؤثَر عنهم منها القليل النادر ، والشاذّ الشارد ؛ فأمّا كلامُه عليه السلام فهو البحر الذي لا يُساجَل ، والجمّ الذي لا يحافَل ، وأردت أن يسوغَ لي التمثُّل في الافتخار به صلوات اللّه عليه بقول الفرزدق : أُولئِك آبائي فجئني بمثْلِهِمْإذَا جَمَعَتْنَا يَا جَريرُ الَْمجَامِعُ )

الشرح :المحاسن الدثرة : الكثيرة ، مال دَثِر ، أي كثير ، والجمّة ؛ مثله . ويؤثر عنهم ، أي يحكى وينقل ، قلته آثرا ، أي حاكيا . ولا يساجَل ، أي لا يكاثَر ، أصلُه من النزع بالسّجل ، وهو الدّلو المليء . ويُروى : « يُساحل » ، بالحاء ، من ساحل البحر وهو طرَفه ، أي لا يشابه في بُعْد ساحِله . لا يحافل ، أي لا يفاخَر بالكثرة ، أصلُه من الحفْل ، وهو الامتلاء . والمحافلة : المفاخرة بالامتلاء ، ضرع حافل ، أي ممتلئ .

.

ص: 54

قال الرضيّ رحمه الله :( ورأيت كلامَه عليه السلام ، يدور على أقاطبٍ ثلاثة : أوّلها الخُطَب والأوامر ، وثانيها الكُتُب والرسائل ، وثالثها الحِكَم والمواعظ ؛ فأجمعتُ بتوفيق اللّه سبحانه على الابتداء باختيار محاسنِ الخطب ، ثم محاسن الكتب ، ثم محاسن الحِكم والأدب ، مُفرِدا لكلّ صِنفٍ من ذلك باباً ، ومفصِّلاً فيه أوراقا ، ليكونَ مقدّمة لاستدراك ما عساه يشذّ عَنِّي عاجلاً ، ويقع إليّ آجلاً . وإذا جاء شيء من كلامه الخارج في أثناء حِوار ، أو جواب سؤال ، أو غرض آخرَ من الأغراض في غير الأنحاء التي ذكرتُها ، وقرّرْتُ القاعدة عليها ، نسبتُه إلى ألْيَق الأبواب به ، وأشدِّها ملامحة لغرضه . وربّما جاء فيما أختارُه من ذلك فصولٌ غيرُ متّسقة ، ومحاسنُ كلمٍ غير منتظمة ؛ لأنِّي أورِدُ النُّكَت واللُّمع ، ولا أقصِد التتاليَ والنَّسَق ) .

الشرح :قوله : « أجمعت على الابتداء » ، أي عزمت . والمحاسن : جمع حَسَن ، على غير قياس ، كما قالوا : الملامح والمذاكر ؛ ومثله المقابح . والحِوار ، بكسر الحاء ، مصدر حاورتُه ، أي خاطبته . والأنحاء : الوجوه والمقاصد . وأشدّها مُلامحة لغرضه ، أي أشدّها إبصارا له ونظرا إليه ، من لمحت الشيء ؛ وهذه استعارة ، يقال : هذا الكلام يَلمح الكلامَ الفلانيّ ، أي يشابهه ؛ كأنّ ذلك الكلام يُلْمحُ ويُبصر من هذا الكلام .

قال الرضيّ رحمه الله :( ومنْ عجائبه عليه السلام التي انفرد بها ، وأمِنَ المشاركةَ فيها أنّ كلامه الواردَ في الزّهد والمواعظ ، والتذكير والزواجر ؛ إذا تأمّله المتأمِّل ، وفكّر فيه المفكِّر ، وخلع من قلبه أنّهُ كلامُ مثله ، ممّن عَظُم قدره ، ونفَذ أمرُه ، وأحاط بالرّقاب مُلْكه ، لم يعترضْه الشكّ في أنه كلامُ مَنْ لاحظّ له في غير الزّهادة ، ولا شُغْلَ له بغير العبادة ، قد قَبَع في كِسر بيتٍ ، أو انقطع إلى سَفْح جبلٍ ، لا يَسمع إلاّ حسَّه ، ولا يَرى إلاّ نفسَه ، ولا يكادُ يوقِن بأنّه كلامُ مَن يَنغَمِس في الحرب ، مُصْلِتا سيفَه ، فَيقُطُّ الرّقاب ، ويُجَدِّلُ الأبطال ، ويعودُ به ينطُف دما ، ويقطُر مُهَجا ؛ وهو مع تلك الحال ، زاهد الزّهاد وبَدَل الأبدال . وهذه من فضائله العجيبة ، وخصائصه اللّطيفة ، التي جَمَع

.

ص: 55

بها بين الأضداد ، وألّف بين الأشتات ، وكثيرا ما أُذاكِرُ الإخوان بها ، وأستخرجُ عَجَبهم منها ؛ وهي موضع العبرة بها ، والفكرة فيها .

الشرح :قَبَع القُنْفذ يَقْبَع قُبوعا ، إذا أدخل رأسَه في جلده ، وكذلك الرجل إذا أدخل رأسه في قميصه ؛ وكلّ مَن انزوى في جُحْر أو مكان ضَيّق فقد قَبَع . وكِسْر البيت : جانب الخِباء . وسفح الجبل : أسفله ، وأصلُه حيث يَسْفَحُ فيه الماء . ويقطّ الرقاب : يقطعها عَرْضا لا طولاً ، ويُجَدِّل الأبطال : يُلْقِيهم على الجَدالة ، وهي وجهُ الأرض . وينطُف دماً : يقطر ، والأبدال : قوم صالحون لا تخلو الأرض منهم ، إذا مات أحدُهم أبدَل اللّه مكانه آخر ، قد وَرَد ذلك في كثير من كُتب الحديث . كان أمير المؤمنين عليه السلام ذا أخلاقٍ متضادّة . فمنها ماقد ذكره الرضيّ ؛ ، وهو موضع التعجّب ؛ لأنّ الغالبَ على أهل الشجاعة والإقدام والمغامرة والجرأة ، أنْ يكونوا ذَوِي قلوب قاسية ، وفَتْكٍ وتمرُّد وجَبريّة ؛ والغالب على أهل الزهد ورفضِ الدنيا وهجرانِ ملاذّها والاشتغالِ بمواعظ الناس وتخويفهم المعادَ ، وتذكيرهم الموتَ ، أن يكونوا ذوِي رقّة ولين ، وضَعْف قلْب ، وخَوَرِ طَبْع ؛ وهاتان حالتان متضادتان ، وقد اجتمعتا له عليه السلام . ومنها أنّ الغالبَ على ذوي الشجاعة وإراقة الدماء ، أن يكونوا ذوِي أخلاق سَبعية ، وطِباع حوشية وغرائز وحشية ، وكذلك الغالب على أهل الزهادة وأرباب الوعظ والتذكير ورفض الدنيا أن يكونوا ذَوِي انقباض في الأخلاق ، وعُبوس في الوجوه ، ونِفار من الناس واستيحاش ؛ وأميرُ المؤمنين عليه السلام كان أشجعَ الناس وأعظمَهم إراقة للدم ، وأزهد الناس وأبعدَهم عن ملاذّ الدنيا ، وأكثرهم وعظا وتذكيرا بأيّام اللّه ومَثُلاته ، وأشدّهم اجتهادا في العبادة وآدابا لنفسه في المعاملة . وكان مع ذلك ألطفَ العالم أخلاقا ، وأسفرَهم وجها ، وأكثرهم بِشرا ، وأوفاهم هشاشة ، وأبعدَهم عن انقباض موحِش ، أو خُلُق نافر ، أو تجهّم مباعِد ، أو غِلْظة وفظاظة تَنفِر معهما نفس ، أو يتكدّر معهما قلْب . حتى عِيب بالدّعابة ، ولمّا لم يجدوا فيه مغمزاً ولا مطعناً تعلَّقوا بها ، واعتمدوا في التنفير عنه عليها .

.

ص: 56

وتِلْكَ شَكاةٌ ظاهِرٌ عنك عارُها وهذا من عجائبه وغرائبه اللطيفة . ومنها أنّ الغالب على شرفاء الناس ومَنْ هو من أهلِ بيت السيادة والرياسة ، أن يكونَ ذا كِبْرٍ وتيهٍ وتعظّم وتغطْرُس ؛ وكان أميرُ المؤمنين عليه السلام في مُصاصِ الشرف ومعدنه ومعانيه ، لا شكّ عدوّ ولا صديق أنه أشرفُ خلق اللّه نسبا بعد ابن عمّه صلوات اللّه عليه ، وقد حَصَل له من الشرف غير شرف النسب جهاتٌ كثيرة متعددة ، قد ذكرنا بعضها ، ومع ذلك فكان أشدَّ الناس تواضعا لصغير وكبير ، وألينَهم عَريكة ، وأسمحَهم خُلُقا ، وأبعدَهم عن الكِبْر ، وأعرفهم بحقّ . ومنها أنّ الغالبَ على ذوي الشجاعة وقتل الأنفس وإراقَة الدماء ، أنْ يكونوا قليلي الصفح ، بعيدي العفو ؛ وقد علمتَ حال أمير المؤمنين عليه السلام في كثرة إراقة الدم وما عنده من الحلم والصفح ، ومغالبة هوى النفس ، وقد رأيتَ فعله يوم الجمل . ومنها أنّا ما رأينا شجاعا جوادا قطّ ؛ وقد علمت حالَ أمير المؤمنين عليه السلام في الشّجاعة والسخاء ، كيف هي ! وهذا من أعاجيبه أيضا عليه السلام .

قال الرضيّ رحمه الله :( وربّما جاء في أثناء هذا الاختيار اللفظُ المردّد ، والمعنى المكرّر ؛ والعذر في ذلك أنّ روايات كلامه تختلف اختلافا شديدا ؛ فربّما اتفق الكلام المختار في رواية فَنُقِلَ على وجهه ، ثم وُجِد بعد ذلك في رواية أُخرى موضوعا غير وضعه الأول ؛ إمّا بزيادة مختارة ، أو بلفظٍ أحسنَ عبارة ؛ فتقتضى الحالُ أن يعاد ؛ استظهارا للاختيار ، وغَيْرةً على عقائل الكلام . وربما بَعُد العهد أيضا بما اختير أولاً ؛ فأعيد بعضُه سهوا ونسيانا ، لا قصدا أو اعتمادا . ولا أدّعي مع ذلك أنني أُحيط بأقطار جميع كلامه عليه السلام ؛ حتى لا يشِذّ عنّي منه شاذّ ، ولا ينِدّ نادّ ، بل لا أبعِد أن يكون القاصِرُ عنّي فوق الواقع إليّ ، والحاصلُ في رِبْقتي دون الخارج من يديّ؛ وما عليّ إلاّ بذلُ الجهد ، وبلاغة الوسع ، وعلى اللّه سبحانه نَهْج السبيل ، وإرشاد الدليل . ورأيت من بعدُ تسميةَ هذا الكتاب ب_ « نهج البلاغة » ؛ إذ كان يَفتح للناظر فيه أبوابها ، ويقرّب عليه طِلاَبها ، وفيه حاجة العالم والمتعلّم ، وبُغية البليغ والزاهد ، ويمضي في أثنائه من عجيب الكلام في التوحيد والعدل ، وتنزيه اللّه سبحانه وتعالى عن شَبَه الخلق ، ماهو

.

ص: 57

بِلال كلّ غلّة ، وشِفاء كلّ عِلَّة ، وجِلاء كلّ شبهة . ومن اللّه أستمدّ التوفيق والعصمة ، وأتنجّزُ التسديد والمعونة ، وأستعيذه من خطأ الجِنَان قبل خطأ اللسان ، ومن زَلَّة الكلِم قبل زلّة القدم ، وهو حسبي ونعم الوكيل ) .

الشرح :في أثناء هذا الاختيار : تضاعيفه ، والغيْرة : بالفتح ، والكسر خطأ . وعقائل الكلام : كرائمه ، وعَقِيلة الحيّ : كريمتُه ، وكذلك عَقِيلة الذوْد . والأقطار : الجوانب ، واحدها قُطْر . والنادّ : المنفرد ؛ ندّ البعير يَنِدّ . الرِّبقة : عروة الحبل يجعل فيها رأس البهيمة . وقوله : « وعلى اللّه نهج السبيل » ، أي إبانته وإيضاحه ، نهجت له نهجا . وأما اسم الكتاب ف_ « نهج البلاغة » ، والنهج هنا ليس بمصدر ، بل هو اسم للطريق الواضح نفسه . والطلاب ، بكسر الطاء : الطلب . والبُغية : ما يُبتغى . وبِلال كلّ غلة ، بكسر الباء : ما يُبَلّ به الصدى . وإنما استعاذ من خطأ الجنان قبل خطأ اللسان ؛ لأنّ خطأ الجَنان أعظم وأفحشُ من خطأ اللسان ، وإنما استعاذ من زَلّة الكَلِم قبل زلّة القَدَم ؛ لأنّه أرَاد زلّة القدم الحقيقية ؛ ولا ريب أنّ زلّة القدم أهونُ وأسهل ؛ لأنّ العاثر يستقيل من عثرته . وذا الزلّة تَجِدُهُ ينهض من صَرْعته ؛ وأما الزلّة باللسان فقد لا تستقال عَثْرَتها ، ولا يَنهض صريعها .

قال الرضيّ رحمه الله :بابُ المختار من خطب أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه وأوامره ويدخل في ذلك المختار من كلامه الجاري مجرى الخطب في المقامات المحضورة والمواقف المذكورة ، والخطوب الواردة .

الشرح :المقامات : جمع مقامة ، وقد تكون المقامة المجلس والنادي الذي يجتمع إليه الناس ، وقد يكون اسما للجماعة ، والأول أليق هاهنا لقوله : المحضورة ، أي التي قد حضرها الناس . ومنذ الآن نبتدئ بشرح كلام أمير المؤمنين عليه السلام ، ونجعل ترجمة الفصل الذي نروم شرحه « الأصل » فإذا أنهيناه قلنا : « الشرح » ، فذكرنا ما عندنا فيه ، وباللّه التوفيق .

.

ص: 58

. .

ص: 59

باب الخطب والأوامر

اشاره

باب الخطب والأوامر

.

ص: 60

. .

ص: 61

1 . من خطبة له عليه السلام يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم

1الأصْلُ :فمن خطبة له عليه السلام يذكر فيها ابتداءَ خلق السماء والأرض وخلق آدمالحَمْدُ للّهِ الَّذِي لاَ يَبْلُغُ مِدْحَتَهُ الْقَائِلُونَ ، وَلاَ يُحْصِي نَعْمَاءَهُ الْعَادُّونَ ، وَلاَ يُؤَدِّي حَقَّهُ المُجْتَهِدُونَ ؛ الَّذِي لاَ يُدْرِكُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ ، وَلاَ يَنَالُهُ غَوْصُ الْفِطَنِ ، الَّذِي لَيْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ ، وَلاَ نَعْتٌ مَوْجُودٌ ، وَلاَ وَقْتٌ مَعْدُودٌ ، وَلاَ أَجَلٌ مَمْدُودٌ . فَطَرَ الْخَلائِقَ بِقُدْرَتِهِ ، وَنَشَرَ الرِّيَاحَ بِرَحْمَتِهِ وَوَتَّدَ بالصُّخُورِ مَيَدَانَ أَرْضِهِ .

الشّرْحُ :الّذي عليه أكثر الأُدباء والمتكلّمين أنّ الحمد والمدح أخَوَان ، لا فَرْق بينهما ، فهما سواء يدخلان فيما كان من فعل الإنسان ، وفيما ليس من فعله ، فأمّا الشكر فأخصُّ من المدح ؛ لأنّه لايكون إلاّ على النعمة خاصّة ، ولا يكون إلاّ صادرا من منعَم عليه . والمِدْحة : هيئة المدح ، كالرِّكْبة ، هيئة الركوب ، والجِلْسة هيئة الجلوس ؛ والمعنى مطروق جدا ، ومنه في الكتاب العزيز كثير ، كقوله تعالى : « وَإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا » (1) . وأمّا قوله : « الذي لا يدركه » ، فيريد أنّ هِمَم النُّظار وأصحاب الفكر وإن عَلَتْ وبَعُدت فإنّها لا تدرِكه تعالى ، ولا تحيط به .

.


1- .سورة إبراهيم 34 ، وسورة النحل 18 .

ص: 62

فأمّا قوله : « الذي ليس لصفته حد محدود » ، فإنه يعني بصفته هاهنا كُنهَه وحقيقته ، يقول : ليس لكنهه حدّ فيعرف بذلك الحدّ قياسا على الأشياء المحدودة ؛ لأنّه ليس بمركّب ، وكلّ محدُود مركّب . ثم قال : « ولا نعت موجود » ، أي ولا يدرك بالرسم ، كما تُدرَكُ الأشياء برسومها ؛ وهو أن تعرف بلازم من لوازمها ، وصفة من صفاتها . ثم قال : « ولا وقت معدود ، ولا أجل ممدود » ، فيه إشارة إلى الردّ على من قال : إنّا نعلم كنهَ الباري سبحانه لا في هذه الدنيا ، بل في الآخرة ؛ فإن القائلين برؤيته في الآخرة يقولون : إنّا نعرف حينئذٍ كُنهَه ؛ فهو عليه السلام ردّ قولهم ، وقال : إنه لاوقتَ أبدا على الإطلاق تُعرَف فيه حقيقته وكنهه ، لا الآن ولا بعد الآن ، وهو الحقّ . فأمّا قوله : « فطر الخلائق ... » إلى آخر الفصل ؛ فهو تقسيم مشتق من الكتاب العزيز ، فقوله : « فطر الخلائق بقدرته » ، من قوله تعالى : « قَالَ مَنْ رَّبُّ السَّموَاتِ والأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا » (1) وقوله : «ونشر الرياح برحمته»، من قوله: « يُرْسِلُ الرِّياحَ نُشُرا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ» (2) . وقوله : « ووتَّد بالصخور ميدان أرضه » ، من قوله : « وَالجِبَالَ أوْتَادا » (3) . والمَيدان : التحرّك والتموّج .

الأصْلُ :أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ ، وَكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ ، وَكَمَالُ التَّصْدِيقِ بهِ تَوْحِيدُهُ ، وَكَمَالُ تَوْحِيدِهِ الاْءِخْلاصُ لَهُ ، وَكَمَالُ الاْءِخْلاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّها غَيْرُ الْمَوْصُوفِ ، وَشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّهُ غَيْرُ الصِّفَةِ . فَمَنْ وَصَفَ اللّهَ سُبْحَانَهُ فَقَدْ قَرَنَهُ ، وَمَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ ، وَمَنْ ثَنَّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ ، وَمَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ جَهِلَهُ ، وَمَنْ جَهِلَهُ فَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ ، وَمَنْ أَشَارَ إلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ ، وَمَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ . وَمَنْ قَالَ «فِيمَ ؟» فَقَدْ ضَمَّنَهُ ، وَمَنْ قَالَ «عَلاَمَ ؟» فَقَدْ أَخْلَى مِنْهُ .

.


1- .سورة الشعراء 24 .
2- .سورة الأعراف 57 ، وهي قراءة أهل الحرمين ، وأبي عمرو .
3- .سورة النبأ 7 .

ص: 63

الشّرْحُ :إنما قال عليه السلام : « أول الدّين معرفته » ؛ لأنّ التقليد باطل ، وأوّل الواجبات الدينية المعرفة . وأميرُ المؤمنين عليه السلام أراد أوّل واجب مقصود بذاته من الدين معرفةُ البارئ سبحانه . « وكمال معرفته التصديق به » ؛ فلأنّ معرفتَه قد تكون ناقصة ، وقد تكون غير ناقصة ، فالمعرفة الناقصة هي المعرفة بأنّ للعالَم صانعا غيرَ العالم ؛ وذلك باعتبار أن الممكنَ لابدّ له من مؤثر ، فمن علم هذا فقط عَلِم اللّه تعالى ، ولكن علما ناقصا ، وأما المعرفة التي ليست ناقصة ، فأنْ تعلم أنّ ذلك المؤثّر خارج عن سلسلة الممكنات ، والخارجُ عن كلّ الممكنات ليس بممكن ، وما ليس بممكن فهو واجب الوجود ؛ فمن عَلِم أنّ للعالم مؤثرا واجبَ الوجود فقد عرفه عرفاناً أكملَ من عرفان أنّ للعالم مؤثّرا فقط ؛ وهذا الأمر الزائد هو المكنّى عنه بالتصديق به ؛ لأنّ أخصّ ما يمتاز به البارئ عن مخلوقاته هو وجوب الوجود . « وكمال التصديق به توحيدهُ » ؛ فلأنّ مَنْ علم أنّه تعالى واجبُ الوجود مصدّق بالبارئ سبحانه ؛ فالتصديق الناقص أن يقتصر على أن يعلم أنّه واجبُ الوجود فقط ، والتصديق الذي هو أكمل من ذلك وأتمّ هو العلمُ بتوحيده سبحانه ، باعتبار أنّ وجوب الوجود لا يمكن أن يكون لذاتين ؛ فمن علم البارئ سبحانه واحدا ، أي لا واجبَ الوجود إلاّ هو ، يكون أكملَ تصديقا ممّن لم يعلم ذلك . « وكمال توحيده الإخلاصُ له » ؛ فالمراد بالإخلاص له هاهنا هو نَفْيُ الجسمية والعَرَضية ولوازمهما عنه ؛ فمن عرف وحدانية البارئ ولم يعرف هذه الأُمور كان توحيده ناقصا ، ومن عرف هذه الأُمور بعد العلم بوحدانيته تعالى ؛ فهو المخلص في عرْفانه جلّ اسمه ، ومعرفته تكون أتمّ وأكمل . « وكمالُ الإخلاص له نَفْيُ الصفات عنه » (1) ، فهو تصريحٌ بالتوحيد الّذي تذهب إليه المعتزلة ، وهو نفيُ المعاني القديمة التي تُثْبِتها الأشعرية وغيرهم ، « لشهادة كلِّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف أنه غير الصفة » ، فاعرف أنّ الإخلاص له تعالى قد يكون ناقصا وقد لا يكون ، فالإخلاص الناقص هو العلم بوجوب وجوده ، وأنه واحد ليس

.


1- .« نفي الصفات عنه » : أي نفي الصفات الخارجة عن الذات وطبيعتها ، لا نفي الصفات التي هي عين الذات وحقيقتها .

ص: 64

بجسم ولا عَرَض ، ولا يصحّ عليه ما يصحّ على الأجسام والأعراض . والإخلاص التامّ هو العلم بأنّه لا تقوم به المعاني القديمة ، مضافا إلى تلك العلوم السابقة ؛ وحينئذٍ تتمّ المعرفة وتكمل . ثمّ أكّد أميرُ المؤمنين عليه السلام هذه الإشارات الإلهية بقوله : « فمَنْ وَصَف اللّه سبحانه فقد قَرَنه » ، وهذا حقّ ؛ لأنّ الموصوفَ يقارن الصفة ، والصفة تقارنه (1) . قال : « ومن قرنه فقد ثَنّاه » ، وهذا حقّ ؛ لأنّه قد أثبت قديمين ، وذلك محض التثنية . قال : « ومن ثنّاه فقد جَزّأه » ، وهذا حقّ ، لأنّه إذا أطلق لفظة اللّه تعالى على الذات والعلم القديم فقد جعل مسمّى هذا اللفظ وفائدته متجزئة ، كإطلاق لفظ « الأسود » على الذات التي حلّها سواد . قال : « ومن جَزّأه فقد جهله » ، وهذا حقّ ؛ لأنّ الجهل هو اعتقاد الشيء على خلاف ما هو به . وقال : « ومن أشار إليه فقد حَدّه » ، وهذا حقّ ؛ لأنّ كلَّ مشارٍ إليه فهو محدود ؛ لأنّ المشار إليه لابدّ أن يكون في جهة مخصوصة ، وكلّ ما هو في جهة فله حدّ وحدود ؛ أي أقطار وأطراف . قال : « ومَن حدّه فقد عدّه » ، أي جعله من الأشياء المحدثة ، وهذا حقّ ؛ لأنّ كلّ محدود معدود في الذوات المحدَثة . قال : « ومن قال : فِيمَ ؟ فقد ضمّنه » ، وهذا حقّ ؛ لأنّ مَنْ تصوّر أنه في شيء فقد جعله إمّا جسما مستَتِرا في مكان ، أو عرضا ساريا في محلّ ، والمكان متضمّن للتمكّن ، والمحلّ متضمّن للعرَض . قال : « ومن قال : علامَ ؟ فقد أخْلَى منه » ، وهذا حقّ ؛ لأنّ مَنْ تصوّر أنّه تعالى على العرش ، أو على الكرسيّ ، فقد أخلى منه غير ذلك الموضع . وأصحاب تلك المقالة يمتنِعون من ذلك ؛ ومرادُه عليه السلام إظهار تناقض أقوالهم .

الأصْلُ :كائِنٌ لاَ عَنْ حَدَثٍ ، مَوْجُودٌ لاَ عَنْ عَدَمٍ . مَعَ كُلِّ شَيْءٍ لاَ بِمُقَارَنَةٍ ، وَغَيْرُ كُلِّ شَيْءٍ لاَ بِمُزَايَلَةٍ ، فَاعِلٌ لاَ بِمَعْنَى الْحَرَكَاتِ وَالاْلَةِ . بَصِيرٌ ؛ إذْ لاَ مَنْظُورَ إلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ ، مُتَوَحِّدٌ ؛ إذْ لاَ سَكَنَ يَسْتَأْنِسُ بهِ ، وَلاَ يَسْتَوْحِشُ لِفَقْدِهِ . أَنْشَأَ الْخَلْقَ إنْشَاءً ، وَابْتَدَأَهُ ابْتِدَاءً ، بِلاَ رَوِيَّةٍ أَجَالَهَا ، وَلاَ تَجْرِبَةٍ اسْتَفَادَهَا ، وَلاَ حَرَكَةٍ أَحْدَثَها ، وَلاَ هَمَامَةِ نَفْسٍ

.


1- .أي فمن وصف اللّه بالعالم والقادر ونحوهما ، وأراد الصفة التي هي غير الموصوف فقد جعل له قرينا ، ومعنى القرين : الصاحب ، وليس له صاحب ولا صاحبة .

ص: 65

اضْطَرَبَ فِيهَا . أَحَالَ الْأَشْيَاءَ لِأَوْقَاتِها ، وَلاءَمَ بَيْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا ، وَغَرَّزَ غَرائِزَهَا ، وَألْزَمَهَا أَشْبَاحَهَا ، عَالِما بِهَا قَبْلَ ابْتِدَائِهَا ، مُحِيطا بِحُدُودِها وَانْتِهَائِهَا ، عَارفا بِقَرائِنِهَا ، وَأَحْنَائِهَا .

الشّرْحُ :قوله عليه السلام : « كائن » ، وإن كان في الاصطلاح العرفيّ مقولا على ما ينزَّه البارئ عنه ؛ فمراده به المفهوم اللغوي ؛ وهو اسم فاعل من « كان » ، بمعنى وجد ، كأنّه قال : موجود غير محدَث . فإن قيل : فقد قال بعده : « موجود لا عن عدَم » ، فلا يبقى بين الكلمتين فرق . قيل : بينهما فرق ، ومراده بالموجود لا عن عدم هاهنا وجوب وجوده ونفي إمكانه ؛ لأنّ مَنْ أثبت قديما ممكنا ، فإنه وإن نفى حدوثَه الزمانيّ فلم ينفِ حدوثَه الذاتيّ ، وأمير المؤمنين عليه السلام نفى عن البارئ تعالى في الكلمة الأُولى الحدوثَ الزمانيّ ، ونفى عنه في الكلمة الثانية الذاتي . وأمّا قوله : « مع كلّ شيء لا بمقارنة » ، فمراده بذلك أنّه يعلم الجزئيات والكليّات ، كما قال سبحانه : « مَا يَكُونُ مِن نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ » (1) . « وغير كلّ شيء لا بمزايلة (2) » ، فحقّ ؛ لأنّ الغَيْرين في الشاهد هما ما زايلَ أحدُهما الآخر وباينه بمكان أو زمان ، والبارئ سبحانه يباين الموجودات مباينة منزّهة عن المكان والزمان ، فصدَق عليه أنّه غير كلّ شيء لا بمزايلة . « فاعلٌ لا بمعنى الحركات والآلة » ، فحقّ ؛ لأنّ فعله اختراع ، والحكماء يقولون : إبداع ، ومعنى الكلمتين واحد ؛ وهو أنه يفعل لا بالحركة والآلة كما يفعل الواحد منّا ، ولا يُوجد شيئا من شيء . « بصير إذ لا منظورَ إليه من خَلْقه » (3) ، فهو حقيقةُ مذهب أبي هاشم رحمه اللهوأصحابه ؛ لأنهم يُطلقون عليه في الأزَل أنّه سميع بصير ، وليس هناك مسموع ولا مُبصَر . « متوحّد ، إذْ لا سكنَ يستأنِس به ، ويستوحش لفقده » ، ف_ «إذ» هاهنا ظرف ، ومعنى الكلام أنَّ العادة والعرف إطلاق « متوحّد » على من قد كان له من يستأنس بقربه ويستوحش ببعده فانفرد عنه ، والبارئ سبحانه يطلقَ عليه أنّه متوحِّد في الأزل ولا موجود سواه . وإذا صَدَق

.


1- .سورة المجادلة 7 .
2- .المزايلة : المفارقة والمباينة .
3- .معناه ، أنّ اللّه سبحانه عالم بخلقه قبل أن يخلقهم .

ص: 66

سَلْب الموجودات كلّها في الأزَل ، صدق سلبُ ما يؤنِس أو يوحِش ؛ فتوحّده سبحانه بخلاف توحّد غيره . « أنشأ الخلق إنشاء ، وابتدأه ابتداء » (1) ، كلمتان مترادفتان على طريقة الفصحاء والبلغاء ؛ كقوله سبحانه : « لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ » (2) . وقوله : « لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُم شِرْعَةً وَمِنْهَاجا » (3) . « بلا رَوِيَّةٍ أجالها » ، فالرويّة : الفِكْرة ، وأجالها : ردّدها . ومن رواه : « أحالها » بالحاء ، أراد صرفها . وقوله : « ولا تجربة استفادها » ، أي لم يكن قد خلق من قبلُ أجساما فحصَلت له التجربة التي أعانته على خَلْق هذه الأجسام . وقوله : « ولا حركة أحدثها » ، فيه ردّ على الكرّامية الذين يقولون : إنّه إذا أراد أنْ يخلُق شيئا مباينا عنه أحدث في ذاته حادثا ، يسمّى الإحداث ، فوقع ذلك الشيء المباين عن ذلك المعنى المتجدّد المسمَّى إحداثا . « ولا هَمامة نفس اضطرب فيها (4) » ، فيه ردٌّ على المجوس والثَّنَوِيّة القائلين بالهمامة ، ولهم فيها خَبْط طويل يذكره أصحاب المقالات ، وهذا يدلّ على صحّة ما يقال : إنّ أميرَ المؤمنين عليه السلام كان يعرف آراء المتقدمين والمتأخرين ، ويعلم العلوم كلّها ، وليس ذلك ببعيد من فضائله ومناقبه عليه السلام . « أحال الأشياء لأوقاتها » ، فمن رَواها : « أحَلّ الأشياء لأوقاتها » ، فمعناه جعل محلّ كلّ شيء ووقته ، كمحلّ الديْن . ومن رواها : « أحال » ، فهو من قولك : حال في مَتْن فرسه ، أي وثب ، وأحاله غيرُه ، أي أوْثبَه على متْن الفرس ؛ عدّاه بالهمزة ، وكأنّه لما أقرّ الأشياء فيأحيانها وأوقاتها صار كمن أحال غيرَه على فرسه . « ولاءم بين مختلفاتها » ، أي جعل المختلفات ملتئِمات ، كما قَرَن النفس الروحانية بالجسد الترابيّ ، جلّت عظمتُه ! « وغرّز غرائزها » ، المرويّ بالتشديد ، والغريزة : الطبيعة ، وجَمْعها غرائز ، وقوله : « غرّزها » ، أي جعلها غرائز ، كما قيل : سبحان من ضوّأ الأضواء ! ويجوز أنْ يكونَ من غرزتُ الإبرة بمعنى غرست . وقد رأينا في بعض النسخ بالتخفيف . « وألزمها أشباحها » ، الضمير المنصوب في « ألزمها » عائد إلى الغرائز ، أي ألزم الغرائز أشباحَها ، أي أشخاصها ، جمع شَبح ، وهذا حقّ ؛ لأنّ كلاًّ مطبوع على غريزة لازمة ، فالشّجاع لا يكون جبانا ، والبخيل لا يكون جواد ، وكذلك كلّ الغرائز لازمة لا تنتقل .

.


1- .انشأه ، وابتدأه بمعنى أوجده على غير مثال سابق .
2- .سورة فاطر 35 .
3- .سورة المائدة 48 .
4- .همامة النفس : الاهتمام والتردد .

ص: 67

« عالما بها قبل ابتدائها » ، إشارة إلى أنّه عالم بالأشياء فيما لم يزَل . وقوله : « محيطا بحدودها وانتهائها » ، أي بأطرافها ونهاياتها . « عارفا بقرائنها وأحنائها » ، القرائن جمع قَرُونة ، وهي النفس . والأحناء : الجوانب ، جمع حِنْو ، يقول : إنه سبحانه عارف بنفوس هذه الغرائز التي ألزمها أشباحَها ، عارف بجهاتها وسائر أحوالها المتعلّقة بها والصادرة عنها .

الأصْلُ :ثُمَّ أَنْشَأَ _ سُبْحَانَهُ _ فَتْقَ الْأَجْواءِ ، وَشَقَّ الْأَرْجَاءِ وَسَكَائِكَ الْهَوَاءِ ، فَأَجْرَى فِيهَا مَاءً مُتَلاطِما تَيَّارُهُ مُتَرَاكِما زَخَّارُهُ . حَمَلَهُ عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ الْعَاصِفَةِ ، واَلزَّعْزَعِ الْقَاصِفَةِ ، فَأَمَرَهَا بِرَدِّهِ ، وَسَلَّطَهَا عَلَى شَدِّهِ ، وَقَرَنَهَا إلَى حَدِّهِ . الْهَوَاءُ مِنْ تَحْتِها فَتِيقٌ ، وَالْمَاءُ مِنْ فَوْقِهَا دَفِيقٌ . ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ رِيحا اعْتَقَمَ مَهَبَّهَا ، وَأَدَامَ مُرَبَّهَا ، وَأَعْصَفَ مَجْرَاها ، وَأَبْعَدَ مَنْشَاهَا ، فَأَمَرَها بِتَصْفِيقِ الْمَاءِ الزَّخَّارِ ، وَإِثَارَةِ مَوْجِ الْبِحَارِ ، فَمَخَضَتْهُ مَخْضَ السَّقَاءِ وَعَصَفَتْ بهِ عَصْفَهَا بِالْفَضَاءِ . تَرُدُّ أَوَّلَهُ إلَى آخِرِهِ ، وَسَاجِيَهُ إلَى مَائِرِهِ ، حَتَّى عَبَّ عُبَابُهُ ، وَرَمَى بالزَّبَدِ رُكَامُهُ ، فَرَفَعَهُ في هَواءٍ مُنْفَتِقٍ ، وَجَوٍّ مُنْفَهِقٍ ، فَسَوَّى مِنْهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ، جَعَلَ سُفْلاَهُنَّ مَوْجا مَكْفُوفا ، وَعُلْيَاهُنَّ سَقْفا مَحْفُوظا ، وَسَمْكا مَرْفُوعا ، بِغَيْرِ عَمَدٍ يَدْعَمُهَا وَلاَ دِسَارٍ يَنْظِمُهَا . ثُمَّ زَيَّنَهَا بِزِينَةِ الْكَواكِبِ ، وَضِيَاءِ الثَّواقِبِ ، وَأَجْرَى فِيهَا سِرَاجا مُسْتَطِيرا ، وَقَمَرا مُنِيرا في فَلَكٍ دَائِرٍ ، وَسَقْفٍ سَائِرٍ ، وَرَقِيمٍ مَائِرٍ .

الشّرْحُ :لسائل أن يسأل فيقول : ظاهرُ هذا الكلام أنّه سبحانه خلق الفضاء والسماوات بعد خَلْق كلّ شيء ؛ لأنّه قد قال قبل : « فَطَرَ الخلائق ، ونشر الرياح ، ووتّد الأرض بالجبال » ، ثم عاد فقال : « أنشأ الخلق إنشاء ، وابتدأه ابتداء » ، وهو الآن يقول : « ثمّ أنشأ سبحانه فَتْق الأجواء » ، ولفظة « ثمّ » للتراخي . فالجواب : إنّ قوله : « ثم » هو تعقيب وتراخ ، لا في مخلوقات البارئ سبحانه ، بل في

.

ص: 68

كلامه عليه السلام ، كأنه يقول : ثم أقول الآن بعد قولي المتقدم : إنه تعالى أنشأ فتْق الأجواء . ويمكن أن يقال : إن لفظة « ثم » هاهنا تُعْطِي معنى الجمع المطلق كالواو ، ومثل ذلك قوله تعالى : « وَإنّي لَغَفَّارٌ لِّمَنْ تَابَ وآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحا ثمَّ اهْتَدَى » (1) . ثم نشرع في تفسير ألفاظه : أمّا الأجواء فجمع جَوّ ، والجوّ هنا الفضاء العالي بين السماء والأرض . والأرجاء : الجوانب ، واحدها رَجا مثل عصا . والسكائك : جمع سُكاكة ؛ وهي أعلى الفضاء ، كما قالوا : ذُؤابة وذوائب . والتيّار : الموج . والمتراكم : الذي بعضُه فوق بعض . والزّخّار : الذي يَزْخَر ، أي يمتدّ ويرتفع . والريح الزعْزع : الشديد الهبوب ، وكذلك القاصفة ؛ كأنها تُهلِك الناس بشدة هبوبها . ومعنى قوله : « فأمرها بردّه » ، أي بمنعه عن الهبوط ؛ لأنّ الماء ثقيل ، ومن شأن الثقيل الهُوىّ . ومعنى قوله : « وسلّطها على شدّه » أي على وثاقه ؛ كأنه سبحانه لما سلَّط الريح على منعه من الهبوط ؛ فكأنه قد شدّه بها وأوثقه ومنعه من الحركة . ومعنى قوله : « وقرنها إلى حَدّه » ، أي جعلها مكانا له ؛ أي جعل حدّ الماء المذكور _ وهو سطحه الأسفل _ مما ساطح الريح التي تحملها وتُقِلّه . والفتيق : المفتوق المنبسط . والدفيق : المدفوق . واعتقَم مَهَبَّها ، أي جعل هُبوبَها عقيما ، والريح العقيم : التي لا تُلْقِحُ سحابا ولا شجرا ، وكذلك كانت تلك الريح المشار إليها ؛ لأنّه سبحانه إنما خلقها لتمويج الماء فقط . وأدام مُرَبّها ، أي ملازمتها ، أربّ بالمكان مثل أَلبَّ به ، أي لازمه . ومعنى قوله : « وعصفت به عَصْفَها بالفضاء » ، فيه معنى لطيف ، يقول : إنّ الريح إذا عصفت بالفضاء الذي لا أجسام فيه كان عصفُها شديدا لعدم المانع ، وهذه الريح عصفت بذلك الماء العظيم عصفا شديدا ؛ كأنها تعصِفُ في فضاء لا ممانع لها فيه من الأجسام . والساجي : الساكن . والمائر : الذي يذهب ويجيء . وعبّ عُبَابه ، أي ارتفع أعلاه . ورُكامه : ثَبجه وهضْبته . والجوّ المنفهق : المفتوح الواسع . والموج المكفوف : الممنوع من السيلان . وعمَدٍ يَدْعمُها : يكون لها دِعامة . والدِّسار : واحد الدُّسُر وهي المسامير . والثواقب النَّيّرة : المشرِقة . وسراجا مستطيرا ، أي منتشر الضوء ، يقال : قد استطار الفجر ، أي انتشر ضوؤه ، ورقيم مائر ، أي لوح متحرّك . سُمّي الفلك رقيما تشبيها باللوح ؛ لأنّه مسطّح .

.


1- .سورة طه 82 .

ص: 69

الأصْلُ :ثُمَّ فَتَقَ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ الْعُلاَ ، فَمَلَأَهُنَّ أَطْوارا مِنْ مَلائِكَتِهِ ، مِنْهُمْ سُجُودٌ لاَ يَرْكَعُونَ ، وَرُكُوعٌ لاَ يَنْتَصِبُونَ ، وَصَافُّونَ لاَ يَتَزاَيَلُونَ ، وَمُسَبِّحُونَ لاَ يَسْأَمُونَ ، لاَ يَغْشَاهُمْ نَوْمُ الْعُيُونِ ، وَلاَ سَهْوُ الْعُقُولِ ، وَلاَ فَتْرَةُ الأَبْدَانِ ، وَلاَ غَفْلَةُ النِّسْيَانِ . وَمِنْهُمْ أُمَنَاءُ عَلَى وَحْيِهِ ، وأَلْسِنَةٌ إلَى رُسُلِهِ ، وَمُخْتَلِفُونَ بِقَضَائِهِ وَأَمْرِهِ ، وَمِنْهُمُ الْحَفَظَةُ لِعِبَادِهِ وَالسَّدَنَةُ لِأَبْوابِ جِنَانِهِ . وَمِنْهُمُ الثَّابِتَةُ في الْأَرَضِينَ السُّفْلَى أَقْدَامُهُمْ ، وَالْمَارِقَةُ مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا أَعْنَاقُهُمْ ، وَالْخَارِجَةُ مِنَ الْأَقْطارِ أَرْكانُهُمْ ، وَالْمُنَاسِبَةُ لِقَوَائِمِ الْعَرْشِ أَكْتَافُهُمْ . نَاكِسَةٌ دُونَهُ أَبْصَارُهُمْ ، مُتَلَفِّعُونَ تَحْتَهُ بِأَجْنِحَتِهِمْ مَضْرُوبَةٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ دُونَهُمْ حُجُبُ الْعِزَّةِ ، وَأَسْتَارُ الْقُدْرَةِ . لاَ يَتَوَهَّمُونَ رَبَّهُمْ بالتَّصْوِيرِ ، وَلاَ يُجْرُونَ عَلَيْهِ صِفَاتِ الْمَصْنُوعِينَ ، وَلاَ يَحُدُّونَهُ بِالأَمَاكِنِ ، وَلاَ يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالنَّظَائِرِ .

الشّرْحُ :الملَك عند المعتزلة حيوان نوريّ ؛ فمنه شفّاف عادم اللون كالهواء ، ومنه ملوّن بلون الشمس . والملائكة عندهم قادرون عالمون أحياء ، بعلوم وقُدَر وحياة ؛ كالواحد منَّا ، ومكلّفون كالواحد منّا ، إلاّ أنهم معصومون . ولهم في كيفية تكليفهم كلام ؛ لأنَّ التكليف مبنيّ على الشهوة ، وفي كيفيّة خَلْق الشهوة فيهم نظر . وقد جعلهم عليه السلام في هذا الفصل أربعة أقسام : القسم الأول : أرباب العبادة ؛ فمنهم مَنْ هو ساجد أبداً لم يقم من سجوده ليركع ، ومنهم من هو راكع أبدا لم ينتصِب قَطّ ، ومنهم الصافّون في الصلاة بين يديْ خالقهم لا يتزايلون ، ومنهم المسبّحون الذين لا يملّون التسبيح والتحميد له سبحانه . والقسم الثاني : السُّفراء بينه تعالى وبين المكلّفين من البشر بتحمّل الوحي الإلهيّ إلى الرسل ، والمختلفون بقضائه وأمره إلى أهل الأرض . والقسم الثالث : ضربان : أحدهما حَفَظة العباد كالكرام الكاتبين ، وكالملائكة الذين

.

ص: 70

يحفظون البشر من المهالك والورطات ؛ ولولا ذلك لكان العَطَب أكثرَ من السلامة ، وثانيهما سَدَنة الجِنان . القسم الرابع : حَمَلة العرش . ويجب أن يكون الضمير في « دونه » _ وهو الهاء _ راجعا إلى العرش لا إلى البارئ سبحانه . كذلك الهاء في قوله : « تحته » . ويجب أن تكون الإشارة بقوله : « وبين مَنْ دونهم » إلى الملائكة الذين دون هؤلاء في الرتبة . فأمّا ألفاظ الفصل فكلّها غنيّة عن التفسير إلاّ يسيرا ، كالسَّدنة جمع سادِن وهو الخادم ، والمارق : الخارج . وتلفّعت بالثوب ، أي التحفت به .

الأصْلُ :منها في صفة آدم عليه السلامثُمَّ جَمَعَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَزْنِ الْأَرْضِ وَسَهْلِهَا ، وَعَذْبِهَا وَسَبَخِهَا ، تُرْبَةً سَنَّهَا بالْمَاءِ حَتَّى خَلَصَتْ ، وَلاَطَهَا بِالْبَلَّةِ حَتَّى لَزَبَتْ ، فَجَبَلَ مِنْهَا صُورَةً ذاتَ أَحْنَاءٍ وَوُصُولٍ ، وَأَعْضَاءٍ وَفُصُولٍ : أَجْمَدَهَا حَتَّى اسْتَمْسَكَتْ ، وَأَصْلَدَهَا حَتَّى صَلْصَلَتْ ، لِوَقْتٍ مَعْدُودٍ ، وَأجَلٍ مَعْلُومٍ ؛ ثُمَّ نَفَخَ فِيهَا مِن رُوحِهِ فتمثّلت إنْسانا ذَا أَذْهَانٍ يُجيلُهَا ، وَفِكَرٍ يَتَصَرَّفُ بِهَا ، وَجَوَارِحَ يَخْتَدِمُهَا ، وَأَدَوَاتٍ يُقَلِّبُهَا ، وَمَعْرِفَةٍ يَفْرُقُ بِهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، وَالْأَذْوَاقِ وَالْمَشامِّ ، والْألْوان وَالْأَجْنَاس مَعْجُونا بطِينَتِهِ الْألْوانُ المُخْتَلِفَةُ ، وَالأَشْبَاهُ المُؤْتَلِفَةُ ، وَالْأَضْدَادُ الْمُتَعَادِيَةُ ، وَالْأَخْلاطُ الْمُتَبَايِنَةُ ، مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ ، وَالْبَلَّةِ وَالْجُمُودِ ، وَالمَساءَةِ وَالسُّرُورِ . وَاسْتَأْدَى اللّهُ سُبْحَانَهُ الْمَلائِكَةَ وَدِيعَتَهُ لَدَيْهِمْ ، وَعَهْدَ وَصِيَّتِهِ إلَيْهِمْ ، في الاْءِذْعَان بالسُّجُودِ لَهُ ، وَالخُنُوعِ لِتَكْرِمَتِهِ ، فَقَالَ لَهُم : « اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلاَّ إبْلِيسَ » (1) وَقَبِيلَهُ ؛

.


1- .البقرة 34 .

ص: 71

اعْتَرَتْهُم الْحَمِيَّةُ ، وَغَلَبَتْ عَلَيْهِم الشِّقْوَةُ ، وَتَعَزَّزوا بِخَلْقِهِ النَّارِ ، وَاسْتَوْهَنُوا خَلْقَ الصَّلْصَالِ ، فَأَعْطَاهُ اللّهُ النَّظِرَةَ اسْتِحْقَاقا لِلسُّخْطَةِ ، وَاسْتِتْمَاما لِلْبَلِيَّةِ ، وَإنْجازا لِلْعِدَةِ ، فَقَالَ : « فإنَّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ * إلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ » (1) .

الشّرْحُ :الحزْن : ما غُلظ من الأرض . وسَبَخُها : ما ملُح منها . وسنّها بالماء ، أي مَلَّسها ، ولاَطها ، من قولهم : لُطْتُ الحوضَ بالطين ، أي ملطته وطينته به . والبَلّة ، بفتح الباء : من البَلل . ولَزَبت ، بفتح الزاي ، أي التصقت وثبتت . فجبَل منها ، أي خلق . والأحناء : الجوانب ، جمع حِنْو . وأصلَدها : جعلها صَلْداً ، أي صُلْباً متيناً . وصلصلت : يبست ، وهو الصلصال . ويختدمها : يجعلها في مآربه وأوطاره كالخدَم الذين تستعملهم وتستخدمهم . واستأدى الملائكة وديعته : طلب منهم أداءها . والخنوع : الخضوع . والشِّقوة ، بكسر الشين ، وفي الكتاب العزيز : « رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا » (2) . واستوهَنوا : عدّوه واهناً ضعيفاً . والنَّظِرة ، بفتح النون وكسر الظاء : الإمهال والتأخير . فأمّا معاني الفصل فظاهرة ، وفيه مع ذلك مباحث : منها أن يقال : اللام في قوله : « لوقت معدود » ، بماذا تتعلق؟ والجواب : إنّها تتعلق بمحذوف تقديره : « حتى صلصلت كائنة لوقت » ، فيكون الجار والمجرور في موضع الحال ، ويكون معنى الكلام أنّه أصْلَدها حتى يبست وجفّت معدّة لوقت معلوم ، فنفخ حينئذٍ روحَه فيها . ويمكن أن تكون اللام متعلقة بقوله : « فجبل » أي جَبَل وخَلَق من الأرض هذه الجثة لوقت ، أي لأجل وقت معلوم ، وهو يوم القيامة . ومنها أن يقال : لماذا قال : « مِنْ حَزْن الأرض وسَهْلها ، وعَذْبها وسَبَخها »؟ والجواب : إنّ المراد من ذلك أن يكون الإنسانَ مركّبا من طباع مختلفة ، وفيه استعداد للخير والشرّ ، والحسَن والقبح . ومنها أن يقال : لماذا أخَّر نفخَ الروح في جثة آدم مدة طويلة ، فقد قيل : إنه بقيَ طيناً

.


1- .الحجر 37 .
2- .سورة المؤمنين 106 .

ص: 72

تشاهده الملائكة أربعين سنة ، ولا يعلمون ما المراد به؟ والجواب : يجوز أن يكون في ذلك لطف للملائكة ؛ لأنهم تذهب ظنونهم في ذلك كلّ مذهب ، فصار كإنزال المتشابهات الذي تحصل به رياضة الأذهان وتخريجها ، وفي ضمن ذلك يكون اللطف . ومنها أن يقال : ما المعنيّ بقوله : « ثُمّ نَفَخَ فِيهَا مِن رُوحِهِ »؟ الجواب : إنّ النفس لما كانت جوهرا مجردا ، لا متحيزة ولا حالّة في المتحيّز ، حَسُن لذلك نسبتها إلى البارئ ، وأما النفخ فعبارة عن إفاضة النفس على الجسد ، ويستلزم ذلك حلولَ القُوى والأرواح في الجثة باطنا وظاهرا ، سُمِّي ذلك نفخا مجازا . ومنها أن يقال : ما معنى قوله : « معجونا بطينته الألوان المختلفة »؟ الجواب : إنه عليه السلام قد فَسّر ذلك بقوله : « من الحرّ والبرد ، والبَلّة والجمود » ، يعني الرطوبة واليبوسة ، ومراده بذلك المزاج الذي هو كيفية واحدة حاصلةٌ من كيفيات مختلفة ، قد انكسر بعضها ببعض . وقوله : « معجونا » صفة « إنسانا » . والألوان المختلفة ، يعني الضروبَ والفنون ، كما تقول : في الدار ألوان من الفاكهة . ومنها أن يقال : ما المعنيّ بقوله : « واستأدى الملائكة وديعته لديهم » ؟ وكيف كان هذا العهدُ والوصية بينه وبينهم؟ الجواب : إنّ العهد والوصيةَ هو قوله تعالى لهم : « إنِّي خَالِقٌ بَشَرا مِّنْ طِينٍ * فإذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ » (1) . فإن قلت : فما معنى قوله عليه السلام : « وإنجازا لِلْعِدَة » ؟ أليس معنى ذلك أنّه قد كان وَعَده أن يُبقِيَه إلى يوم القيامة ؟! قلت : إنما وعده الإنظار ، ويمكن أن يكون إلى يوم القيامة ، وإلى غيره من الأوقات ولم يبيّن له ، فهو تعالى أنجز له وعده في الإنظار المطلق ، وما من وقت إلاّ ويجوز فيه إبليس أن يُخترم ، فلا يحصل الإغراء بالقبيح . وهذا الكلام عندنا ضعيف ، ولنا فيه نظر مذكور في كتبنا الكلامية .

.


1- .سورة ص 71 ، 72 .

ص: 73

الأصْلُ :ثُمَّ أَسْكَنَ سُبْحَانَهُ آدَمَ دَارا أَرْغَدَ فِيها عِيشَتَهُ ، وَآمَنَ فِيهَا مَحَلَّتَهُ ، وَحَذَّرَهُ إبْلِيسَ وَعَدَاوَتَهُ ، فَاغْتَرَّهُ عَدُوُّهُ نَفَاسَةً عَلَيْهِ بِدَارِ الْمُقَامِ ، وَمُرَافَقَةِ الْأَبْرَارِفَباعَ الْيَقِينَ بِشَكِّهِ ، وَالْعَزِيمَةَ بِوَهْنِهِ ، وَاسْتَبْدَلَ بِالْجَذَلِ وَجَلاً وَبِالاِغْتِرَارِ نَدَما (1) . ثُمَّ بَسَطَ اللّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ في تَوْبَتِهِ ، وَلقَّاهُ كَلِمَةَ رَحْمَتِهِ ، وَوَعَدَهُ الْمَرَدَّ إلَى جَنَّتِهِ ، وَأهْبَطَهُ إلَى دَارِ الْبَلِيَّةِ ، وَتَنَاسُلِ الذُّرِّيَّةِ .

الشّرْحُ :أمّا الألفاظ فظاهرة ، والمعاني أظهر ، وفيها ما يسأل عنه : فمنها أن يقال : الفاء في قوله عليه السلام : « فأهبطه » تقتضي أن تكون التوبة على آدم قبل هبوطه من الجنة! والجواب : إنّ ذلك أحد قولي المفسرين، ويعضده قوله تعالى: « وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى *ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهَدَى * قَالَ اهبِطَا مِنْهَا » (2) ، فجعل الهبوط بعد قبول التوبة . ومنها أن يقال : إذا كان تعالى قد طَرَدَ إبليس عن الجنة لما أبَى السجود ، فكيف توصّل إلى آدم وهو في الجنة حتى استنزَله عنها بتحسين أكل الشجرة له ؟! الجواب : إنّه يجوز أن يكون إنما مُنِع من دخول الجنة على وجه التقريب والإكرام ، وقيل : إنه دخل في جوف الحية ، كما ورد في التفسير . ومنها أن يقال : كيف اشتبه على آدم الحال في الشجرة المنهيّ عنها فخالف النهى! الجواب : إنّه قيل له : لا تقربا هذه الشجرة ، وأُريد بذلك نوع الشجرة ، فحمل آدم النهيَ على الشّخص ، وأكل من شجرة أُخرى من نوعها . ومنها أنْ يقال : هذا الكلام من أمير المؤمنين عليه السلام ، تصريح بوقوع المعصية من آدم عليه السلام ؛ وهو قوله : « فباع اليقين بشكِّه ، والعزيمة بوهْنه » ، فما قولكم في ذلك ؟

.


1- .أرغد : من الرغد ومن السعة في العيش . العزيمة : القصد المؤكد ، والاهتمام بالشيء . إغتر : من الغرّة وهي الغفلة . نفاسة عليه : حسدا لآدم على الخلود في الجنة . الجذل : الفرح .
2- .سورة طه 121 _ 123 .

ص: 74

الجواب : أمّا أصحابنا ، فإنهم لا يمتنعون من إطلاق العصيان عليه ، ويقولون إنها كانت صغيرة ، وعندهم أنّ الصغائر جائزة على الأنبياء : . وأما الإمامية فيقولون : إنّ النهيَ كان نهيَ تنزيه ، لا نهيَ تحريم ؛ لأنهم لا يجيزون على الأنبياء الغلط والخطأ ، لا كبيراً ولا صغيراً (1) .

الأصْلُ :وَاصْطَفَى سُبْحَانَهُ مِنْ وَلَدِهِ أَنْبِيَاءَ أخَذَ عَلَى الْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ ، وَعَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ ، لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اللّهِ إلَيْهِمْ فَجَهِلُوا حَقَّهُ وَاتَّخَذُوا الْأَنْدَادَ مَعَهُ ، وَاجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَاقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ ، فَبَعَثَ فِيهمْ رُسُلَهُ ، وَوَاتَرَ إلَيْهِمْ أنْبِيَاءَهُ ، لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ ، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِىَّ نِعْمَتِهِ ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بالتَّبْلِيغِ ، وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ ، وَيُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ : مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعٍ ، وَمِهَادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ ، وَمَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ ، وَآجَالٍ تُفْنِيهمْ ، وَأَوْصَابٍ تُهْرِمُهُمْ وَأَحْدِاثٍ تَتَابَعُ عَلَيْهِمْ (2) . وَلَمْ يُخْلِ اللّهُ سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ مِنْ نَبِىٍّ مُرْسَلٍ أَوْ كِتَابٍ مُنْزَلٍ ، أوْ حُجَّةٍ لاَزِمَةٍ ، أَوْ مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ : رُسُلٌ لا تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ ، وَلاَ كَثْرَةُ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ : مِنْ سَابِقٍ سُمِّيَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُ ، أَوْ غَابِرٍ عَرَّفَهُ مَنْ قَبْلَهُ .

الشّرْحُ :« اجتالتْهم الشياطين » : أدارتهم ؛ تقول : اجتال فلان فلاناً ، واجتاله عن كذا وعلى كذا ، أي أداره عليه ، كأنّه يصرِّفه تارة هكذا ، وتارة هكذا ، يُحَسِّن له فعلَه ، ويُغْريه به .

.


1- .اُنظر عبارة الصدوق في الاعتقادات : ص37 ، والسيد المرتضى في تنزيه الأنبياء : ص2 ، والعلاّمة الحلي في كشف المراد : ص274 ، وغيرهم . ولكن ذهب بعضهم إلى التفريق بين ما قبل حال النبوة وبعدها ، انظر : أوائل المقالات للشيخ المفيد : ص69 ، وتمهيد الأُصول للطوسي : ص321 .
2- .الميثاق : العهد . الأنداد : جمع ند ، وهو المثيل ، ليستأدوهم : ليطلبوا منهم الأداء . السقف المرفوع : السماء ، والمهاد الموضوع : الأرض .

ص: 75

وقوله عليه السلام : « واتَر إليه أنبياءه » ، أي بعثهم وبين كل نبيَّيْن فترة ، والأوصاب : الأمراض . والغابر : الباقي . ويُسأل في هذا الفصل عن أشياء : منها ، عن قوله عليه السلام : « أخَذَ على الوَحْي ميثاقهم » . والجواب : إنّ المراد أخَذ على أداء الوحي ميثاقَهم ، وذلك أنّ كلَّ رسول أرسِل فمأخوذٌ عليه أداءُ الرسالة . ومنها أن يقال : ما معنى قوله عليه السلام : « ليستأدُوهم ميثاقَ فِطْرَته » . والجواب : مرادُه عليه السلام بهذا اللفظ أنّه لمّا كانت المعرفة به تعالى وأدلّة التوحيد والعدل مركوزةً في العقول ، أرسلَ سبحانه الأنبياء أو بعضهم ، ليؤكدوا ذلك المركوزَ في العقول . وهذه هي الفطرةُ المشار إليها بقوله عليه السلام : « كلّ مولود يُولَد على الفطرة » . ومنها أن يقال : إلى ماذا يشير بقوله : « أو حُجّة لازمة » ؟ هل هو إشارة إلى ما يقوله الإمامية ، من أنه لا بُدّ في كلّ زمان من وجود إمام معصوم؟ الجواب : إنّهم يفسرون هذه اللفظة بذلك . ويمكن أن يكونَ المراد بها حُجّة العقل (1) . وقال في تفسير قوله عليه السلام : « مِنْ سابق سُمِّي له مَنْ بعده ، أو غابرٍ عَرّفه مَنْ قبله » . الصحيح أنّ المراد به : من نبيّ سابق عرّف مَنْ يأتي بعده من الأنبياء ، أي عرّفه اللّه تعالى ذلك ، أو نبيّ غابرٍ نص عليه مَنْ قبله ، وبشَّر به كبِشارة الأنبياء بمحمد عليه السلام .

الأصْلُ :عَلَى ذلِكَ نَسَلَتِ الْقُرُونُ ، وَمَضَتِ الدُّهُورُ ، وَسَلَفَتِ الآبَاءُ وَخَلَفَتِ الْأَبْنَاءُ ؛ إلَى أَنْ بَعَثَ اللّهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّدا رَسُولَ اللّه صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ لاِءِنْجَازِ عِدَتِهِ ، وَإتْمَامِ نُبُوَّتِهِ ، مَأْخُوذا عَلَى النَّبِيِّينَ مِيثَاقُهُ ، مَشْهُورَةً سِمَاتُهُ ، كَرِيما مِيلادُهُ . وَأَهْلُ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ ، وَأَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَةٌ ، وَطَرَائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ ، بَيْنَ مُشَبِّهٍ للّهِ بِخَلْقِهِ ، أَوْ مُلْحِدٍ في

.


1- .بل الظاهر أنّه يريد بالحجة اللاّزمة : الإمام المعصوم ، الذي أشار إليه فيما يأتي من كلامه لكميل بن زياد : « لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجّة إمّا ظاهرا مشهورا أو خائفا مغمورا » ، الحكمة 143 وبهذا تواترت الأخبار .

ص: 76

اسْمِهِ ، أَوْ مُشِيرٍ إلَى غَيْرِهِ ، فَهَداهُمْ بهِ مِنَ الضَّلاَلَةِ ، وَأَنْقَذَهُمْ بِمَكانِهِ مِنَ الْجَهَالَةِ . ثُمَّ اخْتَارَ سُبْحَانَهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ لِقَاءَهُ ، وَرَضِيَ لَهُ مَا عِنْدَهُ ، وَأَكْرَمَهُ عَنْ دَارِ الدُّنْيَا ، وَرَغِبَ بِهِ عَنْ مَقَامِ الْبَلْوَى ، فَقَبَضَهُ إلَيْهِ كَرِيما ، وَخَلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ الْأَنْبِيَاءُ في أُمَمِها _ إذْ لَمْ يَتْرُكوهُمْ هَمَلاً ، بغَيْر طَريقٍ وَاضِحٍ ، وَلاَ عَلَمٍ قَائِمٍ _ كِتَابَ رَبِّكُم فِيكُمْ : مُبَيِّنا لَكُمْ حَلالَهُ وَحَرَامَهُ ، وَفَرَائِضَهُ وَفَضَائِلَهُ ، وَنَاسِخَهُ وَمَنْسُوخَهُ ، وَرُخَصَهُ وَعَزَائِمَهُ ، وَخَاصَّهُ وَعامَّهُ ، وَعِبَرَهُ وَأَمْثَالَهُ وَمُرْسَلَهُ وَمَحْدُودَهُ ، وَمُحْكَمَهُ وَمُتَشَابِهَهُ ، مُفَسِّرا مُجْمَلَهُ ، وَمُبَيِّنا غَوَامِضَهُ ، بَيْنَ مَأْخُوذٍ مِيثَاقُ عِلْمِهِ ، وَمُوَسَّعٍ عَلَى الْعِبَادِ في جَهْلِهِ ، وَبَيْنَ مُثْبَتٍ في الْكِتَابِ فَرْضُهُ ، وَمَعْلُومٍ في السُّنَّةِ نَسْخُهُ ، وَواجبٍ في السُّنَّةِ أَخْذُهُ وَمُرَخَّصٍ في الْكِتابِ تَرْكُهُ ، وَبَيْنَ وَاجِبٍ بَوَقْتِهِ ، وَزَائِلٍ في مُسْتَقْبَلِهِ . وَمُبَايَنٌ بَيْنَ مَحَارِمِهِ ، مِنْ كَبيرٍ أوْعَدَ عَلَيْهِ نِيرَانَهُ ، أَوْ صَغِيرٍ أَرْصَدَ لَهُ غُفْرَانَهُ . وَبَيْنَ مَقْبُولٍ في أَدْنَاهُ ، مُوَسَّعٍ في أَقْصَاهُ (1) .

الشّرْحُ :قوله عليه السلام : « نَسَلت القرون » ، ولدت . والهاء في قوله : « لإنجاز عِدَته » راجعة إلى البارئ سبحانه . والهاء في قوله : « وإتمام نبوته » ، راجعة إلى محمد صلى الله عليه و آله . « مأخوذ على النبيين ميثاقه » ، قيل : لم يكن نبيّ قط إلاّ وبُشِّر بمبعث محمد صلى الله عليه و آله ، وأُخِذ عليه تعظيمه ؛ وإن كان بعدُ لم يوجد . « وأهل الأرض يومئذٍ مِللٌ متفرّقة » ، فإن العلماء يذكرون أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله بُعث والناس أصناف شتى في أديانهم : يهود ، ونصارى ، ومجوس ، وصابئون ، وعَبَدة أصنام ، وفلاسفة ، وزنادقة . ثم ذكر عليه السلام أن محمدا صلى الله عليه و آله خَلّف في الأُمّة بعده كتاب اللّه تعالى طريقا واضحا ، وعَلَما

.


1- .الفرائض : جمع فريضة ، وهي ما يجب فعله ، ولا يجوز تركه . النسخ : الإزالة . الرخصة : التسهيل والتخفيف . العزيمة : ما ألزم به الشارع ( الفرض ) . المرسل : المطلق . المحدود : المقيّد . المحكم : الواضح . المتشابه : المشكل والغامض . السنّة : شرعا ، قول المعصوم أو فعله أو تقريره . أرصد له : أعدّ له .

ص: 77

قائما ، والعلم المنار يُهتدى به . ثم قَسّم ما بيّنه عليه السلام في الكتاب أقساما . فمنها : حلاله وحرامه ، فالحلالُ كالنِّكاح ، والحرام كالزنا . ومنها : فضائله وفرائضه ، فالفضائل النوافل ، أي هي فضلة غير واجبة كركعتي الصبح وغيرهما ، والفرائض كفريضة الصبح . ومنها : ناسخة ومنسوخه ، فالناسخ كقوله : « اقْتُلُوا المُشْرِكِينَ » (1) ، والمنسوخ كقوله : « لاَ إكْراهَ فِي الدِّينِ » (2) . ومنها : رُخَصه وعزائمه ، فالرخص كقوله تعالى : « فَمَنِ اضطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ » (3) ،والعَزائم كقوله : « فَاعْلَمْ أنَّه لاَ إلهَ إلاَّ اللّهُ » (4) . ومنها خاصة وعامة ، فالخاصّ كقوله تعالى : « وَامرَأَةً مُؤمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ » (5) ، والعام كالألفاظ الدالة على الأحكام العامة لسائر المكلفين كقوله : « أقِيمُوا الصَّلاَةَ » (6) . ويمكن أن يراد بالخاصّ العمومَات التي يُراد بها الخصوص كقوله : « وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ » (7) ، وبالعام ما ليس مخصوصا ، بل هو على عمومه كقوله تعالى : « وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ » (8) . ومنها : عِبَرُهُ وأمثالُهُ ، فالعبر كقصة أصحاب الفيل ، وكالآيات التي تتضمّن النَّكال والعذابَ النازل بأمم الأنبياء من قبل ، والأمثال كقوله : « كَمَثَلِ الَّذِي استَوْقَدَ نَارا » (9) . ومنها : مرسله ومحدوده ، وهو عبارة عن المطلق والمقيَّد ، وسمّي المقيد محدودا وهي لفظة فصيحة جدا كقوله : « فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ » (10) ، وقال في موضع آخر : « فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ

.


1- .سورة التوبة 5 .
2- .البقرة 256 .
3- .سورة المائدة 3 .
4- .سورة محمد 19 .
5- .سورة الأحزاب 50 .
6- .سورة البقرة 43 .
7- .سورة النمل 23 .
8- .سورة البقرة 282 .
9- .سورة البقرة 17 .
10- .سورة النساء 92 .

ص: 78

مُؤْمِنَةٍ » (1) . ومنها : محكمه ومتشابهه ، فمحكمه كقوله تعالى : « قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ » (2) ، والمتشابه كقوله : « إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ » (3) . ثم قسم عليه السلام الكتاب قسمة ثانية ، فقال : إنّ منه ما لا يسع أحدا جهله ، ومنه ما يسع الناس جهله ؛ مثال الأول قوله : « اللّهُ لاَ إلهَ إلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ » (4) ، ومثال الثاني : « كهيعص » « حمعسق » . ثم قال : ومنه ما حكمه مذكور في الكتاب منسوخ بالسنّة ، وما حكمه مذكور في السنّة منسوخ بالكتاب ؛ مثال الأول قوله تعالى : « فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَ المَوْتُ » (5) ، نسخ بما سنّه عليه السلام من رجْم الزاني المحصَن . ثم قال : « وبين واجبٍ بوقته ، وزائل في مستقبله » ، يريد الواجبات الموقّتة كصلاة الجمعة ، فإنّها تجب في وقت مخصوص ، ويسقط وجوبها في مستقبل ذلك الوقت . ثم قال عليه السلام : « ومباين بين محارمه » ، الواجب أن يكون « ومباينٌ » بالرّفْع لا بالجرّ ، فإنه ليس معطوفا على ما قبله ، ألا ترى أنّ جميع ما قبله يستدعي الشيء وضدَّه ، أو الشيء ونقيضه . وقوله : « ومباين بين محارمه » لا نقيض ولا ضدّ له ؛ لأنّه ليس القرآن العزيز على قسمين : أحدهما مباين بين محارمه والآخر غير مباين ، فإنّ ذلك لا يجوز ، فوجب رفع « مباين » ، وأن يكون خبر مبتدأ محذوف ، ثم فسّر ما معنى المباينة بين محارمه ، فقال : إنّ محارمَه تنقسم إلى كبيرة وصغيرة ، فالكبيرة أوعد سبحانه عليها بالعقاب ، والصغيرة مغفورة . ثم عدل عليه السلام عن تقسيم المحارم المتباينة ، ورجعَ إلى تقسيم الكتاب فقال : « وبين مقبول في أدناه ، وموسّع في أقصاه » ، كقوله : « فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ » (6) ، فإنّ القليل من القرآن مقبول ، والكثير منه موسّع مرخَّص في تركه .

.


1- .سورة النساء 92 .
2- .سورة الإخلاص 1 .
3- .سورة القيامة 23 .
4- .سورة البقرة 255 .
5- .سورة النساء 15 .
6- .سورة المزمل 20 .

ص: 79

2 . من خطبة له عليه السلام بعد انصارفه من صفين

الأصْلُ :وَفَرَضَ عَلَيْكُمْ حَجَّ بَيْتِهِ الْحَرَامِ ، الَّذِي جَعَلَهُ قِبْلَةً لِلْأَنامِ ، يَرِدُونَهُ وُرُودَ الْأَنْعَامِ ، وَيَأْلَهُونَ إلَيْهِ وُلُوهَ الْحَمَامِ ، وَجَعَلَهُ سُبْحَانَهُ عَلاَمَةً لِتَوَاضُعِهمْ لِعَظَمَتِهِ ، وَإذْعَانِهمْ لِعِزَّتِهِ ، وَاخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ سُمَّاعا أَجَابُوا إلَيْهِ دَعْوَتَهُ وَصَدَّقُوا كَلِمَتَهُ ، وَوَقَفُوا مَوَاقِفَ أَنْبِيَائَ_هِ ، وَتَشَبَّهُوا بِمَلاَئَكَتِهِ الْمُطِيفِينَ بِعَرْشِهِ . يُحْرِزُونَ الْأَرْبَاحَ في مَتْجَرِ عِبادَتِهِ ، وَيَتَبادَرُونَ عِنْدَهُ مَوْعِدَ مَغْفِرَتِهِ ، جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلإِسْلاَمَ عَلَما ، وَلِلْعَائِذِينَ حَرَما ، فَرَضَ حَقَّهُ وَأَوْجَبَ حَجَّهُ ، وَكَتَبَ عَلَيْكُمْ وِفَادَتَهُ (1) ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ : « وَللّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ » (2) .

الشّرْحُ :الوَله : شدة الوجْد ؛ حتى يكاد العقل يذهب ، ولَهَ الرجل يَوْلَهَ ولَها . ومن روى : « يألهون إليه وُلوه الحمام » فسّره بشيء آخر ، وهو يعكُفون عليه عُكوف الحمام ، وأصل « أَلَه » عبَد ، ومنه الإله ، أي المعبود . ولما كان العكوف على الشيء كالعبادة له لملازمته والانقطاع إليه قيل : ألَه فلان إلى كذا ، أي عكَف عليه كأنه يعبده .

2الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلام بعد انصرافه من صفينأَحْمَدُهُ اسْتِتْمَاما لِنِعْمَتِهِ ، وَاسْتِسْلاَما لِعِزَّتِهِ ، وَاسْتِعْصَاما مِنْ مَعْصِيَتِهِ وَأَسْتَعِينُهُ

.


1- .الإذعان : الانقياد . يتبادرون : يتسارعون . العائذين : جمع عائذ ، وهو المستجير والملتجئ . الوفادة : الزيارة .
2- .سورة آل عمران 97 .

ص: 80

فَاقَةً إلَى كِفَايَتِهِ ؛ إنِّهُ لاَ يَضِلُّ مَنْ هَدَاهُ ، وَلاَ يَئِلُ مَن عَادَاهُ ، وَلاَ يَفْتَقِرُ مَنْ كَفَاهُ ؛ فَإنَّهُ أَرْجَحُ ما وُزنَ ، وَأَفْضَلُ مَا خُزِنَ . وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إلهَ إلاَّ اللّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، شَهَادَةً مُمْتَحَنا إخْلاَصُهَا ، مُعْتَقَدا مُصَاصُهَا نَتَمَسَّكُ بها أَبَدا ما أَبْقانَا ، وَنَدَّخِرُهَا لِأَهَاوِيلِ مَا يَلْقَانَا ، فَإنَّهَا عَزيمَةُ الاْءِيمَانِ ، وَفَاتِحَةُ الإحْسَانِ ، وَمَرْضَاةُ الرَّحْمَانِ ، وَمَدْحَرَةُ الشَّيْطَانِ (1) .

الشّرْحُ :وَأَلَ ، أي نجا ، يئِل . والمُصاص : خالص الشيء . والفاقة : الحاجة والفقر . الأهاويل : جمع أهوال ، والأهوال : جمع هَوْل ، فهو جمع الجمع ، كما قالوا : أنعام وأناعيم . والعزيمة : النية المقطوع عليها . ومدحرة الشيطان ، أي تدحَره ، أي تبعده وتطرده . وقوله عليه السلام : « استتماما » و « استسلاما » و « استعصاما » من لطيف الكناية وبديعها ، فسبحان مَنْ خصّه بالفضائل التي لا تنتهي ألسنةُ الفصحاء إلى وصفها ، وجعله إمام كل ذي علم ، وقدوةَ كلّ صاحب خِصِّيّة! وقوله : « فإنه أرجح » ، الهاء عائدة إلى ما دلّ عليه قوله : « أحمده » ، يعني الحمد ، والفعل ، يدلّ على المصدر ، وترجع الضمائر إليه كقوله تعالى : « بَلْ هُوَ شَرٌّ » (2) وهو ضمير البخل الذي دلّ عليه قوله : « يبخلون » .

الأصْلُ :وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، أَرْسَلَهُ بِالدِّينِ الْمَشْهُورِ وَالْعَلَمِ الْمَأْثُورِ ، وَالْكِتَابِ الْمَسْطُورِ ، وَالنُّورِ السَّاطِعِ ، وَالضِّيَاءِ اللاَّمِعِ ، وَالأَمْرِ الصَّادِعِ ، إزَاحَةً لِلشُّبُهَاتِ ، وَاحْتِجَاجا بِالبَيِّنَاتِ ، وَتَحْذِيرا بِالآيَاتِ ، وَتَخْوِيفا بِالْمَثُلاَتِ ، وَالنَّاسُ

.


1- .استتماما : طلبا للتمام . واستسلاما : انقيادا . واستعصاما : طلبا للعصمة وهي المنعة . ومصاصها : خلوصها من كلّ شائبة . وأهاويل : مخاوف . المدحرة : الطرد والبعد .
2- .سورة آل عمران 180 .

ص: 81

في فِتَنٍ انْجَذَمَ فِيها حَبْلُ الدِّينِ ، وَتَزَعْزَعَتْ سَوَارِي الْيَقِينِ ، وَاخْتلَفَ النَّجْرُ ، وَتَشَتَّتَ الْأَمْرُ ، وَضَاقَ الْمَخْرَجُ ، وَعَمِيَ الْمَصْدَرُ ، فَالْهُدَى خَامِلٌ ، وَالْعَمَى شَامِلٌ . عُصِيَ الرَّحْمانُ ، وَنُصِرَ الشَّيْطَانُ ، وَخُذِلَ الاْءِيمَانُ ، فَانْهَارَتْ دَعَائِمُهُ ، وَتَنَكَّرَتْ مَعَالِمُهُ ، وَدَرَسَتْ سُبُلُهُ ، وَعَفَتْ شُرُكُهُ أَطَاعُوا الشَّيْطَانَ فَسَلَكُوا مَسَالِكَهُ ، وَوَرَدُوا مَنَاهِلَهُ ، بِهِمْ سَارَتْ أَعْلامُهُ ، وَقَامَ لِوَاؤُهُ ، في فِتَنٍ دَاسَتْهُمْ بِأَخْفَافِهَا ، وَوَطِئَتْهُمْ بأَظْلاَفِهَا ، وَقَامَتْ عَلَى سَنَابِكِهَا ، فَهُمْ فِيهَا تَائِهُونَ حَائِرُونَ جَاهِلُونَ مَفْتُونُونَ ، في خَيْر دَارٍ ، وَشَرِّ جِيرَانٍ . نَوْمُهُمْ سُهُودٌ ، وَكُحْلُهُمْ دُمُوعٌ ، بأَرْضٍ عَالِمها مُلْجَمٌ وَجَاهِلُها مُكْرَمٌ .

الشّرْحُ :قوله عليه السلام : « والعلم المأثور » ، يجوز أن يكون عَنَى به القرآن ؛ لأنّ المأثور المحكيّ ، والعلم ما يُهتدى به ، والمتكلّمون يسمون المعجزات أعلاما . ويجوز أن يريدَ به أحدَ معجزاته غير القرآن ؛ فإنها كثيرة ومأثورة ، ويؤكد هذا قولُه بعد : « والكتاب المسطور » ، فدلّ على تغايُرهما ، ومن يذهب إلى الأول يقول : المراد بهما واحد ، والثانية توكيدُ الأُولى على قاعدة الخطابة والكتابة . والصادع : الظاهر الجليّ ، قال تعالى : « فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمَرُ» (1) أي أظهره ولا تخفه . والمثُلات ؛ بفتح الميم وضم الثاء : العقوبات ، جمع مَثُلَة قال تعالى : « وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسيّئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ المَثُلاَتُ » (2) . وانجذم : انقطع . والسَّواري : جمع سارية ، وهي الدِّعامهُ يدعم بها السّقف . والنَّجْر : الأصل ، ومثله النِّجار . وانهارَت : تساقطت . والشرُك : الطرائق ، جمع شِراك . والأخفاف للإبل ، والأظلاف للبقر والمعِز . « في خير دار » يعني مكة ، و « شر جيران » ، يعني قريشاً ، وهذا لفظ النبي صلى الله عليه و آله حين حَكَى بالمدينة حالةً كانت في مبدأ البعثة ، فقال : « كنت في خير دار » و « شر جيران » ، ثم حكى عليه السلام ما جرى له مع عُقْبة بن أبي مُعَيْط ، والحديث مشهور .

.


1- .سورة الحجر 94 .
2- .سورة الرعد 6 .

ص: 82

وقوله : « نومهم سهود ، وكحلهم دموع » مثل أن يقول : جودهم بخل ، وأمنهم خوف ، أي لو استماحهم محمد عليه السلام النومَ لجادوا عليه بالسهود ، عوضا عنه ، ولو استجداهم الكُحْل لكان كحلهم الذي يصلونه به الدموع . ثم قال : « بأرض عالمها مُلْجَم » ، أي من عرف صدق محمد صلى الله عليه و آله وآمن به في تقيّة وخوف . « وجاهلها مكرم » ، أي مَنْ جحد نبوته وكَذّبه في عز ومنعة ، وهذا ظاهر .

الأصْلُ :ومنها يعني آل النبي صلى الله عليه و آلههُمْ مَوْضِعُ سِرِّهِ ، وَلَجَأُ أَمْرِهِ ، وَعَيْبَةُ عِلْمِهِ ، وَمَوْئِلُ حُكْمِهِ ، وَكُهُوفُ كُتُبِهِ ، وَجِبَالُ دِينِهِ ، بِهِمْ أَقَامَ انْحِناءَ ظَهْرِهِ ، وَأَذْهَبَ ارْتِعَادَ فَرَائِصِهِ .

الشّرْحُ :اللجأ : ما تلتجئ إليه ، كالوزَر ما تعتصم به . والموئل : ما ترجع إليه ؛ يقول : إنّ أمر النبي صلى الله عليه و آله ، أي شأنه ملتجِئ إليهم ، وعلمه مودَع عندهم ؛ كالثوب يودَع العيْبة . وحُكْمه ، أي شرعه يرجع ويؤول إليهم . وكتبه _ يعني القرآن _ والسنة عندهم ، فهم كالكهوف له ؛ لاحتوائهم عليه . وهم جبال دينه لا يتحلحلون عن الدين ؛ أو أنّ الدين ثابت بوجودهم ؛ كما أنّ الأرض ثابتة بالجبال ، ولولا الجبال لمادتْ بأهلها . والهاء في « ظهره » ترجع إلى الدين ، وكذلك الهاء في « فرائصه » ، والفرائص : جمع فَرِيصة ، وهي اللحمة بين الجنب والكتف لا تزال ترعَد من الدابة .

الأصْلُ :ومنها في المنافقينزَرَعُوا الْفُجُورَ ، وَسَقَوْهُ الْغُرُورَ ، وَحَصَدُوا الثُّبُورَ ، لا يُقَاسُ بِآلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللّهُ

.

ص: 83

عَلَيْهِ وَآلِهِ مِنْ ه_ذِهِ الأُمَّةِ أَحَدٌ ، وَلا يُسَوَّى بِهِمْ مَنْ جَرَتْ نِعْمَتُهُمْ عَلَيْهِ أَبَدا ؛ هُمْ أَسَاسُ الدِّينِ ، وَعِمادُ الْيَقِينِ . إلَيْهِمْ يَفِيءُ الْغَالِي ، وَبِهِمْ يُلْحَقُ التَّالي . وَلَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الْوِلايَةِ ، وَفِيهِمُ الْوَصِيَّةُ وَالْوِرَاثَةُ ؛ الاْنَ إذْ رَجَعَ الْحَقُّ إلَى أَهْلِهِ ، وَنُقِلَ إلَى مُنْتَقَلِهِ (1) !

الشّرْحُ :جعل ما فعلوه من القَبيح بمنزلة زَرْع زرعوه ، ثم سقوْه ، فالذي زرعوه الفجور ، ثم سقوْه بالغرور ، والاستعارة واقعة موقعَها ؛ لأنّ تماديَهم ، وما سكنت إليه نفوسهم من الإمهال ، هو الذي أوجب استمرارهم على القبائح التي واقعوها ، فكان ذلك كما يُسقى الزرع ، ويربّى بالماء ، ويستحفظ . « وحصدوا الثبور » ، أي كانت نتيجة ذلك الزرع والسقي حصادَ ما هو الهلاك والعطب . وإشارته هذه ليست إلى المنافقين كما ذكر الرضيّ ؛ ، وإنما هي إشارة إلى مَنْ تغلّب عليه ، وجَحد حقه كمعاوية وغيره . ولعل الرضيّ ؛ تعالى عرَف ذلك وكنّى عنه . ثم عاد إلى الثناء على آل محمد صلى الله عليه و آله ، فقال : « هم أُصول الدين ، إليهم يفيء الغالي ، وبهم يلحَق التالي » ؛ جعلهم كمقْنب يسير في فلاة ، فالغالي منه أي الفارط المتقدم ، الذي قد غَلا في سيره يرجع إلى ذلك المِقْنب إذا خاف عدوا ، ومن قد تخلّف عن ذلك المِقْنب فصار تالياً له يلتحق به إذا أشفَق من أن يتخطّف (2) .

.


1- .الفجور : العدول عن الحق ، القبائح . الغرور : الخداع والباطل . الغالي : هو الزيادة في تجاوز الحد . التالي : المقصّر ضد الغالي .
2- .فأهل البيت هم ميزان الأعمال ، وبهم يقاس تفريط من قصّر عن بلوغ الحق ، وإفراط من تجاوز الحدّ في غلوّه ، حيث جعلهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عِدل الكتاب ، فالسالك سبيلهم سالك سبيل الهدى والصواب ، فقال : « إني تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض » . انظر : صحيح مسلم 4 : 1873 ، 1874 / ح36 ، 37 . وسنن الترمذي 5:662 ، 663 / ح3786 ، 3788 . وغيرهما . كما قال صلى الله عليه و آله وسلم : «مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق » . انظر : المستدرك للحاكم 3:148 ، 109 ، والهيثمي في مجمع الزوائد 9:162 ، 163 وغيرهما .

ص: 84

ثم ذكر خصائص حق الولاية ، والولاية : الإمْرة ؛ فأمّا الإمامية فيقولون : أراد نصّ النبي صلى الله عليه و آله عليه وعلى أولاده . ونحن نقول : لهم خصائص حق ولاية الرسول صلى الله عليه و آله على الخلق . ثم قال عليه السلام : « وفيهم الوصية والوراثة » . أمّا الوصية فلا ريبَ عندنا أنّ عليا عليه السلام كان وصيّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وإنْ خالف في ذلك من هو منسوب عندنا إلى العناد ، ولسنا نعني بالوصية النصَّ والخلافة ، ولكن أُموراً أُخرى لعلّها _ إذا لُمِحت _ أشرفُ وأجلّ . وأمّا الوراثة فالإمامية يحمِلونها على ميراث المال ، والخلافة ، ونحن نحملها على وراثة العلم . ثم ذكر عليه السلام أنّ الحق رجع الآن إلى أهله ؛ وهذا يقتضي أن يكونَ فيما قبل في غير أهله ، ونحن نتأوّل ذلك على غير ما تذكره الإماميّة ، ونقول : إنّه عليه السلام كان أوْلى بالأمر وأحقّ ، لا على وجه النصّ ، بل على وجه الأفضليّة ، فإنه أفضلُ البشر بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وأحقُّ بالخلافة من جميع المسلمين ؛ لكنه ترك حقَّه لما علمه من المصلحة ، وما تفرّس فيه هو والمسلمون من اضطراب الإسلام ، وانتشار الكلمة ، لحسد العرب له ، وضغْنهم عليه . وجائز لمن كان أوْلى بشيء فتركه ثم استرجعه أن يقول : « قد رجع الأمر إلى أهله » 1 .

.

ص: 85

« وانتقل إلى منتَقَله » ، فيه مضاف محذوف ، تقديره : « إلى موضع منتقله » ، والمنتَقل بفتح القاف مصدر بمعنى الانتقال . فقد رجع الأمر إلى نصابه ، وإلى الموضع الذي هو على الحقيقة الموضعُ الذي يجب أن يكون انتقالُه إليه . فإن قيل : ما معنى قوله عليه السلام : « لا يقاس بآل محمد من هذه الأُمّة أحد ، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا » . قيل : لا شبهةَ أن المنعم أعلى وأشرفُ من المنعَم عليه ، ولا ريب أنّ محمداً صلى الله عليه و آله وأهله الأدنيْن من بني هاشم ، لا سيما عليّ عليه السلام ، أنعَموا على الخلْق كافة بنعمة لا يقدّر قدرها ، وهي الدعاء إلى الإسلام والهداية إليه ، فمحمد صلى الله عليه و آله وإن كان هَدَى الخلق بالدعوة التي قام بها بلسانه ويده ، ونصره اللّه تعالى له بملائكته وتأييده ، وهو السيّد المتبوع ، والمصطفى المنتجب الواجب الطاعة ، إلاّ أنّ لعليّ عليه السلام من الهداية أيضا _ وإن كان ثانيا لأوّل ، ومصلِّيا على إثر سابق _ ما لا يُجحد ، ولو لم يكن إلاّ جهادُه بالسيف أولاً وثانيا ، وما كان بين الجهاديْن من نشر العلوم وتفسير القرآن وإرشاد العرب إلى ما لم تكن له فاهمة ولا متصوّرة ، لكفى في وجوب حَقّه ، وسبوغ نعمته عليه السلام . فإن قيل : لا ريب في أنّ كلامه هذا تعريض بمن تقدم عليه ، فأيّ نعمة له عليهم ؟ قيل : نعمتان . الأُولى منهما : الجهاد عنهم وهم قاعدون ، فإنّ من أنصفَ علم أنّه لو لا سيف علي عليه السلام لاصطلم المشركون من أشار إليه وغيرهم من المسلمين ، وقد علمتَ آثاره في بدر ، وأحد ، والخندق ، وخَيْبر ، وحُنَين ؛ وأنّ الشرك فيها فَغَرفاه ، فلو لا أن سدّه بسيفه لالتْهَم المسلمين كافة ، والثانية : علومه التي لولاها لحُكِم بغير الصواب في كثير من الأحكام ، وقد اعترف عمر له بذلك ، والخبر مشهور : « لولا علي لهلك عمر » . ويمكن أن يخرّج كلامه على وجه آخر ؛ وذلك أنّ العرب تفضِّل القبيلة التي منها الرئيس الأعظم على سائر القبائل ، وتفضّل الأدنى منه نسباً ، فالأدنى على سائر آحاد تلك القبيلة ... فكذلك لما كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم رئيسَ الكلّ ، والمنعِمَ على الكلّ ، جاز لواحد من بني هاشم ؛ لاسيما مثل عليّ عليه السلام أن يقول هذه الكلمات .

.

ص: 86

3 . من خطبة له عليه السلام وهي المعروفة بالشقشقية

واعلم أنّ عليا عليه السلام كان يدّعي التقدّمَ على الكلّ ، والشرف على الكلّ ، والنعمةَ على الكلّ ، بابن عمه صلى الله عليه و آله ، وبنفسه وبأبيه أبي طالب ، فإنّ من قرأ علوم السّير عرف ، أنّ الإسلام لو لا أبو طالب لم يكن شيئا مذكورا . واعلم أنّ هذه الكلمات ؛ وهي قوله عليه السلام : « الآن إذ رجع الحق إلى أهله ... » إلى آخرها يبعدُ عندي أن تكون مقولة عقِيب انصرافه عليه السلام من صفِّين ؛ لأنّه انصرف عنها وقتئذٍ مضطربَ الأمر ، منتشرَ الحبل ؛ بواقعة التحكيم ، ومكيدة ابن العاص ، وما تمَّ لمعاويةَ عليه من الاستظهار ، وما شاهد في عسكره من الخذلان . وهذه الكلمات لا تقال في مثل هذه الحال ، وأخْلق بها أن تكونَ قيلت في ابتداء بَيْعته ، قبل أن يخرج من المدينة إلى البصرة ، وأنّ الرضي رحمه الله نقل ما وجد ، وحكى ما سمع ، والغلط من غيره ، والوهم سابق له . وما ذكرناه واضح .

3الأصْلُ :ومن خطبة له وهي المعروفة بالشقشقيةأَمَا وَاللّه لَقَدْ تَقَمَّصَها ابن أبي قحافة ، وَإنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى . يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ ، وَلا يَرْقَى إلَيَّ الطَّيْرُ ؛ فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثُوْبا ، وَطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحا ، وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ ، أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ ، يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَيَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ ، وَيَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهْ ؛ فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى ، فَصَبَرْتُ وَفي الْعَيْنِ قَذَىً ، وَفي الْحَلْقِ شَجا ، أَرَى تُرَاثي نَهْبا (1) .

.


1- .تقمصها : لبسها كالقميص ، القطب : من الرحى المحور الذي تدور عليه ، وقطب الشيء : ملاكه ومداره . طفقتُ : شرعت . أرتئي : أفكر للرأي الأصلح . هاتا : هذه . أحجى : أجدر . القذى : ما يقع في العين من تبنة ونحوها . الشجا : ما يعترض في الحلق من عظم ونحوه .

ص: 87

الشّرْحُ :سدلت دونها ثوباً ، أي أرخيتُ ، يقول : ضربت بيني وبينها حجابا ؛ فِعْلَ الزاهد فيها ، الراغب عنها . وطويت عنها كشحاً ، أي قطعتها وصرمتها ؛ وهو مثلٌ ، قالوا : لأنّ مَنْ كان إلى جانبك الأيمن ماثلاً فطويت كشحكَ الأيسر فقد مِلْتَ عنه ، والكشح : ما بين الخاصرة والجنب . وعندي ، أنّهم أرادوا غير ذلك ، وهو أنّ من أجاع نفسَه فقد طوى كشحه ، كما أنّ مَنْ أكل وشبِع فقد ملأ كشحَه ، فكأنّه أراد أنّي أجعتُ نفسي عنها ، ولم ألتهمها . واليد الجذاء بالدال المهملة وبالذال المعجمة ، والحاء المهملة مع الذال المعجمة ، كلّه بمعنى المقطوعة . والطَّخْية : قطعة من الغيم والسحاب . وقوله : « عمياء » ، تأكيد لظلام الحال واسودادها ، يقولون : مفازة عمياء ، أي يعمى فيها الدليل . ويكدح : يسعى ويكدّ مع مشقة ، قال تعالى : « إنَّك كَادِحٌ إلَى رَبِّكَ كَدْحا » (1) . وهاتا بمعنى هذه ، « ها » للتنبيه ، و « تا » للإشارة ، ومعنى « تا » ذي ، وهذا أحجى من كذا أي أليق بالحجا ، وهو العقل . وفي هذا الفصل من باب البديع في علم البيان عشرة ألفاظ : أولها : « لقد تقمصها » ، أي جعلها كالقميص مشتملة عليه ، والضمير للخلافة ، ولم يذكرها للعلم بها . الثانية : « ينحدر عني السيل » ، يعني رفعة منزلته عليه السلام ، كأنه في ذروة جبل أو يفاع مشرف ، ينحدر السيل عنه إلى الوهاد والغيطان . الثالثة : قوله عليه السلام : « ولا يَرْقَى إليّ الطير » ، هذه أعظمُ في الرفعة والعلوّ من التي قبلها ؛ لأنّ السيل ينحدر عن الرابية والهضبة ، وأما تعذّرُ رقيّ الطير فربما يكون للقلال الشاهقة جدّا ، بل ما هو أعلى من قِلال الجبال ، كأنه يقول : إني لعلوّ منزلتي كمن في السماء التي يستحيل أن يَرْقى الطير إليها . الرابعة : « سدلت دونها ثوبا » ، قد ذكرناه . الخامسة : « وطويت عنها كشحاً » ، قد ذكرناه أيضا .

.


1- .سورة الانشقاق 6 .

ص: 88

السادسة : « أَصُولُ بيدٍ جَذّاء » ، قد ذكرناه . السابعة : « أصْبِر على طَخْية عمياء » ، قد ذكرناه أيضا . الثامنة : « وفي العين قذى » ، أي صبرت على مضض كما يصبر الأرمد . التاسعة : « وفي الحَلْق شَجا » ، وهو ما يعترض في الحلْق ، أي كما يصبر من غَصَّ بأمرٍ فهو يكابد الخَنْق . العاشرة : « أرى تُراثي نَهْبا » ، كنى عن الخلافة بالتراث ، وهو الموروث من المال . فأمّا قوله عليه السلام : « إن محلّي منها محلّ القُطْب من الرحى » ، فليس من هذا الَّنمط الذي نحن فيه ، ولكنه تشبيه محض ، خارج من باب الاستعارة والتوسع ؛ يقول : كما أنّ الرحى لاتدور إلاّ على القُطْب ، ودورانُها بغير قَطْب لا ثمرة له ولا فائدة فيه ، كذلك نِسْبتي إلى الخلافة ، فإنها لا تقوم إلاّ بي ، ولا يدور أمرُها إلاّ عليّ ، وعندي ، أنّه أراد أمراً آخر ، وهو أنّي من الخلافة في الصميم ، وفي وَسَطها وبُحْبُوحَتِها ؛ كما أن القطب وسط دائرة الرحى . وأمّا قوله : « يَهْرُم فيها الكبير ، ويَشيب فيها الصغير » ، فيمكن أنْ يكونَ من باب الحقائق ، ويمكن أن يكون من باب المجازات والاستعارات ؛ أمّا الأول ، فإنه يعني به طولَ مدة ولاية المتقدّمين عليه ، فإنها مدة يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير . وأمّا الثاني ، فإنه يعني بذلك صعوبةَ تلك الأيام ؛ حتى إنّ الكبير من الناس يكاد يَهْرم لصعوبتها ، والصغير يشيب من أهوالها ، كقولهم : هذا أمر يَشيب له الوليد ؛ وإن لم يَشِب على الحقيقة . وقوله عليه السلام : « حتى يَلْقى ربّهْ » بالوقف والإسكان ، كما جاءت به الروايةُ في قوله سبحانه : « ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهْ » (1) بالوقف أيضا .

الأصْلُ :حَتَّى مَضَى الْأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ ، فَأَدْلَى بِهَا إلَى ابن الخَطَّابِ بَعْدَهُ : شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَاوَيَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِرِ فَيَا عَجَبا !! بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُها في حَيَاتِهِ إذْ عَقَدَهَا لآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ _ لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا

.


1- .سورة البينة 8 .

ص: 89

ضَرْعَيْهَا ! _ فَصَيَّرَهَا في حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا ، وَيَخْشُنُ مَسُّهَا ، وَيَكْثُرُ الْعِثَارُ فِيهَا ، وَالاِْعْتِذَارُ مِنْهَا ، فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ إنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ ، وَإنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ ، فَمُنِيَ النَّاسُ _ لَعَمْرُ اللّهِ _ بِخَبْطٍ وَشِمَاسٍ ، وَتَلَوُّنٍ وَاعْتِرَاضٍ ؛ فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ ، وَشِدَّةِ الْمِحْنَةِ (1) .

الشّرْحُ :مضى لسبيله : مات ، والسّبيل الطريق ، وتقديره : مضى على سبيله ، وتجيء اللاّم بمعنى « على » ، كقوله : فَخَرَّ صَرِيعا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ وقوله : « فأدْلَى بها » من قوله تعالى : « وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إلَى الْحُكَّامِ » (2) ، أي تدفعوها إليهم رِشْوَة ، وأصله من : أدليتَ الدّلو في البئر ، أرسلتَها . فإن قلت : فإنّ أبا بكر إنما دفَعها إلى عمر حين مات ، ولا معنى للرِّشوة عند الموت! قلت : لما كان عليه السلام يَرَى أنّ العدول بها عنه إلى غيره إخراج لها إلى غير جهة الاستحقاق ، شبّه ذلك بإدلاء الإنسان بمالِه إلى الحاكم ، فإنه إخراج للمال إلى غير وجهه . وأمّا البيت الذي تمثل به عليه السلام ، فإنه للأعشى الكبير ، أعشى قيس . وهو أبو بصير ميمون بن قيس بن جَنْدل . وشَتّان أصله شتت . يقول : شتان يومى وأنا في الهاجرة والرمضاء ، أسيرُ على كور هذه الناقة ، ويوم حَيَّان وهو في سَكْرة الشراب ، ناعم البال ، مرفّه من الأكدار والمشاقّ . يقول أمير المؤمنين عليه السلام : شتان بين يومي في الخلافة مع ما انتقض علَيّ من الأمر ، ومُنِيت به من انتشار الحبل ، واضطراب أركان الخلافة ، وبين يوم عمر حيثُ وليها على قاعدة ممهّددة ، وأركان ثابتة ،

.


1- .كالادلاء : الإرثاء ، كورها : كور الناقة رحلها . شتان : بَعُد وافترق . يستقيلها : يطلب الإقالة منها ، أي التخلّي عنها . حوزة : طبيعة . الضرع : للناقة كالثدي للمرأة ، كلمها : جرحها . العثار : الزلل . أشنق الناقة : جذبها إليه بالزمام . وأسلس للناقة : أرخى لها الزمام . تقحّم : هلك .
2- .سورة البقرة 188 .

ص: 90

سكون شامل ، فانتظم أمرُه ، واطَّرد حاله ، وسكنت أيامه (1) . قوله عليه السلام : « فيا عجباً » أصله ، فياعجبي ، قال : العجب منه ، وهو يستقيل المسلمين من الخلافة أيام حياته ، فيقول : أقيلوني ، ثم يعقدها عند وفاته لآخر ، وهذا يناقض الزهد فيها والاستقالة منها . وقال شاعر من شعراء الشِّيعة : حَمَلُوها يومَ السَّقيفَةِ أوزارا تَخفُّ الجبال وَهِيَ ثِقَالُ ثم جاءوا من بَعْدِهَا يستقِيلُونَ ، وهيهاتَ عثرة لا تقالُ! وقوله عليه السلام : « لشدّ ما تشطَّرا ضرعيها » ، شدّ ، أصله « شدد » ، كقولك : حبّ في « حبذا » أصله حَبَب ، ومعنى « شدّ » صار شديدا جدّا ، ومعنى « حبّ » صار حبيبا . وللناقة أربعة أخلاف : خِلْفان قادمان وخِلْفان آخران ، وكلّ اثنين منهما شطر وتَشَطَّرا ضَرْعيها : اقتسما فائدتها ونفعها ، والضمير للخلافة ، وسَمّى القادميْن معاً ضَرْعاً ، وسمَّى الآخرين مَعا ضَرْعاً لمَّا كانا لتجاورهما ، ولكونهما لا يُحْلَبَان إلاّ معاً ، كشيء واحد . قوله عليه السلام : « فجعلها في حَوزَة خشناء » ، أي في جهة صعبة المرام ، شديدة الشَّكيمة. والكَلم : الجرح . وقوله : « يغلُظ » الجُرج إذا أمعن وعَمُق ، فكأنَّه قد تضاعف وصار جُروحاً ، فسمّي غليظا . إن قيل : قد قال عليه السلام « في حَوزَةٍ خَشْنَاء » ، فوصفها بالخشونة ، فكيف عاد ذكر الخشونة ثانية فقال : « يَخْشُنُ مَسُّها »؟ قيل : الاعتبار مختلف ؛ لأنّ مراده بقوله « في حوزة خشناء » أي لا يُنال ما عندها ولا يرام ، يقال : إنّ فلانا الخشِن الجانب ووعر الجانب ، ومراده بقوله : « يَخْشنُ مَسُّها » ، أي تؤذي وتضر وتنكئ مَنْ يمسّها ؛ يصف جفاء أخلاق الوالي المذكور (2) ، ونفور طبعه وشدة

.


1- .إنّ الإمام عليه السلام كان يعتقد أنّ عمر جعل في عنقه بيعة أبي بكر ، ليصير الأمر إليه من بعده . وقد صرح بذلك تارة لعمر بقوله : « احلب حلبا لك شطره ، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غداً » ، راجع الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1:29 بتحقيق علي شيري ، والأصل من هذا الكتاب 6:11 _ 12 . ولذا جعل تصيير أبي بكر الأمر إلى عمر إرشاءً له . وتارة لعبد الرحمن بن عوف في يوم بيعة عثمان : « واللّه ما فعلتها إلاّ لأنك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه ، دقّ اللّه بينكما عطر منشم » . ذكره ابن أبي الحديد ، راجع الأصل من هذا الشرح 1:188 .
2- .ويقصد به عمر بن الخطاب . والمعروف من سيرة عمر ، أنها كانت بالعنف والعجرفة ، وبالجهل وقلّة المعرفة وبأن معاملته للناس كانت خبطا ، وشماسا أي محاباة وإيثارا ، كما فعل في العطاء . وشبّه عمله بفعل البعير النادّ الشارد ، وبفعل الفرس الشموس ، وتقلّبا في الأقوال والأفعال إذ كان في أخلاق عمر وألفاظه جفاء وعنجهية ظاهرة ، منها _ الكلمة التي قالها في مرض رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم _ إنّه ليهجر ، حينما قال : آتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً ، قال ابن أبي الحديد : ولكنه أرسلها على مقتضى خشونة غريزته ، وفي شرح النهج 1 : 181 _ 183 تجد الكثير من المصاديق على سلوكه هذا .

ص: 91

بادرته . قوله عليه السلام : « ويكثر العِثار فيها ، والاعتذار منها » ، يقول : ليست هذه الجهة جَدَدا مَهْيَعا ، بل هي كطريق كثيرة الحجارة ، لا يزال الماشي فيه عاثرا . وأما « منها » في قوله عليه السلام : « والاعتذار منها » ، فيمكن أن تكون « مِنْ » على أصلها ، يعني أنّ عمر كان كثيرا ما يحكُم بالأمر ثم ينقضُه ، ويفتِي بالفُتْيا ثم يرجع عنها ، ويعتذر مما أفتى به أولاً . والصَّعْبة من النوق : ما لم تُرْكَبُ ولم تُرَضْ ، إنْ أشنَق لها راكبها بالزمام خرم أنفها ، وإن أسلس زمامها تقحّم في المهالك فألقته في مَهْواة أو ماء أو نار ، أو نَدّت فلم تقف حتى تُردِيَه عنها فَهلك . وأشنَقَ الرَّجُل ناقتَه ، إذا كفّها بالزمام ، وهو راكبها ، واللغة المشهورة شنق ، ثلاثية . وقال الرضيُّ أبو الحسن رحمه اللّه تعالى : إنما قال عليه السلام : أشنَقَ لها ، ولم يقل : « أشنقها » ، لأنّه جعل ذلك في مقابلة قوله : « أسلس لها » وهذا حسن ، فإنّهم إذا قصدوا الإزدواج في الخطابة فعلوا مثل هذا . قوله عليه السلام : « فمنِيَ النَّاسُ » أي بُلِيَ الناس . والخَبْط : السَّيْر على غير جَادّة ، والشِّماس : النِّفار . والتلوّن : التبدُّل . والاعتراض : السيرُ لا على خط مستقيم ، كأنّه يسير عَرْضاً في غضون سيره طولاً ، وإنما يفعلُ ذلك البعير الجامح الخابط . وبعيرٌ عُرْضِيّ : يعترض في مسيره ؛ لأنّه لم يتم رياضته ، وفي فلان عُرْضِيّة ، أي عَجْرفة وصُعوبة .

الأصْلُ :حَتَّى إذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ ، جَعَلَهَا في جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ ؛ فَيَا للّهِ وَلِلشُّورَى 1 !

.

ص: 92

مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ ، حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إلَى ه_ذِهِ النَّظَائِرِ ! لكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا، وَطِرْتُ إِذْ طَارُوا، فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ ، وَمَالَ الآخَرُ لِصِهْرِهِ ، مَعَ هَنٍ وَهَنٍ .

.

ص: 93

الشّرْحُ :اللام في « ياللّه » مفتوحة ، واللام في « ولِلشورى » مكسورة ؛ لأنّ الأُولى للمدعوّ ، والثانية للمدعوّ إليه . وأسفَّ الرجل ، إذا دخل في الأمر الدنيء ، أصله من « أسفَّ الطائر » إذا دنا من الأرض في طيرانه . والضغن : الحقد . وقوله : « مع هن وهن » ، أي مع أُمور يكنّي عنها ولا يصرّح بذكرها ، وأكثر ما يستعمل ذلك في الشر . يقول عليه السلام : إنّ عمر لما طُعن جعل الخلافة في ستّة ، هو عليه السلام أحدهم ، ثم تعجب من ذلك ، فقال : متى اعترض الشك فيّ مع أبي بكر ، حتى أُقرن بسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن ابن عوف وأمثالهما ! لكنّي طلبت الأمر وهو موسوم بالأصاغر منهم ، كما طلبته أولاً وهو موسوم بأكابرهم ، أي هو حقي فلا أستنكف من طلبه ، إن كان المنازع فيه جليل القدر أو صغير المنزلة . وصغا الرجل بمعنى مال ، الصغو : الميل ، بالفتح والكسر . أمّا قوله عليه السلام « فصغا رجل منهم لضِغْنه » ، فإنه يعني طلحة . وأمّا قوله : « ومال الآخرُ لصِهْره » فإنّه يعني عبدَ الرحمن مال إلى عثمان ؛ لأنّ أمّ كلثوم بنت عُقْبة بن أبي معيط كانت تحتَه ، وأمّ كلثوم هذه هي أخت عثمان مِن أُمّه ، أرْوَى بنت كُرَيز .

الأصْلُ :إلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ الْقَوْمِ نَافِجا حِضْنَيْهِ ، بَيْنَ نَثِيلِهِ وَمُعْتَلَفِهِ وَقَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضِمُونَ مَالَ اللّهِ خَضْمَ الاْءِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ ، إلَى أَنِ انْتَكَثَ فَتْلُهُ ، وَأَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ ، وَكَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ!

الشّرْحُ :نافجاً حضنيه : رافعاً لهما ، والحضن : مابين الإبط والكشح ، يقال للمتكبر : جاء نافجا حِضْنيه ، ويقال لمن امتلأ بطنه طعاماً : جاء نافجاً حِضْنيه ، ومراده عليه السلام هذا الثاني . والنّثيل : الروث . والمعتَلف : موضع العلف ؛ يريد أنّ همّه الأكل والرجيع ، وهذا من مُمِضّ الذم . والخَضْم : أكلٌ بكلِّ الفم ، وضدّه القضْم ، وهو الأكل بأطرَاف الأسنان . وقيل : الخَضْم أكلُ الشيء الرَّطْب ، والقَضْمُ أكْلُ الشيء اليابس ، والمراد على التفسيرين لا يختلف ؛ وهو أنّهم

.

ص: 94

على قَدَم عظيمة من النَّهَم وشدّة الأكل وامتلاء الأفواه . قال أبو ذر رحمه اللّه تعالى عن بني أُميّة : يخضمون ونقضم ، والموعد اللّه . والماضي « خَضِمْت » بالكسر ، ومثل قَضِمْت . والنِّبتة ، بكسر النون كالنبات ، تقول : نَبتَ الرطب نباتا ونِبْتة . وانتكث فتلُه : انتقض ؛ وهذه استعارة . وأجهز عليه عمله : تمم قتله . يقال : أجهزتُ على الجريح ، مثل ذَفَفْتُ إذا أتممتَ قَتله . وكَبَتْ به بِطنته : كبا الجواد إذا سقط لوجه . والبِطنة : الإسراف في الشِّبَع . وثالث القوم هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أُميّة ، بايعه الناس بعد انقضاء الشورى ، وصحّت فيه فراسة عمر ، فإنّه أوطأ بني أُميّة رقاب الناس ، وولاّهم الولايات ، وأقطعهم القطائع ، وانضم إلى هذه أُمور أُخرى نقمها عليه المسلمون .

الأصْلُ :فَمَا رَاعَنِي إلاَّ وَالنَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إلَيَّ ، يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسَنَانِ ، وَشُقَّ عِطْفَايَ ، مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الْغَنَمِ . فَلَمَّا نَهَضْتُ بالْأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ ، وَمَرَقَتْ أُخْرَى ، وَقَسَطَ آخَرُونَ ؛ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا كَلاَمَ اللّهَ سُبْحَانَهُ حَيْثُ يَقُولُ : «تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَيُريدُونَ عُلُوّا في الْأَرْضِ وَلاَ فَسَادا ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» (1) بَلَى ! وَاللّه لَقَدْ سَمِعُوهَا وَوَعَوْهَا ، وَلكِنَّهُمْ حَلِيَتِ الدُّنْيَا في أَعْيُنِهِمْ وَرَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا (2) !

الشّرْحُ :عُرْف الضَّبع : [شَعْر] ثخين ، ويضرب به المثل في الازدحام . وينثالون : يتتابعون مزدحمين . والحَسَنان : الحسن والحسين عليهماالسلام . والعِطْفان : الجانبان من المنكب إلى الوِرك ؛ ويروى

.


1- .سورة القصص 83 .
2- .عرف الضبع : ما كثر على عنقها من الشَعر ، وهو ثخين . شُق : جُرح أو خدش . ربضت الدابة : بركت نكث العهد : نقضه ولم يفِ به . مرق من الدين : خرج منه ببدعة فهو مارق . قسط : جار وعدل عن الحق ، والقاسطون بمعنى الفاسقين . راقهم : من راق الشراب إذا صفا . الزبرج : الزينة .

ص: 95

« عطافي » ، والعطاف الرداء وهو أشبه بالحال ، إلاّ أن الرواية الأُولى أشهر ؛ والمعنى خدش جانباي لشِدّة الاصطكاك منهم والزحام . وقوله : « كربيضة الغنم » أي كالقِطْعة الرابضة من الغنم ، يصف شِدّة ازدحامهم حوله ، وجثومَهم بين يديه . فأمّا الطائفة النّاكثة ؛ فهم أصحابُ الجمل . وأما الطائفة القاسطة ؛ فأصحاب صِفّين . وسماهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله القاسِطين . وأمّا الطائفة المارقة ؛ فأصحاب النّهْرَوان ، وأشرنا نحن بقولنا : سماهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله القاسطين إلى قوله عليه السلام : « ستقاتلُ بعدي : الناكثين ، والقاسطين والمارقين » ، وهذا الخبر من دلائل نبوته صلوات اللّه عليه ؛ لإنه إخبار صريح بالغيب ، لا يحتمل التمويهَ والتدليس ، كما تحتمله الأخبار المجمَلة ، وصدَّق قوله عليه السلام : « والمارقين » ، قوله أولاً في الخوارج : « يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية » ، وصدّق قوله عليه السلام الناكثين » ، كونهم نكثوا البيعة بادئ بدء . وقد كان عليه السلام يتلُو وقت مبايعتهم له : « فَمَنْ نَكَثَ فَإنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ » (1) . وأما أصحاب صفين ، فإنهم عند أصحابنا رحمهم اللّه مخلّدون في النار لفِسْقهم ، فصحّ فيهم قوله تعالى : « وَأَمَّا القَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبا » (2) . وقوله عليه السلام : « حليت الدنيا في أعينهم » تقول : حلا الشيء في فمي يحلُو ، وحليَ لعيني يَحْلَى . والزبرج : الزينةُ من وَشْيٍ أو غيره ، ويقال : الزبرج : الذهب . فأمّا الآيُة فنحن نذكر بعض ما فيها ، فنقول : إنه تعالى لم يعلّق الوعدَ بترك العلوّ في الأرض والفساد ، ولكن بترك إرادتهما ، وهو كقوله تعالى : « وَلاَ تَرْكَنُوا إلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ » (3) علّق الوعيد بالركون إليهم والميل معهم ، وهذا شديد في الوعيد .

الأصْلُ :أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ ، لَوْلاَ حُضُورُ الْحَاضِرِ ، وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ ، وَمَا أَخَذَ اللّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلاَّ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ ، وَلاَ سَغَبِ مَظْلُومٍ ،

.


1- .سورة الفتح 10 .
2- .سورة الجن 15 .
3- .سورة هود 113 .

ص: 96

لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا ، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِها ، وَلَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ ه_ذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ!

الشّرْحُ :فَلَق الحبة ، من قوله تعالى : « فَالِقُ الحبِّ والنَّوَى » (1) ، والنَّسَمة : كلّ ذي رُوح من البشر خاصة . قوله : « لولا حضور الحاضر » ، يمكن أن يريدَ به لولا حضور البيعة _ فإنها بعد عقدها تتعين المحاماة عنها _ ويمكن أن يريد بالحاضر مَنْ حَضَره من الجيش الذين يستعين بهم على الحرب . والكِظّة بكسر الكاف : ما يعترى الإنسان مِن الثِّقل والكَرْب عند الامتلاء من الطعام . والسّغَب : الجوع . وقولهم : قد ألقى فلان حبل فلان على غَارِبه ، أي تركه هَمَلاً يسرح حيث يشاء من غير وازع ولا مانع ؛ والفقهاء يذكرون هذه اللفظة في كنايات الطلاق . وعَفْطَة عنز : ما تنثره من أنفها ، عفطت تعفِط بالكسر ؛ وأكثر ما يستعمل ذلك في النعجة ، واستعمله في العنز مجازاً . يقول عليه السلام : لولا وجود مَنْ ينصرني _ لا كما كانت الحال عليها أوّلاً بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فإني لم أكن حينئذٍ واجداً للناصر مع كوني مكلّفاً ألاّ أمكِّن الظالم من ظلمه _ لتركت الخلافة ، ولرفضتها الآن كما رفضتها قبل ، ولوجدتم هذه الدنيا عندي أهون من عَطْسة عنز .

الأصْلُ :قالوا : وقام إليه رجل من أَهل السواد عند بلوغه إلى هذا الموضع من خطبته ، فناوله كتابا ، فأَقبل ينظر فيه ؛ قال له ابن عباس : يا أمير المؤمنين ، لو اطَّرَدَتْ خُطْبَتُكَ من حيث أَفضيتَ ! فَقَالَ : هَيْهَاتَ يابْنَ عَبَّاسٍ ! تِلْكَ شِقْشِقَةٌ هَدَرَتْ ثُمَّ قَرَّتْ! قال ابن عباس : فواللّه ما أَسفت على كلام قط كأسفي على هذا الكلام أَلاَّ يكون أَمير المؤمنين عليه السلام بلغ منه حيث أَراد . قال الرضي : قوله عليه السلام في هذِهِ الخُطْبَةِ «كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم ، وإن أسلس لها تقحم»

.


1- .سورة الأنعام 95 .

ص: 97

يريد أنه إذا شدد عليها في جذب الزمام وهي تنازعه رأسها خرم أنفها ، وإن أرخى لها شيئا مع صعوبتها تقحمت به فلم يملكها ؛ يقال : أشنق الناقة ، إذا جذب رأسها بالزمام فرفعه ، وشنقها أيضا . ذكر ذلك ابن السِّكِّيتِ في «إصلاح المنطق» . وإنما قال : «أشنق لها» ولم يقل «أشنقها» ؛ لأنّه جعله في مقابلة قوله «أسلس لها» ، فكأنه عليه السلام قال : إن رفع لها رأسها بمعنى أمسكه عليها بالزمام . وَفِي الحَدِيثِ : إنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم خَطَبَ عَلَى نَاقَتِهِ وَقَدْ شَنَقَ لَهَا فَهِيَ تَقْصَعُ بِجِرَّتِهَا (1) .

الشّرْحُ :سمّى السواد سوادا لخضرته بالزروع والأشجار والنخل ، والعرب تسمى الأخضر أسود ، قال سبحانه : « مُدْهَامَّتَانِ » يريد الخضرة . وقوله : « لو اطّردت مقالتك » ، أي أتبعتَ الأوّل قولاً ثانيا ! من قولهم : اطّرد النهر ، إذا تتابع جريُه . وقوله : « من حيث أفضيت » أصل أفضى خرجَ إلى الفضاء ، فكأنه شبّهه عليه السلام حيث سكت عما كان يقوله ، بمن خرج من خبَاء أو جدار إلى فضاء من الأرض ، وذلك لأنّ النفس والقُوى والهمة عند ارتجال الخطب والأشعار تجتمع إلى القلب ، فإذا قُطع الإنسان وفرغ ، تفرقت وخرجت عن حجر الاجتماع واستراحت . والشّقشقة ، بالكسر فيهما : شيء يُخرجه البعير من فيه إذا هاج ، وإذا قالوا للخطيب : ذو شقشقة فإنما شبَّهوه بالفحل . والهدير : صوتها . وأمّا قول ابن عباس : « ما أسِفْت على كلام ... » إلى آخره ، فحدثني شيخي أبو الخير مصدِّق بن شبيب الواسطي (2) في سنة ثلاث وستمئة ، قال : قرأتُ على الشيخ أبي محمد عبد اللّه ابن أحمد المعروف بابن الخشاب هذه الخطبة ، فلما انتهيتُ إلى هذا الموضع ، قال لي : لو سمعتُ ابن عباس يقول هذا لقلت له : وهل بَقِيَ في نفس ابن عمك أمرٌ لم يبلغه في هذه الخطبة لتتأسف ألاّ يكون بلغ من كلامه ما أراد ! واللّه ما رجع عن الأولين ولا عن الآخرين ، ولا بَقي في نفسه أحد لم يذكره إلاّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

.


1- .القصع : البلع ، وشدة المضغ ، الجِرّة : اللقمة يتعلل بها البعير إلى وقت علفه ، أو ما يفيض به البعير فيأكله ثانية ، المعنى واضح .
2- .مصدق بن شبيب بن الحسين الصلحي الواسطي ؛ ذكره القفطي في إنباه الرواة 3:274 ، وقال : إنه قدم بغداد ، وقرأ بها على ابن الخشاب وحبشي بن محمد الضرير ، وعبد الرحمن بن الأنباري وغيرهم ؛ وتوفي ببغداد سنة 605 .

ص: 98

4 . من خطبة له عليه السلام في اهتداء الناس به ، وذكر كمال دينه ويقينه

قال مصدّق : وكان ابن الخشاب صاحبَ دعابة وهزل ، قال : فقلت له : أتقول إنها منحولة! فقال : لا واللّه ، وإني لأعلم أنّها كلامه ، كما أعلم أنك مصدّق . قال : فقلت له : إن كثيرا من الناس يقولون إنها من كلام الرضيّ ، رحمه اللّه تعالى . فقال : أنّى للرضيّ ولغير الرضي هذا النَّفَس وهذا الأُسلوب ! قد وقفنا على رسائل الرضيّ ، وعرفنا طريقته وفَنّه في الكلام المنثور ، وما يقع مع هذا الكلام في خَلٍّ ولا خَمْر ، ثم قال : واللّه لقد وقفتُ على هذه الخطبة في كتب صُنِّفت قبل أن يخلق الرضيّ بمئتي سنة ، ولقد وجدتُها مسطورة بخطوط أعرفها ، وأعرف خطوط مَنْ هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يخلق النقيبُ أبو أحمد والد الرضي . قلت : وقد وجدت أنا كثيرا من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخيّ إمام البغداديين من المعتزلة ، وكان في دولة المقتدر قبل أن يُخلق الرضيّ بمدة طويلة . ووجدت أيضا كثيرا منها في كتاب أبي جعفر بن قبّة أحد متكلمي الإمامية (1) وهو الكتاب المشهور المعروف بكتاب « الإنصاف » . وكان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخيرحمه اللّه تعالى ، ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضيّ رحمه اللّه تعالى موجودا .

4الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامبِنَا اهْتَدَيْتُمْ في الظَّلْمَاءِ ، وَتَسَنَّمْتُمْ ذُرْوَةَ الْعَلْيَاءِ ، وبِنَا اَنْفَرَجْتُمْ عَنِ السِّرَارِ . وُقِرَ سَمْعٌ لَمْ يَفْقَهِ الْوَاعِيَةَ ، وَكَيْفَ يُرَاعِي النَّبْأَةَ مَنْ أَصَمَّتْهُ الصَّيْحَةُ ؟ رُبِطَ جَنَانٌ لَمْ يُفَارِقْهُ الْخَفَقَانُ . مَا زِلْتُ أَنْتَظِرُ بِكُمْ عَوَاقِبَ الْغَدْرِ ، وَأَتَوَسَّمُكُمْ بِحِلْيَةِ الْمُغْتَرِّينَ ، حَتَّى

.


1- .هو أبو جعفر بن محمد بن قبة ؛ من متكلمي الشيعة وحذاقهم ، وله من الكتب كتاب الإنصاف في الإمامة . عاش أوائل القرن الرابع . الفهرست : ص176 .

ص: 99

سَتَرَنِي عَنْكُمْ جِلْبَابُ الدِّينِ ، وَبَصَّرَنِيكُمْ صِدْقُ النِّيَّةِ . أَقَمْتُ لَكْمُ عَلَى سَنَنِ الْحَقِّ في جَوَادِّ الْمَضَلَّةِ ، حَيْثُ تَلْتَقُونَ وَلا دَلِيلَ ، وَتَحْتَفِرُون وَلا تُمِيهُونَ . الْيَوْمَ أُنْطِقُ لَكُمُ الْعَجْمَاءَ ذاتَ الْبَيَانِ ! عَزَبَ رَأْيُ امْرِئٍ تَخَلَّفَ عَنِّي ! مَا شَكَكْتُ في الْحَقِّ مُذْ أُرِيتُهُ ! لَمْ يُوجِسْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ خِيفَةً عَلَى نَفْسِهِ ، بَلْ أَشْفَقَ مِن غَلَبَةِ الْجُهَّالِ وَدُوَلِ الضَّلالِ ! الْيَوْمَ تَوَاقَفْنَا عَلَى سَبيلِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ . مَنْ وَثِقَ بمَاءٍ لَمْ يَظْمَأْ (1) !

الشّرْحُ :هذه الكلمات والأمثال ملتقَطة من خطبة طويلة ، منسوبة إليه عليه السلام . وأمّا قوله عليه السلام : « بنا اهتديتم في الظّلماء » ، فيعني بالظلماء الجهالة ، وتَسَنَّمتم العلياء : ركبتم سنامها ، وهذه استعارة . قوله : « وبنا انفجرتم عن السِّرار » ، أي دخلتم في الفَجْر ، والسِّرار : الليلة والليلتان يستتر فيهما القمر في آخر الشهر فلا يظهر . وروي « أفجرتم » ، وهو أفصح وأصحّ ، فأفجرتم ، أي : صرتم ذوي فجر . وأما « عن » في قوله : « عن السرار » فهي للمجاوزة على حقيقة معناها الأصليّ ، أي : منتقلين عن السرار ومتجاوزين له . وقوله عليه السلام : « وقر سمع » هذا دعاء على السمع الذي لم يفقه الواعية بالثِّقل والصّمَم ، وُقِرَت أُذُنُ زيد ، بضم الواو فهي موقورة ، والوَقْر : بالفتح ، الثِّقَل في الأذن ، وَقِرَتْ أذنُه ، بفتح الواو وكسر القاف تَوْقَر وَقْرا أي صَمّت ، والمصدر في هذا الموضع جاء بالسّكون ، وهو شاذّ ، وقياسه التحريك بالفتح ، نحو ورِم وَرَما . والوَاعية : الصارخة ، من الوُعاء ، وهو الجَلبَة والأصوات ، والمراد العبر والمواعظ .

.


1- .تسنّم الشيء : علاه . من قولهم تسنّم الناقة أي ركب سنامها . الذروة : أعلى الشيء . السرار : الظلام . الوقر : الصمم . الواعية : الصراخ ، والزواجر . النبأة : الصوت الخفي . الصيحة : الصوت بشدة . الجنان : القلب . أتوسم : أتفرس . الجواد : جمع جادة ، وهي وسط الطريق . المضلّة : الأرض التي يضلّ سالكها . لا تميهون : لا تجدون مياها . العجماء : التي لا نطق لها . عزب : غاب وخفي .

ص: 100

قوله : « كيف يُرَاعى النبأة » ، هذا مثل آخر ، يقول : كيف يلاحظ ويراعى العِبَر الضعيفةَ مَنْ لم ينتفع بالعِبَر الجليّة الظاهرة ، بل فسد عندها ، وشبّه ذلك بمن أصمته الصَّيْحة القوية ، فإنه محال أن يراعِي بعد ذلك الصوت الضعيف . والنبأة : هي الصوت الخفيّ . فقوله : « أصْمته الصيحة » ، ليس معناه أنّ الصيحة كانت علّة لصممه ، بل معناه صادفته أصمَّ . قوله : « رُبط جَنَان لم يفارقْه الخَفَقان » ، هذا مثل آخر ، وهو دعاء لقلب لا يزال خائفا من اللّه يخفُق بالثبوت والاستمساك . قوله : « ما زلت أنتظر بكم » ، يقول : كنت مترقبا غدرَكم متفرِّسا فيكم الغَرَر ، وهو الغفلة . وقيل : إنّ هذه الخطبة خَطَبها بعد مقتل طلحة والزبير ، مخاطبا بها لهما ولغيرهما من أمثالهما ، كما قال النبي صلى الله عليه و آله يوم بدر ، بعد قَتْل مَنْ قتل من قريش : « يا عُتْبة بن ربيعة ، يا شيبة ابن ربيعة ، يا عمرو بن هشام » ، وهم جِيَف منتنة قد جُرّوا إلى القَلِيب . قوله : « سترني عنكم » ، هذا يحتمل وجوها أوضحها : أنّ إظهارَكم شعار الإسلام عصمكم منِّي مع علمي بنفاقكم ، وإنما أبصرت نفاقكم وبواطنكم الخبيثة بصِدْق نيَّتي ، كما يقال : المؤمن يُبْصر بنور اللّه . ويحتمل أن يريد : سترني عنكم جلبابُ ديني ، ومنعني أن أعرِّفكم نفسي وما أقدر عليه من عَسْفكم ، كما تقول لمن استهان بحقّك : أنت لا تعرفُني ولو شئت لعرّفتُك نفسي . قوله : « أقمت لكم على سَنن الحق » ، يقال : تنحّ عن سَنَن الطريق وسُنن الطريق ، بفتح السين وضمها ، فالأول مفرد ، والثاني جمع سُنّة ، وهي جادّة الطريق والواضح منها ، وأرض مَضَلّة ومَضِلّة : بفتح الضاد وكسرها ، يضلّ سالكها . وأماهَ المحتفِر يميه : أنبط الماء ، يقول : فعلتُ من إرشادكم وأمرِكم بالمعروف ونهيكم عن المنكر ما يجب على مثلي ، فوقفت لكم على جادّة الحق ومنهجه ؛ حيث طرق الضلال كثيرة مختلفة من سائر جهاتي ، وأنتم تائهون فيها تلتقون ، ولا دليل لكم ، وتحتفرون لتجِدوا ماء تنقعون به غُلّتكم فلا تظفرون بالماء ، وهذه كلُّها استعارات . قوله : « اليوم أنطق » ، هذا مثل آخر ، والعجْماء التي لا نطق لها ، وهذا إشارة إلى الرموز التي تتضمَّنها هذه الخطبة ، يقول : هي خفية غامضة ، وهي مع غموضها جليّة لأُولى

.

ص: 101

الألباب ، فكأنها تنطق ، كما ينطق ذوو الألسنة ، كما قيل : ما الأُمور الصامتة الناطقة ؟ فقيل : الدلائل المخبرة، والعبَر الواعظة . وفي الأثر : سل الأرضَ : مَنْ شقَّ أنهاركِ ، وأخرج ثمارَكِ؟ فإن لم تُجبك حواراً ، أجابتْك اعتباراً 1 . قوله : « عزبَ رأيُ امرئ تخلف عَنِّي » ، هذا كلام آخر . عزب : أي بَعُدَ ، والعازب : البعيد . ويحتمل أن يكونَ هذا الكلام إخبارا ، وأن يكون دعاء ، كما أنّ قوله تعالى : «حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ » (1) ، يحتمل الأمرين . قوله : « ما شكَكْتُ في الحق مذ أريته » ، هذا كلام آخر ، يقول : معارفي ثابتة لا يتطرّق إليها الشكّ والشبهة . قوله : « لم يوجس موسى » ، هذا كلام شريف جدّا ، يقول : إن موسى لما أوجسَ الخيفة ، بدلالة قوله تعالى : « فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى » (2) لم يكن ذلك الخوفُ على نفسه ، وإنما خاف من الفتنة والشُّبْهة الداخلة على المكلّفين عند إلقاء السحرة عصيَّهم ، فخيل إليه من سحرهم أنّها تسعى ، وكذلك أنا لا أخافُ على نفسي من الأعداء الذين نَصَبُوا لِيَ الحبائل ، وأرصدوا لِيَ المكائد ، وسعّروا عليّ نيران الحرب ؛ وإنما أخاف أن يفتتن المكلّفون بشُبههم وتمويهاتهم ، فتقوى دولةُ الضلال ، وتغلب كلمة الجهال . قوله : « اليوم تواقفنا » ، القاف قبل الفاء ، تواقَف القوم على الطريق ، أي وقفوا كلّهم عليها ؛ يقول : اليوم اتَّضح الحق والباطل ، وعرفناهما نحن وأنتم . قوله : « مَنْ وثِق بماء لم يظمأ » ، الظمأ الذي يكون عند عدم الثقة بالماء ، وليس يريد

.


1- .سورة النساء 90 .
2- .سورة طه 67 .

ص: 102

5 . من خطبة له عليه السلام لما قبض رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم

النفيَ المطلق ؛ لأنّ الواثق بالماء قد يظمأ ، ولكن لا يكون عطشه على حدّ العطش الكائن عند عدم الماء ، وعدم الوثوق بوجوده . يقول : إن وثقتم بي وسكنتم إلى قولي ، كنتم أبعدَ عن الضَّلال وأقربَ إلى اليقين وثَلَج النفس ، كمن وَثِقَ بأنّ الماء في إداوته ، يكون عن الظمأ وخوف الهلاك من العطش أبعدَ ممّن لم يثقْ بذلك .

5الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام لما قبض رسول اللّه صلى الله عليه و آله وخاطبه العباس وأبو سفيان بن حرب في أن يبايعا له بالخلافةأَيُّها النَّاسُ ، شُقُّوا أَمْوَاجَ الْفِتَنِ بِسُفُنِ النَّجَاةِ ، وَعَرِّجُوا عَنْ طَريقِ الْمُنَافَرَةِ وَضَعُوا تِيجَانَ الْمُفَاخَرَةِ . أَفْلَحَ مَنْ نَهَضَ بجَنَاحٍ ، أَوِ اسْتَسْلَمَ فَأَراحَ . ه_ذَا مَاءٌ آجِنٌ ، وَلُقْمَةٌ يَغَصُّ بِهَا آكِلُهَا . وَمُجْتَنِي الثَّمَرَةِ لِغَيْرِ وَقْتِ إينَاعِهَا ، كَالزَّارِعِ بِغَيرِ أَرْضِهِ . فَإنْ أَقُلْ يَقُولُوا : حَرَصَ عَلَى الْمُلْكِ ، وَإِنْ أَسْكُتْ يَقُولُوا : جَزِعَ مِنَ الْمَوْتِ ! هَيْهَاتَ بَعْدَ اللَتَيَّا وَالَّتِي ! وَاللّهِ لاَبْنُ أَبي طَالِبٍ آنَسُ بالْمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّهِ ، بَلِ انْدَمَجْتُ عَلَى مَكْنُونِ عِلْمٍ لَوْ بُحْتُ بِهِ لاَضْطَرَبْتُمُ اضْطِرَابَ الْأَرْشِيَةِ في الطَّوِيِّ الْبَعِيدَةِ (1) !

.


1- .المنافرة : المفاخرة . أفلح : فاز . اجتنى الثمرة : اقتطفها . عرّجوا : ميلوا . أجن الماء : تغيّر لونه وطعمه ، فسد . المكنون : المستور . الأرشية : الحبال . الطويّ : البئر البعيدة ، العميقة .

ص: 103

الشّرْحُ :المفاخرة : أن يذكر كلّ واحد من الرجُلين مفاخرَه وفضائله وقديمه ، ثم يتحاكما إلى ثالث . والماء الآجن : المتغيِّر الفاسد ، أجَنَ الماء ، بفتح الجيم ، يأجِن ويأجُن ، بالكسر والضم . اللَتَيّا والإيناع : إدراكُ الثمرة . واللتيّا : تصغير التي ، كما أنّ اللَذَيّا تصغير الذي . واندمجتُ : انطويتُ . والطوِيّ : البئر المطويّة بالحجارة . يقول : تخلّصُوا عن الفتنة وانْجُوا منها بالمتاركة والمسالمة والعدول عن المنافرة والمفاخرة . أفلح مَنْ نهض بجناح ، أي مات ، شبَّه الميِّت المفارقَ للدنيا بطائر نهضَ عن الأرض بجناحه . ويحتمل أن يريد بذلك : أفلح مَن اعتزل هذا العالم ، وساح في الأرض منقطعاً عن تكاليف الدنيا . ويحتمل أيضا أن يريد أفلح مَنْ نهض في طلب الرياسة بناصر ينصره ، وأعوان يجاهدون بين يديه ؛ وعلى التقادير كلّها تنطبق اللفظةُ الثانية ، وهي قوله : « أو استسلم فأراح » ، أي أراح نفسه باستسلامه . ثم قال : الإمْرَة على الناس وخيمة العاقبة ، ذات مشقّة في العاجلة ، فهي في عاجلها كالماء الآجن يجدُ شاربه مشقّة ، وفي آجلها كاللقمة التي تَحْدُث عن أكلها الغُصَّة . ويجوز ألاّ يكون عَنَى الإمْرة المطلقة ، بل هي الإمْرة المخصوصة ، يعني بيعةَ السقيفة . ثم أخذ في الاعتذار عن الإمساك وترك المنازعة ، فقال : مجتنِي الثمرة قبل أن تُدْرك لاينتفع بما اجتناه ، كمن زرع في غير أرضه ، ولا ينتفع بذلك الزرع ؛ يريد أنّه ليس هذا الوقت هو الوقت الذي يَسُوغ لي فيه طلب الأمر ، وأنّه لم يَأْن بعد . ثم قال : قد حَصَلْت بين حالين ؛ إن قلت ، قال الناس : حَرَص على المُلْك ، وإن لم أقل ، قالوا : جَزِع من الموت . قال : هيهات ، استبعادا لظنّهم فيه الجزع . ثم قال : « اللتيّا والتي » ، أي أبعد اللتيّا والتي أجزع ؟! أبَعْدَ أن قاسيتُ الأهوال الكبار والصغار ، ومُنِيت بكل داهية عظيمة وصغيرة ؟! فاللتيّا الصغيرة والتي الكبيرة . ذكر أنّ أُنْسَه بالموت كأُنْسِ الطفل بثدي أمه ، وأنّه انطوى على علم هو ممتنع لموجبه من المنازعة ، وأنّ ذلك العلم لا يُباح به ، ولو باح به لاضطرب سامعوه كاضطراب الأرشِية ، وهي الحبال في البئر البعيدة القعر ، وهذا إشارة إلى الوصيّةِ التي خُصّ بها عليه السلام ، أنه قد كان من جملتها الأمر بترك النزاع في مبدأ الاختلاف عليه 1 .

.

ص: 104

6 . من خطبة له عليه السلام لما اُشير عليه بألاّ يتبع طلحة والزبير ولا يرصد لهما القتال

6الأصْلُ :ومن كلام له لما أشير عليه بألاّ يتبع طلحة والزبير ولا يرصد لهما القتال 1ومن كلام له لما أشير عليه بألاّ يتبع طلحة والزبير ولا يرصد لهما القتال 2 وَاللّهِ لاَ أَكُونُ كالضَّبُعِ : تَنَامُ عَلى طُولِ اللَّدْمِ ، حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهَا طَالِبُهَا وَيَخْتِلَهَا رَاصِدُها ، وَلكِنِّي أَضْرِبُ بِالْمُقْبِلِ إلَى الْحَقِّ الْمُدْبِرَ عَنْهُ وَبِالسَّامِعِ الْمُطِيعِ الْعَاصِيَ الْمُريبَ أَبَدا ، حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيَّ يَوْمِي . فَوَاللّهِ مَا زِلْتُ مَدْفُوعا عَنْ حَقِّي ، مُسْتَأْثَرا

.

ص: 105

7 . من خطبة له عليه السلام في ذم قوم باتباع الشيطان وركوبهم متن الزلل

عَلَيَّ ، مُنْذُ قَبَضَ اللّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه و آله وسلم حَتَّى يَوْمِ النَّاسِ ه_ذا .

الشّرْحُ :يقال : أرصد له بشرّ ، أي أعدّ له وهيأه . واللَّدْم : صوت الحجر أو العصا أو غيرهما ، تضرب به الأرض ضربا ليس بشديد . ويختلها راصدها : يخدعها مترقبها ، اختلت فلاناً ، خدعته . ورصدته : ترقّبته . ومستأثرا عليّ أي مستبدا دوني بالأمر ، والاسم الأثرَة . وقال أبو عبيدة : يأتي الصائد فيضرِب بعقِبه الأرض عند باب مَغارها ضربا خفيفا ؛ وذلك هو اللَّدْم ، ويقول : خامري أم عامر ؛ مرارا ، بصوت ليس بشديد ، فتنام على ذلك ، فيدخل إليها ، فيجعل الحبْل في عرقوبها ويجرّها فيخرجها. يقول [عليه السلام] : لا أقعدُ عن الحرب والانتصار لنفسي وسلطاني ، فيكون حالي مع القوم المشار إليهم [طلحة وزبير] حال الضَّبع مع صائدها ، فأكون قد أسلمتُ نفسي ، فعْلَ العاجز الأحمق ، ولكنّي أحارب مَنْ عصاني بمن أطاعني حتى أموت ، ثم عقّب ذلك بقوله : إن الاستئثار عليّ ، والتغلب أمر لم يتجدد الآن ؛ ولكنه كان منذ قُبض رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

7الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلاماتَّخَذُوا الشَّيْطَانَ لِأمْرِهِمْ مِلاَكا ، واتَّخَذَهُمْ لَهُ أَشْراكا ، فَبَاضَ وَفَرَّخَ في صُدُورِهِمْ ، وَدَبَّ وَدَرَجَ في حُجُورِهِمْ ، فَنَظَرَ بِأَعْيُنِهِمْ ، وَنَطَقَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ، فَرَكِبَ بِهِمُ الزَّلَلَ ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الْخَطَلَ ؛ فِعْلَ مَنْ قَدْ شَرِكَهُ الشَّيْطَانُ في سُلْطَانِهِ ، وَنَطَقَ بِالبَاطِلِ عَلَى لِسانِهِ (1) !

.


1- .ملاك الأمر : ما به قوامه وديمومته . الأشراك : جمع شَرَك ، وهي حبائل الصيد ، أو جمع شريك . الحجور : جمح حجر ، حضن الإنسان . الزلل : الزلق ، والخطأ .

ص: 106

8 . من خطبة له عليه السلام يعني به الزبير ، في حال اقتضت ذلك

الشّرْحُ :يجوز أن يكون أشْرَاكا ، جمع شريك ، كشريف وأشراف . ويجوز أن يكون جمع شَرَك ، كَجَبَل وأجبال ، والمعنى بالاعتبارين مختلف . وباض وفَرّخ في صدورهم ، استعارة للوسوسة والإغواء ، ومرادُه طولُ مكثه وإقامته عليهم ؛ لأنّ الطائر لا يبيض ويفرّخ إلاّ في الأعشاش التي هي وطنه ومسكنه . ودبّ ودرج في حُجورهم ، أي ربُّوا الباطل كما يربّي الوالدان الولد في حجورهما . ثم ذكر أنّه لشدة اتحاده بهم وامتزاجه صار كمن ينظر بأعينهم ، وينطق بألسنتِهم ، أي صار الاثنان كالواحد . والخَطل : القول الفاسد . ويجوز : أشرَكه الشيطان في سلطانه ، بالهمزة ، وشركه أيضا ؛ وبغير الهمزة أفصح .

8الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام يعني به الزبير في حال اقتضت ذلكيَزْعَمُ أَنَّهُ قَدْ بَايَعَ بِيَدِهِ ، وَلَمْ يُبَايِعْ بِقَلْبِهِ ؛ فَقَدْ أَقَرَّ بِالْبَيْعَةِ ، وادَّعَى الْوَلِيجَةَ فَلْيَأْتِ عَلَيْهَا بِأَمْرٍ يُعْرَفُ ؛ وَإلاَّ فَلْيَدْخُلْ فِيَما خَرَجَ مِنْهُ .

الشّرْحُ :الوليجة : البطانة ، والأمر يُسَرّ ويكتَم ، قال اللّه سبحانه : « وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المُؤمِنِينَ وَلِيجَةً » (1) . كان الزبير يقول : بايعتُ بيدي لا بقلبي ؛ وكان يدّعي تارة أنّه أُكرِه ، ويدّعي تارة أنّه ورَّى في البيعة تورية ، ونَوَى دخيلهْ ، وأتى بمعاريض لا تُحمل على ظاهرها ، فقال عليه السلام هذا الكلام ، إقرارا منه بالبيعة وادعاء أمر آخر لم يُقِمْ عليه دليلاً ، ولم ينصب له برهانا ، فإمّا أن يقيم دليلاً على فساد البيعة الظاهرة ، وأنها غير لازمة له ، وإمّا أن يعاود طاعته . قال علي عليه السلام للزبير يوم بايعه : إنّي لخائف أن تغدِر بي وتنكث بيعتي ، قال :

.


1- .سورة التوبة 16 .

ص: 107

9 . من خطبة له عليه السلام في صفة قوم أرعدوا وأبرقوا

10 . من خطبة له عليه السلام يوعد قوماً

لا تخافنّ ؛ فإنّ ذلك لا يكون مني أبدا ، فقال عليه السلام : فلي اللّه عليك بذلك راع وكفيل ؟ قال : نعم ، اللّه لك عليّ بذلك راعٍ وكفيل .

9الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلاموَقَدْ أَرْعَدُوا وَأَبْرَقُوا ، وَمَعَ هذَيْنِ الأَمْرَيْنِ الْفَشَلُ ؛ وَلَسْنا نُرْعِدُ حَتَّى نُوقِعَ ، وَلاَ نُسِيلُ حَتَّى نُمطِرَ .

الشّرْحُ :أرعد الرجل وأبرق ، إذا أوعد وتهدّد ، والفَشَل : الجبْن والخوَر . وقوله : « ولا نَسيلُ حتى نُمْطر » ، يقول : إنَّ أصحاب الجمل في وعيدهم وإجلابهم بمنزلة مَنْ يدّعي أنه يحدث السيل قبل إحداث المطر ، وهذا محال ؛ لأنَّ السَّيْل إنما يكون من المطر ، فكيف يسبق المطر ؟! وأمّا نحن فإنا لا ندَّعي ذلك ، وإنما نُجْرِي الأُمور على حقائقها ، فإنْ كان منّا مطر كان منّا سيل ، وإذا أوقعنا بخصمنا أوعدْنا حينئذٍ بالإيقاع به غيرَه من خصومنا . وقوله عليه السلام : « ومع هذين الأمْرين الفَشَل » معنىً حسَن ؛ لأنَّ الغالبَ من الجبناء كثرة الضوضاء والجلَبة يوم الحرب ، كما أنَّ الغالبَ من الشجعان الصمت والسكون .

10الأصْلُ :

.

ص: 108

مَا لَبَّسْتُ عَلَى نَفْسِي ، وَلاَ لُبِّسَ عَلَيَّ . وَايْمُ اللّهِ لَأُفْرِطَنَّ لَهُمْ حَوْضا أَنَا مَاتِحُهُ ! لاَ يَصْدِرُونَ عَنْهُ ، وَلاَ يَعُودُونَ إِلَيْهِ (1) .

الشّرْحُ :يمكن أن يَعْني بالشيطان الشيطانَ الحقيقيَّ ، ويمكن أن يَعْنِيَ به معاوية ، فإن عَنَى معاوية ، فقوله : « قد جمع حزبه ، واستجلب خيله ورجْله » كلام جارٍ على حقائقه ، وإن عَنَى به الشيطان ، كان ذلك من باب الاستعارة ؛ ومأخوذا من قوله تعالى : « وَاستَفْزِزْ مَنِ استَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ » (2) ، والرَّجْل ، جمع راجل ، كالشَّرْب ، جمع شارب ، والرّكْب ، جمع راكب . قوله : « وإنَّ معي لَبَصيرتي » ، يريد أنَّ البصيرةَ التي كانت معي في زمن رسول اللّه صلى الله عليه و آله لم تتغيَّرْ . وقوله : « ما لبّستُ » تقسيم جيّد ؛ لأنَّ كل ضالّ عن الهداية ، فإمَّا أن يضلَّ من تلقاء نفسه ، أو بإضلال غيره له . وقوله : « لأفْرِطَنّ » من رواها بفتح الهمزة ، فأصله « فرط » ثلاثي ، يقال : فَرطَ زيد القوم أي سبقهم ، ورجل فَرَطٌ : يسبق القوم إلى البئر ، فيهيّئ لهم الأرْشية والدِّلاء ، ومنه قوله عليه السلام : « أنا فَرَطُكم على الحوض » ، ويكون تقدير الكلام : وايمُ اللّه لأفرِطَنّ لهم إلى حوض . ومن رواها « لأُفرِطَنّ » بضم الهمزة ، فهو من أفرط المزادة ، أي ملأها . والماتح : المستقِي ، متَح يمتَح ، بالفتح ، والمايح ، بالياء : الذي ينزل إلى البئر فيملأ الدلو . « أنا ماتحه » أنا خبير به ، كما يقول مَنْ يدّعي معرفة الدار : أنا باني هذه الدار ، والكلام استعارة ؛ يقول : لأملأنّ لهم حِياض الحرب التي هي دُرْبَتي وعادتي ، أو لأسْبِقنّهم إلى حياض حرب أنا متدرِّب بها ، مجرِّب لها ، إذا وردوها لا يصدُرون عنها ، يعني قتلَهم وإزهاق أنفسهم ، وَمَنْ فَرَّ منهم لا يعود إليها .

.


1- .لافرطنّ : لأملأنّ ، والفَرَط : المتقدّم . الصدور : ضد الورود ، وصدر عنه رجع عنه .
2- .سورة الإسراء 64 .

ص: 109

11 . من خطبة له عليه السلام لابنه محمد بن الحنفية لما أعطاه الراية يوم الجمل

11الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام لابنه محمد بن الحنفية لما أعطاه الراية يوم الجملتَزُولُ الْجِبَالُ وَلاَ تَزُلْ ! عَضَّ عَلَى نَاجِذِكَ . أَعِرِ اللّهَ جُمْجُمَتَكَ تِدْ في الْأَرْضِ قَدَمَكَ . ارْمِ بِبَصَرِكَ أَقْصى الْقَوْمِ ، وَغُضَّ بَصَركَ ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ سُبْحَانَهُ .

الشّرْحُ :قوله : « تَزولُ الجِبالُ ولاَ تَزُل » ، خبر فيه معنى الشرط ، تقديره : إن زالتِ الجِبالُ فلا تَزُل أنتَ ، والمراد المبالغة . والناجِذُ : أقصى الأضراس . وتِدْ ، أمر من وتَد قَدَمه في الأرض ، أي أثبِتْها فيها كالوتِد . ولا تَنَاقُضَ بين قوله : « ارم ببصرك » وقوله : « غُضَّ بَصَرَك » ، وذلك لأنّه في الأُولى أمرَه أن يفتح عينَه ويرفع طَرْفَه ، ويحدّق إلى أقاصى القوم ببَصره ، فِعْلَ الشجاع المِقدَام غير المكترث ولا المبالي ؛ لأنّ الجبانَ تضعُف نفسه ويخفُق قلبُه فيقصر بصره ، ولا يرتفِع طَرْفه ، ولا يمتدّ عنقه ، ويكونُ ناكسَ الرأس ، غضيضَ الطرف . وفي الثانية أمرَه أن يَغُضَّ بصرَه عن بَريق سيوفهم ولمعانِ دروعهم ، لئلاّ يبرُق بصرُه ، ويدهش ويستشعر خوفاً . وتقدير الكلام : « واحمل » وحذف ذلك للعلم به ، فكأنه قال : إذا عزمت على الحملة وصمّمت ، فغُضّ حينئذٍ بصرَك واحمل ، وكن كالعَشْوَاء التي تخبِط ما أمامها ولا تبالي . وقوله : « عضّ على ناجِذك » قالوا : إنّ العاضّ على نواجِذه ينبو السيف عن دِماغه ؛ لأنّ عظام الرأس تشتدّ وتصلب ، وقد جاء في كلامه عليه السلام هذا مشروحا في موضع آخر، وهو قوله : « وعَضّوا على النواجذ ، فإنه أنْبَى للصوارم عن الهام» . ويحتمل أن يريد به شِدّة الحَنق . وقوله : « أعِرِ اللّهَ جُمجمتك » ، معناه ابْذُلها في طاعة اللّه ، ويمكن أن يقال : إن ذلك إشعارٌ له أنّه لا يُقتل في تلك الحرب ؛ لأنّ العارية مردودة ، ولو قال له : بعِ اللّه جُمجمتَك ، لكان ذلك إشعارا له بالشهادة فيها .

.

ص: 110

12 . من خطبة له عليه السلام لما أظفره اللّه بأصحاب الجمل

13 . من خطبة له عليه السلام في ذم أهل البصرة

12الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام ، لما أظفره اللّه بأصحاب الجملوقد قال له بعض أصحابه : وددت أن أخي فلانا كان شاهدنا ليرى ما نصرك اللّه به على أعدائك ، فقال علي عليه السلام : أَهَوَى أَخِيكَ مَعَنَا ؟ فَقَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَقَدْ شَهِدَنَا وَلَقَدْ شَهِدَنَا ! في عَسْكَرِنَا ه_ذَا أَقْوَامٌ في أَصْلاَبِ الرِّجَالِ وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ ، سَيَرْعَفُ بِهِمُ الزَّمَانُ ، وَيَقْوَى بِهِمُ الاْءِيمَانُ .

الشّرْحُ :يرعَفُ بهم الزمان : يوجِدهم ويخرجهم ، كما يرعَف الإنسان بالدم الذي يخرجه من أنفه . روى الأصبغ بن نُباتة : لما انهزم أهل البصرة ، ركب عليّ عليه السلام بغلة رسول اللّه صلى الله عليه و آله الشهباء ، وسار في القتلى يستعرضهم ... فمرّ بطلحة بن عبيد اللّه قتيلاً ، فقال أجلسوه ، فأُجلِس _ قال أبو مخنف في كتابه : _ فقال : ويل أُمّك طلحة ! لقد كان لك قَدَم لو نفعك ! ولكنّ الشيطان أضلّك فأزلّك فجعلك إلى النار .

13الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام في ذم أهل البصرةكُنْتُمْ جُنْدَ الْمَرْأَةِ ، وَأَتْبَاعَ الْبَهِيمَةِ . رَغَا فَأَجَبْتُمْ ، وَعُقِرَ فَهَرَبْتُمْ . أَخْلاَقُكُمْ دِقَاقٌ ،

.

ص: 111

وَعَهْدُكُمْ شِقَاقٌ ، وَدِينُكُمْ نِفَاقٌ ، وَمَاؤُكُمْ زُعَاقٌ ، وَالْمُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مُرْتَهَنٌ بِذَنْبِهِ ، وَالشَّاخِصُ عَنْكُمْ مُتَدَارَكٌ بِرَحْمَةٍ مِنْ رَبِّهِ . كَأَنِّي بِمَسْجِدِكُمْ كَجُؤْجُؤِ سَفِينَةٍ قَدْ بَعَثَ اللّهُ عَلَيْها الْعَذَابَ مِنْ فَوْقِهَا وَمِنْ تَحْتِها ، وَغَرِقَ مَنْ فِي ضِمْنِها . وفي رواية : وَايْمُ اللّهِ ، لَتَغْرَقَنَّ بَلْدَتُكُمْ ، حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلى مَسْجِدِهَا كَجُؤْجُؤِ سَفِينَةٍ ، أَوْ نَعَامَةٍ جَاثِمَةٍ . وفي رواية : كَجُؤْجُؤِ طَيْرٍ في لُجَّةِ بَحْرٍ . وفي رواية أُخرى : بِلاَدُكُمْ أَنْتَنُ بِلاَدِ اللّهِ تُرْبَةً ؛ أَقْرَبُهَا مِنَ الْمَاءِ ، وَأَبْعَدُهَا مِنَ السَّمَاءِ ، وَبِهَا تِسْعَةُ أَعْشَارِ الشَّرِّ ، الْمُحْتَبَسُ فِيها بِذَنْبِهِ ، وَالْخَارِجُ بِعَفْوِ اللّهِ ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى قَرْيَتِكُمْ ه_ذِهِ قَدْ طَبَّقَهَا الْمَاءُ ، حَتَّى مَا يُرَى مِنْهَا إِلاَّ شُرَفُ الْمَسْجِدِ ، كَأَنَّهُ جُؤْجُؤُ طَيْرٍ في لُجَّةِ بَحْرٍ (1) !

الشّرْحُ :قوله : « وأتباع البهيمة » ، يعني الجمل ، وكان جمل عائشة رايةَ عسكر البصرة ، قُتِلوا دونه كما تُقْتَل الرجال تحت راياتها . وقوله : « أخلاقكم دقاق » ، يصفهم باللؤم . قوله : « وعهدكم شقاق » يصفهم بالغدر ، يقول : عهدكم وذمتكم لا يوثق بها ، بل هي وإن كانت في الصورة عهداً أو ذمّة ، فإنها في المعنى خلاف وعداوة . قوله : « وماؤكم زعاق » ، أي مِلْح ، وهذا وإن لم يكن من أفعالهم إلاّ أنه مما تُذم به المدينة . ثم وصف المقيم بين أظهرهم بأنه مرتَهَن بذنبه ؛ لأنّه إمّا أن يشاركهم في الذنوب ،

.


1- .رغا : من الرغاء وهو صوت الإبل . عقل : جرح . دقاق الشيء : صغيره وحقيره ، دقاق الأخلاق : دناءتها . الشقاق : الخلاف . الزعاق : المالح .

ص: 112

14 . من خطبة له عليه السلام في ذم البصرة أيضاً

أو يراها فلا ينكِرُها . والجؤجؤ : عَظْم الصدر ؛ وجؤجؤ السفينة : صدرها . والصحيح أنّ المخبَر به قد وقع ، فإنَّ البصرة غرقت مرتين ، مرة في أيام القادر باللّه ، ومرة في أيام القائم بأمر اللّه ، غرقت بأجمعها ولم يبق منها إلا مسجدها الجامع بارزا بعضه كجؤجؤ الطائر ، حَسَب ما أخبر به أمير المؤمنين عليه السلام . وأخبار هذين الغرقين معروفة عند أهل البصرة ، يتناقله خلَفهم عن سلفهم .

14الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام في مثل ذلكأَرْضُكُمْ قَرِيبَةٌ مِنَ الْمَاءِ ، بَعِيدَةٌ مِنَ السَّمَاءِ ، خَفَّتْ عُقُولُكُمْ ، وَسَفِهَتْ حُلُومُكُمْ ، فَأَنْتُمْ غَرَضٌ لِنَابِلٍ ، وَأُكْلَةٌ لاِكِلٍ ، وَفَرِيسَةٌ لِصَائِل .

الشّرْحُ :الغَرَض : ما يُنصَب ليُرمى بالسهام . والنابل : ذو النَّبْل . والأُكلة ، بضم الهمزة : المأكول . وفريسة الأسد : ما يفترسه . وسَفِه فلان ، بالكسر ، أي صار سفيهاً ، وسَفُه بالضم أيضا . فأمّا قوله : « أرضُكم قريبة من الماء ، بعيدة من السماء » ، فقد قدّمنا معنى قوله « قريبة من الماء » وذكرنا غَرَقها من بحر فارس دَفْعتين ، ومراده عليه السلام بقوله : « قريبة من الماء » ، أي قريبة من الغَرَق بالماء . وأما « بعيدة من السماء » ، ومعنى البعد عن السماء هاهنا هو بُعد تلك الأرض المخصوصة عن دائرة معدّل النهار ، والبقاع والبلاد تختلف في ذلك . وقد دلّت الأرصاد والآلات النجُوميّة على أنّ أبعد موضع في المعمورة عن دائرة معدّل النهار هو الأُبُلّة ، والأُبلّة هي قصبة البصرة . وهذا الموضع من خصائص أمير المؤمنين عليه السلام ؛ لأنّه أخبر عن أمر لا تعرفه العرب ، ولا تهتدي إليه ، وهو مخصوص بالمدقّقين من الحكماء ، وهذا من أسراره وغرائبه البديعة .

.

ص: 113

15 . من خطبة له عليه السلام فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان

15الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام فيما رده على المسلمين من قطائع عثمانوَاللّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ ، وَمُلِكَ بِهِ الاْءِمَاءُ ؛ لَرَدَدْتُهُ ؛ فَإِنَّ في الْعَدْلِ سَعَةً . وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْعَدْلُ ، فَالْجَوْرُ عَلَيْهِ أَضْيَقُ (1) !

الشّرْحُ :القطائع : ما يُقطِعه الإمام بعضَ الرعيّة من أرض بيت المال ذاتِ الخراج ، ويُسقِط عنه خراجَه ، ويجعلُ عليه ضريبة يسيرة عوضا عن الخراج . وقد كان عثمان أقطع كثيرا من بني أُميّة وغيرهم من أوليائه وأصحابه قطائعَ من أرض الخراج على هذه الصورة ، وقد كان عمر أقطع قطائع ، ولكن لأرباب الغَناء في الحرب ، والآثار في الجهاد ، وعثمان أقطع القطائع صلة لرَحمِه ، وميلاً إلى أصحابه ، من غير عناء في الحرب ولا أثر . وهذه الخطبة ذَكرَها الكلبيّ مرويّةً مرفوعة إلى أبي صالح ، عن ابن عباس رضى الله عنه : أنّ عليا عليه السلام خَطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة ، فقال : ألا إنّ كلّ قطيعَةٍ أقطعها عُثْمان ، وكلَّ ما أعْطَاهُ من مال اللّه ، فهو مَرْدود في بيت المال ، فإنّ الحقَّ القديم لا يُبطله شيء ، ولو وجدتُه وقد تُزُوِّجَ به النساء ، وفُرّق في البلدان ، لرددته إلى حاله ؛ فإنَّ في العدل سعة ، ومَنْ ضاق عنه الحق فالجور عليه أضيق . وتفسيرُ هذا الكلام أنّ الواليَ إذا ضاقت عليه تدبيرات أُموره في العدل ، فهي في الجوْر أضيق عليه ؛ لأنّ الجائر في مَظِنّة أن يُمْنع ويُصَدّ عن جوره .

.


1- .الإماء : الجواري . السعة : ضد الضيق . الجور : الظلم .

ص: 114

16 . من خطبة له عليه السلام لما بويع في المدينة

16الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلام لما بويع بالمدينةذِمَّتِي بِمَا أَقُولُ رَهِينَةٌ . وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ . إِنَّ مَنْ صَرَّحَتْ لَهُ الْعِبَرُ عَمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْمَثُلاتِ ، حَجَزَتْهُ التَّقْوى عَنْ تَقَحُّمِ الشُّبُهَاتِ . أَلاَ وَإِنَّ بَلِيَّتَكُمْ قَدْ عَادَتْ كَهَيْئَتِهَا يَوْمَ بَعَثَ اللّهُ نَبِيَّهُ . وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً ، وَلَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً ، وَلَتُسَاطُنَّ سَوْطَ الْقِدْرِ ، حَتَّى يَعُودَ أَسْفَلُكُمْ أَعْلاَكُمْ ، وَأَعْلاَكُمْ أَسْفَلُكُمْ ، وَلَيَسْبِقَنَّ سَابِقُونَ كَانُوا قَصَّرُوا ، وَلَيُقَصِّرَنَّ سَبَّاقُونَ كَانُوا سَبَقُوا . وَاللّهِ مَا كَتَمْتُ وَشْمَةً ، وَلاَ كَذَبْتُ كِذْبَةً ، وَلَقَدْ نُبِّئْتُ بِه_ذَا الْمَقَامِ وَه_ذَا الْيَوْمِ . أَلاَ وَإِنَّ الْخَطَايَا خَيْلٌ شُمُسٌ حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُها ، وَخُلِعَتْ لُجُمُهَا ، فَتَقَحَّمَتْ بِهِمْ في النَّارِ . أَلاَ وَإنَّ التَّقْوَى مَطَايَا ذُلُلٌ ، حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا ، وَأُعْطُوا أَزِمَّتَها ، فَأَوْرَدَتْهُمُ الْجَنَّةَ . حَقٌّ وَبَاطِلٌ ، وَلِكُلٍّ أَهْلٌ ، فَلَئِنْ أَمِرَ الْبَاطِلُ لَقَدِيما فَعَلَ ، وَلَئِنْ قَلَّ الْحَقُّ فَلَرُبَّما وَلَعَلَّ ، وَلَقَلَّمَا أَدب_َرَ شَيْءٌ فَأَقْبَلَ .

قال الرضي رحمه الله : وأقول : إن في هذا الكلام الأدنى من مواقع الإحسان ما لا تبلغه مواقع الاستحسان ، وإن حظ العجب منه أكثر من حظ العجب به . وفيه _ مع الحال التي وصفنا _ زوائد من الفصاحة لا يقوم بها لسان ، ولا يطَّلع فَجَّها إنسان ، ولا يعرف ما أقول إلاّ من ضرب في هذه الصناعة بحق ، وجرى فيها على عرق . (وما يَعْقِلُهَا إلاّ الْعَالِمُونَ ) .

ومن هذه الخطبةشُغِلَ مَنِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ أَمَامَهُ ! سَاعٍ سَرِيعٌ نَجَا ، وَطَالِبٌ بَطِيءٌ رَجَا ، وَمُقَصِّرٌ في النَّارِ هَوَى . الْيَمِينُ وَالشِّمَالُ مَضَلَّةٌ ، وَالطَّرِيقُ الْوُسْطَى هِيَ الْجَادَّةُ عَلَيْهَا بَاقِي

.

ص: 115

الْكِتَابِ وَآثَارُ النُّبُوَّةِ ، وَمِنْهَا مَنْفَذُ السُّنَّةِ ، وَإلَيْهَا مَصِيرُ الْعَاقِبَةِ . هَلَكَ مَنِ ادَّعَى ، وَخَابَ مَنِ افْتَرَى . مَنْ أَبْدَى صَفْحَتَهُ لِلْحَقِّ هَلَكَ وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلاً أَلاَّ يَعْرِفَ قَدْرَهُ . لاَ يَهْلِكُ عَلَى التَّقْوَى سِنْخُ أَصْلٍ ، وَلاَ يَظْمَأُ عَلَيْهَا زَرْعُ قَوْمٍ . فَاسْتَتِرُوا فِي بُيُوتِكُمْ ، وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ، وَالتَّوْبَةُ مِنْ وَرَائِكُمْ ، وَلاَ يَحْمَدْ حَامِدٌ إِلاَّ رَبَّهُ ، وَلاَ يَلُمْ لاَئِمٌ إِلاَّ نَفْسَهُ .

الشّرْحُ :الذّمّة : العقْد والعهد ، يقول : هذا الدَّيْن في ذمّتي ، كقولك : في عنقي ؛ وهما كناية عن الالتزام والضّمان والتقلّد . والزّعيم : الكفِيل ، ومخرج الكلام لهم مخرج الترغيب في سماع ما يقوله ، كما يقول المهتَمّ بإيضاح أمر لقوم لهم : أنا المُدْرِكُ المتقلّد بصدْق ما أقوله لكم . وصرّحت : كشَفْت . والعِبَر : جمع عِبْرَة ، وهي الموعظة . والمَثُلات : العقوبات . وحَجزَه : منعه . وقوله : « لَتُبَلْبَلُنَّ » أي لَتُخْلَطُنَّ ، تبلبلت الألسن ، أي اختلطت . « ولَتُغَرْبَلُنَّ » يجوز أن يكون من الغُرْبال الذي يُغَرْبَلُ به الدّقيق ، ويجوز أن يكون من غَرْبَلْتُ اللحم ، أي قطعته . فإنْ كانَ الأول كان له معنيان : أحدهما الاختلاط ، كالتَّبَلْبُل ؛ لأنّ غربلة الدقيق تخلط بعضَه ببعض . والثاني أن يريدَ بذلك أنه يسْتَخْلِصُ الصالح منكم من الفاسد ، ويَتَمَيَّز كما يُتَمَيَّز الدقيق عند الغَرْبلة من نُخالته . وتقول : ما عصيت فلانا وَشْمة ، أي كلمة . وحِصان شَموس : يمنع ظهره ، شَمَس الفرسُ ، بالفتح ، وبه شِماس . وأمِرَ الباطل : كَثُرَ . وقوله : « لقديما فعل » أي لقديما فعل الباطل ذلك ، ونَسَب الفعل إلى الباطل مجازا . ويجوز أن يكون « فعل » بمعنى « انفعل » كقوله : قَدْ جَبَرَ الدِّينَ الإلهُ فَجَبَرْ أي فانجَبر . والسِّنْخ : الأصل ، وقوله : « سِنْخ أصل » ، كقوله : كرى النوم . وفي بعض الروايات : « من أبدى صفحته للحق هلك عند جهلة الناس » ، والتأويل مختلف ، فمراده على الرواية الأُولى _ وهي الصحيحة _ : مَنْ كاشف الحقّ مخاصما له هَلَك ، وهي كلمة جارية مَجْرَى المثل . ومراده على الرواية الثانية : مَنْ أبدى صفحته لنُصْرَة الحقّ غَلبَه أهلُ الجهل _ لأنّهم العامّة ، وفيهم الكثرة _ فهلك .

.

ص: 116

وهذه الخطبة من جلائل خطبه عليه السلام ومن مشهوراتها ، قد رواها الناس كلّهم ، وفيها زيادات حذفها الرضيّ ، إمّا اختصارا أو خوفا من إيحاش السامعين ، وقد ذكرها شيخنا أبو عثمان الجاحظ في كتاب « البيان والتبيين » على وجهها (1) . ورواها عن أبي عُبيدة مَعْمَر بن المُثنّى ، قال : أوّل خطبة خطبها أمير المؤمنين علي عليه السلام بالمدينة في خلافته حمِد اللّه وأثنى عليه ، وصلى على النبيّ صلى الله عليه و آله ، ثم قال : ألا لا يُرْعِيَنَّ مُرْعٍ إلاّ على نفسه . شُغِل مَنِ الجنّة والنارُ أمامه . ساعٍ مجتهد يَنجو ، وطالب يرجو ، ومقصِّر في النار ؛ ثلاثة . وإثنان : مَلَكٌ طار بجَناحَيْه ، ونبيّ أخذ اللّهُ بيده ؛ لا سادس . هَلَكَ من ادَّعَى ، ورَدِيَ من اقتحم . اليمين والشّمال مَضَلّة ، والوسْطَى الجادّة ؛ منهج عليه باقي الكتاب والسُنّة وآثار النبوة . إن اللّه داوَى هذه الأُمّة بدواءيْن : السوْط والسّيْف ، لا هَوَادة عند الإمام فيهما . استَتِرُوا في بيُوتكم ، وأصْلِحُوا ذات بينكم ، والتَّوْبةُ منْ وَرائكم . من أبْدَى صفحتَه للحقّ هلك . قد كانت لكم أُمور مِلتُم فيها عليّ مَيْلَة لم تكونوا عندي فيها محمودين ولا مُصيبين . أما إنّي لو أشاء لقلتُ : عفا اللّه عمّا سلف . سبق الرّجلان وقام الثالث كالغراب ، هِمّتهُ بَطْنه . ويحَهُ لو قُصَّ جناحاه ، وقُطع رأسه لكان خيراً له ! انظروا فإن أنكَرْتم فأنكِروا ، وإن عرفتم فآزروا . حقٌّ وباطل ، ولكلٍّ أهل . ولئن أمِرَ الباطلُ لقديما فَعَل ، وإن قلّ الحق لَرُبّما ولَعَلّ ، وَقلَّما أدبر شيء فأقبل . ولئن رَجَعَتْ إليكم أُمورُكم إنكم لسُعداء ، وإني لأخشَى أن تكونوا في فَترةٍ ، وما علينا إلاّ الاجتهاد . قال شيخنا أبو عثمان رحمه اللّه تعالى : وقال أبو عبيدة : وزاد فيها في رواية جعفر بن محمد عليهماالسلام عن آبائه عليهم السلام : « ألا إنّ أبرار عِترَتي ، وأطايبَ أرُومَتي ، أحلم الناس صغارا ، وأعلم الناس عَلِمْنا كبارا ألا وإنّا أهل بيت مِنْ علْم اللّه علمْنا ، وبحُكْمِ اللّه حَكَمْنَا ، ومِنْ قولٍ صادق سَمِعْنا ، فإن تَتبِّعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا ، وإنْ لم تفعلوا يُهلِككم اللّه بأيدينا . ومعنا راية الحق ، من تبعها لَحِق ، ومَنْ تأخّر عنها غَرِق . ألا وبنا يُدرَكُ تِرَةُ كل مؤمن ، وبنا تخلع رِبْقة الذلّ عن أعناقكم ، وبنا فُتح لا بِكُم ، ومنا يُختَمُ لا بِكُمْ » .

.


1- .البيان والتبيين 2 : 50 _ 52 ، ورواها أيضا ابن قتيبة في عيون الأخبار 2 : 236 .

ص: 117

قوله : « لا يُرْعِيَنّ » أي لا يبقينّ ، أرعيتُ عليه ، أي أبقيت ؛ يقول : مَنْ أبقى على الناس فإنما أبقى على نفسه . والهوادة : الرفق والصلح ، وأصله اللينُ ، والتهويد : المشي رويدا . وآزرتُ زيداً : أعنتَه . والتّرة : الوتْر . والرِّبقة : الحبل يُجعل في عنق الشاة . وَردِي : هلك ، من الرَّدَى ، كقولك : عَمِيَ من العَمَى ، وشجِيَ من الشَّجَى . وقولُه : « شُغِلَ مَن الجنة والنار أمامه » ؛ يريدُ به أنّ مَنْ كانت هاتان الداران أمامه لَفِي شُغل عن أُمور الدنيا إن كان رشيدا . وقوله : « ساع مجتهد » إلى قوله : « لا سادس » كلام تقديره : المكلَّفون على خمسة أقسام : ساع مجتهد ، وطالب راج ، ومقصّر هالك . ثم قال : ثلاثة ، أي فهؤلاء ثلاثة أقسام ؛ وهذا ينظر إلى قوله سبحانه : « ثُمَّ أوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ومِنْهُمْ سَابِقٌ بالخَيْراتِ بإذْنِ اللّهِ » (1) ، ثم ذكر القسمين : الرابع والخامس ، فقال : هما مَلَك طار بجناحيه ، ونبيّ أخذ اللّه بيده ؛ يريد عِصْمَة هذين النوعين من القبيح . ثم قال : « لا سادس » ، أي لم يبق في المكلّفين قسم سادس . وهذا يقتضي أن العصمة ليست إلاّ للأنبياء والملائكة ، ولو كان الإمام يجب أن يكون معصوما لكان قسما سادسا (2) . وقوله : « هلك مَنِ ادَّعى ، وَرَدِيَ مَنِ اقتَحَم » ، يريد هلَك منِ ادّعى وكذب ، لابدّ من تقدير ذلك ؛ لأنّ الدعوى تعمُّ الصِّدق والكذب ، وكأنّه يقول : هَلَك منِ ادّعى الإمامة ، وَرَدِيَ من اقتحمها وَوَلَجَهَا عن غير استحقاق ؛ لأنّ كلامه عليه السلام في هذه الخطبة كلّه كنايات عن الإمامة لا عن غيرها (3) . وقوله : « اليمين والشمال » ، مثال ؛ لأنّ السالك الطريق المَنْهَجَ اللاحب ناجٍ ، والعادل عنها يمينا وشمالاً مُعرَّض للخطر . وقوله عليه السلام : « كالغراب » يعني الحرصَ والجشع ، والغراب يقع على الجيفة ، ويقع على الّثمرة ، ويقع على الحبّة ؛ وفي الأمثال : « أجشع من غراب » ، و « أحرص من غراب » . وقوله : « ويحَه لو قُصّ » ، يريد لو كان قُتِل أو مات قبل أن يتلبّس بالخلافة لكان خيرا له ، من أن يعيش ويدخل فيها ، ثم قال لهم : أفكروا فيما قد قلت ، فإن كان منكَرا فأنكِروه ، وإن كان حقّا فأعينوا عليه .

.


1- .سورة فاطر 32 .
2- .لا يقتضي ما قاله ؛ لأنّ الإمام عليه السلام حاله حال النبي صلى الله عليه و آله وسلم ، فقوله عليه السلام «ونبي أخذ اللّه بيده » يدلّ بالدلالة العرفية بالاقتصار على أظهر الفردين وإرادة الأعم كما هو المتداول في المحاورات ، فالإمام والنبي من سنخ واحد ، النبي قد جاء بالشريعة والإمام حافظ لها . « نهج الصباغة 4:541 » بتصرّف .
3- .تعريض بمعاوية ودعواه الإمامة .

ص: 118

وقوله : « استتروا في بيوتكم » نهيٌ لهم عن العصبيّة والاجتماع والتحزّب ، فقد كان قوم بعد قتل عثمان تكلّموا في قتله من شيعة بني أُميّة بالمدينة . وأمّا قوله : « قد كانت أُمور لم تكونوا عندي فيها محمودين » ، فمراده أمرُ عثمان وتقديمه في الخلافة عليه . ومن الناس مَنْ يحمِلُ ذلك على خلافة الشيخين أيضا . ولسنا نمنع من أن يكون في كلامه عليه السلام الكثير من التوجّد والتألّم لصرْف الخلافة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه و آله ؛ وإنما كلامنا الآن في هذه اللفظات التي في هذه الخطبة ، على أنّ قوله عليه السلام : « سبق الرجُلان » ، والاقتصار على ذلك فيه كفاية في انحرافه عنهما . وأمّا قوله : « حق وباطل » إلى آخر الفصل ، فمعناه كلّ أمر فهو إمّا حقّ ، وإمّا باطل ، ولكلّ واحدٍ من هذين أهلٌ وما زال أهل الباطل أكثرَ من أهل الحق ؛ ولئن كان الحق قليلاً فربما كَثُر ، ولعله ينتصر أهلُه . ثم قال على سبيل التضجر بنفسه : « وقلّما أدبَر شيء فأقبل » ، استبعد عليه السلام أن تعود دولة قوم بعد زوالها عنهم . ثم قال : « ولئن رجعت عليكم أُموركم » أي إن ساعدني الوقت ، وتمكّنت من أن أحكم فيكم بحكم اللّه تعالى ورسوله ، وعادت إليكم أيام شبيهة بأيام رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وسيرةٌ مماثلة لسيرته في أصحابه ؛ إنكم لَسُعداء . ثم قال : « وإني لأخشى أن تكونوا في فَتْرة » ، الفترةُ هي الأزمنة التي بين الأنبياء إذا انقطعت الرسل فيها ؛ كالفَتْرة التي بين عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه و آله ؛ لأنّه لم يكن بينهما نبيّ ، بخلاف المدة التي كانت بين موسى وعيسى عليهماالسلام ؛ لأنّه بُعِث فيها أنبياء كثيرون ، فيقول عليه السلام : إنّي لأَخشى ألاّ أتمكن من الحكم بكتاب اللّه تعالى فيكم ، فتكونوا كالأمم الذين في أزمنة الفَتْرة لا يرجعون إلى نبيٍّ يشافههم بالشرائع والأحكام ؛ وكأنّه عليه السلام قد كان يعلم أنّ الأمر سيضطرب عليه . ثم قال : « وما علينا إلاّ الاجتهاد » ، يقول : أنا أعمل ما يجب عليّ من الاجتهاد في القيام بالشريعة وعزل ولاة السوء وأُمراء الفساد عن المسلمين ، فإنْ تمّ ما أريده فذاك ، وإلاّ كنت قد أعْذَرْتُ . وأمّا التتِمّة المروية عن جعفر بن محمد عليهماالسلام فواضحة الألفاظ ، وقوله في آخرها : « وبنا تُختَم لا بِكُم » إشارة إلى « المهديّ » الذي يظهر في آخر الزمان . وأكثر المحدّثين على أنّه من وَلَد فاطمة عليهاالسلام . وأصحابنا المعتزلة لا ينكرونه ، وقد صرّحوا بذكره في كتبهم ، واعترف به شيوخهم ، إلاّ أنه عندنا لم يُخلَق بعد ، وسيخلق . وإلى هذا المذهب يذهب أصحاب

.

ص: 119

17 . من خطبة له عليه السلام في صفة من يتصدى للحكم بين الأُمة وليس لذلك بأهل

الحديث أيضا . وروى قاضي القضاة رحمه اللّه تعالى عن كافِي الكفاة أبي القاسم إسماعيل بن عَبّاد رحمه اللهبإسناد متصل بعليّ عليه السلام أنّه ذكر المهديّ ، وقال : إنّه من ولد الحسين عليه السلام ، وذكر حِليتَه (1) ، فقال رجل : أجْلَى الجبين ، أقنى الأنف ، ضخم البطن ، أزيل (2) الفَخِذين ، أبلج الثنايا ، بفخذه اليمنى شامة ... . وذكر هذا الحديث بعينه عبد اللّه ابن قتيبة في كتاب « غريب الحديث » 3 .

17الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام في صفة من يتصدى للحكم بين الأُمة وليس لذلك بأَهلإِنَّ أَبْغَضَ الْخَلاَئِقِ إِلَى اللّهِ رَجُلاَنِ : رَجُلٌ وَكَلَهُ اللّهُ إِلَى نَفْسِهِ ؛ فَهُوَ جَائِرٌ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ ، مَشْغُوفٌ بِكَلامِ بِدْعَةٍ ،

.


1- .حِليته : صفته .
2- .الزيل : التباعد مابين الفخذين .

ص: 120

وَدُعَاءِ ضَلاَلَةٍ ، فَهُوَ فِتْنَةٌ لِمَنِ افْتَتَنَ بِهِ ، ضَالٌّ عَنْ هَدْيِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ ، مُضِلٌّ لِمَنِ اقْتَدَى بِهِ في حَيَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ ، حَمَّالٌ خَطَايَا غَيْرِهِ ، رَهْنٌ بِخَطِيئَتِهِ . وَرَجُلٌ قَمَشَ جَهْلاً ، مُوضِعٌ فِي جُهَّالِ الْأُمَّةِ ، عَادٍ في أَغْبَاشِ الْفِتْنَةِ ، عَمٍ بِمَا في عَقْدِ الْهُدْنَةِ ؛ قَدْ سَمَّاهُ أَشْبَاهُ النَّاسِ عَالِما وَلَيْسَ بِهِ ، بَكَّرَ فَاسْتَكْثَرَ مِنْ جَمْعٍ ؛ مَا قَلَّ مِنْهُ خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَحَتَّى إِذَا ارْتَوَى مِنْ مَاءٍ آجِنٍ ، وَاكْتَنَزَ مِن غَيْرِ طَائِلٍ ، جَلَسَ بَيْنَ النَّاسِ قَاضِيا ضَامِنا لِتَخْلِيصِ مَا الْتَبَسَ عَلَى غَيْرِهِ ، فَإِنْ نَزَلَتْ بِهِ إِحْدَى الْمُبْهَمَاتِ هَيَّأَ لَهَا حَشْوا رَثّا مِنْ رَأْيِهِ ، ثُمَّ قَطَعَ بِهِ ، فَهُوَ مِنْ لَبْسِ الشُّبُهَاتِ في مِثْلِ نَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ . لاَ يَدْرِي أَصَابَ أَمْ أَخْطَأَ ؛ فَإِنْ أَصَابَ خَافَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْطَأَ ، وَإِنْ أَخْطَأَ رَجَا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَ . جَاهِلٌ خَبَّاطُ جَهَالاَت ، عَاشٍ رَكَّابُ عَشَوَات ، لَمْ يَعَضَّ عَلَى الْعِلْمِ بِضِرْسٍ قَاطِعٍ . يُذري الرِّوَايَاتِ إذراء الرِّيحِ الْهَشِيمَ . لاَ مَلِيٌّ _ وَاللّهِ _ بِإصْدَارِ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ ، وَلاَ أَهْلٌ لِمَا فُوّض إليه لاَ يَحْسَبُ الْعِلْمَ في شَيْءٍ مِمَّا أَنْكَرَهُ ، وَلاَ يَرَى أَنَّ مِنْ وَرَاءِ مَا بَلَغَ مَذْهَبا لِغَيْرِهِ ، وَإنْ أَظْلَمَ عَلَيْهِ أَمْرٌ اكْتَتَمَ بِهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ جَهْلِ نَفْسِهِ ، تَصْرُخُ مِنْ جَوْرِ قَضَائِهِ الدِّمَاءُ ، وَتَعُجُّ مِنْهُ الْمَوَارِيثُ . إِلَى اللّهِ أَشْكُو مِنْ مَعْشَرٍ يَعيِشُونَ جُهَّالاً ، وَيَمُوتُونَ ضُلاَّلاً ، لَيْسَ فِيهمْ سِلْعَةٌ أَبْوَرُ مِنَ الْكِتَابِ إِذَا تُِليَ حَقَّ تِلاوَتِهِ، وَلاَ سِلْعَةٌ، أَنْفَقُ بَيْعاً وَلاَ أَغْلَى ثَمَناً مِنَ الْكِتَابِ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ، وَلاَ عِنْدَهُمْ أَنْكَرُ مِنَ الْمَعْرُوفِ ، وَلاَ أَعْرَفُ مِنَ الْمُنْكَرِ!

الشّرْحُ :وكله إلى نفسه : تركه ونفسَه ، وكلْتُه وَكْلاً ووُكولاً . والجائر : الضالّ العادل عن الطريق . وقَمَش جهلاً : جمعه . ومُوضِع : مسرع ؛ أوضع البعيرُ أسرع ، وأوضعه راكبُه فهو مُوضِعٌ به ، أي أسرع به . وأغْباش الفتنة : ظُلمها ، الواحد غَبَش ، وأغباش الليل : بقايا ظُلمته . والماء الآجن : الفاسد . واكتثر » ، كقولك : « استكثر ، ويروى : « اكتنز » ، أي اتخذ العلم كنزاً . والتخليص : التبيين ، وهو والتلخيص متقاربان ، ولعلّهما شيء واحد من المقلوب .

.

ص: 121

والمبهمات : المشكلات ؛ وإنّما قيل لها مُبْهمَة ؛ لأنّها أُبْهِمَت عن البيان ، كأنها أُصمِتَتْ فلم يُجْعَلْ عليها دليل ولا إليها سبيل ، أو جعل عليها دليل وإليها سبيل ؛ إلاّ أنّه متعسّر مستَصعَب ؛ ولهذا قيل لما لا ينطق من الحيوان : بَهيمة ، وقيل للمصمَت اللّون الذي لا شِيَةَ فيه بَهيم. وقوله : « حشوا رثاً » كلام مخرجه الذمّ ، والرثّ ، الخَلَق ، ضدّ الجديد . وقوله « حشواً » ، يعني كثيرا لا فائدة فيه . وعاشٍ : خابطٌ في ظلام . وقوله : « لم يَعضّ » يريد أنه لم يتقِنْ ولم يُحكم الأُمور ، فيكون بمنزلة من يَعضُّ بالنّاجذ ، وهو آخر الأضراس . وإنما يطلع إذا استحكمت شبيبةُ الإنسان واشتدّتْ مِرّته ؛ ولذلك يدعوه العوام ضِرْس الحِلْم ، كأنّ الحِلْمَ يأتي مع طلوعه ، ويَذْهب نَزَق الصِّبا ؛ ويقولون : رجلٌ مُنَجَّذ ، أي مجرّب مُحْكَم ، كأنه قد عضّ على ناجذه وكَمَل عقلُه . وقوله : « يُذْرِي الروايات » هكذا أكثر النسخ ، وأكثر الروايات « يُذْرِي » من « أَذْرَى » رباعياً ؛ وقد أوضحه قوله : « إذْرَاء الريح » ، يقال : طعنه فأذْراه ، أي ألقاه ، وأذريتُ الحَبّ للزرع ، أي ألقيته ، فكأنه يقول : يُلْقِي الروايات كما يُلْقِي الإنسان الشيء على الأرض ؛ والأجود الأصح الرواية الأُخرى « يَذْرُو الرِّواياتِ ذَرْوَ الريح الهشيم » ، وهكذا ذكر ابن قتيبة في « غريب الحديث » لمّا ذكر هذه الخطبة عن أمير المؤمنين عليه السلام ، قال تعالى : « فَأَصْبَحَ هَشيما تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ » ، والهشيم : ما يبس من النَّبْت وتفتّت . قوله : « لامليّ » أي لا قيّم به ، وفلان غنيّ مليء ، أي ثقة بيّن الملأ والملاء ، بالمد . وفي كتاب ابن قتيبة تتمة هذا الكلام : « ولا أهل لما قُرّظ به » ، قال : أي ليس بمستحق للمدح الذي مُدح به . والذي رواه ابن قتيبة من تمام كلام أمير المؤمنين عليه السلام هو الصحيح الجيّد ؛ لأنّه يُستقبَح فيالعربية أن تقول : لا زيدَ قائم ، حتى تقول : ولا عمرو . أو تقول : ولا قاعد ؛ فقوله عليه السلام : « لا مليّ » أي لا هُوَ مليء ، وهذا يستدعى « لا » ثانية ، ولا يحسن الاقتصار على الأُولى . وقوله عليه السلام : « اكتتم به » أي كتمه وستره . وقوله : « تصرُخ منه وتعَجّ » . العجّ : رفع الصوت ؛ وهذا من باب الاستعارة . وفي كثير من النسخ : « إلى اللّه أشكو » ، فمن روى ذلك وقف على « المواريث » ، ومن روى الراوية الأُولى وَقَف على قوله :

.

ص: 122

« إلى اللّه » ويكون قوله : « من معشر » من تمام صفات ذلك الحاكم ، أي هو من معشرٍ صفتهم كذا . و « أبْوَر » أفعل ، من البوْر : الفاسد ، بارَ الشيء أي فسد ، وبارت السلعة أي كسدت ولم تنفُق ، وهو المراد هاهنا ، وأصله الفساد أيضا . إن قيل : بيِّنوا الفرْقَ بين الرَّجُلين اللذيْن أحدُهما وكَلَه اللّه إلى نفسه ، والآخر رجل قمش جهلاً ؛ فإنّهما في الظاهر واحد . قيل : أمّا الرجل الأوّل ، فهو الضالّ في أُصول العقائد ، كالمشبِّه والمجبّر ونحوهما ؛ ألا تراه كيف قال : « مشغوف بكلام بدعة ، ودعاء ضلالة » ، وهذا يُشعر بما قلناه ، من أنّ مرادَه به المتكلّم في أُصول الدين ، وهو ضالّ عنِ الحقّ ؛ ولهذا قال : إنّه فتنة لمن افتتن به ، ضالّ عن هُدَى مَنْ قبله ، مضلّ لمن يجيء بعده . وأما الرجل الثاني ، فهو المتفقة في فروع الشَّرْعيات ، وليس بأهل لذلك ، كفقهاء السوء ، ألا تراه كيف يقول : جلس بين الناس قاضياً! وقال أيضا : « تصرُخ من جور قضائه الدماء ، وتَعِجّ منه المواريث » . فإن قيل : ما معنى قوله في الرَّجُل الأول : « رَهْن بخطيئته » ؟ قيل : لأنّه إن كان ضالاًّ في دعوته مُضلاًّ لمن اتّبعه ، فقد حمل خطاياه وخطايا غيره ، فهو رَهْن بالخطيئتين معاً ، وهذا مثل قوله تعالى : « وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ » (1) . وإن قيل : ما معنى قوله « عمٍ بما في عقد الهدنة » ؟ قيل : الهدنة أصلُها في اللغة السّكون ، يقال : هَدَنَ إذا سكن ، ومعنى الكلام أنَّه لا يعرف ما في الفتنة من الشرّ ، ولا ما في السكون والمصالحة من الخير . ويروى « بما في غيب الهدنة » ، أي في طيِّها وفي ضمنها . ويروى « غارّ في أغباش الفتنة » ، أي غافل ذو غِرّة . وروي « من جمعٍ » بالتنوين فتكون « ما » على هذا اسماً موصولاً ، وهي وصلتها في موضع جَرٍّ لأنها صفة « جمع » ، ومن لم يرو التنوين في « جمع » حذف الموصوف ، تقديره : مِنْ جمع شيء ما قلّ منه خيرٌ مما كَثُر ، فتكون « ما » مصدرية ، وتقدير الكلام : قلّتُه خيرٌ من كثرته ، ويكون موضع ذلك جراً أيضا بالصفة .

.


1- .سورة العنكبوت 13 .

ص: 123

18 . من خطبة له عليه السلام في ذم اختلاف العلماء في الفتيا

18الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام في ذم اختلاف العلماء في الفتياتَرِدُ عَلَى أَحَدِهِمُ الْقَضِيَّةُ في حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ ؛ فَيَحْكُمُ فِيهَا بِرَأْيِهِ ، ثُمَّ تَرِدُ تِلْكَ الْقَضِيَّةُ بِعَيْنِهَا عَلَى غَيْرِهِ ؛ فَيَحْكُمُ فِيها بِخِلافِ قَوْلِهِ ، ثُمَّ يَجْتَمعُ الْقُضَاةُ بِذلِكَ عِنْدَ الاْءِمَامِ الَّذِي اسْتَقْضَاهُمْ ، فَيُصَوِّبُ آرَاءَهُمْ جَمِيعا _ وَإِل_هُهُمْ واحِدٌ ! وَنَبِيُّهُمْ وَاحِدٌ ، وَكِتَابُهُمْ وَاحِدٌ ! أَفَأَمَرَهُمُ اللّهُ _ سُبْحَانَهُ _ بِالاِخْتِلاَفِ فَأَطَاعُوهُ ؟! أَمْ نَهَاهُمْ عَنْهُ فَعَصَوْهُ ! أَمْ أَنْزَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ دِينا نَاقِصا فَاسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى إِتْمَامِهِ ؟ أَمْ كَانُوا شُرَكَاءَ لَهُ ، فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَرْضَى ؟ أَمْ أَنْزَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ دِينا تَامَّا فَقَصَّرَ الرَّسُولُ عَنْ تَبْلِيغِهِ وَأَدَائِهِ ؟ وَاللّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ : «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ» (1) وَفِيهِ تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيءٍ ، وَذَكَرَ أَنَّ الْكِتَابَ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضا ، وَأَنَّهُ لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ : «وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفا كَثِيرا» (2) . وَإِنَّ الْقُرْآنَ ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ وَبَاطِنُهُ عَمِيقٌ ، لاَ تَفْنَى عَجَائِبُهُ، وَلاَ تَنْقَضِي غَرَائِبُهُ ، وَلاَ تُكْشَفُ الظُّلُمَاتُ إلاَّ بِهِ (3) .

الشّرْحُ :الأنيق : المعجِب ، وآنقني الشيء ، أي أعجبني ؛ يقول : لاينبغي أن يُحمَل جميعُ ما في الكتاب العزيز على ظاهره ؛ فكم من ظاهرٍ فيه غيرُ مرادٍ ، بل المراد به أمر آخر باطن ؛

.


1- .سورة الأنعام 38 .
2- .سورة النساء 82 .
3- .الفُتيا : الفتوى . استقضاهم : طلبهم أو اختارهم للقضاء . يصوّب : يحكم بصوابها وهي صحّتها . فرّطنا : من فرّط في الشيء قصّر وأظهر العجز فيه . التبيان : التوضيح . الأنيق : المعجِب ، الحسن . تنقضي : تفنى وتنعدم .

ص: 124

والمراد الردّ على أهل الاجتهاد في الأحكام الشرعية ، وإفسادُ قول من قال : كلّ مجتهد مصيب (1) ، وتلخيص الاحتجاج من خمسة أوجه : الأوّل : أنَّه لَمّا كان الإله سبحانه واحدا ، والرسول صلى الله عليه و آله واحداً ، والكتاب واحدا ، وجب أن يكونَ الحُكْم في الواقعة واحداً . الثاني : لا يخلو الاختلافُ الَّذِي ذهب إليه المجتهدون ، إمّا أن يكونَ مأموراً به أو منهيّا عنه ، والأوَّل باطل ؛ لأنّه ليس في الكتاب والسنّة ما يمكِّن الخصم أن يتعلّق به في كَوْن الاختلاف مأمورا به . والثاني حَقّ ، ويلزم منه تحريم الاختلاف . الثالث : إمّا أن يكونَ دينُ الإسلام ناقصا أو تامّا ، فإن كان الأول ، كان اللّه سبحانه قد استعان بالمكلَّفين على إتمام شريعةٍ ناقصة أرسَل بها رسوله ، إمّا استعانهً على سبيل النيابة عنه ، أو على سبيل المشاركة له ، وكلاهما كفر . وإن كان الثاني ؛ فإمّا أن يكون اللّه تعالى أنزلَ الشرع تامّا فقصَّر الرسولُ عن تبليغه ، أو يكونَ الرسولُ قد أبلغه على تمامه وكماله ؛ فإنْ كان الأوّل فهو كُفر أيضا ؛ وإنْ كان الثاني فقد بَطَل الاجتهاد ؛ لأنّ الاجتهاد إنما يكون فيما لم يتبين ؛ فأمّا ما قد بُيِّن فلا مجال للاجتهاد فيه . الرابع : الاستدلالُ بقوله تعالى : « مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ» (2) ، وقوله : « تِبْيَانا لِكُلِّ شَيْءٍ » (3) ، وقوله سبحانه : « وَلاَ رَطبٍ وَلاَ يَابِسٍ إلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ » (4) ، فهذه الآيات دالّة على اشتمال الكتاب العزيز على جميع الأحكام ؛ فكلّ ما ليس في الكتاب وجب ألاَّ يكون في الشرع . الخامس : قوله تعالى : « وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفا كَثِيرا » (5) ، فجُعل الاختلافُ دليلاً على أنه ليس من عند اللّه ، لكنه من عند اللّه سبحانه بالأدلّة القاطعة الدالّة على صحة النبوّة ، فوجب ألاّ يكون فيه اختلاف .

.


1- .في هذه الخطبة المراد هو ذم العمل بالرأي وترك الأُصول المقرّرة في الشريعة بها يستنط الحكم الشرعي من الكتاب والسنّة وتابعيهما العقل والإجماع ، وهذه الأربعة هي أدلة الأحكام عندنا أما غيرنا فقد يدخلون الظن والقياس والإستحسان ، مما ورد المنع الشديد من أئمة أهل البيت عليهم السلام من الاعتماد عليه ، لأنّ أحكام اللّه سبحانه لا تصاب بالآراء ، ولا تدرك أسرارها بالأفكار .
2- .سورة الأنعام 38 .
3- .سورة النحل 89 .
4- .سورة الأنعام 59 .
5- .سورة النساء 82 .

ص: 125

19 . من خطبة له عليه السلام ؛ قاله للأشعث ؛ وهو على منبر الكوفة

19الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام قاله للأشعث بن قيس (1) وهو على منبر الكوفة يخطب فمضى في بعض كلامه شيء اعترضه الأشعث فيه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، هذه عليك لا لك ، فخفض عليه السلام إليه بصره ثم قال :ومن كلام له عليه السلام قاله للأشعث بن قيس 2 وهو على منبر الكوفة يخطب فمضى في بعض كلامه شيء اعترضه الأشعث فيه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، هذه عليك لا لك ، فخفض عليه السلام إليه بصره ثم قال : مَا يُدْرِيكَ مَا عَلَيَّ مِمَّا لِي ، عَلَيْكَ لَعْنَةُ اللّهِ وَلَعْنَةُ اللاَّعِنِينَ ! حَائِكٌ ابْنُ حَائِكٍ ! مُنَافِقٌ ابْنُ كَافِرٍ ! وَاللّهِ لَقَدْ أَسَرَكَ الْكُفْرُ مَرَّةً وَالاْءِسْلامُ أُخْرى ! فَمَا فَدَاكَ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَالُكَ وَلاَ حَسَبُكَ ! وَإِنَّ امْرَأً دَلَّ عَلَى قَوْمِهِ السَّيْفَ وَسَاقَ إِلَيْهِمُ الْحَتْفَ ، لَحَرِىٌّ أَنْ يَمْقُتُهُ الْأَقْرَبُ ، وَلاَ يَأْمَنَهُ الْأَبْعَدُ! قال الرضي رحمه الله : يُرِيدُ عَلَيهِ السَّلامُ أنه أُسر في الكفر مرة وفي الإسلام مرة . وأمّا قوله عليه السلام : «دلّ على قومه السيف» فأراد به حديثا كان للأشعث مع خالد بن الوليدباليمامة ، غرّ فيه قومه ومكر بهم حتّى أوقع بهم خالد ، وكان قومه بعد ذلك يسمونه «عُرْفَ النار» وهو اسم للغادر عندهم .

الشّرْحُ :خفَض إليه بصره : طأطأه . وقوله : « فما فَدَاك » ، لا يريد به الفِداء الحقيقيّ ؛ فإنّ الأشعث فُدِي في الجاهلية بفداء يضرب به المثل ، فيقال : « أغلى فداء من الأشعث » ، وإنما يريد : ما

.


1- .الأشعث بن قيس : اسم الأشعث معد يكرب ، وأبوه قيس الأشجّ ، وغلب عليه الأشعث حتى نُسي اسمه ؛ لأنّه كان _ أبداً _ أشعث الرأس مغبرّه . أسلم الأشعث أيام النبي صلى الله عليه و آله وسلم ، ثمّ ارتدّ بعد وفاته ، وألّب قومه حتى ورّطهم في حرب المسلمين ، ثم أسلمهم إلى القتل ، وأُخذ هو أسيرا إلى أبي بكر ، فعفا عنه وزوّجه أُخته أم فروة . كان من المنافقين في خلافة علي عليه السلام ، اشترك في دم الإمام عليه السلام ، واشترك ابنُه محمد في دم الإمام الحسين عليه السلام ، وابنته جعدة ناولت الإمام الحسن عليه السلام الزكيّ السمّ بتحريض من معاوية ، وهكذا جمع الأشعث اللؤم من أطرافه ، فلا يذكر هو وأهله إلاّ بكل شين وسوء .

ص: 126

20 . من خطبة له عليه السلام في تهويل ما بعد الموت وتعظيمه ؛ وفيها حث على الاعتبار

دفعَ عنك الأسرَ مالُك ولا حَسَبُك . ويمقته : يبغضه ، والمقت : البُغْض . فأمّا الكلام الذي كان أمير المؤمنين عليه السلام قاله على مِنْبر الكوفة فاعترضه فيه الأشعث ، فإنّ عليّا عليه السلام قام إليه _ وهو يخطُب ، ويذكر أمرَ الحكَمَيْن ، فقام إليه رجل من أصحابه ، بعد أن انقضى أمرُ الخوارج ، فقال له : نهيتَنا عن الحكومة ثم أمرتَنا بها ، فما ندري أيّ الأمرين أرْشَد ! فصفّق عليه السلام بإحدى يديه على الأُخرى ، وقال : « هذا جزاء من تَرَك العُقْدة » . وكان مرادُه عليه السلام : هذا جزاؤكم إذ تركتُم الرأْيَ والحزم ، وأصْرَرْتم على إجابة القوم إلى التحكيم ؛ فظنّ الأشعث أنه أراد : هذا جزائي حيثُ تركت الرأي والحزم وحكّمت ؛ لأنّ هذه اللفظة محتمِلة . ألا ترى أن الرئيس إذا شغب عليه جنده ، وطلبوا منه اعتماد أمرٍ ليس بصواب ؛ فوافقهم تسكيناً لشغبهم لا استصلاحاً لرأيهم ، ثم ندموا بعد ذلك ، قد يقول : هذا جزاء من ترك الرأي وخالف وجه الحزم ! ويعني بذلك أصحابه ، وقد يقوله يعني به نفسه حيث وافقهم . وأمير المؤمنين عليه السلام إنّما عَنَى ما ذكرناه دون ما خَطر للأشعث ، فلما قال له : هذه عليك لا لك ، قال له : « وما يدريك ما عليّ مما لي ، عليك لعنة اللّه ولعنة اللاعنين » ! وكان الأشعثُ من المنافقين في خلافة عليّ عليه السلام ، وهو في أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ، كما كان عبد اللّه بن أُبيّ بن سَلُول في أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، كلّ واحد منهما رأسُ النفاق في زمانه . وأمّا قوله عليه السلام للأشعث : « حائك ابن حائك » ، فإن أهل اليمن يعيَّرون بالحياكة ؛ وليس هذا مما يَخُصّ الأشعث .

20الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامفَإِنَّكُمْ لَوْ قَدْ عَايَنْتُمْ مَا قَدْ عَايَنَ مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ ؛ لَجَزَعْتُمْ وَوَهِلْتُمْ ، وَسَمِعْتُمْ

.

ص: 127

وَأَطَعْتُمْ ، وَلكِنْ مَحْجُوبٌ عَنْكُمْ مَا قَدْ عَايَنُوا ، وَقَرِيبٌ مَا يُطْرَحُ الْحِجَابُ! وَلَقَدْ بُصِّرْتُمْ إِنْ أَبْصَرْتُمْ ، وَأُسْمِعْتُمْ إِنْ سَمِعْتُمْ ، وَهُدِيتُمْ إِنْ اهْتَدَيْتُمْ ، وَبِحَقٍّ أَقُولُ لَكُمْ : لَقَدْ جَاهَرَتْكُمُ الْعِبَرُ . وَزُجِرْتُمْ بِمَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ . وَمَا يُبَلِّغُ عَنِ اللّهِ بَعْدَ رُسُلِ السَّمَاءِ إِلاَّ الْبَشَرُ (1) .

الشّرْحُ :الوهَل : الخوف ، وهِلَ الرجل يَوْهَل . و « ما » في قوله : « ما يُطْرَح » مصدرية ؛ تقديره : « وقريب طَرْح الحجاب » ، يعني رفعَه بالموت . وهذا الكلامُ يدلّ على صِحّة القول بعذاب القبر ، وأصحابنا كلُّهم يذهبون إليه ، وإن شنّع عليهم أعداؤهم من الأشعرية وغيرهم بجحْده . ويمكن أن يقول قائل : هذا الكلام لا يدلّ على صحّة القول بعذاب القبر ؛ لجواز أن يعنِي بمعاينة من قد مات ، ما يشاهده المحتضَر من الحالة الدالّة على السعادة أو الشقاوة ، فقد جاء في الخبر : « لا يموت امرُؤ حتى يعلَم مصيره ؛ هل هو إلى جنّة أم إلى النار » . ويمكن أن يعنى به ما يعاينه المحتضَر من ملك الموت وهَوْل قدومه . ويمكن أن يعنى به ما كان عليه السلام يقول عن نفسه : إنه لا يموت ميّت حتى يشاهدَه عليه السلام حاضرا عنده . والشيعة تذهب إلى هذا القول وتعتقدُه ، وتروي عنه عليه السلام شعرا قاله للحارث الأعور الهمدانيّ 2 : يا حارِ هَمْدَانَ مَنْ يَمُتْ يَرَنِيمن مؤمنٍ أو منافقٍ قُبُلا يَعْرفنِي طرفُه وأعرِفُهبِعَيْنِه واسمِه وَمَا فَعَلا أقول لِلنّار وهي توقد لل_عَرْضِ ذَرِيهِ لاَ تَقْرَبِي الرَّجُلا ذَرِيهِ لا تقربِيهِ إنَّ لَهُحَبْلاً بحَبْلِ الوصيّ مُتَّصِلا وَأَنْتَ يا حار إن تمتْ ترنيفلا تَخْفْ عَثرةً ولا زللا أسْقيكَ مِنْ باردٍ على ظمأٍتخاله في الحلاوةِ العَسَلا وليس هذا بمنكَر إن صحّ أنّه عليه السلام قاله عن نفسه ، ففي الكتابِ العزيزِ ما يدلّ على أنّ أهل الكتاب لا يموت منهم ميّت حتى يصدِّق بعيسى بن مريم عليه السلام ؛ وذلك قوله : « وَإن مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ إلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدا » (2) ، قال كثيرٌ من المفسرين : معنى ذلك أنّ كلَّ ميت من اليهود وغيرهم من أهل الكتب السالفة إذا احتُضِر رأى المسيح عيسى عنده ، فيصدّق به مَنْ لم يكن في أوقات التكليف مصدِّقا به .

.


1- .عاين : رآه بعينه . الجزع : عدم الصبر على المصيبة . جاهرتكم : من الجهر وهو الارتفاع وكلام جهير أي عالٍ . العبر : جمع عبرة ، وهي الموعظة ، والمراد هنا الاعتبار . مزدجر : ما فيه ردع ومنع عن التقحّم في المعاصي والآثام .
2- .سورة النساء 159 .

ص: 128

21 . من خطبة له عليه السلام في تذكير المسلمين بالساعة واليوم الآخر

21الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامفَإِنَّ الْغَايَةَ أَمَامَكُمْ ، وَإِنَّ وَرَاءَكُمُ السَّاعَةَ تَحْدُوكُمْ . تَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا فَإِنَّمَا يُنْتَظَرُ بِأَوَّلِكُمْ آخِرُكُمْ . قال الرضي رحمه الله : أقول : إن هذا الكلام لو وزن ، بعد كلام اللّه سبحانه ، وبعد كلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، بكل كلام لَمَالَ به راجحا ، وبرّز عليه سابقا . فأمّا قوله عليه السلام : «تخففوا تلحقوا» فما سُمع كلام أقل منه مسموعا ولا أكثر مِنه محصولاً ، وما أبعد غورها من كلمة ! وأنقع نطفتها من حكمة ! وقد نَبَّهْنا في كتاب «الخصائص» على عظم قدرها ، وشرف جوهرها .

.

ص: 129

22 . من خطبة له عليه السلام فيمن اتهمه في دم عثمان

الشّرْحُ :غاية المكلّفين هي الثواب أو العقاب ، فيحتمِل أن يكونَ أراد ذلك ، ويحتمِل أن يكون أراد بالغاية الموت ، وإنما جعل ذلك أمامنا ؛ لأنّ الإنسان كالسائر إلى الموت ، أو كالسائر إلى الجزاء ، فهما أمامه ، أي بين يديه . ثم قال : « وإن وراءكم الساعةَ تحدوكم » ، أي تسوقكم ، وإنّما جعلها وراءنا ؛ لأنها إذا وُجدت ساقت الناس إلى موقف الجزاء كما يسوقُ الراعى الإبل ، فلما كانت سائقةً لنا ، كانت كالشيء يحفِزُ الإنسان من خَلْفه ، ويحرّكه من ورائه ، إلى جهة ما بين يديه . وأمّا قوله : « تخفّقوا تلحَقوا » ، فأصله : الرجل يسعى ، وهو غير مُثْقَل بما يحمله ، يَكون أجْدَر أن يلحَق الذين سبقوه ، ومثله قوله : « نجا المخفّفون » . وقوله عليه السلام : « فإنما ينتَظر بأوّلكم آخركم » ، يريد : إنّما يُنتظر ببعث الذين ماتوا في أوّل الدهر ، مجيءُ مَنْ يخلقون ويموتون في آخره ، كأمير يريد إعطاءَ جنده إذا تكامل عرضُهم ، إنما يعطِي الأول منهم إذا انتهى عَرْض الأخير . وهذا كلام فصيح جدا . والغَوْر : العمق . والنّطفة : ما صفا من الماء ، وما أنقع هذا من الماء ! أي ما أرواه للعطش !

22الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامأَلاَ وَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ ذَمَرَ حِزْبَهُ ، وَاسْتَجْلَبَ جَلَبَهُ ، لِيَعُودَ الْجَوْرُ إلَى أَوْطَانِهِ ، وَيَرْجِعَ الْبَاطِلُ إِلى نِصَابِهِ . وَاللّهِ مَا أَنْكَرُوا عَلَيَّ مُنْكَرا ، وَلاَ جَعَلُوا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ نَصَفا . وَإِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقَّا هُمْ تَرَكُوهُ ، وَدَما هُمْ سَفَكُوهُ : فَلَئِن كُنْتُ شَرِيكَهُمْ فِيهِ فَإِنَّ لَهُمْ لَنَصِيبَهُمْ مِنْهُ ، وَلَئِنْ كَانُوا وَلُوهُ دُوني ، فَمَا التَّبِعَةُ إِلاَّ عِنْدَهُمْ . وَإِنَّ أَعْظَمَ حُجَّتِهِمْ لَعَلَى أَنْفُسِهِمْ ، يَرْتَضِعُونَ أُمّا

.

ص: 130

قَدْ فَطَمَتْ ، وَيُحْيُونَ بِدْعَةً قَدْ أُمِيتَتْ . يا خَيْبَةَ الدَّاعِي ! مَنْ دَعَا ! وَإِلاَمَ أُجِيبَ ؟ وَإِنِّي لَرَاضٍ بِحُجَّةِ اللّهِ عَلَيْهِمْ وَعِلْمِهِ فِيهمْ . فَإِنْ أَبَوْا أَعْطَيْتُهُمْ حَدَّ السَّيْفِ ، وَكَفَى بِهِ شَافِيا مِنَ الْبَاطِلِ ، وَنَاصِرا لِلْحَقِّ! وَمِنَ الْعَجَبِ بَعْثُهُمْ إِلَىَّ أَنْ أَبْرُزَ لِلطِّعَانِ ! وَأَنْ أَصْبِرَ لِلْجِلادِ ! هَبِلَتْهُمُ الْهَبُولُ ! لَقَدْ كُنْتُ وَمَا أُهَدَّدُ بِالْحَرْبِ ، وَلاَ أُرْهَبُ بِالضَّرْبِ ! وَإِنِّي لَعَلَى يَقِينٍ مِنْ رَبِّي ، وَغَيْرِ شُبْهَةٍ مِنْ دِيني .

الشّرْحُ :يروى : « ذَمَر » بالتخفيف ، و « ذمّر » بالتشديد ، وأصله الحضّ والحثّ ، والتشديد دليل على التكثير . واستجلب جَلَبه ، الجلَب بفتح اللام : ما يُجلب ، كما يقال : جَمَع جَمْعَه . ويروى : « جُلْبَه » و « جِلْبَه » ، وهما بمعنىً ، وهو السحاب الرقيق الذي لا ماء فيه ، أي جمع قوماً كالجهام الذي لا نفع فيه . وروي : « ليعودَ الجَوْر إلى قِطابه » ، والقِطاب : مِزاج الخمر بالماء ، أي ليعود الجوْر ممتزِجا بالعدل كما كان . ويجوز أن يعنِيَ بالقِطاب قِطااب الجيْب ، وهو مدخل الرأس فيه ، أي ليعودَ الجوْر إلى لباسه وثوبه . ورُوِيَ « الباطلَ » بالنصب ؛ على أن يكون « يرجع » متعدياً ، تقول : رجعت زيداً إلى كذا ؛ والمعنى : ويردّ الجورُ الباطل إلى أوطانه . والنَّصف : الذي يُنصِف . يرتضعون أُمّا قد فَطَمت ، يقول : يطلبون الشيء بعد فواته ؛ لأنّ الأُم إذا فَطَمت ولدها فقد انقضى إرضاعها . وقوله : « يا خيبة الداعي » ، هاهنا كالنداء في قوله تعالى : « يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ » (1) ، وقوله : « يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا » (2) أي يا خيبة احضري ، فهذا أوانك! وكلامُه في هذه الخطبة مع أصحاب الجمل ؛ والداعي هو أحدُ الثلاثة : الرجلان والمرأة (3) .

.


1- .سورة يس 30 .
2- .سورة الأنعام 31 .
3- .أي طلحة والزبير وعائشة . أما طلحة فقد كان يحرّض على قتل عثمان ولا يخفي ميله إلى الثائرين ، وأمّا الزبير ، فقد كان هواه مع الثائرين على عثمان ، ولكنه لم يتظاهر ، وأما عائشة فكانت من أشد الناس إنكارا على عثمان ، حتى اشتهر عنها قولها : اقتلوا نعثلاً ، قتل اللّه نعثلاً ، أي عثمان . ثم لما قُتل عثمان انقلبوا يطالبون الأبرياء بدمه .

ص: 131

23 . من خطبة له عليه السلام في المال وقسمة الأرزاق بين الناس ، وفيها الحث على صلة الرحم ورعاية ذوي القربى

ثم قال على سبيل الاستصغار لهم ، والاستحقار : « مَنْ دَعَا ! وإلى ماذا أجيب ! » أي أحقِرْ بقومٍ دعاهم هذا الداعي ! وأقْبِحْ بالأمر الذي أجابوه إليه ، فما أفحشه وأرذله ! وهَبِلته أُمّه : ثَكِلته ، بكسر الباء . وقوله : « لقد كنتُ وما أهدَّد بالحرب » ، معناه : ما زلتُ لا أُهَدَّد بالحرب ، والواو زائدة . وهذه كلمة فصيحة كثيرا ما تستعملها العرب . وقد ورد في القرآن العزيز « كان » بمعنى « ما زال » في قوله : « وَكَانَ اللّهُ عَلِيما حَكِيما » (1) ونحو ذلك من الآي ، معنى ذلك : لم يزل اللّه عليما حكيما . هذه الخطبة من خُطَب الجمل ، وقد ذكر كثيرا منها أبو مخنف (رحمه اللّه تعالى) .

23الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامأَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ الْأَمْرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ كَقَطَرَاتِ الْمَطَرِ إلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا قُسِمَ لَهَا مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ ، فَإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ لِأَخِيهِ غَفِيرَةً في أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ فَلاَ تَكُونَنَّ لَهُ فِتْنَةً ؛ فَإنَّ الْمَرْءَ الْمُسْلِمَ مَا لَمْ يَغْشَ دَنَاءَةً تَظْهَرُ فَيَخْشَعَ لَهَا إِذَا ذُكِرَتْ ، وَيُغْرَى بِهَا لِئَامُ النَّاسِ ، كَانَ كَالْفَالِجِ الْيَاسِرِ الَّذِي يَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَةٍ مِنْ قِدَاحِهِ تُوجِبُ لَهُ الْمَغْنَمَ ، وَيُرْفَعُ بِهَا عَنْهُ الْمَغْرَمُ وَكَذلِكَ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ الْبَرِيءُ مِنَ الْخِيَانَةِ يَنتَظِرُ مِنَ اللّهِ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ : إِمَّا دَاعِيَ اللّهِ ؛ فَمَا عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ لَهُ ، وَإِمَّا رِزْقَ اللّهِ ؛ فَإِذَا هُوَ

.


1- .سورة النساء 170 .

ص: 132

ذُو أَهْلٍ وَمَالٍ ، وَمَعَهُ دِينُهُ وَحَسَبُه . وإِنَّ الْمالَ والْبَنِينَ حَرْثُ الدُّنْيَا ، وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ حَرْثُ الآخِرَةِ ، وَقَدْ يَجْمَعُهُمَا اللّهُ تَعَالَى لِأَقْوَامٍ ، فَاحْذَرُوا مِنَ اللّهِ مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِهِ ، وَاخْشَوْهُ خَشْيَةً لَيْسَتْ بِتَعْذِيرٍ ، وَاعْمَلُوا في غَيْرِ رِيَاءٍ وَلاَ سُمْعَةٍ ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ لِغَيْرِ اللّهِ يَكِلْهُ اللّهَ لِمَنْ عَمِلَ لَهُ . نَسْأَلُ اللّهِ مَنَازِلَ الشُّهَداءِ ، وَمُعَايَشَةَ السُّعَدَاءِ ، وَمُرَافَقَةَ الأنْبِيَاءِ . أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّهُ لاَ يَسْتَغْنِي الرَّجُلُ _ وَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ _ عَنْ عِتْرَتِهِ وَدِفَاعِهِمْ عَنْهُ بِأَيْدِيهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ ، وَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ حَيْطَةً مِنْ وَرَائِهِ ، وَأَلَمُّهُمْ لِشَعَثِهِ ، وَأَعْطَفُهُمْ عَلَيْهِ عِنْدَ نَازِلَةٍ إِذَا نَزَلَتْ بِهِ . وَلِسَانُ الصِّدْقِ يَجْعَلُهُ اللّهُ لِلْمَرْءِ في النَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْمَالِ يُوَرِّثُهُ غَيْرَهُ . ومنها : أَلاَ لاَ يَعْدِلَنَّ أَحَدُكُمْ عَنِ الْقَرَابَةِ يَرَى بِهَا الْخَصَاصَةَ أَنْ يَسُدَّهَا بِالَّذِي لا يَزِيدُهُ إِنْ أَمْسَكَهُ ، وَلاَ يَنْقُصُهُ إِنْ أَهْلَكَهُ ؛ وَمَنْ يَقْبِضْ يَدَهُ عَنْ عَشِيرَتِهِ ، فَإِنَّمَا تُقْبَضُ مِنْهُ عَنْهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ ، وَتُقْبَضُ مِنْهُمْ عَنْهُ أَيْدٍ كَثِيرَةٌ ؛ وَمَنْ تَلِنْ حَاشِيَتُهُ يَسْتَدِمْ مِنْ قَوْمِهِ الْمَوَدَّةَ (1) . قال الرضي رحمه الله : أقول : الغفيرة ها هنا الزيادة والكثرة ، من قولهم للجمع الكثير : الجم الغفير ، والجماء الغفير . ويروى «عِفْوة من أهل أو مال» والعِفْوة : الخيار من الشيء يقال : أكلت عِفْوةَ الطعام ، أي خياره . وما أحسن المعنى الذي أراده عليه السلام بقوله : «ومن يقبض يده عن عشيرته ... » إلى تمام الكلام ، فإن الممسك خيره عن عشيرته إنما يمسك نفع يد واحدة ؛ فإذا احتاج إلى نصرتهم ،

.


1- .الغفيرة : الزيادة . يغشى : يأتي . يغري : يحرّض . الفالج : الظافر ، الفائز . الياسر : اللاّعب بالميسر أي القمار . القداح : سهام يلعب بها بالقمار . المغنم : المنفعة . المغرم : المضرّة . الحرث : الكسب ، ما يعود على الحارث بالنفع . التعذير : العذر الكاذب . السمعة : الشهرة أو ما يقصد به الشهرة . الحَيطة : الرعاية . الشَّعث : التفرّق . النازلة : المصيبة . لسان الصدق : حسن الذكر بالحقّ .

ص: 133

واضطر إلى مرافدتهم قعدوا عن نصره ، وتثاقلوا عن صوته ، فمُنع ترافد الأيدي الكثيرة ، وتناهُض الأقدام الجمة .

الشّرْحُ :الفالج : الظافر الفائز ، فَلَج يَفْلُج ، بالضم ، وفي المثل : « مَنْ يأت الحكَم وحده يَفْلُج » . والياسر : الذي يلعب بالقداح ، واليَسَر مثله ، والجمع أيسار . وفي الكلام تقديم وتأخير ، تقديره : كالياسر الفالج ، أي كاللاعب بالقِداح المحظوظ منها ، وهو من باب تقديم الصفة على الموصوف. وقوله : « ليست بتعذير » ، أي لَيست بذات تعذير ، أي تقصير ، فحذف المضاف ، كقوله تعالى : « قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ » (1) أي ذي النَّار . وقوله : « هم أعظم الناس حَيْطة » كَبَيْعَة ، أي رعاية وكلاءة ، ويروى « حِيطة » كغيبة ، وهي مصدر حاط ، أي تحنّنا وتعطفا . والخصاصة : الفقر ، يقول : القضاءُ والقَدر ينزل من السماء إلى الأرض كقطْر المطر ، أي مبثوث في جميع أقطار الأرض إلى كلّ نفس بما قُسِم لها من زيادة أو نقصان ، في المال والعمر والجاه والولد وغير ذلك . فإذا رَأَى أحدُكم لأخيه زيادة في رزق أو عمر أو ولد وغير ذلك ؛ فلا يكونَنّ ذلك له فِتْنَةً تُفضِي به إلى الحسد ، فإنّ الإنسان المسلم إذا كان غيرَ مُواقِعٍ لدناءة وقبيح يَسْتحيِي من ذكره بين الناس ، ويخشع إذا قرِّع به ، ويغرَي لئام الناس بهَتْك ستره به ، كاللاعب بالقِداح ؛ المحظوظ منها ، ينتظر أول فَوْزَة وغلبَة من قِدَاحه ، تجْلب له نفعا ،وتدفع عنه ضرّا ؛ كذلك مَنْ وصفْنا حالَه ، يصبِر وينتظر إحدى الحسنيين ؛ إمّا أنْ يدعُوَه اللّه فيقبضَه إليه ، ويستأثِرَ به ، فالذي عند اللّه خير له . وإمّا أنْ يُنْسَأ في أجَله ، فيرزقه اللّهُ أهلاً ومالاً ، فيصبِحَ وقد اجتمع له ذلك مع حَسَبه ، ودينه ، ومروءته المحفوظة عليه . ثم قال : « المال والبنون حرث الدنيا » ، وهو من قوله سبحانه : « المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحيَاةِ الدُّنْيا » ، ومن قوله تعالى : « مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ في الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ » (2) .

.


1- .سورة البروج 4 و 5 .
2- .سورة الشورى 20 .

ص: 134

24 . من خطبة له عليه السلام فيمن خالف الحق وخابط الغي

قال : وقد يجمعهما اللّه لأقوام ، فإنّه تعالى قد يرزقُ الرجل الصالح مالاً وبنين ، فتجتمِعُ له الدنيا والآخرة . ثم قال : « فاحذروا من اللّه ما حذّركم من نفسه » ، وذلك لأنّه تعالى قال : « فَاتَّقُونِ » (1) ، وقال : « فَارْهَبُونِ » (2) ، وقال : « فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ » (3) ، وغير ذلك من آيات التحذير . ثم قال : ولتكن التّقْوى منكم أقصى نهايات جهدكم ، لا ذات تقصيركم ، فإنّ العمل القاصر ، قاصر الثواب ، قاصر المنزلة . واعلم أن مصدر هذا الكلام النهي عن الحسد ، وهو من أقبح الأخلاق المذمومة ، وقد نهى عليه السلام عنه إمّا بالصبر وانتظار الفرج من اللّه تعالى ؛ إمّا بموت مريح أو بظفر بالمطلوب . ثم نهى عنه الرياء في العمل وطلب السمعة . والرياء في العمل منهيٌ عنه بل العمل ذو الرياء ليس بعمل في الحقيقة ؛ لأنّه لم يقصد به وجه اللّه تعالى . ثم أمر عليه السلام بالاعتضاد بالعشيرة والتكثّر بالقبيلة ؛ فإن الإنسان لا يستغني عنهم وإن كان ذا مال . ثم ذكر عليه السلام أن لسان الصدق يجعله اللّه للمرء في الناس خيرٌ له من المال يورّثه غيره ، ولسان الصدق هو أن يُذكر الإنسان بالخير ويُثنى عليه به . قال اللّه سبحانه : «وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الاْخِرِينَ» (4) .

24الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلاموَلَعَمْرِي مَا عَلَيَّ مِنْ قِتَالِ مَنْ خَالَفَ الْحَقَّ ، وَخَابَطَ الْغَيَّ ، مِنْ إدْهَانٍ وَلاَ إيِهَانٍ . فَاتَّقُوا اللّهَ عِبَادَ اللّهِ ، وَفِرُّوا إِلَى اللّهِ مِنَ اللّهِ ، وَامْضُوا فِي الَّذِي نَهَجَهُ لَكُمْ ، وَقُومُوا بِمَا

.


1- .سورة البقرة 41 .
2- .سورة البقرة 40 .
3- .سورة المائدة 44 .
4- .الشعراء 84 .

ص: 135

25 . من خطبة له عليه السلام وقد تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد

عَصَبَهُ بِكُمْ ، فَعَلِيٌّ ضَامِنٌ لِفَلْجِكُمْ آجِلاً إِنْ لَمْ تُمْنَحُوهُ عَاجِلاً .

الشّرْحُ :الإدْهان : المصانعة والمنافقة ، قال سبحانه : « وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ » (1) . والإيهان : مصدر أوهنتُه، أي أضعفته، ويجوز وهنته ؛ بحذف الهمزة . ونَهَجه : أوضَحه وجعله نَهْجا ، أي طريقا بيّنا . وعَصَبه بكم : ناطه بكم وجعله كالعِصابة التي تشدّ بها الرأس. والفلْج : الفوز والظفر . وقوله : « وخابط الغيّ » كأنّه جعله والغيَّ متخابطَيْن ، يخبِط أحدهما في الآخر ؛ وذلك أشدّ مبالغة من أن تقول : خَبَط في الغَيّ ؛ لأنّ من يَخْبِط ويَخْبِطَه غيره يكون أشدّ اضطرابا ممن يخبِط ولا يخبطه غَيْرُه . وقوله : « ففرّوا إلى اللّه من اللّه » ، أي اهرُبوا إلى رحمة اللّه من عذابه .

25الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلام وقد تواترت عليه الأَخبار باستيلاءِ أَصحاب معاوية على البلاد وقدم عليه عاملاه على اليمن ، وهما عبيد اللّه بن عباس وسعيد بن نَمْرَان لما غلب عليهما بُسْرُ بن أَبي أَرْطَاة فقام عليه السلام على المنبر ضجرا بتثاقل أَصحابه عن الجهاد ، ومخالفتهم له في الرأْي ، فقال :مَا هِيَ إِلاَّ الْكُوفَةُ ، أَقْبِضُهَا وَأَبْسُطُهَا ، إِنْ لَمْ تَكُوني إِلاَّ أَنْتِ ، تَهُبُّ أَعاصِيرُك فَقبَّحَك اللّهُ ! وتمثل بقول الشاعر : لَعَمْرُ أَبِيكَ الْخَيْرِ يَا عَمْرُو إِنَّنيعَلَى وَضَرٍ _ مِنْ ذَا الاْءِنَاءِ _ قَلِيلِ

.


1- .سورة القلم 9 .

ص: 136

ثم قال عليه السلام : أُنْبِئْتُ بُسْرا قَدِ اطَّلَعَ الْيَمَنَ ، وَإِنِّي وَاللّهِ لَأَظُنُّ أَنَّ هؤُلاءِ الْقَوْمَ سَيُدَالُونَ مِنْكُمْ بِاجْتِمَاعِهمْ عَلَى بَاطِلِهمْ ، وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ ، وَبِمَعْصِيَتِكُمْ إِمَامَكُمْ في الْحَقِّ ، وَطَاعَتِهِمْ إِمَامَهُمْ 1 في الْبَاطِلِ ، وَبِأَدَائِهِمُ الْأَمَانَةَ إِلَى صَاحِبِهِمْ وَخِيَانَتِكُمْ ، وَبِصَلاَحِهمْ في بِلاَدِهِمْ وَفَسادِكُمْ . فَلَوِ ائْتَمَنْتُ أَحَدَكُمْ عَلَى قَعْبٍ لَخَشِيتُ أَنْ يَذْهَبَ بِعِلاَقَتِهِ . اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ مَلِلْتُهُمْ وَمَلُّونِيوَسَئِمْتُهُمْ وَسَئِمُونِي ، فَأَبْدِلْنِي بِهِمْ خَيْرا مِنْهُمْ ، وَأَبْدِلْهُمْ بِي شَرَّا مِنِّي ! اللَّهُمَّ مِثْ قُلُوبَهُمْ كَمَا يُمَاثُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ ، أَمَا وَاللّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ لِي بِكُمْ أَلْفَ فَارِسٍ مِنْ بَنِي فِرَاسِ بْنِ غَنْمٍ . هُنَالِكَ ، لَوْ دَعَوْتَ ، أَتَاكَ مِنْهُمْفَوَارِسُ مِثْلُ أَرْمِيَةِ الْحَمِيمِ

ثم نزل عليه السلام من المنبر . قال الرضي رحمه الله : أقول : الأرمية جمع رَميٍّ وهو السحابُ ، والحميم ها هنا : وقت الصَّيف ، وإنما خصَّ الشاعر سحاب الصيف بالذكر لأنّه أشدّ جفولاً ، وأسرع خُفوفا لأنّه لا ماء فيه ، وإنما يكون السحاب ثقيل السير لامتلائه بالماء ، وذلك لا يكون في الأكثر إلاّ زمان الشتاء ، وإنما أراد الشاعر وصفهم

.

ص: 137

بالسرعة إذا دُعوا ، والإغاثة إذا استغيثوا ، والدليل على ذلك قوله : «هنالك ، لو دعوت ، أتاك منهم ... »

الشّرْحُ :الأعاصير : جمع إعصار ، وهي الريح المستديرة على نفسها ، قال اللّه تعالى : « فَأَصَابَهَا إعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ » (1) . والوضَرُ : بقيّة الدَّسَم في الإناء . وقد اطّلع اليمن ، أي غشِيَهَا وغزاها وأغار عليها . وقوله : « سَيُدالون منكم » ، أي يَغْلبُونكم وتكون لهم الدولة عليكم . وماث زيد الملح في الماء : أذابه . وبنو فِراس بن غَنمْ بن ثعلبة بن مالك بن كنانة ، حيٌّ مشهور بالشجاعة . وقوله عليه السلام : « ما هيَ إلاّ الكوفة » ، أي ما مَلْكَتِي إلاّ الكوفة . أقبضها وأبسطها ، أي أتصرّف فيها كما يتصرّف الإنسان في ثوبه ، يقبضه ويبسطه كما يريد . ثم قال على طريق صرف الخِطاب : « فإن لم تكوني إلاّ أنت » ، خرج من الغيْبة إلى خطاب الحاضر ، يقول : إن لم يكنْ لي من الدنيا مُلْك إلاّ مُلْك الكوفةِ ذاتِ الفِتن ، والآراءِ المختلفة ، فأبعدها اللّه ! وشبّه ما كان يحدُث من أهلها من الاختلاف والشِّقاق بالأعاصير ؛ لإثَارتها التراب وإفسادها الأرض . ثم ذكَر عِلّة إدالة أهل الشام من أهل العراق ؛ وهي اجتماعُ كلمتهم وطاعتهم لصاحبهم ، وأداؤهم الأمانة وإصلاحهم بلادهم . فأمّا قوله عليه السلام : « اللّهمّ أبدِلني بهمْ خيرا منهم ، وأبْدِلهم بِي شرّا مِنّي » ، ولا خيْرَ فيهم ولا شرَّ فيه عليه السلام ؛ فإن « أفعل » هاهنا بمنزلته في قوله تعالى : « أفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أمَّنْ يَأْتِي آمِنا يَوْمَ الْقِيَامَةِ » (2) ، وبمنزلته في قوله : « قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ » (3) . ويحتمل أن يكون الذي تمنّاه عليه السلام من إبداله بهم خيرا منهم قوما صالحين ينصرونه

.


1- .سورة البقرة 266 .
2- .سورة فصّلت 40 .
3- .سورة الفرقان 15 .

ص: 138

26 . من خطبة له عليه السلام يذكر فيها العرب بما كانوا عليه قبل البعثة وشكواه من انفراده بعدها ، وذمه لمن بايع بشرط

ويوفّقون لطاعته . ويحتمل أن يريد بذلك ما بعد الموت من مرافقة النبيّ صلى الله عليه و آله . وهذه الخطبة ، خطب بها أمير المؤمنين عليه السلام بعد فراغه من صفين ؛ وانقضاء أمر الحكمين والخوارج ؛ وهي من أواخر خطبه عليه السلام .

26الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامإِنَّ اللّهَ بَعَثَ مُحَمَّدا صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ نَذِيرا لِلْعَالَمِينَ ، وَأَمِينا عَلَى التَّنْزِيلِ ، وَأَنْتُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ عَلَى شَرِّ دِينٍ ، وَفِي شِرِّ دَارٍ ، مُنِيخُونَ بَيْنَ حِجَارَةٍ خُشْنٍ وَحَيَّاتٍ صُمٍّ ، تَشْرَبُونَ الْكَدِرَ وَتَأْكُلُونَ الْجَشِبَ ، وَتَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ ، وَتَقْطَعُونَ أَرْحَامَكُمْ . الْأَصْنَامُ فِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ ، وَالآثَامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ (1) .

الشّرْحُ :يجوز أن يعنى بقوله : « بين حجارة خُشْن ، وحَيّات صُمٍّ » الحقيقةَ لا المجاز ؛ وذلك أنّ الباديةَ بالحجاز ونجد وتِهامة وغيرها من أرض العرب ذاتُ حياتٍ وحجارة خُشْن ، وقد يعني بالحجارة الخُشْن الجبالَ أيضا ، أو الأصنام ، فيكونُ داخلاً في قِسْم الحقيقة إذا فرضناه مُرادا ، ويكون المعنيّ بذلك وصفَ ما كانوا عليه من البؤس وشَظَف العيشة وسوء الاختيار في العبادة ، فأبدلهم اللّه تعالى بذلك الريفَ ولينَ المهاد وعبادةَ من يستحق العبادة . ويجوز أن يعني به المجاز ، وهو الأحسن ؛ يقال للأعداء حَيّات . والحيّة الصماء أدْهَى من التي ليست بصماء ؛ لأنّها لا تنزجر بالصوت . ويقال للعدوّ أيضا : إنه لحجر خَشِن المسّ ،

.


1- .منيخون : مقيمون . حيات صمّ : لا تنزجر بالصوت . الماء الكدر : غير الصافي . الطعام الجشب : الغليظ الخشن . معصوبة : مشدودة .

ص: 139

إذا كان ألدّ الخصام . والجَشِب من الطعام : الغليظُ الخَشِن . وقوله : « والآثام بكم معصوبة » ، استعارة ، كأنها مشدودة إليهم . وعنى بقوله : « تسفكون دماءكم ، وتقطعون أرحامكم » ما كانوا عليه في الجاهلية من الغارات والحروب .

الأصْلُ :ومنها : فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي مُعِينٌ إِلاَّ أَهْلُ بَيْتِي ، فَضَنِنْتُ بِهمْ عَنِ الْمَوْتِ وَأَغْضَيْتُ عَلَى الْقَذَى ، وَشَرِبْتُ عَلَى الشَّجَى ، وَصَبَرْتُ عَلَى أَخْذ الْكَظَمِ ، وَعَلى أَمَرَّ مِنْ طَعْمِ الْعَلْقَمِ .

الشّرْحُ :الكَظَم ، بفتح الظاء : مخرج النَّفَس ، والجمع أكْظام . وضنِنْت ، بالكسر : بخلت . وأغضيت على كذا : غضضت طرفى ، والشَّجى : ما يعترض في الحلق . فأمّا قوله عليه السلام : « لم يكن لي معين إلاّ أهل بيتي فضننتُ بهم عن الموت » فقول ما زال علي عليه السلام يقوله ، ولقد قاله عقيبَ وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، قال : « لو وجدتُ أربعين ذوي عزم » ذكر ذلك نصرُ بن مزاحم في كتاب ( صفين ) ، وذكره كثير من أرباب السيرة 1 .

.

ص: 140

وأمّا امتناع علي عليه السلام من البيعة حتى أُخرج على الوجه الذي أُخرج عليه ، فقد ذكره المحدّثون ورواه أهل السير .

الأصْلُ :ومنها : وَلَمْ يُبَايِعْ حَتَّى شَرَطَ أَنْ يُؤْتِيَه عَلَى الْبَيْعَةِ ثَمَنا ، فَلاَ ظَفِرَتْ يَدُ الْبَائِعِ ، وَخَزِيَتْ أَمَانَةُ الْمُبْتَاعِ ، فَخُذُوا لِلْحَرْبِ أُهْبَتَهَا ، وَأَعِدُّوا لَهَا عُدَّتَهَا فَقَدْ شَبَّ لَظَاهَا ، وَعَلاَ سَنَاهَا ، وَاسْتَشْعِرُوا الصَّبْرَ ، فَإِنَّهُ أَدْعَى إِلَى النَّصْرِ .

الشّرْحُ :هذا فصل من كلام يذكر فيه عليه السلام عمرو بن العاص . وقوله : « فلا ظفِرت يد البائع » ، يعني معاوية . وقوله : « وخزِيَتْ أمانة المبتاع » ، يعني عمرا ، وخزيت ، أي خسرت وهانت . وفي أكثر النسخ « فلا ظفرت يد المبايع » ، بميم المفاعلة ، والظاهر ما رويناه . وفي بعض النسخ « فإنه أحزم للنصر » ، من حَزَمْتُ الشيء إذا شددتَه ، كأنّه يشدّ النصر ويوثِّقه . والرواية التي ذكرناها أحسن . والأُهبة : العدّة . وشبّ لظاها استعارة ، وأصله صعود طرف النار الأعلى . والسنا : الضوء . واستشعروا الصبر : اتخذوه شعارا ، والشِّعار : ما يلي الجسد من الثياب ؛ وهو ألزم الثياب للجسد ؛ يقول : لازموا الصبر كما يلزم الإنسان ثوبَه الذي يلي جِلْدَه لابدّ له منه ، وقد يستغنى عن غيره من الثياب .

.

ص: 141

27 . من خطبة له عليه السلام في الحث على الجهاد وذم المتقاعدين

27الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامأَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ ، فَتَحَهُ اللّهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ ، وَهُوَ لِبَاسُ التَّقْوى ، وَدِرْعُ اللّهِ الْحَصِينَةُ ، وَجُنَّتُهُ الْوَثِيقَةُ . فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ أَلْبَسَهُ اللّهُ ثَوْبَ الذُّلِّ ، وَشَمِلَهُ الْبَلاَءُ ، وَدُيِّثَ بِالصَّغَارِ وَالْقَمَاءَةِ وَضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ بِالاْءِسْهَابِ ، وَأُدِيلَ الْحَقُّ مِنْهُ بِتَضْيِيعِ الْجِهَادِ ، وَسِيمَ الْخَسْفَ ، وَمُنِعَ النَّصَفَ . أَلاَ وَإِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَيْلاً وَنَهَارا ، وَسِرِّا وَإِعْلاَنا ، وَقُلْتُ لَكُمْ : اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ ، فَوَاللّهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ في عُقْرِ دَارِهِمْ إِلاَّ ذَلُّوا . فَتَواكَلْتُمْ وَتَخَاذَلْتُمْ حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الْغَارَاتُ ، وَمُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الْأَوْطَانُ . وَه_ذَا أَخُو غَامِدٍ وَقَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الْأَنْبَارَ ، وَقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ الْبَكْرِيَّ ، وَأَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا ، وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ وَالْأُخْرَى الْمُعَاهَدَةِ ، فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَقُلْبَهَا وَقَلاَئِدَهَا وَرُعُثَهَا ، مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاَّ بِالاِسْتِرْجَاعِ وَالاِسْتِرْحَامِ . ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ ، وَلاَ أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ ؛ فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِما مَاتَ مِنْ بَعْدِ ه_ذَا أَسَفا مَا كَانَ بِهِ مَلُوما ، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيرا! فَيَا عَجَبا ! عَجَبا _ وَاللّهِ _ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَيَجْلِبُ الْهَمَّ مِن اجْتِمَاعِ هؤُلاَءِ الْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ ، وَتَفَرُّقِكُمْ عَن حَقِّكُمْ ! فَقُبْحا لَكُمْ وَتَرَحا ، حِينَ صِرْتُمْ غَرَضا يُرْمى ؛ يُغَارُ عَلَيْكُمْ وَلاَ تُغِيرُونَ ، وَتُغْزَوْنَ وَلاَ تَغْزُونَ ، وَيُعْصَى اللّهُ وَتَرْضَوْنَ! فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ الْحَرِّ قُلْتُمْ : ه_ذِهِ حَمَارَّةُ الْقَيْظِ ، أَمْهِلْنَا يُسَبَّخُ

.

ص: 142

عَنَّا الْحَرُّ ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ قُلْتُمْ : ه_ذِهِ صَبَارَّةُ الْقُرِّ ؛ أَمِْهلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا الْبَرْدُ؛ كُلُّ هذَا فِرَاراً مِنَ الْحَرِّ وَالْقُرِّ؛ فَإِذَا كُنْتُمْ مِنَ الْحَرِّ وَالْقُرِّ تَفِرُّونَ ؛ فَأَنْتُمْ وَاللّهِ مِنَ السَّيْفِ أَفَرُّ ! يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ وَلاَ رِجَالَ ! حُلُومُ الْأَطْفَالِ ، وَعُقُولُ رَبَّاتِ الْحِجَالِ لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَرَكُمْ وَلَمْ أَعْرِفْكُمْ مَعْرِفَةً _ وَاللّهِ _ جَرَّتْ نَدَما وَأَعَقَبَتْ سَدَما . قَاتَلَكُمُ اللّهُ ! لَقَدْ مَلَأْتُمْ قَلْبِي قَيْحا ، وَشَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظا ، وَجَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ التَّهْمَامِ أَنْفَاسا وَأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ وَالْخذْلاَنِ ؛ حَتَّى لَقَدْ قَالَتْ قُرَيْشٌ : إِنَّ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ ، وَلكِنْ لاَ عِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ . للّهِ أَبُوهُمْ ! وَهَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاسا ، وَأَقْدَمُ فِيهَا مَقَاما مِنِّي ! لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا وَمَا بَلَغْتُ الْعِشْرِينَ ، وَه_ا أنا ذا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى السِّتِّينَ ! وَلكِنْ لاَ رَأْيَ لِمَنْ لاَ يُطَاعُ!

الشّرْحُ :هذه الخطبة من مشاهير خطبه عليه السلام ؛ قد ذكرها كثير من الناس ، ورواها أبو العباس المبرّد في أول « الكامل » (1) ، وأسقط من هذه الرواية ألفاظا وزاد فيها ألفاظا ، وقال في أولها : « إنه انتهى إلى عليّ عليه السلام أنّ خيلاً وردت الأنبار لمعاوية ، فقتلوا عاملاً له يقال له : حَسّان ابن حسان ، فخرج مغضَبا يَجُرّ رداءه ، حتى أتى النُّخَيلة (2) ، واتّبعه الناسُ ، فرقِيَ رُباوَة من الأرض ، فحمِد اللّه وأثنى عليه ، وصلى على نبيه صلى الله عليه و آله ، ثم قال : أما بعد فإنّ الجهَاد بابٌ من أبواب الجنة ، فمن تركه رغبة عنه ، ألبسه اللّه الذلّ وسيما الخَسْفِ » . قوله عليه السلام : « وهو لباس التقوى » ، فهو لفظة مأخوذة من الكتاب العزيز ، قال اللّه سبحانه : « قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسا يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشا وَلِبَاسُ التَّقْوَى » (3) . والجُنّة : ما يُجْتَنّ به ، أي

.


1- .الكامل 1:104 _ 107 بشرح المرصفي . يرويها عن عبيد اللّه بن حفص التميمي المعروف بابن عائشة .
2- .النخيلة : اسم موضع خارج الكوفة .
3- .سورة الأعراف 26 .

ص: 143

يستتر ، كالدّرع والحَجَفة . وتركه رغبة عنه ، أي زهدا فيه ، رغبت عن كذا ، ضدّ رغبت في كذا . ودُيِّث بالصغار ، أي ذُلّل ، بعير مُدَيّث ، أي مُذَلّل ؛ ومنه الديُّوث : الذي لا غيْرة له ، كأنّه قد ذُلّل حتى صار كذلك . والصَّغَار : الذلّ والضيم . والقَماء ؛ بالمد : مصدر قُمؤ الرجل قَماء وقماءة ، أي صار قميئا ، وهو الصغير الذليل ، فأمَّا قَمَأ ، بفتح الميم فمعناه سَمن ، ومصدره القُمُوء والقموءة . وقوله عليه السلام : « وضرب على قلبه بالإسهاب » ، فالإسهاب هاهنا هو ذهاب العقل ؛ ويمكن أن يكون من الإسهاب الذي هو كثرة الكلام ؛ كأنّه عوقب بأن يكثر كلامه فيما لا فائدة تحته . قوله : « وأُديل الحقّ منه بتضييع الجهاد » ، قد يظنّ ظانّ أنه يريد عليه السلام : وأدِيلِ الحقّ منه بأن أضِيعَ جهادُه ، كالباءات المتقدمة ، وهي قوله : « ودُيّث بالصغار » ، و « ضُرِب على قلبه بالإسهاب » . وليس كما ظنّ ، بل المراد : وأُدِيل الحقّ منه لأجل تضييعه الجهاد ، فالباء هاهنا للسببية ، كقوله تعالى : « ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ » (1) . والنّصَف : الإنصاف . وعُقْر دارهم ، بالضم : أصل دارهم ، والعُقْر : الأصل ، ومنه العَقَار للنخل ، كأنه أصل المال . وتواكلتم ، من وكلت الأمرَ إليك ووكلتَه إليّ ، أي لم يتولّه أحد منّا ، ولكن أحال به كلّ واحد على الآخر ، ومنه رجل وَكِل ، أي عاجز يكلُ أمرَه إلى غيره ، وكذلك وَكَلَة . وتخاذلتم ، من الخِذْلان . وَشُنّت عليكم الغارات : فُرِّقت ، وما كان من ذلك متفرقا ، نحو إرسال الماء على الوَجْه دَفْعة بعد دفعة ، فهو بالشين المعجمة ، وما كان أرسالاً غيرَ متفرِّق ، فهو بالسين المهملة ؛ ويجوز شَنّ الغارة وأشنّها . والمسالح : جمع مَسْلحة ، وهي كالثغر والمرقَب ، وفي الحديث : « كان أدنى مسالح فارس إلى العرب العُذَيب » (2) . والمعاهِدة : ذات العَهْد ، وهي الذمّية . والحِجْل : الخَلْخال ، ومن هذا قيل للفرس محجّل ، وسمِّي القيد حِجْلا ؛ لأنّه يكون مكان الخلخال . ورُعُثها : شُنُوفها ، جمع رِعاث بكسر الراء ، ورِعاث : جمع رَعْثة ، فالأول مثلُ خِمار وخُمُر ، والثاني مثل جَفْنة وجِفَان ، والقُلُب : جمع قلْب ، وهو السوار المصمَت . والاسترجاع ، قوله : « إنَّا للّهِِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ » (3) . والاسترحام : أن تناشدَه الرحم . وانصرفوا وافرين ، أي تامّين ، وَفُر الشيء نفسُه أي تَمّ فهو وافر ، ووَفرْتُ الشيء ، متعد : أي أتممته .

.


1- .سورة الأنعام 146 .
2- .ذكره ابن الأثير في النهاية 2 : 174 .
3- .سورة البقرة 156 .

ص: 144

وفي رواية المبرّد « موفورين » ، قال : من الوفْر ، أي لم يُنَلْ أحد منهم بأن يُرْزَأُ (1) في بدن أو مال . وفي رواية المبرد أيضا : « فتواكلْتم وتخاذلتم ، وثقل عليكم قولي ، واتخذتموه وراءكم ظهريا » ، قال : أي رميتُم به وراء ظهوركم ، أي لم تلتفتوا إليه ، يقال في المثل : لا تجعَلْ حاجتي منك بظَهْر ، أي لا تطرحها غيرَ ناظر إليها . والكلْم : الجراح . وفي رواية المبرد أيضا : « مات من دون هذا أسفاً » ، والأسف : التحسر . وفي رواية المبرد أيضا : « من تَظافُر هؤلاء القوم على باطلهم » ، أي من تعاونهم وتظاهرهم . وفي رواية المبرد أيضا « وَفَشلكم عن حقكم » ، الفشل : الجبن والنُّكولُ عن الشيء . فقبْحاً لكم وَتَرَحاً ، دعاء بأن ينحِّيَهم اللّه عن الخير ، وأن يُخزيهم ويسوءهم . والغَرَض : الهدم . وحَمَارّة القيظ ، بتشديد الراء : شدّةُ حَرّه . وَيُسَبَّخْ عَنّا الحرّ ، أي يخفّ . وصبارّة الشتاء ، بتشديد الراء : شدّة برده ، ولم يرو المبرّد هذه اللفظة ، وروى : « إذا قلتُ لكم اغزُوهم في الشتاء قلتم هذا أوان قَرّ وصِرّ ، وإن قلتُ لكم اغزُوهم في الصيف قلتم هذه حَمَارّة القيظ أنظِرْنا ينصرمُ عَنّا الحر » . الصِّر : شدّة البرد ، قال تعالى : « كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ » (2) . ولم يروِ المبرّد « حُلوم الأطفال » وروى عِوَضها « يا طَغَام الأحلام » ، وقال : الطّغام : من لا معرفة عنده ، ومنه قولهم : « طغام أهل الشام » . وربّاتِ الحجال : النساء ، جمع حَجَلة ، وهي بيت يزيَّن بالستور والثياب والأسرّة . والسّدَم : الحزن والغيظ . والقَيْح : ما يكون في القُرْحة من صديدها . وشحنتم : ملأتم . والنُّغَب : جمع نَغْبة وهي الجَرْعة . والتَّهمام ، بفتح التاء : الهمّ ، وكذلك كلّ « تَفْعال » ، كالترداد ، والتَّكرار ، والتَّجوال ، إلاّ التِّبيان والتِّلقاء فإنهما بالكسر . وأنفاسا ، أي جَرْعة بعد جَرْعة ، يقال : أكرع في الإناء نَفَسين أو ثلاثة . وذَرّفت على الستين ، أي زدت . ورواها المبرد : « نَيّفت » .

.


1- .لم يرزأ : من الرزء وهو المصيبة .
2- .سورة آل عمران 117 .

ص: 145

28 . من خطبة له عليه السلام في إدبار الدنيا وإقبال الآخرة والحث على التزود لها

وروى المبرّد في آخرها : فقام إليه رجل ومعه أخوه فقال : يا أمير المؤمنين ، إني وأخي هذا ، كما قال اللّه تعالى : « رَبِّ إنِّي لا أمْلِكُ إلاَّ نَفْسِي وَأخِي » (1) ، فمرنا بأمرك ، فواللّه لننتهيَنّ إليه ولو حال بيننا وبينه جَمْر الغضا وشوك القتاد . فدعا لهما بخير وقال : وأين تقعان مما أريد ؟ ثم نزل .

28الأصْلُ :

.


1- .سورة المائدة 25 .

ص: 146

اتِّبَاعُ الْهَوَى ، وَطُولُ الْأَمَلِ ، فَتَزَوَّدُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الدُّنْيَا مَا تَحْرُزُونَ بِهِ أَنْفُسَكُمْ غَدا .

قال الرضي رحمه الله : وَأَقُولُ : إنّهُ لو كان كلامٌ يأخذ بالأعناق إلى الزهد في الدنيا ، ويضطر إلى عمل الآخرة لكان هذا الكلام ، وكفى به قاطعا لعلائق الآمال ، وقادحا زناد الاتعاظ والازدجار ، ومِنْ أعجبه قوله عليه السلام : « أَلاَ وَإِنَّ الْيَوْمَ المِضْمارَ ، وَغَدا السِّبَاقَ ، وَالسَّبَقَةُ الْجَنَّةُ ، وَالْغَايَةُ النَّارُ » فإن فيه _ مع فخامة اللفظ ، وعظم قدر المعنى ، وصادق التمثيل ، وواقع التشبيه _ سرّا عجيبا ، ومعنىً لطيفا ، وهو قوله عليه السلام : « وَالسَّبَقَةُ الْجَنَّةُ ، وَالْغَايَةُ النَّارُ » فخالف بين اللفظين لاختلاف المعنيين ، ولم يقل : «السَّبَقَةُ النَّار» كما قال : « السَّبَقَةُ الْجَنَّةُ » ؛ لأنّ الاستباق إنما يكون إلى أمر محبوبٍ ، وغرض مطلوبٍ ، وهذه صفة الجنة وليس هذا المعنى موجودا في النار ، نعوذ باللّه منها ! فلم يجز أن يقول : « والسَّبَقَةُ النَّار » بل قال : « وَالْغَايَةُ النَّار » ؛ لأنّ الغاية قد ينتهي إليها من لا يسره الانتهاء إليها ، ومن يسره ذلك فصَلح أن يعبر بها عن الأمرين معا ، فهي في هذا الموضع كالمصير والمآل ، قال اللّه تعالى : « قُلْ تَمَتَّعُوا فَإنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ) ولا يجوز في هذا الموضع أن يقال : سبقتكم _ بسكون الباء _ إلى النار ، فتأمل ذلك ، فباطنه عجيب ، وغوره بعيد لطيف وكذلك أكثر كلامه عليه السلام . وفي بعض النسخ : وقد جاء في رواية أُخرى « والسُّبْقَة الجَنَّة » بضم السّين ، والسّبقة عندهم : اسم لما يجعل للسابق إذا سبق من مال أو عرض . والمعنيان متقاربان ؛ لأنّ ذلك لا يكون جزاءً على فعل الأمر المذموم وإنما يكون جزاءً على فعل الأمر المحمود .

الشّرْحُ :آذنت : أعلمت . والمضْمار ، منصوب ؛ لأنّه اسم « إن » . واليوم ظرف ، وموضعه رفع ؛ لأنّه خبر « إنّ » ، وظرف الزمان يجوز أن يكون خبراً عن الحدَث ، والمضمار : وهو الزمان الذي تضمّر فيه الخيل للسباق ، والضّمْر : الهزال وخفة اللّحم . وإعراب قوله : « وغداً السباق » ، على هذا الوجه أيضا . ويجوز الرّفع في الموضعين على أنْ تجعلهما خبران بأنفسهما . وقوله عليه السلام : « ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه » أخذه ابن نُباتة مُصَالتةً ، فقال في بعض خطبه : « ألا عاملٌ لنفسه قبل حلول رَمْسِه » .

.

ص: 147

29 . من خطبة له عليه السلام في ذم المتخاذلين

قوله : « ألا فاعملوا في الرغبة » ، يقول : لا ريب أنّ أحدَكم إذا مسّه الضر من مرض شديد ، أو خوف مُقْلِق ، من عدوّ قاهر ؛ فإنه يكون شديد الإخلاص والعبادة ، وهذه حال من يخاف الغرق في سفينة يتلاعب بها الأمواج ، فهو عليه السلام أمر بأن يكون المكلّف عاملاً أيام عدم الخوف ، مثل عمله وإخلاصه ؛ وانقطاعه إلى اللّه أيام هذه العوارض . قوله : « لم أر كالجنة نام طالبها » ، يقول : إنّ مِنْ أعجب العجائب مَن يؤمن بالجنة ، كيف يطلبها وينام ! ومن أعجب العجائب من يوقن بالنار ، كيف لا يهرب منها وينام ! أي لا ينبغي أن ينام طالب هذه ولا الهارب من هذه . وقد فسر الرضيّ رحمه اللّه تعالى معنى قوله : « والسبقة الجنة » .

29الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامأَيُّهَا النَّاسُ ، الْمُجْتَمِعَةُ أَبْدَانُهُمْ ، الْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ ، كَلاَمُكُمْ يُوهِي الصُّمَّ الصِّلابَ ، وَفِعْلُكُمْ يُطْمِعُ فِيكُمُ الْأَعْدَاءَ! تَقُولُونَ فِي الْمَجَالِسِ : كَيْتَ وَكَيْتَ ، فَإِذَا جَاءَ الْقِتَالُ قُلْتُمْ : حِيدِي حَيَادِ ! مَا عَزَّتْ دَعْوَةُ مَنْ دَعَاكُمْ ، وَلاَ اسْتَرَاحَ قَلْبُ مَنْ قَاسَاكُمْ ، أَعَالِيلُ بِأَضَالِيلَ ، دِفَاعَ ذِي الدَّيْنِ الْمَطُولِ . لاَ يَمْنَعُ الْضَّيْمَ الذَّلِيلُ ! وَلاَ يُدْرَكُ الْحَقُّ إِلاَّ بِالْجِدِّ! أَيَّ دَارٍ بَعْدَ دَارِكُمْ تَمْنَعُونَ ، وَمَعَ أَيِّ إِمَامٍ بَعْدِي تُقَاتِلُونَ ؟ الْمَغْرُورُ وَاللّهِ مَنْ غَرَرْتُمُوهُ ، وَمَنْ فَازَ بِكُمْ فَقَدْ فَازَ _ وَاللّهِ _ بِالسَّهْمِ الْأَخْيَبِ ، وَمَنْ رَمَى بِكُمْ فَقَدْ رَمَى بَأَفْوَقَ نَاصِلٍ . أَصْبَحْتُ وَاللّهِ لا أُصَدِّقُ قَوْلَكُمْ ، وَلاَ أَطْمَعُ فِي نَصْرِكُمْ ، وَلاَ أُوعِدُ الْعَدُوَّ بِكُمْ . مَا بَالَكُمْ ؟ مَا دَوَاؤُكُمْ ؟ مَا طِبُّكُمْ ؟ الْقَوْمُ رِجَالٌ أَمْثَالُكُمْ .

.

ص: 148

أَقَوْلاً بِغَيْرِ عِلْمٍ ! وَغَفْلَةً مِنْ غَيْرِ وَرَعٍ ! وَطَمَعا فِي غَيْرِ حَقٍّ (1) !

الشّرْحُ :حِيدي حَيَاد : كلمة يقولها الهارب الفارّ ، وهي نظيرة قولهم : « فيحي فَياح » ، أي اتّسعي ، وصَمّي صَمامِ ، للداهية . وأصلُها من حاد عن الشيء ، أي انحرفَ ، وحَيَادِ ، مبنيّة على الكسر ، وكذلك ما كان من بابها ، نحو قولهم : بَدَارِ ، أي ليأخذْ كلّ واحدٍ قِرْنه . وقولهم : خَراجِ في لعبة للصبيان ، أي اخرجوا . والباء في قوله : « بأضاليل » متعلقة ب_ « أعاليل » نفسها ، أي يتعلّلون بالأضاليل التي لا جَدْوى لها . والسَّهم الأفْوَق : المكسور الفُوق ، وهو مَدْخَل الوتَر . والناصل : الذي لا نَصْل فيه ؛ يخاطبهم فيقول لهم : أبدانكم مجتمعة وأهواؤكم مختلفة ، متكلّمون بما هو في الشدّة والقوة يُوهِي الجبال الصمّ الصلْبة ، وعند الحرب يظهر أنّ ذلك الكلام لم يكن له ثمرة . تقولون في المجالس : كَيْتَ وكَيْت ، أي سنفعل وسنفعل ، وكَيْت وكَيْت كناية عن الحديث ، كما كُنِيَ بفلان عن العلَم ، ولا تستعمل إلاّ مكرّرة ، وهما مخفّفان من « كَيّة » وقد استعملت على الأصل ، وهي مبنية على الفتح . وقد رَوَى أئمة العربية فيها الضمّ والكسر أيضا . فإذا جاء القتال فررتم وقلتم : الفِرارَ الفِرارَ . ثم أخذ في الشكوى ، فقال : مَنْ دعاكم لم تعزّ دعوتُه ، ومَنْ قاساكم لم يسترِحْ قلْبُه . دأْبُكم التعلّل بالأُمور الباطلة ، والأمانيّ الكاذبة . وسألتموني الإرْجاءَ وتأخُّر الحرب كمن يمطُل بديْن لازمٍ له . والضَّيْم لا يدفعه الذليل ، ولا يدرَك الحقّ إلاّ بالجِدّ فيه والاجتهاد وعدم الانكماش . وباقي الفصل ظاهر المعنى . وهذه الخطبة خطب بها أمير المؤمنين عليه السلام في غارة الضحاك بن قيس . قال : وكتب في أثر هذه الوقعة عَقِيل بن أبي طالب رضى الله عنه إلى أخيه أمير المؤمنين عليه السلام ، حين

.


1- .أهواؤهم : آراؤهم وميولهم . الصم : جمع (الأصم ) وهو الأطرش ، والمراد به هنا الحجر . الصلاب : جمع ( الصلب ) وهو الشديد . حيدي حياد : تنحي عنّا أيتها الحرب . قاساكم : أخذكم بالقسوة والشدّة . أعاليل : جمع أُعلولة ، ما يحتج به ويجعله علة لعمله . أضاليل : جمع أُضلولة ضد الهدى . المطول : التسويف . الأخيب : الخاسر . الأفوق : السهم الذي كسر طرفه من جهة الوتر . النصل : حديدة السهم والرمح .

ص: 149

بلغه خِذْلان أهل الكوفة ، وتقاعدهم به : « لعبد اللّه عليّ أمير المؤمنين عليه السلام ، من عَقيل بن أبي طالب . سلام عليك ، فإنّي أحمَد إليك اللّه الذي لا إله إلاّ هو ، أما بعد ؛ فإنّ اللّه حارِسُك من كلّ سوء ، وعاصمُك من كلّ مكروه ، وعلى كلّ حال ؛ إنّي قد خرجت إلى مكة معتمرا ، فلقيت عبد اللّه بن سعد بن أبي سَرْح في نحو من أربعين شابّا من أبناء الطُّلقَاء ، فعرفتُ المنكرَ في وجوههم ، فقلت : إلى أين يا أبناءَ الشانئين ! أبمعاوية تلحقون ! عداوة واللّه منكم قديما غيرُ مستنكَرة ؛ تريدُون بها إطفاءَ نور اللّه ، وتبديلَ أمره . فأسمَعني القومُ وأسمعْتُهم ، فلما قدِمْتُ مكة ، سمعت أهلَها يتحدثون أنّ الضحّاك بن قيس أغار على الحيرة ، فاحتمل من أموالها ما شاء ، ثم انكفأ راجعا سالما . فأُفٍّ لحياةٍ في دهرٍ جَرّأ عليك الضّحاك ! وما الضحاك ! فَقْعٌ بقُرْقر ! وقد توهّمت حيث بلغني ذلك أنّ شيعتَك وأنصارك خذلوك ، فاكتب إليّ يابن أُمّي برأيك ، فإن كنتَ الموتَ تريد ، تحمّلت إليك ببني أخيك ، وولد أبيك ، فعِشْنَا معك ما عشت ، ومِتْنَا معك إذا متَّ ؛ فو اللّه ما أُحِبّ أن أبقى في الدنيا بعدك فُوَاقا . وأُقسِم بالأعزّ الأجَلّ ، إنّ عيشا نعيشُه بعدك في الحياة لغيرُ هنيء ولا مريء ولا نجيع ، والسلام عليك ورحمة اللّه وبركاته » . فكتب إليه عليه السلام : من عبد اللّه علي أمير المؤمنين إلى عَقيل ابن أبي طالب . سلام اللّه عليك ، فإنّي أحمَدُ إليك اللّه الذي لا إله إلاّ هو ، أمّا بعد : كلأنا اللّه وإياك كلاءة مَنْ يخشاه بالغيب ، إنه حميد مجيد . قد وصل إليّ كتابُك مع عبد الرحمن بن عبيد الأزديّ ، تذكر فيه أنّك لقيت عبد اللّه بن سَعْد بن أبي سَرْح مقبلاً من قُدَيْد في نحو من أربعين فارسا من أبناء الطُّلقاء ، متوجِّهين إلى جهةِ الغرب ، وإنّ ابن أبي سَرْح طالما كاد اللّه ورسوله وكتابه ، وصدَّ عن سبيله وبغاها عِوِجا ؛ فدع ابنَ أبي سرح ، ودعْ عَنْكَ قريشا ، وخلِّهم وتَرْكاضَهم في الضلال ، وتَجْوالهم في الشّقاق . ألا وإنّ العرب قد أجمعتْ على حربِ أخيك اليوم إجماعَها على حرب رسول اللّه صلى الله عليه و آله قبل اليوم ، فأصبحوا قد جهلوا حقّه ، وجحدوا فضله ، وبادروه العداوة ، ونصبوا له الحرب ، وجهِدوا عليه كلّ الجهد ، وجرُّوا إليه جيش الأحزاب . اللهمّ فاجز قريشاعنّي الجوازي ! فقد قَطَعتْ رَحِمي ، وتظاهرَتْ عليّ ، ودفعتني عن حَقّي ، وسلبتني سلطانَ ابن أُمّي ، وسلّمت ذلك إلى مَنْ ليس مثلي في قرابتي من الرسول ، وسابقتي في الإسلام ! إلاّ أنْ يَدّعيَ مدّعٍ ما لا أعرفه ، ولا أظن اللّه يعرفه ، والحمد للّه على كل حال .

.

ص: 150

30 . من خطبة له عليه السلام في معنى قتل عثمان

فأمّا ما ذكرتَه من غارة الضحّاك على أهل الحيرة ، فهو أقلّ وأذلّ من أن يلمّ بها أو يدنُو منها ؛ ولكنّه قد كان أقبَل في جريدة خيل ، فأخذ على السَّماوة ، حتى مرّ بواقِصة وشَرَاف والقُطْقُطَانة ؛ مما والى ذلك الصُّقْع ، فوجهت إليه جنداً كَثيفا من المسلمين ، فلما بلغه ذلك فَرّ هاربا ، فاتَّبعوه فلحقوه ببعض الطريق وقد أمعن ، وكان ذلك حين طَفَلت الشمس للإياب ، فتناوشوا القتال قليلاً كلا ولا ، فلم يصبر لوقع المشرفيّة ، وولّى هاربا ، وقُتل من أصحابه بضعة عشر رجلاً ، ونجا جَرِيضاً بعد ما أخذ منه بالمخنّق ، فلأياً بلأيٍ ما نجا . فأمّا ما سألتني أنْ أكتبَ لك برأيي فيما أنا فيه ، فإنّ رأيي جهادُ المحلِّين حتى ألقى اللّه ، لا يزيدني كثرةُ الناس معي عِزّة ، ولا تفرُّقُهم عنّي وَحشة ؛ لأنني محقّ ، واللّه مع المحقّ . وواللّه ما أكره الموت على الحقّ ، وما الخيرُ كلُّه إلاّ بعد الموت لمن كان محقّا . وأمّا ما عرضت به من مَسِيرك إليّ ببنيك وبني أبيك فلا حاجة لي في ذلك ؛ فأقمْ راشدا محمودا ، فو اللّه ما أُحبّ أن تهلِكوا معي إن هلكت ، ولا تحسَبَنّ ابنَ أُمّك _ ولو أسلمه الناس _ متخشّعا ولا متضرّعا إنه لكما قال أخو بني سُلَيْم : فإنْ تسألني كَيْفَ أنْتَ فإنّنيصَبُورٌ عَلَى رَيْبِ الزمان صَليبُ يَعزّ عَلَيّ أن تُرَى بي كآبةٌفيشمتَ عادٍ أو يساء حَبِيبُ

30الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلام في معنى قتل عثمانلَوْ أَمَرْتُ بِهِ لَكُنْتُ قَاتِلاً ، أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ لَكُنْتُ نَاصِرا ، غَيْرَ أَنَّ مَنْ نَصَرَهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ : خَذَلَهُ مَنْ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ، وَمَنْ خَذَلَهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ : نَصَرَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي . وَأَنَا جَامِعٌ لَكُمْ أَمْرَهُ ، اسْتَأْثَرَ فَأَسَاءَ الْأَثَرَةَ وَجَزِعْتُمْ فَأَسَأْتُمُ الْجَزَعَ ، وَللّهِ حُكْمٌ وَاقِعٌ في الْمُسْتَأْثِرِ وَالْجَازِعِ .

.

ص: 151

31 . من خطبة له عليه السلام لما أنفذ عبد اللّه بن عباس إلى الزبير قبل وقوع الحرب يوم الجمل ليستفيئه إلى طاعته

الشّرْحُ :هذا الكلام بظاهره يقتضِي أنّه ما أمر بقتله ، ولا نهى عنه ، فيكون دمُه عنده في حكم الأُمور المباحة التي لا يؤمر بها ، ولا ينهى عنها . وأيضا فقد ثبت في السِّير والأخبار أنه كان عليه السلام ينهَى الناس عن قَتْله ؛ فإذن يجب أن يُحمَل لفظ النهى على المنع كما يقال : الأمير ينهى عن نهب أموال الرعيّة ، أي يمنع ، وحينئذٍ يستقيم الكلام ؛ لأنّه عليه السلام ما أمر بقتلِه ولا منع عن قتله ، وإنما كان ينهى عنه باللسان ولا يمنع عنه باليد . فأمّا قوله : « غير أنّ مَنْ نصره » ، فكلام معناه أنّ خاذِليه كانوا خيرا من ناصريه ؛ لأنّ الذين نصروه كان أكثرُهم فُسّاقا ، كمرْوان بن الحكم وأضرابه ، وخذله المهاجرون والأنصار . فأمّا قوله : « وأنا جامع لكم أمره ... » إلى آخر الفصل ؛ فمعناه أنه فَعَل ما لا يجوز ، وفعلتم ما لا يجوز ، أمّا هو فاستأثر فأساء الأثرة ، أي استبدّ بالأُمور فأساء في الاستبداد ، وأمّا أنتم فجزِعتم مما فعل أي حزنتم فأسأتم الجزَع ، لأنكم قتلتموه ، وقد كان الواجب عليه أن يرجع عن استئثاره ، وكان الواجب عليكم ألاّ تجعلوا جزاءه عمّا أذنب القتل ، بل الخلع والحبس وترتيب غيره في الإمامة . ثم قال : وللّه حُكْم سيحكم به فيه وفيكم .

31الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام لما أنفذ عبد اللّه بن عباس إلى الزبير قبل وقوع الحرب يوم الجمل ليستفيئه إلى طاعته :لا تَلْقَيَنَّ طَلْحَةَ ، فَإِنَّكَ إِنْ تَلْقَهُ تَجِدْهُ كَالثَّوْرِ عَاقِصا قَرْنَهُ ، يَرْكَبُ الصَّعْبَ وَيَقُولُ : هُوَ الذَّلُولُ . وَلكِنِ الْقَ الزُّبَيْرَ ، فَإِنَّهُ أَلْيَنُ عَرِيكَةً ، فَقُلْ لَهُ : يَقُولُ لَكَ ابْنُ خَالِكَ : عَرَفْتَنِي بِالْحِجَازِ وَأَنْكَرْتَنِي بِالْعِرَاقِ ، فَمَا عَدَا مِمَّا بَدَا .

.

ص: 152

قال الرضي رحمه الله : وَهو عليه السلام أَوَّلُ مَنْ سُمِعَتْ منْهُ هذه الْكَلمة ، أَعنِي : « فَمَا عَدَا مِمَّا بَدَا » .

الشّرْحُ :ليستفيئه إلى طاعته ، أي يسترجعه ؛ فاء ، أي رجع ، ومنه سُمِّيَ الفيء للظلّ بعد الزوال . وجاء في رواية : « فإنك إن تَلْقَه تُلْفِه » أي تجده ، ألفيتُه على كذا ، أي وجدته . وعاقصاً قَرْنه ، أي قد عَطَفه ، تَيْس أعقص ، أي قد التوى قرناه على أُذنيه ، والفعل فيه عَقَص الثور قرنه ، بالفتح . وقوله : « يركب الصَّعْب » ، أي يستهين بالمستصعَب من الأُمور ، يصفه بشَراسة الخُلقُ والبَأْو (1) ، وكذلك كان طلحة ، وقد وصَفَه عمر بذلك . ويقال : إنّ طلحة أحدَثَ يومِ أُحُدٍعنده كِبْرا شديداً لم يكن ، وذاك لأنّه أغْنَى (2) في ذلك اليوم ، وأبلى بلاءً حسناً . والعريكة هاهنا : الطبيعة ، يقال : فلان لَيّن العرِيكة ، إذا كان سَلِسا . وقوله عليه السلام لابن عباس : « قل له يقول لك ابن خالك » لطيف جدا ، وهو من باب الاستمالة والإذْ كار بالنَّسب والرحِم ، ألا تَرَى أنّ له في القلْب من الموقع الداعي إلى الإنقياد ما ليس لقوله : « يقول لك أمير المؤمنين » ! ومن هذا الباب قوله تعالى في ذكر موسى وهارون : « وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه قال ابن أمّ إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني » ، لما رأى هارون غضب موسى واحتدامه ، شرع معه في الاستمالة والملاطفة ، فقال له : « ابن أُم » وأذكره حقَّ الأُخوة ، وذلك أدعى إلى عطْفه عليه من أن يقول له : « يا موسى » أو« يا أيها النبي » . فأمّا قوله عليه السلام : « فما عدا مما بدا » ، فعدَا بمعنى صرف و « مِنْ » ها هنا بمعنى « عن » . ويصير ترتيبُ الكلام وتقديره : فما صرَفك عَمّا كان بدا منك ! أي ظَهَر ، والمعنى : ما الّذي صدَّك عن طاعتي بعد إظهارك لها!

.


1- .البأو : الفخر والادعاء .
2- .أغنى ، أي صرف الأعداء وكفّهم .

ص: 153

32 . من خطبة له عليه السلام في ذم الدهر وحال الناس فيه

32الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامأَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّا قَدْ أَصْبَحْنَا فِي دَهْرٍ عَنُودٍ ، وَزَمَنٍ شَدِيدٍ ، يُعَدُّ فِيهِ الْمُحْسِنُ مُسِيئا ، وَيَزْدَادُ الظَّالِمُ فِيهِ عُتُوّا ، لاَ نَنْتَفِعُ بِمَا عَلِمْنَا ، وَلاَ نَسْأَلُ عَمَّا جَهِلْنَا ، وَلاَ نَتَخَوَّفُ قَارِعَةً حَتَّى تَحُلَّ بِنَا . وَالنَّاسُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ : مِنْهُمْ : مَنْ لاَ يَمْنَعُهُ الْفَسَادَ في الْأَرْضِ إِلاَّ مَهَانَةُ نَفْسِهِ ، وَكَلاَلَةُ حَدِّهِ ، وَنَضِيضُ وَفْرِهِ . وَمِنْهُمْ : الْمُصْلِتُ بِسَيْفِهِ ، وَالْمُعْلِنُ بِشَرِّهِ ، وَالْمُجْلِبُ بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ ، قَدْ أَشْرَطَ نَفْسَهُ ، وَأَوْبَقَ دِينَهُ لِحُطَامٍ يَنْتَهِزُهُ ، أَوْ مِقْنَبٍ يَقُودُهُ ، أَوْ مِنْبَرٍ يَفْرَعُهُ . وَلَبِئْسَ الْمَتْجَرُ أَنْ تَرَى الدُّنْيَا لِنَفْسِكَ ثَمَنا ، وَمِمَّا لَكَ عِنْدَ اللّهِ عِوَضا! وَمِنْهُمْ : مَنْ يَطْلُبُ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ ، وَلاَ يَطْلُبُ الآخِرَةَ بِعَمَلِ الدُّنْيَا ، قَدْ طَامَنَ مِنْ شَخْصِهِ ، وَقَارَبَ مِنْ خَطْوِهِ ، وَشَمَّرَ مِنْ ثَوْبِهِ ، وَزَخْرَفَ مِنْ نَفْسِهِ لِلْأَمَانَةِ وَاتَّخَذَ سِتْرَ اللّهِ ذَرِيعَةً إِلَى الْمَعْصِيَةِ . وَمِنْهُمْ : مَنْ أَبْعَدَهُ عَنْ طَلَبِ الْمُلْكِ ضُؤُولَةُ نَفْسِهِ ، وَانْقِطَاعُ سَبَبِهِ ، فَقَصَرَتْهُ الْحَالُ عَلَى حَالِهِ ، فَتَحَلَّى بِاسْمِ الْقَنَاعَةِ ، وَتَزَيَّنَ بِلِبَاسِ أَهْلِ الزَّهَادَةِ ، وَلَيْسَ مِنْ ذلِكَ في مَرَاحٍ وَلاَ مَغْدىً . وَبَقِيَ رِجَالٌ غَضَّ أَبْصَارَهُمْ ذِكْرُ الْمَرْجِعِ ، وَأَرَاقَ دُمُوعَهُمْ خَوْفُ الْمَحْشَرِ فَهُمْ بَيْنَ شَرِيدٍ نَادٍّ ، وَخَائِفٍ مَقْمُوعٍ ، وَسَاكِتٍ مَكْعُومٍ ، وَدَاعٍ مُخْلِصٍ ، وَثَكْلاَنَ مُوجَعٍ ، قَدْ أَخْمَلَتْهُمُ التَّقِيَّةُ وَشَمِلَتْهُمُ الذِّلَّةُ ، فَهُمْ في بَحْرٍ أُجَاجٍ ، أَفْوَاهُهُمْ ضَامِزَةٌ ، وَقُلُوبُهُمْ

.

ص: 154

قَرِحَةٌ ، قَدْ وَعَظُوا حَتَّى مَلُّوا ، وَقُهِرُوا حَتَّى ذَلُّوا ، وَقُتِلُوا حَتَّى قَلُّوا . فَلْتَكُنِ الدُّنْيَا في أَعْيُنِكُمْ أَصْغَرَ مِنْ حُثَالَةِ الْقَرَظِ ، وَقُرَاضَةِ الْجَلَمِ وَاتَّعِظُوا بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، قَبْلَ أَنْ يَتَّعِظَ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ ؛ وَارْفُضُوهَا ذَمِيمَةً ، فَإِنَّهَا قَدْ رَفَضَتْ مَنْ كَانَ أَشْغَفَ بِهَا مِنْكُمْ .

قال الرضي رحمه الله : وهذه الخطبة ربما نسبها من لا علم له إلى معاوية وهي من كلام أمير المؤمنين عليه السلام الذي لا يُشكّ فيه ، وأين الذهب من الرّغام ! وأين العذب من الأُجاج ! وقد دلّ على ذلك الدليل الخِرِّيت ونَقَدهُ الناقد البصير عمرو بن بحرٍ الجاحظ ؛ فإنه ذكر هذه الخطبة في كتاب «البيان والتبيين» وذكر من نسبها إلى معاوية ، ثم تكلم من بعدها بكلام في معناها ، جملته أنه قال : وهذا الكلام بكلام علي عليه السلام أشبه ، وبمذهبه في تصنيف الناس ، وفي الإخبار عما هم عليه من القهر والإذلال ، ومن التقية والخوف ، أليق . قال : ومتى وجدنا معاوية في حال من الأحوال يسلك في كلامه مسلك الزهاد ، ومذاهب العُبّاد ؟!!

الشّرْحُ :دهر عَنود : جائر ، عَنَد عن الطريق ؛ يعنُد بالضمّ ، أي عدل وجار . ويمكن أن يكون من عَنَدَ يَعْنِد بالكسر ، أي خالف وردّ الحقّ وهو يعرفه ؛ إلاّ أنّ اسم الفاعل المشهور في ذلك عاند وعنيد ؛ وأما عَنُود فهو اسم فاعل ؛ من عَنَد يعنُد بالضم . قوله : « وزمن شديد » أي بخيل ، ومنه قوله تعالى : « وَإنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ » (1) أي وإنّه لبخيل لأجل حُبّ الخير ، والخير : المال . وقد رُوي « وزمن كنود » وهو الكفور ، قال تعالى : « إنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ » (2) . والقارعة : الخطْب الذي يَقْرع ، أي يصيب . قوله : « ونضيض وفره » أي قلّة ماله ، وكان الأصل « ونضاضة وفره » ليكون المصدرُ في مقابلة المصدر الأول ، وهو « كلالة حَدّه » ، لكنه أخرجه على باب إضافة الصّفة إلى الموصوف ، كقولهم: عليه سَحْقُ عمامة ، وجَرْد قطيفة ، وأخلاق ثياب .

.


1- .سورة العاديات 8.
2- .سورة العاديات 6 .

ص: 155

قوله : « والمجلِب بخيله ورجلِه » ، المجلب اسم فاعل من أجلب عليه ، أي أعان عليهم . والرَّجْل : جمع راجل ، كالركب جمع راكب ، والشَّرْب جمع شارب ؛ وهذا من ألفاظ الكتاب العزيز : « وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ » (1) . وأشرط نفسه ؛ أي هَيّأها وأعدّها للفساد في الأرض . وأوبق دينه : أهلكه . والحُطام : المال ؛ وأصله ما تَكَسَّرَ من اليَبيس . ينتهزه : يختلسه . والمِقْنَب : خيل ما بين الثلاثين إلى الأربعين . ويَفْرَعُه : يعلوه . وطامَن من شخصه ، أي خَفَض . وقارب مِنْ خَطْوه : لم يسرع ومشى رويدا . وشمّر من ثوبه : قَصّره . وزخرف من نفسه : حَسَّن ونمّق وزين . والزّخرف : الذهب في الأصل . وضُئولة نفسه : حقارتها . والنادّ : المنفرد . والمكْعوم : من كعمت البعير ، إذا شددت فمه . والأُجاجُ : الملح . وأفواههم ضامزة ، بالزاي ؛ أي ساكنة . والقرظ : ورَق السَّلَم ، يُدْبَغ به . وحُثالتُه : ما يسقط منه . والجَلم : المقصّ تُجَزّ به أوبارُ الإبل . وقراضته : ما يقع من قَرْضه وقطعه . فإن قيل : بَيّنوا لنا تفصيلَ هذه الأقسام الأربعة . قيل : القسم الأول : مَنْ يقعدُ به عن طلب الإمرة قلة ماله ، وحقارتُه في نفسه . والقسم الثاني : مَنْ يُشَمِّر ويطلب الإمارة ويُفْسد في الأرض ويكاشف . والقسم الثالث : مَنْ يُظهر ناموس الدين ويطلب به الدنيا . والقسم الرابع : مَنْ لا مال له أصلاً ، ولا يكاشف ، ويطلب المُلْك ولا يطلب الدّنيا بالرياء والناموس ، بل تنقطِع أسبابُه كلُّها فيخلُد إلى القناعة ، ويتحلّى بحلْية الزَّهادة في اللذات الدنيوية ، لا طلبا للدنيا بل عَجْزا عن الحركة فيها ، وليس بزاهد على الحقيقة . فإن قيل : فهاهنا قسم خامس ، قد ذكره عليه السلام ؛ وهم الأبرار الأتقياء ، الّذين أراقَ دموعَهم خوفُ الآخرة . قيل : إنّه عليه السلام إنما قال : « إنّ الناس على أربعة أصناف » ، وعَنَى بهم مَنْ عَدَا المتقين ؛ ولهذا قال لما انقضى التقسيم : « وبقي رجال غضَّ أبصارَهم ذِكْرُ المرجع » ، فأبان بذلك عن أنّ هؤلاء خارجون عن الأقسام الأربعة . واعلم أنّ هذه الخطبة تتضمّن الذمّ لكثير ممّن يَدَّعِي الآخرة من أهلِ زماننا ، وهم أهلُ الرياء والنفاق ، ولابسُو الصوف والثياب المرقوعة لغير وجه اللّه .

.


1- .سورة الإسراء 64 وقراءة حفص بكسر الجيم في « رجلك » .

ص: 156

33 . من خطبة له عليه السلام عند مسيره لقتال أهل البصرة

33الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلام عند مسيره لقتال أهل البصرةقال عبد اللّه بنُ عباس رضى الله عنه : دخلت على أَمير المؤمنين عليه السلام بذي قار وهو يخصِف نعله ، فقال لي : ما قيمة هذا النعل ؟ فقلت : لا قيمةَ لها ! فقال عليه السلام : واللّه لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ ، إِلاَّ أَنْ أُقِيمَ حَقَّا ، أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلاً ، ثم خرج فخطب الناس فقال : إِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّدا صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَقْرَأُ كِتَابا وَلاَ يَدَّعِي نُبُوَّةً ، فَسَاقَ النَّاسَ حَتَّى بَوَّأَهُمْ مَحَلَّتَهُمْ ، وَبَلَّغَهُمْ مَنْجَاتَهُمْ ، فَاسْتَقَامَتْ قَنَاتُهُمْ ، وَاطْمَأَنَّتْ صَفَاتُهُمْ . أَمَا وَاللّهِ إِنْ كُنْتُ لَفِي سَاقَتِهَا حَتَّى وَلَّتْ بِحَذَافِيرِهَا ؛ مَا عَجَزْتُ وَلاَ جَبُنْتُ ، وَإِنَّ مَسِيرِي ه_ذَا لِمِثْلِهَا ؛ فَلَأَن_ْقُبَنَّ الْبَاطِلَ حَتَّى يَخْرُجَ الْحَقُّ مِنْ جَنْبِهِ . مَا لِي وَلِقُرَيْشٍ ! وَاللّهِ لَقَدْ قَاتَلْتُهُمْ كَافِرِينَ ، وَلَأُقَاتِلَنَّهُمْ مَفْتُونِينَ ، وَإِنِّي لَصَاحِبُهُمْ بِالْأَمْسِ ، كَمَا أَنَا صَاحِبُهُمُ الْيَوْمَ ! وَاللّهِ مَا تَنْقِمُ مِنَّا قُرَيْشٌ إِلاَّ أَنَّ اللّهَ اخْتَارَنَا عَلَيْهِمْ فَأَدْخَلْنَاهُمْ في حَيِّزِنَا ، فَكَانُوا كَمَا قَالَ الْأَوَّلُ : أَدَمْتَ لَعَمْرِي شُرْبَكَ الَْمحْضَ صَابِحاوَأَكْلَكَ بِالزُّبْدِ الْمُقَشَّرَةَ الْبُجْرَا وَنَحْنُ وَهَبْنَاكَ الْعَلاَءَ وَلَمْ تَكُنْعَلِيّا ، وَحُطْنَا حَوْلَكَ الْجُرْدَ وَالسُّمْرَا

الشّرْحُ :ذو قَار : موضع قريبٌ من البَصْرة ، وهو المكان الذي كانت فيه الحربُ بين العرب والفرس ، ونُصِرت العرب على الفرس قبل الإسلام . ويخصِف نعله ، أي يَخْرزها .

.

ص: 157

وبوّأهم محَلّتهم : أسكنهم مَنْزِلهم ، أي ضربَ النّاس بسيفه على الإسلام حتى أوصلهم إليه ، ومثله « وبلَّغهم منجاتهم » إلاّ أنّ في هذه الفاصلة ذَكَر النّجاة مصرّحا به . فاستقامتْ قناتُهم : استقاموا على الإسلام ، أي كانت قناتهم معوجّة فاستقامت . واطمأنت صَفَاتُهم ؛ كانت متقلقلة متزلزلة ، فاطمأنت واستقرّت . وهذه كلها استعارات . ثم أقسم أنّه كان في ساقتها حتى تولَّتْ بحذافيرها ؛ الأصل في « ساقتها » أن يكون جمع سائق كحائِض وحاضة ، وحائك وحاكة ، ثم استعملت لفظة « الساقة » للأخير ؛ لأنّ السائق إنما يكون في آخر الرّكْب أو الجيش . وشبّه عليه السلام أمرَ الجاهلية ؛ إمّا بعَجاجة ثائرة ، أو بكتِيبة مُقْبلة للحرب ، فقال : إنّي طردتُها فولّت بين يديّ ، ولم أزل في ساقتها أنا أطرُدها وهي تنطرد أمامي ؛ حتى تولّتْ بأسْرِها ولم يبق منها شيء ، ما عَجزْت عنها ، ولا جَبُنْت منها . ثم قال : وإنّ مسيري هذا لمِثْلِها ، فَلأَنقُبَنّ الباطل ؛ كأنّه جعل الباطل كشيء قد اشتمل على الحقّ ، واحتوَى عليه ، وصار الحقُّ في طَيّه ، كالشيء الكامن المستتِر فيه ، فأقسم لينقبنّ ذلك الباطل إلى أن يخرُج الحقُّ من جنبه . وهذا من باب الاستعارة أيضا . ثم قال : « لقدْ قاتلتُ قريشاً كافرين ، ولأقاتلنَّهُم مفتونين » ؛ لأنّ الباغيَ على الإمام مفتون فاسق . وهذا الكلام يؤكد قول أصحابنا : إن أصحاب صِفِّين والجمل ليسوا بكفار ؛ خلافا للإمامية ، فإنهم يزعمون أنهم كفار 1 .

.

ص: 158

34 . من خطبة له عليه السلام في استنفار الناس إلى أهل الشام

34الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلام في استنفار الناس إلى أهل الشامأُفٍّ لَكُمْ ! لَقَدْ سَئِمْتُ عِتَابَكُمْ ! أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ عِوَضا ؟ وَبِالذُّلِّ مِنَ الْعِزِّ خَلَفا ؟ إِذَا دَعَوْتُكُمْ إِلَى جِهَادِ عَدُوِّكُمْ دَارَتْ أَعْيُنُكُمْ ، كَأَنَّكُمْ مِنَ الْمَوْتِ في غَمْرَةٍ ، وَمِنَ الذُّهُولِ في سَكْرَةٍ . يُرْتَجُ عَلَيْكُمْ حَوَارِي فَتَعْمَهُونَ ، وَكَأَنَّ قَلُوبَكُمْ مَأْلُوسَةٌ ، فَأَنْتُمْ لاَ تَعْقِلُونَ . مَا أَنْتُمْ لِي بِثِقَةٍ سَجِيسَ اللَّيَالِي ، وَمَا أَنْتُمْ بِرُكْنٍ يُمَالُ بِكُمْ ، وَلاَ زَوَافِرُ عِزٍّ يُفْتَقَرُ إِلَيْكُمْ . مَا أَنْتُمْ إِلاَّ كَإِبِلٍ ضَلَّ رُعَاتُهَا ، فَكُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِبٍ انْتَشَرَتْ مِنْ آخَرَ . لَبِئْسَ _ لَعَمْرُ اللّهِ _ سُعْرُ نَارِ الْحَرْبِ أَنْتُمْ ! تُكَادُونَ وَلاَ تَكِيدُونَ ، وَتُنْتَقَصُ أَطْرَافُكُمْ فَلاَ تَمْتَعِضُونَ ؛ لاَ يُنَامُ عَنْكُمْ وَأَنْتُمْ في غَفْلَةٍ سَاهُونَ ، غُلِبَ وَاللّهِ الْمُتَخَاذِلُونَ ! وَايْمُ اللّهِ إِنِّي لَأَظُنُّ بِكُمْ أَنْ لَوْ حَمِسَ الْوَغَى ، وَاسْتَحَرَّ الْمَوْتُ ، قَدِ انْفَرَجْتُمْ عَنِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ انْفِرَاجَ الرَّأْسِ . وَاللّهِ إِنَّ امْرَأً يُمَكِّنُ عَدُوَّهُ مِنْ نَفْسِهِ يَعْرُقُ لَحْمَهُ ، وَيَهْشِمُ عَظْمَهُ ، وَيَفْرِي جِلْدَهُ ، لَعَظِيمٌ عَجْزُهُ ، ضَعِيفٌ مَا ضُمَّتْ عَلَيْهِ جَوَانِحُ صَدْرِهِ . أَنْتَ فَكُنْ ذَاكَ إِنْ شِئْتََ ؛ فَأَمَّا أَنَا فَوَاللّهِ دُونَ أَنْ أُعْطِيَ ذلِكَ ضَرْبٌ بِالْمَشْرَفِيَّةِ تَطِيرُ مِنْهُ فَرَاشُ الْهَامِ ، وَتَطِيحُ السَّوَاعِدُ وَالْأَقْدَامُ ، وَيَفْعَلُ اللّهُ بَعْدَ ذلِكَ مَا يَشَاءُ . أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقَّا ، وَلَكُمْ عَلَيَّ حَقٌّ : فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَيَّ فَالنَّصِيحَةُ

.

ص: 159

لَكُمْ ، وَتَوْفِيرُ فَيْئِكُمْ عَلَيْكُمْ ، وَتَعْلِيمُكُمْ كَيْلا تَجْهَلُوا ، وَتَأْدِيبُكُمْ كَيْمَا تَعْلَمُوا . وَأَمَّا حَقِّي عَلَيْكُمْ فَالْوَفَاءُ بِالْبَيْعَةِ ، والنَّصِيحَةُ في الْمَشْهَدِ وَالْمَغِيبِ ، وَالاْءِجَابَةُ حِينَ أَدْعُوكُمْ ، وَالطَّاعَةُ حِينَ آمُرُكُمْ .

الشّرْحُ :أُفٍّ لكم : كلمة استقذار ومَهانة ؛ وفيها لغات . ويرتج : يغلَق . والحوار : المحاورة والمخاطبة . وتَعْمَهون : من العَمَه وهو التحيّروالتردد ، الماضي عَمِه بالكسر . وقوله : « دارت أعينكم » من قوله تعالى : « يَنْظُرُونَ إلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ » (1) ، ومن قوله : « تَدُورُ أعْينُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ » (2) . وقلوبكم مألوسة : من الأَلْس ، بسكون اللام ، وهو الجنون واختلاط العقل . قوله : « مَا أَنْتُمْ لِي بِثِقَةٍ سَجِيسَ اللَّيَالِي » كلمة تقال للأبد ، تقول : لا أفعلُه سَجِيسَ اللَّيالي ، وسَجيس عُجَيْس ، وسَجِيسَ الأوْجَسِ ، معنى ذلك كله الدهر ، والزمان ، وأبداً . قوله : « ما أنتم بركنٍ يُمَالُ بكم » ، أي لستم بركن يُسْتَند إليكم ، ويُمال على العدوّ بعزّكم وقوّتِكم . قوله : « ولا زوافر عزّ » ، جمع زافرة ، وزافرة الرجل : أنصاره وعشيرته ؛ ويجوز أن يكون زَوافِر عِزّ ، أي حوامل عِزّ ، زفرتُ الجملَ أزفره زفراً ، أي حمّلته . قوله : « سُعْر نار الحرب » جمع ساعر ، كقولك : « قوم كُظْمٌ للغيظ » ، جمع كاظم ، وتمتعضون : تأنفون وتَغْضَبُون . وحَمِص الوَغَى : اشتدّ ، وأصلُ الوغى الصوت والجَلَبة ، ثم سُمِّيت الحربُ نفسها وَغى ، لما فيها من الأصوات والجَلَبة . واستحرّ الموت ، أي اشتدّ . وقوله : « انفرجتم انفراج الرأس » ، أي كما ينفلق الرأس فيذهب نصفه يَمْنَةً ونصفه شَامَة . والمشرفيَّة : السيوف المنسوبة إلى مَشارِف ، وهي قرى من أرض العرب تدنو من الريف ، ولا يقال : مشارفيّ ، كما لا يقال : جعافريّ ، لمن ينسب إلى جعافر . وفراش الهام : العظام الخفيفة تلى القَحْف .

.


1- .سورة محمد 20 .
2- .سورة الأحزاب 19 .

ص: 160

35 . من خطبة له عليه السلام بعد التحكيم

فأمّا قوله : « أنت فكن ذاك » فإنه إنّما خاطب مَنْ يمكِّن عدوَّه من نفسه كائناً مَنْ كان ؛ غيرَ معيَّن ولا مخصَّص ؛ ولكن الرواية وردت بأنه خاطب بذلك الأشعث بن قيس ، فإنه رُوي أنه قال له عليه السلام _ وهو يخطب ويلوم الناس على تثبيطهم وتقاعدهم _ : هلاَّ فَعَلْتَ فِعْل ابن عفان ! فقال له : « إنّ فعل ابن عفان لمخزاة على مَنْ لا دين له ، ولا وثيقة معه ، إنّ امرأ أمكن عدوّه من نفسه ، يهشِمُ عظمه ، ويفرِي جلده ، لضعِيفٌ رأيه ، مَأفُونٌ عقله . أنت فكن ذاك إن أحببت ، فأمّا أنا فدُون أن أعطِيَ ذاك ضَرْبٌ بالمشرفية ... الخ » . ويمكن أن تكون الرواية صحيحة ، والخطاب عام لكلِّ من أمكن من نفسه ، فلا منافاة بينهما . خَطَب أميرُ المؤمنين عليه السلام بهذه الخطبة ، بعد فَراغِه من أمْرِ الخوارج .

35الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلام بعد التحكيمالْحَمْدُ للّهِ وَإِنْ أَتَى الدَّهْرُ بِالْخَطْبِ الْفَادِحِ ، وَالْحَدَثِ الْجَلِيلِ . وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، لَيْسَ مَعَهُ إِلهٌ غَيْرُهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ . أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ مَعْصِيَةَ النَّاصِحِ الشَّفِيقِ الْعَالِمِ الْمُجَرِّبِ تُورِثُ الْحَسْرَةَ ، وَتُعْقِبُ النَّدَامَةَ . وَقَدْ كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ في ه_ذِهِ الْحُكُومَةِ أَمْرِي ، وَنَخَلْتُ لَكُمْ مَخْزُونَ رَأْيِي «لَوْ كَانَ يُطَاعُ لِقَصِيرٍ أَمْرٌ» ! فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ الْمُخَالِفِينَ الْجُفَاةِ ، وَالْمُنَابِذِينَ الْعُصَاةِ ، حَتَّى ارْتَابَ النَّاصِحُ بِنُصْحِهِ ، وَضَنَّ الزَّنْدُ بِقَدْحِهِ ، فَكُنْتُ أَنَا وَإِيَّاكُمْ كَمَا قَالَ أَخُو هَوَازِنَ : أَمَرْتُكُمُ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَىفَلَمْ تَسْتَبِينُوا النُّصْحَ إِلاَّ ضُحَى الْغَدِ

.

ص: 161

الشّرْحُ :الخطب الفادح : الثقيل . ونخَلْت لكم ، أي أخلصْتُه ، من نَخَلْتُ الدقيق بالمُنخُل . وقوله : « الحمد للّه وإن أتى الدهر » ، أي أحمده على كل حال من السَّرّاء والضراء . وقوله : « لو كان يطاع لقصير أمر » ؛ فهو قصير صاحب جَذِيمة ، وحديثه مع جَذِيمة ومع الزّباء مشهور ؛ فضرب المثل لِكُلّ ناصح يُعصى بقصير . وقوله : « حتى ارتاب الناصح بنصحه ، وضنّ الزند بقَدْحه » ، يشير إلى نفسه ، يقول : خالفتموني حتى ظننت أن النصح الذي نصحتكم به غيرَ نصح ؛ لإطباقكم وإجماعكم على خلافي ، وهذا حقّ ؛ لأنّ ذا الرأي الصواب إذا كثر مخالفوه يَشُكّ في نفسه ؛ وأما ضَنّ الزّند بقَدْحه ، فمعناه أنّه لم يقدح لي بعد ذلك رأي صالح ، لشدّة ما لقيت منكم من الإباء والخلاف والعصيان . وأخو هوازن صاحب الشعر هو دُرَيْد بن الصِّمة ، والأبيات مذكورة في الحماسة . وهذه الألفاظ من خطبة خطب بها عليه السلام بعد خديعة ابن العاص لأبي موسى وافتراقهما ، وقَبْلَ وقْعة النَّهْرَوان . قال نصر : وكان عليّ عليه السلام لما خدع عمرو أبا موسى بالكوفة ، كان قد دَخَلَها منتظرا ما يحكُم به الحكَمان ؛ فلما تَمّ على أبي موسى ما تَمّ من الحيلة ، غَمّ ذلك عليّا وساءه ، ووَجَم له ، وخطب الناس ، فقال : « الحمدُ للّه وإن أتَى الدَّهر بالخَطْب الفَادِح ، والحدَث الجليل ... » الخطبة التي ذكرها الرضي رحمه اللّه تعالى ؛ وهي التي نحن في شرحها ، وزاد في آخرها بعد الاستشهاد ببيت دُريد : « أَلا إنّ هذيْن الرَّجُلين اللَّذَيْن اخترتموهما قد نَبَذا حُكم الكتاب ، وأحيَيَا ما أمات ، واتَّبَع كلّ واحدٍ منهما هواه ، وحَكم بغير حُجّة ولا بيِّنة ولا سُنّة ماضية ، واختلفا فيما حكما ، فكلاهما لم يَرْشُد اللّه . فاستعدوا للجهاد ، وتأهبوا للمسير ، وأصبحوا في معسكركم يوم كذا» .

.

ص: 162

36 . من خطبة له عليه السلام في تخويف أهل النهروان

36الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلام في تخويف أَهل النهروانفَأَنَا نَذِيرٌ لَكُمْ أَنْ تُصْبِحُوا صَرْعَى بِأَثْنَاءِ ه_ذَا النَّهْرِ ، وَبِأَهْضَامِ ه_ذَا الْغَائِطِ ، عَلَى غَيْرِ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ، وَلاَ سُلْطَانٍ مُبِينٍ مَعَكُمْ ؛ قَدْ طَوَّحَتْ بِكُمُ الدَّارُ ، وَاحْتَبَلَكُمُ الْمِقْدَارُ . وَقَدْ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ ه_ذِهِ الْحُكُومَةِ فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ المُخالِفِينَ المُنَابِذِينَ ، حَتَّى صَرَفْتُ رَأْيِي إِلَى هَوَاكُمْ ، وَأَنْتُمْ مَعَاشِرُ أَخِفَّاءُ الْهَامِ ، سُفَهَاءُ الْأَحْلاَمِ ؛ وَلَمْ آتِ _ لاَ أَبَا لَكُمْ _ بُجْرا ، وَلاَ أَرَدْتُ لَكُمْ ضُرّا 1 .

الشّرْحُ :الأهضام : جمع هَضْم ؛ وهو المطمئنّ من الوادي . والغائط : ما سَفَل من الأرض . واحْتَبَلَكم المقدار : أوقعكم في الحِبَالة . والبُجْر : الداهية والأمر العظيم . ويروى : « هُجْراً » ، وهو المستقبَح من القول . ويروى « عُرّا » ، والعُرّ : قروح في مشافِر الإبل ، ويستعار للداهية .

.

ص: 163

37 . من كلامٍ له عليه السلام يجري مجرى الخطبة ، يذكر ثباته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

تظافرت الأخبار حتى بلغت حدّ التواتر بما وعد اللّه تعالى قاتلي الخوارج من الثواب على لسان رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

37الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام يجري مجرى الخطبةفَقُمْتُ بِالْأَمْرِ حِينَ فَشِلُوا ، وَتَطَلَّعْتُ حِينَ تَقَبَّعُوا ، وَنَطَقْتُ حِينَ تَعْتَعُوا ، وَمَضَيْتُ بِنُورِ اللّهِ حِينَ وَقَفُوا . وَكُنْتُ أَخْفَضَهُمْ صَوْتا ، وَأَعْلاَهُمْ فَوْتا ، فَطِرْتُ بِعِنَانِهَا ، وَاسْتَبْدَدْتُ بِرِهَانِهَا . كَالْجَبَلِ لاَ تُحَرِّكُهُ الْقَوَاصِفُ ، وَلاَ تُزِيلُهُ الْعَوَاصِفُ . لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ فيَّ مَهْمَزٌ وَلاَ لِقَائِلٍ فيَّ مَغْمَزٌ . الذَّلِيلُ عِنْدِي عَزِيزٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ لَهُ ، وَالْقَوِيُّ عِنْدِي ضَعِيفٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ . رَضِينَا عَنِ اللّهِ قَضَاءَهُ ، وَسَلَّمْنَا للّهِ أَمْرَهُ . أَتَرَانِي أَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله وسلم ! وَاللّهِ لَأَنَا أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَهُ ، فَلاَ أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ . فَنَظَرْتُ في أَمْرِي ، فَإِذَا طَاعَتِي قَدْ سَبَقَتْ بَيْعَتِي ، وَإِذَا الْمِيثَاقُ في عُنُقِي لِغَيْرِي .

الشّرْحُ :هذه فصول أربعة ، لا يمتزج بعضُها ببعض ، وكل كلام منها ينحُو به أمير المؤمنين عليه نحوا غير ما ينحوه بالآخر ؛ وإنما الرضيّ رحمه اللّه تعالى التقطها من كلامٍ لأمير المؤمنين عليه السلام طويل منتشر ، قاله بعد وقعة النَّهروان ، ذكَر فيه حاله منذ توفِّيَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وإلى آخر وقت ؛ فجعل الرضيّ رحمه اللّه تعالى ما التقطه منه سَرْدا ، وصار عند السامع كأنه يقصد به

.

ص: 164

مقصدا واحدا . فالفصل الأول : وهو من أول الكلام إلى قوله : « واستبددت برهانها » ، يذكُر فيه مقاماتِه في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أيامَ أحداث عثمان ، وكَوْن المهاجرين كلّهم لم ينكِروا ولم يُواجِهوا عثمانَ بما كان يواجِههُ به وينهاه عنه ؛ فهذا هو معنى قوله : « فقمت بالأمر حين فَشِلوا » ، أي قمت بإنكار المنكر حين فشل أصحاب محمد صلى الله عليه و آله عنه . والفَشَل : الخَوَر والجُبْن . قال : « ونطقتُ حين تعتعوا » ، يقال : تعتع فلان ؛ إذا تردّد في كلامه من عِيّ أو حَصَر . قوله : « وتطلّعتُ حين تقبّعوا » ، امرأةٌ طُلَعةٌ قُبَعةٌ ، تَطلع ثم تقبَع رأسها ، أي تدخله كما يقبَعُ القنفذُ ، يدخُل برأسه في جلده ، وقد تقبّع الرجُل ، أي اختبأ ، وضدّه تطلّع . قوله « وكنت أخفضَهم صوتاً ، وأعلاهم فَوْتا » يقول : علوتُهم وفتّهم وشأوتهم سَبْقا ، وأنا مع ذلك خافِض الصوت ، يشير إلى التّواضع ونفي التكبّر . قوله : « فطرت بعنانها ، واستبددت برهانها » ، يقول : سبقتهم ، وهذا الكلامُ استعارة من مُسابقة خَيْل الحلبة . واستبددت بالرهان ، أي انفردت بالخَطَر ، الذِي وقع التراهُنُ عليه . الفصل الثاني : فيه ذكر حالِه عليه السلام في الخِلافة بعد عثمان ، يقول : كنتُ لمّا وَلِيتُ الأمر كالجبل لا تحرّكُه القواصِف ، يعني الرياح الشديدة ، ومثله العواصف . والمهمز : موضع الهمز ؛ وهو العيب ، وكذاك المغمز . ثم قال : « الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له ، والقويّ عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه » ؛ هذا آخر الفصل الثاني ، يقول : الذليل المظلوم أقُوم بإعْزازه ونَصْره ، وأُقوّي يدَه إلى أن آخذ الحقّ له ، ثم يعود بعد ذلك إلى الحالة التي كان عليها قبل أن أقومَ بإعزازه ونصره ، والقويّ الظالم أستضعِفه وأقهَرُه وأذلّه إلى أن آخذَ الحقَّ منه ، ثم يعود إلى الحالة التي كان عليها قَبْل أن أهتضِمَه لاستيفاء الحق . الفصل الثالث : من قوله : « رضينا عن اللّه قضاءَه » ، إلى قوله : « فَلا أكونُ أوّلَ مَنْ كذَب عليه (1) » ؛ هذا كلامٌ قاله عليه السلام لمّا تفرّس في قوم من عَسْكره أنّهم يتّهمونه فيما يخبرهم به عن

.


1- .هذه الجملة غير مرتبطة بالتي قبلها ، وأن ما قبلها غير مرتبط بسابقه ، ولا ريب أنّ السيد الرضي اقتطعها من خطبة واحدة أو متعددة ، فأُشكل معناها ، واللّه العالم . « الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ، في تعليقته على شرح النهج لمحمد عبده » .

ص: 165

النبيّ صلى الله عليه و آله من أخبار المَلاحِم والغائبات ، وقد كان شكّ منهم جماعة في أقواله ؛ ومنهم مَنْ واجهه بالشكّ والتهمة . الفصل الرابع : وهو من قوله : « فنظرت في أمري .. » إلى آخر الكلام ، هذه كلمات مقطوعة من كلام يذكر فيه حاله بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وأنه كان معهودا إليه ألاّ ينازِعَ في الأمر ، ولا يثيرَ فتنة ، بل يطلبه بالرفق ؛ فإن حَصَل له وإلاّ أمسك . هكذا كان يقول عليه السلام ، وقوله الحق ، وتأويلُ هذه الكلمات : فنظرت فإذا طاعتِي لرسول اللّه صلى الله عليه و آله ، أي وجوب طاعتي ، فحذف المضاف ، وأقام المضاف إليه مقامه . قد سَبَقَت بيعتي للقوم ؛ أي وجوب طاعة رسول اللّه صلى الله عليه و آله عليّ ، ووجوب امتثالي أمرَه سابقٌ على بَيْعتي للقوم ، فلا سبيلَ لي إلى الامتناع من البَيْعة ؛ لأنّه صلى الله عليه و آله أمرَني بها . وإذا الميثاق في عُنُقي لغيري ؛ أي رسول اللّه صلى الله عليه و آله أخذ عليّ الميثاق بترك الشِّقاق والمنازعة ، فلم يحلّ لي أن أتعدّى أمرَه ، أو أُخالف نهيَه 1 . صرّح شيخنا أبو القاسم البلخي رحمه اللّه تعالى : أنه _ يعني عليا عليه السلام هو _ الأفضل والأحق بالإمامة ، وصرّح به تلامذتُه ، وقالوا : لو نازع عَقِيْب وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلّ سيفه لحكمْنا بهلاك كلّ من خالفه وتقدّم عليه ، كما حكمنا بهلاك مَنْ نازعه حين أظهر نفسه ، ولكنّه مالك الأمر وصاحب الخلافة ؛ إذا طلبها وجب علينا القول بتفسيق مَنْ ينازعه فيها ، وإذا أمسك عنها وجب علينا القول بعدالة من أغضى له عليها ، وحكمه في ذلك حكم رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؛ لأنّه ثبت عنه في الأخبار الصحيحة أنّه قال : « علي مع الحق ، والحق مع

.

ص: 166

38 . من خطبة له عليه السلام في معنى الشبهة

علي ، يدور حيثما دار » ، وقال له غير مرة : « حربك حربي وسِلْمك سِلْمي » . وهذا المذهب هو أعدل المذاهب عندي وبه أقول (1) .

38الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلاموَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الشُّبْهَةُ شُبْهَةً لِأَنَّهَا تُشْبِهُ الْحَقَّ ؛ فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اللّهِ فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا الْيَقِينُ ، وَدَلِيلُهُمْ سَمْتُ الْهُدَى ؛ وَأَمَّا أَعْدَاءُ اللّهِ فَدُعَاؤُهُمْ فِيهَا الضَّلالُ ، وَدَلِيلُهُمُ الْعَمَى ، فَمَا يَنْجُو مِنَ الْمَوْتِ مَنْ خَافَهُ ، وَلاَ يُعْطَى الْبَقَاءَ مَنْ أَحَبَّهُ .

الشّرْحُ :هذان فصلان ، أحدهما غير ملتئم مع الآخر ، بل مبتور عنه ؛ وإنما الرضيّ رحمه اللّه تعالى كان يلتقط الكلام التقاطا ، ومراده أن يأتيَ بفصيح كلامِه عليه السلام ، وما يجري مجرَى الخطابة والكتابة ، فلهذا يقعُ في الفصل الواحد الكلامُ الذي لا يناسِبُ بعضُه بعضا ؛ وقد قال الرضيّ

.


1- .أقول : إن ابن أبي الحديد إن كان صادقا فيما يدعيه من أن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أمره بترك المنازعة ، وأمره بالبيعة للقوم ، وأنّ تقدمهم عليه لمصلحة ترجع إلى الدين . فما يقول فيما تواتر عنه عليه السلام واشتهر ، وصحّ عند ابن أبي الحديد نفسه من امتناعه عليه السلام من البيعة ستة أشهر حتى ماتت فاطمة ، ومن استصراخه بالأحياء والأموات طلبا لنصرته ، ومخاطبته لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : « يا ابن ام إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني » ، وقوله عليه السلام : « لو كان لي أربعون ذوو عزم ...» ، وقوله عليه السلام : « فطفقت ارتئي بين أن أُصول بيد جذّاء ... » ، وقوله عليه السلام : « ما زلت مظلوما منذ قبض اللّه نبيّه حتى يوم الناس هذا » ، وقوله عليه السلام : « ما زلت مدفوعا عن حقي مستأثرا عليّ ... » ؟ فهل هذه الأقوال والأفعال توافق ما ذكره ابن أبي الحديد من تركه عليه السلام للمنازعة بعهد عهده رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وبالمبايعة للقوم وإعلامه بأنّ المصلحة في تقدّم غيره عليه ، وإلاّ فهو يخالف عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلموعصيان أمره ؟ فعلي عليه السلام لم يمسك ولم يغضّ ، وتركه عليه السلام للقتال لا يدل على الرضا . بل لعذر ، وقد صرّح به في غير موطن . وقد مرّ ذكر بعضها .

ص: 167

39 . من خطبة له عليه السلام في ذم المتقاعدين عن القتال

ذلك في خطبة الكتاب . أمّا الفصل الأول : فهو الكلام في الشُّبْهة ، ولماذا سمِّيت شبهة ؟ قال عليه السلام : « لأنّها تُشْبِه الحقّ » ، وهذا هو محضُ ما يقوله المتكلّمون ؛ ولهذا يسمّون ما يحتجّ به أهلُ الحقّ دليلاً ، ويسمون ما يحتجّ به أهل الباطل شُبهة . قال : « فأمّا أولياءُ اللّه فضياؤُهم في حلّ الشبهة اليقين ، ودليلُهم سَمْتُ الهُدى » ، وهذا حقّ ؛ لأنَّ من اعتبر مقدّمات الشُّبْهَة ، وراعى الأُمور اليقينيّة ، وطلَب المقدِّمات المعلومة قطعا ، انحلّت الشُّبْهة ، وظهر له فسادها مِنْ أين هو ؟ ثم قال : « وأمّا أعداءُ اللّه فدعاؤهم الضّلال ، ودليلهم العَمَى » ، وهذا حقّ ؛ لأنّ المبطِل ينظر في الشُّبْهة ، لا نظر مَنْ راعى الأُمور اليقينية ، ويحلّل المقدمات إلى القضايا المعلومة ، بل يَغْلِبُ عليه حبّ المذاهب ، وعصبية أسلافه ، وإيثار نصر مَنْ قد ألزم بنصرته ، فذاك هو العمى والضلال ، اللّذان أشار أمير المؤمنين إليهما ، فلا تنحلّ الشبهة له ، وتزداد عقيدته فساداً . الفصل الثاني : قوله عليه السلام : « فما ينجُو من الموت مَن خافه ، ولا يعطَى البقاء مَنْ أحبّه » ، هذا كلام أجنبيّ عَمّا تقدم ، وهو مأخوذ مِن قوله تعالى : « قُلْ لَو كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إلى مَضَاجِعِهِمْ » (1) ، وقوله : «أيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الموتُ» (2) ، وقوله : « فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ » (3) .

39الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلاممُنِيتُ بِمَنْ لاَ يُطِيعُ إِذَا أَمَرْتُ وَلاَ يُجِيبُ إِذَا دَعَوْتُ ، لاَ أَبَا لَكُمْ ! مَا تَنْتَظِرُونَ

.


1- .سورة آل عمران 154 .
2- .سورة النساء 78 .
3- .سورة الأعراف 34 .

ص: 168

بِنَصْرِكُمْ رَبَّكُمْ ؟ أَمَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ ، وَلاَ حَمِيَّةَ تُحْمِشُكُمْ ! أَقُومُ فِيكُمْ مُسْتَصْرِخا ، وَأُنَادِيكُمْ مُتَغَوِّثا ، فَلاَ تَسْمَعُونَ لِي قَوْلاً ، وَلاَ تُطِيعُونَ لِي أَمْرا ، حَتَّى تَكَشَّفَ الْأُمُورُ عَنْ عَوَاقِبِ الْمَساءَةِ ، فَمَا يُدْرَكُ بِكُمْ ثَارٌ ، وَلاَ يُبْلَغُ بِكُمْ مَرَامٌ . دَعَوْتُكُمْ إِلَى نَصْرِ إِخْوَانِكُمْ فَجَرْجَرْتُمْ جَرْجَرَةَ الْجَمَلِ الْأَسَرِّ ، وَتَثَاقَلْتُمْ تَثَاقُلَ الْنِّضْوِ الْأدْب_َرِ ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَىَّ مِنْكُمْ جُنَيْدٌ مُتَذَائِبٌ ضَعِيفٌ (كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) .

قال الرضي رحمه الله : قوله عَليه السَّلام : «مُتَذَائِبٌ» أي مَضْطَرِب ، مِن قولهم : تَذَاءَبَتِ الرِّيحُ ، أي اضْطَربَ هُبُوبهَا ، وَمنه سُمِّيَ الذِّئْب ذِئْبا ، لاِضْطِرابِ مشْيَته .

الشّرْحُ :مُنِيتُ ، أي بُليتُ . وتُحْمِشكم : تُغْضِبُكم ، أحمشه أي أغضبه . والمستصرِخ : المستنصر . والمتغوّث : القائل : واغوثاه! والجَرْجرة : صوت يردِّده البعير في حَنْجَرته ؛ وأكثرُ ما يكون ذلك عند الإعياء والتعب . والجمل الأسَرّ : الذي بِكِرْكِرَتِهِ دَ بَرة (1) . والنِّضو : البعير المهزول . والأدْبَر : الذي به دَبَر ؛ وهو المعقور من القَتَب وغيره . هذا الكلام خَطَب به أميرُ المؤمنين عليه السلام في غارة النّعمان بن بشير الأنصاريّ (2) على عَيْن الت_َّمْر (3) .

.


1- .الكركرة ، بالكسر : زور البعير . والدبرة : قرحة الدابة . والأدبر : في ظهره جرح وقرح الحميّة : الأنفة والنخوة والمروءة .
2- .النعمان بن بشير الأنصاري ، ولد في السنة الأُولى للهجرة . كان من جملة من لم يبايع عليا ، كان عثماني الهوى وكان انتهازيا مرتزقا ، وعندما قتل عثمان ، أخذ قميصه وأصابع زوجته نائلة وباعها إلى معاوية . وعلّقهما معاوية ليستثير أهل الشام . أغار على عين التمر بأمر من معاوية ، وهزم فيها أمام مالك بن كعب . كافأه معاوية بولاية الكوفة عام 59 ه . قتل عام 65 .
3- .روى الطبري في تاريخه 5 : 106 عن أبي مخنف ، أنّ هذه الخطبة خطب بها الإمام عليه السلام بعد فتح مصر وقتل محمد بن أبي بكر . كما روى ذلك الثقفي في (غاراته) 1 : 295 _ 296 . وهذا هو الراجح . وأما خطبته عليه السلام في غارة النعمان على عين التمر فشيء آخر . الغارات 2 : 451 ، وانظر : نهج الصباغة للتستري 10 : 554 وما بعدها .

ص: 169

40 . من خطبة له عليه السلام للخوارج لما سمع قولهم : « لا حكم إلاّ للّه »

40الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام للخوارج لما سمع قولهم : « لا حكم إلاّ للّه » قال:كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ ! نَعَمْ إِنَّهُ لاَ حُكْمَ إِلاَّ للّهِ ، وَلكِنَّ هؤُلاَءِ يَقُولُونَ : لاَ إِمْرَةَ إِلاَّ للّهِ ، وَإِنَّهُ لاَ بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ يَعْمَلُ في إِمْرَتِهِ الْمُؤْمِنُ ، وَيَسْتَمْتِعُ فِيهَا الْكَافِرُ، وَيُبَلِّغُ اللّهُ فِيهَا الْأَجَلَ ، وَيُجْمَعُ بِهِ الْفَيْءُ ، وَيُقَاتَلُ بِهِ الْعَدُوُّ ، وَتَأْمَنُ بِهِ السُّبُلُ ، وَيُؤْخَذُ بِهِ لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ ؛ حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ ، وَيُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِرٍ . وفي رواية أُخرى أنه عليه السلام لما سمع تحكيمهم قال : حُكْمَ اللّهِ أَنْتَظِرُ فِيكُمْ . وقال : أَمَّا الاْءِمْرَةُ الْبَرَّةُ فَيَعْمَلُ فِيهَا التَّقِيُّ ؛ وَأَمَّا الاْءِمْرَةُ الْفَاجِرَةُ فَيَتَمَتَّعُ فِيهَا الشَّقِيُّ ؛ إِلى أَنْ تَنْقَطِعَ مُدَّتُهُ ، وَتُدْرِكَهُ مَنِيَّتُهُ . اختلاف الرأي في القول بوجوب الإمامة

الشّرْحُ :هذا نصٌّ صريح منه عليه السلام ؛ بأنّ الإمامةَ واجبة (1) ، وقد اختلف الناس في هذه المسألة فقال المتكلّمون : كلمة الإمامة واجبة ؛ إلاّ ما يحكَى عن أبي بكر الأصَمّ من قدماء أصحابنا أنها غيرُ واجبة ؛ إذا تناصفت الأُمّة ؛ ولم تتظالم .

.


1- .هذا ليس فيه تصريح ولا تلويح ، وإنّما كلامه عليه السلام في الإمارة ، سواءً كان الأمير برّا أو فاجرا .

ص: 170

41 . من خطبة له عليه السلام في مدح الوفاء وذم الغدر

فإنْ قيل : ذكرتم أنّ الناس كافّة قالوا بوجوب الإمام ، فكيفَ يقول أمير المؤمنى عليه السلام عن الخوارج إنّهم يقولون : « لا إمرة » . قيل : إنهم كانوا في بدء أمرهم يقولون ذلك ، ويذهبون إلى أنّه لا حاجةَ إلى الإمام ، ثم رجعوا عن ذلك القول لما أمّروا عليهم عبدَ اللّه بن وهب الرّاسبيّ . فإن قيل : فسّروا لنا ألفاظ أمير المؤمنين عليه السلام . قيل : إنّ الألفاظَ كلَّها ترجع إلى إمرة الفاجر . قال : يعمل فيها المؤمن ، أي ليست بمانعة للمؤمن من العمَل ؛ لأنّه يمكنه أن يصليَ ويصوم ويتصدّق ؛ وإن كان الأمير فاجرا في نفسه . ثم قال : « ويستمتع فيها الكافر » أي يتمتّع بمدته ، كما قال سبحانه للكافرين : « قُلْ تَمَتَّعُوا فَإنَّ مَصِيرَكُمْ إلَى النَّارِ » (1) . ويبلّغ اللّه فيها الأجل ؛ لأنّ إمارة الفاجر كإمارة البَرّ ، في أنّ المدة المضروبة فيها تنتهي إلى الأجل المؤقت للإنسان . ثم قال : « ويجمَع به الفيء ، ويقاتَل به العدو ، وتأمن به السبل ، ويُؤخذ به للضّعيف من القويّ » ، وهذا كلُّه يمكن حصوله في إمارة الفاجر القويّ في نفسه ، ثم قال عليه السلام : « فتكون هذه الأُمور حاصلة إلى أن يستريحَ برّ بموته ، أو يُسترَاح من فاجر بموته أو عزله » . فأمّا الرواية الثانية ، فإنّه قد جعل يعمل فيها التقيّ الإمرة خاصة . وباقي الكلام غنيّ عن الشرح .

41الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامأَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ الْوَفَاءَ تَوْأَمُ الصِّدْقِ ، وَلاَ أَعْلَمُ جُنَّةً أَوْقى مِنْهُ ، وَمَا يَغْدِرُ مَنْ عَلِمَ

.


1- .سورة إبراهيم 30 .

ص: 171

كَيْفَ الْمَرْجِعُ . وَلَقَدْ أَصْبَحْنَا في زَمَانٍ قَدِ اتَّخَذَ أَكْثَرُ أَهْلِهِ الْغَدْرَ كَيْسا ، وَنَسَبَهُمْ أَهْلُ الْجَهْلِ فِيهِ إِلى حُسْنِ الْحِيلَةِ . مَا لَهُمْ ! قَاتَلَهُمُ اللّهُ ! قَدْ يَرَى الْحُوَّلُ الْقُلَّبُ وَجْهَ الْحِيلَةِ وَدُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ اللّهِ وَنَهْيِهِ ، فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَيْنٍ بَعْدَ الْقَدْرَةِ عَلَيْهَا ، وَيَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لاَ حَرِيجَةَ لَه فِي الدِّينِ (1) .

الشّرْحُ :يقال : هذا توأم هذا ، وهذه توأمته ، وهما توأمان ؛ وإنما جُعل الوفاء توأم الصدق ؛ لأنّ الوفاء صدقٌ في الحقيقة ؛ أَلا تَرى أنّه قد عاهد عَلَى أمرٍ وصدق فيه ولم يُخْلِف ؛ وكأنهما أعمّ وأخصّ ، وكل وفاءٍ صدق ، وليس كلّ صدقٍ وفاء ، فإن امتنع من حيث الاصطلاح تسميةُ الوفاء صدقا فلأمرٍ آخر ؛ وهو أنّ الوفاء قد يكون بالفعل دون القول ، ولا يكون الصدق إلاّ في القول ؛ لأنّه نوع من أنواع الخبر ، والخبر قول . ثم قال : « ولا أعلم جُنّة » أي درعا أوقَى منه ، أي أشدّ وقاية وحفظا ؛ لأنّ الوفيّ محفوظ من اللّه ، مشكور بين الناس . ثم قال « وما يغدر مَنْ عَلِمَ كيف المرجع » ، أي مَنْ علم الآخرة وطوَى عليها عقيدته ، منعه ذلك أن يغدِر ؛ لأنّ الغدر يُحْبِط الإيمان . ثمّ ذكر أنّ الناس في هذا الزمانِ ينسبون أصحاب الغدر إلى الكَيْس ، وهو الفِطْنة والذكاء ، فيقولون لمن يخدَع ويغدِر ، ولأرباب الجريرة والمكْر : هؤلاء أذكياء أكياس ؛ كما كانوا يقولون فيعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، وينسُبون أربابَ ذلك إلى حسن الحيلة وصحّة التدبير . ثم قال : « ما لهم قاتَلهم اللّه » ! دعاء عليهم .

.


1- .الجُنّة : الوقاية . الكَيْس : العقل ، الفطنة . الحوّل : البصير بتحويل الأُمور . القلَّب : الخبير بتقلّبها . وجه الحيلة : مأخذها وسبلها . ينتهز : يبادر . الحريجة : التحرج والتحرز من الآثام .

ص: 172

42 . من خطبة له عليه السلام يحذر فيها اتباع الهوى وطول الأمل

ثم قال : قد يَرى الحوّل القلّبُ وجهَ الحيلة ، ويمنعه عنها نهيُ اللّه تعالى عنها ، وتجريمه بعد أن قَدَر عليها ، وأمكنه . والحوّل القلّب : الذي قد تحوَّل وتقلّب في الأُمور وجَرّب ، وحنّكَته الخطوب والحوادث . ثم قال : « وينتهز فُرْصتها » ، أي يبادر إلى افتراصها ويغتنمها . مَنْ لا حريجة له في الدين ، أي ليس بذي حَرَج ، والتحرّج : التأثم . والحريجة : التقوى ؛ وهذه كانت سجيته عليه السلام وشيمته ، مَلَك أهلُ الشام الماء عليه ، والشريعة بصفّين ، وأرادوا قتْلَه وقتلَ أهل العراق عطشا ؛ فضارَبهم على الشريعة حتى مَلَكها عليهم ، وطردَهم عنها ، فقال له أهل العراق : اقْتُلْهُم بسيوف العطش ، وامنعهم الماء ، وخذهم قَبْضا بالأيدي ؛ فقال : إنّ في حدّ السيف لغنىً عن ذلك ، وإني لا أستحلّ منعَهم الماء . فأفْرَجَ لهم عن الماء فوردوه ، ثم قاسمهم الشريعة شَطْرَيْن بينهم وبينه ، وكان الأشتر يستأذنه أن يبيِّت (1) معاوية ، فيقول : إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه نهى أن يُبَيَّتَ المشركون ، وتوارث بنوه عليه السلام هذا الخُلق الأبيّ .

42الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلامأَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَانِ : اتِّبَاعُ الْهَوَى ، وَطُولُ الْأَمَلِ ؛ فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ ، وَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِي الآخِرَةَ . أَلاَ وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ وَلَّتْ حَذَّاءَ ؛ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلاَّ صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الإنَاءِ اصْطَبَّهَا صَابُّهَا . أَلاَ وَإِنَّ الآخِرَةِ قَدْ أَقْبَلَتْ ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا بَنُونَ ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ ، وَلاَ تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا ، فَإِنَّ كُلَّ وَلَدٍ سَيُلْحَقُ بأُمِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلاَ حِسَابَ ، وَغَدا حِسَابٌ ، وَلاَ عَمَلَ (2) .

.


1- .يقال : بيّت العدو ، أي قصده في الليل من غير أن يعلم فيؤخذ بغتة ، وهو البيات .
2- .اصطبّها : سكبها . صابّها : ساكبها .

ص: 173

43 . من خطبة له عليه السلام وقد أشار عليه أصحابه بالاستعداد لحرب أهل الشام بعد إرساله إلى معاوية جرير بن عبد اللّه البجلي

قال الرضي ؛ : أقول : الحذَّاء : السَّريعة ، ومن الناس من يرويه «جذّاء» بالجيم والذّال ، أي انقَطَع دَرُّها وَخَيْرُها .

الشّرْحُ :الصُّبابة : بقية الماء في الإناء . واصطبّها صابُّها ، مثل قولك : أبقاها مُبقيها أو تركها تاركها ؛ ونحو ذلك ، يقول : أخوَف ما أخافه عليكم اتّباع الهوى وطول الأمل ، أمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحق ؛ وهذا صحيح لا ريب فيه ، لأنّ الهوى يُعمى البصيرة ، وقد قيل : حُبّك الشيء يُعمى ويُصِمّ . « وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة » ، وهذا حقّ ؛ لأنّ الذهن إذا انصرف إلى الأمل ، ومدّ الإنسان في مداه ، فإنّه لا يذكر الآخرة ، بل يصير مستغرق الوقت بأحوال الدنيا ، وما يرجو حصوله منها في مستقبل الزمان . ثم قال عليه السلام : « ألا إنّ الدنيا قد أدبرت حذّاء » بالحاء والذال المعجمة ؛ وهي السريعة ، وقطاة حذّاء : خفّ ريشُ ذَنَبِها ، وَرَجُل أحذّ ، أي خفيف اليد ، وقد رُوِي : « قد أدبرت جذّاء » بالجيم ؛ أي قد انقطع خَيْرُها ودَرّها . ثم قال : إن كل ولد سيلْحَق بأُمّه يوم القيامة ، فكونوا من أبناء الآخرة لتلحقوا بها وتفوزوا ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا فتلحقوا بها وتخسروا . ثم قال : اليوم عمل ولا حساب ، وغداً حساب ولا عمل » ، وهذا من باب المقابلة في علم البيان .

43الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام وقد أشار عليه أصحابه بالاستعداد لحرب أهل الشام بعد إرساله إلى معاوية جرير بن عبد اللّه البجليإِنَّ اسْتِعْدَادِي لِحَرْبِ أَهْلِ الشَّامِ وَجَرِيرٌ عِنْدَهُمْ ، إِغْلاَقٌ لِلشَّامِ وَصَرْفٌ لِأَهْلِهِ عَنْ

.

ص: 174

خَيْرٍ إِنْ أَرَادُوهُ . وَلكِنْ قَدْ وَقَّتُّ لِجَرِيرٍ وَقْتا لاَ يُقِيم بَعْدَهُ إِلاَّ مَخْدُوعا أَوْ عَاصِيا . وَالرَّأْيُ عِنْدِي مَعَ الْأن_َاةِ فَأَرْوِدُوا ، وَلاَ أَكْرَهُ لَكُمُ الاْءِعْدَادَ . وَلَقَدْ ضَرَبْتُ أَنْفَ ه_ذَا الْأَمْرِ وَعَيْنَهُ ، وَقَلَّبْتُ ظَهْرَهُ وَبَطْنَهُ ، فَلَمْ أَرَ لِي فِيهِ إِلاَّ الْقِتَالَ أَوِ الْكُفْرَ بِمَا جَاءَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ . إِنَّهُ قَدْ كَانَ عَلَى الْأُمَّةِ وَالٍ أَحْدَثَ أَحْدَاثا ، وَأَوْجَدَ النَّاسَ مَقَالاً ، فَقَالُوا ، ثُمَّ نَقَمُوا فَغَيَّرُوا .

الشّرْحُ :أرْوِدوا ، أي ارْفُقوا ، أرْوَد في السّير إروادا ، أي سار برِفْق . والأناة : التثبّت والتأنّي . ونهيه لهم عن الاستعداد ، وقوله بعد : « ولا أكره لكم الإعداد » غيرُ متناقض ؛ لأنّه كَره منهم إظهار الاستعداد والجَهْر به ، ولم يكره الإعداد في السّر ، وعلى وجه الخفاء والكتمان ؛ ويمكن أن يقال إنّه كرِه استعداد نفسه ، ولم يكره إعداد أصحابه ؛ وهذان متغايران . وهذا الوجهُ اختاره القطب الراونديّ . ولقائل أن يقول : التعليلُ الذي علّل به عليه السلام يقتضي كراهيَة الأمْرين معا ، وهو أن يتّصل بأهل الشام الاستعداد ، فيرجعوا عن السلّم إلى الحرب ؛ بل ينبغي أن تكونَ كراهته لإعداد جيشه وعسكره خيولَهم وآلات حربهم أوْلَى ؛ لأنّ شياع ذلك أعظمُ من شياع استعداده وحْدَه ، لأنّه وحدَه يمكن أن يكتُم استعداده ، وأمّا استعداد العساكر العظيمة ، فلا يمكن أن يُكْتَم ، فيكون اتّصالُه وانتقاله إلى أهل الشام أسرَع ، فيكون إغلاق الشام عن باب خيرٍ إن أرادوه أقرب ؛ والوجه في الجمع بين اللفظتين ما قدمناه . وأمّا قوله عليه السلام : « ضربت أنفَ هذا الأمر وعينَه » ، فمَثل تقوله العرب إذا أرادت الاستقصاء في البحث والتأمّل والفِكْر ؛ وإنما خَصّ الأنف والعين ، لأنهما صورة الوجه ، والذي يتأمّل من الإنسان إنما هو وجهه . وأمّا قوله : « ليس إلاّ القِتَالُ أو الكفر » ؛ فلأنّ النهيَ عن المنكَر واجبٌ على الإمام ، ولا يجوز له الإقرار عليه ، فإن تركَه فَسَق ، ووجبَ عزلهُ عن الإمامة . وقوله : « أو الكفر » من باب المبالغة ؛ وإنما هو القتال أو الفِسْق ، فسمّى الفِسْق كفرا

.

ص: 175

44 . من خطبة له عليه السلام لما هرب مصقلة بن هبيرة الشيباني إلى معاوية

45 . من خطبة له عليه السلام في الزهد وتعظيم اللّه وتصغير أمر الدنيا

تغليظا وتشديدا في الزجر عنه . وقوله عليه السلام : « أوجد النّاس مقالاً » ، أيْ جعلَهم واجدين له . والوالي المشار إليه عثمان .

44الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام لما هرب مَصْقَلة بنُ هبيرة الشيباني إلى معاوية ، وكان قد ابتاع سَبْيَ بني ناجية من عامل أمير المؤمنين عليه السلام وأعتقه ، فلما طالبه بالمال خاس به وهرب إلى الشام ، فقال :قَبَّحَ اللّهُ مَصْقَلَةَ ! فَعَلَ فِعْلَ السَّادَةِ ، وَفَرَّ فِرَارَ الْعَبِيدِ ! فَمَا أَنْطَقَ مَادِحَهُ حَتَّى أَسْكَتَهُ ، وَلاَ صَدَّقَ وَاصِفَهُ حَتَّى بَكَّتَهُ ، وَلَوْ أَقَامَ لَأَخَذْنَا مَيْسُورَهُ ، وَانْتَظَرْنَا بِمَالِهِ وُفُورَهُ.

الشّرْحُ :خاس به يَخِيس ويخوس ، أي غَدَرَ به ، وخاسَ فلان بالعهد ، أي نكَث . وقَبّح اللّه 0فلانا ، أي نحاه عن الخَيْر ، فهو مقبوح . والتبكيت ، كالتقريع والتعنيف . والوُفور : مصدر وَفَر المال ، أي تَمّ ، ويجيء متعدّيا . ويُروى « موفوره » ، والموفور : التامّ .

45الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامالْحَمْدُ للّهِ غَيْرَ مَقْنُوطٍ مِنْ رَحْمَتِهِ ، وَلاَ مَخْلُوٍّ مِنْ نِعْمَتِهِ ، وَلاَ مَأْيُوسٍ مِنْ مَغْفِرَتِهِ ،

.

ص: 176

46 . من خطبة له عليه السلام عند عزمه على المسير إلى الشام

وَلاَ مُسْتَنْكَفٍ عَنْ عِبَادَتِهِ ، الَّذِي لاَ تَبْرَحُ مِنْهُ رَحْمَةٌ ، وَلاَ تُفْقَدُ لَهُ نِعْمَةٌ . وَالدُّنْيَا دَارٌ مُنِيَ لَهَا الْفَنَاءُ ، وَلِأَهْلِهَا مِنْهَا الْجَلاَءُ ، وَهِيَ حُلْوَةٌ خَضِرَة ، وَقَدْ عَجِلَتْ لِلطَّالِبِ ، وَالْتَبَسَتْ بِقَلْبِ النَّاظِرِ ؛ فَارْتَحِلُوا مِنْهَا بِأَحْسَنِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ الزَّادِ ، وَلاَ تَسْأَلُوا فِيهَا فَوْقَ الْكَفَافِ ، وَلاَ تَطْلُبُوا مِنْهَا أَكْثَرَ مِنَ الْبَلاَغِ (1) .

الشّرْحُ :مُنِي لها الفناء ، أي قُدّر . والجَلاء ، بفتح الجيم : الخروج عن الوطن ، قال سبحانه : « وَلَوْلاَ أنْ كَتَبَ اللّهُ عَلَيْهِمُ الجَلاَءَ » (2) . وحلوة خَضِرة ؛ مأخوذ من قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله : « إنّ الدنيا حُلْوة خَضِرة ، وإنّ اللّه مستخلِفُكم فيها فناظر كيف تعملون » . والكَفاف من الرزق : قَدْر القُوت ؛ وهو ما كَفَّ عن الناس ، أي أغنى . والبلاغ والبُلْغة من العيش : ما يُتَبَلَّغُ به . واعلم أنّ هذا الفصل يشتمِلُ على فصلين من كلام أمير المؤمنين عليه السلام ، أحدُهما : حَمْد اللّه والثناء عليه إلى قوله : « ولا تُفْقَدُ له نِعْمة » ، والفصل الثاني : ذكر الدنيا إلى آخر الكلام ؛ وهما من خطبتين ؛ وأحدُهما غيرُ مختلط بالآخر ولا مَنْسُوقٍ عليه ؛ ولكنّ الرضيّ رحمه الله تعالى يلتقط كلامَ أمير المؤمنين عليه السلام التقاطا ، ولا يقفُ مع الكلام المتوالي ؛ لأنّ غرضَه ذكرُ فصاحتِه عليه السلام لا غير ، ولو أتى بخُطَبِه كلِّها على وجهها لكانت أضعافَ كتابه الذي جَمَعه .

46الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام عند عزمه على المسير إلى الشاماللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ ، وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ ، وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ

.


1- .مقنوط : من القنوط وهو اليأس . مخلوٍّ : من خلا إذا انفرد ومضى ، ترك . مستنكف : من الاستنكاف وهو الاستكبار .
2- .سورة الحشر 3 .

ص: 177

47 . من خطبة له عليه السلام في ذكر الكوفة

وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ . اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ ، وَأَنْتَ الْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ ، وَلاَ يَجْمَعُهُما غَيْرُكَ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَخْلَفَ لاَ يَكُونُ مُسْتَصْحَبا ، وَالْمُسْتَصْحَبُ لاَ يَكُونُ مُسْتَخْلَفا .

قال الرضي رحمه الله : وابتداء هذا الكلام مرويّ عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وقد قفّاه أمير المؤمنين عليه السلام بأبلغ كلام وتمَّمه بأحسن تمام ؛ من قوله : « وَلاَ يَجْمَعُهُمَا غَيْرُكَ » إلى آخر الفصل .

الشّرْحُ :وَعْثَاء السفَر : مشقّتُه ، وأصل الوَعْث المكان السّهْل الكثير الدّهس ، تَغِيبُ فيه الأقدام ، ويشقّ على مَنْ يمشي فيه ، أوْعَثَ القوم ، أيْ وقعوا في الوَعثْ . والكآبة : الحزن . والمنقلَب ، مصدر من انقلب منقلَبا ، أي رَجَع ، وسوء المنظر : قُبْح المرأَى . وصدر الكلام مرويّ عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله في المسانيد الصحيحة ، وخَتَمه أميرُ المؤمنين عليه السلام وتمّمه بقوله : « ولا يجمعهما غَيْرُك » ، وهو الصحيح ؛ لأنّ مَنْ يُسْتَصْحَبُ لا يكون مستخلَفاً ؛ فإنه مستحيل أنْ يكونَ الشيء الواحد في المكانين مقيما وسائرا ؛ وإنما تصِحّ هذه القضية في الأجسام ؛ لأنّ الجسم الواحد لا يكون في جهتين في وقت واحد ؛ فأمّا ما ليس بجسم وهو البارئ سبحانه ؛ فإنه في كلّ مكان ؛ لا عَلَى معنى أنّ ذاتَه ليست مكانِيّة ؛ وإنما المراد علمه وإحاطتُه ونفوذ حكمه وقضائه وقدَره ؛ فقد صدق عليه السلام أنّه المستخلَف وأنه المستصحب ؛ وأنّ الأمرَيْن مجتمعان له جلّ اسمه . وهذا الدعاء دَعَا به أمير المؤمنين عليه السلام بعد وَضْع رجله في الركاب ، من منزله بالكوفة متوجّها إلى الشام لحرب معاوية وأصحابه ؛ ذكره نَصْر بن مزاحم في كتاب « صفين» وذكره غيره أيضا من رواة السيرة .

47الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام في ذكر الكوفةكَأَنِّي بِكِ يَا كُوفَةُ تُمَدِّينَ مَدَّ الْأَدِيمِ الْعُكَاظِي ، تُعْرَكِينَ بِالنَّوَازِلِ ، وَتُرْكَبِينَ

.

ص: 178

48 . من خطبة له عليه السلام عند المسير إلى الشام

بِالزَّلاَزِلِ، وَإِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِكِ جَبَّارٌ سُوءا إِلاَّ ابْتَلاَهُ اللّهُ بِشَاغِلٍ ، أوْ رَمَاهُ بِقَاتِلٍ!

الشّرْحُ :عُكاظ : اسم سُوق للعرب بناحية مكة ، كانوا يجتمعون بها في كلّ سنة ، يقيمون شهرا ويتبايعون ويتناشدون شعرا ويتفاخرون ؛ وأكثر ما كان يُباع الأديم بها ، فنسب إليها . والأديم واحد والجمع أُدُم ، كما قالوا : أفيق للجلْد الذي لم تَتِمَّ دباغته ، وجمعه أفُقٌ ، وقد يجمع أدِيم على آدِمة ، كما قالوا : رغيف وأرغفة . والزلازل هاهنا : الأُمور المزعجة ، والخطوب المحرّكة . وقوله عليه السلام : « تُمَدّين مَدّ الأديم » ، استعارة لما ينالها من العَسْف والخبط . وقوله عليه السلام : « تُعْرَكِين » ، من عَرَكَتِ القومَ الحرب إذا مارستهم حتى أتْعَبتهم .

48الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلام عند المسير إلى الشامالْحَمْدُ للّهِ كُلَّمَا وَقَبَ لَيْلٌ وَغَسَقَ ، وَالْحَمْدُ للّهِ كُلَّمَا لاَحَ نَجْمٌ وَخَفَقَ ، وَالْحَمْدُ للّهِ غَيْرَ مَفْقُودِ الاْءِنْعَامِ ، وَلاَ مُكَافَإِ الاْءِفْضَالِ . أَمَّا بَعْدُ ، فَقَدْ بَعَثْتُ مُقَدَّمَتِي ، وَأَمَرْتُهُمْ بِلُزُومِ ه_ذَا الْمِلْطَاطِ ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرِي ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَقْطَعَ ه_ذِهِ النُّقْطَةَ إِلَى شِرْذِمَةٍ مِنْكُمْ ، مُوَطِّنِينَ أَكْنَافَ دَجْلَةَ ، فَأُنْهِضَهُمْ مَعَكُمْ إِلَى عَدُوِّكُمْ ، وَأَجْعَلَهُمْ مِنْ أَمْدَادِ الْقُوَّةِ لَكُمْ .

قال الرضي رحمه الله : يعني عليه السلام بالملطاط ها هنا السّمْتَ الذي أمرهم بلزومه ، وهو شاطئ الفرات ، ويقال ذلك أيضا لشاطئ البحر ، وأصله ما استوى من الأرض . ويعني بالنطفة ماء الفرات ، وهو من غريب العبارات وعجيبها .

.

ص: 179

الشّرْحُ :وقب الليل ؛ أي دخل ، قال اللّه تعالى : « وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ اِذَا وَقَبَ » (1) . وغسق ، أي أظلم . وخفق النجم ، أي غاب . ومقدِّمة الجيش ، بكسر الدال : أوله ؛ وما يتقدّم منه على جمهور العسكر ؛ ومقدَّمة الإنسان ، بفتح الدال : صدره . والمِلْطاط : حافّة الوادي وشَفِيرُه ، وساحل البحر . فأمّا قول الرضيّ رحمه اللّه تعالى : « الملطاط : السّمْت الذي أمرهم بلزومه وهو شاطئ الفرات ، ويقال ذلك لشاطئ البحر » ، فلا معنى له ؛ لأنّه لا فرق بين شاطئ الفرات وشاطئ البحر ، وكلاهما أمر واحد ، وكان الواجب أن يقول : المِلْطاط : السمت في الأرض ، ويقال أيضا لشاطئ البحر . والشِّرْذمة : نفر قليلون . وموطنين أكناف دجلة ، أي قد جعلوا أكنافها وَطَنا ، أوطنت البُقعة . والأكناف : الجوانب ، واحدها كَنَف . والأمداد : جمع مَدَد ، وهو ما يُمَدُّ به الجيش تقوية له . وهذه الخطبة خطب بها أميرُ المؤمنين عليه السلام وهو بالنُّخَيلة خارجا من الكوفة ومتوجِّها إلى صفِّين لخمس بقين من شوال سنة سبع وثلاثين ؛ ذكرها جماعة من أصحاب السير ، وزادوا فيها : « وقد أمّرْت على المِصْر عُقْبة بن عمرو الأنصاريّ ، ولم آلكم ولا نفسي (2) ؛ فإيّاكم والتخَلّف والتربّص ؛ فإني قد خَلّفت مالك بن حبيب اليَربوعيّ ، وأمرْتُه ألاّ يترك متخلّفا إلاّ ألحقه بكم عاجلاً ، إن شاء اللّه » (3) . وروى نصر بن مزاحم عوض قوله : « فأُنهِضَهم معكم إلى عَدُوّكم » « فأنْهِضَهُم معكم إلى عدو اللّه » . قال نصر : فقام إليه مَعْقل بن قيس الرّياحيّ ، فقال : يا أمير المؤمنين ؛ واللّه ما يتخلّف عنك إلاّ ظَنِين ، ولا يتربَّصُ بك إلاّ منافق ، فَمُرْ مالكَ بن حبيب فليضرِبْ أعناقَ المتخلّفين . فقال : قد أمَرْتُهُ بأمري ، وليس بمقصِّر إن شاء اللّه .

.


1- .سورة الفلق 3 .
2- .يقال : ما يألو الشيء ، أي ما يتركه .
3- .وقعة صفين : ص 148 .

ص: 180

49 . من خطبة له عليه السلام في تمجيد اللّه سبحانه وتحميده

49الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامالْحَمْدُ للّهِ الَّذِي بَطَنَ خَفِيَّاتِ الْأُمُورِ ، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ أَعْلاَمُ الظُّهُورِ ، وَامْتَنَعَ عَلَى عَيْنِ الْبَصِيرِ ؛ فَلاَ عَيْنُ مَنْ لَمْ يَرَهُ تُنْكِرُهُ ، وَلاَ قَلْبُ مَنْ أَثْبَتَهُ يُبْصِرُهُ . سَبَقَ فِي الْعُلُوِّ فَلاَ شَيْءَ أَعْلَى مِنْهُ ، وَقَرُبَ فِي الدُّنُوِّ فَلاَ شَيْءَ أَقْرَبُ مِنْهُ. فَلاَ اسْتعْلاَؤٌهُ بَاعَدَهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ ، وَلاَ قُرْبُهُ سَاوَاهُمْ فِي الْمَكَانِ بِهِ . لم يَطلِعِ الْعُقُولَ عَلَى تَحْدِيدِ صِفَتِهِ ، وَلَمْ يَحْجُبْهَا عَنْ وَاجِبِ مَعْرِفَتِهِ ، فَهُوَ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ أَعْلاَمُ الْوُجُودِ ، عَلَى إِقْرَارِ قَلْبِ ذِي الْجُحُودِ ، تَعَالَى اللّهُ عَمَّا يَقُولُهُ الْمُشَبِّهُونَ بِهِ وَالْجَاحِدُونَ لَهُ عُلُوّا كَبِيرا!

الشّرْحُ :بطنتُ سِرّ فلان ، أي أخفيتُه . والأعلام : جمع علَم ، وهو المنارُ يهتدى به ، ثم جعل لكلّ ما دل على شيء . فقيل لمعجزات الأنبياء : أعلام ؛ لدلالتها على نبوّتهم . وقوله عليه السلام : «أعلام الظهور» ، أي الأدلة الظاهرة الواضحة . وقوله فيما بعد : « أعلام الوجود » أي الأدلة الموجودة ، والدلالة هي الوجود نفسه . « وامتنع على عين البصير » ، يقول : إنه سبحانه ليس بمرئيّ بالعين ؛ ومع ذلِك فلا يمكِنُ مَنْ لم يَرَهُ بعينه أن ينكره ؛ لدلالة كلّ شيء عليه ، بل لدلالته سبحانه على نفسه . « ولا قلب من أثبته ببصره » ، أي لا سبيل لمن أثبت وجودَه أن يحيطَ علما بجميع أحواله ومعلوماته ومصنوعاته ؛ أو أراد أنه لا تُعلم حقيقة ذاته ؛ كما قاله قوم من المحققين . وقد رُوِيَ هذا الكلام على وجه آخر ، قالوا في الخطبة : « فلا قلْبُ مَنْ لم يَرَهُ ينكِره ، ولا عينُ مَنْ أثبته تبصره » ، وهذا غير محتاج إلى تفسير لوضوحه .

.

ص: 181

فصول في العلم الإلهي

الفصل الأوّل : كونه تعالى عالما بالاُمور الخفيّة

وقوله عليه السلام : « فلا استعلاؤه باعده » ، أي ليس علوّه ولا قربه كما نعقله من العلوّ والقرب المكانيّين ، بل هو علوّ وقرب خارج من ذلك ، فليس علوّه يقتضي بعدَه بالمكان عن الأجسام ، ولا قربَه يقتضي مساواته إياها في الحاجة إلى المكان والجهة . والباء في « به » متعلقة ب_ « ساواهم » ، معناه : ولا قربُه ساواهم به في الحاجة إلى المكان ؛ أي لم يقتض قربه مماثلته ومساواته إياهم في ذلك .

فصول في العلم الإلهيقال ابن أبي الحديد : وهذا الفصل يشتمل على عدة مباحث من العلم الإلهي (1) :

الفصل الأوّلكونه تعالى عالما بالأُمور الخفيّةفاعلم أن أمير المؤمنين عليه السلام إنما قال : « بَطَن خفِيّات الأُمور » وهذا القدر من الكلام يقتضى كونه تعالى عالماً ، يعلَم الأمورَ الخفيّة الباطنة ؛ وهذا منقسم قسمين : أحدهما : أن يعلم الأُمور الخفية الحاضرة . والثاني : أن يعلم الأُمور الخفية المستقبلة . والكلام من حيث إطلاقه يحتمل الأمرين ، فنحمله عليهما معا . فقد خالف في كلّ واحدة من المسألتين قوم ؛ فمِنَ الناس مَنْ نَفَى كونه عالما بالمستقبَلات ، ومِنَ الناس مَنْ نفَى كونَه عالماً بالأمور الحاضره ؛ سواء كانت خفيّة أو ظاهرة ؛ وهذا يقتضينا أن نشرحَ أقوال العقلاء في هذه المسائل ، فنقول : إنَّ الناس فيها عَلَى أقوال : القول الأول : قولُ جمهور المتكلّمين ، وهو أنّ البارئ سبحانه يعلم كلّ معلوم : الماضي الحاضر والمستقبل ؛ ظاهرها وباطنها ، ومحسوسها وغير محسوسها ؛ فهو تعالى العالم بما كان وما هو حاضر ، وما سيكون وما لم يكنْ ، إن لو كان كيف كان يكون ، كقوله تعالى : « وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نهُوا عنهُ » (2) ، فهذا علم بأمرٍ مقدر على تقدير وقوع أصله الذي قد علم

.


1- .أقول : إنّ ابن أبي الحديد قد ذكر الأقوال الصحيحة ، والمخالفة لها ، وأنا اقتصرت على ذكر ما صحّ منها وأسقطت المخالفة طلبا للاختصار وتعميما للفائدة .
2- .سورة الأنعام 28 .

ص: 182

الفصل الثاني : كونه تعالى مدلولاً عليه بالاُمور الظاهرة ؛ يعني أفعاله

أنه لا يكون (1) .

الفصل الثانيكونه تعالى مدلولاً عليه بالأُمور الظاهرة ؛ يعني أفعالهففي تفسير قوله عليه السلام : « ودَلّت عليه أعلام الظهور » . فنقول : إنّ الذي يستدلّ به على إثبات الصانع يمكن أن يكون من وجهين ؛ وكلاهما يصدق عليه أنه أعلام الظهور ، أحدهما : الوجود ، والثاني : الموجود . أمّا الاستدلال عليه بالوجود نفسه فهي طريقة المدقّقين من الفلاسفة ، فإنهم استدلّوا على أنّ مسمّى الوجود مشترك، وأنه زائد على ماهيّات الممكنات، وأنّ وجودَ الباري لا يصحّ أن يكون زائدا على ماهيّته، فتكون ماهيّته وجودا ؛ ولا يجوز أن تكون ماهيته عارية عن الوجود ؛ فلم يبقَ إلاّ أن تكون ماهيته هي الوجود نفسه، وأثبتوا وجوبَ ذلك الوجود، واستحالةَ تطرّق العدم إليه بوجه مّا، فلم يفتقروا في إثبات الباري إلى تأمّل أمْرٍ غير نفس الوجود . وأمّا الاستدلالُ عليه بالموجود لا بالوجود نفسه ؛ فهو الاستدلال عليه بأفعاله، وهي طريقة المتكلمين. قالوا: كلّ ما لم يُعْلَم بالبديهة ولا بالحسّ ؛ فإنما يُعلم بآثاره الصادرة عنه ؛ والباري تعالى كذلك ؛ فالطريق إليه ليس إلاّ أفعاله ، فاستدلّوا عليه بالعالَم ، وقالوا تارة : العالم محدَث وكلّ محدَث له محدِث . وقالوا تارة أُخرى : العالَم ممكِن ، فله مؤثّر . وقال ابن سينا : إنّ الطريقة الأُولى وهي الاستدلال عليه بالوجود نفسه أعْلَى وأشرف ؛ لأ نّه لم يحتج فيها إلى الاحتجاج بأمر خارج عن ذاته ، واستنبط آيةً من الكتاب العزيز في هذا المعنى ؛ وهي قوله تعالى : « سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاقِ وَفِي أنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّه الحَقُّ » (2) .

.


1- .أعرضنا عن نقل بقية الأقوال لوضوح بطلانها .
2- .سورة فصّلت 53 .

ص: 183

الفصل الثالث : إنّ هويّته تعالى غير معلومة للبشر

الفصل الرابع : نفي تشبيهه بشيءٍ من مخلوقاته

قال ابن سينا : أقول : إنّ هذا حُكْم لقوم _ يعني المتكلمين وغيرهم _ ممن يستدل عليه تعالى بأفعاله ؛ وتمام الآية : « أوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ شَهِيدٌ » .

الفصل الثالثإن هويته تعالى غير معلومة للبشروذلك معنى قوله عليه السلام : « وامتنعَ عَلَى عَيْن البصير » ، وقوله : « ولا قلْبُ من أثبته يبصره » ، وقوله : « ولم يُطْلع العقولَ على تحديد صفته » ؛ فنقول : إنّ جمهورَ المتكلمين زعموا أنّا نعرف حقيقة ذات الإله ، ولم يتحاشوا من القول بأنّه تعالى لا يعلم من ذاته إلاّ ما نعلمه نحن منها . وذهب ضِرار بن عمرو (1) : أنّ للّهِ تعالى ماهيةً لا يعلمها إلاّ هو ؛ وهذا هو مذهب الفلاسفة .

الفصل الرابعنفي تشبيهه بشيءٍ من مخلوقاتهوهو معنى قوله عليه السلام : « بعد وقرب » ، أي في حال واحدة ، وذلك يقتضي نفيَ كونه تعالى جسما . وكذلك قوله عليه السلام : « فلا استعلاؤه باعدَه ، ولا قربُه ساواهم في المكان به » ، فنقول : إنّ مذهبَ جُمهور المتكلمين نفيُ التشبيه ، وهذا القول يتنوّع أنواعا : النوع الأول : نفي كونه تعالى جسما مركبا ، أو جوهرا فرداً غير مركب ، والمراد بالجوهر هاهنا الجرْم والحجم . وهو قول المعتزلة وأكثر محقِّقي المتكلّمين من سائر الفرق ، وإليه ذهبت الفلاسفة أيضا .

.


1- .ضرار بن عمرو ، صاحب مذهب الضرارية من فرق الجبرية . كان في بدء أمره تلميذاً لواصل بن عطاء المعتزلي ، ثم خالفه في خلق الأعمال ، وإنكار عذاب القبر .

ص: 184

النوع الثاني : نفيُ الأعضاء والجوارح عنه سبحانه ؛ فالذي يذهب إليه المعتزلة وسائر المحقّقين من المتكلّمين نفيُ ذلك عنه ، وقد تأولوا ماورد في القرآن العزيز من ذلك ، من نحو قوله تعالى : « لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ » (1) ، وقوله سبحانه : « عَلَى مَا فَرّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ» (2) وغير ذلك ، وحملوه على وجوه صحيحة جائزة في اللغة العربية . النوع الثالث : نفي الجهة عنه سبحانه ؛ فالذي يذهب إليه المعتزلة وجمهورُ المحقّقين من المتكلّمين أنه سبحانه ليس في جهةٍ ولا مكان ؛ وأنّ ذلك من توابع الجِسْمية أو العرضية اللاّحقة بالجسمية ، فإذا انتفى عنه كونُه جسماً وكونه عَرَضاً لم يكن في جهة أصلاً ؛ وإلى هذا القول يذهب الفلاسفة . النوع الرابع : نفي كونه عَرَضا حالاًّ في المحلّ ؛ فالذي تذهب إليه المعتزلة وأكثر المسلمين والفلاسفة نفيُ ذلك القول باستحالته عليه سبحانه لوجوب وجوده ، وكونِ كلّ حالّ في الأجسام ممكنا بل حادثاً . النوع الخامس : في نفي كونه تعالى محلاًّ لشيء ؛ ذهبت المعتزلة وأكثر أهل الملّة والفلاسفة إلى نفي ذلك ؛ والقول باستحالته على ذاته سبحانه . النوع السادس : في نفي اتحاده تعالى بغيره ؛ ذهب أكثرُ العقلاء إلى استحالة ذلك . النوع السابع : في نفيِ الأعراض الجسمانيّة عنه من التّعب والاستراحة ، والألم واللّذة ، والغمّ والسرور ؛ ونحو ذلك . وذهبت المعتزلةُ وأكثر العُقلاء من أهلِ الملّة وغيرهم إلى نفيِ ذلك ؛ والقول باستحالته عليه سبحانه . النوع الثامن : في أ نّه تعالى ليس بمتلوّن . لم يصرح أحد من العقلاء قاطبة بأن اللّه تعالى متلوّن . النوع التاسع : في أنه تعالى لا يشتهِي ولا ينفِر . ذهب شيوخنا المتكلّمون إلى أ نّه سبحانه لا يصحّ عليه الشهوة والنُّفرة ؛ لأنهما إنما يصحّان على ما يقبل الزيادة والنقصان بطريق الاغتذاء والنموّ ، والباري سبحانه وتعالى يتعالَى عن ذلك ؛ وما عرفتُ لأحدٍ من

.


1- .سورة ص 75 .
2- .سورة الزمر 56 .

ص: 185

الفصل الخامس : بيان أنّ الجاحد لإثباته مكابر بلسانه

الناس خلافا في ذلك ؛ اللهم إلاّ أنْ يطلق هاتان اللفظتان على مسمّى الإرادة والكراهية ؛ على سبيل المجاز . النوع العاشر : في أنّ الباري تعالى غير متناهي الذات . قالت المعتزلة : لما كان الباري تعالى ليس بجسم ولا جسمانيّ ، وكانت النهاية من لواحق الأشياء ذوات المقادِير ؛ يقال : هذا الجسم متناهٍ ، أي ذو طَرَفٍ . النوع الحادي عشر : في أ نّه تعالى لا تصحّ رؤيته . قالت المعتزلة : رؤية الباري تعالى مستحيلة في الدنيا والآخرة . وقالت الكرامية والحنابلة والأشعرية : تصحّ رؤيته ويرى في الآخرة ، يراه المؤمنين . (وقالت الإمامية : إنه تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) . فهذه الأنواع الأحد عشر هي الأقوال والمذاهب التي يشتمل عليها قوله عليه السلام بنفي التشبيه عليها ، وسيأتي من كلامه عليه السلام في نفي التشبيه ما هو أشد تصريحاً من الألفاظ التي شرحناها .

الفصل الخامسبيان أن الجاحد لإثباته مكابرٌ بلسانه ، ومثبت لها بقلبهوهو معنى قوله عليه السلام : « فهو الذي تَشهد له أعلام الوجود ، على إقرار قلب ذي الجحود » . لا شبهة في أنّ العلم بافتقار المتغيّر إلى المغيّر ضروريّ ، والعلم بإنّ المتغير ليس هو المغيّر إمّا أن يكون ضروريا أو قريبا من الضروريّ ، فإذا قد شهدت أعلام الوجود على أنّ الجاحد لإثبات الصانع ، إنما هو جاحد بلسانه لا بقلبه ؛ لأنّ العقلاء لا يجحدون الأوليات بقلوبهم ، وإن كابروا بألسنتهم ؛ ولم يذهب أحدٌ من العقلاء إلى نفي الصانع سبحانه . وأمّا القائلون بأنّ العالم وجد عن طبيعة ، وأنّ الطبيعة هي المدبّرة له ، والقائلون بتصادم الأجزاء في الخَلاء الذي لا نهاية له ؛ حتى حَصَل منها هذا العالم ، والقائلون بأنّ أصل العالم وأساس بنيته هو النّور والظلمة ، والقائلون بأنّ مبادئ العالم هي الأعداد المجرّدة ، والقائلون بالهَيُولَى القديمة ؛ التي منها حَدَث العالم ، والقائلون بِعشْق النفس للهَيُولى ؛ حتى تكوّنت منها هذه الأجسام ؛ فكلّ هؤلاء أثبتوا الصانع ، وإنما اختلفوا في ماهيته وكيفية فعله .

.

ص: 186

50 . من خطبة له عليه السلام يصف فيها وقوع الفتن

50الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامإِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ ، وَأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ ، يُخَالَفُ فِيهَا كِتابُ اللّهِ ، وَيَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالاً ، عَلَى غَيْرِ دِينِ اللّهِ . فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُرْتَادِينَ ؛ وَلَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ ، انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ ؛ وَلكِن يُؤْخَذُ مِنْ ه_ذَا ضِغْثٌ ، وَمِنْ ه_ذَا ضِغْثٌ ، فَيُمْزَجَانِ فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ ، وَيَنْجُو الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللّهِ الْحُسْنَى .

الشّرْحُ :المرتاد : الطالب . والضِّغْث من الحشِيش : القبضة منه ، قال اللّه تعالى : « وَخُذْ بِيَدِك ضِغْثا » (1) . يقول عليه السلام : إنّ المذاهب الباطلة والآراء الفاسدة التي يفتتِن الناس بها ، أصلُها اتّباع الأهواء ، وابتداع الأحكام التي لم تعرف يخالف فيها الكتاب ، وتحمل العصبيّة والهوى على تولّي أقوام قالوا بها ، على غير وثيقة من الدّين . ومستندُ وقوع هذه الشبهات امتزاجُ الحقّ بالباطل في النّظر الذي هو الطريق إلى استعلام المجهولات ، فلو أنّ النظر تُخَلّص مقدماته وتُرتَّب قضاياه من قضايا باطلة ، لكان الواقع عنه هو العلم المحض ، وانقطع عنه ألسن المخالفين ، وكذلك لو كان النظرُ تخلص مقدماته من قضايا صحيحة ، بأن كان كله مبنيّا على الفساد ، لظهر فسادُه لطلبة الحقّ ، وإنما يقع الاشتباه لامتزاج قضاياه الصادقة بالقضايا الكاذبة . فإن قيل : فما معنى قوله عليه السلام : « فهنالك يستولى الشيطان على أوليائه ، وينجُو الّذين سبقتْ لهم من اللّه الحسنى » ، أليسَ هذا إشعارا بقول المجبِّرة وتلويحا به؟ قيل : لا إشعار في ذلك بالجبر ، ومراده عليه السلام أنه إذا امتزج في النظر الحقّ بالباطل ، وتركبت

.


1- .سورة ص 44 .

ص: 187

51 . من خطبة له عليه السلام لما غلب أصحاب معاوية أصحابه

المقدمات من قضايا صحيحة وفاسدة ، وتمكّن الشيطان من الإضلال والإغواء ووسوس إلى المكلّف ، وخيّل له النتيجة الباطلة ، وأماله إليها ، وزيّنها عنده ، بخلاف ما إذا كانت المقدّمات حقاً كلّها ، فإنه لا يقدِر الشيطانُ على أن يخيّل له ما يخالف العقل الصّريح ؛ ولا يكون له مجال في تزيين الباطل عنده ، ألا تَرَى أنّ الأوّليات لا سبيل للإنسان إلى جَحْدها وإنكارها ، لا بتخييل الشيطان ولا بغير ذلك! ومعنى قوله : « على أوليائه » ، أي على مَنْ عنده استعداد للجهل ، وتمرّن على اتّباع الهوى ، وزهد في تحقيق الأُمور العقلية على وجهها ، تقليدا للأسلاف ، ومحبّةً لا تّباع المذهب المألوف ، فذاك هو الذي يستولي عليه الشيطان ويضلّه ، وينجو الذين سبقت لهم من اللّه الحسنى ، وهم الذين يتّبعون محض العقل ، ولا يركنون إلى التقليد ، ويسلُكون مسلك التحقيق ، وينظرون النظر الدقيق ، يجتهدون في البحث عن مقدّمات أنظارهم ، وليس في هذا الكلام تصريح بالجَبْر ، ولا إشعار به على وجه من الوجوه ، وهذا واضح . واعلم أنّ هذا الكلامَ الذي قاله عليه السلام حقّ إذا تأملته . وإن لم تفسِّره على ما قدمناه من التفسير ، فإنّ الذين ضلّوا من مقلّدة اليهود والنصارى وأرباب المقالات الفاسدة من أهل الملّة الإسلامية وغيرها ، إنما ضلَّ أكثرهم بتقليد الأسلاف ، ومَن يحسنُ الظنّ فيه من الرؤساء وأرباب المذاهب ، وإنما قلّدهم الأتباع ، لما شاهدوا من إصلاح ظواهرهم ، ورفضهم الدنيا وزهدهم فيها ، وإقبالهم على العبادة ، وتمسّكهم بالدِّين ، وأمرهم بالمعروف ونهيهِم عن المنكر ، فقلّدوهم في جميع ما نقل إليهم عنهم ، ووقع الضلال والغلط بذلك ؛ لأنّ الباطل استتر وانغمر بما مازجه من الحقّ الغالب الظاهر المشاهد عِياناً ، أو الحكم الظاهر ، ولولاه لما تروّج الباطل ، ولا كان له قبول أصلاً .

51الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام لما غلب أصحاب معاوية أصحابَه عليه السلام على شريعة الفرات بصِفّين ومنعوهم مِن الماءقَدِ اسْتَطْعَمُوكُمُ الْقِتَالَ ، فَأَقِرُّوا عَلَى مَذَلَّةٍ ، وَتَأْخِيرِ مَحَلَّةٍ ؛ أَوْ رَوُّوا السُّيُوفَ مِنَ

.

ص: 188

52 . من خطبة له عليه السلام في وصف الدنيا

الدِّمَاءِ تَرْوَوْا مِنَ الْمَاء ؛ فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ ، وَالْحَيَاةُ في مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ . أَلاَ وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً مِنَ الْغُوَاةِ ، وَعَمَّسَ عَلَيْهِمُ الْخَبَرَ ، حَتَّى جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ الْمَنِيَّةِ .

الشّرْحُ :استطعموكم القِتال ، كلمة مجازية ، ومعناها : طلبوا القتال منكم ؛ كأنه جعل القتال شيئا يُستطعم ، أي يُطلب أكله ، وفي الحديث : « إذا استطعمكم الإمام فأطعموه » ، يعني إمام الصلاة ، أي إذا أُرتِجَ فاستفتحكم فافتحوا عليه . وتقول : فلان يستطعمني الحديث ؛ أي يستدعيه مِنّي ويطلبه . واللُّمَة ، بالتخفيف : جماعة قليلة . وعَمّس عليهم الخبر ؛ يجوز بالتشديد ، ويجوز بالتخفيف ، والتشديد يُعطي الكثرة ويفيدها ؛ ومعناه أبهم عليهم الخبر ، وجعله مظلما . ليلٌ عَمَاس ، أي مظلم ، وقد عمِس الليل نفسه بالكسر ؛ إذا أظلم وعمّسه غيره ، وعمّست عليه عَمْسا ، إذا أريته أنّك لا تعرف الأمر وأنت به عارف . والأغراض : جمع غَرَض وهو الهدف . وقوله : « فأقرّوا على مذلّة وتأخير مَحَلّة » ، أي اثبتوا على الذلّ وتأخر المرتبة والمنزلة ، أو فافعلوا كذا وكذا . ونحو قوله عليه السلام : « فالموت في حياتكم مقهورين » قول أبي نصر بن نُباتة : « والحسينُ الذي رأى الموت في العِزِّ حياةً والعيشَ في الذُلِّ قَتْلاً » .

52 (1)الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلام ، وقد تقدم مختارها برواية ونذكر ما نذكره هنا برواية أُخرى ، لتغاير الروايتينأَلاَ وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ تَصَرَّمَتْ ، وَآذَنَتْ بِانْقِضَاءٍ ، وَتَنَكَّرَ مَعْرُوفُها وَأَدب_َرَتْ حَذَّاءَ ،

.


1- .اُنظر الخطبة رقم 28 ، ج 2 ، ص 91 .

ص: 189

فَهِيَ تَحْفِزُ بِالْفَنَاءِ سُكَّانَهَا ، وَتَحْدُو بِالْمَوْتِ جِيرَانَهَا ، وَقَدْ أَمَرَّ فِيهَا مَا كَانَ حُلْوا ، وَكَدِرَ مِنْهَا مَا كَانَ صَفْوا ، فَلَمْ يَبقَ مِنْهَا إِلاَّ سَمَلَةٌ كَسَمَلَةِ الاْءدَاوَةِ أَوْ جُرْعَةٌ كَجُرْعَةِ الْمَقْلَةِ ، لَوْ تَمَزَّزَهَا الصَّدْيَانُ لَمْ يَنْقَعْ . فَأَزْمِعُوا عِبَادَ اللّهِ الرَّحِيلَ عَنْ ه_ذِهِ الدَّارِ الْمَقْدُور عَلَى أَهْلِهَا الزَّوَالُ ؛ وَلاَ يَغْلِبَنَّكُمْ فِيهَا الْأَمَلُ ، وَلاَ يَطُولَنَّ عَلَيْكُمْ فِيهَا الْأَمَدُ . فَوَاللّهِ لَوْ حَنَنْتُمْ حَنِينَ الْوُلَّهِ الْعِجَالِ ، وَدَعَوْتُمْ بِهَدِيلِ الْحَمَامِ ، وَجَأَرْتُمْ جُؤَارَ مُتَبَتِّلِي الرُّهْبَانِ ، وَخَرَجْتُمْ إِلَى اللّهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلاَدِ ، الْتِمَاسَ الْقُرْبَةِ إِلَيْهِ فِي ارْتِفَاعِ دَرَجَة عِنْدَهُ ، أَوْ غُفْرَان سَيِّئَةٍ أَحْصَتْهَا كُتُبُهُ ، وَحَفِظَتْهَا رُسُلُهُ ، لَكَانَ قَلِيلاً فِيمَا أَرْجُو لَكُمْ مِنْ ثَوَابِهِ ، وَأَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ عِقَابِهِ . وَبِاللّهِ لَوِ انْمَاثَتْ قُلُوبُكُمْ انْمِيَاثا ، وَسَالَتْ عُيُونُكُمْ مِنْ رَغْبَةٍ إِلَيْهِ أَوْ رَهْبَةٍ مِنْهُ دَما ، ثُمَّ عُمِّرْتُمْ فِي الدُّنْيَا ، مَا الدُّنْيَا بَاقِيَةٌ ، مَا جَزَتْ أَعْمَالُكُمْ عَنْكُمْ _ وَلَوْ لَمْ تُبْقُوا شَيْئا مِنْ جُهْدِكُمْ _ أَنْعُمَهُ عَلَيْكُمُ الْعِظَامَ ، وَهُدَاهُ إِيَّاكُمْ لِلإيمَانِ .

الشّرْحُ :تصرّمت : انقطعت وفنيت . وآذنت بانقضاء : أعلَمت بذلك ، آذنته بكذا ، أي أعلمته . وتنكّر معروفها : جُهِل منها ما كان معروفا . والحذّاء : السريعة الذهاب ، ورحِم حذّاء : مقطوعة غير موصولة . ومن رواه « جذّاء » بالجيم ، أراد منقطعة الدرّ والخير . وتحفز بالفناء سكانها :تُعجلهم وتسوقهم . وأمَرّ الشيء : صار مُرّاً . وكدر الماء ، بكسر الدال ، ويجوز كَدُر بضمها . والمصدر من الأوّل كَدَرا ، ومن الثاني كُدُورة . والسَّمَلة ، بفتح الميم : البقيّة من الماء تَبْقى في الإناء . والمَقْلة ، بفتح الميم وتسكين القاف : حصاة القَسْم التي تلقى في الماء ليعرف قَدْر ما يُسقى كلّ واحد منهم ؛ وذلك عند قلة الماء في المفاوز . والتمزّز : تمصّص الشراب قليلاً قليلاً . والصديان : العطشان . ولم ينقع : لم يَرْو ؛ وهذا يمكنُ أن يكونَ لازما ، ويمكن أن يكون متعدِّيا ، وتقول : نقع

.

ص: 190

الرجل بالماء ، أي روى وشفى غليله ، ينقع . ونقع الماء الصدي ينقع ، أي سكّنه . فأزمعوا الرحيل، أي اعزموا عليه ، يقال : أزمعت الأمر ، ولا يجوز أزمعت على الأمر ؛ وأجازه الفرّاء . قوله : « المقدور على أهلها الزوال » ، أي المكتوب ، قال : واعْلم بأنّ ذَا الجلال قد قَدَرْفي الصحف الأُولى الذي كان سُطِرْ أي كتب . والوُلّه العجال : النُّوق الوالهة الفاقدة أولادَها ، الواحدة عَجُول ، والوَلَه : ذهاب العقل وفقْد التمييز . وهدِيل الحمام : صوت نوحه . والجؤار : صوت مرتفع . والمتبتِّل : المنقطع عن الدنيا . وانماث القلب ، أي ذاب . وقوله : « ولو لم تبقوا شيئا من جُهْدكم » اعتراض في الكلام . وأنعمه ، منصوب ؛ لأ نّه مفعول « جزت » . وفي هذا الكلام تلويح وإشارة إلى مذهب البغداديّين من أصحابنا في أنّ الثواب على فعل الطاعة غير واجب ؛ لأ نّه شكر النعمة ، فلا يقتضي وجوبَ ثواب آخر ؛ وهو قوله عليه السلام : « لو انماثت قلوبكم انمياثاً ... » إلى آخر الفصل . وأصحابنا البصريون لا يذهبون إلى ذلك ، بل يقولون : إنّ الثواب واجب على الحكيم سبحانه ؛ لأ نّه قد كلّفنا ما يشقّ علينا ، وتكليف المشاقّ كإنزال المشاقّ ، فكما اقتضت الآلام والمشاقّ النازلة بنا من جهته سبحانه أعواضا مستحقّة عليه تعالى عن إنزالها بنا ، كذلك تقتضي التكليفات الشاقّة ثوابا مستحَقّا عليه تعالى عن إلزامه إيانا بها . فإن قيل : فعلَى ماذا يُحمل كلام أمير المؤمنين عليه السلام ، وفيه إشارة إلى مذهب البغداديين؟ قيل : إنه عليه السلام لم يصرح بمذهب البغداديين ؛ ولكنه قال : لو عبدتموه بأقصى ما ينتهي الجُهْد إليه ما وفّيتم بشكر أنعمِه ، وهذا حقٌّ غيرُ مختلف فيه ؛ لأنّ نعم البارئ تعالى لا تقوم العباد بشكرها ، وإن بالغوا في عبادته والخضوع له والإخلاص في طاعته ؛ ولا يقتضي صدق هذه القضية وصحتها صحةَ مذهب البغداديين في أنّ الثواب على اللّه تعالى غيرُ واجب ؛ لأنّ التكليف إنما كان باعتبار أنه شكر النعمة السالفة . ومنها في ذكر يوم النحر وصفة الأضحية : وَمِنْ تَمَامِ الأُضْحِيَةِ اسْتِشْرَافُ أُذُنِهَا ، وَسَلاَمَةُ عَيْنِهَا ، فَإِذَا سَلِمَتِ الْأُذُنُ وَالْعَيْنُ سَلِمَتِ الْأُضْحِيَةُ وَتَمَّتْ ، وَلَوْ كَانَتْ عَضْبَاءَ الْقَرْنِ تَجُرُّ رِجْلَهَا إِلَى الْمَنْسَكِ .

.

ص: 191

53 . من خطبة له عليه السلام في ذكر البيعة

قال الرضي رحمه الله : والمنسك ها هنا المذبح .

الشّرْحُ :الأُضحية : ما يذبح يوم النحر ، وما يجري مجراه أيام التشريق من النَّعم . واستشراف أذنها : انتصابها وارتفاعها ، أُذن شَرْفاء أي منتصبة . والعضباء : المكسورة القرن . والتي تجرّ رجلها إلى المنْسَك ، كناية عن العَرْجاء ، ويجوز المنسَِك ، بفتح السين وكسرها .

53الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام في ذكر البيعةفَتَدَاكُّوا عَلَيَّ تَدَاكَّ الاْءِبِلِ الْهِيمِ يَوْمَ وِرْدِهَا ، وَقَدْ أَرْسَلَهَا رَاعِيهَا ، وَخُلِعَتْ مَثَانِيهَا ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُمْ قَاتِلِيَّ ، أَوْ بَعْضُهُمْ قَاتِلُ بَعْضٍ لَدَيَّ . وَقَدْ قَلَّبْتُ ه_ذَا الْأَمْرَ بَطْنَهُ وَظَهْرَهُ حَتَّى مَنَعَنِي النَّوْمَ . فَمَا وَجَدْتُنِي يَسَعُني إِلاَّ قِتَالُهُمْ أَوِ الْجُحُودُ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وسلّم ؛ فَكَانَتْ مُعَالَجَةُ الْقِتَالِ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مُعَالَجَةِ الْعِقَابِ ، وَمَوْتَاتُ الدُّنْيَا أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مَوْتَاتِ الآخِرَةِ .

الشّرْحُ :تداكُّوا : ازدحموا . والهِيم : العِطاش . ويوم وِرْدها : يوم شربها الماء . والمثاني : الحِبال ، جمع مَثناة ومِثناة بالفتح والكسر ، وهو الحبل . وجهاد البُغاة واجب على الإمام ، إذا وجد أنصارا ، فإذا أخلّ بذلك أخلّ بواجب ، واستحقّ العقاب .

.

ص: 192

54 . من خطبة له عليه السلام وقد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفين

فإن قيل : إنه عليه السلام قال : « لم يسعني إلاّ قتالهم أو الجحود بما جاء به محمد صلى الله عليه و آله » ؛ فكيف يكون تارك الواجِب جاحدا لما جاء به النبيّ صلى الله عليه و آله ! قيل : إنه في حكْم الجاحد ؛ لأ نّه مخالف وعاصٍ ؛ لا سيما على مذهبنا في أنّ تارك الواجب يخلُد في النار وإن لم يجحد النبوة . اختلف الناس في بيعة أمير المؤمنين عليه السلام ، فالذي عليه أكثر الناس وجمهور أرباب السِّير أنّ طلحة والزبير بايعاه طائعين غير مكرهين ثمّ تغيّرت عزائمهما، وفسدت نيّاتهما، وغدرا به.

54الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام وقد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفينأَمَّا قَوْلُكُمْ : أَكُلَّ ذلِكَ كَرَاهِيَةَ الْمَوْتِ ؟ فَوَاللّهِ مَا أُبَالِي ؛ دَخَلْتُ إِلَى الْمَوْتِ أَوْ خَرَجَ الْمَوْتُ إِلَيَّ . وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : شَكَّا في أَهْلِ الشَّامِ ! فَوَاللّهِ مَا دَفَعْتُ الْحَرْبَ يَوْما إِلاَّ وَأَنَا أَطْمَعُ أَنْ تَلْحَقَ بِي طَائِفَةٌ فَتَهْتَدِيَ بِي ، وَتَعْشُوَ إِلَى ضَوْئِي ، فَهُو أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَهَا عَلَى ضَلاَلِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ تَبُوءُ بِآثَامِهَا .

الشّرْحُ :من رواه : « أكُلَّ ذلك » بالنصب فمفعول فعل مقدر ، أي تفعل كلّ ذلك ، وكراهية منصوب ؛ لأ نّه مفعول له . ومن رواه « أكُلُّ ذلك » بالرفع أجاز في « كراهية » الرفع والنصب ، أمّا الرفع فإنه يجعل « كلّ » مبتدأ ، وكراهية خبره ؛ وأمّا النصب فيجعلُها مفعولاً له كما قلنا في الرواية الأُولى ، ويجعل خبر المبتدأ محذوفا ، وتقديره : أكلّ هذا مفعول ! أو تفعله كراهية للموت! ثم أقسم أنه لا يبالي أتعرَّض هو للموت حتى يموتَ، أم جاءه الموت ابتداء من غير أن يتعرّض له. وعشا إلى النار يَعْشُو : استدلّ عليها ببصر ضعيف . مَتَى تَأْتِه تَعْشُو إلى ضَوْءِ نَارهِتَجِدْ خيْر نَارٍ عِنْدَها خَيْر مُوقِد (1)

.


1- .للحطيئة ، ديوانه : ص25 .

ص: 193

55 . من خطبة له عليه السلام يذكر حروبه مع الرسول عليه السلام

وهذا الكلام استعارة ، شبه مَنْ عساه يلحق به من أهل الشام بمن يعشو ليلاً إلى النار ؛ وذلك لأنّ بصائرَ أهل الشام ضعيفة ؛ فهم من الاهتداء بهداه عليه السلام كمن يعشُو ببصرٍ ضعيف إلى النار في الليل ، قال : ذاك أحبّ إليّ من أن أقتلهم على ضلالهم ، وإن كنتُ لو قتلتهم على هذه الحالة لباءوا بآثامهم ، أي رجعوا ، قال سبحانه : « إنّي أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بِإثْمِي وَإثْمِكَ » (1) أي ترجع .

من أخبار يوم صفينلما ملك أمير المؤمنين عليه السلام الماء بصفين ثم سَمَح لأهلِ الشام بالمشاركة فيه والمساهمة ، رجاء أن يعطفوا إليه ، واستمالةً لقلوبهم وإظهارا للمعدلة وحسن السيرة فيهم ، مكث أياما لا يُرسِل إلى معاوية ، ولا يأتيه مِنْ عند معاوية أحدٌ ، واستبطأ أهل العراق إذنه لهم في القتال ، وقالوا : يا أميرَ المؤمنين خَلَّفْنا ذراريَّنا ونساءنا بالكوفة ، وجئنا إلى أطراف الشام لنتّخذها وطنا ، ائذن لنا في القتال ، فإنّ الناس قد قالوا . قال لهم عليه السلام : ما قالوا ؟ فقال منهم قائل : إنّ الناس يظنون أنّك تكرهُ الحرب كراهيةً للموت ، وإن من الناس من يظن أنّك في شكٍ مِنْ قتال أهلِ الشام . فقال عليه السلام : ومَتَى كنت كارها للحرب قطّ ! إنّ من العجب حُبِّي لها غلاما ويَفَعاً ، وكراهيتي لها شيخا بعد نفادِ العمر وقرب الوقت . وأمّا شكّي في القوم فلو شككت فيهم لشككتُ في أهل البصرة ، واللّه لقد ضربتُ هذا الأمر ظهرا وبطنا ، فما وجدت يسعُني إلاّ القتال أو أن أعصيَ اللّه ورسوله ، ولكني أستأني بالقوم ، عسى أن يهتدوا أو تهتدي منهم طائفة ، فإن رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال لي يوم خيبر : « لأنْ يهديَ اللّه بك رجلاً واحدا خير لك مِمّا طلعت عليه الشمس » .

55الأصْلُ :

.


1- .سورة المائدة 29 .

ص: 194

مَا يَزِيدُنَا ذلِكَ إِلاَّ إِيمَانا وَتَسْلِيما ، وَمُضِيّا عَلَى اللَّقَمِ ، وَصَبْرا عَلَى مَضَضِ الْأَلَمِ ، وَجِدّا في جِهَادِ الْعَدُوِّ ؛ وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا وَالآخَرُ مِنْ عَدُوِّنَا يَتَصَاوَلاَنِ تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ ، يَتَخَالَسَانِ أَنْفُسَهُمَا : أَيُّهُمَا يَسْقِي صَاحِبَهُ كَأْسَ الْمَنُونِ ، فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا ، وَمَرَّةً لِعَدُوِّنا مِنَّا ، فَلَمَّا رَأَى اللّهُ صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ ، وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْرَ ، حَتَّى اسْتَقَرَّ الإسْلاَمُ مُلْقِيا جِرَانَهُ ، وَمُتَبَوِّئا أَوْطَانَهُ . وَلَعَمْرِي لَوْ كُنَّا نَأْتِي مَا أَتَيْتُمْ ، مَا قَامَ لِلدِّينِ عَمُودٌ ، وَلاَ اخْضَرَّ لِلإِيمَانِ عُودٌ . وَايْمُ اللّهِ لَتَحْتَلِبُنَّهَا دَما ، وَلَتُتْبِعُنَّهَا نَدَما!

الشّرْحُ :لَقَمُ الطريق : الجادّة الواضحة منها . والمَضَض : لذع الألم وبرحاؤه . والتَّصاول : أنْ يحمل كلُّ واحدٍ من القِرنين على صاحبه . والتخالس : التسالُب والانتهاب . والكبت : الإذلال . وجِران البعير : مقدّم عنقه . وتبوّأت المنزل : نزلته . ويقال لمن أسرف في الأمر : لَتحتلِبَنَّ دماً ، وأصله الناقة يُفْرَط في حَلْبها فيحلب الحالب الدم . وهذه ألفاظ مجازية من باب الاستعارة ؛ وهي : قوله : « استقرّ الإسلامُ ملقيا جِرانه » ، أي ثابتا متمكّنا ، كالبعير يلقى جِرانه على الأرض . وقوله : « متبوئا أوطانه » ، جعله كالجسم المستقرّ في وطنه ومكانه . وقوله : « ما قام للدين عمود » ، جعله كالبيت القائم على العُمُد . وقوله : ولا اخضرّ للإيمان عود » جعله كالشّجرة ذات الفروع والأغصان . فأمّا قتلهم الأقاربَ في ذات اللّه فكثير ؛ قتلَ عليّ عليه السلام الجمَّ الغفير من بني عبد مناف وبني عبد الدار في يوم بَدْر وأُحُد ؛ وهم عشيرته وبنو عَمِّه . وأمّا كَوْنُ الرجل منهم وقِرْنِه يتصاولان ويتخالسان ؛ فإنّ الحال كذلك كانت ؛ بارز عليّ عليه السلام الوليدَ بن عُتْبة ، وبارز طلحةَ بن أبي طلحة ، وبارز عمرو بن عبد وَدّ ؛ وقتل هؤلاء الأقران مبارزة ، وبارز كثيرا من الأبطالِ غيرهم وقَتَلهم ؛ وبارز جماعةٌ من شُجْعان الصحابة جماعةً من المشركين ؛ فمنهم مَنْ قُتِل ، ومنهم مَنْ قَتَل ، وكتب المغازي تتضمّن تفصيل ذلك .

.

ص: 195

56 . من خطبة له عليه السلام يخبر به عمن يأمر بسبه

وهذا الكلام قاله أمير المؤمنين عليه السلام في قصة ابن الحضرميّ حيث قدم البَصْرة من قِبَل معاوية ، واستنهض أميرُ المؤمنين عليه السلام أصحابه إلى البصرة ؛ فتقاعدوا .

56الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام لأصحابهأَما إِنَّهُ سَيَظْهَرُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي رَجُلٌ رَحْبُ الْبُلْعُومِ ، مُنْدَحِقُ الْبَطْنِ ، يَأْكُلُ مَا يَجِدُ ، وَيَطْلُبُ مَا لاَ يَجِدُ ، فَاقْتُلُوهُ ، وَلَنْ تَقْتُلُوهُ ! ألاَ وَإنَّهُ سَيَأْمُرُكُمْ بِسَبِّي وَالْبَرَاءَةِ مِنِّي ؛ فَأَمَّا السَّبُّ فَسُبُّونِي ، فَإِنَّهُ لِي زَكَاةٌ ، وَلَكُم نَجَاةٌ ؛ وَأَمَّا الْبَرَاءَةُ فَلاَ تَتَبَرَّءوا مِنِّي ؛ فَإِنِّي وُلِدْتُ عَلَى الْفِطْرَةِ ، وَسَبَقْتُ إِلَى الإيمَانِ وَالْهِجْرَةِ .

الشّرْحُ :مُنْدَحق البطن : بارزها ، والدَّحُوق من النوق : التي يخرج رَحِمها عند الولادة . وسيظهر : سيغلب . ورحْب البُلعوم : واسعه . وكثير من الناس يذهب إلى أنه عليه السلام عَنَى زيادا ، وكثير منهم يقول : إنّه عَنَى الحجّاج . وقال قوم : إنه عَنَى المغيرة بن شعبة ؛ والأشبه عندي أنه عَنَى معاوية ؛ لأ نّه كان موصوفا بالنَّهَم وكثرة الأكل ، وكان بطيناً ، يقعُد بطنُه إذا جلس على فَخِذَيه ، وكان معاوية جوادا بالمال والصِّلات ، وبخيلاً على الطعام . كان معاوية يأكل فيكثر ، ثم يقول : ارفعوا ، فواللّه ما شبِعت ولكن مَلِلت وتعِبت . تظاهرت الأخبار أن رسول اللّه صلى الله عليه و آله دَعَا عَلَى معاوية لَمَّا بعث إليه يستدعيه ، فوجده يأكل ، ثم بعث فوجده يأكل ، فقال : « اللهم لا تُشْبِع بطنه » ، قال الشاعر : وَصَاحِبٍ لِي بَطْنُه كَالهَاوِيَهْكَأنَّ فِي أحْشَائِهِ مُعَاوِيَهْ

.

ص: 196

وفي هذا الفصل مسائل : الأُولى : في تفسير قوله عليه السلام : « فاقتلوه ولن تقتلوه » فنقول : إنه لا تنافيَ بين الأمر بالشيء والإخبار عن أنه لا يقع ، كما أخبر الحكيم سبحانه عَنْ أنّ أبا لَهب لا يؤمن وأمرَه بالإيمان ، وكما قال تعالى : « فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ » (1) ، ثم قال : « وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدا » (2) ،وأكثر التكليفات على هذا المِنْهاج . المسألة الثانية : في قوله عليه السلام : « يأمركم بسبِّي والبراءة مني » ، فنقول : إن معاوية أمر الناس بالعراق والشام وغيرهما بسبّ عليّ عليه السلام والبراءة منه . وخطب بذلك على منابر الإسلام ، وصار ذلك سنة في أيام بني أُميّة إلى أنْ قام عمر بن عبد العزيز فأزاله . المسألة الثالثة : في معنى قوله عليه السلام : « فسبّوني ، فإنه لي زكاة ، ولكم نجاة » ، فنقول : إنه أباح لهم سبَّه عند الإكراه ؛ لأنّ اللّه تعالى قد أباح عند الإكراه التلفّظ بكلمة الكفر ؛ فقال : « إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ » ، والتلفّظ بكلمة الكفر أعظم من التلفظ بسبّ الإمام . فأمّا قوله : « فإنه لي زكاة ولكم نجاة » ؛ فمعناه أنكم تنجون من القتل إذا أظهرتم ذلك ، ومعنى الزكاة يحتمل أمرين : أحدهما : ما ورد في الأخبار النبويّة أن سبّ المؤمن زكاة له وزيادة في حسناته . والثاني : أن يريد به أن سبَّهم لي لا ينقص في الدنيا مِنْ قدري ، بل أزيد به شَرَفا وعُلُوَّ قدر ، وشياع ذكر ؛ وهكذا كان ، فإن اللّه تعالى جعل الأسباب التي حاول أعداؤه بها الغضّ منه عللاً لانتشار صيته في مشارق الأرض ومغاربها . فإن قلت : أيّ مناسبة بين لفظ « الزكاة » وانتشار الصيت والسّمع؟ قلت : لأنّ الزكاة هي النماء والزيادة ؛ ومنه سميت الصدقة المخصوصة زكاة ؛ لأنها تنمي المال المزكّى ، وانتشار الصيت نماء وزيادة . المسألة الرابعة : أن يقال : كيف قال عليه السلام : « فأمّا السبُّ فسُبُّوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة ، وأمّا البراءة فلا تبرءوا مني » ؟ وأيّ فرق بين السبّ والبراءة ؟ وكيف أجاز لهم السبّ ومنَعهم عن التبرّؤ ، والسبّ أفحش من التبرُّؤ!

.


1- .سورة البقرة 94 .
2- .سورة الجمعة 7 .

ص: 197

والجواب : أمّا الذي يقوله أصحابنا في ذلك فإنه لا فرق عندهم بين سبّه والتبرّؤ منه ، في أنّهما حرام وفسق وكبيرة . فأمّا الإمامية فتروي عنه عليه السلام أنه قال : « إذا عُرِضتم على البراءة منّا فمدّوا الأعناق ». ويقولون : إنه لا يجوز التبرّؤ منه ؛ وإن كان الحالف صادقا ، وإنّ عليه الكفارة . ويقولون : إنّ حكم البراءة من اللّه تعالى ومن الرسول صلى الله عليه و آله ومنه عليه السلام ومن أحد الأئمة عليهم السلام ، حكم واحد . ويقولون : إنّ الإكراه على السبّ يُبيح إظهاره ؛ ولا يجوز الاستسلام للقتل معه ، وأمّا الإكراه على البراءة ؛ فإنه يجوز معه الاستسلام للقتل ويجوز أن يظهر التّبرّؤ ، والأوْلى أن يستسلم للقتل . المسألة الخامسة : أن يقال : كيف عَلّل نهيَه لهم على البراءة منه عليه السلام ، بقوله : « فإني ولدْت على الفطرة » ، فإن هذا التعليل لا يختص به عليه السلام ؛ لأنّ كلّ أحدٍ يولَد على الفطرة . والجواب : أنه عليه السلام عَلّل نهيه لهم عن البراءة منه بمجموع أُمور وعلل ؛ وهي كونه ولد على الفطرة ، وكونه سبق إلى الإيمان والهجرة ، ولم يعلل بآحاد هذا المجموع ، ومراده هاهنا بالولادة على الفطرة أنه لم يولَدْ في الجاهلية ؛ لأ نّه ولد عليه السلام لثلاثين عاما مضت من عام الفيل ؛ والنبيّ صلى الله عليه و آله أرسِل لأربعين سنة مضت من عام الفيل ؛ وقد جاء في الأخبار الصحيحة أنه صلى الله عليه و آله مكَث قبل الرسالة سنين عشرا يسمع الصوت ويرى الضوء ، ولا يخاطبه أحد ؛ وكان ذلك إرهاصا لرسالته عليه السلام فحُكْم تلك السنين العَشْر حكم أيام رسالته صلى الله عليه و آله ؛ فالمولود فيها إذا كان في حجره وهو المتولّي لتربيته مولود في أيام كأيام النبوّة ، وليس بمولود في جاهلية محضة ، ففارقت حالُه حال مَنْ يدعى له من الصحابة مماثلته في الفضل . وقد روي أنّ السَّنَة التي ولد فيها عليٌّ عليه السلام هي السنة التي بُدئ فيها برسالة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، فأُسمِع الهُتاف من الأحجار والأشجار ، وكُشف عن بصره ، فشاهد أنوارا وأشخاصا ؛ ولم يخاطَب فيها بشيء . وفي المسألة تفسير آخر ؛ وهو أن يعنى بقوله عليه السلام : « فإني ولدتُ على الفطرة » ، أي على الفِطْرة التي لم تتغيّر ولم تَحُلْ . ويمكن أن يفسر بأنه عليه السلام أراد بالفِطْرة العِصْمة ؛ وأ نّه منذ ولد لم يواقع قبيحا ؛ ولا كانَ كافراً طَرْفَة عين قطّ ، ولا مخطئا ولا غالطاً في شيء من الأشياء المتعلّقة بالدين . وهذا تفسير الإمامية . المسألة السادسة : أن يقال : كيف قال : « وسبقتُ إلى الإيمان » ، وقد قال قوم من الناس : إنّ أبا بكر سَبَقه ، وقال قوم : إن زيد بن حارثة سبَقه؟

.

ص: 198

57 . من خطبة له عليه السلام كلم به الخوارج

والجواب : أنّ أكثر أهل الحديث وأكثر المحقّقين من أهل السيرة روَوْا أنه عليه السلام أوّل من أسلم ؛ ونحن نذكر كلام أبي عمر يوسف بن عبد البرّ ، المحدّث في كتابه المعروف « الاستيعاب » . قال أبو عمر في ترجمة علي عليه السلام : المرويّ عن سلْمان وأبي ذَرّ والمقداد وخبّاب وأبي سعيد الخدريّ وزيد بن أسلم : أن عليا عليه السلام أول من أسلم ؛ وفَضّله هؤلاء على غيره . المسألة السابعة : أن يقال : كيف قال : « إنه سبق إلى الهجرة » ومعلوم أنّ جماعة مِنَ المسلمين هاجروا قبله . والجواب : إنّه عليه السلام لم يقل : « وسبقت كلّ الناس إلى الهجرة » ؛ وإنما قال : « وسبقت » فقط ؛ ولا يدلّ ذلك على سَبْقه للناس كافة ؛ ولا شبهة أ نّه سبق معظم المهاجرين إلى الهجرة ، ولم يهاجر قبلَه أحد إلا نفر يسير جداً . وأيضا فقد قلنا إنه علّل أفضليَّته وتحريم البراءة منه مع الإكراه بمجموع أُمور : منها ولادته على الفِطْرة ، ومنها سبقه إلى الإيمان ، ومنها سَبْقه إلى الهجرة ؛ وهذه الأُمور الثّلاثة لم تجتمع لأحد غيره ؛ فكان بمجموعها متميّزا عن كلّ أحد من الناس . وأيضا فإنّ اللام في « الهجرة » يجوز ألاّ تكون للمعهود السابق ، بل تكون للجنس ، وأميرُ المؤمنين عليه السلام سبق أبا بكر وغيره إلى الهجرة التي قبل هِجْرة المدينة ؛ فإنّ النبيّ صلى الله عليه و آله وسلمهاجرَ عن مكة مرارا يطوف على أحياء العرب ، وينتقل من أرض قوم إلى غيرها ؛ وكان عليٌّ عليه السلام معه دون غيره .

57الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام كلم به الخوارجأَصَابَكُمْ حَاصِبٌ ، وَلاَ بَقِيَ مِنْكُمْ آبِرٌ . أَبَعْدَ إِيمَانِي بِاللّهِ وَجِهَادِي مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله وسلم ، أَشْهَدُ عَلَى نَفْسِي بِالْكُفْرِ ! ( لَقَدْ ظَلَلْتُ إِذا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)

.

ص: 199

فَأُوبُوا شَرَّ مَآبٍ ، وَارْجِعُوا عَلَى أَثَرِ الْأَعْقَابِ . أَمَا إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي ذُلاًّ شَامِلاً ، وَسَيْفا قَاطِعا ، وَأَثَرَةً يَتَّخِذُهَا الظَّالِمونَ فِيكُمْ سُنَّةً .

قال الرضي رحمه الله : قوله عليه السلام : « ولا بقي منكم آبر » ، يروى على ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون كما ذكرناه : (آبِرٌ) بالراء ، من قولهم : رجلٌ آبر للذي يأبر النخل ، أي يصلحه . ويروى : «آثِرٌ» بالثَّاء ، بثلاث نقطٍ ، يُراد به الذي يأثر الحديث ، أي يرويه ويحكيه ، وهو أصح الوجوه عندي ، كأنه عليه السلام قال : لا بقي منكم مخبر . ويروى : «آبِز» بالزاي المعجمة ، وهو الواثب ، والهالك أيضا يقال له : آبز .

الشّرْحُ :الحاصب : الريح الشديدة التي تُثير الحصباء ؛ وهو صغار الحصى ؛ ويقال لها أيضا حَصِبَهْ . فأمّا التفسيرات التي فَسّر بها الرضيّ رحمه اللّه تعالى قوله عليه السلام : « آبر » فيمكن أن يزاد فيها ، فيقال : يجوز أن يريد بقوله : « ولا بقي منكم آبِر » أي نَمّام يفسد ذات البين ؛ والمئبرَة : النميمة ، وأبر فلان ، أي نَمَّ ، والآبر أيضا : مَنْ يبغي القوم الغوائل خفْيةً ، مأخوذ من أبَرْتُ الكلب إذا أطعمتَه الإبرة في الخبز ؛ وفي الحديث : « المؤمن كالكلب المأبور » ؛ ويجوز أنْ يكون أصلُه « هابر » ؛ أي مَنْ يضرب بالسيف فيقطع ؛ وأُبدلت الهاء همزة ، كما قالوا في « آل » : أهل ؛ وإن صحّت الرواية الأُخرى « آثر » بالثاء بثلاث نقط ، فيمكن أن يريد به ساجي باطن خُفّ البعير ؛ وكانوا يُسَجُّون باطن الخفّ بحديدة ليقتصّ أثره ؛ رجل آثر وبعير مأثور . وقوله عليه السلام : « فأوبوا شرّ مآب » ، أي ارجعوا شرّ مرجع . والأعقاب : جمع عَقِب بكسر القاف ؛ وهو مؤخّر القدم ، وهذا كله دعاء عليهم ، قال لهم أوّلاً : أصابكم حاصِب ، وهذا من دعاء العرب . ثم قال لهم ثانيا : « لا بقى منكم مخبر » . ثم قال لهم ثالثا : « ارجعوا شَرّ مرجع » ، ثم قال لهم رابعا : « عودوا على أثر الأعقاب » ، وهو مأخوذ من قوله تعالى : « وَنُرَدُّ عَلَى أعْقَابِنَا بَعْدَ إذْ هَدَانَا اللّهُ » (1) ، والمراد انعكاس حالهم ، وعوْدهم من العِزّ إلى الذلّ ، ومن

.


1- .سورة الأنعام 71 .

ص: 200

58 . من خطبة له عليه السلام لما عزم على حرب الخوارج وقيل له : إنّ القوم قد عبروا جسر النهروان

الهداية إلى الضلال . وقوله عليه السلام : « وأثرَة يتّخذها الظالمون فيكم سنّة » ، فالأثرَة هاهنا الاستبداد عليهم بالفيء والغنائم واطّراح جانبهم ، وقال النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم للأنصار : « ستلقوْن بعدي أثَرَةً فاصبروا حتى تلقوْني » . واعلم أن الخوارجَ عَلَى أمير المؤمنين عليه السلام كانوا أصحابَه وأنصارَه في الجمل وصِفّين قبل التحكيم ؛ وهذه المخاطبة لهم ، وهذا الدعاء عليهم ؛ وهذا الإخبار عن مستقبل حالهم ، وقد وقع ذلك ، فإنّ اللّه تعالى سَلّط عَلَى الخوارج بعده الذلّ الشامل ، والسيف القاطع ، والأثرة من السلطان ، وما زالت حالُهم تضمحلّ ؛ حتى أفناهم اللّه تعالى وأفنى جُمهورهم .

58الأصْلُ :وقال عليه السلام لما عزم على حرب الخوارج ، وقيل له : إنّ القوم عبروا جسر النَّهْروان :مَصَارِعُهُمْ دُونَ النُّطْفَةِ ، وَاللّهِ لاَ يُفْلِتُ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ ، وَلاَ يَهْلِكُ مِنْكُمْ عَشَرَةٌ .

قال الرضي رحمه الله : يعني بالنطفة ماء النهر ، وهي أفصح كناية عن الماء وإن كان كثيرا جمَّا . وقد أشرنا إلى ذلك فيما تقدّم عند مضيّ ما أشبهه .

الشّرْحُ :هذا الخبرُ من الأخبار التي تكاد تكون متواتِرة ؛ لاشتهاره ونَقْل الناس كافَّة له ؛ وهو من معجزاته وأخباره المفصّلة عن الغيوب . والأخبار على قسمين : أحدُهما : الأخبار المجمَلة ، ولا إعجازَ فيها ، نحو أن يقولَ الرجلُ لأصحابه : إنكم سَتُنْصَرون على هذه الفئة التي تلقوْنها غدا . والقسم الثاني : في الأخبار المفصّلة عن الغيوب ، مثل هذا الخبر ، فإنّه لا يحتمل

.

ص: 201

59 . من خطبة له عليه السلام لما قتل الخوارج فقيل له : يا أمير المؤمنين ، هلك القوم بأجمعهم

التلبيس ؛ لتقييده بالعَدَدَ المعيّن في أصحابه وفي الخوارج ، ووقوع الأمر بعد الحرب بموجبه من غير زيادة ولا نقصان ، وذلك أمرٌ إلهيّ عرفه من جهة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وعَرَفه رسول اللّه صلى الله عليه و آله من جهة اللّه سبحانه . والقُوّة البشرية تقصُر عن إدراك مِثل هذا ، ولقد كان له من هذا الباب ما لم يمكُنْ لغيره . وبمقتضى ما شاهده الناس من معجزاته وأحواله المنافية لقوى البشر ، غَلاَ فيه من غلا ، حتى نُسبَ إلى أنّ الجوهر الإلهي حلّ في بدنه ، كما قالت النصارى في عيسى عليه السلام وقد أخبره النبي صلى الله عليه و آله بذلك ، فقال : « يهلك فيك رجلان : محبّ غالٍ ، ومبغض قالٍ » . وقال له تارة أُخرى : « والذي نفسي بيده ، لولا أنّي أشفق أن يقول طوائفُ من أُمّتي فيك ما قالت النصارى في ابن مريم ، لقلت اليوم فيك مقالاً ، لا تمرّ بملأٍ من الناس إلاّ أخذوا التراب من تحت قدميك للبركة » .

59الأصْلُ :وقال لما قتل الخوارج وقيل له : يا أمير المؤمنين ، هلك القوم بأجمعهم :كَلاَّ وَاللّه ؛ إِنَّهُمْ نُطَفٌ فِي أَصْلاَبِ الرِّجَالِ ، وَقَرَارَاتِ النِّسَاءِ كُلَّمَا نَجَمَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قُطِعَ ، حَتَّى يَكُونَ آخِرُهُمْ لُصُوصا سَلاَّبِينَ .

الشّرْحُ :نَجَم : ظهر وطلع . قرارات النّساء : كناية لطيفة عن الأرحام . فأمّا قوله عليه السلام : « كُلَّمَا نَجَمَ منهم قَرْنٌ قطع » ، فاستعارة حسنة ، يريد : كُلَّما ظهر منهم قوم استؤصلوا ، فعبّر عن ذلك بلفظة « قَرْن » كما يقطع قَرْن الشَّاة إذا نجم ؛ وقد صح إخبارُه عليه السلام عنهم أنّهم لم يهلكوا بأجمعهم في وقعة النّهروان ، وأنّها دعوة سيدعو إليها قوم لم يخلَقوا بعد ، وهكذا وقع وصحّ إخباره عليه السلام أيضا أنه سيكون آخرهم لصوصا سَلاّبين ؛ فإن دعوة الخوارج اضمحلّت ، ورجالها فنيت ، حتى أفضى الأمرُ إلى أن صارَ خَلَفُهم قُطّاع طريق ، متظاهرين بالفسوق والفساد في الأرض .

.

ص: 202

60 . من خطبة له عليه السلام في الخوارج

61 . من خطبة له عليه السلام لما خُوّف من الغِيلة

60الأصْلُ :وقال عليه السلام في الخوارج :لاَ تُقَاتِلُوا الْخَوَارِجَ بَعْدِي ؛ فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ ، كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ .

قال الرضي رحمه الله : يَعْني معاويةَ وأصحابه .

الشّرْحُ :مرادهُ أنْ الخوارج ضلّوا بشبهة دخلت عليهم ، وكانوا يطلبون الحقّ ، ولهم في الجُمْلة تمسُّك بالدين ، ومحاماة عن عقيدة اعتقدوها ، وإن أخطأوا فيها ؛ وأمّا معاوية فلم يكنْ يطلبُ الحقّ ؛ وإنما كان ذا باطل ، لا يحامي عن اعتقاد قد بناه على شبهة ، وأحواله كانت تدلّ على ذلك ؛ فإنه لم يكن من أرباب الدين ، ولا ظهر عنه نُسُك ؛ ولا صلاحُ حال ، وكان مترَفا يُذهِب مالَ الفيء في مآربه ؛ وتمهيد مُلكه ، ويصانع به عن سلطانه ؛ وكانت أحوالهُ كلها مؤذنةً بانسلاخه عن العدَالة ، وإصراره على الباطل ؛ وإذا كان كذلك لم يَجُزْ أن ينصُر المسلمون سلطانه ، وتحارَبُ الخوارج عليه وإن كانوا أهل ضلال ؛ لأنّهم أحسن حالاً منه ؛ فإنهم كانوا ينهوْن عن المنكر ، ويروْن الخروج على أئمة الجور واجبا .

61الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام لمّا خُوّف من الغِيلةوَإِنَّ عَلَيَّ مِنَ اللّهِ جُنَّةً حَصِينَةً ، فَإِذَا جَاءَ يَوْمِي انْفَرَجَتْ عَنِّي وَأَسْلَمَتْنِي ، فَحِينَئِذٍ لاَ يَطِيشُ السَّهْمُ ، وَلاَ يَبْرَأُ الْكَلْمُ .

.

ص: 203

62 . من خطبة له عليه السلام في وصف الدنيا

الشّرْحُ :الغِيلة : القتل على غير علْم ولا شعور . والجُنّة : الدِّرع وما يجَنّ به ؛ أي يستتر من تُرْس وغيره . وطاش السهم ؛ إذا صَدَف عن الغرض . والكَلْم : الجرح ؛ ويعني بالجنّة هاهنا الأجل ، وعلى هذا المعنى الشعر المنسوب إليه عليه السلام : من أيّ يوميّ مِنَ الموتِ أفِرّأيومَ لم يُقْدَرَ أم يوم قُدِرْ فيوم لا يقدَر لا أرهَبُهويوم قد قُدّر لا يغني الحَذَرْ والأصل في هذا كله قوله تعالى : « وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إلاَّ بإذْنِ اللّهِ كِتِابا مُؤَجَّلاً » (1) ، وقوله تعالى : « فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ » (2) .

62الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامأَلاَ إِنَّ الدُّنْيَا دَارٌ لاَ يُسْلَمُ مِنْهَا إِلاَّ فِيهَا ، وَلاَ يُنْجَى بِشَىْ ءٍ كَانَ لَهَا : ابْتُلِيَ النَّاسُ بِهَا فِتْنَةً ، فَمَا أَخَذُوهُ مِنْهَا لَهَا أُخْرِجُوا مِنْهُ وَحُوسِبُوا عَلَيْهِ ، وَمَا أَخَذُوهُ مِنْهَا لِغَيْرِهَا قَدِمُوا عَلَيْهِ وَأَقَامُوا فِيهِ ؛ فَإِنَّهَا عِنْدَ ذُوِي الْعُقُولِ كَفَيءِ الظِّلِّ ، بَيْنَا تَرَاهُ سَابِغا حَتَّى قَلَصَ ، وَزَائِدا حَتَّى نَقَصَ .

الشّرْحُ :تقدير الكلام : أنّ الدُّنيا دارٌ لا يُسلَم من عقاب ذنوبها إلاّ فيها ، وهذا حقّ ؛ لأنّ العِقاب المستحقّ ، إنما يَسْقُط بأحد أمرين : إمّا بثوابٍ على طاعاتٍ تفضُل على ذلك العقاب

.


1- .سورة آل عمران 145 .
2- .سورة الأعراف 34 .

ص: 204

المستَحقّ ، أو بتوبةٍ كاملة الشروط . وكلا الأمرين لا يصحُّ من المكلّفِين إيقاعهُ إلاّ في الدنيا ؛ فإنّ الآخرة ليست دارَ تكليف ، ليصحّ من الإنسان فيها عمل الطاعة والتوبة عن المعصية السالفة ؛ فقد ثبت إذا أن الدنيا دارٌ لا يسلم مِنْها إلاّ فيها . إن قيل : بَيّنُوا أن الآخرةَ ليست بدار تكليف . قيل : قد بَيّن الشيوخُ ذلك بوجهين : أحدُهما : الإجماعُ على المنع مِنْ تجويز استحقاق ثواب أو عقاب في الآخرة . والثاني : أن الثوابَ يجب أن يكون خالصا من المشاقّ ؛ والتكليف يستلزم المشقّة ؛ لأنها شرطٌ في صحته ؛ فبطل أن يجوز استحقاق ثواب في الآخرة للمكلّفين المُثَابين في الآخرة . فأمّا قوله عليه السلام : « ولا يُنْجَى بشيء كَانَ لها » فمعناه أنّ أفعال المكلّف التي يفعلها لأغراضه الدنيويّة ليست طريقا إلى النجاة في الآخرة ، كمن ينفق ماله رئاء الناس ؛ وليست طرقُ النجاة إلاّ بأفعال البرّ التي يقصد فيها وجه اللّه تعالى لا غير ، وقد أوضح عليه السلام ذلك بقوله : « فما أخذُوه منها لها أخرجوا منه ، وحوسبوا عليه ، وما أخذوه منها لغيرها قدموا عليه وأقاموا فيه » . فمثال الأول من يكتسب الأموال ويدّخرها لملاذّه ، ومثال الثاني من يكسبها لينفقها في سبيل الخيرات والمعروف . ثم قال عليه السلام : « وإنّها عند ذوِي العقول كفيء الظلّ ... » إلى آخر الفصل ؛ وإنما قال : « كفيء الظلّ » ؛ لأنّ العرب تضيف الشيءَ إلى نفسه . ويمكن أن يقال : الظلّ أعمّ من الفيء ؛ لأنّ الفيء لا يكون إلاّ بعد الزوال ، وكلّ فيء ظلٌّ ، وليس كلّ ظلٍّ فيئا ، فلما كان فيهما تغايرٌ معنويٌّ بهذا الاعتبار صحّت الإضافة . والسابغ : التامّ . وقَلَص ، أي انقبض . وقوله عليه السلام : « بينا تراه » ، أصل « بينا » « بين » ، فأُشبعت الفتحة ، فصارت « بينا » على وزن « فَعْلى » ، ثم تقول « بينما » فتزيد « ما » ، والمعنى واحد ، تقول بينا نحن نرقبه أتانا ، أي بين أوقاتِ رقْبتنا إياه أتانا .

.

ص: 205

63 . من خطبة له عليه السلام في الحض على الزهد والاستعداد لما بعد الموت

63الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلام :فَاتَّقُوا اللّهَ عِبَادَ اللّهِ ، وَبَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ ، وَابْتَاعُوا مَا يَبْقَى لَكُمْ بِمَا يَزُولُ عَنْكُمْ ، وَتَرَحَّلُوا فَقَدْ جُدَّ بِكُمْ ، وَاسْتَعِدُّوا لِلْمَوْتِ فَقَدْ أَظَلَّكُمْ ، وَكُونُوا قَوْما صِيحَ بِهِمْ فَانْتَبَهُوا ، وَعَلِمُوا أَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ لَهُمْ بِدَارٍ فَاسْتَبْدَلُوا ؛ فَإِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثا ، وَلَمْ يَتْرُكْكُمْ سُدىً ، وَمَا بَيْنَ أَحَدِكُمْ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ إِلاَّ الْمَوْتُ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ . وَإِنَّ غَايَةً تَنْقُصُهَا اللَّحْظَةُ ، وَتَهْدِمُهَا السَّاعَةُ ، لَجَدِيرَةٌ بِقِصَرِ الْمُدَّةِ . وَإِنَّ غَائِبا يَحْدُوهُ الْجَدِيدَانِ : اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ ، لَحَرِيٌّ بِسُرْعَةِ الْأَوْبَةِ . وَإِنَّ قَادِما يَقْدُمُ بِالْفَوْزِ أَوِ الشِّقْوَةِ لَمُسْتَحِقٌّ لِأَفْضَلِ الْعُدَّةِ . فَتَزَوَّدُوا فِي الدُّنْيَا ، مِنَ الدُّنْيَا ، مَا تَحْرُزُونَ بِهِ أَنْفُسَكُمْ غَدا . فَاتَّقَى عَبْدٌ رَبَّهُ ، نَصَحَ نَفْسَهُ ، وَقَدَّمَ تَوْبَتَهُ ، وَغَلَبَ شَهْوَتَهُ ، فَإِنَّ أَجَلَهُ مَسْتُورٌ عَنْهُ ، وَأَمَلَهُ خَادِعٌ لَهُ ، وَالشَّيْطَانُ مُوَكَّلٌ بِهِ ، يُزَيِّنُ لَهُ الْمَعْصِيَةَ لِيَرْكَبَهَا ، وَيُمَنِّيهِ التَّوْبَةَ لِيُسَوِّفَهَا ، إِذَا هَجَمَتْ مَنِيَّتُهُ عَلَيْهِ أَغْفَلَ مَا يَكُونُ عَنْهَا . فَيَا لَهَا حَسْرَةً عَلَى كُلِّ ذِي غَفْلَةٍ أَنْ يَكُونَ عُمُرُهُ عَلَيْهِ حُجَّةً ، وَأَنْ تُؤَدِّيَهُ أَيَّامُهُ إِلَى الشِّقْوَةِ ! نَسْأَلُ اللّهَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَجْعَلَنَا وَإِيَّاكُمْ مِمَّنْ لاَ تُبْطِرُهُ نِعْمَةٌ ، وَلاَ تُقَصِّرُ بِهِ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ غَايَةٌ ، وَلاَ تَحُلُّ بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ نَدَامَةٌ وَلاَ كَآبَةٌ .

الشّرْحُ :بادروا آجالكم بأعمالكم ، أي سابقوها وعاجِلوها . البِدار : العجلة ، وابتاعوا الآخرة الباقيةَ بالدنيا الفانية الزائلة .

.

ص: 206

وقوله : « فقد جُدّ بكم » أي حثِثتم على الرحيل ؛ يقال : جَدَّ الرحيل ، وقد جُدّ بفلان ، إذا أُزعج وحُثّ على الرحيل . واستعدُّوا للموت ، يمكن أن يكون بمعنى « أعدُّوا » ، فقد جاء « استفعل » بمعنى « أفعل » كقولهم : استجاب له ، أي أجابه . ويمكن أن يكون بمعنى الطّلَب ؛ كما تقول : استطعم ، أي طلب الطعام ، فيكون بالاعتبار الأول ، كأنّه قال : أعدُّوا للموت عُدّة ، وبمعنى الاعتبار الثاني كأنه قال : اطلبوا للموت عُدّة . وأظلّكم : قربُ منكم ، كأنّه ألقى عليهم ظلّه ، وهذا من باب الاستعارة . والعبَث : اللعب ، أو ما لا غرض فيه ، أو ما لا غرضَ صحيح فيه . وقوله : « ولم يترككم سُدىً » أي مهمَلين . وقوله : « أن ينزل به » موضعُه رفع ؛ لأ نّه بدلٌ من « الموت » ، والغائب المشار إليه هو الموت . ويحدوه الجديدان : يسوقه الليل والنهار ، وقيل : الغائب هنا هو الإنسان يَسُوقه الجديدان إلى الدار التي هي داره الحقيقيّة ، وهي الآخرة ؛ وهو في الدنيا غائب على الحقيقة عن داره التي خلق لها ؛ والأول أظهر . وقوله : « فتزوّدوا في الدنيا من الدنيا » كلامٌ فصيح ؛ لأنّ الأمر الذي به يتمكّن المكلّف من إحراز نفسه في الآخرة ؛ إنما هو يكتسبه في الدنيا منها ، وهو التقوى والإخلاص والإيمان . والفاء في قوله : « فاتّقَى عبد ربَّه » لبيان ماهيّة الأمر الذي يحرزُ الإنسان به نفسَه ولتفصيل أقسامه وأنواعه ، كما تقول : فعل اليوم فلان أفعالاً جميلة ؛ عن فلان ، وفعل كذا . وقد روي : « اتقى عبد ربّه » بلا فاء ، بتقدير « هلاّ » ، ومعناه التحضيض . وقد روي : « ليسوّفها » بكسر الواو وفتحها ؛ والضمير في الرواية الأُولى يرجع إلى نفسه ، وقد تقدم ذكرها قبلُ بكلمات يسيرة . ويجوز أن يعنى به : ليسوّف التوبة ، كأنّه جعلها مخاطبة يقول لها : سوف أوقعك ؛ والتسويف أن يقول في نفسه : سوف أفعل ؛ وأكثر ما يستعمل للوعد الذي لا نَجَاز له . ومن روى بفتح الواو جعله فعلَ ما لم يسمّ فاعله ، وتقديره : ويمنّيه الشيطان التوبة ، أي يجعلها في أُمنيته ليكون مسوّفا إياها ؛ أي يعدّ من المسوَّفين المخدوعين . وقوله : « فيا لَها حسرة » ، يجوزُ أن يكونَ نادى الحسرة ، وفتحة اللام على أصل نداء المدعو ؛ كقولك : يا لَلرجال ؛ ويكون المعنى : هذا وقتك أيتها الحسرة فاحضرِي . ويجوز أن يكون المدعو غير الحسرة ، كأنه قال : يا للرجال لِلْحسْرةِ ! فتكون لامها مكسورة نحو

.

ص: 207

64 . من خطبة له عليه السلام في تنزيه اللّه سبحانه وتقديسه

الأصل ؛ لأنّها المدعو إليه ، إلاّ أنّها لما كانت للضمير فتحت ، أي أدعوكم أيُّها الرجال لتقضُوا العجب من هذه الحسْرة . وهذا الكلام من مواعظ أمير المؤمنين البالغة .

64الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامالْحَمْدُ للّهِ الَّذِي لَمْ تَسْبِقْ لَهُ حَالٌ حَالاً ، فَيَكُونَ أَوَّلاً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِرا ، وَيَكُونَ ظَاهِرا قَبْلَ أَنْ يَكُونَ بَاطِنا ؛ كُلُّ مُسَمّىً بِالْوَحْدَةِ غَيْرُهُ قَلِيلٌ ، وَكُلُّ عَزِيزٍ غَيْرُهُ ذَلِيلٌ ، وَكُلُّ قَوِيٍّ غَيْرُهُ ضَعِيفٌ ، وَكُلُّ مَالِكٍ غَيْرُهُ مَمْلُوكٌ ، وَكُلُّ عَالِمٍ غَيْرُهُ مُتَعَلِّمٌ ، وَكُلُّ قَادِرٍ غَيْرُهُ يَقْدِرُ ويَعْجَزُ ، وَكُلُّ سَمِيعٍ غَيْرُهُ يَصَمُّ عَنْ لَطِيفِ الْأَصْوَاتِ ، وَيُصِمُّهُ كَبِيرُهَا ، وَيَذْهَبُ عَنْهُ مَا بَعُدَ مِنْهَا ، وَكُلُّ بَصِيرٍ غَيْرُهُ يَعْمَى عَنْ خَفِيِّ الْأَلْوَانِ وَلَطِيفِ الْأَجْسَامِ ، وَكُلُّ ظَاهِرٍ غَيْرُهُ بَاطِنٌ ، وَكُلٌ بِاطِنٍ غَيْرُهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ . لَمْ يَخْلُقُ مَا خَلَقَهُ لِتَشْدِيدِ سُلْطَانٍ ، وَلاَ تَخَوُّفٍ مِنْ عَوَاقِبَ زَمَانٍ ، وَلاَ اسْتِعَانَةٍ عَلَى نِدٍّ مُثَاوِرٍ ، وَلاَ شَرِيكٍ مُكَاثِرٍ ، وَلاَ ضِدٍّ مُنَافِرٍ ؛ وَلكِنْ خَلاَئِقُ مَرْبُوبُونَ ، وَعِبَادٌ دَاخِرُونَ ، لَمْ يَحْلُلْ فِي الْأَشْيَاءِ فَيُقَالَ : هُوَ فيها كَائِنٌ ، وَلَمْ يَنْأَ عَنْهَا فَيُقَالَ : هُوَ مِنْهَا بَائِنٌ . لَمْ يَؤُدْهُ خَلْقُ مَا ابْتَدَأَ ، وَلاَ تَدْبِيرُ مَا ذَرَأَ ، وَلاَ وَقَفَ بِهِ عَجْزٌ عَمَّا خَلَقَ ، وَلاَ وَلَجَتْ عَلَيْهِ شُبْهَةٌ فِيمَا قَضَى وَقَدَّرَ ، بَلْ قَضَاءٌ مُتْقَنٌ ، وَعِلْمٌ مُحْكَمٌ ، وَأَمْرٌ مُبْرَمٌ . الْمَأْمُولُ مَعَ النِّقَمِ ، الْمَرْهُوبُ مَعَ النِّعَمِ!

.

ص: 208

الشّرْحُ :يَصَمّ ؛ بفتح الصاد ، لأنّ الماضي « صَمِمْت » يا زيد ، والصَّمم : فساد حاسّة السمع ، ويصِمه بكسرها ؛ يحدث الصَّمَم عنده ، وأصْمَمت زيدا . والنِّد : المِثْل والنظير . والمثاور : المواثب . والشريك المكاثر : المفتخر بالكثرة . والضدّ المنافر : المحاكم في الحسب ، نافرت زيدا فَنفَرْته ، أي غلبته . ومربوبون : مملوكون . وداخرون : ذليلون خاضعون . ولم يَنْأ : لم يبعُد . ولم يؤده : لم يتعبْه . وذَرَأ : خَلَق ، وَوَلَجت عليه الشبهة ، بفتح اللام ، أي دخلت . والمرهوب : المخوف . فأمّا قوله « الذي لم يسبق له حال حالاً ، فيكون أوّلاً قبل أن يكون آخراً » ، فيمكن تفسيرُه على وجهين : أحدُهما : أنّ معنى كونه أولاً أنه لم يزَلْ موجودا ، ولا شيء من الأشياء بموجود أصلاً ؛ ومعنى كونه آخرا أنه باقٍ لا يزال ، وكلّ شيء من الأشياء يُعدَم عدَما محْضا حسب عدمه فيما مضى ، وذاته سبحانه ذاتٌ يجب لها اجتماعُ استحقاق هذين الاعتبارين معا في كلّ حال ، فلا حال قطّ إلاّ ويصدق على ذاته أنه يجب كونها مستحقّة للأوليّة والآخرية بالاعتبار المذكور استحقاقا ذاتيا ضروريا . الوجه الثاني : أن يريدَ بهذا الكلام أ نّه تعالى لا يجوز أن يكون موردا للصفات المتعاقبة ؛ على ما يذهب إليه قوم من أهل التوحيد ؛ قالوا : لأ نّه واجبٌ لذاته ، والواجب لذاته واجب من جميعِ جهاته . وأمّا قوله : « أو يكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا » ، فإنّ للباطن والظاهر تفسيرا على وجهين : أحدهما : أنه ظاهر بمعنى أنّ أدلّة وجوده وأعلام ثبوته وإلهيته جليّة واضحة ، ومعنى كونه باطنا أنه غير مدرَك بالحواسّ الظاهرة ، بل بقوة أُخرى باطنة ؛ وهي القوة العقلية. وثانيهما : أنّا نعني بالظاهر الغالب ؛ يقال : ظَهر فلانٌ على بني فلان ، أي غلَبَهم ، ومعنى الباطن العالم ، يقال : بطنَت سرّ فلان ، أي علِمتُه ، والقول في نفيه عنه سبحانه أن يكون ظاهرا قبل كونه باطنا ، كالقول فيما تقدّم من نفيه عنه سبحانه كونه أوّلاً قبل كونه آخراً . وأمّا قوله : « كلّ مسمَّى بالوحدة غيره قليل » ، فلأنّ الواحد أقلّ العدد ، واحدا يُبايِن ذلك ؛ لأنّ معنى كونه واحدا إمّا نفي الثاني في الإلهية ، أو كونه يستحيل عليها الانقسام ،

.

ص: 209

وعلى كلا التفسيرين يُسلَب عنها مفهوم القلة . هذا إذا فسرنا كلامه على التفسير الحقيقيّ ، وإن فسرناه على قاعدة البلاغة وصناعة الخطابة ، كان ظاهرا ؛ لأنّ الناس يستحقرون القليل لقلّته ، ويستعظمون الكثير لكثرته . وأمّا قوله : « وكلُّ عزيز غيره ذليل » ، فهو حقّ ؛ لأنّ غيره من الملوك وإن كان عزيزا فهو ذليل في قبضة القضاء والقدر ، وهذا هو تفسير قوله : « وكلّ قوي غيره ضعيف ، وكل مالك غيره مملوك » . وأمّا قوله : « وكلّ عالم غيره متعلم » ، فهو حقّ ؛ لأ نّه سبحانه مفيضُ العلوم على النفوس ، فهو المعلّم الأوّل ، جلّت قدرته . وأمّا قوله : « وكلُّ قادرٍ غيره يقدر ويعجز » ، فهو حقّ ؛ لأ نّه تعالى قادر لذاته ، ويستحيل عليه العجز ، وغيره قادر لأمر خارج عن ذاته ، إمّا لقدرة ، كما قاله قوم ، أو لبنية وتركيب كما قاله قوم آخرون ، والعجز على مَنْ عداه غير ممتنع ، وعليه مستحيل . وأمّا قوله عليه السلام : « وكلُّ سميع غيره يَصَمّ عن لطيف الأصوات ، ويصمّه كبيرها ويذهب عنه ما بعد منها » ، فحقّ ؛ لأنّ كلَّ ذي سمْع من الأجسام يضعُف سمعه عن إدراك خَفِيِّ الأصوات ، ويتأثر من شديدها وقويها ؛ لأ نّه يسمع بآلة جسمانية ، والآلة الجسمانية ذات قوة متناهية واقفة عند حَدّ محدود ، والباري تعالى بخلاف ذلك . والقول في شرح قوله : « وكلّ بصير غيره يعمى عن خفيّ الألوان ، ولطيف الأجسام » ، كالقول فيما تقدّم في إدراك السّمع . وأمّا قوله : « وكلُّ ظاهرٍ غيره غير باطن ، وكلّ باطن غيره غير ظاهر » ، فحقّ ؛ لأنّ كلّ ظاهر غيره على التفسير الأول فليس بباطن كالشمس والقمر وغيرهما من الألوان الظاهرة ، فإنّها ليست إنّما تدرَك بالقوة العقليّة ؛ بل بالحواسّ الظاهرة ، وأمّا هو سبحانه فإنّه أظهرُ وجودا من الشمس ، لكنّ ذلك الظهور لم يمكن إدراكه بالقوى الحاسة الظاهرة ، بل بأمْرٍ آخر ، إمّا خفيٌّ في باطن هذا الجسد ، أو مفارق ليس في الجسد ولا في جهة أُخرى غير جهة الجسد . وأما على التفسير الثاني ؛ فلأنّ كلّ مَلِكٍ ظاهر على رعيّته أو على خصومه وقاهر لهم ، ليس بعالم ببواطنهم ، وليس مطّلعا على سرائرهم ، والبارئ تعالى بخلاف ذلك ؛ وإذا فهمتَ شرح القضيّة الأُولى ، فهمت شرح الثانية ، وهي قوله : « وكلّ باطن غيره غير ظاهر » .

.

ص: 210

اختلاف الأقوال في خلق العالم

[ اختلاف الأقوال في خلق العالم ]فأمّا قوله : « لم يخلق ما خلقَه لتشديد سلطانه » إلى قوله : « عباد داخرون » ، فاعلم أنّ الناس اختلفوا في حكمة خلقه تعالى للعالم ما هي ؟ على أقوال : [وقد أورد ابن أبي الحديد هنا أقوال غير المسلمين من فلاسفة وأصحاب ديانات ، كأرسطا طاليس ، وقدماء الفلاسفة ، والمجوس ، والمانوية ثم ذكر القول الخامس ، وهو لمتكلمي الإسلام] ، وهو على وجوه : أوّلهما : قول جمهور أصحابنا : إن اللّه تعالى إنما خلَق العالم للإحسان إليهم والإنعام على الحيوان ؛ لأنّ خلْقه حيّا نعمة عليه ، لأنّ حقيقة النعمة موجودة فيه ، وذلك أنّ النعمة هي المنفعة المفعولة للإحسان ، ووجود الجسم حيّا منفعة مفعولة للإحسان . وثانيها : قول قوم من أصحابنا البغداديّين : إنه خلَق الخلْق ؛ ليُظهِرَ به لأربابِ العقول صفاتِه الحميدة ، وقدرتَه على كلّ ممكن ، وعلمَه بكلِّ معلوم ؛ وما يستحقّه من الثناء والحمد . قالوا : وقد ورد الخبر أنه تعالى قال : « كنتُ كنزا لا أُعرَف ، فأحببت أن أُعرَف » ؛ وهذا القول ليس بعيدا . وثالثها : للمجبِّرة : إنه خلق الخلْق لا لغرض أصلاً ؛ ولا يقال : لم كان كلّ شيء لعلة ، ولا علة لفعله . ورابعها : قول بعضِ المتكلّمين : إنّ البارئ تعالى إنما فعل العالم لأ نّه ملتذٌّ بأنْ يفعل ، وأجاز أربابُ هذا القول عليه اللذّة والسرور والابتهاج . وأمّا قوله عليه السلام : « لم يحلُل في الأشياء ، فيقال : لا هو فيها كائن ولا منها مباين » ، فينبغي أن يحمَل على أ نّه أرادَ أ نّه لم ينْأَ عن الأشياء نأيا مكانيا فيقال : هو بائن بالمكان ، هكذا ينبغِي أن يكون مراده ؛ لأ نّه لا يجوز إطلاقُ القول بأنّه ليس ببائن عن الأشياء ؛ وكيف والمجرّد بالضرورة بائن عن ذي الوضع ؛ ولكنها بينونة بالذات لا بالجهة . والمسلمون كلُّهم متفقون على أ نّه تعالى يستحيل أن يحلّ في شيءٍ . فأمّا قولُه عليه السلام : « لم يؤدْهُ خَلْق ما ابتدأ » إلى قوله : « عَمّا خلَق » ، فهو حقّ ؛ لأ نّه تعالى قادر لِذاته ، والقادر لذاته لا يتعب ولا يعجَز ؛ لأ نّه ليس بجسم ، ولا قادر بقدرة يقف مقدورها عند حَدّ وغاية ، بل إنما يقدر على شيء لأ نّه تعالى ذات مخصوصة ، يجب لها أن تقدر على الممكِنات ؛ فيكون كلّ ممكن داخلاً تحت هذه القضيّة الكلية ؛ والذات التي تكون

.

ص: 211

65 . من خطبة له عليه السلام كان يقول لأصحابه في بعض أيام صفين

هكذا لا تعجَز ولا تقف مقدوراتها عند حَدٍّ وغاية أصلاً ؛ ويستحيل عليها التعب ، لأنها ليستْ ذات أعضاء وأجزاء . وأمّا قوله عليه السلام : « ولا وَلَجتْ عليه شُبْهة » إلى قوله : « وأمر مُبْرَم » ، فحقّ ؛ لأ نّه تعالى عالم لذاته ؛ أي إنما عَلِم ما علمه لا بمعنى أن يتعلّق بمعلوم دون معلوم ؛ بل إنما علم أيّ شيء أشرت إليه ، لأ نّه ذات مخصوصة ؛ ونسبة تلك الذات إلى غير ذلك الشيء المشار إليه ، كنسبتها إلى المشار إليه ، فكانت عالمة بكلِّ معلوم ؛ واستحال دخول الشبهة عليها فيما يقضيه ويقدّره . وأمّا قوله : « المأمول مع النِّقم ، المرهوب مع النعم » ؛ فمعنى لطيف ، وإليه وقعت الإشارة بقوله تعالى : « أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ » (1) ، وقوله سبحانه : « سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ » (2) ،وقوله تعالى : « فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرا * إنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرا » (3) ، وقوله سبحانه : « فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرا كَثِيرا » (4) .

65الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام كان يقوله لأصحابه في بعض أيام صفينمَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ : اسْتَشْعِرُوا الْخَشْيَةَ ، وَتَجَلْبَبُوا السَّكِينَةَ ، وَعَضُّوا عَلَى النَّوَاجِذِ ، فَإِنَّهُ أَنْبَى لِلسُّيُوفِ عَنِ الْهَامِ وَأَكْمِلُوا اللَأْمَةَ ، وَقَلْقِلُوا السُّيُوفَ فِي أَغْمَادِهَا قَبْلَ سَلِّهَا وَالْحَظُوا الْخَزْرَ ، وَاطْعَنُوا الشَّزْرَ ، وَنَافِحُوا بِالظُّبَا ، وَصِلُوا السُّيُوفَ

.


1- .سورة الأعراف 97 و 98 .
2- .سورة الأعراف 182 .
3- .سورة الشرح 5 و 6 .
4- .سورة النساء 19 .

ص: 212

بِالْخُطَا . وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ بِعَيْنِ اللّهِ ، وَمَعَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللّهِ . فَعَاوِدُوا الْكَرَّ ، وَاسْتَحْيُوا مِنَ الْفَرِّ ، فَإِنَّهُ عَارٌ فِي الْأَعْقَابِ ، وَنَارٌ يَوْمَ الْحِسَابِ . وَطِيبُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ نَفْسا ، وَامْشُوا إِلَى الْمَوْتِ مَشْيا سُجُحا ، وَعَلَيْكُمْ بِه_ذَا السَّوَادِ الْأَعْظَمِ ، وَالرَّوَاقِ المُطَنَّبِ ، فَاضْرِبُوا ثَبَجَهُ ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ كَامِنٌ فى كِسْرِهِ ، وَقَدْ قَدَّمَ لِلْوَثْبَةِ يَدا ، وَأَخَّرَ لِلنُّكُوصِ رِجْلاً . فَصَمْدا صَمْدا ! حَتَّى يَنْجَلِيَ لَكُمْ عَمُودُ الْحَقِّ ؛ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ، وَاللّهُ مَعَكُمْ ، وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ .

الشّرْحُ :قوله : « استَشْعروا الخشْية » ، أي اجعلوا الخوْفَ من اللّه تعالى من شعاركم ؛ والشِّعَار من الثياب : ما يكون دون الدِّثار ، وهو يلِي الجلد ؛ وهو ألصق ثياب الجسد ؛ وهذه استعارة حَسَنة ، والمراد بذلك أمرُهم بملازمة الخشية والتقوى ، كما أنّ الجلد يلازم الشِّعار . قوله : « وتجَلْبَبُوا السكينة » أي اجعلوا السَّكِينة والحلم والوقار جِلْبابا لكم ، والجلباب الثوب المشتمِل على البدن . قوله : « وعضُّوا على النواجذ » جمع ناجذ ، وهو أقصى الأضراس ، ويقال : إن العاضّ على نواجذه ينبُو السيف عن هامته نبوّاً ما ، وهذا مما يساعد التعليلُ الطبيعي عليه . وقوله : « فإنّه أنبَى » ، الضمير راجع إلى المصدر الذي دلّ الفعل عليه ، تقديره : فإنّ العَضّ أنبَى ؛ كقولهم : مَنْ فعل خيرا كان له خيرا ، أي كان فعله خيرا ، وأنبَى « أفعل » ، من نبا السيفُ ، إذا لم يقطع . قال الراونديّ : هذا كلام ليس على حقيقته ، بل هو كناية عن الأمر بتسكين القلْب وترك اضطرابه واستيلاء الرِّعْدة عليه ، إلى أن قال : ذلك أشدّ إبعادا لسيْف العدوّ عن هامتكم . قوله : « وأكْمِلوا اللأمة » ، واللأمة ، بالهمزة : الدِّرع ، والهمزة ساكنة على « فَعلة » ، مثل النأْمة للصوت ، وإكمالها أن يزاد عليها البَيْضة والسواعد ونحوها ؛ ويجوز أن يعبّر باللّأمة عن جميع أداة الحرب ، كالدِّرع والرمح والسيف ، يريد : أكملوا السلاحَ الذي تحاربون

.

ص: 213

العدوَّ به . قوله : « وقلقلوا السيوف في أغمادها قبل سَلّها » ، يوم الحرب ؛ لئلاّ يدومَ مكثها في الأجفان فتلحج فيها فيستصعب سلّها وقت الحاجة إليها . وقوله : « والحظُوا الخَزْر » ، الخزْر أن ينظرُ الإنسان بعينه ، وكأنه ينظر بمؤخِرها وهي أمارة الغضب ، والذي أعرفه « الخَزَر » بالتحريك . فإن كان قد جاء مسكّنا فتسكينه جائز للسجعة الثانية ، وهي قوله : « واطعنوا الشَّزْر » . والطعن شَزْرا ، هو الطَّعْن عن اليمين والشمال ، ولا يسمَّى الطعن تجاه الإنسان شَزْرا . وأكثر ما تستعمل لفظة « الشَّزْر » في الطعن، لما كان عن اليمين خاصة ، وكذلك إدارة الرحى . وخَزْراً وشزراً ، صفتان لمصدرين محذوفين ، تقديره : الحظوا لحظاً خزْراً ، واطعُنوا طَعْنا شزرا ، وعينُ « اطعُنوا » مضمومة ، يقال : طعنت بالرمح أطعُن ، بالضم ، وطعنت في نسبه أطعَن ، بالفتح ، أي قدحت . قوله : « نافحوا بالظبا » أي ضاربوا نَفْحة بالسيف ، أي ضربة ، ونفحَتِ الناقة برجلها ، أي ضربت . والظُّبا : جمع ظُبَة ، وهي طَرَف السيف . قوله : « وصلوا السيوف بالخطا » مثل قول الشاعر : إذا قَصُرَتْ أسْيَافُنَا كانَ وَصْلُهَاخُطانا إلى أعدائِنا فَنُضارِبِ قوله عليه السلام : « واعلموا أنكم بعين اللّه » أي يراكم ويعلم أعمالكم ، والباء هاهنا كالباء في قوله : « أنت بمرأى منى ومسمع » . قوله : « فعاودوا الكرّ » أي إذا كررتم على العدوّ كرَّة فلا تقتصروا عليها ، بل كرّوا كرّة أُخرى بعدها ، ثم قال لهم : « واستحيوا من الفرار ، فإنه عار في الأعقاب » ، أي في الأولاد ، فإنّ الأبناء يعيّرون بفرار الآباء . ويجوز أن يريد بالأعقاب جمع عَقِب ؛ وهو العاقبة وما يؤول إليه الأمر ، قال سبحانه : « خَيْرٌ ثَوَابا وَخَيْرٌ عُقْبا » (1) ، أي خير عاقبة ، فيعني على هذا الوجه أنّ الفرار عارٌ في عاقبة أمركم ، وما يتحدّث به الناس في مستقبل الزمان عنكم . ثم قال : « ونار يوم الحساب » ؛ لأنّ الفِرَار من الزحف ذنب عظيم ، والجهاد بين يدي الإمام كالجهاد بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . قوله عليه السلام : « وطِيبُوا عن أنفسِكم نَفْسا » ، يقول : وطّنُوا أنفسَكم على الموت ولا تكرهوه ، وهوّنوه عليكم ، تقول : طِبْتُ عن مالي نَفْسا ، إذا هَوّنت ذهابه .

.


1- .سوره الكهف 44 .

ص: 214

66 . من خطبة له عليه السلام في معنى الأنصار

وقوله : « وامشُوا إلى الموت مَشْيا سُجُحاً » ؛ أي سهلاً ، والسجاحة : السهولة ، يقال : في أخلاق فلان سَجاحة ، ومن رواه « سمحاً » أراد سهلاً أيضا . والسّواد الأعظم ، يعني به جُمهور أهلِ الشام . قوله : « والرّواق المطنَّب » ، يريد به مضرِب معاوية ذا الأطناب ، وكان معاوية في مضرب عليه قُبّة عالية ، وحَوْلَه صناديد أهل الشام . وثَبجه : وَسَطه ، وثبج الإنسان : مابين كاهله إلى ظهره . والكِسْر : جانب الخِباء . وقوله : « فإنّ الشيطان كامنٌ في كسْرِه » ، يحتمل وجهين ؛ أحدُهما : أن يعني به الشيطان الحقيقيّ ، وهو إبليس ، والثاني : أن يعني به معاوية . والثاني هو الأظهر للقرينة التي تؤيده ، وهي قوله : « قد قَدّم للوثبة يدا ، وأخَّر للنكوص رجلاً » ، أي إن جبنتم وثَب ، وإن شجعتم نَكَص ، أي تأخر وفرّ ؛ ومَنْ حمله على الوجه الأوَّل جعله من باب المجاز ، أي أن إبليس كالإنسان الذي يعتوره دواعٍ مختلفة بحسب المتجدّدات ، فإن أنتم صدقتم عدوّكم القتال فرَّ عنكم بفرار عدوكم ، وإن تخاذلتم وتواكلتم طمِع فيكم بطمعه ، وأقدم عليكم بإقدامه . وقوله عليه السلام : « فصَمْدا صمْدا » أي اصمدوا صمدا صمدا ، صمدت لفلان أي قصدت له . وقوله : « حتى ينجليَ لكم عمودُ الحق » ، أي يسطع نورُه وضوءُه ، وهذا من باب الاستعارة . والواو في قوله : « وأنتم الأعلوْن » واو الحال . ولن يَتِرَكم أعمالكم ، أي لن ينقصكم ، وهاهنا مضافٌ محذوف تقديره : جزاء أعمالكم ، وهو من كلام اللّه تعالى رَصّع به خطبتَه عليه السلام . وهذا الكلام خَطَب به أميرُ المؤمنين عليه السلام في اليوم الذي كانت عشيّته ليلة الهرِير في كثير من الروايات . وفي رواية نصر بن مزاحم ، أ نّه خَطَب به في أوّل أيام اللقاء والحرب بصِفّين ، وذلك في صفر من سنة سبع وثلاثين .

66الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام في معنى الأنصارقالوا : لما انتهت إلى أمير المؤمنين عليه السلام أنباء السقيفة بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ،

.

ص: 215

قال عليه السلام : ما قالت الأنصار؟ قالوا : قالت : منا أمير ومنكم أمير . قال عليه السلام : فَهَلاَّ احْتَجَجْتُمْ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله وسلم وَصَّى بِأَنْ يُحْسَنَ إِلى مُحْسِنِهِمْ ، وَيُتَجَاوَزَ عَنْ مُسِيئِهِمْ! قالوا : وما في هذا من الحجَّة عليهم؟ فقال عليه السلام : لَوْ كَانَتِ الاْءِمَامَةُ فِيهِمْ لَمْ تَكُنْ الْوَصِيَّةُ بِهِمْ . ثم قال عليه السلام : فَمَاذَا قَالَتْ قُرَيْشٌ؟ قَالُوا : احتجَّت بأَنَّها شجرة الرسول صلى الله عليه و آله وسلم . فقال عليه السلام : احْتَجُّوا بِالشَّجَرَةِ ، وَأَضَاعُوا الثَّمَرَةَ .

الشّرْحُ :هذا الخبر الوارد في الوصية بالأنصار ؛ فهو خبر صحيح ، أخرجه الشيخان محمد بن إسماعيل البخاريّ ، ومسلم بن الحجاج القُشيْري في مسنديْهما عن أنس بن مالك (1) . وأما كيفية الاحتجاج على الأنصار ، فقد ذكرها عليّ عليه السلام ؛ وهي أ نّه لو كان _ صلواتُ اللّه وسلامه عليه _ ممّن يجعل الإمامة فيهم ؛ لأوصى إليهم ، ولم يوصِ بهم . فأمّا قول أمير المؤمنين : « احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة » ؛ فكلام قد تكرّر منه عليه السلام أمثالُه ؛ نحو قوله : « إذا احتجّ عليهم المهاجرون بالقُرْب من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كانت الحجة لنا على المهاجرين بذلك قائمة ؛ فإن فَلَجَتْ حُجّتهم كانت لَنَا دونهم ؛ وإلاّ فالأنصار على دعوتهم » . ونحو هذا المعنى قول العباس لأبي بكر : « وأما قولك : نحن شجرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فإنكم جيرانها ؛ ونحن أغصانها » 2 .

.


1- .صحيح البخاري 2 : 312 ، صحيح مسلم ح1949 .

ص: 216

67 . من خطبة له عليه السلام لما قلد محمد بن أبي بكر مصر فملكت عليه وقتل

67الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام لما قلد محمد بن أبي بكر مصر فملكت عليه وقتلوَقَدْ أَرَدْتُ تَوْلِيَةَ مِصْرَ هَاشِمَ بْنَ عُتْبَةَ ؛ وَلَوْ وَلَّيْتُهُ إِيَّاهَا لَمَّا خَلَّى لَهُمُ الْعَرْصَةَ ، وَلاَ أَنْهَزَهُمُ الْفُرْصَةَ ، بِلاَ ذَمٍّ لِمُحَمَّدِ بْنِ أَبي بَكْرٍ ، فَلَقَدْ كَانَ إِلَيَّ حَبِيبا ، وَكَانَ لِي رَبِيبا (1) .

.


1- .أُم محمد بن أبي بكر أسماء بنت عميس ، كانت تحت جعفر بن أبي طالب عليه السلام ، وهاجرت معه إلى الحبشة ثم قتل عنها يوم مؤتة ، فخلف عليها أبو بكر ، فأولدها محمدا ، ثمّ مات عنها ، فخلف عليها أمير المؤمنين عليه السلام ، وكان محمد ربيبه وخرّيجه ، وجاريا عنده مجرى أولاده ، رضع الولاء والتشيّع منذ زمن الصبا ، فنشأ عليه ، قال علي عليه السلام : « محمد ابني من صلْب أبي بكر » .

ص: 217

68 . من خطبة له عليه السلام في ذمّ أصحابه

الشّرْحُ :وهاشم بن عتبة هو المِرْقال ، سمى المرقال ؛ لأ نّه كان يُرْقِل في الحرب إرقالا ، وهو من شِيعة عليّ . فأمّا قوله : « لما خَلّى لهم العرْصة » فيعني عَرْصة مصر ؛ وقد كان محمد رحمه اللّه تعالى : لما ضاق عليه الأمر ، ترك لهم مصر وظنّ أنه بالفِرار ينجو بنفسه ، فلم ينجُ وأُخِذ وقُتِل . وقوله : « ولا أنهزَهم الفُرصَة » ، أي ولا جعلهم للفرصة منتهزين . والهمزة للتعدية ، يقال : أنهزت الفرصة ، إذا أنهزتُها غيري .

68الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام في ذم أصحابهكَمْ أُدَارِيكُمْ كَمَا تُدَارَى الْبِكَارُ الْعَمِدَةُ ، وَالثِّيَابُ الْمُتَدَاعِيَةُ ! كُلَّمَا حِيصَتْ مِنْ جَانِبٍ تَهَتَّكَتْ مِنْ آخَرَ ، كُلَّمَا أَطَلَّ عَلَيْكُمْ مَنْسِرٌ مِنْ مَنَاسِرِ أَهْلِ الشَّامِ أَغْلَقَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بَابَهُ ، وَانْجَحَرَ انْجِحَارَ الضَّبَّةِ في جُحْرِهَا ، وَالضَّبُعِ فِي وِجَارِهَا . الذَّلِيلُ وَاللّهِ مَنْ نَصَرْتُمُوهُ ! وَمَنْ رُمِيَ بِكُمْ فَقَدْ رُمِيَ بِأَفْوَقَ نَاصِلٍ . إِنَّكُمْ _ وَاللّهِ _ لَكَثِيرٌ فِي الْبَاحَاتِ ، قَلِيلٌ تَحْتَ الرَّايَاتِ ، وَإِنِّي لَعَالِمٌ بِمَا يُصْلِحُكُمْ ، وَيُقِيمُ أَوَدَكُمْ ، وَلكِنِّي لاَ أَرَى إِصْلاَحَكُمْ بِإِفْسَادِ نَفْسي . أَضْرَعَ اللّهُ خُدُودَكُمْ ، وَأَتْعَسَ جُدُودَكُمْ ! لاَ تَعْرِفُونَ الْحَقَّ كَمَعْرِفَتِكُمُ الْبَاطِلَ ، وَلاَ تُبْطِلُونَ الْبَاطِلَ كَإِبْطَالِكُمُ الْحَقَّ!

.

ص: 218

الشّرْحُ :البِكَار : جمع بَكْر ، وهو الفتِيُّ من الإبل . والعَمِدَة : التي قد انشدَخَتْ أسْنِمتها من داخل وظاهرها صحيح ؛ وذلك لكثرة ركوبها . والثياب المتداعية : الأسْمال التي قد أخلَقت ؛ وإنما سمِّيت متداعِية ؛ لأنّ بعضها يتخرّق فيدعو بعضَة إلى مثل حاله . وحِيصت : خيطت ، والحوْص : الخياطة . وتهتّكت : تخرَّقت . وأطلَّ عليكم ، أي أشرف ، وروي : « أظلّ » بالظاء المعجمة ، والمعنى واحد . ومنسر : قطعة من الجيش تمرّ قدام الجيش الكثير ، والأفصح « مِنَسر » بكسر الميم وفتح السين . وانجحر : استتر في بيته ، أجحرتُ الضبّ ، إذا ألجأتَه إلى جُحْره فانجحر . والضبّة : أُنثى الضِّباب ، وإمّا أوقع التشبيه على الضبّة مبالغة في وصفهم بالجبن والفرار ؛ لأنّ الأنثى أجبنُ وأذلّ من الذكر . والوجار : بيت الضبع . والسهم الأفوق : الناصل المكسور الفُوق ، المنزوع النّصل ، والفُوق : موضع الوَتَر من السهم ؛ يقال نَصَل السّهم إذا خرج منه النَّصْل فهو ناصل ؛ وهذا مثل يضرب لمن استنجد بمن لا ينجده . والباحات : جمع باحة ، وهي ساحة الدار . والأوَد : العوج ، أوِد الشيء بكسر الواو بأوَد أوَدا ؛ أي اعوجّ ، وتأوّد ، أي تعوج . وأضرع اللّه خدُودكم : أذلَّ وجوهكم . وأتعسَ جدودكم ، أي أحال حظوظكم وسعودكم وأهلكها فجعلها إدبارا ونحساً . والتَّعَس : الهلاك . وأصله الكبّ ؛ وهو ضد الانتعاش . يقول : كم أداريكم كما يدارِي راكب البعير بعيرَه المنفضخ السنام ، وكما يداري لابس الثوب السَّمِل ثوبَهُ المتداعِي ، الذي كلّما خِيط منه جانب تمزّق جانب . ثم ذكر خُبْثَهم وذلّهم ، وقلّة انتصار مَنْ ينتصِر بهم ، وأنّهم كثير في الصورة ، قليل في المعنى . ثم قال : إني عالم بما يصلحكم ؛ يقول : إنما يصلحكم في السياسة السيفُ ؛ وَصَدَق ! فإن كثيرا لا يصلُح إلاّ عليه . كما فعل الحجّاج بالجيش الّذي تقاعد بالمهلّب . وأميرُ المؤمنين لم يكُنْ ليستحلَّ من دماء أصحابه ما يستحلّهُ مَنْ يريد الدنيا وسياسة الملك وانتظام الدولة ، قال عليه السلام : « لكني لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي » ، أي بإفساد ديني عند اللّه تعالى . « لا تعرفون الحق كمعرفتكم الباطل ... » إلى آخر الفصل ؛ فكأنّه قال : لا تعتقدون الصواب والحقّ كما تعتقدون الخطأ والباطل ؛ أي اعتقادكم الحقّ قليل ، واعتقادكم الباطل

.

ص: 219

69 . من خطبة له عليه السلام في سحرة اليوم الذي ضرب فيه

كثير ؛ فعبّر عن الاعتقاد العام بالمعرفة الخاصة ؛ وهي نوع تحت جنسه مجازا . ثم قال : ولا تسرعون في نقض الباطل سرعتَكم في نقض الحقَّ وهدمه .

69الأصْلُ :وقال عليه السلام في سحرة اليوم الذي ضرب فيهمَلَكَتْنِي عَيْنِي وَأَنَا جَالِسٌ ، فَسَنَحَ لِي رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللّهِ ! مَاذَا لَقِيتُ مِنْ أُمَّتِكَ مِنَ الْأَوَدِ وَاللَّدَدِ ؟ فَقَالَ : « ادْعُ عَلَيْهِمْ » فَقُلْتُ : أَبْدَلَنِي اللّهُ بِهِمْ خَيْرا مِنْهُمْ ، وَأَبْدَلَهُمْ بِي شَرّا لَهُمْ مِنِّي .

قال الرضي رحمه الله :يعني بالأَود الاعْوجاج ، وباللَّدَد الخصام . وهذا من أفصح الكلام .

الشّرْحُ :قوله : « ملكْتني عيني » من فصيح الكلام ، يريد غَلَبنِي النوم . « فسنح لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله » ، يريد مربّى كما تسنَحُ الظِّباء والطير يمرّ بك ، ويعترض لك . وذا ، هاهنا بمعنى « الذي » كقوله تعالى : « مَاذَا تَرَى » (1) ؛ أي ما الذي ترى ، يقول : قلت له : ما الذي لقيتُ من أُمّتك ؟ وما هاهنا استفهامية كأيّ ، ويقال ذلك فيما يستعظم أمره ، كقوله سبحانه : « الْقَارِعَةُ * مَاالقَارِعَة » (2) . و « شرّا » هاهنا لا يدلّ على أنّ فيه شرّا ، كقوله : « قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أمْ جَنَّةُ الخُلْدِ » (3) لا يدلّ على أنّ في النار خيرا .

.


1- .سورة الصافات 102 .
2- .سورة القارعة 1 ، 2 .
3- .سورة الفرقان 15 .

ص: 220

70 . من خطبة له عليه السلام في ذم أهل العراق

70الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام في ذم أهل العراقأَمَّا بَعْدُ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ ، فَإِنَّمَا أَنْتُمْ كَالْمَرْأَةِ الْحَامِلِ ، حَمَلَتْ فَلَمَّا أَتَمَّتْ أَمْلَصَتْ ، وَمَاتَ قَيِّمُهَا ، وَطَالَ تَأَيُّمُهَا ، وَوَرِثَهَا أَبْعَدُهَا . أَمَا وَاللّهِ مَا أَتَيْتُكُمْ اخْتِيَارا ؛ وَلكِنْ جِئْتُ إِلَيْكُمْ سَوْقا . وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَقُولُونَ : عَلِيٌّ يَكْذِبُ ، قَاتَلَكُمُ اللّهُ تَعَالَى ! فَعَلى مَنْ أَكْذِبُ ؟ أَعَلَى اللّهِ ؟ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ ! أَمْ عَلَى نَبِيِّهِ ؟ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَ بِهِ ! كَلاَّ وَاللّهِ ، لكِنَّهَا لَهْجَةٌ غِبْتُمْ عَنْهَا ، وَلَمْ تَكُونُوا مِنْ أَهْلِهَا . وَيْلُ امِّهِ كَيْلاً بِغَيْرِ ثَمَنٍ ! لَوْ كَانَ لَهُ وِعَاءٌ . وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ !

الشّرْحُ :أملصتِ الحامل : ألقتْ ولدها سقاطاً . وقيّمها : بعلها . وتأيّمها : خلوّها عن الأزواج ؛ يقول : لما شارفتم استئصالَ أهل الشام ، وظهرت أمارات الظّفر لكم ، ودلائل الفتح ، نكصتُم وجنحتم إلى السّلْم والإجابة إلى التحكيم عند رفع المصاحف ؛ فكنتم كالمرأةِ الحامل لما أتمّت أشهرَ حَمْلِها ألقت ولدها إلقاءَ غير طبيعيّ ؛ نحو أن تلقيَه لسقطةٍ أو ضربة أو عارض يقتضي أن تلقِيَه هالكاً . ثم لم يكتف لهم بذلك ، حتى قال : « ومات بعلُها ، وطال تأيّمها ، وورثها أبعدها » ، أي لم يكن لها ولد وهو أقربُ المخلفين إلى الميت ، ولم يكن لها بَعْلٌ فورثها الأباعد عنها ، كالسافلين من بني عمّ ، وكالمولاة تموت من غير ولد ولا من يجري مجراه ، فيرثُها مولاها ولا نَسب بينها وبينه . ثم أقسم أنه لم يأتهم اختيارا ، ولكنّ المقاديرَ ساقته إليهم سَوْقا ، يعني اضطرارا . وصدقَ عليه السلام ؛ لأ نّه لولا يوم الجمل لم يحتَجْ إلى الخروج من المدينة إلى العراق ،

.

ص: 221

وإنما استنجَد بأهْل الكوفة على أهل البصرة ، اضطرارا إليهم ؛ لأ نّه لم يكن جيشُه الحجازيّ وافيا بأهل البصرة الذين أصفقوا على حَرْبه ونكْث بيعته ، ولم يكن خروجه عن المدينة _ وهي دار الهجرة _ ومفارقته لقبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلموقبرِ فاطمة عن إيثارٍ ومحبّة ؛ ولكنّ الأحوال تحكم وتسوقُ الناس إلى ما لا يختارونه ابتداء . وقد روي هذا الكلام على وجه آخر : « ما أتيتكم اختيارا ، ولا جئت إليكم شوقا » بالشين المعجمة . ثم قال : « بلغني أنكم تقولون : يكذب » ؛ وكان كثيرا ما يخبر عن الملاحم والكائنات ويومئ إلى أُمور أخبره بها رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، فيقول المنافقون من أصحابه : يكذب كما كان المنافقون الأوّلون في حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم يقولون عنه : يكذب . ثم قال : « عَلَى مَنْ أكذِب ؟ » يقول : كيف أكذب على اللّه وأنا أوّل المؤمنين به ؟ وكيف أكذب على رسول اللّه وأنا أول المصدِّقين به ! أخرجه مخرج الاستبعاد لدعواهم وزعمهم . ثم قال عليه السلام : « كلاّ واللّه » ، أي لا واللّه . وقيل : إن « كلاّ » بمعنى « حقّا » وإنه إثبات . قال : « ولكنها لهجة غِبْتُم عنها » ، اللهجَة ، بفتح الجيم ؛ وهي آل النطق ؛ يقال له : هو فصيح اللهجة ، وصادق اللهجة . ويمكن أن يعنَى بها لهجة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، فيقول : « شهدت وغبتم » . ويمكن أن يعنى بها لهجتَه هو ؛ فيقول : إنها لهجة غبتم عن منافعها ، وأعدمتم أنفسكم ثمن مناصحتها . ثم قال : « ويلمّه » الضمير راجع إلى ما دلّ عليه معنى الكلام من العلم ؛ لأ نّه لما ذكر اللّهجة وشهودَه إياها وغيْبوبتهم عنها دلّ ذلك على علمٍ له خصّه به الرسول عليه السلام . فقال : « ويلمّه » ، وهذه كلمة تقال للتعجّب والاستعظام ؛ يقال : « ويلمّه فارسا ! » وتكتب موصولة كما هي بهذه الصورة ، وأصله « ويل أُمّه » مرادهم التعظيم والمدح ، وإن كان اللفظ موضوعا لضدّ ذلك . ثم قال عليه السلام : « كيلاً بغير ثمن لو كان له وعاء » ، انتصب « كيلا » لأ نّه مصدر في موضع الحال ، ويمكن أن ينتصب على التمييز ، كقولهم : للّه دره فارساً ! يقول : أنا أكِيلُ لكم العلم والحكمة كيْلا ولا أطلب لذلك ثمنا لو وجدت وعاء ! أي حاملاً للعلم ؛ وهذا مثل قوله عليه السلام : ها إنّ بين جنبيّ علماً جمّاً لو أجِد له حَمَلةً! ثم ختم الفصلَ بقوله تعالى : « وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ » ؛ وهو أحسن ما خُتمَ هذا الكلام به .

.

ص: 222

71 . من خطبة له عليه السلام علّم الناس فيها الصلاة على النبي صلى الله عليه و آله وسلم

71الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلام علّم فيها الناس الصلاة على النبيّ صلى الله عليه و آلهاللَّهُمَّ دَاحِيَ الْمَدْحُوَّاتِ ، وَدَاعِمَ الْمَسْمُوكَاتِ ، وَجَابِلَ الْقُلُوبِ عَلَى فِطْرَتِهَا : شَقِيِّهَا وَسَعِيدِهَا ؛ اجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِكَ ، وَنَوَامِيَ بَرَكَاتِكَ ، عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ الْخَاتِمِ لِمَا سَبَقَ ، وَالْفَاتِحِ لِمَا انْغَلَقَ ، وَالْمُعْلِنِ الْحَقَّ بِالْحَقِّ ، وَالدَّافِعِ جَيْشَاتِ الْأَبَاطِيلِ ، وَالدَّامِغِ صَوْلاَتِ الْأَضَالِيلِ ، كَمَا حُمِّلَ فَاضْطَلَعَ ، قَائِما بِأَمْرِكَ ، مُسْتَوْفِزا فِي مَرْضَاتِكَ ، غَيْرَ نَاكِلٍ عَنْ قُدُمٍ ، وَلاَ وَاهٍ في عَزْمٍ ، وَاعِيا لِوَحْيِكَ ، حَافِظا لَعَهْدِكَ ، مَاضِيا عَلَى نَفَاذِ أَمْرِكَ ؛ حَتَّى أَوْرَى قَبَسَ الْقَابِسِ ، وَأَضَاءَ الطَّرِيقَ لِلْخَابِطِ ، وَهُدِيتْ بِهِ الْقُلُوبُ بَعْدَ خَوْضَاتِ الْفِتَنِ وَالآثَامِ ، وَأَقَامَ بِمُوضِحَاتِ الْأَعْلاَمِ ، وَنَيِّرَاتِ الْأَحْكَامِ ، فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ ، وَخَازِنُ عِلْمِكَ الْمَخْزُونِ ، وَشَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ ، وَبَعِيثُكَ بِالْحَقِّ ، وَرَسُولُكَ إِلَى الْخَلْقِ . اللَّهُمَّ افْسَحْ لَهُ مَفْسَحا فِي ظِلِّكَ ؛ وَاجْزِهِ مُضَاعَفَاتِ الْخَيْر مِنْ فَضْلِكَ . اللَّهُمَّ وَأَعْلِ عَلَى بِنَاءِ الْبَانِينَ بِنَاءَهُ ، وَأَكْرِمْ لَدَيْكَ مَنْزِلَتَهُ ، وَأَتْمِمْ لَهُ نُورَهُ ، وَاجْزِهِ مِنْ ابْتِعَاثِكَ لَهُ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ ، مَرْضِيِّ الْمَقَالَةِ ، ذَا مَنْطِقٍ عَدْلٍ ، وَخُطْبَةٍ فَصْلٍ . اللَّهُمَّ اجْمَعْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فِي بَرْدِ الْعَيْشِ وَقَرَارِ النِّعْمَةِ ، وَمُنَى الشَّهَوَاتِ ، وَأَهْوَاءِ اللَّذَّاتِ ، وَرَخَاءِ الدَّعَةِ ، وَمُنْتَهَى الطُّمَأْنِينَةِ ، وَتُحَفِ الْكَرَامَةِ .

الشّرْحُ :دَحَوْتُ الرَّغيف دَحْوا : بسطَته ؛ والمدحُوّات هنا : الأرضون . وداحي المدحُوّات ، يَنتصب لأ نّه منادى مضاف ، تقديره : يا باسط الأرضين المبسوطات .

.

ص: 223

قوله : « وداعم المسموكات » ، أي حافظ السموات المرفوعات ؛ دعمتُ الشيء إذا حفظتَه من الهُوِيّ بدِعامة ، والمسموك : المرفوع . ويجوز أن يكون عَنَى بكونها مسموكة كونَها ثخينة . وسُمْك الجسم هو البعد الذي يعبّر عنه المتكلّمون بالعمْق . فإن قلتَ : كيف قال : إنه تعالَى دعمَ السماوات وهي بغير عَمد؟ قلت : إذا كان حافظا لها من الهويّ بقدرته وقوّته فقد صدق عليه كونُه داعما لها ؛ لأنّ قوته الحافظة تجري مجرى الدعامة . قوله : « وجابل القلوب » أي خالقها ، والجَبْل الخَلْق ، وجِبِلّة الإنسان : خِلْقَتُه ، وفِطراتها : بكسر الفاء وفتح الطاء : جمع فِطْرة ويجوز كسر الطاء ، كما قالوا في سِدْرة : سِدَرات وسِدِرات ، والفِطْرة : الحالة التي يفطِر اللّه عليها الإنسان ، أي يخلقه عليها خاليا من الآراء والديانات والعقائد والأهوية ؛ وهي ما يقتضيه محض العقل ؛ وإنما يختار الإنسان بسوء نظره ما يُفْضِي به إلى الشقوة ؛ وهذا معنى قول النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم : « كلّ مولود يُولدُ على الفطرة ، فإنما أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه » . قوله : « شقيّها وسعيدها » بَدَل من القلوب ، وتقدير الكلام : وجابل الشقيّ من القلوب والسعيد على ما فُطِرت عليه . والنوامي : الزوائد . والخاتم لما سبق ؛ أي لما سبق من المِلَل . والفاتح لما انغلق من أمر الجاهلية . والمعلن الحقّ بالحقّ ، أي المظهر للحقّ الذي هو خلاف الباطل بالحقّ ، أي بالحرب والخصومة ؛ يقال : حاقّ فلان فلانا فحقَّه ، أي خاصمه فَخصمَه . ويقال : ما فيه حقّ أي خصومة . قوله : « والدافع جيْشات الأباطيل » ، جمع جَيْشة ، من جاشت القدر إذا ارتفع غَلَيانُها . والأباطيل : جمع باطل على غير قياس ؛ والمراد أ نّه قامع ما نجم من الباطل . والدامغ : المهلك ، من دَمَغه أي شجّه حتى بلغ الدماغ ؛ ومع ذلك يكون الهلاك . والصّولات : جمع صوْلة وهي السطوة . والأضاليل : جمع ضلال على غير قياس . قوله : « كما حُمّل » ، أي لأجل أنه يحمل . وقوله : « كما حمّل » يعني حَمَل أعباء الرسالة . فاضطلع ، أي نهض بها قويّا ؛ فرس ضَليع أي قويّ ؛ وهي الضلاعة ، أي القوة . مستوفزا ، أي غير بطيء ، بل يحثُّ نفسَه ويُجْهدها في رضا اللّه سبحانه ، والوفز : العَجَلة ، والمستوفز : المستعجل . غير نَاكلٍ عن قُدُم ، أي غير جبان ولا متأخّر عن إقدام ، والمقدام : المتقدّم ؛ يقال مَضَى قُدُما أي تَقدّم وسار ولم يعرّج .

.

ص: 224

قوله : « ولا واهٍ في عزم » ؛ وَهَى ، أي ضعف ، والواهي : الضعيف . واعيا لوحيك ، أي فاهما، وَعَيْتُ الحديث ، أي فهمتَه وَعَقَلْتَه . ماضياً على نفاذ أمرك ؛ في الكلام حذف تقديره : ماضياً مصرّا على نفاذ أمرك ، كقوله تعالى : « في تسْع آيات إلى فِرْعَوْنَ » (1) ، ولم يقل : « مرسَلاً » ؛ لأنّ الكلام يدلّ بعضُه على بعض . وقوله : « حتى أوْرَى قبسَ القابس » ؛ يقال : ورى الزَّنْدُ ، يَرِي ؛ أي خرج ناره ، وأوريته أنا . والقَبَس : شعلة من النار ؛ والمراد بالقَبَس هاهنا نور الحق ، والقابس : الذي يطلب النار ، يقال : قَبَسْت منه نارا ، وأقبسني ناراً ؛ أي أعطانيها . قوله : « وأضاء الطريق للخابط » ، أي جعل الطريق للخابط مضيئة ، والخابط : الذي يسيرُ ليلاً على غيرِ جادّة واضحة . وهذه الألفاظ كلها استعارات ومجازات . وخَوْضات الفتن : جمع خَوْضَة ؛ وهي المرّة الواحدة ، من خُضْتُ الماء والوحل ، أخوضهما ، وتقدير الكلام : وهدِيتْ به القلوبُ إلى الأعلام الموضحة بعد أن خَاضَتْ في الفتن أطواراً . والأعلام ، جمع عَلَم ، وهو ما يستدلّ به على الطريق ، كالمنارة ونحوها . والموضِحة : التي توضح للناس الأُمور وتكشفها . ]والنيّرات ] : ذوات النور . قوله : « فهو أمينك المأمون » أي أمينُك على وحيك ، والمأمون من ألقاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . وخازن علمِك ، المخزون بالجرِّ صفة « علمِك » والعلم الإلهي المخزون : هو ما أطّلَع اللّه تعالى عليه ورسوله من الأُمور الخفيّة التي لا تتعلّق بالأحكام الشرعية كالملاحم وأحكام الآخرة وغير ذلك ، لأنّ الأُمور الشرعيّة لا يجوزُ أن تكون مخزونة عن المكلّفين . وقوله : « وشهيدُك يوم الدّين » ، أي شاهدك ، قال سبحانه : « فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلى هؤُلاء شَهِيدا » (2) . والبعيث : المبعوث « فعيل » بمعنى « مفعول » كقتيل وجريح وصريع . ومَفْسَحا مصدر ، أي وسِّع له مفسحا . وقوله : « في ظلك » يمكن أن يكون مجازا ، كقولهم : فلان يشمَلُني بظلّه ، أي بإحسانه وبرّه ، ويمكن أن يكون حقيقة ، ويعني به الظلّ الممدود الذي ذكره اللّه تعالى ، فقال : « وَظِلٍّ

.


1- .سورة النمل 12 .
2- .سورة النساء 41 .

ص: 225

مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكوبٍ » (1) . وقوله : « وأعل على بناء البانين بناءه » ، أي اجعل منزلته في دار الثواب أعلى المنازل . وأتمم له نورَه ، من قوله تعالى : « رَبَّنَا أتْمِمْ لَنَا نُورَنَا » (2) . وقد روِي أنه تُطفأ سائر الأنوار إلاّ نور محمد صلى الله عليه و آله وسلم ، ثم يعطى المخلصون من أصحابه أنوارا يسيرة يبصرون بها مواطئ الأقدام ، فيدعُون إلى اللّه تعالى بزيادة تلك الأنوار وإتمامها . ثم إن اللّه تعالى يتمّ نور محمد صلى الله عليه و آله وسلم ، فيستطيلُ حتى يملأ الآفاق ، فذلك هو إتمام نوره صلى الله عليه و آله وسلم . قوله : « من ابتعاثك له » ، أي في الآخرة . مقبول الشهادة ، أي مصدَّقاً فيما يشهد به على أُمّته وعلى غيرها من الأُمم . وقوله : « ذا منطق عَدْل » ، أي عادل ، وهو مصدر أقيم مقام اسم الفاعل ؛ كقولك : رجل فِطْر وصَوْم ، أي مفطر وصائم . وقوله : « وخطبة فصل » أي يخطب خطبة فاصلة يوم القيامة ، كقوله تعالى : « إنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ » (3) ، أي فاصل يفصل بين الحقّ والباطل ؛ وهذا هو المقام المحمود الذي ذكره اللّه تعالى في الكتاب ، فقال : « عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاما مَحْمُودا» (4) . قوله : « في بَرْد العيش » ؛ تقول العرب : عيش بارد ومعيشة باردة ، أي لا حَرْب فيها ولا نزاع ؛ لأنّ البرْد والسكون متلازمان كتلازم الحرّ والحركة . وقرار النعمة ، أي مستقرّها ، يقال : هذا قرار السَّيل ، أي مستقرّه . ومن أمثالهم : « لكلّ سائلة قرار » . ومُنَى الشهوات : ما تتعلّق به الشهوات من الأماني . وأهواء اللذات : ما تهواه النفوس وتستلذّه . والرخاء ، المصدر من قولك : رجل رخيّ البال فهو بيّن الرخاء ، أي واسع الحال . والدَّعة : السكون والطمأنينة ، وأصلها الواو . ومنتهى الطمأنينة . غايتها التي ليس بعدها غاية . والتُّحَف : جمع تحفة ؛ وهي ما يكرَم به الإنسان من البِرِّ واللَّطَف ، ويجوز فتح الحاء .

.


1- .سورة الواقعة 30 ، 31 .
2- .سورة التحريم 8 .
3- .سورة الطارق 13 ، 14 .
4- .سورة الإسراء 79 .

ص: 226

72 . من خطبة له عليه السلام قاله لمروان بن الحكم بالبصرة

72الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام قاله لمروان بن الحكم بالبصرةقالوا : أُخِذَ مَرْوان بن الحكم أَسيرا يوم الجمل، فاستشفع الحسن والحسين عليهماالسلامإِلى أَمير المؤمنين عليه السلام ؛ فكلَّماه فيه ، فَخَلَّى سبيله ، فقالا له : يبايعك يا أَمير المؤمنين ؟ فقا عليه السلام : أَوَلَمْ يُبَايِعْنِي بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ ؟ لاَ حَاجَةَ لِي فِي بَيْعَتِهِ ! إِنَّهَا كَفٌّ يَهُودِيَّةٌ ، لَوْ بَايَعَنِي بِيَدِهِ لَغَدَرَ بِسُبَّتِهِ أَمَا إِنَّ لَهُ إِمْرَةً كَلَعْقَةِ الْكَلْبِ أَنْفَهُ ، وَهُوَ أَبُو الْأَكْبُشِ الْأَرْبَعَةِ ، وَسَتَلْقَى الْأُمَّةُ مِنْهُ وَمِنْ وَلَدِهِ يَوْما أَحْمَرَ!

الشّرْحُ :قد رُوِي هذا الخبر من طرق كثيرة ، ورويت فيه زيادة لم يذكرها صاحب « نهج البلاغة » ، وهي قوله عليه السلام في مروان : « يَحْمِلُ رايةَ ضلالة بعدما يَشِيبُ صُدْغاه ، وإنّ له إمْرة ... » إلى آخر الكلام . وقوله : « فاستشفع الحسنَ والحسينَ إلى أمير المؤمنين عليه السلام » ، هو الوجه ، يقال : استشفعتُ فلاناً إلى فلان ؛ أي سألته أن يشفَع لي إليه ، وتشفّعت إلى فلان في فلان فشَفَّعني فيه تشفيعا . وقول الناس : « استشفعتُ بفلان إلى فلان » بالباء ليس بذلك الجيّد . وقول أمير المؤمنين عليه السلام : « أو لم يبايعني بعد قتل عثمان ! » أيْ وَقَدْ غدر ؛ وهكذا لو بايعني الآن . ومعنى قوله : « إنّها كفٌّ يهوديّة » أي غادرة ، واليهود تنسَب إلى الغدر والخبْث ، وقال تعالى : « لَتَجِدَنَّ أشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ » (1) . والسَّبَّة : الأست ، بفتح السين ، سبّه يسبّه أي طعنه في الموضع ؛ ومعنى الكلام محمولٌ

.


1- .سورة المائدة 82 .

ص: 227

73 . من خطبة له عليه السلام لما عزموا على بيعة عثمان

على وجهين : أحدهما : أن يكون ذكر السَّبّة إهانة له وغلظة عليه ، والعرب تسلُك مثل ذلك في خُطبها وكلامها . الوجه الثّاني : أن يريدَ بالكلام حقيقةً لا مجازا ؛ وذلك لأنّ الغادرَ من العرب كان إذا عَزَم على الغَدْر بعد عَهْدٍ قد عاهده أو عَقْدٍ قد عقده ، حَبَق استهزاء بما كان قد أظهره من اليمين والعهد ؛ وسُخرية وتهكّماً . والإمْرة : الولاية ، بكسر الهمزة . وقوله : « كَلَعْقَةِ الكلب أنفَه » ، يريد قِصَر المدَّة ، وكذلك كانت مدّة خلافة مَرْوان ، فإنّه ولِيَ تسعة أشهر . والأكبُش : الأربعة بنو عبد الملك : الوليد ، وسليمان ، ويزيد ، وهشام ؛ ولم يَلِ الخلافَةَ من بني أميّة ولا من غيرهم أربعة إخوة إلاّ هؤلاء . وكلّ الناس فَسَّرُوا الأكبُشَ الأربعة بمَنْ ذكرناه ؛ وعندِي أ نّه يجوز أن يعني به بني مَرْوان لصُلبه ؛ وهم : عبد الملك ، وعبد العزيز ، وبِشْر ، ومحمد ؛ وكانوا كِباشا أبطالاً أنجادا ، أمّا عبد الملك فَوَلِيَ الخلافة ، وأمّا بِشْر فَوَلِيَ العراق ، وأمّا محمد فَوَلِيَ الجزيرة ، وأمّا عبد العزيز فَوَلِيَ مصر ، ولكلّ منهم آثار مشهورة . وهذا التفسير أوْلى ؛ لأنّ الوليد وإخوته أبناء ابنه ، وهؤلاء بنوه لصُلْبه . ويقال لليوم الشديد : يوم أحمر ، وللسَّنَة ذاتِ الجَدْب : سَنة حَمْراء . وكلّ ما أخبره أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الكلام وَقَع كما أخبر به ؛ وكذلك قوله : « يحمل راية ضلالة بعد ما يشيب صُدغاه » ، فإنه ولِيَ الخلافة وهو ابن خمسة وستين في أعدل الروايات .

73الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام لمّا عزموا على بيعة عثمانلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِي ؛ وَوَاللّهِ لَأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلاَّ عَلَيَّ خَاصَّةً ، الْتِمَاسا لِأَجْرِ ذلِكَ وَفَضْلِهِ ، وَزُهْدا فِيمَا

.

ص: 228

تَنَافَسْتُمُوهُ مِنْ زُخْرُفِهِ وَزِبْرِجِهِ .

الشّرْحُ :نافست في الشيء مُنافسة ونِفاسا ؛ إذا رغبتَ فيه على وجه المباراة في الكرم ، وتنافسوا فيه ، أي رغبوا . والزّخرف : الذهب ، ثم شبه به كل مموّه مزوّر ، قال تعالى : « حَتَّى إذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَها » (1) والمزخرف : المزيّن . والزِّبرج : الزينة من وشيٍ أو جوهر ، ونحو ذلك . ويقال : الزبرج الذهب أيضا . يقول لأهلِ الشورى : إنكم تعلمون أنّي أحقّ بالخلافة من غيري ، وتعدلون عَنّي . ثم أقسم لَيُسْلِمَنَّ وليتركَنّ المخالفة لهم ، إذا كان في تسليمه ونزوله عن حَقِّه سلامةُ أُمور المسلمين ، ولم يكن الجوْرُ والحيْفُ إلاّ عليه خاصة ، وهذا كلام مثله عليه السلام ، لأ نّه إذا علم أو غلَب عَلَى ظنه أنه إن نازَع وحارَب دخل على الإسلام وَهَن وَثَلْم ، لم يَخْتَرْ له المنازعة وإن كان يطلب بالمنازعة ما هو حق ؛ وإن عَلِم أو غلَب على ظنّه بالإمساك عن طلب حقه أنما يدخل الثّلْم والوَهَن عليه خاصة ، ويسلم الإسلامُ من الفتنة ، وَجَب عليه أنْ يُغضِيَ ويصبر على ما أتوْا إليه من أخذ حقّه ، وكفّ يده ؛ حراسة للإسلام من الفتنة . فإن قلت : فهلاّ سلّم إلى معاوية وإلى أصحاب الجَمل ، وأغضَى على اغتصاب حَقّه حفظا للإسلام من الفتنة؟ قلت : إنّ الجورَ الداخل عليه من أصحاب الجمل ومن معاوية وأهل الشام ، لم يكن مقصورا عليه خاصّة ؛ بل كان يعمّ الإسلام والمسلمين جميعا ؛ لأنهم لم يكونوا عنده ممن يصلُح لرياسة الأُمّة وتحمّل أعباء الخلافة ، فلم يكن الشَّرْط الذي اشترطه متحقّقا ، وهو قوله : « ولم يكن فيه جَوْر إلاّ عليّ خاصة » . وهذا الكلام يدلّ على أ نّه عليه السلام لم يكن يذهب إلى أنّ خلافة عثمان كانت تتضمّن جورا على المسلمين والإسلام ، وإنّما كانت تتضمّن جورا عليه خاصّة ، وأنّها وقعت على جهة مخالفة الأَولى ؛ لا على جهة الفساد الكلي والبطلان الأصلي (2) . وهذا محض

.


1- .سورة يونس 24 .
2- .كيف لا يتصوّر وقوع الجور على المسلمين إذا كانت نتيجة الشورى صعود سدة الحكم وكرسي الخلافة أحد هؤلاء المتنافسين على زخرف الدنيا وزبرجها ؟ وكيف كانت بيعة عثمان صحيحة ؟ وهي تتضمن الجور عليه ؛ لأنهم أكرهوه عليه السلام وأرادوا قتله ، كما أنّها تضمنت مفاسد عظيمة من ركوب بني أُميّة _ أمثال مروان والوليد وغيرهما _ رقاب المسلمين والعبث بمقدراتهم ، فكانت أُمور المسلمين غير سالمة ، لمنافاة سياسة الخليفة نفسه للكتاب والسنّة ؛ فمن الطبيعي أن لا يسكت الإمام عليه السلام على هذه السياسة .

ص: 229

74 . من خطبة له عليه السلام لما بلغه اتهام بني اُميّة له بالمشاركة في دم عثمان

مذهب أصحابنا .

74الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام لما بلغه اتهام بني أُميّة له بالمشاركة في دم عثمانأَوَ لَمْ يَنْهَ بَنِي أُمَيَّةَ عِلْمُهَا بِي عَنْ قَرْفي ؟ أَوَ مَا وَزَعَ الْجُهَّالُ سَابِقَتِي عَنْ تُهَمَتِي ! وَلَمَا وَعَظَهُمُ اللّهُ بِهِ أَبْلَغُ مِنْ لِسَانِي . أَنَا حَجِيجُ الْمَارِقِينَ ، وَخَصِيمُ النَّاكِثِينَ الْمُرْتَابِينَ ، وَعَلَى كِتَابِ اللّهِ تُعْرَضُ الْأَمْثَالُ ، وَبِمَا فِي الصُّدُورِ تُجَازَى الْعِبَادُ!

الشّرْحُ :القَرْف : العيب ؛ قرفتُه بكذا أي عبته . ووزَع : كَفّ وَردَع ؛ ومنه قوله : « لابدّ للناس من وَزَعة » ، جمع وازع ، أي من رؤساء وأُمراء . والتُّهمَة ، بفتح الهاء ؛ هي اللغة الفصيحة ؛ وأصل التاء فيه واو . والحجيج ، كالخصيم : ذو الحجاج والخصومة . يقول عليه السلام : أمَا كان في عِلْم بني أميّة بحالي ما ينهاها عن قَرْفي بدم عثمان ! وحاله التي أشار إليها ؛ وذكَر أنّ عِلْمَهم بها يقتضي ألاّ يقرِفوه بذلك ؛ هي منزلته في الدِّين التي لا منزلةَ أعلى منها ، وما نطق به الكتاب الصادق من طهارته وطهارة بنيه وزوجته ؛ في قوله : « إنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا » (1) . وقول النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم : « أنْتَ مِني بمنزلة هارون من موسى » ، وذلك

.


1- .سورة الأحزاب 33 .

ص: 230

75 . من خطبة له عليه السلام في الزهد

يقتضي عصمته عن الدّم الحرام ؛ كما أنّ هارون معصوم عن مثل ذلك . وترادف الأقوال والأفعال من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في أمره التي يضطرّ معها الحاضرون لها والمشاهدون إيّاها إلى أن مثله لا يجوز أن يسعى في إراقةِ دم أمير مسلم . ثم قال « ألم تَزَعِ الجهال وتردعُهم سابقتي عن تهمتي » ! وهذا الكلام تأكيد للقول الأوّل . ثم قال : إن الذي وعظهم اللّه تعالى به في القرآن من تحريم الغيبة والقذف وتشبيه ذلك بأكل لحم الميت أبلغُ من وعظي لهم ، لأ نّه لا عظةَ أبلغُ من عظة القرآن . ثم قال : « أنا حَجِيج المارقين ، وخَصِيم المرتابين » ، يعني يوم القيامة ؛ روي عنه عليه السلام أنه قال : « أنا أوّلُ من يَجْثُو للحكومة بين يدِي اللّه تعالى » ، وقد رُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه و آله وسلممثل ذلك مرفوعا في قوله تعالى : « هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ » (1) وأنه صلى الله عليه و آله وسلم سئل عنها ، فقال : « عليّ وحمزة وعُبيدة ، وعُتْبة وشَيْبة والوليد » ، وكان حادثتُهم أوّلَ حادثة وقعت فيها مبارزة أهل الإيمان لأهل الشرك ، وكان المقتول الأول بالمبارزة الوليد بن عُتْبة ، قتلَه علي عليه السلام ، ضربه على رأسه فبدرَتْ عيناه على وجنته ، فقال النبي صلى الله عليه و آله وسلم فيه وفي أصحابه ما قال ، وكان علي عليه السلام يكثر من قوله : « أنا حجيج المارقين » ، ويشير إلى هذا المعنى . ثم أشار إلى ذلك بقوله : « على كتاب اللّه تعرض الأمثال » ، يريد قوله تعالى : « هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ » . ثم قال : « وبما في الصدور تجازى العباد » إن كنت قتلتُ عثمان أو مالأت عليه ؛ فإنّ اللّه تعالى سيجازينِي بذلك ، وإلاّ فسوف يجازِي بالعقوبة والعذاب من اتَّهمني به ، ونسبه إليّ.

75الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامرَحِمَ اللّهُ امْرَأً سَمِعَ حُكْما فَوَعَى ، وَدُعِيَ إِلَى رَشَادٍ فَدَنَا ، وَأَخَذَ بِحُجْزَةِ هَادٍ

.


1- .سورة الحج 19 .

ص: 231

76 . من خطبة له عليه السلام في شأن بني اُميّة

فَنَجَا . رَاقَبَ رَبَّهُ ، وَخَافَ ذَنْبَهُ ، قَدَّمَ خَالِصا ، وَعَمِلَ صَالِحا . اكْتَسَبَ مَذْخُورا ، وَاجْتَنَبَ مَحْذُورا ، وَرَمى غَرَضا ، وَأَحْرَزَ عِوَضا . كَابَرَ هَوَاهُ ، وَكَذَّبَ مُنَاهُ . جَعَلَ الصَّبْرَ مَطِيَّةَ نَجَاتِهِ ، وَالتَّقْوى عُدَّةَ وَفَاتِهِ . رَكِبَ الطَّرِيقَةَ الْغَرَّاءَ ، وَلَزِمَ الْمَحَجَّةَ الْبَيْضَاءَ . اغْتَنَمَ الْمَهَلَ ، وَبَادَرَ الْأَجَلَ ، وَتَزَوَّدَ مِنْ الْعَمَلِ .

الشّرْحُ :الحُكْم هاهنا : الحِكْمة ، قال سبحانه : « وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيّا» (1) ، ووعى : حفظ ، وعيتُ الحديث أعيه وعياً ، وأُذنٌ واعيةٌ ، أي حافظة . ودنا : قَرُب . والْحُجزة : معقِد الإزار ؛ وأخذ فلان ؛ بحجزة فلان إذا اعتصم به ولجأ إليه . ثم حذف عليه السلام الواو في اللفظات الأُخر فلم يقل : « وراقب ربه » ، ولا « وقدّم خالصاً » ، وكذلك إلى آخر اللفظات ؛ وهذا نوع من الفصاحة كثير في استعمالهم . واكتسب ، بمعنى كسب ، يقال : كسبت الشيء واكتسبته بمعنى . والغَرَض : ما يرمَي بالسهام ، يقول : رحِم اللّه امرأ رمي غَرَضا ، أي قَصد الحَقّ كمن يرمى غرضا يَقصده ، لا من يرمى في عمياء لا يقصد شيئا بعينه . والعوض المحرَز هاهنا : هو الثواب . وقوله : « كابر هواه » أي غالبه . وروي « كاثر » بالثاء المنقوطة بالثلاث ؛ أي غالب هواه بكثرة عقله ، يقال : كاثرناهم فكثرناهم ، أي غلبناهم بالكثرة . وقوله : « وكَذَّب مُنَاه » أي أمنيَّته . والطريقة الغرّاء : البيضاء . والمَهَل : النّظر والتُّؤَدة .

76الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلامإِنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَيُفَوِّقُونَني تُراثَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ تَفْوِيقا ، وَاللّهِ لَئِنْ بَقِيتُ

.


1- .سورة مريم 12 .

ص: 232

لَهُمْ لَأَنْفُضَنَّهُمْ نَفْضَ اللَّحَّامَ الْوِذَام التَّرِبَةَ .

قال الرضي رحمه الله : ويروى « التراب الوَذَمَة » ، وهو على القلب (1) . وقوله عليه السلام : « لَيُفَوّقونَني » أي يعطونني من المال قليلاً كفُواق الناقة ، وهو الحلبة الواحدة من لبنها . والوِذامُ التّرِبةُ : جمع وَذَمة ، وهي الحُزّة من الكرش أو الكبد تقع في التراب فتنفض .

الشّرْحُ :اعلم أنّ أصل هذا الخبر قد رواه أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهانيّ في كتاب « الأغاني » (2) بإسناد رفعه إلى الحارث بن حبيش ، قال : بعثني سعيد بن العاص _ وهو يومئذٍ أمير الكوفة من قِبَل عثمان _ بهدايا إلى المدينة ، وبعث معي هدية إلى عليّ عليه السلام وكتب إليه : إني لم أبعثْ إلى أحدٍ أكثر مما بعثت به إليك ، إلاّ إلى أمير المؤمنين . فلما أتيت عليا عليه السلام وقرأ كتابه ، قال : « لشدَّ ما يحظر عليّ بنو أُميّة تراثَ محمد صلى الله عليه و آله وسلم ! أما واللّه لئن وليتُها لأنفضنّها نَفْضَ القَصّاب التراب الوذِمة » (3) . 4

.


1- .على القلب ، أي يراد بهذه الرواية مقلوبها ، وهي الرواية الأُولى : « الوِذَام التربة » . اُلحزّة : القطعة . اللّحام : الذي يبيع اللّحم .
2- .الأغاني 12 : 144 ط. دار الكتب .
3- .يقسم الإمام عليه السلام لئن تولّى الخلافة ليردّن الأموال التي اغتصبها الأُمويين إلى بيت المال ، ولا يبقي شيئا منها كما ينفض القصّاب التراب عن الكرش إذا أصابه .

ص: 233

77 . من خطبة له عليه السلام يدعو بها

78 . من خطبة له عليه السلام قاله لبعض أصحابه لما عزم على المسير إلى الخوارج وقوله في النجوم

77الأصْلُ :ومن كلمات كان عليه السلام يدعو بهااللَّهُمَّ اغْفِر لِي مَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي ، فَإِنْ عُدْتُ فَعُدْ عَلَيَّ بِالْمَغْفِرَةِ . اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا وَأَيْتُ مِنْ نَفْسِي ، وَلَمْ تَجِدْ لَهُ وَفَاءً عِنْدِي . اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا تَقَرَّبْتُ بِهِ إِلَيْكَ بِلِسَانِي ، ثُمَّ خَالَفَهُ قَلْبِي . اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي رَمَزَاتِ الألْحَاظِ ، وَسَقَطَاتِ الألْفَاظِ ، وَسَهَوَاتِ الْجَنَانِ ، وَهَفَوَاتِ اللِّسَانِ .

الشّرْحُ :وأيتُ ، أي وعدت ، والوأي الوعد . ورمزات الألحاظ : الإشارة بها . والألحاظ : جمع لَحظ ، بفتح اللام ، وهو مُؤخَر العين . وسقَطات الألفاظ : لغوها ، وسهوات الجنان : غَفلاته ، والجَنان : القلْبُ . وهَفَوات اللسان : زلاّته .

78الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام قاله لبعض أصحابه لما عزم على المسير إلى الخوارجوقد قال له : إن سرت يا أمير المؤمنين في هذا الوقت ، خشيت ألاّ تظفر بمرادك

.

ص: 234

_ من طريق علم النجوم _ فقال عليه السلام : أَتَزْعَمُ أَنَّكَ تَهْدِي إِلَى السَّاعَةِ الَّتِي مَنْ سَارَ فِيهَا صُرِفَ عَنْهُ السُّوءُ ؟ وَتُخَوِّفُ مِنَ السَّاعَةِ الَّتِي مَنْ سَارَ فِيهَا حَاقَ بِهِ الضُّرُّ ؟ فَمَنْ صَدَّقَكَ بِه_ذَا فَقَدْ كَذَّبَ الْقُرْآنَ ، وَاسْتَغْنى عَنِ الاْسْتِعَانَةِ بِاللّهِ فِي نَيْلِ الْمَحْبُوبِ وَدَفْعِ الْمَكْرُوهِ ؛ وَتَبْتَغِي فِي قَوْلِكَ لِلْعَامِلِ بِأَمْرِكَ أَنْ يُولِيَكَ الْحَمْدَ دُونَ رَبِّهِ ، لِأَنَّكَ _ بِزَعْمِكَ _ أَنْتَ هَدَيْتَهُ إِلَى السَّاعَةِ الَّتِي نَالَ فِيهَا النَّفْعَ ، وَأَمِنَ الضُّرَّ !! ثم أقبل عليه السلام على الناس فقال : أَيُّهَا النَّاسُ ، إِيَّاكُمْ وَتَعَلُّمَ النُّجُومِ ، إِلاَّ مَا يُهْتَدَى بِهِ فِي بَ_رٍّ أَوْ بَحْرٍ ، فَإِنَّهَا تَدْعُو إِلَى الْكَهَانَةِ ، وَالْمُنَجِّمُ كَالْكَاهِنِ ، وَالْكَاهِنُ كَالسَّاحِرِ ، وَالسَّاحِرُ كَالْكَافِرِ ! وَالْكَافِرُ فِي النَّارِ ! سِيرُوا عَلَى اسْمِ اللّهِ .

الشّرْحُ :حاق به الضرّ ، أي أحاط به ؛ قال تعالى : « وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السّيّءُ إلاَّ بِأَهْلِهِ » (1) . ويوليك الحمد ، مضارع « أولاك » ؛ وأولاك معدّىً بالهمزة من « وَليَ » ، يقال : وليَ الشيء ولايةً وأوليته ذلك ؛ أي جعلته واليا ومتسلّطا عليه . والكاهن : واحد الكُهّان وهم الذين كانوا يخبرون عن الشياطين بكثير من الغائبات . إلاّ أن المعلومَ ضرورة من دين رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلمإبطال حكم النجوم وتحريم الاعتقاد بها والنهي والزجر عن تصديق المنجّمين ، وهذا معنى قول أمير المؤمنين في هذا الفصل : « فمن صدقك بهذا فقد كذّب القرآن ، واستغنى عن الاستعانة باللّه » . ثم أردف ذلك وأكّده بقوله : كان يجب أن يحمَد المنجم دون الباري تعالى ؛ لأنّ المنجم هو الذي هدى الإنسان إلى الساعة التي ينجح فيها ، وصدَّه عن الساعة التي يخفق ويُكْدِي فيها فهو المحسن إليه إذا ، والمحسن يستحقّ الحمد والشكر ، وليس للبارئ سبحانه إلى الإنسان في هذا الإحسان المخصوص ؛ فوجب ألاَّ يستحقّ الحمد على ظَفَر الإنسان بطلبه ؛ لكنّ القول بذلك والتزامه كفر محْضٌ .

.


1- .سورة فاطر 43.

ص: 235

79 . من خطبة له عليه السلام بعد فراغه من حرب الجمل في ذم النساء

80 . من خطبة له عليه السلام في الزهد

79الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام بعد فراغه من حرب الجمل في ذمّ النساءمَعَاشِرَ النَّاسِ ، إِنَّ النّ_ِسَاءَ نَوَاقِصُ الإيمَانِ ، نَوَاقِصُ الْحُظُوظِ نَوَاقِصُ الْعُقُولِ : فَأَمَّا نُقْصَانُ إِيمَانِهِنَّ فَقُعُودُهُنَّ عَنِ الصَّلاَةِ والصِّيَامِ فِي أَيَّامِ حَيْضِهِنَّ ، وَأَمَّا نُقْصَانُ عُقُولِهِنَّ فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ كَشَهَادَةِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ ، وَأَمَّا نُقْصَانُ حُظُوظِهِنَّ فَمَوارِيثُهُنَّ عَلى الْأَنْصَافِ مِنْ مَوَارِيثِ الرِّجَالِ . فَاتَّقُوا شِرَارَ النِّسَاءِ ، وَكُونُوا مِنْ خِيَارِهِنَّ عَلَى حَذَرٍ ، وَلاَ تُطِيعُوهُنَّ فِي الْمَعْرُوفِ حَتَّى لاَ يَطْمَعْنَ فِي الْمُنْكَرِ .

الشّرْحُ :جَعَل عليه السلام نقصانَ الصّلاة نقصانا في الإيمان، وهذا هو قولُ أصحابِنا: إنّ الأعمال من الإيمان، وإنّ المقرّ بالتوحيد والنبوّة، وهو تارك للعمل ليس بمؤمن . وقوله عليه السلام «ولا تطيعوهنّ في المعروف»، ليس بنهي عن فعل المعروف ؛ وإنما هو نهي عن طاعتهنّ، أي لا تفعلوه لأجل أمرهنّ لكم بهِ، بل افعلوه لأ نّه معروف، والكلام ينحو نحو المثل المشهور: «لا تعط العبد كُراعا فيأخذ ذراعا» . وهذا الفصل كلّه رمز إلى عائشة، ولا يختلفُ أصحابنا في أنها أخطأت فيما فعلت .

80الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلامأَيُّهَا النَّاسُ ، الزَّهَادَةُ قِصَرُ الْأَمَلِ ، وَالشُّكْرُ عِنْدَ النِّعَمِ ، وَالتَّوَرُّعُ عِنْدَ الْمَحَارِمِ ،

.

ص: 236

81 . من خطبة له عليه السلام في صفة الدنيا

فَإِنْ عَزَبَ ذلِكَ عَنْكُمْ فَلاَ يَغْلِبِ الْحَرَامُ صَبْرَكُمْ ، وَلاَ تَنْسَوْا عِنْدَ النِّعَمِ شُكْرَكُمْ ، فَقَدْ أَعْذَرَ اللّهُ إِلَيْكُمْ بِحُجَجٍ مُسْفِرَةٍ ظَاهِرَةٍ ، وَكُتُبٍ بَارِزَةِ الْعُذْرِ وَاضِحَةٍ .

الشّرْحُ :فسّر عليه السلام لفظ الزّهّادة ، وهي الزّهد ، بثلاثة أُمور وهي : قِصر الأمل ، وشكر النعمة ، والورَع عن المحارم ، فقال : لا يسمّى الزّاهد زاهدا حتى يستكمِل هذه الأُمور الثلاثة ، ثم قال : « فإن عزب ذلك عنكم » ، أي بَعُدَ ، فأمران من الثلاثة لابدّ منهما ؛ وهما الورع وشكر النعم ، جعلهما آكد وأهمّ من قصر الأمل . واعلم أنّ الزهد في العُرْف المشهور هو الإعراض عن متاع الدنيا وطيباتها، لكنه لما كانت الأُمور الثلاثة طريقا موطئة إلى ذلك أطلَق عليه السلام لفظ الزهد عليها على وجه المجاز . وقوله : « فقد أعذر اللّه إليكم » أي بالغ ؛ يقال : أعذَر فلان في الأمر أي بالغ فيه ، ويقال : ضُرِب فلان فأعذر ، أي أشرف على الهلاك ؛ وأصل اللفظة من العذر ؛ يريد أنه قد أوضحَ لكم بالحجج النيّرة المشرقة ما يجب اجتنابُه ، وما يجب فعله ؛ فإن خالفتم استوجبتُم العقوبة ؛ فكان له في تعذيبكم العذر .

81الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام في صفة الدنيامَا أَصِفُ مِنْ دَارٍ أَوَّلُهَا عَنَاءٌ ، وَآخِرُهَا فَنَاءٌ ! فِي حَلاَلِهَا حِسَابٌ ، وَفِي حَرَامِهَا عِقَابٌ . مَنِ اسْتَغْنَى فِيهَا فُتِنَ ، وَمَنِ افْتَقَرَ فِيهَا حَزِنَ ، وَمَنْ سَاعَاهَا فَاتَتْهُ ، وَمَنْ قَعَدَ عَنْهَا وَاتَتْهُ ، وَمَنْ أَبْصَرَ بِهَا بَصَّرَتْهُ ، وَمَنْ أَبْصَرَ إِلَيْهَا أَعْمَتْهُ .

.

ص: 237

قال الرضي رحمه الله : أقول : وإذا تأمل المتأمل قوله عليه السلام : « وَمَنْ أَبْصَرَ بِهَا بصّرَتْهُ » ، وجد تحته من المعنى العجيب ، والغرض البعيد ، ما لا يُبلغ غايته ولا يدرك غوره ، لا سيما إذا قرن إليه قوله : « وَمَنْ أَبْصَرَ إلَيْهَا أعْمَتْهُ » فإنه يجد الفرق بين « أبصر بها » و « أبصر إليها » واضحا نيّرا ، وعجيبا باهرا .

الشّرْحُ :العناء : التعب . وساعاها : جاراها سعيا . وواتته : طاوعته . ونظر الرضيّ إلى قوله . « أولها عناء وآخرها فناء » ، فقال : وأوّلُنا العناء إذا طَلَعْنَاإلى الدنيا وآخُرنا الذهابُ ونظر إلى قوله عليه السلام «في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب» بعض الشعراء فقال : حَلاَلُها حسرةٌ تُفضِي إلى نَدَمٍوفي المحارمِ مِنْها الغنمُ مَنْزورُ ونظر ابن المعتزّ إلى قوله عليه السلام : « مَنْ ساعاها فاتتْه ، ومن قعد عنها واتته » فقال : الدنيا كظلّك ، كلّما طلبته زاد منك بعداً . ونظرتُ إلى قوله عليه السلام : « ومَنْ أبصر بها بصرته ، ومن أبصر إليها أعمته » ، فقلت : دُنْيَاكَ مثلُ الشَّمْسِ تُدنى إليْ__ك الضوءَ لكن دعوة المُهْلِكْ إن أنت أبصرتَ إلى نورِهاتَعْشَ ، وإن تبصرْ به تدركْ فإن قلت : المسموع : أبصرت زيدا ، ولم يسمع أبصرت إلى زيد ، قلت : يجوز أن يكون قوله عليه السلام : « ومن أبصر إليها » ، أيْ ومن أبصر متوجهاً إليها ، كقوله : « فِي تِسْع آيَاتٍ إلَى فِرْعَوْنَ » (1) ولم يقل « مرسلاً » ؛ ويجوز أن يكون أقام ذلك مقام قوله « نظر إليها » لما كان مثله ، كما قالوا في « دخلت البيت » ، « ودخلت إلى البيت » أجروْه مجرَى « ولجت إلى البيت » لَمّا كان نظيره .

.


1- .سورة النمل 12 .

ص: 238

82 . من خطبة له عليه السلام ، وتسمّى بالغراء

82الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلام ؛ وتسمى بالغراء ؛ وهي من الخطب العجيبةالْحَمْدُ للّهِ الَّذِي عَلاَ بِحَوْلِهِ ، وَدَنَا بِطَوْلِهِ ، مَانِحِ كُلِّ غَنِيمَةٍ وَفَضْلٍ ، وَكَاشِفِ كُلِّ عَظِيمَةٍ وَأَزْلٍ . أَحْمَدُهُ عَلَى عَوَاطِفِ كَرَمِهِ ، وَسَوَابِغِ نِعَمِهِ ، وَأُومِنُ بِهِ أَوَّلاً بَادِيا ، وَأَسْتَهْدِيهِ قَرِيبا هَادِيا ، وَأَسْتَعِينُهُ قَاهِرا قَادِرا ، وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ كَافِيا نَاصِرا ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدا _ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ _ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، أَرْسَلَهُ لإِنْفَاذِ أَمْرِهِ ، وَإِنْهَاءِ عُذْرِهِ وَتَقْدِيمِ نُذُرِهِ .

الشّرْحُ :الحوْل : القوّة . والطّول : الإفضال ، والمانح : المعطي . والأزْل ، بفتح الهمزة : الضيق والحبس . والعواطف : جمع عاطفة وهي ما يعطفك على الغير ، ويدنيه مِنْ معروفك ، والسوابغ : التوامّ الكوامل ؛ سبَغَ الظِّلُّ ؛ إذا عَمّ وشمل . و « أوَّلاً » هاهنا منصوب على الظرفية ؛ كأنه قال : قبل كلّ شيء . والأوّل نقيض الآخر أصله « أوْءَل » على « أفعل » مهموز الوسط ، قلبت الهمزة واوا وأُدغم ، يدلّ على ذلك قولهم : « هذا أوَّلُ منْك » والإتيان بحرف الجرّ دليل على أنه « أفعل » ، كقولهم : هذا أفضل منك ؛ وجمعه على أوائل وأوالٍ أيضا على القلب . والإنهاء : الإبلاغ ، أنهيتُ إليه الخبرَ فانتهى ؛ أي بلغ ؛ والمعنى أنّ اللّه تعالى أعذر إلى خلقه وأنذرهم ؛ فإعذارُه إليهم أنْ عرّفهم بالحجج العقليّة والسمعية أنّهم إنْ عصوه استحقُّوا العقاب ؛ فأوضح عذرَه لهم في عقوبته إيّاهم على عصيانه . وإنذاره لهم : تخويفه إياهم من عقابه . وفي هذا الفصل ضروب من البديع ؛ فمنها أنّ « دنا » في مقابلة « علا » لفظا ومعنى ؛ وكذلك « حوله » و « طوله » . فإن قلت : لا ريبَ في تقابل « دنا » و « علا » من حيث المعنى واللفظ ؛ وأما « حوله » و

.

ص: 239

« طوله » فإنهما يتناسبان لفظا ؛ وليسا متقابلين معنى ؛ لأنهما ليسا ضدّين ، كما في العلوّ والدنوّ . قلت : بل فيهما معنى التضادّ ، لأنّ الحول هو القوّة ، وهي مشعرة بالسَّطْوة والقهر ، ومنه منشأ الانتقام ، والطَّوْل : الإفضال والتكرّم ، وهو نقيض الانتقام والبطش . ومنها أن « مانحاً » في وزن « كاشف » و « غنيمة » بإزاء « عظيمة » في اللفظ ، وضدها في المعنى ؛ وكذلك « فضل » و « أزل » . ومنها أن « عواطف » بإزاء « سوابغ » و « نِعَمه » بإزاء « كرمه » . ومنها _ وهو ألطف ما يُستعمله أرباب هذا الصناعة _ : أنَّه جعل « قريبا هاديا » ، مع قوله : « أستهديه » ؛ لأنّ الدليل القريب منك أجدرُ بأن يهديَك من البعيد النازح ، ولم يجعله مع قوله : « وأستعينه » ؛ وجعل مع الاستعانة « قاهراً قادرا » ؛ لأنّ القادر القاهر يليقُ أن يستعان ويستنجدَ به ؛ ولم يجعله قادرا قاهرا مع التوكّل عليه ، وجعل مع التوكل « كافياً ناصراً » ؛ لأنّ الكافيَ الناصر أهلٌ لأنْ يتوكّل عليه . وهذه اللطائف والدقائق من معجزاته عليه السلام التي فات بها البلغاءَ ، وأخرس الفصحاء .

الأصْلُ :أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللّهِ بِتَقْوَى اللّهِ الَّذِى ضَرَبَ لكم الْأَمْثَالَ ، وَوَقَّتَ لَكُمُ الآجَالَ ، وَأَلْبَسَكُمُ الرِّيَاشَ ، وَأَرْفَغَ لَكُمُ الْمَعَاشَ ، وَأَحَاطَ بِكُمُ الإحْصَاءَ ، وَأَرْصَدَ لَكُمُ الْجَزَاءَ ، وَآثَرَكُمْ بِالنِّعَمِ السَّوَابِغِ ، وَالرِّفَدِ الرَّوَافِغِ ، وَأَنْذَرَكُمْ بِالْحُجَجِ الْبَوَالِغِ ، فَأَحْصَاكُمْ عَدَدَا ، وَوَظَّفَ لَكُمْ مُدَدا ، فِي قَرَارِ خِبْرَةٍ ، وَدَارِ عِبْرَةٍ ، أَنْتُمْ مُخْتَبَرُونَ فِيهَا ، وَمُحَاسَبُونَ عَلَيْهَا .

الشّرْحُ :وقّت وأقّت بمعنى ؛ أي جعل الآجال لوقتٍ مقدّر . والرياش والرّيش واحد ؛ وهو اللباس ، قال تعالى : « يُوَارِي سَوْءاتِكُم وَرِيشا » (1) . وقُرئ « ورياشاً » ، ويقال : الرياش : الخِصْب

.


1- .سورة الأعراف 26 .

ص: 240

والغنى ، ومنه ارتاش فلان ، حَسُنت حالُه ، ويكون لفظ « ألبسكم » مجازا إن فُسِّر بذلك . وأرفغَ لكم المعاش ؛ أي جعله رفيغا ، أي واسعا مخصِبا ؛ يقال : رفُغ _ بالضمّ _ عيشُه رَفاغة ، اتسع ، فهو رافغ ورفيغ ، وترفّغ الرجل ، وهو في رفاغيَة من العيش ، مخففاً ، مثل « رَفَاهِيَة » و « ثمانية » . وقوله : « وأحاط بكم الإحصاء » أي أحاط بكم حفظته وملائكته للإحصاء . قوله : « وأرصد » يعني أعدّ ، وفي الحديث : « إلاّ أن أرصُدَه لديْن عليّ » . وآثرَكم من الإيثار ، وأصله أن تقدِّم غيرَك على نفسك في منفعة أنت قادرٌ على الاختصاص بها وهو في هذا الموضع مجاز مستحسَن . والرِّفَد : جمع رِفْدَة ، مثل كِسْرة وكِسَر ، وفِدْرةٍ وفِدَر . والرِّفدة والرِّفَد واحد ، وهي العطيّة والصِّلَة ورَفدت فلاناً رَفْدا بالفتح ، والمضارع أرفِده بكسر الفاء ، ويجوز « أرفدته » بالهمزة . والروافغ : الواسعة . والحجج البوالغ : الظاهرة المبينة ، قال سبحانه : « فَلِلّهِ الحُجَّةُ الْبَالِغَةُ » (1) . ووظَّف لكم مددا ، أي قدّر ، ومنه وظيفة الطعام . وقرار خِبْرة بكسر الخاء ، أي دار بلاء واختبار ، تقول : خبرت زيدا أخبرُه خُبْرة ، بالضم فيهما ، وخِبْرة بالكسر إذا بلوته واختبرتَه . ودار عِبْرة أي دار اعتبار واتّعاظ ، والضمير في « فيها » و « عليها » ليس واحدا ، فإنّه في « فيها » يرجع إلى الدار ، وفي « عليها » يرجع إلى النعم والرِّفَدِ ، ويجوز أن يكون الضمير في « عليها » عائدا إلى الدار على حذف المضاف ، أي على سكانها .

الأصْلُ :فَإِنَّ الدُّنْيَا رَنِقٌ مَشْرَبُهَا ، رَدِغٌ مَشْرَعُهَا ، يُونِقُ مَنْظَرُهَا ، وَيُوبِقُ مَخْبَرُهَا . غُرُورٌ حَائِلٌ ، وَضَوْءٌ آفِلٌ ، وَظِلٌّ زَائِلٌ ، وَسِنَادٌ مَائِلٌ ، حَتَّى إِذَا أَنِسَ نَافِرُهَا ، وَاطْمَأَنَّ نَاكِرُهَا ، قَمَصَتْ بِأَرْجُلِهَا ، وَقَنَصَتْ بِأَحْبُلِهَا ، وَأَقْصَدَتْ بِأَسْهُمِهَا ، وَأَعْلَقَتِ الْمَرْءَ أَوْهَاقَ الْمَنِيَّةِ قَائِدَةً لَهُ إِلى ضَنْكِ الْمَضْجَعِ ، وَوَحْشَةِ الْمَرْجِعِ ، وَمُعَايَنَةِ الْمَحَلِّ وَثَوَابِ الْعَمَلِ .

.


1- .سورة الأنعام 149 .

ص: 241

وَكَذلِكَ الْخَلَفُ بِعَقْبِ السَّلَفِ ، لاَ تُقْلِعُ الْمَنِيَّةُ اخْتِرَاما ، وَلاَ يَرْعَوِي الْبَاقُونَ اجْتِرَاما ، يَحْتَذُونَ مِثَالاً ، وَيَمْضُونَ أَرْسَالاً ، إِلَى غَايَةِ الاِْنْتِهَاءِ ، وَصَيُّورِ الْفَنَاءِ .

الشّرْحُ :يقال : عيش رنِق ، بكسر النون ، أي كَدِر ، وماءٌ رنقْ بالتسكين ، أي كَدر والرَّنَق بفتح النون مصدر قولك : « رِنق الماء » بالكسر ورنَّقته أنا ترنيقاً ، أي كَدّرته والرواية المشهورة في هذا الفصل « رِنق مشربُها » بالكسر أقامه مقام قولهم : « عيش رَنِق » ، ومن رواه « رَنْق مشربها » بالسكون _ وهم الأقلون _ أجرى اللفظ على حقيقته . ويقال : مشرع رَدِغ : ذو طين ووحَل ، روي « الرَّدَغَة » بالتحريك ، ويجوز تسكين الدال ؛ والجمع رِداغ وردْغ . ويونِق منظرُها : يعجب الناظر ؛ آنقَنِي الشيء أعجبني . ويُوبق مخبرها : يُهلك ، وَبَق الرجلُ يبِق وبُوقاً ، هلك ؛ والموْبِق « مفعِل » منه كالموعد « مَفْعل » ، من وعَد يعِد ، ومنه قوله سبحانه : « وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقا » (1) . وقد جاء وَبِق يبِق ، بالكسر فيهما ، وهو نادر ، كورثَ يرِث ، وجاء أيضا وبق يوبق وبَقا . والغُرور ، بضم الغين : ما يغترّ به من متاع الدنيا ، والغَرور ، بالفتح : الشيطان . والحائل : الزائل ، والآفل : الغائب ، أفل غاب بأفُلُ ويأفِل أفولاً . والسّناد : دِعامة يُسنَد بها السقف . وناكرها : فاعل ، من نكرت كذا ، أي أنكرته . وقمصت بأرجلها ، قَمصَ الفرسُ وغيره يقمِص ويقمُص قَمْصاً وقِماصاً ، أي استنّ ؛ وهو أن يرفع يديْه ويطرحهما معاً ، ويعجن برجْليه ، وفي المثل المضروب لمن ذلّ بعد عزة : « ما لِعَيْر من قِماص » . وجمع فقال : « بأرجلها » وإنما للدابة رجلان ، إمّا لأنّ المثنى قد يطلق عليه صيغة الجمع ؛ كما في قولهم : امرأة ذات أوراك ومآكم ؛ وهما وَركان ، وإمّا لأ نّه أجرى اليدين والرجلين مجرى واحد ، فسماها كلّها أرجلاً . ومن رواه « بالحاء » فهو جمع رَحْل الناقة . وأقصدت : قتلت مكانها من غير تأخير . والأوهاق : جمع وَهَق بالتحريك ، وهو الحبل ، وقد يسكن مثل نَهْر ونهَر . وأعلقتُ المرء الأوْهَاق : جعلتَ الأوهاق عالقة به . والضنك : الضيق . والمضجع : المصدر أو المكان ، والفعل ضَجَع الرجل جنبه بالأرض ، بالفتح ، يضجَع ضجوعا وضجْعاً ، فهو ضاجع ؛ ومثله أضجع . والمرجِع : مصدر رَجَع ، ومنه

.


1- .سورة الكهف 52 .

ص: 242

قوله تعالى : « ثُمَّ إلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ » (1) وهو شاذّ ؛ لأنّ المصادر من فَعَل يفعِل بكسر العين ؛ إنما يكون بالفتح . قوله : « ومعاينة المحلّ » ، أي الموضع الذي يحُلُّ به المكلَّف بعد الموت ؛ ولابدّ لكلّ مكلف أن يعلم عَقِيب الموت مصيره ؛ إمّا إلى جنة وإمّا إلى نار . وقوله : « ثواب العمل » يريد جزاء العمل ، ومراده الجزاء الأعمُّ الشامل للسعادة والشقاوة ، لا الجزاء الأخصّ الذي هو جزاء الطاعة ، وسمي الأعمّ ثوابا على أصل الحقيقة اللغوية ؛ لأنّ الثواب في اللغة الجزاء ؛ يقال : قد أثابَ فلان الشاعرَ لقصيدة كذا ، أي جازاه . وقوله : « وكذلك الخلف بِعقْبِ السلف » الخلَف المتأخرون ، والسلَف المتقدمون ؛ وعقْب هاهنا بالتسكين ؛ وهو بمعنى بَعْد ، جئت بعقْب فلان أي بعده ، وأصله جَرى الفرس بعد جَرْيه ، يقال : لهذا الفرس عَقْب حسن . وقال ابن السكيت : يقال . جئت في عُقْب شهر كذا ، بالضم ، إذا جئت بعد ما يمضي كلّه ، وجئت في عَقِب ، بكسر القاف إذا جئت وقد بقيت منه بقية . وقد روي : « يَعقُب السلف » ، أي يتبع . وقوله : « لا تُقلع المنية » ، أي لا تكفّ ، والاخترام : إذهاب الأنفس واستئصالها . وارعوى : كفّ عن الأمر وأمسك . والاجترام ، افتعال من الجرم ، وهو الذنْب ، ومثله الجريمة ، يقال : جَرَم وأجْرَم بمعنى . قوله : « يحتذون مثالاً » أي يقتدون ، وأصله من « حذوت النعل بالنعل حَذْوا » ، إذا قدّرت كلّ واحدة على صاحبها . قوله : « ويمضون أرسالاً » ، بفتح الهمزة ، جمع رَسَل ، بفتح السين ، وهو القطيع من الإبل أو الغنم ، يقال : جاءت الخيل أرسالاً ، أي قطيعا قطيعا . وصَيّور الأمر : آخره وما يؤول إليه .

الأصْلُ :حَتَّى إِذَا تَصَرَّمَتِ الْأُمُورِ ، وَتَقَضَّتِ الدُّهُورُ ، وَأَزِفَ النُّشُورُ ، أَخْرَجَهُمْ مِنْ ضَرَائِحِ الْقُبُورِ ، وَأَوْكَارِ الطُّيُورِ ، وَأَوْجِرَةِ السِّبَاعِ ، وَمَطَارِحِ الْمَهَالِكِ ، سِرَاعا إِلَى أَمْرِهِ ، مُهْطِعِينَ إِلَى مَعَادِهِ ، رَعِيلاً صُمُوتا ، قِيَاما صُفُوفا ، يَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ ، وَيُسْمِعُهُمُ

.


1- .سورة الأنعام 164 .

ص: 243

الدَّاعِي ، عَلَيْهِمْ لَبُوسُ الاِسْتِكَانَةِ ، وَضَرَعُ الاِسْتِسْلاَمِ وَالذِّلَّةِ . قَدْ ضَلَّتِ الْحِيَلُ ، وَانْقَطَعَ الْأَمَلُ ، وَهَوَتِ الْأَفْئِدَةُ كَاظِمَةً ، وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ مُهَيْنَمَةً ، وَأَلْجَمَ الْعَرَقُ ، وَعَظُمَ الشَّفَقُ ، وَأُرْعِدَتِ الْأَسْمَاعُ لِزَبْرَةِ الدَّاعِي إِلَى فَصْلِ الْخِطَابِ ، وَمُقَايَضَةِ الْجَزَاءِ ، وَنَكَالِ الْعِقَابِ ، وَنَوَالِ الثَّوَابِ .

الشّرْحُ :تصرّمت الأُمور : تقطّعت ، ومثله « تقضّت الدهور » . وأزف : قَرُب ودَنا ، يأزف أزفاً ؛ ومنه قوله تعالى : « أَزِفَتِ الآزِفَةُ » (1) أي القيامة ، الفاعل « آزف » . والضرائح : جمع ضريح وهو الشّقّ في وسَط القبر . واللَّحْد : ما كان في جانب القبر ، وضرحت ضَرْحاً ، إذا حفرت الضريح . والأوكار : جمع وَكْر يفتح الواو ، وهو عشّ الطائر ، وجمع الكثرة وُكور ، وكَر الطائر يكِرُ وَكْرا ، أي دخل وَكْره ، والوَكْن بالفتح مثل الوكر ، أي العُشّ . وأوجِرَة السِّباع : جمع وِجار بكسر الواو ، ويجوز فتحها ، وهو بيت السَّبُع والضبُع ونحوهما . مهطعين : مسرعين . والرَّعيل : القطعة من الخيل . قوله عليه السلام : « ينفذهم البَصَر ويُسمعهم الداعي » ، أي هم مع كثرتهم لا يخفى منهم أحد عن إدراك البارئ سبحانه ، وهم مع هذه الكثرة أيضا لا يبقى منهم أحد إلاّ إذا دعا داعي الموت سمع دعاءهم ونداءه . واللَّبوس ، بفتح اللام : ما يلبس ، قال : إلبَسْ لِكُلِّ حالة لَبُوسَهاإمّا نعيمَها وإمّا بوسَها ومنه قوله تعالى : « وَعَلَّمنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ » (2) يعني الدُّروع . والاستكانة : الخضوع . والضَّرع : الخشوع والضعف ، ضَرَع الرجل يضرَع ، وأضرعه غيره . وكاظمتُه : ساكته ، كَظَم يكظِم كُظوماً أي سكتَ ، وقوم كظَّم ، أي ساكتون . ومهينمة : ذات هَيْنَمة ، وهي الصوت الخفيّ . وألجم العرقُ : صار لجاماً ، وفي الحديث . « إنَّ العرق لَيَجْري منهم حتى إنّ منهم من يبلغ ركبتيه ، ومنهم من يبلغ صَدْره ، ومنهم من يبلغ عنقه ، ومنهم من يُلْجمه ، وهم أعظمهم

.


1- .سورة النجم 57 .
2- .سورة الأنبياء 80 .

ص: 244

مشقةَ » . ويُروى « وأثْجم العرق » ، أي كثر ودام . والشّفق والشفقة ، بمعنى ، وهو الاسم من الإشفاق ، وهو الخوف والحذر . وأرعدت الأسماع : عرتها الرِّعدة . وزَبْرة الداعي : صوته ، ولا يقال الصوت زَبْرة إلاّ إذا خالطه زجر وانتهار ، زبرتُه أزْبُره ، بالضم . وقوله : « إلى فصل الخطاب » ، إلى هاهنا يتعلّق بالدّاعي . وفصل الخطاب : بَتُّ الحكومة التي بين اللّه وبين عباده في الموقف ، رزقنا اللّه المسامحة فيها بمنّه ! وإنما خص الأسماع بالرعدة ؛ لأنها تحدُث من صوت الملك الذي يدعو النَّاس إلى محاسبته . والمقايضة : المعاوضة ، قايضت زيدا بالمتاع ، وهما قيِّضان ، كما قالوا : بيِّعان .

الأصْلُ :عِبَادٌ مَخْلُوقُونَ اقْتِدَارا ، وَمَرْبُوبُونَ اقْتِسَارا ، وَمَقْبُوضُونَ احْتِضَارَا ، وَمُضَمَّنُونَ أَجْدَاثا ، وَكَائِنُونَ رُفَاتا ، وَمَبْعُوثُونَ أَفْرَادا ، وَمَدِينُونَ جَزَاءً ، وَمُمَيَّزُونَ حِسَابا . قَدْ أُمْهِلُوا في طَلَبِ الْمَخْرَجِ ، وَهُدُوا سَبِيلَ الْمَنْهَجِ ؛ وَعُمِّرُوا مَهَلَ الْمُسْتَعْتِبِ ، وَكُشِفَتْ عَنْهُمْ سُدَفُ الرِّيَبِ ، وَخُلُّوا لِمِضْمَارِ الْجِيَادِ ، وَرَوِيَّةِ الاِرْتِيَادِ ، وَأَنَاةِ الْمُقْتَبِسِ الْمُرْتَادِ ، فِي مُدَّةِ الْأَجَلِ ، وَمُضْطَرَبِ الْمَهَلِ .

الشّرْحُ :مربوبون : مملوكون . والاقتسار : الغَلَبة والقهر . والاحتضار : حضور الملائكة عند الميت ؛ وهو حينئذٍ محتضَر ، وكانت العرب تقول : لبن محتضَر : أي فاسد ذو آفة . والأجداث : جمع جَدَث ، وهو القبر ؛ واجتدث الرجل ؛ اتخذ جَدَثا ، ويقال : « جَدَف » بالفاء . والرُّفات: الحُطام ؛ تقول منه رَفَتَ الشيء فهو مرفوت . ومدينون ، أي مجزيّون . والدَّيْن : الجزاء ؛ ومنه « مَالِكِ يَوْمِ الدِّين » (1) . ومميَّزون حسابا ، من قوله تعالى : « وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أيُّهَا المُجْرِمُونَ » (2) ، ومن قوله تعالى : « وَكُنْتُمْ أَزْوَاجا ثَلاَثَةً » (3) ؛ كما أنّ قوله : « ومبعوثون أفراداً » ، مأخوذ من

.


1- .سورة الفاتحة 4 .
2- .سورة يس 59 .
3- .سورة الواقعة 7 .

ص: 245

قوله تعالى : « وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى » (1) وأصل التمييز على الفصل والتبيين . قوله : « قد أمهلوا في طلب المخرج » ، أي أُنظِروا لِيفيئوا إلى الطاعة ويُخلِصوا التوبة ؛ لأنّ إخلاصَ التوبة هو المخرج الذي مَنْ سلكه خرج من رِبْقَة المعصية . ومثله قولُه : « وهُدُوا سبيل المنهج » ، والمنهج : الطريق الواضح . والمستعتَب : المسترضَى ؛ استعتبت زيدا إذا استرضيته عَنّي ؛ فأنا مستعتِب له ، وهو مستعتَب . وأعتبني ، أي أرضاني ، وإنما ضرب المثل بمهل المستعتَب ؛ لأنّ مَنْ يُطلب رضاه في مجرى العادة لا يُرهَق بالتماس الرضا منه ؛ وإنما يمهل ليرضى بقلبه لا بلسانه . والسُّدَف : جمع سُدْفة ؛ هي القطعة من الليل المظلم ، هذا في لغة أهل نجد ؛ وأما غيرهم فيجعل السدْفة الضوء ، وهذا اللفظ من الأضداد ، وكذلك السَّدَف ، بفتح السين والدال . وقد قيل : السُّدفة : اختلاط الضوء والظلمة كوقت ما بين طلوع الفجر إلى الإسفار ، والسّدَف : الصبح وإقباله ، وأسدف الليل ، أظلم ؛ وأسدف الصبح أضاء ، يقال : أسدِف الباب ، أي افتحْه حتى يضيء البيت ؛ وفي لغة هوازن « أسدفوا » ؛ أي أسرجوا ، من السراج . والرِّيَب : الشبهة ، جمع رِيبة . والمضمار : الموضع الذي تضمَّر فيه الخيل ، والمِضْمار أيضا المدة التي تضمّر فيها . والتضمير : أن تعلِفَ الفرس حتى يسمَن ؛ ثم تردّه إلى قوته الأُولى ؛ وذلك في أربعين يوما ، وقد يطلَق التَّضمير على نقيض ذلك ؛ وهو التجويع حتى يهزل ويخفّ لحمُه . ضَمَر الفرسُ بالفتح ، يضمُر بالضم ، ضموراً ، وجاء « ضَمُر الفرس » بالضم ، وأضمرته أنا ، وضمَّرته فاضطمر هو ، رجل لطيف الجسم ، ضمِير البطن ، وناقة ضامر وضامرة أيضا . يقول : مكَّنَهم الحكيم سبحانه وخلاَّهم وأعمالهم ، كما تمكّن الخيل التي تستبق في المِضْمار ليعلم أيُّها أسبق . والرويّة : الفكْرة ، والارتياد : الطلب ، ارتاد فلان الكلأ يرتاده ارتيادا : طلبه ، ومثله راد الكلأ يروده رَوْدا ورِيادا ؛ وفي الحديث : « إذا بال أحدُكم فليرتدْ لبوله » ، أي فليطلب مكانا ليّنا أو منحدرا ، والرائد : الذي يرسله القوم في طلب الكلأ ؛ وفي المثل : « الرائد لا يكذب أهله » . والأناة : التؤدة والانتظار ، مثل القناة . وتأنّى في الأمر : ترفّق ، واستأنى فلان بفلان ، أي انتظر به ، وجاء الأناء ، بالفتح والمدّ ، على « فَعَال » .

.


1- .سورة الأنعام 94 .

ص: 246

والمقتبِس : متعلّم العلم هاهنا ، ولابدّ له من أناة ومَهَل ليبلغُ حاجتَه ، فضرب مثلاً ، وجاء في بعض الروايات : « ومقبوضون اختضارا » بالخاء المعجمة ؛ وهو موت الشاب غَضّا أخضر ، أي مات شابا ، وكان فتيان يقولون لشيخ : أجززت يا أبا فلان ، فيقول : أيْ بنيّ ، وتختَضرون ! أجزّ الحشيش : آن أنْ يُجزَّ ، ومنه قيل للشيخ كاد يموت : قد أجَزَّ ، والرواية الأُولى أحسن ؛ لأنها أعمّ . وفي رواية « لمضمار الخيار » ، أي للمضمار الذي يستبِق فيه الأبرار الأتقياء إلى رضوان اللّه سبحانه .

الأصْلُ :فَيَالَهَا أَمْثَالاً صَائِبَةً ، وَمَواعِظَ شَافِيَةً ، لَوْ صَادَفَتْ قُلُوبا زَاكِيَةً ، وَأَسْمَاعا وَاعِيَةً ، وَآرَاءً عَازِمَةً ، وَأَلْبَابا حَازِمَةً! فَاتَّقُوا اللّهَ تَقِيَّةَ مَنْ سَمِعَ فَخَشَعَ ، وَاقْتَرَفَ فَاعْتَرَفَ ، وَوَجِلَ فَعَمِلَ ، وَحَاذَرَ فَبَادَرَ ، وَأَيْقَنَ فَأَحْسَنَ ، وَعُبِّرَ فَاعْتَبَرَ ، وَحُذِّرَ فَحَذِرَ ، وَزُجِرَ فَازْدَجَرَ ، وَأَجَابَ فَأَنَابَ ، وَرَاجَعَ فَتَابَ ، وَاقْتَدَى فَاحْتَذَى ، وَأُرِيَ فَرَأَى ، فَأَسْرَعَ طَالِبا ، وَنَجَا هَارِبا ، فَأَفَادَ ذَخِيرَةً ، وَأَطَابَ سَرِيرَةً ، وَعَمَّرَ مَعَادا ، وَاسْتَظْهَرَ زَادا ، لِيَوْمِ رَحِيلِهِ وَوَجْهِ سَبِيلِهِ ، وَحَالِ حَاجَتِهِ ، وَمَوْطِنِ فَاقَتِهِ ، وَقَدَّمَ أَمَامَهُ لِدَارِ مُقَامِهِ . فَاتَّقُوا اللّهَ عِبَادَ اللّهِ جِهَةَ مَا خَلَقَكُمْ لَهُ ، وَاحْذَرُوا مِنْهُ كُنْهَ مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِهِ ، وَاسْتَحِقُّوا مِنْهُ مَا أَعَدَّ لَكُمْ بِالتَّنَجُّزِ لِصِدْقِ مِيعَادِهِ ، وَالْحَذَرِ مِنْ هَوْلِ مَعَادِهِ .

الشّرْحُ :صائبة : غير عادلة عن الصواب ، صاب السهم يصوبُ صَوْبَةً ، أي قصد ولم يَجُرْ ، وصاب السهمُ القرْطاسَ يَصِيبه صَبْيا لغة في « أصابه » ، وفي المثل : مع الخواطئ سهم صائب . وشافية : تبرئ من مرض الجهل والهوى . والقلوب الزاكية : الطاهرة ، والأسماع الواعية : الحافظة . والآراء العازمة : ذات العزم . والألباب : العقول . والحازمة : ذات الحَزْم ، والحزْم :

.

ص: 247

ضبط الرجُلِ أمرَه . وخشع الرجل ، أي خضع . واقترف : اكتسب ، ومثله قرَف يقرِف بالكسر ، يقال : هو يقرِفُ لعياله ، أي يكسب . ووجِل الرجل : خاف ، وَجَلاً ، بفتح الجيم . وبادر : سارع . وعُبِّر : أي أُرِيَ العِبَر مرارا كثيرة ؛ لأنّ التشديد هاهنا دليل التكثير . فاعتبر ، أي فاتّعظ . والزَّجْر : النهى والمنع ، زُجِر أي منع ، وازدجر مطاوع ازدجر ؛ اللفظ فيهما واحد ، تقول : ازدجرت زيدا عن كذا فازدجر هو ، « ازدُجر فازدجر » ، فلا يحتاج مع هذه الرواية إلى تأويل . وأناب الرجل إلى اللّه ، أي أقبل وتاب . واقتدى بزيد ؛ فعل مثله فعله ، واحتذى مثله . قوله عليه السلام : « فأفاد ذخِيرة » ، أي فاستفاد ؛ وهو من الأضداد ، أفدت المال زيداً أعطيته إياه ؛ وأفدت أنا مالاً ؛ أي استفدته واكتسبته . قوله عليه السلام : « فاتقوا اللّه عباد اللّه جهة ما خلقكم له » . نصب « جهة » بفعل مقدر ، تقديره : « واقصدوا جهة ما خلقكم له » يعني العبادة ؛ لأ نّه تعالى قال : « وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُون » (1) . فحذف الفعل ، واستغنى عنه بقوله : « فاتقوا اللّه » ؛ لأنّ التقوى ملازمة لقصد المكلّف العبادة ، فدلّت عليه واستغنى بها عن إظهاره . والكُنْه : الغاية والنهاية ؛ تقول : أعرفه كُنْه المعرفة ؛ أي نهايتها . ثم قال عليه السلام : « واستحقّوا منه ما أعدّ لكم » ، أي اجعلوا أنفسكم مستحقين لثوابه الذي أعدّه لكم إن أطعتم . والباء في « بالتنجّز » متعلق ب_ « استحقوا » ويقال : فلان يتنجّز الحاجة ، أي يستنجحها ويطلب تعجّلها ، والناجز : العاجل ؛ يقال : « ناجزا بناجز » ؛ كقولك : « يدا بيد » أي تعجيلاً بتعجيل ؛ والتنجّز من المكلّفين بصِدق ميعاد القديم سبحانه ؛ وهو مواظبتهم على فعل الواجب ، وتجنُّب القبيح . و « والحذر » مجرور بالعطف على « التنجّز » لا على « الصدق » ؛ لأ نّه لا معنى له .

الأصْلُ :ومنها جَعَلَ لَكُمْ أَسْمَاعا لِتَعِيَ مَا عَنَاهَا ، وَأَبْصَارا لِتَجْلُوَ عَنْ عَشَاهَا ، وَأَشْلاَءً جَامِعَةً لِأَعْضَائِهَا ، مُلاَئِمَةً لِأَحْنَائِهَا ، فِي تَرْكِيبِ صُوَرِهَا ، وَمُدَدِ عُمُرِهَا ، بِأَبْدَانٍ قَائِمَةٍ

.


1- .سورة الذاريات 56 .

ص: 248

بِأَرْفَاقِهَا ، وَقُلُوبٍ رَائِدَةٍ لِأَرْزَاقِهَا ، فِي مُجَلِّلاَتِ نِعَمِهِ ، وَمُوجِبَاتِ مِنَنِهِ ، وَحَوَاجِزِ عَافِيَتِهِ . وَقَدَّرَ لَكُم أَعْمَارا سَتَرَهَا عَنْكُمْ ، وَخَلَّفَ لَكُمْ عِبَرا مِنْ آثَارِ الْمَاضِينَ قَبْلَكُمْ ، مِنْ مُسْتَمْتَعِ خَلاَقِهمْ ، وَمُسْتَفْسحِ خَنَاقِهِمْ . أَرْهَقَتْهُمُ الْمَنَايَا دُونَ الآمَالِ ، وَشَذَّبَهمْ عَنْهَا تَخَرُّمُ الآجَالِ لَمْ يَمْهَدُوا فِي سَلاَمَةِ الْأَبْدَانِ ، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا فِي أُنُفِ الْأَوَانِ .

الشّرْحُ :قوله : « لتعي ما عناها » ، أي لتحفظ وتفهم ما أهمّها ؛ ومنه الأثر المرفوع : « مِنْ حُسْنِ إسلام المرء تركه ما لا يعنيه » . ولتجلو ، أي لتكشف . و « عن » هاهنا زائدة ؛ ويجوز أن تكون بمعنى « بَعْد » ، كما قال : * لَقِحَتْ حَرْبُ وائِلٍ عَنْ حِيَال (1) * أي بعد حِيال ، فيكون قد حذف المفعول ، وحذفه جائز ؛ لأ نّه فضلة ، ويكون التقدير : لتجلوَ الأذى بعد عشاها ، والعشا ، مقصور : مصدر عَشِيَ ، بكسر الشين ، يَعْشَى ؛ فهو عَشٍ ، إذا أبصر نهارا ولم يبصر ليلاً . والأشلاء : جمع شِلْو ، وهو العضو . فإن قلت : فأيّ معنى في قوله : أعضاء تجمع أعضاء تجمع أعضاءها ؟ وكيف يجمع الشيء نفسه ؟ قلت : أراد عليه السلام بالأشلاء هاهنا الأعضاء الظاهرة ، وبالأعضاء الجوارح الباطنة ؛ ولا ريب أنْ الأعضاء الظاهره تجمع الأعضاء الباطنة وتضمها . والملائِمة : الموافِقة . والأحناء : الجوانب والجهات . ثم قال : « في تركيب صورها » ، كأنّه قال : مركبة أو مصورة ، فأتى بلفظة « في » كما تقول : ركب بسلاحه وفي سِلاحه ، أي متسلّحا . وقوله : « بأرْفاقها » ، أي بمنافعها جمع رِفْق ، بكسر الراء ، مثل حِمْل وأحمال ، وأرفقت فلانا ، أي نفعته . والمِرْفق من الأمر ، ما ارتفقت به وانتفعت ، ويروى : « بأرماقها » والرّمَق : بقية الروح . ورائدة : طالبة : ومجلِّلات النعم ، تجلّل الناسَ ، أي تعمّهم ؛ « صاحب مجلِّل » أي يطبّق الأرض ، وهذا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف ، كقولك : أنا في سابغ ظلّك

.


1- .هو عجز لبيت للحارث بن عباد ؛ وأوله : * قرِّبا مرْبِطَ النعامَة مِنِّي *

ص: 249

وعميم فضلك ، كأنه قال : في نعمه المجلِّلَة ؛ وكذلك القول في موجبات مِننه ، أي في مننه التي توجب الشُّكر . وفي هاهنا متعلقة بمحذوف ، والموضع نصب على الحال . ثم قال : « وحواجز عافيته » ، الحواجز : الموانع ، أي في عافية تحجز وتمنع عنكم المضارّ . ويروى « وحواجز بَلِيَّتِه » ، وقد فسر قوله : « حواجز عافيته » ؛ على أن يراد به ما يحجز العافية ويمنعها عن الزوال والعدم . قوله عليه السلام : « من مستمتَع خَلاقهم » ، الخلاق : النصيب ، قال تعالى : « وَمَا لَهُ فِيالآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ » (1) ، وقال تعالى : « فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ » (2) ،وتقدير الكلام : خلّف لكم عِبَرا من القرون السالفة ، منها تمتّعهم بنصيبهم من الدنيا ثمّ فناؤهم ، ومنها فسحة خناقهم (3) وطول إمهالهم ، ثم كانت عاقبتهم الهلكة . وأرهقتهم المنايا : أدركتهم مسرعة . والمرهَق : الذي أدرك ليقتل . وشذّبهم عنها : قطعهم وفرقهم ؛ من تشذيب الشجرة ؛ وهو تقشيرها . وتخرّمت زيد المنية : استأصلته واقتطعته . ثم قال : « لم يمهدوا في سلامة الأبدان » ، أي لم يمهدوا لأنفسهم ؛ من تمهيد الأُمور وهو تسويتها وإصلاحها . وأنُف الأوان : أوله ، يقال : روضةٌ أُنُف لم تُرْعَ قبل ، وكأس أُنُف : لم يُشْرَب بها قَبْلُ .

الأصْلُ :فَهَلْ يَنْتَظِرُ أَهْلُ بِضَاضَةِ الشَّبَابِ إِلاَّ حَوَانِيَ الْهَرَمِ ؟ وَأَهْلُ غَضَارَةِ الصِّحَّةِ إِلاَّ نَوَازِلَ السَّقَمِ ؟ وَأَهْلُ مُدَّةِ الْبَقَاءِ إِلاَّ آوِنَةَ الْفَنَاءِ ؟ مَعَ قُرْبِ الزِّيَالِ ، وَأُزُوفِ الاِنْتِقَالِ ، وَ وَعَلَزِ الْقَلَقِ وَأَلَمِ الْمَضَضِ ، وَغُصَصِ الْجَرَضِ وَتَلَفُّتِ الاِسْتِغَاثَةِ بِنُصْرَةِ الْحَفَدَةِ وَالْأَقْرِبَاءِ ، وَالْأَعِزَّةِ وَالْقُرَنَاءِ ! فَهَلْ دَفَعَتِ الْأَقَارِبُ ؟ أَوْ نَفَعَتِ النَّوَاحِبُ؟ وَقَدْ غُودِرَ فِي مَحَلَّةِ الْأَمْوَاتِ رَهِينا ، وَفِي ضِيقِ الْمَضْجَعِ وَحِيدا ، قَدْ هَتَكَتِ الْهَوَامُّ جِلْدَتَهُ ،

.


1- .سورة البقرة 200 .
2- .سورة التوبة 69 .
3- .الخناق ، بالفتح : حبل يختنق به .

ص: 250

وَأَبْلَتِ النَّوَاهِكُ جِدَّتَهُ ، وَعَفَتِ الْعَواصِفُ آثَارَهُ ، وَمَحَا الْحَدَثَانُ مَعَالِمَهُ ، وَصَارَتِ الْأَجْسَادُ شَحِبَةً بَعْدَ بَضَّتِهَا ، وَالْعِظَامُ نَخِرَةً بَعْدَ قُوَّتِهَا ، وَالْأَرْوَاحُ مُرْتَهَنَةً بِثِقَلِ أَعْبَائِهَا ، مُوقِنَةً بِغَيْبِ أَنْبَائِهَا ، لاَ تُسْتَزَادُ مِنْ صَالِحِ عَمَلِهَا ، وَلاَ تُسْتَعْتَبُ مِنْ سَيِّئ زَلَلِهَا!

الشّرْحُ :البَضَاضة : مصدر ، من بضَضت يا رجُل ، بضِضت ، بالفتح والكسر بضاضةً وبضُوضة ، ورجل بَضّ ، أي ممتلئ البدن رقيق الجلد ، وامرأة بَضّة . وحواني الهرم : جمع حانية ؛ وهي العلّة التي تَحْنِي شِطَاط (1) الجسد ، وتميله عن الاستقامة . والهرَم : الكبَر . والغضارة : طيب العيش ، ومنه المثل : أباد اللّه غضراءهم ، أي خيرهم وخِصْبهم . وآونة الفناء جمع أوَان ؛ وهو الحَيْن ، كزمان وأزمنة ، وفلان يصنع ذلك الأمر آونة كقولك : تارات ، أي يصنعه مرارا ويَدَعه مرارا . والزِّيال : مصدر زايله مزايلة وزِيالاً ، أي فارقه . والأزوف : مصدر أزِف ، أي دنا . والعَلَز : قلق وخِفّة وهلع يصيب الإنسان ، وقد عَلِز بالكسر ، وبات عَلِزا ، أي وجعا قلقا . والمضض : الوجع ، أمضَّنِي الجرح ومَضَّني ؛ لغتان ، وقد مَضِضْت يا رجل ، بالكسر . والغُصَص : جمع غُصَّة ، وهي الشجا ، والغَصَص بالفتح : مصدر قولك غَصِصت يا رجل تَغصّ بالطعام ، فأَنت غاصٌّ وغصَّان ، وأغصصتُه أنا . والجرِيض : الرِّيق يغصّ به ؛ جَرَض بريقه بالفتح ، يَجْرِض بالكسر ، مثل كَسَر يكسِر ؛ وهو أن يبلع ريقه على همٍّ وحزن بالجهد . والجريض : الغُصّة ، وفي المثل : « حال الجرِيض دون القريض » ؛ وفلان يجرَض بنفسه إذا كان يموت ، وأجرضه اللّه بريقه أغصّه . والحفَدة : الأعوان والخدم ، وقيل : ولد الولد ، واحدهم حافد ؛ والباء في « بنُصرة الحَفدة » متعلّق بالاستعانة ؛ يقول : إن الميّت عند نزول الأمر به يتلفّت مستغيثا بنصرة أهله وولده ، أي يستنصُر يستصرخ بهم . والنّواحب : جمع ناحبة ، وهي الرافعة صوتها بالبكاء ، ويروى : «النوادب» . والهوامّ : جمع

.


1- .الشطاط ، بالفتح والكسر : الطول واعتدال القوام .

ص: 251

هامّة ؛ وهي ما يخاف ضرره من الأحناش (1) ؛ كالعقارب والعناكب ونحوها . والنواهك : جمع ناهكة وهي ما ينهَك البدن ، أي يبليه . وعَفَتْ : دَرَست ، ويروى بالتشديد . وشَحِبة : هالكة ، والشَّحَب : الهلاك ، شحِب الرجل بالكسر ، يَشْحَب ، وجاء شَحَب ، بالفتح يشحُبُ بالضم ؛ أي هلك ؛ وشَحَبه اللّه يشحُبه ، يتعدّى ولا يتعدى . ونَخِرَة : بالية . والأعباء : الأثقال ، واحدها عِبْ ء . وقال : « موقنة بغيب أنبائها » ؛ لأنّ الميت يعلم بعد موته ما يصير إليه حاله من جنّة أو نار . ثم قال : إنها لا تكلف بعد ذلك زيادة في العمل الصالح ، ولا يطلب منها التوبة من العمل القبيح ؛ لأنّ التكليف قد بطل .

الأصْلُ :أَوَ لَسْتُمْ أَبْنَاءَ الْقَوْمِ وَالآبَاءَ ، وَإِخْوَانَهُمْ وَالْأَقْرِبَاءَ ؟ تَحْتَذُونَ أَمْثِلَتَهُمْ ، وَتَرْكَبُونَ قِدَّتَهُم ، وَتَطَؤُونَ جَادَّتَهُمْ ؟! فَالْقُلُوبُ قَاسِيَةٌ عَنْ حَظِّهَا ، لاَهِيَةٌ عَنْ رُشْدِهَا ، سَالِكَةٌ في غَيْرِ مِضْمَارِهَا ! كَأَنَّ الْمَعْنِيَّ سِوَاهَا ، وَكَأَنَّ الرُّشْدَ فِي إِحْرَازِ دُنْيَاهَا .

الشّرْحُ :القِدّة ، بالدال المهملة وبكسر القاف : الطريقة ، ويقال لكل فِرْقة من الناس إذا كانت ذات هَوىً على حدة : قِدّة ، ومنه قوله تعالى : « كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدا » (2) ، ومن رواه : « ويركبون قُذّتهم » بالذال المعجمة وضم القاف أراد الواحدة من قُذذ السهم ؛ وهي ريشه ، يقال : حذوَ القُذّة بالقُذّة ، ويكون معنى : « وتركبون قُذّتهم » ؛ تقتفون آثارهم وتُشابهون بهم في أفعالهم . ثم قال : وتطئون جادّتهم ؛ وهذه لفظة فصيحة جدا . ثم ذكر قساوة القلوب وضلالها عن رشدها ، وقال : « كأنّ المعنيّ سواها » ؛ هذا مثل قول النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم : « كأنّ الموت فيها على غيرنا كُتِب ، وكأنّ الحقّ فيها على غيرنا وجب » .

.


1- .الأحناش : جمع حَنَش ، نوع من الحيّات ، أو كل ما أشبه رأسه رأس الحيّات .
2- .سورة الجن 11 .

ص: 252

الأصْلُ :وَاعْلَمُوا أَنَّ مَجَازَكُمْ عَلَى الصِّرَاطِ وَمَزَالِقِ دَحْضِهِ ، وَأَهَاوِيلِ زَلَلِهِ ، وَتَارَاتِ أَهْوَالِهِ ؛ فَاتَّقُوا اللّهَ عِبَادَ اللّهِ تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ شَغَلَ التَّفَكُّرُ قَلْبَهُ ، وَأَنْصَبَ الْخَوْفُ بَدَنَهُ ، وَأَسْهَرَ التَّهَجُّدُ غِرَارَ نَوْمِهِ ، وَأَظْمَأَ الرَّجَاءُ هَوَاجِرَ يَوْمِهِ ، وَظَلَفَ الزُّهْدُ شَهَوَاتِهِ ، وَأَوْجَفَ الذِّكْرُ بِلِسَانِهِ ، وَقَدَّمَ الْخَوْفَ لِأَمَانِهِ ، وَتَنَكَّبَ الْمَخَالِجَ عَنْ وَضَحِ السَّبِيلِ ، وَسَلَكَ أَقْصَدَ المَسَالِكِ إِلَى النَّهْجِ الْمَطْلُوبِ ؛ وَلَمْ تَفْتِلْهُ فَاتِلاَتُ الْغُرُورِ ، وَلَمْ تَعْمَ عَلَيْهِ مُشْتَبِهَاتُ الْأُمُورِ ، ظَافِرا بِفَرْحَةِ الْبُشْرَى ، وَرَاحَةِ النُّعْمَى ، فِي أَنْعَمِ نَوْمِهِ ، وَآمَنِ يَوْمِهِ . قَدْ عَبَرَ مَعْبَرَ الْعَاجِلَةِ حَمِيدا ، وَقَدَّمَ زَادَ الآجِلَةِ سَعِيدا ، وَبَادَرَ عَنْ وَجَلٍ ، وَأَكْمَشَ فِي مَهَلٍ ، وَرَغِبَ فِي طَلَبٍ ، وَذَهَبَ عَنْ هَرَبٍ ، وَرَاقَبَ فِي يَوْمِهِ غَدَهُ ، وَربَّمَا نَظَرَ قُدُما أَمَامَهُ . فَكَفَى بِالْجَنَّةِ ثَوَابا وَنَوَالاً ، وَكَفَى بِالنَّار عِقَابا وَوَبَالاً ! وَكَفَى بِاللّهِ مُنْتَقِما وَنَصِيرا ! وَكَفَى بِالْكِتَابِ حَجِيجا وَخَصِيما!

الشّرْحُ :وقال أصحابنا رحمهم اللّه تعالى : الصراط الوارد ذكرُه في الكتاب العزيز ؛ هو الطريق لأهل الجنة إلى الجنة ، ولأهل النار إلى النار بعد المحاسبة ، قالوا : لأنّ أهلَ الجنة ممرّهم على باب النار ، فمن كان من أهل النار عُدِل به إليها ، وقذف فيها ، ومَنْ كان من أهل الجنّة مَرّ بالنار مرورا نجا منها إلى الجنة ، وهو معنى قوله تعالى : « وَإِنْ مِنْكُمْ إلاَّ وَارِدُهَا » (1) ؛ لأنّ ورودها هو القرب منها ، والدنوّ إليها ، وقد دلّ القرآن على سُور مضروب بين مكان النار وبين الموضع الذي يجتازون منه إلى الجنة في قوله : « فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطنُهُ فِيهِ الرّحْمةُ وَظَاهِرُهُ

.


1- .سورة مريم 71 .

ص: 253

مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ » (1) . يقال : مكان دَحْض ودَحَض ، بالتحريك ، أي زلَق ، وأدحضتُه أنا أزلقْتُه فدحَض هو . والأهاويل : الأُمور المفزعة . وتارات أهواله ، كقوله : دفَعات أهواله ؛ وإنما جعل أهواله تاراتٍ ؛ لأنّ الأُمور الهائلة إذا استمرّت لم تكن في الإزعاج والترويع ، كما تكون إذا طرأت تارة ، وسكنت تارة . وأنصب الخوف بدنه : أتعب ؛ والنّصَب : التعب . والتهجّد هنا : صلاة الليل ، وأصلُه : السهر ؛ وقد جاء التهجّد بمعنى النوم أيضا ؛ وهو من الأضداد . الغِرار : قلّة النوم ؛ وأصله قلّة لبن الناقة ؛ ويقال : غارت الناقة تغار غِرارا قل لَبَنُها . فإن قلت : كيف توصف قِلّةُ النوم بالسهر ؛ وإنما يوصف بالسَّهَر الإنسان نفسه؟ قلت : هذا من مجازات كلامهم ؛ كقولهم ليل ساهر ، وليل نائم . والهواجر : جمع هَاجِرة ؛ وهي نصف النهار عند اشتداد الحرّ ، يقال : قد هَجّر النهار ، وأتينا أهلنا مُهَجِّرِينَ ، أي سائرين في الهاجِرة . وظَلف : منع ، وظلِفت نفسُ فلن ، بالكسر عن كذا ؛ أي كفّتْ . وأوْجَف : أسرع ، كأنّه جعل الذِّكْر لشدّة تحريكه اللسان مُوجفاً به ، كما توجِف الناقة براكبها ، والوجِيف : ضرْب من السَّيْر . ثم قال : « وقدم الخوف لأمانه » ، اللام هاهنا لام التعليل ، أي قدّم خوفه ليأمن . والمخالج : الأُمور المختلجة ، أي الجاذبة ، خَلَجه واختلجه ، أي جذَبه . وأقصد المسالك : أقومها . وطريق قاصد ، أي مستقيم . وفتله عن كذا ، أي ردّه وصرفه ، وهو قلب « لفت » . ويروى : « قد عَبَر مَعْبر العاجلة حمِيداً ، وقدم زاد الآجلة سعيداً » . وأكمش : أسرع ، ومثله انكمش ورجل كمِش أي سريع ، وكمَشته تكميشا : أعجلته . قوله : « ورغب في طلب ، وذهب عن هرب » ، أي ورغب فيما يطلب مثله ، وفَرّ عما يهرب من مثله ، فأقام المصدر مقام ذي المصدر . ونظر قُدُما أمامه ، أي ونظر ما بين يديه مقدماً لم يَنْثَنِ ولم يعرِّج ، والدال مضمومة هاهنا . ومن رواه بالتسكين ، جاز أن يعني به هذا ويكون قد خفف ، كما قالوا : حُلْم وحُلُم . وجاز أن يجعله مصدراً ، من قَدمَ الرجل بالفتح ، يقدَم قَدْماً ، أي تقدم ، قال اللّه تعالى : « يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » (2) ، أي يتقدّمهم إلى ورودها ؛

.


1- .سورة الحديد 13 .
2- .سورة هود 98 .

ص: 254

كأنه قال : « ونظرَ بين يديه متقدما لغيره وسابقا إياه إلى ذلك » . والباء في « بالجنة » و « بالنار » و « باللّه » و « بالكتاب » زائدة ، والتقدير : كفا اللّه ، وكفى الكتاب !

الأصْلُ :أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللّهِ الَّذِي أَعْذَرَ بِمَا أَنْذَرَ ، وَاحْتَجَّ بِمَا نَهَجَ ، وَحَذَّرَكُمْ عَدُوّا نَفَذَ فِي الصُّدُورِ خَفِيّا ، وَنَفَثَ فِي الآذَانِ نَجِيّا ، فَأَضَلَّ وَأَرْدَى ، وَوَعَدَ فَمَنَّى ، وَزَيَّنَ سَيِّئَاتِ الْجَرَائِمِ ، وَهَوَّنَ مُوبِقَاتِ الْعَظَائِمِ ، حَتَّى إِذَا اسْتَدْرَجَ قَرِينَتَهُ ، وَاسْتَغْلَقَ رَهِينَتَهُ ، أَنْكَرَ مَا زَيَّنَ ، وَاسْتَعْظَمَ مَا هَوَّنَ ، وَحَذَّرَ مَا أَمَّنَ .

الشّرْحُ :« أعْذر بما أنذر » ، ما هاهنا مصدرية ، أي أعذر بإنذاره . ويجوز أن تكونَ بمعنى « الذي » . والعدوّ المذكور : الشيطان . وقوله : « نَفَذ في الصدور » و « نفث في الآذان » كلام صحيح بديع . وفي قوله : « نفذ في الصدور » ، مناسبة لقوله صلى الله عليه و آله وسلم : « الشيطان يجري من بني آدم مجرى الدم » ، والنجيّ : الذي يسارّه ، والجمع الأنجية . وقد يكون النجيّ جماعة مثل الصديق ، قال اللّه تعالى : « خَلَصُوا نَجِيّا » (1) ، أي متناجين . القرينة هاهنا : الإنسان الذي قارنه الشيطان ، ولفظه لفظ التأنيث ؛ وهو مذكّر ، أراد القرين ، قال تعالى : « فَبِئْسَ الْقَرِينُ » (2) ، ويجوز أن يكون أراد بالقرينة النفس ، ويكون الضمير عائدا إلى غير مذكور لفظا لما دلّ المعنى عليه ؛ لأنّ قوله : « فأضل وأردى ، ووعد فمنّى » معناه أضلّ الإنسان وأردى ، ووعده فمنّى ، فالمفعول محذوف لفظا ؛ وإليه رجع الضمير على هذا الوجه ؛ ويقال : غَلِق الرّهن إذا لم يفتَكّه الراهن في الوقت المشروط ، فاستحقّه المرتهن . وهذا الكلام مأخوذ من قوله تعالى : « وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إنَّ اللّهَ

.


1- .سورة يوسف 80 .
2- .سورة الزخرف 38 .

ص: 255

وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتمْ بِمُصْرِخِيَّ ... » (1) .

الأصْلُ :ومنها في صفة خلق الإنسان :أَمْ ه_ذَا الَّذِي أَنْشَأَهُ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْحَامِ ، وَشُغُفِ الْأَسْتَارِ ، نُطْفَةً دِهَاقا ، وَعَلَقَةً مِحَاقا ، وَجَنِينا وَرَاضِعا ، وَوَلِيدا وَيَافِعا ، ثُمَّ مَنَحَهُ قَلْبا حَافِظا ، وَلِسانا لاَفِظا ، وَبَصَرا لاَحِظا ، لِيَفْهَمَ مُعْتَبِرا ، وَيُقَصِّرَ مُزْدَجِرا ؛ حَتَّى إِذَا قَامَ اعْتِدَالُهُ ، وَاسْتَوَى مِثَالُهُ ، نَفَرَ مُسْتَكْبِرا ، وَخَبَطَ سَادِرا ، مَاتِحا فِي غَرْبِ هَوَاهُ ، كَادِحا سَعْيا لِدُنْيَاهُ ، فِي لَذَّاتِ طَرَبِهِ ، وَبَدَوَاتِ أَرَبِهِ ؛ ثُمَّ لاَ يَحْتَسِبُ رَزِيَّةً ، وَلاَ يَخْشَعُ تَقِيَّةً ؛ فَمَاتَ فِي فِتْنَتِهِ غَرِيرا ، وَعَاشَ فِي هَفْوَتِهِ يَسِيرا ، لَمْ يُفِدْ عِوَضا ، وَلَمْ يَقْضِ مُفْتَرَضا . دَهِمَتْهُ فَجَعَاتُ الْمَنِيَّةِ فِي غُبَّرِ جِمَاحِهِ ، وَسَنَنِ مِرَاحِهِ ، فَظَلَّ سَادِرا ، وَبَاتَ سَاهِرا ، فِي غَمَرَاتِ الاْلاَمِ ، وَطَوَارِقِ الْأَوْجَاعِ وَالْأَسْقَامِ ، بَيْنَ أَخٍ شَقِيقٍ ، وَوَالِدٍ شَفِيقٍ ، وَدَاعِيَةٍ بِالْوَيْلِ جَزَعا ، وَلاَدِمَةٍ لِلصَّدْرِ قَلَقا ؛ وَالْمَرْءُ فِي سَكْرَةٍ مُلْهِثَةٍ ، وَغَمْرَةٍ كَارِثَةٍ ، وَأَنَّةٍ مُوجِعَةٍ ، وَجَذْبَةٍ مُكْرِبَةٍ ، وَسَوْقَةٍ مُتْعِبَةٍ . ثُمَّ أُدْرِجَ فِي أَكْفَانِهِ مُبْلِسا ، وَجُذِبَ مُنْقَادا سَلِسا ، ثُمَّ أُلْقِيَ عَلَى الْأَعْوَادِ رَجِيعَ وَصَبٍ ، وَنِضْوَ سَقَمٍ ، تَحْمِلُهُ حَفَدَةُ الْوِلْدَانِ ، وَحَشَدَةُ الاْءِخْوَانِ ، إِلَى دَارِ غُرْبَتِهِ ، وَمُنْقَطَعِ زَوْرَتِهِ ، وَمُفْرَدِ وَحْشَتِهِ ؛ حَتَّى إِذَا انْصَرَفَ الْمُشَيِّعُ ، وَرَجَعَ الْمُتَفَجِّعُ ، أُقْعِدَ فِي حُفْرَتِهِ نَجِيّا لِبَهْتَةِ السُّؤَالِ ، وَعَثْرَةِ الاِمْتِحَانِ . وَأَعْظَمُ مَا هُنَالِكَ بَلِيَّةً نُزُولُ الْحَمِيم ، وَتَصْلِيَةِ الْجَحِيمِ ، وَفَوْرَاتُ السَّعِيرِ ، وَسَوْرَاتُ الزَّفِيرِ ، لاَ فَتْرَةٌ مُرِيحَةٌ ، وَلاَ دَعَةٌ مُزِيحَةٌ ، وَلاَ قُوَّةٌ حَاجِزَةٌ ، وَلاَ مَوْتَةٌ نَاجِزَةٌ

.


1- .سورة إبراهيم 22 .

ص: 256

وَلاَ سِنَةٌ مُسَلِيَةٌ ، بَيْنَ أَطْوَارِ الْمَوْتَاتِ ، وَعَذَابِ السَّاعَاتِ ! إِنَّا بِاللّهِ عَائِذُونَ!

الشّرْحُ :أم هنا إمّا استفهامية على حقيقتها ؛ كأنه قال : أعِظُكُم وأذكِّركم بحال الشيطان وإغوائه ، أم بحال الإنسان منذ ابتدأ وجوده إلى حين مماته ، وإمّا أنْ تكون منقطعة بمعنى « بل » كأنه قال : عادلاً وتاركا لما وعظهم به ؛ بل أتلو عليكم نبأ هذا الإنسان الذي حاله كذا. الشُّغُف بالغين المعجمة : جمع شَغاف ، بفتح الشين ، وأصله غلاف القلب ، يقال : شغفه الحبّ ، أي بلغ شغافه ، وقرئ : « قَدْ شَغَفَهَا حُبّا » (1) . والدّهاق : المملوءة ، ويروى « دفاقا » من دَفَقت الماء أي صببته . قال : « وعلَقَةً محاقاً » ، المحاق : ثلاث ليال من آخر الشهر ، وسميت محاقاً ؛ لأنّ القمر يمتحق فيهنّ ، أي يخفى وتبطل صورته ، وإنما جعل العلَقة محاقاً هاهنا ؛ لأنها لم تحصل لها الصورة الإنسانية بعد ؛ فكانت ممحوّة ممحوّة ممحوقة . واليافع : الغلام المرتفع ، أيْفَع وهو يافع ؛ وها من النوادر . وغلام يَفَع ويَفَعة وغلمان أيفاع وَيَفَعة أيضا . قوله : « وَخَبَط سادراً » ؛ خَبَط البعير إذا ضرب بيديه إلى الأرض ، ومشى لا يتوقى شيئا . والسادر : المتحيّر ، والسادر أيضا : الذي لا يهتمّ ولا يبالي ما صنع ، والموضع يحتمل كلا التفسيرين . والماتح : الذي يستقي الماء من البئر وهو على رأسها . والمائح : الذي نزل البئر إذا قلّ ماؤها ، فيملأ الدلاءَ . وسُئِل بعض أئمة اللغة عن الفرق بين الماتح والمائح ، فقال : اعْتَبرْ نقطَتي الإعجام ، فالأعلى للأعلى ، والأدنى للأدنى . والغَرْب : الدلو العظيمة . والكدْح : شدّة السعي والحركة ، قال تعالى : « يَاأيُّهَا الإِنسَان إنَّكَ كَادِحٌ إلَى رَبِّكَ كَدْحا » (2) . قوله : « وبَدَوات » ، أي ما يخطر له من آرائه التي تختلف فيها دواعيه ، فتقدم وتحجِم ، ومات غريراً ، أي شابا ، ويمكن أن يُرَاد به أنه غيرُ مجرّب للأمور . والهفْوة : الزلّة ، هفا يهفو . لم يُفِدْ عوضا ، أي لم يكتسب . وغُبَّر جماحه : بقاياه . والجِماح الشِّرّة وارتكاب الهوى . وسَنَن مِرَاحه ، السَّنَن : الطريقة ، والمِرَاح : شدَّة الفرح والنشاط .

.


1- .سورة يوسف 30 .
2- .سورة الانشقاق 6 .

ص: 257

قوله : « فظلَّ سادرا » ، السادر هاهنا غير السادر الأول ، لأ نّه هاهنا المغمى عليه كأنه سكران ؛ وأصله من سدر البعير من شدة الحرّ وكثرة الطَّلاء بالقَطِران ، فيكون كالنائم لا يحسّ ، ومراده عليه السلام هاهنا أ نّه بَدَأ بهِ المرض . ولادِمة للصدر : ضاربة له ، والتِدام النساء : ضربهنَّ الصدور عند النياحة . سكرة مُلْهِثة : تجعل الإنسان لاهثا لشدّتها لهثَ يَلْهَثُ لهثَانا ولِهاثاً ، ويروى « ملهية » بالياء ، أي تُلهي الإنسان وتشغله . والكارثة « فاعلة » من كرثه الغم يكرُثه بالضمّ ، أي اشتدّ عليه وبلغ منه غاية المشقة . الجذبة : جذب الملك الرُّوح من الجسد أو جذب الإنسان إذا احتضر ليُسَجَّى . والسَّوْقة : من سياق الرُّوح عند الموت . والمبْلِس : الذي يَيئس من رحمة اللّه ، ومنه سمِّيَ إبليس . والإبلاس أيضا : الانكسار والحزن . والسَّلِس : السَّهْل المقادة . والأعواد : خشب الجنازة . ورَجِيع وَصِب : الرَّجِيع المعنى الكالّ : والوصِب : الوجع ، وصِب الرجل يَوْصَب ، فهو واصب ، وأوصبه اللّه فهو مُوصب . والموصَّب بالتشديد : الكثير الأوجاع . والنِّضْو : الهزيل . وحشّده الإخوان : جمع حاشد ؛ وهو المتأهّب المستعدّ . ودار غربته : قبره . وكذلك منقطَع زورته ؛ لأنّ الزيارة تنقطع عنده . ومفرد وَحْشته نحو ذلك ، لانفراده بعمله ، واستيحاش الناس منه ؛ حتى إذا انصرف المشيِّع وهو الخارج مع جنازته ، أُقعِد في حفرته . هذا تصريحٌ بعذاب القبر . والنجيّ : المناجي . ونزول الحمِيم وتَصْلية الجَحِيم ، من الألفاظ الشريفة القرآنية . ثم نفى عليه السلام أن يكون في العذاب فتور يجد الإنسان معه راحة ، أو سكون يزيح عنه الألم أي يزيل_ه ، أو أنّ الإنس_ان يج_د في نفسه قوّة تحجز بينه وبين الألم ، أي تمنع ويموت موتا ن_اج_زا معجّلاً ، فيستريح ، أو ينام فيسل_و وقتَ نومه عَمّا أصابه من الألم في اليقظة كما في دار الدنيا . ثم قال : « بين أطْوَار الموتات » ، وهذا في ظاهره متناقض ؛ لأ نّه نفى الموتَ مطلقا ، ثم قال : « بين أطوار الموتات » . والجواب : أ نّه أراد بالموتات الآلام العظيمة ؛ فسمَّ_اها موتات ؛ لأنّ العرب تسمِّي المشقة العظيمة موتا ، كما قال : * إنّمَا الْمَيْتُ مَيِّتُ الأحْيَاء 1 * ويقولون : الفقر الموت الأحمر ، واستعمالها مثل ذلك كثير جدا .

.

ص: 258

ثم قال : « إنّا باللّه عائذون » ؛ عُذْت بفلان واستعذت به ؛ أي التجأت إليه .

الأصْلُ :عِبَادَ اللّهِ، أَيْنَ الَّذِينَ عُمِّرُوا فَنَعِمُوا، وَعُلِّمُوا فَفَهِمُوا ، وَأُنْظِرُوا فَلَهَوْا ، وَسَلِمُوا فَنَسُوا! أُمْهِلُوا طَوِيلاً ، وَمُنِحُوا جَمِيلاً ، وَحُذِّرُوا أَلِيما ، وَوُعِدُوا جَسِيما . احْذَرُوا الذُّنُوبَ الْمُوَرِّطَةَ ، وَالْعُيُوبَ الْمُسْخِطَةَ . أُولِي الْأَبْصَارِ وَالْأَسْمَاعِ ، وَالْعَافِيَةِ وَالْمَتَاعِ ، هَلْ مِنْ مَنَاصٍ أَوْ خَلاَصٍ ، أَوْ مَعَاذٍ أَوْ مَلاَذٍ ، أَوْ فِرَارٍ أَوْ مَحَارٍ ! فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ! أَمْ أَيْنَ تُصْرَفُونَ ! أَمْ بِمَاذَا تَغْتَرُّونَ! وَإِنَّمَا حَظُّ أَحَدِكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ، ذَاتِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ ، قِيدُ قَدِّهِ ، مُتَعَفِّرا عَلَى خَدِّهِ . الآنَ عِبَادَ اللّهِ وَالْخِنَاقُ مُهْمَلٌ ، وَالرُّوحُ مُرْسَلٌ ، فِي فَيْنَةِ الاْءِرْشَادِ ، وَرَاحَةِ الْأَجْسَادِ ، وَبَاحَةِ الاِحْتِشَادِ ، وَمَهَلِ الْبَقِيَّةِ ، وَأُن_ُفِ الْمَشِيَّةِ ، وَإِنْظَارِ التَّوْبَةِ ، وَانْفِسَاحِ الْحَوْبَةِ ، قَبْلَ الضَّنْكِ وَالْمَضِيقِ ، وَالرَّوْعِ وَالزُّهُوقِ ، وَقَبْلَ قُدُومِ الْغَائِبِ الْمُنْتَظَرِ وَأخْذَةِ الْعَزِيزِ الْمُقْتَدِرِ .

قال الرضي رحمه الله : وفي الخبرِ : أنَّهُ عليه السلام لَمَّا خطب بهذه الخُطبةِ اقشعرَّت لها الجلود ، وبكت العيونُ ، ورَجَفَت القلوبُ ، ومن النَّاسِ مَنْ يُسَمِّي هذه الخُطبةَ : الغَرَّاءَ .

الشّرْحُ :نَعِم الرجل يَنْعَم ضِدّ قولك : « بَئس » ، وجاء شاذاً نَعِم ينعِم بالكسر . وأنظروا : أمهلوا . والذنوب المورّطة : التي تُلقِي أصحابَها في الورطة ؛ وهي الهلاك . ثم قال عليه السلام : « أُولي الأبصار والأسماع » ، ناداهم نداء ثانيا بعد النداء الذي في أول الفصل ، وهو قوله : « عباد اللّه » ؛ فقال : يامَنْ منحهم اللّه أبصارا وأسماعا ، وأعطاهم عافية ،

.

ص: 259

83 . من خطبة له عليه السلام في ذكر عمرو بن العاص

ومتّعهم متاعا هل من مناص ؟ وهو الملجأ والمفرّ ؛ يقالُ : ناصَ عن قِرْنه مناصا ، أيْ فَرّ وراوغ ، قال سبحانه : « وَلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ » (1) . والمحار : المرجع ، من حَارَ يحور أي رجع ، قال تعالى : « إنَّهُ ظَنَّ أنْ لَنْ يَحُورَ » (2) . ويؤفَكون : يقلَبون ، أفكَه يأفِكه عن كذا ، قلبه عنه إلى غيره ، ومثله « يُصْرَفون » . وقِيد قدّه : مقدار قدّه ، يقال : قرب منه قِيدَ رمح وقَادَ رُمْح ، والمراد هاهنا هو القبر ؛ لأ نّه بمقدار قامة الإنسان . والمُنْعفِرُ : الذي قد لامس العَفَر ، وهو التراب . ثم قال عليه السلام : « الآن والخناق مُهْمَل » ؛ تقديره : اعملوا الآن وأنتم مخلَّوْنَ متمكّنون لم يعقد الحبل في أعناقهم ، ولم تقبَض أرواحكم . والرُّوح يُذكّر ويؤنث . والفَيْنة : الوقت ، ويروى « وفَيْنة الارتياد » ؛ وهو الطَّلب . وأَنفُ المشيّة : أول أوقات الإرادة والاختيار . قوله : « وانفساح الحَوْبة » ، أي سعة وقت الحاجة ، والحوْبَة : الحاجة والأرَب . والغائب المنتظر ؛ هو الموت .

83الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام في ذكر عمرو بن العاصعَجَبا لاِبْنِ النَّابِغَةِ ! يَزْعَمُ لِأَهْلِ الشَّامِ أَنَّ فِيَّ دُعَابَةً ، وَأن_ِّي امْرُؤٌ تِلْعَابَةٌ : أُعَافِسُ وَأُمَارِسُ ! لَقَدْ قَالَ بَاطِلاً ، وَنَطَقَ آثِما . أَمَا _ وَشَرُّ الْقَوْلِ الْكَذِبُ _ إِنَّهُ لَيَقُولُ فَيَكْذِبُ ، وَيَعِدُ فَيُخْلِفُ ، وَيُسْأَلُ فَيَبْخَلُ ، وَيَسْأَلُ فَيُلْحِفُ ، وَيَخُونُ الْعَهْدَ ، وَيَقْطَعُ الاْءِلَّ ؛ فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْحَرْبِ فَأَيُّ زَاجِرٍ وَآمِرٍ هُوَ ! مَا لَمْ تَأْخُذِ السُّيُوفُ مَآخِذَهَا ، فَإِذَا كَانَ ذلِكَ كَانَ أَكْبَرُ مَكِيدَتِهِ أَنْ يَمْنَحَ القَوْمَ (3) سُبَّتَهُ .

.


1- .سورة ص 3 .
2- .سورة الانشقاق 14 .
3- .وفي نسخة محمد عبده ، وردت ( الْقَرْمَ ) ، وهو السيد المعظّم ، والسُبّة _ بالضم _ الأست . تقريع له بفعلته عندما نازل أمير المؤمنين فيى واقعة صفين ، فصال عليه وكاد يقتله ، فكشف عمرو عورته ، فصرف أمير المؤمنين بوجهه عنه وتركه .

ص: 260

أَمَا وَاللّهِ لَيَمْنَعُنِي مِنَ اللَّعِبِ ذِكْرُ الْمَوْتِ ، وَإِنَّهُ لَيَمْنَعُهُ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ نِسْيَانُ الآخِرَةِ ، إِنَّهُ لَمْ يُبَايِعْ مُعَاوِيَةَ حَتَّى شَرَطَ أَنْ يُؤْتِيَهُ أَتِيَّةً ، وَيَرْضَخَ لَهُ عَلى تَرْكِ الدِّينِ رَضِيخَةً (1) .

الشّرْحُ :الدّعابة : المُزاح ، دَعَب الرجل ، بالفتح . ورجل تِلْعابة ، بكسر التاء : كثير اللعب ، والتَّلْعاب ، بالفتح : مصدر « لعب » . والمعافسة : المعالجة والمصارعة ، ومنه الحديث : « عَافَسْنَا النساء » . والممارسة نحوه . يقول عليه السلام : إن عَمْرا يقدح فيَّ عند أهل الشام بالدُّعابة واللعب ، وأني كثير الممازحة ، حتى أني أُلاعب النساء وأغازلهنّ ، فعلَ المترَف الفارغ القلب ، الذي تتقضّى أوقاته بملاذّ نفسه . ويُلحِف : يلجّ في السؤال ؛ قال تعالى : « لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحافا » (2) ؛ ومنه المثل : « ليس للملحِف مِثل الرّدّ » . والإلّ : العهد ، ولمّا اختلف اللفظان حَسُن التقسيم بهما ، وإن كان المعنى واحدا . ومعنى قوله : « ما لم تأخذ السيوف مآخذها » ؛ أي ما لم تبلغ الحرب إلى أن تخالط الرؤوس ، أي هو مليء بالتَّحريض والإغراء قبل أن تلتحِم الحرب ، فإذا التحمت واشتدّت فلا يمكث ، وفعل فَعلته التي فعل . والسَّبَّة : الاست ، وسبّه يَسُبُّهُ : طعنه في السبَّة . ويجوز رفع « أكبر » ونصبه ، فإن رفعتَ فهو الاسم ، وإن نصبتَ فهو الخبر . والأتيّة : العطية ، والإيتاء : الإعطاء . ورضخ له رضخا : أعطاه عطاء بالكثير ، وهي الرّضيخة ؛ لما يعطَى .

.


1- .النابغة : هي سلمى بنت حرملة تلقب بالنابغة ، أُم عمرو بن العاص ، كانت أمة لرجل من عَنَزة ، فسبيت ، فاشتراها عبد اللّه بن جدعان بمكة ، ثمّ أعتقها ، فوقع عليها أبو لهب ، وأُميّة بن خلف ، وهشام بن المغيرة ، وأبو سفيان ، والعاص بن وائل ، فولدت عمرا ، فادعاه كلهم ، ولكنّ امّه اختارت العاص ؛ لأ نّه كان ينفق عليها كثيرا ، وكان عمرو أشبه بأبي سفيان . انظر : الاستيعاب : ص1184 .
2- .سورة البقرة 273 .

ص: 261

84 . من خطبة له عليه السلام في تمجيد اللّه سبحانه وتعظيمه وفيها وصف الجنة

فأمّا ما كان يقوله عمرو بن العاص في علي عليه السلام لأهل الشام : « إنّ فيه دُعابة » يروم أن يعيبه بذلك عندهم ؛ فأصل ذلك كلمة قالها عمر ، فتلقّفها حتى جعلها أعداؤه عيبا له وطعنا عليه . وأنت إذا تأملت حال علي عليه السلام في أيام رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وجدته بعيدا عن أن ينسب إلى الدعابة والمزاح ؛ لأ نّه لم ينقل عنه شيء من ذلك أصلاً ، لا في كتب الشيعة ولا في كتب المحدّثين ، وكذلك إذا تأملت حاله في أيام الخليفتين أبي بكر وعمر ، لم تجد في كتب السيرة حديثا واحدا يمكن أن يتعلّق به متعلّق في دُعابته ومزاحه . والحال في أيام عثمان وأيام ولايته عليه السلام الأمر كالحال فيما تقدّم . ولعمر اللّه كان أبعد الناس من ذلك ، وأي وقت كان يتّسع لعلي عليه السلام حتى يكون فيه على هذه الصفات .

84الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلاموَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ : الْأَوَّلُ لاَ شَيْءَ قَبْلَهُ ، وَالآخِرُ لاَ غَايَةَ لَهُ ، لاَ تَقَعُ الْأَوْهَامُ لَهُ عَلى صِفَةٍ ، وَلاَ تُعْقَدُ الْقُلُوبُ مِنْهُ عَلَى كَيْفِيَّةٍ ، وَلاَ تَنَالُهُ التَّجْزِءَةُ وَالتَّبْعِيضُ ، وَلاَ تُحِيطُ بِهِ الْأَبْصَارُ وَالْقُلُوبُ .

الشّرْحُ :في هذا الفصل على قصره ثماني مسائل من مسائل التوحيد : الأُولى : أ نّه لا ثانيَ له سبحانه في الإلهية . والثانية : أنه قديم لا أوّل له . فإن قلت : ليس يدلُّ كلامه على القدم ، قلت : إذا كان محدَثا كان له محدِث ؛ فكان ذلك المحدث قبله ، فثبت أنه متى صدق أنه ليس شيء قبله صدق كونه قديما . والثالثة : أنه أبدِيٌّ لا انتهاء ولا انقضاء لذاته .

.

ص: 262

والرابعة : نفي الصفات عنه ، أعني المعاني . والخامسة : نفي كونه مكيّفا ؛ لأنّ كيف إنما يُسْأل بها عن ذوي الهيئات والأشكال وهو منزّه عنها . والسادسة : أنه غير متبعّض ؛ لأ نّه ليس بجسم ولا عَرَض . والسابعة : أنه لا يُريد ولا يدرَك . والثامنة : أن ماهيَّتَه غير معلُومة ، وهو مذهب الحكماء وكثير من المتكلِّمين من أصحابنا وغيرهم . وأدلّةُ هذه المسائل مشروحة في كتبنا الكلامية . واعلم أنَّ التوحيد والعدل والمباحث الشريفة الإلهيّة ، ما عرِفت إلاّ من كلام هذا الرجل ، وأنّ كلام غيره من أكابر الصحابة لم يتضمّن شيئا من ذلك أصلاً ؛ ولا كانوا يتصورونه ، ولو تصوّروه لذكروه . وهذه الفضيلة عندي أعظم فضائله عليه السلام .

الأصْلُ :ومنها :فَاتَّعِظُوا عِبَادَ اللّهِ بِالْعِبَرِ النَّوَافِعِ ، وَاعْتَبِرُوا بِالآي السَّوَاطِعِ ، وَازْدَجِرُوا بِالنُّذُرِ الْبَوَالِغِ ، وَانْتَفِعُوا بِالذِّكْرِ وَالْمَوَاعِظِ ، فَكَأَنْ قَدْ عَلِقَتْكُمْ مَخالِبُ المَنِيَّة ، وانْقَطَعَتْ مِنكُمْ عَلائِقُ الأمْنِيَّة ، ودَهَمَتْكُمْ مُفْظِعَاتُ الْأُمُورِ ، وَالسِّيَاقَةُ إِلَى الْوِرْدِ الْمَوْرُودِ ، فَ_ ( كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ) : سَائِقٌ يَسُوقُهَا إِلَى مَحْشَرِهَا ؛ وَشَاهِدٌ يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِعَمَلِهَا .

الشّرْحُ :العِبَر : جمع عِبْرة ، وهي ما يعتبر به أيّ يتعظ . والآي : جمع آية ، ويجوز أن يريدَ بها آي القرآن ، ويجوز أن يريدَ بها آيات اللّه في خلقه ، وفي غرائب الحوادث في العالم . والسواطع : المشرقة المنيرة . والنُّذر : جمع نذير ؛ وهو المخوِّف ، والأحسن أن يكون النُّذر هاهنا هي الإنذارات نفسها ؛ لأ نّه قد وصف ذلك بالبوالغ ، وفواعل لا تكون في الأكثر إلاّ صفة المؤنث . ومُفظِعاتِ الأُمور : شدائدها الشنيعة ، أفظعَ الأمرُ فهو مُفظِع ، ويجوز فظُع الأمر بالضم فظاعة

.

ص: 263

85 . من خطبة له عليه السلام في الوعظ

فهو فظيع ، وأُفْظِع الرجل على ما لم يسمّ فاعله ، أي نزل به ذلك . وقوله : « والسياقة إلى الورد المورود » ؛ يعني الموت . وقوله : « سَائِقٌ وَشَهِيدٌ » ؛ وقد فسّر عليه السلام ذلك وقال : « سائق يسوقها إلى محشَرها ، وشاهد يشهد عليها بعملها » ؛ الأظهر في الأخبار والآثار أنهما مَلكان .

الأصْلُ :ومنها في صفة الجنة :دَرَجَاتٌ مُتَفَاضِلاَتٌ ، وَمَنَازِلُ مُتَفَاوِتَاتٌ ، لاَ يَنْقَطِعُ نَعِيمُهَا ، وَلاَ يَظْعَنُ مُقِيمُهَا ، وَلاَ يَهْرَمُ خَالِدُهَا ، وَلاَ يَبْأَسُ سَاكِنُهَا .

الشّرْحُ :الدّرَجات : جمع درجة ، وهي الطّبقات والمراتب ، ويقال لها : درجات في الجنة ودَرَكات في النار ، وإنما تفاضَلَتْ وتفاوتت بحسب الأعمال ، ولا يجوز أن يقع ذلك تفضُّلاً ؛ لأنّ التفضّل بالثَّواب قبيح . وقوله : « لا ينقطع نعيمها ولا يظعن مقيمها » قولٌ متفق عليه بين أهل الملّة . ويبأس : مضارع بَئِسَ ، وجاء فيه « يَبِئس » بالكسر ، وهو شاذّ كشذوذ « يحسِب » وينعِم ، ومعنى « يبأس » : يصيبه البؤس وهو الشقاء .

85الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامقَدْ عَلِمَ السَّرَائِرَ ، وَخَبَرَ الضَّمَائِرَ ، لَهُ الاْءِحَاطَةُ بِكُلِّ شَيْءٍ ، وَالْغَلَبَةُ لِكُلِّ شَيْءٍ ، وَالْقُوَّةُ

.

ص: 264

عَلَى كُلِّ شَيْءٍ . فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُ مِنْكُمْ فِي أَيَّامِ مَهَلِهِ ، قَبْلَ إِرْهَاقِ أَجَلِهِ ، وَفِي فَرَاغِهِ قَبْلَ أَوَانِ شُغُلِهِ ، وَفِي مُتَنَفَّسِهِ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ بِكَظَمِهِ ، وَلِيُمَهِّدْ لِنَفْسِهِ وَقَدَمِهِ ، وَلْيَتَزَوَّدْ مِنْ دَارِ ظَعْنِهِ لِدَارِ إِقَامَتِهِ . فَاللّهَ اللّهَ أَيُّهَا النَّاسُ ، فِيمَا اسْتَحْفَظَكُمْ مِنْ كِتَابِهِ ، وَاسْتَوْدَعَكُمْ مِنْ حُقُوقِهِ ، فَإِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثا ، وَلَمْ يَتْرُكْكُمْ سُدىً ، وَلَمْ يَدَعْكُمْ فِي جَهَالَةٍ وَلاَ عَمىً ، قَدْ سَمَّى آثَارَكُمْ ، وَعَلِمَ أَعْمَالَكُمْ ، وَكَتَبَ آجَالَكُمْ ، وَأَنْزَلَ عَلَيْكُمُ الْكِتَابَ تِبْيَانا لِكُلِّ شَيْءٍ ، وَعَمَّرَ فِيكُمْ نَبِيَّهُ أَزْمَانا ، حَتَّى أَكْمَلَ لَهُ وَلَكُمْ _ فِيمَا أَنْزَلَ مِنْ كِتَابِهِ _ دِينَهُ الَّذِي رَضِيَ لِنَفْسِهِ ؛ وَأَنْهَى إِلَيْكُمْ _ عَلَى لِسَانِهِ _ مَحَابَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَمَكَارِهَهُ ، وَنَوَاهِيَهُ وَأَوَامِرَهُ ، وَأَلْقَى إِلَيْكُمُ الْمَعْذِرَةَ ، وَاتَّخَذَ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةَ ، وَقَدَّمَ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ، وَأَنْذَرَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ .

الشّرْحُ :السرائر : جمع سَرِيرة ، وهو ما يكتم من السِّرّ . وخبَر الضمائر ، بفتح الباء : امتحنها وابتلاها ، ومن رواه بكسر الباء أراد « علم » ، والاسم الخُبْر ، بضم الخاء وهو العلم . والضمائر : جمع ضمير ، وهو ما تضمره وتكنّه في نفسك . وفي قوله : « له الإحاطة بكلّ شيء » ؛ وقد بينها ثلاث مسائل في التوحيد : إحداهنّ : أنه تعالى عالم بكلِّ المعلومات . والثانية : أنه لا شريك له ، وإذا ثبت كونه عالما بكلّ شيء كان في ضمن ذلك نفي الشريك ؛ لأنّ الشريك لا يكون مغلوبا . والثالثة : أنه قادر على كلّ ما يصح تعلق قادريته تعالى به . وقوله : « ليعمل العامل منكم » إلى قوله : « وليتزوّد من دار ظعنه لدار إقامته » مأخوذٌ من قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في خطبته المشهورة وهي : « أيّها الناس ؛ إنّ لكم معالمَ فانتهُوا إلى معالمكم وإن لكم غاية فانتهوا إلى غايتكم . إن المؤمن بين مخافتين : بين أجل قد مَضى لا يدرِي ما اللّه صانعٌ به ، وأجلٍ قد بقَي لا يدري ما اللّه قاضٍ فيه ، فليأخذ العبدُ من نفسه

.

ص: 265

للنفسه ، ومِنْ دنياه لآخرته ، ومن الشَّبيبة قبل الهَرَم ، ومن الحياة قبل الموت ؛ فوالذي نفس محمد بيده ما بعدَ الموت من مستعتَب ، وما بعدَ الدنيا من دار إلاّ الجنة أو النار » . والمهَل : المهلة والتؤدة . والإرهاق : مصدر أرهق ، تقول : أرهقه قِرنه في الحرب إرهاقا إذا غشيَه ليقتله . وفي متنفّسه ، أي في سعَة وقته ؛ يقال : أنت في نفَس من أمرك ، أي في سعَة . والكَظَم بفتحهما : مخرج النَّفَس ، والجمع أكْظَام . ويجوز ظعْنه وظعَنه ، بتحريك العين وتسكينها ، وقرئ بهما : « يوم ظعْنكم » (1) « وظعَنكم » . ونصب « اللّهَ اللّهَ » على الإغراء ، وهو أن تقدّر فعلاً ينصب المفعول به ؛ أي اتقوا اللّه ، وجعلِ تكرير اللفظ نائبا عن الفعل المقدّر ودليلاً عليه . استحفظكم من كتابه : جعلكم حَفَظة له ؛ جمع حافظ . السُّدَى : المهمَل ، ويجوز سَدى بالفتح ، أسديت الإبل : أهملتها . وقوله : « قد سمّى آثاركم » يفسَّر بتفسيرين : أحدهما : قد بيّن لكم أعمالكم خيرها وشرها ؛ كقوله تعالى : « وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ » (2) . والثاني : قد أعلى مآثركم ، أي رفع منازلكم إن أطعتم ، ويكون سمّى بمعنى أسْمَى ، كما كان في الوجه الأول بمعنى أبان وأوضح . والتِبْيان ، بكسر التاء : مصدر ، وهو شاذّ ؛ لأنّ المصادر إنما تجيء على « التَفعال » بفتحها مثل التَّذكار والتَّكرار ، ولم يأت بالكسر إلاّ حرفان وهما : التِّبْيان والتِّلْقَاء . وقوله : « حتى أكْمل له ولكم دينه » من قوله تعالى : « اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي » (3) . وقوله : « الذي رضي لنفسه » من قوله تعالى : « وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ » (4) ؛ لأ نّه إذا ارتضى لهم فقد ارتضاه لنفسه ، أي ارتضى أن ينسُب إليه ، فيقال : هذا دين الحق . « وأنهَى إليكم » : عرّفكم وأعلمكم . ومحابّه : جمع محبة ، ومكارهه : جمع مَكْرهة ، وهي ما تكره ، وفي هذا دلالة أن اللّه تعالى يحب الطاعة ويكره المعصية ، وهو خلاف قول المجبِّرة . والأوامر : جمع آمِر ، وأنكره قوم وقالوا : هاهنا جمع « أمْر » ، كالأحاوِص جمع أحْوص ، والأحامِر جمع أحْمر . يعني الكلام الآمر لهم بالطاعات وهو القرآن . والنَّواهي : جمع ناهِية ،

.


1- .سورة النحل 80 .
2- .سورة البلد 10 .
3- .سورة المائدة 3 .
4- .سورة النور 55 .

ص: 266

كالسّواري جمع سارِية ، والغوادي جمع غادية ، يعني الآيات الناهية لهم عن المعاصي . وقوله : « وألقى إليكم المعذِرة » كلام فصيح ، وهو من قوله تعالى : « ألْقَى إلَيْكُمُ السَّلاَم » (1) . وقدّم إليكم بالوعيد ، وأنذركم بين يدي عذاب شديد ، أي أمامه وقبله ، مأخوذ أيضا من القرآن . ومعنى قوله : « بين يدي عذاب شديد » ، أي أمامه وقبله ؛ لأنّ ما بين يديك متقدم لك .

الأصْلُ :فَاسْتَدْرِكُوا بَقِيَّةَ أَيَّامِكُمْ ، وَاصْبِرُوا لَهَا أَنْفُسَكُمْ ، فَإِنَّهَا قَلِيلٌ فِي كَثيرِ الْأَيَّامِ الَّتِي تَكُونُ مِنْكُمْ فِيهَا الْغَفْلَةُ ، وَالتَّشَاغُلُ عَنِ الْمَوْعِظَةِ ؛ وَلاَ تُرَخِّصُوا لِأَنْفُسِكُمْ ، فَتَذْهَبَ بِكُمُ الرُّخَصُ مَذَاهِبَ الْظَّلَمَةِ ، وَلاَ تُدَاهِنُوا فَيَهْجُمَ بِكُمُ الاْءِدْهَانُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ . عِبَادَ اللّهِ ، إِنَّ أَنْصَحِ النَّاسِ لِنَفْسِهِ أَطْوَعُهُمْ لِرَبِّهِ ؛ وَإِنَّ أَغَشَّهُمْ لِنَفْسِهِ أَعْصَاهُمْ لِرَبِّهِ ؛ وَالْمَغْبُونُ مَنْ غَبَنَ نَفْسَهُ ، وَالْمَغْبُوطُ مَنْ سَلِمَ لَهُ دِينُهُ ، وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ ، والشَّقِيُّ مَنِ انْخَدَعَ لِهَوَاهُ وَغُرُورِهِ . وَاعْلَمُوا أَنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ ، وَمُجَالَسَةَ أَهْلِ الْهَوَى مَنْسَاةٌ لِلاْءِيمَانِ ، وَمَحْضَرَةٌ لِلشَّيْطَانِ . جَانِبُوا الْكَذِبَ فَإِنَّهُ مُجَانِبٌ لِلإِيمَانِ . الصَّادِقُ عَلَى شَفَا مَنْجَاةٍ وَكَرَامَة ، وَالْكَاذِبُ عَلَى شَرَفِ مَهْوَاةٍ وَمَهَانَة . وَلاَ تَحَاسَدُوا ، فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الاْءِيمانَ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ ، وَلاَ تَبَاغَضُوا فَإِنَّهَا الْحَالِقَةُ ؛ وَاعْلَمُوا أَنَّ الْأَمَلَ يُسْهِي الْعَقْلَ ، وَيُنْسِي الذِّكْرَ . فَأَكْذِبُوا الْأَمَلَ فَإِنَّهُ غُرُورٌ ، وَصَاحِبُهُ مَغْرُورٌ .

الشّرْحُ :قوله : « فاستدركوا بقيّة أيامكم » ؛ يقال : « استدركت ما فات وتداركت ما فات » ، بمعنى « واصبروا لها أنفسكم » ، مأخوذ من قوله تعالى : « وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ

.


1- .سورة النساء 94 .

ص: 267

والْعَشِيِّ » (1) ؛ يقال : « صبر فلان نفسه على كذا » ، أي حبَسها عليه . يتعدّى فينصب . والضمير في « فإنها قليل » عائد إلى الأيام التي أمرهم باستدراكها . يقول : إن هذه الأيام التي قد بقيَت من أعماركم قليلة ، بالنسبة والإضافة إلى الأيام التي تغفلون فيها عن الموعظة . وقوله : « فإنها قليل » فأخبر عن المؤنث بصيغة المذكر ، إنما معناه فإنها شيء قليلٌ بحذف الموصوف ؛ كقوله : « وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقا » (2) أي قَبِيلاً رفيقا . ثم قال : « ولا تُرَخّصوا » ، نَهَى عن الأخذ برُخَص المذاهب ؛ وذلك لأ نّه لا يجوز للواحد من العامة أن يقلّد كلاًّ من أئمة الاجتهاد فيما خفَّ وسَهُل من الأحكام الشرعية . أو لا تُساهلوا أنفسكم في ترك تشديد المعصية ، ولا تسامحوها وترخّصوا إليها في ارتكاب الصغائر والمحقّرات من الذنوب ، فتهجُم بكم على الكبائر ؛ لأنّ من مَرَن على أمرٍ تدرّج من صغيره إلى كبيره . والمداهنة : النفاق والمصانعة ، والإدهان مثله ؛ قال تعالى : « وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ » (3) . قوله : « إنّ أنصحَ الناس لنفسه أطوعُهم لربه » ؛ لأ نّه قد صانها عن العقاب ، وأوجب لها الثواب ؛ وذلك غاية ما يمكن من نصيحتها ونفعها . قوله : « وإن أغشّ الناس لنفسه أعصاهم لربه » ؛ لأ نّه ألقاها في الهلاك الدائم ، وذلك أقصى ما يمكن من غِشّها والإضرار بها. ثم قال : « والمغبونُ من غبَن نفسه » ، أي أحقّ الناس أن يسمَّى مغبونا مَنْ غَبَن نفسه ، يقال : غبنتُه في البيع غبْناً ، بالتسكين ، أي خدعتُه ، وقد غُبِن فهو مغبون ، وغبِن الرجل رأيه بالكسر غبَناً بالتحريك فهو غَبين ، أي ضعيف الرأي ، وفيه غَبَانة . ولفظ الغَبْن يدلّ على أنه من باب غَبْن البيع والشراء ؛ لأ نّه قال : « والمغبون » ولم يقل : « والغبين » . والمغبوط : الذييُتمنّى مثلُ حاله ، والذي يتمنى زوالَ حاله وانتقالها هو الحاسد ، والحسد مذموم ، والغبطة غير مذمومة . قوله : «والسعيد من وُعظ بغيره » مثَل من الأمثال النبوية . وقوله عليه السلام : « مَنْسَاة للإيمان » ، أي داعية إلى نسيان الإيمان وإهماله ، والإيمان الاعتقاد والعمل . ومحضرة للشيطان : موضع حضوره ، كقولك : مَسْبَعة ، أي موضع السباع . ومَفْعَاة ، أي موضع الأفاعي . ثم نهى عن الكذب وقال : « إنه مجانب للإيمان » وكذا ورد في الخبر

.


1- .سورة الكهف 28 .
2- .سورة النساء 69 .
3- .سورة القلم 9 .

ص: 268

86 . من خطبة له عليه السلام ، ذكر فيها صفات من يحبّه اللّه وحاله مع الناس

المرفوع . وشَفا منجاة ؛ أي حَرْف نجاة وخَلاَص ؛ وشفا الشيء حرفه ، قال تعالى : « وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ » (1) ؛ وأشفى على الشيء وأشرف عليه بمعنىً ؛ وأكثر ما يقال ذلك في المكروه ، يقال : أشْفى المريض على الموت ، وقد استعمله هاهنا في غير المكروه . والشّرَف : المكان العالي ، بفتح الشين ، وأشرفْت عليه ، أي اطّلعت من فوق . والمَهْواة : موضع السقوط . والمهانة : الحقارة . ثم نهى عن الحسَد وقال : « إنه يأكلُ الإيمان كما تأكل النار الحطب » ، وقد ورد هذا الكلام في الأخبار المرفوعة ؛ وقد تقدّم منا كلام في الحسد ، وذكرنا كثيرا مما جاء فيه . ثم نهى عن المباغضة وقال : « إنها الحالقة » ، أي المستأصِلة التي تأتي على القوم ، كالحلْق للشعر . ثم نهى عن الأمل وطُوله وقال : « إنه يورث العقل سهوا ، وينسي الذكر » . ثم أمر بإكذاب الأمل ، ونهى عن الاعتماد عليه ، والسكون إليه ، فإنه من باب الغرور .

86الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامعِبَادَ اللّهِ ، إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ اللّهِ إلَيْهِ عَبْدا أَعَانَهُ اللّهُ عَلَى نَفْسِهِ ، فَاسْتَشْعَرَ الْحُزْنَ ، وَتَجَلْبَبَ الْخَوْفَ ؛ فَزَهَرَ مِصْبَاحُ الْهُدَى فِي قَلْبِهِ ، وَأَعَدَّ الْقِرَى لِيَوْمِهِ النَّازِلِ بِهِ ، فَقَرَّبَ عَلَى نَفْسِهِ الْبَعِيدَ ، وَهَوَّنَ الشَّدِيدَ . نَظَرَ فَأَبْصَرَ ، وَذَكَرَ فَاسْتَكْثَرَ ، وَارْتَوَى مِنْ عَذْبٍ فُرَاتٍ سُهِّلَتْ لَهُ مَوَارِدُهُ ، فَشَرِبَ نَهَلاً ، وَسَلَكَ سَبِيلاً جَدَدا . قَدْ خَلَعَ سَرَابِيلَ الشَّهَوَاتِ ، وَتَخَلَّى مِنَ الْهُمُومِ ، إِلاَّ هَمّا وَاحِدَا انْفَرَدَ بِهِ ، فَخَرَجَ مِنْ صِفَةِ الْعَمَى ، وَمُشَارَكَةِ أَهْلِ الْهَوَى ، وَصَارَ مِنْ مَفَاتِيحِ أَبْوَابِ الْهُدَى ، وَمَغَالِيقِ أَبْوَابِ الرَّدَى . قَدْ أَبْصَرَ طَرِيقَهُ ، وَسَلَكَ سَبِيلَهُ ، وَعَرَفَ مَنَارَهُ ، وَقَطَعَ غِمَارَهُ ،

.


1- .سورة آل عمران 103 .

ص: 269

وَاسْتَمْسَكَ مِنَ الْعُرَى بِأَوْثَقِهَا ، وَمِنَ الْحِبَالِ بِأَمْتَنِهَا ، فَهُوَ مِنَ الْيَقِينِ عَلَى مِثْلِ ضَوْءِ الشَّمْسِ ، قَدْ نَصَبَ نَفْسَهُ للّهِ _ سُبْحَانَهُ _ فِي أَرْفَعِ الْأُمُورِ ، مِنْ إِصْدَارِ كُلِّ وَارِدٍ عَلَيْهِ ، وَتَصْييرِ كُلِّ فَرْعٍ إِلَى أَصْلِهِ . مِصْبَاحُ ظُلُمَاتٍ ، كَشَّافُ عَشَوَاتٍ ، مِفْتَاحُ مُبْهَمَاتٍ ، دَفَّاعُ مُعْضَلاَتٍ ، دَلِيلُ فَلَوَاتٍ ، يَقُولُ فَيُفْهِمُ ، وَيَسْكُتُ فَيَسْلَمُ . قَدْ أَخْلَصَ للّهِ فَاسْتَخْلَصَهُ ، فَهُوَ مِنْ مَعَادِنِ دِينِهِ ، وَأَوْتَادِ أَرْضِهِ . قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْعَدْلَ ، فَكَانَ أَوَّلَ عَدْلِهِ نَفْيُ الْهَوَى عَنْ نَفْسِهِ . يَصِفُ الْحَقَّ وَيَعْمَلُ بِهِ ، لاَ يَدَعُ لِلْخَيْرِ غَايَةً إِلاَّ أَمَّهَا ، وَلاَ مَظِنَّةً إِلاَّ قَصَدَهَا ، قَدْ أَمْكَنَ الْكِتَابَ مِنْ زِمَامِهِ ، فَهُوَ قَائِدُهُ وَإِمَامُهُ ، يَحُلُّ حَيْثُ حَلَّ ثَقَلُهُ ، وَيَنْزِلُ حَيْثُ كَانَ مَنْزِلُهُ .

الشّرْحُ :استشعر الحزن : جعله كالشعار ، وهو ما يلِي الجسد من الثياب . وتجلبَب الخوف : جعله جلبابا ، أي ثوبا . زهر مصباح الهدى : أضاء . وأعدّ القِرَى ليومه ، أي أعدّ ما قدمه من الطاعات قرىً لضيف الموتِ النازل به . والفُرات : العذب . وقوله : « فشرب نَهلاً » ؛ يجوز أن يكون أراد بقوله : « نَهَلاً » المصدرَ ، من نَهَلَ يَنْهَلُ نَهَلاً ، أي شرب حتى رَوِيَ ، ويجوز أن يريد بالنَّهَل الشرب الأول خاصة ، ويريد أنه اكتفى بما شربه أولاً ، فلم يحتج إلى العَلل . وطريق جَدَدٌ : لا عثار فيه لقوة أرضه . وقطع غِماره ؛ يقال : بحر غَمْر ، أي كثير الماء ، وبحار غِمار . واستمسك من العرى بأوثقها ؛ أي من العقود الوثيقة ، قال تعالى : « فَقَدِ استَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى » (1) . ونصب نفسه للّه ، أي أقامها . كشّاف عَشَوات : جمع عُشْوة وعَشْوة وعِشْوة ، بالحرَكات الثلاث ، وهي الأمر الملتبس ؛ يقال : أوطأني عَشْوةً . والمعضِلات : جمع معضلة وهي الشدائد والأُمور التي لا يهتدى لوجهها . دليل فلوات ، أي يُهتدى به كما يَهتدي الركب في الفلاة بدليلهم . أمّها : قصدها . ومظنّة الشيء : حيث يُظنّ وجوده . والثَّقَل . متاع المسافر وحشَمه . واعلم أنّ هذا الكلام منه أخذ أصحاب

.


1- .سورة البقرة 256 .

ص: 270

علم الطريقة والحقيقة علمهم ، وهو تصريح بحال العارف ومكانته من اللّه تعالى . واعلم أن الصفات والشروط والنعوت التي ذكرها في شرح حال العارف ، إنما يعني بها نفسَه عليه السلام ؛ وهو من الكلام الذي له ظاهر وباطن ؛ فظاهره أن يشرح حال العارف المطلق ، وباطنه أن يشرح حال عارف معيّن ، وهو نفسه عليه السلام . وسيأتي في آخر الخطبة ما يدلّ على ذلك . ونحن نذكر الصفات التي أشار عليه السلام إليها واحدة واحدة : فأوّلُها : أن يكون عبدا أعانه اللّه على نفسه ، ومعنى ذلك أن يخصّه بألطاف ، يختار عندها الحَسن ويتجنّب القبيح ، فكأنه أقام النفس في مقام العدوِّ ، وأقام الألطافَ مقام المعونة التي يمدّه اللّه سبحانه بها ، فيكسِر عادية العدوّ المذكور ؛ وبهذا الاعتبار سمّى قومٌ من المتكلمين اللطف عَوْنا . وثانيها : أن يستشعر الحزن ، أي يحزن على الأيام الماضية ، إن لم يكن اكتسب فيها من موجبات الاختصاص أضعاف ما اكتسبه . وثالثها : أن يتجلببَ الخوف ، أي يخاف من الإعراض عنه ، بأن يصدر عنه ما يمحوه من جريدة المخلِصين . ورابعها : أن يُعِدّ القِرَى لضيف المنيّة ، وذلك بإقامة وظائف العبادة . وخامسها : أن يقرّب على نفسه البعيد ، وذلك بأن يمثّل الموت بين عينيه صباحا ومساءً ، وألاّ يطيل الأمل . وسادسها : أن يهوّن عليه الشدائد ؛ وذلك باحتمال كُلَف المجاهدة ورِياضة النفس على عمل المشاقّ . وسابعها : أن يكون قد نظر فأبصر ، وذلك بترتيب المقدّمات المطابقة لمتعلّقاتها ترتيبا صحيحا ، لتنتج العلم اليقيني . وثامنها : أن يذكر اللّه تعالى فيستكثرَ من ذكره ؛ لأنّ ذكره سبحانه والإكثار منه ، يقتضي سكونَ النفس وطُمأْنينتها ، كما قال تعالى : « أَلا بِذِكْر اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلوبُ » (1) . وتاسعها : أن يرتوِيَ من حبّ اللّه تعالى ، وهو العذب الفُرات ، الذي سهل موارده على من

.


1- .سورة الرعد 28 .

ص: 271

انتخبه اللّه ، وجعله أهلاً للوصول إليه ، فشرب منه ونَهَل ، وسلك طريقا لا عَثار فيه ولا وَعْث . وعاشرها : أن يخلَعَ سرابيلَ الشهوات ؛ لأنّ الشهوات تصدِئ مرآة العقل ، فلا تنطبع المعقولات فيها كما ينبغي ، وكذلك الغَضب . وحادي عشرها : أن يتخلّى من الهموم كلّها ؛ لأنها تزيّدات وقواطع عن المطلوب ، إلاّ همّاً واحدا وهو همّه بمولاه ، الذي لذّته وسروره الاهتمام به ، والتفرد بمناجاته ومطالعة أنوار عِزّته ، فحينئذٍ يخرج عن صفة أهل العَمى ، ومن مشاركة أهل الهوى ؛ لأ نّه قد امتاز عنهم بهذه المرتبة والخاصيّة التي حصلت له فصار مفتاحا لباب الهدى ، ومِغْلاقاً لباب الضلال والردى ، قد أبصر طريق الهدى ، وسلك سبيله ، وعرف مناره ، وقطع غماره . وثاني عشرها : أن ينصِبَ نفسَه للّه في أرفع الأُمور ، وهو الخلوة به ، ومقابلة أنوار جلاله بمرآة فكره ، حتى تتكيّف نفسه بتلك الكيفية العظيمة الإشراق ، فهذا أرفع الأُمور وأجلّها وأعظمها ، وقد رَمَز في هذا الفصل ، ومزجه بكلام خرج به إلى أمر آخر ، وهو فقه النفس في الدين ، والأُمور الشرعية النافعة للناس في دنياهم وأُخراهم ؛ أمّا في دنياهم فلردْع المفْسِد وكفّ الظالم ، وأما في أُخراهم فللفوز بالسعادة باعتبار امتثال الأوامر الإلهية . فقال : « في إصدار كلّ وارد عليه » ؛ أي في فُتيا كلّ مستفتٍ له ، وهداية كلّ مسترشِد له في الدين ؛ ثم قال : « وتصيير كلّ فرع إلى أصله » . ويمكن أن يحتجّ بهذا من قال بالقياس ، ويمكن أن يقال : إنه لم يُرد ذلك ، بل أراد تخريج الفروع العقلية ، وردّها إلى أُصولها ؛ كما يتكلف أصحابنا القول في بيان حكمة القديم تعالى ، في الآلام وذبح الحيوانات ، ردّا له إلى أصل العدل ، وهو كونه تعالى لا يفعل القبيح . وثالث عشرها : أن يكون مصباحا لظلمات الضلال ، كشّافا لعشَوات الشُّبَه ، مفتاحا لمبْهَمات الشُّكوك المستغلقة ، دفَّاعاً لمعضلات الاحتجاجات العقلية الدقيقة الغامضة ، دليلاً في فلوات الأنظار الصعبة المشتبهة ، ولم يكن في أصحاب محمد صلى الله عليه و آله وسلمأحد بهذه الصفة إلاّ هو . ورابع عشرها : أن يقول مخاطبا لغيره فيُفهمه ماخاطبه به ، وأن يسكت فيَسلم ، وذلك لأ نّه ليس كل قائل مُفهما ، ولا كل ساكت سالما . وخامس عشرها : أن يكونَ قد أخلصَ للّه فاستخلَصه اللّه ، والإخلاص للّه مقام عظيم

.

ص: 272

جدّا ، وهو ينزّه الأفعال عن الرّياء ، وألاّ يمازج العبادة أمر لا يكون للّه سبحانه . وقوله : « فهو من معادن دينه وأوتاد أرضه » ، معادن دينه : الذين يُقتبس الدين منهم ، كمعادن الذهب والفضة ، وهي الأرضون التي يلتقط ذلك منها ، وأوتاد أرضه : هم الذين لولاهم لمادَت الأرض وارتجّت بأهلها ، وهذا من باب الاستعارة الفصيحة ، وأهل هذا العلم يقولون : أوتاد الأرض جماعة من الصالحين ، ولهم في الأوتاد والأبدال والأقطاب كلامٌ مشهور في كتبهم . وسادس عشرها : أن يكون قد ألزَم نفسه العدل ، والعدالة : مَلَكه تصدُر بها عن النفس الأفعال الفاضلة خلقا لا تخلّقا . ثم إنه عليه السلام ذكر حال هذا العارف العادل فقال : « أوّل عدله نفي الهوى عن نفسه » ، وذلك لأنّ من يأمر ولا يأتمر ، وينهى ولا ينتهي ، لا تؤثر عظته ، ولا ينفع إرشاده . ثم شرح ذلك فقال : « يصف الحق ويعمل به » . ثم قال : « لا يدع للخير غاية إلاّ أمّها ، ولا مَظِنّةً إلاّ قصدها » ؛ وذلك لأنّ الخير لذته وسروره وراحته ، فمتى وجد إليه طريقا سلكها ، ثم قال : « قد أمكن الكتاب _ يعني القرآن _ مِن زمامه » ، أي قد أطاع الأوامر الإلهية ، فالقرآن قائده وإمامُه ، يحلّ حيث حلّ ، وينزل حيث نزل .

الأصْلُ :وَآخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالِما وَلَيْسَ بِهِ ، فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّالٍ ، وَأَضَالِيلَ مِنْ ضُلاَّلٍ ، وَنَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكا مِنْ حَبَائِلِ غُرُورٍ ، وَقَوْلِ زُورٍ ؛ قَدْ حَمَلَ الْكِتَابَ عَلَى آرَائِهِ ؛ وَعَطَفَ الْحَقَّ عَلَى أَهْوَائِهِ ، يُؤَمِّنُ النَّاسَ مِنَ الْعَظَائِمِ ، وَيُهَوِّنُ كَبِيرَ الْجَرَائِمِ ، يَقُولُ : أَقِفُ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ ، وَفِيهَا وَقَعَ ؛ وَيَقُولُ : أَعْتَزِلُ الْبِدَعَ ، وَبَيْنَهَا اضْطَجَعَ ؛ فَالصُّورَةُ صُورَةُ إِنْسَانٍ ، وَالْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوَانٍ ، لاَ يَعْرِفُ بَابَ الْهُدَى فَيَتَّبِعَهُ ، وَلاَ بَابَ الْعَمَى فَيَصُدَّ عَنْهُ . وَذلِكَ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ! فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ؟ وَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ! وَالْأَعْلاَمُ قَائِمَةٌ ، وَالآيَاتُ وَاضِحَةٌ ، وَالْمَنَارُ مَنْصُوبَةٌ ، فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ ! وَكَيْفَ تَعْمَهُونَ وَبَيْنَكُمْ عِتْرَةُ نَبِيِّكُمْ ! وَهُمْ أَزِمَّةُ الْحَقِّ ، وَأَعْلاَمُ الدِّينِ ، وَأَلْسِنَةُ الصِّدْقِ ! فَأَنْزِلُوهُمْ بِأَحْسَنِ مَنَازِلِ الْقُرْآنِ ، وَرِدُوهُمْ وُرُودَ

.

ص: 273

الْهِيمِ الْعِطَاشِ. أَيُّهَا النَّاسُ ، خُذُوهَا عَنْ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ : « إِنَّهُ يَمُوتُ مَنْ مَاتَ مِنَّا وَلَيْسَ بِمَيِّتٍ ، وَيَبْلَى مَنْ بَلِيَ مِنَّا وَلَيْسَ بِبَالٍ » فَلاَ تَقُولُوا بِمَا لاَ تَعْرِفُونَ ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْحَقَّ فِيمَا تُنْكِرُونَ ، وَاعْذِرُوا مَنْ لاَ حُجَّةَ لَكُمْ عَلَيْهِ _ وَهُوَ أَنَا _ ، أَلَمْ أَعْمَلْ فِيكُمْ بِالثَّقَلِ الْأَكْبَرِ ! وَأَتْرُكْ فِيكُمُ الثَّقَلَ الْأَصْغَرَ ! قَدْ رَكَزْتُ فِيكُمْ رَايَةَ الاْءِيمَانُ ، وَوَقَفْتُكُمْ عَلَى حُدُودِ الْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ ، وَأَلْبَسْتُكُمُ الْعَافِيَةَ مِنْ عَدْلِي ، وَفَرَشْتُكُمُ الْمَعْرُوفَ مِنْ قَوْلِي وَفِعْلِي ، وَأَرَيْتُكُمْ كَرَائِمَ الْأَخْلاَقِ مِنْ نَفْسِي . فَلاَ تَسْتَعْمِلُوا الرَّأْيَ فِيمَا لاَ يُدْرِكُ قَعْرَهُ الْبَصَرُ ، وَلاَ تَتَغَلْغَلُ إِلَيْهِ الْفِكَرُ .

الشّرْحُ :الجهائل : جمع جهالة ؛ كما قالوا : عَلاقة وعلائق . والأضاليل : الضّلال ، جمعٌ لا واحد له من لفظه . وقوله : « وقد حمل الكتاب على آرائه » ، يعني قد فسَّر الكتاب وتأوّلَه على مُقتضى هواه وقد أوضح ذلك بقوله : « وعطف الحقَّ على أهوائه » . وقوله : « يؤمِن الناس من العظائم » ، فيه تأكيد لمذهب أصحابنا في الوعيد ، وتضعيف لمذهب المرجِئة الذين يؤمنون الناس من عظائم الذنوب ، ويُمنُّونهم العفوَ ؛ مع الإصرار وترك التَّوْبة . وجاء في الخبر المرفوع المشهور : « الكيِّس مَنْ دانَ نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والأحمق من أتْبَع نفسَه هواها ، وتمنَّى على اللّه » . وقوله : « يقول أقف عند الشبهات » ؛ يعني أنّ هذا المدّعِيَ للعلم يقول لنفسه وللناس : أنا واقف عند أدْنَى شبهة تحرُّجا وتورُّعا ؛ كما قال صلى الله عليه و آله وسلم : « دَعْ ما يريبُك إلى ما لا يريبُك » . ثم قال : « وفي الشبهات وَقَع » ، أي بجهله ؛ لأنّ مَنْ لا يعلم الشبهة ما هي ، كيف يقفُ عندها ، ويتحرّج من الورْطة فيها ، وهو لا يأمن من كونها غير شبهة على الحقيقة! وقوله : « اعتزل البِدَع ، وبينها اضطجع » ؛ إشارة إلى تضعيف مذاهب العامة والحشَوِيّة الذين رفضوا النَّظر العقليّ ، وقالوا : نعتزل البدع .

.

ص: 274

وقوله : « فالصورة صورة إنسان ... » وما بعده ، فمراده بالحيوان هاهنا الحيوان الأخرس كالحِمار والثور ، وليس يريد العموم ؛ لأنّ الإنسان داخل في الحيوان ، وهذا مثل قوله تعالى : « إنْ هُمْ إلاَّ كالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً » (1) . قوله : « وذلك مَيّت الأحياء » كلمة فصيحة ، وقد أخذها شاعر فقال : لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَراحَ بِمَيْتٍإنَّمَا الميْتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ إلاّ أن أمير المؤمنين عليه السلام أراد لجهله ، والشاعر أراد لبؤسه . وتُؤفكُون : تقلبون وتصرَفُون . والأعلام : المعجزات هاهنا ؛ جمع عَلَم ، وأصله الجبل أو الراية والمنارة ، تنصَب في الفَلاة ليهتدى بها . وقوله : « فأيْنَ يُتاه بكم ! » أي أين يذهب بكم في التيه ! ويقال : أرضٌ تَيْهاء يتحيَّر سالكها . وتَعمَهُون : تتحيّرون وتَضِلّون . وعِتْرَة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : أهلُه الأدْنَوْن ونسله ؛ وليس بصحيح قول مَنْ قال : إنّهم رهطُه وإن بعدوا ؛ وقد بَيّن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عِتْرتَه مَنْ هي ، لما قال : « إنّي تارك فيكم الثَّقَلَيْن » ، فقال : « عِترتي أهل بيتي » ، وبيّن في مقام آخر مَن أهلُ بيته حيث طرح عليهم كساء . وقال حين نزلت : « إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ الْبَيْتِ » (2) : « اللهم هؤلاء أهلُ بيتي فأذهب الرجس عنهم » . فإن قلت : فمَنْ هي العِتْرة التي عناها أمير المؤمنين عليه السلام بهذا الكلام؟ قلت : نفسه وولداه ؛ والأصْلُ في الحقيقة نفسه ؛ لأنّ ولديه تابعان له ؛ ونسبتهما إليه مع وجوده كنسبة الكواكب المضيئة مع طلوع الشمس المشرقة ، وقد نبّه النبي صلى الله عليه و آله وسلم على ذلك بقوله : « وأبوكما خير منكما » . وقوله : « وهم أزمّة الحقّ » : جمع زمام ؛ كأنه جعل الحقّ دائراً معهم حيثما داروا ، وذاهبا معهم حيثما ذهبوا ، كما أن الناقة طَوْع زمامها ، وقد نبَّه الرسول صلى الله عليه و آله وسلم على صِدْق هذه القضية بقوله : « وأدِر الحقّ معه حيث دار » . وقوله : « وألسنة الصّدق » من الألفاظ الشريفة القرآنية ، قال اللّه تعالى : « وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ » (3) ، لما كان لا يصدرُ عنهم حكم ولا قول إلاّ وهو موافق للحق والصواب ؛

.


1- .سورة الفرقان 44 .
2- .سورة الأحزاب 33 .
3- .سورة الشعراء 84 .

ص: 275

جعلَهم كأنّهم ألسِنَةُ صِدْقٍ لا يصدر عنها قول كاذب أصلاً ؛ بل هي كالمطبوعة على الصدق . وقوله : « فأنزلوهُم منازل القرآن » تحته سرٌّ عظيم ؛ وذلك أ نّه أمر المكلَّفِين بأنْ يُجْروا العِتْرة في إجلالها وإعظامها والانقياد لها والطاعة لأوامرها مَجْرَى القرآن . فإن قلت : فهذا القول منه يُشعِرُ بأنّ العِتْرة معصومة ، فما قول أصحابكم في ذلك؟ قلت : نصّ أبو محمد بن متَّويْه ؛ رحمه اللّه تعالى في كتاب « الكفاية » على أنّ عليا عليه السلام معصوم ، وإنْ لم يكُنْ واجبَ العصمة ، ولا العصمة شرط في الإمامة ؛ لكن أدلّة النصوص قد دلَّتْ على عِصْمَتِه ؛ والقطع على باطنه ومغيبه ، وأنّ ذلك أمرٌ اختصّ هو به دون غيره من الصحابة ؛ والفرق ظاهرٌ بين قولنا : « زيد معصوم ، وبين قولنا : « زيد واجب العصمة » ، لأ نّه إمام ؛ ومِنْ شرط الإمام أن يكون معصوما ، فالاعتبار الأول مذهبنا ، والاعتبار الثاني مذهب الإمامية . ثم قال : « ورِدوهم وِرْد الهِيم العطاش » ، أي كونوا ذوي حِرْصٍ وانكماش على أخذ العلم والدين منهم ، كحِرْص الهِيم الظماء على وُرود الماء . ثم قال : « أيُّها الناس خذوها عن خاتم النبيين » إلى قوله : « وليس ببالٍ » هذا الموضع يحتاج إلى تلطّف في الشرح ؛ لأنّ لقائلِ أنْ يقولَ : ظاهر هذا الكلام متناقض ، لأ نّه قال : « يموت مَنْ مات منا وليس بميت » ، وهذا كما تقول : يتحرّك المتحرّك وليس بمتحرّك ، وكذلك قوله : ويبلى مَنْ بلي منا ، وليس ببال » ، ألا ترى أ نّه سلْب وإيجاب لشيء واحد! فنقول في الجواب : إنّ هذا يُمكن أن يحمَل على وجهين : أحدُهما : أن يكونَ النبي صلى الله عليه و آله وسلم وعليٌّ ومَنْ يتلوهُما من أطايب العِترة أحياءً بأبدانهم التي كانت في الدنيا بأعيانها ؛ قَدْ رَفعهم اللّه تعالى إلى ملكوت سماواته ؛ وعلى هذا لو قدرنا أن محتفِرا احتفر تلك الأجداث الطاهرة عقب دَفْنهم لم يجد الأبدان في الأرض ؛ وقد روي في الخبر النبويّ صلى الله عليه و آله وسلم مثل ذلك ؛ وهو قوله : « إنّ الأرض لم تُسَلَّط عليّ ، وأنها لا تأكل لي لحما ولا تشرب لي دماً » نعم يبقى الإشكال في قوله : « ويبلى مَنْ بَلِي منا وليس ببالٍ » ؛ فأحوَج هذا إلى تقدير فاعل محذوف ؛ فيكون تقدير الكلام : يموت مَنْ مات حال موته وليس بميت فيما بعد ذلك من الأحوال والأوقات ، ويَبْلَى كفن مَنْ بَلِيَ منّا وليس هو ببال ؛ فحذف المضاف كقوله : « وَإلَى مَدْيَنَ » (1) ، أي وإلى أهل مدين ؛ ولما كان الكَفَنُ كالجزء من الميت لاشتماله عليه عَبّر بأحدهما عن الآخر للمجاورة والاشتمال، كما عبَّروا عن المطَر بالسماء.

.


1- .سورة الأعراف 85 .

ص: 276

والوجه الثاني : أنّ أكثر المتكَلِّمين ذهبوا إلى أن للإنسان الحيّ الفعّال أجزاء أصلية في هذه البنية المشاهدة ؛ وهي أقلّ ما يمكن أن تأتلف منه البنية التي معها يصحّ كون الحيّ حيّا ، وجعلوا الخطاب متوجّها نحوها ، والتكليف واردا عليها ، وما عداها من الأجزاء ؛ فهي فاضلة ليست داخلة في حقيقة الإنسان ؛ وإذا صحّ ذلك جاز أن ينتزع اللّه تلك الأجزاء الأصلية من أبدان الأنبياء والأوصياء ، فيرفعها إليه بعد أن يخلق لها من الأجزاء الفاضلة عنها نظير ما كان لها في الدار الأُولى . فإن قلت : فهل يجوز أن يُتأوّل كلامُه ، فيقال : لعلّه أراد بقاء الذِّكْر والصيت ؟ قلت : إنه لبعيدٌ ؛ لأنّ غيرَهم يَشْرَكُهم في ذلك ؛ ولأ نّه أخرج الكلام مخرَج المستغرب المستعظم له . فإن قلت : فهل يمكن أن يقال : إن الضَمير يعود إلى النبي صلى الله عليه و آله وسلم ؛ لأ نّه قد ذكره في قوله : « خاتم النبيين » فيكون التقدير : أ نّه يموت مَنْ مات منا والنبي صلى الله عليه و آله وسلم ليس بميت ، ويبلى مَنْ بَلي منا والنبي ليس ببال . قلت : هذا أبعدُ من الأول ؛ لأ نّه لو أراد ذلك لقال : إن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لا تُبليه الأرض ، وإنه الآن حيّ . فإن قلت : فهل هذا الكلام منه أم قاله مرفوعا ؟ قلت : بل ذكَره مرفوعا ، ألا تراه قال : « خذوها عن خاتم النبيين » . ثم نعود إلى التفسير فنقول : إنّه لما قال لهم ذلك علم أنه قال قولاً عجيبا ؛ وذكر أمرا غريبا ، وعلم أنهم ينكِرون ذلك ويعجبون منه ، فقال لهم : فلا تقولوا ما لا تعرفون ؛ أي لا تكذِّبوا أخباري ؛ ولا تكذِّبوا إخبار رسول اللّه لكم بهذا فتقولون ما لا تعلمون صِحَّته ، ثم قال : فإن أكثر الحق في الأُمور العجيبة التي تنكرُونها كإحياء الموتى في القيامة ، وكالصراط والميزان والنار والجنة وسائر أحوال الآخرة . ثم قال : « واعذروا مَنْ لا حجة لكم عليه وهو أنا » ، يقول : قد عَدَلْتُ فيكم ، وأحسنت السيرة وأقمتكم على المحجّة البيضاء ، حتى لم يبق لأحد منكم حُجَّةٌ يحتجّ بها عليّ ، ثم شرح ذلك ، فقال : « عملت فيكم بالثَّقَل الأكبر » ، يعني الكتاب و « خَلَّفت فيكم الأصغر » يعني ولديْه ؛ لأنهما بقية الثَّقَل الأصغر ؛ فجاز أن يطلق عليهما بعد ذهاب مَنْ ذهب منه أنهما الثقل الأصغر ؛ وإنما سمّى النبي صلى الله عليه و آله وسلم الكتاب والعِتْرة ، الثقليْن ؛ لأنّ الثَّقَل في اللغة متاع المسافر وَحَشمُه ؛ فكأنه صلى الله عليه و آله وسلم لمّا شارف الانتقال إلى جوار

.

ص: 277

ربه تعالى جعل نفسه كالمسافر الذي ينتقل من مَنزِلٍ إلى منزل ؛ وجعل الكتاب والعِتْرة كمتاعه وحَشَمه ؛ لأنهما أخصّ الأشياء به . وقوله : « وركزت فيكم راية الإيمان » ، أي غرزتها وأثبتُّها ؛ وهذا من باب الاستعارة . وكذلك قوله : « ووقفتكم على حدود الحلال والحرام » من باب الاستعارة أيضا ، مأخوذ من حُدود الدار وهي الجهات الفاصلة بينها وبين غيرها . قوله : « وألبستكم العافية منْ عَدْلِي » استعارة فصيحة ، وأفصح منها قوله : « وفرشتكم المعروف من قولي وفعلي » ، أي جعلته لكم فراشا ، وفَرَش هاهنا : متعدٍّ إلى مفعولين ، يقال : فرشته كذا ، أي أوسعته إياه . ثم نهاهم أن يستعملوا الرأي فيما ذكره لهم من خصائص العِترة وعجائب ما منحها اللّه تعالى ، فقال : إنّ أمرنا أمر صعب لا تهتدي إليه العقول ، ولا تدرك الأبصار قعرَهُ ، ولا تتغلغل الأفكار إليه . والتغلغل : الدخول ، من تغلغل الماء بين الشجر ، إذا تخللها ودخل بين أُصولها .

الأصْلُ :ومنها :حَتَّى يَظُنَّ الظَّانُّ أَنَّ الدُّنْيَا مَعْقُولَةٌ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ ؛ تَمْنَحُهُمْ دَرَّهَا ، وَتُورِدُهُمْ صَفْوَهَا ، وَلاَ يُرْفَعُ عَنْ ه_ذِهِ الْأُمَّةِ سَوْطُهَا وَلاَ سَيْفُهَا ، وَكَذَبَ الظَّانُّ لِذلِكَ . بَلْ هِيَ مَجَّةٌ مِنْ لَذِيذِ الْعَيْشِ يَتَطَعَّمُونَهَا بُرْهَةً ، ثُمَّ يَلْفِظُونَهَا جُمْلَةً!

الشّرْحُ :معقولة : محبوسة بعقال كما تعقَل الناقة . وتمنحهم : تعطيهم ، والمنح : العطاء ، منحَ يمنَح بالفتح ، والاسم المِنْحَة بالكسر ، واستمنحت زيدا : طلبت مِنْحَته . والدرّ في الأصل : اللَّبَن ، جعل الدنيا كناقة معقولة عليهم تمنحهم لبنها ، ثم استعمل الدَّرّ في كل خير ونفع ، فقيل : لا دَرّ درّه ! أي لا كثُر خيره ، ويقال في المدح : للّه درّه ! أي عمله . ومجّة من لذيذ العيش ، مصدر مَجّ الشراب مِنْ فِيه ، أي رمى به وقَذَفه ، ويقال : انمجّتْ نقطة من القلم ، أي ترشَّشَتْ ، وشيخ ماجّ ، أي كبير يمجّ الريق ، ولا يستطيع حبسه لكبره . ويتطعَّمُونها ؛ أي يذوقونها . وبُرْهة ، أي مدة من الزمان فيها طول . ولفظت الشيء من فمي ، ألفظه لفظا : رميتُه ، وذلك

.

ص: 278

87 . من خطبة له عليه السلام ذكر فيها وصف ما عليه الناس من خطأ

الشيء اللُّفاظة واللُّفاظ ؛ أي يلفظونها كلَّها لا يبقى منها شيء معهم . وهذه الخطبة طويلة ، وقد حذف الرضيّ ؛ منها كثيرا ، ومن جملتها : أما والذِي فَلَق الحبَّة ، وبرأ النَّسمة ، لا يروْن الَّذي ينتظرون حتى يهلِك المتمنُّون . ويَضْمَحِلّ المحلُّون ، ويتثبَّت المؤمنون ، وقليلٌ ما يكون ؛ واللّه واللّه لا تَرَوْن الذي تنتظرون حتى لا تَدْعُون اللّه إلاّ إشارةً بأيدِيكُمْ وإيماضا بحواجبكم ، وحتى لا تملِكُون من الأرض إلاّ مواضعَ أقدامكم ، وحتى يكونَ موضعُ سلاحكم على ظهورِكم ؛ فيومئذٍ لا ينصرني إلاّ اللّه بملائكتِه ، ومَن كَتَبَ عَلَى قَلْبِه الإيمان ، والَّذِي نَفْسُ عَليٍّ بيدِه لا تقوم عصابَةٌ تطلب لِي أو لغيرِي حَقّا ، أو تدفع عنا ضَيْما إلاّ صَرَعتهم البليَّة ، حتى تقوم عصابةٌ شهدت مع محمد صلى الله عليه و آله وسلمبَدْرا، لا يودَى قتيلُهم، ولا يداوَى جريحُهم، ولا ينعَشُ صريعُهم. قال المفسرون: هم الملائكة. ومنها : « لقد دعوتُكُم إلى الحقِّ وتولَّيْتُم ، وضربتُكم بالدِّرَّةِ فَمَا استقمتم ، وسَتَلِيكم بَعْدِي وُلاة يعذِّبُونكم بالسِّياط والحديد ، وسيأتيكُم غُلاما ثَقيفٍ : أخْفش وجُعْبوب ؛ يقتلان ويُظلَمان ، وقليل ما يمكّنان . قلت : الأخفش : الضعيف البصر خِلْقة ، والجُعبوب : القصير الذميم ، وهما الحجاج ويُوسف بن عمر . وفي كتاب عبد الملك إلى الحجّاج : قاتلك اللّه أُخيفشَ العينين ، أصكَّ الجاعِرَتَيْن (1) !) ومن كلام الحسن البصري ؛ يذكر فيه الحجاج : أتانا أُعَيْمش أُخَيْمش يمدّ بيدٍ قصيرة البنان ، ما عرق فيها عنان في سبيل اللّه . وكان المَثل يُضربُ بقِصَرِ يوسف بن عمر ، وكان يغضب إذا قيل له قصير .

87الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامأَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ اللّهَ لَمْ يَقْصِمْ جَبَّارِي دَهْرٍ قَطُّ إِلاَّ بَعْدَ تَمْهِيلٍ وَرَخَاءٍ ؛ وَلَمْ يَجْبُرْ عَظْمَ

.


1- .الجاعرتان : حرفا الوركين المشرفان عن الفخذين . والأصك : الذي تصك ركبتاه وعرقوباه عن المشي .

ص: 279

أَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ إِلاَّ بَعْدَ أَزْلٍ وَبَلاَءٍ ؛ وَفِي دُونِ مَا اسْتَقْبَلْتُمْ مِنْ عَتْبٍ وَمَا اسْتَدْبَرْتُمْ مِنْ خَطْبٍ مُعْتَبَرٌ ! وَمَا كُلُّ ذِي قَلْبٍ بِلَبِيبٍ ، وَلاَ كُلُّ ذِي سَمْعٍ بِسَمِيعٍ ، وَلاَ كُلُّ نَاظِرٍ بِبَصِيرٍ . فَيَا عَجَبا ! وَمَا لِيَ لاَ أَعْجَبُ مِنْ خَطَإِ ه_ذِهِ الْفِرَقِ عَلَى اخْتِلاَفِ حُجَجِهَا فِي دِينِهَا ! لاَ يَقْتَصُّونَ أَثَرَ نَبِيٍّ ، وَلاَ يَقْتَدُونَ بِعَمَلِ وَصِيٍّ ، وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِغَيْبٍ ، وَلاَ يَعِفُّونَ عَنْ عَيْبٍ ، يَعْمَلُونَ فِي الشُّبُهَاتِ ، وَيَسِيرُونَ فِي الشَّهَوَاتِ . الْمَعْرُوفُ فِيهِمْ مَا عَرَفُوا ، وَالْمُنْكَرُ عِنْدَهُمْ مَا أَنْكَرُوا ، مَفْزَعُهُمْ فِي الْمُعْضَلاَتِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ ، وَتَعْوِيلُهُمْ فِي الْمُهِمَّاتِ عَلَى آرَائِهِمْ ، كَأَنَّ كُلَّ امْرِى ءٍ مِنْهُمْ إِمَامُ نَفْسِهِ ، قَدْ أَخَذَ مِنْهَا فِيمَا يَرَى بِعُرىً ثِقَاتٍ ، وَأَسْبَابٍ مُحْكَمَاتٍ .

الشّرْحُ :القَصْم ، بالقاف والصاد المهملة : الكسر ، قصمتُه فانقصم ، وقصّمته فتقصّم ، ورجل أقصم الثنيّة ؛ أي مكسورها ، بيّن القَصَم ، بفتح الصاد . والتمهيل : التأخير . ويروى « رجاء » وهو التأخير أيضا ؛ والرواية المشهورة « ورخاء » ، أي بعد إعطائهم من سعة العيش وخِصب الحال ما اقتضته المصلحة . والأزْل ، بفتح الهمزة : الضيق . ويقتصُّون : يتبعون ، قال سبحانه وتعالى : « وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ » (1) . ويعِفّون ، بكسر العين ؛ عَفَفْتُ عن كذا ، أعِفُّ عَفّا وعِفَّةً وعَفافة ، أي كففت ، فأنا عفّ وعفيف ، وامرأة عَفّة وعفيفة ، وقد أعفَّه اللّه ، واستعفّ عن المسألة ، أي عفّ . وتعفّف الرجل ، أي تكلّف العِفّة ، ويروى : « ولا يَعْفُون عن عَيْب » ، أي لا يصفحون . ومفزعهم : ملجؤهم . وفيما يُرى ، أي فيما يظنّ ، ويرى بفتح الياء ؛ أي فيما يراه هو . وروي : « بعرىً وثيقات » . يقول إنّ عادة اللّه تعالى ألاّ يقصِم الجبابرة إلاّ بعد الإمهال والاستدراج ؛ بإفاضافة النعم عليهم ، وألاّ يجير أولياءهم وينصرهم إلاّ بعد بؤس وبلاء يمتحنهم به ، ثم قال لأصحابه : إنّ في دون ما استقبلتم من عَتْب لمعتَبر ، أي من مشقّة ، يعني بما استقبلوه ما لاقَوْه في مستقبل

.


1- .سورة القصص 11 .

ص: 280

زمانهم من الشيب ، وولاة السوء ، وتنكّر الوقت ؛ وسمَّى المشقّةَ عتْبا ؛ لأنّ العَتْب مصدر عَتَب عليه ، أي وَجَد عليه ، فجعل الزمانَ كالواجد عليهم ، القائم في إنزال مشاقّه بهم مقامَ الإنسان ذي الموجدَة يعتِب على صاحبه . وروي « من عَتَب » ، بفتح التاء جمع عتَبة ؛ يقال : لقد حُمِل فلان على عتَبة ، أي أمر كريه من البلاء ؛ وفي المثل : « مافي هذا الأمر رتَب ولا عتَب » ، أي شدة . وروي أيضا « من عَنَتٍ » وهو الأمر الشاقّ . وما استدبروه من خَطْب ؛ يعني به ما تصرّم عنهم من الحروب والوقائع التي قَضَوْها ونضوها واستدبروها . ويروى : « واستدبرتم من خِصْب » ؛ وهو رخاء العيش ؛ وهذا يقتضي المعنى الأول ، أي وما خلّفتُم وراءكم من الشباب والصحّة وصفو العيشة . ثم قال : « وما كل ذي قلب بلبيب ... » الكلام إلى آخره ، وهو مأخوذ من قول اللّه تعالى : « لَهُمْ قُلوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا » (1) . ثم تعجّب من اختلاف حجج الفرق في الدّين وخطئهم وكونهم لا يتبعون أقوالَ الأنبياء ، ولا أقوال الأوصياء ، ثم نَعَى عليهم أحوالهم القبيحة ، فقال : إنهم لا يؤمنون بالغيب ، أي لا يصدقون بما لم يشاهدوه ، ولا يكفُّون عن الأُمور القبيحة ، لكنهم يعملون في الشبهات ، أي يعملون أعمالاً داخلة في الشبهات متوسطة لها . ويسيرون في الشهوات ، جعل الشهوات كالطريق التي يسير فيها الإنسان . ثم قال : المعروف فيهم ما عرفوه ، أي ليس المعروف عندهم ما دلّ الدليل على كونه معروفا وصوابا وحَقّا ، بل المعروف عندهم ما ذهبوا إلى أنه حَقّ ، سواء كان حقّا في نفس الأمر أو لم يكن ، والمنكر عندهم ما أنكروه كما شرحناه في المعروف . ثم قال : إنهم لا يستشيرون بعالم ، ولا يستفتون فقيهاً فاضلاً ، بل مفزعهم في الأُمور المشكلة إلى أنفسهم وآرائهم ، ولقد صدق عليه السلام ، فإن هذه صفات مَنْ يدّعي العلم والفضل في زماننا وقبله بدهر طويل ، وذلك أنهم يأنفون من التعلّم والاسترشاد ، فالبادئ منهم يعتقد في نفسه أنه أفضلُ من البارع المنتهي . ثم قال : « كأنّ كلّ واحد منهم إمام نفسه » ، ويروى بحذف « كأنّ » وإسقاطها ، وهو أحسن .

.


1- .سورة الأعراف 179 .

ص: 281

88 . من خطبة له عليه السلام ذكر فيها حال الناس قبل البعثة وأن الناس اليوم لا يختلفون عن سلفهم

88الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامأَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ، وَطُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الْأُمَمِ وَاعْتِزَامٍ مِنَ الْفِتَنِ ، وَانْتِشَارٍ مِنَ الْأُمُورِ ، وَتَلَظٍّ مِنَ الْحُرُوبِ ، وَالدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ ، ظَاهِرَةُ الْغُرُورِ ؛ عَلَى حِينِ اصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَا ، وَإِيَاسٍ مِنْ ثَمَرِهَا ، وَاغْوَارٍ مِنْ مَائِهَا ، قَدْ دَرَسَتْ مَنَارُ الْهُدَى ، وَظَهَرَتْ أَعْلاَمُ الرَّدَى ، فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لِأَهْلِهَا ، عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبِهَا . ثَمَرُهَا الْفِتْنَةُ ، وَطَعَامُهَا الْجِيفَةُ ، وَشِعَارُهَا الْخَوْفُ ، وَدِثَارُهَا السَّيْفُ . فَاعْتَبِرُوا عِبَادَ اللّهِ ، وَاذْكُرُوا تِيَكَ الَّتِي آباؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ بِهَا مُرْتَهَنُونَ ، وَعَلَيْهَا مُحَاسَبُونَ . وَلَعَمْرِي مَا تَقَادَمَتْ بِكُمْ وَلاَ بِهِمُ الْعُهُودُ ، وَلاَ خَلَتْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمُ الأحْقَابُ وَالقُرُونُ ، وَمَا أَنْتُمُ الْيَوْمَ مِنْ يَوْمِ كُنْتُمْ فِي أَصْلاَبِهِمْ بِبَعِيدٍ . وَاللّهِ مَا أَسْمَعَكُمُ الرَّسُولُ شَيْئا إِلاَّ وَهَا أَنَا ذَا مُسْمِعُكُمُوهُ ، وَمَا أَسْمَاعُكُمُ الْيَوْمَ بِدُونِ أَسْمَاعِكُمْ بِالْأَمْسِ ، وَلاَ شُقَّتْ لَهُمُ الْأَبْصَارُ ، وَلاَ جُعِلَتْ لَهُمُ الْأَفْئِدَةُ فِي ذلِكَ الزَّمَانِ ، إِلاَّ وَقَدْ أُعْطِيتُمْ مِثْلَهَا فِي ه_ذَا الزَّمَانِ . وَوَاللّهِ مَا بُصِّرْتُمْ بَعْدَهُمْ شَيْئا جَهِلُوهُ ، وَلاَ أُصْفِيتُمْ بِهِ وَحُرِمُوهُ ، وَلَقَدْ نَزَلَتْ بِكُمُ الْبَلِيَّةُ جَائِلاً خِطَامُهَا ، رِخْوا بِطَانُهَا ، فَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ مَا أَصْبَحَ فِيهِ أَهْلُ الْغُرُورِ ، فَإِنَّمَا هُوَ ظِلٌّ مَمْدُودٌ ، إِلَى أَجَلٍ مَعْدُودِ .

الشّرْحُ :الفَترة بين الرسل : انقطاعُ الرّسالة والوحي ؛ وكذلك كان إرسال محمد صلى الله عليه و آله وسلم ؛ لأنَّ بين محمدوبين عهد المسيح عليه السلام عهدا طويلاً ، أكثر الناس على أ نّه ستمئة سنة ، ولم يرسَل في تلك المدّة رسول ، اللهمّ إلاّ ما يقال عن خالد بن سنان العبسيّ ، ولم يكن نبيّا ولا مشهورا . والهجْعة : النَّوْمة ليلاً ، والهجوع مثله ، وكذلك التَّهْجاع ، بفتح التاء ، فأمّا الهِجْعة بكسر الهاء ؛

.

ص: 282

فهي الهيئة كالجِلْسة من الجلوس . قوله : « واعتزام من الفتن » ، كأنه جعل الفِتَن معتزِمة ، أي مريدة مصمّمة للشّغب والهرْج . ويروى : « واعتراض » ، ويروى : « واعترام » بالراء المهملة من العُرام ، وهي الشِرّة . والتلظّي : التلهّب . وكاسفة النور : قد ذهب ضوؤها ، كما تكسف الشمس . ثم وصفها بالتغير وذبول الحال ، فجعلها كالشجرة التي اصفرَّ ورَقها ويبِس ثمرها . وأعور ماؤها ، والإعوار : ذهاب الماء ، فلاة عَوْراء : لا ماء بها . ومَنْ رواه : « وإغوارٍ من مائها ، بالغين المعجمة ، جعله من غار الماء ، أي ذهب ، ومنه قوله تعالى : « أَرَأَيْتُمْ إنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرا » (1) . ومتهجّمة لأهلها : كالحة في وجوههم . ثم قال : « ثمرها الفتنة » أي نتيجتها وما يتولّد عنها . « وطعامها الجيفة » ، يعني أكل الجاهلية الميتة ، أو يكون على وجه الاستعارة ، أي أكلها خبيث . ويروى « الخِيفة » أي الخوف ، ثم جعل الخوف والسيف شعارها ودثارها ، فالشعار ما يلِي الجسد ، والدِّثار فوق الشعار ، وهذا من بديع الكلام ومن جيِّد الصناعة ؛ لأ نّه لما كان الخوفُ يتقدَّم السيف والسيف يتلُوه ، جعلَ الخوف شِعارا ؛ لأ نّه الأقربُ إلى الجسد ، وجعل الدّثار تاليا له . ثم قال : « واذكروا تيك » كلمة إشارة إلى المؤنثة الغائبة ، فيمكن أن يعني بها الدنيا التي تقدّم ذكرها ، وقد جعل آباءهم وإخوانهم مرتهنَين بها ومحاسبين عليها ، والارتهان : الاحتباس ، ويمكن أن يعني بها الأمانة التي عرضت على الإنسان فحملها ، والمراد بالأمانة الطاعة والعبادة وفعل الواجب وتجنّب القبيح . وقال : « تيك » ولم يجر ذكرها ، كما قال تعالى : « الم * ذَلِكَ الكِتَابُ » (2) ولم يجرِ ذكره ؛ لأنّ الإشارة إلى مثل هذا أعظم وأهيب وأشدّ روعة في صدر المخاطَب من التصريح . قوله : « ولا خلت فيما بينكم وبينهم الأحقاب » ، أي لم يطل العهد ؛ والأحقاب : المدد المتطاولة ، والقرون : الأُمم من الناس . وقوله : « من يوم كنتم » ؛ يروى بفتح الميم من « يوم » على أنه مبنيّ ؛ إذ هو مضاف إليه الفعل المبني ؛ ويروى بجرّها بالإضافة ؛ على اختلاف القولين في علم العربية . ثم اختلفت الرواية في قوله : « واللّه ما أسمعكم » فروي بالكاف وروي « أسمعهم » ،

.


1- .سورة الملك 30 .
2- .سورة البقرة 1 ، 2 .

ص: 283

89 . من خطبة له عليه السلام في تعديد بعض صفات اللّه عزوجل

وكذلك اختلفت الرواية في قوله : « وما أسماعُكم اليومَ بدون أسماعكم بالأمس » ، فروي هكذا ، وروي « بدون أسماعهم » ، فمن رواه بهاء الغيبة في الموضعين فالكلام منتظم ، لا يحتاج إلى تأويل ، ومن رواه بكاف الخطاب ، قال : إنه خاطب به من صحب النبيّ صلى الله عليه و آله وسلموشاهده وسمع خطابه ؛ لأنّ أصحاب عليّ عليه السلام كانوا فريقين : صحابة وتابعين ، ويعضّد الرواية الأُولى سياق الكلام . وقوله : « ولا شُقّت لهم الأبصار ... إلاّ وقد أعطيتم مثلها » . وأصفيتم به : منحتُموه ، من الصفيّ وهو ما يصطفيه الرئيس من المغنم لنفسه قبل القسمة ، يقال : صفيّ وصفيّة . وخلاصة هذا الكلام أن جميع ما كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قاله لأصحابه قد قلتُ مثله لكم ، فأطاع أُولئك وعصيتم أنتم ، وحالكم مساوية لحالهم . ثم نعود إلى التفسير ، قال : « ولقد نزلت بكم البليّة » ، أي المحنَة العظيمة ، يعني فتنة معاوية وبني أُميّة . وقال : « جائلاً خِطامها » ؛ لأنّ الناقة إذا اضطرب زمامها استصعبتْ على راكبها ، ويسمى الزمام خِطاماً لكونه في مقدّم الأنف ، والخطم من كلّ دابة : مقدّم أنفها وفمها ، وإنما جعلها رخواً بطانها ، لتكون أصعب على راكبها ؛ لأ نّه إذا استرخى البطان كان الراكب في معرض السقوط عنها ، وبطان القَتَب هو الحزام الذي يجعل تحت بطن البعير . ثم نهاهم عن الاغترار بالدنيا ومتاعها ، وقال : إنها ظلٌّ ممدود إلى أجل ممدود ، وإنما جعلها كالظلّ لأ نّه ساكن في رأي العين ، وهو متحرك في الحقيقة ، لا يزال يتقلَّص ، كما قال تعالى : « ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إلَيْنَا قَبْضا يَسِيرا » (1) وهو أشبه شيء بأحوال الدنيا .

89الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامالْحَمْدُ للّهِ الْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ ، وَالْخَالِقِ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ ، الَّذِي لَمْ يَزَلْ قَائِماً

.


1- .سورة الفرقان 46 .

ص: 284

دَائِماً ؛ إِذْ لاَ سَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ ، وَلاَ حُجُبٌ ذَاتُ إِرْتَاجٍ ، وَلاَ لَيْلٌ دَاجٍ ، وَلاَ بَحْرٌ سَاجٍ وَلاَ جَبَلٌ ذُو فِجَاجٍ ، وَلاَ فَجٌّ ذُو اعْوِجَاجٍ ، وَلاَ أَرْضٌ ذَاتُ مِهَادٍ ، وَلاَ خَلْقٌ ذُو اعْتَِمادٍ ، ذلِكَ مُبْتَدِعُ الْخَلْقِ وَوَارِثُهُ ، وَإِلهُ الْخَلْقِ وَرَازِقُهُ ، وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ دَائِبَانِ فِي مَرْضَاتِهِ ، يُبْلِيَانِ كُلَّ جَدِيدٍ ، وَيُقَرِّبَانِ كُلَّ بَعِيدٍ .

الشّرْحُ :الرويّة : الفكرة وأصلها الهمز ، رَوّأتُ في الأمر ، وقد جاء مثلها كلمات يسيرة شاذّة ، نحو البريّة من برأ أي خلق ، والذريّة من ذَرَأ أي خلق أيضا ، وصف اللّه تعالى بأنّه يعرف من غير أن تتعلّق الأبصار بذاته ، ويخلق من غير تفكر وتروٍّ فيما يخلقه . لم يزل قائما ، القائم والقيّوم بمعنىً ، وهو الثابت الذي لا يزولُ ، ويعبر عنه في الاصطلاح النظريّ بالواجب الوجود ، وقد يفسر القائم على معنى قولهم : فلان قائم بأمر كذا ، أي والٍ وممسك له أن يضطرب . ثم قال : هو موصوف بأنه قائم دائم من قبل أن يخلق العالم . والأبراج : الأركان في اللغة العربية . قال تعالى : « وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ » (1) ، وأخذها عليّ عليه السلام منه ، فقال : « إذ لا سماءٌ ذات أبراج » ، وارتفع « سماء » ، لأ نّه مبتدأ وخبره محذوف ، وتقدير « في الوجود » . ثم قال : « ولا حُجُب ذات إرتاج » والإرتاج مصدر أرتج أي أغلق ، أي ذات إغلاق ، ومن رواه « ذات رِتاج » على « فِعال » ، فالرتاج الباب المغلق ، ويُبعِد رواية مَنْ رواه « ذات أرتاج » ؛ لأنّ « فعالاً » قلّ أن يجمع على « أفعال » ؛ ويعنى بالحُجُب ذات الإرتاج حجب النور المضروبة بين عرشه العظيم وبين ملائكته . ويجوز أن يريد بالحجب السماوات أنفسها ؛ لأنهاحجبت الشياطين عن أن تعلم ما الملائكة فيه . والليل الداجي : المظلم ، والبحر الساجي : الساكن . والفِجاج : جمع فَجّ ؛ وهو الطريق الواسع بين جبلين . والمهاد : الفراش . قوله : « ولا خلق ذو اعتماد » ؛ أي ولا مخلوق يسعى برجلين فيعتمد عليهما ، أو يطير بجناحيه فيعتمد عليهما ؛ ويجوز أن يريد بالاعتماد هنا : البطش والتصرّف . مبتدع الخلق :

.


1- .سورة البروج 1 .

ص: 285

مخرجه من العدم المحض ، كقوله تعالى : « بَدِيعُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ » (1) . ودائبان : تثنية دائب ؛ وهو الجادّ المجتهد المتعب ، دأب في عمله أي جدّ وتعب دأبا ودؤباً فهو دئيب ، ودأبته أنا . وسمّى الشمس والقمر دائبين لتعاقبهما على حال واحدة دائما لا يفتران ولا يسكنان ، وروي « دائبين » بالنصب على الحال ويكون خبر المبتدأ « يبليان » وهذه من الألفاظ القرآنية (2) .

الأصْلُ :قَسَمَ أَرْزَاقَهُمْ ، وَأَحْصَى آثَارَهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ ، وَعَدَدَ أَنْفُسِهمْ ، وَخَائِنَةَ أَعْيُنِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ مِنَ الضَّمِيرِ ، وَمُسْتَقَرَّهُمْ وَمُسْتَوْدَعَهُمْ مِنَ الْأَرْحَامِ وَالظُّهُورِ ، إِلَى أَنْ تَتَنَاهَى بِهِمُ الْغَايَاتُ .

الشّرْحُ :آثارهم ، يمكن أن يُعْنَى به آثار وطئهم في الأرض إيذانا بأنه تعالى عالم بكلّ معلوم كما آذن قوله سبحانه : « وَمَا تَسْقط مِنْ وَرَقَةٍ إلاّ يَعْلَمُهَا » (3) بذلك . ويمكن أن يعنى به حركاتهم وتصرّفاتهم . وروي : « وعدد أنفاسهم » على الإضافة . وخائنة الأعين : ما يومى به مسارقة وخفية . ومستقرّهم ، أي في الأرحام . ومستودعهم ، أي في الأصلاب ، وقد فسر ذلك فتكون « من » متعلّقة بمستودعهم ومستقرهم على إرادة تكرّرها ، ويمكن أن يقال : أراد مستقرّهم ومأواهم على ظهر الأرض ومستودعهم في بطنها بعد الموت ، وتكون « من » هاهنا بمعنى « مذ » أي مذ زمان كونهم في الأرحام والظهور إلى أن تتناهى بهم الغايات ، أي إلى أن يحشروا في القيامة . وعلى التأويل الأول يكون تناهى الغايات بهم عبارة عن كونهم أحياء في الدنيا .

.


1- .سورة الأنعام 101 .
2- .من قوله تعالى في سورة إبراهيم : « وَسَخّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ » .
3- .سورة الأنعام 59 .

ص: 286

الأصْلُ :هُوَ الَّذِي اشْتَدَّتْ نِقْمَتُهُ عَلَى أَعْدَائِهِ فِي سَعَةِ رَحْمَتِهِ ، وَاتَّسَعَتْ رَحْمَتُهُ لِأَوْلِيَائِهِ فِي شِدَّةِ نِقْمَتِهِ ، قَاهِرُ مَنْ عَازَّهُ ، وَمُدَمِّرُ مَنْ شَاقَّهُ ، وَمُذِلُّ مَنْ نَاوَاهُ ، وَغَالِبُ مَنْ عَادَاهُ . مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ ، وَمَنْ سَأَلَهُ أَعْطَاهُ ، وَمَنْ أَقْرَضَهُ قَضَاهُ ، وَمَنْ شَكَرَهُ جَزَاهُ . عِبَادَ اللّهِ ، زِنُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُوزَنُوا ، وَحَاسِبُوهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحَاسَبُوا ، وَتَنَفَّسُوا قَبْلَ ضِيقِ الْخِنَاقِ ، وَانْقَادُوا قَبْلَ عُنْفِ السِّيَاقِ ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ لَمْ يُعَنْ عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ منْهَا وَاعِظٌ وَزَاجِرٌ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا لاَ زَاجِرٌ وَلاَوَاعِظٌ .

الشّرْحُ :يجوز نَقِمة ونِقْمَة ، مثل كَلِمة وكِلْمة ، ولَبِنة ولِبْنة ، ومعنى الكلام أ نّه مع كونه واسع الرحمة في نفس الأمر ، وأنه أرحم الراحمين ؛ فإنه شديد النقمة على أعدائه ؛ ومع كونه عظيم النقمة في نفس الأمر وكونه شديد العقاب فإنه واسع الرحمة لأوليائه . وعازّه ، أي غالبه ، وعَزَّه أي غلبه ، ومنه « وَعَزَّنِي في الْخِطَابِ » (1) ، وفي المثل « مَنْ عَزّ بَزّ » ، أي مَنْ غَلَب سلَب . والمدمِّر : المهلك ، دَمّره ودَمّر عليه بمعنىً ، أي أهلَكه . وشاقّه : عاداه ، قيل إنّ أصلَه من الشِّق وهو النِّصف ؛ لأنّ المعادي يأخذ في شِقّ والمعادى في شِقّ يقابله . وناواه ، أي عاداه ، واللفظة مهموزة ، وإنما ليَّنها لأجل القرينة السَّجعية ، وأصلها ناوأتُ الرجل مناوأة ونِواء ؛ ويقال في المثل : « إذا ناوأت الرجل فاصْبر » . قوله : « زنوا أنفسكم قبل أن توزنوا » من الكلام الفصيح النادر اللطيف ، يقول : اعتبروا أعمالكم وأنتم مختارون قادرون على استدراك الفارط ، قبل أن يكون هذا الاعتبار فعلَ غيركم وأنتم لا تقدرون على استدراك الفارط ، ومثله قوله : « وحاسبوها من قبل أن تحاسبوا » . ثم قال : « وتنفّسوا قبل ضيق الخناق » ، أي انتهزوا الفرصة ، واعملوا قبل أن يفوتَكم الأمر ، ويَجدّ بكم الرحيل ويقع الندم ، قال الشاعر : اختِمْ وطينُك رَطْبٌ إن قدرتَ فَكَمْقد أمكن الختمُ أقواما فما ختموا ثم قال : « وانقادوا قبل عُنف السياق » ، هو العُنف بالضم ، وهو ضدّ الرفق ، يقال عُنف عليه وعُنف به أيضا ، والعَنِيف : الذي لا رفق له بركوب الخيل ، والجمع عُنُف . واعتنفتُ الأمرَ ، أي أخذته بعنف ، يقول : انقادوا أنتم من أنفسكم قبل أن تقادوا وتساقوا بغير اختياركم سوقا عنيفا . ثم قال « مَنْ لم يُعِنْه اللّه على نفسه حتى يجعل له منها واعظا وزاجرا لم ينفعه الزجر والوعظ من غيرها » . وقد روى : « واعلموا أ نّه مَنْ لم يعِن على نفسه » بكسر العين أي من لم يعِن الواعظين له والمنذرين على نفسه ، ولم يكن معهم إلْبا عليها وقاهرا لها ، لم ينتفع بالوعظ والزجر ؛ لأنّ هوى نفسه يغلِب وعظَ كلّ واعظ وزجر كل زاجر .

.


1- .سورة ص 23 .

ص: 287

90 . من خطبة له عليه السلام _ وتعرف بخطبة الأشباح _ فيها وصف السماء والأرض والسحاب والملائكة وغير ذلك

90الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلام تعرف بخطبة الأشباح ، وهي من جلائل خطبه عليه السلام روى مَسعَدَةُ بنُ صَدَقَةَ عن الصادق جعفر بن محّمد عليهماالسلام ، أنّه قال: خطب أمير المؤمنين بهذه الخطبة على منبر الكوفة ؛ وذلك أن رجلاً أتاه فقال له: يا أمير المؤمنين صف لنا ربّنا مثلما نراه عَياناً ، لنزداد له حباً ، وبه معرفة ؛ فغضب ونادى : الصلاة جامعةً ، فاجتمع الناس حتى غصّ المسجدبأهله ؛ فصعد المنبر وهو مغضب متغير اللون ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، وصلّى على النبي صلى اللّه عليه وآله ، ثمّ قال :الْحَمْدُ للّه الَّذِي لاَ يَفِرُهُ الْمَنْعُ وَالْجُمُودُ ، وَلاَ يُكْدِيهِ الاْءِعْطَاءُ وَالْجُودُ ؛ إِذْ كُلُّ مُعْطٍ مُنْتَقَصٌ سِوَاهُ، وَكُلُّ مَانِعٍ مَذْمُومٌ مَا خَلاَهُ ؛ وَهُوَ الْمَنَّانُ بِفَوَائِدِ النِّعَمِ ، وَعَوائِدِ المْزَيِدِ وَالْقِسَمِ ؛ عِيَالُهُ الْخَلاَئِقُ ، ضَمِنَ أَرْزَاقَهُمْ ، وَقَدَّرَ أَقْوَاتَهُمْ ، وَنَهَجَ سَبِيلَ الرَّاغِبِينَ إِلَيْهِ ، وَالطَّالِبِينَ مَا لَدَيْهِ ، وَلَيْسَ بِمَا سُئِلَ بِأَجْوَدَ مِنْهُ بِمَا لَمْ يُسْأَلْ . الأَوَّلُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلٌ فَيَكُونَ شَيْءٌ قَبْلَهُ ، وَالآخِرُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ بَعْدٌ فَيَكُونَ شَيْءٌ بَعْدَهُ ، وَالرَّادِعُ أَنَاسِيَّ الْأَبْصَارِ عَنْ أَنْ تَنَالَهُ أَوْ تُدْرِكَهُ ، مَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ دَهْرٌ فَيَخْتَلِفَ

.

ص: 288

مِنْهُ الحَالُ ، وَلاَ كَانَ فِي مَكَانٍ فَيَجُوزَ عَلَيْهِ الاِنْتِقَالُ .

الشّرْحُ :الأشباح : الأشخاص ، والمراد بهم هاهنا الملائكة ؛ لأنّ الخطبة تتضمّن ذِكْرَ الملائكة . وقوله : « الصلاة جامعةً » منصوب بفعل مقدر ، أي احضروا الصلاة ، وأقيموا الصلاة ، و « جامعةً » منصوب على الحال من الصلاة . وغَصَّ المسجد ، بفتح الغين ، أي امتلأ ، والمسجد غاصٌّ بأهله . ويقال : رجل مغضَب ، بفتح الضاد ، أي قد أُغضِب ، أي فعل ما يوجب غَضَبه . ويَفرُه المنع : يزيد في ماله ، والموفور التامّ ، وفرتُ الشيء وفْراً وَوَفَر الشيء نفسُهُ وفُورا ، يتعدّى ولا يتعدى . وفي أمثالهم : « يوفر ويحمد » هو من قولك وفرته عرضَه ووفرته ماله . وقوله : « ولا يكديه الإعطاء » ، أي لا يفقِرُه ولا ينفد خزائنه ، يقال : « كَدَتِ الأرضُ » تَكِدُو فهي كادية ، إذا أبطأ نباتُها ، وقلّ خيرها ، يقول : إنّه سبحانه قادر على المقدورات ، وليس كالملوك من البشر الذين إذا أعطوْا نقصَتْ خزائهم وإن منعوا زادت ، وقد شرح ذلك وقال : « إذا كلّ معطٍ منتَقَص » أي منقوص . ثم قال : « وكلّ مانع مذموم غيره » ، وذلك لأ نّه تعالى إنما يمنع مَنْ تَقتضى الحكمةُ والمصلحةُ منعه ، وليس كما يمنع البشر . قوله : « وليس بما سُئِل بأجود منه بما لم يُسأل » فيه معنى لطيف ، وذاك لأنّ هذا المعنى مما يختصّ بالبشر ؛ لأنهم يتحركون بالسؤال وتهزّهم الطلبات ، فيكونون بما سألهم السائل أجود منهم بما لم يسألهم إياه ، وأما البارئ سبحانه فإن جوده ليس على هذا المنهاج ؛ لأنّ جوده عامٌّ في جميع الأحوال . ثم ذكر أنّ وجودَه تعالى ليس بزمانيّ ، فلا يطلق عليه البعدية والقبلية ، كما يطلق على الزمانيات ، وإنما لم يكن وجوده زمانيا لأ نّه لا يقبل الحركة ، والزمان من لواحق الحركة ، وإنما لم تطلق عليه البَعْدِيّة والقَبْليّة إذْ لم يكن زمانيا ، فيكون تقدير الكلام على هذا : الأوّل الذي لا يصدق عليه القبلية الزمانيّة ، ليمكن أن يكون شيء ما قبله ، والآخِر الذي لا يصدق عليه البعدية الزمانية ، ليمكن أن يكون شيء ما بعده . وقد يُحمل الكلام على وجه آخر ، [لكنّ] الوجه الأول أدق وألطف ، ويؤكّد كونه مراده قوله عقيبه : « ما اختلف عليه دهر فيختلف منه الحال » ، وذلك لأنّ واجب الوجود أعلى من الدهر والزمان ، فنسبة ذاته إلى

.

ص: 289

الدهر والزمان بجملته وتفصيل أجزائه نسبة متحدة . ثم قال : « الرادع أناسيّ الأبصار عن أن تنالَه أو تدركه » ، الأناسيّ : جمع إنسان ؛ وهو المثال الذي يُرى في السواد ؛ إلاّ أنّ الأدلّة العقلية من جانبنا اقتضتْ تأويل هذا اللفظ ، كما تأوّل شيوخنا قوله تعالى : « وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ » (1) ؛ فقالوا : إلى جنّةِ ربها ؛ فنقول : تقديرُه الرادعُ أناسيَّ الأبصار أنْ تنال أنوارَ جلالته . فإن قلت : أتثبتون له تعالى أنوارا يمكن أن تدركها الأبصار ، وهل هذا إلاّ قولٌ بالتجسيم! قلت : كلاّ لا تجسيمَ في ذلك ؛ فكما أن له عرضا وكرسيّا وليست بجسم ؛ فكذلك أنوار عظيمة فوق العرش ، وليس بجسم ، فكيف تنكر الأنوار ، وقد نطق الكتاب العزيز بها في غير موضع ، كقوله : « وَأَشْرَقِتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا » (2) ، وكقوله : « مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ » (3) .

الأصْلُ :وَلَوْ وَهَبَ مَا تَنَفَّسَتْ عَنْهُ مَعَادِنُ الْجِبَالِ ، وَضَحِكَتْ عَنْهُ أَصْدَافُ الْبِحَارِ ، مِنْ فِلِزِّ اللُّجَيْنِ وَالْعِقْيَانِ ، وَنُثَارَةِ الدُّرِّ وَحَصِيدِ الْمَرْجَانِ ، مَا أَثَّرَ ذلِكَ فِي جُودِهِ ، وَلاَ أَنْفَدَ سَعَةَ مَا عِنْدَهُ ، وَلَكَانَ عِنْدَهُ مِنْ ذَخَائِرِ الإنْعَامِ مَا لاَتُنْفِدُهُ مَطَالِبُ الأَنَامِ ؛ لِأَنَّهُ الْجَوَادُ الَّذِي لاَ يَغِيضُهُ سُؤالُ السَّائِلِينَ، وَلاَ يُبْخِلُهُ إِلْحَاحُ المُلِحِّينَ.

الشّرْحُ :هذا الكلام من تتمة الكلام الأوّل، وهو قوله : « لا يفِرهُ المنع ، ولا يكْدِيه الإعطاء والجود » . وتنفّست عنه المعادن : استعارة ، كأنّها لما أخرجته وولدته كانت كالحيوان يتنفّس فيخرج من صدره ورئته الهواء . وضحكت عنه الأصداف ، أي تفتّحت عنه وانشقّت ، يقال للطَّلْع حين ينشقّ : الضّحك ، بفتح الضاد ، وإنما سمي الضاحك ضاحكا ؛ لأ نّه يفتح فاه . والفلِزّ :

.


1- .سورة القيامة 22 و 23 .
2- .سورة الزمر 69 .
3- .سورة النور 35 .

ص: 290

اسم الأجسام الذائبة كالذهب والفضة والرصاص ونحوها . واللُّجَين : اسم الفضة جاء مُصغّرا ، كالكُمَيت والثريّا . والعِقْيان : الذهب الخالص ، ويقال : هو ما ينبت نباتا وليس مما يحصل من الحجارة . ونُثارة الدرّ : ما تناثر منه ، كالسُّقاطة والنُّخَالة ، وتأتي « فُعَالة » تارةً للجيِّد المختار ، وتارة للساقط المتروك ، فالأول نحو الخلاصة ، والثاني نحو القُلامة . وحصيد المَرْجان : كأنه أراد المتبدّد منه كما يتبدّد الحبّ المحصود ، ويجوز أن يعني به الصلْب المحكم ، من قولهم : « شيء مستحصَد » ، أيمستحصف مستحكم ، يعني أ نّه ليس برخو ولا هشّ ، ويروى : « وحَصْباء المرجان » ، والحصباء : الحصى . وأرض حَصِبة ومحصَبة ، بالفتح : ذات حَصْباء . والمرجان : صغار اللؤلؤ ؛ وقد قيل إنه هذا الحجر . وتُنفده : تفنيه ، نفد الشيء أي فَنِيَ ، وأنفدته أنا . ومطالب الأنام : جمع مطلب ، وهو المصدر ، من طلبت الشيء طَلَبا ومطلبا . ويَغيضه ، بفتح حرف المضارعة : ينقصُه ؛ ويقال : غاضَ الماء ، فهذا لازم ، وغاض اللّه الماءَ ، فهذا متعدٍّ ؛ وجاء : أغاض اللّه الماء . والإلحاح : مصدر ألحّ على الأمر ، أي أقام عليه دائما ، من ألحّ السحاب ؛ إذا دام مطره ، وألحّ البعيرُ : حَرَن ، كما تقول : خَلأَتِ الناقة ، وروى « ولا يُبخِله » بالتخفيف ؛ تقول : أبخلت زيدا ، أي صادفته بخيلاً ؛ وأجبنته : وجدته جبانا . وفي هذا الفصل من حسن الاستعارة وبديع الصنعة ما لا خفاء به .

الأصْلُ :فَانْظُرْ أَيُّهَا السَّائِلُ : فَمَا دَلَّكَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَتِهِ فَائْتَمَّ بِهِ وَاسْتَضِئْ بِنُورِ هِدَايَتِهِ ، وَمَا كَلَّفَكَ الشَّيْطَانُ عِلْمَهُ مِمَّا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ عَلَيْكَ فَرْضُهُ ، وَلاَ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّصَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَأَئِمَّةِ الْهُدَى أَثَرُهُ ، فَكِلْ عِلْمَهُ إِلَى اللّهِ سُبْحَانَهُ ، فَإِنَّ ذلِكَ مُنْتَهَى حَقِّ اللّهِ عَلَيْكَ . وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ هُمُ الَّذِينَ أَغْنَاهُمْ عَنِ اقْتِحَامِ السُّدَدِ الْمَضْرُوبَةِ دُونَ الْغُيُوبِ ، الاْءِقْرَارُ بِجُمْلَةِ مَا جَهِلُوا تَفْسِيرَهُ مِنَ الْغيْبِ الَْمحْجُوبِ ، فَمَدَحَ اللّهُ اعْتِرَافَهُمْ بِالْعَجْزِ عَنْ تَنَاوُلِ مَا لَمْ يُحِيطُوا بِهِ عِلْماً ، وَسَمَّى تَرْكَهُمُ التَّعَمُّقَ فِيَما لَمْ

.

ص: 291

يُكَلِّفْهُمُ الْبَحْثَ عَنْ كُنْهِهِ رُسُوخاً ، فَاقْتَصِرْ عَلَى ذلِكَ ، وَلاَ تُقَدِّرْ عَظَمَةَ اللّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى قَدْرِ عَقْلِكَ فَتَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ .

الشّرْحُ :تقول : ائتمّ فلان بفلان ؛ أي جعله إماما واقتدى به . فكِلْ علمه ؛ من وكلَه إلى كذا وكَلاً ووُكولاً ؛ وهذا الأمر موكول إلى رأيك . والاقتحام : الهُجُوم والدخول مغالبة . والسُّدد المضروبة : جمع سُدّة ؛ وهي الرِّتاج . ثم نعود إلى تفسير كلام المؤمنين عليه السلام فنقول : إنه غضِب وتغيّر وجهه لقول السائل : صِفْ لنا ربَّنا مثل ما نراه عياناً . ثم قال للسائل بعد غضبه واستحالة لونه وظهور أثر الإنكار عليه : ما دلَّك القرآنُ عليه من صفته فخُذْ به ، فإن لم تجده في الكتاب فاطلبه من السنّة ومن مذاهب أئمة الحق ، فإن لم تجد ذلك ، فاعلم أنّ الشيطان حينئذٍ قد كلّفك علمَ ما لم يكلفك اللّه علمه . ثم قال : إن الراسخين في العلم الذين غنوا بالإقرار بما عرفوه من الولوج والتقحّم فيما لم يعرفوه ، ألا ترى أنّهم يعللون أفعال اللّه تعالى بالحِكم والمصالح ، فإذا ضاق عليهم الأمر في تفصيل بعض المصالح في بعض المواضع ، قالوا : نعلم على الجملة أنّ لهذا وجْهَ حكمة ومصلحة ، وإن كنا لا نعرف تفصيل تلك المصلحة . ثم إنه عليه السلام قد صَرّح في غُضونِ الكلام بذلك ؛ فقال : فانظر أيّها السائل ، فما دَلّك القرآن عليه من صفته فائتمّ به ، وما لم يدلك عليه فليس عليك أن تخوض فيه ، وهذا الكلام تصريحٌ بأنّ البحث إنما هو في النظر العقليّ في فَنّ الكلام ، فلا يجوز أن يحمل على ما هو بمعزل عنه .

الأصْلُ :هُوَ الْقَادِرُ الَّذِي إِذَا ارْتَمَتِ الأَوْهَامُ لِتُدْرِكَ مُنْقَطَعَ قُدْرَتِهِ . وَحَاوَلَ الْفِكْرُ الْمُبَرَّأُ مِنْ خَطَرَاتِ الْوَسَاوِسِ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ فِي عَمِيقَاتِ غُيُوبِ مَلَكُوتِهِ ، وَتَوَلَّهَتِ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ، لِتَجْرِيَ فِي كَيْفِيَّةِ صِفَاتِهِ ، وَغَمَضَتْ مَدَاخِلُ الْعُقُولِ فِي حَيْثُ لاَ تَبْلُغُهُ الصِّفَاتُ

.

ص: 292

لِتَنَاوُلِ عِلْمِ ذَاتِهِ ، رَدَعَهَا وَهِيَ تَجُوبُ مَهَاوِيَ سُدَفِ الْغُيُوبِ ، مُتَخَلِّصَةً إِلَيْهِ _ سُبْحَانَهُ _ فَرَجَعَتْ إِذْ جُبِهَتْ مُعْتَرِفَةً بِأَنَّهُ لاَ يُنَالُ بِجَوْرِ الاِعْتِسَافِ كُنْهُ مَعْرِفَتِهِ ، وَلاَ تَخْطُرُ بِبَالِ أُولِي الرَّوِيَّاتِ خَاطِرَةٌ مِنْ تَقْدِيرِ جَلاَلِ عِزَّتِهِ .

الشّرْحُ :ارتمت الأوهام ، أي ترامَت ؛ يقال : ارتمى القوم بالنَّبْل ؛ أي تراموا ، فشبّه جَوَلان الأوهام والأفكار وتعارضها بالترامي . وخَطْر الوساوس ، بتسكين الطاء ؛ مصدر خَطَر له خاطر ، أي عرض في قلبه ، وروي « من خطَرات الوساوس » . وتولّهت القلوب إليه : اشتدّ عِشقها حتى أصابها الوَله وهو الحيرة . وقوله : « لتجري في كيفية صفاته » ، أي لتصادف مجرىً ومسلكاً في ذلك ؛ وغمضت مداخلُ العقول ، أي غَمض دخولها ، ودق في الأنظار العميقة التي لا تبلغ الصفات كنهَها لدقّتِها وغموضها طالبة أن تنال معرفته تعالى . قوله عليه السلام : « ردعها » ، أي كَفّها . وتجوب ، أي تقطع . والمهاوي : المهالك ، الواحدة مَهْوَاة بالفتح ، وهي مابين جبلين أو حائطين ونحو ذلك. والسُّدَف : جمع سُدْفة ، وهي القطعة من الليل المظلم . وجُبهت ، أي رُدّت ، وأصله مِنْ جَبْهتُه ، أي صَكَكْتُ جبهتَه . والجَوْر : العدول عن الطريق . والاعتساف : قَطْع المسافة على غير جادّة معلومة . وخُلاصة هذا الفصل أَنّ العقول إذا حاولت أن تدرِك متى ينقطع اقتداره على المقدّرات نكصتْ عن ذلك ؛ لأ نّه قادر أبدا دائما على ما لا يتناهى ، وإذا حاول الفِكْر الذي قد صفا وخلا عن الوساوس والعوائِق أنْ يدرك مغيّبات عِلْمِه تعالى كلَّ وحَسَر ورجع ناقصا أيضا . وإذا اشتدّ عشق النفوس له ، وتولّهت نحوه لتسلك مسلكا تقِف منه على كيفية صفاته عجزت عن ذلك . وإذا تغلغلت العقول ، وغَمَضت مداخلُها في دقائق العلوم النظرية الإلهيّة التي لا توصف لدقّتها طالبة أن تعلم حقيقة ذاته تعالى ، انقطعت وأعيت ، وردّها سبحانه وتعالى وهي تجول وتقطع ظلماتِ الغيب لتخلُص إليه ، فارتدّتْ حيث جَبّهها وردعها ، مُقِرّة معتَرِفة بأن إدراكه ومعرفته لا تُنالُ باعتساف المسافات التي بينها وبينه ؛ وإن أرباب الأفكار والرويات يتعذّر عليهم أن يخطِر لهم خاطر يطابق ما في الخارج من تقدير جلال عزته ؛

.

ص: 293

ولابدّ من أخذ هذا القيد في الكلام ؛ لأنّ أرباب الأنظار لابدّ أن تخطِر لهم الخواطر في تقدير جلال عِزّته ؛ ولكن تلك الخواطر لا تكون مطابقة لها في الخارج ؛ لأنها خواطر مستندُها الوهم لا العقل الصريح ؛ وذلك لأنّ الوهم قد ألف الحِسّيات والمحسوسات ، فهو يعقل خواطر بحسب ما ألفه من ذلك ؛ وجلالُ واجبِ الوجود أعلى وأعظم من أن يتطرّق الوهمُ نحوه ؛ لأ نّه بريء من المحسوسات سبحانه ؛ وأما العقل الصريح فلا يدرِك خصوصية ذاته لما تقدّم . واعلم أن قوله تعالى : « فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ » (1) فيه إشارة إلى هذا المعنى ، وكذلك قوله : « يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ » (2) .

الأصْلُ :الَّذِي ابْتَدَعَ الْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ امْتَثَلَهُ ، وَلاَ مِقْدَارٍ احْتَذَى عَلَيْهِ ، مِنْ خَالِقٍ مَعْبُودٍ كَانَ قَبْلَهُ ، وَأَرَانَا مِنْ مَلَكُوتِ قُدْرَتِهِ ، وَعَجَائِبِ مَا نَطَقَتْ بِهِ آثَارُ حِكْمَتِهِ ، وَاعْتِرَافِ الْحَاجَةِ مِنَ الْخَلْقِ إلَى أَنْ يُقِيمَهَا بِمِسَاكِ قُوَّتِهِ ، مَا دَلَّنا بِاضْطِرَارِ قِيَامِ الْحُجَّةِ لَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ ، فَظَهَرَتِ الْبَدَائِعُ الَّتِي أَحْدَثَهَا آثَارُ صَنْعَتِهِ ، وَأَعْلاَمُ حِكْمَتِهِ ، فَصَارَ كُلُّ مَا خَلَقَ حُجَّةً لَهُ وَدَلِيلاً عَلَيْهِ ؛ وَإِنْ كَانَ خَلْقاً صَامِتاً ، فَحُجَّتُهُ بِالتَّدْبِيرِ نَاطِقَةٌ ، وَدَلاَلَتُهُ عَلَى الْمُبْدِعِ قَائِمَةٌ .

الشّرْحُ :المِساك ، بكسر الميم : ما يمسَك ويعصَم به . وقوله : « ابتدع الخلق على غير مثال امتثله » يحتمل وجهين : أحدهما : أن يريد ب_ « امتثله » مثله ، كما تقول : صنعت واصطنعت بمعنى ، فيكون التقدير

.


1- .سورة الملك 3 ، 4 .
2- .سورة البقرة 255 .

ص: 294

أ نّه لم يمثِّل لنفسِه مثالاً قبل شروعه في خلْق العالم ؛ ثم احتذى ذلك المثال ؛ ورُكّب العالم على حسب ترتيبه ، كالصانع الذي يصوغ حلْقة من رصاص مثالاً ، ثم يصوغ حلقة من ذهب عليها ، وكالبنّاء يقدر ويفرض رسوما وتقديراتٍ في الأرض وخطوطا ، ثم يبني بحسبها . والوجه الثاني : أ نّه يريد بامتثَله احتذاه وتقبّله واتبعه ، والأصل فيه امتثال الأمر في القول ، فنقل إلى احتذاء الترتيب العقلي ، فيكون التقدير أ نّه لم يمثِّل له فاعل آخر قبله مثالاً اتبعه واحتذاه وفعل نظيره ، كما يفعل التلميذ في الصباغة والنجارة شيئا قد مثّل له أُستاذُه صورتَه وهيئته . فأمّا معنى الفصل فظاهر ، يقول عليه السلام : إنه ابتدع الخلق على غير مثال قدمه لنفسه ولا قدم له غيره ليحتذي عليه ، وأرانا من عجائب صنعته ومن اعتراف الموجودات كلِّها ، بأنها فقيرة محتاجة إلى أنْ يمسكها بقوته ، ما دلّنا على معرفته ضرورة ، وفي هذا إشارة إلى أنّ كلّ ممكن مفتقر إلى المؤثر ، ولما كانت الموجودات كلَّها _ غيره سبحانه _ ممكنة ، لم تكن غَنِيّة عنه سبحانه ، بل كانت فقيرة إليه ؛ لأنها لولاه ما بقيت ، فهو سبحانه غنيّ عن كلّ شيء ، ولا شيء من الأشياء مطلقا بغنىً عنه سبحانه ، وهذه من خصوصية الإلهية ، وأجلّ ما تدركه العقول من الأنظار المتعلّقة بها . ثم قال عليه السلام : وظهرت آثار صنعته ، ودلائل حكمته في مخلوقاته فكانت وهي صامتة في الصورة ناطقة في المعنى بوجوده وربوبيته سبحانه ، وإلى هذا المعنى نظر الشاعر (1) فقال : فَوَعَجَبا كَيْفَ يُعْصَى الإلهُأمْ كيف يجحدُه الجاحِدُ! وَفِي كُلِّ شيء له آيةٌتَدُلُّ على أنّهُ وَاحِدُ وقال في تفسير قوله تعالى : « وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ » (2) : إنه عبارة عن هذا المعنى .

الأصْلُ :فَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ شَبَّهَكَ بِتَبَايُنِ أَعْضَاءِ خَلْقِكَ ، وَتَلاَحُمِ حِقَاقِ مَفَاصِلِهِمُ الْمُحْتَجِبَةِ لِتَدْبِيرِ حِكْمَتِكَ ، لَمْ يَعْقِدْ غَيْبَ ضَمِيرِهِ عَلَى مَعْرِفَتِكَ ، وَلَمْ يُبَاشِرْ قَلْبَهُ الْيَقِينُ بِأَنَّهُ لاَ

.


1- .أبو العتاهية ، ديوانه 69 ، 70 .
2- .سورة الإسراء 44 .

ص: 295

نِدَّلَكَ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ تَبَرُّؤَ التَّابِعِينَ مِنَ الْمَتْبُوعِينَ إِذْ يَقُولُونَ : « تَاللّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ» . كَذَبَ الْعَادِلُونَ بِكَ ، إِذْ شَبَّهُوكَ بِأَصْنَامِهِمْ ، وَنَحَلُوكَ حِلْيَةَ الْمَخْلُوقِينَ بِأَوْهَامِهمْ ، وَجَزَّأُوكَ تَجْزِئَةَ الْمُجَسَّمَاتِ بِخَوَاطِرِهِمْ ، وَقَدَّرُوكَ عَلَى الْخِلْقَةِ الُمخْتَلِفَةِ الْقُوَى ، بِقَرَائِحِ عُقُولِهِمْ . وَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ سَاوَاكَ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِكَ فَقَدْ عَدَلَ بِكَ ، وَالْعَادِلُ بِكَ كَافِرٌ بِمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ مُحْكَمَاتُ آيَاتِكَ ، وَنَطَقَتْ عَنْهُ شَوَاهِدُ حُجَجِ بَيِّنَاتِكَ ، وَانَّكَ أَنْتَ اللّهُ الَّذِي لَمْ تَتَنَاهَ فِي الْعُقُولِ ، فَتَكُونَ في مَهَبِّ فِكْرِهَا مُكَيَّفاً ، وَلاَ فِي رَوِيَّاتِ خَوَاطِرِهَا فَتَكُونَ مَحْدُوداً مُصَرَّفاً .

الشّرْحُ :حقاق المفاصل جمع حقّة ؛ وجاء في جمعها حِقاق وحقق وحقّ ؛ ولما قال : « بتباين أعضاء خلقك ، وتلاحم حقاق مفاصلهم » ؛ فأوقع التلاحمُ في مقابلة التباين صناعة وبديعا . وروي « المحتجّة » ، فمن قال : « المحتجّة » ، أراد أنّها بما فيها من لطيف الصنعة كالمحتجة المستدلة على التدبير الحكمي من لدنه سبحانه ، ومن قال : « المحتجبة » أراد المستترة ؛ لأنَّ تركيبها الباطن خفيّ محجوب . والنِدّ : المثل . والعادلون بك : الذين جعلوا لك عَدِيلاً ونظيرا. ونحلُوك : أعطوك ؛ وهي النِّحلة ، وروي : « لم يُعْقَد » على ما لم يسمّ فاعله . وغَيْب ضمِيره ، بالرفع . والقرائح : جمع قَرِيحة ، وهي القوة التي تستنبط بها المعقولات وأصلُه من قريحة البئر ، وهو أوّل مائها . ومعنى هذا الفصل أنه عليه السلام شَهِد بأنّ المجسم كافر ، وأ نّه لا يعرف اللّه ، وأن من شبّه اللّه بالمخلوقين ذوي الأعضاء المتباينة ، والمفاصل المتلاحمة ، لم يعرفه ولم يباشر قلبه اليقين، فإنّه لا ندّ له ولا مِثْل ، ثم أكّد ذلك بآيات من كتاب اللّه تعالى وهي قوله تعالى : « فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُون * وَجُنُودُ إبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللّهِ إنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ » (1) . حكى سبحانه حكاية قول الكُفار في النار ؛ وهم التّابعون للذين

.


1- .سورة الشعراء 94 _ 98 .

ص: 296

أغووهم من الشياطين وهم المتبوعون . لقد كنّا ضالين إذ سوّيناكم باللّه تعالى ، وجعلناكم مثله ، ووجه الحُجّة أنه تعالى حكى ذلك حكاية منكِرٍ على مَنْ زعم أن شيئا من الأشياء يجوز تسويته بالباري سبحانه ، فلو كان الباري سبحانه جسما مصوّرا ، لكان مشابها لسائر الأجسام المصوّرة ، فلم يكن لإنكاره على من سواه بالمخلوقات معنى . ثم زاد عليه السلام في تأكيد هذا المعنى ، فقال : كذب العادلون بك ، المثبتون لك نظيرا وشبيها ، يعني المشبِّهة والمجسّمة ، إذ قالوا : إنّك على صورة آدم ، فشبّهوك بالأصنام التي كانت الجاهلية تعبدها ، وأعطوْك حلية المخلوقين لما اقتضت أوهامهم ذلك ، لم يألفوا أن يكون القادر الفاعل العالم إلاّ جسما ، وجعلوك مركّبا ومتجزئا ، كما تتجزّأ الأجسام ، وقدروك على هذه الخلقة ، يعني خلقة البشر المختلفة القُوى ؛ لأنها مركبة من عناصر مختلفة الطبائع . ثم كرّر الشهادة فقال : أشهد أنّ مَنْ ساواك بغيرك ، وأثبت أنك جوهرٌ أو جسم فهو عادل بك كافر . وقوله : « في مهبّ فكرها » استعارة حسنة ، ثم قال : « ولا في رَوِيَّات خواطرها » ، أي في أفكارها . محدودا ، ذا حدّ مُصَرّفا ، أي قابلاً للحركة والتغير .

الأصْلُ :ومنها :قَدَّرَ مَا خَلَقَ فَأَحْكَمَ تَقْدِيرَهُ ، وَدَبَّرَهُ فَأَلْطَفَ تَدْبِيرَهُ ، وَوَجَّهَهُ لِوِجْهَتِهِ فَلَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ مَنْزِلَتِهِ ، وَلَمْ يَقْصُرْ دُونَ الاِْنْتِهَاءِ إِلى غَايَتِهِ ، وَلَمْ يَسْتَصْعِبْ إِذْ أُمِرَ بِالْمُضِيِّ عَلَى إِرَادَتِهِ ، فَكَيْفَ وَإِنَّمَا صَدَرَتِ الأمُورُ عَنْ مَشِيئَتِهِ ؟ الْمُنْشِئُ أَصْنَافَ الْأَشْيَاءِ بِلاَ رَوِيَّةِ فِكْرٍ آلَ إِلَيْهَا ، وَلاَ قَريحَةِ غَرِيزَةٍ أَضْمَرَ عَلَيْهَا ، وَلاَ تَجْرِبَةٍ أَفَادَهَا مِنْ حَوَادِثِ الدُّهُورِ ، وَلاَ شَرِيكٍ أَعَانَهُ عَلَى ابْتِدَاعِ عَجَائِبِ الْأُمورِ ، فَتَمَّ خَلْقُهُ بِأَمْرِهِ ، وَأَذْعَنَ لِطَاعَتِهِ ، وَأَجَابَ إِلى دَعْوَتِهِ ، لَم يَعْتَرِضْ دُونَهُ رَيْثُ الْمُبْطِئِ ، وَلاَ أَنَاةُ الْمُتَلَكِّئِ ، فَأَقَامَ مِنَ الْأَشْيَاءِ أَوَدَهَا ، وَنَهَجَ حُدُودَهَا ، وَلاَءَمَ بِقُدْرَتِهِ بَيْنَ مُتَضَادِّهَا ، وَوَصَلَ أَسْبَابَ قَرَائِنِهَا ، وَفَرَّقَهَا أَجْنَاساً مُخْتَلِفَاتٍ فِي الْحُدُودِ وَالْأَقْدَارِ ، وَالْغرَائِزِ

.

ص: 297

وَالْهَيْئَاتِ ، بَدَايَا خَلاَئِقَ أَحْكَمَ صُنْعَهَا ، وَفَطَرَهَا عَلَى مَا أَرَادَ وَابْتَدَعَهَا!

الشّرْحُ :الوِجْهة ، بالكسر : الجهة التي يتوجّه نحوها ، قال تعالى : « وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ موَلِّيهَا » (1) . والرَّيْث : البط ء والمتلكِّئ : المتأخّر . والأوَد : الاعوجاج . ولاءم بين كذا وكذا، أي جمع ، والقرائن هنا : الأنفس ، واحدتها قَرونة وقَرينة ، يقال : سمحت قرينته وقَرونته ؛ أي أطاعته نفسُه وذَلّت ، وتابعته على الأمر . وبدايا هاهنا : جمع بديّة ، وهي الحالة العَجيبة ، أبدأ الرجل إذا جاء بالأمر البديء ، أي المعجِب ، والبديّة أيضا : الحالة المبتدأة المبتكرة ، ومنه قولهم : فَعَله بادئَ ذي بَدِيء على وزن « فعيل » ، أي أوّل كلّ شيء . ويمكن أن يحمَلَ كلامُه أيضا على هذا الوجه . وأمّا خلائق ؛ فيجوز أن يكون أضاف « بدايا » إليها ؛ ويجوز ألاّ يكون أضافه إليها ، بل جعلها بدلاً من « أجناسا » . ويروى « برايا » جمع بريّة . يقول عليه السلام : إنّه تعالى قَدّر الأشياء التي خلقها ، فخلقها محكمة على حَسَب ما قدّر . وألطف تدبيرها ، أي جعله لطيفا ، وأمضى الأُمور إلى غاياتها وحدودها المقدّرة لها ، فهيأ الصَّقْرة للاصطياد ، والخيل للركوب والطّراد ، والسيف للقَطْع ، والقلم للكتابة ، والفَلَك للدوران ونحو ذلك ، وفي هذا إشارة إلى قول النبي صلى الله عليه و آله وسلم : « كلٌّ ميسَّرٌ لما خلق له » ؛ فلم تتعدّ هذه المخلوقات حدود منزلتها التي جعلت غايتها ، ولا قصّرت دون الانتهاء إليها ، يقول : لم تقف على الغاية ولا تجاوزتها . ثم قال : ولا استصعبتْ وامتنعت إذا أمرها بالمضيّ إلى تلك الغاية بمقتضى الإرادة الإلهية ، وهذا كلّه من باب المجاز ؛ كقوله تعالى : « فَقَالَ لَهَا وَلِلْأرْضِ ائْتِيَا طَوْعا أوْ كَرْها قَالَتَا أتَيْنَا طَائِعِينَ » (2) . وخلاصة ذلك ، الإبانة عن نفوذ إرادته ومشيئته . ثم علّل نفي الاستصعاب فقال : وكيف يَستصعب ، وإنما صدرت عن مشيئته ! يقول : إذا كانت مشيئتُه هي المقتضيَة لوجود هذه المخلوقات ، فكيف يُسْتَصْعَبُ عليه بلوغها إلى غاياتها التي جعلت لأجلها ، وأصلُ وجودها إنما هو مشيئته ، فإذا كان أصل وجودها

.


1- .سورة البقرة 148 .
2- .سورة فصّلت 11 .

ص: 298

بمشيئته ، فكيف يستصعب عليه توجيهها لوجهتها ، وهو فرع من فروع وجودها وتابع له! ثم أعاد معانيَ القول الأول ، فقال : إنه أنشأ الأشياء بغير رويّة ولا فكرة ولا غريزة أضمر عليها خَلْق ما خلق عليها . ولا تجربة أفادها ، أي استفادها من حوادث مرّت عليه من قبْلُ ، كما تكسب التجارب علوما لم تكن ، ولا بمساعدة شريك أعانه عليها . فتمّ خلقُه بأمره إشارة إلى قوله : « ولم يَستصعب إذ أمر بالمضيِّ » ؛ فلما أثبت هناك كونها أُمِرت أعاد لفظ الأمر هاهنا ، والكلّ مجاز ، ومعناه نفوذ إرادته ، إذا شاء أمرا استحال ألاّ يقع ، وهذا المجاز هو المجازُ المستعمَل في قوله تعالى : « إنَّمَا أَمْرُه إذا أراد شيئا أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » (1) ؛ تعبيرا بهذا اللفظ عن سرعة مواتاة الأُمور له ، وانقيادها تحت قدرته . ثم قال : ليس كالواحد منها يعترض دون مراده رَيْث وبط ء ، وتأخير والتوَاء . ثم قال : وأقام العِوج وأوضح الطريق ، وجمع بين الأُمور المتضادّة ، ألا ترى أنه جَمَع في بَدَن الحيوانات والنبات بين الكيفيات المتباينة المتنافرة ، من الحرارة والبرودة ، والرطوبة واليبوسة ، ووصلَ أسباب أنفسها بتعديل أمزجتها ؛ لأنّ اعتدال المزاج أو القرب من الاعتدال سببُ بقاء الروح ، وفَرّقها أجناسا مختلفات الحدود والأقدار ، والخلق والأخلاق والأشكال . أُمورٌ عجيبة بديعة مبتكرة الصنعة ، غير محتذٍ بها حَذْوَ صانع سابق ، بل مخلوقة على غير مثال ، قد أحكم سبحانه صنعها ، وخَلَقها على موجب ما أراد ، وأخرجها من العدم المحض إلى الوجود ، وهو معنى الابتداع ، فإنّ الخلق في الاصطلاح النظريّ على قسمين : أحدهما : صورة تخلق في مادة ، والثاني : ما لا مادّة له ، بل يكون وجودُ الثاني من الأول فقطْ، من غير توسّط المادة ، فالأول يسمّى التكوين ، والثاني يسمى الإبداع ، ومرتبة الإبداع أعلى من مرتبة التكوين .

الأصْلُ :ومنها في صفة السماء :وَنَظَمَ بِلاَ تَعْلِيقٍ رَهَوَاتِ فُرَجِهَا ، وَلاَحَمَ صُدُوعَ انْفِرَاجِهَا ، وَوَشَّجَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِا ، وَذَلَّلَ لِلْهَابِطِينَ بِأَمْرِهِ ، وَالصَّاعِدِينَ بِأَعْمَالِ خَلْقِهِ ، حُزُونَةَ مِعْرَاجِهَا ،

.


1- .سورة يس 82 .

ص: 299

وَنَادَاهَا بَعْدَ إِذْ هِيَ دُخَانٌ ، فَالْتَحَمَتْ عُرَى أَشْرَاجِهَا وَفَتَقَ بَعْدَ الاِرْتِتَاقِ صَوَامِتَ أَبْوَابِهَا ، وَأَقَامَ رَصَداً مِنَ الشُّهُبِ الثَّوَاقِبِ عَلَى نِقَابِهَا ، وَأَمْسَكَهَا مِنْ أَنْ تَمُورَ فِي خَرْقِ الْهَوَاءِ بِأَيْدِهِ ، وَأَمَرَهَا أَنْ تَقِفَ مُسْتَسْلِمَةً لِأَمْرِهِ ، وَجَعَلَ شَمْسَهَا آيَةً مُبْصِرَةً لِنَهَارِهَا ، وَقَمَرَهَا آيَةً مَمْحُوَّةً مِنْ لَيْلِهَا ، وَأَجْرَاهُمَا فِي مَنَاقِلِ مَجْرَاهُمَا ، وَقَدَّرَ سَيْرَهُمَا فِي مَدَارِجِ دَرَجِهِمَا ، لُِيمَيِّزَ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِهِمَا ، وَلِيُعْلَمَ عَدَدُ السِّنِينَ والْحِسَابُ بِمَقَادِيرِهِمَا ، ثُمَّ عَلَّقَ فِي جَوِّهَا فَلَكَهَا ، وَنَاطَ بِهَا زِينَتَهَا ، مِنْ خَفِيَّاتِ دَرَارِيِّهَا ، وَمَصَابِيحِ كَوَاكِبِهَا ، وَرَمَى مُسْتَرِقِي السَّمْعِ بِثَوَاقِبِ شُهُبِهَا ، وَأَجْرَاها عَلَى أَذْلاَلِ تَسْخِيرِهَا مِنْ ثَبَاتِ ثَابِتِهَا ، وَمَسِيرِ سَائِرِهَا ، وهُبُوطِهَا وَصُعُودِهَا ، وَنُحُوسِهَا وَسُعُودِهَا.

الشّرْحُ :الرَّهَوات : جمع رَهْوة ، وهي المكان المرتفع والمنخفض أيضا ، يجتمِعُ فيه ماءُ المطر ، وهو من الأضداد . والفُرَج : جمع فُرْجة ، وهي المكان الخالي . ولاحم : ألصق . والصَّدْع : الشَّقّ . ووَشّجَ ، بالتشديد ، أي شبك . ووشجَت العروقُ والأغصان ، بالتخفيف : اشتبكت ، وبيننا رحم واشِجة ، أي مشتبكة . وأزواجها : أقرانها وأشباهها ، قال تعالى : « وَكُنْتُمْ أزْوَاجا ثَلاَثَةً » (1) ، أي أصنافا ثلاثة . والحُزونة : ضدّ السّهولة . وأشراجُها : جمع شَرْج ؛ وهو عُرَا العَيْبة ؛ وأشرجتُ العيبة ، أي أقفلت أشراجَها ، وتسمى مجرّة السماء شَرْجاً ؛ تشبيها بشَرْج العيْبة ؛ وأشراج الوادي : ما انفسح منه واتسع . والإرتاق : الارتتاج . والنقاب : جمع نَقْب ؛ وهو الطريق في الجبل . وتمُور : تتحرّك وتذهب وتجيء ؛ قال تعالى : « يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرا » (2) والأيْدُ : القوة . ونَاطَ بها : عَلّق . والدّراريّ : الكواكب المضيئة ، نسبت إلى الدُّرّ لبياضها ؛ واحدها دُرِّيّ ، ويجوز كسر الدال ، مثل بحر لُجيّ ولِجيّ . والثواقب : المضيئات .

.


1- .سورة الواقعة 7 .
2- .سورة الطور 9 .

ص: 300

وتقول : إفعل ما أمرتُك على أذْلاله ، أي على وجهه ؛ ودَعْه في أذْلاله ؛ أي على حاله ، وأُمور اللّه جارية على أذلالها ؛ أي على مجاريها وطرقها . يقول عليه السلام : كانت السماء أوّل ما خلقت غير منتظمة الأجزاء ، بل بعضُهَا أرفعُ وبعضها أخفَض ، فنظمها سبحانه ، فجعلها بسيطاً واحداً ، نظْما اقتضتْه القدرة الإلهية ؛ من غير تعليق ، أي لا كما ينظم الإنسانُ ثوبا مع ثوب ، أو عِقْدا مع عِقْد ، بالتعليق والخياطة ، وألصق تلك الفروجَ والشُّقُوق ، فجعلها جسما متصلاً ، وسطحا أملس لا نتوّات فيه ولا فُرج ولا صُدوع ، بل جعلَ كلَّ جزء منها ملتصقا بمثله ، وذلك للملائكة الهابطين بأمرِه ، والصاعدين بأعمال خلقه _ لأنهم الكَتَبة الحافظون لها _ حُزُونة العُروج إليها ، وهو الصعود . ثم قال : « ونادَاها بعد إذْ هي » روي بإضافة « بَعْد » إلى « إذ » وروي بضمّ « بعد » ، أي وناداها بعد ذلك إذ هي دخان ؛ والأول أحسن وأصوب ؛ لأنها على الضمّ تكون دُخانا بعد نظمه رَهَوات فروجِها وملاحمة صدوعها ؛ والحال تقتضي أنّ دخانها قبل ذلك لا بعده . فإن قلت : ما هذا النداء ؟ قلت : هو قوله : « ائْتِيَا طَوْعا أوْ كَرْها » (1) ، فهو أمر في اللفظ ونداء في المعنى ، وهو على الحقيقة كناية عن سرعة الإبداع . ثم قال : وفَتَق بعد الارتتاق صوامتَ أبوابها ، هذا صريح في أنّ للسماء أبوابا ، وكذلك قوله : « على نقابها » ، وهو مطابق لقوله سبحانه وتعالى : « لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ » (2) والقرآن العظيم وكلام هذا الإمام المعظّم أولى بالاتباع من كلام الفلاسفة ، الذين أحالوا الخرق على الفلك . وأمّا إقامة الرصد من الشُّهب الثواقب ، فهو نص القرآن العزيز « وَأَنَّا لَمَسْنَا السَماءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسا شَدِيدا وَشُهُبا * وَأنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِد لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجدْ لَهُ شِهابا رَصَدا » (3) : والقول بإحراق الشهب للشياطين اتباعا لنص الكتاب أولى من قول الفلاسفة الذين أحالوا الانقضاض على الكواكب . ثم قال : وأمْسَكها على الحركة بقوته ، وأمرها بالوقوف فاستمسكت ووقفت . ثم ذكْره الشمس والقمر تذكرةً مأخوذ من قول اللّه تعالى : « وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ

.


1- .سورة فصّلت 11 .
2- .سورة الأعراف 40 .
3- .سورة الجنّ 8 ، 9 .

ص: 301

وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً » (1) . ثم ذكر الحكم في جَرَيان الشمس والقمر في مجراهما تذكرةً مأخوذ من قوله تعالى : « وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا » (2) وقوله : « وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ » ، وقوله : « وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ » (3) . ثم قال : « ثم علّق في جَوّها فَلَكها » ، وهذا يقتضي أنّ الفلك غير السماء ، وهو خلاف قول الجمهور ، وقد قال به قائلون ، ويمكن أن نفسر ذلك إذا أردنا موافقة قول الجمهور بأنّه أراد بالفلَك دائرة معدّل النهار ، فإنّها الدائرة العظمى في الفَلَك الأعظم ،وهي في الاصطلاح النظريّ تسمى فَلَكا . ثم ذكر أ نّه زيّن السماء الدنيا بالكواكب ، وأنّها رجوم لمسترِقِي السمع ، وهو مأخوذ من قوله تعالى : « إنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لاَ يَسَّمَّعُونَ إلَى المَلإِ الأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ » (4) . ثم شرح حال الدنيا فقال : « من ثبات ثابتها » ، يعنى الكواكب التي في كُرة البروج و « مسير سائرها » ، يعني الخمسة والنيّرين لأنّها سائرة دائما . ثم قال : « وصعودها وهبوطها » ، وذلك أنّ للكواكب السيارة صعودا في الأوج ، وهبوطا في الحضيض ، فالأوّل هو البعد الأبعد عن المركز ، والثاني البعد الأقرب . فإن قلت : ما باله عليه السلام قال : « ونحوسها وسعودها » ، وهو القائل لمن أشار عليه ألاّ يحارب في يوم مخصوص : « المنجّم كالكاهن ، والكاهن كالساحر ، والساحر كالكافر ، والكافر في النار » (5) ؟ قلت : إنه عليه السلام إنما أنكر في ذلك القول عَلَى مَنْ يزعم أن النجوم مؤثّرة في الأُمور الجزئيّة ، كالذين يحكمون لأرباب المواليد وعليهم ، وكمن يحكم في حَرْب أو سلم ، أو سفر أو مقام ، بأنه للسعد أو النحس ، وأنه لم ينكر على من قال : إنّ النجوم تؤثّر سعودا ونحوسا في الأُمور الكلية ، نحو أن تقتضي حَرّا أو بردا ، أو تدلّ على مرض عامّ أو قحط عام ، أو مطر دائم ،

.


1- .سورة الإسراء 12 .
2- .سورة يس 38 ، 39 .
3- .سورة يونس 5 .
4- .سورة الصافّات 6 _ 9 .
5- .مرّ في الخطبة 78 قاله عليه السلام لما عزم على المسير إلى الخوارج .

ص: 302

ونحو ذلك من الأُمور التي لا تخصّ إنسانا بعينه ، وقد قدمنا في ذلك الفصل ما يدل على تصويب هذا الرأي ، وإفساد ماعداه .

الأصْلُ :ومنها في صفة الملائكة :ثُمَّ خَلَقَ سُبْحَانَهُ لاِءِسْكَانِ سَموَاتِهِ ، وَعِمَارَةِ الصَّفِيحِ الأَعْلَى مِنْ مَلَكُوتِهِ ، خَلْقاً بَدِيعاً مِنْ مَلاَئِكَتِهِ ، وَمَلَأَ بهِمْ فُرُوجَ فِجَاجِهَا ، وَحَشَا بِهمْ فُتُوقَ أَجْوَائِها ، وَبَيْنَ فَجَوَاتِ تِلْكَ الْفُرُوجِ زَجَلُ الْمُسَبِّحِينَ مِنْهُمْ فِي حَظَائِرِ القُدْسِ ، وَسُتُرَاتِ الْحُجُبِ ، وَسُرَادِقَاتِ المجْدِ ، وَوَرَاءَ ذلِكَ الرَّجِيجِ الَّذِي تَسْتَكُّ مِنْهُ الْأَسْمَاعُ سُبُحَاتُ نُورٍ تَرْدَعُ الْأَبْصَارَ عَنْ بُلُوغِهَا ، فَتَقِفُ خَاسِئَةً عَلَى حُدُودِهَا . وَأَنْشَأَهُمْ عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَاتٍ ، وَأَقْدَارٍ مُتَفَاوِتَاتٍ، أُولِي أَجْنِحَةٍ تُسَبِّحُ جَلاَلَ عِزَّتِهِ ، لاَ يَنْتَحِلُونَ مَا ظَهَرَ فِي الْخَلْقِ مِنْ صُنْعِهِ ، وَلاَيَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَخْلُقُونَ شَيْئاً مَعَهُ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ ، «بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأمْرِهِ يَعْمَلُونَ» (1) جَعَلَهُمُ اللّه فِيَما هُنَالِكَ أَهْلَ الْأَمَانَةِ عَلَى وَحْيِهِ ، وَحَمَّلَهُمْ إِلى الْمُرْسَلِينَ وَدَائِعَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ ، وَعَصَمَهُمْ مِنْ رَيْبِ الشُّبُهَاتِ ، فَمَا مِنْهُمْ زَائِغٌ عَنْ سَبِيلِ مَرْضَاتِهِ . وَأَمَدَّهُمْ بِفَوَائِدِ المَعُونَةِ ، وَأَشْعَرَ قُلُوبَهُمْ تَوَاضُعَ إِخْبَاتِ السَّكِينَةِ ، وَفَتَحَ لَهُمْ أَبْوَاباً ذُلُلاً إِلى تَمَاجِيدِهِ ، وَنَصَبَ لَهُمْ مَنَاراً وَاضِحَةً عَلَى أَعْلاَمِ تَوْحِيدِهِ ، لَمْ تُثْقِلْهُمْ مَوصِرَاتُ الآثَامِ وَلَمْ تَرْتَحِلْهُمْ عُقَبُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّام ، وَلَمْ تَرْمِ الشُّكُوكُ بِنَوَازِعِهَا عَزِيمَةَ إِيمَانِهمْ ، وَلَمْ تَعْتَرِكِ الظُّنُونُ عَلَى مَعَاقِدِ يَقِينِهمْ ، وَلاَ قَدَحَتْ قَادِحَةُ الاْءِحَنِ فِيما بَيْنَهُمْ ، وَلاَ سَلَبَتْهُمُ الْحَيْرَةُ مَا لاَقَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِضَمَائِرِهمْ ، وَمَا سَكَنَ مِنْ عَظَمَتِهِ وَهَيْبَةِ جَلاَلَتِهِ فِي أَثْنَاءِ صُدُورِهمْ ، وَلَمْ تَطْمَعْ فِيهِمُ الْوَسَاوِسُ فَتَقْتَرِعَ بِرَيْنِهَا عَلى فِكْرِهمْ .

.


1- .سورة الأنبياء 26 ، 27 .

ص: 303

وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ في خَلْقِ الْغَمَامِ الدُّلَّحِ ، وَفي عِظَمِ الْجِبَالِ الشُّمَّخِ ، وَفي قَتْرَةِ الظَّ_لاَمِ الْأَيْهَمِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ خَرَقَتْ أَقْدَامُهُمْ تُخُومَ الْأَرْض السُّفْلَى ، فَهِيَ كَرَايَاتٍ بِيض قَدْ نَفَذَتْ فِي مَخَارِقِ الْهَوَاءِ ، وَتَحْتَهَا رِيحٌ هَفَّافَةٌ تَحْبِسُهَا عَلَى حَيْثُ انْتَهَتْ مِنَ الْحُدُودِ الْمُتَنَاهِيَةِ ، قَدِ اسْتَفْرَغَتْهُمْ أَشْغَالُ عِبَادَتِهِ ، وَوَصَلَتْ حَقَائِقُ الاْءِيمَانِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَعْرِفَتِهِ ، وَقَطَعَهُمُ الاْءِيقَانُ بِهِ إِلى الْوَلَهِ إِليْهِ ، وَلَمْ تُجَاوِزْ رَغَبَاتُهُمْ مَا عِنْدَهُ إِلى مَا عِنْدَ غَيْرِهِ . قَدْ ذَاقُوا حَلاَوَةَ مَعْرِفَتِهِ ، وَشَرِبُوا بِالْكَأْس الرَّوِيَّةِ مِنْ مَحَبَّتِهِ ، وَتَمَكَّنَتْ مَنْ سُوَيْدَاءِ قُلُوبِهمْ وَشِيجَةُ خِيفَتِهِ ، فَحَنَوْا بِطُولِ الطَّاعَةِ اعْتِدَالَ ظُهُورِهمْ ، وَلَمْ يُنْفِدْ طُولُ الرَّغْبَةِ إِلَيْهِ مَادَّةَ تَضَرُّعِهِمْ ، وَلاَ أَطْلَقَ عَنْهُمْ عَظِيمُ الزُّلْفَةِ رِبَقَ خُشُوعِهمْ ، وَلَمْ يَتَوَلَّهُمُ الاْءِعْجَابُ فَيَسْتَكْثِرُوا مَا سَلَفَ مِنْهُمْ ، وَلاَ تَرَكَتْ لَهُمُ اسْتِكَانَةُ الاْءِجْلاَلِ نَصِيباً فِي تَعْظِيمِ حَسَنَاتِهمْ ، وَلَمْ تَجْرِ الْفَتَرَاتُ فِيهِمْ عَلَى طُولِ دُؤوبِهِمْ ، وَلَمْ تَغِضْ رَغَبَاتُهُمْ فَيُخَالِفُوا عَنْ رَجَاءِ رَبِّهِمْ ، وَلَمْ تَجِفَّ لِطُولِ الْمُنَاجَاةِ أَسَلاَتُ أَلْسِنَتِهمْ ، وَلاَ مَلَكَتْهُمُ الْأَشْغَالُ فَتَنْقَطِعَ بِهَمْس الْجُؤارِ إِلَيْهِ أَصْوَاتُهُمْ ، وَلَمْ تَخْتَلِفْ فِي مَقَاوِمِ الطَّاعَةِ مَنَاكِبُهُمْ ، وَلَمْ يَثْنُوا إِلَى رَاحَةِ التَّقْصِيرِ فِي أَمْرِهِ رِقَابَهُمْ . وَلاَ تَعْدُوا عَلَى عَزِيمَةِ جِدِّهِم بَلاَدَةُ الْغَفَلاَتِ ، وَلاَ تَنْتَضِلُ فِي هِمَمِهِمْ خَدَائِعُ الشَّهَوَاتِ . قَدِْ اتَّخَذُوا ذَا الْعَرْش ذَخِيرَةً لِيَوْمِ فَاقَتِهمْ ، وَيَمَّمُوهُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْخَلْقِ إِلى الَمخْلُوقِينَ بِرَغْبَتِهمْ ، لاَ يَقْطَعُونَ أَمَدَ غَايَةِ عِبَادَتِهِ ، وَلاَ يَرْجِعُ بِهمُ الاِسْتِهْتَارُ بِلُزُومِ طَاعَتِهِ ، إِلاَّ إِلَى مَوَادَّ مِنْ قُلُوبِهمْ غَيْرِ مُنْقَطِعَةٍ مِنْ رَجَائِهِ وَمَخَافَتِهِ ، لَمْ تَنْقَطِعْ أَسْبَابُ الشَّفَقَةِ مِنْهُمْ ، فَيَنُوا في جِدِّهِمْ ، وَلَمْ تَأْسِرْهُمُ الْأَطْمَاعُ فَيُؤثِرُوا وَشِيكَ السَّعْيِ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ . لَمْ يَسْتَعْظِمُوا مَا مَضَى مِنْ أَعْمَالِهِمْ ، وَلَوِ اسْتَعْظَمُوا ذلِكَ لَنَسَخَ الرَّجَاءُ مِنْهُمْ شَفَقَاتِ وَجَلِهِمْ ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي رَبِّهمْ بِاسْتِحْواذِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ ، وَلَمْ يُفَرِّقْهُمْ سُوءُ التَّقَاطُعِ ، وَلاَ تَوَلاَّهُمْ غِلُّ التَّحَاسُدِ ، وَلاَ تَشَعَّبَتْهُمْ مَصَارِفُ الرِّيَبِ، وَلاَ اقْتَسَمَتْهُمْ أَخْيَافُ الْهِمَمِ ، فَهُمْ أُسَرَاءُ إِيمَانٍ لَمْ يَفُكَّهُمْ مِنْ رِبْقَتِهِ زَيَغٌ وَلاَ عُدُولٌ وَلاَ وَنىً وَلاَ فُتُورٌ ، وَلَيْسَ في أَطْبَاقِ

.

ص: 304

السَّمَاءِ مَوْضِعُ إِهَابٍ إِلاَّ وَعَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ ، أَوْ سَاعٍ حَافِدٌ ، يَزْدَادُونَ عَلَى طُولِ الطَّاعَةِ بِرَبِّهمْ عِلْماً ، وَتَزْدَادُ عِزَّةُ رَبِّهِمْ فِي قُلُوبِهِمْ عِظَماً .

الشّرْحُ :هذا موضع المثل : « إذا جاء نهرُ اللّه بطل نهر مَعْقِل » ! إذا جاء هذا الكلام الربّانيّ ، واللفظ القدسيّ ، بطلَتْ فصاحة العرب ، وكانت نسبة الفصيح من كلامها إليه ، نسبةَ التراب إلى النُّضَار الخالص ؛ ولو فرضنا أنّ العرب تقدِرُ على الألفاظ الفصيحة المناسبة ، أو المقاربة لهذه الألفاظ ، من أين لهم المادّة التي عبَّرت هذه الألفاظ عنها ؟ ومن أين تعرف الجاهليّة بل الصحابة المعاصرُون لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم هذه المعاني الغامضة السمائيّة ؛ ليتهيّأ لها التعبير عنها . فالكلام في الملائكة وصفاتها ، وصُورها وعباداتها ، وتسبيحِها ومعرفتِها بخالقها وحبّها له ، ووَلهها إليه ، وما جرى مجرى ذلك مما تضمّنه هذا الفصل على طوله ، فإنه لم يكن معروفا عندهم على هذا التفصيل ؛ وأُقسم أنّ هذا الكلام إذا تأمّله اللبيب اقشعرّ جلده ، ورجَفَ قلبُه ، واستشعر عظمةَ اللّه العظيم في رَوْعه وخَلده ، وهام نحوه وغلب الوجد عليه ، وكاد أن يخرج من مُسْكه شوقا ، وأن يفارق هيكله صَبابةً ووجدا . ثم نعود إلى التفسير فنقول : الصّفيح الأعلى : سطح الفَلَك الأعظم ؛ ويقال لوجه كلّ شيء عريض : صفيح وصَفْحَة . والفُروج : الأماكن الخالية والفِجاج : جمع فَجّ ، والفَجّ : الطريق الواسع بين جبلين أو حائطين ، وأجوائها : جمع جَو ، وهو ما اتّسع من الأودية ، ويقال لما بين السماء والأرض جَوّ ، ويروى : « أجوابها » ، جمع جَوْبة ، وهي الفُرْجة في السحاب وغيره ، ويروى : « أجْوَازها » جمع جَوْز ، وهو وَسَط الشيء . والفجوات : جمع فَجْوة ، وهي الفُرْجة بين الشيئين ؛ تقول منه : تفاجَى الشيء ، إذا صار له فَجْوة ، ومنه الفُجاء ؛ وهو تباعُد ما بين عُرْقوبَيِ البعير . والزَّجَل : الصوت . وحظائر القدس : لفظة وردت في كلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وأصل « الحظيرة » ما يعمل شبْه البيت للإبل من الشجر ليقيها البرد ؛ فسمَّى عليه السلام تلك المواطن الشريفة المقدّسة العالية التي فوق الفلك حَظَائر القدس ، والقُدْسُ بتسكين الدال وضمها : الطُّهر ، والتقديس : التطهير ، وتقدّس : تطهّر . والأرض المقدّسة المطهّرة ، وبيت المقدس

.

ص: 305

أيضا ، والنسبة إليه قُدْسيّ ومقدسيّ . والسُتُرات : جمع سُتْرة . والرجيج : الزلزلة والاضطراب ؛ ومنه ارتجّ البحر . وتستَكّ الأسماع : تنسدّ . سُبُحات النور ، بضم الشين والباء : عبارة عن جلالة اللّه تعالى وعظمته . وتَرْدَع الأبصار تكفّها . وخاسئة ، أي سادرة ، ومنه : « يَنْقَلِب إلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئا وَهُوَ حَسيرٌ » (1) ، وخَسَأ بصرُه ، خسْأ وخُسوءاً ، أي سَدِر (2) . وقوله : « على حدودها » أي تقف حيث تنتهي قوّتها ، لأنّ قوتها ؛ متناهية ، فإذا بلغتْ حدّها وقفت . وقوله : « أُولِي أجْنِحَةٍ » من الألفاظ القرآنية . وقوله : « لا ينتحلون ما ظهر في الخلق من صنعه » ، أي لا يدّعون الإلهيّة لأنفسهم ، وإن كان قوم من البشر يدّعونها لهم . وقوله : « لا يدّعون أنهم يخلُقون شيئا معه مما انفرد به » . وأمّا الآيات المقدسة ، فالرواية المشهورة « مُكْرَمون » وقرئ : « مُكَرَّمُون » بالتشديد ، وقرئ « لا يسبُقونه » بالضم ، والمشهور القراءة بالكسر ، والمعنى أنّهم يتبعون قوله ، ولا يقولون شيئا حتى يقوله ، فلا يسبق قولهم قولَه ، وأراد أن يقول : « لا يسبقونه بقولهم » ، فحذف الضمير المضاف إليه ، وأناب اللاّم منابه . ثم قال : « وهم بأمره يعملون » ؛ أي كما أنّ قولهم تابع لقوله ؛ فعملهم أيضا كذلك فَرْعٌ على أمره ، لا يعملون عملاً ما لم يؤمروا به . والزائغ : العادل عن الطريق ، والإخبات : التذلّل والاستكانة . وأبوابا ذُلُلاً ، أي سهلة وطيئة ، ومنه : دَابَّةٌ ذَلُول ؛ وتماجيده : الثناء عليه بالمجد . والمؤصِرات : المثقِلات ، والإصْر : الثقل . وتقول : « ارتحلتُ » البعير ، أي ركبته ، والعَقَبة : النوْبة ، والجمع عُقَب . ومعنى قوله : « ولم ترتحلهم عُقَب الليالي والأيام » ، أي لم تؤثّر فيهم نوبات الليالي والأيام وكرورها ، كما يؤثر ارتحال الإنسان البعير في ظهره . ونوازعها : شهواتها النازعة المحرّكة ، وروي : « نوازغها » بالغين المعجمة ، من نَزَع بينهم ، أي أفسد . ولم تعترك الظنون ، أي لم تزدحم الظنون على يقينهم الذي عقدوه . والإحَن : جمع إحْنَة ، وهي الحقد ، يقول : لم تقدح قوادح الحِقْد في ضمائرهم . وما لاق ، أي ما التصق ، وأثناء صدورهم : جمع ثِنْى وهي التضاعيف . والرّيْن : الدّنَس والغلبة ، قال تعالى : « كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ » (3) . وتقترع ، من الاقتراع بالسهام ، بأنْ يتناول

.


1- .سورة الملك 4 .
2- .سَدِر : كلّ وأعيا .
3- .سورة المطففين 14 .

ص: 306

كلٌّ من الوساوس عليها . ويروى : « فيفترع » بالفاء ، أي تعلو بريْنها ، فَرَعه ، أي علاه . والغمام : جمع غمامة ، وهي السحابة . والدُّلّح : الثِّقال ، جاء يدْلح بجَملِه ، أي جاء مثقلاً به . والجبال الشُّمّخ : العالية الشاهقة . وقوله : « في قَتْرة الظلام » ، أي سواده . والأيْهم : لا يهتدَى فيه ، ومنه فلاةَ يهْماء . والتُّخُوم ، بضم التاء : جمع تَخْم وهو منتهى الأرض أو القرية ، مثل فَلْس وفلوس ، ويروى : « تَخُوم » بفتح التاء على أنّها واحد ، والجمع تُخُم مثل صَبُور وصُبُر . وريح هَفّافة ، أي ساكنةَ طيّبة ، يقول : كأنّ أقدامهم التي خرقتِ الهواء إلى حضيض الأرض رايات بيض تحتها ريح ساكنة ليست مضطربة ؛ فتموج تلك الرايات ! بل هي ساكنة تحبسها حيث انتهت . ثم قال : « قد استفرغتْهم أشغال عبادته تعالى » أي جعلَتْهم فارغين إلاّ منها . ويروى : « ووسّلت حقائق الإيمان » ، بالسين المشددة ، يقال : وسَّل فلان إلى رَبّه وسيلة ، والوسيلة ما يتقرب به ، والجمع وسيل ووسائل ، ويقال : وسلتُ إليه وتوسلت إليه بمعنىً . وسويداوات القلوب : جمع سويداء ، وهي حَبّة القلب . والوشيجة في الأصل : عرق الشَّجرة ، وهي هنا استعارة . وَحَنْيتُ ضلْعي ، أي عوجتها . والرِّبقَ : جمع رِبْقة ، وهي الحبل . قوله : « ولم يتولَّهم الإعجاب » ؛ أي لم يستوْل عليهم . والدؤوب : الجدّ والاجتهاد . والأسَلاَت : جمع أسَلة ، وهي طرف اللسان ومستدقّه ، والجُؤار : الصَّوْت المرتفع ، والهَمْس : الصوت الخفيّ ، يقول : ليست لهم أشغال خارجة عن العبادة ، فيكون لأجلها أصواتُهم المرتفعة خافية ساكنة . لا تعدُو ، من عَدَا عليه ، إذا قهره وظلمه ، وهو هاهنا استعارة . ولا تنتضل الخدائع في هممهم ؛ استعارة أيضا من النّضال ، وهو المراماة بالسهام . وذو العرش : هو اللّه تعالى ، وهذه لفظة قرآنية ؛ قال سبحانه : « إذا لاَبْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً» ، يعني لابتغوا إلى اللّه تعالى سبيلاً ، وقال تعالى : « ذُو العَرْش الْمَجِيد * فَعّالٌ لِمَا يُرِيدُ» (1) ، والاستهتار : مصدر استهتر فلان بكذا ، أي لازمه وأولع به . وقوله : « فيَنُوا » أي فيضعفوا ؛ وِني : ينِي . والجِدّ : الاجتهاد والانكماش . ثم قال : إنهم لا يستعظمون عبادتهم ، ولو أنّ أحدا منهم استعظم عبادَته لأذهب خوفُه رجاءه الذي يتولّد من استعظام تلك العِبادة ؛ يصفهم بعظم التقوى . والاستحواذ : الغَلبة ، والغِلّ : الحِقْد ، وتشعّبتهم :

.


1- .سورة البروج 15 ، 16 .

ص: 307

تقسّمتهم وفَرْقتهم ؛ ومنه قيل للمنية شَعوب ، أي مفرّقة . وأخياف الهمم ، أي الهمم المختلفة ، وأصله من الخَيْف ، وهو كَحل إحدَى العينين دون الأُخرى ، ومنه المثل : الناس أخْيَاف ، أي مختلفون ، والإهاب : الجِلْد . والحافد : المسرع ، ومنه الدعاء : اللهمّ إليك نَسْعى ونحفِد . واعلم أ نّه عليه السلام إنما كَرّر وأكّد صفاتهم بما وصفهم به ؛ ليكون ذلك مثالاً يحتذِي عليه أهل العرفان من البشر ؛ فإنّ أعْلى درجات البشر أن يتشبّه بالملكَ . وخلاصة ذلك أُمور : منها العبادة القائمة . ومنها ألاّ يدّعي أحدٌ لنفسه الحوْل والقوة ، بل لا حولَ ولا قوّة . ومنها أن يكون متواضعا ذا سكينة ووقار . ومنها أن يكون ذا يقين لا تقدَحُ فيه الشكوك والشبهات . ومنها ألاّ يكون في صدره إحْنة على أحد من الناس . ومنها شِدّة التعظيم والهيبة لخالق الخلق ، تبارك اسمه . ومنها أنْ تستفرغه أشغال العبادة له عن غيرها من الأشغال . ومنها أ نّه لا تتجاوز رغباتُه ممّا عند اللّه تعالى إلى ما عند غيره سبحانه . ومنها أن يعقد ضميرَه وقلبَه على محبة اللّه تعالى ، ويشرب بالكأس الروِيّة من حبِّه . ومنها عِظَم التقوى بحيث يأمن كلّ شيء عدا اللّه ، ولا يهاب أحدا إلا اللّه . ومنها الخشوع والخضوع والإخبات والذلّ لجلال عزته سبحانه . ومنها ألاّ يستكثر الطاعة والعمل ، وإنْ جَلّ وعَظُم . ومنها عِظَمُ الرجاء الواقع في مقابلة عظم الخوف ؛ فإنّ اللّه تعالى يحبّ أن يُرْجَى ، كما يحب أن يُخاف .

الأصْلُ :ومنها في صفة الأرض ودحوها على الماء :كَبَسَ الْأَرْضَ عَلَى مَوْرِ أَمْوَاجٍ مُسْتَفْحِلَةٍ ، وَلُجَجِ بِحَارٍ زَاخِرَةٍ ، تَلْتَطِمُ أَوَاذِيُّ أَمْوَاجِهَا ، وَتَصْطَفِقُ مُتَقَاذِفَاتُ أَثْبَاجِها ، وَتَرْغُو زَبَداً كَالْفُحُولِ عِنْدَ هِيَاجِهَا ، فَخَضَعَ

.

ص: 308

جِمَاحُ الْمَاءِ الْمُتَلاَطِمِ لِثِقْلِ حَمْلِهَا ، وَسَكَنَ هَيْجُ ارْتِمَائِهِ إِذْ وَطِأَتْهُ بِكَلْكَلِهَا ، وَذَلَّ مُسْتَخْذِياً إِذْ تَمَعَّكَتْ عَلَيْهِ بِكَوَاهِلِهَا ، فَأَصْبَحَ بَعْدَ اصْطِخَابِ أَمْوَاجِهِ ، سَاجِياً مَقْهُوراً ، وَفِي حَكَمَةِ الذُّلِّ مُنْقَاداً أَسِيراً ، وَسَكَنَتِ الْأَرْضُ مَدْحُوَّةً فِي لُجَّةِ تَيَّارِهِ ، وَرَدَّتْ مِنْ نَخْوَةِ بَأْوِهِ ، وَاعْتِلاَئِهِ ، وَشُمُوخِ أَنْفِهِ وَسُمُوِّ غُلَوَائِهِ ، وَكَعَمَتْهُ عَلَى كِظَّةِ جَرْيَتِهِ ، فَهَمَدَ بَعْدَ نَزَقَاتِهِ ، وَلَبَدَ بَعْدَ زَيَفَانِ وَثَبَاتِهِ . فَلَمَّا سَكَنَ هَيْجُ الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ أَكْنَافِهَا ، وَحَمَلَ شَوَاهِقَ الْجِبَالِ الشُّمَّخِ الْبُذَّخِ عَلَى أَكْتَافِهَا ، فَجَّرَ يَنَابِيعَ الْعُيُونِ مِنْ عَرَانِينِ أُنُوفِهَا ، وَفَرَّقَهَا فِي سُهُوبِ بِيدِهَا وَأَخَادِيدِهَا ، وَعَدَّلَ حَرَكَاتِهَا بِالرَّاسِيَاتِ مِنْ جَلاَمِيدِهَا ، وَذَوَاتِ الشَّنَاخِيبِ الشُّمِّ مِنْ صَيَاخِيدِهَا ، فَسَكَنَتْ مِنَ الْمَيَدَانِ لِرُسُوبِ الْجِبَالِ فِي قِطَعِ أَدِيمِهَا ، وَتَغَلْغُلِهَا مُتَسَرِّبَةً فِي جَوْبَاتِ خَيَاشِيمِهَا ، وَرُكُوبِهَا أَعْنَاقَ سُهُولِ الْأَرَضِينَ وَجَرَاثِيمِهَا ، وَفَسَحَ بَيْنَ الْجَوِّ وَبَيْنَهَا ، وَأَعَدَّ الْهَوَاءَ مُتَنَسَّماً لِسَاكِنِهَا ، وَأَخْرَجَ إِلَيْهَا أَهْلَهَا عَلَى تَمَامِ مَرَافِقِها . ثُمَّ لَمْ يَدَعْ جُرُزَ الْأَرْض الَّتي تَقْصُرُ مِيَاهُ الْعُيُونِ عَنْ رَوَابِيهَا ، وَلاَ تَجِدُ جَدَاوِلُ الْأَنْهَارِ ذَرِيعَةً إِلى بُلُوغِهَا ، حَتَّى أَنْشَأَ لَهَا نَاشِئَةَ سَحَابٍ تُحْيِي مَوَاتَهَا ، وَتَسْتَخْرِجُ نَبَاتَهَا . أَلَّفَ غَمَامَهَا بَعْدَ افْتِرَاق لُمَعِهِ ، وَتَبَايُنِ قَزَعِهِ ، حَتَّى إِذَا تَمَخَّضَتْ لُجَّةُ الْمُزْنِ فِيهِ ، وَالَْتمَعَ بَرْقُهُ فِي كُفَفِهِ ، وَلَمْ يَنَمْ وَمِيضُهُ فِي كَنَهْوَرِ رَبَابِهِ ، وَمُتَرَاكِمِ سَحَابِهِ ، أَرْسَلَهُ سَحّاً مُتَدَارِكاً ، قَدْ أَسَفَّ هَيْدَبُهُ ، يَمْرِي الْجَنُوبُ دِرَرَ أَهَاضِيبِهِ، وَدَفعَ شَآبِيبِهِ . فَلَمَّا ألْقَتِ السَّحابُ بَرْكَ بِوَانَيْهَا ، وَبَعَاعَ مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ مِنَ الْعِبْ ءِ الَمحْمُولِ عَلَيْهَا ، أَخْرَجَ بِهِ مِنْ هَوَامِدِ الْأَرْض النَّبَاتَ ، وَمِنْ زُعْرِ الْجِبَالِ الْأَعْشَابَ ، فَهِيَ تَبْهَجُ بِزِينَةِ رِيَاضِهَا ، وَتَزْدَهِي بِمَا أُلْبِسَتْهُ مِنْ رَيْطِ ، أَزَاهِيرِهَا ، وَحِلْيَةِ مَا سُمِطَتْ بِهِ مِنْ نَاضِرِ أَنْوَارِهَا ، وَجَعَلَ ذلِكَ بَلاَغاً لِلْأَنَامِ ، وَرِزْقاً لِلْأَنْعَامِ ، وَخَرَقَ الْفِجَاجَ فِي آفَاقِهَا ، وَأَقَامَ المَنَارَ لِلسَّالِكِينَ عَلَى جَوَادِّ طُرُقِهَا .

.

ص: 309

الشّرْحُ :كَبَس الأرض ، أي أدخلها في الماء بقوة واعتماد شديد ؛ ويقال لضربٍ من التمر : الكَبِيس ؛ لأ نّه يكبَس حتى يتراصّ . والموْر : مصدر « مار » أي ذهب وجاء . ومستفحلة : هائجة هَيَجان الفحول . واستفحل الأمر : تفاقم واشتدّ . وزاخرة ، زخر الماء أي امتدّ جدّا وارتفع . والأواذيّ : جمع آذيّ ، وهو الموج . وتصطفق : يضرب بعضها بعضا . والأثباج هاهنا : أعالي الأمواج ، وأصل الثَّبَج ، مابين الكاهل إلى الظهر . وترغو : تصوّت صوت البعير ، والرغاء : صوت ذات الخُفّ ؛ وزَبَدا على هذا منصوب بفعل مقدّر ، تقديره : وترغو قاذفةً زَبدا ، والزَّبَد : ما يظهر فوق السَّيْل ؛ يقال : قد أزبد البحر والسّيل ، وبحر مُزْبِد ، أي مالح يقذف بالزبد . والفحول عند هياجها : فحول الإبل إذا هاجت للضِّرَاب . وجماع الماء : صعودُه وغَلَيانه ، وأصله من جِماح الفَرَس ، وهو أن يعزّ فارسَه ويغلبه . والجَموح من الرجال : الذي يركَبُ هواه فلا يمكن ردّه . وَخَضَع : ذلّ . وهَيْج الماء : اضطرابه ، هاج هَيْجاً وهياجاً وهَيَجاناً ، واهتاج ، وتهيّج ، كلّه بمعنىً ، أي ثار ، وهاجَه غيرُه ، يتعدّى ولا يتعدّى . وهيْج ارتمائه ، يعني تقاذفه وتلاطمه ، يقال ارتمى القومُ بالسهام وبالحجارة ارتماءً . وكَلْكَلها : صدرها . والمستخذِي : الخاضع . وتمعّكت : تمرغت ، مستعار من تَمَعُّك الدابة في الأرض ، وقالوا : معكتُ الأديم ، أي دلكته . وكواهلها : جمع كاهل ؛ وهو ما بين الكِتفين ، ويسمى الحارِك . واصطخاب أمواجه : افتعال من الصَّخَب ، وهو الصياح والجَلَبة . والساجي : الساكن : والحَكَمة : ما أحاط من اللجام بحنَك الدابة ، وكانت العرب تتخذها من القِدّ والأبَق ؛ لأنّ الزينة لم تكن قصدهم . ومدحوّة : مبسوطة ، قال تعالى : « وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا » (1) . ويجوز أن تكون « مدحوّة » هاهنا بمعنى مقذوفة مرميّة ، يقال : دحوتُ الحصاة أي قذفتُها ، ويقال للاعب الجوز : ادحُ وأبعد المدى . والتيّار : أعظم الموج . ولجّته : أعمقه . والبأو : الكِبْر والفخر . والاعتلاء : التِّيه والتكبّر . والشُّموخ : العلوّ ، مصدر شَمَخ بأنفه أي تكبَّر ، والجبال الشوامخ : الشاهقة . والسموّ : العلو ، وسمو غلوائه أي غلوّه وتجاوزه الحدّ . وكَعَمَتْه ، أي شدّدت فمه لما هاج ، من الكِعَام وهو شيء يجعل في فَم البعير ، وبعير مَكْعوم . والكِظّة : الجهد والثِّقل الذي يعتري الإنسان عند الامتلاء من الطعام ، يقول : كعمت الأرض

.


1- .سورة النازعات 30 .

ص: 310

الماء حال كونه مكظوظا لشدة امتلائه وكثرته وازدحام أمواجه . فهمَد أي سكن ، همدت النارُ تهمدُ ، بالضمّ همودا ، أي طفِئت وذهبت ألبتّةَ . والخمود دون الهمود . والنزَقات : الخفّة والطيش ، نَزِق الرجل بالكسر ، ينزَق نَزَقا . والنَّزقات : الدفعات من ذلك . ولبَد الشيء بالأرض يلبُد ، بالضم لبودا ، أي لصق بها ساكنا . والزَّيفَان : التبخير في المشي ، زاف البعيرُ يزيف ، والزّيّافة من النُّوق المختالة ، ويروى : « ولَبَد بعد زَفَيان وثباته » ، والزّفيَان : شدة هبوب الريح ، يقال زَفَتْه الريحُ زَفَيَاناً ، أي طردته ، وأكنافها : جوانبها ، وكنفا الطائر جناحاه . والجبال الشواهق : العالية ، ومثله البذَّخ . والعِرْنين أوّل الأنف تحت مجتمع الحاجبين . والينابيع : جمع يُنبوع ، وهو ما انفجر من الأرض عن الماء . والسُّهوب : جمع سَهْب ، وهو الفَلاة . والبِيد : جمع بَيْداء ، وهي الفلاة أيضا . والأخاديد : جمع أخدود ، وهو الشّقّ في الأرض ، قال تعالى : « قُتِلَ أصْحَابُ الأُخدُودِ » (1) . والراسيات : الثّقال . والشَّناخيب : رؤوس الجبال . والشُّمّ : العالية ، والجلاميد : الصخور ، واحدها جُلمود . والصَّياخيد : جمع صَيْخود ، وهي الصخرة الصلبة . والمَيَدَان : التحرّك والاضطراب ، وماد الرجل يميد أي تبختر . ورسوب الجبال : نزولُها ، رسب الشيء في الماء ، أي سَفُل فيه ، وسيف رَسُوب : ينزل في العظام . وقوله : « في قِطَعِ أديمها » جمع قِطْعة ، يريد في أجزائها وأبعاضها . ويروى في « قُطَع أديمها » ، بضم القاف وفتح الطاء ، جمع قُطْعة وهي القُطْعة مفروزة من الأرض . ويروى : « في قطْعها أديمها » ، بسكون الطاء ، والقطْع : طِنْفِسة الرَّحْل ، فنقل ذلك إلى هذا الموضع استعارة ، كأنه جعل الأرض ناقة ، وجعل لها قطعاً ، وجعل الجبال ثابتة في ذلك القطع . وأديم الأرض : وجهها وظاهرها . وتَغلْغُل الماء في الشجر : دخوله وتخلّله في أُصوله. وعروقه متسرّبة ، أي داخلة ، تسرّب الثعلب أي دخل السَّرَب . وجَوْبات : جمع جَوْبة وهي الفُرْجة في جبل أو غيره . وخَياشيمها : جمع خيْشُوم وهو أقصى الأنف . وجراثيمها : جمع جُرثومة ، وهي أصل الشجر . وفَسَح : أوسع . ومتنسَّماً ، يعني موضع النّسيم . والأرض الجُرُز التي لا نبات فيها لانقطاع المطر عنها ، وهذه من الألفاظ القرآنية . والروابي : التِّلاع وما علا من الأرض . والجداول : الأنهار الصِّغَار ، جمع جدول . والذّريعة : الوُصلة . وناشئة سحاب : ما يبتدئ ظهوره . والمَوات ، بفتح الميم : القَفْر من الأرض ، واللّمع : جمع لُمعة ، وهي القطعة

.


1- .سورة البروج 4 .

ص: 311

من السحاب أو غيره . وتباين قَزَعه ، القَزَع : قطع من السحاب رقيقة واحدها قَزَعة . وتباينها : افتراقها . وتمخّضت : تحركت بقوة ، يقال : تمخّض اللبن إذا تحرّك في الممخضة ، وتمخّض الولد : تحرك في بطن الحامل ، والهاء في « فيه » ترجع إلى المُزْن ، أي تحرّكت لجة المُزْن في المُزْن نفسه ، أي تحرّك من السحاب وسَطُه وثَبجُه . والَتمع البرقُ ولمع أي أضاء . وكُفَفُه : جمع كُفّه ، والكُفّة كالدَّارة تكون في الصحاب . وقوله : « لم ينم » أي لم يفتر ولم ينقطع ، فاستعار له لفظة النوم . والكَنَهْوَر : العظيم من السحاب . والرّباب : الغمام الأبيض ، ويقال : إنه السحاب الذي تراه كأنّه دون السحاب ، وقد يكون أبيض ، وقد يكون أسود ، وهو جمع ، والواحدَة ربابة ، وبه سميت المرأة الرَّباب . والمتراكم : الذي قَد ركب بعضُه بعضا ، والميم بدل من الباء . وسَحّا : صبّا ، وسحابة سَحُوح ، وتَسَحْسَحَ الماءُ : سال ، ومطر سَحْسَاح ، أي يسحّ شديدا . ومتداركا : يلحق بعضه بعضا من غير انقطاع . وأسفّ : دنا من الأرض . وهَيْدَ به : ما تهدّب منه ، أي تدلّى كما يتدلّى هَدبُ العين على أشفارها وَيمْرى الجَنُوب ، وهو بمعنى يحلب ويستدرّ ، ويروى « تمرِيه الجَنُوب» على أن يعدَّى الفعل إلى المفعولين ، كما تقول حلبت الناقة لبناً . ويروى : « تمتري الجَنُوب» وهو بمعنى تَمْرِي ، من مريت الفرس وامتريته ، إذا استخرجتَ بالسوط ما عنده من الجري . وإنما خَصّ الجنوب بذلك لأنّها الريح التي يكون عليها المطر . والدّرر : جمع دِرّة ، وهي كثرة اللبن وسيلانه وصبُّه . والأهاضيب : جمع هِضاب ، والهِضَاب : جمع هَضْب ، وهي حلبات القَطْر بعد القطر . والدُّفَع : جمع دُفعة ، بالضم وهي كالدُّفقة من المطر بالضم أيضا والشآبيب : جمع شؤبوب وهي رَشّة قوية من المطر ، تنزل دفعة بشدة ، والبرْك : الصدر وبوانيها ، تثنية بوان على « فِعال » بكسر الفاء وهو عمود الخيمة ، والجمع بُون بالضم . ومن روى : « بَوَانِيها » أراد لواصقها ، والرواية الأُولى أصحّ . وبعَاع السحاب : ثقله بالمطر . والعبْ ء : الثّقل ، واستقلّت : ارتفعت ونَهضت . وهوامد الأرض ، هي الأرضون التي لا نبات بها . وزُعْر الجبال : جمع أزعر ، والمراد به قلة العشب والخَلَى : وأصله من الزَّعَر ، وهو قلة الشعر في الرأس . وقد زَعَر الرجلُ يَزْعَر : قَلّ شعرُه . وتبهج : تُسرّ وتفرح ، تقول : بَهَجَنِي أمرُ كذا بالفتح ، وأبهجني معا ، أي سَرّني . ومن رواه بضم الهاء أراد يَحْسُنُ ويُملح ، من البهْجَة ، وهي الحُسْن ، يقال بَهُج الرجلُ بالضم ، بَهَاجَةً ، فهو بهيج ، أي حسن ، قال اللّه تعالى : « مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ » (1) ، وتقول : قد أبهجت الأرض بالهمزة ، أي بهج نباتُها وحَسُن . وتزدَهِي ، أي تتكبّر ،

.


1- .سورة الحج 5 .

ص: 312

وأما مَنْ رواها « وتُزْدَهَى بما أُلبِسَتْه » على ما لم يسمّ فاعله ، فهي اللغة المشهورة . تقول : زُهِي فلان علينا ، وللعرب أحرف تتكلّم بها على سبيل المفعول به ، وإن كانت بمعنى الفاعل ، كقولهم : عُنِي بالأمر ، ونُتِجَت الناقة ، فتقول على هذه اللغة : فلان يُزْدَهى بكذا . والرَّيْط جمع رَيْطة ، وهي المُلاءة غير ذاتِ لفقْين . والأزاهير : النّور ذو الألوان . وسمِطَتْ به : علّق عليها السُّمُوط ، جمع سِمْط وهو العقد ، ومن رواه « شَمَطت » بالشين المعجمة ، أراد ما خالط سواد الرياض من النّوْر الأبيض كالأقحوان ونحوه ، فصارت الرياض كالشعر الأشمط . والنّاضر : ذو النَّضارة ، وهي الحسن والطَّرَاوة . وبلاغاً للأنام ، أي كفاية . والآفاق : النّواحي ، والمنار : الأعلام . وهذا الفصل من كلام أمير المؤمنين عليه السلام قد اشتمل من الاستعارة العجيبة وغيرها من أبواب البديع على ما لو كان موجودا في ديوان شاعر مكثِر ، أو مترسِّل مكثر لكان مستحقّ التقديم بذلك ؛ ألا تراه كيف وصف الأمواج بأنها مستفحلة ، وأنها ترغو رُغاء فحول الإبل . ثم جعل الماءَ جَمّاحا ، ثم وصفه بالخضوع ، وجعل للأرض كَلْكَلاً ، وجعلها واطئة للماء به ، ووصف الماء بالذلِّ والاستخذاء لمّا جعل الأرض متمعِّكة عليه كما يتمعّك الحمار أو الفرس ، وجعل لها كواهل ، وجعل للذل حَكَمة ، وجعل الماء في حَكَمة الذلَّ منقادا أسيرا ، وساجياً مقهورا . وجعل الماء قد كان ذا نخوة وبأوٍ واعتلاء ، فردّته الأرض خاضعا مسكينا ، وطأطأت من شُموخ أنفه ، وسُموّ غلوائه ، وجعلها كاعمة له ، وجعل الماء ذا كِظّة بامتلائه ، كما تعتري الكظّة المستكثر من الأكل . ثم جعله هامدا بعد أن كانت له نزفات ، ولابدا بعد أن كانت له وثبات ، ثم جعل للأرض أكتافا وعرانين ، وأنوفا وخياشيم ؛ ثم نفى النوم عن وميض البرق ، وجعل الجنوب مارية دِرَرَ السحاب ، ثم جعل للسحاب صدراً وبِوَاناً ، ثم جعل الأرض مبتهجة مسرورة مزدهاة ، وجعل لها ريْطا من لباس الزهور ، وسُموطاً تحلّى بها . فياللّه وللعجب من قوم زعموا أن الكلام إنما يفضُل بعضه بعضا لاشتماله على أمثال هذه الصنعة ، فإذا وجدوا في مئة ورقة كلمتين أو ثلاث منها ، أقاموا القيامة ، ونفخوا في الصور ، وملئوا الصحف بالاستحسان لذلك والاستظراف ، ثم يمرّون على هذا الكلام المشحون كله بهذه الصنعة على ألطف وجه ، وأرصع وجه ، وأرشق عبارة ، وأدق معنى ، وأحسن مقصد ، ثم يحملهم الهوى والعصبية على السّكُوت عن تفضيله إذا أجملوا وأحسنوا ، ولم يتعصبوا لتفضيل غيره عليه ! على أنه لا عجب ، فإنه كلام علي عليه السلام ، وحظّ الكلام حظّ المتكلم ، وأشبه امرأً بعضُ بَزِّهِ!

.

ص: 313

الأصْلُ :فَلَمَّا مَهَدَ أَرْضَهُ ، وَأَنْفَذَ أَمْرَهُ ، اخْتَارَ آدَمَ عليه السلام ، خِيرَةً مِنْ خَلْقِهِ ، وَجَعَلَهُ أَوَّلَ جِبِلَّتِهِ ، وَأَسْكَنَهُ جَنَّ_تَهُ ، وَأَرْغَدَ فِيهَا أُكُلَهُ ، وَأَوْعَزَ إِلَيْهِ فِيَما نَهَاهُ عَنْهُ ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّ فِي الاْءِقْدَامِ عَلَيْهِ التَّعَرُّضَ لِمْعصِيَتِهِ ، وَالْمُخَاطَرَةَ بِمَنْزِلَتِهِ؛ فَأَقْدَمَ عَلَى مَا نَهَاهُ عَنْهُ _ مُوَافَاةً لِسَابِقِ عِلْمِهِ ، فَأَهَبَطَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ لِيَعْمُرَ أَرْضَهُ بِنَسْلِهِ ، وَلِيُقِيمَ الْحُجَّةَ بهِ عَلَى عِبَادِهِ ، ولَمْ يُخْلِهِمْ بَعْدَ أَنْ قَبَضَهُ ، مِمَّا يُؤكِّدُ عَلَيْهِمْ حُجَّةَ رُبُوبِيَّتِهِ ، وَيَصِلُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَعْرِفَتِهِ ، بَلْ تَعَاهَدَهُمْ بِالْحُجَجِ عَلَى أَلْسُنِ الْخِيَرَةِ مِنْ أَنْبِيَائِهِ ، وَمُتَحَمِّلِي وَدَائِعِ رِسَالاَتِهِ ، قَرْناً فَقَرْناً؛ حَتَّى تَمَّتْ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله وسلمحُجَّتُهُ ، وَبَلَغَ الْمَقْطَعَ عُذْرُهُ وَنُذُرُهُ .

الشّرْحُ :مهد أرضه : سوّاها وأصلحها ، ومنه المهاد وهو الفراش ، ومَهَدْتُ الفراش ، بالتخفيف مَهْدا ، أي بسطته ووطّأته . وقوله : « خَيرة من خَلْقه » على « فِعَلة » ، مثل عِنَبَة ، الاسم من قولك : اختاره اللّه ؛ يقال محمد خِيَرَة اللّه من خلْقه ؛ ويجوز : « خِيرة اللّه » بالتسكين ، والاختيار : الاصطفاء . والجِبِلّة : الخَلْق ؛ ومنه قوله تعالى : « وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ » (1) ، ويجوز « الجُبُلَّة » ، بالضم . قوله : « وأرْغَدَ فيها أُكُله » ، أي جعل أُكُله _ وهو المأكول _ رغدا ، أي واسعا طيبا ، قال سبحانه : « وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدا حَيْثُ شِئْتُمَا » (2) ، وتقرأ رُغداً ورِغداً بكسر الغين وضمها ، وأرغَدَ القومُ : أخصبوا ، وصاروا في رَغَدٍ من العيش . قوله : « وأوعز إليه فيما نهاه عنه » ، أي تقدّم إليه بالإنذار ؛ ويجوز « وَعَّز إليه » بالتّشديد توعيزا ، ويجوز التخفيف أيضا وعز إليه وعْزا . والواو في « وأعلمه » عاطفة على « وأوعز » ، لا على « نهاه » . قوله : « موافاة لسابق علمه » لا يجوز أن ينتصب ؛ لأ نّه مفعول له ، وذلك لأنّ المفعول له

.


1- .سورة الشعراء 184 .
2- .سورة البقرة 35 .

ص: 314

يكون عذرا وعلّة للفعل ، ولا يجوز أن يكون إقدام آدم على الشجرة لأجل الموافاة للعلم الإلهيّ السابق ؛ ولا يستمرّ ذلك على مذاهبنا ، بل يجب أن ينصب « موافاةً » على المصدرية المحْضَة ؛ كأنه قال : فوافى بالمعصية موافاة ، وطابق بها « سابق العلم » مطابقة . قوله : « فأهبطه بعد التوبة » ، قد اختلف الناس في ذلك ، فقال قوم : بل أهبطه قبل التوبة ، ثم تاب عليه وهو في الأرض . وقال قوم : تاب قبل الهبوط ، وهو قول أمير المؤمنين عليه السلام ، ويدلُّ عليه قوله تعالى : « فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعا » (1) ، فأخبر عن أنه أهبطهم بعد تلقِّي الكلمات والتوبة . قوله عليه السلام : « وَليُقِيمَ الحجّة على عباده » ، أي إذا كان أبوهم أُخرج من الجنة بخطيئة واحدة فأخْلِقْ بها ألاّ يدخلها ذو خطايا جَمّة . ثم أخبر عليه السلام أنّ الباري سبحانه ما أخْلى عباده بعد قبض آدم وتوفّيه مما يؤكد عليهم حجج الربوبية ، بل أرسل إليهم الرسل قَرْناً فقَرناً ، بفتح القاف ؛ وهو أهل الزمان الواحد . وتعاهدَهُم بالحجج ، أي جَدّد العهد عندهم بها ؛ ويروى « بل تَعَهَّدَهم » بالتشديد ، والتعهّد : التحفّظ بالشيء ؛ تعهّدْتُ فلاناً وتعهّدت ضيْعتي ؛ وهو أفصح من « تعاهدت » ؛ لأنّ التفاعل إنما يكون من شيئين ، وتقول : فلان يتعهده صَرْعٌ . قوله : « وبَلَغ المقطعَ عُذُرُه ونُذُرُهُ » ، مقطع الشيء حيث ينقطع ، ولا يبقى خلفه شيء منه ، أي لم يزل يبعث الأنبياء واحداً بعد واحد ؛ حتى بعث محمدا صلى الله عليه و آله وسلم ، فتمَّتْ به حجته على الخلق أجمعين . وبلغ الأمرُ مقطعه ، أي لم يبق بعده رسول ينتظر ؛ وانتهت عُذُر اللّه تعالى ونُذُره ، فُعُذره مَا بيَّن للمكلَّفين من الإعذار في عقوبته لهم إنْ عَصَوْه ، ونُذُره ما أنذرهم به من الحوادث ، ومَنْ أنذَرَهُمْ على لسانه من الرسل .

الأصْلُ :وَقَدَّرَ الْأرْزَاقَ فَكَثَّرَهَا وَقَلَّلَهَا ، وَقَسَّمَهَا عَلَى الضِّيقِ والسَّعَةِ فَعَدَلَ فِيهَا لِيَبْتَلِيَ مَنْ أَرَادَ بِمَيْسُورِهَا وَمَعْسُورِهَا ، وَلِيَخْتَبِرَ بِذلِكَ الشُّكْرَ وَالصَّبْرَ مِنْ غَنِيِّهَا وَفَقِيرِهَا . ثُمَّ قَرَنَ بِسَعَتِهَا عَقَابِيلَ فَاقَتِهَا ، وَبِسَلاَمَتِهَا طَوَارِقَ آفَاتِهَا ، وَبِفُرَجِ أَفْرَاحِهَا غُصَصَ أَتْرَاحِهَا . وَخَلَقَ الآجَالَ فَأَطَالَهَا وَقَصَّرَهَا ، وَقَدَّمَهَا وَأَخَّرَهَا ، وَوَصَلَ بِالْمَوْتِ

.


1- .سورة البقرة 37 ، 38 .

ص: 315

أَسْبَابَهَا ، وَجَعَلَهُ خَالِجاً لِأَشْطَانِهَا ، وَقَاطِعاً لمَرائِرِ أَقْرَانِهَا .

الشّرْحُ :الضِّيق والضّيْق : لغتان ، فأمّا المصدر من « ضاق » فالضِّيق بالكسر ، لا غير . وعَدّل فيها : من التعديل وهو التقويم ، وروي : « فعدَل » ، بالتخفيف ، من العدل نقيض الظلم . والميسور والمعسور : مصدران . ومعنى قوله عليه السلام : « ليبتليَ مَنْ أراد بميسورها ومعسورها » ، هو معنى قول النبي صلى الله عليه و آله وسلم : « إنّ إعطاء هذا المال فتنة ، وإمساكه فتنة » . والعقابيل في الأصل : الحَلأ ، وهو قروح صغار تخرج بالشّفة من بقايا المرض . والفاقة : الفقر . وطوارق الآفات : متجدّدات المصائب ، وأصلُ الطّروق ما يأتي ليلاً . والأتراح : الغموم ، الواحد تَرَح ، وترّحه تتريحاً ، أي حزَنه . وخالجاً : جاذباً ، والخلج الجذْب ، خلجه يخلِجه بالكسر ، واختلجه ، ومنه الخليج : الحبْل ؛ لأ نّه يُجتذب به ، وسمّي خليج البحر خليجاً ؛ لأ نّه يجذَب من معظم البحر . والأشطان : الحبال ، واحدها شَطَن ، وشطنت الفرس أشطُنه ، إذا شددته بالشَّطَن . والقرائن : الحبال ، جمع قَرَن ؛ وهو من شواذّ الجموع . ومرائر القرائن : جمع مَرِير ، وهو ما لطُف وطال منها واشتدّ فتله ، وهذا الكلام من باب الاستعارة .

الأصْلُ :عَالِمُ السِّرِّ مِنْ ضَمَائِرِ الْمُضْمِرِينَ ، وَنَجْوَى الْمُتَخَافِتِينَ ، وَخَوَاطِرِ رَجْمِ الظُّنُونِ ، وَعُقَدِ عَزِيمَاتِ الْيَقِينِ ، وَمَسَارِقِ إِيمَاض الْجُفُونِ وَمَا ضَمِنَتْهُ أَكْنَانُ الْقُلُوبِ وَغَيَابَاتُ الْغُيُوبِ ، وَمَاأَصْغَتْ لاِسْتِرَاقِهِ مَصَائِخُ الْأَسْمَاعِ ، وَمَصَائِفِ الذَّرِّ ، وَمَشَاتِي الْهَوَامِّ ، وَرَجْعِ الْحَنِينِ مِنَ الْمُولَهَاتِ ، وَهَمْس الْأَقْدَامِ ، وَمُنْفَسَحِ الَّثمَرَةِ مِنْ وَلاَئِجِ غُلُفِ الْأَكْمَامِ ، وَمُنْقَمَعِ الْوُحُوش مِنْ غِيرَانِ الْجِبَالِ وَأَوْدِيَتِهَا وَمُخْتَبَاَالْبَعُوض بَيْنَ سُوقِ الْأَشْجَارِ وَأَلْحِيَتِهَا ، وَمَغْرِزِ الْأَوْرَاقِ مِنَ الْأَفْنَانِ ، وَمَحَطِّ الْأَمْشَاجِ مِنْ مَسَارِبِ الْأَصْلاَبِ ، وَنَاشِئَةِ الْغُيُومِ وَمُتَلاَحِمِهَا ، وَدُرُورِ قَطْرِ السَّحَابِ فِي مُتَرَاكِمِهَا ، وَمَا

.

ص: 316

تَسْفِي الْأَعَاصِيرُ بِذُيُولِهَا ، وَتَعْفُو الْأَمْطَارُ بِسُيُولِهَا ، وَعَوْمِ نَباتِ الْأَرض فِي كُثْبَانِ الرِّمَالِ ، وَمُسْتَقَرِّ ذَوَاتِ الْأَجْنِحَةِ بِذُرَا شَنَاخِيبِ الْجِبَالِ ، وَتَغْرِيدِ ذَوَاتِ الْمَنْطِقِ فِي دَيَاجِيرِ الْأَوْكَارِ ، وَمَا أَوْعَبَتْهُ الْأَصْدَافُ ، وَحَضَنَتْ عَلَيْهِ أَمْوَاجُ الْبِحَارِ ، وَمَا غَشِيَتْهُ سُدْفَةُ لَيْلٍ ، أَوْ ذَرَّ عَلَيْهِ شَارِقُ نَهَارٍ ، وَمَا اعْتَقَبَتْ عَلَيْهِ أَطْبَاقُ الدَّيَاجِيرِ ، وَسُبُحَاتُ النُّورِ؛ وَأَثَرِ كُلِّ خَطْوَةٍ ، وَحِسِّ كُلِّ حَرَكَةٍ ، وَرَجْعِ كُلِّ كَلِمَةٍ ، وَتَحْرِيكِ كُلِّ شَفَةٍ ، وَمُسْتَقَرِّ كُلِّ نَسَمَةٍ ، وَمِثْقَالِ كُلِّ ذَرَّةٍ ، وَهَمَاهِمِ كُلِّ نَفْسٍ هَامَّةٍ ، وَمَا عَلَيْهَا مِنْ ثَمَرِ شَجَرَةٍ ، أَوْ ساقِطِ وَرَقَةٍ؛ أَوْ قَرَارَةِ نُطْفَةٍ ، أَوْ نُقَاعَةِ دَمٍ وَمُضْغَةٍ ، أَوْ نَاشِئَةِ خَلْقٍ وَسُلاَلَةٍ؛ لَمْ يَلْحَقْهُ فِي ذلِكَ كُلْفَةٌ ، وَلاَ اعْتَرَضَتْهُ فِي حِفْظِ مَا ابْتَدَعَ مِنْ خَلْقِهِ عَارِضَةٌ ، وَلاَ اعْتَوَرَتْهُ فِي تَنْفِيذِ الأمُورِ وَتَدَابِيرِ المخلُوقِينَ مَلاَلَةٌ وَلاَ فَتْرَةٌ ، بَلْ نَفَذَهُمْ عِلْمُهُ ، وَأَحْصَاهُمْ عَدَدُهُ ، وَوَسِعَهُمْ عَدْلُهُ ، وَغَمَرَهُمْ فَضْلُهُ ، مَعَ تَقْصِيرِهِمْ عَنْ كُنْهِ مَا هُوَ أَهْلُهُ .

الشّرْحُ :لو سمع النّضْر بن كنانة هذا الكلام لقال لقائله ما قاله عليّ بن العباس بن جُريج ، لإسماعيل بن بلبل : قَالُوا أبو الصَّقْرِ مِنْ شَيْبَانَ قَلْتُ لَهُمْكَلاَّ ، وَلَكِنْ لَعَمْرِي مِنْهُ شَيْبَانُ وكم أبٍ قَدْ عَلاَ بابنٍ ذُرا شَرَفٍكَمَا عَلاَ بِرَسُولِ اللّهِ عَدْنَانُ إذ كان يفخر به على عدنان وقحطان ، بل كان يقرّ به عينُ أبيه إبراهيم خليل الرحمن ، ويقول له : إنه لم يُعْفِ ما شيّدْتُ من معالم التوحيد ، بل أخرج اللّه تعالى لك من ظهري ولدا ابتدع من علوم التوحيد في جاهلية العرب ما لم تبتدعْه أنت في جاهلية النَّبَط . بل لو سمع هذا الكلام أرسطو طاليس ، القائل بأنه تعالى لم يعلم الجزئيّات ؛ لشع قلبهُ وقَفّ شعرُه ، واضطربَ فكره ؛ ألا ترى ما عليه ( هذا الكلام ) من الرُّواء والمهابة ، والعظمة والفخامة ، والمتانة والجزالة ! مع ما قد أُشربَ من الحلاوة والطَّلاوة واللطف والسلاسة ؛ لا أرى كلاما

.

ص: 317

يشبه هذا إلاّ أن يكون كلامَ الخالق سبحانه ، فإنّ هذا الكلام نَبْعةٌ من تلك الشجرة ، وجدول من ذلك البحر ، وجَذْوة من تلك النار ؛ وكأنه شَرْح قوله تعالى : « وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ والْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ » (1) . ثم نعود إلى التفسير فنقول : النَّجْوى : المسارّة ، تقول : انتجى القومُ وتناجَوْا ، أي تسارُّوا ، وانتجيتَ زيدا إذا خصصتَه بمناجاتك ؛ ومنه الحديث ، أنه صلّى اللّه عليه وآله أطال النَّجْوى مع عليّ عليه السلام ؛ فقال قوم : لقد أطال اليوم نَجْوَى ابن عَمّه ، فبلغه ذلك فقال : « إنّي ما انتجيتُه ؛ ولكن اللّه انتجاه » . ويقال للسرّ نفسه النَّجْو ، يقال : نجوته نَجْوا أي ساررته ، وكذلك ناجيْتُه مناجاة ، وسمِّي ذلك الأمرُ المخصوص نجوى ؛ لأ نّه يستسرّ به . والمتخافتين : الذين يسرّون المنطق ، وهي المخافتة والتخافت والخفْت . ورَجْم الظنون : القولُ بالظَّن ، قال سبحانه : « رَجْما بِالْغَيْبِ » ، ومنه « الحديث المرجّم » بالتشديد ، وهو الذي لا يدرَى أحقّ هو أم باطل ، ويقال صار رَجْما ، أي لا يوقف على حقيقة أمره . وعقد عزيمات اليقين : العزائم التي يعقِد القلب عليها وتطمئِنّ النفس إليها . ومسارق إيماض الجفون : ما تسترقه الأبصار حين تومض ، يقال : أومض البصر والبرق إيماضا إذا لمع لَمْعا خفيفا ، ويجوز : ومض بغير همز ، يمض ومْضا ووميضا ووَمَضاناً . وأكنانُ القلوب : غُلُفها ، والكِنّ : الستر ، والجمع أكنان ، قال تعالى : « جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانا » (2) ويروى : « أكنّة القلوب » وهي الأغطية أيضا ، قال تعالى : « وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً » (3) ، والواحد كِنَان . ويعني بالذي ضمنته أكنانُ القلوب ، الضمائر . وغيابات الغيوب : جمع غَيابة ، وهي قَعْر البئر في الأصل ؛ ثم نقلت إلى كلّ غامض خفيّ ، مثل غَيابة ، وقد روي : « غَيَابَات » بالباء . وأصغَتْ : تسمّعت ومالت نحوه . ولاستراقِه : لاستماعه في خُفية ، قال تعالى : « إلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ » (4) . ومصائخ الأسماع : خروقُها التي يُصيخ بها ، أي يتسمّع . ومصائف الذرّ : المواضع التي يَصِيف الذرّ فيها ، أي يقيم الصيف ، يقال : صافَ بالمكان

.


1- .سورة الأنعام 59 .
2- .سورة النحل 81 .
3- .سورة الأنعام 25 .
4- .سورة الحجر 18 .

ص: 318

واصطاف بمعنى ، والموضع مَصِيف ومصطاف . والذرّ : جمع ذَرّة ، وهي أصغر النمل . ومشاتي الهوامّ : المواضع التي تشتو الهوامُّ بها ، يقال : شتوتُ بموضع كذا وتشتَّيْت ، أي أقمت به الشتاء . والهوامّ : جمع هامّة ، ولا يقع هذا الاسم إلاّ على المخُوف من الأحْنَاش . ورجْع الحنين : ترجيعه وترديده ، والمولّهات : النُّوق والنساء اللواتي حيل بينهنّ وبين أولادهنّ . وهمس الأقدام : صوت وطئها خفياً جداً ، قال تعالى : « فَلاَ تَسْمَعُ إلاَّ هَمْسا » (1) ومنه قول الراجز : * فَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسا * والأسدُ الهمُوس : الخفيّ الوط ء . ومنفسَحُ الَّثمرة ، أي موضع سعتها من الأكمام ، وقد رُوي : « متفسّخ » بالخاء المعجمة وتشديد السين وبتاء بعد الميم ، مصدراً من تفسّخت الثمرة ، إذا انقطعت . والولائج : المواضع الساترة ، والواحدة وَلِيجة ، وهو كالكهف يستَتِر فيه المارة من مطر أو غيره ، ويقال أيضا في جمعه : وُلُج وأولاج . ومتقمّع الوحوش : موضع تقمّعها واستتارها . وغِيران الجبال : جمع غارٍ ، وهو كالكهف في الجبل ، والمغار مثل الغار والمغارة مثله . ومختبَأ البعوض : موضع اختبائها واستتارها . وسُوق الأشجار : جمع ساق . وألحيتُها جمع لحاء وهو القشر . ومغرز الأوراق : موضع غَرْزها فيها . والأفنان : جمع فَنَن ، وهو الغصن . والأمشاج : ماء الرجل يختلط بماء المرأة ودمها ، جمع مَشِيج ، كيتيم وأيتام . ومحطّها : إمّا مصدر أو مكان . ومسارب الأصلاب : المواضع التي يتسرب الْمنيُّ فيها من الصُّلبُ، أي يسيل . وناشئة الغيوم : أوّل ما ينشأ منها، وهو النّشيء أيضا ، وناشئة الليل في قوله تعالى : « إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً » (2) أول ساعاته ، ويقال : هي ما ينشأ في الليل من الطاعات . ومتلاحمها ، ما يلتصق منها بعضها ببعض ويلتحم . ودرور قطر السحاب : مصدر ، من دَرّ يدِرّ ، أي سال ، وناقة دَرُور : أي كثيرة اللبن ، وسَحَاب درور : أي كثير المطر ، ويقال : إن لهذا السّحاب لدِرَّةً ، أي صبّا ، والجمع درور . ومتراكمها : المجتمِع المتكاثف منها ، رَكَمْتُ الشيء أركُمه بالضم : جمعته وألقيت بعضَه على بعض ، ورمْلٌ ركام ، وسحاب ركام ، أي مجتمع . والأعاصير : جمع إعصار ، وهي ريح تثير الغبار فيرتفع إلى السماء كالعمود . وقال تعالى : « فَأَصَابَهَا إعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ » (3) . وتسفي ، من سفَتِ الريح التراب سَفْيا ، إذا أذرته فهو

.


1- .سورة طه 108.
2- .سورة المزمل 6 .
3- .سورة البقرة 266 .

ص: 319

سَفيّ . وذيولها هاهنا : يريد به أطرافها وما لاحَفَ الأرض منها . وما تعفو الأمطار ، أيْ ما تدرُس ، عفت الريح المنزل أي درسته ، وعفا المنزل نفسُه يعفُو : درس ، يتعدّى ولا يتعدّى . وبنات الأرض : الهوامّ والحشرات التي تكون في الرمال ، وعَوْمها فيها : سباحتها ، ويقال لسير السفينة وسير الإبل أيضا : عَوْم ، عُمت في الماء ، بضمّ أوله أعوم . وكُثبان الرمال : جمع كَثيب وهو ما انصبَّ من الرَّمْل واجتمع في مكانٍ واحد فصار تَلاًَّ ، وكثبت الشيء أكثِبُه كثبا ، إذا جمعته ، وانكثب الرمْلُ : اجتمع . وشناخيب الجبال : رؤوسها واحدها شُنْخوب . وذَرَاها : أعاليها جمع ذِرْوة وذُروة ، بالكسر والضم . والتغريد : التطريب بالغناء ، والتغرّد مثله ، وكذلك الغَرَد بفتحهما ، ويقال : غرِد الطائر فهو غرِد ، إذا طرّب بصوته . وذوات المنطق هاهنا : الأطيار ؛ وسمّى صوتها منطقاً وإن كان لا يطلق إلاّ على ألفاظ البشر ، مجازاً . ودياجير : جمع دَيْجور ، وهو الظلام . والأوكار : جمع وَكْر ، وهو عُشّ الطائر ، ويجمع أيضاً على وُكُور ، ووَكَر الطائر يَكِر وَكْرا ، أي دخل وَكْره . وقوله : « وما أوعبته الأصداف » ، أي من اللؤلؤ . وحضَنَت عليه أمواجُ البحار : أي ما ضمّته كما تحضن الأُنثى من الطير بيضها ، وهو ما يكون في لجة ؛ إمّا من سمك أو خشب أو ما يحمله البحر من العنبر كالجماجم بين الأمواج وغير ذلك . وسُدْفة الليل : ظلمته ، وجاء بالفتح : وقيل : السُّدفة اختلاط الضوء والظلمة معا كوقت ما بين طلوع الفجر إلى الإسفار . وغشيْته : غطّته . وذرّ عليه شارق نهار ، أي ما طلعت عليه الشمس ، وذرت الشمس تذُرّ بالضم ، ذُرورا : طلعت ، وذرّ البقل ، إذا طلع من الأرض . وشَرَقت الشمس : طلعت ، وأشرقت بالهمزة ، إذا أضاءت وصفت . واعتقبت : تعاقبت . أطباق الدياجير : أطباق الظُّلَم . وأطباقها : جمع طَبَقة ، أيْ أغطيتها ، أطبقت الشيء أي غَطّيته ، وجعلته مطبَقا ؛ وقد تطبّق هو ، ومنه قولهم : لو تطبّقت السماء على الأرض لما فعلتُ كذا . وسَبحات النور : عطف على أطباق الدياجير ، أي يعلم سبحانه ما تعاقب عليه الظلام والضياء . وسبحات هاهنا ، ليس يعني به ما يعني بقوله : « سبحان وجْه ربنا » ؛ لأ نّه هناك بمعنى ما يسبَح عليه النور ، أي يجري ، من سَبْح الفرس وهو جَرْيه ، ويقال : فرس سابح . والخُطوة : ما بين القدمين ، بالضم ، وخطوت خَطْوَةً بالفتح ؛ لأ نّه المصدر . ورَجْع كلّ كلمة : ما ترجع به من الكلام إلى نفسك وتردّده في فكرك . والنّسَمة : الإنسان نفسه ، وجمعها نَسم ، ومثقال كلّ ذرة : أي وزن كلّ ذرة ، ومما يخطئ فيه العامة قولهم للدينار : مثقال ، وإنما

.

ص: 320

المثقال وزن كلّ شيء ، قال تعالى : « إنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ » (1) . وهماهم كلِّ نفس هامّة ، الهماهِم : جمع هَمْهمة ، وهي ترديد الصوت في الصَّدْر ، وحمار هِمْهيم : يهمْهِم في صوته ، وهمهمت المرأة في رأس الصبيّ ، وذلك إذا نوّمتْه بصوت ترقّقه له . والنفس الهامّة : ذات الهمّة التي تعزم على الأمر . قوله : « وما عليها » أي ما على الأرض ، فجاء بالضمير ولم يسبق ذكر صاحبه ، اعتماداً على فهم المخاطب ، كما قال تعالى : « كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ » (2) . وقرارة النطفة : ما يستقِرّ فيه الماء من الأماكن . والنطفة : الماء نفسه ، ومنه قوله عليه السلام في الخوارج : إن مَصارعهم دون النطفة ، أي لا يعبرُون النهر ، ويجوز أن يريد بالنطفة المَنيّ ، ويقوّيه ما ذكره بعده من المُضْغة . والنُّقاعة : نُقْرة يجتمع فيها الدم ، ومثله أُنْقُوعة ، ويقال لوقْبَة الثّريد أُنقوعة . والمضغة : قطعة اللّحم . والسلالة في الأصل : ما استلّ من الشيء ، وسميت النطفة سلالة الإنسان ؛ لأنها استلّتْ منه ، وكذلك الولد . والكلّفة : المشقّة . واعتورته مثل عرته . ونفذهم علمه ، تشبيه بنفوذ السهم ، وعدّى الفعل بنفسه وإن كان معدّىً في الأصل بحرف الجر ، كقولك : اخترت الرجال زيداً ، أي من الرجال ، كأنه جعل علمه تعالى خارقا لهم ونافذا فيهم . ويروى : « وأحصاهم عَدّه » ، بالتضعيف .

الأصْلُ :اللَّهُمَّ أَنْتَ أَهْلُ الْوَصْفِ الْجَمِيلِ ، وَالتَّعْدَادِ الْكَثِيرِ ، إِنْ تُؤمَّلْ فَخَيْرُ مَأْمُولٍ ، وَإِنْ تُرْجَ فأكْرَمُ مَرْجُوٍّ . اللَّهُمَّ وَقَدْ بَسَطْتَ لِي فِيَما لاَ أَمْدَحُ بِهِ غَيْرَكَ ، وَلاَ اُثْنِي بِهِ عَلَى أَحَدٍ سِوَاكَ ، وَلاَ أُوَجِّهُهُ إِلَى مَعَادِنِ الْخَيْبَةِ وَمَوَاضِعِ الرَّيبَةِ ، وَعَدَلْتَ بِلِسَاني عَنْ مَدَائِحِ الآدمِيِّينَ؛ وَالثَّنَاءِ عَلَى الْمَرْبُوبِينَ الْمَخْلُوقِينَ . اللَّهُمَّ وَلِكُلِّ مُثْنٍ عَلَى مَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ مَثُوبَةٌ مِنْ جَزَاءٍ ، أَوْ عَارِفَةٌ مِنْ عَطَاءٍ؛ وَقَدْ رَجَوْتُكَ دَلِيلاً عَلَى ذَخَائِرِ الرَّحْمَةِ وَكُنُوزِ الْمَغْفِرَةِ .

.


1- .سورة النساء 40 .
2- .سورة الرحمن 26 .

ص: 321

91 . من خطبة له عليه السلام لما أراده الناس على البيعة بعد قتل عثمان

اللَّهُمَّ وَهذَا مَقَامُ مَنْ أَفْرَدَكَ بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ لَكَ ، وَلَمْ يَرَ مُستَحِقّاً لِهذِهِ المَحَامِدِ وَالْمَمادِحِ غَيْرَكَ؛ وَبِي فَاقَةٌ إِلَيْكَ لاَ يَجْبُرُ مَسْكَنَتَهَا إِلاَّ فَضْلُكَ ، وَلاَ يَنْعَشُ مِنْ خَلَّتِهَا إِلاَّ مَنُّكَ وَجُودُكَ ، فَهَبْ لَنَا فِي هذَا الْمَقَامِ رِضَاكَ ، وَأَغْنِنَا عَنْ مَدِّ الْأَيْدِي إِلَى سِوَاكَ؛ إِنِّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .

الشّرْحُ :التعداد : مصدر . وخَيْر : خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : فأنت خير مأمول . ومعنى قوله : « قد بسطت لي » ، أي قد آتيتني لسَنا وفصاحة وسعة منطق ، فلا أمدحُ غيرَك ، ولا أحمَدُ سواك . ويعنى بمعادن الخيبة البشر ؛ لأنّ مادحهم ومؤمّلهم يخيب في الأكثر ، وجعلهم مواضع الريبة ؛ لأ نّه لا يوثق بهم في حال . ومعنى قوله عليه السلام : « وقد رجوتك دليلاً على ذخائر الرحمة وكنوز المغفرة » ، أ نّه راجٍ منه أن يدلّه على الأعمال التي ترضيه سبحانه ، ويستوجب بها منه الرحمة والمغفرة ؛ وكأنّه جعل تلك الأعمال التي يرجو أن يدلّ عليها ذخائر للرحمة وكنوزا . والفاقة : الفقر ؛ وكذلك المسكنة . وينعَش ، بالفتح : يرفع ، والماضي نَعش ، ومنه النعْش لارتفاعه . والمنّ : العطاء والنعمة ، والمنّان من أسماء اللّه سبحانه .

91الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام لمّا أراده الناس على البيعة بعد قتل عثماندَعُوني وَالتمِسُوا غَيْرِي فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وَألوَانٌ؛ لاَ تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ ، وَلاَ تَثبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُولُ . وَإِنَّ الآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ ، وَالْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ . وَاعْلَمُوا أنّي إنْ أَجَبتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ ، وَلَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وَعَتْبِ

.

ص: 322

الْعَاتِبِ ، وَإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ ؛ وَلَعَلّي أسْمَعُكُمْ وَأَطْوَعُكُمْ لِمنْ وَلَّيتُمُوهُ أَمْرَكُمْ ، وَأَنَا لَكُمْ وَزِيراً ، خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً!

الشّرْحُ :في أكثر النسخ : « لما أراده الناس على البيعة » ، ووجدت في بعضها : « أداره الناس على البيعة » ، فمن روى الأول جعل « على » متعلّقة بمحذوف ، وتقديره « موافقاً » ، ومن روى الثاني جعلها متعلّقة بالفعل الظاهر نفسه ، وهو « أداره » ، تقول : أدرت فلاناً على كذا ، وداورت فلاناً على كذا ، أي عالجته . ولا تقوم له القلوب ، أي لا تصبر . وأغامت الآفاق : غطّاها الغيم ، أغامت وغامت ، وأغيمت وتغيّمت ، [وفي بعض نسخ الشرح : غيّمت] ، كلّه بمعنى ، والمحجّة : الطريق . وتنكّرت : جهلت فلم تعرف . و « وزيراً » و « أميراً » : منصوبان على الحال . وهذا الكلام يحمِلُه أصحابُنا على ظاهره ؛ ويقولون : إنه عليه السلام لم يكن منصوصا عليه بالإمامة من جهة الرسول صلى الله عليه و آله وسلم، وإن كان أوْلى الناس بها وأحقهم بمنزلتها . وتحمله الإمامية على وجهٍ آخر فيقولون : إنّ الذين أرادوه على البَيْعة هم كانوا العاقدين بَيْعة الخلفاء من قبل ، وقد كان عثمان مَنَعهم أو منع كثيرا منهم عن حَقّه من العطاء ؛ لأنّ بني أُميّة استأصلوا الأموال في أيام عثمان ، فلما قُتِل قالوا لعليّ عليه السلام : نبايعك على أن تسيرَ فينا سيرَة أبي بكر وعمر ؛ لأنهما كانا لا يستأثران بالمال لأنفسما ولا لأهلهما ، فطلبوا من عليّ عليه السلام البَيْعة ، على أن يقسّم عليهم بيوت الأموال قسمة أبي بكر وعمر ؛ فاستعفاهم وسألهم أن يطلُبوا غيره ممّن يسير بسيرتهما ؛ وقال لهم كلاما تحته رمز ، وهو قوله : « إنّا مستقبلون أمراً له وجوهٌ وألوان ، لا تقوم له القلوب ؛ ولا تثبت عليه العقول ؛ وإنّ الآفاق قد أغامت ، والمحجّة قد تنكّرت » . قالوا : وهذا كلام له باطنٌ وغَوْر عميق ؛ معناه الإخبار عن غيب يعلمه هو ويجهلونه هم ، وهو الإنذارُ بحرب المسلمين بعضهم لبعض ، واختلافُ الكلمة وظهورُ الفتنة . ومعنى قوله : « له وجوه وألوان » أ نّه موضع شبهة وتأويل ، فمن قائل يقول : أصاب عليّ ، ومن قائل يقول : أخطأ ؛ وكذلك القول في تصويب محارِبيه من أهل الجمل وصِفّين والنّهْروان وتخطِئتهم ، فإنّ المذاهب فيه وفيهم تشعّبت وتفرّقت جداً .

.

ص: 323

92 . من خطبة له عليه السلام يذكر فيها ما كان من تغلبه على فتنة الخوارج وما يصيب الناس من بني اُميّة

ومعنى قوله : « الآفاق قد أغامت ، والمحجّة قد تنكّرت » أن الشبهة قد استولتْ على العقول والقلوب ، وجهل أكثرُ الناس محجّة الحق أين هي ؛ فأنا لكم وزيرا عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أفتِي فيكم بشريعته وأحكامه خيرٌ لكم مني أميرا محجورا عليه مدبّراً بتدبيركم ، فإني أعلم أنه لا قُدرة لي أن أسير فيكم بسيرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في أصحابه مستقلاًّ بالتدبير ؛ لفساد أحوالكم ، وتعذّر صلاحكم . وقد حمل بعضُهم كلامه على محمل آخر ، فقال : هذا كلام مُسْتزيد شاكٍ من أصحابه ؛ يقول لهم : دعوني والتمسوا غيري ، على طريق الضَّجر منهم ، والتبرّم بهم والتسخّط لأفعالهم ؛ لأنهم كانوا عَدَلوا عنه من قَبْل ، واختاروا عليه ، فلما طلبوه بعدُ أجابهم جوابَ المتسخّط العاتب . وحمل قوم منهم الكلام على وجه آخر ، فقالوا : إنه أخرجه مخرج التهكّم والسّخرية ، أي أنا لكم وزيرا خيرٌ مني لكم أميراً فيما تعتقدونه ، كما قال سبحانه : « ذُقْ إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ » (1) ، أي تزعم لنفسك ذلك وتعتقده .

92الأصْلُ :أَمَّا بَعْدَ حَمْدِ اللّهِ ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ؛ أَيُّهَا النَّاسُ ، فَإِنيِّ فَقَأتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا ، وَاشْتَدَّ كَلَبُهَا . فَاسْأَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ فِيَما بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ السَّاعَةِ ، وَلاَ عَنْ فِئَةٍ تَهْدِي مائَة وَتُضِلُّ مائَة إِلاَّ أَنْبَأتُكُمْ بِنَاعِقِهَا وَقَائِدِهَا وَسَائِقِهَا ، وَمُنَاخِ رِكَابِهَا ، وَمَحَطِّ رِحَالِهَا ، وَمَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَهْلِهَا قَتْلاً ، وَمَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ مَوْتاً .

.


1- .سورة الدخان 49 .

ص: 324

وَلَوْ قَدْ فَقَدْتُمُونِي وَنَزَلَتْ بِكُمْ كَرَائِهُ الْأُمُورِ ، وَحَوَازِبُ الْخُطُوبِ ، لَأَطْرَقَ كَثِيرٌ مِنَ السَّائِلِينَ ، وَفَشِلَ كَثِيرٌ مِنَ المَسْؤولِينَ ، وَذلِكَ إِذَا قَلَّصَتْ حَرْبُكُمْ ، وَشَمَّرَتْ عَنْ سَاقٍ ، وَكانَتِ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ ضِيقاً ، تَسْتَطِيلُونَ أَيَّامَ الْبَلاَءِ عَلَيْكُمْ ، حَتَّى يَفْتَحَ اللّهُ لِبَقِيَّةِ الْأَبْرَارِ مِنْكُمْ . إِنَّ الْفِتَنَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ ، وَإِذَا أَدبَرَتْ نَبَّهَتْ؛ يُنْكَرْنَ مُقْبِلاَتٍ ، وَيُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ ، يَحُمْنَ حَوْمَ الرِّيَاحِ ، يُصِبْنَ بَلَداً . وَيُخْطِئْنَ بَلَداً . أَلاَ وَإِنَّ أَخْوَفَ الْفِتَنِ عِنْدِي عَلَيْكُمْ فِتْنَةُ بَنِي اُمَيَّةَ ، فإِنَّهَا فِتْنَةٌ عَمْيَاءٌ مُظلِمَةٌ : عَمَّتْ خُطَّتُهَا ، وَخَصَّتْ بَلِيَّتُهَا ، وَأَصَابَ الْبَلاَءُ مَنْ أَبْصَرَ فِيهَا ، وَأَخْطَأَ الْبَلاَءُ مَنْ عَمِيَ عَنْهَا . وَايْمُ اللّهِ لَتَجِدُنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَكُمْ أَرْبَابَ سُوْءٍ بَعْدِي ، كَالنَّابِ الضَّرُوس ، تَعْذِمُ بِفِيهَا ، وَتَخْبِطُ بِيَدِهَا ، وَتَزْبِنُ بِرِجْلِهَا ، وَتَمْنَعُ دَرَّهَا ، لاَ يَزَالُونَ بِكُمْ حَتَّى لاَ يَتْرُكُوا مِنْكُمْ إِلاَّ نَافِعاً لَهُمْ ، أَوْ غَيْرَ ضَائِرٍ بِهِمْ . وَلاَ يَزَالُ بَلاَوهُمْ عَنْكُمْ حَتَّى لاَ يَكُونَ انْتِصَارُ أَحَدِكُمْ مِنْهُمْ إِلاَّ كَانْتِصَارِ الْعَبْدِ مِنْ رَبَّهِ ، وَالصَّاحِبِ مِنْ مُسْتَصْحِبِهِ ، تَرِدُ عَلَيْكُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهَاءَ مَخْشِيَّةً ، وَقِطَعاً جَاهِلِيَّةً ، لَيْسَ فِيهَا مَنَارُ هُدىً ، وَلاَ عَلَمٌ يُرَى ، نَحْنُ أَهْلَ الْبَيْتِ مِنْهَا بِمَنْجَاةٍ ، وَلَسْنَا فِيهَا بِدُعَاةٍ ، ثُمَّ يُفَرِّجُهَا اللّهُ عَنْكُمْ كَتَفْرِيجِ الْأَدِيمِ ؛ بِمَنْ يَسُومُهُمْ خَسْفاً ، وَيَسُوقُهُمْ عُنْفاً ، وَيَسْقِيهِمْ بِكَأسٍ مُصَبَّرَةٍ لاَ يُعْطِيهِمْ إِلاَّ السَّيْفَ ، وَلاَ يُحْلِسُهُمْ إِلاَّ الْخَوْفَ ، فَعِنْدَ ذلِكَ تَوَدُّ قُرَيْشٌ _ بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا _ لَوْ يَرَوْنَنِي مَقَاماً وَاحِداً ، وَلَوْ قَدْرَ جَزْرِ جَزُورٍ ، لِأَقْبَلَ مِنْهُمْ مَا أَطْلُبُ الْيَوْمَ بَعْضَهُ فَ_لاَ يُعْطُونَنِيْهِ!

الشّرْحُ :فقأتُ عينَه ، أي بخقْتُها ، وتفقّأت السحابة عن مائها : تشقّقت ، وتفقّأ الدُمّل والقُرح ؛ ومعنى فقئِه عليه السلام عينَ الفتنة ، إقدامه عليها حتى أطفأ نارها ؛ كأنه جعل للفتنة عينا محدقة يهابها الناس ؛ فأقدم هو عليها ؛ ففقأ عينَها ؛ فسكنت بعد حركتها وهيجانها . وهذا من باب

.

ص: 325

الاستعارة ، وإنما قال : « ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري » ؛ لأنّ الناس كلَّهم كانوا يهابون قتال أهل القبلة ، ولا يعلمون كيف يقاتلونهم ، هل يتبعُون مولِّيهم أم لا ؟ وهل يُجْهِزُون على جريحهم أم لا ؟ وهل يقسمون فَيْأَهم أم لا ؟ وكانوا يستعظِمُون قتال مَنْ يؤذّن كأذاننا ، ويصلّي كصلاتنا ؛ واستعظموا أيضاً حربَ عائشة وحربَ طلحة والزبير ؛ لمكانهم في الإسلام . والغيهب : الظلمة ؛ والجمع غياهب . وإنما قال : « بعد ما ماج غيهبها » ؛ لأ نّه أراد : بعد ما عَمّ ضلالُها فشمل ، فكنّى عن الضلال بالغيهب ، وكنّى عن العُموم والشمول بالتموّج ؛ لأنّ الظلمة إذا تموّجت شملت أماكن كثيرة غير الأماكن التي تشملها لو كانت ساكنة . واشتدَّ كَلَبُها ، أي شرّها وأذاها . ويقال للقحط الشديد : كَلَب ، وكذلك للقرّ الشديد . ثم قال عليه السلام : « سلوني قبل أن تفقدوني » ، روى صاحب كتاب « الاستيعاب » محمد ابن عبد البر ، عَنْ جماعةٍ من الرواة والمحدّثين ، قالوا : لم يقلْ أحدٌ من الصحابة رضى الله عنه : « سَلُوني » إلاّ علي بن أبي طالب . وروى شيخنا أبو جعفر الإسكافي في كتاب « نقض العثمانية » عن علي بن الجَعْد ، عن ابن شُبْرمة ، قال : ليس لأحد من الناس أن يقول عَلَى المنبر : « سَلُوني » إلاّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام . والفئة : الطائفة ، والهاء عوض من « الياء » التي نقصت من وسطه ، وأصله « فيء » ، مثال « فيع » ؛ لأ نّه من فاء ، ويجمع على فئات ، مثل شيات وهبات ولِدَات . وناعقها : الداعي إليها ، من نَعيق الرّاعِي بغنمه ؛ وهو صوته نعق ينعِق بالكسر نعيقا ؛ ونُعاقا ، أي صاح بها وزجرها . والركاب : الإبل ، واحدتها راحلة ؛ ولا واحد لها من لفظها ، وجمعها رُكُب ، مثل كتاب وكتب . والمُنَاخ ، بضم الميم . ومَحطّ ، بفتحها ، يجوز أن يكونا مصدرين ، وأنْ يكونا مكانين ؛ أمّا كونُ المُناخ مصدراً ، فلأنه كالمقام الذي بمعنى الإقامة ؛ وأما كون المحَطّ مصدراً ؛ فلأنه كالمردّ في قوله سبحانه : « وَأَنّ مَرَدَّنَا إلَى اللّهِ » (1) ، وأما كونُهما موضعين ؛ فلأنّ المناخ ، من أنخت الجمل ؛ وأما المحطّ ، فإنه كالمَقْتل موضع القتلِ ، يقال : مقتَل الرّجُل بين فكيه ، ويقال للأعضاء التي إذا أُصيب الإنسان فيها هلك : مَقاتل ؛ ووجه المماثلة كونهما مضمومي العين . واعلم أنه عليه السلام قد أقسم في هذا الفصل باللّه الذي نفسه بيده ، أنّهم لا يسألونه عن أمر يحدث بينهم وبين القيامة إلاّ أخبرهم به ، وأ نّه ما صحّ من طائفة من الناس يهتدي بها مئة

.


1- .سورة غافر 43.

ص: 326

وتضلّ بها مئة ، إلاّ وهو مخبرٌ لهم _ إن سألوه _ برعاتها ، وقائدها وسائقها ومواضع نزول ركابها وخيولها ؛ ومَنْ يقتل منها قتلاًَ ، ومَنْ يموت منها موتاً ؛ وهذه الدعوى ليست منه عليه السلام ادّعاء الرّبوبية ، ولا ادّعاء النبوة ؛ ولكنه كان يقول : إن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلمأخبَره بذلك ، ولقد امتحنّا إخباره فوجدناه موافقاً ، فاستدلَلْنا بذلك على صدق الدعوى المذكورة ، كإخباره عن الضربة التي يُضرب بها في رأسه فتُخضِب لحيته ، وإخباره عن قتل الحسين ابنه عليهماالسلام ؛ وما قاله في كربلاء حيث مرّ بها ، وإخباره بملك معاوية الأمر من بعده ، وإخباره عن الحجّاج ؛ وعن يوسف بن عمر ؛ وما أخبر به من أمر الخوارج بالنهروان . فإن قلت : لماذا قال عن فئة تهدي مئة ؟ وما فائدة التقييد بهذا العدد؟ قلت : لأنّ ما دون المئة حقير تافه لا يعتدّ به ليذكر ويخبَر عنه ، فكأنه قال : مئة فصاعداً . قوله عليه السلام : « كرائه الأُمور » : جمع كريهة وهي الشدّة في الحرب . وحوازب الخطوب : جمع حازب ، وحَزَبه الأمر ، أي دَهمه . وفشل : جبن . فإن قلت : أمّا فشل المسؤول فمعلوم ، فما الوجه في إطراق السائل؟ قلت : لشدة الأمر وصعوبته ؛ حتى إن السائل ليبهت ويدْهش فيطرِق ، ولا يستطيع السؤال . قوله عليه السلام : « إذا قَلَصت حربكم » يروى بالتشديد وبالتخفيف ، ويروى : « عن حربكم » ؛ فمن رواه مشدداً أراد انضمّت واجتمعت ؛ وذلك لأ نّه يكون أشدّ لها وأصعب من أن تتفرّق في مواطن متباعدة ، ومن رواها بالتخفيف أراد كثرت وتزايدت ، من قولهم : قَلَصَتِ البئر ، أي ارتفع ماؤها إلى رأسها أو دونه ، ومن روى : « إذا قلّصت عن حربكم » أراد إذا قلّصت كرائه الأُمور وحوازب الخطوب عن حربكم ، أي انكشفت عنها ، والمضارع من قلَص يَقْلِص بالكسر . قوله : « وشمّرت عن ساق » ، استعارة وكناية ، يقال للجادّ في أمره : قد شمّر عن ساقٍ ؛ وذلك لأنّ سبوغ الذيل مَعْثَرة ، ويمكن أن يجري اللفظ على حقيقته ، وذلك قوله تعالى : « يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ » (1) فسّروه فقالوا : الساق : الشدّة ، فيكون قد أراد بقوله : « وشمرت عن ساق » ، أي كشفت عن شدّة ومشقة . ثم قال : « تستطيلون أيام البلاء » ؛ وذلك لأنّ أيام البؤس طويلة .

.


1- .سورة القلم 42 .

ص: 327

قوله عليه السلام : « إن الفتَن إذا أقبلت شَبّهت » ، معناه أنّ الفتن عند إقبالها وابتداء حدوثها، يلتبس أمرها ولا يُعلم الحقّ منها من الباطل ، إلى أن تنقضي وتدبِر ؛ فحينئذٍ ينكشف حالها ، ويعلم ما كان مشتبهاً منها . ثم أكّد عليه السلام هذا المعنى بقوله : « ينكَرْن مقبلات ، ويعرَفن مدبرات » ، ومثال ذلك فتنة الجمل ، وفتنة الخوارج ، كان كثير من الناس فيها في مبدأ الأمر متوقّفين ، واشتبه عليهم الحال ، ولم يعلموا موضع الحقّ إلى أن انقضت الفتنة ، ووضعت الحرب أوزارها ، وبان لهم صاحبُ الضلالة من صاحب الهداية . ثم وصف الفتن ، فقال : إنها تحُوم حَوْم الرياح ، يصبن بلدا ، ويخطئن بلداً . حام الطائر وغيرُه حول الشيء ، يحوم حَوْما وحَوَماناً ، أي دار . ثم ذكر أنّ أخوف ما يخاف عليهم فتنة بني أميّة . ومعنى قوله : « عَمّت خطتها ، وخصّت بليّتها » ، أنها عمّت الناس كافة من حيث كانت رياسة شاملة لكلّ أحد ؛ ولكن حظّ أهل البيت : وشيعتهم من بليّتها أعظم ، ونصيبهم فيها أوفر . ومعنى قوله : « وأصاب البلاء مَنْ أبصر فيها ، وأخطأ البلاء من عَمي عنها » ، أن العالم بارتكابهم المنكر مأثوم إذ لم ينكر ، والجاهل بذلك لا إثم عليه إذا لم ينههم عن المنكر . ثم أقسم عليه السلام فقال : « وايم اللّه » ، وأصله : وأيمنُ اللّه . فأقسم عليه السلام لأصحابه أنّهم سيجدون بني أُميّة بعده لهم أرباب سوء ، وصدَقَ صلوات اللّه عليه فيما قال ، فإنّهم ساموهم سوء العذاب قَتْلاً وصلباً ، وحَبْساً وتشريداً في البلاد . ثم شبّه بني أُميّة بالنَّاب الضّروس ، والنّاب : الناقة المسنّة ، والجمع نيب ، تقول : لا أفعله ما حَنّت النيب . والضّروس : السيئة الخُلْق تعضّ حالبها . وتعذِم بفيها : تكدم ، والعذْم : الأكل بجفاء ، وفرس عَذُوم : يعضّ بأسنانه . والزَّبْن : الدفع ، زبنتِ الناقة تزبِنُ ، إذا ضربت بثَفِناتها عند الحلْب ، تدفع الحالب عنها . والدّرّ : اللبن ، وفي المثل « لا درّ دَرُّه » الأصل « لبنهُ » ، ثم قيل لكل خير ، وناقة دَرُور ، أي كثيرة اللبن . ثم قال : لا يزالون بكم قتلاً وإفناءً لكم حتى لا يتركوا منكم إلاّ من ينفعهم إبقاؤه ، أو لا يضرهم ولا ينفعهم ، قال : حتى يكون انتصار أحدكم منهم كانتصار العبْد من مولاه ، أي لا انتصارَ لكم منهم ؛ لأنّ العبد لا ينتصر من مولاه أبداً . وقد جاء في كلامه عليه السلام في غير هذا الموضع تتمة هذا المعنى : « إن حضر أطاعه ، وإن غاب سَبَعه » ، أي ثلبه وشتمه ، وهذه أمارة الذلّ . قال عليه السلام : « والصاحب من مستصحِبه » ، أي والتابع من متبوعه . والشُوه : جمع شَوْهاء ؛ وهي القبيحة الوجه ؛ شاهت الوجوه تشوه شَوْها ، قُبحت ، وشوّهه اللّه فهو مشوّه ؛ وهي

.

ص: 328

شوهاء . وقطعاً جاهلية ، شبهها بقطع السحاب لتراكمها على الناس ، وجعلها جاهلية ؛ لأنها كأفعال الجاهلية الذين لم يكن لهم دين يردعهم ، ويروى : « شوهاء » و « قطعاء » ، أي نكراء ، كالمقطوعة اليد . قوله : « نحن أهلَ البيت منها بمنجاة » ، أي بمعزل ، والنّجاة والنّجوة : المكان المرتفع الذي تظن أنه نجاك ، ولا يعلوه السيل . ولسنا فيها بدعاة ، أي لسنا من أنصار تلك الدّعوة . و « أهلَ البيت » منصوب على الاختصاص ، كقولهم : نحن معشرَ العرب نفعل كذا ، ونحن آلَ فلان كرماء . قوله : « كتفريج الأديم » ، الأديم : الجلد ، وجمعه أُدُم ، مثل أفيق وأُفُق ، ويجمع أيضاً على « آدمة » ، كرغيف وأرغفة ، ووجه التشبيه أن الجلد ينكشف عَمّا تحته ، فوعدهم عليه السلام بأنّ اللّه تعالى يكشف تلك الغمّاء كانكشاف الجلْد عن اللحم ؛ بمن يسومهم خسفاً ، ويوليهم ذلاً . والعُنف ، بالضم : ضدّ الرفق . وكأس مصبّرة ، ممزوجة بالصَّبر لهذا المرّ ، ويجوز أن يكون « مصبّرة » مملوءة إلى أصْبارها ، وهي جوانبها ، وفي المثل : « أخذها بأصبارها » أي تامّة ، الواحد صُبر ، بالضم . ويُحْلِسهم : يلبسهم ، أحلست البعير ألبسته الحِلْس ، وهو كساء رقيق يكون تحت البرذعة . والجَزُور من الإبل : يقع على الذَّكر والأنثى ، وجَزْرها : ذَبْحها . وهذا الكلام إخبار عن ظهور المسوَّدة ، وانقراض ملك بني أُميّة . ووقع الأمر بموجب إخباره صلوات اللّه عليه ؛ حتى لقد صدق قوله : « لقد تود قريش ... » الكلام إلى آخره ، فإن أرباب السِّيَر كلهم نقلوا أنّ مروان بن محمد قال يوم الزَّاب لما شاهد عبد اللّه بن علي بن عبد اللّه ابن العباس بإزائه في صفّ خراسان : لوددت أن عليّ بن أبي طالب تحت هذه الراية بدلاً من هذا الفتى ؛ والقصة طويلة وهي مشهورة . وهذه الخطبة ذكرها جماعة من أصحاب السير ؛ وهي متداولة منقولة مستفيضة ، خطب بها علي عليه السلام بعد انقضاء أمر النّهروان ، وفيها ألفاظ لم يوردها الرضي ؛ . من ذلك قوله عليه السلام : « ولم يكن ليجترئ عليها غيري ؛ ولو لم أكُ فيكم ما قوتل أصحاب الجمل والنهروان . وايمُ اللّه لولا أن تتّكلوا فتدعُوا العمل لحدّثتكم بما قضى اللّه عزّ وجلّ على لسان نبيكم صلى الله عليه و آله وسلم لِمَنْ قاتلهم مبصرا لضلالتهم ، عارفاً للهدى الذي نحن عليه ؛ سلوني قبل أن تفقدوني ، فإنّي ميِّت عن قريب أو مقتول ، بل قتلاً ، ما ينتظر أشقاها أن يخضَب هذه بدم » . وضرب بيده إلى لحيته .

.

ص: 329

93 . من خطبة له عليه السلام يصف فيها حال الأنبياء

ومنها في ذكر بني أُميّة : « يظهر أهلُ باطِلها على أهل حقّها ، حتى تمْلَأ الأرض عدواناً وظلماً وبِدعا إلى أن يضع اللّه عزّ وجلّ جبروتها ، ويكسر عَمَدها ، وينزع أوتادها . ألا وإنَّكم مدركوها فانصرُوا قوما كانوا أصحاب رايات بدر وحُنين ، تؤجروا ، ولا تمالئوا عليهم عدوّهم ، فتصرعكم البَليَّة ، وتحُلّ بكم النقمة » . ومنها : « إلاّ مثل انتصار العبد من مولاه إذا رآه أطاعه ، وإن توارى عنه شَتَمه . وايمُ اللّه لو فرّقوكم تحتَ كلّ حجر ؛ لجمعكم اللّه لشرِّ يوم لهم » . ومنها : « فانظروا أهل بيت نبيكم ، فإن لبَدُوا فالبدوا ، وإن استنصروكم فانصروهم ، فليفرجَنّ اللّه الفتنة برجل منّا أهلَ البيت ، بأبي ابن خيرة الإماء . لا يعطيهم إلاّ السيف هَرْجا هرجاً ، موضوعاً على عاتقه ثمانية أشهر ؛ حتى تقول قريش : لو كان هذا من ولد فاطمة لرحمنا ، يغريه اللّه ببني أُميّة حتّى يجعلهم حُطاماً ورفاتا ، ملعونين أينما ثقفوا أُخذُوا وقُتّلوا تقتيلاً . سنّة اللّه في الذين خَلَوْا من قبل ولن تجدَ لسنّة اللّه تبديلاً » . فإن قيل : ومَنْ هذا الرجل الموعود به الذي قال عليه السلام عنه : « بأبي ابن خيرة الإماء » ؟ قيل : أمّا الإمامية فيزعمون أ نّه إمامهم الثاني عشر ، وأنه ابن أمة اسمها نرجس ؛ وأما أصحابنا فيزعمون أ نّه فاطميّ يولَد في مستقبل الزمان ، لأمّ ولد ، وليس بموجود الآن . فإن قيل : فإنكم قلتم فيما تقدّم : إن الوعد إنما هو بالسفاح وبعمّه عبد اللّه بن علي ، والمسوّدة ؛ وما قلتموه الآن مخالف لذلك! قيل : إن ذلك التفسير هو تفسير ما ذكره الرضي ؛ من كلام أمير المؤمنين عليه السلام في « نهج البلاغة » وهذا التفسير هو تفسير الزيادة التي لم يذكرها الرضيّ ، وهي قوله : بأبي ابن خيرة الإماء . وقوله : « لو كان هذا من ولد فاطمة لرحمنا » ، فلا مناقضةَ بين التفسيرين .

93الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامفَتَبَارَكَ اللّهُ الَّذِي لاَ يَبْلُغُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ ، وَلاَ يَنَالُهُ حَدْسُ الْفِطَنِ ، الْأَوَّلُ الَّذِي لاَ غَايَةَ

.

ص: 330

لَهُ فَيَنْتَهِيَ ، وَلاَ آخِرَ لَهُ فَيَنْقَضِيَ .

الشّرْحُ :البركة : كثرة الخير وزيادته ، وتبارك اللّه منه ، وبركتُ ، أي دعوتُ بالبرَكة ، وطعام بريك أي مبارك . ويحتمل « تبارك اللّه » معنيين : أحدُهما : أنْ يُراد : تبارك خَيْره وزادت نعمته وإحسانه ، وهذا دعاء . وثانيهما : أن يُراد به : تزايد وتعالٍ في ذاته وصفاته عن أن يُقاس به غيره ، وهذا تمجيد . قوله عليه السلام : « لا يبلغه بعد الهمم » أي بعد الأفكار والأنظار ، عبّر عنها بالهمم لمشابهتها إياها . وحَدْس الفِطَن : ظنّها وتخمينها ، حَدَست أحدِس ، بالكسر . ويُسأل عن قوله : « لا غاية له فينتهي ، ولا آخر له فينقضِي » ، فيقال : إنما تدخل الفاء فيما إذا كان الثاني غير الأول ، وكقولهم : ما تأتينا فتحدثَنا ، وليس الثاني هاهنا غير الأول ؛ لأنّ الانقضاء هو الآخرية بعينها ، فكأنه قال : لا آخر له ، فيكون له آخر ، وهذا لغْو ؛ وكذلك القول في اللفظة الأُولى . وينبغي أن يقال في الجواب : إن المراد : لا آخر له بالإمكان والقوّة فينقضي بالفعل فيما لا يزال ، ولا هو أيضا ممكن الوجود فيما مضى ، فيلزم أن يكون وجوده مسبوقاً بالعدم ، وهو معنى قوله : « فينتهي » بل هو واجب الوجود في حالين : فيما مضى وفي المستقبل ، وهذان مفهومان متغايران ، وهما العدم وإمكان العدم ؛ فاندفع الإشكال .

الأصْلُ :ومنها :فَاسْتَوْدَعَهُمْ فِي أَفْضَلِ مُسْتَوْدَعٍ ، وَأَقَرَّهُمْ فِي خَيْرِ مُسْتَقَرٍّ ، تَنَاسَخَتْهُمْ كَرَائِمُ الْأَصْلاَبِ إِلَى مُطَهَّرَاتِ الْأَرْحَامِ؛ كُلَّمَا مَضَى مِنْهُمْ سَلَفٌ ، قَامَ مِنْهُمْ بِدِينِ اللّهِ خَلَفٌ . حَتَّى أَفْضَتْ كَرَامَةُ اللّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ؛ فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَعَادِنِ مَنْبِتاً ، وَأَعَزِّ الْأَرُومَاتِ مَغْرِساً ؛ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي صَدَعَ مِنْهَا أَنْبِيَاءَهُ ، وَانْتَجَبَ مِنْهَا أُمَنَاءَهُ . عِتْرَتُهُ خَيْرُ الْعِتَرِ ، وَأُسْرَتُهُ خَيْرُ الْأُسَرِ ، وَشَجَرَتُهُ خَيْرُ

.

ص: 331

الشَّجَرِ؛ نَبَتَتْ فِي حَرَمٍ؛ وَبَسَقَتْ فِي كَرَمٍ؛ لَهَا فُرُوعٌ طِوَالٌ وَثَمَرٌ لاَ يُنَالُ فَهُوَ إِمَامُ مَنِ اتَّقَى ، وَبَصِيرَةُ مَنِ اهْتَدَى . سِرَاجٌ لَمَعَ ضَوْؤُهُ ، وَشِهَابٌ سَطَعَ نُورُهُ وَزَنْدٌ بَرَقَ لَمْعُهُ ؛ سِيرَتُهُ الْقَصْدُ ، وَسُنَّتُهُ الرُّشْدُ ، وَكَلاَمُهُ الْفَصْلُ ، وَحُكْمُهُ الْعَدْلُ؛ أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ، وَهَفْوَةٍ عَنِ الْعَمَلِ ، وَغَبَاوَةٍ مِنَ الْأُمَمِ .

الشّرْحُ :تناسختهم ، أي تناقلتهم ، والتناسخ في الميراث : أنْ يموت ورثة بعد ورثة ، وأصل الميراث قائم لم يقَسّم ، كأنّ ذلك تناقل من واحد إلى آخر ، ومنه : نسخت الكتاب وانتسخته واستنسخته ، أي نقلت ما فيه . ويروى « تناسلتْهم » . والسّلَف : المتقدمون ، والخلف : الباقون ، ويقال : خَلَف صدق بالتحريك ، وخَلْف سوء ، بالتسكين . وأفضت كرامة اللّه إلى محمد صلى الله عليه و آله وسلم ، أي انتهت . والأرومات : جمع أرومة ؛ وهي الأصل ؛ ويقال أروم بغير هاء . وصدع : شقّ . وانتجب : اصطفى . والأُسرة : رهط الرجل . وقوله : « نبتت في حرم » يجوز أن يعني به مكّة ، ويجوز أن يعني به المنعة والعزّ . وبسقت : طالت ، ومعنى قوله : « وثمر لا ينال » ليس على أن يريد به أنّ ثمرها لا ينتفع به ؛ لأنّ ذلك ليس بمدح ، بل يريد به أنّ ثمرها لا ينال قهراً ، ولا يجنى غصباً . ويجوز أنْ يريد بثمرها ، نفسه عليه السلام ، ومَنْ يجري مجراه من أهل البيت : ؛ لأنهم ثمرة تلك الشجرة . ولا ينال ، أي لا ينال مساعيهم ومآثرهم ولا يباريهم أحد ، وقد روي في الحديث عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم في فضل قريش وبني هاشم الكثير المستفيض . وسطع الصبح يسطع سطوعا ، أي ارتفع ، والسَّطيع : الصبح . والزَّند : العود تقدح به النار ، وهو الأعلى ، والزَّنْدة : السفلى فيها ثقب ، وهي الأنثى ، فإذا اجتمعا قيل : زَنْدان ولم يقل : زندتان ، تغليبا للتذكير ، والجمع زناد وأزنُد وأزناد . والقصد : الاعتدال . وكلامه الفصل ، أي الفاصل ، والفارق بين الحق والباطل وهو مصدر بمعنى الفاعل ، كقولك : رجل عَدْل ، أي عادل . والهفوة : الزلّة ، هفا يهفو . والغباوة : الجهل وقلة الفطنة ، يقال : غبيت عن الشيء وغبيت الشيء أيضا ، أغبى غباوة إذا لم يفطن له ، وغبيَ عليّ الشيء كذلك ، إذا لم تعرفه ، وفلان غبيّ على « فعيل » ، أي قليل الفطنة .

.

ص: 332

94 . من خطبة له عليه السلام يذكر فيها حال الناس عند البعثة

الأصْلُ :اعْمَلُوا _ رَحِمَكُمُ اللّهُ _ عَلَى أَعْلاَمٍ بَيِّنَةٍ ، فَالطَّرِيقُ نَهْجٌ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ ، وَأَنْتُمْ فِي دَارِ مُسْتَعْتَبٍ عَلَى مَهَلٍ وَفَرَاغ ؛ وَالصُّحُفُ مَنْشُورَةٌ ، وَالْأَقْلاَمُ جَارِيَةٌ ، وَالْأَبْدَانُ صَحِيحَةٌ ، والْأَلْسُنُ مُطلَقَةٌ ، وَالتَّوْبَةُ مَسْمُوعَةٌ ، وَالْأَعْمَالُ مَقْبُولَةٌ .

الشّرْحُ :الطريق : يذكّر ويؤنث ، يقال : هذا الطريق الأعظم ، وهذه الطريق العُظمى ، والجمع أطرِقة وطرق . وأعلام بيّنة : أي منار واضح . ونهج ، أي واضح . ودار السلام : الجنة ، ويروى : « والطريق نهج » بالواو ، واو الحال . وأنتم في دار مستعتَب ، أي في دار يمكنكم فيها استرضاء الخالق سبحانه ، واستعتابه . ثم شرح ذلك فقال : أنتم ممهلون متفرّغون ، وصحف أعمالكم لم تطوَ بعد ، وأقلام الحَفَظة عليكم لم تجفّ بعد ، وأبدانكم صحيحة ، وألسنتكم ما اعتقلت كما تعتقل ألسنة المحتَضرين عند الموت ، وتوبتكم مسموعة وأعمالكم مقبولة ؛ لأنكم في دار التّكليف لم تخرجوا منها .

94الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامبَعَثَهُ وَالنَّاسُ ضُلاَّلٌ فِي حَيْرَةٍ ، وَحَاطِبُونَ فِي فِتْنَةٍ ، قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الْأَهْوَاءُ ، وَاسْتَزَلَّتْهُمُ الْكِبْرِيَاءُ ، وَاسْتَخَفَّتْهُمُ الْجَاهِلِيَّةُ الْجَهْلاَءُ؛ حَيَارَى فِي زَلْزَالٍ مِنَ الْأَمْرِ ، وَبَلاَءٍ مِنَ الْجَهْلِ ، فَبَالَغَ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ فِي النَّصِيحَةِ ، وَمَضَى عَلَى الطَّرِيقَةِ ، وَدَعَا إِلَى الْحِكْمَةِ ، وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ .

.

ص: 333

95 . من خطبة له عليه السلام في تعظيم اللّه وتمجيده ، ثم ذكر الرسول صلى الله عليه و آله وسلم والثناء عليه

الشّرْحُ :حاطبون في فتنة : جمع حاطب ، وهو الذي يجمع الحَطَب ، ويقال لمن يجمع بين الصواب والخطأ ، أو يتكلّم بالغثّ والسمين ؛ حاطب ليل ، لأ نّه لا يبصر ما يجمع في حَبْله . ويروى : « خابطون » . واستهوتهم الأهواء : دعتهم إلى نفسها . واستزلتهم الكبرياء : جعلتهم ذوي زلل وخطأ . واستخفّتْهم الجاهلية : جعلتهم ذوي خِفّة وَطيْشٍ وخُرْق . والزلزال ، بالفتح : الاسم ، وبالكسر : المصدر والزلازل : الشدائد ، ومثله في الكسر عند الاسمية ، والفتح عند المصدر « القَلْقال » .

95الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامالْحَمْدُ للّه الْأَوَّلِ فَ_لاَ شَيْءَ قَبْلَهُ ، وَالآخِرِ فَ_لاَ شَيْءَ بَعْدَهُ ، وَالظَّاهِرِ فَلاَ شَيْءَ فَوْقَهُ ، وَالْبَاطِنِ فَ_لاَ شَيْءَ دُونَهُ .

الشّرْحُ :تقدير الكلام : والظاهر فلا شيء أجْلَى منه ، والباطن فلا شيء أخفى منه ، فلما كان الجلاءُ يستلزم العلوَّ والفوقية ، والخفاء يستلزم الانخفاض والتحتية ، عَبّر عنهما بما يلازمهما ، وقد تقدم الكلامُ في معنى الأول والآخر والظاهر والباطن . وذهب أكثر المتكلّمين إلى أن اللّه تعالى يعدم أجزاء العالم ثم يعيدها ، وذهب قوم منهم إلى أنّ الإعادة إنما هي جمع الأجزاء بعد تفريقها لا غير .

الأصْلُ :ومنها في ذكر الرسول صلى الله عليه و آله :مُسْتَقَرُّهُ خَيْرُ مُسْتَقَرٍّ ، وَمَنْبِتُهُ أَشْرَفُ مَنْبِتٍ ، فِي مَعَادِنِ الْكَرَامَةِ ، وَمَمَاهِدِ السَّلاَمَةِ؛

.

ص: 334

96 . من خطبة له عليه السلام في توبيخ أصحابه على التباطؤ عن نصرة الحق

قَدْ صُرِفَتْ نَحْوَهُ أَفْئِدَةُ الْأَبْرَارِ ، وَثُنِيَتْ إِلَيْهِ أَزِمَّةُ الْأَبْصَارِ ، دَفَنَ اللّهُ بِهِ الضَّغَائِنَ ، وَأَطْفَأَ بِهِ النَّوَائِرَ . أَ لَّ_فَ بِهِ إِخْوَاناً . وَفَرَّقَ بِهِ أَقْرَاناً ، أَعَزَّ بِهِ الذِّلَّةَ ، وَأَذَلَّ بِهِ الْعِزَّةَ . كَلاَمُهُ بَيَانٌ ، وَصَمْتُهُ لِسَانٌ .

الشّرْحُ :المهاد : الفراش ، ولما قال : « في معادن » ، وهي جمع معدن ، قال بحكم القرينة والازدواج : «ومماهد» وإن لم يكن الواحد منها «مَمْهدا»، كما قالوا: الغدايا والعشايا. ومأجورات ومأزورات، ونحو ذلك . ويعني بالسلامة هاهنا البراءة من العيوب ، أي في نسب طاهر غير مأفون ولا معيب . ثم قال : « قد صُرِفت نحوه » أي نحو الرسول صلى الله عليه و آله وسلم ، ولم يقل مَنْ صرفها ؟ بل جعله فعلاً لم يسمّ فاعله ، فإن شئت قلت : الصارف لها هو اللّه تعالى لا بالجبْر ، كما يقوله الأشعرية ، بل بالتوفيق واللطف ، كما يقوله أصحابنا ، وإن شئت قلت : صرفها أربابُها . والضغائن : جمع ضغينة ، وهي الحِقْد ، ضغِنت على فلان بالكسر ضِغْنا ، والضغن الاسم ، كالضغينة ، وتضاغنوا واضطغنوا : انطَوَوْا على الأحقاد . ودَفَنها : أكمنها وأخفاها . وألّف به إخواناً ؛ لأنّ الإسلام قد ألّف بين المتباعدين ، وفرق بين المتقاربين ، وقال تعالى : « فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانا» (1) . قوله عليه السلام : « وصمته لسان » ، لا يعني باللسان هاهنا الجارحة نفسها ، بل الكلام الصادر عنها . يقول عليه السلام : إن كلام الرسول صلى الله عليه و آله وسلم بيان ، والبيان إخراج الشيء من حَيّز الخفاء إلى حَيّز الوضوح ، وصمته صلى الله عليه و آله وسلم كلام وقول مفيد ، أي أنّ صمته لا يخلو من فائدة ، فكأنه كلام ، وهذا من باب التشبيه المحذوف الأداة ، كقولهم : يده بَحْر ، ووجهه بدر .

96الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلاموَلَئِنْ أَمْهَلَ اللّهُ الظَّالِمَ فَلَنْ يَفُوتَ أَخْذُهُ ، وَهُوَ لَهُ بِالمِرْصَادِ عَلَى مَجَازِ طَرِيقِهِ ،

.


1- .سورة آل عمران 103 .

ص: 335

وَبِمَوْضعِ الشَّجَا مِنْ مَسَاغِ رِيقِهِ . أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَيَظْهَرَنَّ هؤلاَءِ الْقَوْمُ عَلَيْكُمْ ، لَيْسَ لِأَنَّهُمْ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْكُمْ ، وَلكِنْ لاِءِسْرَاعِهِمْ إِلَى بَاطِلِهِمْ ، وَإِبْطَائِكُمْ عَنْ حَقِّي . وَلَقَدْ أَصْبَحَتِ الْأُمَمُ تَخَافُ ظُلمَ رُعَاتِهَا ، وَأَصْبَحْتُ أَخَافُ ظُلمَ رَعِيَّتِي . اسْتَنْفَرْتُكُمْ لِلْجِهَادِ فَلَمْ تَنْفِرُوا ، وَأَسْمَعْتُكُمْ فَلَمْ تَسْمَعُوا ، وَدَعَوْتُكُمْ سِرّاً وَجَهْراً فَلَمْ تَسْتَجِيبُوا ، وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَلَمْ تَقْبَلُوا . أَشُهُودٌ كَغُيَّابٍ ، وَعَبِيدٌ كَأَرْبَابٍ ؟! أَتْلُو عَلَيْكُمُ الْحِكَمَ فَتَنْفِرُونَ مِنْهَا ، وَأَعِظُكُمْ بِالمَوْعِظَةِ الْبَالِغَةِ فَتَتَفَرَّقُونَ عَنْهَا ، وَأَحُثُّكُمْ عَلَى جِهَادِ أَه_ْلِ الْبَغْيِ فَمَا آتِي عَلَى آخِرِ قَوْلي حَتَّى أَرَاكُمْ مُتَفَرِّقِينَ أَيَادِيَ سَبَا ، تَرْجِعُونَ إِلى مَجَالِسِكُمْ ، وَتَتَخَادَعُونَ عَنْ مَوَاعِظِكُمْ ، أُقَوِّمُكُمْ غُدْوَةً ، وَتَرْجِعُونَ إِلَيَّ عَشِيَّةً ، كَظَهْرِ الْخيَّةِ ، عَجَزَ الْمُقَوِّمُ ، وَأَعْضَلَ الْمُقَوَّمُ . أَيُّهَا الْقَوْمُ الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ ، الْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ ، الُْمخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤهُمْ ، المُبْتَلَى بِهمْ أُمَرَاؤهُمْ . صَاحِبُكُمْ يُطِيعُ اللّهَ وَأَنْتُمْ تَعْصُونَهُ ، وَصَاحِبُ أَهْلِ الشَّامِ يَعْصِي اللّهَ وَهُمْ يُطِيعُونَهُ . لَوَدِدْتُ وَاللّهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ صَارَفَني بِكُمْ صَرْفَ الدِّينَارِ بِالدِّرْهَمِ ، فَأَخَذَ مِنِّي عَشَرَةً مِنْكُمْ وَأَعْطَانِي رَجُلاً مِنْهُمْ! يَاأَهْلَ الْكُوفَةِ ، مُنِيتُ مِنْكُمْ بِثَ_لاَثٍ وَاثنَتَيْنِ : صُمٌّ ذَوُو أَسْمَاعٍ ، وَبُكْمٌ ذَوُو كَلاَمٍ ، وَعُمْيٌ ذَوُو أَبْصَارٍ ، لاَ أحْرَارُ صِدْقٍ عِنْدَ اللِّقَاءِ ، وَلاَ إِخْوَانُ ثِقَةٍ عِنْدَ الْبَلاَءِ ! تَرِبَتْ أَيْدِيكُمْ ! يَا أَشْبَاهَ الاْءِبِلِ غَابَ عَنْهَا رُعَاتُهَا ! كُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِبٍ تَفَرَّقَتْ مِنْ آخَرَ . وَاللّهِ لَكَأَنِّي بِكُمْ فِيمَا إِخَالُكُمْ أَلَّوْ حَمِسَ الْوَغَى ، وَحَمِيَ الضِّرَابُ ، قَدِ انْفَرَجْتُمْ عَنِ ابْنِ أَبي طَالِبٍ انْفِرَاجَ الْمَرْأَةِ عَنْ قُبُلِهَا . وَإِنِّي لَعَلَى بَيِّنَة مِنْ رَبِّي ، وَمِنْهَاجٍ مِنْ نَبِيِّي ، وَإِنِّي لَعَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ أَلْقُطُهُ لَقْطاً .

.

ص: 336

الشّرْحُ :أمهله : أخّره ، وأخذُه فاعل ، والمفعول محذوف تقديره : « فلن يفوته » . والمرصاد : الطريق ، وهي من ألفاظ الكتاب العزيز . ومجاز طريقه : مسلكه وموضع جوازه . والشَّجَا : ما ينشَب في الحلق من عظم أو غيره ، وموضع الشَّجا : هو الحلْق نفسه . ومساغُ ريقه : موضع الإساغة ، أسغت الشراب : أوصلتُه إلى المعدة . ويجوز : سغت الشراب أسُوغه وأسيغه ، وساغ الشرابُ نفسُه يسوغ سَوْغا ، أي سَهُل مدخله في الحَلْق ، يتعدّى ولا يتعدّى . وهذا الكلام من باب التوسّع والمجاز ؛ لأنّ اللّه تعالى لا يجوز عليه الحصول في الجهاتِ ، ولكنه كقوله تعالى : « وَهُوَ مَعَكُمْ أيْنَما كُنْتُم » (1) . وقوله : « وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» (2) . ثم أقسم عليه السلام أنّ أهل الشام لابدّ أن يظهروا على أهل العراق ، وأنّ ذلك ليس لأنهم على الحقّ وأهلُ العراق على الباطل ، بل لأنّهم أطوَعُ لأميرهم ، ومدَار النّصرة في الحرب إنّما هو على طاعة الجيش وانتظام أمره ، لا على اعتقاد الحقّ ، فإنه ليس يُغْنِي في الحرب أن يكون الجيش محقّا في العقيدة إذا كان مختلف الآراء ، غير مطيع لأمر المدبّر له ، ولهذا تجدُ أهل الشرك كثيرا ما ينتصرون على أهل التوحيد . ثم ذكر عليه السلام نكتة لطيفة في هذا المعنى ، فقال : العادة أنّ الرعيّة تخاف ظلم الوالي ، وأنا أخاف ظلم رعيتي ، ومَنْ تأمّل أحواله عليه السلام في خلافته ، علم أ نّه كان كالمحجور عليه ، لا يتمكّن من بلوغ مافي نفسه ؛ وذلك لأنّ العارفين بحقيقة حاله كانوا قليلين ، وكان السواد الأعظم ، لا يعتقدون فيه الأمر الذي يجب اعتقادُه فيه ، ويرون تفضيلَ مَنْ تقدّمه من الخلفاء عليه ، ويظنّون أن الأفضليّة إنما هي الخلافة ، ويقلّد أخلافُهم أسلافَهم ، ويقولون : لولا أن الأوائل علموا فضل المتقدّمين عليه لما قدّموهم ، ولا يروْنه إلاّ بعين التبعيّة لمن سبقه ، وأنه كان رعيّة لهم ، وأكثرهم إنما يحارب معه بالحميّة ، وبنخوة العربية لا بالدين والعقيدة ، وكان عليه السلام مدفوعا إلى مداراتهم ومقاربتهم ، ولم يكن قادرا على إظهار ما عنده . ثم قال : « أو أموت كما مات أصحابي » ، فمن قائل يقول : عَنَى بأصحابه الخلفاء المتقدّمين ، ومن قائل يقول : عَنَى بأصحابه شيعتَه كسلمان وأبي ذرّ والمقداد وعَمّار ونحوهم .

.


1- .سورة الحديد 4 .
2- .سورة ق16 .

ص: 337

قوله عليه السلام : « ونصحت لكم » ، هو الأفصح ، وعليه ورد لفظ القرآن (1) ، وقول العامة : « نصحتك » ليس بالأفصح . قوله : « وعَبِيد كأرباب » يصفهم بالكِبْر والتِّيه . فإن قلت : كيف قال عنهم إنّهم عبيد وكانوا عَرَبا صَلبية؟ قلت : يريد أنّ أخلاقهم كأخلاق العبيد ، من الغَدْر والخلاف ودناءة الأنفس ، وفيهم مع ذلك كِبْر السادات والأرباب وتيههم ، فقد جمعوا خِصالَ السُّوء كلها . وأيادي سبأ ، مثل يضرب للمتفرّقين ، وأصله قولُه تعالى عن أهل سبأ : « وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمزَّقٍ » (2) . قوله : « تتخادَعُون عن مواعظكم » ، أي تمسكون عن الاتّعاظ والانزجار ، وتُقْلعون عن ذلك ، من قولهم : كان فلان يُعطي ثم خدع ، أي أمسك وأقلع . ويجوز أن يريد : تتلوّنون وتختلفون في قبول الموعظة ؛ من قولهم : خلق فلان خَلْق خادع ، أي متلوّن . والخَيّة : القوس . وقوله : « كظهر الخيّة » ، يريد اعوجاجهم ؛ كما أنّ ظهر القوس معوجّ . وأعضل المقوّم ، أي أعضل داؤه ، أي أعيا . ويروى : « أيها الشاهدة أبدانهم » ، بحذف الموصوف . ثم أقسم أ نّه يودّ أنّ معاوية صارَفه بهم ، فأعطاه من أهل الشام واحداً ، وأخذ منه عشرة ، صَرْف الدينار بالدراهم . ثم ذكر عليه السلام أنهُ منِي ، أي بُلِيَ منهم بثلاث واثنتين ، إنما لم يقل بخمس ؛ لأنّ الثلاث إيجابية والاثنتين سَلْبية ، فأحبّ أن يفرّق بين الإثباب والنفي . ويروى : « لا أحرار صدق عند اللقاء » ، جمع صادق . ولا إخوان ثقة عند البلاء ، أي موثوق بهم . تربتْ أيديكم ، كلمة يدعى على الإنسان بها ، أي لا أصَبْتُم خيراً ، وأصل « ترب » أصابه التراب ، فكأنه يدعو عليه بأن يفتقر حتى يلتصق بالتراب . قوله : « فما إخالكم » أي فما أظنُّكم ؛ والأفصح كسر الألف وهو السماع ؛ وبنو أسد يفتحونها وهو القياس . قوله : « ألّو » أصله « أن لو » ثم أدغمت النون في الألف فصارت كلمة واحدة . وحمِس الوغى ، بكسر الميم ، اشتدّ وَعَظُم ، فهو حمس وأحمس ؛ بيّن الحمَس والحماسة . والوغى في الأصل : الأصوات والجلبة ، وسميت الحرب نفسها وَغىً لما فيها

.


1- .من قوله تعالى في سورة الأعراف 79 : « وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ » .
2- .سورة سبأ 19 .

ص: 338

من ذلك . وقوله : « انفراج المرأة عن قُبُلها » أي وقت الولادة . قوله : « ألقطه لَقْطاً » يريد أنّ الضلال غالب على الهدى ؛ فأنا التقط طريق الهدى من بين طريق الضلال لقطاً من هاهنا وهاهنا كما يسلك الإنسان طريقا دقيقة ، قد اكتَنَفها الشوْك والعوْسَج من جانبيها كليْهما ، فهو يلتقط النَّهْج التقاطاً .

الأصْلُ :انْظُرُوا أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ فَالْزَمُوا سَمْتَهُمْ ، وَاتَّبِعُوا أَثَرَهُمْ فَلَنْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ هُدىً ، وَلَنْ يُعِيدُكُمْ فِي رَدىً ، فَإِنْ لَبَدُوا فَالْبُدُوا ، وَإِنْ نَهَضُوا فَانْهَضُوا . وَلاَ تَسْبِقُوهُمْ فَتَضِلُّوا ، وَلاَ تَتَأَخَّرُوا عَنْهُمْ فَتَهْلِكُوا . لَقَدْ رَأَيْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ، فَمَا أَرَى أَحَداً يُشْبِهُهُمْ مِنْكُمْ ! لَقَدْ كَانُوا يُصْبِحُونَ شُعثاً غُبْراً ، وَقَدْ بَاتُوا سُجَّداً وَقِيَاماً ، يُرَاوِحُونَ بَيْنَ جِبَاهِهِم وَخُدُودِهِمْ ، وَيَقِفُونَ عَلَى مِثْلِ الْجَمْرِ مِنْ ذِكْرِ مَعَادِهِمْ ! كَأَنَّ بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ رُكَبَ الْمِعْزَى مِنْ طُولِ سُجُودِهِمْ ! إِذَا ذُكِرَ اللّهُ هَمَلَتْ أَعْيُنُهُمْ حَتَّى تَبُلَّ جُيُوبَهُمْ ، وَمَادُوا كَمَا يَمِيدُ الشَّجَرُ يَوْمَ الرِّيحِ الْعَاصِفِ ، خَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ ، وَرَجَاءً لِلثَّوَابِ!

الشّرْحُ :السمت : الطريق ، ولَبَد الشيء بالأرض ، يلبُد بالضم لُبوداً : التصق بها . ويصبحون شُعثاً غبْراً من قَشَف العبادة وقيام الليل وصوم النهار وهجر الملاذّ ، فيراوحون بين جِباههم وخدودهم ، تارة يسجدون على الجباه ، وتارة يضعون خدودهم على الأرض بعد الصلاة ، تذلّلاً وخضوعا . والمراوحة بين العمل : أن يعمَل هذا مَرّة وهذا مرة ، ويراوح بين رجليه ، إذا قام على هذه تارة وعلى هذه أُخرى . ويقال : معزى لهذا الجِنْس من الغنم ومَعِز ومعيز وأُمعوز ومَعْز ، بالتسكين ، وواحد المعْز ماعز ، كصَحْب وصاحب ، والأنثى ما عزة والجمع مواعز . وهملت أعينُهم : سالَت ، تهمُل وتهمِل . ويروى « حتى تُبَلّ جباههم » ، أي يبلّ

.

ص: 339

97 . من خطبة له عليه السلام في وصف بني اُميّة وحال الناس في دولتهم

موضع السجود فتبتل الجبهة بملاقاته . ومادُوا : تحرّكوا واضطربوا ، إمّا خوفاً من العقاب كما يتحرّك الرجل ويضطرب ، أو رجاء للثواب كما يتحرَّك النشوان من الطرب ، وكما يتحرك الجذِل المسرورُ من الفَرَح .

97الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلاموَاللّهِ لاَ يَزَالُونَ حَتَّى لاَ يَدَعُوا لِلّهِ مُحَرَّماً إِلاَّ اسْتَحَلُّوهُ ، وَلاَ عَقْداً إِلاَّ حَلُّوهُ ، وَحَتَّى لاَ يَبْقَى بَيْتُ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ إِلاَّ دَخَلَهُ ظُلْمُهُمْ ، وَنَبَا بِهِ سُوءُ رِعَتِهِمْ ، وَحَتَّى يَقُومَ الْبَاكِيَانِ يَبْكِيَانِ : بَاكٍ يَبْكِي لِدِينِهِ ، وَبَاكٍ يَبْكِي لِدُنْيَاهُ ، وَحَتَّى تَكُونَ نُصْرَةُ أَحَدِكمْ مِنْ أَحَدِهِمْ كنُصْرَةِ الْعَبْدِ مِنْ سَيِّدِهِ ، إِذَا شَهِدَ أَطَاعَهُ ، وَإِذَا غَابَ اغْتَابَهُ ، وَحَتَّى يَكُونَ أَعْظَمُكُمْ فِيهَا . عَنَاءً أَحْسَنُكُمْ باِللّه ظَنّاً ، فَإِنْ أَتَاكُمُ اللّهُ بِعَافِيَةٍ فَاقْبَلُوا ، وَإِنِ ابْتُلِيتُمْ فَاصْبِرُوا ، فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ .

الشّرْحُ :تقدير الكلام : لا يزالون ظالمين ، فحذف الخبر وهو مراد ، وسدّت « حتى » وما بعدها مسدّ الخبر . والمحرّم : ما لا يحلّ انتهاكه ، وكذلك المحرَمة بفتح الراء وضمها . وبيوت المدر : هي البيوت المبنية في القرى ، وبيوت الوبر : ما يتّخذ في البادية من وبر الإبل والوبر لها كالصوف للضأن ، وكالشعر للمعِز . ونبا به منزله : إذا ضرّه ولم يوافقه ، وكذلك نبا به فِراشُه ، فالفعل لازم ، فإذا أردت تعديتَه بالهمزة قلتَ : قد أنبى فلان على منزلي ، أي جعله نابيا ، وإنْ عدّيته بحرف الجر قلت : قد نبا بمنزلي فلان ، أي أنباه عليّ ، وهو في هذا الموضع معدّىً بحرف الجرّ . وسوء رعتهم ، أي سوء ورعهم ، أي تقواهم . والورِع بكسر الراء : الرجل التقيّ ، ورع

.

ص: 340

98 . من خطبة له عليه السلام في وصف الدنيا

يرِع بالكسر فيهما ورعاً وَرِعَةً ، ويروى : « سوء رَعْيهم » أي سوء سياستهم وإمرتهم . ونصرة أحدكم من أحدهم ، أي انتصاره منه وانتقامه ، فهو مصدر مضاف إلى الفاعل ، وقد تقدم شرح هذا المعنى . وقد حمل قوم هذا المصدر على الإضافة إلى المفعول ، وكذلك نُصْرة العبد . وتقدير الكلام حتى يكون نصرُة أحد هؤلاء الولاة لأحدكم كنصرة سيّد العبد السيء الطريقة إياه ، والضمير في قوله : « فيها » يرجع إلى غير مذكور لفظاً ، ولكنه كالمذكور ؛ يعني الفتنة ، أي حتى يكون أعظمكم في الفتنة غناء . ويروى برفع : « أعظمكم » ونصب « أحسنكم » والأول أليق ، وهذا الكلام كلّه إشارة إلى بني أُميّة .

98الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامنَحْمَدُهُ عَلَى مَا كَانَ ، وَنَسْتَعِينُهُ مِنْ أَمْرِنا عَلَى مَا يَكُونُ ، وَنَسْأ لُهُ الْمُعَافَاةَ فِي الْأَدْيَانِ ، كَمَا نَسَأ لُهُ الْمُعَافَاةَ فِي الأَبْدَانِ . أُوصِيكُمْ بِالرَّفْضِ لِهذِهِ الدُّنْيَا التَّارِكَةِ لَكُمْ وَإِنْ لَمْ تُحِبُّوا تَرْكَهَا ، وَالْمُبْلِيَةِ لِأَجْسَامِكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ تَجْدِيدَهَا ، فَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُهَا كَسَفْرٍ سَلَكُوا سَبِيلاً فَكَأ ن_َّهُمْ قَدْ قَطَعُوهُ ، وَأَمُّوا عَلَماً فَكَأ ن_َّهُمْ قَدْ بَلَغُوهُ . وَكَمْ عَسَى المُجْرِي إِلَى الْغَايَةِ أَنْ يَجْرِيَ إِلَيْهَا حَتَّى يَبْلُغَهَا ! وَمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَقَاءُ مَنْ لَهُ يَوْمٌ لاَ يَعْدُوهُ ، وَطَالِبٌ حَثِيثٌ مِنَ الْمَوْتِ يَحْدُوهُ وَمُزْعِجٌ فِي الدُّنْيَا عن الدُّنيا حَتَّى يُفَارِقَهَا رَغْماً ! فَ_لاَ تَنَافَسُوا فِي عِزِّ الدُّنْيَا وَفَخْرِهَا ، وَلاَ تَعْجَبُوا بِزِينَتِهَا وَنَعِيمِهَا ، وَلاَ تَجْزَعُوا مِنْ ضَرَّائِهَا وبُؤسِهَا ، فَإِنَّ عِزَّهَا وَفَخْرَهَا إِلَى انْقِطَاع ، وَزِينَتَهَا وَنَعِيمَهَا إِلَى زَوَالٍ ، وَضَرَّاءَهَا وَبُؤسَهَا إِلَى نَفَادٍ ، وَكُلُّ مُدَّةٍ فِيهَا إِلَى انْتِهَاءٍ ، وَكُلُّ حَيٍّ فِيهَا إِلَى فَنَاءٍ . أَوَلَيْسَ لَكُمْ فِي

.

ص: 341

آثَارِ الْأَوَّلِينَ مُزْدَجَرٌ ، وَفِي آبَائِكُمْ الْأَوَّلِينَ تَبْصِرَةٌ وَمُعْتَبَرٌ ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ؟ أَوَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْمَاضِينَ مِنْكُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ، وَإِلَى الْخَلَفِ الْبَاقِينَ لاَ يَبْقَوْنَ ؟! أَوَلَسْتُمْ تَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا يُصْبِحُونَ وَيُمْسُونَ عَلَى أَحْوَالٍ شَتَّى : فَمَيِّتٌ يُبْكَى ، وَآخَرُ يُعَزَّى ، وَصَرِيعٌ مُبْتَلىً ، وَعَائِدٌ يَعُودُ ، وَآخَرُ بِنَفْسِهِ يَجُودُ ، وَطَالِبٌ لِلدُّنْيَا وَالْمَوْتُ يَطْلُبُهُ ، وَغَافِلٌ وَلَيْسَ بِمَغْفُولٍ عَنْهُ؛ وَعَلَى أَثَرِ الْمَاضِي مَا يَمْضِي الْبَاقِي ؟! أَلاَ فَاذْكُرُوا هَادِمَ اللَّذَّاتِ ، وَمُنَغِّصَ الشَّهَوَاتِ ، وَقَاطِعَ الْأُمْنِيَاتِ ، عِنْدَ الْمُسَاوَرَةِ لِلْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ؛ وَاسْتَعِينُوا اللّهَ عَلَى أَدَاءِ وَاجِبِ حَقِّهِ ، وَمَا لاَ يُحْصَى مِنْ أَعْدَادِ نِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ .

الشّرْحُ :لما كان الماضي معلوما جعل الحمد بإزائه ؛ لأنّ المجهول لا يحمَد عليه ، ولما كان المستقبل غيرَ معلوم جعل الاستعانة بإزائه ؛ لأنّ الماضيَ لا يُستعان عليه ، ولقد ظَرُف وأبدع عليه السلام في قوله : « ونسألُه المعافاة في الأديان ، كما نسأله المعافاة في الأبدان » ، وذلك أنّ للأديان سُقْما وطبّا وشفاء ، كما أنّ للأبدان سُقما وطبّا وشفاء . قوله عليه السلام : « الدنيا التاركة لكم وإن لم تحبُّوا تركها » معنىً حسن ، ومنه قول أبي الطّيّب : كلّ دَمْعٍ يسيلُ منها عليْهَاوبفكّ اليدينِ عنها تُخَلّي والرفض : التَّرْك ؛ وإبل رَفْض : متروكة ترعى حيث شاءت . وقوم سَفْر ، أي مسافرون . وأمُّوا : قصدوا . والعَلَم : الجبل أو المنار في الطريق يهتدى به . وكأنّ في هذه المواضع كهي في قوله : « كأنّك بالدنيا لم تكُنْ ، وكأنّك بالآخرة لم تزل ، ما أقرب ذلك وأسرعه ! » ، وتقدير الكلام هاهنا : كأنّهم في حال كونهم غير قاطعين له قاطعون له ، وكأنهم في حال كونهم غيرَ بالغين له بالغون له ؛ لأ نّه لما قرب زمان إحدى الحالتيْن من زمان الأُخرى شُبِّهوا وهم في الحال الأُولى بهم أنفسِهم وهم على الحال الثانية . قوله عليه السلام : « وكم عسى المجرى » أجْرَى فلان فرسه إلى الغاية إذا أرسلها ، ثم نقل ذلك إلى كلّ مَنْ يقصِد بكلامه معنىً أو بفعله غرضا ، فقيل : فلان يجرِي بقوله إلى كذا ، أو يجرِي

.

ص: 342

99 . من خطبة له عليه السلام يذكر فيها محمداً صلّى اللّه عليه وما تركه

بحركته الفلانية إلى كذا ، أي يقصد وينتهي بإرادته وأغراضه ولا يعدوه ولا يتجاوزه . والحثيث : السريع . ويحدوه : يسوقه . والمنافسة : المحاسدة ، ونفست عليه بكذا ، أي ضَنِنت . والبُؤْس : الشدّة . والنفاد : الفناء . وما في قوله : « على أثر الماضي ما يمضي الباقي » إمّا زائدة أو مصدرية . قوله عليه السلام : « عند مساورة الأعمال القبيحة » العامل في « عند » قوله : « اذكروا » أي ليكن ذكرُكم الموت وقت مساورتِكم ، والمساورة : المواثبة ، وسارَ إليه يَسُور سَوْرا : وثب .

99الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامالْحَمْدُ للّه النَّاشِرِ فِي الْخَلْقِ فَضْلَهُ ، وَالْبَاسِطِ فِيهمْ بِالْجُودِ يَدَهُ . نَحْمَدُهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ ، وَنَسْتَعِينُهُ عَلَى رِعَايَةِ حُقُوقِهِ ، وَنََشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ غَيْرُهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، أَرْسَلَهُ بِأَمْرِهِ صَادِعاً ، وَبَذِكْرِهِ نَاطِقاً ، فَأَدَّى أَمِيناً ، وَمَضَى رَشِيداً؛ وَخَلَّفَ فِينَا رَايَةَ الْحَقِّ ، مَنْ تَقَدَّمَهَا مَرَقَ ، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا زَهَقَ ، وَمَنْ لَزِمَهَا لَحِقَ ، دَلِيلُهَا مَكِيثُ الْكَ_لاَمِ ، بَطِيءُ الْقِيَامِ ، سَرِيعٌ إِذَا قَامَ . فَإِذَا أَنْتُمْ أَلَنْتُمْ لَهُ رِقَابَكُمْ ، وَأَشَرْتُمْ إِلَيْهِ بِأَصَابِعِكُمْ ، جَاءَهُ الْمَوْتُ فَذَهَبَ بِهِ ، فَلَبِثْتُمْ بَعْدَهُ مَا شَاءَ اللّهُ حَتَّى يُطْلِعَ اللّهُ لَكُمْ مَنْ يَجْمَعُكُمْ وَيَضُمُّ نَشْرَكُمْ ، فَ_لاَ تَطْمَعُوا فِي غَيْرِ مُقْبِلٍ ، وَلاَ تَيْأَسُوا مِنْ مُدْبِرٍ ، فَإِنَّ الْمُدْبِرَ عَسَى أَنْ تَزِلَّ بِهِ إِحْدَى قَائِمَتَيْهِ ، وَتَثْبُتَ الْأُخْرى ، فَتَرْجِعَا حَتَّى تَثْبُتَا جَمِيعاً . أَلاَ إِنَّ مَثَلَ آلِ مُحَمَّدٍ ، صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ، كَمَثَلِ نُجُومِ السَّمَاءِ : إِذَا خَوَى نَجْمٌ طَلَعَ نَجْمٌ . فَكَأَنَّكُمْ قَدْ تَكَامَلَتْ مِنَ اللّهِ فِيكُمُ الصَّنَائِعُ ، وَأَرَاكُمْ مَا كُنْتُمْ تَأْمُلُونَ .

.

ص: 343

الشّرْحُ :يده هاهنا : نعمته ، يقال : لفلان عندي يد ، أي نعمة وإحسان ، قال الشاعر : فإنْ ترجع الأيامُ بيني وبينَهافإنّ لها عندي يداً لا أُضيعها وصادعاً ، أي مظهراً ومجاهراً للمشركين ، قال تعالى : « فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ » (1) . وراية الحقّ : الثَّقَلان المخلّفان بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ؛ وهما الكتاب والعِتْرة (2) . ومَرَق : خرج ، أي فارق الحَقّ ، ومرق السهم عن الرميّة : خرج من جانبها الآخر ، وبه سُمِّيت الخوارج مارقة. وزهَقَت نفسه ، بالفتح زُهوقاً ، أي خرجت ، قال تعالى : « وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافرونَ» (3) . وزهَقَت الناقة ؛ إذا سبقت وتقدّمت أمام الرِّكاب ، وزهقَ الباطل : اضمحلّ ، يقول عليه السلام : مَنْ خالفها متقدّماً لها أو متأخرا عنهاً فقد خرج عن الحق ، ومن لازمها فقد أصابَ الحق . ثم قال : « دليلها مكيث الكلام » ، يعني نفسَه عليه السلام ؛ لأ نّه المشارُ إليه من العِتْرة ، وأعلمُ النّاس بالكتاب . ومكيث الكلام : بطيؤه ، ورجل مَكِيث ، أي رزين ، والمُكْث : اللَّبث والانتظار ، مَكَثَ ومكُث بالفتح والضم ، والاسم المُكْث والْمُكْثة بالضم وكسرها ، يعني أنه ذو أناة وتؤدة ، ثم أكّد ذلك بقوله : « بطيء القيام » . ثم قال : « سريع إذا قام » ، أي هو متأنٍّ متثبّت في أحواله ، فإذا نهض جَدّ وبالغ ، وهذا المعنى كثير جداً . واعلم أن هذه الخطبة خطبَ بها أمير المؤمنين عليه السلام في الجمعة الثالثة من خلافته ، وكَنّى فيها عن حال نفسه ، وأعلمهم فيها أنّهم سيفارقونه ويفقدونه بعد اجتماعهم عليه ، وطاعتهم له ، وهكذا وقع الأمر ، فإنه نُقِل أنّ أهل العراق لم يكونوا أشدَّ اجتماعا عليه من الشهر الذي قُتِل فيه عليه السلام . ومعنى قوله : « ألنتم له رقابَكم » أطعتموه ؛ ومعنى « أشرتم إليه بأصابعكم » أعظمتموه وأجللتموه ، كالملك الذي يشار إليه بالإصبع ، ولا يخاطب باللسان . ثم أخبرهم أنّهم يلبثون بعده ما شاء اللّه ، ولم يحدّد ذلك بوقت معين . ثم يطلع اللّه لهم مَنْ يجمعهم ويضمّهم ، يعني من

.


1- .سورة الحجر 94 .
2- .المعجم الكبير للطبراني 5 : 167 / ح4970 ، صحيح مسلم 5 : 25 _ 26 ح2408 ، المستدرك على الصحيحين 3 : 118 و160 ح4576 و4711 . الصواعق المحرقة : ص149 ، البداية والنهاية لابن كثير 5 : 228 و7 : 386 ، السنن الكبرى للبيهقي 7 : 30 .
3- .سورة التوبة 85 .

ص: 344

100 . من خطبة له عليه السلام ، وهي من الخطب التي تشتمل على ذكر الملاحم

أهل البيت : ، وهذا إشارة إلى المهديّ الذي يظهر في آخر الوقت . قوله عليه السلام : « فلا تطمعوا في غيرِ مقبل ، ولا تيأسوا من مدبر » ، ظاهر هذا الكلام متناقض ، وتأويله أ نّه نهاهم عن أن يطمعوا في صلاح أُمورهم على يد رئيس غير مستأنف الرياسة ؛ وهو معنى مقبل أي قادم ، تقول : سوف أفعل كذا في الشهر المقبل ، وفي السنة المقبلة ، أي القادمة ، يقول : كلّ الرئاسات التي تشاهدونها فلا تطمعوا في صلاح أُموركم بشيء منها ، وإنّما تنصلح أُموركم علي يد رئيس يقدم عليكم ، مستأنف الرئاسة خامل الذكر ؛ ليس أبوه بخليفة ، ولا كان هو ولا أبوه مشهورين بينكم برئاسة ، بل يتبع ويعلو أمرُه ، ولم يكن قبل معروفا هو ولا أهله الأدنوْن ، وهذه صفة المهديّ الموعود به . ومعنى قوله : « ولا تيأسوا من مدبر » ، أي وإذا مات هذا المهديّ وخلفه بنوه بعده ، فاضطرب أمر أحدهم فلا تيأسوا وتشككوا ، وتقولوا : لعلنا أخطأنا في اتباع هؤلاء ؛ فإنّ المضطرب الأمر منّا ستثبتُ دعائمه ، وتنتظمُ أُموره ، وإذا زلّت إحدى رجليه ثبتت الأُخرى فثبتت الأُولى أيضا . ويروى : « فلا تطعنوا في عين مقبل » ، أي لا تحارِبُوا أحدا منا ولا تيأسوا من إقبال مَنْ يدبر أمره منا . ثم ذكر عليه السلام أنّهم كنجوم السماء ، كلّما خوى نجم طلع نجم . خوى : مال للمغيب . ثم وعدهم بقرب الفرج ، فقال : إنّ تكامل صنائع اللّه عندكم ، ورؤية ما تأملونه أمر قد قَرُب وقته ، وكأنكم به وقد حضر وكان ، وهذا على نمط المواعيد الإلهية بقيام الساعة ؛ فإنّ الكتب المنزلة كلّها صرحت بقربها ، وإن كانت بعيدة عندنا ؛ لأنّ البعيد في معلوم اللّه قريب ، وقد قال سبحانه : « إنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدا * وَنَرَاهُ قَرِيبا » (1) .

100الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامالْحَمْدُ للّهِ الْأَوَّلِ قَبْلَ كُلِّ أَوِّلٍ ، وَالآخِرِ بَعْدَ كُلِّ آخِرٍ ، وَبِأَوَّلِيَّتِهِ وَجَبَ أَنْ لاَ أَوَّلَ لَهُ ،

.


1- .سورة المعارج 6 _ 7 .

ص: 345

وَبِآخِرِيَّتِهِ وَجَبَ أَنْ لاَ آخِرَ لَهُ .

الشّرْحُ :يقول : الباري تعالى موجود قبل كلّ شيء ، يشير العقل إليه ويفرضه أول الموجودات ، وكذلك هو موجود بعد كلّ شيء ، يشير العقل إليه ويفرضه آخر ما يبقى من جميع الموجودات ؛ فإن البارئ سبحانه بالاعتبار الأول يكون أولاً قبل كلّ ما يفرض أولاً ، وبالاعتبار الثاني يكون آخراً بعد كل ما يفرض آخراً . فأمّا قوله : « بأوليّته وجب أن لا أوّل له ... » إلى آخر الكلام ، فيمكن أن يفسّر على وجهين : أحدُهما : أ نّه تعالى لما فرضناه أولاً مطلقاً ، تبع هذا الفرض أن يكون قديما أزليّا ، وهو المعنيّ بقوله : « وجب أن لا أوّل » وإنما تبعه ذلك ، لأ نّه لو لم يكن أزلياً لكان محدَثاً فكان له محدِث ، والمحدِث متقدّم على المحدَث ؛ لكنا فرضناه أولاً مطلقاً ، أي لا يتقدّم عليه شيء ، فيلزم المحال والخلف . وهكذا القول في آخريّته ، لأنا إذا فرضناه آخراً مطلقاً ؛ تبع هذا الفرض أن يكون مستحيل العدم ، وهو المعنيّ بقوله : « وجب أن لا آخر له » . والتفسير الثاني : ألاّ تكون الضمائر الأربعة راجعة إلى الباري سبحانه ، بل يكون منها ضميران راجعين إلى غيره ، ويكون تقدير الكلام بأوليّة الأول الذي فرضنا كون البارئ سابقا عليه ، علمنا أن البارئ لا أول له ، وبآخرية الآخر الذي فرضنا أنّ البارئ متأخر عنه ، علمنا أنّ البارئ لا آخر له ، وإنّما علمنا ذلك لأ نّه لو كان سبحانه أولاً لأول الموجودات وله مع ذلك أول لزم التسلسل ، وإثبات محدِثين ومحدَثين إلى غير نهاية ، وهذا محال . ولو كان سبحانه آخراً لآخر الموجودات وله مع ذلك آخر لزم التسلسل ، وإثبات أضداد تعدم ويعدمها غيرها إلى غير نهاية ، وهذا أيضا محال .

الأصْلُ :وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّهُ شَهَادَةً يُوَافِقُ فِيهَا السِّرُّ الاْءِعْلاَنَ ، وَالْقَلْبُ اللِّسَانَ . أَيُّهَا النَّاسُ ، لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي ، وَلاَ يَسْتَهْوِيَنَّكُمْ عِصْيَانِي ، وَلاَ تَتَرَامَوْا بِالْأَبْصَارِ عِنْدَمَا تَسْمَعُونَهُ مِنِّي . فَوَالِّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ ، إِنَّ الَّذِي أُنَبِّ_ئُكُمْ بِهِ عَنِ

.

ص: 346

النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَاللّهِ 1 مَا كَذَبَ الْمُبَلِّغُ ، وَلاَ جَهِلَ السَّامِعُ . لَكَأَنِّيأَنْظُرُ إِلَى ضِلِّيلٍ قَدْ نَعَقَ بِالشَّامِ ، وَفَحَصَ بِرَايَاتِهِ فِي ضَوَاحِي كُوفَانَ . فَإِذَا فَغَرَتْ فَاغِرَتُهُ ، وَاشْتَدَّتْ شَكِيمَتُهُ ، وَثَقُلَتْ فِي الْأَرْضِ وَطْأَتُهُ ، عَضَّتِ الْفِتْنَةُ أَبْنَاءَهَا بِأَنْيَابِهَا ، وَمَاجَتِ الْحَرْبُ بِأَمْوَاجِهَا ، وَبَدَا مِنَ الْأَيَّامِ كُلُوحُهَا ، وَمِنَ اللَّيَالِي كُدُوحُهَا . فَإِذَا أَيْنَعَ زَرْعُهُ ، وَقَامَ عَلَى يَنْعِهِ ، وَهَدَرَتْ شَقَاشِقُهُ ، وَبَرَقَتْ بَوَارِقُهُ ، عُقِدَتْ رَايَاتُ الْفِتَنِ الْمُعْضِلَةِ ، وَأَقْبَلْنَ كَاللَّيْلِ المُظْلِمِ ، وَالْبَحْرِ الْمُلْتَطِمِ . هذا ، وَكَمْ يَخْرِقُ الْكُوفَةَ مِنْ قَاصِفٍ وَيَمُرُّ عَلَيْهَا مِنْ عَاصِفٍ ! وَعَنْ قَلِيلٍ تَلْتَفُّ الْقُرُونُ بِالْقُرُونِ ، وَيُحْصَدُ الْقَائِمُ ، وَيُحْطَمُ الْمحْصُودُ!

الشّرْحُ :في الكلام محذوف ، وتقديره : « لا يجرمنكم شقاقي على أن تكذبوني » ، والمفعول فضلة وحذفه كثير . لا يجرمنّكم: لا يحملنّكم، وقيل: لا يكسبنّكم ، وهو من الألفاظ القرآنية . ولا يستهوينَّكم: أي لا يستهيمنّكم ، يجعلكم هائمين . ولا تترامَوْا بالأبصار، أي لا يلحَظُ بعضكم بعضا ؛ فعلَ المنكرِ المكذّب . ثم أقسم بالذي فَلَق الحبّة، وبرأ النسمة، فَلَق الحبّة من البر، أي شقّها وأخرج منها الوَرق الأخضر . وبرأ النّسمة ، أي خلق الإنسان، وهذا القَسَم لا يزال أميرُ المؤمنين يُقسِم به، وهو من مبتكراته ومبتدعاته . والمبلّغ والسامع هو نفسه (1) عليه السلام ، يقول : ما كذبتُ على الرسول

.


1- .ذكر الشارح : « عنى عليه السلام بالمبلّغ والسامع مع نفسه عليه السلام » . وهو محل نظر ، بل ظاهر السياق والأوفق بالمعنى ، أنْ يكون المراد بالمبلّغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم والسامع نفسه ، وهو جلي بعد أدنى تأمّل . « الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ، في تعليقته على شرح النهج لمحمد عبده المخطوطة » .

ص: 347

تعمّدا ، ولا جهلت ما قاله فأنقل عنه غلطاً . والضِّلّيل : الكثير الضلال ، كالشِّرّيب والفِسّيق ونحوهما . وهذا كناية عن عبد الملك بن مروان ؛ لأنّ هذه الصفات والأمارات فيه أتمّ منها في غيره ؛ لأ نّه قام بالشام حين دَعَا إلى نفسه ، وهو معنى نعيقه ، وفَحَصت راياته بالكوفة ، تارة حين شخص بنفسه إلى العراق وقَتل مُصعباً ، وتارةً لمّا استخلَف الأُمراء على الكوفة كبشْر بن مروان أخيه وغيره ، حتى انتهى الأمر إلى الحجّاج ، وهو زمان اشتداد شكيمة عبد الملك وثِقَل وطأته ، وحينئذٍ صَعُب الأمر جِدّا ، وتفاقمت الفِتَن مع الخوارج وعبد الرحمن بن الأشعث ، فلمّا كَمَل أمرُ عبد الملك _ وهو معنى « أينع زرعه » _ هلك ، وعقدت رايات الفتن المعضلة من بعده ، كحروب أولاده مع بني المهلّب ، وكحروبهم مع زيد بن علي عليه السلام ، وكالفتن الكائِنة بالكوفة أيام يوسف بن عمر وخالد القسريّ وعمر بن هبيرة وغيرهم ، وما جرى فيها من الظلم واستئصال الأموال ، وذهاب النفوس . وقد قيل : إنه كَنَى عن معاوية وما حدَث في أيامه من الفتن ، وما حدث بعده من فتنة يزيد ، وعبيد اللّه بن زياد ، وواقعة الحسين عليه السلام ، والأوّل أرجح ؛ لأنّ معاوية في أيام أمير المؤمنين عليه السلام كان قد نعَقَ بالشام ، ودعاهم إلى نفسه ، والكلام يدل على إنسان ينعق فيما بعد ، ألا تراه يقولُ : لكأنّي أنظر إلى ضلّيل قد نَعَق بالشام! ثم نعود إلى تفسير الألفاظ والغريب . النعيق : صوت الراعِي بغنمه ، وفَحَص براياته ، من قولهم : ما له مفحَص قطاة ، أي مجثمها ، كأنهم جعلوا ضواحيَ الكوفة مفحَصا ومجثما لراياتهم . وكوفان : اسم الكوفة ، والكوفة في الأصل : اسم الرملة الحمراء ، وبها سمّيت الكوفة . وضواحيها : نواحيها القريبة منها البارزة عنها ؛ يريد رُسْتاقها . وفغرت فاغرته : فتح فاه ، وهذا من باب الاستعارة ، أي إذا فتك فتح فاه وقتل ؛ كما يفتح الأسد فاه عند الافتراس ، والتأنيف للفتنة . والشكيمة في الأصل : حديدة معترِضة في اللجام في فم الدابة ، ثم قالوا : فلان شديدُ الشّكيمة ، إذا كان شديدَ المراس شديد النفس عَسِر الانقياد . ثقلت وطأته : عظم جَوْره وظلمه . وكلوح الأيام : عبوسها . والكدوح : الآثار من الجراحات ، والكدوح : الواحد الكَدْح ، أي الخدش .

.

ص: 348

101 . من خطبة اُخرى له عليه السلام تجري هذا المجرى

والمراد من قوله : « من الأيام » ، ثم قال : « ومن الليالي » أنّ هذه الفتنة مستمرة الزمان كلّه ؛ لأنّ الزمان ليس إلاّ النهار والليل . وأينع الزرع : أدرك ونضج ؛ وهو الينَعْ واليُنْع ، بالفتح والضم ؛ مثل النَّضج والنُّضج . وقوله عليه السلام : « وقام على ينعه » الأحسن أن يكون « ينع » هاهنا جمع يانع كصاحب وصَحْب ، ذكر ذلك ابن كَيْسان ؛ ويجوز أن يكون أراد المصدر ، أي وقام على صفة وحالة هي نضجه وإدراكه . وهدرت شقاشِقه ، قد مرّ تفسيره في الشِّقشقية وبرقت بوارقه : سيوفه ورماحه . والمعضلة : العسرة العلاج داء معضل . ويخرق الكوفة : يقطعها . والقاصف : الريح القوية تكسِر كلّ ما تمر عليه وتقصفه . ثم وعد عليه السلام بظهور دولة أُخرى ، فقال : « وعن قليل تلتفّ القرون بالقرون » ، وهذا كناية عن الدولة العباسية التي ظهرت على دولة بني أُميّة . والقُرون : الأجيال من الناس ، واحدها قَرنْ ، بالفتح . ويحصَد القائم ، ويَحْطِم المحصود : كناية عن قتل الأُمراء من بني أُميّة في الحرب ، ثم قتل المأسورين منهم صَبْرا ، فحصْد القائم قتل المحاربة ، وحَطمْ الحصِيد : القتل صبراً ، وهكذا وقعت الحال مع عبد اللّه بن علي ، وأبي العباس السفاح .

101الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلام تجري هذا المجرىوَذلِكَ يَوْمٌ يَجْمَعُ اللّهُ فِيهِ الْأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لِنِقَاش الْحِسَابِ وَجَزَاءِ الْأَعْمَالِ ، خُضُوعاً ، قِياماً ، قَدْ أَلْجَمَهُمُ الْعَرَقُ ، وَرَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ ، فَأَحْسَنُهُمْ حَالاً مَنْ وَجَدَ لِقَدَمَيْهِ مَوْضِعاً ، وَلِنَفْسِهِ مُتَّسَعاً .

الشّرْحُ :هذا شرح حال يوم القيامة ، والنّقاش : مصدر ناقش ، أي استقصى في الحساب ، وفي الحديث : « من نوقش الحساب عذّب » . وألجمهم العَرق : سال منهم حتى بلغ إلى موضع

.

ص: 349

اللجام من الدابة ، وهو الفم . ورجفت بهم : تحرّكت واضطربت ، رجف يرجُفُ بالضم ؛ والرّجفة : الزلزلة . والرجّاف من أسماء البحر ؛ سمّي بذلك لاضطرابه . ثم وصف الزحام الشديد الذي يكون هناك ، فقال : أحسنُ الناس حالاً هناك منْ وَجَد لقدميْه موضعاً ، ومَنْ وجد مكاناً يسعه .

الأصْلُ :ومنها :فِتَنٌ كَقِطَعِ الْلَّيْلِ الْمُظلِمِ ، لاَ تَقُومُ لَهَا قَائِمَةٌ ، وَلاَ تُرَدُّ لَهَا رَايَةٌ ، تَأْتِيكُمْ مَزْمُومَةً مَرْحُولَةً : يَحْفِزُهَا قَائِدُهَا ، وَيَجْهَدُهَا رَاكِبُهَا ، أَهْلُهَا قَوْمٌ شَدِيدٌ كَلَبُهُمْ ، قَلِيلٌ سَلَبُهُمْ ، يُجَاهِدُهُمْ فِي اللّهِ قَوْمٌ أَذِلَّةٌ عِنْدَ الْمُتَكَبِّرِينَ ، فِي الْأَرْض مَجْهُولُونَ ، وَفِي السَّمَاءِ مَعْرُوفُونَ . فَوَيْلٌ لَكِ يَا بَصْرَةُ عِنْدَ ذلِكَ ، مِنْ جَيْشٍ مِنْ نِقَمِ اللّهِ ! لاَ رَهَجَ لَهُ ، وَلاَ حَسَّ ، وَسَيُبْتَلَى أَهْلُكِ بِالْمَوْتِ الْأَحْمَرِ ، وَالْجُوعِ الْأَغْبَرِ!

الشّرْحُ :قطع الليل : جمع قِطْع ، وهو الظلمة ، قال تعالى : « فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيلِ» (1) . قوله : « لا تقوم لها قائمة » ، أي لا تنهض بحربها فئة ناهضة ، أو لا تقوم لتلك الفتن قائمة من قوائم الخيل ، يعني لا سبيل إلى قتال أهلها ، ولا يقوم لها قلعة قائمة أو بنيَّة قائمة بل تنهدم . قوله : « ولا يردّ لها راية » ، أي لا تنهزم ولا تفرّ ؛ لأنها إذا فرّت فقد رُدّتْ على أعقابها. قوله : « مزمومة مرحولة » ، أي تامّة الأدوات كاملة الآلات ، كالناقة التي عليها رَحْلها وزمامها قد استعدّت لأنّ تُركب . يحفزها : يدفعها . ويجهَدها : يحمل عليها في السَّيْر فوق طاقتها ، جَهَدتْ دابّتي ، بالفتح ، ويجوز : أجهدت ، والمراد أنّ أربَاب تلك الفتن يجتهدون ويجدّون في إضرام نارها ، رجلاً وفرساناً ، فالرّجل كنّى عنهم بالقائد ، والفرسان كنّى عنهم

.


1- .سورة هود 81 .

ص: 350

102 . من خطبة له عليه السلام في التزهيد ووصف الناس في بعض الأزمان

بالراكب . والكَلب : الشدّة من البرد وغيره ، ومثله الكُلْبة ، وقد كَلِب الشتاء ، وكَلِب القحط ، وكَلِب العدوّ ، والكَلَب أيضا : الشّرّ ، دفعت عنك كَلَب فلان ، أي شرّه وأذاه . وقوله : « قليل سَلَبُهم » ، أي همهم القتل لا السلب . ثم ذكر عليه السلام أنّ هؤلاء أرباب الفتن يجاهدهم قوم أذلة ، كما قال اللّه تعالى : « أذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين » (1) ، وذلك من صفات المؤمنين . ثم قال : هم مجهولون عند أهل الأرض لخمولهم قبل هذا الجهاد ؛ ولكنهم معروفون عند أهل السماء ، وهذا إنذار بملحَمةٍ تجري في آخر الزمان ؛ وقد أخبر النبي صلى الله عليه و آله وسلم بنحو ذلك . ثم أخبر بهلاك البصرة بجيش من نِقم اللّه لا رَهَج له ولاَ حسّ ، الرَّهج : الغبار ، وكنّى بهذا الجيش عن جَدْب وطاعون يصيب أهلَها حتى يبيدَهم . والموت الأحمر ، كناية عن الوباء والجوع . الأغبر : كناية عن المحْل ، وسمِّي الموت الأحمر لشدّته ، ومنه الحديث : كنا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول اللّه . ووصف الجوع بأنه أغبر ؛ لأنّ الجائع يرى الآفاق كأنّ عليها غبرة وظلاما ، وفسر قوم هذا الكلام بوقعة صاحب الزَّنج ، وهو بعيد ؛ لأنّ جيشه كان ذا حسّ ورهَج .

102الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامانْظُرُوا إِلى الدُّنْيَا نَظَرَ الزَّاهِدِينَ فِيهَا ، الصَّادِفِين عَنْهَا؛ فَإِنَّهَا وَاللّهِ عَمَّا قَلِيلٍ تُزِيلُ الثَّاوِيَ السَّاكِنَ ، وَتَفْجَعُ الْمُتْرَفَ الاْمِنَ؛ لاَ يَرْجِعُ مَا تَوَلَّى مَنْهَا فَأَدبَرَ ، وَلاَ يُدْرَى مَا هُوَ آتٍ مِنْهَا فَيُنْتَظَر . سُرُورُهَا مَشُوبٌ بِالْحُزْنِ ، وَجَلَدُ الرِّجَالِ فِيهَا إِلَى الضَّعْفِ وَالوَهْنِ ، فَ_لاَ يَغُرَّنَّكُمْ كَثْرَةُ مَا يُعْجِبُكُمْ فِيهَا لِقِلَّةِ مَا يَصْحَبُكُمْ مِنْهَا .

.


1- .سورة المائدة 54 .

ص: 351

رَحِمَ اللّهُ امْرَأً تَفَكَّرَ فَاعْتَبَرَ ، وَاعْتَبَرَ فَأَبْصَرَ ، فَكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ الدُّنْيَا عَنْ قَلِيلٍ لَمْ يَكُنْ ، وَكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ الآخِرَةِ عَمَّا قَلَيلٍ لَمْ يَزَلْ ، وَكُلُّ مَعْدُودٍ مُنْقَضٍ ، وَكُلُّ مُتَوَقَّعٍ آتٍ ، وَكُلُّ آتٍ قَرِيبٌ دَانٍ .

الشّرْحُ :الصادفين عنها ، أي المعرضين ، وامرأة صدوف : التي تعرض وجهها عليك تصدِف عنك . وعَمّا قليل : عن قليل ، وما زائدة . والثاوي : المقيم ، ثوى يثوِي ثواءً وثُوِيّا ، مثل مضى يمضي مضاءً ومُضيّا ، ويجوز ثويتُ بالبصرة وثويت البصرة ، وجاء « أثويتُ بالمكان » ، لغة في «ثويت». والمترَف : الذي قد أترفْته النعمة ، أي أطغتْه ، يقول عليه السلام : لا يعود على الناس ما أدبر وتولّى عنهم من أحوالهم الماضية ، كالشباب والقوّة ، ولا يُعلم حال المستقبل من صحّة أو مرض ، أو حياة أو موت لينتظر . ومشوب : مخلوط . شبته أشوبه فهو مشوب . والجلَد : الصلابة والقوة . والوهَن : الضعف نفسه . ثم نهى عن الاغترار بكثرة العُجْب من الدنيا ، وعلّل حسنَ هذا النهي ، وقبّح الاغترار بما نشاهده عياناً من قِلّة ما يصحب مفارِقيها منها . ثم جعل التفكّر علة الاعتبار ، وجعل الاعتبار علّة الإبصار ، وهذا حقّ ؛ لأنّ الفكر يوجب الاتّعاظ ، والاتّعاظ يُوجب الكشف والمشاهدة بالبصيرة التي نورها الاتّعاظ . ثم ذكر أنّ ما هو كائن وموجود من الدنيا سيصير عن قليل _ أي بعد زمان قصير _ معدوما ، والزمان القصير هاهنا : انقضاء الأجل وحضور الموت . ثم قال : إنّ الذي هو كائن وموجود من الآخرة سيصير عن قليل _ أي بعد زمان قصير أيضا _ كأنّه لم يزل ، والزمان القصير هاهنا هو حضور القيامة ؛ وهي وإن كانت تأتي بعد زمان طويل ، إلاّ أنّ الميت لا يحسّ بطوله ، ثم قال : كلّ معدود منقضٍ ، وهذا تنبيه بطريق الاستدلال النظريّ على أنّ الدنيا زائلة ومنصرفة ؛ وقد استدلّ المتكلّمون بهذا على أنّ حركات الفلك يستحيل ألاّ يكون لها أول ، فقالوا : لأنها داخلة تحت العدد ، وكلّ معدود يستحيل أن يكون غير متَناهٍ . ثم ذكر أن كلّ ما يتوقع لابدّ أن يأتِيَ ، وكلّ ما سيأتي فهو قريب ، وكأنه قد أتى .

.

ص: 352

الأصْلُ :ومنها :الْعَالِمُ مَنْ عَرَفَ قَدْرَهُ ، وَكَفَى بِالْمَرءِ جَهْلاً أَلاَّ يَعْرِفَ قَدْرَهُ؛ وَإِنَّ مِنْ أَبْغَضِ الرِّجَالِ إِلَى اللّهِ تَعَالَى لَعَبْداً وَكَلَهُ اللّهُ إِلَى نَفْسِهِ ، جَائِراً عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ ، سَائِراً بَغَيْرِ دَلِيلٍ؛ إِنْ دُعِيَ إِلَى حَرْثِ الدُّنْيَا عَمِلَ ، وَإِنْ دُعِيَ إِلَى حَرْثِ الآخِرَةِ كَسِلَ ! كَأَنَّ مَا عَمِلَ لَهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ؛ وَكَأَنَّ مَا وَنَى فِيهِ سَاقِطٌ عَنْهُ!

الشّرْحُ :قوله عليه السلام : « العالم مَنْ عرف قدره » ، من الأمثال المشهورة عنه عليه السلام ، وقد قال الناس بعده في ذلك فأكثروا ، نحو قولهم : إذا جهلت قدر نفسك فأنت لقدر غيرك أجهل . ونحو قولهم : مَنْ لم يعرف قَدْرَ نفسِه ، فالناس أعذَرُ منه إذا لم يعرفوه . ثم عَبّر عن هذا المعنى بعبارة أُخرى ، فصارت مثلا أيضا ، وهي قوله : « كفى بالمرء جهلاً ألاّ يعرف قدره » . ثم ذكر عليه السلام أنّ مِنْ أبغض البَشَر إلى اللّه عبدا وكَلَه اللّه إلى نفسه ، أي لم يمدّه بمعونته وألطافه ؛ لعلمه أ نّه لا ينجع ذلك فيه ، وأ نّه لا ينجذب إلى الخير والطاعة ، ولا يؤثر شيء ما في تحريك دواعيه إليها ، فيكِلُه اللّه حينئذٍ إلى نفسه . والجائر : العادِل عن السَّمت ، ولما كان هذا الشقيّ خابطاً فيما يعتقده ويذهب إليه ، مستندا إلى الجهل وفساد النَّظر ، جعله كالسائر بغير دليل . والحرث هاهنا : كلّ ما يفعل ليثمر فائدة ، فحرث الدنيا كالتجارة والزراعة ، وحرث الآخرة فعل الطاعات واجتناب المقبحات والمعاصي ، وسمّي حرثاً على جهة المجاز ، تشبيهاً بحرْث الأرض ، وهو من الألفاظ القرآنية . وكَسِل الرجل بكسر السين ، يكسَل أي يتثاقل عن الأُمور ، فهو كسلان ، وقوم كَسالى وكُسالى بالفتح والضم . قال عليه السلام : حتّى كأن ما عمله من أُمور الدنيا هو الواجب عليه ، لحرصه وجدّه فيه ، وكأنّ ما وني عنه ، أي فتر فيه من أُمور الآخرة ساقط عنه وغير واجب عليه ؛ لإهماله وتقصيره فيه .

الأصْلُ :ومنها :وَذلِكَ زَمَانٌ لاَ يَنْجُو فِيهِ إِلاَّ كُلُّ مُؤمِنٍ نُوَمَةٍ ، إِنْ شَهِدَ لَمْ يُعْرَفْ ، وَإِنْ غَابَ لَمْ

.

ص: 353

يُفْتَقَدْ ، أُولَئِكَ مَصَابِيحُ الْهُدَى ، وَأَعْلاَمُ السُّرَى ، لَيْسُوا بِالْمَسَايِيحِ ، وَلاَ الْمَذَايِيعِ الْبُذُرِ ، أُولَئِكَ يَفْتَحُ اللّهُ لَهُمْ أَبْوَابَ رَحْمَتِهِ ، وَيَكْشِفُ عَنْهُمْ ضَرَّاءَ نِقْمَتِهِ . أَيُّهَا النَّاسُ ، سَيَأْتي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يُكْفَأُ فِيهِ الاْءِسْلاَمُ ،كَمَا يُكْفَأُ الاْءِنَاءُ بِمَا فِيهِ . أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ اللّهَ قَدْ أَعَاذَكُمْ مِنْ أَنْ يَجُورَ عَلَيْكُمْ ، وَلَمْ يُعِذْكُمْ مِنْ أَنْ يَبْتَلِيكُمْ ، وَقَدْ قَالَ جَلَّ مِنْ قَائِلٍ : « إِنَّ في ذلِكَ لاَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ » (1) .

قال الرضي رحمه الله : أمّا قوله عليه السلام : «كلّ مؤمِنٍ نُوَمَةٍ» فإنما أراد به الخامل الذكر القليل الشر ، والمساييح : جمع مِسياح ، وهو الذي يسيح بين الناس بالفساد والنمائم ، والمذاييع : جمع مِذْياع ، وهو الذي إذا سمع لغيره بفاحشة أذاعها ، ونوّه بها ، والبُذُرُ : جمع بَذُور وهو الذي يكثر سفهه ويلغو منطقه .

الشّرْحُ :شهد : حضر ، وكفأت الإناء ، أي قلبتُه وكببته . وقال ابن الأعرابيّ : يجوز أكفأته أيضاً ، والبُذُر : جمع بَذُور مثل صَبُور وصُبُر ؛ وهو الذي يذيع الأسرار ، وليس كما قال الرضي رحمه الله ، فقد يكون الإنسان بَذُوراً وإن لم يكثُر سفهه ولم يلغ منطقة ؛ بأن يكون عُلنَة مذياعاً من غير سفه ولا لغو . والضرّاء : الشدّة ، ومثلها البأساء ؛ وهما اسمان مؤنثان من غير تذكير . ومثل قوله عليه السلام : « كلّ مؤمن نُوَمة إنْ شهد لم يعرَف وإن غاب لم يفتقد » ، قولُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : « رب أشعثَ أغبر ذي طِمْرين لا يُؤْبَه له ، لو أقسم على اللّه لأبرّ قسمه » . ومعنى قوله عليه السلام : « وإن غاب لم يفتقد » ، أي لا يقال : ما صنع فلان ؟ ولا أين هو ؟ أي هو خامل لا يعرف . وقوله : « أولئك يفتح اللّه بهم أبواب الرحمة ، ويكشف بهم ضرّاء النقمة » ، وروي : « أولئك يفتح اللّه بهم أبواب رحمته ، ويكشف بهم ضرّاء نقمته » ، أي ببركاتهم يكون الخير ويندفع الشر . ثم ذكر عليه السلام أنه سيأتي على الناس زمانٌ تنقلب فيه الأُمور الدينية إلى أضدادها ونقائضها ، وقد شهدنا ذلك عياناً .

.


1- .سورة المؤمنون 30 .

ص: 354

103 . من خطبة له عليه السلام يصف فيها حال الناس قبل البعثة وما صاروا إليه بعدها

ثم أخبر عليه السلام أنّ اللّه لا يجور على العباد ؛ لأ نّه تعالى عادل ولا يظلم ، ولكنه يبتلي عباده أي يختبرهم ، ثم تلا قوله تعالى : « إنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ وَإنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ » (1) ، والمراد أنه تعالى إذا فسد الناس لا يلجئهم إلى الصلاح ؛ لكن يتركهم واختيارهم امتحاناً لهم ، فمن أحسن أُثيب ، ومن أساء عوقب!

103الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامأَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّداً صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِه ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً ، وَلاَ يَدَّعِي نُبُوَّةً وَلاَ وَحْياً ، فَقَاتَلَ بِمَنْ أَطَاعَهُ مَنْ عَصَاهُ ، يَسُوقُهُم إِلَى مَنْجَاتِهِمْ؛ وَيُبَادِرُ بِهِمُ السَّاعَةَ أَنْ تَنْزِلَ بِهِمْ ، يَحْسِرُ الْحَسِيرُ ، وَيَقِفُ الْكَسِيرُ فَيُقِيمُ عَلَيْهِ حَتَّى يُلْحِقَهُ غَايَتَهُ ، إِلاَّ هَالِكاً لاَ خَيْرَ فِيهِ ، حَتَّى أَرَاهُمْ مَنْجَاتَهُمْ وَبَوَّأَهُمْ مَحَلَّتَهُمْ ، فَاسْتَدَارَتْ رَحَاهُمْ ، وَاسْتَقَامَتْ قَنَاتُهُمْ . وَايْمُ اللّهِ ، لَقَدْ كُنْتُ مِنْ سَاقَتِهَا حَتَّى تَوَلَّتْ بِحَذَافِيرِهَا ، وَاسْتَوْسَقَتْ فِي قِيَادِهَا؛ مَا ضَعُفْتُ ، وَلاَ جَبُنْتُ ، وَلاَ خُنْتُ ، وَلاَ وَهَنْتُ ، وَايْمُ اللّهِ ، لَأَبْقُرَنَّ الْبَاطِلَ حَتَّى أُخْرِجَ الْحَقَّ مِنْ خَاصِرَتِهِ!

قال الرضي رحمه اللّه تعالى : وقد تقدَّم مختار هذه الخطبة ، إلاّ أني وجدتها في هذه الرواية على خلاف ما سبق من زيادة ونقصان ، فأوجبت الحال إثباتها ثانية .

.


1- .سورة المؤمنون 30 .

ص: 355

الشّرْحُ :ومنجاتهم : نجاتهم ، نجوت من كذا نجاءً ممدود ، ونجىً مقصور ، ومنجاة على « مفعلة » ، ومنه قولهم : « الصدق منجاة » . قوله عليه السلام : « ويبادر بهم الساعة » ، كأنه كان يخاف أن تسبِقه القيامة ؛ فهو يبادرها بهدايتهم وإرشادهم قبل أن تقوم ، وهم على ضلالهم . والحسير : المعيَا ، حَسَر البعير بالفتح ، يحسِر بالكسر حسوراً ، واستحسر مثله ، وحسرته أنا ، يتعدّى ولا يتعدّى ؛ حَسْراً فهو حسير ، ويجوز أحسرته ، بالهمزة ، والجمع حَسْرَى ، مثل قتيل وقَتْلَى ، ومنه حَسَر البصر ، أي كلَّ ، يحسِر ، قال تعالى : « يَنْقَلِبْ إلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئا وَهُوَ حَسِيرٌ » (1) . وهذا الكلامُ من باب الاستعارة والمجاز ، يقول عليه السلام : كان النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم لحِرْصه على الإسلام وإشفاقه على المسلمين ، ورأفته بهم ، يلاحظ حالَ من تزلزل اعتقاده ، أو عرضتْ له شبهة ، أو حدَث عنده ريب ، ولا يزال يوضّح له ويرشده حتى يزيد ما خامر سرَّه من وساوس الشيطان ، ويلحقه بالمخلصين من المؤمنين ، ولم يكن ليقصِّر في مراعاة أحد من المكلّفين في هذا المعنى إلاّ مَنْ كان يعلم أ نّه لا خير فيه أصلاً ؛ لعناده وإصراره على الباطل ، ومكابرته للحقّ . ومعنى قوله : « حتى يلحِقه غايته » ، حتى يوصّله إلى الغاية التي هي الغرض بالتكليف ؛ يعني اعتقاد الحقّ وسكون النفس إلى الإسلام ، وهو أيضا معنى قوله : « وبوّأهم محَلتهم » . ومعنى قوله : « فاستدارت رحاهم » ، انتظم أمرُهم ؛ لأنّ الرّحى إنّما تدور إذا تكاملت أدواتها وآلاتها كلّها ؛ وهو أيضا معنى قوله : « واستقامت قناتُهم » ؛ وكلُّ هذا من باب الاستعارة . ثم أقسم أنه عليه السلام كان من ساقتها ، الساقةُ : جمع سائق ، كقادة جمع قائد ، وحاكة جمع حائك ، وهذا الضمير المؤنث يرجع إلى غير مذكور لفظاً ، والمراد الجاهلية ، كأنه جعَلها مِثْلَ كتيبة مصادمة لكتيبة الإسلام ، وجعل نفسه من الحاملين عليها بسيفه ، حتى فرّت وأدبرت ، واتبعها يسوقها سوقاً ، وهي مولّية بين يديه . حتى أدبرت بحذافيرها ، أي كلها عن آخرها . ثم أتى بضمير آخر إلى غير مذكور لفظاً ، وهو قوله : « واستوسقت في قيادها » ، يعني الملّة الإسلامية أو الدعوة ، أو ما يجري هذا المجرى . واستوسقت : اجتمعت ، يقول لما ولّت تلك الدعوة الجاهلية ، استوسقت هذه في قيادها كما تستوسق الإبل المقودة إلى أعطانها .

.


1- .سورة الملك 4 .

ص: 356

104 . من خطبة له عليه السلام ، ذكر فيها كلاماً في شأن أهل البيت ، وأمر بني اُميّة معهم

ويجوز أن يعودَ هذا الضمير الثاني إلى المذكور الأول وهو الجاهلية ، أي ولّت بحذافيرها واجتمعت كلُّها تحت ذلّ المقادة . ثم أقسم أ نّه ما ضعف يومئذٍ ولا وَهَن ولا جَبُن ولا خان ؛ وليبقرنّ الباطل الآن حتى يخرج الحقّ من خاصرته ، كأنّه جعل الباطل كالشيء المشتمل على الحق غالباً عليه ، ومحيطاً به ، فإذا بُقِر ، ظهر الحق الكامن فيه ، وقد تقدم منّا شرح ذلك .

104الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامحَتَّى بَعَثَ اللّهُ مُحَمَّداً صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآله شَهِيداً ، وَبَشِيراً ، وَنَذِيراً ، خَيْرَ الْبَرِيَّةِ طِفْلاً ، وَأَنْجَبَهَا كَهْلاً ، وَأَطْهَرَ الْمُطَهَّرِينَ شِيمَةً وَأَجْوَدَ الْمُسْتَمْطَرِينَ دِيمَةً . فَمَا احْلَوْلَتْ لَكُمُ الدُّنْيَا فِي لَذَّتِهَا ، وَلاَ تَمَكَّنْتُمْ مِنْ رَضَاعِ أَخْلاَفِهَا إِلاَّ مِنْ بَعْدِه صَادَفْتُمُوهَا جَائِلاً خِطَامُهَا ، قَلِقاً وَضِينُهَا ، قَدْ صَارَ حَرَامُهَا عِنْدَ أَقْوَامٍ بِمَنْزِلَةِ السِّدْر المَخْضُودِ ، وَحَلاَلُهَا بَعِيداً غَيْرَ مَوْجُودٍ ، وَصَادَفْتُمُوهَا ، وَاللّهِ ، ظِلاًّ مَمْدُوداً إِلَى أَجَلٍ مَعْدُودٍ . فَالْأَرْضُ لَكُمْ شَاغِرَةٌ ، وَأَيْدِيكُمْ فِيهَا مَبْسُوطَةٌ؛ وَأَيْدِي الْقَادَةِ عَنْكُمْ مَكْفُوفَةٌ ، وَسُيُوفُكُمْ عَلَيْهِمْ مَسَلَّطَةٌ ، وَسُيُوفُهُمْ عَنْكُمْ مَقْبُوضَةٌ . أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ دَمٍ ثَائِراً ، وَلِكُلِّ حَقٍّ طَالِباً . وَإِنَّ الثَّائِرَ فِي دِمَائِنَا كَالْحَاكِمِ في حَقِّ نَفْسِهِ ، وَهُوَ اللّهُ الَّذِي لاَ يُعْجِزُهُ مَنْ طَلَبَ ، وَلاَ يَفُوتُهُ مَنْ هَرَبَ . فَأُقْسِمُ باللّه ، يَا بَنِي أُمَيِّةَ ، عَمَّا قَلِيلٍ لَتَعْرِفُنَّهَا فِي أَيْدِي غَيْرِكُمْ وَفِي دَارِ عَدُوِّكُمْ !

.

ص: 357

الشّرْحُ :معنى كون النبي صلى الله عليه و آله وسلم شهيداً ، أ نّه يشهد على الأُمّة بما فعلته من طاعة وعصيان . أنجبها : أكرمها ، ورجل نجيب ، أي كريم بَيّن النجابة ، والنُّجبة مثل الهُمَزة ، ويقال هو نُجْبَة القوم ؛ أي النجيب منهم ، وأنجب الرجل ، أي ولد ولداً نجيباً ، وامرأة منجبة ومِنْجاب ، تلد النُّجَباء ، ونسوة مناجيب . والشيمة : الخُلق . والديمة : مطر يدوم . والمستمطرون : المستَجْدَوْنَ والمستماحون . واحلولت : حلَت . والأخْلاَف للناقة ، بمنزلة الأطْبَاء للكلبة ، واحدها خِلْف بالكسر ، وهو حَلَمة الضَّرْع . والخِطام : زمام الناقة ، خطمتُ البعير زممته ، وناقة مخطومة ، ونوق مخطمة . والوضين للهودج ؛ بمنزلة البِطَان للقَتَب ، والتّصدير للرحْل ، والحِزام للسرْج ؛ وهو سُيور تنسَج مضاعفة بعضها على بعض ، يشدّ بها الهوْدج منه إلى بطن البعير ، والجمع وُضُن . والمخضود : الذي خُضِد شوكه ، أي قطع . وشاغرة : خالية ، شَغَر المكان ، أي خلا ، وبلدة شاغرة ، إذا لم تمتنع من غارة أحد . والثائر : طالب الثأر ، لا يبقي على شيء حتى يدرك أثره . يقول عليه السلام مخاطباً لمن في عصره من بقايا الصحابة ولغيرهم من التابعين ، الذين لم يدركوا عَصْر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : إن اللّه بعثَ محمدا ، وهو أكرم الناس شيمة ، وأنداهم يداً ، وخيرهم طفلاً ، وأنجبَهم كَهْلاً ، فصانه اللّه تعالى في أيام حياته عن أن يفتح عليه الدنيا ، وأكرمه عن ذلك فلم تُفْتَح عليكم البلاد ، ولا دَرّت عليكم الأموال ، ولا أقبلت الدنيا نحوكم ؛ وما دالت الدولة لكم إلاّ بعده ، فتمكّنتم من أُكُلها والتمتع بها ، كما يتمكّن الحالب من احتلاب الناقة فيحلبها ، وحلت لذّاتها لكم ، واستطبتم العيشة ، ووجدتموها حُلْوة خضرة . ثم ذكر أنّهم صادفوها _ يعني الدنيا _ وقد صَعُبت على مَنْ يليها ولاية حقّ ، كما تستصعبُ الناقة على راكبها إذا كانت جائلة الخِطام ، ليس زمامها بممكّن راكبها من نفسه ، قلقَة الوضين ، لا يثبت هودجُها تحت الراكب ، حرامها سهل التناول على من يريده ، كالسِّدْر الذي خُضِد عنه شوكه ، فصار ناعما أملس ، وحلالها غير موجود لغلبة الحرام عليه ، وكونه صار مغموراً مستهلكا بالنسبة إليه ، وهذا إشارة إلى ما كان يقوله دائما من استبداد الخلفاء قبله دونه بالأمر ، وأنه كان الأولى والأحقّ . ثم ذكر عليه السلام أنّ الدنيا فانية ، وأنها ظِلٌّ ممدود إلى أجل معدود . ثم ذكر أنّ الأرض بهؤلاء السكان فيها صورة خالية من معنى . ثم أعاد الشكوى والتألم فقال : أيديكم في الدنيا

.

ص: 358

مبسوطة ، وأيدي مستحقّي الرّئاسة ومستوجبي الأمر مكفوفة ، وسيوفكم مسلّطة على أهل البيت الذين هم القادة والرؤساء ، وسيوفهم مقبوضة عنكم ؛ وكأنّه كان يرمز إلى ما سيقع من قَتْل الحسين عليه السلام وأهله ، وكأنّه يشاهد ذلك عياناً ، ويخطب عليه ويتكلّم على الخاطر الذي سَنَح له ، والأمر الذي كان أخبر به ، ثم قال : إنّ لكلّ دمٍ ثائراً يطلب القَوَد ، والثائر بدمائنا ليس إلاّ اللّه وحدَه ، الذي لا يُعجزه مطلوب ، ولا يفوته هارب . ومعنى قوله عليه السلام : « كالحاكم في حق نفسه » ، أ نّه تعالى لا يقصّر في طلب دمائنا كالحاكم الذي يحكم لنفسه ، فيكون هو القاضي وهو الخصم ، فإنه إذا كان كذلك يكون مبالغا جداً في استيفاء حقوقه . ثم أقسم وخاطب بني أُميّة ، وصرّح بذكرهم أنّهم ليعرفنّ الدنيا عن قليل في أيدي غيرهم وفي دورهم ، وأنّ الملك سينتزعه منهم أعداؤهم ، ووقع الأمر بموجب إخباره عليه السلام ، فإنّ الأمر بقيَ في أيدي بني أُميّة قريبا من تسعين سنة ، ثم عاد إلى البيت الهاشميّ ، وانتقم اللّه تعالى منهم على أيدي أشدّ الناس عداوة لهم .

الأصْلُ :أَلاَ إِنَّ أَبْصَرَ الْأَبْصَارِ مَا نَفَذَ فِي الْخَيْرِ طَرْفُهُ ! أَلاَ إِنَّ أَسْمَعَ الْأَسْمَاعِ مَا وَعَى التَّذْكِيرَ وَقَبِلَهُ! أَيُّهَا النَّاسُ ، اسْتَصْبِحُوا مِنْ شُعْلَةِ مِصْبَاحِ وَاعِظٍ مُتَّعِظٍ ، وَامْتَاحُوا مِنْ صَفْوِ عَيْنٍ قَدْ رُوِّقَتْ مِنَ الْكَدَرِ . عِبَادَ اللّهِ ، لاَ تَرْكَنُوا إِلَى جَهَالَتِكُمْ ، وَلاَ تَنْقَادُوا إلَى أهْوَائِكُم ؛ فَإِنَّ النَّازِلَ بِهذَا الْمَنْزِلِ نَازِلٌ بِشَفَا جُرُفٍ هَارٍ ، يَنْقُلُ الرَّدَى عَلَى ظَهْرِهِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ ، لِرَأيٍ يُحْدِثُهُ بَعْدَ رَأيٍ؛ يُرِيدُ أَنْ يُلْصِقَ مَا لاَ يَلْتَصِقُ ، وَيُقَرِّبَ مَا لاَ يَتَقَارَبُ! فَاللّه اللّه أَنْ تَشْكُوا إِلَى مَنْ لاَ يُشْكِي شَجْوَكُمْ ، وَلاَ يَنْقُضُ بِرَأْيِهِ مَا قَدْ أَبْرَمَ لَكُمْ . إِنَّهُ لَيسَ عَلَى الاْءِمَامِ إِلاَّ مَا حُمِّلَ مِنْ أَمْرِ رَبِّهِ : الاْءبْلاَغُ فِي الْمَوْعِظَةِ ، وَالاِجْتِهَادُ فِي النَّصِيحَةِ ، وَالاْءِحْيَاءُ لِلسُّنَّةِ ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا ، وَإِصْدَارُ السُّهْمَانِ عَلَى

.

ص: 359

أَهْلِهَا . فَبَادِرُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِ تَصْويحِ نَبْتِهِ ، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ تُشْغَلُوا بِأَنْفُسِكُمْ عَنْ مُسْتَثَارِ الْعِلْمِ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ ، وَانْهَوْا عَنْ المُنْكَرِ وَتَنَاهَوْا عَنْهُ ، فَإِنَّمَا أُمِرْتُمْ بالنَّهْي بَعْدَ التَّنَاهِي!

الشّرْحُ :هَارَ الجرْف يهورُ هَوْرا وهئورا فهو هائر ؛ وقالوا : « هارٍ » ، خفضوه في موضع الرفع ، كقاضٍ ، وأرادوا « هائر » ، وهَوّرته ، فتهوّر وانهار : أي انهدم . وأشكيت زيداً : أزلت شكايته . والشجو : الهمّ والحزن . وصوّح النبت ، أي جفّ أعلاه . يقول عليه السلام : أشدّ العيون إدراكا ما نفذ طرفُها في الخير ، وأشدّ الأسماع إدراكا ما حفظ الموعظة وقَبِلها . ثم أمر الناس أن يستصبِحوا ، أي يُسرجوا مصابيحَهم من شعلة سراج . متّعظٍ في نفسه واعظ لغيره ؛ وروي بالإضافة من « شعلة مصباحِ واعظ » بإضافة « مصباح » إلى « واعظ » ، وإنما جعله متّعظا واعظا ؛ لأنّ مَنْ لم يتّعظ في نفسه فبعيد أن يتّعظ به غيرُه ؛ وذلك لأنّ القبول لا يحصل منه ، والأنفس تكون نافرةً عنه ، ويكون داخلاً في حَيّز قوله تعالى : « أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بالْبرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ » (1) . وعَنَى بهذا المصباح نفسَه عليه السلام . ثم أمرهم أن يمتاحوا من عين صافيةٍ قد انتفَى عنها الكدر ، كما يروّق الشراب بالراووق فيزول عنه كدره ، والامتياح : نزول البئر ومل ء الدّلاء منها ، ويكنِي بهذا أيضاً عن نفسه عليه السلام . ثم نهاهم عن الانقياد لأهوائهم والميل إلى جهالتهم ، وقال : إنّ من يكون كذلك ، فإنه على جانب جُرُفٍ متهدّم ، ولفظة « هارٍ » من الألفاظ القرآنية . ثم قال : ومَنْ يكون كذلك ، فهو أيضا ينقل الهلاك على ظهره من موضع إلى موضع ؛ ليُحدِث رأيا فاسداً بعد رأي فاسد ، أي هو ساعٍ في ضلال يروم أن يحتجّ لما لا سبيل إلى إثباته ، وينصر مذهباً لا انتصار له . ثم نهاهم وحذّرهم أن يشكُوا إلى مَنْ لا يزيل شِكايتهم ، ومَنْ لا رأي له في الدين ، ولا بصيرة؛ لينقض ما قد أبرمه الشيطان في صدورهم لإغوائهم . ويروى : « إلى من لا يشكي شجوَكم ، ومَنْ ينقض برأيه ما قد أبرم لكم » ، وهذه الرواية أليق ، أي لا تشكُوا إلى مَنْ

.


1- .سورة البقرة 44 .

ص: 360

105 . من خطبة له عليه السلام في وصف الإسلام وسمو شرائعه ، ثم ذكر النبي صلى الله عليه و آله وسلم ، وذكر أصحابه

لا يدفع عنكم ما تشكون منه ؛ وإنما ينقض برأيه الفاسد ما قد أبرمه الحقّ والشرع لكم . ثم ذكر أ نّه ليس على الإمام إلاّ ما قد أوضحه من الأُمور الخمسة . ثم أمرهم بمبادرة أخذ العلم من أهله _ يعني نفسَه عليه السلام _ قبل أن يموت ، فيذهب العلم . وتصويح النَّبْت ، كناية عن ذلك . ثم قال : وقبل أن تشغَلُوا بالفتَن وما يحدث عليكم من خطوب الدنيا عن استثارة العلم من معدنه واستنباطه من قرارته . ثم أمرهم بالنّهي عن المنكر ، وأن يتناهوْا عنه قبل أن يُنْهَوْا عنه ، وقال : إنما النهيُ بعد التناهي . وفي هذا الموضع إشكال ، وذلك أنّ لقائل أن يقول : النهي عن المنكَر واجب على العدْل والفاسق ، فكيف قال : « إنما أُمرتم بالنهي بعد التناهي » . والجواب : أنه عليه السلام لم يردْ أن وجود النهي عن المنكر مشروط بانتهاء ذلك الناهي عن المنكَر ؛ وإنما أراد : أنّي لم آمركم بالنهي عن المنكر إلاّ بعد أن أمرتُكم بالانتهاء عن المنكر ؛ فالترتيب إنّما هو في أمره عليه السلام لهم بالحالتين المذكورتين ؛ لا في نهيهم وتناهيهم . فإن قلت : فلماذا قدم أمرَهم بالانتهاء على أمرهم بالنهى؟ قلت : لأنّ إصلاح المرء نفسه أهمّ من الاعتناء بإصلاحه لغيره .

105الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامالْحَمْدُ للّه الَّذِي شَرَعَ الاْءِسْلاَمَ فَسَهَّلَ شَرَائِعَهُ لِمَنْ وَرَدَهُ ، وَأَعَزَّ أَرْكَانَهُ عَلَى مَنْ غَالَبَهُ ، فَجَعَلَهُ أَمْناً لِمَنْ عَلِقَهُ ، وَسِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ ، وَبُرْهَاناً لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ ، وَشَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ عَنْهُ ، وَنُوراً لِمَنِ اسْتَضَاءَ بِهِ ، وَفَهْماً لِمَنْ عَقَلَ ، وَلُبّاً لِمَنْ تَدَبَّرَ ، وَآيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ ، وَتَبْصِرَةً لِمَنْ عَزَمَ ، وَعِبْرَةً لِمَنِ اتَّعَظَ ، وَنَجَاةً لِمَنْ صَدَّقَ ، وَثِقَةً لِمَنْ تَوَكَّلَ ، وَرَاحَةً لِمَنْ فَوَّضَ ، وَجُنَّةً لِمَنْ صَبَرَ ، فَهُوَ أَبْلَجُ الْمَنَاهجِ وَأَوْضَحُ الْوَلاَئِجِ ؛ مُشْرَفُ الْمَنَارِ ، مُشْرِقُ الْجَوَادِّ ، مُضِيءُ الْمَصَابِيحِ ، كَرَيمُ الْمِضْمَارِ ، رَفِيعُ الْغَايَةِ ، جَامِعُ

.

ص: 361

الْحَلْبَةِ ، مُتَنَافَسُ السُّبْقَةِ ، شَرِيفُ الْفُرْسَانِ . التَّصْدِيقُ مِنْهَاجُهُ ، وَالصَّالِحَاتُ مَنَارُهُ ، وَالْمَوْتُ غَايَتُهُ ، وَالدُّنْيَا مِضْمَارُهُ ، وَالْقِيَامَةُ حَلْبَتُهُ ، وَالْجَنَّةُ سُبْقَتُهُ .

الشّرْحُ :هذا باب من الخطابة شريف ؛ وذلك لأ نّه ناط بكلّ واحدة من اللفظات لفظة تناسبها وتلائمها لو نيطَتْ بغيرها لما انطبقت عليها ، ولا استقرّت في قرارها ، ألا تراه قال : « أمناً لمنْ عَلِقه » ؛ فالأمنُ مرتّب على الاعتلاق ، وكذلك في سائر الفِقَر كالسلْم المرتّب على الدخول ، والبرهان المرتّب على الكلام ، والشاهد المرتّب على الخصام ، والنّور المرتّب على الاستضاءة ... إلى آخرها ، ألا ترى أ نّه لو قال : « وبرهانا لمن دخله ، ونورا لمن خاصم عنه ، وشاهدا لمن استضاء به » ، لكان قد قرن باللفظة ما لا يناسبها ، فكان قد خرج عن قانون الخطابة ، ودخل في عَيْب ظاهر! وتوسّم : تفرّس . والولائج : جمع وليجة ، وهو المدخل إلى الوادي وغيره . والجُنّة : التّرس . وأبلج المناهج : معروف الطريق . والحلْبة : الخيل المجموعة للمسابقة . والمِضْمار : موضع تضمير الخيل ، وزمان تضميرها . والغاية : الراية المنصوبة ، وهو هاهنا خِرْقة تجعل على قَصَبة وتنصب في آخر المدَى الذي تنتهي إليه المسابقة ؛ كأنه عليه السلام جعل الإسلام كخيل السّباق التي مضمارها كريم ، وغايتها رفيعة عالية ، وحَلْبتها جامعة حاوية ، وَسُبقتها متنافس فيها ، وَفُرسانها أشراف . ثم وصفه بصفات أُخرى ، فقال : التصديق طريقه ، والصالحات أعلامه ، والموت غايته ؛ أي أنّ الدنيا سِجْن المؤمن ، وبالموت يخلُص من ذلك السجن ، ويحظى بالسعادة الأبدية . قال : والدنيا مضماره ؛ كأنّ الإنسان يجري إلى غاية هي الموت ، وإنما جعلها مِضْمار الإسلام ؛ لأنّ المسلم يقْطَع دنياه لا لدنياه بل لآخرته ، فالدّنيا له كالمِضْمار للفرس إلى الغاية المعيّنة . قال : والقيامة حلْبته ، أي ذات حلبته فحذف المضاف ، كقوله تعالى : « هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللّهِ » (1) أي ذوو درجات . ثم قال : والجنّة سُبقُته ، أي جزاء سُبقتِه ، فحذف [ المضاف ]أيضا .

.


1- .سورة آل عمران 163 .

ص: 362

الأصْلُ :منها في ذكر النبي صلى الله عليه و آله وسلمحَتَّى أَوْرَى قَبَساً لِقَابِس ، وَأَنَارَ عَلَماً لِحَابِس فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ ، وَشَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ ، وَبَعِيثُكَ نِعْمةً وَرَسُولُكَ بِالْحقِّ رَحْمَةً . اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَهُ مَقْسَماً مِنْ عَدْلِكَ ، وَاجْزِهِ مُضَعَّفَاتِ الْخَيْرِ مِنْ فَضْلِكَ . اللَّهُمَّ أَعْلِ عَلَى بِنَاءِ الْبَانِينَ بِنَاءَهُ ! وَأَكْرِمْ لَدَيْكَ نُزُلَهُ ، وَشَرِّفْ عِنْدَكَ مَنْزِلَهُ وَآتِهِ الْوَسِيلَةَ ، وَأَعْطِهِ السَّنَاءَ وَالْفَضِيلَةَ ، وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِ غَيْرَ خَزَايَا ، وَلاَ نَادِمِينَ ، وَلاَ نَاكِبِينَ ، وَلاَ نَاكِثِينَ ، وَلاَ ضَالِّينَ ، وَلاَ مُضِلِّينَ ، وَلاَ مَفْتُونِينَ!

قال الرضي رحمه الله : وَقَدْ مَضَى هَذَا الكَلاَمُ فِيما تقَدَّمَ ، إلاّ أنّنا كَرّرْناهُ ها هنا لِمَا فِي الرِّوَايَتَيْنِ مِنَ الاختِلاَفِ .

الشّرْحُ :قبساً ، منصوب بالمفعولية ، أي أوْرَى رسول اللّه صلى الله عليه و آله قَبَسا ، والقَبَس : شعلة من النار ، والقابس : طالب الاستصباح منها ، والكلام مجاز ، والمراد الهداية في الدين . وعلَماً ، منصوب أيضا بالمفعولية ، أي وأنار رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلمعَلما . لحابس ، أي نصب لمن قد حَبَس ناقته _ ضلالاً ، فهو يخبط لا يدري كيف يهتدي إلى المنهج _ علما يهتدي به . والبعيث : المبعوث . ومقسما : نصيباً ، وإن جعلتَه مصدرا جاز . والنُّزُل : طعام الضيف . والوسيلة : ما يتقرّب به ، وقد فسر قولهم في دعاء الأذان : « اللّهم آته الوسيلة » ، بأنها درجة رفيعة في الجنّة . والسّناء بالمد : الشرف . وزمرته : جماعته . وخزايا : جمع خزيان ، وهو الخَجِل المسْتحي ، مثل سكران وسكارى ، وحيران وحيارى ، وغَيْران وغَيَارَى . وناكبين ، أي عادلين عن الطريق . وناكثين ، أي ناقضين للعهد .

.

ص: 363

الأصْلُ :ومنها في خطاب أصحابه :وَقَدْ بَلَغْتُمْ مَنْ كَرَامَةِ اللّهِ تَعَالى لَكُمْ مَنْزِلَةً تُكْرَمُ بِهَا إِمَاؤكُمْ وَتُوصَلُ بِهَا جِيرَانُكُمْ ، وَيُعَظِّمُكُمْ مَنْ لاَ فَضْلَ لَكُمْ عَلَيهِ ، وَلاَ يَدَ لَكُمْ عِنْدَهُ ، وَيَهَابُكُمْ مَنْ لاَ يَخَافُ لَكُمْ سَطْوَةً ، وَلاَ لَكُمْ عَلَيْهِ إِمْرَةٌ . وَقَدْ تَرَوْنَ عُهُودَ اللّهِ مَنْقُوضَةً فَ_لاَ تَغْضَبُونَ ! وَأَنْتُمْ لِنَقْض ذِمَمِ آبَائِكُمْ تَأْنَفُونَ ! وَكَانَتْ أُمُورُ اللّهِ عَلَيْكُمْ تَرِدُ ، وَعَنْكُمْ تَصْدُرُ ، وَإِلَيْكُمْ تَرْجِعُ ، فَمَكَّنْتُمُ الظَّلَمَةَ مِنْ مَنْزِلَتِكُمْ ، وَأَلْقَيْتُمْ إِلَيْهِمْ أَزِمَّتَكُمْ ، وَأَسْلَمْتُمْ أُمُورَ اللّهِ فِي أَيْدِيهمْ ، يَعْمَلُونَ بِالشُّبُهَاتِ ، وَيَسِيرُونَ فِي الشَّهَوَاتِ ، وَايْمُ اللّهِ ، لَوْ فَرَّقُوكُمْ تَحْتَ كُلِّ كَوْكَبٍ ، لَجَمَعَكُمُ اللّهُ لِشَرِّ يَوْمٍ لَهُمْ!

الشّرْحُ :هذا خطاب لأصحابه الذين أسلموا مدنهم ونواحيهم إلى جيوش معاوية ؛ التي كان يُغير بها على أطراف أعمال عليّ عليه السلام كالأنبار وغيرها مما تقدّم ذكرنا له ، قال لهم: إنّ اللّه أكرمكم بالإسلام بعد أن كنتم مجوساً ، أو عباد أصنام ، وبلغتم من كرامته إياكم بالإسلام منزلة عظيمة ، أكرم بها إماؤكم وعبيدكم ؛ ومن كان مَظِنّة المِهْنة والمذلَّة . ووصل بها جيرانكم ، أي مَن التجأ إليكم من معاهَدٍ أو ذِميّ ، فإنّ اللّه تعالى حفظ لهم ذمام المجاورة لكم ، حتى عصمَ دماءهم وأموالهم ، وصرتم إلى حال يعظّمكم بها مَنْ لا فضل لكم عليه ، ولا نعمة لكم عنده ؛ كالروم والحبشة ، فإنهم عَظّموا مسلمي العرب لتقمّصهم لباس الإسلام والدين ، ولزومهم ناموسه ، وإظهارهم شعاره . ويهابكم من لا يخاف لكم سطوة ، ولا لكم عليه إمرة ؛ كالملوك الذين في أقاصي البلاد ، نحو الهند والصين وأمثالها ؛ وذلك لأنهم هابوا دولة الإسلام ، وإن لم يخافوا سطوة سيفها ؛ لأ نّه شاع وذاع أنّهم قوم صالحون ، إذا دعوا اللّه استجاب لهم ، وأنهم يقهرون الأُمم بالنصر السماويّ وبالملائكة ، لا بسيوفهم ولا بأيديهم . ثم قال عليه السلام : ما لكم لا تغضبون ، وأنتم تروْن عهود اللّه منقوضة ! وإنّ من العجب أن يغضب الإنسان ويأنف من نقض عهد أبيه ، ولا يغضب ولا يأنف لنقض عهود إلهه وخالقه ! ثم قال

.

ص: 364

106 . من خطبة له عليه السلام يصف بعض أيام صفين

لهم : كانت الأحكام الشرعية إليكم تردُ منّي ومن تعليمي إياكم ، وتثقيفي لكم ، ثم تصدُر عنكم إلى مَنْ تعلّمونه إياها من اتّباعكم وتلامذتكم ، ثم يرجع إليكم بأنْ يتعلّمها بنوكم وإخوتكم من هؤلاء الأتباع والتلامذة ؛ ففررتم من الزّحف لما أغارت جيوش الشام عليكم ، وأسلمتم منازلكم وبيوتكم وبلادكم إلى أعدائكم ، ومكّنتم الظلَمة من منزلتكم ، حتى حكَموا في دين اللّه بأهوائهم ، وعَمِلوا بالشّبهة لا بالحجّة ، واتسعوا في شهواتهم ومآرب أنفسهم . ثم أقسم باللّه : إنّ أهل الشام لو فرّقوكم تحت كل كوكب ليجمعنّكم اللّه ليوم ، وهو شرّ يوم لهم ، وكنّى بذلك عن ظهور المسوّدة وانتقامها من أهل الشام وبني أُميّة ، وكانت المسوّدة المنتقمة منهم عراقية وخراسانية .

106الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام في بعض أيام صفينوَقَدْ رَأَيْتُ جَوْلَتَكُمْ ، وَانْحِيَازَكُمْ عَنْ صُفُوفِكُمْ ، تَحُوزُكُمُ الْجُفَاةُ الطَّغَامُ ، وَأَعْرَابُ أَهْلِ الشَّامِ ، وَأَنْتُمْ لَهَامِيمُ الْعَرَبِ ، وَيَآفِيخُ الشَّرَفِ ، وَالْأَنْفُ الْمُقَدَّمُ ، وَالسَّنَامُ الْأَعْظَمُ . وَلَقَدْ شَفَى وَحَاوِحَ صَدْرِي أَنْ رَأَيْتُكُمْ بِأَخَرَةٍ تَحُوزُونَهُمْ كَمَا حَازُوكُمْ ، وَتُزِيلُونَهُمْ عَنْ مَوَاقِفِهمْ كَمَا أَزَالُوكُمْ؛ حَسّاً بِالنِّصَالِ ، وَشَجْراً بِالرِّمَاحِ، تَرْكَبُ أُولاهُمْ أُخْرَاهُمْ كَالاْءِبِلِ الْهِيمِ الْمَطْرُودَةِ، تُرْمَى عَنْ حِيَاضِهَا ، وَتُذَادُ عَنْ مَوَارِدِهَا!

الشّرْحُ :جوْلتكم : هزيمتكم . فأجمل في اللفظ ، وكنّى عن اللفظ المنفِّر ، عادلاً عنه إلى لفظ لا تنفير

.

ص: 365

107 . من خطبة له عليه السلام ؛ وهي من خطب الملاحم أيضاً

فيه ، كما قال تعالى : « يَأْكُلَ الطَّعَامَ » (1) ، قالوا : هو كناية عن إتيان الغائط ، وإجمال في اللفظ . وكذلك قوله : « وانحيازكم عن صفوفكم » كناية عن الهرب أيضا ، وهو من قوله تعالى : « إلاَّ مُتَحَرِّفا لِقِتَالِ أَوْ مُتَحيِّزا إلَى فِئَةٍ » (2) . وهذا باب من أبواب البيان لطيف ؛ وهو حُسْن التوصّل بإيراد كلام غير مزعج ، عوضاً عن لفظ يتضمّن جَبْها وتقريعاً . وتحوزكم : تعدل بكم عن مراكزكم . والجفاة : جمع جاف ، وهو الفَدْم الغليظ . والطّغام : الأوغاد . واللهاميم : جمع لهموم وهو الجواد من الناس والخيل . واليآفيخ : جمع يافُوخ وهو معظم الشيء ، تقول : قد ذهب يافوخ الليل ، أي أكثره ، ويجوز أن يريد به اليافوخ ، وهو أعلى الرأس ، وجمعه يآفيخ أيضا . وأفخْتُ الرجُلَ : ضربت يافوخَه ، وهذا ألْيَق ؛ لأ نّه ذكر بعده الأنف والسنام ، فحمْل اليافوخ على العضو إذا أشبه . والوحاوح : الحرق والحزازات . ولقيته « بأخرة » ، أي أخيرا . والحسّ : القتل ، قال اللّه تعالى : « إذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ » (3) . وشجرت زيدا بالرمح : طعنته والشَّجر : الطعن . والتأنيث في « أُولاهم » و « أُخراهم » للكتائب . والهيم : العطاش . وتذاد : تصد وتمنع ، وقد روي : « الطغاة » عوض «الطغام» . وروي « حشأ » بالهمز من حشأت الرجل ، أي أصبت حشاه . وروي « بالنضال » بالضاد المعجمة ، وهو المناضلة والمراماة .

107الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلام ، وهي من خطب الملاحمالْحَمْدُ للّه الْمُتَجَلِّي لِخَلْقِهِ بِخَلْقِهِ ، وَالظَّاهِرِ لِقُلُوبِهِمْ بِحُجَّتِهِ . خَلَقَ الْخَلْقَ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ ، إِذْ كَانَتِ الرَّوِيَّاتُ لاَتَلِيقُ إِلاَّ بِذَوي الضَّمَائِرِ ، وَلَيْسَ بِذِي ضَمِيرٍ فِي نَفْسِهِ .

.


1- .سورة الفرقان 7 .
2- .سورة الأنفال 16 .
3- .سورة آل عمران 152 .

ص: 366

خَرَقَ عِلْمُهُ بَاطِنَ غَيْبِ السُّتُرَات ، وَأَحَاطَ بِغُمُوض عَقَائِدِ السَّرِيرَاتِ .

الشّرْحُ :الملاحم : جمع ملحمة ، وهي الوقعة العظيمة في الحرْب . ولما كانت دلائل إثبات الصانع ظاهرة ظهور الشمس ، وصفه عليه السلام بكونه ظهر وتجلّى لخلقه ، ودلّهم عليه بخلْقه إياهم وإيجاده لهم . ثم أكد ذلك بقوله : « والظاهر لقلوبهم بحجته » ، ولم يقل « لعيونهم » ؛ لأ نّه غير مرئيّ ، ولكنه ظاهر للقلوب بما أودعها من الحجج الدالة عليه . ثم نفى عنه الروية والفكر والتمثيل بين خاطرين ؛ ليعمل على أحدهما ؛ لأنّ ذلك إنما يكون لأرباب الضمائر والقلوب أُولِي النوازع المختلفة والبواعث المتضادّة . ثم وصفه بأنّ علمه محيط بالظاهر والباطن والماضي والمستقبل ، فقال : إنّ علمه خرق باطن الغيوب المستورة ، وأحاط بالغامض من عقائد السرائر .

الأصْلُ :منها في ذكر النبي صلى الله عليه و آله وسلم :اخْتَارَهُ مِنْ شَجَرَةِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَمِشْكَاةِ الضِّيَاءِ ، وَذُؤابَةِ الْعَلْيَاءِ ، وَسُرَّةِ الْبَطْحَاءِ ، وَمَصَابِيحِ الظُّلْمَةِ ، وَيَنَابِيعِ الْحِكْمَةِ .

الشّرْحُ :شجرة الأنبياء ، أولاد إبراهيم عليه السلام ؛ لأنّ أكثر الأنبياء منهم . والمشكاة : كُوّة غير نافذة ، يجعل فيها المصباح . والذؤابة : طائفة من شعر الرأس . وسرّة البطحاء : وسطها .

الأصْلُ :منها :طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ ، قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ ، وَأَحْمَى مَوَاسِمَهُ ، يَضَعُ ذلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ

.

ص: 367

إِلَيْهِ ، مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ ، وَآذَانٍ صُمٍّ ، وَأَلْسِنَةٍ بُكْمٍ؛ مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ ، وَمَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ .

الشّرْحُ :إنّما قال : « دَوّار بطبّه » ؛ لأنّ الطبيب الدوّار أكثر تجربة ، أو يكون عَنَى به أ نّه يدور عَلَى مَنْ يعالجه ؛ لأنّ الصالحين يدورون على مرضى القلوب ، فيعالجونهم . والمراهم : الأدوية المركّبة للجراحات والقروح . والمواسم : حدائِدُ يُوسَم بها الخيل وغيرها . ثم ذكر أ نّه إنما يعالج بذلك مَنْ يحتاج إليه ، وهم أُولو القلوب العُمْي ، والآذان الصمّ ، والألسنة البكم ، أي الخرس . وهذا تقسيم صحيح حاصر ؛ لأنّ الضلال ومخالفة الحقّ يكون بثلاثة أُمور : إمّا بجهْل القلب ، وبعدم سماع المواعظ والحجج ، أو بالإمساك عن شهادة التوحيد وتلاوة الذكر ، فهذه أُصول الضلال ، وأما أفعال المَعاصي ففروع عليها .

الأصْلُ :لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِأَضْوَاءِ الْحِكْمَةِ؛ وَلَمْ يَقْدَحُوا بِزِنَادِ الْعُلُومِ الثَّاقِبَةِ؛ فَهُمْ فِي ذلِكَ كَالْأَنْعَامِ السَّائِمَةِ ، وَالصُّخُورِ الْقَاسِيَةِ . قَدِ انْجَابَتِ السَّرَائِرُ لِأَهْلِ الْبَصَائِرِ ، وَوَضَحَتْ مَحَجَّةُ الْحَقِّ لِخَابِطِهَا ، وَأَسْفَرَتِ السَّاعَةُ عَنْ وَجْهِهَا ، وَظَهَرَتِ الْعَلاَمَةُ لِمتَوَسِّمِهَا . مَا لِي أَرَاكُمْ أَشْبَاحاً بِلاَ أَرْوَاحٍ ؟ وَأَرْوَاحاً بَلاَ أَشْبَاحٍ ، وَنُسَّاكاً بِلاَ صَلاَحٍ ، وَتُجَّاراً بِلاَ أَرْبَاحٍ ، وَأَيْقَاظاً نُوَّماً ، وَشُهُوداً غُيَّباً ، وَنَاظِرَةً عَمْيَاءَ ، وسَامِعَةً صَمَّاءَ ، وَنَاطِقَةً بَكْمَاءَ!

الشّرْحُ :انجابت : انكشفت . والمحجّة : الطريق . والخابط : السائر على غير سبيل واضحة . وأسفرت الساعة : أضاءت وأشرقت ، وعن متعلقة بمحذوف ، وتقديره : كاشفة عن وجهها . والمتوسم : المتفرّس . أشباحاً بلا أرواح ، أي أشخاصا لا أرواح لها ولا عقول ، وأرواحا بلا أشباح ؛ يمكن أن يريد به الخفة والطيش ، تشبيها بروح بلا جسد . ويمكن أن يعني به

.

ص: 368

نقصهم ؛ لأنّ الروح غير ذات الجسد ناقصة عن الاعتمال والتحريك اللذين كانا من فعلها حيث كانت تدير الجسد . ونسّاكاً بلا صلاح ، نسبهم إلى النفاق . وتجارا بلا أرباح ، نسبهم إلى الرياء وإيقاع الأعمال على غير وجهها . ثم وصفهم بالأُمور المتضادة ظاهرا ، وهي مجتمعة في الحقيقة ، فقال : أيقاضاً نوّماً ؛ لأنهم أُولو يقظة ، وهم غفول عن الحق كالنيام ، وكذلك باقيها ، قال تعالى : « فَإنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتي فِي الصُّدُورِ» (1) .

الأصْلُ :رَايَةُ ضَلاَلٍ قَدْ قَامَتْ عَلَى قُطْبِهَا ، وَتَفَرَّقَتْ بِشُعَبِهَا ، تَكِيلُكُمْ بِصَاعِهَا ، وَتَخْبِطُكُمْ بِبَاعِهَا. قَائِدُهَا خَارجٌ مِنْ الْمِلَّةِ ، قَائِمٌ عَلَى الضَّلَّةِ ؛ فَ_لاَ يَبْقَى يَوْمَئِذٍ مِنْكُمْ إِلاَّ ثُفَالَةٌ كَثُفَالَةِ الْقِدْرِ ، أَوْ نُفَاضَةٌ كَنُفَاضَةِ الْعِكْمِ ، تَعْرُكُكُمْ عَرْكَ الْأَدِيمِ ، وَتَدُوسُكُمْ دَوْسَ الْحَصِيدِ ، وَتَسْتَخْلِصُ الْمُؤمِنَ مِنْ بَيْنِكُمُ اسْتِخْ_لاَصَ الطَّيْرِ الْحَبَّةَ الْبَطِينَةَ مِنْ بَيْنِ هَزِيلِ الْحَبِّ .

الشّرْحُ :هذا كلام منقطع عَمّا قبله ؛ لأنّ الشريف الرضيّ ؛ كان يلتقط الفصول التي في الطبقة العليا من الفصاحة من كلام أمير المؤمنين عليه السلام فيذكرُها ، ويتخطّى ما قبلها وما بعدها ، وهو عليه السلام يذكر ها هنا ما يحدُث في آخر الزمان من الفتن ، كظهور السّفيانيّ وغيره (2) . والقطب في قوله عليه السلام : « قامت على قطبها » : الرئيس الذي عليه يدور أمرُ الجيش . والشَّعْب : القبيلة العظيمة ، وليس التفرّق للراية نفسها ، بل لنصّارها وأصحابها ، فحذف

.


1- .سورة الحج 46 .
2- .ولعل المراد بقوله : راية ضلال ، أي هذه راية ضلال ، وأراد ما قرب ظهوره من قيام دولة بني أميّة ، فهو الموجود المشار إليه . ومعاوية هو المعني بقوله عليه السلام : « قائدها خارج عن الملّة ، قائم على الضَّلَّة » ثم يسود الضلال ، ويستفحل أمره ، ويمتد ويسيطر في جميع زمن بني أُميّة وبني العباس وما بعدهما ؛ لأنها دعوة واحدة في الضلال ، وكلّهم مجتمعون على عداوة آل الرسول صلى الله عليه و آله وسلم وشيعتهم ، وقتلهم وتشريدهم ، وتكذيبهم .

ص: 369

المضاف ، ومعنى تفرّقهم ، أنهم يدعون إلى تلك الدعوة المخصوصة في بلاد متفرقة ، أي تفرق ذلك الجمع العظيم في الأقطار ، داعين إلى أمرٍ واحد . ويروى « بشُعَبها » جمع شُعْبَة . وتقدير « تكيلكم بصاعها » تكيل لكم ، فحذف اللام ، كما في قوله تعالى : « وإذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ » (1) أي كالوا لهم ، أو وزنوا لهم ؛ والمعنى تحمِلكم على دينها ودعوتها ، وتعاملكم بما يعامل به من استجاب لها . ويجوز أن يريد بقوله : « تكيلكم بصاعها » يقهركم أربابها على الدخول في أمرهم ، ويتلاعبون بكم ، ويرفعونكم ويضعونكم كما يفعل كيال البرّ به إذا كاله بصاعه . وتخبطكم بباعها : تظلمكم وتعسفكم ، قائدها ليس على ملَّة الإسلام بل مقيم على الضلالة ، يقال : ضلَّة لك ، وإنه ليلومني ضَلَّة ، إذا لم يوفَّق للرشاد في عَذَله . والثفالة : ما ثفل في القِدْر من الطبيخ . والنُّفاضة : ما سقط من الشيء المنفوض . والعِكْم : العِدْل ، والعِكم أيضا نمَطٌ تجعل فيه المرأة ذخيرتها . وعركت الشيء : دلكته بقوة . والحصيد : الزرع المحصود . ومعنى استخلاص الفتنة المؤمن أنها تخصّه بنكايتها وأذاها ، كما قيل : المؤمن مُلقّى والكافر مُوقّى . وفي الخبر المرفوع : « آفات الدنيا أسرعُ إلى المؤمن من النار في يَبيس العَرْفَج » .

الأصْلُ :أَيْنَ تَذْهَبُ بِكُمُ الْمَذَاهِبُ ، وَتَتِيهُ بِكُمُ الْغَيَاهِبُ وَتَخْدَعُكُمُ الْكَوَاذِبُ ؟ وَمِنْ أَيْنَ تُؤتَوْنَ ؟ وَأَنَّى تُؤفَكُونَ ؟ فَلِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ، وَلِكُلِّ غَيْبَةٍ إِيَابٌ . فَاسْتَمِعُوا مِنْ رَبَّانِيِّكُمْ، وَأَحْضِرُوهُ قُلُوبَكُمْ، وَاسْتَيْقِظُوا إِنْ هَتَفَ بِكُمْ . وَلْيَصْدُقْ رَائِدٌ أَهْلَهُ ، وَلْيَجْمَعْ شَمْلَهُ ، وَلْيُحْضِرْ ذِهْنَهُ ، فَلَقَدْ فَلَقَ لَكُمُ الْأَمْرَ فَلْقَ الْخَرَزَةِ ، وَقَرَفَهُ قَرْفَ الصَّمْغَةِ .

الشّرْحُ :الغياهب : الظلمات ، الواحد غَيهب . وتتيه بكم : تجعلكم تائهين ، عدّى الفعل اللازم بحرف الجر ، كما تقول في ذهب : ذهبت به . والتائه : المتحيّر . والكواذب هاهنا : الأمانيّ .

.


1- .سورة المطففين 3 .

ص: 370

وقوله : « ولكل أجل كتاب » أظنه منقطعا أيضا عن الأول مثل الفصل الذي تقدم ، وقد كان قبله ما ينطبق عليه ويلتئم معه لا محالة . ويمكن على بعد أن يكون متصلاً بما هو مذكور هاهنا . وقوله : « ولكل غيبة إياب » قد قاله عبيد بن الأبرص ، واستثنى من العموم الموت ، فقال : وكلِّ ذي غَيْبَةٍ يئوبُوغائب الموت لا يئوبُ وهو رأي زنادقة العرب ؛ فأمّا أمير المؤمنين ، وهو ثاني صاحب الشريعة التي جاءت بعوْد الموتى ، فإنه لا يستثنى ، ويحمّق عُبيداً في استثنائه . والربانيّ : الذي أمرهم بالاستماع منه ؛ إنما يعني به نفسَه عليه السلام ، ويقال : رجل ربانيّ أي متأله عارف بالربّ سبحانه . وفي وصف الحسَن لأمير المؤمنين عليه السلام : « كان واللّه ربانيّ هذه الأُمّة وذَا فضلها ، وذا قرابتها ، وذا سابقتها » . ثم قال : وأحضروه قلوبكم ، أي اجعلوا قلوبكم حاضرةً عنده ، أي لا تقنعوا لأنفسكم بحضور الأجساد وغيبة القلوب ، فإنّكم لا تنتفعون بذلك . وهتف بكم : صاح . والرائد : الذي يتقدَّم المنتجعين لينظر لهم الماء والكلأ . وفي المثل : الرائد لا يكذب أهله . وقوله : « وليجمع شمله » ، أي وليجمع عزائمه وأفكاره لينظر ، فقد فَلَق هذا الربانيّ لكم الأمر ، أي شقَّ ما كان مبهما ، وفتح ما كان مغلقا ، كما تفلق الخرزة فيعرَف باطنها . وقَرَفه ، أي قشره ، كما تقشر الصمغة عن عود الشجرة ، وتقلع .

الأصْلُ :فَعِنْدَ ذلِكَ أَخَذَ الْبَاطِلُ مَآخِذَهُ ، وَرَكِبَ الْجَهْلُ مَرَاكِبَهُ ، وَعَظُمَتِ الطَّاغِيَةُ ، وَقَلَّتِ الدَّاعِيَةُ ، وَصَالَ الدَّهْرُ صِيَالَ السَّبُعِ الْعَقُورِ ، وَهَدَرَ فَنِيقُ الْبَاطِلِ بَعْدَ كُظُومٍ ، وَتَوَاخَى النَّاسُ عَلَى الْفُجُورِ ، وَتَهَاجَرُوا عَلَى الدِّينِ ، وَتَحَابُّوا عَلَى الْكَذِبِ ، وَتَبَاغَضُوا عَلَى الصِّدْقِ .فَإِذَا كَانَ ذلِكَ كَانَ الْوَلَدُ غَيْظاً ، وَالْمَطَرُ قَيْظاً ، وَتَفِيضُ اللِّئَامُ فَيْضاً ، وَتَغِيضُ الْكِرَامُ غَيْضاً ، وَكَانَ أَهْلُ ذلِكَ الزَّمَانِ ذِئَاباً ، وَسَلاَطِينُهُ سِبَاعاً ، وَأَوْسَاطُهُ أُكَّالاً ، وَفُقَرَاؤهُ أَمْوَاتاً؛ وَغَارَ الصِّدْقُ ، وَفَاض الْكَذِبُ ، وَاسْتُعْمِلَتِ الْمَوَدَّةُ بِاللِّسَانِ ، وَتَشَاجَرَ النَّاسُ بِالْقُلُوبِ ، وَصَارَ الْفُسُوقُ نَسَباً ، وَالْعَفَافُ عَجَباً ، وَلُبِسَ الاْءِسْلاَمُ لُبْسَ الْفَرْوِ مَقْلُوباً .

.

ص: 371

الشّرْحُ :تقول : أخذ الباطل مأخذه ، كما تقول عمل عمله ، أي قوى سلطانه وقهر ، ومثله « ركب الجهل مراكبه » . وعظمت الطاغية ، أي الطغيان ، فاعلة بمعنى المصدر ، كقوله تعالى : « لَيْسَ لِوَقْعَتِها كَاذِبَةٌ » (1) ، أي تكذيب ، ويجوز أن تكون الطاغية هاهنا صفة فاعل محذوف ، أي عظمت الفئة الطاغية . وقلّت الداعية : مثله ، أي الفرقة الداعية . وصال : حمل ووثب ، صَوْلاً وصَوْلَةً ، يقال : ربّ قول أشدُّ من صَوْل ، والصِّيال والمصاولة هي المواثبة ، صايله صِيالاً وصيالةً والفحلان يتصاولان ، أي يتواثبان . والفنيق : فحل الإبل . وهدَرَ : ردّد صوته في حَنْجَرتِه ، وإبل هوادر ؛ وكذلك هدّر بالتشديد تهديرا ، وفي المثل : « هو كالمهدر في العُنّة » يضرب للرجل يصيح ويجلب وليس وراء ذلك شيء كالبعير الذي يُحبَس في العنّة ، وهي الحظيرة ، ويمنَع من الضِّراب ، وهو يهدر . والكُظوم : الإمساك والسكوت ، كَظَم البعير يكظِم كظوما ، إذا أمسك الجِرّة ؛ وهو كاظم ، وإبل كُظُوم لا تجترّ ، وقوم كُظْم ساكتون . وتواخي الناس : صاروا إخوة ، والأصل تآخي الناس ، فأُبدلت الهمزة واواً ، كآزرته أي أعنته ، ووازرته . يقول اصطلحوا على الفجُور ، وتهاجروا على الدين ، أي تعادَوْا وتقاطعوا . فإن قلت : فإنّ من شعار الصالحين أن يهجُروا في الدين ويعادوا فيه! قلت : لم يذهب أميرُ المؤمنين حيث ظنَنت ، وإنما أراد أنّ صاحب الدين مهجور عندهم ؛ لأنّ صاحب الدين مهجور وصاحب الفجور جارٍ عندهم مجرى الأخ في الحنوّ عليه ، والحبّ له ؛ لأ نّه صاحب فجور . ثم قال : « كان الولد غيظا » ، أي لكثرة عقوق الأبناء للآباء ، « وصار المطر قيظاً » (2) يقال إنه من علامات الساعة وأشراطها . وأوساطُه أكَالاً ، أي طعاما ، يقال : ما ذقتُ أكالاً ، وفي هذا الموضع إشكال ؛ لأ نّه لم ينقل هذا الحرف إلاّ في الجَحْد خاصة ، كقولهم : ما بها صافر ، فالأجود الرواية الأُخرى ؛ وهي « آكالاً » بمد الهمزة على « أفعال » جمع أُكْل ؛ وهو ما أُكل ، كقُفْل وأقفال . يقول : صار أوساط الناس طُعْمة للولاة وأصحاب السلاطين ، وكالفريسة

.


1- .سورة الواقعة 2 .
2- .المراد بالمطر هنا وفي بعض الروايات ، الخير والخصب ، وبالقيظ ، المحْل والجدْب ، وكون المطر قيظا كناية عن الجدْب والشر بسبب الجور والظلم وسيطرة الطغاة على خيرات الأرض واحتكارها عن أهلها ، فتكون شرّا عليهم .

ص: 372

108 . من خطبة له عليه السلام في تمجيد اللّه ووصف ملائكته

للأسد . وغار الماء : سفل لنقصه ، وفاض : سال . وتشاجر الناس : تنازَعُوا وهي المشاجرة ، وشَجَر بين القوم ، إذا اختلف الأمر بينهم ، واشتجروا ؛ مثل تشاجروا . وصار الفسوق نسباً يصير الفاسق صديق الفاسق ، حتى يكون ذلك كالنسب بينهم ، وحتى يعجب الناس من العفاف لقلّته وعدمه . ولُبِس الإسلام لبس الفرو ، وللعرب عادة بذلك ، وهي أن تجعل الخَمْل إلى الجسد ، وتظهر الجلد ، والمراد انعكاس الأحكام الإسلامية في ذلك الزمان .

108الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامكُلُّ شَيْءٍ خَاشِعٌ لَهُ ، وَكُلُّ شَيْءٍ قَائِمٌ بِهِ : غِنى كُلِّ فَقِيرٍ ، وَعِزُّ كُلِّ ذَلِيل ، وَقُوَّةُ كُلِّ ضَعِيفٍ ، وَمَفْزَعُ كُلِّ مَلْهُوفٍ . مَنْ تَكَلَّمَ سَمِعَ نُطْقَهُ ، وَمَنْ سَكَتَ عَلِمَ سِرَّهُ ، وَمَنْ عَاشَ فَعَلَيْهِ رِزْقُهُ ، وَمَنْ مَاتَ فَإِلَيْهِ مُنْقَلَبُهُ . لَمْ تَرَكَ الْعُيُونُ فَتُخْبِرَ عَنْكَ ، بَلْ كُنْتَ قَبْلَ الْوَاصِفِينَ مِنْ خَلْقِكَ . لَمْ تَخْلُقِ الْخَلْقَ لِوَحْشَةٍ ، وَلاَ اسْتَعْمَلْتَهُمْ لِمَنْفَعَةٍ ، وَلاَ يَسْبِقُكَ مَنْ طلَبْتَ ، وَلاَ يُفْلِتُكَ مَنْ أَخَذْتَ ، وَلاَ يَنْقُصُ سُلْطَانَكَ مَنْ عَصَاكَ ، وَلاَ يَزِيدُ فِي مُلْكِكَ مَنْ أَطَاعَكَ ، وَلاَ يَرُدُّ أَمْرَكَ مَنْ سَخِطَ قَضَاءَكَ ، وَلاَ يَسْتَغْنِي عَنْكَ مَنْ تَوَلَّى عَنْ أَمْرِكَ . كُلُّ سِرٍّ عِنْدَكَ عَلاَنِيَةٌ ، وَكُلُّ غَيْبٍ عِنْدَكَ شَهَادَةٌ . أَنْتَ الْأَبَدُ فَ_لاَ أَمَدَ لَكَ ، وَأَنْتَ الْمُنْتَهَى فَ_لاَ مَحِيصَ عَنْكَ ، وَأَنْتَ الْمَوْعِدُ فَ_لاَ مَنْجَى مِنْكَ إِلاّ إِلَيْكَ . بِيَدِكَ نَاصِيَةُ كُلِّ دَابَّةٍ ، وَإِلَيْكَ مَصِيرُ كُلِّ نَسَمَةٍ . سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ شَأ نَكَ ! سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ مَا نَرَى مِنْ خَلْقِكَ ! وَمَا أصْغَرَ عَظِيمَةٍ فِي جَنْبِ قُدْرَتِكَ ! وَمَا أَهْوَلَ مَا نَرَى مِنْ مَلَكُوتِكَ ! وَمَا أَحْقَرَ ذلِكَ فِيَما غَابَ عَنَّا مِنْ سُلْطَانِكَ ! وَمَا أَسْبَغَ نِعَمَكَ فِي الدُّنْيَا ، وَمَا أَصْغَرَهَا فِي نِعَمِ الآخِرَةِ!

.

ص: 373

الشّرْحُ :قال : كلّ شيء خاضع لعظمة اللّه سبحانه ، وكلّ شيء قائم به ، وهذه هي صفته الخاصة ، أعني كونَه غنياً عن كلّ شيء ، ولا شيء من الأشياء يغني عنه أصلاً . ثم قال : « غنى كلّ فقير ، وعزّ كلّ ذليل ، وقوة كلّ ضعيف ، ومفزع كلّ ملهوف » . جاء في الأثر : من اعتزّ بغير اللّه ذَلّ ، ومن تكثَّر بغير اللّه قَلّ ؛ وكان يقال : ليس فقيرا من استغنى باللّه . واستدلّ العلماءُ على ثبوت الصانع سبحانه بما دلّ عليه فحوى قوله عليه السلام : « ومفزع كلّ ملهوف » ، وذلك أنّ النفوس ببدائهها تفزع عند الشدائد والخطوب الطارقة إلى الالتجاء إلى خالقها وبارئها ، ألا ترى راكبي السفينة عند تلاطم الأمواج ، كيف يجأرون إليه سبحانه اضطرارا لا اختيارا ، فدلّ ذلك على أنّ العلم به مركوز في النفس ، قال سبحانه : « وَإذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلاَّ إيَّاهُ » (1) . ثم قال عليه السلام : « من تكلّم سَمِعَ نطقه ، ومَنْ سكَت علم سرّه » ، يعني أنه يعلم ما ظهر وما بطن . ثم قال : « ومن عاش فعليه رزقه ، ومن مات فإليه منقلبُه » ، أي هو مدبّر الدنيا والآخرة ، والحاكم فيهما . ثم انتقل عن الغيبة إلى الخطاب ، فقال عليه السلام : « لم ترك العيون فتخبر عنك » . قال عليه السلام : ما رأتك العيون فتخبر عنك ، كما يخبر الإنسان عما شاهده ، بل أنت أزليّ قديم موجود قبل الواصفين لك . ثم ذكر عليه السلام أ نّه لم يخلق الخلْق لاستيحاشه وتفرّده ، ولا استعملهم بالعبادة لنفعه سبحانه ؛ ثم قال : لا تطلب أحدا فيسبقك ، أي يفوتك ، ولا يفلتك من أخذته . فإن قلت : أي فائدة في قوله : « ولا يفلتك من أخذته » ؛ لأنّ عدم الإفلات هو الأخذ ، فكأنّه قال : لا يفلتك من لم يفلتك! قلت : المراد أنّ مَنْ أخذت لا يستطيع أن يُفْلِت ، كما يستطيع المأخوذون مع ملوك الدنيا أن يفلِتُوا بحيلة من الحِيَل . قوله عليه السلام : « ولا يردّ أمرَك مَنْ سَخِط قضاءك ، ولا يستغني عنك مَنْ تولّى عن أمرك » ، تحته سر عظيم ، في جواب قول المجبِّرة : لو وقع منّا ما لا يريده لاقتضى ذلك نقصه : إنه لا نقص في ذلك ؛ لأ نّه لا يريد الطاعات منّا إرادة قَهْر وإلجاء ، ولو أرادَها إرادة قهر لوقعتْ

.


1- .سورة الإسراء 67 .

ص: 374

وغلبت إرادته إرادتنا ، ولكنّه تعالى أراد منّا أن نفعل نحن الطاعة اختيارا ، فلا يدلّ عدم وقوعها منّا على نقصه وضعفه ، كما لا يدلّ عدمُ وقوع ما أمر به على ضعفه ونقصه . ثم قال عليه السلام : « كلّ سرّ عندك علانية » ، أي لا يختلف الحال عليه في الإحاطة بالجهر والسرّ ؛ لأ نّه عالم لذاته ، ونسبة ذاته إلى كلّ الأُمور واحدة . ثم قال : « أنت الأبد فلا أمدَ لك » ، هذا كلام عُلْويّ شريف ، لا يفهمه إلاّ الراسخون في العلم ، وفيه سِمَة من قول النبي صلى الله عليه و آله وسلم : « لا تسبّوا الدهر ، فإن الدهر هو اللّه » ، وفي مناجاة الحكماء لمحة منه أيضا ، وهو قولهم : « أنت الأزل السَّرْمد وأنت الأبد الَّذي لا ينفد » ، بل قولهم : « أنت الأبَد الذي لا ينفد » ، هو قوله : « أنت الأبد فلا أمَد لك » ، بعينه ، ونحن نشرحه هاهنا على موضوع هذا الكتاب ، فإنه كتاب أدب لا كتاب نظر ، فنقول : إن له في العربية محمليْن : أحدهما : أنّ المراد به : أنت ذو الأبد ، كما قالوا : رجل خالٍ ، أي ذو خال ؛ والخال : الخُيَلاء . والمحمل الثاني : أ نّه لما كان الأزل والأبد لا ينفكَّان عن وجوده سبحانه ، جعله عليه السلام كأنّه أحدهما بعينه . وقوله : « فلا منجى منك إلاّ إليك » قد أخذه الفرزدق فقال لمعاوية : إليك فررتُ منك ومن زيادٍولم أحسب دَمِي لَكُمَا حلالاَ (1) ثم استعظم واستهول خلْقه الذي يراه ، وملكوته الذي يشاهده ، واستصغر واستحقر ذلك ، بالإضافة إلى قدرته تعالى ، وإلى ما غاب عَنّا من سلطانه . ثم تعجّب من سُبوغ نعمه تعالى في الدنيا ، واستصغر ذلك بالنسبة إلى نعم الآخرة ، وهذا حقّ ؛ لأ نّه لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي .

الأصْلُ :ومنها :مِنْ مَلاَئِكَةٍ أَسْكَنْتَهُمْ سَمَاوَاتِكَ ، وَرَفَعْتَهُمْ عَنْ أَرْضِكَ؛ هُمْ أَعْلَمُ خَلْقِكَ بِكَ ، وَأَخْوَفُهُمْ لَكَ ، وَأَقْرَبُهُمْ مِنْكَ؛ لَمْ يَسْكُنُوا الْأَصْلاَبَ ، وَلَمْ يُضَمَّنُوا الْأَرْحَامَ ، وَلَمْ

.


1- .ديوانه 2 : 608 .

ص: 375

يُخْلَقُوا مِنْ مَاءٍ مَهينٍ ، وَلَمْ يَتَشَعَّبْهُمْ رَيْبُ الْمَنُونِ ؛ وَإِنَّهُمْ عَلَى مَكَانِهمْ مِنْكَ ، وَمَنْزِلَتِهِمْ عِنْدَكَ ، وَاسْتِجْمَاعِ أَهْوَائِهِمْ فِيكَ ، وَكَثْرَةِ طَاعَتِهِمْ لَكَ ، وَقِلَّةِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ أَمْرِكَ ، لَوْ عَايَنُوا كُنْهَ مَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ مِنْكَ لَحَقَّرُوا أَعْمَالَهُمْ ، وَلَزَرَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ، وَلَعَرَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ ، وَلَمْ يُطِيعُوكَ حَقَّ طَاعَتِكَ . سُبْحَانَكَ خَالِقاً وَمَعْبُوداً ! بِحُسْنِ بَلاَئِكَ عِنْدَ خَلْقِكَ خَلَقْتَ دَاراً ، وَجَعَلْتَ فِيهَا مَأْدُبَةً : مَشْرَباً وَمَطْعَماً ، وَأَزْوَاجاً وَخَدَماً ، وَقُصُوراً ، وَأَنْهَاراً ، وَزُرُوعاً ، وَثِمَاراً . ثُمَّ أَرْسَلْتَ دَاعِياً يَدْعُو إِلَيْهَا ، فَ_لاَ الدَّاعِيَ أَجَابُوا ، وَلاَ فِيمَا رَغَّبْتَ رَغِبُوا ، وَلاَ إِلَى مَا شَوَّقْتَ إِلَيْهِ اشْتَاقُوا . أَقْبَلُوا عَلَى جِيفَةٍ قَدْ افْتَضَحُوا بِأَكْلِهَا ، وَاصْطَلَحُوا عَلَى حُبِّهَا ، وَمَنْ عَشِقَ شَيئاً أَعْشَى بَصَرَهُ ، وَأَمْرَضَ قَلْبَهُ ، فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْنٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ ، وَيَسْمَعُ بِأُذُنٍ غَيْرِ سَمِيعَةٍ ، قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ ، وَأَمَاتَتِ الدُّنْيَا قَلْبَهُ ، وَوَلِهَتْ عَلَيْهَا نَفْسُهُ ، فَهُوَ عَبْدٌ لَهَا ، وَلِمَنْ فِي يَدَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا ، حَيْثُما زَالَتْ زَالَ إِلَيْهَا ، وَحَيْثُما أَقْبَلَتْ أَقْبَلَ عَلَيْهَا ، لاَ يَنْزَجِرُ مِنَ اللّهِ بِزَاجِرٍ ، وَلاَيَتَّعِظُ مِنْهُ بِوَاعِظٍ ، وَهُوَ يَرَى الْمَأْخُوذِينَ عَلَى الْغِرَّةِ ، حَيْثُ لاَ إِقَالَةَ لَهُمْ وَلاَ رَجْعَةَ ؛ كَيْفَ نَزَلَ بِهمْ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَ ، وَجَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا مَا كَانُوا يَأْمَنُونَ ، وَقَدِمُوا مِنَ الآخِرَةِ عَلَى مَا كَانُوا يُوعَدُونَ . فَغَيْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهمْ ، اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ وَحَسْرَةُ الْفَوْتِ ، فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ ، وَتَغَيَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ ، ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً ، فَحِيلَ بَيْنَ أَحَدِهِمْ وَبَيْنَ مَنْطِقِهِ ، وَإِنَّهُ لَبَيْنَ أَهْلِهِ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ ، وَيَسْمَعُ بِأُذُنِهِ ، عَلَى صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ ، وَبَقَاءٍ مِنْ لُبِّهِ ، يُفَكِّرُ فِيمَ أَفْنَى عُمْرَهُ ، وَفِيمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ ! وَيَتَذَكَّرُ أَمْوَالاً جَمَعَهَا ، أَغْمَضَ فِي مَطَالِبِهَا ، وَأَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا وَمُشْتَبِهَاتِهَا ، قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ جَمْعِهَا ، وَأَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا ، تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَهُ يَنْعَمُونَ فِيهَا ، وَيَتَمَتَّعُونَ بِهَا ، فَيَكُونُ الْمَهْنَأُ لِغَيْرِهِ ، وَالْعِب ءُ عَلَى ظَهْرِهِ . وَالْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُهُ بِهَا ، فَهُوَ يَعَضُّ يَدَهُ نَدَامَةً عَلَى مَا أَصْحَرَ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ ، وَيَزْهَدُ فِيَما كَانَ يَرْغَبُ فِيهِ أَيَّامَ

.

ص: 376

عُمُرِهِ ، وَيَتَمَنَّى أَنَّ الَّذِي كَانَ يَغْبِطُهُ بِهَا وَيَحْسُدُهُ عَلَيْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ ! فَلَمْ يَزَلِ الْمَوْتُ يُبَالِغُ فِي جَسَدِهِ حَتَّى خَالَطَ لِسَانُهُ سَمْعَهُ ، فَصَارَ بَيْنَ أَهْلِهِ لاَ يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ ، وَلاَ يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ ، يُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ فِي وَجُوهِهِمْ ، يَرَى حَرَكَاتِ ألسِنَتِهِمْ ، وَلاَ يَسْمَعُ رَجْعَ كَ_لاَمِهِمْ . ثُمَّ ازْدَادَ المَوْتُ الْتِيَاطاً به ، فَقُبِضَ بَصَرُهُ كَمَا قُبِضَ سَمْعُهُ ، وَخَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ ، فَصَارَ جِيفَةً بَيْنَ أَهْلِهِ ، قَدْ أَوْحَشُوا مِنْ جَانِبِهِ ، وَتَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ . لاَ يُسْعِدُ بَاكِياً ، وَلاَ يُجِيبُ دَاعِياً . ثُمَّ حَمَلُوهُ إِلَى مَخَطٍّ فِي الأرْض ، فَأَسْلَمُوهُ فِيهِ إِلَى عَمَلِهِ ، وَانْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِهِ . حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ، وَالْأَمْرُ مَقَادِيرَهُ ، وَاُلحِقَ آخِرُ الْخَلْقِ بِأَوَّلِهِ ، وَجَاءَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ مَا يُرِيدُهُ مِنْ تَجْدِيدِ خَلْقِهِ ، أَمَادَ السَّمَاءَ وَفَطَرَهَا ، وَأَرَجَّ الْأَرْضَ وَأَرْجَفَهَا ، وَقَلَعَ جِبَالَها وَنَسَفَهَا ، وَدَكَّ بَعْضُهَا بَعْضاً مِنْ هَيْبَةِ جَلاَلَتِهِ وَمَخُوفِ سَطْوَتِهِ ، وَأَخْرَجَ مَنْ فِيهَا ، فَجَدَّدَهُمْ بَعْدَ إِخْلاَقِهمْ ، وَجَمَعَهُمْ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ ، ثُمَّ مَيَّزَهُمْ لِما يُريدُهُ مِنْ مَسْألتِهِمْ عَنْ خَفَايَا الأعْمَالِ وَخَبَايَا الأفْعَالِ ، وَجَعَلَهُمْ فَرِيقَيْنِ : أنْعَمَ عَلَى هؤلاَءِ وَانْتَقَمَ مِنْ هؤلاَءِ . فَأَمَّا أَهْلُ الطَّاعَةِ فَأَثَابَهُمْ بِجِوَارِهِ ، وَخَلَّدَهُمْ فِي دَارِهِ ، حَيْثُ لاَيَظْعَنُ النُّزَّالُ ، وَلاَ تَتَغَيْرُ بِهِمُ الْحَالُ ، وَلاَ تَنُوبُهُمُ الْأَفْزَاعُ ، وَلاَ تَنَالُهُمُ الْأَسْقَامُ ، وَلاَ تَعْرِضُ لَهُمُ الْأَخْطَارُ ، وَلاَ تُشْخِصُهُمُ الْأَسْفَارُ . وَأَمَّا أَهْلُ الْمَعْصِيَةِ فَأَنْزَلَهُمْ شَرَّ دَارٍ ، وَغَلَّ الْأَيْدِيَ إِلَى الْأَعْنَاقِ ، وَقَرَنَ النَّوَاصِيَ بِالْأَقْدَامِ ، وَأَلْبَسَهُمْ سَرَابِيلَ الْقَطِرَانِ ، وَمُقَطَّعَاتِ النِّيرَانِ ، فِي عَذَابٍ قَدِ اشْتَدَّ حَرُّهُ ، وَبَابٍ قَدْ أُطْبِقَ عَلَى أَهْلِهِ ، فِي نَارٍ لَهَا كَلَبٌ وَلَجَبٌ ، وَلَهَبٌ سَاطِعٌ ، وَقَصِيفٌ هَائِلٌ ، لاَ يَظْعَنُ مُقِيمُهَا وَلاَ يُفَادَى أَسِيرُهَا ، وَلاَ تُفْصَمُ كُبُولُهَا . لاَ مُدَّةَ لِلدَّارِ فَتَفْنَى ، وَلاَ أَجَلَ لِلْقَوْمِ فَيُقْضَى .

الشّرْحُ :هذا موضع المثل : « في كلّ شجرة نار ، واستمجد المرْخ والعفار » ، الخطب الوعظية الحسان كثيرة ؛ ولكن هذا حديث يأكل الأحاديث : محاسن أصناف المغنين جمةٌوما قصباتُ السَّبْق إلاّ لمعبد من أراد أن يتعلّم الفصاحة والبلاغة ، ويعرف فضلَ الكلام بعضه على بعض ؛ فليتأمل هذه الخطبة ؛ فإن نسبتها إلى كلّ فصيح من الكلام _ عدا كلام اللّه ورسوله _ نسبة الكواكب المنيرة الفلكيّة إلى الحجارة المظلمة الأرضية ، ثم لينظر الناظر إلى ما عليها من البهاء ، والجلالة والرّواء ، والديباجة ، وما تحدثه من الروعة والرهبة ، والمخافة والخشية ؛ حتى لو تليتْ على زندِيق ملحد مصمّم على اعتقاد نفيِ البعث والنّشور لهدّت قواه ، وأرعبت قلبه ، وأضعفت على نفسه ، وزلزلت اعتقاده ، فجزى اللّه قائلها عن الإسلام أفضل ما جزى به وليّاً من أوليائه ؛ فما أبلغ نصرته له ؟! تارةً بيده وسيفه ، وتارة بلسانه ونطقه ، وتارة بقلبه وفكره ! إن قيل جهاد وحرب ، فهو سيّد المجاهدين والمحاربين ، وإن قيل وعظٌ وتذكير ، فهو أبلغُ الواعظين والمذكّرين ، وإن قيل فقهٌ وتفسير ، فهو رئيس الفقهاء والمفسّرين ، وإن قيل عدل وتوحيد ، فهو إمام أهل العدل والموحّدين : ليس على اللّه بمستنكَرٍأن يجمع العالم في واحدِ ثم نعود إلى الشرح ، فنقول : قوله عليه السلام : « أسكنتهم سماواتك » ، لا يقتضى أنّ جميع الملائكة في السماوات ، فإنه قد ثبت أنّ الكرام الكاتبين في الأرض ، وإنما لم يقتض ذلك ؛ لأنّ قوله : « من ملائكة » ليس من صيغ العموم ؛ فإنه نكرة في سياق الإثبات . وقد قيل أيضا : إنّ ملائكة الأرض تعرُج إلى السماء ومسكنها بها ، ويتناوبون على أهل الأرض . قوله : «هم أعلمُ خَلْقك بك » ، ليسَ يعني به أنّهم يعلمون من ماهيته تعالى ما لا يعلمه البشر . [بل ، الوجه الذي يُحمل عليه قوله هذا ، هو] أنّهم يعلمون من تفاصيل مخلوقاته وتدبيراته ما لا يعلمه غيرهم ، كما يقال : وزير الملك أعلمُ بالملكِ من الرعية ، ليس المراد أ نّه أعلم بذاته وماهيّته ، بل بأفعاله وتدبيره ومراده وغرضه . قوله : « وأخوفهم لك » ؛ لأنّ قوّتي الشهوة والغضب مرفوعتان عنهم ، وهما منبع الشرّ ، وبهما يقع الطمع والإقدام على المعاصي . وأيضا فإنّ منهم مَنْ يشاهد الجَنّة والنار عياناً ، فيكون أخوفَ ؛ لأ نّه ليس الخبر كالعيان . قوله : « وأقربهم منك » لا يريد القربَ المكانيّ ؛ لأ نّه تعالى منزّه عن المكان والجهة ، بل المراد كثرة الثواب وزيادة التعظيم والتبجيل . ثمّ نَبّه على مزيّة لهم تقتضِي أفضليّةَ جنسِهم على جنْس البشر ؛ بمعنى الأشرفيّة ، لا بمعنى زيادة الثواب ، وهو قوله : « لم يسكنُوا الأصلاب ولم يضمَّنوا الأرحام ، ولم يخلقوا من ماء مَهِين ، ولم يتشعّبهم ريبُ

.

ص: 377

المنون » ؛ وهذه خصائص أربع . ثمّ إعلم أن مسألة تفضيل الملائكة على الأنبياء لها صورتان ، إحداهما : أن « أفضل » بمعنى كونهم أكثر ، والأُخرى : كونهم أفضل بمعنى أشرف ؛ كما تقول : « إن الفَلَكَ أفضل من الأرض ، أي أن الجوهر الذي منه جسمية الفلك أشرف من الجوهر الذي منه جسمية » . وهذه المزايا الأربع دالة على تفضيل الملائكة بهذا لاعتبار الثاني (1) . قوله عليه السلام : « يتشعّبهم ريب المنون » ، أي يتقسّمهم ، والشَّعْب : التفريق ؛ ومنه قيل للمنيّة : شَعوب ؛ لأنها تفرّق الجماعات . وريْب المنون : حوادث الدهر ، وأصل الرّيْب ما رابَ الإنسان ، أي جاءه بما يكره ، والمنون الدهر نفسه ، والمنون أيضا المنيّة ؛ لأنّها تمنّ المدّة ، أي تقطعها ، والمنّ : القطع ، ومنه قوله تعالى : « لَهُمْ أجْرٌ غَيْرُ ممْنُونٍ » (2) . ثم ذكر أنّهم على كثرة عبادتهم وإخلاصهم لو عاينوا كُنْه ما خفي عليهم من الباري تعالى لحقّروا أعمالهم . وزروْا على أنفسهم ، أي عابوها ، تقول : زريت على فلان ، أي عبته وأزريت بفلان أي قصرت به . فإن قلت : ما هذا الكُنه الذي خَفَى عن الملائكة ، حتى قال : لو عاينوه لحَ_قّرُوا عبادتهم ، ولعلموا أنهم قد قصروا فيها ؟ قلت : إنّ علوم الملائكة بالباري تعالى نظريَّة كعلوم البشر ، والعلوم النظرية دون العلوم الضرورية في الجلاء والوضوح ، فأميرُ المؤمنين عليه السلام يقول : لو كانتْ علومهم بك وبصفاتك الإثباتية والسلبية والإضافية ضرورية ، عِوَض علومهم هذه المتحقّقة الآن ، التي هي نظرية ؛ لا نكشف لهم ما ليس الآن على حدّ ذلك الكشف والوضوح . ولا شبهةَ أنَّ العبادة والخدمة على قَدْر المعرفة بالمعبود ، فكلّما كان العابد به أعرفَ ، كانت عبادته له أعظَم ، ولا شبهة أنّ العظيم عند الأعظم حقير .

.


1- .إن مسألة تفضيل الملائكة على سائر المخلوقات رأي انفردت به المعتزلة . بينما ذهب أهل السنّة والجماعة إلى تفضيل المؤمنين عليهم بل الآدميين ، والنبي صلى الله عليه و آله وسلم أفضل من الآدميين وغيرهم . [شرح صحيح مسلم للنووي 5 : 37 . البحر الرائق لابن نجيم المصري 1 : 582 . حاشية رد المحتار لابن عابدين 1 : 568] . أما الإمامية فقد أجمعوا على تفضيل الأنبياء على الملائكة [رسائل المرتضى 1 : 110 ، 156 ]وأن الأئمة الاثني عشر أفضل من سائر المخلوقات من الأنبياء والأوصياء السابقين والملائكة وغيرهم ، وأن الأنبياء أفضل من الملائكة . [أمالي الصدوق ص738 ، علل الشرائع 1 : 5 . والفصول المهمة للحرّ العاملي 1 : 403] .
2- .سورة فصلت 8 .

ص: 378

فإن قلت : فما معنى قوله : « واستجماع أهوائهم فيك » ؟ وهل للملائكة هَوىً ؟ وهل تستعمل الأهواء إلاّ في الباطل؟ قلت : الهوى : الحبُّ وميْل النفس ، وقد يكون في باطل وحقّ ، وإنما يحمل على أحدهما بالقرينة ، والأهواء تستعمل فيهما ، ومعنى استجماع أهوائهم فيه : أنَّ دواعيَهم إلى طاعته وخدمته لا تنازعُها الصوارف ، وكانت مجتمعة مائلة إلى شقّ واحد . فإن قلت : الباء في قوله : « بحسن بلائك » بماذا تتعلق؟ قلت : الباء هاهنا للتعليل بمنى اللام ، كقوله تعالى : « ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تأتِيهِمْ رُسُلُهمْ » (1) ، أي لأنّهم ، فتكون متعلقة بما في « سبحانك » من معنى الفعل ، أي أسبحك لحسن بلائك . ويجوز أن تتعلّق بمعبود ، أي يعبد لذلك . ثم قال : « خلقت داراً » يعني الجنة . والمأدَبة والمأدُبة ، بفتح الدال وضمها : الطعام الذي يُدعَى الإنسان إليه . وفي هذا الكلام دلالة على أن الجنة الآن مخلوقة ، وهو مذهب أكثر أصحابنا . ومعنى قوله : « وزروعاً » أي وغروسا من الشجر ، يقال : زرعت الشجر ، كما يقال : زرعت البرّ والشعير ، ويجوز أن يقال : الزروع : جمع زَرعْ وهو الإنبات ، يقال : زرعه اللّه أي أنبته . قوله : ثم أرسلت داعياً يعني الأنبياء . وأقبلوا على جِيفة ، يعني الدنيا . ومن كلام الحسن رضى اللّه عنه : إنّما يتهارشون على جِيفةٍ . وإلى قوله : « ومن عشق شيئا أعشى بصره » نظر الشاعر ، فقال : وَعَيْنُ الرِّضا عن كلِّ عيب كليلةٌكما أنّ عين السخط تبدي المساويا قد خرقت الشهواتُ عقله ، أي أفسدته كما تخرِق الثوب فيفسد . وإلى قوله : « فهو عبد لها ولمن في يديه شيء منها » نظر ابن دريد ، فقال : عَبيدُ ذِي المال وإنْ لم يَطمعُوامِنْ مالِهِ في نُغْبةٍ تَشْفي الْصَّدَا وهم لمن أملَق أعداءٌ وإنشاركهم فيما أفاد وحَوَى وإلى قوله : « حيثما زالت زال إليها ، وحيثما أقبلت أقبل عليها » نظر الشاعر ، فقال : ما الناس إلاَّ مع الدنّيا وصاحِبِهافكيفما انقلبتْ يوماً به انقلبُوا يعظِّمُون أخا الدنيا فإن وثبتْيوماً عليه بما لا يشتهي وَثَبُوا

.


1- .سورة غافر 22 .

ص: 379

والغِرّة : الاغترار والغَفْلة ، والغارّ : الغافل ، وقد اغتررتُ بالرجل ، واغترّه زيد ، أي أتاه على غِرّة منه ، ويجوز أن يعني بقوله : « المأخوذين على الغرّة » الحداثة والشبيبة ، يقول : كان ذلك في غَرارتي وغرّتي ، أي في حداثتي وصبايَ . قوله : « سكْرة الموتِ وحسرة الفَوْت » ، أي الحسرة على ما فاتهم من الدنيا ولذّتها ، والحسرة على ما فاتهم من التوبة والندم واستدراك فارط المعاصي . والولوج : الدخول ، وَلَج يلِج . قوله : « وبقاءٍ من لبِّه » أي لبُّه باق لم يعدم ، ويروى « ونقاء » بالنون ، والنّقاء : النظافة ، أي لبّه غير مغمور . أغمض في مطالبها ، أي تساهل في دينه في اكتسابه إياها ، أي كان يفني نفسَه بتأويلات ضعيفة في استحلال تلك المطالب والمكاسب ، فذاك هو الإغماض قال تعالى : « وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ » (1) ، ويمكن أن يُحمَل على وجه آخر ، وهو أنه قد كان يحتال بحيلٍ غامضة دقيقة في تلك المطالب حتى حصلها واكتسبها . قوله عليه السلام : « وأخذها من مصَرّحاتها ومشتبهاتها » ، أي من وجوه مباحة وذوات شبهة ، وهذا يؤكد المحمل الأول في « أغمض » . والتبعات : الآثام ، الواحدة تبعة ومثلها التباعة . والمهنأ : المصدر من هَنِئ الطعام وهَنُؤ بالكسر والضم ، مثل فَقِه وفَقُه ، فإن كسرت قلت : « يهنأ » ، وإن ضممت قلت : « يهنؤ » ، والمصدر « هناءة » و « مهنأ » ، أي صار هنيئا . والعب ء : الحمل ، والجمع أعباء . وغَلِق الرّهن ، أي استحقّه المرتهِن ، وذلك إذا لم يُفْتَكَكْ في الوقت المشروط . فإن قلت : فما معنى قوله عليه السلام : « قد غَلِقتْ رهونُه بها » في هذا الموضع؟ قلت : لمَّا كان قد شارفَ الرحيلَ وأشفى على الفراق ، صارت تلك الأُمور التي جمعها مستحقة لغيره ، ولم يبقَ له فيها تصرُّف ، وأشبهت الرّهن الذي غَلِقَ على صاحبه ، فخرج عن كونه مستحقّا له ، وصار مستَحقّا لغيره ، وهو المرتهِن . وأصحر : انكشف ، وأصله الخروج إلى الصحراء والبروزُ من المكمن . رجع كلامهم : ما يتراجعونه بينهم من الكلام . ازداد الموت التياطاً به ، أي التصاقاً . قد أُوحِشُوا ، أي جعلوا متوحّشين ، والمستوحِش : المهموم الفزِع ، ويروى « أوْحشوا من جانبه » ، أي خلوْا منه وأقفروا ، تقول : قد أوحش المنزل من أهلِه ، أي أقفر . وخلا إلى مخطّ في الأرض ، أي إلى

.


1- .سورة البقرة 267 .

ص: 380

خَطّ ، سماه مخطّاً أو خَطّا لدِقّته ، يعنى اللَّحد ، ويروى : « إلى محطّ » بالحاء المهملة ، وهو المنزل ، وحطّ القوم ، أي نزلوا . وألحق آخرُ الخلق بأوله ، أي تساوى الكلّ في شمول الموت والفناء لهم، فالتحق الآخر بالأوّل. أماد السماء : حَرّكها، ويروى : « أمار »، والموَرَان : الحركة . وفَطَرها : شَقّها . وأرجّ الأرض : زلزلها ، تقول : رجّت الأرضُ ، وأرجّها اللّه ، ويجوز « رجّها » ، وقد روي « رجَّ الأرض » بغير همزة ، وهو الأصحّ ، وعليه ورد القرآن : « إذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجّا » (1) . أرجفها : جعلها راجفة ، أي مرتعدة متزلزلة ، رجفت الأرضُ ، ترجُف ، والرَّجَفان : الاضطراب الشديد . ونسفها : قَلَعها من أُصولها . ودك بعضُها بعضاً : صدمه ودقّه حتى يكسره ويسوّيَه بالأرض . ميّزهم ، أي فَصَل بينهم ، فجعلهم فريقين : سعداء وأشقياء ، ومنه قوله تعالى : « وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا المُجْرِمُونَ » (2) ، أي انفصلوا من أهل الطاعة . يظعَن : يرحل . تنوبُهم الأفزاع : تعاودُهم ، وتعرض لهم الأخطار : جمع خَطَر ، وهو ما يشرَف به على الهَلَكة . وتُشخصهم الأسفار : تخرجهم من منزل إلى منزل ، شخص الرجلُ وأشخصه غيرُه . وغلّ الأيدي : جعلها في الأغلال ، جمع غُلّ بالضم ، وهو القَيْد . والقطِران : الهِناء ، قطرتُ البعير أي طَليته بالقَطِران . وبعير مقطور ، وهذا من الألفاظ القرآنية ، قال اللّه تعالى : « سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ » (3) ؛ والمعنى أنّ النار إلى القَطِران سريعة جداً . ومقطّعات النِّيران ، أي ثياب من النيران ، قد قطعت وفصّلت لهم ، وقيل : المقطّعات : قصار الثياب . والكلَب : الشدّة . والجلَب واللّجَب : الصوت . والقصِيف : الصوت الشديد . لا يُقْصم كُبولها : لا يكسر قيودها ، الواحد كَبْل . ثم ذكر أن عذابهم سرمديّ ، وأنه لا نهاية له ، نعوذ باللّه من عذاب ساعة واحدة ، فكيف من العذاب الأبديّ!

.


1- .سورة الواقعة 4 .
2- .سورة يس 59 .
3- .سورة إبراهيم 50 .

ص: 381

الأصْلُ :منها في ذكر النبي صلى الله عليه و آله وسلم :قَدْ حَقَّرَ الدُّنْيَا وَصَغَّرَهَا وَأَهْوَنَ بِهَا وَهَوَّنَهَا ، وَعَلِمَ أَنَّ اللّهَ زَوَاهَا عَنْهُ اخْتِيَاراً ،

.

ص: 382

وَبَسَطَهَا لِغَيْرِهِ احْتِقَاراً ، فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ ، وَأَمَاتَ ذِكْرَهَا عَنْ نَفْسِهِ ، وَأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ ، لِكَيْلاَ يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً ، أَوْ يَرْجُوَ فِيهَا مَقَاماً . بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ مُعْذِراً ، وَنَصَحَ لِأُمَّتِهِ مُنْذِراً ، وَدَعَا إِلَى الْجَنَّةِ مُبَشِّراً وَخَوَّفَ مِنَ النَّارِ مُحَذِّراً .

الشّرْحُ :فَعّل مشدّد ، للتكثير ، « قتّلت » أكثر من « قَتَلْت » ، فيقتضي قوله عليه السلام : « قد حقّر الدنيا » زيادة تحقير النبي صلى الله عليه و آله وسلم لها ، وذلك أبلغ في الثناء عليه وتقريظه . قوله : « وَصَغّرها » ، أي وصغّرها عند غيره ؛ ليكون قوله : « وأَهْوَنَ بها وهوّنها » مطابقا له ، أي أهون هو بها وهَوّنها عند غيره . وزواها : قبضها ، قال عليه الصلاة والسلام : « زُوِيَتْ لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها » (1) . وقوله : « اختيارا » ، أي قبض الدّنيا عنه باختيار ورضا من النبي صلى الله عليه و آله وسلم بذلك ، وعلمٍ بما فيه من رفعة قدره ، ومنزلته في الآخرة . « والرياش والريش » بمعنى ، وهو اللباس الفاخر ، كالحرم والحرام ، واللّبس واللباس ، وقرئ « ريشاً ورياشاً » « وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ » (2) ، ويقال : الريش والرياش : المال والخِصْب والمعاش ، وارتاش فلان : حسنت حاله . ومعذراً : أي مبالغا ، أعذر فلان في الأمر ، أي بالغ فيه .

الأصْلُ :نَحْنُ شَجَرَةُ النّبُوَّةِ ، وَمَحَطُّ الرِّسَالَةِ ، وَمُخْتَلَفُ الْمَلاَئِكَةِ ، وَمَعَادِنُ الْعِلْمِ ، وَيَنَابِيعُ الْحُكْمِ ، نَاصِرُنا وَمُحِبُّنَا يَنْتَظِرُ الرَّحْمَةَ ، وَعَدُوُّنا وَمُبْغِضُنَا يَنْتَظِرُ السَّطْوَةَ .

الشّرْحُ :هذا الكلام غير ملتصِق بالأول كلّ الالتصاق، وهو من الَّنمَط الذي ذكرناه مرارا؛ لأنَ الرضيّ رحمه اللهيقتضب فصولاً من خطبة طويلة، فيوردها إيرادا واحداً ، وبعضها منقطع عن البعض .

.


1- .مسند أحمد ابن حنبل 6 : 374 ح21889 ، صحيح مسلم 5 : 409 ح2889 ، سنن ابن ماجه 2 : 1304 ح3952 ، مسند الشاميين للطبراني 4 : 45 ح2960 ، البداية والنهاية لابن كثير 6 : 296 تحقيق علي شيري .
2- .سورة الأعراف 26 .

ص: 383

قوله عليه السلام : « نحن شجرة النبوّة » (1) ، كأنه جعل النبوة كثمرة أخرجتها شجرة بني هاشم . ومحطّ الرسالة : منزلها . ومختلف الملائكة : موضع اختلافها في صعودها ونزولها . واعلم أنه إن أراد بقوله : « نحن مختلف الملائكة » جماعة من جملتها رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، فلا ريب في صحة القضية وصدْقها ، وإن أراد بها نفسَه وابنيْه فهي أيضا صحيحة ؛ ولكن مدلوله مستَنبَط ، فقد جاء في الأخبار الصحيحة ، أنه قال : « يا جبريل ، إنه منّي وأنا منه » ، فقال جبريل : وأنا منكما (2) . وروى أبو أيوب الأنصاريّ عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم : « لقد صلّت الملائكة عليّ وعلى عليّ سبع سنين لم تصلّ على ثالث لنا » (3) ؛ وذلك قبل أن يظهر أمرُ الإسلام ويتسامع الناس به . وفي خطبة الحسن بن علي عليه السلام لما قُبض أبوه : « لقد فارقكُم في هذه الليلة رجلٌ لم يسبقه الأولون ولا يدركه الآخرون، كان يبعثه رسول اللّه 6 للحرب وجبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره » (4) . وجاء في الحديث أنه سُمِع يوم أُحُد صوتٌ من الهواء من جهة السماء ، يقول : « لا سيف إلاّ ذو الفقار ، ولا فتى إلاّ عليّ » ، وأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قال : « هذا صوت جبريل » (5) . فأمّا قوله : « ومعادن العلم ، وينابيع الحُكْم » يعني الحكمة أو الحكم الشرعيّ ، فإنه وإن عَنَى بها نفسه وذريّته ، فإن الأمر فيها ظاهر جدّا ، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : « أنا مدينة العلم وعليّ بابها ، فمن أراد المدينة فليأت الباب » (6) ، وقال : « أقضاكم عليّ » (7) والقضاء أمر

.


1- .والإمام عليه السلام لم يكن نبيّا لكنه بمنزلة نفس النبي صلى الله عليه و آله وسلم ، حيث قال تعالى : « وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ» [آل عمران / 61] مريدا لهما . وقال النبي صلى الله عليه و آله وسلم : « أنا وعلي من شجرة واحدة وسائر الناس من شجر شتى » أخرجه ابن عساكر بطرق في ترجمة الامام علي عليه السلام 1 : 142 _ 147 ح 178 _ 181 ، المناقب لأخطب خطباء خوارزم: ص 143 ح 165 الفصل الرابع عشر ، والديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب 1 : 44 ح 109 ، والمتقي الهندي في كنز العمال 11 : 608 ح32943 .
2- .الاحتجاج : 1 / 157 ، المناقب لابن شهرآشوب : 2 / 124 ، نظم درر السمطين : 120 .
3- .كنز الفوائد : 1 / 272 ، المناقب لابن شهر آشوب : 2 / 16 ، نظم درر السمطين : 83 .
4- .أخرجه أحمد في مسنده 1 : 328 ح1721 ، والنسائي في الخصائص : ص60 ، والطبري في تاريخه 4 : 120 ، البداية والنهاية لابن كثير 7 : 368 حوادث سنة 40 ه ، المعجم الأوسط للطبراني 3 : 888 ح1276 .
5- .أخرجه ابن هشام فيالسيرة 3 : 43 ، وفرات الكوفي في تفسيره : ص25 ، فضائل الصحابة لأحمد ابن حنبل 2 : 657 الرقم 1119 ، ذخائر العقبى :ص68 ، المعجم الكبير للطبراني 1 : 297 ح941 ترجمة أبي رافع وآخرون .
6- .المستدرك على الصحيحين 3 : 137 ح4637 _ 4639 بعدة طرق ، تهذيب الآثار للطبري : ص105 رقم 173 من مسند عليّ عليه السلام ، فضائل عليّ لأحمد ابن حنبل : ص138 ح203 ، المقاصد الحسنة للسخاوي : ص123 ح189 ، معرفة الصحابة لأبي نعيم 1 : 308 .
7- .الاستيعاب : القسم الثالث /1102 ، المواقف للقاضي الإيجي : ص411 ، كفاية الشنقيطي : ص46 .

ص: 384

يستلزم علوماً كثيرة . وجاء في تفسير قوله تعالى : « وَتَعِيهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ » (1) : « سألت اللّه أن يجعلها أُذنَك ففعل » (2) . وجاء في تفسير قوله تعالى : « أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ » (3) أنها أُنزلت في عليّ عليه السلام وما خصّ به من العلم (4) . وجاء في تفسير قوله تعالى : « أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ » (5) : أن الشاهد عليّ عليه السلام (6) . وروى المحدّثون أنه قال لفاطمة : « زوّجتُك أقدمَهم سِلْماً ، وأعظمهم حِلْما ، وأعلمهم علماً » (7) . وروى المحدّثون أيضا عنه عليه السلام أنه قال : « مَنْ أراد أن ينظُر إلى نوح في عَزْمه ، وموسى في عِلْمِه ، وعيسى في وَرَعه ، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب » (8) . رواه أبو نعيم الحافظ في « حلية الأولياء » . وبالجملة فحاله في العلم حال رفيعة جداً لم يلحقه أحد فيها ولا قاربه ، وحقّ له أن يصف نفسَه بأنه معادن العلم وينابيع الحكم ، فلا أحد أحقّ بها منه بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . فإن قلت : كيف قال : « عدونا ومبغضنا ينتظر السطوة » ، ونحن نشاهد أعداءه ومبغضيه ،

.


1- .سورة الحاقة 12 .
2- .المناقب لابن المغازلي الشافعي : الأحاديث 312 و 363 و 364 ، حلية الأولياء لأبي نعيم 1 : 67 ، شرح المقاصد للتفتازاني 2 : 220 ط . الآستانة .
3- .سورة النساء 54 .
4- .الصواعق المحرقة لابن حجر : ص152 ، الغدير للعلاّمة الأميني 3 : 93 ، مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي الشافعي : ص267 ح314 .
5- .سورة هود 17 .
6- .الغدير للأميني 3 : 317 ، ينابيع المودّة للقندوزي الحنفي 3 : 150 باب 90 ، شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني 1 : 275 _ 282 ح372 _ 378 .
7- .المسند لأحمد ابن حنبل 5 : 662 ح19796 ، الرياض النضرة للمحبّ الطبري 3 : 141 .
8- .هذا الحديث المعروف بحديث الأشباه ، وهو مروي بعدّة طرق ، وألفاظه مختلفة تبعا للراوي ، وتبعا للمناسبة التي قيل فيها . فقد أخرجه نحو (15) من الحفّاظ والمحدّثين من أهل السنّة ، منهم على سبيل المثال : أحمد بن حنبل ، أبو بكر البيهقي ، الخطب الخوارزمي ، ابن طلحة الشافعي ، محبّ الدين الطبري ، وغيرهم. راجع : مثلاً : التفسير الكبير للفخر الرازي 8 : 18 ، المواقف للعضد الإيجي : ص 410 ، فرائد السمطين لشيخ الإسلام الجويني 1 : 170 ح 131 باب 35 .

ص: 385

109 . من خطبة له عليه السلام يذكر فيها فرائض الإسلام

لا ينتظرونها ؟! قلت : لما كانت منتظرةً لهم ومعلوماً بيقين حلولها بهم ، صاروا كالمنتظرين لها . وأيضا فإنهم ينتظرون الموت لا محالة الذي كلّ إنسان ينتظره ؛ ولما كان الموت مقدّمة العقاب وطريقاً إليه جعل انتظاره انتظار ما يكون بعده (1) .

109الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلام :إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَوَسَّلَ بِهِ الْمُتَوَسِّلُونَ إِلَى اللّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، الاْءِيمَانُ بِهِ وَبِرَسُولِهِ ، وَالْجِهادُ فِي سَبِيلِهِ ، فَإِنَّهُ ذِرْوَةُ الاْءِسْلاَمِ؛ وَكَلِمَةُ الاْءِخْلاَص فَإِنَّهَا الْفِطْرَةُ؛ وَإِقَامُ الْصَّلاَةِ فَإِنَّهَا الْمِلَّةُ؛ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا فَرِيضَةٌ وَاجِبَةٌ؛ وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ جُنَّةٌ مِنَ الْعِقَابِ؛ وَحَجُّ الْبَيْتِ وَاعْتَِمارُهُ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَيَرْحَضَانِ الذَّنْبَ ؛ وَصِلَةُ الرَّحِمِ فَإِنَّهَا مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ ، وَمَنْسَأَةٌ فِي الْأَجَلِ؛ وَصَدَقَةُ السِّرِّ فَإِنَّهَا تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ ؛ وَصَدَقَةُ الْعَلاَنِيَةِ فَإِنَّهَا تَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ؛ وَصَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ فَإِنَّهَا تَقِي مَصَارِعَ الْهَوَانِ . أَفِيضُوا فِي ذِكْرِ اللّهِ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الذِّكْرِ . وَارْغَبُوا فِيَما وَعَدَ الْمُتَّقِينَ فَإِنَّ وَعْدَهُ أَصْدَقُ الْوَعْدِ . وَاقْتَدُوا بِهَدْيِ نَبِيِّكُمْ فَإِنَّةُ أَفْضَلُ الْهَدْيِ . وَاسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِ فَإِنَّهَا اَهْدَى السُّنَنِ . وَتَعَلَّمُوا الْقرْآن فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ ، وَتَفَقَّهُوا فِيهِ فَإِنَّهُ رَبِيعُ الْقُلُوبِ ،

.


1- .روى الكنجي الشافعي في « كفاية الطالب » : ص318 باب 87 مسندا : أن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال لعلي عليه السلام : « لو أنّ أُمّتي أبغضوك لأكبّهم اللّه في النار » . وأخرجه أيضاً القرشي في مسند شمس الأخبار 1 : 90 ، وشيخ الإسلام الجويني في فرائد السمطين 1 : 51 ح16 ، وغيرهم . وخطب النبي صلى الله عليه و آله وسلمفقال : « أيها الناس من أبغضنا _ أهل البيت _ بعثه اللّه يوم القيامة يهوديا » . رواه المفيد في الأمالي : ص26 / ح4 م 15 ، والهيثمي في مجمع الزوائد 9 : 172 .

ص: 386

وَاسْتَشْفُوا بِنُورِهِ فَإِنَّهُ شِفَاءُ الصُّدُورِ ، وَأَحْسِنُوا تِلاَوَتَهُ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ الْقَصَص . وَإِنَّ الْعَالِمَ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ كَالْجَاهِلِ الْحَائِرِ الَّذِي لاَ يَسْتَفِيقُ مِنْ جَهْلِهِ؛ بَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ، وَالْحَسْرَةُ لَهُ أَلْزَمُ ، وَهُوَ عِنْدَ اللّهِ ألوَمُ .

الشّرْحُ :ذَكَر عليه السلام ثمانية أشياء ، كلٌّ منها واجب . أولها : الإيمان باللّه وبرسوله ؛ ويعني بالإيمان هاهنا مجرد التصديق بالقلب ، مع قَطْع النظر عما عدَا ذلك من التلفّظ بالشهادة ، ومن الأعمال الواجبة ، وترك القبائح . وقد ذهب إلى أن ماهيّة الإيمان هو مجرد التصديق القلْبيّ جماعة من المتكلمين (1) ، ومجيئه عليه السلام به على أصل الوضع اللغويّ لا يبطل مذهبنا في مسمّى الإيمان ؛ لأنا نذهب إلى أنّ الشرع استجدّ لهذه اللفظة مسمىًّ ثانياً ، كما نذهب إليه في الصلاة والزكاة وغيرهما . وثانيها : الجهاد في سبيل اللّه ، وإنما قدّمه على التلفّظ بكلمتَي الشهادة ؛ لأ نّه من باب دفع الضّرر عن النفس ، ودفع الضّرر عن النفس مقدّم على سائر الأعمال المتعلّقة بالجوارح ، وإنما جعله ذِرْوة الإسلام ، أي أعلاه ؛ لأ نّه ما لم تتحصّن دار الإسلام بالجهاد ، لا يتمكّن المسلمون من القيام بوظائف الاسلام ؛ فكان إذا من الإسلام بمنزلة الرأس من البدن . وثالثها : كلمة الإخلاص ؛ يعني شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وشهادة أنّ محمدا رسول اللّه ، قال : فإنها الفطرة ؛ يعني هي التي فطر الناس عليها ، والأصل الكلمة الأُولى ؛ لأنها التوحيد ، وعليها فطِر البشرُ كلّهم ، والكلمة الثانية تَبَعٌ لها فأجريت مجراها ، وإنما أُخّرت هذه الخصلة عن الجهاد ؛ لأنّ الجهاد هو كان السبب في إظهار الناس لها ونطقهم بها ؛ فصار كالأصل بالنسبة إليها . ورابعها : إقام الصلاة ، أي إدامتها ، والأصل « أقام إقواماً » ، فحذفوا عين الفعل ، وتارة يعوّضون عن العين المفتوحة هاء ، فيقولون : « إقامة » . قال : فإنها الملة ، وهذا مثل قول النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم : « الصّلاة عماد الدين ، فمن تركها فقد هَدَم الدين » (2) .

.


1- .هذا هو الإيمان النظري وهو مجرد التصديق بالقلب ، أمّا الإيمان الواقعي فهو الاعتقاد مع العمل . وفي الحديث : « الإيمان إقرار باللّسان ، وعقد بالقلب ، وعمل في الأركان » سنن ابن ماجه 1 : 25 ح65 .
2- .عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي 1 : 322 ح55 ، كشف الخفاء للعجلوني 2 : 31 ح1621 . وسوف يأتي في شرح الخطبة (192) بلفظ : لاصلاة عمود الدين .

ص: 387

وخامسها : إيتاء الزكاة ، وإنما أخّرها عن الصلاة ؛ لأنّ الصلاة آكد افتراضاً منها ؛ وإنما قال في الزكاة « فإنها فريضة واجبة » ؛ لأنّ الفريضة لفظ يطلق على الجزء المعيّن المقدر في السائمة ، باعتبارٍ غير الاعتبار الذي يطلق به على صلاة الظهر لفظ الفريضة ؛ والاعتبار الأوّل من القطع ، والثاني من الوجوب ، وقال : فإنّها فريضة واجبة ؛ مثل أن يقول : فإنها شيء مقتطع من المال موصوف بالوجوب . وسادسها : صوم شهر رمضان ؛ وهو أضعف وجوبا من الزكاة ، وجعله جُنّة من العقاب ، أي سترة . وسابعها : الحجّ والعمرة ، وهما دون فريضة الصّوْم ، وقال : إنهما ينفيان الفقر ، ويَرْحضان الذنب ، أي يغسلانه . وثامنها : صِلَة الرّحم وهي واجبة ، وقطيعة الرحم محرّمة ، قال : فإنها مثراة في المال ، أي تُثريه وتكثره . ومَنْسأة في الأجل ، أي تنسَؤُه وتؤخّره ، ويقال : نسأ اللّه في أجلك . ويجوز إنساء بالهمزة . ثم قال عليه السلام : « وصدقة السرّ » ، فخرج من الواجبات إلى النوافل ، « فإنَّها تكفّر الخطيئة » ، والتكفير هو إسقاط عقاب مستحقّ بثواب أزيد منه أو توبة ، وأصله في اللغة السَّتْر والتغطية ، ومنه الكافر ؛ لأ نّه يغطّي الحق ، وسمّي البحر كافراً لتغطيته ما تحته ، وسمّي الفلاَّح كافراً لأ نّه يغطّي الحبّ في الأرض المحروثة . ثم قال : « وصدقة العلانية » ، فإنها تدفع ميتة السوء كالغرق والهدم وغيرها . قال : « وصنائع المعروف ، فإنها تقي مصارع الهوان » كأسْر الروم للمسلم ، أو كأخذ الظَّلمَة لغير المستحقّ للأخذ . ثم شرع في وصايا أُخَرَ عدّدها . والهدى : السيرة ، وفي الحديث . « واهدوا هَدْي عَمّار » يقال : هُدِيَ فلان هَدْيَ فلان ، أي سار سيرته . وسمّى القرآن حديثا ، اتباعا لقول اللّه تعالى : « نَزَّلَ أحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابا مُتَشَابِها » (1) . ثم قال : « تفقَّهوا فيه فإنه ربيع القلوب » ، من هذا أخذ ابن عباس قوله : « إذا قرأت الم ، حم ، وقعت في روضات دمِثاتٍ » . ثم قال : « فإنه شفاء الصدور » ، وهذا من الألفاظ القرآنية (2) . ثم سمّ_اه قصصاً ، اتباعاً لما ورد في القرآن من

.


1- .سورة الزمر 23 .
2- .وهو قوله تعالى في سورة الإسراء 82 : « وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ » .

ص: 388

110 . من خطبة له عليه السلام في وصف الدنيا

قوله : « نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ » (1) . ثم ذكر أن العالم الذي لا يعمل بعلمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله . ثم قال : « بل الحجّة عليه أعظم » ؛ لأ نّه يعلم الحقّ ولا يعمل به ، فالحجّة عليه أعظم من الحجّة على الجاهل ، وإن كانا جميعا محجوجَيْن ، أما أحدُهما فبِعلمه ، وأما الآخر فبتمكُّنه من أن يعلم . ثم قال : « والحسرة له ألزم » ؛ لأ نّه عند الموت يتأسّف ألاَّ يكون عمِل بما علم ، والجاهل لا يأسَف ذلك الأسف . ثم قال : « وهو عند اللّه ألوم » ، أي أحقّ أن يلام ؛ لأنّ المتمكّن عالم بالقوة ، وهذا عالم بالفعل ، فاستحقاقه اللوم والعقاب أشدّ .

110الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامأَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا ، فَإِنَّهَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ ، حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ ، وَتَحَبَّبَتْ بِالْعَاجِلَةِ ، وَرَاقَتْ بِالْقَلِيلِ ، وَتَحَلَّتْ بِالآمَالِ ، وَتَزَيَّنَتْ بِالْغُرُورِ . لاَ تَدُومُ حَبْرَتُهَا ، وَلاَ تُؤمَنُ فَجْعَتُهَا . غَرَّارَةٌ ضَرَّارَةٌ ، حَائِلَةٌ زَائِلَةٌ ، نَافِدَةٌ بَائِدَةٌ ، أَكَّالَةٌ غَوَّالَةٌ . لاَ تَعْدُو _ إِذَا تَنَاهَتْ إِلَى أُمْنِيَّةِ أَهْلِ الرَّغْبَةِ فِيهَا وَالرِّضَاءِ بِهَا - أَنْ تَكُونَ كَمَا قَالَ اللّهُ تَعَالَى : « كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْض فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً » (2) . لَمْ يَكُنِ امْرُو مِنْهَا فِي حَبْرَةٍ إِلاَّ أَعْقَبَتْهُ بَعْدَهَا عَبْرَةً ؛ وَلَمْ يَلْقَ مِنْ سَرَّائِهَا بَطْناً ، إِلاَّ مَنَحَتْهُ مِنْ ضَرَّائِهَا ظَهْراً ؛ وَلَمْ تَطُلَّهُ فِيهَا دِيمَةُ رَخَاءٍ ، إِلاَّ هَتَنَتْ عَلَيهِ مُزْنَةُ بَلاَءٍ !

.


1- .سورة يوسف 3 .
2- .سورة الكهف 45 .

ص: 389

وَحَرِيٌّ إِذَا أَصْبَحَتْ لَهُ مُنْتَصِرَةً أَنْ تُمْسِيَ لَهُ مُتَنَكِّرَةً ، وَإِنْ جَانِبٌ مِنْهَا اعْذَوْذَبَ وَاحْلَوْلَى ، أَمَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ فَأَوْبَى! لاَ يَنَالُ امْرُو مِنْ غَضَارَتِهَا رَغَباً ، إِلاَّ أَرْهَقَتْهُ مِنْ نَوَائِبِهَا تَعَباً ! وَلاَ يُمْسِي مِنْهَا فِي جَنَاحِ أَمْنٍ ، إِلاَّ أَصْبَحَ عَلَى قَوَادِمِ خَوْفٍ . غَرَّارَةٌ ، غُرُورٌ مَا فِيهَا ، فَانِيَةٌ ، فَانٍ مَنْ عَلَيْهَا ، لاَ خَيْرَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَزْوَادِهَا إِلاَّ التَّقْوَى . مَنْ أَقَلَّ مِنْهَا اسْتَكْثَرَ مِمَّا يُؤمِنُهُ ! وَمَنِ اسْتَكْثَرَ مِنْهَا اسْتَكْثَرَ مِمَّا يُوبِقُهُ ، وَزَالَ عَمَّا قَلِيلٍ عَنْهُ . كَمْ مِنْ وَاثِقٍ بِهَا قَدْ فَجَعَتْهُ ، وَذِي طُمَأْنِينَةٍ قَدْ صَرَعَتْهُ ، وَذِي أُبّهَةٍ قَدْ جَعَلَتْهُ حَقِيراً ، وَذِي نَخْوَةٍ قَدْ رَدَّتْهُ ذَلِيلاً! سُلْطَانُهَا دُوَّلٌ ، وَعَيْشُهَا رَنِقٌ ، وَعَذْبُهَا أُجَاجٌ ، وَحُلْوُهَا صَبِرٌ ، وَغِذَاؤهَا سِمَامٌ ، وَأَسْبَابُهَا رِمَامٌ ! حَيُّهَا بِعَرَض مَوْتٍ ، وَصَحِيحُهَا بِعَرَض سُقْمٍ ! مُلْكُهَا مَسْلُوبٌ ، وَعَزِيزُهَا مَغْلُوبٌ ، وَمَوْفُورُهَا مَنْكُوبٌ ، وَجَارُهَا مَحْرُوبٌ ! أَلَسْتُمْ فِي مَسَاكِنِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَطْوَلَ أَعْمَاراً ، وَأَبْقَى آثَاراً ، وَأَبْعَدَ آمَالاً ، وَأَعَدَّ عَدِيداً ، وَأَكْثَفَ جُنُوداً ! تَعَبَّدُوا لِلدُّنْيَا أَيَّ تَعَبُّدٍ ، وَآثَرُوهَا أَيَّ إِيثَارٍ ، ثُمَّ ظَعَنُوا عَنْهَا بِغَيْرِ زَادٍ مُبَلِّغٍ وَلاَ ظَهْرٍ قَاطِعٍ . فَهَلْ بَلَغَكُمْ أَنَّ الدُّنْيَا سَخَتْ لَهُمْ نَفْساً بِفِدْيَةٍ ، أَوْ أَعَانَتْهُمْ بِمَعُونَةٍ ، أَوْ أَحْسَنَتْ لَهُمْ صُحْبَةً ؟ بَلْ أَرْهَقَتْهُمْ بِالْفَوَادِحِ ، وَأَوْهَقَتْهُمْ بِالْقَوَارِعِ ، وَضَعْضَعَتْهُمْ بِالنَّوَائِبِ ، وعَفَّرَتْهُمْ لِلْمَنَاخِرِ ، وَوَطِئَتْهُمْ بِالْمَنَاسِمِ ، وَأَعَانَتْ عَلَيْهِمْ رَيْبَ الْمَنُونِ . فَقَدْ رَأَيْتُمْ تَنَكُّرَهَا لِمَنْ دَانَ لَهَا ، وَآثَرَهَا وَأَخْلَدَ إِلَيْهَا ، حِينَ ظَعَنُوا عَنْهَا لِفِرَاقِ الأبَدِ . وَهَلْ زَوَّدَتْهُمْ إِلاَّ السَّغَبَ ، أَوْ أَحَلَّتْهُمْ إِلاَّ الضَّنْكَ ، أَوْ نَوَّرَتْ لَهُمْ إِلاَّ الظُّلمَةَ ، أَوْ أَعْقَبَتْهُمْ إِلاَّ النَّدَامَةَ! أَفَهذِهِ تُؤثِرُونَ ، أَمْ إِلَيْهَا تَطْمَئِنُّونَ ، أَمْ عَلَيْهَا تَحْرِصُونَ ! فَبِئْسَتِ الدَّارُ لِمَنْ لَمْ يَتَّهِمْهَا ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا عَلَى وَجَلٍ مِنْهَا! فَاعْلَمُوا _ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ _ بِأَنَّكُمْ تَارِكُوهَا وَظَاعِنُونَ عَنْهَا ، وَاتَّعِظُوا فِيهَا بِالَّذِينَ

.

ص: 390

قَالُوا : « مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً » (1) ، حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ فَ_لاَ يُدْعَوْنَ رُكْبَاناً ، وَأُنْزِلُوا الْأَجْدَاثَ فَ_لاَ يُدْعَوْنَ ضِيفَاناً ، وَجُعِلَ لَهُمْ مِنَ الصَّفِيحِ أَجْنَانٌ ، وَمِنَ التُّرَابِ أَكْفَانٌ وَمِنَ الرُّفَاتِ جِيرَانٌ ، فَهُمْ جِيرَةٌ لاَ يُجِيبُونَ دَاعِياً ، وَلاَ يَمْنَعُونَ ضَيْماً ، وَلاَ يُبَالُونَ مَنْدَبَةً . إِنْ جِيدُوا لَمْ يَفْرَحُوا ، وَإِنْ قُحِطُوا لَمْ يَقْنَطُوا . جَمِيعٌ وَهُمْ آحَادٌ ، وَجِيرَةٌ وَهُمْ أَبْعَادٌ . مُتَدَانُونَ لاَ يَتَزَاوَرُونَ ، وَقَرِيبُونَ لاَ يَتَقَارَبُونَ . حُلَمَاءُ قَدْ ذَهَبَتْ أَضْغَانُهُمْ ، وَجُهَلاءُ قَدْ مَاتَتْ أَحْقَادُهُمْ . لاَ يُخْشَى فَجْعُهُمْ ، وَلاَ يُرْجَى دَفْعُهُمْ ، اسْتَبْدَلُوا بِظَهْرِ الْأَرْض بَطْناً ، وَبِالسَّعَةِ ضِيقاً ، وَبِالْأَهْلِ غُرْبَةً ، وَبِالنُّورِ ظُلمَةً ، فَجَاؤوهَا كَمَا فَارَقُوهَا ، حُفَاةً عُرَاةً ، قَدْ ظَعَنُوا عَنْهَا بِأَعْمَالِهِمْ إِلَى الْحَيَاةِ الْدَّائِمَةِ وَالدَّارِ الْبَاقِيَةِ ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : « كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ » (2) .

الشّرْحُ :خَضِرة ، أي ناضرة ، وهذه اللفظة من الألفاظ النبوية ، قال النبي صلى الله عليه و آله وسلم : « إنّ الدنيا حُلْوة خضِرة ، وإن اللّه مستَخلِفُكم فيها ، فناظر كيف تعملون ! » (3) . وحُفَّت بالشهوات ، كأن الشهوات مستديرة حولها ، كما يحفّ الهودجُ بالثياب ، وحَفّوا حوله يحفُّونَ حَفّاً : أطافوا به ، قال اللّه تعالى : « وَتَرَى الْمَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ » (4) . قوله : « وتحبّبت بالعاجلة » ، أي تحبّبت إلى الناس بكونها لذّة عاجلة ، والنفوس مغرمة مولَعة بحبّ العاجل ، فحذف الجار والمجرور القائم مقام المفعول . قوله : « وراقت بالقليل » ، أي أعجبت أهلها ؛ وإنما أعجبتهم بأمر قليل ليس بدائم . قوله : « وتحلّت

.


1- .سورة فصّلت 15 .
2- .سورة الأنبياء 104 .
3- .صحيح مسلم 5 : 274 ح2742 ، المستدرك على الصحيحين 4 : 551 ح8543 ، سنن البيهقي 3 : 369 ، الجامع الصغير للسيوطي 2 : 17 .
4- .سورة الزمر 75 .

ص: 391

بالآمال» من الحِلْية ، أي تزيّنت عند أهلها بما يؤمّلون منها . قوله : « وتزيّنت بالغرور » ، أي تزيّنت عند الناس بغرور لا حقيقة له . والحَبْرة : السرور . وحائلة : متغيّرة : ونافده : فانيه . وبائدة : منقضية . وأكّالة : قتالة . وغوّالة : مهلكة . والغَوْل : ما غال ، أي أهلك ؛ ومنه المثل : « الغضب غُول الحلم » . ثم قال : إنها إذا تناهتْ إلى أُمنيّة ذوي الرغبات فيها لا تتجاوز أن تكون كما وصفها اللّه تعالى به وهو قوله : « وَاضْرِبُ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيما تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شيءٍ مُقْتَدِرا » ، فاختلط ، أي فالتفّ بنبات الأرض . وتكاثف به ، أي بسبب ذلك الماء وبنزوله عليه ويجوز أن يكون تقديره : فاختلط بنبات الأرض ؛ لأ نّه لَمّا غَذَاه وأنماه ، فقد صار مختلطا به ، ولَمّا كان كلّ واحد من المختلطيْن مشاركا لصاحبه في مسمّى الاختلاط جاز « فاختلط به نبات الأرض » ، كما يجوز : فاختلط هو بنبات الأرض . والهشيم : ما تهشّم وتحطّم ، الواحدة هشيمة . وتذرُوه الرياح : تطيره . وكان اللّه على ما يشاء ، من الإنشاء والإفناء مقتدراً . قوله : « من يلق من سَرّائها بطناً » إنما خصّ السرّاء بالبطن ، والضرّاء بالظهر ؛ لأنّ الملاقي لك بالبطن ملاقٍ بالوجه ، فهو مقبل عليك ، والمعطيك ظهرَه مدبِر عنك . وقيل : لأنّ التّرس بطنُه إليك وظهره إلى عدوك ، وقيل : لأنّ المشيَ في بطون الأودية أسهلُ من السير على الظِّرَاب والآكام . وطلّه السحابَ يُطلُّه ، إذا أمطره مطراً قليلاً ، يقول : إذا أعطت قليلاً من الخير أعقبت ذلك بكثير من الشرّ ؛ لأنّ التّهتَان الكثير المطر ، هتن يهتِن بالكسر ، هَتْناً وهُتوناً وتَهْتاناً . قوله : « وحريّ » ، أي جدير وخَليق ، وتَقول : هو حَريّ أن يفعل ذلك ، بالفتح ، أي جدير وقمين ، لا يثنّى ولا يجمع . فإن قلت : فهلا قال : « وحريّة إذا أصبحت » ؛ لأ نّه يخبر عن الدنيا ؟! قلت : أراد شأنها ، فذكّر ، أي وشأنها خليق أن يفعل كذا . واعذوذب : صار عذباً . واحْلوْلَى : صار حُلْوا . وأمرّ الشيءُ ، أي صار مرّا . وأوْبى : صار وبيّا ، وليَّن الهمز ؛ لأجل السجع . والرَّغَب : مصدر رغبت في الأمر رغْبة ورَغَباً ، أي أردته . يقول : لا ينال الإنسان منها إرادته إلاّ أرهقته تَعَبا ، يقال : أرهقه إثماً ، أي حَمّله وكلّفه. فإن قلت : لم خَصّ الأمن بالجناح والخوف بالقوادم؟

.

ص: 392

قلتُ : لأنّ القوادم مقاديمُ الريش ، والراكب عليها بعرض خطر عظيم وسقوط قريب ، والجناح يستر ويقي البرد والأذى . وتُوبقه : تهلكه ، والأبّهة : الكِبْر . والرَّنَق ، بفتح النون ، مصدر رَنَق الماء ، أي تكدّر وبالكسر الكدر ، وقد روي هاهنا بالفتح والكسر ، فالكسر ظاهر ، والفتح على تقدير حذف المضاف ، أي ذو رَنَق . وماء أُجَاج : قد جمع المرارة والمُلوحة ، أجّ الماءُ يؤُج أُجاجاً . والصبِر ، بكسر الباء : هذا النبات المرّ نفسه ، ثم سمِّي كلّ مرّ صبِرا . والسّمام : جمع سَمّ لهذا القاتل ، يقال سَمّ وسُمّ ، بالفتح والضم ، والجمع سِمام وسُموم . ورمام : بالية ، وأسبابها : حبالها . وموفورها : ذو الوفْر والثروة منها . والمحروب : المسلوب ، أي لا تحمي جارا ولا تمنعه . ثم أخذ قوله تعالى : « وَسَكَنْتمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ » (1) ، فقال : « ألستم في مساكِن مَنْ كان قبلكم أطول أعماراً » ، نصب « أطول » بأنه خبر كان ، وقد دلّنا الكتَابَ الصادق على أنهم كانوا أطول أعمارا بقوله : « فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلاَّ خَمْسِينَ عَاما » (2) ، وثبت بالعيان أنّهم أبقى آثارا ؛ فإنّ من آثارهم الأهرام والإيوان ومنارة الإسكندرية وغير ذلك . وأمّا بُعدُ الآمال فمرتَّب على طول الأعمار ، فكلّما كانت أطول كانت الآمال أبعَد ، وإن عَنَى به علُوّ الهمم ، فلا ريب أنهم كانوا أعلى همما من أهل هذا الزمان ، وقد كان فيهم مَنْ ملَك معمورة الأرض كلّها ، وكذلك القول في « أعدَّ عديدا ، وأكثَف جنوداً » ، والعديد : العدوّ الكثير ؛ وأعدّ منهم ، أي أكثر . قوله : « ولا ظهر قاطع » ، أي قاطع لمسافة الطريق . والفوادح : المثقلات ، فَدَحه الدَّين أثقله ، ويروى « بالقوادح » بالقاف ؛ وهي آفة تظهر في الشجر ، وصدوع تظهر في الأسنان . وأوهقتهم : جعلتهم في الوهَق ، بفتح الهاء ، وهو حبل كالطِّوَل ويجوز التّسْكين ، مثل نَهْر ونَهَر . والقوارع : المحن والدواهي ، وسميت القيامة قارِعة في الكتاب العزيز من هذا المعنى وضَعْضَعتهم : أذلّتهم ، قال أبو ذؤيب :

.


1- .سورة إبراهيم 45 .
2- .سورة العنكبوت 14 .

ص: 393

* أني لرَيب الدّهْرِ لا أتضعضع (1) * وضعضعت البناء : أهدمته . وعَفّرتْهُم للمناخر . ألصقت أنوفهم بالعَفَر ، وهو التراب . والمناسم : جمع منسِم ، بكسر السين ، وهو خُفّ البعير . ودان لها : أطاعها ، ودان لها أيضا : ذلّ . وأخلد إليها : مال ، قال تعالى : « وَلَكِنهٌ أخْلَدَ إلَى الأَرْضِ » (2) ، والسّغَب : الجوع ، يقول : إنما زودتهم الجوع ، وهذا مثَل ، كما قال : ومدحتُه فأجازَنِي الحرمانا . ومعنى قوله : « أو نوّرت لهم إلاّ الظلمة » ، أي بالظلمة ، وهذا كقوله : « هل زودتهم إلاّ السّغب » . وهو من باب إقامة الضدّ مقام الضدّ ، أي لم تسمح لهم بالنور بل بالظلمة . والضنك: الضيق . ثم قال : فبئست الدار ، وحذف الضمير العائد إليها وتقديره « هي » كما قال تعالى : « نِعْمَ الْعَبْدُ » (3) ، وتقديره : « هو » . ومن لم يتّهمها : من لم يسؤ ظنَّا بها . والصفيح : الحجارة . والأجنان : القبور ، الواحد جَنَن ، والمجنون : المقبور ، ومنه قول الأعرابية : « للّه درّك من مجنون في جَنَن ! » . والأكنان : جمع كِنّ : وهو السّتْر ، قال تعالى : « وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْجِبَالِ أَكْنَانَاً » (4) . والرّفات : العظام البالية . والمندبة : الندْب على الميت . لا يبالون بذلك : لا يكترثون به . وجِيدُوا : مطروا . وقُحِطوا : انقطع المطر عنهم فأصابهم القَحْط ، وهو الجدب وإلى معنى قوله عليه السلام : « فهم جيرة لا يجيبون داعيا ، ولا يمنعون ضيما ، جميع وهم آحاد ، وجيرة وهم أبعاد ، متدانون لا يتزاورون ، وقريبون لا يتقاربون » . واعلم أنّ هذه الخطبة ذكرها شيخنا أبو عثمان الجاحظ في كتاب « البيان والتبيين » (5) ، ورواها لقَطَرِيّ بن الفجاءة ، والناس يروونها لأمير المؤمنين عليه السلام ، وقد رأيتها في كتاب « المونق » لأبي عبيد اللّه المرزباني مروية لأمير المؤمنين عليه السلام ، وهي بكلام أمير المؤمنين أشبه ، وليس يبعد عندي أن يكون قطريّ قد خطب بها بعد أن أخذها عن بعض أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ، فإن الخوارج كانوا أصحابه وأنصاره ، وقد لقي قَطَريّ أكثرَهم .

.


1- .ديوان الهذليين 1 : 3 ، وصدره : * وَتَجَلُّدِي لِلشَّامِتِينَ أُرِيهمُ *
2- .سورة الأعراف 176 .
3- .سورة ص 30 .
4- .سورة النحل 81 .
5- .البيان والتبيين 2 : 126 _ 129 .

ص: 394

111 . من خطبة له عليه السلام يذكر فيها ملك الموت وتوفّيه الأنفس

111الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها ملك الموت وتوفّيه الأنفسهَلْ يُحَسُّ بِهِ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلاً ؟ أَمْ هَلْ تَرَاهُ إِذَا تَوَفَّى أَحَداً ؟ بَلْ كَيْفَ يَتَوَفَّى الْجَنِينَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ ؟! أَيَلِجُ عَلَيْهِ مِنْ بَعْض جَوَارِحِهَا ؟ أَمِ الرُّوحُ أَجَابَتْهُ بِإِذْنِ رَبِّهَا ؟ أَمْ هُوَ سَاكِنٌ مَعَهُ فِي أَحْشَائِهَا! كَيْفَ يَصِفُ إِلهَهُ مَنْ يَعْجَزُ عَنْ صِفَةِ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ!

الشّرْحُ :المَلك أصله « مألَك » بالهمز ، ووزنه « مفعل » والميم زائدة ؛ لأ نّه من الألوكة والأُلوك ، وهي الرسالة ، ثم قلبت الكلمة وقدمت اللام فقيل ملأك . ثم تركت همزته لكثرة الاستعمال ، فقيل : « مَلَك » ، فلما جمع ردت الهمزة إليه ، فقالوا : ملائكة وملائك . والتوفّي : الإماتة وقبض الأرواح ، قال اللّه تعالى : « اللّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا » (1) . والتقسيم الذي قسّمه في وفاة الجنين حاصر ؛ لأ نّه مع فرضنا إيَّاه جسماً يقبض الأرواح التي في الأجسام ، إمّا أن يكون مع الجنين في جوف أُمّه فيقبض روحَه عند حضور أجله ، أو خارجاً عنها . والقسم الثاني ينقسم قسمين : أحدهما أن يَلِجَ جوف أُمّه لقبْض روحه فيقبضها ، والثاني أن يقبضَها من غير حاجة إلى الولوج إلى جوفها ؛ وذلك بأن تطيعه الرُّوح وتكون مسخّرة إذا أراد قبضها امتدّت إليه فقبضها . وهذه القسمة لا يمكن الزيادة عليها ، ولو قسمها واضع المنطق لما زاد . ثم خرج إلى أمر آخرَ أعظم وأشرف مما ابتدأ به ، فقال : « كيف يصف إلهه مَنْ يعجز عن وصف مخلوق مثله » ! وإلى هذا الغرض كان يترامَى ، وإياه كان يقصد ؛ وإنما مهّد حديث الملك والجنين توطئة لهذا المعنى الشريف ، والسرّ الدقيق .

.


1- .سورة الزمر 42 .

ص: 395

112 . من خطبة له عليه السلام في التحذير من أمر الدنيا

112الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلاموَأُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا مَنْزِلُ قُلْعَةٍ ، وَلَيْسَتْ بِدَارِ نُجْعَةٍ . قَدْ تَزَيَّنَتْ بِغُرُورِهَا ، وَغَرَّتْ بِزِينَتِهَا . دَارٌ هَانَتْ عَلَى رَبِّهَا ، فَخَلَطَ حَلاَلَهَا بِحَرَامِهَا ، وَخَيْرَهَا بِشَرِّهَا ، وَحَيَاتَهَا بِمَوتِهَا ، وَحُلْوَهَا بِمُرِّهَا . لَمْ يُصْفِهَا اللّهُ تَعَالَى لاوْلِيَائِهِ ، وَلَمْ يَضِنَّ بِهَا عَنْ أَعْدَائِهِ . خَيْرُهَا زَهِيدٌ وَشَرُّهَا عَتِيدٌ . وَجَمْعُهَا يَنْفَدُ ، وَمُلْكُهَا يُسْلَبُ ، وَعَامِرُهَا يَخْرَبُ . فَمَا خَيْرُ دَارٍ تُنْقَضُ نَقْضَ الْبِنَاءِ ، وَعُمُرٍ يَفْنَى فِيهَا فَنَاءَ الزَّادِ ، وَمُدَّةٍ تَنْقَطِعُ انْقِطَاعَ السَّيْرِ! اجْعَلُوا مَا افْتَرَضَ اللّهُ عَلَيْكُمْ مِنْ طِلبتِكُمْ ، وَاسْأَلُوهُ مِنْ أَدَاءِ حَقِّهِ مَا سَأَلَكُمْ ، وَأَسْمِعُوا دَعْوَةَ الْمَوْتِ آذَانَكُمْ قَبْلَ أَنْ يُدْعَى بِكُمْ . إِنَّ الزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا تَبْكِي قُلُوبُهُمْ وَإِنْ ضَحِكُوا ، وَيَشْتَدُّ حُزْنُهُمْ وَإِنْ فَرِحُوا ، وَيَكْثُرُ مَقْتُهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَإِنِ اغْتُبِطُوا بِمَا رُزِقُوا . قَدْ غَابَ عَنْ قُلُوبِكُمْ ذِكْرُ الاْجَالِ ، وَحَضَرَتْكُمْ كَوَاذِبُ الآمَالِ ، فَصَارَتِ الدُّنْيَا أَمْلَكَ بِكُمْ مِنْ الاْخِرَةِ ، وَالْعَاجِلَةُ أَذْهَبَ بِكُمْ مِنَ الآجِلَةِ ، وَإِنَّمَا أَنْتُم ؟ إِخْوَانٌ عَلَى دِينِ اللّهِ ، مَا فَرَّقَ بَيْنَكُمْ إِلاَّ خُبْثُ السَّرَائِرِ ، وَسُوءُ الضَّمَائِرِ . فَلاَ تَوَازَرُونَ وَلاَ تَنَاصَحُونَ ، وَلاَ تَبَاذَلُونَ وَلاَ تَوَادُّونَ . مَا بَالُكُمْ تَفْرَحُونَ بِالْيَسِيرِ مِنَ الدُّنْيَا تُدْرِكُونَهُ وَلاَ يَحْزُنُكُمُ الْكَثِيرُ مِنَ الآخِرَةِ تُحْرَمُونَهُ ! وَيُقْلِقُكُمُ الْيَسِيرُ مِنَ الدُّنْيَا يَفُوتُكُمْ ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ ذلِكَ فِي وُجُوهِكُمْ ، وَقِلَّةِ صَبْرِكُمْ عَمَّا زُوِيَ مِنْهَا عَنْكُمْ !! كَأَ نَّهَا دَارُ مُقَامِكُمْ ، وَكَأَنَّ مَتَاعَهَا بَاقٍ عَلَيْكُمْ . وَمَا يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ أَنْ يَسْتَقْبِلَ أَخَاهُ بِمَا يَخَافُ مِنْ عَيْبِهِ ، إِلاَّ مَخَافَةُ أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ بِمِثْلِهِ . قَدْ تَصَافَيْتُمْ

.

ص: 396

عَلَى رَفْضِ الآجِلِ وَحُبِّ الْعَاجِلِ ، وَصَارَ دِينُ أَحَدِكُمْ لُعْقَةً عَلَى لِسَانِهِ ، صَنِيعَ مَنْ قَدْ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ ، وَأَحْرَزَ رِضَى سَيِّدِهِ .

الشّرْحُ :قوله عليه السلام : « فإنها منزل قُلْعة » بضم القاف وسكون اللام ، أي ليست بمستوطنة . ويقال : هذا مجلس قُلْعة ، إذا كان صاحبهُ يحتاج إلى أن يقوم مرة بعد مرة . ويقال : هم على قُلْعة ، أي على رحلة ، والقلعة أيضا : المال العاريّة ، وفي الحديث : « بئس المال القلعة » . والنّجْعة : طلب الكلإ في موضعه ، وفلان ينتجع الكلأ ، ومنه انتجعت فلاناً ، إذا أتيته تطلب معروفه . ثم وصف هوان الدنيا على اللّه تعالى ، فقال : « من هوانها أ نّه خَلَط حلالها بحرامها ... » الكلام ، مراده تفضيل الدار الآتية على هذه الحاضرة ، فإنّ تلك صفو كلّها وخير كلّها ، وهذه مشوبة ، والكَدَر والشرّ فيها أغلب من الصَّفْوِ والخير . ويروى : « ولم يضنّ بها على أعدائه » ، والرواية المشهورة « عن أعدائه » ، وكلاهما مستعمل . والزهيد : القليل . والعتيد : الحاضر . والسيْر : سير المسافر . ثم أمرهم بأنْ يجعلوا الفرائض الواجبة عليهم من جُملة مطلوباتهم، وأن يسألوا اللّه من الإعانة والتوفيق على القيام بحقوقه الواجبة ، كما سألهم، أي كما ألزمهم وافترض عليهم، فسمَّى ذلك سؤالاً لأجل المقابلة بين اللفظين ، كما قال سبحانه : « وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا » (1) ، وكما قال النبي صلى الله عليه و آله وسلم : « فإنّ اللّه لا يَمَلّ حتى تَمَلُّوا » . ثم أمرهم أن يُسمعوا أنفسهم دعوة الموت قبل أن يحضر الموت ، فيَحلّ بهم . ومثل قوله : « تبكي قلوبهم وإن ضحكوا » قول الشاعر ، وإن لم يكن هذا المقصِد بعينه قَصَد : كَمْ فَاقَةٍ مستورةٍ بمروءةوضرورةٍ قد غُطّيَتْ بتجمُّلِ ومن ابتسامٍ تحته قلبٌ شجٍقد خامرتْه لوعةٌ ما تنْجَلِي والمقت : البغض . واغتبطوا : فرحوا . وقوله : « أملَك بكم » مثل « أوْلى بكم » . وقوله : « والعاجلة أذهب بكم من الآجلة » ، أي ذهبت العاجلةُ بكم واستولت عليكم أكثرَ مما ذهبت بكم الآخرة ، واستولت عليكم . ثمّ ذكر أن الناس كلهم مخلوقون على فِطْرَة واحدة، وهي دين اللّه وتوحيده؛ وإنما اختلفوا

.


1- .سورة الشورى 40 .

ص: 397

113 . من خطبة له عليه السلام في الحض على التقوى ، وذكر أوصاف الدنيا ، والفرق بينها وبين الآخرة

وتفرّقوا باعتبار أمر خارجيّ عن ذلك؛ وهو خبْث سرائرهم وسوء ضمائرهم، فصاروا إلى حالٍ لا يتوازرون، أي لا يتعاونون ، والأصل الهمز ، آزرته ، ثم تقلب الهمزة واواً، وأصل قوله : « فلا توازرون » « فلا تَتَوازرون » فحذفت إحدى التاءين ، كقوله تعالى : «مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ» (1) ، أي لا تتناصرون ، والتبادل : أن يجودَ بعضهم على بعض بماله ويبذله له . ومثل قوله عليه السلام « ما بالكم تفرحون بكذا ، ولا تحزنون لكذا ، ويقلقكم اليسير من الدنيا يفوتكم » من هذا قول الرضي رحمه الله (2) : نَقْصُ الجديديْن من عمري يزيدُ علىما ينقصان على الأيام من مالِي دهْرٌ تؤثّر في جسمي نوائبهفما اهتماميَ أنْ أودَى بسربالي والضمير في « يخافُ » راجع إلى الأخ لا إلى المستقبل له ، أي ما يخافه الأخ من مواجهته بعينه . قوله : « وصارَ دينُ أحدكم لُعْقةً على لسانه » أخذه الفرزدق ، فقال للحسين بن علي عليه السلام وقد لقيَه قادماً إلى العراق ، وسأله عن الناس : أمّا قلوبهُم فمعك ، وأمّا سيوفهم فعليك ، والدين لُعْقَةٌ على ألسنتهم ، فإذا امتحصوا قلّ الديّانون (3) . واللفظة مجاز ، وأصل اللُّعقة شيء قليل يُؤخذ بالمِلْعقة من الإناء ، يصف دينهم بالنَّزَارة والقِلّة كتلك اللعقة ؛ ولم يقنع بأن جعله لُعقة حتى جعله على ألسنتهم فقط ، أي ليس في قلوبهم .

113الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامالْحَمْدُ للّه الوَاصِلِ الْحَمْدَ بِالنِّعَمِ وَالنِّعَمَ بِالشُّكْرِ . نَحْمَدُهُ عَلَى آلاَئِهِ ، كَمَا نَحْمَدُهُ

.


1- .سورة الصافات 25 .
2- .ديوانه ، لوحة 150 ، من قصيدة يرثي فيها صديقا له .
3- .أقول : وفي مقتل الحسين للخوارزمي 1 : 237 ، والبحار للمجلسي 10 : 198 ، لما نزل الحسين عليه السلام كربلاء في الثاني من المحرّم سنة احدى وستين ، فأقبل على أصحابه فقال : « الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معائشهم ، فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديّانون » .

ص: 398

عَلَى بَلاَئِهِ . وَنَسْتَعِينُهُ عَلَى هذِهِ النُّفُوس الْبِطَاءِ عَمَّا أُمِرَتْ بِهِ ، السِّرَاعِ إِلَى مَا نُهِيَتْ عَنْهُ . وَنَسْتَغْفِرُهُ مِمَّا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُهُ ، وَأَحْصَاهُ كِتَابُهُ : عِلْمٌ غَيْرُ قَاصِرٍ ، وَكِتَابٌ غَيْرُ مُغَادِرٍ . وَنُؤمِنُ بِهِ إِيمَانَ مَنْ عَايَنَ الْغُيُوبَ ، وَوَقَفَ عَلَى الْمَوْعُودِ ، إِيماناً نَفَى إِخْلاَصُهُ الشِّرْكَ ، وَيَقِينُهُ الشَّكَ . وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَه ، وَأَنَّ مُحَمَّداً صلى الله عليه و آله وسلمعَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، شَهَادَتَيْنِ تُصْعِدَانِ الْقَوْلَ ، وَتَرْفَعَانِ الْعَمَلَ . لاَيَخِفُّ مِيزَانٌ تُوضَعَانِ فِيهِ ، وَلاَ يَثْقُلُ مِيزَانٌ تُرْفَعَانِ مِنْهُ . أُوصِيكُمْ ، عِبَادَ اللّهِ ، بِتَقْوَى اللّهِ الَّتي هِيَ الزَّادُ وَبِهَا الْمَعَاذُ : زَادٌ مُبْلِغٌ ، وَمَعَاذٌ مُنْجِحٌ . دَعَا إِلَيْهَا أَسْمَعُ دَاعٍ ، وَوَعَاهَا خَيْرُ وَاعٍ . فَأَسْمَعَ دَاعِيهَا ، وَفَازَ وَاعِيهَا . عِبَادَ اللّهِ ، إِنَّ تَقْوَى اللّهِ حَمَتْ أَوْلِيَاءَ اللّهِ مَحَارِمَهُ ، وَأَلْزَمَتْ قُلُوبَهُمْ مَخَافَتَهُ ، حَتَّى أَسهَرَتْ لَيَالِيَهُمْ ، وَأَظْمَأَتْ هَوَاجِرَهُمْ؛ فَأَخَذُوا الرَّاحَةَ بِالنَّصَبِ ، وَالرِّيَّ بِالظَّمَأ ، وَاسْتَقْرَبُوا الأجَلَ ، فَبَادَرُوا الْعَمَلَ ، وَكَذَّبُوا الْأَمَلَ فَ_لاَحَظُوا الأجَلَ . ثُمَّ إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ فَنَاءٍ وَعَنَاءٍ ، وَغِيَرٍ وَعِبَرٍ؛ فَمِنَ الْفَنَاءِ أَنَّ الدَّهْرَ مُوتِرٌ قَوْسَهُ ، لاَ تُخْطِئُ سِهَامُهُ ، وَلاَ تُؤسَى جِرَاحُهُ . يَرْمِي الْحَيَّ بِالْمَوْتِ ، وَالصَّحِيحَ بِالسَّقَمِ ، وَالنَّاجِيَ بِالْعَطَبِ . آكِلٌ لاَ يَشْبَعُ ، وَشَارِبٌ لاَ يَنْقَعُ . وَمِنَ الْعَنَاءِ أَنَّ الْمَرْءَ يَجْمَعُ مَا لاَ يَأْكُلُ وَيَبْنِي مَا لاَ يَسْكُنُ ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى اللّهِ تَعَالَى لاَ مَالاً حَمَلَ ، وَلاَ بِنَاءً نَقَلَ . وَمِنْ غِيَرِهَا أَنَّكَ تَرَى الْمَرْحُومَ مَغْبُوطاً ، والْمَغْبُوطَ مَرْحُوماً؛ لَيْسَ ذلِكَ إِلاَّ نَعِيماً زَلَّ ، وَبُؤساً نَزَلَ . وَمِنْ عِبَرِهَا أَنَّ المَرْءَ يُشْرِفُ عَلَى أَمَلِهِ فَيَقْتَطِعُهُ حُضُورُ أَجَلِهِ . فَ_لاَ أَمَلٌ يُدْرَكُ ، وَلاَ مُؤمَّلٌ يُتْرَكُ . فَسُبْحَانَ اللّهِ مَا أَعَزَّ سُرُورَهَا ! وَأَظْمَأَ رِيَّهَا ! وَأَضْحَى فَيْئَهَا ! لاَ جَاءٍ يُرَدُّ ، وَلاَ مَاضٍ يَرْتَدُّ . فَسُبْحَانَ اللّهِ ، مَا أَقْرَبَ الْحَيَّ مِنَ المَيِّتِ لِلِحَاقِهِ بِهِ ، وَأَبْعَدَ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ لاِنْقِطَاعِهِ عَنْهُ! إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بِشَرٍّ مِنَ الشَّرِّ إِلاَّ عِقَابُهُ ، وَلَيْسَ شَيْءٌ بِخَيْرٍ مِنَ الْخَيْرِ إِلاَّ ثَوَابُهُ . وَكُلُّ شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا سَمَاعُهُ أَعْظَمُ مِنْ عِيَانِهِ ، وَكُلُّ شَيْءٍ مِنَ الآخِرَةِ عِيَانُهُ أَعْظَمُ مِنْ

.

ص: 399

سَمَاعِهِ . فَلْيَكْفِكُمْ مِنَ الْعِيَانِ السَّمَاعُ ، وَمِنَ الْغَيْبِ الْخَبَرُ . وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا نَقَصَ مِنَ الدُّنْيَا وَزَادَ في الآخِرَةِ خَيْرٌ مِمَّا نَقَصَ مِنَ الآخِرَةِ وَزَادَ فِي الدُّنْيَا . فَكَمْ مِنْ مَنْقُوصٍ رَابِحٍ وَمَزِيدٍ خَاسِرٍ ! إِنَّ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ أَوْسَعُ مِنَ الَّذِي نُهِيتُمْ عَنْهُ . وَمَا أُحِلَّ لَكُمْ أَكْثَرُ مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ . فَذَرُوا مَا قَلَّ لِمَا كَثُرَ ، وَمَا ضَاقَ لِمَا اتَّسَعَ .قَدْ تَكَفَّلَ لَكُمْ بِالرِّزْقِ وَأُمِرْتُمْ بِالْعَمَلِ؛ فَ_لاَ يَكُونَنَّ الْمَضْمُونُ لَكُمْ طَلَبُهُ أَوْلَى بِكُمْ مِنَ الْمَفْرُوضِ عَلَيْكُمْ عَمَلُهُ ، مَعَ أنّهُ واللّهِ لَقَدِ اعْتَرَضَ الشَّكُّ ، وَدَخِلَ الْيَقِينُ ، حَتَّى كَأَنَّ الَّذِي ضُمِنَ لَكُمْ قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ ، وَكَأَنَّ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْكُمْ قَدْ وُضِعَ عَنْكُمْ . فَبَادِرُوا الْعَمَلَ ، وَخَافُوا بَغْتَةَ الْأَجَلِ ، فَإِنَّهُ لاَ يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ العُمرِ مَا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الرِّزْقِ . مَا فَاتَ الْيَوْمَ مِنَ الرِّزْقِ رُجِيَ غَداً زِيَادَتُهُ ، وَمَا فَاتَ أَمْس مِنَ العُمرِ لَمْ يُرْجَ الْيَوْمَ رَجْعَتُهُ . الرَّجَاءُ مَعَ الْجَائِي ، وَالْيَأسُ مَعَ الْمَاضِي . فَاتَّقُوا اللّه حَقَّ تُقَاتِهِ ، وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ!

الشّرْحُ :لقائل أن يقول : أمّا كونُه واصَل الحمدَ له من عباده بالنّعم منه عليهم فمعلوم ، فكيف قال : إنه يصلُ النِّعم المذكورة بالشكر ، والشكر من أفعال العباد ، وليس من أفعاله ليكون واصلاً للنّعم به؟ وجواب هذا القائل ، هو أ نّه لما وفّق العباد للشكر بعد أن جعل وجوبه في عقولهم مقرّرا ، وبعد أن أقدرهم عليه ، صار كأنّه الفاعل له ، فأضافه إلى نفسه توسُّعاً ، كما يقال : أقام الأمير الحدّ ، وقتل الوالي اللصّ ؛ وحمدُه سبحانه على البلاءِ ، كحمدِه على الآلاء . ومن الكلام المشهور : « سبحان من لا يُحمد على المكروه سواه » ، والسرّ فيه أنه تعالى إنما يفعلُ المكروه بِنَا لمصالحنا ، فإذا حَمَدْناه عليه فإنما حمدناه على نعمةٍ أنعم بها ، وإن كانَتْ في الظاهر بليّة وألماً . ثم سأل اللّه أن يعينَه على النفْس البطيئة عن المأمور به ، السريعة إلى المنهيّ عنه . ومن دعاء بعض الصالحين : اللهمّ إني أشكُوا إليك عدوّا بين جنبيّ قد غلب عليّ .

.

ص: 400

ثم شرع في استغفار اللّه سبحانه من كلّ ذنب ، وعبّر عن ذلك بقوله : « ممّا أحاط به علمُه ، وأحصاه كتابُه » ؛ لأ نّه تعالى عالم بكلّ شيء ، ومحيط بكلّ شيء ، وقد أوضح ذلك بقوله : « علْم غير قاصر ، وكتاب غير مغادر » ، أي غير مبقٍ شيئا لا يحصيه ، قال تعالى : « مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إلاَّ أَحْصَاهَا » (1) . ثم قال : « ونؤمن به إيمان مَنْ عاين وشاهد » ؛ لأنّ إيمان العيان أخلصُ وأوثق من إيمان الخبر ، فإنه ليس الخبر كالعِيان ؛ وهذا إشارة إلى إيمان العارفين الذين هو عليه السلام سيدُهم ورئيسهم ؛ ولذلك قال : « لو كشف الغِطاء ما ازددتُ يقينا » . وقوله : « تُصعدان القول » إشارة إلى قوله تعالى : « إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ » (2) ، وروي : « تسعدان القول » بالسين ، أي هما شهادتان بالقلب يعاضدان الشهادة باللسان ، ويُسعدانها . ثم ذكر أنّهما شهادتان لا يخفّ ميزانٌ هما فيه ، ولا يثقلُ ميزان رفعا عنه . أمَّا إنه لا يثقلُ ميزانٌ رُفعا عنه ؛ فهذا لا كلام فيه ، وإنما الشأن في القضية الأُولى ؛ لأنّ ظاهر هذا القول يشعر بمذهب المرجئة الخلّص ؛ وهم أصحاب مقاتل بن سليمان ، القائلون إنّه لا يضرّ مع الشهادتين معصية أصلاً ، وإنه لا يدْخُل النّارَ مَنْ في قلبه ذَرّة من الإيمان ، فنقول في تأويل ذلك إنّه لم يحكم بهذا على مجرّد الشهادتين ، وإنّما حَكَم بهذا على شهادتين مقيّدتين ، قد وصفهما بأنهما يصعدان القول ، ويرفعان العمل ، وتانِك الشهادتان المقيّدتان بذلك القيْد ، إنما هما الشهادتان اللّتَان يقارنهما فعلُ الواجب وتجنّب القبيح ؛ لأ نّه إن لم يقارنْهما ذلك لم يَرْفعا العمل ، وإذا كان حكمه عليه السلام بعد خِفّة ميزان هما فيه ، إنما هو على شهادتيْن مقيّدتين لا مطلقتين ، فقد بطل قولُ مَنْ يجعل هذا الكلام حجّة للمرجئة . ثم أخذ في الوصاة بالتقوى ، وقال « إنها الزاد في الدنيا الذي يزوّد منه لسفر الآخرة وبها المعاذ ، مصدر من عُذْت بكذا ، أي لجأت إليه واعتصمت به . ثم وصفهما _ أعني الزاد والمعاذ _ فقال : « زاد مُبْلغ » ، أي يبلغُك المقصد والغاية التي تسافر إليها ، ومعاذ منجح ، أي يصادف عنده النجاح . دعا إليها أسمع داع ، يعني البارئ سبحانه ؛ لأ نّه أشدّ الأحياء إسماعاً لما يدعوهم إليه ، وروي : « دعا إليها أحسن داع » ، أي أحسن داع دعا ، ولا بدّ من تقدير هذا

.


1- .سورة الكهف 49 .
2- .سورة فاطر 10 .

ص: 401

المميّز لأ نّه تعالى لا توصف ذاته بالحسن ، وإنما يوصف بالحسن أفعاله . ووعاها خير واع ، أي من وعاها عنه تعالى وعَقَلها وأجاب تلك الدعوة ، فهو خير واع . وقيل : عني بقوله : « أسمع داع » رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وعني بقوله : « خير واع » نفسَه عليه السلام ؛ لأ نّه أُنزل فيه : «وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ » (1) ، والأوّل أظهر . ثم قال : « فأسمع داعيها » ، أي لم يبق أحدا من المكلّفين إلاّ وقد أسمعه تلك الدعوة . وفاز واعيها ، أفلح مَنْ فَهِمها وأجاب إليها ، لابد من تقدير هذا ؛ وإلاّ فأيّ فوز يحصل لمن فهم ولم يجب ! والتقوى : خشية اللّه سبحانه ومراقبته في السرّ والعلن ، والخشية أصلُ الطاعات ، وإليها وقعت الإشارة بقوله تعالى : « إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ » (2) ، وقوله سبحانه : « وَمَنْ يَتَّقِ اللّه يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبْ » (3) . قوله : « حتى أسهرتْ لياليَهم ، وأظمأت هواجرَهم » من قول العرب « نهاره صائم ، وليله قائم » ؛ نقلوا الفعل إلى الظرف ، وهو من باب الاتساع الذي يجرون فيه الظروف مجرى المفعول به ، فيقولون : الذي سرته يوم الجمعة ، أي سرت فيه . قوله عليه السلام : « فأخذوا الراحة بالنَّصَب » ، يروى : « فاستبدلوا الراحة » ، والنَّصَب : التعب . واستقربوا الأجل : رأوه قريبا . فإن قلت : لماذا كرّر لفظة « الأجل » ، وفي تكرارها مخالفة لفنّ البيان؟ قلت : إنه استعملها في الموضعين بمعنيين مختلفين ، فقوله : « استقربوا الأجل » يعني المدة . وقوله : « فلاحظوا الأجل » يعني الموت نفسه . ويروى : « موتِر » و « وموتّر » بالتشديد . ولا تؤسَى جراحه : لا تطبّ ولا تصلح ، أسوْت الجرح ، أي أصلحته . ولا ينقع : لا يروى ؛ شَرِب حتى نقع ، أي شفى غليله ، وماء ناقع ، وهو كالناجع ، وما رأيتُ شَرْبة أنقع منها . وإلى قوله عليه السلام : « يجمع ما لا يأكل ، ويبني ما لا يسكن » نظر الشاعر ، فقال : أموالُنا لذَوي الميراث نجمعُهاودُورنا لخراب الدهر نبْنيها قوله : « ومن غِيرها أنّك ترى المرحوم مغبوطا والمغبوط مرحوماً » ، أي يصير الفقير غنياً والغني فقيراً . وأضحى فَيْئَها ، من أضحى الرجل إذا برز للشمس . ثم قال : « لا جاءٍ يُرَدّ

.


1- .سورة الحاقة 12 .
2- .سورة الحجرات 13 .
3- .سورة الطلاق 2 .

ص: 402

ولا ماضٍ يرتد » ، أي يسترد ويسترجع ، أخذه أبو العتاهية فقال : فلا أنا راجعٌ ما قد مضى لِيوَلا أنا دافعٌ ما سوف يأتي وإلى قوله : « ما أقرب الحيّ من الميت للحاقه به ، وما أبعد الميت من الحي لانقطاعه عنه » نظر الشاعر ، فقال : يا بعيداً عَنّي وليس بعيدامن لحاقي به سميع قريبُ صِرْتُ بين الورى غريبا كما أن__ك تحت الثرى وحيد غريبُ فإن قلت : ما وجه تقسيمه عليه السلام الأمورَ التي عدّدها إلى الفناء والعناء ، والغِيَر والعبَر؟ قلت : لقد أصاب الثّغرة وطبّق المفصِل ؛ ألا تراه ذكَر في الفناء رَمْيَ الدهر الإنسان عن قَوْس الردى ، وفي العناء جَمْع ما لا يأكل ، وبناء ما لا يسكن ، وفي الغِيَر الفقر بعد الغنى والغنى بعد الفقر ، وفي العِبَر اقتطاع الأجل الأمل ؛ فقد ناط بكلّ لفظة ما يناسبها . وقد نظر بعضُ الشعراء إلى قوله عليه السلام : « ليس شيء بشرّ من الشرّ إلاّ عقابُهُ ، وليس شيء بخير من الخير إلاّ ثوابه » فقال : خير البضائع للإنسان مكرُمةتَنْمِي وتزكو إذا بارت بضائعهُ فالخير خيرٌ ، وخير منه فاعلُهوالشرّ شرّ ، وشرّ منه صانعهُ إلاّ أن أمير المؤمنين عليه السلام استثنى العقاب والثواب ، والشاعر جعل مكانهما فاعل الخير والشرّ. ثم ذكر انّ كلّ شيء من أُمور الدنيا المرغبة والمرهبة ، سماعه أعظم من عِيانه ، والآخرة بالعكس ، وهذا حقّ ؛ أمّا القضيّة الأُولى فظاهرة ، وقد قال القائل : أهتزُّ عند تمنّي وصْلِها طرباوربّ أُمنيّة أحْلَى من الظَّفَر ولهذا يحرِص الواحد منّا على الأمر ، فإذا بلغه بَرَد وفتر ، ولم يجده كما كان يظنّ في اللذة . ويوصف لنا البلد البعيد عَنّا ، بالخِصب والأمن والعدل ، وسماح أهله ، وحسن نسائه ، وظَرْف رجاله ، فإذا سافرنا إليه لم نجده كما وصَفَ ؛ بل ربما وجدنا القليل من ذلك . وكذلك قد يخاف الإنسان حبساً أو ضرباً أو نحوهما فإذا وقع فيهما هان ما كان يتخَوّفه ، ووجد الأمر دون ذلك ، وكذلك القتل والموت ؛ فإنّ ما يستعظِمُه النّاس منهما دون أمرهما في الحقيقة . ويقال في المثل : لجِ الخوف تأمن . وأمّا أحوالُ الآخرة فلا ريب أنّ الأمر فيها بالضدّ من ذلك ؛ لأنّ الذي يتصوره الناس من الجنة أنّها أشجار وأنهار ومأوكول ومشروب ، وجماع ، وأمرها في الحقيقة أعظمُ من هذا وأشرفُ ؛ لأنّ ملاذّها الروحانية المقارنة لهذه الملاذّ المضادّة لها أعظم من هذه الملاذّ بطبقات عظيمة ، وكذلك أكثر الناس يتوهّمون أنّ

.

ص: 403

عذاب النار يكون أياماً وينقضي ، كما يذهب إليه المرجئة ، أو أنه لا عذاب بالنار للمسلم أصلاً ، كما هو قول الخلّص من المرجئة ، وأنّ أهل النار يألفون عذابها فلا يستضرّون به إذا تطاول الأمد عليهم ، وأمر العذاب أصعب مما يظنّون ، خصوصا على مذهبنا في الوعيد ؛ ولو لم يكن إلاّ آلام النفوس باستشعارها سخط اللّه تعالى عليها ، فإنّ ذلك أعظمُ من ملاقاة جرْم النار لبدن الحيّ . ثم أمرهم بأن يكتفوا من عِيان الآخرة وغيبها بالسماع والخبَر ، لأ نّه لا سبيل _ ونحن في هذه الدار _ إلى أكثر من ذلك . وإلى قوله : « ما نقص من الدنيا وزاد في الآخرة خيرٌ مما نقص من الآخرة وزاد في الدنيا » نظر أبو الطيب (1) ، فقال _ إلاّ أ نّه أخرجه في مخرج آخر _ : بلاد ما اشتهيتَ رأيتَ فيهافليس يفوتها إلاّ كِرَامُ فهلاّ كان نقصُ الأهل فيهاوكان لأهلها منها الَّتمامُ ثم قال : فكم من منقوص في دنياه وهو رابح في آخرته ، وكَمْ من مزيد في دنياه وهو خاسر في آخرته . ثم قال : إنّ الذي أُمِرتم به أوسع من الذي نُهيتم عنه ، وما أُحِلّ لكم أكثر مما حُرّم عليكم » ، الجملة الأولى هي الجملة الثانية بعينها ، وإنما أتى بالثانية تأكيداً للأُولى وإيضاحاً لها ، ولأنّ فنّ الخطابة والكتابة هكذا هو ، وينتظم كلتا الجملتيْن معنى واحد ، وهو أنّ فيما أحلّ اللّه غنىً عَمّا حَرّم ، بل الحلالُ أوسع ؛ ألا ترى أنّ المباح من المآكل والمشارب أكثرُ عدداً وأجناساً من المحرّمات ! فإن المحرّم ليس إلاّ الكلب والخنزير وأشياء قليلة غيرهما ، والمحرّم من المشروب الخمر ونحوها من المسكر ؛ وما عدا ذلك حلال أكلُه وشربه . فإن قلت : فكيف قال : « إنّ الذي أُمِرتم به » فسمّى المباح مأموراً به؟ قلت : قد سمّى كثير من الأُصوليين المباح مأموراً به ، وذلك لاشتراكه مع المأمور به في أ نّه لا حرج في فعله ، فأُطلق عليه اسمه . وأيضاً فإنه لَمّا كان كثير من الأُمور التي عددناها مندوباً أُطلق عليه لفظ الأمر ؛ لأنّ المندوب مأمور به ، وذلك كالنّكاح والتسرّي وأكل اللحوم التي هي سبب قوة البدن ، وشرب ما يصلح المزاج من الأشربة التي لا حَرَج في استعمالها . ثم أمر بالعمل والعبادة ، ونهى عن الحِرْص على طلب الرزق ، فقال : إنّكم أُمِرْتم بالأوّل

.


1- .ديوان المتنبّي 4 : 73 .

ص: 404

114 . من خطبة له عليه السلام في الاستسقاء

وضُمِن لكم الثاني ، فلا تجعلوا المضمون حصولُه لكم هو المخصوص بالحِرْص والاجتهاد ، بل ينبغي أن يكون الحرص والاجتهاد فيما أُمرتم بعمله وهو العبادة . ثم ذكر أنّ رجعة العمر غيرُ مرجوّة ، ورجعة الرزق مرجوّة ؛ أوضح ذلك بأن الإنسان قد يذهب منه اليوم درهم فيستعيضه ، أي يكتسب عِوَضه في الغدِ ديناراً ، وأمّا « أمس » نفسه فمستحيل أن يعود ولا مثله ؛ لأنّ الغد وبَعْد الغد محسوب من عمره ؛ وليس عوضاً من الأمس الذاهب . وقوله : « الرجاء مع الجائي ، واليأس مع الماضي » ، كلام يجري مجرى المثل ، وهو تأكيد للمعنى الأول ، وجعل الجائي مرجوّا ؛ لأ نّه لا يعلم غيبه ، قال الشاعر (1) : مَا مَضَى فَاتَ والمقدَّر غَيْبٌولَكَ السَّاعةُ التي أنت فيها وقوله : « حق تقاته » ، أي حقّ تقيّته ، أي خوفه ، اتّقى يتقي تقية وتقاة ، ووزنها « فُعَلة » وأصلها الياء .

114الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلام في الاستسقاءاللَّهُمَّ قَدِ انْصَاحَتْ جِبَالُنَا ، وَاغْبَرَّتْ أَرْضُنَا ، وَهَامَتْ دَوَابُّنَا ، وَتَحَيَّرَتْ فِي مَرَابِضِهَا ، وَعَجَّتْ عَجِيجَ الثَّكَالَى عَلَى أَوْلاَدِهَا ، وَمَلَّتِ التَّرَدُّدَ في مَرَاتِعِهَا ، وَالْحَنِينَ إِلَى مَوَارِدِهَا! اللَّهُمَّ فَارْحَمْ أَنِينَ الآن_ّةِ ، وَحَنِينَ الْحَانَّةِ! اللَّهُمَّ فَارْحَمْ حَيْرَتَهَا فِي مَذَاهِبِهَا وَأَنِينَهَا فِي مَوَالِجِهَا!

.


1- .البداية والنهاية 12 : 249 وفيه : والمؤمّل غيب ، تاريخ مدينة دمشق 7 : 53 والبيت لإبراهيم بن يحيى الغزّي (ت / 524 ه) .

ص: 405

اللَّهُمَّ خَرَجْنَا إِلَيْكَ حِينَ اعْتَكَرَتْ عَلَيْنَا حَدَابِيرُ السِّنِينَ ، وَأَخْلَفَتْنَا مَخَايِلُ الْجُودِ ؛ فَكُنْتَ الرَّجَاءَ لِلْمُبْتَ_ئِس ، وَالْبَلاَغَ لِلْمُلْتَمِس . نَدْعُوكَ حِينَ قَنَطَ الأنَامُ ، وَمُنِعَ الْغَمَامُ ، وَهَلَكَ الْسَّوَامُ أَلاَّ تُؤاخِذَنَا بَأَعْمَالِنَا ، وَلاَ تَأْخُذَنَا بِذُنُوبِنَا . وَانْشُرْ عَلَيْنَا رَحْمَتَكَ بِالسَّحَابِ الْمُنْبَعِقِ ، وَالرَّبِيعِ الْمُغْدِقِ ، وَالنَّبَاتِ الْمُونِقِ ، سَحّاً وَابِلاً تُحْيِي بِهِ مَا قَدْ مَاتَ وَتَرُدُّ بِهِ مَا قَدْ فَاتَ . اللَّهُمَّ سُقْيَا مِنْكَ مُحْيِيَةً مُرْوِيَةً ، تَامَّةً عَامَّةً ، طَيِّبَةً مُبَارَكَةً ، هَنِيئَةً مَرِيئَةً مَرِيعَةً ، زَاكِياً نَبْتُهَا ، ثَامِراً فَرْعُهَا ، نَاضِراً وَرَقُهَا ، تُنْعِشُ بِهَا الضَّعِيفَ مِنْ عِبَادِكَ ، وَتُحْيِي بِهَا الْمَيِّتَ مِنْ بِلاَدِكَ! اللَّهُمَّ سُقْيَا مِنْكَ تُعْشِبُ بِهَا نِجَادُنَا ، وَتَجْرِي بِهَا وِهَادُنَا ، وَيُخْصِبُ بِهَا جَنَابُنَا وَتُقْبِلُ بِهَا ثِمَارُنَا وَتَعِيشُ بِهَا مَوَاشِينَا ، وَتَنْدَى بِهَا أَقَاصِينَا ، وَتَسْتَعِينُ بِهَا ضَوَاحِينَا ، مِنْ بَرَكَاتِكَ الْوَاسِعَةِ ، وَعَطَايَاكَ الْجَزِيلَةِ ، عَلَى بَرِيَّتِكَ الْمُرْمِلَةِ ، وَوَحْشِكَ الْمُهْمَلَةِ . وَأَنْزِلْ عَلَيْنَا سَمَاءً مُخْضِلَةً ، مِدْرَاراً هَاطِلَةً ، يُدَافِعُ الْوَدْقُ مِنْهَا الْوَدْقَ ، وَيَحْفِزُ الْقَطْرُ مِنْهَا الْقَطْرَ ، غَيْرَ خُلَّبٍ بَرْقُهَا ، وَلاَ جَهَامٍ عَارِضُهَا ، وَلاَ قَزَعٍ رَبَابُهَا ، وَلاَ شَفَّانٍ ذِهَابُهَا ، حَتَّى يُخْصِبَ لاِءِمْرَاعِهَا الُْمجْدِبُونَ ، وَيَحْيَا بِبَرَكَتِهَا المُسْنِتُونَ ، فَإِنَّكَ تُنْزِلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا ، وَتَنْشُرُ رَحْمَتَكَ وَأَنْتَ الْوَلِيُّ الْحَميدُ .

قال الشريف الرضي رحمه اللّه تعالى :قوله عليه السلام : «انْصَاحَتْ جِبَالُنَا» ، أي تَشَقّقَتْ مِنَ المحُولِ ، يُقَالُ : انْصَاحَ الثّوْبُ إذَا انْشَقّ . وَيُقَالُ أيْضاً : انْصَاحَ النّبْتُ وَصَاحَ وَصَوّحَ إذَا جَفّ وَيَبِسَ ؛ كُلّهُ بمَعْنىً . وَقَوْلُهُ : «وَهَامَتْ دَوَابّنَا» ، أيْ عَطِشَتْ ، وَالهُيَامُ : الْعَطَشُ . وَقَوْلُهُ : «حَدَابِيرُ السّنِينَ» جمع حِدبار ، وهي الناقَة التي أنضاها السّيرُ ، فشبّه بها السنة التي فشا فِيهَا الجَدْبُ ، قَالَ ذو الرّمّةِ : حَدَابِي_رُ مَ_ا تَنْفَ_كُّ إلاّ مُنَاخَ_ةًعَلى الْخَسْفِ أوْ نَرْمِي بِهَا بَلَداً قَفْرَا وَقَوْلُهُ «وَلاَ قَزَعٍ رَبَابهَا» ، الْقَزَعُ : الْقِطَعُ الصّغَارُ الْمُتَفَرّقَةُ مِنَ السَّحَابِ .

.

ص: 406

وَقَوْلُهُ : «وَلاَ شَفّانٍ ذِهَابهَا» فَإنّ تَقْديرَهُ : وَلاَ ذَاتَ شَفّانٍ ذِهَابهَا . وَالشّفّانُ : الرّيحُ البَارِدَةُ ، وَالذِّهَابُ : الأمْطَارُ اللّيّنَةُ . فَحَذَفَ (ذَاتَ) لِعِلْمِ السّامِعِ بِهِ .

الشّرْحُ :يجوز أن يريد بقوله : « وهامت دوابُّنَا » معنىً غير ما فسره الشريف الرضيّ رحمه الله به ، وهو نُدودها وذهابُها على وجوهها لشدة المحْل، يقول : هام على وجهه ، يهيم هَيْما وهَيَمانا. والمرابض: مبارك الغنم، وهي لها كالمواطن للإبل، واحدها مَرْبِض، بكسر الباء مثل مجلِس. وعَجّت : صرخت . ويحتمل الضمير في « أولادها » أن يرجع إلى الثكالى ، أي كعجيج الثكالى على أولادهنّ ، ويحتمل أن يرجع إلى الدوابّ ، أي وعَجّت على أولادها كعجيج الثكالى ، وإنّما وصفها بالتَّحيُّر في مَرَابضها ؛ لأنّها لشدّة المحْل تتحيّر في مباركها ، ولا تدري ماذا تصنع ، إن نهضت لترعَى لم تجد رعياً ، وإن أقامت كانت إلى انقطاع المادّة أقرب! قوله : « وملّت التردد في مراتعها ، والحنين إلى مواردها » ، وذلك لأنَّها أكثرتْ من التردّد في الأماكن التي كانت تعهد مراتعها فيها فلم تجد مرتعاً ، فملَّت التَّرداد إليها ، وكذلك ملَّت الحنين إلى الغدران والموارد التي كانت تعتادها للشرب ، فإنَّها حنّت إليها لما فقدتها ، حتى ضجرت ويئست فملّت مما لا فائدة لها فيه . والآنّة والحانّة : الشاة والناقة ، ويقال : ما له حانّة ولا آنّة . وأصل الأنين صوت المريض وشكواه من الوَصَب . والموالج : المداخل ؛ وإنما ابتدأ عليه السلام بذكر الأنعام وما أصابها من الجدْب اقتفاء بسنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، ولعادة العرب ، وتقدير دعائه عليه السلام : اللّهم إن كنتَ حرمتنا الغيث لسوء أعمالنا ، فارحم هذه الحيوانات التي لاَ ذنْب لها ولا تؤاخذها بذنوبنا . فاعتكرت : رَدِف بعضُها بعضاً ، وأصل عَكَر عطف . والعكْرة : الكرّة . قوله : « وأخْلقتنا مخايل الجَوْد » ، أي كلَّما شِمْنا برقا ، واختلنا سحاباً ، أخلَفَنا ولم يمطر . والجَوْد : المطر الغزير . ويروى : « مخايل الجُود » بالضم . والمبتئس : ذو البؤس . والبلاغ للملتمس ، أي الكفاية للطالب . وتقول : قَنط فلان ، بالفتح ، يقنُط ويقنِط ، بالكسر والضم ، فهو قانط . وفيه لغة أُخرى قَنِط بالكسر ، يقنَط قنَطاً ، مثل تعِب يتعَب تعبا ، وقناطةً أيضاً ، فهو قنِط . وقرئ : « فَلا تَكُنْ مِن الْقَ_نِطِينَ » (1) . وإنما قال : « ومُنِع الغمام » ، فبنى الفعلَ للمفعول به ؛ لأ نّه كره أن يضيف المنع إلى اللّه تعالى ، وهو منبَع النعم ، فاقتضى حسنُ الأدب أ نّه لم يسمّ

.


1- .سورة الحجر 55 .

ص: 407

115 . من خطبة له عليه السلام في تعظيم ما حجب عن الناس وكشف له ، والإخبار بما سيكون من أمر الحجّاج الثقفي

الفاعل . وروي « مَنَع الغمام » ، أي ومَنَع الغمام القطر ، فحذف المفعول . والسوام : المال الراعي . فإن قلت : ما الفرق بين « تؤاخذنا » وبين « تأخذنا »؟ قلت : المؤاخذة دون الأخذ ؛ لأنّ الأخذ الاستئصال ، والمؤاخذة عقوبة وإن قلَّت . والسحاب المنبعِق : المتبعج بالمطر ، ومثله المتبعّق ، ومثله البُعاق . والربيع المغدق : الكثير . والنبات المونق : المعجب . وانتصب « سحّاً » على المصدر . والوابل : المطر الشديد . ثم قال : ( تُحْيِي به ما قد مات » ، أي يكاد يتلف بها من الزرع . وتردّ به ما قد فات ، أي يستدرك به الناس ما فاتهم من الزرع والحرث . والسقيا مؤنثة ، وهي الاسم من سَقَى . والمريعة : الخصيبة . و « ثامرا فرعُها » : ذو ثمر ، كما قالوا : لابن وتامر ؛ ذو لبن وتمر . وتنعش : ترفع . والنِّجاد : جمع نَجْد ، وهو ما ارتفع من الأرض . والوهاد : جمع وَهْد ، وهو المطمئنّ منها ، وروي : « نجادَنا » بالنصب على أَنه مفعول . قوله : « وتندى بها أقاصينا » ، أي الأباعد مِنّا . ويندى بها : ينتفع ، ندِيت بكذا ، أي انتفعت . والضواحي : النواحي القريبة من المدينة العظمى . والمرمِلة : الفقيرة ، أرمل افتقر ونفد زاده . ووحشك المهملة : التي لا راعي لها ولا صاحب ولا مشفق . وسماء مخضِلَة : تُخضِل النبت أي تبلّه ، وروي « مخضَلَّة » أي ذات نبات وزروع مخضَلَّة ، يقال : اخضلّ النبت اخضلالاً ، أي ابتلّ ، وإنما أنّث السماء وهو المطر وهو مذكر ؛ لأ نّه أراد الإمطار . والودْق : المطر . ويحفِز : يدفع بشدّة ؛ وإذا دفع القطر القطر ، كان أعظم وأغزر له . وبرق خُلّب : لا مطر معه . وسحاب جَهام : لا ماء فيه . والمجدِبون : أهل الجدْب . والمسنِتُون : الذين أصابتهم السنَة وهي المحْل والقحط الشديد .

115الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامأَرْسَلَهُ دَاعِياً إِلَى الْحَقِّ وَشَاهِداً عَلَى الْخَلْقِ ، فَبَلَّغَ رِسَالاَتِ رَبِّهِ غَيْرَ وَانٍ وَلاَ

.

ص: 408

مُقَصِّرٍ ، وَجَاهَدَ فِي اللّهِ أَعْدَاءَهُ غَيْرَ وَاهِنٍ وَلاَ مُعَذِّرٍ . إِمَامُ مَنِ اتَّقَى ، وَبَصَرُ مَنِ اهْتَدَى .

الشّرْحُ :قوله : « وشاهدا على الخلق » ، أي يشهد على القوم الذين بعث إليهم ، وشهد لهم ، فيشهد على العاصي بالعصيان والخلاف ، ويشهد للمطيع بالإطاعة والإسلام ، وهذا من قوله سبحانه وتعالى : « فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هؤلاءِ شَهِيدا » (1) . ومن قوله تعالى : « وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدا مَا دُمْتُ فِيهِمْ » (2) . فإن قلت : إذا كان اللّه تعالى عالما بكلّ شيء، ومالكا لكلِّ أحدٍ، فأيّ حاجة إلى الشهادة؟ قلت : ليس بمنكَرٍ أن يكون في ذلك مصلحة للمكلّفين في أديانهم ، من حيث إنّه قد تقرّر في عقول الناس ، أنّ مَنْ يقوم عليه شاهد بأمرٍ منكرٍ قد فعله ، فإنه يخزَى ويخجل وتنقطع حجته ، فإذا طرق أسماعهم أنّ الأنبياء تشهد عليهم ، والملائكة الحافظين تكتب أعمالَهم ، كانوا عن مواقعة القبيح أبعد . والواني : الفاتر الكالّ . والواهن : الضعيف . والمعذّر : الذي يعتذر عن تقصيره بغير عذر ؛ قال تعالى : « وجاء المعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَاب » (3) .

الأصْلُ :ومنها :وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ مِمَّا طُوِيَ عَنْكُمْ غَيْبُهُ ، إِذاً لَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَبْكُونَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ ، وَتَلْتَدِمُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ، وَلَتَرَكْتُمْ أَمْوَالَكُمْ لاَ حَارِسَ لَهَا وَلاَ خَالِفَ عَلَيْهَا ، وَلَهَمَّتْ كُلَّ امْرِئٍ مِنْكُمْ نَفْسُهُ ، لاَ يَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهَا؛ وَلَكِنَّكُمْ نَسِيتُمْ مَا

.


1- .سورة النساء 41 .
2- .سورة المائدة 117 .
3- .سورة التوبة 90 .

ص: 409

ذُكِّرْتُمْ ، وَأَمِنْتُمْ مَا حُذِّرْتُمْ ، فَتَاهَ عَنْكُمْ رَأْيُكُمْ ، وَتَشَتَّتَ عَلَيْكُمْ أَمْرُكُمْ . وَلَوَدِدْتُ أَنَّ اللّهَ فَرَّقَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ، وَأَلْحَقَنِي بِمَنْ هُوَ أَحَقُّ بِي مِنْكُمْ . قَوْمٌ وَاللّهِ مَيَامِينُ الرَّأْيِ ، مَرَاجِيحُ الْحِلْمِ ، مَقَاوِيلُ بِالْحَقِّ ، مَتَارِيكُ لِلْبَغْيِ . مَضَوْا قُدُماً عَلَى الطَّرِيقَةِ ، وَأَوْجَفُوا عَلَى الْمَحَجَّةِ ، فَظَفِرُوا بِالْعُقْبَى الْدَّائِمَةِ ، وَالْكَرَامَةِ الْبَارِدَةِ . أَمَا وَاللّهِ ، لَيُسَلَّطَنَّ عَلَيْكُمْ غُ_لاَمُ ثَقِيفٍ الذَّيَّالُ الْمَيَّالُ؛ يَأْكُلُ خَضِرَتَكُمْ ، وَيُذِيبُ شَحْمَتَكُمْ . إِيهٍ أَبَا وَذَحَةَ!

قال الرضي رحمه الله : الْوَذَحَةُ : الخُنْفَسَاءُ . وهذا القول يومئُ به إلى الحجاج ، وله مع الوذحة حديث ليس هذا موضع ذكره (1) .

الشّرْحُ :الصعيد : التراب ، ويقال وجه الأرض ، والجمع صُعُد وصُعُدات ، كطرِيق وطرُق وطُرُقات . والالتدام : ضرب النساء صدورَهنّ في النّياحة . ولا خالف عليها : لا مستخلف . قوله : « ولهمّت كلَّ امرئ منكم نفسه » ، أي أذابته وأنحلته ، هممتُ الشّحم ، أي أذبته . ويروى : « ولأهمّت كلَّ امرئ » ، وهو أصحّ من الرواية الأُولى ؛ أهمّني الأمر ، أي أحزنني . وتاه عن فلان رأيه ، أي عزَب وضلّ . ثم ذكر أنه يودّ ويتمنّى أن يفرّق اللّه بينه وبينهم ، ويلحقه بالنبي صلى الله عليه و آله وسلم وبالصالحين من أصحابه ، كحمزة وجعفر عليهماالسلام وأمثالهما ، ممّن كان أمير المؤمنين يُثْنِي عليه . ويحمَد طريقته من الصحابة . فمضوْا قُدُماً ، أي متقدّمين غير معرّجين ولا معرّدين (2) . وأوجفوا : أسرعوا . ويقال : غنيمة باردة وكرامة باردة ، أي لم تؤخذ بحرب ولا عسف ؛ وذلك لأنّ المكتسب بالحرب جارٍ في المعنى لما يلاقي ويعاني في حصوله من المشقّة .

.


1- .قيل في تفسير ( الوَذَحَة ) أقوال ، منها : ما ذكره السيّد الشريف الرضي رحمه الله ؛ ومنها : إنّ المفسرين بعد الرضي رحمه اللهقالوا في قصّة هذه الخنفساء وجوها ، نقلها ابن أبي الحديد واحداً واحداً ، وأرجحها عنده أنّها كناية عن حقارة الحجّاج وتمرّده على اللّه ودمويته .
2- .يقال : عرّد الرجل عن قرنه ، إذا أحجم ونكل .

ص: 410

116 . من كلام له عليه السلام في التوبيخ على البخل ، ودعوة أصحابه لنصرته

وغلام ثقيف المشار إليه ، هو الحجّاج بن يوسف . والذيّال : التائه ، وأصله من « ذال » أي تبختر ، وجرّ ذيله على الأرض . والميّال : الظالم . ويأكل خَضِرَتكم : يستأصل أموالكم . ويذيب شحمتكم مثله ، وكلتا اللفظتين استعارة . ثم قال له كالمخاطب لإنسان حاضر بين يديه : « إيهٍ أبا وَذَحه » ، إيه : كلمة يُستزاد بها من الفعل ، تقديره : زِدْ وهات أيضا ما عندك ، وضدّها إيها ، أي كفّ وأمسك . فلما كان أمير المؤمنين عليه السلام يعلمُ مِن حال الحجاج نجاسته بالمعاصي والذنوب ؛ التي لو شوهدت بالبصر لكانت بمنزلة البعر الملتصِق بشعر الشاء ، كنّاه « أبو وذَحَة » . ويمكن أيضا أن يكنّيه بذلك لدمامته في نفسه ، وحقارة منظره ، وتشويه خلقته ، فإنه كان قصيرا دميماً نحيفاً ، أخفشَ العينين معوجّ الساقين ، قصير الساعدين ، مجدورَ الوجه ، أصلع الرأس ، فكنّاه بأحقر الأشياء ، وهو البعرة .

116الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلامفَ_لاَ أَمْوَالَ بَذَلتمُوهَا لِلَّذِي رَزَقَهَا ، وَلاَ أَنْفُسَ خَاطَرْتُمْ بِهَا لِلَّذِي خَلَقَهَا . تَكْرُمُونَ بِاللّه عَلَى عِبَادِهِ ، وَلاَ تُكْرِمُونَ اللّهَ فِي عِبَادِهِ! فَاعْتَبِرُوا بِنُزُولِكُمْ مَنَازِلَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، وَانْقِطَاعِكُمْ عَنْ أَوْصَلِ إِخْوَانِكُمْ!

الشّرْحُ :انتصاب « الأموال » بفعل مقدّر دلّ عليه « بذلتموها » وكذلك « أنفس » ، يقول : لم تبذلوا أموالكُم في رضَا من رزقكم إياها ، ولم تخاطروا بأنفسكم في رضا الخالق لها ، والأوْلَى بكم أن تبذُلوا المالَ في رضا رازِقه ، والنفْس في رضا خالقها ؛ لأ نّه ليس أحَدٌ أحقّ منه بالمال والنفس وبذلهما في رضاه . ثم قال : من العجب أنّكم تطلبون من عباد اللّه أن يكرموكم

.

ص: 411

117 . من كلام له عليه السلام في حثّ أصحابه على مناصحته

ويطيعوكم لأجل اللّه ، وانتمائكم إلى طاعته ، ثم إنّكم لا تكرمون اللّه ولا تطيعونه في نفع عباده ، والإحسان إليهم . ومحصول هذا القول : كيف تسيمون الناس أن يطيعوكم لأجل اللّه ، ثم إنكم أنتم لا تُطيعون اللّه ، الذي تكلّفون الناس أن يطيعوكم لأجله! ثم أمرهم باعتبارهم بنزولهم منازل مَنْ كان قبلهم ، وهذا مأخوذ من قوله تعالى : « وَسَكَنْتُمْ فِي مساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ » (1) . وروي عن « أصل إخوانكم » ، وذلك بموت الأب ، فإنه ينقطع أصل الأخ الواشج بينه وبين أخيه ، والرواية الأُولى أظهر .

117الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلامأَنْتُمُ الأَنْصَارُ عَلَى الْحَقِّ ، وَالإِخْوَانُ فِي الدِّينِ ، وَالْجُنَنُ يَوْمَ الْبَأس ، وَالْبِطَانَةُ دُونَ النَّاس . بِكُمْ أَضْرِبُ الْمُدْبِرَ ، وَأَرْجُو طَاعَةَ الْمُقْبِلِ . فَأَعِينُوني بِمُنَاصَحَةٍ خَلِيَّةٍ مِنَ الْغِشِّ ، سَلِيمَةٍ مِنَ الرَّيْبِ ، فَوَاللّهِ إِنِّي لَأَوْلَى النَّاس بِالنَّاس!

الشّرْحُ :الجُنن : جمع جُنّة ، وهي ما يُستَر به . وبطانة الرجل : خواصّه وخالصته الذين لا يطوِي عنهم سرّه . فإن قلت : أمّا ضربُه بهم المدبر فمعلوم ؛ يعني الحرب ، فما معنى قوله عليه السلام : « وأرجو طاعة المقبل »؟ قلت : لأنّ مَنْ ينضوِي إليه من المخالفين إذا رأى ما عليه شيعتُه وبطانتُه من الأخلاق

.


1- .سورة إبراهيم 45 .

ص: 412

118 . من كلام له عليه السلام وقد جمع له أصحابه فحضَّهم على الجهاد وأثار الحمية فيهم

الحميدة ، والسيرة الحسنة ، أطاعه بقلبه باطنا ، بعد أن كان انضوى إليه ظاهراً . واعلم أنّ هذا الكلام قاله أمير المؤمنين عليه السلام للأنصار بعد فراغه من حرب الجمل ، وقد ذكره المدائني والواقديّ في كتابيهما (1) .

118الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلاموقد جمع الناس وحضّهم على الجهاد فسكتوا ملياً فقال عليه السلام : مَا بَالُكُمْ ! أَمُخْرَسُونَ أَنْتُمْ ؟ فقال قومٌ مِنْهُمْ : يا أميرَ المؤمِنِينَ ، إن سرْتَ سِرْنَا مَعَكَ .

فقال عليه السلام :مَا بَالُكُمْ ! لاَ سُدِّدْتُمْ لِرُشْدٍ ! وَلاَ هُدِيتُمْ لِقَصْدٍ ! أَفِي مِثْلِ هذَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَخْرُجَ ؟ وَإِنَّمَا يَخْرُجُ فِي مِثْلِ هذَا رَجُلٌ مِمَّنْ أَرْضَاهُ مِنْ شُجْعَانِكُمْ وَذَوِي بَأْسِكُمْ ، وَلاَ يَنْبَغِي لِي أَنْ أَدَعَ الْجُنْدَ وَالْمِصْرَ وَبَيْتَ الْمَالِ وَجِبَايَةَ الْأَرْض ، وَالْقَضَاءَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَالنَّظَرَ فِي حُقُوقِ الْمُطَالِ_بِينَ ، ثُمَّ أخْرُجَ فِي كَتِيبَةٍ أَتْبَعُ أُخْرَى ، أَتَقَلْقَلُ تَقَلْقُلَ الْقِدْحِ فِي الْجَفِيرِ الْفَارِغِ . وَإِنَّمَا أَنَا قُطْبُ الرَّحَى ، تَدُورُ عَلَيَّ وَأَنَا بِمَكَانِي ، فَإِذَا فَارَقْتُهُ اسْتَحَارَ مَدَارُهَا ، وَاضْطَرَبَ ثِفَالُهَا . هذَا لَعَمْرُ اللّهِ الرَّأْيُ السُّوءُ . وَاللّهِ لَوْلاَ رَجَائِي الشَّهَادَةَ عِنْدَ لِقَائِي

.


1- .كتاب الجمل للمدائني ، ذكره ابن النديم في الفهرست 10 [ ص115 الفن الأول _ المقالة الثالثة ] ، وكتاب الجمل للواقدي ذكره أيضا ابن النديم في ص99 [ ص111 الفن الأول _ المقالة الثالثة ط . طهران 1971 م بتحقيق رضا تجدد ] .

ص: 413

الْعَدُوَّ ، وَلَوْ قَدْ حُمَّ لِي لِقَاؤهُ ، لَقَرَّبْتُ رِكَابِي ثُمَّ شَخَصْتُ عَنْكُمْ فَ_لاَ أَطْلُبُكُمْ مَا اخْتَلَفَ جَنُوبٌ وَشَمَالٌ؛ طَعَّانِينَ عَيَّابِينَ ، حَيَّادِينَ رَوَّاغِينَ . إِنَّهُ لاَ غَنَاءَ فِي كَثْرَةِ عَدَدِكُمْ مَعَ قِلَّةِ اجْتَِماعِ قُلُوبِكُمْ . لَقَدْ حَمَلْتُكُمْ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ الَّتي لاَ يَهْلِكُ عَلَيْهَا إِلاَّ هَالِكٌ . مَنِ اسْتَقَامَ فَإِلَى الْجَنَّةِ ، وَمَنْ زَلَّ فَإِلَى النَّارِ!

الشّرْحُ :سكتوا ملياً ، أي ساعة طويلة ، ومضى مَليٌّ من النار كذلك ، قال اللّه تعالى : « وَاهْجُرْنِي مَليّا » (1) . وأقمت عند فلان مُلاوة ، ومَلاوة ، ومِلاوة من الدهر ، بالحركات الثلاث ، أي حيناً وبرهة ، وكذلك أقمت مَلْوة ومُلوة ومِلوة ، بالحركات الثلاث . وقوله : « أمخرَسون أنتم ؟ » اسم المفعول من أخرسه اللّه ، وخرس الرجلُ ، والخرَس المصدر . والكتيبة : قطعة من الجيش . والتقلقل : الحركة في اضطراب . والقِدْح : السهم . والجَفِير : الكنانة ، وقيل وعاء للسهام أوسع من الكنانة . واستحار مدارها : اضطرب ، والمدار هاهنا مصدر . والثِّفال بكسر الثاء : جلد يبسط ويوضع الرحا فوقه ، فيطحن باليد ليسقط عليه الدقيق . وحُمّ : أي قُدّر ، والركاب : الإبل . وشخصت عنكم : خرجت . ثم وصفهم بعيب الناس والطعن فيهم ، وأنّهم يحيدون عن الحقّ عن الحرب ، أي ينحرفون ويروغون كما يروغ الثعلب . ثم قال : إنه لا غناء عندكم وإن اجتمعتم بالأبدان مع تفرّق القلوب . والغَنَاء ، بالفتح والمد : النفع . وانتصب « طعانين » على الحال من الضمير المنصوب في « أطلبكم » . وهذا كلام قاله أمير المؤمنين عليه السلام في بعض غارات أهل الشام على أطراف أعماله بالعراق بعد انقضاء أمر صِفّين والنهروان ، وقد ذكرنا سببه وواقعته فيما تقدم . فإن قلت : كيف قال : الطريق الواضح ، فذكّره ، ثم قال : « لا يهلك فيها » فأنثه؟ قلت : لأنّ الطريق يذكّر ويؤنث ، تقول : الطريق الأعظم والطريق العظمى ، فاستعمل اللغتين معاً .

.


1- .سورة مريم 46 .

ص: 414

119 . من كلام له عليه السلام في الحث على الاستقامة والتحذير من النار

119الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلامتَاللّه لَقَدْ عُلِّمْتُ تَبْلِيغَ الرِّسَالاَتِ ، وَإِتْمَامَ الْعِدَاتِ ، وَتَمَامَ الْكَلِمَاتِ . وَعِنْدَنَا _ أَهْلَ الْبَيْتِ _ أَبْوَابُ الْحُكْمِ وَضِيَاءُ الْأَمْرِ . أَلاَ وَإِنَّ شَرَائِعَ الدِّينِ وَاحِدَةٌ ، وَسُبُلَهُ قَاصِدَةٌ . مَنْ أَخَذَ بِهَا لَحِقَ وَغَنِمَ ، وَمَنْ وَقَفَ عَنْهَا ضَلَّ وَنَدِمَ . اعْمَلُوا لِيَوْمٍ تُذْخَرُ لَهُ الذَّخَائِرُ ، وَتُبْلَى فِيهِ السَّرَائِرُ . وَمَنْ لاَ يَنْفَعُهُ حَاضِرُ لُبِّهِ فَعَازِبُهُ عَنْهُ أَعْجَزُ ، وَغَائِبُهُ أَعْوَزُ . وَاتَّقُوا نَاراً حَرُّهَا شَدِيدٌ ، وَقَعْرُهَا بَعِيدٌ ، وَحِلْيَتُهَا حَدِيدٌ ، وَشَرَابُهَا صَدِيدٌ . أَلاَ وَإِنَّ اللِّسَانَ الصَّالِحَ يَجْعَلُهُ اللّهُ تَعَالَى لِلْمَرْءِ فِي النَّاس ، خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْمَالِ يُورِثُهُ مَنْ لاَ يَحْمَدُهُ .

الشّرْحُ :رواها قوم « لقد عَلِمْتُ » بالتخفيف وفتح العين ، والرواية الأُولى أحسن ، فتبليغ الرسالات تبليغ الشرائع بعد وفاة الرسول صلى الله عليه و آله وسلم إلى المكلّفين ، وفيه إشارة إلى قوله تعالى : « يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدا إلاَّ اللّهَ » (1) ، وإلى قول النبي صلى الله عليه و آله وسلم في قصة براءة : « لا يؤدّي عنّي إلاّ أنا [أو] رجل منِّيجج » 2 .

.


1- .سورة الأحزاب 39 .

ص: 415

وإتمام العدات : إنجازها ، وفيه إشارة إلى قوله تعالى : « مِنَ الْمؤمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ » (1) ، وإلى قول النبي صلى الله عليه و آله وسلم في حقه عليه السلام : « قاضي ديني ومنجز موعدي » (2) . وتمام الكلمات تأويل القرآن ، وفيه إشارة إلى قوله تعالى : «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقا وَعَدْلاً» (3) ، وإلى قول النبي صلى الله عليه و آله وسلم في حقه عليه السلام : اللهمّ اهد قلبَه ، وثبّت لسانه » (4) . وخلاصة هذا : أ نّه أقسم باللّه أنه قد عَلم ، أو عُلِّم _ على اختلاف الروايتين _ أداء الشرائع إلى المكلّفين ، والحكم بينهم بما أنزل اللّه ، وعلم مواعيد رسول اللّه التي وعد بها ، فمنها ماهو وعدٌ لواحدٍ من الناس بأمرٍ ، نحو أن يقول له : سأعطيك كذا ، ومنها ما هو وعدٌ بأمرٍ يحدُث ، كإخبار الملاحم والأُمور المتجدّدة . وعلم تمام كلمات اللّه تعالى ، أي تأويلها وبيانها الذي يتمّ به ؛ لأنّ في كلامه تعالى المجمَل الذي لا يستغني عن متمّم ومبيّن يوضحه . ثم كشف الغطاء وأوضح المراد فقال : « وعندنا _ أهلَ البيت _ أبوابُ الحُكْم » ، يعني الشرعيات والفتاوى . وضياء الأمر يعني العقليات والعقائد ، وهذا مقام عظيم لا يجسُر أحدٌ من المخلوقين أن يدّعيه سواه عليه السلام ؛ ولو أقدم أحد على ادّعائه غيره لكذب وكذبه الناس . و « أهلَ البيت » منصوب على الاختصاص . وسبُله قاصدة ، أي قريبة سهلة ، ويقال : بيننا وبين الماء ليلة قاصدة ورافهة ، أي هيّنة المسير لا تَعَب فيها ولا بط ء . وتُبلَى فيه السرائر ، أي تختبر . ثم قال : من لا ينفعه لبّه الحاضر وعقله الموجود فهو بعدم الانتفاع بما هو غير حاضر ولا موجود من العقل عنده أوْلَى وأحرى ، أي مَنْ لم يكن له من نفسه ومن ذاته وازع وزاجر عن القبيح ، فبعيد أن ينزَجر ، وأن يرتدع بعقل غيره وموعظة غيره له . ثم ذكر النار فحذّر منها . وقوله : « حليتها حديد » يعني القيود والأغلال .

.


1- .سورة الأحزاب 23 .
2- .مجمع الزوائد للهيثمي 9 : 121 ، المعجم الكبير للطبراني 12 : 321 ح 13549 ، مسند أبي يعلى الموصلي 1 : 402 / ح 528 ، مناقب علي بن أبي طالب لأبي بكر ابن مردويه : ص 61 ح 29 بلفظ : تقضي ديني و تنجز موعدي (وعدي) .
3- .سورة الأنعام 115 .
4- .قاله صلى الله عليه و آله وسلم لعليّ عليه السلام حين أراد إرساله إلى اليمن ليقضي فيهم ويحكم بينهم . والرواية أخرجها : ابن ماجه في السنن 2 : 774 / ح2310 ، وابن أبي شيبة في المصنّف 7 : 13 / ح57 ، والنسائي في السنن الكبرى 5 : 116 / ح8419 ، والصدوق في عيون أخبار الرضا عليه السلام 1 : 66 / ح240 ، والشيخ المفيد في الإرشاد 1 : 194 _ 195 .

ص: 416

120 . من كلام له عليه السلام في احتجاجه على الخوارج

ثم ذكر أنّ الذكْر الطيّب يخلِّفه الإنسان بين الناس خيرٌ له من مالٍ يجمعه ويورّثه من لا يحمده . وجاء في الأثر أن أمير المؤمنين عليه السلام جاءه مخبرٌ فأخبرَه أن مالاً له قد انفجرت فيه عين خرارة ، يبشّره بذلك ، فقال : بشِّر الوارث ، بشِّر الوارث ، يكررها ، ثم وقف ذلك المال على الفقراء ، وكتب به كتابا في تلك الساعة (1) .

120الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلاموقد قام إليه رجل من أصحابه فقال : نهيتنا عن الحكومة ثمّ أمرتنا بها ، فلم ندر أي الأمرين أَرشد ؟ فصفق عليه السلام إحدى يديه على الأُخرى ثمّ قال : هذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْعُقْدَةَ ! أمَا وَاللّهِ لَوْ أنّي حِينَ أَمَرْتُكُمْ بِهِ حَمَلْتُكُمْ عَلَى الْمَكْرُوهِ الَّذِي يَجْعَلُ اللّهُ فِيهِ خَيْراً ، فَإِنِ اسْتَقَمْتُمْ هَدَيْتُكُمْ وَإِنِ اعْوَجَجْتُمْ قَوَّمْتُكُمْ ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ تَدَارَكْتُكُمْ ؛ لَكَانَتِ الْوُثْقَى ، وَلكِنْ بِمَنْ وَإِلَى مَنْ ؟ أُرِيدُ أَنْ أُدَاوِيَ بِكُمْ وَأَنْتُمْ دَائِي ، كَنَاقِش الشَّوْكَةِ بِالشَّوْكَةِ ، وَهُوَ يَعَلْمُ أَنَّ ضَلْعَهَا مَعَهَا! اللَّهُمَّ قَدْ مَلَّتْ أَطِبَّاءُ هذَا الدَّاءِ الدَّوِيِّ ، وَكَلَّتِ النَّزَعَةُ بِأَشْطَانِ الرَّكِيِّ ! أَيْنَ الْقَوْمُ الَّذِينَ دُعُوا إِلَى الإِسْلاَمِ فَقَبِلُوهُ ، وَقَرَؤوا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ ، وَهِيجُوا إِلى الْجِهَادِ فَوَلِهُوا وَلَهَ اللِّقَاحِ إِلَى أَوْلاَدِهَا ، وَسَلَبُوا السُّيُوفَ أَغْمَادَهَا ، وَأَخَذُوا بِأَطْرَافِ الْأَرْض زَحْفاً زَحْفاً ، وَصَفّاً صَفّاً . بَعْضٌ هَلَكَ ، وَبَعْضٌ نَجَا .لاَ يُبَشَّرُونَ بِالْأَحْيَاءِ ، وَلاَ يُعَزَّوْنَ عَنِ الْمَوْتَى . مُرْهُ الْعُيُونِ مِنَ الْبُكَاءِ ، خُمْصُ الْبُطُونِ مِنَ الصِّيَامِ ، ذُبُلُ الشِّفَاهِ مِنَ

.


1- .الكافي للكليني 7 : 54 / ح9 ، السنن الكبرى للبيهقي 6 : 160 .

ص: 417

الدُّعَاءِ ، صُفْرُ الْأَلْوَانِ مِنَ السَّهَرِ . عَلَى وَجُوهِهمْ غَبَرَةُ الْخَاشِعيِنَ . أُولئِكَ إِخْوَاني الذَّاهِبُونَ . فَحَقَّ لَنَا أَنْ نَظْمَأَ إِلَيْهِمْ وَنَعَضَّ الْأَيْدِيَ عَلَى فِرَاقِهِمْ . إِنَّ الشَّيْطَانَ يُسَنِّي لَكُمْ طُرُقَهُ ، وَيُرِيدُ أَنْ يَحُلَّ دِينَكُمْ عُقْدَةً عُقْدَةً ، وَيُعْطِيَكُمْ بِالْجَمَاعَةِ الْفُرْقَةَ ، وَبِالْفُرْقَةِ الْفِتْنَةَ . فَاصْدِفُوا عَنْ نَزَغَاتِهِ وَنَفَثَاتِهِ ، وَاقْبَلُوا النَّصِيحَةَ مِمَّنْ أَهْدَاهَا اليكم ، وَاعْقِلوهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ .

الشّرْحُ :هذه شبهة من شبهات الخوارج ، ومعناها أنك نهيت عن الحكومة أولاً ، ثم أمرت بها ثانيا ، فإن كانت قبيحة كنت بنهيك عنها مصيبا ، وبأمرك بها مخطئاً ، وإن كانت حسنة ، كنتَ بنهيك عنها مخطئاً وبأمرك بها مصيباً ، فلا بدّ من خطئك على كلّ حال . وجوابها أنّ للإمام أن يعمل بموجب ما يغلب على ظنّه من المصلحة ، فهو عليه السلام لَمّا نهاهم عنها كان نهيهُ عنها مصلحة حينئذٍ ، ولما أمرهم بها كانت المصلحة في ظَنّه قد تغيّرت ، فأمرهم على حسب ما تبدّل وتغيّر في ظنه ، كالطبيب الذي ينهى المريض اليوم عن أمرٍ ويأمره بمثله غداً (1) . وقوله : « هذا جزاء من ترك العقدة » ، يعني الرأي الوثيق ، وظهرَ فيما بعد أنّ الرأي الأصلح كان الإصرار والثبات على الحرب ، وأن ذلك وإن كان مكروها ، فإن اللّه تعالى كان يجعل الخيرة فيه ، كما قال سبحانه : « فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرا كَثِيرا » (2) . ثم قال : كنت أحملكم على الحرب وترك الالتفات إلى مكيدة معاوية وعمرو ؛ مِنْ رفْع

.


1- .أقول : إن الإمام عليه السلام رفض أولاً التحكيم ليقينه أ نّه خدعة ؛ ولأ نّه مفسدة محضة ولا يلزم من ذلك خطؤه كما زعم الخوارج ، فرضي بالتحكيم مكرهاً ومضطراً ، فعقد العهد معهم ؛ لأنّ أصحابه (الخوارج) أحجموا عن الحرب ضد معاوية ، وأصرّوا على قبول التحكيم . فلما كتبوا كتاب العهد ، ندموا ، وأبوا إلاّ الرجوع عن العهد ، فرفض الإمام عليه السلام نقض ذلك العهد ، لا أ نّه أمرهم بالحكومة ، ولم يعلن الحرب عليهم إلاّ بعد أن طغوا وبغوا . ولو أ نّه عليه السلام قاتل الخوارج في صفين لما سُمع ذلك الخارجي المتجرئ ... ولكن بمن وإلى من يرجع في حربهم ؟ وبمن يقاتلهم ؟ ولهذا قال عليه السلام : هذا جزاء من ترك العقدة .
2- .سورة النساء 19 .

ص: 418

المصاحف ، فإن استقمتم لي اهتديتم بي ، وإن لم تستقيموا فذلك ينقسم إلى قسمين : أحدهما : أن تعوجوا ، أي يقع منكم بعض الالتواء ، ويسيرٌ من العصيان ، كفتور الهمّة وقلة الجدّ في الحرب . والثاني : التأنِّي والامتناع المطلق من الحرب . فإن كان الأول قوّمْتكم بالتأديب والإرشاد وإرهاق الهمم والعزائم ، بالتبصير والوعظ والتحريض والتشجيع ، وإن كان الثاني تداركت الأمر معكم ؛ إمّا بالاستنجاد بغيركم من قبائل العرب وأهل خُراسان والحجاز . فكلّهم كانوا شيعتَه وقائلين بإمامته ، أو بما أراه في ذلك الوقت من المصلحة التي تحكم بها الحال الحاضرة . قال : لو فعلت ذلك لكانتْ هي العقدة الوثقى ، أي الرأي الأصوب الأحزم . واعلم أنه عليه السلام لما قال هذا القول ، واستدرك بكلام آخر حذَرا أن يثبِتَ على نفسه الخطأ في الرأي ، فقال : لقد كان هذا رأياً لو كان لي من يطيعني فيه ، ويعمل بموجبه ، وأستعين به على فعله ، ولكن بمنْ كنت أعمل ذلك ؟ وإلى مَنْ أخلد في فعله ؟! أمّا الحاضرون لنصري فأنتم وحالكم معلومة في الخلاف والشّقاق والعصيان ، وأمّا الغائبون من شيعتي كأهل البلاد النائية فإلى أن يصلوا قد بلغ العدوّ غرضه منّي ، ولم يبقَ مَنْ أخلُد إليه في إصلاح الأمر وإبرام هذا الرأي الذي كان صواباً لو اعتمد ؛ إلا أنْ أستعين ببعضكم على بعض ، فأكون كناقش الشوكة بالشوكة ، وهذا مثل مشهور : « لا تنقش الشوكة بالشوكه » ، فإن ضَلْعها لها ، والضلع الميل ، يقول : لا تستخرج الشوكة الناشبة في رجلك بشوكة مثلها ، فإن إحداهما في القوّة والضعف كالأُخرى ، فكما أنّ الأُولى انكسرت لَمّا وطئتَها فدخلتْ في لحمك ، فالثانية إذا حاولت استخراج الأُولى بها تنكسر ، وتلج في لحمك . ثم قال : « اللّهم إن هذا الداء الدويّ ، قد ملّت أطباؤه » ، والدويّ : الشديد ، كما تقول ليلٌ أليل . وكلّت النَّزَعة ، جمع نازع ، وهو الذي يستقي الماء ، والأشطان : جمع شَطَن ، وهو الحبل . والرّكيّ : الآبار ، جمع رَكيّة ، وتجمع أيضاً على ركايا . ثم قال : أين القوم ؟! هذا كلام متأسّفٍ على أُولئك ، متحسّر على فقدهم . والوله : شدّة الحب حتى يذهب العقل ، وَلِهَ الرجل . واللِّقاح ، بكسر اللام : الإبل ، والواحدة لقوح ، وهي الحلوب ، مثل قِلاص وقلوص . قوله : « وأخذوا بأطراف الأرض » ، أي

.

ص: 419

أخذوا على الناس بأطراف الأرض ، أي حصروهم ، يقال لمن استولى على غيره وضيّق عليه : قد أخذ عليه بأطراف الأرض . وزحْفا زحْفا ، منصوب على المصدر المحذوف الفعل ، أي يزحفون زحفاً ، والكلمة الثانية تأكيد للأُولى . وكذلك قوله : « وصَفّا صَفّا » . ثم ذكر أنّ بعض هؤلاء المتأسَّف عليهم هلك ، وبعض نجا ، وهذا ينحى قوله تعالى : « فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنْتَظِرُ » (1) . ثم ذكر أنّ هؤلاء قوم وقَذَتْهم العبادة ، وانقطعوا عن الناس ، وتجرّدوا عن العلائق الدنيوية ، فإذا ولد لأحدهم مولود لم يبشّر به ، وإذا مات له ميّت لم يعزَّ عنه . ومَرِهت عين فلان ، بكسر الراء ، إذا فسدت لترك الكُحْل ، لكنّ أمير المؤمنين عليه السلام جعل مَرَهَ عيون هؤلاء من البكاء من خوف خالقهم سبحانه . وذكر أن بطونهم خماص من الصوم ، وشفاههم ذابلة من الدعاء ، ووجوههم مصفرّة من السَّهر ؛ لأنهم يقومون الليل وعلى وجوههم غَبَرة الخشوع . ثم قال : « أولئك إخواني الذاهبون » . فإن قلت : مَنْ هؤلاء الذين يشير عليه السلام إليهم؟ قلت : هم قوم كانوا في نَأْنأة الإسلام وفي زمان ضعفه وخموله أربابَ زهد وعبادة وجهاد شديد في سبيل اللّه ، كمصعب بن عمير من بني عبد الدّار ، وكسعد بن معاذ من الأوس ، وكجعفر بن أبي طالب ، وعبد اللّه بن رواحة ، وغيرهم ممن استشهد من الصالحين ، أرباب الدين والعبادة والشجاعة في يوم أُحد ، وفي غيره من الأيام في حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وكعمّار ، وأبي ذَرّ ، والمقداد ، وسلمان ، وخَبّاب ، وجماعة من أصحاب الصُفّة وفقراء المسلمين أرباب العبادة ، الذين قد جمعوا بين الزهد والشجاعة . قوله : « فحَقّ لنا » يقالَ حقّ له أن يفعل كذا ، وهو حقيق به ، وهو محقوق به ، أي خليقٌ له ، والجمع أحقّاء ومحقوقون . ويسنِّي : يسهّل . وصدف عن الأمر يصدِف ، أي انصرف عنه . ونزغات الشيطان : ما ينزَغ به ، بالفتح ، أي يفسد ويغري . ونفثاته : ما ينفِث به وينفُث ، بالضم والكسر ، أي يخيّل ويسحر . واعقلوها على أنفسكم ، أي اربطوها والزموها .

.


1- .سورة الأحزاب 23 .

ص: 420

121 . من كلام له عليه السلام في التحكيم

121الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام قاله للخوارج وقد خرج إلى معسكرهم وهم مقيمون على إنكار الحكومة ، فقال عليه السلام :أَكُلُّكُمْ شَهِدَ مَعَنَا صِفِّينَ ؟ فَقَالُوا : مِنَّا مَنْ شَهِدَ وَمِنَّا مَنْ لَمْ يَشْهَدْ . قَالَ : فَامْتَازُوا فِرْقَتَيْنِ ، فَلْيَكُنْ مَنْ شَهِدَ صِفِّينَ فِرْقَةً ، وَمَنْ لَمْ يَشْهَدْهَا فِرْقَةً ، حَتَّى أُكَلِّمَ كُلاًّ مِنْكُمْ بِكَ_لاَمِهِ .وَنَادَى النَّاسَ ، فَقَالَ : أَمْسِكُوا عَنِ الْكَ_لاَمِ ، وَأَنْصِتُوا لِقَوْلِي ، وَأَقْبِلُوا بِأَفْئِدَتِكُمْ إِلَيَّ ، فَمَنْ نَشَدْنَاهُ شَهَادَةً فَلْيَقُلْ بِعِلْمِهِ فِيهَا . ثُمَّ كَلَّمَهُمْ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِكَ_لاَمٍ طَوِيل ، مِنْ جُمْلَتِهِ أَنْ قَالَ عليه السلام : أَلَمْ تَقُولُوا عِنْدَ رَفْعِهِمُ الْمَصَاحِفَ حِيلَةً وَغِيلَةً ، وَمَكْراً وَخَدِيعَةً : إِخْوَانُنَا وَأَهْلُ دَعْوَتِنَا ، اسْتَقَالُونَا وَاسْتَرَاحُوا إِلَى كِتَابِ اللّهِ سُبْحَانَهُ ، فَالرَّأْيُ الْقَبُولُ مِنْهُمْ وَالتَّنْفِيسُ عَنْهُمْ ؟ فَقُلْتُ لَكُمْ : هذَا أَمْرٌ ظَاهِرُهُ إِيمَانٌ ، وَبَاطِنُهُ عُدْوَانٌ وَأَوَّلُهُ رَحْمَةٌ ، وَآخِرُهُ نَدَامَةٌ . فَأَقِيمُوا عَلَى شَأنِكُمْ ، وَالْزَمُوا طَرِيقَتَكُمْ ، وَعَضُّوا عَلَى الْجِهَادِ بِنَوَاجِذِكُمْ ، وَلاَ تَلْتَفِتُوا إِلَى نَاعِقٍ نَعَقَ : إِنْ أُجِيبَ أَضَلَّ ، وَإِنْ تُرِكَ ذَلَّ . وَقَدْ كَانَتْ هذِهِ الْفَعْلَةُ ، وَقَدْ رَأَيْتُكُمْ أَعْطَيتُمُوهَا . وَاللّهِ لَئِنْ أَبَيتُهَا مَا وَجَبَتْ عَلَيَّ فَرِيضَتُهَا وَلاَ حَمَّلَنِي اللّهُ ذَ نْبَهَا . وَوَاللّهِ إِنْ جِئْتُهَا إِنِّي لَلْمُحِقُّ الَّذِي يُتَّبَعُ ؛ وَإِنَّ الْكِتَابَ لَمَعِي ، مَا فَارَقْتُهُ مُذْ صَحِبْتُهُ . فَلَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ، وَإِنَّ الْقَتْلَ لَيَدُورُ عَلَى الآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالاْءِخْوَانِ وَالْقَرَابَاتِ ، فَمَا نَزْدَادُ عَلَى كُلِّ مُصِيبَةٍ وَشِدَّةٍ إِلاَّ إِيمَاناً ، وَمُضِيّاً عَلَى الْحَقِّ ، وَتَسْلِيماً لِلْأَمْرِ ، وَصَبْراً عَلَى مَضَض الْجِرَاحِ . وَلكِنَّا إِنَّمَا أَصْبَحْنَا نُقَاتِلُ إِخْوَانَنَا فِي الإسْلاَمِ عَلَى مَا دَخَلَ فِيهِ مِنَ الزَّيْغِ

.

ص: 421

وَالاِعْوِجَاجِ ، وَالشُّبْهَةِ وَالتَّأوِيلِ .فَإِذَا طَمِعْنَا فِي خَصْلَةٍ يَلُمُّ اللّهُ بِهَا شَعَثَنَا ، وَنَتَدَانَى بِهَا إِلَى الْبَقِيَّةِ فِيَما بَيْنَنَا ، رَغِبْنَا فِيهَا ، وَأَمْسَكْنَا عَمَّا سِوَاهَا!

الشّرْحُ :هذا الكلام يتلُو بعضه بعضا ؛ ولكنه ثلاثة فصول لا يلتصِق أحدها بالآخر ، وهذه عادة الرضي ، تراه ينتخب من جملة الخطبة الطويلة كلماتٍ فصيحة ، يوردها على سبيل التتالي ، وليست متتالية حين تكلّم بها صاحبها ، وسنقطع كلّ فصل منها عن صاحبه إذا مررنا على مَتْنها . قوله : [أي الرضي] « إلى معسكَرهم » الكاف مفتوحة ، ولا يجوز كسرها ؛ وهو موضع العسكَر ومحطّه. وشَهِد صفين : حَضَرها ، قال تعالى : « فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ » (1) . قوله عليه السلام : « فامتازوا » أي انفردوا ، قال اللّه تعالى : « وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا المُجْرِمُونَ » (2) . قوله : « حتى أُكلّم كلاًّ منكم بكلامه » ، أي بالكلام الذي يليق به . والغيلة : الخداع . والناعق : المصوّت . قوله : « إن أُجيب أضلّ وإن تُرك ذلّ ... » هو آخر الفصل الأول . وقوله : « أضلّ » ، أي ازداد ضلالاً ؛ لأ نّه قد ضلّ قبل أن يجاب . فأمّا قوله : « فلقد كنا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم » ، فهو من كلام آخر ، وهو قائم بنفسه ، إلى قوله : « وصبراً على مضض الجراح » ، فهذا آخر الفصل الثاني . فأمّا قوله : « ولكنا إنما أصبحنا » ، فهو كلام ثالث غير منوط بالأولين ولا ملتصق بهما ؛ وهو في الظاهر مخالف ومناقض للفصل الأول ؛ لأنّ الفصل الأول فيه إنكار الإجابة إلى التحكيم ، وهذا يتضمّن تصويبها ، وظاهر الحال أ نّه بعد كلام طويل . وقد قال الرضيّ ؛ في أول الفصل إنه من جملة كلام طويل ، وإنه لَمّا ذكر التحكيم ، قال ما كان يقوله دائما ، وهو أنّي إنما حكّمت على أن نعمَل في هذه الواقعة بحكْم الكتاب ، وإن كنت أحارب قوما أدخلوا في الإسلام زيغا وأحدثوا به اعوجاجاً ، فلمّا دعوني إلى تحكيم الكتاب أمسكْتُ عن قتلهم ،

.


1- .سورة البقرة 185 .
2- .سورة يس 59 .

ص: 422

122 . من كلام له عليه السلام قاله لأصحابه في ساعة الحرب

وأبقيْت عليهم ؛ لأني طمعت في أمرٍ يُلمّ اللّه به شَعَث المسلمين ، ويتقاربون بطريقه إلى البقية ، وهي الإبقاء والكفّ .

122الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام قاله لأصحابه في ساعة الحربوَأَيُّ امْرِئٍ مِنْكُمْ أَحَسَّ مِنْ نَفْسِهِ رِبَاطَةَ جَأْش عِنْدَ اللِّقَاءِ ، وَرَأَى مِنْ أَحَدٍ مِنْ إِخْوَانِهِ فَشَلاً فَلْيَذُبَّ عَنْ أَخِيهِ بِفَضْلِ نَجْدَتِهِ الَّتي فُضِّلَ بِهَا عَلَيْهِ كَمَا يَذُبُّ عَنْ نَفْسِهِ ، فَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَعَلَهُ مِثْلَهُ . إِنَّ الْمَوْتَ طَالِبٌ حَثِيثٌ لاَ يَفُوتُهُ الْمُقِيمُ ، وَلاَ يُعْجِزُهُ الْهَارِبُ . إِنَّ أَكْرَمَ الْمَوْتِ الْقَتْلُ ! وَالَّذِي نَفْسُ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ بِيَدِهِ ، لَأَلْفُ ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ أهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ مِيتَةٍ عَلَى الْفِرَاش فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللّهِ!

الشّرْحُ :أحسّ : علم ووجد . ورِباطة جأش ، أي شدة قَلْب . والماضي « رَبَط » ، كأنه يربط نفسه عن الفرار . والمرويّ : « رِباطة » بالكسر ، ولا أعرفه نقلاً وإنما القياس لا يأباه ، مثل عَمِر عِمارة ، وخَلَب خِلابة . والفشل : الجبن . وذبّ الرجل عن صاحبه ، أي أكثر الذبّ ، وهو الدفع والمنع . والنَّجْدة : الشجاعة . والحثيث : السريع ، وفي بعض الروايات : « فليذبّ عن صاحبه » بالإدغام ، وفي بعضها « فليذبُبْ » بفك الإدغام . والميتة ، بالكسر : هيئة الميت كالجِلْسة والرِّكْبة هيئة الجالس والراكب ، يقال : مات فلان مِيتة حسنةً ، والمرويّ في « نهج البلاغة » بالكسر في أكثر الروايات ، وقد روى : « من موتة » وهو الأليق ، يعني المرّة الواحدة ؛ ليقع في مقابلة الألف .

.

ص: 423

123 . من كلام له عليه السلام في توبيخ أصحابه ووصفهم بالجبن ؛ وحثهم على الجرأة والتقحم

واعلم أ نّه عليه السلام أقسم أنّ القتل أهونُ من الموت حَتْف الأنف ، وذلك على مقتضى ما منحه اللّه تعالى به من الشجاعة الخارقة لعادة البشر ؛ وهو عليه السلام يحاول أن يحضّ أصحابه ، ويحرّضهم ليجعل طباعهم مناسبة لطباعه ، وإقدامَهم على الحرب مماثلاً لإقدامه ، على عادة الأُمراء في تحريض جندهم وعسكرهم ، وهيهات ! إنما هو كما قال أبو الطيب : يكلّف سيفُ الدولة الجيشَ هَمَّهوَقَدْ عَجَزَتْ عَنْه الجيوشُ الخَضَارِمُ وَيَطْلُبُ عِنْدَ النَّاسِ مَا عِنْد نفسِهوذلك ما لا تدَّعيه الضراغِمُ ليست النفوس كلّها من جوهر واحدٍ، ولا الطباع والأمزجة كلّها من نوع واحدٍ ، وهذه خاصيّة توجد لمن يصطفيه اللّه تعالى من عباده ، في الأوقات المتطاولة ، والدهور المتباعدة ، وما اتصل بنا نحن من بعد الطوفان ، أنّ أحدا أُعطي من الشجاعة والإقدام ما أعطيه هذا الرجل من جميع فرق العالم على اختلافها ؛ من الترك والفرس والعرب والروم وغيرهم . والمعلوم من حاله أنه كان يؤثر الحرْب على السلم ، والموت على الحياة ، والموت الذي كان يطلبه ويؤثره ؛ إنما هو القتل بالسيف ، لا الموت على الفراش .

123الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلاموَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْكُمْ تَكِشُّونَ كَشِيشَ الضِّبَابِ : لاَ تَأْخُذُونَ حَقّاً ، وَلاَ تَمْنَعُونَ ضَيْماً . قَدْ خُلِّيتُمْ وَالطَّرِيقَ ، فَالنَّجَاةُ لِلْمُقْتَحِمِ ، وَالْهَلَكَةُ لِلْمُتَلَوِّمِ .

الشّرْحُ :الكشيش : الصوت يشوبه خَوَر ، مثل الخشخشة ، وكَشِيش الأفعى : صوتها من جلدها لا من فمها ، وقد كشَّت تكِشّ ، قال الراجز : كَشِيش أفْعَى أجمعت لعضِّوهي تحكُّ بعضَها ببعضِ (1)

.


1- .لسان العرب 8 : 233 ، من غير نسبة .

ص: 424

124 . من كلام له عليه السلام في حث أصحابه على القتال

يقرّع عليه السلام أصحابه بالجبن والفشل ، ويقول لهم : لكأنّي أنظر إليكم وأصواتكم غمغمة بينكم من الهلع الذي قد اعتراكم ، فهي أشبه شيء بأصوات الضِّباب المجتمعة . ثم أكَّد وصف جبنهم حقاً وخوفهم ، فقال : لا تأخذون حقا ، ولا تمنعون ضيماً ، وهذه غاية ما يكون من الذلّ . ثم ترك هذا الكلام وابتدأ فقال : قد خلِّيتم وطريق النجاة عند الحرب ، ودللتم عليها ، وهي أن تقتحموا وتلحجوا ، ولا تهنوا ؛ فإنكم مَتَى فعلتم ذلك نجوْتم ، ومتى تلوّمتم وتثبطتم وأحجمتم هلكتم ، ومن هذا المعنى قول الشاعر : تأخرْتُ أسْتَبْقي الحياةَ فلم أجِدْلِنَفْسِي حَيَاةً مثل أن أتقدّما (1) ولهذا المعنى الذي أشار إليه عليه السلام سبب معقول ؛ وهو أنّ المقدّم على خصمه يرتاع له خصمه ، وتنخذل عنه نفسه ، فتكون النجاة والظفر للمقدّم ؛ وأما المتلوّم عن خصمه ، المحجم المتهيّب له ، فإن نفس خصمه تقوى عليه ، ويزداد طمعه فيه ، فيكون الظفر له ، ويكون العطب والهلاك للمتلوّم الهائب .

124الأصْلُ :

.


1- .للحصين بن الحمام المري ، ديوان الحماسة _ بشرح التبريزي 1 : 192 .

ص: 425

حِفَافَيْهَا ، وَوَرَاءَهَا ، وَأَمَامَهَا؛ لاَ يَتَأَخَّرُونَ عَنْهَا فَيُسْلِمُوهَا ، وَلاَ يَتَقَدَّمُونَ عَلَيْهَا فَيُفْرِدُوهَا .

الشّرْحُ :الدارع : لابس الدِّرْع ، والحاسر : الذي لا دِرْع عليه ولا مِغْفَر . أمرَهم عليه السلام بتقديم المستلئِم على غير المستلئِم ؛ لأنّ سوْرة الحرب وشدّتها تلقي وتصادف الأوّل فالأوّل ؛ فواجب أن يكون أوّل القوم مستلئماً ، وأن يعضّوا على الأضراس ، وقد تقدم شرح هذا ، وقلنا : إنه يجوز أن يبدَؤوهم بالحنَق والجدّ ، ويجوز أن يريد أنّ العضّ على الأضراس يشدّ شؤون الدماغ ورباطته ، فلا يبلغ السيف منه مبلغه لو صادفه رِخْوا . وأمرهم بأن يلتووا إذا طعنوا ؛ لأنهم إذا فعلوا ذلك ، فبالحرَي أن يمورَ السِّنان ، أيْ يتحرّك عن موضع الطعنة ، فيخرج زالقاً ، وإذا لم يلتووا لم يمرّ السّنان ، ولم يتحرّك عن موضعه فيخرق وينفذ ، فيقتل . وأمرهم بغضّ الأبصار في الحرب ، فإنه أربَطُ للجأش ، أي أثبت للقلب ؛ لأنّ الغاضّ بصرَه في الحرب أحْرَى ألاّ يدهش ولا يرتاع لهوْل ما ينظر . وأمرهم بإماتة الأصوات وإخفائها ، فإنه أطرد للفشل ، وهو الجبن والخوف ؛ وذلك لأنّ الجبان يرعد ويبرُق ، والشجاع صامت . وأمرهم بحفظ رايتهم ألاّ يميلوها ، فإنّها إذا مالت انكسر العسكر ؛ لأنهم إنما ينظرون إليها وألاّ يُخلُّوها من محامٍ عنها ، وألاّ يجعلوها بأيدي الجبناء وذوي الهَلع منهم ، كي لا يَخِيموا ويجبنوا عن إمساكها . والذِّمار : ما وراء الرجل مما يحقّ عليه أن يحميَه ، وسمّي ذِماراً ؛ لأ نّه يجب على أهله التذمّر له ، أي الغضب . والحقائق : جمع حاقّة ؛ وهي الأمر الصعب الشديد ؛ ومنه قول اللّه تعالى : « الحاقّة ما الحاقّة » ، يعني الساعة . ويكتنفونها : يحيطون بها . وحِفَافيْها : جانباها .

الأصْلُ :أَجْزَأَ امْرُؤ قِرْنَهُ ، وَآسَى أَخَاهُ بِنَفْسِهِ ، وَلَمْ يَكِلْ قِرْنَهُ إِلَى أَخِيهِ فَيَجْتَمِعَ عَلَيْهِ قِرْنُهُ وَقِرْنُ أَخِيهِ . وَايْمُ اللّه لَئِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ سَيْفِ الْعَاجِلَةِ ، لاَ تَسْلَمُوا مِنْ سَيْفِ الآخِرَةِ ،

.

ص: 426

وَأنتُمْ لَهَامِيمُ الْعَرَبِ ، وَالسَّنَامُ الْأَعْظَمُ . إِنَّ فِي الْفِرَارِ مَوْجِدَةَ اللّهِ ، وَالذُّلَّ اللاَّزِمَ ، وَالْعَارَ الْبَاقِيَ . وَإِنَّ الْفَارَّ لَغَيْرُ مَزِيدٍ فِي عُمْرِهِ ، وَلاَ مَحْجُوزٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَوْمِهِ . مَنْ رَائِحٌ إِلَى اللّهِ كَالظَّمآنِ يَرِدُ الْمَاءَ ؟ الْجَنَّةُ تَحْتَ أَطْرَافِ الْعَوَالِي . الْيَوْمَ تُبْلَى الْأَخْبَارُ . وَاللّهِ لأ نَا أَشْوَقُ إِلَى لِقَائِهِمْ مِنْهُمْ إِلَى دِيَارِهِمْ .اللَّهُمَّ فَإِنْ رَدُّوا الْحَقِّ فَافْضُضْ جَمَاعَتَهُمْ ، وَشَتِّتْ كَلِمَتَهُمْ ، وَأَبْسِلْهُمْ بِخَطَايَاهُمْ .

الشّرْحُ :من الناس من يجعل هذه الصيغة وهي صيغة الإخبار بالفعل الماضي ، في قوله : « أجزأ امرؤ قِرْنَه » في معنى الأمر ، كأنه قال : ليجز كلّ امرئ قِرنَه ؛ لأ نّه إذا جاز الأمر بصيغة الإخبار في المستقبل جاز الأمر بصيغة الماضي ، وقد جاز الأول ، نحو قوله تعالى : «وَالْوالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ » (1) ، فوجب أن يجوز الثاني . ومن النّاس من قال : معنى ذلك : هلاّ أجزأ امرؤ قرنه؟! فيكون تحضيضاً محذوف الصيغة للعلم بها . وأجزأ بالهمزة ، أي كفى . وقِرْنك : مقارنك في القتال أو نحوه . وآسى أخاه بنفسه مؤاساة ، بالهمز ، أي جعله أُسوة نفسه فيه ، ويجوز : واسيت زيدا بالواو ، وهي لغة ضعيفة . ولم يكلْ قِرنه إلى أخيه ، أي لم يدع قِرْنه ينضمّ إلى قِرْن أخيه ، فيصيرا معا في مقاومة الأخ المذكور ، وذلك قبيحُ محرّم ، مثاله : زيد وعمرو مسلمان ، ولهما قِرْنان كافران في الحرْب ، لا يجوز لزيد أن ينكُلَ عن قِرْنه فيجتمع قِرْنُه وقِرْن عمرو على عمرو . ثم أقسم عليه السلام أنّهم إن سلموا من الألم النازل بهم لو قُتِلُوا بالسيف في الدنيا ؛ فإنهم لم يسلموا من عقاب اللّه تعالى في الآخرة ، على فِرارهم وتخاذُلهم . وسمّى ذلك سيفا على وجه الاستعارة وصناعة الكلام ؛ لأ نّه قد ذكر سيف الدنيا ، فجعل ذلك في مقابلته . واللهاميم : السادات الأجواد من الناس . والجياد من الخيل ، الواحد لُهموم . والسَّنام الأعظم ، يريد شَرَفهم وعلوّ أنسابهم ؛ لأنّ السَّنام أعلى أعضاء البعير . وموجدة اللّه : غضبه وسَخَطه .

.


1- .سورة البقرة 233 .

ص: 427

ويروى : « والذلّ اللاذم » بالذال المعجمة ، وهو بمعنى اللازم أيضا ، لذِمْتُ المكان بالكسر ، أي لزمته . ثم ذكر أنّ الفِرار لا يزيد في العُمْر . ثم قال لهم : أيُّكم يروح إلى اللّه فيكون كالظمآن يرد الماء . ثم قال : الجنّة تحت أطراف العوالى ، وهذا من قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . « الجنّة تحت ظلال السيوف » (1) . ثم قال : « اليوم تُبْلَى الأخبار » ، هذا من قول اللّه تعالى : « وَنَبْلُوَ أخْبَارَكُمْ » (2) ، أي نختبر أفعالكم . ثم دعا على أهل الشام ، إن ردّوا الحق بأن يفضّ اللّه جماعتهم ، أي يهزمهم . ويشتّت ، أي يفرّق كلمتهم . وأن يُبسلهم بخطاياهم ، أي يسلمهم لأجل خطاياهم التي اقترفوها ولا ينصرهم . أبسلت فلانا ، إذا أسلمته إلى الهلكة ، فهو مبسَل ، قال تعالى : « أنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ » ، أي تُسلم ، وقال : « أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا » (3) ، أي أسلموا للهلاك لأجل ما اكتسبوه من الإثم ، وهذه الألفاظ كلّها لا يتلو بعضها بعضاً ، وإنما هي منتزَعة من كلام طويل ، انتزعها الرضيّ ؛ واطّرح ما عداها .

الأصْلُ :إِنَّهُمْ لَنْ يَزُولُوا عَنْ مَوَاقِفِهمْ دُونَ طَعْنٍ دِرَاكٍ يَخْرُجُ مِنْهُ النَّسِيمُ ، وَضَرْبٍ يَفْلِقُ الْهَامَ ، وَيُطِيحُ الْعِظَامَ ، وَيُنْدِرُ السَّوَاعِدَ وَالْأَقْدَامَ ، وَحَتَّى يُرْمَوْا بِالْمَنَاسِرِ تَتْبَعُهَا الْمَنَاسِرُ ، وَيُرْجَمُوا بِالْكَتَائِبِ ، تَقْفُوهَا الْحَلاَئِبُ ، وَحَتَّى يُجَرَّ بِبِلاَدِهِمُ الْخَمِيسُ يَتْلُوهُ الْخَمِيسُ ، وَحَتَّى تَدْعَقَ الْخُيُولُ فِي نَوَاحِرِ أَرْضِهِمْ ، وَبِأَعْنَانِ مَسَارِبِهِمْ وَمَسَارِحِهِمْ .

قال الشريف الرضي رحمه الله : الدّعْقُ : الدّقُّ ، أيْ تَدُقُّ الخُيُولُ بحَوَافِرِهَا أرْضهُمْ . وَنَوَاحِرُ أرْضهِمْ : مُتَقَابِلاتهَا . وَيُقَالُ : مَنَازِلُ بَني فُلانٍ تتَنَاحَرُ ، أيْ تَتَقَابَلُ .

.


1- .تفسير مجمع البيان للطبرسي 2 : 445 ، مسند أحمد ابن حنبل 5 : 539 ح19044 بلفظ : إنّ أبواب الجنّة ... ، صحيح البخاري 3 : 1037 ح2663 كتاب الجهاد باب (22) بلفظ : واعلموا أنّ الجنة .
2- .سورة محمد 31 .
3- .سورة الأنعام 70 .

ص: 428

125 . من كلام له عليه السلام في الخوارج لما أنكروا تحكيم الرجال ، ويذم فيه أصحابه في التحكيم

الشّرْحُ :طعن دِراك ، أي متتابع يتلو بعضُه بعضاً . ويخرج منه النسيم ، أي لسَعته . وأميرُ المؤمنين عليه السلام أراد من أصحابه طعناتٍ يخرُج النسيم _ وهو الريح اللينة _ منهنّ . وفلقت الشيء أفلِقه _ بكسر اللام _ فَلْقاً ، أي شققتُه . ويُطِيح العظام : يسقطها ، طاح الشيء ، أي سقط أو هلك أو تاه في الأرض ، وأطاحه غيره ، وطَوّحه . ويُنْدِرُ السواعد : يسقطها أيضاً ، ندرَ الشيء يندُر نَدْرا ، أي سقط ، ومنه النوادر ، وأندره غيرُه . والساعد من الكوع إلى المِرفق ، وهو الذراع . والمناسر : جمع مَنْسِر ، وهو قطعة من الجيش تكون أمامَ الجيش الأعظم ، بكسر السين وفتح الميم ، ويجوز مِنْسَر بكسر الميم وفتح السين ، وقيل إنها اللّغة الفصحى . ويُرْجَمُوا ، أي يُغْزَوْا بالكتائب ، جمع كتيبة وهي طائفة من الجيش . تقفوها الحلائب ، أي تتبعها طوائف لنصرِها والمحاماة عنها ، يقال : قد أحلبوا ، إذا جاؤوا من كلّ أوب للنّصرة ، ورجل مُحلِب ، أي ناصر ، وحالبت الرجل ، إذا نصرتَه وَأعنته . والخميس : الجيش . والدَّعْق قد فسّره الرضيّ رحمه الله ، ويجوز أن يفسَّر بأمر آخر ، وهو الهيْج والتّنفير ، دَعَقَ القومَ يَدْعَقُهم دَعْقاً ، أي هاج منهم ونَفّرهم . ونواحر أرضهم ، قد فسّره ؛ أيضا ، ويمكن أن يفسّر بأمر آخر ، وهو أن يراد به أقصى أرضِهم وآخرها ، من قولهم لآخر ليلة في الشهر : ناحرة . وأعنان مسارِبهم ومسارحهم : جوانبها ، والمسارب : ما يسرُب فيه المال الراعي ، والمسارح : ما يسرح فيه ، والفرق بين « سرح » و « سرب » ، أنّ السُّروح إنما يكونُ في أوّل النهار ، وليس ذلك بشرط في السُّروب . واعلم أنّ هذا الكلام قاله أمير المؤمنين عليه السلام لأصحابه في صفين ، يحرّضهم به .

125الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام في الخوارج لما أنكروا تحكيم الرجال ويذم فيه أصحابه في التحكيم ، فقال :إِنَّا لَمْ نُحَكِّمِ الرِّجَالَ ، وَإِنَّمَا حَكَّمْنَا الْقُرْآنَ . هذَا الْقُرْآنُ إِنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْتُورٌ بَيْنَ

.

ص: 429

الدَّفَّتَيْنِ ، لاَ يَنْطِقُ بِلِسَانٍ ، وَلابدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَانٍ . وَإِنَّمَا يَنْطِقُ عَنْهُ الرِّجَالُ . وَلَمَّا دَعَانَا الْقَوْمُ إِلَى أَنْ نُحَكِّمَ بَيْنَنَا الْقُرْآنَ لَمْ نَكُنِ الْفَرِيقَ الْمُتَوَلِّيَ عَنْ كِتَابِ اللّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَقَدْ قَالَ اللّهُ تعالى عزَّ مِنْ قائلٍ : « فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّه وَالرَّسُولِ » (1) فَرَدُّهُ إِلَى اللّهِ أَنْ نَحْكُمَ بِكِتَابِهِ ، وَرَدُّهُ إِلَى الرَّسُولِ ، أَنْ نَأْخُذَ بسُنَّتِهِ ؛ فَإِذَا حُكِمَ بِالصِّدْقِ فِي كِتَابِ اللّهِ ، فَنَحْنُ أَحَقُّ النَّاس بِهِ ، وَإنْ حُكمَ بسُنَّةِ رَسُولِ اللّه صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ فَنَحْنُ أَحَقُّ الناسِ وَأَوْلاَهُمْ بِهَا . وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : لِمَ جَعَلْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ أَجَلاً فِي التَّحْكِيمِ ؟ فَإِنَّمَا فَعَلْتُ ذلِكَ لِيَتَبَيَّنَ الْجَاهِلُ ، وَيَتَثَبَّتَ الْعَالِمُ ؛ وَلَعَلَّ اللّهَ أَنْ يُصْلِحَ فِي هذِهِ الْهُدْنَةِ أَمْرَ هذِهِ الْأُمَّةِ ، وَلاَ تُؤخَدُ بِأَكْظَامِهَا ، فَتَعْجَلَ عَنْ تَبَيُّنِ الْحَقِّ ، وَتَنْقَادَ لِأَوَّلِ الْغَيِّ . إِنَّ أَفْضَلَ النَّاس عِنْدَ اللّهِ مَنْ كَانَ الْعَمَلُ بِالْحَقِّ أَحَبَّ إِلَيْهِ _ وَإِنْ نَقَصَهُ وَكَرَثَهُ _ مِنَ الْبَاطِلِ وَإِنْ جَرَّ إِلَيْهِ فَائِدَةً وَزَادَهُ . فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ ؟! وَمِنْ أَيْنَ أُتِيْتُمْ ! اسْتَعِدُّوا لِلْمَسِيرِ إِلَى قَوْمٍ حَيَارَى عَنِ الْحَقِّ لاَ يُبْصِرُونَهُ ، وَمُوزَعِينَ بِالْجَوْرِ لاَ يَعْدِلُونَ بِهِ ، جُفَاةٍ عَنِ الْكِتَابِ ، نُكُبٍ عَنِ الطَّرِيقِ . مَا أَنْتُمْ بِوَثِيقَةٍ يُعْلَقُ بِهَا ، وَلاَ زَوَافِرِ عِزٍّ يُعْتَصَمُ إِلَيْهَا . لَبِئْس حُشَّاشُ نَارِ الْحَرْبِ أَنْتُمْ ! أُفٍّ لَكُمْ ! لَقَدْ لَقِيتُ مِنْكُمْ بَرْحاً يَوْماً أُنَادِيكُمْ وَيَوْماً أُنَاجِيكُمْ ، فَ_لاَ أَحْرَارُ صِدْقٍ عِنْدَ النِّدَاءِ ، وَلاَ إِخْوَانُ ثِقَةٍ عِنْدَ النِّجَاءِ!

الشّرْحُ :دَفّتا المصحف : جانباه اللّذان يكنُفانه ، وكان الناس يعملونَهما قديماً من خشب ، ويعملونَهما الآن من جلد ، يقول عليه السلام : لا اعتراضَ عليّ في التحكيم، وقول الخوارج : «حكّمت الرجال» دَعْوَى غير صحيحة ، وإنّما حكّمت القرآن ؛ ولكنّ القرآن لا ينطق بنفسه، ولا بدّ له ممّن يترجم عنه. والتَّرْجُمان بفتح التاء وضم الجيم ، هو مفسّر اللغة بلسان آخر ، ويجوز ضمّ التاء

.


1- .سورة النساء 59.

ص: 430

لضمة الجيم . ثم قال : لمّا دعينا إلى تحكيم الكتاب ، لم نكن القوم الذين قال اللّه تعالى في حقّهم : « وَإذَا دُعُوا إلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ » (1) ، بل أجبنا إلى ذلك ، وعملنا بقول اللّه تعالى : « فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوه إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ » . وقال : معنى ذلك أنْ نحكم بالكتاب والسنّة ، فإذا عمل الناس بالحقّ في هذه الواقعة ، واطّرحوا الهوى والعصبية ، كنّا أحقّ بتدبير الأُمّة وبولاية الخلافة من المنازِع لنا عليها . فإن قلت : إنّه عليه السلام لم يقل هكذا ، وإنما قال : إذا حُكِم بالصدق في كتاب اللّه ، فنحن أولى به ، وإذا حُكِم بالسنة فنحن أحقّ بها! قلت : إنّه رفع نفسه عليه السلام أن يصرّح بذكر الخلافة فكنّى عنها ، وقال : نحنُ إذا حُكِم بالكتاب والسنّة أولَى بالكتاب والسنّة ، ويلزم من كونه أوْلى بالكتاب والسنة من جميع الناس أن يكون أولى بالخلافة من جميع الناس ، فدلّ على ما كنّى عنه بالأمر المستلزم له . ثم قال عليه السلام : فأمّا ضربي للأجل في التّحكيم فإنما فعلته ؛ لأنّ الأناة والتثبّت من الأُمور المحمودة ، أمّا الجاهل فيعلم فيه ما جهله ، وأما العالم فيثبُت فيه على ما علِمه ، فرجوت أن يصلح اللّه في ذلك الأجلِ أمرَ هذه الأُمّة المفتونة . ولا تؤخذ بأكْظامها : جمع كَظْم ، وهو مخرج النَّفَس ، يقول : كرهت أن أعجل القوم عن التبيّن والاهتداء ، فيكون إرهاقي لهم ، وتركي للتنفيس عن خناقهم ، وعدُولِي عن ضرب الأجَل بيني وبينهم ، أدْعَى إلى استِفسادهم ، وأحْرَى أن يركبوا غيَّهم وضلالهم ، ولا يُقْلِعوا عن القبيح الصادر عنهم . ثم قال : أفضلُ الناس مَنْ آثرَ الحقّ _ وإن كرثه ، أي اشتدّ عليه ، وبلغ منه المشقّة ، ويجوز « أكرثه » بالألف _ على الباطل ، وإن انتفع به وأورثه زيادة . ثم قال : « فأين يتاه بكم ؟ » ، أي أين تذهبون في التيه ؟ يعني في الحيْرة . وروي : « فأنّى يُتاهُ بكم ؟ » . ومن أين أُتيتم ؟ أي كيفَ دخل عليكم الشيطان أو الشبهة ، ومن أيّ المداخل دخل اللّبس عليكم ؟! ثم أمرهم بالاستعداد للمسير إلى حرب أهل الشام ، وذكَر أنّهم مُوزَعُون بالجوْر ، أي ملهَمون ، قال تعالى : « رَبِّ أوْزِعْنِي أنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ » (2) ، أي ألهمني ، أوزعته بكذا وهو موزَع به . ولا يعدِلون عنه ، لا يتركونه إلى غيره ، وروي « لا يعدلون به » ، أي لا يعدلون بالجوْر شيئا آخر ، أي لا يرضون إلاّ بالظلم والجوْر ولا يختارون عليهما غيرهما .

.


1- .سورة النور 48 .
2- .سورة النمل 19 .

ص: 431

126 . من كلام له عليه السلام لما عوتب على التسوية في العطاء ، وتصييره الناس اُسوة في العطاء من غير تفضيل أولي السابقات والشرف

قوله : « جفاة عن الكتاب » : جمع جافٍ وهو النابي عن الشيء ، أي قد نَبوْا عن الكتاب لا يلائمهم ولا يناسبونه ، تقول : جفَا السرجُ عن ظهرِ الفرس إذا نبا وارتفع ، وأجفيتُه أنا ، ويجوز أن يريد أنَّهم أعراب جفاة ، أي أجْلافٌ لا أفهام لهم . قوله : « نُكُبٌ عن الطريق » ، أي عادلون ، جمع ناكب ، نكَب ينكُب عن السبيل ، بضم الكاف ، نكُوباً . قوله : « وما أنتم بوثيقة » ، أي بذي وثيقة ، فحذف المضاف ، والوثيقة : الثقة ، يقال : قد أخذت في أمر فلان بالوثيقة ، أي بالثقة ، والثقة مصدر . والزوافر : العشيرة والأنصار ، ويقال : هم زافرتهم عند السلطان ، للذين يقومون بأمرهم عنده . وقوله : « يعتصم إليها » ، أي بها ، فأناب « إلى » مناب الباء ، وحُشاش النار : ما تُحشّ به ، أي توقد . وروي « حَشاش » بالفتح كالشَّياع ، وهو الحطب الذي يلقى في النار قبل الجزل ، وروي : « حُشّاش » بضم الحاء وتشديد الشين ، جمع حاشٍّ ، وهو الموقد للنار . قوله : « أفٍّ لكم » من الألفاظ القرآنية ، وفيها لغات « أفّ » بالكسر وبالضم وبالفتح و « أفٍّ » منوناً بالثلاث أيضا ، ويقال : أفّا وتفّا ، وهو اتباع له ، وأفَّة وتفّة ، والمعنى استقذار المعنيّ بالتأفيف . قوله : « لقد لقيت منكم بَرْحا » ، أي شدّة ، يقال : لقيت منهم بَرْحا بارحاً ، أي شدّة وأذى . ويروى : « ترحاً » ، أي حزناً . ثم ذكر أنه يناديهم جهاراً طوراً ، ويناجيهم سِرّا طوراً ، فلا يجِدُهم أحرارا عند ندائه ، أي لا ينصرون ولا يجيبون ، ولا يجدهم ثقاتا وذوي أمانة عند المناجاة ، أي لا يكتمون السرّ . والنّجاء : المناجاة ، مصدر ناجيته نجاءً ، مثل ضاربته ضِرابا ، وصارعته صِراعاً .

126الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام لما عوتب على التسوية في العطاء وتصييره الناس أُسوة في العطاء من غير تفضيل أُولي السابقات والشرف :أَتَأْمنِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ ؟! وَاللّهِ لاَ أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ

.

ص: 432

سَمِيرٌ ، وَمَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً ! لَوْ كَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ ، فَكَيْفَ وَإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللّهِ!

ثم قال عليه السلام :أَلاَ وَإِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ تَبْذِيرٌ وَإِسْرَافٌ ، وَهُوَ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِي الدُّنْيَا وَيَضَعُهُ فِي الآخِرَةِ ، وَيُكْرِمُهُ فِي النَّاس وَيُهِينُهُ عِنْدَ اللّهِ . وَلَمْ يَضَعِ امْرُؤ مَالَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَعِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ إِلاَّ حَرَمَهُ اللّهُ شُكْرَهُمْ وَكَانَ لِغَيْرِهِ وُدُّهُمْ . فَإِنْ زَلَّتْ بِهِ النَّعْلُ يَوْماً فَاحْتَاجَ إِلَى مَعُونَتِهِمْ فَشَرُّ خَلِيلٍ وَأَلْأَمُ خَدِينٍ .

الشّرْحُ :أصل « تأمرونّي » : تأمرونني ، بنونين ، فأسكن الأُولى وأدغم ، قال تعالى : « أَفَغَيْرَ اللّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ » (1) . ولا أطور به : لا أقرّ به ، ولا تَطُرْ حَوْلَنا ، أي لا تقرب ما حولنا ، وأصله من طَوار الدار ، وهو ما كان ممتدا معها من الفناء . وقوله : « ما سمر سمِير » يعني الدهر ، أي ما أقام الدهر وما بقي ، والأشهر في المثل : « ما سمر ابنا سمير » ، قالوا : السمير الدهر ، وابناه الليل والنهار ؛ وقيل : ابنا سمير الليل والنهار ، لأ نّه يُسمَر فيهما ، ويقولون : لا أفعله السَّمَر والقمر ، أي ما دام الناس يسمرون في ليلة قمْراء ، ولا أفعله سميرَ الليالي ، أي أبداً . قوله : « وما أمّ نجم في السماء نجماً » ، أي قصد وتقدّم ؛ لأنّ النجوم تتبع بعضها بعضاً ، فلا بدّ فيها من تقدّم وتأخر ، فلا يزال النجم يقصد نجماً غيره ، ولا يزال النجم يتقدّم نجماً غيره . والخدين : الصديق ، يقول عليه السلام : كيف تأمرونني أنْ أطلب النصر من اللّه بأن أجور على قوم ولّيت عليهم ! يعني الذين لا سوابق لهم ولا شرف ، وكان عُمَر ينقصهم في العطاء عن غيرهم . ثم قال عليه السلام : لو كان المال لي وأنا أُفرّقه بينهم لسوّيت ، فكيف وإنما هو مال اللّه وفيئه ؟! ثم ذكر أنّ إعطاء المال في غير حقّه تبذير وإسراف ، وقد نهى اللّه عنه وأنه يرفع صاحبه عند الناس ، ويضعه عند اللّه ، وأنه لم يسلك أحد هذه المسلك إلاّ حرمه اللّه ودّ الذين يتحبّب إليهم

.


1- .سورة الزمر 64 .

ص: 433

127 . من كلام له عليه السلام في الاحتجاج على الخوارج والنهي عن الفرقة

بالمال ، ولو احتاج إليهم يوماً عند عثرة يعثرها لم يجدهم .

127الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلامفإِنْ أَبَيْتُمْ إِلاَّ أَنْ تَزْعُمُوا أنّي أَخْطَأتُ وَضَلَلْتُ ، فَلِمَ تُضَلِّلُونُ عَامَّةَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍصَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ، بِضَلاَلِي ، وَتَأْخُذُونَهُمْ بِخَطَئِي ، وَتُكَفِّرُونَهُمْ بِذُنُوبي ؟! سُيُوفُكُمْ عَلَى عَوَاتِقِكُمْ تَضَعُونَهَا مَوَاضِعَ الْبُرْءِ وَالسُّقْمِ ، وَتَخْلِطُونَ مَنْ أذنَبَ بِمَنْ لَمْ يُذْنِبْ .وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ رَجَمَ الزَّانِيَ الْمُ_حْصَنَ ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ ، ثُمَّ وَرَّثَهُ أَهْلَهُ؛ وَقَتَلَ الْقَاتِلَ وَوَرَّثَ مِيرَاثَهُ أَهْلَهُ . وَقَطَعَ السَّارِقَ وَجَلَدَ الزَّانِيَ غَيْرَ المُحْصَنِ ، ثُمَّ قَسَمَ عَلَيْهِمَا مِنَ الْفَيْءِ ، وَنَكَحَا الْمُسْلِمَاتِ؛ فَأَخَذَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ بِذُنُوبِهمْ ، وَأَقَامَ حَقَّ اللّهِ فِيهمْ ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ سَهْمَهُ_مْ مِنَ الاْءِسْلاَمِ ، وَلَمْ يُخْرِجْ أَسْمَاءَهُمْ مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ. ثُمَّ أَنْتُمْ شِرَارُ النَّاس ، وَمَنْ رَمَى بِهِ الشَّيْطَانُ مَرَامِيَهُ ، وَضَرَبَ بِهِ تِيهَهُ ! وَسَيَهْلِكُ فِيَّ صِنْفَانِ : مُحِبٌّ مُفْرِطٌ يَذْهَبُ بِهِ الْحُبُّ إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ ، وَمُبْغِضٌ مُفْرِطٌ يَذْهَبُ بِهِ الْبُغْضُ إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ . وَخَيْرُ النَّاس فِيَّ حَالاً النَّمَطُ الْأَوْسَطُ فَالْزَمُوهُ ، وَالْزَمُوا السَّوَادَ الأَعْظَم فَإِنَّ يَدَ اللّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ . وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ ! فَإِنَّ الشَّاذَّ مِنَ النَّاس لِلشَّيْطَانِ ، كَمَا أَنَّ الشَّاذَّ مِنَ الْغَنَمِ لِلذِّئْبِ . أَلاَ مَنْ دَعَا إِلَى هذَا الشِّعَارِ فَاقْتُلُوهُ ، وَلَوْ كَانَ تَحْتَ عِمَامَتِي هذِهِ ، فَإِنَّمَا حُكِّمَ الْحَكَمَانِ لِيُحْيِيَا مَا أَحْيَا الْقُرْآنُ ، وَيُمِيتَا مَا أَمَاتَ الْقُرْآنُ ، وَإِحْيَاؤهُ الاِجْتِمَاعُ عَلَيْهِ ، وَإِمَاتَتُهُ الاِفْتِرَاقُ عَنْهُ . فَإِنْ جَرَّنَا الْقُرْآنُ إِلَيْهِم

.

ص: 434

اتَّبَعْنَاهُم ، وَإِنْ جَرَّهُمْ إِلَيْنَا اتَّبَعُونَا . فَلَمْ آتِ _ لاَ أَبَا لَكُمْ _ بُجْراً ، وَلاَ خَتَلْتُكُمْ عَنْ أَمْرِكُمْ ، وَلاَ لبَّسْتُهُ عَلَيْكُمْ . إِنَّمَا اجْتَمَعَ رَأْيُ مَلَئِكُمْ عَلَى اخْتِيَارِ رَجُلَيْنِ ، أَخَذْنَا عَلَيْهِمَا أَلاَّ يَتَعَدَّيَا الْقُرْآنَ ، فَتَاهَا عَنْهُ ، وَتَرَكَا الْحَقَّ وَهُمَا يُبْصِرَانِهِ ، وَكَانَ الْجَوْرُ هَوَاهُمَا فَمَضَيَا عَلَيْهِ . وَقَدْ سَبَقَ استِثْنَاؤنَا عَلَيْهِمَا _ فِي الْحُكُومَةِ بِالْعَدْلِ ، وَالصَّمْدِ لِلْحَقِّ _ سُوءَ رَأْيِهِمَا ، وَجَوْرَ حُكْمِهِمَا.

الشّرْحُ :ليس لقائل أن يقول له عليه السلام معتذرا عن الخوارج : إنّهم إنّما ظلّلوا عامّة أُمّة محمد صلى الله عليه و آله وسلم ، وحكَموا بخطئِهِم وكفرِهم وقتلهم بالسيف خبطا ؛ لأنهم وافقوك في تصويب التحكيم ، وهو عندهم كفر ، فَلِمَ يؤاخذوهم بذنبك كما قلت لهم ؟ وذلك لأنّ أمير المؤمنى عليه السلام ما قال هذه المقالة إلاّ لمن رَأى منهم استعراضَ العامّة ، وقتل الأطفال حتى البهائم ، فقد كان منهم قوم فعلوا ذلك . وقد سبق مِنّا شرح أفعالهم ووقعائعهم بالناسِ ، وقالوا : إنّ الدار دار كفر لا يجوز الكفّ عن أحد من أهلها ، فهؤلاء هم الذين وجَّه أميرُ المؤمنين عليه السلام إليهم خطابه وإنكاره ، دون غيرهم من فرق الخوارج . واعلم أنّ الخوارج كلّها تذهب إلى تكفير أهل الكبائر ، ولذلك كفّروا علياً عليه السلام ومَن اتّبعه على تصويب التحكيم ، وهذا الاحتجاج الذي احتجّ به عليهم لازم وصحيح ؛ لأ نّه لو كان صاحبُ الكبيرة كافراً لما صلّى عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، ولا ورّثه من المسلم ، ولا مكّنه من نكاح المسلمات ، ولا قسم عليه من الفيء ، ولأخرجه عن لفظ الإسلام . قوله عليه السلام : « ومن رَمَى به الشيطان مراميَه » ، أي أضلّه ، كأنّه رمَى به مرمىً بعيداً ، فضلّ عن الطريق ، ولم يهتدِ إليها . قوله : « وضرب به تيهَه » أي حيّره وجعله تائهاً . ثم قال عليه السلام : يهلك فيّ رجُلان ، فأحدهما مَنْ أفرط حبّه له واعتقاده فيه حتى ادّعى له الحلول كما ادّعت النصارى ذلك في المسيح عليه السلام ، والثاني مَنْ أفرطَ بغضه له ، حتى حارَبَه ، أو لعنه ، أو برئ منه ، أو أبغضه ، هذه المراتب الأربع ؛ والبغض أدناها ، وهو مُوبِقٌ مهلك ، وفي الخبر الصّحيح المتَّفق عليه أنه « لا يحبّه إلاّ مؤمن ، ولا يبغضه إلاّ منافق » (1) ، وحسبك بهذا الخبر ، ففيه

.


1- .صحيح مسلم 1 : 86 ح131 كتاب الإيمان عن عليّ عليه السلام بلفظ : أ نّه لا يحبّني إلاّ مؤمن ، ولا يبغضني إلاّ منافق ، الإمام أحمد ابن حنبل في فضائل الصحابة وابتدأه بلفظ : يا أيّها الناس أُوصيكم بحبّ أخي وابن عمّي ... وعنه محبّ الدين الطبري في ذخائر العقبى : ص91 ، المعجم الأوسط للطبراني 5 : 377 ح4748 بلفظ : لا يحبّك إلاّ مؤمن ، ولا يبغضك إلاّ منافق ... ، ومثله في المناقب لابن مردويه : ص115 ح138 ، وأخرجه بألفاظه المتعدّدة للعلامة الأميني رحمه الله في الغدير 3 : 260 _ 265 وأوعز إلى مصادره .

ص: 435

128 . من كلام له عليه السلام فيما يخبر به عن الملاحم بالبصرة

وحده كفاية . قوله عليه السلام : « والزموا السَّوَاد الأعظم » ، وهو الجماعة ، وقد جاء في الخبر عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم هذه اللفظة التي ذكرها عليه السلام ، وهي : « يد اللّه على الجماعة ولا يبالَى بشذوذِ مَنْ شذّ » . والأخبار في هذا المعنى كثيرة جداً . ثم قال عليه السلام : « مَنْ دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه » ، يعني شعار الخوارج ، وكان شعارهم أنّهم يحلِقُون وسط رؤوسهم ويبقى الشعر مستديرا حوله كالإكليل . قال : « ولو كان تحت عمامتي هذه » ، أي لو اعتصم واحتمى بأعظم الأشياء حُرْمة ، فلا تكفّوا عن قتله . ثم ذكر أ نّه إنما حُكِّم الحكمان ليُحييا ما أحياه القرآن ، أي ليجتمعا على ما شهد القرآن باستصوابه واستصلاحه ، ويميتا ما أماته القرآن ، أي ليفترقا ويصدَّا وينكلا عَمّا كرهه القرآن ، وشهد بضلاله . والبُجْر ، بضم الباء : الشرُّ العظيم . ولا خَتَلْتُكم ، أي خدعتكم ، خَتَلَهُ وخاتله ، أي خدعه ، والتخاتل : التخادع . ولا لبَّسته عليكم ، أي جعلته مشتبهاً ملتبساً ، ألبستُ عليهم الأمر ألبِسه بالكسر . والملأ : الجماعة من الناس . والصَّمْد : القصد . قال : سبق شرطُنا سوءَ رأيهما ؛ لأنا اشترطنا عليهما في كتاب الحكومة ما لا مضرّة علينا ، مع تأمّله فيما فعلاه من اتّباع الهوى وترك النصيحة للمسلمين .

128الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام فيما يخبر به عن الملاحم بالبصرةيَا أَحْنَفُ (1) ، كَأ نِّي بِهِ وَقَدْ سَارَ بِالْجَيْش الَّذِي لاَ يَكُونُ لَهُ غُبارٌ وَلاَ لَجَبٌ ،

.


1- .هو الأحنف بن قيس السعدي التميمي ، واسمه الضحّاك كان من سادة التابعين لرجاحة عقله وحسن تدبيره وسيرته ومن أشد المناصرين للإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، بعث رسالة إلى الإمام عليه السلام يوم الجمل : « اِن شئت أتيتك في مئتي مقاتل من أهل بيتي ، وإن شئت كففت عنك أربعة آلاف سيف » ، فأجابه الإمام عليه السلام : « بل كفّ عني أربعة آلاف سيف » . وحارب معه في صفين وأخلص . توفي سنة 67 ه .

ص: 436

وَلاَ قَعْقَعَةُ لُجُمٍ ، وَلاَ حَمْحَمَةُ خَيْلٍ يُثِيرُونَ الْأَرْضَ بأَقْدَامِهمْ كَأ نّهَا أَقْدَامُ النَّعَامِ .

قال الشريف الرضي أبو الحسن رحمه الله : يومئ بذلك إلى صاحب الزّنج (1) .

ثمّ قال عليه السلام :وَيْلٌ لِسِكَكِكُمُ الْعَامِرَةِ وَالدُّورِ الْمُزَخْرَفَةِ الَّتِي لَهَا أَجْنِحَةٌ كَأَجْنِحَةِ النُّسُورِ ، وَخَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمِ الْفِيَلَةِ ، مِنْ أُولئِكَ الَّذِينَ لاَ يُنْدَبُ قَتِيلُهُمْ ، وَلاَ يُفْقَدُ غَائِبُهُمْ . أَنَا كَابُّ الدُّنْيَا لِوَجْهِهَا ، وَقَادِرُهَا بَقَدْرِهَا ، وَنَاظِرُهَا بِعَيْنِهَا!

الشّرْحُ :اللّجَب : الصوت . والدُّور المزخرفة : المزيّنة المموّهة بالزُّخرف ، وهو الذهب . وأجنحة الدور التي شبّهها بأجنحة النسور : رواشينها . والخراطيم : ميازيبها . وقوله : « لا يندب قتيلُهم » ، ليس يريد به مَنْ يقتلونه ، بل القتيل منهم ؛ وذلك لأنَّ أكثرَ الزَّنج الذين أشار إليهم ، كانوا عبيداً لدهاقين البصرة وبناتها ، ولم يكونوا ذوِي زوجاتٍ وأولاد ، بل كانوا على هيئة الشطّار عُزّاباً فلا نادبةَ لهم . وقوله : « ولا يفقد غائبهم » ، يريد به كثرتَهم وأنّهم كلما قتِل منهم قتيل سدّ مسدّه غيره ، فلا يظهر أثر فقده . وقوله : « أنا كابّ الدنيا لوجهها » ، مثل الكلمات المحكيّة عن عيسى عليه السلام : أنا الذي كببت الدنيا على وجهها ، ليس لي زوجةٌ تموت ، ولا بيت يخرب ، وسادِي الحجَر وفراشي المدَر ، وسراجي القمر .

.


1- .هو علي بن محمد العلوي . ظهر في فرات البصرة سنة 255 ، _ لقب بصاحب الزنج نظرا لأنّ أكثر أنصاره منهم _ أيام المهتدي العباسي . بلغ عدد جيشه (000,800) مقاتل . وقد عجز الخلفاء عن قتاله ، حتى ظفر به الموفق باللّه فقتله . تروى له أشعار كثيرة في البسالة والفتك ، كان يقولها هو وينحلها غيره ، وفي نسبه العلوي طعن .

ص: 437

الأصْلُ :منها في وصف الأتراك :كَأنّي أَرَاهُمْ قَوْماً كَأَنَّ وَجُوهَهُمُ المجَانُّ الْمُطَرَّقَةُ ، يَلْبَسُونَ السَّرَقَ وَالدِّيبَاجَ ، وَيَعْتَقِبُونَ الْخَيْلَ الْعِتَاقَ . وَيَكُونُ هُنَاكَ اسْتِحْرَارُ قَتْلٍ حَتَّى يَمْشِيَ المجْرُوحُ عَلَى الْمَقْتُولِ ، وَيَكُونَ الْمُفْلِتُ أَقَلَّ مِنَ المَأْسُورِ . فقال بعض أصحابه : لقد أُعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب ! فضحك عليه السلام . وقال للرجل _ وكان كلبياً : يَا أَخَا كَلْبٍ ، لَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَيْبٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِي عِلْمٍ . وَإِنَّمَا عِلْمُ الْغَيْبِ عِلْمُ السَّاعَةِ ، وَمَا عَدَّدَهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ : « إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ، وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْض تَمُوتُ » (1) الآية ، فَيَعْلَمُ اللّهُ سُبْحَانَهُ مَا فِي الْأَرْحَامِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ اُنثَى ، وَقَبِيحٍ أَوْ جَمِيل ، وَسَخِيّ أَوْ بَخِيلٍ ، وَشَقِيًّ أَوْ سَعِيدٍ ، وَمَنْ يَكُونُ فِي النَّارِ حَطَباً أَوْ فِي الْجِنَانِ لِلنَّبِيِّينَ مُرَافِقاً . فَهذَا عِلْمُ الْغَيْبِ الَّذِي لاَ يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلاَّ اللّهُ ، وَمَا سِوَى ذلِكَ فَعِلْمٌ عَلَّمَهُ اللّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه و آله وسلمفَعَلَّمَنِيهِ ، وَدَعَا لِي بَأَنْ يَعِيَهُ صَدْرِي ، وَتَضْطَمَّ عَلَيْهِ جَوَانِحِي.

الشّرْحُ :المجانّ : جمع مِجنّ بكسر الميم ، وهو التُّرس ، وإنّما سميَ مِجَنّا ؛ لأ نّه يستَتر به ، والجُنَّة : السُّترة والجمع جُنَن ، يقال استجنّ بِجُنّة ، أي استتر بسترة . والمُطْرَقة ، بسكون الطاء : التي قد أطرِق بعضها إلى بعض ، أي ضُمّتْ طبقاتها ؛ فجعل بعضُها يتلو بعضاً ، يقال : جاءت الإبل مطاريق ، أي يتلُو بعضها بعضاً . ويروى : « المجانّ المطرَّقة » ، بتشدديد الراء ، أي كالتِّرَسة المتَّخذة من حديد مطرَقٍ بالمطرَقة . والسَّرق : شُقَق الحرير ، وقيل : لا تسمَّى سَرَقاً إلاّ إذا كانت بيضاً ، الواحدة سَرَقة . ويعتقبون الخيل ، أي يجنبونها لينتقلوا من غيرها إليها .

.


1- .سورة لقمان 34 .

ص: 438

129 . من خطبة له عليه السلام في ذكر المكاييل والموازين

واستحرار القتل : شدّته ، استحرّ وحَرّ بمعنى . والمفلِت : الهارب . يقول عليه السلام : إنّ الأُمورَ المستقبلة على قسميْن : أحدهما : ما تفرّد اللّه تعالى بعلمه ، ولم يطلِعْ عليه أحدا من خلقه ، وهي الأُمور الخمسة المعدودة في الآية المذكورة : « إنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَافِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيّ أرْضٍ تَمُوتُ » . والقسم الثاني : ما يعلمُه بعضُ البشر بإعلام اللّه تعالى إيّاه ، وهو ما عدا هذه الخمسة ، والإخبار بملحَمة الأتراك من جُمْلة ذلك . وتضطمّ عليه جوانحي ، تفتعل ، من الضمّ ، وهو الجمع ، أي يجتمع عليه جوانح صدري ، ويروى : « جوارحي » . وأعلم أنّ هذا الغيب الذي أخبر عليه السلام عنه قد رأيناه نحن عيانا ، ووقع في زماننا ، وهم التتار الذين خرجوا من أقاصي المشرق ؛ حتى وردت خيلهم العراق والشام ، وفعلوا بملوك الخطا ، وقفجاق ، وبلاد ما وراء النهر ، وبخراسان وما ولاها من بلاد العجم ، ما لم تحتو التواريخ منذ خلق اللّه تعالى آدم إلى عصرنا هذا على مثله .

129الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلام في ذكر المكاييل والموازينعِبَادَ اللّهِ ، إِنَّكُمْ _ وَمَا تَأمُلُونَ مِنْ هذِهِ الدُّنْيَا _ أَثْوِيَاءُ مُؤجَّلُونَ ، وَمَدِينُونَ مُقْتَضَوْنَ : أَجَلٌ مَنْقُوصٌ ، وَعَمَلٌ مَحْفُوظٌ . فَرُبَّ دَائِبٍ مُضَيَّعٌ ، وَرُبَّ كَادِحٍ خَاسِرٌ . وَقَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي زَمَنٍ لاَ يَزْدَادُ الْخَيْرُ فِيهِ إِلاَّ إدباراً ، وَالشَّرُّ فِيهِ إِلاَّ إِقْبَالاً ، وَالشَّيْطَانُ فِي هَلاَكِ النَّاس إِلاَّ طَمَعاً . فَهذَا أَوَانٌ قَوِيَتْ عُدَّتُهُ ، وَعَمَّتْ مَكِيدَتُهُ ، وَأَمْكَنَتْ فَرِيسَتُهُ .

.

ص: 439

اضْرِبْ بِطَرْفِكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ النَّاس ، فَهَلْ تُبْصِرُ إِلاَّ فَقِيراً يُكَابِدُ فَقْراً ، أَوْ غَنِيّاً بَدَّلَ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً ، أَوْ بَخِيلاً اتَّخَذَ الْبُخْلَ بِحَقِّ اللّهِ وَفْراً ، أَوْ مُتَمَرِّداً كَأَنَّ بِأُذُنِهِ عَنْ سَمْعِ الْمَوَاعِظِ وَقْراً ! أَيْنَ أخيَارُكُمْ وَصُلَحَاؤكُمْ ! وَأَحْرَارُكُمْ وَسُمَحَاؤكُمْ ؟! وَأَيْنَ الْمُتَوَرِّعُونَ فِي مَكَاسِبِهِمْ ، وَالْمُتَنَزِّهُونَ فِي مَذَاهِبِهمْ ؟ أَلَيْسَ قَدْ ظَعَنُوا جَمِيعاً عَنْ هذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ ، وَالْعَاجِلَةِ الْمُنَغِّصَةِ . وَهَلْ خُلِّفْتُم إِلاَّ فِي حُثَالَةٍ لاَ تَلْتَقِي بِذَمِّهِمُ الشَّفَتَانِ ، اسْتِصْغَاراً لِقَدْرِهِمْ ، وَذَهَاباً عَنْ ذِكْرِهِمْ ؟! فَإِنَّا للّه وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ! ظَهَرَ الْفَسَادُ ، فَ_لاَ مُنْكِرٌ مُغَيِّرٌ ، وَلاَ زَاجرٌ مُزْدَجِرٌ . أَفَبِهذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُجَاوِرُوا اللّهَ فِي دَارِ قُدْسِهِ ، وَتَكُونُوا أَعَزَّ أَوْلِيَائِهِ عِنْدَهُ ؟ هَيْهَاتَ ! لاَ يُخْدَعُ اللّهُ عَنْ جَنَّتِهِ ، وَلاَ تُنَالُ مَرْضَاتُهُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ . لَعَنَ اللّهُ الاْمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ التَّارِكِينَ لَهُ ، وَالنَّاهِينَ عَنِ المُنْكَرِ الْعَامِلِينَ بِهِ!

الشّرْحُ :أثوياء : جمع ثوِيّ ، وهو الضيف ، كقويّ وأقوياء . ومؤجّلون : مؤخَّرون إلى أجَل ، أي وقت معلوم . ومدينُون : مُقْرَضُون ، دِنْتُ الرجل أقرضتُه ، فهو مدين ومديون ، ودنت أيضاً ، إذا استقرضت ، وصار عليّ دين ، فأنا دائن . ومقتضَوْن: جمع مقتضَى ، أي مطالَب بأداء الدين ، كمرتضوْن جمع مرتَضى ، ومصطفوْن جمع مصطفَى . وقوله : « أجل منقوص » ، أي عمر ، وقد جاء عنهم : أطال اللّه أجَلك ، أي عمرَك وبقاءك . والدائب : المجتهد ذو الجِدّ والتعب . والكادح : الساعي . ومثل قوله : « فربّ دائب مضيّع ، وربّ كادح خاسر » ، قول الشاعر : إذا لم يكنْ عونٌ من اللّهِ للْفَتَىفأكثُر ما يجنِي عليهِ اجتهادُهُ وهو كثير ، والأصل فيه قوله تعالى : « وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارا حَامِيَةً » (1) ويروى : « فربّ دائب مضِيع » بغير تشديد .

.


1- .سورة الغاشية 2 _ 4 .

ص: 440

130 . من كلام له عليه السلام لأبي ذرّ رحمه الله لمّا اُخرج إلى الربذة

وقوله : « وأمكنَتْ فريستُه » ، أي وأمكنته ، فحُذِف المفعول . وقوله : « فاضرب بطرفك » لفظة فصيحة ، وقد أخذَها الشاعر فقال : فاضْرِبْ بطرْفِك حيث شئتفلن ترى إلاّ بخيلا والوفر : المال الكثير ، أي بخِل ولم يؤدّ حق اللّه سبحانه ، فكثر مالُه . والوقْر ، بفتح الواو : الثِّقَل في الأُذُن . وروي « المنغَصة » ، بفتح الغين . والحُثالة : السّاقط الرديء من كلّ شيء . وقوله : لا تلتقي بذمّهم الشفتان ، أي يأنَف الإنسان أن يذمّهم ؛ لأ نّه لابدّ في الذم من إطباق إحدى الشفتين على الأُخرى ، وكذلك في كلّ الكلام . وذهابا عن ذكرهم ، أي ترفّعاً ، يقال : فلان يذهب بنفسه عن كذا ، أي يرفعها . ولا زاجر مزدجِر ، أي ليس في الناس مَنْ يزجُر عن القبيح وينزجر هو عنه . ودار القدْس : هي الجنّة . ولا يُخْدَع اللّه عنها ؛ لأ نّه لا تَخْفى عليه خافية ، ولا يجوز عليه النّفاق والتمويه . ثم لعن الآمر بالمعروف ولا يفعله ، والناهيَ عن المنكر ويرتكبه ، وهذا من قوله تعالى : « أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ » (1) . ولست أرى في هذه الخطبة ذكرا للموازين والمكاييل التي أشار إليها الرضيّ ؛ ، اللّهم إلا أن يكون قوله عليه السلام : « وأين المتورّعون في مكاسبهم » أو قوله : « ظهر الفساد » ودلالتهما على الموازين والمكاييل بعيدة .

130الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام لأبي ذر ؛ لمّا أُخرج إلى الربذةيَا أَبَا ذَرّ ، إِنَّكَ غَضِبْتَ للّه ، فَارْجُ مَنْ غَضِبْتَ لَهُ . إِنَّ الْقَوْمَ خَافُوكَ عَلَى دُنْيَاهُمْ ، وَخِفْتَهُمْ عَلَى دِينِكَ ، فَاتْرُكْ فِي أَيْدِيهِمْ مَا خَافُوكَ عَلَيْهِ وَاهْرُبْ مِنهُمْ بِمَا خِفْتَهُمْ عَلَيْهِ؛ فَمَا أَحْوَجَهُمْ إِلَى مَا مَنَعْتَهُمْ ، ومَا أَغْنَاكَ عَمَّا مَنَعُوكَ ! وَسَتَعْلَمُ مَنِ الرَّابِحُ غَداً ،

.


1- .سورة البقرة 44 .

ص: 441

وَالْأَكْثَرُ حُسَّداً . وَلَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ كَانَتَا عَلَى عَبْدٍ رَتْقاً ، ثُمَّ اتَّقَى اللّهَ لَجَعَلَ اللّهُ لَهُ مِنْهُمَا مَخْرَجاً . لاَ يُؤنِسَنَّكَ إِلاَّ الْحَقُّ ، وَلاَ يُوحِشَنَّكَ إِلاَّ الْبَاطِلُ ، فَلَوْ قَبِلْتَ دُنْيَاهُمْ لَأَحَبُّوكَ ، وَلَوْ قَرَضْتَ مِنْهَا لأمَّنُوكَ .

الشّرْحُ :واقعة أبي ذرّ ؛ وإخراجه إلى الرَّبَذة ، أحدُ الأحداث التي نُقِمَتْ على عثمان ، وقد رَوَى هذا الكلامَ أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ في كتاب « السقيفة » ، عن عبد الرزّاق ، عن أبيه ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عبّاس ، قال : لمّا أُخْرِج أبو ذَرّ إلى الرَّبَذة ، أمر عثمان فنودي في الناس : ألاّ يُكَلِّم أحد أبا ذَرّ ، ولا يشيّعه ، وأمر مَرْوان بن الحَكم أن يخرُج به . فخرج به ، وتحاماه النّاس إلاّ عليّ ابن أبي طالب عليه السلام وعَقِيلاً أخاه ، وحسنا وحسينا عليهماالسلام ، وعمّاراً ، فإنهم خرجوا معه يشيّعونه ، فجعل الحسن عليه السلام يكلّم أبا ذَرّ ، فقال له مرْوان : إيها يا حسن ! ألا تَعلم أنّ أميرَ المؤمنين قد نهى عن كلام هذا الرجل ! فإن كنتَ لا تعلم فاعلم ذلك ، فحمل عليّ عليه السلام عَلى مرْوان فضرب بالسوط بين أُذُنيْ راحلته ، وقال : تنحَّ لحاك اللّه إلى النار ! فرجع مَرْوان مغضَبا إلى عثمان ، فأخبره الخبَر ، فتلظّى على عليّ عليه السلام ، ووقف أبو ذَرّ فودّعه القوم ، ومعه ذكوان مولى أُمّ هانئ بنت أبي طالب . قال ذَكْوان : فحفظت كلام القوم ، وكان حافظا ، فقال عليّ عليه السلام : يا أبا ذرّ ، إنّك غضبتَ للّه ! إنّ القوم خافوك على دنياهم ، وخفتَهم على دينك . فامتحنوك بالقِلى ، ونفوْك إلى الفلا ؛ واللّه لو كانت السماوات والأرض على عبدٍ رَتْقا ، ثمّ اتقى اللّه لجعل له منها مخرجاً . يا أباذرّ ، لا يؤنسنك إلاّ الحقّ ، ولا يوحشنّك إلاّ الباطل . ثم قال لأصحابه : ودّعوا عَمّكم ، وقال لعقيل : ودّع أخاك . فتكلّم عَقِيل ، ثم تكلّم الحسن عليه السلام ، ثم تكلّم الحُسين عليه السلام ، ثم تكلّم عمّار ؛ مغضباً . فبكى أبو ذَرّ رحمه الله ، وكان شيخا كبيرا ، وقال : رحمكم اللّه يا أهل بيت الرحمة ! إذا رأيتُكم ذكرتُ بكم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، ما لي بالمدينة سَكَنٌ ولا شَجَنٌ غيركم ، إنّي ثَقُلت على عثمان بالحجاز ، كما

.

ص: 442

131 . من كلام له عليه السلام في حال نفسه وأوصاف الإمام العادل

ثقُلت على معاوية بالشام ، وكره أن أُجاور أخاه وابنَ خاله بالمصريْن ، فأُفسِد الناس عليهما ، فسيّرني إلى بلدٍ ليس لي به ناصر ولا دافع إلاّ اللّه ، واللّه ما أُريد إلاّ اللّه صاحبا ، وما أخشى مع اللّه وحشة . واعلم أنّ الذي عليه أكثر أرباب السِّيرة وعلماء الأخبار والنّقل ، أنّ عثمان نفى أبا ذرّ أولاً إلى الشام ، ثم استقدمه إلى المدينة لما شكى منه معاوية ، ثم نفاه من المدينة إلى الرَّبَذة لَمّا عمل بالمدينة نظير ما كان يعمل بالشام (1) .

131الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلامأَيَّتُهَا النُّفُوسُ الُْمخْتَلِفَةُ ، وَالْقُلُوبُ الْمُتَشَتِّتَةُ ، الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ ، وَالْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ ، أَظْأَرُكُمْ عَلَى الْحَقِّ وَأَنْتُمْ تَنْفِرُونَ عَنْهُ نُفُورَ الْمِعْزَى مِنْ وَعْوَعَةِ الْأَسَدِ ! هَيْهَاتَ أَنْ أَطْلَعَ بِكُمْ سِرَارَ الْعَدْلِ ، أَوْ أُقِيمَ اعْوِجَاجَ الْحَقِّ . اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ ، وَلاَ الِْتمَاسَ شِيْءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ ، وَلكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ وَنُظْهِرَ الاْءِصْلاَحَ فِي بِلاَدِكَ ، فَيَأْمَنَ الْمَظلومُونَ مِنْ عِبَادِكَ ، وَتُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ . اللَّهُمْ إِني أَوَّلُ مَنْ أَنَابَ ، وَسَمِعَ وَأَجَابَ ، لَمْ يَسْبِقْنِي إِلاَّ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله وسلم بِالصَّلاَةِ . وقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ وَالْمَغَانِمِ وَالْأَحْكَامِ وَإِمَامَةِ الْمُسْلِمِينَ الْبَخِيلُ ، فَتَكُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ ، وَلاَ الْجَاهِلُ فَيُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ ،

.


1- .ليس لأبي ذر ؛ من عمل غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . ولأجله نقم منه عثمان فنفاه إلى الربذة ، وبقي هناك فيالفلاة غريبا، ومات غريبا واجدا على عثمان، وهو القائل: « واللّه ليلقينّ اللّه عثمانُ وهو آثم في جنْبي» .

ص: 443

وَلاَ الْجَافِي فَيَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ ، وَلاَ الْحَائِفُ لِلدُّوَلِ فَيَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْمٍ ، وَلاَ الْمُرْتَشِي فِي الْحُكْمِ فَيَذْهَبَ بِالْحُقُوقِ ، وَيَقِفَ بِهَا دُونَ المَقَاطِعِ ، وَلاَ الْمُعطِّلُ لِلسُّنَّةِ فَيُهْلِكَ الأُمَّةَ .

الشّرْحُ :أظأركم : أعطفكم ، ظأرت الناقةَ ظأرا ، وهي ناقة مظؤورة ، إذا عطفْتَها على ولد غيرها . وفي المثل : « الطعن يظأر » ، أي يعطف على الصلح . والوعوعة : الصوت ، والوعواع مثله . وقوله : « هيهات أن أطلَع بكم سرار العدل » ، يفسّره الناس بمعنى هيهات أنْ أطلعكم مضيئين ومنوّرين لسِرار العدل . والسِّرار : آخر ليلة في الشهر ، وتكون مظلمة ؛ ويمكن عندي أن يفسَّر على وجه آخر ؛ وهو أن يكون السّرار هاهنا بمعنى السُّرر ، وهي خطوط مضيئة في الجبهة ؛ وقد نصَّ أهلُ اللغة على أنه يجوز فيها سُرر وسِرار ، وقالوا : ويجمع سِرار على أسرّة ، مثل حمار وأحمرة . ويقولون : برَقَتْ أسِرّة وجهه وأسارير وجهه ؛ فيكون معنى كلامه عليه السلام : هيهاتَ أن تلمع بكم لوامعُ العدل ، وتنجلي أوضاحُه ، ويبرق وجهه . ويمكن فيه أيضا وجه آخر وهو أن ينصب « سِرار » هاهنا على الظَّرفيّة ، ويكون التقدير : هيهات أن أُطلع بكم الحق زمان استسرار العدل واستخفائه ؛ فيكون قد حذف المفعول ، وحذفه كثير . ثم ذكر أنّ الحروبَ الّتي كانتْ منه لم تكن طلباً للملْك ، ولا منافسة على الدّنيا ؛ ولكن لتقامَ حدودُ اللّه على وجهها ، ويجري أمر الشريعة والرعيّة على ما كان يجري عليه أيّام النبوّة . ثم ذكر أ نّه سبَق المسلمين كلَّهم إلى التوحيد والمعرفة ، ولم يسبِقه بالصلاة أحدٌ إلاّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وهكذا روى جمهور المحدثين . فإن قلت : أيّ وجه لإدخال هذا الكلام في غُضُون مقصده في هذه الخطبة ؛ فإنها مبنيّة على ذمّ أصحابه ، وتقرير قاعدة الإمامة ، وأ نّه لا يجوز أن يليَها الفاسق ، وأ نّه لابدّ للإمام من صفات مخصوصة ، عدّدها عليه السلام ، وكلّ هذا لا تعلّق لسبقه إلى الإسلام! قلت : بل الكلامُ متعلّق بعضُه ببعضٍ من وجهين : أحدُهما : أنه لما قال : اللّهم إنّك تعلم أنيما سَللْتُ السَّيْفَ طلبا للملك ، أراد أن يؤكِّد هذا القول في نفوس السامعين ، فقال : أنا أوّل من أسْلَم ، ولم يكن الإسلام حينئذٍ معروفا أصلاً ،

.

ص: 444

ومن يكون إسلامه هكذا لا يكون قد قصد بإسلامه إلاّ وجه اللّه تعالى والقربة إليه . فمن تكون هذه حاله في مبدأ أمره ، كيف يخطر ببال عاقل أ نّه يطلب الدنيا وحطامها ، ويجرّد عليها السيف في آخر عمره . والوجه الثاني : أ نّه إذا كان أوّلَ السابقين ، وجب أن يكون أقربَ المقرّبين ؛ لأ نّه تعالى قال : « والسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ » (1) ، وإذا كان عليه السلام أقربَ المقرّبين ، وجب أن تنتفيَ عنه الموانع الستة ، التي جعل كلّ واحد منها صادّا عن الإمامة ، وقاطعا عن استحقاقها ؛ وهي البخل والجهل والجفاء ، أي الغِلْظة ، والعصبية في دولته ، أي تقديم قوم على قوم ، والارتشاء في الحكْم ، والتعطيل للسنّة ، وإذا انتفتْ عنه هذه الموانع الستّة تعيّن أن يكون هو الإمام ؛ لأنّ شروط الإمامة موجودة فيه بالاتفاق ، فإذا كانت موانعُها عنه منتفيةً ولم يحصل لغيره اجتماع الشروط ، وارتفاع الموانع ، وجب أن يكون هو الإمام ؛ لأ نّه لا يجوز خُلوّ العصر من إمامٍ سواء كانت هذه القضيّة عقليّة أو سمعيّة . فإن قلت : أفتراه عَنَى بهذا قوما بأعيانهم؟ قلت : الإمامية تزعُم أنه رَمَز في الجفاء والعصبية لقوم دون قوم إلى عمر ، ورمز بالجهل إلى مَنْ كان قبله ؛ ورمز بتعطيل السنّة إلى عثمان ومعاوية (2) . والنَّهْمة : الهمّة الشديدة بالأمر ، قد نُهم بكذا بالضم ، فهو منهوم أي مولَع به حريص عليه ، يقول : إذا كان الإمام بخيلاً كان حرصُه وجَشَعُه على أموال رعيَّته ، ومن رواها « نَهَمَته » ، بالتحريك فهي إفراط الشهوة في الطعام ، والماضي نَهِم ، بالكسر . قوله عليه السلام : « فيقطعهم بجفائه » ، أي يقطعهم عن حاجاتهم لغلظته عليهم ؛ لأنّ الواليَ إذا كان غليظا جافياً أتعب الرعيّة وقطعهم عن مراجعته في حاجاتهم خوفا من بادرته ، ومعرّته . قوله : « ولا الحائف للدول » ، أي الظالم لها ، والجائر عليها . والدّول : جمع دُولة بالضمّ وهي اسم المال المتداول به ، يقال : هذا الفيء دُولة بينهم ، أي يتداولونه ، والمعنى أ نّه يجب أن يكونَ الإمام يقسم بالسويّة ، ولا يخصّ قوما دون قوم على وجه العصبيّة لقبيلة دون قبيلة ، أو لإنسان من المسلمين دون غيره ، فيتّخذ بذلك بطانة . قوله : « فيقف بها دون

.


1- .سورة الواقعة 10 .
2- .انظر : بحار الأنوار ، للمجلسي 8 : 640 ط تبريز . وشرح نهج البلاغة المقتطف من بحار الأنوار 2 : 28 .

ص: 445

132 . من خطبة له عليه السلام في تمجيد اللّه سبحانه

المقاطع » ، المقاطع : جمع مقطع ، وهو ما ينتهي الحقّ إليه ، أي لا تصل الحقوق إلى أربابها لأجل ما أُخِذ من الرشوة عليها . فإن قلت : فما باله قال في المانع السادس : « فيهلك الأُمّة » وكلّ واحد من الموانع قبله يفضي إلى هلاك الأُمّة ؟! قلت : كلّ واحد من الموانع الخمسة يفضِي إلى هلاك بعض الأُمّة ، وأمّا مَنْ يعطّل السنّة أصلاً ، فإنه لا محالة مهلك للأمّة كلّها ؛ لأ نّه إذا عطّل السنة مطلقا ، عادت الجاهلية الجهلاء كما كانت . وقد روى : « ولا الخائف الدولَ » بالخاء المعجمة ، ونصب « الدّول » أي مَنْ يخاف دول الأيام وتقلّبات الدهر فيتّخذ قوماً دون قوم ظهريّا ، وهذا معنى لا بأس به .

132الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامنَحْمَدُهُ عَلَى مَا أَخَذَ وَأَعْطَى ، وَعَلَى مَا أَبْلَى وَابْتَلَى . الْبَاطِنُ لِكُلِّ خَفِيَّةٍ ، وَالْحَاضِرُ لِكُلِّ سَرِيرَةٍ ، العَالِمُ بِمَا تُكِنُّ الصُّدُورُ ، وَمَا تَخُونُ الْعُيُونُ . وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ غَيْرُهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّداً صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ نَجِيبُهُ وَبَعِيثُهُ ، شَهَادَةً يُوَافِقُ فِيهَا السِّرُّ الإِعلاَنَ ، وَالْقَلْبُ اللِّسَانَ .

الشّرْحُ :على ما أبلى ، أي ما أعطى ، يقال : قد أبلاه اللّه بلاء حسناً ، أي أعطاه . وأمّا قوله : « وابتلى » فالابتلاء إنزال مضرّة بالإنسان على سبيل الاختبار ، كالمرض والفقر والمصيبة ، وقد يكون الابتلاء بمعنى الاختبار في الخير ؛ إلاّ أنه أكثر ما يستعمل في الشرّ . والباطن : العالم ، يقال

.

ص: 446

بطنت الأمر ، أي خبرته . وتكِنّ الصدور : تستر ، وما تخون العيون : ما تسترِقُ من اللحظات والرمزات على غير الوجه الشرعيّ . والنَّجِيب : المنتجَب . والبعيث : المبعوث .

الأصْلُ :منها :فَإِنَّهُ وَاللّهِ الْجِدُّ لاَ اللَّعِبُ ، وَالْحَقُّ لاَ الْكَذِبُ . وَمَا هُوَ إِلاَّ الْمَوْتُ قَد أَسْمَعَ دَاعِيهِ ، وَأَعْجَلَ حَادِيهِ . فَ_لاَ يَغُرَّنَّكَ سَوَادُ النَّاس مِنْ نَفْسِكَ ، وَقَدْ رَأَيْتَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِمَّنْ جَمَعَ الْمَالَ وَحَذِرَ الاْءِقْ_لاَلَ ، وَأَمِنَ الْعَوَاقِبَ _ طُولَ أَمَلٍ وَاسْتِبْعَادَ أَجَلٍ _ كَيْفَ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَأَزْعَجَهُ عَنْ وَطَنِهِ ، وَأَخَذَهُ مِنْ مَأْمَنِهِ ، مَحْمُولاً عَلَى أَعْوَادِ الْمَنَايَا ، يَتَعَاطَى بِهِ الرِّجَالُ الرِّجَالَ ، حَمْلاً عَلَى الْمَنَاكِبِ ، وَإِمْسَاكاً بِالأنَامِلِ . أَمَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَأْمُلُونَ بَعِيداً ، وَيَبْنُونَ مَشِيداً ، وَيَجْمَعُونَ كَثِيراً ! كَيْفَ أَصْبَحَتْ بُيُوتُهُمْ قُبُوراً ، وَمَا جَمَعُوا بُوراً ، وَصَارَتْ أَمْوَالُهُمْ لِلْوَارِثِينَ ، وَأَزْوَاجُهُمْ لِقَوْمٍ آخَرِينَ ، لاَ فِي حَسَنَةٍ يَزِيْدُونَ ، وَلاَ مِنْ سَيّ_ئَةٍ يُسْتَعْتَبُونَ . فَمَنْ أَشْعَرَ التَّقْوَى قَلْبَهُ بَرَّزَ مَهَلُهُ ، وَفَازَ عَمَلُهُ . فَاهْتَبِلُوا هَبَلَهَا ، وَاعْمَلُوا لِلْجَنَّةِ عَمَلَهَا ، فَإِنَّ الدُّنْيَا لَمْ تُخْلَقْ لَكُمْ دَارَ مُقَامٍ ، بَلْ خُلِقَتْ لَكُمْ مَجَازاً لِتَزَوَّدُوا مِنْهَا الأَعْمَالَ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ . فَكُونُوا مِنْهَا عَلَى أَوْفَازٍ . وَقَرِّبُوا الظُّهُورَ لِلزِّيَالِ .

الشّرْحُ :قوله عليه السلام : « فإنّه واللّه الجِدّ » ، الضمير للأمر والشأن الّذي خاض معهم في ذكره ووعظهم بنزوله . ثم أوضحه بعد إجماله ، فقال : إنّه الموتُ الّذِي دعا فأسْمع ، وحدا فأعجل . وسواد الناس : عامّتهم . و « من » هاهنا ، إمّا بمعنى الباء ، أي لا يغرّنك الناس بنفسك وصحتك وشبابك ، فتستبعد الموت اغترار بذلك ، فتكون متعلّقة بالظاهر ، وإمّا أن تكون متعلّقة بمحذوف ، تقديره : متمكناً من نفسك وراكناً إليها . والإقلال : الفقر . وطول أملٍ ،

.

ص: 447

منصوب على أنه مفعول . وأعواد المنايا : النّعش . ويتعاطى به الرّجال الرّجال : يتداولونه ، تارةً على أكتاف هؤلاء ، وتارة على أكتاف هؤلاء ، وقد فسر ذلك بقوله : « حملاً على المناكب ، وإمساكاً بالأنامل » . والمشيد : المبنيّ بالشِّيد ، وهو الجصّ . والبُور : الفاسِد الهالك ، وقوم بور ، أي هَلْكى ، قال سبحانه : « وَكُنْتُمْ قَوْما بُورا » (1) ، وهو جمع ، واحده بائر كحائل وحُول . ويُستعتَبون هاهنا يفسّر بتفسيرين ، على اختلاف الروايتين : فمن رواه بالضم على فعل ما لم يسمَّ فاعله ، فمعناه لا يُعاتَبون على فعل سيّئة صدرتْ منهم أيّام حياتهم ، أي لا يعاتبهم النّاس أو لا يستطيعون وهم موتى أن يسيئوا إلى أحد إساءةً يعاتَبون عليها . ومن رواه « يَسْتعتِبون » بفتح حرف المضارعة ؛ فهو من استعتَب فلان ، أي طلب أنْ يُعتَب ، أي يرضَى تقول : استعتبته فأعتبنى ، أي استرضيته فأرضاني . وأشعر فلانٌ التقوى قلبَه : جعله كالشّعار له ، أي يلازمه ملازمة شِعار الجسد . وبرزَ مهلُه ، ويروى بالرفع وبالنصب ، فمن رواه بالرفع جعله فاعل « برز » ، أي مَنْ فاق شَوْطَه ، برز الرجل على أقرانه أي فاقهم ، والمَهلُ شوط الفرس ، ومن رواه بالنصب جعل « برز » بمعنى أبرز ، أي أظهر وأبان ، فنصب حينئذٍ على المفعولية . واهتبلت غِرّة زيد ، أي اغتنمتها ، والهبّال : الصياد الذي يهتبل الصيد أي يغرّه ، وذئب هِبَلٌّ أي محتال ، و « هبلها » منصوب على المصدر كأنّه من هبل ، مثل غضب غضباً ، أي اغتنموا . وانتهزوا الفرصة ، الانتهاز الذي يصلح لهذه الحال ، أي ليكن هذا الاهتبال بجدّ وهمّة عظيمة ، فإنّ هذه الحال حال عظيمة لا يليق بها إلاّ الاجتهاد العظيم . وكذا قوله : « واعملوا للجنّة عملها » ، أي العمل الذي يصلح أن يكون ثمرته الجنّة . ودار مقام ، أي دار إقامة . والمجاز : الطريق يجاز عليه إلى المقصد . والأوفاز : جمع وفْز بسكون الفاء ، وهو العجلة . والظُّهور : الرّكاب ، جمع ظَهْر ، وبنو فلان مظهرون ، أي لهم ظهور ينقلون عليها الأثقال ، كما يقال : منجِبون ، إذا كانوا أصحاب نجائب . والزِّيال : المفارقة ، زايلَه مزايلةً وزِيالاً ، أي فارقه .

.


1- .سورة الفتح 11 .

ص: 448

133 . من خطبة له عليه السلام في صفة القرآن ، وصفة النبي ، وأوصاف الدنيا

133الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلاموَانْقَادَتْ لَهُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ بِأَزِمَّتِهَا ، وَقَذَفَتْ إِلَيْهِ السَمَاوَاتُ وَالأَرَضُونَ مَقَالِيدَهَا ، وَسَجَدَتْ لَهُ بِالْغُدُوِّ وَالاْصَالِ الْأَشْجَارُ النَّاضِرَةُ ، وَقَدَحَتْ لَهُ مِنْ قُضْبَانِهَا النِّيرَانَ الْمُضِيئَةَ ، وَآتَتْ أُكُلَهَا بِكَلِمَاتِهِ الثِّ_مَارُ الْيَانِعَةُ .

الشّرْحُ :الضمير في « له » يرجع إلى اللّه تعالى ؛ وقد كان تقدّم ذكره سبحانه في أول الخطبة ، وإن لم يذكره الرضيّ ؛ ، ومعنى انقياد الدنيا والآخرة له ، نفوذ حكمة فيهما ، وشياع قدرته وعمومها . وأزمّتها : لفظة مستعارة من انقياد الأبل بأزمّتها مع قائدها . والمقاليد : المفاتيح . ومعنى سجود الأشجار الناضرة له تصرّفها حَسَب إرادته ، وكونها مسخّرة له ، محكوما عليها بنفوذ قدرته فيها ، فجعل عليه السلام ذلك خضوعا منها لمشيئته ، واستعار لها ما هو أدَلّ على خضوع الإنسان من جميع أفعاله ؛ وهو السجود . قوله : « وقدحَتْ له من قُضبانها » ، بالضم : جمع قضيب ؛ وهو الغصن ، والمعنى أ نّه بقدرته أخرج من الشجر الأخضر نارا ، والنار ضدّ هذا الجسم المخصوص ؛ وهذا هو قوله تعالى : « الَّذِي جَعَل لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارا فإذَا أنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ » (1) بعينه . وآتت أكلها : أعطت ما يؤكل منها ؛ وهو أيضا من الألفاظ القرآنية . واليانعة : الناضجة . وبكلماته ، أي بقدرته ومشيئته .

الأصْلُ :منها :وَكِتَابُ اللّهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ نَاطقٌ لاَ يَعْيَا لِسَانُهُ ، وَبَيْتٌ لاَ تُهْدَمُ أرْكَانُهُ ، وَعِزٌّ لاَ تُهْزَمُ

.


1- .سورة يس 80 .

ص: 449

أَعْوَانُهُ .

الشّرْحُ :يقال : هو نازل بين أظهرِهم ، وبين ظهريْهم ، وبين ظهرانَيْهم ؛ بفتح النون ، أي نازل بينهم . فإن قلت : لماذا قالت العرب « بين أظهرهم » ، ولم تقل : « بين صدورهم » ؟ قلت : أرادت بذلك الإشعار بشدّة المحاماة عنه ، والمرَاماةِ مِنْ دونه . ولا يعيا لسانه : لا يكِلّ ، عَيِيت بالمنطق ، فأنا عيِيٌّ ، على « فَعِيل » ؛ ويجوز : عَيّ الرجل في منطقه ؛ بالتّشديد ، فهو « عيّ » على « فَعْل » .

الأصْلُ :منها :أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ، وَتَنَازُعٍ مِنَ الْأَلْسُنِ ، فَقَفَّى بِهِ الرُّسُلَ ، وَخَتَمَ بِهِ الْوَحْيَ ، فَجَاهَدَ فِي اللّهِ الْمُدْبِرِينَ عَنْهُ ، وَالْعَادِلِينَ بِهِ .

الشّرْحُ :الضمير في « أرسله » ، راجع إلى النبي صلى الله عليه و آله وسلم ؛ وهو مذكور في كلام لم يحكِه جامع الكتاب . والفترة : زمان انقطاع الوحي . والتنازع من الألسن ، أنّ قوما في الجاهليّة كانوا يعبدون الصنم ، وقوما يعبدون الشمس ، وقوما يعبدون الشيطان ، وقوما يعبدون المسيح ؛ فكلّ طائفة تجادل مخالفيها بألسنتها لتقودها إلى معتقدها . وقفّى به الرّسل ، أتبعها به ، قال سبحانه : « ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ برسُلِنَا » (1) ؛ ومنه الكلام المقَفّى ، وسمّيت قوافي الشعر ؛ لأنّ بعضها يتبع بعضاً . والعادلين به : الجاعلين له عَدِيلاً ، أي مثلاً ؛ وهو من الألفاظ القرآنية أيضا ، قال اللّه تعالى : « برَبّهِمْ يَعْدِلُونَ » (2) .

.


1- .سورة الحديد 27 .
2- .سورة الأنعام 1 .

ص: 450

الأصْلُ :منها :وَإِنَّمَا الدُّنْيَا مَنْتَهَى بَصَرِ الْأَعْمَى ، لاَ يُبْصِرُ مِمَّا وَرَاءَهَا شَيْئاً ، وَالْبَصِيرُ يَنْفُذُهَا بَصَرُهُ ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الدَّارَ وَرَاءَهَا . فَالبَصِيرُ مِنْهَا شَاخِصٌ ، وَالْأَعْمَى إِلَيْهَا شَاخِصٌ ، وَالْبَصِيرُ مِنْهَا مُتَزَوِّدٌ ، وَالْأَعْمَى لَهَا مُتَزَوِّدٌ .

الشّرْحُ :شَبّه الدنيا وما بعدها بما يتصوّره الأعمى ، من الظُّلمة التي يتخيّلها ؛ وكأنها محسوسة له ؛ وليست بمحسوسة على الحقيقة ؛ وإنما هي عدم الضَّوْء ، كمن يطلع في جبّ ضيق ، فيتخيّل ظلاما ، فإنه لم ير شيئا ، ولكن لَمّا عدم الضوء فلم ينفذ البصر تخيّل أنه يرى الظلمة ؛ فأمّا من يرى المبصرات في الضياء ، فإنّ بصره ينفذ فيشاهد المحسوسات يقينا ؛ وهذه حال الدنيا والآخرة ؛ أهلُ الدنيا منتَهى بصرهم دنياهم ، ويظنّون أنّهم يبصرون شيئا وليسوا بمبصرين على الحقيقة ، ولا حواسّهم نافذَة في شيء ، وأهل الآخرة قد نفذت أبصارهم ، فرأوا الآخرة ، ولم يقف إحساسهم على الدّنيا خاصّة ، فأولئك هم أصحاب الأبصار على الحقيقة ؛ وهذا معنى شريف من معاني أصحاب الطريقة والحقيقة ، وإليه الإشارة بقوله سبحانه : « أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا » (1) ، فأمّا قوله : « فالبصير منها شاخص ، والأعمى إليها شاخص » ، فمن مستحسَن التجنيس ؛ وهذا هو الذي يسمّيه أرباب الصناعة الجناس التام ؛ فالشاخص الأوّل الراحل ، والشاخص الثاني ، من شَخَص بصرُه ، بالفتح ، إذا فتح عينَه نحو الشيء مقابلاً له ؛ وجعل لا يطرف .

الأصْلُ :منها :وَاعْلَمُوا أ نَّهُ لَيْسَ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ وَيَكَادُ صَاحِبُهُ يَشْبَعُ مِنْهُ وَيَمَلُّهُ إِلاَّ الْحَيَاةَ فَإِنَّهُ لاَ

.


1- .سورة الأعراف 195 .

ص: 451

يَجِدُ فِي الْمَوْتِ رَاحَةً . وَإِنَّمَا ذلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحِكْمَةِ الَّتي هِيَ حَيَاةٌ لِلْقَلْبِ الْمَيِّتِ ، وَبَصَرٌ لِلْعَيْنِ الْعَمْيَاءِ ، وَسَمْعٌ لِلْأُذُنِ الصَّمَّاءِ ، وَرِيٌّ لِلظَّمَآنِ ، وَفِيهَا الْغِنَى كُلُّهُ وَالسَّلاَمَةُ . كِتَابُ اللّهِ تُبْصِرُونَ بِهِ ، وَتَنْطِقُونَ بِهِ ، وَتَسْمَعُونَ بِهِ ، وَيَنْطِقُ بَعْضُهُ بِبَعْض ، وَيَشْهَدُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ ، وَلاَ يَخْتَلِفُ فِي اللّهِ ، وَلاَ يُخَالِفُ بِصَاحِبِهِ عَنِ اللّهِ . قَدِ اصْطَلَحْتُمْ عَلَى الْغِلِّ فِيَما بَيْنَكُمْ ، وَنَبَتَ الْمَرْعَى عَلَى دِمَنِكُمْ . وَتَصَافَيْتُمْ عَلَى حُبِّ الاْمَالِ ، وَتَعَادَيْتُمْ فِي كَسْبِ الْأَمْوَالِ .لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكُمُ الْخَبِيثُ ، وَتَاهَ بِكُمُ الْغُرُورُ ، وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى نَفْسِي وَأَنْفُسِكُمْ .

الشّرْحُ :هذا الفصل ليس بمنتظم من أوله إلى آخره ، بل هو فصول متفرقة التقطها الرضيّ من خطبة طويلة على عادته في التقاط ما يستفصحه من كلامه عليه السلام ، وإن كان كل كلامه فصيحا ؛ ولكن كلّ واحد له هوىً ومحبّة لشيء مخصوص ؛ وضروب الناس عشاق ضروباً . أمّا قوله : كل شيء مملول إلا الحياة ؛ فهو معنى قد طَرقه الناس قديماً وحديثاً ، قال أبو الطيب : وَلَذِيذُ الْحَياةِ أنفسُ في النْفّ__سِ وأشهى من أن يملّ وأحْلَى وإذا الشّيخ قال أففما ملّ حياةً ولكنِ الضَّعْفَ مَلاّ فإن قلت : كيف يقول : إنه لا يجد في الموت راحةً ؟ وأين هذا من قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : « الدنيا سجن المؤمن ، وجنّة الكافر » ! ومن قوله عليه السلام : « واللّه ما أرجو الرّاحة إلاّ بعد الموت »؟! وماذا يعمل بالصالحين الذين آثرُوا فراقَ هذه العاجلة ، واختاروا الآخرة ، وهو عليه السلام سيّدهم وأميرهم ؟ قلت : لا منافاة ، فإنّ الصالحين ، إنّما طلبوا أيضاً الحياة المستمرّة بعد الموت ؛ ورسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم إنما قال : إنّ الدنيا سجن المؤمن ؛ لأنّ الموتَ غير مطلوب للمؤمن لذاته ، إنما يطلبه للحياة المتعقّبة له ، وكذلك قوله عليه السلام : « واللّه ما أرجو الرّاحة إلاّ بعد الموت » ،

.

ص: 452

تصريح بأنّ الراحة في الحياة التي تتعقّب الموت ؛ وهي حياة الأبد ، فلا منافاة إذا بين هذه الوجوه وبين ما قاله عليه السلام ؛ لأ نّه ما نفى إلاّ الرّاحة في الموت نفسه ؛ لا في الحياة الحاصلة بعده . وأمير المؤمنين قال : ما مِنْ شيء من الملذّات إلاّ وهو مملول إلاّ الحياة ، وبين الملذّ والمخلص من الألم فرْقٌ واضح ؛ فلا يكون نقضا على كلامه . فأمّا قوله عليه السلام : « وإنما ذلك بمنزلة الحكمة » ، إلى قوله : « وفيها الغنى كلّه والسلامة » ، ففصل آخر غير ملتئم بما قبله ؛ وهو إشارة إلى كلام من كلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم رواه لهم ، ثم حضّهم على التمسّك به ، والانتفاع بمواعظه ، وقال : إنّه بمنزلة الحكمة التي هي حياة القلوب ، ونور الأبصار ، وسَمْع الآذان الصمّ ، ورِيّ الأكباد الحرّى ؛ وفيها الغنى كلّه ، والسلامة ؛ والحكمة المشبَّه كلام الرسول صلى الله عليه و آله وسلم بها هي المذكورة في قوله تعالى : « وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرا كَثِيرا » (1) ، وفي قوله : « وَلَقَدْ آتيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ » (2) ، وفي قوله : « وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّا » (3) وهي عبارة عن المعرفة باللّه تعالى ، وبما في مبدعاته من الأحكام الدالّة على علمه ؛ كتركيب الأفلاكِ ، ووضع العناصر مواضعَها ، ولطائف صنعة الإنسان وغيره من الحيوان ، وكيفية إنشاء النبات والمعادن ، وما في العالم من القوى المختلفة ، والتأثيرات المتنوعة ؛ الراجع ذلك كلُّه إلى حكمة الصانع وقدرته وعلمه ، تبارك اسمه! فأمّا قوله : « وكتابُ اللّه » ، إلى قوله : « ولا يخالف بصاحبه عن اللّه » ، ففصل آخر مقطوع عَمّا قبله ، ومتّصل بما لم يذكره جامع « نهج البلاغة » . فإن قلتَ : ما معنى قوله : « ولا يختلف في اللّه ، ولا يخالف بصاحبه عن اللّه » ؟ وهل بين هاتيْن الجملتيْن فرق؟ قلت : نعم ، أمّا قوله : « ولا يختلف في اللّه » ، فهو أنه لا يختلف في الدلالة على اللّه وصفاته ، أي لا يتناقض ، أي ليس في القرآن آيات مختلفة يدلُّ بعضُها عَلَى أ نّه يعلم كلّ المعلومات مثلاً ، وتدلّ الأُخرى على أ نّه لا يعلم كلّ المعلومات ؛ أو يدلّ بعضها على أ نّه لا يرى ، وبعضها على أ نّه يرى ، وليس وجودنا للآيات المشتبهة بقادح في هذا القول ؛ لأنّ آيات الجبر والتشبيه لا تدلّ ، وإنما توهِم ؛ ونحن إنّما نفينا أن يكون فيه ما يدلّ عَلَى الشيء

.


1- .سورة البقرة 269 .
2- .سورة لقمان 12 .
3- .سورة مريم 12 .

ص: 453

134 . من كلام له عليه السلام وقد شاوره عمر بن الخطاب في الخروج إلى غزو الروم

ونقيضه . وأمّا قوله : « ولا يخالف بصاحبه عن اللّه » ؛ فهو أ نّه لا يأخذ بالإنسان المعتمد عليه إلى غيرِ اللّه ، أي لا يهديه إلاّ إلى جناب الحقّ سبحانه ؛ ولا يعرُج به إلى جناب الشيطان ، يقال : خالفتُ بفلان عن فلان ، إذا أخذت به غير نحوه ، وسلكت به غير جهته . فأمّا قوله : « قد اصطلحتم عَلَى الغِلّ » إلى آخر الفصل ، فكلامٌ مقطوع أيضاً عَمّا قبله . والغِلّ : الحِقْد . والدِّمَن : جمع دِمْنة ؛ وهي الحقد أيضاً ، وقد دمِنت قلوبهم بالكسر ، أي ضغِنت . ونبت المرعى عليها ، أي دامت وطال الزمان عليها ؛ حتى صارت بمنزلة الأرض الجامدة الثابتة الّتي تنبت النبات . ويجوز أن يريدَ بالدّمَن هاهنا جمع دِمْن وهو البَعْر المجتمع كالمزبلة ؛ أو جمع دِمْنة وهي آثار الناس وما سوّدوا من الأرض ؛ يقال : قد دمّن الشاء الماء ، وقد دمّن القوم الأرض ؛ فشبّه ما في قلوبهم من الغلّ والحِقْد والضغائن بالمزبلة المجتمعة من البعْر وغيره ؛ من سُقَاطة الديار التي قد طال مكثها حتى نبت عليها المرعى . قوله عليه السلام : « لقد استهام بكم الخبيث » ، يعني الشيطان . واستهام بكم : جعلكم هائمين ، أي استهامكم فعدّاه بحرف الجرّ ، كما تقول في « استنفرتُ القوم إلى الحرب » استنفرتُ بهم ، أي جعلتهم نافرين . ويمكن أن يكون بمعنى الطلب والاستدعاء ، كقولك : استعلمتُ منه حال كذا ، أي استدعيت منه أن يعلمِني ، فيكون قوله : « واستهام بكم الخبيث » ، أي استدعى منكم أن تهيموا وتقعوا في التِّيه والضلال والحيرة . قوله « وتاه بكم الغَرور » ، هو الشيطان أيضاً ، قال سبحانه : « وَغَرَّكُمْ باللّهِ الْغَرُورُ » (1) . وتاه بكم : جعلكم تائهين حائرين . ثم سأل اللّه أن يعينه على نفسِه وعليهم .

134الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام وقد شاوره عمر بن الخطاب في الخروج إلى غزو الروموَقَدْ تَوَكَّلَ اللّهُ لِأَهْلِ هذَا الدِّينِ بِإِعْزَازِ الْحَوْزَةِ ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ . وَالَّذِي نَصَرَهُمْ ،

.


1- .سورة الحديد 14 .

ص: 454

وَهُمْ قَلِيلٌ لاَ يَنْتَصِرُونَ ، وَمَنَعَهُمْ وَهُمْ قَلِيلٌ لاَ يَمْتَنِعُونَ ، حَيٌّ لاَيَمُوتُ . إِنَّكَ مَتَى تَسِرْ إِلَى هذَا الْعَدُوِّ بِنَفْسِكَ ، فَتَلْقَهُمْ فَتُنْكَبْ ، لاَ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ كَهْفٌ دُونَ أَقْصَى بِلاَدِهِمْ . لَيْسَ بَعْدَكَ مَرْجِعٌ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ ، فَابْعَثْ إِلَيْهِمْ رَجُلاً مِحْرَباً ، وَاحْفِزْ مَعَهُ أَهْلَ الْبَلاَءِ وَالنَّصِيحَةِ ، فَإِنْ أَظْهَرَ اللّهُ فَذَاكَ مَا تُحِبُّ ، وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى ، كُنْتَ رِدْأً للنَّاس وَمَثَابَةً لِلْمُسْلِمِينَ .

الشّرْحُ :توكَّل لهم : صار وكيلاً ، ويروى « وقد تكفّل » ، أي صار كفيلاً . والحوْزة : الناحية ، وحوْزة الملك بَيْضته ؛ يقول : إنما الذي نصرهم في الابتداء على ضَعْفهم هو اللّه تعالى ؛ وهو حَيٌّ لا يموت ؛ فأجدِرْ به أن ينصرَهم ثانياً ، كما نصرهم أولاً ! وقوله : « فتنكبْ » مجزوم لأ نّه عطف على « تِسرْ » . وكهف ، أي وكهفٌ يلجأ إليه . ويروى « كانفة » أي جهة عاصمة ، من قولك : كنفت الإبل ، جعلتَ لها كنيفاً من الشجر تستتِر به وتعتصم . ورجلٌ مِحْرَب ، أي صاحب حروب . وحفزتُ الرّجل أحفِزه : دفعتَه من خَلْفِه وسقتَه سوقاً شديدا . وكنت ردءا ، أي عوناً ، قال سبحانه : « فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءا يُصَدّقُنِي » (1) . ومثابة : أي مرجعاً ، ومنه قوله تعالى : « مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنا » (2) ، أشار عليه السلام ألاّ يشخَص بنفسه ، حذرا أن يصابَ ، فيذهب المسلمون كلّهم ، لذهاب الرأس ، بل يبعث أميرا من جانبه على النّاس ، ويقيم هو بالمدينة ، فإن هُزِموا كان مرجعُهم إليه . واعلم أنّ هذه الغَزَاة هي غزاة فلسطين ، التي فتِح فيها بيت المقدس وقد ذكرها محمد ابن جرير الطبري في التاريخ (3) .

.


1- .سورة القصص 34 .
2- .سورة البقرة 125 .
3- .تاريخ الطبري 1 : 2405 طبع أُوربا .

ص: 455

135 . من كلام له عليه السلام وقد وقعت بينه وبين عثمان مشاجرة

135الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام وقد وقعت بينه وبين عثمان مشاجرة فقال المغيرة بن الأخنس لعثمان : أنا أكفيكه ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام للمغيرة :يَابْنَ اللَّعِينِ الْأَبْتَرِ ، وَالشَّجَرَةِ الَّتي لاَ أَصْلَ لَهَا وَلاَ فَرْعَ أَنْتَ تَكْفِينِي ؟ فَوَ اللّه مَا أَعَزَّ اللّهُ مَنْ أَنْتَ نَاصِرُهُ ، وَلاَ قَامَ مَنْ أَنْتَ مُنْهِضُهُ . اخْرُجْ عَنَّا أَبْعَدَ اللّهُ نَوَاكَ ، ثُمَّ ابْلُغْ جَهْدَكَ ، فَ_لاَ أَبْقَى اللّهُ عَلَيْكَ إِنْ أَبْقَيْتَ!

الشّرْحُ :هو المغيرة بن الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب بن علاج بن أبي سلمة الثقفيّ ، وإنما قال له أمير المؤمنين عليه السلام : « يابنَ اللعين » ؛ لأنّ الأخنس بن شريق كان من أكابر المنافقين ، ذكره أصحاب الحديث كلّهم في المؤلّفة قلوبهم ، الذين أسلموا يوم الفتح بألسنتهم دون قلوبهم ، وابنه أبو الحكم بن الأخنس ، قتَله أمير المؤمنين عليه السلام يوم أُحُد كافراً في الحرب ؛ وهو أخو المغيرة هذا . والحقْد الذي في قلب المغيرة عليه من هذه الجهة . وإنّما قال له : « يابن الأبتر » ؛ لأنّ مَنْ كان عقبه ضالاً خبيثاً ، فهو كمن لا عقِب له ، بل من لا عقب له خير منه . ويروى : « ولا أقام من أنت منهضه » بالهمزة . ويروى « أبعد اللّه نوءك » من أنواء النجوم التي كانت العرب تنسب المطر إليها ، وكانوا إذا دعوا على إنسان قالوا : أبعد اللّه نوءك ! أي خيرك . والجَهد بالفتح : الغاية ، ويقال : قد جهد فلان جَهده بالفتح ؛ لا يجوز غير ذلك ، أي انتهى إلى غايته . وقد رُوِيَ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لعن ثَقِيفا . وروي أنه عليه السلام قال : « لولا عروة بن مسعود للعنْت ثقيفا » . وروى الحسن البصريّ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لعن ثلاث بيوت : بيتان من مكة ؛ وهما بنو أُميّة ، وبنو المغيرة ؛ وبيت من الطائف وهم ثقيف . وإنما قال له : والشجرة التي لا أصل لها ولا فرع ؛ لأنّ ثقيفاً في نسبها طعن . وقتل المغيرة بن الأخنس مع عثمان يوم الدار .

.

ص: 456

136 . من كلام له عليه السلام في وصف بيعته

136الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلاملَمْ تَكُنْ بَيْعَتُكُمْ إِيَّايَ فَلْتَةً ، وَلَيْسَ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ وَاحِداً . إِنِّي أُرِيدُكُمْ للّه وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لِأَنْفُسِكُمْ . أَيُّهَا النَّاسُ ، أَعِينُوني عَلَى أَنْفُسِكُمْ ، وَايْمُ اللّهِ لَأُنْصِفَنَّ الْمَظلومَ ، وَلَأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ ، حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ كَارِهاً .

الشّرْحُ :الفَلْتة : الأمر يقع عن غير تدبّر ولا رويّة ؛ وفي الكلام تعريض ببيعة أبي بكر ، وقد تقدّم لنا في معنى قول عمر : « كانت بيعة أبي بكر فَلْتة وقى اللّه شرّها » كلام . والخِزامة : حلْقة من شعر تُجعَلُ في أنف البعير ، ويُجعل الزمام فيها . وأعينُوني على أنفسكم : خذوها بالعدل ، واقَنعوها عن اتّباع الهوى ، وارْدَعُوها بعقولكم عن المسالك التي تُرْدِيها وتوبقُها ، فإنّكُم إذا فعلتم ذلك أعنتموني عليها ؛ لأنّي أعظكم وآمركم بالمعروف ، وأنهاكم عن المنكر ، فإذا كبحْتُم أنفسكم بلجام العقل الداعي إلى ما أدعو إليه ؛ فقد أعنتموني عليها . فإن قلت : ما معنى قوله : « أريدكم للّه وتريدونني لأنفسكم »؟ قلت : لأ نّه لا يريد من طاعتهم له إلاّ نصرة دين اللّه والقيام بحدوده وحقوقه ؛ ولا يريدهم لحظّ نفسه ، وأمّا هم فإنهم يريدونه لحظوظ أنفسهم من العطاء والتقريب ، والأسباب الموصّلة إلى منافع الدنيا . وهذا الخطاب منه عليه السلام لجمهور أصحابه ؛ فأمّا الخواصّ منهم فإنّهم كانوا يريدونه للأمر الذي يريدهم له من إقامة شرائع الدين وإحياء معالمه .

.

ص: 457

137 . من كلام له عليه السلام في شأن طلحة والزبير

137الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام في شأن طلحة والزبيروَاللّهِ مَا أَنكَرُوا عَلَيَّ مُنْكَراً ، وَلاَ جَعَلُوا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ نِصْفاً وَإِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً هُمْ تَرَكُوهُ ، وَدَماً هُمْ سَفَكُوهُ ، فَإِنْ كُنْتُ شَرِيكَهُمْ فِيهِ ، فَإِنَّ لَهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانُوا وُلّوهُ دُونِي فَمَا الطَّلِبَةُ إِلاَّ قِبَلَهُمْ . وَإِنَّ أَوَّلَ عَدْلِهِمْ لَلْحُكْمُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ . وإِنَّ مَعِي لَبَصِيرَتِي مَا لَبَّسْتُ وَلاَ لُبِّسَ عَلَيَّ . وَإِنَّهَا لَلْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ فِيهَا الْحَمأُ وَالْحُمَّةُ ، وَالشُّبْهَةُ الْمُغْدَفَةُ؛ وَإِنَّ الْأَمْرَ لَوَاضِحٌ؛ وَقَدْ زَاحَ الْبَاطِلُ عَنْ نِصَابِهِ ، وَانْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ شَغَبِهِ . وَايْمُ اللّهِ لَأُفْرِطَنَّ لَهُمْ حَوْضاً أنا مَاتِحُهُ ، لاَ يَصْدُرُونَ عَنْهُ بِرِيٍّ ، وَلاَ يَعُبُّونَ بَعْدَهُ فِي حَسْيٍ!

الشّرْحُ :النِّصْفُ : الإنصاف . وهو على حذف المضاف ، أي ذا نِصْفٍ ، أي حكَماً منصفاً عادلاً يحكم بيني وبينهم . والطَّلِبة : بكسر اللام : ما طلبتَه من شيء . ولبَست على فلان الأمر ، ولُبِس عليه الأمر ، كلاهما بالتخفيف . والحمَأ : الطين الأسود ، قال سبحانه : « مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمإٍ مَسْنُونٍ » (1) . وحُمَة العقرب : سمّها ، أي في هذه الفئة الباغية الضلالُ والفساد والضرر ؛ وإذا أرادت العربُ أن تعبّر عن الضلال والفساد قالت : الحَمْ ء ، مثله الحمْأة بالتاء ؛ ومن أمثالهم : « ثَأطَةٌ مدّت بماء » (2) ؛ يُضْرب للرجل يشتدّ مُوقه وجهله ؛ والثَّأْطة : الحمْأة ، وإذا أصابها الماء ازدادت فساداً ورطوبة . ويروَى فيها : « الحما » بألف مقصورة وهو كناية عن الزُّبير ؛ لأنّ كل

.


1- .سورة الحجر 26 .
2- .مجمع الأمثال للميداني 1 : 153 .

ص: 458

ما كان بسبب الرجل فهم الأحماء ؛ واحدهم « حما » مثل قفا وأقفاء ، وما كان بسبب المرأة فهم الأخاتن ؛ فأمّا الأصهار فيجمع الجهتين جمعاً . وكان الزُّبير ابن عَمّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ؛ وقد كان النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم أعلمَ عليّا بأنّ فئة من المسلمين تبغي عليه أيّام خلافته ، فيها بعضُ زوجاته وبعض أحمائه ، فكنَى عليّ عليه السلام عن الزّوْجة بالحُمَة وهي سمّ العقرب ، ويروى : «والحَم ء » يضرَب مثلا لغير الطيِّب ولغير الصافي ؛ وظهر أنّ الحمْ ء الذي أخبر النبي صلى الله عليه و آله وسلمبخروجه مع هؤلاء البغاة هو الزّبير ابنُ عمته . وفي الحما أربع لغات : حَمَا مثل قفا ، وحَمْ ء مثل كَمْ ء ، وحَمُو مثل « أبو » ، وحمٍ مثل أبٍ . قوله عليه السلام : « والشبهة المغدَفة » أي الخفيّة ، وأصله المرأة تُغْدِف وجهها بقناعها ، أي تستره . وروى : « المُغدِفة » بكسر الدال ، من أغدف الليل ، أي أظلم . وزاح الباطل ، أي بَعُد وذهب ، وأزاحه غيره . وعن نصابه : عن مركزه وقرّه ، ومنه قول بعض المحدَثين : قد رجع الحقُّ إلى نصابِهِوأنت من دون الورى أولَى بِهِ والشّغْب ، بالتسكين : تهييج الشرّ ، شَغَب الحقد بالفتح شَغْباً ، وقد جاء بالتحريك في لغة ضعيفة ، وماضيها شَغِب ، بالكسر . ولَأُفرِطنّ لهم حوضا ، أي لأملأنّ ، يقال : أفرطتُ المزادة أي ملأتها ، وغدير مفرَط ، أي ملآن . والماتح ، بنقطتين من فوق : المستقِي من فوقُ ، وبالياء : مالئ الدّلاء من تحت . والعَبّ : الشرب بلا مصّ كما تشرب الدابّة . والحِسْى : ماء كامنٌ في رمل يحفَر عنه فيستخرَج ، وجمعه أحساء . يقول عليه السلام : واللّه ما أنكروا عليَّ أمرا هو منكَر في الحقيقة ، وإنّما أنكروا ما الحجة عليهم فيه لا لهم ؛ وحملَهم على ذلك الحسد وحبّ الاستئثار بالدنيا والتفضيل في العطاء ؛ وغير ذلك مما لم يكن أمير المؤمنين عليه السلام يراه ولا يستجيزه في الدين . قال : ولا جعلوا بيني وبينهم نِصْفاً ، يعني وسيطاً يحكم ويُنصف ، بل خرجوا عن الطاعة بغتة ؛ وإنهم ليطلبون حقاً تركوه ، أي يظهرون أنهم يطلبون حقاً بخروجهم إلى البصرة وقد تركوا الحق بالمدينة . قال : ودما هم سفكوه ؛ يعني دم عثمان ؛ وكان طلحة من أشدّ الناس تحريضا عليه ، وكان الزّبير دونه في ذلك . روي أنّ عثمان قال : ويلي على ابن الحضْرميّة _ يعني طلحة _ أعطيتُه كذا وكذا بُهارا ذهباً ؛ وهو يروم دمى يحرّض على نفسي ؛ اللّهم لا تمتّعه به ولَقِّه عواقب بغيِه (1) . وروي أنّ طلحة كان يوم قتل عثمان مقنّعا بثوب قد استتر به عن أعين الناس ، يرمي

.


1- .انظر النهاية 1 : 101 .

ص: 459

الدار بالسهام . ورووا أيضا أنّ الزبير كان يقول : اقتلوه فقد بدّل دينكم . فقالوا : إن ابنك يحامِي عنه بالباب ، فقال : ما أكره أن يقتَل عثمان ولو بُدِئ بابني ؛ إن عثمان لجيفةٌ على الصراط غدا . ثم قال عليه السلام : إن كنت شريكَهم في دم عثمان ؛ فإن لهم نصيبَهم منه ، فلا يجوز لهم أن يطلبوا بدمه وهم شركاء فيه ، وإن كانوا وَلُوه دوني ، فهم المطلوبون إذَنْ به لا غيرهم . ثم قال : وإنّ أوّل عدلهم لَلْحُكم على أنفسهم ؛ يقول : إنّ هؤلاء خرجوا ونقضوا البيْعة ، وقالوا : إنّما خرجنَا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإظهار العدل وإحياء الحقّ وإماتة الباطل ، وأوّل العدل أن يحكُموا على أنفسهم ؛ فإنّه يجب على الإنسان أن يقضيَ على نفسه ثم على غيره ، وإذا كان دم عثمان قبلهم ، فالواجب أن ينكروا على أنفسهم قبل إنكارهم على غيرهم . قال ؛ وإن معي لبصيرتي ، أي عقلي ؛ ما لبَسْتُ على الناس أمرهم ولا لُبِس الأمر عليّ ، أي لم يلبسه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عليّ بل أوضحه لي وعرّفنيه . ثم قال : وإنها للفئة الباغية ؛ لام التعريف في « الفئة » تشعِر بأنّ نصّا قد كان عنده : أنه ستخرج عليه فئة باغية ، ولم يعيَّن له وقتها ولا كلّ صفاتها ، بل بعض علاماتها ، فلما خرج أصحاب الجمل ورأى تلك العلاماتِ موجودة فيهم ؛ قال : وإنّها للفئة الباغية ، أي وإنّ هذه الفئة ، أي الفئة التي وُعِدت بخروجها عليّ ، ولولا هذا لقال : « وإنها لفئة باغية » ، على التنكير . ثم ذكر بعض العلامات ، فقال : إنّ الأمر لواضح ، كلّ هذا يؤكّد به عند نفسه وعند غيره أنّ هذه الجماعة هي تلك الفئة الموعود بخروجها ، وقد ذهب الباطلُ وزاحَ ، وخرِس لسانه بعد شَغْبه . ثم أقسم ليملأنّ لهم حوضاً هو ماتحه ، وهذه كناية عن الحرب والهيجاء وما يتعقّبهما من القتل والهلاك . لا يصدرون عنه بريّ ، أي ليس كهذه الحياض الحقيقية التي إذا وَرَدَها الظمآن صَدَر عن رِيّ ونقع غليله ، بل لا يصدُرون عنه إلاّ وهم جَزَر السّيوف ، ولا يعبّون بعده في حِسْي لأنهم هلكوا ، فلا يشربون بعده البارد العذْب .

الأصْلُ :منه :فَأَقْبَلْتُمْ إِلَيَّ إِقْبَالَ الْعُوذِ الْمَطَافِيلِ عَلَى أَوْلاَدِهَا ، تَقُولُونَ : الْبَيْعَةَ الْبَيْعَةَ ! قَبَضْتُ

.

ص: 460

كَفِّي فَبَسَطْتُمُوهَا ، وَنَازَعْتُكُمْ يَدِي فَجَاذَبْتُمُوهَا . اللَّهُمَّ إنَّهُمَا قَطَعَانِي وَظَلَمانِي ، وَنَكَثَا بَيْعَتِي ، وَألّبَا النَّاسَ عَلَيَّ؛ فَاحْلُلْ مَا عَقَدَا ، وَلاَ تُحْكِمْ لَهُمَا مَا أَبْرَمَا ، وَأَرِهِمَا الْمَسَاءَةَ فِيَما أَمَّلا وَعَمِلاَ . وَلَقَدِ اسْتَثَبْتُهُمَا قَبْلَ الْقِتَالِ ، وَاسْتَأْنَيْتُ بِهمَا أَمَامَ الْوِقَاعِ ، فَغَمَطَا النِّعْمَةَ ، وَرَدَّا الْعَافِيَةَ .

الشّرْحُ :العُوذ : النّوق الحدِيثات النّتاج ، الواحدة عائذ ، مثل حائل وحُول ، وقد يقال ذلك للخَيْل والظّباء ، ويجمع أيضا على « عُوذان » مثل راعٍ ورُعيان ، وهذه عائذة بيّنة العُؤوذ ، وذلك إذا ولدت عن قريب ، وهي في عياذها ، أي بِحدثان نَتَاجها . والمطافيل : جمع مُطْفِل ، وهي التي زال عنها اسمُ العِياذ ومعها طِفْلُها ، وقد تسمّى المطافيل عُوذاً إلى أن يبعد العهد بالنَّتاج مجازاً ؛ وعلى هذا الوجه قال أمير المؤمنين : « إقبال العوذ المطافيل » ، وإلاّ فالاسمان معا لا يجتمعان حقيقةً ، وإذا زال الأول ثبت الثاني . قوله : « وألَّبا الناس عَلَيّ » أي حَرّضا ، يقال : حسود مؤلّب . واستثبتُهما ، بالثاء المعجمة بثلاث : طلبت منهما أن يَثُوبا أي يرجعا ، وسمّى المنزل مَثَابة ؛ لأنّ أهله ينصرفون في أُمورهم ثم يثوبون إليه ، ويروى : « ولقد اسْتَتَبْتُهما » ، أي طلبت منهما أن يتوبا إلى اللّه من ذنبهما في نقض البيعة . واستأنيت بهما ، من الأناءةِ والانتظار . والوقاع ، بكسر الواو : مصدر واقعتهم في الحرب وِقاعاً ، مثل نازلتهم نِزالاً ، وقاتلتهم قِتالاً . وغمَط فلان النعمة ، إذا حَقَرها وأزرى بها غمْطاً ، ويجوز « غمِط » النّعمة بالكسر والمصدر غيرُ محرّك ، ويقال : إن الكسر أفصح من الفتح . يقول عليه السلام : إنكم أقبلتم مزدحمين كما تقبل النُّوق إلى أولادها ، تسألونني البيعة فامتنعت عليكم حتى علمت اجتماعكم فبايعتُكم . ثم دعا عليّ على طلحة والزبير بعد أنْ وصفهما بالقطيعة والنّكث والتأليب عليه ، بأن يَحُلَّ اللّه تعالى ما عقدا ، وألاّ يحكِم لهما ما أبرما ، وأن يريَهما المساءة فيما أمّلا وعملا . فأمّا الوصف لهما بما وصفهما به ، فقد صدق عليه السلام فيه ، وأمّا دعاؤه فاستجيب له .

.

ص: 461

138 . من كلام له عليه السلام يومئ فيها إلى ذكر الملاحم

138الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلام يومئ فيها إلى ذكر الملاحميَعْطِفُ الْهَوَى علَى الْهُدَى ، إِذَا عَطَفُوا الْهُدَى عَلَى الْهَوَى ، وَيَعْطِفُ الرَّأيَ عَلَى الْقُرْآنِ إذَا عَطَفُوا الْقُرْآنَ عَلَى الرَّأيِ .

الشّرْحُ :هذا إشارة إلى إمامٍ يخلقه اللّه تعالى في آخر الزمان (1) ، وهو الموعود به في الأخبار والآثار ، ومعنى « يعطف الهوى » يقهره ويُثنِيه عن جانب الإيثار والإرادة ، عاملاً عَمَل الهدى ، فيجعل الهدى قاهرا له ، وظاهرا عليه . وكذلك قوله : « ويعطف الرأي على القرآن » ، أي يقهر حكم الرأي والقياس والعمل بغَلَبة الظنّ عاملاً عمل القرآن . وقوله : « إذا عطفوا الهدى » و « إذا عطفوا القرآن » إشارة إلى الفِرَق المخالفين لهذا الإمام ، المشاقّين له ، الذين لا يعملون بالهدى بل بالهوى ، ولا يحكمون بالقرآن بل بالرأي .

الأصْلُ :منها :حَتَّى تَقُومَ الْحَرْبُ بِكُمْ عَلَى سَاقٍ ، بَادِياً نَوَاجِذُهَا ، ممْلُوءَةً أَخْلاَفُهَا ، حُلْواً رَضَاعُهَا ، عَلْقَماً عَاقِبَتُهَا . أَلاَ وَفِي غَدٍ _ وَسَيَأْتِي غَدٌ بِمَا لاَ تَعْرِفُونَ _ يَأْخُذُ الْوَالِي مِنْ غَيْرِهَا عُمَّالَهَا عَلَى

.


1- .أقول : بل يظهره اللّه تعالى آخر الزمان، وهو العاشر من ولده عليهم السلام ، والثاني عشر من الأئمّة الاثني عشر ، والإيمان به من ضروريات مذهب أهل البيت عليهم السلام ، وسيأتي ما تواتر عن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله لكميل: «اللّهم بلى لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجة إمّا ظاهرا مشهورا ، أو خائفا مغمورا ، لئلاّ تبطل حجج اللّه وبيّناته » . الحكمة 139 .

ص: 462

مَسَاوِئِ أَعْمَالِهَا ، وَتُخْرِجُ لَهُ الْأَرْضُ أَفَالِيذَ كَبِدِهَا ، وَتُلْقِي إِلَيْهِ سِلْماً مَقَالِيدَهَا ، فَيُرِيكُمْ كَيْفَ عَدْلُ السِّيرَةِ ، وَيُحْييِ مَيِّتَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .

الشّرْحُ :الساق : الشدّة ، ومنه قوله تعالى : « يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ » (1) . والنواجذ : أقصى الأضراس ، والكلام كناية عن بلوغ الحرب غايتَها ، كما أنّ غاية الضحك أن تبدُو النواجذ . وكذلك قوله : « مملوءةً أخلافها » ، والأخلاف للناقة حلمات الضرع ، واحدها خِلْف . وقوله : « حلواً رضاعها ، علقماً عاقبتها » قد أخذه الشاعر ، فقال : الحرْبُ أوّلَ ما تكون فتيةًتسعى بزينتها لكلّ جَهولِ حتى إذا اشتعلتْ وشبَّ ضِرامُهاعادت عجوزا غير ذات حليلِ وقوله : « ألاَ وفي غدٍ » تمامه « يأخذ الوالي » وبين الكلام جملة اعتراضية ، وهي قوله : « وسيأتي غدٌ بما لا تعرفون » والمراد تعظيم شأن الغد الموعود بمجيئه . قوله عليه السلام : « يأخذ الوالِي من غيرها عُمّالها على مساوئ أعمالها » كلام منقطع عما قبله ، وقد كان تقدم ذكر طائفة من الناس ذات ملك وإمْرَة ، فذكر عليه السلام أنّ الواليَ _ يعني الإمام الذي يخلقه اللّه تعالى في آخر الزمان _ يأخذ عمال هذه الطائفة على سوء أعمالهم . و « على » هاهنا متعلقة ب_ « يأخذ » التي هي بمعنى « يؤاخذ » من قولك : أخذته بذنبه ، وآخذنه ، والهمز أفصح . والأفاليذ : جمع أفلاذ ، وأفلاذ جمع فَلْذ ، وهي القطعة من الكبِد ، وهذا كناية عن الكنوز التي تظهر للقائم بالأمر ؛ وقد جاء ذكر ذلك في خبر مرفوع في لفظة : « وقاءت له الأرض أفلاذ كبدها » (2) ، وقد فسر قوله تعالى : « وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أثْقَالَها» (3) بذلك في بعض التفاسير . والمقاليد : المفاتيح .

.


1- .سورة القلم 42 .
2- .المجازات النبوية للشريف الرضي : ص305 ، تفسير القمي 2 : 307 ، صحيح الترمذي 3 : 334 ح2306 ، مجمع الزوائد للهيثمي 7 : 328 ، شرح مسلم للنووي 2 : 191 و7 : 98 .
3- .سورة الزلزلة 2 .

ص: 463

الأصْلُ :منها :كأ نَّي بِهِ قَدْ نَعَقَ بِالشَّامِ ، وَفَحَصَ بِرَايَاتِهِ فِي ضَوَاحِي كُوفَانَ ، فَعَطَفَ إليْهَا عَطْفَ الضَّرُوس ، وَفَرَشَ الْأَرْضَ بِالرُّؤوس . قَدْ فَغَرَتْ فَاغِرَتُهُ ، وَثَقُلَتْ فِي الْأَرْض وَطأ تُهُ ، بَعِيدَ الْجَوْلَةِ ، عَظِيمَ الصَّوْلَةِ . وَاللّهِ لَيُشَرِّدَنَّكُمْ فِي أَطْرَافِ الْأَرْض حَتَّى لاَ يَبْقَى مَنْكُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ ، كَالْكُحْلِ فِي الْعَيْنِ ، فَ_لاَ تَزَالُونَ كَذلِكَ ، حَتَّى تَؤوبَ إِلَى الْعَرَبِ عَوَازِبُ أَحْلاَمِهَا . فَالْزَمُوا السُّنَنَ الْقَائِمَةَ ، وَالآثَارَ الْبَيِّنَةَ ، وَالْعَهْدَ الْقَرِيبَ الَّذِي عَلَيْهِ بَاقِي النُبُوَّةِ . وَاعْلَمُوا أَنَّ الشَّيْطَانَ إِنَّمَا يُسَنِّي لَكُمْ طُرُقَهُ لِتَتَّبِعُوا عَقِبَهُ .

الشّرْحُ :هذا إخبار عن عبد الملك بن مَرْوان وظهوره بالشام وملْكه بعد ذلك العراق ، وما قتَل من العرب فيها أيّامَ عبد الرّحمان بن الأشعث ، وقتلِه أيام مصعب بن الزبير . ونعق الراعي بغنمه ، بالعين المهملة ، ونَغَق الغراب بالغين المعجمة . وفحص براياته هاهنا : مفعول محذوف تقديره : وفحص الناسَ براياته ، أي نحّاهم وقلّبهم يميناً وشمالاً . وكوفان : اسم الكوفة . وضواحيها : ما قرب منها من القرى . والضَّروس : الناقة السيّئة الخلُق تعضّ حالبها . وقوله : « وفرش الأرض بالرءوس » : غطّاها بها كما يغطّى المكان بالفراش . وفغرت فاغرتُه ؛ كأنه يقول : فتح فاه ؛ والكلام استعارة ، وفَغَر « فَعَل » يتعدّى ولا يتعدّى . وثقُلتْ في الأرض وطأته ، كناية عن الجوْر والظلْم . بعيد الجولة : استعارة أيضا ؛ والمعنى أنّ تطواف خيوله وجيوشه في البلاد ، أو جَوَلان رجاله في الحرب على الأقران طويل جدّا لا يتعقّبه السكون إلاّ نادراً . وبعيد منصوب على الحال ، وإضافته غير مَحْضة . وعوازب أحلامها : ما ذهب من عقولها ، عزَبَ عنه الرأي ، أي بعُد . ويسنّي لكم طرقَه ، أي يسهل . والعقِب ، بكسر القاف : مؤخّر القدم ، وهي مؤنثة . ثم أمرهم عليه السلام بأن يلزموا بعد زوال تلك الدولة الكتابَ والسنة ، والعهد القريب الذي عليه باقي النبوّة _ يعني عهده وأيامه عليه السلام _ وكأنّه خاف من أن يكون بإخباره لهم بأنّ دولة هذا الجبار ستنقضي إذا آبت إلى العرب عوازب أحلامها ، كالأمر لهم باتباع ولاة الدولة الجديدة

.

ص: 464

139 . من كلام له عليه السلام في وقت الشورى

في كلّ ما تفعله ، فاستظهرَ عليهم بهذه الوصية ، وقال لهم : إذا ابتذلت الدولة ، فالزموا الكتاب والسنَّة ، والعهد الذي فارقتُكم عليه .

139الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام في وقت الشورىلَنْ يُسْرِعَ أَحَدٌ قَبْلِي إِلَى دَعْوَةِ حَقٍّ ، وَصِلَةِ رَحِمٍ ، وَعَائِدَةِ كَرَمٍ . فَاسْمَعُوا قَوْلِي ، وَعُوا مَنْطِقِي؛ عَسَى أَنْ تَرَوْا هذَا الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِ هذَا الْيَوْمِ تُنْتَضَى فِيهِ السُّيُوفُ ، وَتُخَانُ فِيهِ الْعُهُودُ ، حَتَّى يَكُونَ بَعْضُكُمْ أَئِمَّةً لِأَهْلِ الضَّلاَلَةِ ، وَشِيعَةً لِأَهْلِ الْجَهَالَةِ .

الشّرْحُ :هذا من جملة كلام قاله عليه السلام لأهل الشورى بعد وفاة عمر . [ ثم إنّ ابن أبي الحديد أورد من حديث الشورى العمريّة ممّا لم يذكره سابقا ، وهو من رواية عوانة ، عن اسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي في كتاب « الشورى » و « مقتل عثمان » ، ونحن نكتفي بهذا المقطع الذي يلخص قصة الشورى] : قال الشعبيّ : واجتمع أهلُ الشورى عَلى أن تكونَ كلمتُهم واحدة على مَنْ لم يبايع ، فقاموا إلى عليّ ، فقالوا : قم فبايع عثمان ، قال : فإنْ لم أفعل ، قالوا : نجاهدُك ، قال : فمشى إلى عثمان حتى بايَعه ؛ وهو يقول : صدق اللّه ورسوله . فلما بايع أتاه عبدُ الرحمن بن عوف ، فاعتذَر إليه ؛ وقال : إن عثمان أعطانا يده ويمينه ، ولم تفعل أنت ، فأحببتُ أن أتوثّق للمسلمين ، فجعلتُها فيه ، فقال : إيها عنك ! إنّما آثرتَه بها لتنالها بعده ، دقّ اللّه بينكما عطرَ مَنْشِم . العائدة : الصلة والمعروف والمنفعة ، وعوا : أمرٌ مفرده من وعى الحديث إذا حفظه وتدبّره تنتضي : تسل .

.

ص: 465

140 . من كلام له عليه السلام في النهي عن غيبة الناس

140الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام في النهي عن غيبة الناسوَإِنَّمَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعِصْمَةِ وَالْمَصْنُوعِ إِلَيْهمْ فِي السَّلاَمَةِ أَنْ يَرْحَمُوا أَهْلَ الذّ نُوبِ وَالْمَعْصِيَةِ ، وَيَكُونَ الشُّكْرُ هُوَ الْغَالِبَ عَلَيْهِمْ وَالْحَاجِزَ لَهُمْ عَنْهُمْ ، فَكَيْفَ بِالْعَائِبِ الَّذِي عَابَ أَخَاهُ وَعَيَّرَهُ بِبَلْوَاهُ ! أَمَا ذَكَرَ مَوْضِعَ سَتْرِ اللّهِ عَلَيْهِ مِنْ ذُ نُوبِهِ مِمَّا هُوَ أَعْظْمُ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي عَابَهُ بِهِ ! وَكَيْفَ يَذُمُّهُ بِذَنْبٍ قَدْ رَكِبَ مثْلَهُ! فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَكِبَ ذلِكَ الذَّنْبَ بِعَيْنِهِ فَقَدْ عَصَى اللّهَ فِيَما سِوَاهُ ، مِمَّا هُو أَعْظَمُ مِنْهُ . وَايْمُ اللّهِ لَئِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَاهُ فِي الْكَبِيرِ ، وَعَصَاهُ فِي الصَّغِيرِ ، لَجُرأَتُهُ عَلَى عَيْبِ النَّاس أَكْبَرُ . يَا عَبْدَ اللّهِ ، لاَ تَعْجَلْ فِي عَيْبِ أَحَدٍ بِذَنْبِهِ ، فَلَعَلَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ ، وَلاَ تَأْمَنْ عَلَى نَفْسِكَ صَغِيرَ مَعْصِيَةٍ ، فَلَعَلَّكَ مُعَذَّبٌ عَلَيْهِ .فَلْيَكْفُفْ مَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ عَيْبَ غَيْرِهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ عَيْبِ نَفْسِهِ ، وَلْيَكُنِ الشُّكْرُ شَاغِلاً لَهُ عَلَى مُعَافَاتِهِ مِمَّا ابْتُلِيَ بِهِ غَيْرُهُ . (1)

الشّرْحُ :ليس في هذا الفصل من غريب اللّغة ما نشرح .

.


1- .أهل العصمة : هم المتقون الذين وفّقهم اللّه لطاعته ، وقهروا نفوسهم وملكوها . المصنوع إليهم : من اصطنع اللّه عنده السلامة من الذنوب . ورحمتهم لأهل الذنوب : كفّهم عن عيبهم وهدايتهم للعصاة ، وإعانتهم على الخروج من ذنوبهم بصالح القول . فكيف بالعائب ... : إذا وجب على المطيعين أن لا يعيّرون العصاة بذنوبهم ، فبالأولى أن لا يعير المذنب من هو على شاكلته . وينبغي على أهل السلامة أن يشتغلوا بشكر اللّه على هذه النعمة .

ص: 466

141 . من كلام له عليه السلام في النهي عن التسرع بسوء الظن

141الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلامأَيُّهَا النَّاسُ ، مَنْ عَرَفَ مِنْ أَخِيهِ وَثِيقَةَ دِينٍ وَسَدَادَ طَرِيقٍ ، فَ_لاَ يَسْمَعَنَّ فِيهِ أَقَاوِيلَ الرِّجَالِ . أَمَا إِنَّهُ قَدْ يَرْمِي الرَّامِي ، وَتُخْطِئُ السِّهَامُ ، وَيُحِيلُ الْكَ_لاَمُ ، وَبَاطِلُ ذلِكَ يَبُورُ ، وَاللّهُ سَمِيعٌ وَشَهِيدٌ . أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ إِلاَّ أَرْبَعُ أَصَابِ_عَ . فَسُئل عليه السلام عن معنى قوله هذا ، فجمع أصابعه ووضعها بين أُذُنه وعينه ، ثمّ قال : الْبَاطِلُ أَنْ تَقُولَ سَمِعْتُ ، وَالْحَقُّ أَنْ تَقُولَ رَأَيْتُ!

الشّرْحُ :هذا الكلام هو نَهْيٌ عن التسرّع إلى التصديق بما يقال من العيب والقدْح في حقّ الإنسان المستور الظاهر ، المشتهَر بالصلاح والخير ، وهو خلاصة قوله سبحانه : « إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْما بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ » (1) . ثمّ ضرب عليه السلام لذلك مثلاً ، فقال : قد يرمي الرامي فلا يصيب الغرض ، وكذلك قد يطعن الطاعن فلا يكون طعنه صحيحا ، وربَّما كان لغرض فاسدٍ أو سمعة ممّن له غرض فاسد ، كالعدوّ والحسود ، وقد يشتبه الأمر فيظنّ المعروف منكرا ، فيعجل الإنسان بقول لا يتحقّقه . قال عليه السلام : « ويُحيل الكلام » ، أي يكون باطلاً ، أحال الرجلُ ، في منطقه ، إذا تكلّم الّذي لا حقيقة له ، ومن الناس من يرويه : « ويحِيك الكلام » بالكاف ، من قولك ما حاك فيه السيف ، ويجوز « أحاك » بالهمزة ، أي ما أثّر ، يعني أنّ القول يؤثّر في العِرْض وإن كان باطلاً ، والرواية الأُولى أشهر وأظهر . ويبور : يفسد . وقوله : « وباطل ذلك يبور » ، مثل قولهم : للباطل جولة ، وللحق دولة. والإصبع مؤنثة ، ولذلك ، قال : « أربع أصابع » فحذف الهاء .

.


1- .سورة الحجرات 6.

ص: 467

142 . من كلام له عليه السلام في أمر من وضع المعروف عند غير أهله

فإن قلت : كيف يقول عليه السلام : الباطل ما يُسمع والحق ما يُرى ، وأكثر المعلومات إنما هي من طريق السماع ، كعلمنا الآن بنبوّة محمد صلى الله عليه و آله وسلم بما بلغنا من معجزاته التي لم نرها ، وإنما سمعناها! قلت : ليس كلامه في المتواتر من الأخبار ، وإنما كلامه في الأقوال الشاذّة الواردة من طريق الآحاد ، التي تتضمّن القَدْح فيمن قد غلَبت نزاهته ، فلا يجوز العدولُ عن المعلوم بالمشكوك .

142الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلاموَلَيْسَ لِوَاضِعِ الْمَعْرُوفِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ ، وَعِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ ، مِنَ الْحَظِّ فِيَما أَتى إِلاَّ مَحْمَدَةُ اللِّئَامِ ، وَثَنَاءُ الْأَشْرَارِ ، وَمَقَالَةُ الْجُهَالِ ، مَا دَامَ مُنْعِماً عَلَيْهِمْ؛ مَا أَجْوَدَ يَدَهُ ! وَهُوَ عَنْ ذَاتِ اللّهِ بَخِيلٌ . فَمَنْ آتَاهُ اللّهُ مَالاً فَلْيَصِلْ بِهِ الْقَرَابَةَ ، وَلْيُحْسِنْ مِنْهُ الضِّيَافَةَ ، وَلَْيَفُكَّ بِهِ الْأَسِيرَ وَالْعَانِيَ ، وَلْيُعْطِ مَنْهُ الْفَقِيرَ وَالْغَارِمَ ، وَلْيَصْبِرْ نَفْسَهُ عَلَى الْحُقُوقِ وَالنَّوَائِبِ ، ابْتِغَاءَ الثَّوَابِ؛ فَإِنَّ فَوْزاً بِهذِهِ الْخِصَالِ شَرَفُ مَكَارِمِ الدُّنْيَا ، وَدَرْكُ فَضَائِلِ الآخِرَةِ؛ إِنْ شَاءَ اللّهُ .

الشّرْحُ :هذا الكلام يتضمّن ذمّ من يُخرج ماله إلى الفتيان والأقران والشعراء ، ونحوهم ، ويبتغي به المدحَ والسمعة ، ويعدل عن إخراجه في وجوه البر وابتغاء الثواب ، قال عليه السلام : ليس له من الحظّ إلاّ محمَدة اللئام وثناء الأشرار ، وقولهم : ما أجود يده ! أي ما أسمحه ! وهو بخيل بما

.

ص: 468

143 . من خطبة له عليه السلام في الاستسقاء

يرجع إلى ذات اللّه ، يعني الصدقات وما يجري مجراها من صلة الرَّحم والضيافة وفكّ الأسير والعاني ، وهو الأسير بعينه ، وإنما اختلف اللفظ . والغارم : مَنْ عليه الديون ويقال : صَبَر فلان نفسَه على كذا مخفّفاً ، أي حبسها ، قال تعالى : « وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ » (1) . وقوله : « فإن فَوْزا » : أفصح من أن يقول : « فإنّ الفوز » أو فإنّ في الفوز . ومراده تقرير فضيلة هذه الخصال في النفوس ، أي متى حصل للإنسان فوزٌ ما بها ؛ فقد حصل له الشرف ، وهذا المعنى وإن أعطاه لفظة « الفوز » بالألف واللام إذا قصد بها الجنسية إلاّ أنه قد يسبق إلى الذهن منها الاستغراق لا الجنسية ، فأتى بلفظةٍ لا توهِم الاستغراق ؛ وهي اللفظة المنكرة ؛ وهذا دقيق ، وهو من لباب علم البيان .

143الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلام في الاستسقاءأَلاَ وَإِنَّ الْأَرْضَ الَّتِي تَحْمِلُكُم ، وَالسَّمَاءَ الَّتِي تُظِلّكُمْ ، مُطِيعَتَانِ لِرَبِّكُمْ ، وَمَا أَصْبَحَتَا تَجُودَانِ لَكُمْ بِبَرَكَتِهِمَا تَوَجُّعاً لَكُمْ ، وَلاَ زُلْفَةً إِلَيْكُمْ ، وَلاَ لِخَيْرٍ تَرْجُوَانِهِ مِنْكُمْ ، وَلكِنْ أُمِرَتَا بِمَنَافِعِكُمْ فَأَطَاعَتَا ، وَأُقِيمَتَا عَلَى حُدُودِ مَصَالِحِكُمْ فَقَامَتَا . إِنَّ اللّهَ يَبْتَلِي عِبَادَهُ عِنْدَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ بِنَقْصِ الثَّ_مَرَاتِ ، وَحَبْسِ الْبَرَكَاتِ ، وَإِغْلاَقِ خَزَائِنِ الْخَيْرَاتِ ، لِيَتُوبَ تَائِبٌ ، وَيُقْلِعَ مُقْلِعٌ ، وَيَتَذَكَّرَ مُتَذَكِّرٌ ، وَيَزْدَجِرَ مُزْدَجِرٌ . وَقَدْ جَعَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ الاِسْتِغْفَارَ سَبَباً لِدُرُورِ الرِّزْقِ وَرَحْمَةِ الْخَلْقِ ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ : « اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ

.


1- .سورة الكهف 28 .

ص: 469

وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً » (1) . فَرَحِمَ اللّهُ امْرَأً اسْتَقْبَلَ تَوْبَتَهُ ، وَاسْتَقَالَ خَطِيئَتَهُ ، وَبَادَرَ مَنِيَّتَهُ! اللَّهُمَّ إِنَّا خَرَجْنَا إِلَيْكَ مِنْ تَحْتِ الْأَسْتَارِ وَالْأَكْنَانِ ، وَبَعْدَ عَجِيجِ الْبَهَائِمِ وَالْوِلْدَانِ ، رَاغِبِينَ فِي رَحْمَتِكَ ، وَرَاجِينَ فَضْلَ نِعْمَتِكَ ، وَخَائِفِينَ مِنْ عَذَابِكَ وَنِقْمَتِكَ . اللَّهُمَّ فَاسْقِنَا غَيْثَكَ وَلاَ تَجْعَلْنَا مِنَ الْقَانِطِينَ ، وَلاَ تُهْلِكْنَا بِالسِّنِينَ ، « أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا » يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ! اللَّهُمَّ إِنَّا خَرَجْنَا إِلَيْكَ نَشْكُو إِلَيْكَ مَا لاَ يَخْفَى عَلَيْكَ ، حِينَ أَلْجَأَتْنَا الْمَضَايِقُ الْوَعْرَةُ ، وَأَجَاءَتْنَا الْمَقَاحِطُ الْمُ_جْدِبَةُ ، وَأَعْيَتْنَا الْمَطَالِبُ الْمُتَعَسِّرَةُ ، وَتَلاَحَمَتْ عَلَيْنَا الْفِتَنُ الْمُسْتَصْعَبَةُ . اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأ لُكَ أَلاَّ تَرُدَّنَا خَائِبِينَ ، وَلاَ تَقْلِبَنَا وَاجِمِينَ . وَلاَ تُخَاطِبَنَا بِذُنُوبِنَا ، وَلاَ تُقَايِسَنَا بِأَعْمَالِنَا . اللَّهُمَّ انْشُرْ عَلَيْنَا غَيْثَكَ وَبَرَكَتَكَ ، وَرِزْقَكَ وَرَحْمَتَكَ؛ وَاسْقِنَا سُقْيَا نَاقِعَةً مُرْوِيَةً مُعْشِبَةً ، تُنْبِتُ بِهَا مَا قَدْ فَاتَ ، وَتُحْيِي بِهَا مَا قَدْ مَاتَ ، نَافِعَةَ الْحَيَا ، كَثِيرَةَ الُمجْتَنَى ، تُرْوِي بِهَا الْقِيعَانَ ، وَتُسِيلُ الْبُطْنَانَ ، وَتَسْتَوْرِقُ الْأَشْجَارَ ، وَتُرْخِصُ الْأَسْعَارَ ؛ إِنَّكَ عَلى مَا تَشَاءُ قَدِيرٌ .

الشّرْحُ :تظلّكم : تعلو عليكم ، وقد أظلّتني الشجرة واستظْللتُ بها . والزُّلفة : القربة ، يقول إنّ السماء والأرض إذا جاءتا بمنافعكم _ أمّا السماء فبالمطر ، وأمّا الأرض فبالنّبات _ فإنهما لم تأتيا بذلك تقرُّباً إليكم ، ولا رحمةً لكم ، ولكنّهما أُمِرَتا بنفعكم فامتثلتا الأمر ؛ لأ نّه أمرُ مَنْ تجب

.


1- .سورة نوح 10 _ 12 .

ص: 470

طاعته ، ولو أُمِرَتا بغير ذلك لفعلتاه . والكلام مجاز واستعارة ؛ لأنّ الجماد لا يؤمر ، والمعنى أنّ الكل مسخّر تحت القدرة الإلهية ، مرادُه تمهيدُ قاعدةِ الاستسقاء ، كأنه يقول : إذا كانت السماء والأرض أيام الخصْب والمطر والنّبات لم يكن ما كان منهما محبّة لكم ، ولا رجاء منفعةٍ منكم ؛ بل طاعة الصانع الحكيم سبحانه فيما سخّرَهما له ، فكذلك السماء والأرض أيام الجدْب وانقطاع المطر وعدم الكلأ ، ليس ما كان منهما بغضا لكم ، ولا استدفاعَ ضررٍ يُخاف منكم ، بل طاعة الصانع الحكيم سبحانه فيما سخّرَهما له ، وإذا كان كذلك فبالحري ألاّ نأمل السماء ولا الأرض ، وأن نجعل آمالنا معلّقة بالملك الحقّ المدبّر لهما ، وأن نسترحِمَه وندعُوَه ونستغفرَه ، لا كما كانت العرب في الجاهلية يقولون : مُطِرنا بنوْء كذا ، وقد سَخِط النَّوء الفلانيّ على بني فلان فأمحلوا . ثم ذكر عليه السلام أنّ اللّه تعالى يبتلي عبادَه عند الذنوب بتضييق الأرزاق عليهم ، وحبس مطر السماء عنهم ؛ وهو معنى قوله : « ليتوب تائب ... » ، إلى آخر الكلمات . ويُقلع : يكفّ ويمسِك . ثم ذكر أنّ اللّه سبحانه جعل الاستغفار سببا في دُرور الرزق ، واستدلّ عليه بالآية التي أمر نوح عليه السلام فيها قومه بالاستغفار ؛ يعني التوبة عن الذنوب ، وقدّم إليهم الموعِد بما هو واقع في نفوسهم ، وأحبّ إليهم من الأُمور الآجلة ، فمنّاهم الفوائد العاجلة ، ترغيبا في الإيمان وبركاته ، والطاعة ونتائجها . فأمّا كون الاستغفار سببا لنزول القطْر ودرور الرزق ، فإنّ الآية بصريحها ناطقة به ؛ لأنّها أمرٌ وجوابه ، قال : « اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً» ، كما تقول : قم أكرمْك ، أي إن قمت أكرمتك . قوله : « استقبل توبته » أي استأنفها وجدّدها . واستقال خطيئته : طلب الإقالة منها والرحمة . وبادر منيّته : سابق الموت قبل أن يدهمه . قوله عليه السلام : « لا تُهلِكْنا بالسنين » جمع : سَنَة ، وهي الجدْب والمحْل ، قال تعالى : « وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ » (1) . والمضايق الوَعْرة ، بالتسكين ، ولا يجوز التحريك ، وقد وَعُر هذا الشيء بالضم وُعورة ، وكذلك توعّر ، أي صار وَعْراً ، واستوعرتُ الشيء : استصعبتَه . وأجاءتنا : ألجأتنا ، قال تعالى : « فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ » (2) . والمقاحط المجدبة :

.


1- .سورة الأعراف 130 .
2- .سورة مريم 23 .

ص: 471

144 . من خطبة له عليه السلام في بعثة الأنبياء ، ثم استطراد إلى وصف بني هاشم

السّنون الممحلة ، جمع مَقْحَطة . وتلاحمت : اتصلت . والواجم : الذي قد اشتدّ حزنُه حتى أمسك عن الكلام ، والماضي « وَجَم » بالفتح يجِم وُجُوما . قوله : « ولا تخاطبنا بذنوبنا ، ولا تقايسنا بأعمالنا » ، أي لا تجعل جوابَ دعائنا لك ما تقتضيه ذنوبنا ؛ كأنه يجعل كالمخاطِب لهم ، والمجيب عمّا سألوه إياه ، كما يفاوض الواحدُ منّا صاحبَه ويستعطفه ، فقد يجيبه ويخاطبه بما يقتضيه ذنبُه إذا اشتدّت موجدته عليه ونحوه . ولا تقايسنا بأعمالنا ، قِسْتُ الشيء بالشيء إذا حذوتَه ومثّلته به ، أي لا تَجعل ما تجيبنا به مقايسا ومماثلاً لأعمالنا السيّئة . قوله : « سُقْيَا ناقعة » هي « فُعْلَى » مؤنثة غير مصروفة . والحيا : المطر . وناقعة : مروية مسكّنة للعطش ، نَقَع الماء العطش نَقْعا ونُقوعاً سكّنه ، وفي المثل : « الرّشْف أنْقَع » أيْ أنَّ الشراب الذي يُرْشَف قليلاً قليلاً أنجع وأقطع للعطش ، وإن كان فيه بط ء . وكثيرة المجتنى ، أي كثيرة الكلأ ، والكلأ : الذي يجتني ويرعى . والقِيعان : جمع قاعٍ ، وهو الفَلاَة . والبُطنان : جمع بَطْن ، وهو الغامض من الأرض ، مثل ظَهْر وظُهْران وعَبْد وعُبدان .

144الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامبَعَثَ رُسُلَهُ بِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ وَحْيِهِ ، وَجَعَلَهُمْ حُجَّةً لَهُ عَلَى خَلْقِهِ ، لِئَلاَّ تَجِبَ الْحُجَّةُ لَهُمْ بِتَرْكِ الاْءِعْذَارِ إِلَيْهِمْ ، فَدَعَاهُمْ بِلِسَانِ الصِّدْقِ إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ . أَلاَ إِنَّ اللّهَ تَعَالَى قَدْ كَشَفَ الْخَلْقَ كَشْفَةً ؛ لاَ أ نّهُ جَهِلَ مَا أَخْفَوْهُ مِنْ مَصُونِ أَسْرَارِهِمْ وَمَكنُونِ ضَمَائِرِهمْ ؛ وَلكِنْ «لِيَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً» ، فَيَكُونَ الثَّوَابُ جَزَاءً ، وَالْعِقَابُ بَوَاءً . أَيْنَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ دُونَنَا ؟ كَذِباً وَبَغْياً عَلَيْنَا ، أَنْ رَفَعَنَا اللّهُ وَوَضَعَهُمْ ، وَأَعْطَانَا وَحَرَمَهُمْ ، وَأَدْخَلَنَا وَأَخْرَجَهُمْ . بِنَا يُسْتَعْطَى الْهُدَى ، وَيُسْتَجْلَى

.

ص: 472

الْعَمَى . إِنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيش غُرِسُوا فِي هذَا الْبَطْنِ مِنْ هَاشِمٍ ؛ لاَ تَصْلُحُ عَلَى سِوَاهُمْ ، وَلاَ تَصْلُحُ الْوُلاَةُ مِنْ غَيْرِهمْ .

الشّرْحُ :أول الكلام مأخوذ من قوله سبحانه : « رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ » (1) ، وقوله تعالى : « وَمَا كُنَّا مُعَذِّبينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً» (2) . الإعذار : تقديم العذر . ثم قال : إن اللّه تعالى كشف الخلق بما تعبّدهم به من الشرعيّات على ألسنة الأنبياء ، ولم يكن أمرُهم خافياً عنه ، فيحتاج إلى أن يكشفَهم بذلك ، ولكنّه أراد ابتلاءهم واختبارهم ، ليعلم أيُّهم أحسن عملاً ، فيعاقب المسيء ، ويثيب المحسن . قوله : « وللعقاب بَوَاء » أي مكافأة . قوله عليه السلام : « أين الذين زعموا » ، هذا الكلام كناية وإشارة إلى قوم من الصحابة كانوا ينازعونه الفضل ؛ فمنهم مَنْ كان يدّعي له أنه أفرَض ، ومنهم من كان يدّعي له أنه أقرأ ، ومنهم كان يدّعي له أنه أعلم بالحلال والحرام . هذا مع تسليم هؤلاء له أنه عليه السلام أقضى الأُمّة ، وأنّ القضاء يحتاج إلى كلّ هذه الفضائل ، وكلّ واحدةٍ منها لا تحتاج إلى غيرها ، فهو إذنْ أجمع للفقه وأكثرهم احتواء عليه ، إلاّ أ نّه عليه السلام لم يرض بذلك ولم يصدق الخبر الذي قيل : « أفرَضكم فلان » إلى آخره فقال : إنّه كذب وافتراء حمل قوما على وضعه الحسدُ والبغي والمنافسة لهذا الحيّ من بني هاشم ؛ أن رفعهم اللّه على غيرهم ، واختصّهم دون مَنْ سواهم . وأنْ هاهنا للتعليل ، أي « لأنْ » فحذف اللام التي هي أداة التعليل على الحقيقة ، قال سبحانه : « بِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ » (3) . ثم قال : « بنا يُستعطى الهُدَى ، أي يطلب أن يعطَى ، وكذلك « يستجلى » أي يطلبُ جِلاؤه . ثم قال : إنّ الأئمة من قريش ... إلى آخر الفصل . وقد اختلف الناس في اشتراط النسب في الإمامة ، فقال قوم من قدماء أصحابنا : إنّ

.


1- .سورة النساء 165 .
2- .سورة الإسراء 15 .
3- .سورة المائدة 80 .

ص: 473

النسب ليس بشرط فيها أصلاً ، وإنها تصلح في القرشيّ وغير القرشيّ . وقال معظم الزّيدية : إنها من الفاطميّين خاصة من الطالبيّين ، لا تصلُح في غير البطنيْن . ولا تصحّ إلاّ بشرط أن يقوم بها ويدعو إليها فاضل زاهد عالم عادل شجاع سائس . وأما الراونديّة : فإنّهم خَصَّصُوها بالعبّاس رحمه اللّه وولده من بين بطون قريش كلها ؛ وهذا القول هو الذِّي ظهر في أيام المنصور والمهديّ . وأما الإمامية : فإنهم جعلوها ساريةً في ولد الحسين عليه السلام في أشخاص مخصوصين ، ولا تصلح عندهم لغيرهم 1 . وجعلها الكيْسانية في محمد بن الحنفيّة وولده ، ومنهم مَنْ نقلها منه إلى ولد غيره . فإن قلت : إنك شرحت هذا الكتاب على قواعد المعتزلة وأُصولهم ، فما قولك في هذا الكلام وهو تصريح بأنّ الإمامة لا تصلح من قريش إلاّ في بني هاشم خاصّة ، وليس ذلك

.

ص: 474

بمذهب للمعتزلة ؛ لا متقدّميهم ولا متأخّريهم! قلت : هذا الموضع مشكل ، ولي فيه نظر ؛ وإن صحّ أن عليا عليه السلام قاله ، قلتُ كما قال ؛ لأ نّه ثبت عندي أنّ النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : « إنه مع الحق ، وإن الحق يدور معه حيثما دار » ، ويمكن أن يتأوّل ويطبّق على مذهب المعتزلة ، فيحمل على أن المراد كمالُ الإمامة كما حمل قوله صلى الله عليه و آله وسلم : « لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد » على نفي الكمال ، لا على نفي الصحة (1) .

الأصْلُ :منها :آثَرُوا عَاجِلاً وَأَخَّرُوا آجِلاً ، وَتَرَكُوا صَافِياً ، وَشَرِبُوا آجِناً كَأ نّي أَنْظُرُ إِلَى فَاسِقِهِمْ وَقَدْ صَحِبَ الْمُنكَرَ فَأَلِفَهُ ، وَبَسْئَ بِهِ وَوَافَقَهُ ، حَتَّى شَابَتْ عَلَيْهِ مَفَارِقُهُ ، وَصُبِغَتْ بِهِ خَلاَئِقُهُ ، ثُمَّ أَقْبَلَ مُزْبِداً كَالتَّيَّارِ لاَ يُبَالِي مَا غَرَّقَ ، أَوْ كَوَقْعِ النَّارَ فِي الْهَشِيمِ لاَ يَحْفِلُ مَا حَرَّقَ . أَيْنَ الْعُقُولُ الْمُسْتَصْبِحَةُ بِمَصَابِيحِ الْهُدَى ، وَالْأَبْصَارُ الْلاَّمِحَةُ إِلَى مَنَازِلِ التَّقْوَى ! أَيْنَ الْقُلُوبُ الَّتِي وُهِبَتْ للّه ، وَعُوقِدَتْ عَلَى طَاعَةِ اللّهِ ! ازْدَحَمُوا عَلَى الْحُطَامِ ، وَتَشَاحُّوا عَلَى الْحَرَامِ؛ وَرُفِعَ لَهُمْ عَلَمُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، فَصَرَفُوا عَنِ الْجَنَّةِ وُجُوهَهُمْ ، وَأَقْبَلُوا إِلَى النَّارِ بِأعْمَالِهِمْ ؛ وَدَعَاهُمْ رَبُّهُمْ فَنَفَرُوا وَوَلَّوْا ، وَدَعَاهُمُ الشَّيْطَانُ فَاسْتَجَابُوا وَأَقْبَلُوا!

.


1- .أقول : إنّ ابن أبي الحديد أقرّ بأنّه نصّ صريح ؛ فلا يحتمل التأويل إذا . وتأويله بارد كتأويل بعض المتكلمين ؛ أن النهي عن الخمر في القرآن على جهة التأديب .

ص: 475

145 . من خطبة له عليه السلام في الزهد ، وذكر البدع والسنن

الشّرْحُ :آثروا : اختاروا . وأخّروا : تركوا . الآجن : الماء المتغيّر . أجَن الماء يأجُن ويأجِن . وبَسِئ به : ألفه ، وناقة بَسُوء : ألِفت الحالب ولا تمنعه . وشابت عليه مفارقه : طال عهده به مُذ زَمن الصّبا حتى صار شيخا . وصبِغت به خلائقه ما صارت طبعا ؛ لأنّ العادة طبيعة ثانية . مُزْبدا ، أي ذو زَبَدٍ ، وهو ما يخرج من الفم كالرّغوة ؛ يضرب مثلاً للرجل الصائل المقتحم . والتيّار : معظم اللجّة ، والمراد به هاهنا السّيل . والهشيم : دقاق الحطَب . ولا يحفَل ، بفتح حرف المضارعة ؛ لأنّ الماضي ثلاثي ، أي لا يبالي . والأبصار اللامحة : الناظرة . وتشاحُّوا : تضايقوا ، كلٌّ منهم يريد ألاّ يفوته ذلك ، وأصله الشحّ ، وهو البخل . فإن قلت : هذا الكلام يرجع إلى الصحابة الذين تقدّم ذكرهم في أوّل الخطبة ! قلت : لا ؛ وإن زعم قوم أ نّه عناهم ؛ بل هو إشارة إلى قوم ممّن يأتي من الخَلف بعد السلَف ، ألا تراه قال : كأنّي أنظرُ إلى فاسقهم قد صحب المنكر فألفه ؛ وهذا اللفظ إنما يقال في حقّ من لم يوجَد بعد ، كما قال في حقّ الأتراك : « كأنّي أنظر إليهم قوما كأنّ وجوهَهم المجانّ » ، وكما قال في حقّ صاحب الزنج : « كأنّي به يا أحنف قد سار في الجيش » ، ولولا قوله : « كأنّي أنظر إلى فاسقهم » لم أبعد أن يعنيَ بذلك قوما ممّن عليه اسم الصحابة وهو رديء الطريقة ، كالمغيرة بن شعبة ، وعمرو بن العاص ، ومَرْوان بن الحكم ، ومعاوية ، وجماعة معدودة أحبُّوا الدنيا واستغواهُم الشَّيطان ؛ وهم معدودون في كتب أصحابنا . ومن اشتغل بعلوم السيرة والتواريخ عرفهم بأعيانهم .

145الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامأَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّمَا أنْتُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيَا غَرَضٌ تَنْتَضِلُ فِيهِ الْمَنَايَا ، مَعَ كُلِّ جَرْعَةٍ

.

ص: 476

شَرَقٌ ، وَفي كُلِّ أَكْلَةٍ غَصَصٌ ! لاَ تَنَالُونَ مِنْهَا نِعْمَةً إِلاَّ بِفِرَاقِ أُخْرَى ، وَلاَ يُعَمَّرُ مُعَمَّرٌ مِنْكُمْ يَوْماً مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ بِهَدْمِ آخَرَ مِنْ أَجَلِهِ ، وَلاَ تُجَدَّدُ لَهُ زِيَادَةٌ فِي أَكْلِهِ إِلاَّ بَنَفَادِ مَا قَبْلَهَا مِنْ رِزْقِهِ؛ وَلاَيَحْيَى لَهُ أَثَرٌ ، إِلاَّ مَاتَ لَهُ أَثَرٌ ؛ وَلاَ يَتَجَدَّدُ لَهُ جَدِيدٌ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَخْلَقَ لَهُ جَدِيدٌ ؛ وَلاَ تَقُومُ لَهُ نَابِتَةٌ إِلاَّ وَتَسْقُطُ مِنْهُ مَحْصُودَةٌ . وَقَدْ مَضَتْ أُصُولٌ نَحْنُ فُرُوعُهَا ، فَمَا بَقَاءُ فَرْعٍ بَعْدَ ذَهَابِ أَصْلِهِ!

الشّرْحُ :الغَرَض : ما ينصَب ليُرمَى ، وهو الهدف . وتنتضِل فيه المنايا : تترامى فيه للسَّبْق ، ومنه الانتضال بالكَلاَم وبالشّعر، كأنه يجعل المنايا أشخاصا تتناضل بالسهام؛من الناس مَنْ يموت قتلاً ، ومنهم مَنْ يموت غرقاً ، أو يتردّى في بئر ، أو تَسقط عليه حائط ، أو يموت على فراشه . ثم قال : « مع كل جَرْعة شَرَق ، وفي كلّ أكلة غَصص » : بفتح الغين ، مصدر قولك : غَصِصْتَ يا فلان بالطعام ، وروي : « غُصَص » جمع غُصّة ، وهي الشجا ، وهذا مثل قول بعضهم : المنحة فيها مقرونة بالمحنة ، والنعمة مشفوعة بالنقمة . ومراد أمير المؤمنين عليه السلام بكلامه : أنّ نعيم الدنيا لا يدوم ، فإذا أحسنتْ أساءت ، وإذا أنعمت أنقمت . ثم قال : « لا ينالون منها نعمة إلاّ بفراق أُخرى » ، هذا معنى لطيف ، وذلك أنّ الإنسان لا يتهيّأ له أن يجمع بين الملاذّ الجسمانية كلّها في وقت ، فحال ما يكون آكلا لا يكون مجامعا ، وحال ما يشرب لا يأكل ، وحال ما يركب للقَنَص والرّياضة ، لا يكون جالساً على فراش وثير ممهد ؛ وعلى هذا القياس فلا يأخذ في ضَرْب من ضُروب الملاذّ إلاّ وهو تارك لغيره منها . ثم قال : « ولا يعمَّر معمَّر منكم يوماً من عمره إلاّ بهدم آخر من أجله » ، وهذا أيضا لطيف ؛ لأنّ المسرور ببقائه إلى يوم الأحد لم يصل إليه إلاّ بعد أن قضى يوم السبت وقَطَعه ، ويوم السبت من أيام عُمره ، فإذا قد هدم من عمره يوماً ، فيكون قد قرب إلى الموت ؛ لأ نّه قد قطع من المسافة جزءا . ثم قال: « ولا تجدّد له زيادة في أكله إلاّ بنفاذ ما قبلها من رزقه »، وهذا صحيح فإنّ فسّرنا الرزق بما وصل إلى البطن على أحد تفسيرات المتكلمين ، فإن الإنسان لا يأكل لقمة إلاّ وقد فرغ من اللقمة التي قبلها ، فهو إذا لا يتجدد له زيادة في أكله إلاّ بنفاد ما قبلها من رزقه .

.

ص: 477

146 . من كلام له عليه السلام وقد استشاره عمر في الشخوص لقتال الفرس بنفسه

ثم قال : « ولا يحيا له أثر ، إلاّ مات له أثر » ، وذلك أنّ الإنسان في الأعمّ الأغلب لا ينتشر صيتُه ويشيع فضلُه إلاّ عند الشيخوخة ، وكذلك لا تعرف أولاده ويصير لهم اسم في الدنيا إلاّ بعد كبره وعلو سنه ، فإذا ما حي له أثر إلاّ بعد أن مات له أثر ، وهو قوّته ونشاطه وشبيبته ، ومثله قوله : « ولا يتجدّد له جديد ، إلاّ بعد أن يخلَق له جديد » . ثم قال : « ولا تقوم له نابتة إلاّ وتسقط منه محصودة » ، هذه إشارة إلى ذهاب الآباء عند حدوث أبنائهم في الأعمّ الأغلب ، ولهذا قال : « وقد مضت أُصولٌ نحن فروعها فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله » .

الأصْلُ :منها :وَمَا أُحْدِثَتْ بِدْعَةٌ إِلاَّ تُرِكَ بِهَا سُنَّةٌ . فَاتَّقُوا الْبِدَعَ ، وَالْزَمُوا الْمَهْيَعَ . إِنَّ عَوَازِمَ الْأُمُورِ أَفْضَلُهَا ، وَإِنَّ مُحْدَثَاتِهَا شِرَارُهَا .

الشّرْحُ :البدْعة : كل ما أُحدِث مما لم يكنْ على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . ومعنى قوله عليه السلام : «ما أُحدِثتْ بدعة إلا تُرِكَ بها سنّة » ، أنّ من السنَّة ألاّ تحدث البدعة ، فوجود البدعة عدمٌ للسنّة لا محالة . والمهيَع : الطريق الواضح ، من قولهم : أرض هيعة ، أي مبسوطة واسعة ؛ والميم مفتوحة وهي زائدة . وعوازم الأُمور : ما تقادم منها ، من قولهم : عجوزٌ عوْزم أي مسنّة . ويجمع « فوعل » على فواعل ، كدورق ، وهَوْجل ، ويجوز أن يكون « عوازم » جمع عازمة ، ويكون فاعل بمعنى مفعول ، أي معزوم عليها ، أي مقطوع معلوم بيقين صحتها ، ومجيء « فاعلة » بمعنى « مفعولة » كثير ، كقولهم : عيشة راضية بمعنى مرضيّة ، والأوّل أظهر عندي ؛ لأنّ في مقابلته قوله : « وإنّ محدَثاتها شرارها » والمحدَث في مقابلة القديم .

.

ص: 478

146الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام وقد استشاره عمر في الشخوص لقتال الفرس بنفسهإِنَّ هذَا الْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ نَصْرُهُ وَلاَ خِذْلاَنُهُ بِكَثْرَةٍ وَلاَ بِقِلَّةٍ . وَهُوَ دِينُ اللّهِ الَّذِي أَظْهَرَهُ ، وَجُنْدُهُ الَّذِي أَعْدَّهُ وَأَمَدَّهُ ، حَتَّى بَلَغَ مَا بَلَغَ ، وَطَلَعَ حَيْثُما طَلَعَ ؛ وَنَحْنُ عَلَى مَوْعُودٍ مِنَ اللّهِ ، وَاللّهُ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ ، وَنَاصِرٌ جُنْدَهُ . وَمَكَانُ الْقَيِّمِ بِالْأَمْرِ مَكَانُ النِّظَامِ مِنَ الْخَرَزِ يَجْمَعُهُ وَيَضُمُّهُ : فَإِنِ انْقَطَعَ النِّظَامُ تَفَرَّقَ وَذَهَبَ ، ثُمَّ لَمْ يَجْتَمِعْ بِحَذَافِيرِهِ أَبَداً . وَالْعَرَبُ الْيَومَ ، وَإِنْ كَانُوا قَلِيلاً ، فَهُمْ كَثِيرُونَ بِالاْءِسْلاَمِ ، عَزِيزُونَ بِالاِجْتِمَاعِ ! فَكُنْ قُطْباً ، وَاسْتَدِرِ الرَّحَا بِالْعَرَبِ ، وَأَصْلِهِمْ دُونَكَ نَارَ الْحَرْبِ ، فَإِنَّكَ إِنْ شَخَصْتَ مِنْ هذِهِ الأَرْض انْتَقَضَتْ عَلَيْكَ الْعَرَبُ مِنْ أَطْرَافِهَا وَأَقْطَارِهَا ، حَتَّى يَكُونَ مَا تَدَعُ وَرَاءَكَ مِنَ الْعَوْرَاتِ أَهَمَّ إِلَيْكَ مِمَّا بَيْنَ يَدَيْكَ . إِنَّ الأَعَاجِمَ إِنْ يَنْظُرُوا إِلَيْكَ غَداً يَقُولُوا : هذَا أَصْلُ الْعَرَبِ ، فَإِذَا اقْتَطَعْتُمُوهُ اسْتَرَحْتُمْ ، فَيْكُونُ ذلِكَ أَشَدَّ لِكَلَبِهِمْ عَلَيْكَ ، وَطَمَعِهِمْ فِيكَ . فَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ مَسِيرِ الْقَوْمِ إِلَى قِتَالِ المُسْلِمِينَ ، فَإِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ أَكْرَهُ لِمَسِيرِهِمْ مِنْكَ . وَهُوَ أَقْدَرُ عَلَى تَغْيِيرِ مَا يَكْرَهُ . وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ عَدَدِهِمْ ، فَإِنَّا لَمْ نَكُنْ نُقَاتِلُ فِيَما مَضَى بِالْكَثْرَةِ ، وَإِنَّمَا كُنَّا نُقَاتِلُ بِالنَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ .

الشّرْحُ :نظام العِقْد : الخيط الجامع له ، وتقول : أخذته كلّه بحذافيره ، أي بأصله ؛ وأصل الحذافير أعالي الشيء ونواحيه ؛ الواحد حِذْفار . وأصْلِهم نار الحرب : اجعلهم صالين لها ، يقال : صليتُ اللحم وغيره أصْليه صَلْيا ، مثل رميته أرميه رَمْيا ، إذا شويتَه . وعلى هذا الوجه

.

ص: 479

147 . من خطبة له عليه السلام في هدى الناس ببعثة الرسول عليه السلام ، وذكر من انحرف عن القرآن ؛ وفيها نبّه الناس إلى مواطن الرشد والغي

يحمل كلام أمير المؤمنين عليه السلام وهو مجاز من الإحراق ، والشيء الموضوع لَهَا هذا اللفظ حقيقة . والعورات : الأحوال التي يخاف انتقاضها في ثَغْر أو حرب ، قال تعالى : « يَقُولُونَ إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعوْرَةٍ » (1) . والكَلَب : الشرّ والأذى . واعلم أنّ هذا الكلام قد اختلف في الحال التي قاله فيها لعمر ، فقيل : قاله له في غَزَاة القادسيّة ، وقيل في غَزَاة نهاوَنْد . وإلى هذا القول الأخير ذهب محمد بن جرير الطبريّ في « التاريخ الكبير » ، وإلى القول الأول ذهب المدائنيّ في كتاب « الفتوح » .

147الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامفَبَعَثَ اللّهُ مُحَمَّداً صلى الله عليه و آله وسلم ، بِالْحَقِّ لِيُخْرِجَ عِبَادَهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ إِلَى عِبَادَتِهِ ، وَمِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ إِلَى طَاعَتِهِ ، بِقُرْآنٍ قَدْ بَيَّنَهُ وَأَحْكَمَهُ ، لِيَعْلَمَ الْعِبَادُ رَبَّهُمْ إِذْ جَهِلُوهُ ، وَلِيُقِرُّوا بِهِ بَعْدَ إِذْ جَحَدُوهُ ، وَلِيُثْبِتُوهُ بَعْدَ إِذْ أَنْكَرُوهُ . فَتَجَلَّى لَهُمْ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا رَأَوْهُ بِمَا أَرَاهُمْ مِنْ قُدْرَتِهِ ، وَخَوَّفَهُمْ مِنْ سَطْوَتِهِ ، وَكَيْفَ مَحَقَ مَنْ مَحَقَ بِالْمَثُ_لاَتِ . وَاحْتَصَدَ مَنِ احْتَصَدَ بِالنَّقِمَاتِ!

الشّرْحُ :الأوثان : جمع وَثَن ؛ وهو الصَّنَم ، ويجمع أيضا على وُثْن ، مثل أسَد وآساد وأُسْد ؛ وسمّي وَثَنا لانتصابه وبقائه على حال واحدة ، من قولك : وثِنَ فلان بالمكان ؛ فهو واثن : وهو الثابت الدائم . قوله : « فتجلّى سبحانه لهم » ، أي ظهر من غير أن يُرى بالبصر ، بل بما نبَّههم عليه في

.


1- .سورة الأحزاب 13 .

ص: 480

القرآن من قِصص الأولين ، وما حلّ بهم من النقمة عند مخالفة الرسل . والمَثُلات ، بضم الثاء : العقوبات .

الأصْلُ :وَإِنَّهُ سَيَأْتِي عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي زَمَانٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ أَخْفَى مِنَ الْحَقِّ ، وَلاَ أَظْهَرَ مِنَ الْبَاطِلِ ، وَلاَ أَكْثَرَ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ؛ وَلَيْسَ عِنْدَ أَهْلِ ذلِكَ الزَّمَانِ سِلْعَةٌ أَبْوَرَ مِنَ الْكِتَابِ إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلاَوَتِهِ ، وَلاَ أَنْفَقَ مِنْهُ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ؛ وَلاَ فِي الْبِلاَدِ شَيْءٌ أَنْكَرَ مِنَ الْمَعْرُوفِ ، وَلاَ أَعْرَفَ مِنَ الْمُنْكَرِ ! فَقَدْ نَبَذَ الْكِتَابَ حَمَلَتُهُ ، وَتَنَاسَاهُ حَفَظَتُهُ ؛ فَالْكِتَابُ يَوْمَئِذٍ وَأَهْلُهُ طَرِيدَانِ مَنْفِيَّانِ ، وَصَاحِبَانِ مُصْطَحِبَانِ فِي طَرِيقٍ وَاحِدٍ لاَ يُؤوِيهِمَا مُؤوٍ . فَالْكِتَابُ وَأَهْلُهُ فِي ذلِكَ الزَّمَانِ فِي النَّاس وَلَيْسَا فِيهِمْ ، وَمَعَهُمْ وَلَيْسَا مَعَهُمْ ؛ لِأَنَّ الضَّلاَلَةَ لاَ تُوَافِقُ الْهُدَى ، وَإِنِ اجْتَمَعَا . فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ عَلَى الْفُرْقَةِ ، وَافْتَرَقُوا عَنِ الْجَمَاعَةِ ، كَأَنَّهُمْ أَئِمَّةُ الْكِتَابِ وَلَيْسَ الْكِتَابُ إِمَامَهُمْ ، فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ إِلاَّ اسْمُهُ ، وَلاَ يَعْرِفُونَ إِلاَّ خَطَّهُ وَزَبْرَهُ . وَمِنْ قَبْلُ مَا مَثَّلُوا بِالصَّالِحِينَ كُلَّ مُثْلَةٍ ، وَسَمَّوْا صِدْقَهُمْ عَلَى اللّهِ فِرْيَةً ، وَجَعَلُوا فِي الْحَسَنَةِ عُقُوبَةَ السَّيِّئَةِ . وَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِطُولِ آمَالِهِمْ وَتَغَيُّبِ آجَالِهِمْ ، حَتَّى نَزَلَ بِهِمُ الْمَوْعُودُ الَّذِي تُرَدُّ عَنْهُ الْمَعْذِرَةُ ، وَتُرْفَعُ عَنْهُ التَّوْبَةُ ، وَتَحُلُّ مَعَهُ الْقَارِعَةُ وَالنِّقْمَةُ .

الشّرْحُ :أخبر عليه السلام أ نّه سيأتي على الناس زمان من صفته كذا وكذا ؛ وقد رأيناه ورآه مَن كان قبلنا أيضاً ؛ قال شُعبة إمام المحدّثين : تسعة أعشار الحديث كذب . وقال الدار قطني : ما الحديث الصحيح في الحدِيث إلاّ كالشعرة البيضاء في الثّور الأسود . وأمّا غَلبة الباطل على الحقّ حتى يخفى الحق عنده ، فظاهرة . وأبْور : أفسد ، من بار الشيء ، أي هلك . والسلعة : المتاع ،

.

ص: 481

ونبذ الكتاب : ألقاه . ولا يؤويهما : لا يضمهما إليه ، وينزلهما عنده . والزَّبْر : مصدر زبرت أزبُر بالضم ، أي كتبت ، وجاء يزبِر بالكسر ، والزِّبْر بالكسر : الكتاب ، وجمعه زبور ؛ مثل قِدْر وقدور ، وقرأ بعضهم : « وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً » (1) ، أي كتباً . والزَّبُور ، بفتح الزّاي : الكتاب المزبور ، فَعُول بمعنى مفعول ؛ وقال الأصمعيّ : سمعت أعرابيا يقول : أنا أعرف بِزِبْرَتي أي خطي وكتابتي . ومَثّلوا بالصالحين ، بالتخفيف : نَكَّلُوا بهم ، مثَلت بفلان أمثُل بالضمّ مَثْلاً بالفتح وسكون الثاء ، والاسم المُثْلة بالضم ؛ ومن روى « مَثّلوا » بالتشديد ؛ أراد جَدَعوهم بعد قتلهم . « على » في قوله : « وسمّوا صدقهم على اللّه فرية » ، ليست متعلّقة بصدقهم ، بل بفرية ، أي وسمّوا صدقهم فرية على اللّه ؛ فإن امتنع أنْ يتعلق حرف الجرّ به لتقدّمه عليه ، وهو مصدر ، فليكن متعلقا بفعل مقدّر دلّ عليه هذا المصدر الظاهر . وروي : « وجعلوا في الحسنة العقوبة السيئة » والرواية الأُولى بالإضافة أكثر وأحسن . والموعود هاهنا : الموت . والقارعة : المصيبة تقرَع ، أي تلقى بشدّة وقوة .

الأصْلُ :أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّهُ مَنِ اسْتَنْصَحَ اللّهَ وُفِّقَ ، وَمَنِ اتَّخَذَ قَوْلَهُ دَلِيلاً هُدِيَ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ؛ فَإِنَّ جَارَ اللّهِ آمِنٌ ، وَعَدُوَّهُ خَائِفٌ . وَإِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لِمَنْ عَرَفَ عَظَمَةَ اللّهِ أَنْ يَتَعَظَّمَ ، فَإِنَّ رِفْعَةَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا عَظَمَتُهُ أَنْ يَتَوَاضَعُوا لَهُ ، وَسَلاَمَةَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا قُدْرَتُهُ أَنْ يَسْتَسْلِمُوا لَهُ . فَ_لاَ تَنْفِرُوا مِنَ الْحَقِّ نِفَارَ الصَّحِيحِ مِنَ الْأَجْرَبِ ، وَالْبَارِي مِنْ ذِيالسَّقَمِ . وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَعْرِفُوا الرُّشْدَ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي تَرَكَهُ ، وَلَنْ تَأْخُذُوا بِمِيثَاقِ الْكِتَابِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَقَضَهُ ، وَلَنْ تَمَسَّكُوا بِهِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَبَذَهُ؛ فَالْتَ_مِسُوا ذلِكَ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ ، فَإِنَّهُمْ عَيْشُ الْعِلْمِ ، وَمَوْتُ الْجَهْلِ . هُمُ الَّذِينَ يُخْبِرُكُمْ

.


1- .سورة الإسراء 55 .

ص: 482

148 . من كلام له عليه السلام في ذكر أهل البصرة

حُكْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ ، وَصَمْتُهُمْ عَنْ مَنْطِقِهِمْ ، وَظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ؛ لاَ يُخَالِفُونَ الدِّينَ وَلاَ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ؛ فَهُوَ بَيْنَهُمْ شَاهِدٌ صَادِقٌ ، وَصَامِتٌ نَاطِقٌ .

الشّرْحُ :من استنصح اللّه : من أطاع أوامره وعلم أ نّه يهديه إلى مصالحه ، ويردّه عن مفاسده ويرشده إلى مافيه نجاته ، ويصرفه عمّا فيه عَطَبُه . والتي هي أقوم : يعني الحالة والخَلّة التي اتّباعها أقوم ؛ وهذا من الألفاظ القرآنية ، قال سبحانه : « إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتي هِيَ أقْوَمُ» (1) . والمراد بتلك الحالة المعرفة باللّه وتوحيده ووعدٍ له . ثم نهى عليه السلام عن التكبّر والتعظّم وقال : إن رفعةَ القَومِ الذِينَ يعرفون عظمة اللّه أن يتواضَعُوا له . وما هاهنا ، بمعنى أيّ شيء ، ومن روى بالنصب جعلها زائدة . وقد ورد في ذم التعظّم والتكبّر ما يطول استقصاؤه ؛ وهو مذموم على العباد ، فكيف بمنْ يتعظّم على الخالق سبحانه وإنه لمن الهالكين! قوله : « واعلَمُوا أنّكم لن تعرفوا الرّشد حتى تعرفوا الذي تَرَكه » ، فيه تنبيه على أنه يجب البراءة من أهل الضلال . ثم قال عليه السلام : « فالتمسوا ذلك عند أهله » ، هذا كناية عنه عليه السلام ؛ وكثيرا ما يسلك هذا المسلك ، ويعرِّض هذا التعريض ؛ وهو الصادق الأمين العارف بالأسرار الإلهية . ثم ذكر أنّ هؤلاء الذين أمَرَ باتّباعهم ينبئ حكمهم عن علمهم ، وذلك لأنّ الامتحان يظهر خبيئة الإنسان . ثم قال : « وصمتهم عن نطقهم » ، صمت العارف أبلغُ من نطق غيره ؛ ولا يخفى فضل الفاضل وإن كان صامتاً . ثم ذكر أنّهم لا يخالفون الدّين ؛ لأنهم قُوّامه وأربابه ، ولا يختلفون فيه ؛ لأنّ الحقّ في التوحيد والعدل واحد ، فالدين بينهم شاهد صادق يأخذون بحكمه ؛ كما يؤخذ بحكم الشاهد الصادق . وصامت ناطق ؛ لأ نّه لا ينطق بنفسه بل لابدّ له من مترجم ؛ فهو صامت في الصورة ، وهو في المعنى أنطق الناطقين ؛ لأنّ الأوامر والنواهي والآداب كلَّها مبنيّة عليه ، ومتفرّعة عليه .

.


1- .سورة الإسراء 9 .

ص: 483

148الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام في ذكر أهل البصرةكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرْجُو الْأَمْرَ لَهُ ، وَيَعْطِفُهُ عَلَيْهِ دُونَ صَاحِبِهِ ، لاَ يَمُتَّانِ إِلَى اللّهِ بِحَبْلٍ ، وَلاَ يَمُدَّانِ إِلَيْهِ بَسَبَبٍ . كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَامِلُ ضَبٍّ لِصَاحِبِهِ ، وَعَمَّا قَلِيل يُكْشَفُ قِنَاعُهُ بِهِ ! وَاللّهِ لَئِنْ أَصَابُوا الَّذِي يُرِيدُونَ لَيَنْتَزِعَنَّ هذَا نَفْسَ هذَا ، وَلَيَأْتِيَنَّ هذَا عَلَى هذَا . قَدْ قَامَتِ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ ، فَأَيْنَ الُْمحْتَسِبُونَ ! قَدْ سُنَّتْ لَهُمُ السُّنَنُ ، وَقُدِّمَ لَهُمُ الْخَبَرُ . وَلِكُلِّ ضَلَّةٍ عِلَّةٌ ، وَلِكُلِّ نَاكِثٍ شُبْهَةٌ . وَاللّهِ لاَ أَكُونُ كَمُسْتَمِعِ اللَّدْمِ ، يَسْمَعُ النَّاعِيَ ، وَيَحْضُرُ الْبَاكِىَ ، ثُمَّ لاَ يَعْتَبِرُ!

الشّرْحُ :ضمير التثنية راجعٌ إلى طَلْحةَ والزُّبير . ويمتّان : يتوسّلان ؛ الماضي ثلاثيِّ ؛ مَتّ يَمُتُّ بالضم . والضَّبّ : الحقد . والمحتسبون : طالبو الحِسْبة ؛ وهي الأجر (1) . ومستمع اللّدم كناية عن الضبُع ؛ تسمع وقع الحجر بباب جُحرها من يد الصائد فتنخذِل وتكفّ جوارحَها إليها حتى يدخل عليها فيربطها ؛ يقول : لا أكون مقرّا بالضيم راغنا (2) ؛ أسمع النّاعي المخبِر عن قتل عسكر الجمل لحكيم بن جبلة وأتباعه ، فلا يكون عندي من التغيير والإنكار لذلك ؛ إلاّ أن أسمعه وأحضر الباكين على قتلاهم . وقوله : « لكل ضلّه علّة ، ولكل ناكث شُبهة » هو جواب سؤال مقدّر ، كأنه يقول : إن قيل : لأيّ سبب خرج هؤلاء ؟ فإنه لابدّ أن يكون لهم تأويل في خروجهم ؛ وقد قيل : إنهم

.


1- .« ولا يمتّان إلى اللّه بحبل ... » ومعناه لم يخرج طلحة والزبير لوجه اللّه تعالى ، بل طلبا للدنيا ، وكلّ واحدٍ منهما حاقد على الآخر للتنافس على الخلافة ، ويتربص كلّ بصاحبه للخلاص منه .
2- .يقال : رغن إليه : إذا أصغى إليه .

ص: 484

149 . من كلام له عليه السلام قبل موته

يطالبون بدم عثمان ؛ فهو عليه السلام قال : كلّ ضلالة فلابدّ لها من علّة اقتضتها ، وكلّ ناكثٍ فلابدّ له من شبهة يستنِد إليها . وقوله : « لينتزعَنّ هذا نفس هذا » قول صحيح لا ريبَ فيه ؛ لأنّ الرئاسة لا يمكن أنْ يدبّرها اثنان معاً ، فلو صحّ لهما ما أراداه لوثب أحدهما على الآخر فقتله ؛ فإن الملك عقيم ؛ وقد ذكَرَ أربابُ السّيرة أنّ الرجلين اختلفا من قَبْلِ وقوع الحرب ، فإنهما اختلفا في الصلاة ، فأقامت عائشة محمد بن طلحة وعبد اللّه بن الزبير ؛ يصلي هذا يوماً ، وهذا يوماً ، إلى أن تنقضيَ الحرب . ثم إنّ عبد اللّه بن الزبير ادّعى أنّ عثمان نصّ عليه بالخلافة يوم الدار ، واحتجّ في ذلك بأنّه استخلفه على الصلاة ، واحتجّ تارة أُخرى بنصّ صريح زعمه وادّعاه . واختلفا في تولّى القتال ، فطلبه كلّ منهما أولا ، ثم نكَلَ كلٌّ منهما عنه وتفادَى منه .

149الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام قبل موتهأَيُّهَا النَّاسُ ، كُلُّ امْرِئٍ لاَقٍ مَا يَفِرُّ مِنْهُ فِي فِرَارِهِ ، والْأَجَلُ مَسَاقُ النَّفْس . وَالْهَرَبُ مِنْهُ مُوَافَاتُهُ . كَمْ أَطْرَدْتُ الأَيَّامَ أَبْحَثُهَا عَنْ مَكْنُونِ هذَا الأَمْرِ ، فَأَبَى اللّهُ إِلاَّ إِخْفَاءَهُ . هَيْهَاتَ ! عِلْمٌ مَخْزُونٌ! أَمَّا وَصِيَّتِي : فَاللّهَ لاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ، وَمُحَمَّداً صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ، فَ_لاَ تُضَيِّعُوا سُنَّتَهُ . أَقِيمُوا هذَيْن الْعَمُودَيْنِ ، وَأَوْقِدُوا هذَيْنِ الْمِصْبَاحَيْنِ ، وَخَلاَكُمْ ذَمُّ مَا لَمْ تَشْرُدُوا . حُمِّلَ كُلُّ امْرِئٍ مِنْكُمْ مَجْهُودَهُ ، وَخُفِّفَ عَنِ الْجَهَلَةِ . رَبٌّ رَحِيمٌ ، وَدِينٌ قَوِيمٌ ، وَإِمَامٌ عَلِيمٌ . أَنَا بِالْأَمْس صَاحِبُكُمْ ، وَأَنَا الْيَوْمَ عِبْرَةٌ لَكُمْ ، وَغَداً مُفَارِقُكُمْ ! غَفَرَ اللّهُ لِي وَلَكُمْ!

.

ص: 485

إِنْ ثَبَتَتِ الْوَطْأَةُ فِي هذِهِ الْمَزَلَّةِ فَذَاكَ ، وَإِنْ تَدْحَضِ الْقَدَمُ فَإِنَّا كُنَّا فِي أَفْيَاءِ أَغْصَانٍ ، وَمَهَبِّ رِيَاحٍ ، وَتَحْتَ ظِلِّ غَمَامٍ ، اضْمَحَلَّ فِي الْجَوِّ مُتَلَفِّقُهَا ، وَعَفَا فِي الأرْض مَخَطُّهَا . وَإِنَّمَا كُنْتُ جَاراً جَاوَرَكُمْ بَدَنِي أَيَّاماً ، وَسَتُعْقَبُونَ مِنِّي جُثَّةً خَلاَءً سَاكِنَةً بَعْدَ حَرَاكٍ ، وَصَامِتَةً بَعْدَ نُطْقٍ . لِيَعِظْكُمْ هُدُوِّي ، وَخُفُوتُ إِطْرَاقِي ، وَسُكُونُ أَطْرَافِي ، فَإِنَّهُ أَوْعَظُ لِلْمُعْتَبِرِينَ مِنَ الْمَنْطِقِ الْبَلِيغِ ، وَالْقَوْلِ الْمَسْمُوعِ . وَدَاعِي لَكُمْ وَدَاعُ امْرِئٍ مُرْصَدٍ لِلتَّ_لاَقِي ! غَداً تَرَوْنَ أَيَّامِي ، وَيُكْشَفُ لَكُمْ عَنْ سَرَائِرِي ، وَتَعْرِفُونَنِي بَعْدَ خُلُوِّ مَكَانِي ، وَقِيَامِ غَيْرِي مَقَامِي .

الشّرْحُ :أطردتُ الرجل ، إذا أمرتَ بإخراجه وطردِه ، وطردتُه إذا نفيتَه وأخرجتَه ؛ فالإطّراد أدَلّ على العزّ والقهر من الطرد ، وكأنه عليه السلام جعل الأيام أشخاصا يأمر بإخراجهم وإبعادهم عنه ، أي ما زِلْتُ أبحث عن كيفيّة قتلي ، وأيّ وقت يكون بعينه ، وفي أيّ أرض يكون ، يوماً يوماً ، فإذا لم أجده في اليوم أطردته واستقبلت غده ؛ فأبحث فيه أيضا ، فأبعده وأطرده ، وأستأنف يوماً آخر ، هكذا حتى وقع المقدور (1) . أمّا قوله : « كلّ أمرئ لاق ما يفرّ منه في فراره » ، أي إذا كان مقدوراً ، وإلاّ فقد رأينَا مَنْ يفرّ من الشيء ويسلم ؛ لأ نّه لم يقدّر ، وهذا من قوله تعالى : « وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوج مُشَيَّدَةٍ » (2) ،

.


1- .قال الشيخ المفيد ؛ في ( المسائل العكبرية ) : القول بأنّ أمير المؤمنين عليه السلام يعلم قاتله والوقت الذي يقتل فيه ؛ فقد جاء الخبر متظافرا أ نّه كان يعلم في الجملة أ نّه مقتول ، وجاء أيضا بأنّه يعلم قاتله على التفصيل ؛ فأمّا علمه بوقت قتله فلم يأتِ أثرٌ على التحصيل ، ولو جاء به أثر لم يلزم فيه ما يظنّه المعترضون ؛ إذ كان لا يمتنع أن يعبّده اللّه تعالى بالصبر على الشهادة والاستسلام للقتل ، ليبلغه بذلك علو الدرجات ما لا يبلغه إلاّ به ، بأنّه يطيعه في ذلك طاعة لو كلّفها سواه لم يردّها ، ولا يكون بذلك ملقيا بيده إلى التهلكة ، ولا معينا على نفسه معونة تستقبح في العقول .
2- .سورة النساء 78 .

ص: 486

وقوله : « لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إلَى مَضَاجِعِهِمْ » (1) ، ومن قوله تعالى : « قلْ إنَّ الموتَ الَّذِي تَفِرّون مِنْهُ فإنهُ مُلاقِيكُمْ » (2) ، وفي القرآن العزيز مثل هذا كثير . قوله : « والأجل مَسَاق النفس » أي الأمر الذي تساق إليه ، وتنتهي عندهم ، وتقف إذا بلغتْه فلا يبقى له حينئذٍ أكلة في الدنيا . قوله : « والهرب منه موافاتُه » ، هذا كلام خارج مخرج المبالغة في عدم النّجاة ، وكون الفرار غيرَ مغْنٍ ولا عاصم من الموت ، يقول : الهرب بعينه من الموت موافاة للموت ، أي إتيان إليه ، كأنه لم يرتض بأن يقول : الهارب لابدّ أن ينتهيَ إلى الموت ، بل جعل نفس الهرب هو ملاقاة الموت . قوله : « أبحثها » أي أكشفها ، وأكثر ما يستعمل « بحث » مُعَدّىً بحرف الجر ، وقد عدّاه هاهنا إلى « الأيام » بنفسه وإلى « مكنون الأمر » بحرف الجرّ . قوله : « فأبى اللّه إلاّ إخفاءه ، هيهات علم مخزون » ! تقديره : هيهات ذلك ! مبتدأ وخبره ، هيهات اسم للفعل ، معناه بعد ، أي علْم هذا الغيب علم مخزون مصون . قوله : « فاللّهَ لا تشركوا به شيئا » الرواية المشهورة « فاللّهَ » بالنصب ؛ وكذلك « محمداً » بتقدير فعل ؛ لأنَّ الوصية تستدعي الفعل بعدها ، أي وحّدُوا اللّه ، وقد روي بالرفع ؛ وهو جائز على المبتدأ والخبر . قوله : « أقيموا هذين العمودين ، وأوقدوا هذين المصباحين ، وخَلاَكم ذمّ ما لم تشرُدوا » ، كلام داخلٌ في باب الاستعارة ، شبّه الكتاب والسنّة بعمودَيِ الخيْمة ، وبمصباحَيْن يُستضاء بهما . وخَلاَكم ذمٌّ : كلمة جارية مجرى المثل ، معناها : ولا ذمّ عليكم ، فقد أعذرتمُ . وذمّ ، مرفوع بالفاعلية ، معناه : عَدَاكم وسقَط عنكم . قلت : مراده بقوله : « ما لم تشردوا » ما لم ترجعوا عن ذلك ، فكأنه قال : خلاكم ذمّ إن وحّدتم اللّه واتّبعتم سنة رسوله ، ودمتم على ذلك . قوله : « حمِّل كلّ امرئ مجهوده ، وخُفِّفَ عن الجهلة » ، هذا كلام متّصل بما قبله ؛ لأ نّه لما قال : « ما لم تشرُدُوا » أنبأ عَنْ تكليفهم كلّ ما وردت به السنّة النبوية ، وأن يدوموا عليه ؛ وهذا في الظاهر تكليفُ أُمورٍ شاقة ، فاستدرك بكلامٍ يدلّ على التخفيف ، فقال : إن التكاليف على قَدْرِ المكلّفين ، فالعلماء تكليفهم غير تكليف العامة ، وأرباب الجهل عند المكلفين غير مكلّفين ، إلاّ بحمل التوحيد والعدل ،

.


1- .سورة آل عمران 154 .
2- .سورة الجمعة 8 .

ص: 487

بخلاف العلماء الذين تكليفهم الأُمور المفصّلة وحلّ المشكلات الغامضة . وقد روي « حَمَل » على صيغة الماضي ، و « مجهودَه » بالنصب ، و « خَفّفَ » على صيغة الماضي أيضاً ، ويكون الفاعل هو اللّه تعالى المقدّم ذكره ، والرواية الأُولى أكثر وأليق . ثم قال : « ربّ رحيم » أي ربّكم رب رحيم . ودين قويم ، أي مستقيم . وإمام عليم ، يعني رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . ثم دعا لنفسه ولهم بالغفران . ثم قسّم الأيام الماضية والحاضرة والمستقبلة قسمة حسنة ، فقال : « أنا بالأمس صاحبكم ، وأنا اليوم عِبْرة لكم ، وغداً مفارقكم » إنما كان عبرةً لهم ؛ لأنهم يروْنه بين أيديهم ملقىً صريعا بعد أن صَرَع الأبطال ، وقتل الأقران . ويقال : دَحَضت قدمُ فلان ، أي زلّت وزَلَقت . ثم شبّه وجوده في الدنيا بأفياء الأغصان ومهابّ الرياح وظلال الغمام ؛ لأنّ ذلك كلّه سريع الانقضاء لاثبات له . قوله : « اضمحلّ في الجوّ متلفّقُها ، وعَفَا في الأرض مَخَطُّها » ، اضمحلّ ذهب ، والميم زائدة ، ومنه الضّحْل وهو الماء القليل ، واضمحلّ السحاب : تقشّع وذهب ، وفي لغة الكلابيين امضحلّ الشيء بتقديم الميم . ومتلفّقها : مجتمعها ، أي ما اجتمع من الغيوم في الجو ؛ والتلفيق : الجمع . وعَفَا : دَرَس . ومخطّها : أثرها ؛ كالخطة . قوله : « وإنما كنتُ جارا جاوركم بَدَنِي أياما » ، في هذا الكلام إشعار بما يذهب إليه أكثر العقلاء من أمر النّفس ، وأنّ هويّة الإنسان شيء غير هذا البدَن . وقوله : « ستعقَبون مِنّي » أي إنما تجدون عَقيب فقدي جُثّة ؛ يعني بدنا خلاء ، أي لا رُوح فيه ؛ بل قد أقفر من تلك المعاني التي كنتم تعرفونها وهي العقل والنطق والقوّة وغير ذلك . ثم وَصف تلك الجُثّة فقال : « ساكنة بعد حَرَاك » بالفتح ، أي بعد حَرَكة « وصامتة بعد نطق » . وهذا الكلام أيضا يُشعِر بما قلناه من أمرِ النّفْس ، بل يصرّح بذلك ، ألا تراه قال : « ستعقبون مني جثّة » ، أي تستبدلون بي جثّة صفتها كذا ؛ وتلك الجثّة جثته عليه السلام . قوله : « ليعظكم هدوّى » ، أي سكوني ، وَخفوت إطراقي ، مثله خَفَت خُفوتاً سكن ، وَخفت خُفاتاً مات فجأة . وإطراقه : إرخاؤه عينيه ينظر إلى الأرض ، لضعفه عن رفع جفْنه . وسكون أطرافه : يداه ورجلاه ورأسه عليه السلام . قال : « فإنه أوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ ، والقول المسموع » ؛ وصدق عليه السلام ! فإنّ خَطْبا أخرس ذلك اللسان ، وَهدّ تلك القُوَى لخطبٌ جليل ، ويجب أن يتّعظ العقلاء به . وما عسى يبلغ قول الواعظين بالإضافة إلى مَنْ شاهد

.

ص: 488

150 . من خطبة له عليه السلام يومئ فيها إلى الملاحم

تلك الحال ، بل بالإضافة إلى من سمعها ، وأفكر فيها ، فضلاً عن مشاهدتها عِياناً . ثم قال عليه السلام : وَدّعتكم وَداع امرئٍ مرصد للتّلاقي ، أرصدته لكذا ، أي أعددته له ، وفي الحديث : «إلاّ أن أرصدَه لديْنٍ عَلَيّ » . والتلاقِي هاهنا : لقاء اللّه . ويروى : « ودَاعِيكم » أي وداعي إياكم ، والوَداع مفتوح الواو . ثم قال : « غداً ترون أيامي ، ويكشف لكم عن سرائري ، وتعرفونني بعد خلُوّ مكاني ، وقيام غيري مقامي » ؛ هذا معنىً قد تداوله الناس قديما وحديثا . قال أبو تمام : رَاحَتْ وفود الأرض عَن قَبْرِهفارغة الأيدي مِلاَءَ القُلُوبْ قد علمتْ ما رزئت إنّمايُعرف قدرُ الشمس بعد الغروبْ وإنما قال عليه السلام : « ويكشف لكم عن سرائري » ؛ لأنهم بعد فقده وموته يظهر لهم ويثبت عندهم إذا رأوا وشاهدوا إمرة مَنْ بعده ، أنه إنما كان يريد بتلك الحروب العظيمة وجه اللّه تعالى ، وألاّ يظهر المنكر في الأرض ، وإن ظنّ قوم في حياته أ نّه كان يريد الملك والدنيا .

150الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلام ويومئ فيها إلى الملاحموَأَخَذُوا يَمِيناً وَشِمَالاً ظَعْنَاً فِي مَسَالِكِ الْغَيِّ ، وَتَرْكاً لِمَذَاهِبِ الرُّشْدِ .فَ_لاَ تَسْتَعْجِلُوا مَا هُوَ كَائِنٌ مُرْصَدٌ ، وَلاَ تَسْتَبْطِئُوا مَا يَجِيءُ بِهِ الْغَدُ . فَكَمْ مِنْ مُسْتَعْجِلٍ بِمَا إِنْ أَدْركَهُ وَدَّ أَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْهُ .وَمَا أَقْرَبَ الْيَوْمَ مِنْ تَبَاشِيرِ غَدٍ! يَاقَوْمِ ، هذَا إِبَّانُ وُرُودِ كُلِّ مَوْعُودٍ ، وَدُنُوٍّ مِنْ طَلْعَةِ مَا لاَ تَعْرِفُونَ . أَلاَ وَإِنَّ مَنْ أَدْرَكَهَا مِنَّا يَسْرِي فِيهَا بِسِرَاجٍ مُنِيرٍ ، وَيَحْذُو فِيهَا عَلَى مِثَالِ الصَّالِحِينَ ، لِيَحُلَّ فِيهَا رِبْقاً ، وَيُعْتِقَ فِيهَا رِقّاً ، وَيَصْدَعَ شَعْباً ، وَيَشْعَبَ صَدْعاً ، فِي سُتْرَةٍ عَنِ النَّاس لاَ يُبْصِرُ

.

ص: 489

الْقَائِفُ أَثَرَهُ وَلَوْ تَابَعَ نَظَرَهُ . ثُمَّ لَيُشْحَذَنَّ فِيهَا قَوْمٌ شَحْذَ الْقَيْنِ النَّصْلَ تُجْلَى بِالتَّنْزِيلِ أَبْصَارُهُمْ ، وَيُرْمَى بِالتَّفْسِيرِ فِي مَسَامِعِهمْ ، وَيُغْبَقُونَ كَأْسَ الْحِكْمَةِ بَعْدَ الصَّبُوحِ!

الشّرْحُ :يذكر عليه السلام قوما من فرق الضلال أخذوا يميناً وشمالاً ، أي ضلّوا عن الطريق الوسطى التي هي منهاج الكتاب والسنّة ؛ وذلك لأنّ كلّ فضيلة وحقّ فهو محبوس بطرَفيْن خارجين عن العدالة ، وهما جانبا الإفراط والتفريط . فمن لم يقعْ على الطريق الوسطى وأخذ يمينا وشمالاً فقد ضلّ . ثم فسّر قوله : « أخذ يمينا وشمالاً » ، فقال : « ظعنوا ظعناً في مسالك الغيّ، وتركوا مذاهب الرشد تركا » . ونصب « تركاً » و « ظعناً » على المصدرية ، والعامل فيهما من غير لفظهما ؛ وهو قوله : « أخذوا » . ثم نهاهم عن استعجال ما هو معدّ ، ولابدّ من كونه ووجوده ، وإنما سماه كائناً لقرب كونه ، كما قال تعالى : « إنّكَ مَيِّتٌ وَإنَّهُمْ مَيِّتُونَ » (1) ، ونهاهم أن يستبطئوا ما يجيء في الغد لقرب وقوعه ، كما [قيل] : وإن غدا للناظرين قريب . وتباشير الصبح : أوائله . ثم قال : يا قومُ قد دنَا وَقت القيامة ، وَظهور الفتن التي تظهر أمامها . وإبّان الشيء ، بالكسر وَالتشديد : وَقته وَزمانه ، وَكنى عن تلك الأهوال بقوله : « وَدُنُوٍّ من طلعة ما لا تعرفون » ؛ لأنّ تلك الملاحم والأشراط الهائلة غير معهود مثلُها ، نحو دابّة الأرض ، والدجّال وَفتنته ، وَما يظهر على يده من المخاريق وَالأُمور الموهِمة ، وَواقعة السُّفيانيّ وَما يقتل فيها من الخلائق الذين لا يحصَى عددهم . ثم ذكر أن مهديّ آل محمد صلى الله عليه و آله وسلم ، وهو الذي عنى بقوله : وإنّ مَنْ أدرَكَها منّا يسري في ظلمات هذه الفتن بسراج منير ، وهو المهديّ ، واتّباع الكتاب والسنة . ويحذُو فيها : يقتفي ويتّبع مثال الصالحين ، ليحلّ في هذه الفتن . ورِبقا : أي حبلاً معقوداً . ويعتِقُ رِقّاً ، أي يستفِكّ أسْرَى ، وينقذ مظلومين من أيدي ظالمين . ويصدَع شَعبا ، أي يفرّق جماعة من جماعات الضلال . ويشعَبُ صَدْعاً : يجمع ما تفرّق من كلمة أهل الهدى والإيمان .

.


1- .سورة الزمر 30 .

ص: 490

قوله عليه السلام : « في سترة عن الناس » ، هذا الكلام يدلّ على استتار هذا الإنسان المشار إليه ، ثم يظهر بعد ذلك الاستتار ؛ ويملك الممالك ؛ ويقهر الدّول ؛ ويمهّد الأرض ؛ كما ورد في قوله : « لا يبصِر القائف » ، أي هو في استار شديدٍ لا يدركه القائف ، وهو الذي يعرف الآثار ، والجمع « قَافة » ، ولا يعرف أثره ولو استقصى في الطلب ؛ وتابع النّظر والتأمل . ويقال : شَحَذْتُ السّكين أشحَذُه شَحْذاً ، أي حدّدتَه ، يريد : لَيُحَرّضنّ في هذه الملاحم قوم على الحرب وقتل أهل الضلال ، ولتُشحَذنّ عزائمهم كما يشحَذ الصَّيْقل السيف ، ويرقّق حَدّه . ث_م وصف هؤلاء القوم المشحوذِي العزائم ؛ فقال : تجْلَى بصائرُهم بالتنزيل ، أي يكشف الرَّيْن والغطاء عن قلوبهم بتلاوة القرآن وإلهامهم تأويلَه ومعرفة أسراره . ثم صرّح بذلك فقال : « ويرمي بالتفسير في مسامعهم » ، أي يكشف لهم الغطاء ، وتخلَق المعارف في قلوبهم ، ويلهَمون فَهْمَ الغوامض والأسرار الباطنة ، ويغبَقون كأسَ الحكم بعد الصّبوح ، أي لا تزال المعارف الربّانية والأسرار الإلهية تفيض عليهم صباحاً ومساءً ؛ فالغَبوق كناية عن الفيْض الحاصل لهم في الآصال ، والصّبوح كناية عمّا يحصل لهم منه في الغَدَوات ، وهؤلاء هم العارفون الذين جمعوا بي_ن الزهد والحكمة والشجاعة ؛ وحقيق بمثلهم أن يكونوا أنصارا لوليّ اللّه الذي يجتبيه ، ويخلقه 1 في آخر أوقات الدنيا ، فيكون خاتمة أوليائه ،

.

ص: 491

والذي يلقى عصا التكليف عنده .

الأصْلُ :منها :وَطَالَ الْأَمَدْ بِهِمْ لِيَسْتَكْمِلُوا الْخِزْيَ ، وَيْسْتَوْجِبُوا الْغِيَرَ حَتَّى إِذَا اخْلَوْلَقَ الْأَجَلُ ، وَاسْتَرَاحَ قَوْمٌ إِلَى الْفِتَنِ ، وَاشْتَالُوا عَنْ لَقَاحِ حَرْبِهِمْ ، لَمْ يَمُنُّوا عَلَى اللّهِ بِالصَّبْرِ ، وَلَمْ يَسْتَعْظِمُوا بَذْلَ أَنْفُسِهِمْ فِي الْحَقِّ؛ حَتَّى إِذَا وَافَقَ وَارِدُ الْقَضَاءِ انْقِطَاعَ مُدَّةِ الْبَلاَءِ ، حَمَلُوا بَصَائِرَهُمْ عَلَى أَسْيَافِهمْ ، وَدَانُوا لِرَبِّهِمْ بَأَمْرِ وَاعِظِهِمْ .

.

ص: 492

الشّرْحُ :هذا الكلام يتّصل بكلام قبله ، لم يذكره الرضيّ ؛ ، وهو وصف فئة ضالّة قد استولتْ ومَلكت ، وأملى لها اللّه سبحانه . قال عليه السلام : وطال الأمدُ بهم ليستكملوا الخزْي ، ويستوجبوا الغِيَر ، أي النعم التي يغيّرها بهم من نعم اللّه سبحانه ، كما قال : « وَإذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرا » (1) . حتى إذا اخلولَق الأجَل ، أي قارب أمرُهم الانقضاءَ ، من قولك : اخلولق السّحاب ، أي استوى ، وصار خليقا بأن يمطر ، واخلولق الرسمُ : استوى مع الأرض . واستراح قوم إلى الفتن ، أي صبا قومٌ من شيعتنا وأوليائنا إلى هذه الفئة ، واستراحوا إلى ضلالها وفتنتها ، واتّبعوها . واشتالوا عن لَقاح حَرْبهم ، أي رفعوا أيديهم وسيوفهم عن أن يشبّوا الحرب بينهم وبين هذه الفئة ، مهادَنةً لها وسلماً وكراهية للقتال ، يقال : شال فلان كذا ، أي رفعه ، واشتال « افتعل » هو في نفسِه ، كقولك : حَجَم زيد عمراً ، واحتجم هو نفسُه . ولَقاح حربهم : هو بفتح اللام ، مصدر من لَقحت الناقة . قوله : « لم يمنُّوا » ، هذا جواب قوله : « حتى إذا » ، والضمير في « يمنّوا » راجع إلى العارفين الذين تقدّم ذكرهم في الفصل السابق ذكره ، يقول : حتى إذا ألقى هؤلاء السّلام إلى هذه الفئة عجزا عن القتال ، واستراحوا من منابذتهم بدخولهم في ضلالتهم وفتنتهم ، إمّا تقيَّة منهم ، أو لشبهة دخلت عليهم ، أنهض اللّه تعالى هؤلاء العارفين الشجعان الّذين خصّهم بحكمته ، وأطلعهم على أسرار مَلكوته فنهضوا ، ولم يمنُّوا على اللّه تعالى بصبرِهم ، ولم يستعظموا أن يبذُلوا في الحقّ نفوسَهم ؛ قال : حتّى إذا وافق قضاء اللّه تعالى وقَدَره كي ينهض هؤلاء بقضاء اللّه وقدره في انقضاء مدة تلك الفئة ، وارتفاع ما كان شَمِل الخلْق من البلاء بملكها وإمْرتها ، حَمل هؤلاء العارفون بصائرَهم على أسيافهم . وهذا معنى لطيف ، يعني أنّهم أظهروا بصائرهم وعقائدهم وقلوبهم للناس ، وكشفوها وجرّدوها من أجفانها ، مع تجريد السيوف من أجفانها ، فكأنها شيء محمول على السيوف يبصره مَنْ يبصرِ السيوف ، ولا ريبَ أنّ السيوف المجرّدة من أجلى الأجسام للأبصار ، فكذلك ما يكون محمولاً عليها ، ومِن النّاس مَنْ فسّر هذا الكلام ، فقال : أراد بالبصائر جمع بصيرة ، وهو الدم ، فكأنه أراد طلبوا ثأرهم والدماء التي سفكتها هذه الفئة ، وكأنّ تلك الدماء المطلوب ثأرها محمولة

.


1- .سورة الاسراء 16 .

ص: 493

على أسيافهم التي جَرّدوها للحرب .

الأصْلُ :حَتَّى إِذَا قَبَضَ اللّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ، رَجَعَ قَوْمٌ عَلَى الْأَعْقَابِ ، وَغَالَتْهُمُ السُّبُلُ ، وَاتَّكَلُوا عَلَى الْوَلاَئِجِ ، وَوَصَلُوا غَيْرَ الرَّحِمِ ، وَهَجَرُوا السَّبَبَ الَّذِي أُمِرُوا بِمَوَدَّتِهِ ، وَنَقَلُوا الْبِنَاءَ عَنْ رَصِّ أَسَاسِهِ ، فَبَنَوْهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ . مَعَادِنُ كُلِّ خَطِيئَةٍ ، وَأَبْوَابُ كُلِّ ضَارِبٍ فِي غَمْرَةٍ . قَدْ مَارُوا فِي الْحَيْرَةِ ، وَذَهَلُوا فِي السَّكْرَةِ ، عَلَى سُنَّةٍ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ : مِنْ مُنْقَطِعٍ إِلَى الدُّنْيَا رَاكِنٍ ، أَوْ مُفَارِقٍ لِلدِّينِ مُبَايِنٍ .

الشّرْحُ :رجعوا على الأعقاب : تركوا ما كانوا عليه ، قال سبحانه : « وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئا » (1) . وغالتْهم السُّبُل : أهلكَهُم اختلاف الآراءِ والأهواء ، غاله كذا ، أي أهلكه ، والسُّبُل : الطرق . والولائج : جمع وَلِيجة ، وهي البِطَانة يتّخذها الإنسان لنفسه ، قال سبحانه : « وَلَم يتّخِذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً » (2) . ووصلوا غير الرَّحِم ، أي غير رحِم الرسول صلى الله عليه و آله وسلم ، فذكرها عليه السلام ذِكْرا مطلقا غير مضاف للعلْم بها ، كما يقول القائل : « أهل البيت » ، فيعلم السامع أنه أراد أهلَ بيت الرسول . وهَجَرُوا السبب ، يعني أهلَ البيت أيضا ؛ وهذه إشارة إلى قول النبي صلى الله عليه و آله وسلم : « خَلَّفْتُ فيكم الثَّقَليْن : كتاب اللّه وعِترتي أهل بيتي ؛ حبْلان ممدودان من السماء إلى الأرض ، لا يفترقان حتى يرِدَا عليّ الحوض » (3) ، فعبّر أمير

.


1- .سورة آل عمران 144 .
2- .سورة التوبة 16 .
3- .الحديث مما أجمعت واتفقت الأئمة والحفّاظ على صحّته ، حتى إنّ البعض أرسله إرسال المسلّمات . وممّن أخرجه على سبيل المثال : الإمام مسلم في صحيحه 5 : 26 _ 27 ح36 و37 ، وأحمد ابن حنبل في المسند : الأحاديث / 10720 و10747 و18780 و21068 ، والسيوطي في تفسيره الدر المنثور 2 : 60 في تفسير الآية (103) من سورة آل عمران . كما أخرجه ملك الحفّاظ ابن مردويه من تسعة وثمانين طريقاً .

ص: 494

المؤمنين عن أهل البيت بلفظ « السبب » لمّا كان النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : « حَبْلان » ، والسبب في اللغة : الحبل . عَنَى بقوله : « أُمِرُوا بمودّته » قولَ اللّه تعالى : « قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرا إلاّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى » (1) . قوله : « ونقلوا البناء عن رصّ أساسه » ؛ الرّصّ مصدر رَصَصْت الشيء أرصّه ، أي ألصقت بعضه ببعض ؛ ومنه قوله تعالى : « كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ » (2) ، وتَراصّ القوم في الصف ، أي تلاصقوا . فبنوْه في غير موضعه ! ونقلوا الأمر عن أهله إلى غير أهله . ثم ذمّهم عليه السلام ، وقال : « إنّهم معادن كلّ خطيئة ، وأبواب كل ضاربٍ في غَمْرة » ، الغمرة : الضّلال والجهل . والضّارب فيها : الداخل المعتقد لها . قد ماروا في الحيْرة ، مارَ يمُور إذا ذهب وجاء ، فكأنّهم يسبحون في الحيرة كما يَسْبَح الإنسان في الماء . وذهَل فلان ، بالفتح ، يذْهَل . على سنّة من آل فرعون ، أي على طريقة ، وآل فرعون : أتباعه ، قال تعالى : « أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ » (3) . من منقطِع إلى الدنيا : لا همّ له غيرها . راكن : مخلِد إليها ، « وَلاَ تَرْكَنُوا إلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا » (4) . أو مفارق للدين مباين : مزايل . فإن قلت : أيّ فَرْق بين الرَّجُلين ؟ وهل يكون المنقطِع إلى الدنيا إلاّ مفارقاً للدين؟ قلت : قد يكون في أهل الضلال مَنْ هو مفارق للدين مباين ؛ وليس براكنٍ إلى الدنيا ولا منقطِع إليها ؛ كما نرى كثيرا من أحْبَار النصارى ورهبانهم . فإن قلت : أليس هذا الفصل صريحا في تحقيق مذهب الإمامية؟ قلت : لا ، بل نحمله على أنه عَنَى عليه السلام أعداءه الذين حاربوه من قريش وغيرهم من أفناء العرب ، في أيام صِفّين ، وهم الذين نقلوا البناء ، وهجروا السبب ، ووصلُوا غَير الرَّحِم ، واتّكلوا على الولائج ، وغالتهم السُبل ، ورجعوا على الأعقاب ؛ كعمرو بن العاص ، والمغيرة ابن شعبة ، ومَرْوان بن الحكم ، والوليد بن عُقْبة ، وحبيب بن مسلَمة ، وبُسْر بن أرطاة ، وعبد

.


1- .سورة الشورى 23 .
2- .سورة الصف 4 .
3- .سورة غافر 46 .
4- .سورة هود 113 .

ص: 495

اللّه بن الزبير ، وسعيد بن العاص ، وحوشب ، وذِي الكَلاع ، وشُرَحْبيل بن السّمط ، وأبي الأعور السلميّ ؛ وغيرهم ممن تقدّم ذكرُنا له في الفصول المتعلّقة بصِفّين وأخبارها ، فإنّ هؤلاء نقلوا الإمامة عنه عليه السلام إلى معاوية ، فنقلوا البناء عن رصّ أصله إلى غير موضعه . فإن قلت : لفظ الفصل يشهدُ بخلاف ما تأوّلتَه ؛ لأ نّه قال عليه السلام : حتى إذا قبض اللّه رسوله رجع قوم على الأعقاب ، فجعل رجوعَهم على الأعقاب عَقِيب قَبْض الرسول صلى الله عليه و آله وسلم، وما ذكرتَه أنتَ كان بعد قَبْض الرّسول بنيّف وعشرين سنة! قلت : ليس يمتنع أن يكونَ هؤلاء المذكورون رجعوا على الأعقاب ، لمّا مات رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وأضْمَرُوا في أنفسهم مشاقّة أمير المؤمنين وأذاه ، وقد كان فيهم مَنْ يتحكّك به في أيام أبي بكر وعمر وعثمان ، ويتعرّض له ؛ ولم يكن أحدٌ منهم ولا من غيرهم يُقدِم على ذلك في حياة رسول اللّه . ولا يمتنع أيضا أن يريد برجوعهم على الأعقاب ارتدَادهم عن الإسلام بالكلّيّة ، فإنّ كثيرا من أصحابنا يطعنون في إيمان بعض مَنْ ذكرناه ويعدّونهم من المنافقين ، وقد كان سيفُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم يقمَعُهم ، ويردَعُهم عن إظهار ما في أنفسهم من النّفاق ، فأظهر قومٌ منهم بعده ما كانوا يضْمِرُونه من ذلك ؛ خصوصا فيما يتعلّق ب أمير المؤمنين ، الذي وَرَد في حقّه : « ما كنّا نعرِفُ المنافِقِين عَلَى عَهْدِ رسول اللّه إلاّ ببغض عليّ ابن أبي طالب » ، وهو خَبَرٌ محقّق مذكور في الصّحاح. فإن قلت : يمنعك من هذا التأويل قوله : « ونقلوا البنَاء عن رصّ أساسه ، فجعلوه في غير موضعه » ، وذلك لأنّ « إذا » ظرف ؛ والعامل فيها قوله : « رجع قومٌ على الأعقاب » وقد عطف عليه قوله : « ونقلوا البناء » ؛ فإذا كان الرّجوع على الأعقاب واقعا في الظروف المذكور ، وهو وقت قبض الرسول ، وجَب أن يكون نقل البناء إلى غير موضعه واقعا في ذلك الوقت أيضا ؛ لأنّ أحد الفعلين معطوف على الآخر ، ولم ينقلْ أحدٌ وقتَ قبض الرسول صلى الله عليه و آله وسلمالبناءَ إلى معاوية عن أمير المؤمنين عليه السلام ، وإنّما نُقِل عنه إلى شخص آخر ، وفي إعطاء العطف حقّه إثبات مذهب الإماميّة صريحا! قلت : إذا كان الرجوعُ على الأعقاب واقعا وقت قبْض النبي صلى الله عليه و آله وسلم فقد قمنا بما يجبُ من وجود عامل في الظرف ، ولا يجب أن يكون نقل البناء إلى غير موضعه واقعا في تلك الحال أيضا ، بل يجوز أن يكون واقعا في زمان آخر ؛ إمّا بأن تكون الواو للاستئناف لا للعطف ، أو بأن تكون للعطف في مطلق الحدث لا في وقوع الحَدث في عين ذلك الزّمان المخصوص ،

.

ص: 496

كقوله تعالى : « حَتَّى إَذا أتَيَا أهلَ قَرْيَةٍ استَطْعَمَا أهْلَهَا فَأَبَوْا أنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارا يُريِدُ أَنْ يَنْقَضّ فَأَقَامَهُ » (1) ؛ فالعامل في الظرف « استطعما » ويجب أن يكون استطعامهما وقت إتيانهما أهلَها لا محالة . ولا يجب أن تكون جميع الأفعال المذكورة المعطوفة واقعة حال الإتيان أيضا ؛ ألا ترى أنّ من جملتها « فأقامه » ولم يكن إقامَة الجدار حال إتيانهما القرية بل متراخيا عنه بزمان ما ؛ اللهم إلا أن يقول قائل : أشار بيده إلى الجدار فقام ، أو قال له ؛ قم ، فقام ، لأ نّه لا يمكن أن يجعل إقامة الجدار مقارنا للإتيان إلاّ على هذا الوجه ؛ وهذا لم يكن ، ولا قاله مفسّر . ولو كان قد وقع على هذا الوجه لما قال له : « لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجَرا » ؛ لأنّ الأجر إنما يكون على اعتمال عمل فيه مشقّة ؛ وإنما يكون فيه مشقّة إذا بناه بيده ، وباشره بجوارحه وأعضائه . واعلم أنا نحمل كلام أمير المؤمنين عليه السلام على ما يقتضيه سؤددُه الجليل ، ومنصبه العظيم ، ودينه القويم ، من الإغضاء عَمّا سلف ممّن سلف ؛ فقد كان صاحَبَهم بالمعروف بُرْهةً من الدهر ، فأمّا أنْ يكون ما كانوا فيه حقَّهم أو حقه ، فتركه لهم رفعاً لنفسه عن المنازعة ، أو لما رآه من المصلحة ؛ وعلى كلا التقديرين فالواجب علينا أن نطبّق بين آخر أفعاله وأقواله بالنسبة إليهم وبين أولها ؛ فإنّ بُعْد تأويل ما يتأوّله من كلامه ، ليس بأبعد من تأويل أهل التوحيد والعدل الآيات المتشابهة في القرآن ، ولم يمنع بعدها من الخوض في تأويلها محافظةً على الأُصول المقررة ؛ فكذلك هاهنا 2 .

.


1- .الكهف 77 .

ص: 497

151 . من خطبة له عليه السلام في التحذير من الفتن وغيرها مما يهلك

151الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلاموَأَسْتَعِينُهُ عَلَى مَدَاحِرِ الشَّيْطَانِ وَمَزَاجِرِهِ ، وَالاِعْتِصَامِ مِنْ حَبَائِلِهِ وَمَخَاتِلِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، وَنَجِيبُهُ وَصَفْوَتُهُ .لاَ يُؤَازَى فَضْلُهُ ، وَلاَ يُجْبَرُ فَقْدُهُ . أَضَاءَتْ بِهِ الْبِلاَدُ بَعْدَ الضَّلاَلَةِ الْمُظلمَةِ ، وَالْجَهَالَةِ الْغَالِبَةِ ، وَالْجَفْوَةِ الْجَافِيَةِ؛ وَالنَّاسُ يَسْتَحِلُّونَ الْحَرِيمَ ، وَيَسْتَذِلُّونَ الْحَكِيمَ ؛ يَحْيَوْنَ عَلَى فَتْرَةٍ ، وَيَمُوتُونَ عَلَى كَفْرَةٍ . ثُمَّ إِنَّكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ أَغْرَاضُ بَلاَيَا قَدِ اقْتَرَبَتْ . فَاتَّقُوا سَكَرَاتِ النِّعْمَةِ ، وَاحْذَرُوا بَوَائِقَ النِّقْمَةِ ، وَتَثَبَّتُوا فِي قَتَامِ الْعِشْوَةِ ، وَاعْوِجَاجِ الْفِتْنَةِ عِنْدَ طُلُوعِ جَنِينِهَا ، وَظُهُورِ كَمِينِهَا ، وَانْتِصَابِ قُطْبِهَا ، وَمَدَارِ رَحَاهَا ، تَبْدَأُ فِي مَدَارِجَ خَفِيَّةٍ ، وَتَؤولُ إِلَى فَظَاعَةٍ جَلِيَّة . شِبَابُهَا كَشِبَابِ الْغُ_لاَمِ ، وَآثَارُهَا كَآثَارِ السِّلاَمِ ، يَتَوَارَثُهَا الظَلَمَةُ بالْعُهُودِ ! أَوَّلُهُمْ قَائِدٌ لاِخِرِهِمْ ، وَآخِرُهُمْ مُقْتَدٍ بأَوَّلِهِمْ؛ يَتَنَافَسُونَ في دُنيَا دَنِيَّةٍ ، وَيَتَكَالَبُونَ عَلَى جِيفَةٍ مُرِيحَةٍ . وَعَنْ قَلِيلٍ يَتَبَرَّأُ التَّابِعُ مِنَ المَتبُوعِ ، وَالْقَائِدُ مِنَ الْمَقُودِ ، فَيَتَزَايَلُونَ بِالْبَغْضَاءِ ، وَيَتَلاَعَنُونَ عِنْدَ اللِّقَاءِ . ثُمَّ يَأتِي بَعْدَ ذلِكَ طَالِعُ الْفِتْنَةِ الرَّجُوفِ ، وَالْقَاصِمَةِ الزَّحُوفِ ، فَتَزِيغُ قُلُوبٌ بَعْدَ اسْتِقَامَةٍ ، وَتَضِلُّ رِجَالٌ بَعْدَ سَلاَمَةٍ؛ وَتَخْتَلِفُ الأَهْوَاءُ عِنْدَ هُجُومِهَا ، وَتَلْتَبِسُ الاْرَاءُ عِنْدَ نُجُومِهَا . مَنْ أَشْرَفَ لَهَا قَصَمَتْهُ ، وَمَنْ سَعَى فِيهَا حَطَمَتْهُ ؛ يَتَكَادَمُونَ فِيهَا تَكَادُمَ الْحُمُرِ فِي الْعَانَةِ ! قَدِ اضْطَرَبَ مَعْقُودُ الْحَبْلِ ، وَعَمِيَ وَجْهُ الْأَمْرِ . تَغِيضُ فِيهَا الْحِكْمَةُ ، وَتَنْطِقُ فِيهَا الظَلَمَةُ ، وَتَدُقُّ أَهْلَ الْبَدْوِ بِمِسْحَلِهَا ، وَتَرُضُّهُمْ بِكَلْكَلِهَا !

.

ص: 498

يَضِيعُ فِي غُبَارِهَا الْوُحْدَانُ ، وَيَهْلِكُ فِي طَرِيقِهَا الرُّكْبَانُ ؛ تَرِدُ بِمُرِّ الْقَضَاءِ ، وَتَحْلُبُ عَبِيطَ الدِّمَاءِ ، وَتَثْلِمُ مَنَارَ الدِّينِ ، وَتَنْقُضُ عَقْدَ الْيَقِينِ . يَهْرُبُ مِنْهَا الأَكْيَاسُ ، وَيُدَبِّرُهَا الْأَرْجَاسُ ، مِرْعَادٌ مِبْرَاقٌ ، كَاشِفَةٌ عَنْ سَاقٍ ! تُقْطَعُ فِيهَا الأَرْحَامُ ، وَيُفَارَقُ عَلَيْهَا الإِسْلاَمُ ! بَرِيُّهَا سَقِيمٌ ، وَظَاعِنُهَا مُقِيمٌ!

الشّرْحُ :مداحر الشيطان : الأُمور التي يُدحَرُ بها ، أي يطرد ويبعد ، دحرتُه أدْحَرُهُ دُحوراً ، قال تعالى : « دُحُورا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ » (1) ، وقال سبحانه : « اخرُجْ مِنهَا مَذْءُوما مَدْحورا » (2) ، أي مقصىً . ومزاجره : الأُمور يزجر بها ؛ جمع مَزْجر : ومَزْجرة ، وكثيراً ما يبني عليه السلام من الأفعال « مَفْعلاً » و « مَفْعَلة » ويجمعه ؛ وإذا تأمّلت كلامه عرفت ذلك . وحبائل الشيطان : مكائده وأشراكه التي يُضِلّ بها البشر . ومخاتله : الأُمور التي يخْتل بها ، بالكسر ، أي يخدع . لا يُؤازى فضله : لا يساوَى ، واللفظة مهموزة ، آزيت فلاناً : حاذيته ، ولا يجوز « وازيته » . ولا يجبر فقدُه : لا يسدّ أحدٌ مسدّه بعده . والجفوة الجافية : غِلَظ الطّبع وبلادة الفهم . ويستذِلّون الحكيم : يستضيمون العقلاء ، واللام هاهنا للجنس . يحيوْن على فَتْرة : على انقطاع الوحي ما بين نبوّتين . ويموتون على كَفْرة ، بالفتح ، واحد الكَفَرات ، كالضربة واحدة الضّربات . ويروى : « ثم إنّكم معشر الناس » . والأغراض : الأهداف . وسكرات النعمة : ما تحدثه النّعم عند أربابها من الغَفْلة المشابهة للسُّكر . ومن كلام الحكماء : للوالي سَكْرة لا يُفيق منها إلاّ بالعزْل . والبوائق : الدّواهي ، جمع بائقة ؛ يقال : باقَتْهُم الدّاهية بَوْقا ، أي أصابَتْهم ، وكذلك : باقتهم بؤوق على « فَعول » ، وابتاقت عليهم بائقة شرّ ، مثل انباحت ، أي انفتقت ، وانباقَ عليهم الدّهر : هجم بالداهية ، كما يخرُج الصوت من البُوق ، وفي الحديث : « لا يدخل الجَنّة من لا يأمن جارُه بوائقَه » ، أي غوائله وشرّه . والقَتَام ، بفتح القاف : الغبار . والأقتم : الذي يعلوه قَتَمة ؛ وهو لون فيه غبرة وحُمْرة . والعِشْوة ، بكسر العين : ركوب الأمر على غير بيان ووضوح . ويروى : « وتبيّنوا في قَتَام العِشْوة » كما قرئ : « إنْ جَاءَكَمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ

.


1- .سورة الصافّات 9 .
2- .سورة الأعراف 18 .

ص: 499

فَتَبَيَّنُوا » (1) و « فثبُّتوا » . واعوجاج الفتنة : أخذها في غَيْرِ القَصْد ، وعدولها عن المنهج . ثم كَنَى عن ظهور المستور المخفيّ منها بقوله : « عند طلوع جنينها ، وظهور كمينِها » ، والجنين : الولد ما دام في البطْن ، والجمع أجِنّة ، ويجوز ألاّ يكون الكلام كناية بل صريحا ؛ أي عند طلوع ما استحنّ منها ؛ أي استتر وظهور ما كمن ، أي ما بطن . وكَنّى عن استحكام أمر الفتنة بقوله : « وانتصاب قطبها ، ومدار رحاها » . ثم قال : إنّها تبدو يسيرة ، ثم تصير كثيرة . والفظاعة . مصدر فظُع بالضم ، فهو فظيع ، أي شديد شنيع تجاوز المقدار ، وكذلك أفظَع الرجل فهو مُفظِع ، وأُفْظِعَ الرجل على ما لم يسمّ فاعله : نزل به أمر عظيم ، وأفظعت الشيء : وجدته فظيعاً ، ومثله استفظعته ، وهذا المعنى كما قال الشاعر : وَلَرُبَّما هَاجَ الكَبِي__رَ من الأُمور لك الصغير وفي المثل : « والشر تبدؤه صغاره » . قوله : « شِبابها كشِباب الغلام » بالكسر ، مصدر شبّ الفرس والغلام يشِبّ ويشَبّ شباباً وشبيباً ، إذا قمص ولعب ، وأشببتُه أنا ، أي هَيّجْتُه . والسِّلام : الحجارة جمع ، واحده سَلِمة بكسر اللام ؛ يذكر الفتنة ، ويقول : انّها تبدو في أوّل الأمر وأربابها يمرحون ويشبّون كما يشِبّ الغلام ويمرح ، ثم تؤول إلى أن تعقب فيهم آثاراً ، كآثار الحجارة في الأبدان . ثم ذكر أنّ هذه الفتنة يتوارثها قوم من قوم ، وكلّهم ظالم ، أولهم يقود آخرهم ؛ كما يقود الإنسان القطارَ من الإبل وهو أمامها وهي تتبعه . وآخرهم يقتدِي بأوّلهم ، أي يفعل فعلَه ويحذو حذوَه . وجيفة مرِيحة : منتنة ، أراحت : ظهر ريحُها . ويجوز أن تكون من أراحَ البعير ، أي مات ، وقد جاء في « أراح » بمعنى أنتن « راح » بلا همز . ثم ذكر تبرّؤ التابع من المتبوع ، يعني يوم القيامة . ثم ذكر عليه السلام أنّ القائد يتبرّأ من المقود ، أي يتبرّأ المتبوع من التابع فيكون كلٌّ من الفريقين تَبَرّأ من صاحبه ، كما قال سبحانه : « ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلعَنُ بَعْضكُمْ بَعْضا » (2) . ويتزايلون : يتفرّقون . قوله : « ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرّجوف » . طالعها : مقدّماتها وأوائلها ؛ وسمّ_اها « رَجوفا » ، لشدّة الاضطراب فيها .

.


1- .سورة الحجرات 6 .
2- .سورة العنكبوت 25 .

ص: 500

فإن قلت : ألم تكن قلتَ : إنّ قوله : « عن قليل يتبرّأ التابع من المتبوع » يعني به يوم القيامة ؟ فكيف يقول : « ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة » وهذا إنّما يكون قبل القيامة ؟! قلت : إنّه لمّا ذكر تنافس الناس على الجيفة المنتنة وهي الدنيا ، أراد أن يقول بعده بلا فصل : « ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرّجوف » ، لكنه لما تعجّب من تزاحم الناس وتكالُبِهم على تلك الجيفة ، أراد أن يؤكّد ذلك التعجّب ، فأتى بجملة معترضة بين الكلامين . تؤكد معنى تعجّبه منهم ، فقال : إنَّهم على ما قد ذكرنا من تكالُبهم عليها ؛ عن قليل يتبرّأ بعضهم من بعض ، ويلعن بعضُهم بعضاً ، وذلك أدْعى لهم _ لو كانوا يعقلون _ إلى أن يتركوا التكالُب والتهارُش على هذه الجيفةِ الخسيسةِ . ثم عاد إلى نظام الكلام ، فقال : « ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرَّجوف » ، ومثلُ هذا الاعتراض في الكلام كثير ، وخصوصا في القرآن ، وقد ذكرنا منه فيما تقدّم طرفاً . قوله : « والقاصمة الزَّحُوف » ، القاصمة : الكاسرة ، وسماها زَحُوفا تشبيها لمشيها قُدُما بمشي الدَّبي الذي يهلك الزروع ويبيدها ، والزحف : السير على تُؤَدة ، كسيْرِ الجيوش بعضها إلى بعض . قوله : « وتزيغ قُلوب » أي تميل . ونجومُها : مصدر نَجَم الشرّ إذا ظهر . مَنْ أشرف لها : مَنْ صادَمها وقابلها . ومَنْ سعى فيها ، أي في تسكينها وإطفائها ، وهذا كلّه إشارة إلى الملحمة الكائنة في آخر الزمان . والتكادُم : التعاضّ بأدْنى الفم ، كما يكدِم الحمار ، ويقال : كَدَم يكدِم ، والمكدَم : المعضّ . والعانة : القطيع من حُمر الوحش ، والجمع عُون . تغيض فيها الحكمة : تنقُض . والمِسْحَل : المبرد . يقول : تنحت أهلَ البدْو وتسحتُهم كما يُسحَتُ الحديد أو الخشب بالمبرد . وأهل البدْو : أهلُ البادية ، ويجوز أن يريد بالمسْحَل الحلْقة التي في طرَف شَكيم اللّجام المعترضة بإزاء حَلْقة أُخرى في الطرف الآخر ، وتدخل إحداهما في الأُخرى ؛ بمعنى أنّ هذه الفتنة تصدم أهل البدْو بمقدمة جيشها كما يصدِمُ الفارسُ الراجل أمامه بمسْحَل لجام فرسه . والكَلْكَل : الصدر . وترضّهم : تدقُّهم دقّا جريشاً. قوله : « تضيع في غبارها الوُحْدان » ، جمع واحد ، مثل شابّ وشبّان ، وراعٍ ورُعيان ، ويجوز « الأُحدان » بالهمز ، أي مَنْ كان يسير وحده فإنه يهلك بالكليَّة في غبارها ، وأما إذا كانوا جماعة ركباناً فإنهم يضلّون ، وهو أقربُ من الهلاك ، ويجوز أن يكونَ الوُحدان جمع أوحد ؛ يقال : فلان أوحد الدّهر ، وهؤلاء الوُحدان أو الأحدان ، مثل أسود وسُودان ، أي يضلّ في هذه الفتنة ، وضلالها الذي كنّى عنه بالغبار فضلاء عصرِها وعلماء عهدها ؛

.

ص: 501

لغموض الشّبهة واستيلاء الباطل على أهل وقتها . ويكون معنى الفقرة الثانية على هذا التفسير أنّ الراكب الذي هو بمظنّة النّجاة لا ينجُو . والركْبان : جمع راكب ، ولا يكون إلاّ ذا بعِير . قوله : تَرِدُ بمُرّ القضاء ، أي بالبوار والهلاك والاستئصال . فإن قلت : أيجوز أن يقال للفتنة القبيحة : إنها من القضاء؟ قلت : نعم ، لا بمعنى الخلْق بل بمعنى الإعلام ، كما قال سبحانه : « وَقَضَيْنَا إلَى بني إسْرَائيلَ فِي الكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ » (1) ، أي أعلمناهم . قوله : « وتحلُب عَبِيط الدماء » ، أي هذه الفتنة يحلُبها الحالب دما عبيطا ، وهذه كناية عن الحرب ، وقد قال عليه السلام في موضع آخر : « أما واللّه ليحلبنّها دماً ، وليتبعنها ندماً » . والعبيط : الدم الطريّ الخالص . وثَلَمت الإناء ، أثلِمه بالكسر . والأكياس : العقلاء . والأرجاس : جمع رِجْس ، وهو القَذَر والنّجس ، والمراد هاهنا الفاسقون . قوله : « مِرْعادٌ مبراقِ » ، أي ذات وعيد وتهدّد ، ويجوز أن يعني بالرّعد صوتَ السلاح وقعقعته ، وبالبرق لونَه وضوءه . وكاشفة عن ساقٍ : عن شدّة ومشقة . قوله : « بريئها سقيم » ؛ يمكن أن يعني بها أنّها لشدّتها لا يكاد الّذي يبرأ منها وينفض يده عنها يبرأ بالحقيقة ، بل لابدّ أن يستثنيَ شيئا من الفسق والضلال ، أي لشدّة التباس الأمر واشتباه الحال على المكلّفين حينئذٍ . ويمكن أن يعني به أنّ الهارب منها غير ناجٍ ، بل لابدّ أن يصيبه بعض معرّتها ومضرّتها . وظاعنها مقيم ، أي ما يفارق الإنسان من أذاها وشرّها ، فكأنه غير مفارق له ؛ لأ نّه قد أبقى عنده ندوبا وعقابيل من شرورها وغوائلها .

الأصْلُ :منها :بَيْنَ قَتِيلٍ مَطْلُولٍ ، وَخَائِفٍ مُسْتَجِيرٍ ، يَخْتِلُونَ بِعَقْدِ الأَيْمَانِ وَبِغُرُورِ الاْءِيمَانِ؛ فَ_لاَ تَكُونُوا أَنْصَابَ الْفِتَنِ ، وَأَعْلاَمَ الْبِدَعِ . وَالْزَمُوا مَا عُقِدَ عَلَيْهِ حَبْلُ الْجَمَاعَةِ ، وَبُنِيَتْ عَلَيْهِ أَرْكَانُ الطَّاعَةِ؛ وَاقْدَمُوا عَلَى اللّهِ مَظلُومِينَ ، وَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ ظَالِمِينَ؛ وَاتَّقُوا مَدَارِجَ الشَّيْطَانِ وَمَهَابِطَ الْعُدْوَانِ ؛ وَلاَ تُدْخِلُوا بُطُونَكُمْ لُعَقَ الْحَرَامِ ، فَإِنَّكُمْ بِعَيْنِ مَنْ

.


1- .سورة الإسراء 4 .

ص: 502

152 . من خطبة له عليه السلام في تمجيد اللّه وتعظيمه

حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَعْصِيَةَ ، وَسَهَّلَ لَكُمْ سُبُلَ الطَّاعَةِ .

الشّرْحُ :يقال : طُلّ دم فلان فهو مطلول ، أي مُهدَر لا يُطْلَب به ، ويجوز أُطِلّ دمُه ، وطلّه اللّه وأطلّه : أهدره ، ولا يقال : طَلّ دم فلان بالفتح ، وأبو عبيدة ، والكسائيّ يقولانه . ويختِلون : يخدعون بالأيمان التي يعقِدونها ويَقسِمون بها ، والإيمان الذي يظهرونه ويقرّون به . ثم قال : « فلا تكونوا أنصار الفِتَن ، وأعلام البدع » ، أي لا تكونوا ممّن يشارُ إليكم في البدعِ كما يشار إلى الأعلام المبنيّة القائمة ، وجاء في الخبر المرفوع : « كُنْ في الفتنة كابنِ اللّبُون ، لا ظهرَ فيركب ، ولا ضرْع فيحلب » (1) ، وهذه اللفظة يرويها كثير من النّاس لأمير المؤمنين عليه السلام . قوله : « واقدَموا على اللّه مظلومين » ، جاء في الخبر : « كنْ عبدَ اللّه المقتول » . ومدارج الشيطان : جمع مَدْرَجة ، وهي السبيل التي يدرج فيها . ومهابط العدوان : محالّهُ التي يهبط فيها . ولُعَق الحرام : جمع لُعْقةٍ ، بالضمّ ، وهي اسم لما تأخذه الملْعقة ، واللَّعقة ، بالفتح : المرّة الواحدة . قوله : « فإنكم بعين من حَرّم » ، يقال : أنت بعين فلان ، أي أنت بمرأىً منه ، وقد قال عليه السلام في موضع آخر بصِفّين : « فإنّكم بعين اللّه ، ومع ابن عمّ رسول اللّه »، وهذا من باب الاستعارة ، قال سبحانه : « وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي » (2) .

152الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامالْحَمْدُ للّه الدَّالِّ عَلَى وَجُودِهِ بِخَلْقِهِ ، وَبِمُحْدَثِ خَلْقِهِ عَلَى أَزَلِيَّته؛ وَبِاشْتِبَاهِهِمْ عَلَى أَنْ لاَ شَبَهَ لَهُ . لاَ تَسْتَلِمُهُ الْمَشَاعِرُ ، وَلاَ تَحْجُبُهُ السَّوَاتِرُ ؛ لاِفْتِرَاقِ الصَّانِعِ

.


1- .نهج البلاغة ، حكمة رقم (1) . 2 . سورة طه 39 .
2- . ، وقال : « تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا » سورة القمر 14 .

ص: 503

أبحاث كلاميّة

وَالْمَصْنُوعِ ، وَالْحَادِّ وَالمحْدُودِ ، وَالرَّبِّ وَالْمَرْبُوبِ . الْأَحَدِ بِ_لاَ تَأْوِيلِ عَدَدٍ ، وَالْخَالِقِ لاَ بِمَعْنى حَرَكَةٍ وَنَصَبٍ ، وَالسَّمِيعِ لاَ بِأَدَاةٍ ، وَالْبَصِيرِ لاَ بِتَفْرِيقِ آلَةٍ ، وَالشَّاهِدِ لاَ بِمُمَاسَّةٍ ، وَالْبَائِنِ لاَ بِتَرَاخِي مَسَافَةٍ ، وَالظَّاهِرِ لاَ بِرُؤيَةٍ ، وَالْبَاطِنِ لاَ بَلَطَافَةٍ . بَانَ مِنَ الْأَشْيَاءِ بالْقَهْرِ لَهَا ، وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهَا ، وَبَانَتِ الْأَشْيَاءُ مِنْهُ بِالْخُضُوعِ لَهُ ، وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِ . مَنْ وَصَفَهُ فَقَدْ حَدَّهُ ، وَمَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ ، وَمَنْ عَدَّهُ فَقَدْ أَبْطَلَ أَزَلَهُ ، وَمَنْ قَالَ : كَيْفَ؟ فَقَدِ اسْتَوْصَفَهُ ، وَمَنْ قَالَ : أَيْنَ ؟ فَقَدْ حَيَّزَهُ . عَالِمٌ إِذْ لاَ مَعْلُومٌ ، وَرَبٌّ إِذْ لاَ مَرْبُوبٌ ، وَقَادِرٌ إِذْ لاَ مَقْدُورٌ .

الشّرْحُ :أبحاث كلاميةفي هذا الفصل أبحاث : أوّلُها : في وجوده تعالى ، وإثبات أنّ للعالم صانعا ؛ وهاتان طريقتان في الدّلالة على وجوده الأول سبحانه : إحداهما : الطريقة المذكورة في هذا الفصل ، وهي طريقة المتكلّمين ، وهي إثبات أنّ الأجسام محدَثة ، ولا بدّ للمحدَث من محدِث . والثانية : إثبات وجوده تعالى من النظر في نفس الوجود ؛ وذلك لأنّ الوجود ينقسم بالاعتبار الأول إلى قسمين : واجب وممكن ، وكلّ ممكن لا بدّ أن ينتهيَ إلى الواجب . وثانيها : إثبات أزليّته ؛ وبيانه ما ذكره في هذا الفصل ؛ وهو أن العالَمَ مخلوق له سبحانه حادث من جهته ، والمحدَث لا بدّ له من محدِث ، فإن كان ذلك المحدِث محدَثاً ، عاد القول فيه كالقول في الأول ، ويتسلسل ، فلا بدّ من محدِث قديم ؛ وذلك هو اللّه تعالى . وثالثها : أنه لا شبيهَ له ، أي ليس بجسم كهذه الأجسام ، وبيانه ما ذكر أيضا أنّ مخلوقاته متشابهة ، يعني بذلك ما يريده المتكلّمون من قولهم : الأجسام متماثلة في الجسمية ، وأنّ نوع الجسمية واحد ، أي لا يخالف جسمٌ جسما بذاته ، وإذا كانت متماثلة صحّ على كلّ

.

ص: 504

واحد منها ما صحّ على الآخر ، فلو كان [ له ] سبحانه شبيهٌ منها _ أي لو كان جسما مثلها _ لوجب أن يكون محدَثاً كمثلها ، أو تكون قديمة مثله ؛ وكلاَ الأمرين محال . ورابعها : أن المشاعر لا تستلمه ، وروي « لا تلمسه » ؛ والمشاعر : الحواسّ ، وبيانه أنه تعالى ليس بجسم لما سبق ، وما ليس بجسم استحال أن تكون المشاعر لامسةً له ؛ لأنّ إدراك المشاعر مدرَكاتِه مقصور على الأجسام وهيئاتها . والاستلام في اللغة : لمس الحجر باليد وتقبيله . وخامسها : أنّ السواتر لا تحجبه ؛ وبيانه أنّ السواتر والحجب ؛ إنّما تحجب ما كان في جهة ؛ وذلك لأنها ذوات أينٍ ووضْع فلا نسبة لها ، إلى ما ليس من ذوات الأين والوضع . ثم قال عليه السلام : « لافتراق الصانع والمصنوع » ، إشارة إلى أنّ المصنوع من ذوات الجهة والصانع منزّه عن ذلك ، بريء عن الموادّ ، فلا يلزم فيه ما يلزم في ذوات المادة والجهة . وسادسها : معنى قولنا : إنه أحد ، أ نّه ليس بمعنى العدد كما يقول الناس : أوّل العدد أحد وواحد ، بل المراد بأحديّته كونه لا يقبل التجزّؤ ؛ وباعتبار آخر كونه لا ثانيَ له في الربوبية . وسابعها : أ نّه خالق ، لا بمعنى الحركة والنَّصَب ، وهو التعب ؛ والبارئ سبحانه ليس بجسم ، ولا يفعل بالآلة ، بل كونه قادرا إنّما هو لذاته المقدّسة ، لا لأمرٍ زائد عليها ، فلم يكن فاعلاً بالحركة . وثامنها : أ نّه سميع ، لا بأداة ؛ والبارئ تعالى حيّ لذاته ؛ فلم يحتجْ في كونه مدركاً إلى الأداة والجارحة . وتاسعها : أنه بصير لا بتفريق آلة ، والمراد بتفريق الآلة هاهنا الشعاع الذي باعتباره يكون الواحد منّا مبصراً ، والبارئ تعالى بصير لا بشعاع يجعله آلة في الإدراك ، ويتفرّق على المرئيات فيدركها بها . وعاشرها : أ نّه الشاهد لا بمماسّة ؛ وذلك لأنّ الشاهد منّا هو الحاضر بجسمه عند المشهود ؛ والقرب من لوازم الجسمية ، فما ليس بجسم _ وهو عالم بكلّ شيء _ يكون شاهداً من غير قرب ولا مماسّة . وحادي عشرها : أ نّه البائن لا بتراخي مسافة بينونة المفارق عن المادّة ، بينونة ليست أينيّة ؛ لأ نّه لا نسبةَ لأحدهما إلى الآخر بالجهة ؛ فلا جرَم كان البارئ تعالى مباينا عن العالم ، لا بمسافة بين الذاتين .

.

ص: 505

وثاني عشرها : أ نّه الظاهر لا برؤية ، والباطن لا بلطافة ، والبارئ تعالى ظاهر للبصائر لا للأبصار . باطن ، أي غير مدرك بالحواسّ ؛ لأنّ ذاته لا تقبل المدركيّة إلاّ من حيث كان لطيف الحجم أو شفّاف الجرْم . وثالث عشرها : أ نّه قال : بان من الأشياء بالقهر لها ، والقدرة عليها ، وبانت الأشياء منه بالخضوع له ، والرجوع إليه ؛ هذا هو معنى قول المتكلّمين والحكماء ، والفرق بينه وبين الموجودات كلّها أنه واجب الوجود لذاته ، والأشياء كلّها ممكنة الوجود بذواتها ، فكلّها محتاجة إليه ؛ لأنها لا وجود لها إلاّ به ، وهذا هو معنى خضوعها له ، ورجوعها إليه . وهو سبحانه غنيّ عن كلّ شيء ، ومؤثّر في كلِّ شيء . ورابع عشرها : أ نّه لا صفة له زائدة على ذاته ؛ ونعني بالصفة ذاتا موجودة قائمة بذاته ؛ وذلك لأنّ مَنْ أثبت هذه الصفة له فقد حدّه ، ومن حَدّه فقد عدّه ، ومن عَدّه فقد أبطل أزَله ، وهذا كلام غامض ، وتفسيره : أن مَنْ أثبت له علما قديما أو قدرة قديمةً ، فقد أوجب أن يعلم بذلك العلم معلوماتٍ محدودة ، أي محصورة ، وكذلك قد أوجب أن يقدر بتلك القدرة على مقدورات محدُودة ؛ وهذه المقدّمة في كُتُب أصحابنا المتكلّمين مما يذكرونه في تقرير أنّ العِلْمَ الواحد لا يتعلّق بمعلومينْ ، وأنّ القدرة الواحدة لا يمكن أنْ تتعلّق في الوقت الواحد من الجنس الواحد في المحلّ الواحد إلاّ بجزء واحد ؛ وسواء فرض هذان المعنيان قديمين أو محدَثين ، فإنّ هذا الحكم لازم لهما ، فقد ثبت أنّ مَنْ أثبت المعاني القديمة فقد أثبت البارئ تعالى محدود العالمية والقادريّة ، ومن قال بذلك فقد عدّه ، أي جعله من جملة الجثة المعدودة فيما بيننا كسائر البشر والحيوانات ، ومَنْ قال بذلك ، فقد أبطل أزله ؛ لأنّ كلّ ذات مماثلة لهذه الذوات المحدَثة ؛ فإنها محدَثة مثلها ، والمحدَث لا يكون أزلياً . وخامس عشرها : أنّ من قال : « كيف » ؟ فقد استوصَفه ، أي مَنْ قال لزيد : كيف اللّه ؟ فقد استدعى أن يوصف اللّه بكيفيّة من الكيفيات ، والبارئ تعالى لا تجوز الكيفيّات عليه ، والكيفيّات هي الألوان والطعوم ونحوها ، والأشكال والمعاني وما يجري مَجْرَى ذلك ؛ وكلّ هذا لا يجوز إلاّ على الأجسام . وسادس عشرها : أنّ من قال : « أين » ؟ فقد حيّزه ؛ لأنّ « أين » سؤال عن المكان ، وليس اللّه تعالى في مكان ، ويأتي أ نّه في كلّ مكان بمعنى العلم والإحاطة . وسابع عشرها : أ نّه عالم إذ لا معلوم ، وربّ إذ لا مربوب ، وقادر إذ لا مقدور ، وكلّ هذا

.

ص: 506

صحيح ومدلول عليه ؛ لأ نّه عالم فيما لم يزل وليس شيء من الأشياء بموجود ، وهو ربّ كلّ شيء قبل أن يخلقه ، كما تقول إنّه سميع بصير قبل أن يدرك المسموعات والمبصَرات ، أي قبل أن يخلقها ، وقادر على الأشياء قبل كونها ؛ لأ نّه يستحيل حال كونها أن تكون مقدورة ، لاستحالة إيجاد الموجود . وقد شرحنا كل هذه المسائل التوحيدية في كتبنا المصنّفة في علم الكلام .

الأصْلُ :منها :قَدْ طَلَعَ طَالِعٌ ، وَلَمَعَ لاَمِعٌ ، وَلاَحَ لاَئِحٌ ، وَاعْتَدَلَ مَائِلٌ؛ وَاسْتَبْدَلَ اللّهُ بِقَوْمٍ قَوْماً ، وَبِيَوْمٍ يَوْماً ؛ وَانْتَظَرْنَا الْغِيَرَ انْتِظَارَ الْمُ_جْدِبِ الْمَطَرَ . وَإِنَّمَا الأَئِمَّةُ قُوَّامُ اللّهِ عَلَى خَلْقِهِ ، وَعُرَفَاؤهُ عَلَى عِبَادِهِ؛ وَلاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ عَرَفَهُمْ وَعَرَفُوهُ ، وَلاَ يَدْخُلُ النَّارَ إِلاَّ منْ أَنْكَرَهُمْ وَأَنْكَرُوهُ . إِنَّ اللّهَ تَعَالَى خَصَّكُمْ بِالاْءِسْلاَمِ ، وَاسْتَخْلَصَكُمْ لَهُ ، وَذلِكَ لِأَنَّهُ اسْمُ سَلاَمَةٍ ، وَجِمَاعُ كَرَامَةٍ . اصْطَفَى اللّهُ تَعَالَى مَنْهَجَهُ ، وَبَيَّنَ حُجَجَهُ ، مِنْ ظَاهِرِ عِلْمٍ ، وَبَاطِنِ حِكَمٍ ، لاَ تَفْنَى غَرَائِبُهُ ، وَلاَ تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ . فِيهِ مَرَابِيعُ النِّعَمِ ، وَمَصَابِيحُ الظُّلَمْ ، لاَ تُفْتَحُ الْخَيْرَاتُ إِلاَّ بِمَفَاتِيحِهِ ، وَلاَ تُكْشَفُ الظُّلُماتُ إِلاَّ بِمَصَابِيحِهِ . قَدْ أَحْمَى حِمَاهُ ، وَأَرْعَى مَرْعَاهُ . فِيهِ شِفَاءُ المُشتَفِي ، وَكِفَايَةُ الْمُكْتَفِي .

الشّرْحُ :هذه خطبة خطب بها بعد قتل عثمان حين أفضت الخلافة إليه . قد طلع طالع ، يعني عَوْد الخلافة إليه ، وكذلك قوله : « ولمع لامع ، ولاح لائح » ؛ كلّ هذا يراد به معنىً واحد . واعتدل مائل ، إشارة إلى ما كانت الأُمور عليه من الاعوجاج في أواخر أيام عثمان ، واستبدل اللّه بعثمان وشيعته عليّا وشيعتَه ، وبأيام ذاك أيام هذا . ثم قال :

.

ص: 507

« وانتظرنا الغِيَر انتظار المجدب المطر » ؛ وهذا الكلام يدلّ على أ نّه قد كان يتربّص بعثمان الدوائر ، ويرتقب حلول الخطوب بساحتِه ، لِيَلِيَ الخلافة . فإن قلت : أليس هو الذي طلّق الدنيا ، فأين هذا القول من طلاقها؟ قلت : إنه طلّق الدنيا أن يقبل منها حظا دنيويّا ، ولم يطلقها ، أن ينهى فيها عن المنكرات التي أمره اللّه تعالى بالنهي عنها ، ويقيم فيها الدين الذي أمره اللّه بإقامته ، ولا سبيل له إلى النّهي عن المنكَر والأمر بالمعروف إلاّ بولاية الخلافة . فإن قلت : أيجوز على مذهب المعتزلة أن يقال : إنّه عليه السلام كان ينتظر قتل عثمان انتظار المجدب المطر ، وهل هذا إلاّ محض مذهب الشيعة قلت : إنه عليه السلام لم يقل : « وانتظرنا قتله » وإنما انتظر الغيَر ، فيجوز أن يكون أراد انتظار خلعه وعزله عن الخلافة . فإن علياً عليه السلام عند أصحابنا كان يذهب إلى أن عثمان استحق الخلع بإحداثه ولم يستحق القتل ، وهذا الكلام إذا حُمل على انتظار الخلع كان موافقاً لمذهب أصحابنا 1 .

.

ص: 508

ثم قال عليه السلام : « الأئمة قوّام اللّه على خلقه » ، أي يقومون بمصالحهم ، وقيّم المنزل : هو المدبّر له . « وعرفاؤه على عباده » : جمع عرِيف ، وهو النقيب والرئيس ، يقال : عَرُف فلان بالضمّ عرافةً بالفتح ، مثل خَطُب خطابة أي صار عريفاً ، وإذا أردت أ نّه عمِل ذلك قلت : عَرَف فلان علينا سنين ، يعرُف عِرافة بالكسر ، مثل كَتبَ يكتبُ كِتابة . قال : « ولا يدخل الجنّة إلاّ مَنْ عرفهم وعرفوه ، ولا يدخل النّار إلاّ مَنْ أنكرهم وأنكروه » ، هذا إشارة إلى قوله تعالى : « يَوْمَ ندْعُو كلّ أُنَاسٍ بإمامِهِمْ » (1) ، قال المفسّرون : ينَادى في الموقف : يا أتْبَاعَ فلان ، ويا أصحاب فلان ، فينَادَى كلّ قوم باسم إمامهم ، يقول أمير المؤمنين عليه السلام : لا يدخل الجنة يومئذٍ إلاّ مَنْ كان في الدّنيا عارفا بإمامه ، ومَنْ يعرفه إمامه في الآخرة ، فإنّ الأئمة تعرف أتباعها يوم القيامة ، وإن لم يكونوا رأوْهم في الدنيا ، كما أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم يشهد للمسلمين وعليهم ، وإن لم يكُنْ رأى أكثَرهم ، قال سبحانه : « فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بشهيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هؤلاء شَهِيدا » (2) وجاء في الخبر المرفوع : « مَنْ مات بغير إمام مات مِيتة جاهليّة » (3) ، وأصحابنا كافّة قائلون بصحّة هذه القضيّة ؛ وهي أنه لا يدخل الجنَّة إلاّ من عرَف الأئمة (4) .

.


1- .سورة الإسراء 71 .
2- .سورة النساء 41 .
3- .مسند أحمد 5 : 61 / ح16434 ، والحديث معتضد بألفاظ أُخر من طرق شتى مروية في الصحاح والمسانيد والمجاميع الحديثية المعتبرة كصحيح مسلم وغيره .
4- .إن الأئمة الذين عناهم بقوله عليه السلام : « إن الأئمة قوّام اللّه على خلقه ... » إنما هم الأئمة من ولده عليهم السلام ، خلفاء اللّه في أرضه ، ورحمته المهداة إلى عباده ، وهم أصحاب الأمر والنهي ، ومن لهم حق الولاية والإطاعة ، وإليهم يعود تدبير شؤون الناس ، والمراد من معرفتهم معرفة حق ولايتهم وصدق إمامتهم . فلا يدخل الجنة إلاّ من عرفهم وأطاع أمرهم ، أو شهدوا له عند اللّه سبحانه بالإيمان والاستقامة . وهذا يستلزم أنه لا يدخل الجنة منكرٌ لهم عليه السلام . ولا يدخل النار إلاّ من أنكرهم وأنكروه ، فمن أنكر إمامتهم وولايتهم ، ولم يعترف بهم ولم يأخذ دينه منهم فهو إلى النار لا محالة . فالجاهل بالحق وأهله ، أو العالم به وبهم لكنّه أنكر وعاند ، فسوف يدخله اللّه النار .

ص: 509

وبقيت القضيّة الثانية ففيها الإشكال ، وهي قوله عليه السلام : « ولا يدخل النَّار إلاّ مَنْ أنكرهم وأنكروه » ، وذلك أنّ لقائل أن يقول : قد يدخل النار مَنْ لم ينكرهم ؛ مثل أن يكون إنسان يعتقِد صحّة إمامة القوم الذين يذهب أنهم أئمة عند المعتزلة ، ثم يزني أو يشربُ الخمر من غير توبة ، فإنه يدخل النار ؛ وليس بمنكر للأئمة ؛ فكيف يمكن الجمع بين هذه القضية وبين الاعتزال! فالجواب : أن الواو في قوله « وأنكروه » بمعنى « أو » كما في قوله تعالى : « فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وثُلاَثَ وَرُبَاعَ » (1) ، فالإنسان المفروض في السؤال وإن كان لا ينكر الأئمة إلاّ أنّهم ينكرونه ، أي يسخطون يوم القيامة أفعاله ، يقال : أنكرت فعل فلان أي كرهته ؛ فهذا هو تأويل الكلام على مذهبنا ، فأمّا الإماميّة فإنّهم يحملون ذلك على تأويل آخر ، ويفسرون قوله : « ولا يدخل النار » ، فيقولون : أراد ولا يدخل النار دخولاً مؤبداً إلاّ من ينكرهم وينكرونه . ثم ذكر عليه السلام شرفَ الإسلام ، وقال : إنه مشتقّ من السّلامة ، وإنه جامع للكرامة ، وإنّ اللّه قد بين حججه ، أي الأدلة على صحّته . ثم بين ما هذه الأدلة ، فقال : « من ظاهر علم ، وباطن حكم » أي حكمه ، ف_ « مِن » هاهنا للتبيين والتفسير ؛ كما تقول : دفعت إليه سلاحاً من سيف ورمح وسهم ؛ ويعني بظاهر عِلم وباطن حكم ، القرآن ، ألا تراه كيف أتى بعده بصفات ونعوت لا تكون إلاّ للقرآن ؛ من قوله : « لا تفنى عزائمه » أي آياته المحكمة ، و « براهينه العازمة » أي القاطعة . ولا تنقضي عجائبه ؛ لأ نّه مهما تأمّله الإنسان استخرج منه بفكر غرائبَ عجائب لم تكن عنده من قبل . « فيه مرابيع النّعم » ، المرابيع الأمطار التي تجيء في أول الربيع فتكون سببا لظهور الكلأ ، وكذلك تدبّر القرآن سبب للنعم الدينية وحصولها . قوله : « قد أحمى حماه ، وأرعى مرعاه » الضمير في « أحمى » يرجع إلى اللّه تعالى ، أي قد أحمى اللّه حماه ، أي عرّضه لأنّ يُحمَي ، كما تقول : أقتلت الرجل ، أي عرّضْته لأنّ يقتل . وأضربته ، أي عرّضته لأنّ يضرب ؛ أي قد عرّض اللّه تعالى حمى القرآن ومحارمه لأنّ يجتنب ومكّن منها ، وعرّض مَرعاه لأنّ يُرْعى ، أي مكّن من الانتفاع بما فيه من الزواجر والمواعظ لأ نّه خاطبنا بلسان عربي مبين ،

.


1- .سورة النساء 3 .

ص: 510

153 . من خطبة له عليه السلام في تحذير الناس من الغفلة

ولم يقنع ببيان ما لا نعلم إلاّ بالشرع ، حتى نبه في أكثره على أدلة العقل .

153الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلاموَهُوَ فِي مُهْلَةٍ مَنَ اللّهِ يَهْوِي مَعَ الْغَافِلِينَ ، وَيَغْدُو مَعَ الْمُذْنِبِينَ ، بلاَ سَبِيلٍ قَاصِدٍ ، وَلاَ إِمَامٍ قَائِدٍ .

الشّرْحُ :يصف إنسانا من أهل الضلال غير معيّن ؛ بل كما تقول : رحم اللّه امرأً اتّقى ربه وخاف ذنبه ، وبئس الرجل رجل قلّ حياؤه ، وعدم وفاؤه ؛ ولست تعني رجلاً بعينه . ويهوي : يسقط . والسبيل القاصد : الطريق المؤدية إلى المطلوب . والإمام : إمّا الخليفة ، وإمّا الأستاذ ، أو الدين ، أو الكتاب ؛ على كلّ من هؤلاء تطلق هذه اللفظة .

الأصْلُ :منها :حَتَّى إِذَا كَشَفَ لَهُمْ عَنْ جَزَاءِ مَعْصِيَتِهِمْ ، وَاسْتَخْرَجَهُمْ مِنْ جَلاَبِيبِ غَفْلَتِهِمُ استَقْبَلُوا مُدْبِراً ، وَاسْتَدْبَرُوا مُقْبِلاً فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بَمَا أَدْرَكُوا منْ طَلِبَتِهِمْ ، وَلاَبِمَا قَضَوْا مِنْ وَطَرِهِمْ . وإِنِّي أُحَذِّرُكُمْ وَنَفْسِي ، هذِهِ الْمَنْزِلَةَ . فَلْيَنْتَفِعِ امْرُؤ بِنَفْسِهِ ، فَإِنَّمَا الْبَصِيرٌ مَنْ سَمِعَ فَتَفَكَّرَ ، وَنَظَرَ فَأَبْصَرَ ، وَانْتَفَعَ بِالْعِبَرِ ، ثُمَّ سَلَكَ جَدَداً وَاضِحاً يَتَجَنَّبُ فِيهِ الصَّرْعَةَ فِي

.

ص: 511

الْمَهَاوِي ، وَالضَّلاَلَ فِي الْمَغَاوِي وَلاَ يُعِينُ عَلَى نَفْسِهِ الْغُوَاةَ بِتَعَسُّفٍ فِي حَقٍّ ، أَوْ تَحْرِيفٍ فِينُطْقٍ ، أَوْ تَخَوُّفٍ مِنْ صِدْقٍ . فَأَفِقْ أَيُّهَا السَّامِعُ مِنْ سَكْرَتِكَ ، وَاسْتَيْقِظْ مِنْ غَفْلَتِكَ ، وَاخْتَصِرْ مِنْ عَجَلَتِكَ ، وَأَنْعِمِ الْفِكْرَ فِيَما جَاءَكَ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ _ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ _ مِمَّا لاَ بُدَّ مِنْهُ وَلاَ مَحِيصَ عَنْهُ ؛ وَخَالِفْ مَنْ خَالَفَ ذلِكَ إِلَى غَيْرِهِ ، وَدَعْهُ وَمَا رَضِيَ لِنَفْسِهِ ؛ وَضَعْ فَخْرَكَ ، وَاحْطُطْ كِبْرَكَ ، وَاذْكُرْ قَبْرَكَ ، فَإِنَّ عَلَيْهِ مَمَرَّكَ ، وَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ ، وَكَمَا تَزْرَعُ تَحْصُدُ ، وَمَا قَدَّمْتَ الْيَوْمَ تَقْدَمُ عَلَيْهِ غَداً ، فَامْهَدْ لِقَدَمِكَ ، وَقَدِّمْ لِيَوْمِكَ . فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ أَيُّهَا الْمُسْتَمِعُ ! وَالْجِدَّ الْجِدَّ أَيَّهَا الْغَافِلُ ! « وَلاَ يُنَبِّؤكَ مِثْلُ خَبِيرٍ » (1) .

الشّرْحُ :فاعل « كشف » هو اللّه تعالى ، وقد كان سبق ذكره في الكلام ، وإنما كشف لهم عن جزاء معصيتهم بما أراهم حال الموت من دلائل الشقوة والعذاب ؛ فقد ورد في الخبر الصحيح أ نّه : « لا يموت ميّت حتى يرى مقرّه من جنّة أو نار » . ولما انفتحت أعين أبصارهم عند مفارقة الدنيا ؛ سَمّى ذلك عليه السلام استخراجا لهم من جلابيب غفلتهم ، كأنهم كانوا من الغفلة والذهول في لباسٍ نُزِع عنهم . قال : « استقبلوا مدبرا » ، أي استقبلوا أمرا كان في ظنّهم واعتقادهم مدبرا عنهم ؛ وهو الشقاء والعذاب . « واستدبروا مقبلاً » تركوا وراء ظهورهم ما كانوا خُوِّلُوه من الأولاد والأموال والنّعم ، وفي قوة هذا الكلام أن يقول : عرفوا ما أنكروه وأنكروا ما عرفوه . وروي : « أحذّركم ونفسي هذه المزلّة » مفعلة ، من الزّلل ، وفي قوله : « ونفسي » لطافة رشيقة ؛ وذلك لأ نّه طَيَّب قلوبهم بأن جعل نفسه شريكة لهم في هذا التحذير ، ليكونوا إلى الانقياد له أقربَ ، وعن الإباء والنُّفرة أبعد ؛ بطريق جَدَدٍ لاحب . والمهاوي : جمع مَهْواة ؛ وهي الهوّة يُتردّى فيها . والمغاوي : جمع مَغْواة ، وهي الشبهة التي يغوَى بها النّاس ، أي يضلّون . يصف الأُمور التي يُعِين بها الإنسان أرباب الضلال على نفسه ، وهي يتعسّف في حقّ

.


1- .سورة فاطر 14 .

ص: 512

يقوله ، أو يأمرُ به ، فإنّ الرفق أنجح ، وأن يحرّف المنطق فإن الكذب لا يثمر خيراً ، وأن يتخوف من الصدق في ذات اللّه ، قال سبحانه : « إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ» (1) ، فذمّ من لا يصدق ويجاهد في الحقّ . قوله : « واختصِرْ من عجلتك » ، أي لا تكن عَجَلتك كثيرة ، بل إذا كانت لك عجلة فلتكن شيئا يسيراً . وتقول : أنعمت النظر في كذا ، أي دقَّقتُه ، من قولك : أنعمت سَحْق الحجر ، وقيل : إنه مقلوب « أمعن » . والنبي الأُمّيّ : إمّا الذي لا يحسن الكتابة ، أو المنسوب إلى أُمّ القرى ؛ وهي مكّة . ولا محيص عنه : لا مفرّ ولا مهرب ، حاص ؛ أي تخلّص من أمر كان شب فيه . قوله : « فإن عليه ممرّك » أي ليس القبر بدار مقام ، وإنما هو مَمَرٌّ وطريق إلى الآخرة . وكما تدين تدان ، أي كما تجازِي غيرَك تجازَى بفعلك وبحسب ما عملت ؛ ومنه قوله سبحانه : « إنَّا لَمَدِينُونَ » (2) ، أي مجزيُّون ؛ ومنه الديّان في صفة اللّه تعالى . قوله : « وكما تزرع تحصد » معنى قد قاله النّاس بعده كثيراً . فامهد لنفسك : أي سوّ ووَطِّئْ . « وَلاَ يُنَبِّئُك مِثْلُ خَبِيرٍ » (3) من القرآن العزيز ، أي ولا يخبرك بالأُمور أحد على حقائقها كالعارف بها العالم بكنْهها .

الأصْلُ :إِنَّ مِنْ عَزَائِمِ اللّهِ فِي الذِّكْرِ الْحَكِيمِ ، الَّتِي عَلَيْهَا يُثِيبُ وَيُعَاقِبُ وَلَهَا يَرْضَى وَيَسْخَطُ ، أَنَّهُ لاَ يَنْفَعُ عَبْداً _ وَإِنْ أَجْهَدَ نَفْسَهُ ، وَأَخْلَصَ فِعْلَهُ _ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا ، لاَقِياً رَبَّهُ بِخَصْلَةٍ مِنْ هذِهِ الْخِصَال لَمْ يَتُبْ مِنْهَا : أَنْ يُشْرِكَ بِاللّه فِيَما افْتَرَضَ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَتِهِ ، أَوْ يَشْفِيَ غَيْظَهُ بِهَلاَك نَفْسٍ ، أَوْ يَعُرَّ بِأَمْرٍ فَعَلَهُ غَيْرُهُ ، أَوْ يَسْتَنْجِحَ حَاجَةً إِلَى النَّاس بِإِظْهَارِ بِدْعَةٍ فِي دِينِهِ ، أَوْ يَلْقَى النَّاسَ بِوَجْهَيْنِ ، أَوْ يَمْشِيَ فِيهِمْ بِلِسَانَيْنِ .اعْقِلْ ذلِكَ

.


1- .سورة النساء 77 .
2- .سورة الصافات 53 .
3- .سورة فاطر 14 .

ص: 513

فَإِنَّ الْمِثْلَ دَلِيلٌ عَلَى شِبْهِهِ . إِنَّ الْبَهَائِمَ هَمُّهَا بُطُونُهَا ؛ وَإِنَّ السِّبَاعَ هَمُّهَا الْعُدْوَانُ عَلَى غَيْرِهَا؛ وَإِنَّ النِّسَاءَ هَمُّهُنَّ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْفَسَادُ فِيهَا . إِنَّ الْمُؤمِنِينَ مُسْتَكِينُونَ . إِنَّ الْمُؤمِنينَ مُشْفِقُونَ . إِنَّ الْمُؤمِنينَ خَائِفُونَ .

الشّرْحُ :عزائم اللّه ، هي موجباته والأمر المقطوع عليه ، الذي لا ريبَ فيه ولا شبهة ، قال عليه السلام : إنّ من الأُمور التي نصّ اللّه تعالى عليها نصّا لا يحتمل التأويل _ وهي من العزائم التي يقطع بها ، ولا رجوع فيها ولا نسخ لها _ أنّ مَنْ مات وهو على ذنْبٍ من هذه الذنوب المذكورة _ ولو اكتفى بذلك عليه السلام لأغناه عن قوله : « ولم يتب » إلاّ أنه ذكر ذلك تأكيدا وزيادة في الإيضاح _ فإنّه لا ينفعه فعل شيءٍ من الأفعال الحسنة ولا الواجبة ؛ ولا تفيدُه العبادة ؛ ولو أجهد نفسه فيها ، بل يكون من أهل النار . والذنوب المذكورة هي أنْ يتّخذ مع اللّه إلها آخر فيشرِكه في العبادة ، أو يقتل إنسانا بغير حقّ ، بل ليشفى غيظه ، أو يقذف غيره بأمرٍ قد فعله هو . عرّه بكذا يعُرّه عَرّا ، أي عابه ولطّخه ، أو يروم بلوغ حاجةٍ من أحدٍ بإظهار بدعة في الدين ، كما يفعل أكثرُ النّاس في زماننا ، أو يكون ذا وَجْهين ؛ وهو أيضا قوله : « أو يمشي فيهم بلسانين » ؛ وإنما أعاده تأكيداً . ثم أمرَ عليه السلام بأن يُعقَل ما قاله ، ويُعلَم باطن خطابه ؛ وإنما رَمَز بباطن هذا الكلام إلى الرؤساء يوم الجمل ؛ لأنهم حاولوا أن يشفوا غيظهم بإهلاكه وإهلاك غيره من المسلمين ، وعَرُّوه (1) عليه السلام بأمرٍ هم فعلوه ، وهو التأليب على عثمان وحصْرُه ، واستنجحوا حاجتهم إلى أهلِ البصرة بإظهار البدعة والفتنة ، ولقُوا الناس بوجهين ولسانين ؛ لأنهم بايعوه وأظهروا الرضا به ، ثم دَبّوا له الخَمرَ (2) ، فجعل ذنوبهم هذه مماثلة للشِّرك باللّه سبحانه ؛ في أنها لا تُغْفَر إلاّ بالتوبة ، وهذا هو معنى قوله : « اعقل ذلك » فإنّ المِثْل دَليل على شبهه . وَرُوي « فإنّ

.


1- .عروه : سبوه .
2- .أخمر القوم ؛ إذا تواروا بالخمر ؛ ويقال للرجل إذا ختل صاحبه : هو يدب له الضراء ويمشي له الخمر .

ص: 514

154 . من خطبة له عليه السلام في وصف الداعي ، ووصف أهل البيت ، وذكر لزوم العمل بالعلم والعلم بالعمل

المَثل » واحد الأمثال ، أي هذا الحكْم بعدم المغفرة لمن أتى شيئا من هذه الأشياء عامّ ؛ والواحد منها دليل على ما يماثله ويشابهه . ثم أراد عليه السلام أن يومئ إلى ذكر النّساء للحال التي كان وقع إليها من استنجاد أعدائه بامرأة ؛ فذكر قبل ذكر النساء أنواعا من الحيوان ، تمهيدا لقاعدة ذِكر النساء ، فقال : إنّ البهائم همّها بطونها ، كالحُمر والبقر والإبل الغَنم ، وإنّ السّباع همّها العدوان عَلَى غيرها ؛ كالأسود الضارية والنمور والفهود والبُزاة والصّقور . ثم قال : وإن النساء همّهنّ زينة الحياة الدنيا والفساد فيها . ثم ذكر عليه السلام خصائص المؤمن ، فقال : إنّ المؤمنين مستكينون ؛ استكان الرجلُ ، أي خَضَع وذلّ . إنّ المؤمنين مشفقون ، التقوى رأس الإيمان كما ورد في الخبر . ثم قال : « إن المؤمنين خائفون » ؛ هو الأول وإنما أكّده ، والتأكيد مطلوب في باب الخطابة .

154الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلاموَنَاظِرُ قَلْبِ اللَّبِيبِ بِهِ يُبْصِرُ أَمَدَهُ ، وَيَعْرِفُ غَوْرَهُ وَنَجْدَهُ . دَاعٍ دَعَا ، وَرَاعٍ رَعَى ، فَاسْتَجِيبُوا لِلدَّاعِي ، وَاتَّبِعُوا الرَّاعِيَ .

الشّرْحُ :يقول : إنّ قلب اللبيب له عين يبصر بها غايتَه التي يجري إليها ، ويعرف من أحواله المستقبَلة ما كان مرتفعا أو منخفضا ساقطا . والنَّجْد : المرتفع من الأرض ، ومنه قولهم للعالم بالأُمور : « طَلاّع أنجُد » . ثم قال : « داعٍ دعا » ؛ موضع « داعٍ » رفع ؛ لأ نّه مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : « في الوجود داع دعا ، وراعٍ رعى » ؛ ويعنى بالدّاعي رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وبالراعي نفسَه عليه السلام .

.

ص: 515

الأصْلُ :قَدْ خَاضُوا بِحَارَ الفِتَنِ ، وَأَخَذُوا بِالْبِدَعِ دُونَ السُّنَنِ . وَأَرَزَ الْمُؤمِنُونَ ، وَنَطَقَ الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ . نَحْنُ الشِّعَارُ وَالْأَصْحَابُ ، وَالْخَزَنَةُ وَالْأَبْوَابُ ؛ وَلاَ تُؤتَى الْبُيُوتُ إِلاَّ مِنْ أَبْوَابِهَا؛ فَمَنْ أَتَاهَا مِنْ غَيْرِ أَبْوَابِهَا سُمِّيَ سَارِقاً .

الشّرْحُ :هذا كلام متَّصل بكلام لم يحكِه الرضيّ ؛ ؛ وهو ذكْر قومٍ من أهل الضّلال قد كان أخذ في ذمّهم ، ونَعَى عليهم عيوبهم . وأَرزَ المؤمنون : أي انقبضوا ؛ والمضارع « يأرِز » بالكسر أرْزاً وأروزاً ، ورجل أرْوَز أي منقبض . ثم قال : « نحن الشّعار والأصحاب » ؛ يشير إلى نفسه ، وهو أبداً يأتي بلفظ الجمع ومراده الواحد . والشِّعار : ما يلي الجسد من الثيابِ ، فهو أقرب من سائرهم إليه ؛ ومراده الاختصاص برسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . والخَزَنَةُ والأبواب ؛ يمكن أن يعنى به خَزَنة العلم وأبواب العلم ؛ لقول رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : « أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها ، فمن أرادَ الحكمة فلْيأتِ الباب » . وقوله فيه : « خازن علمي » وقال تارة أُخرى : « عَيْبة عِلْمي » ويمكن أن يريد خزنة الجنّة وأبواب الجنة ، أي لا يدخل الجنة إلاّ مَنْ وافَى بولايتنا ؛ فقد جاء في حقه الخبر الشائع المستفيض : إنه قَسِيم النار والجنة ، وذكر أبو عبيد الهرويّ في « الجمع بين الغريبين » ، أنّ قوما من أئمة العربية فسَّرُوه فقالوا : لأ نّه لما كان مُحِبُّهُ من أهل الجنة ، ومبغِضهُ من أهل النّار ؛ كأنّه بهذا الاعتبار قسيمُ النار والجنة . قال أبو عبيد : وقال غير هؤلاء : بلْ هو قسيمها بنفسه في الحقيقة ؛ يدخِل قوماً إلى الجنة ، وقوما إلى النار ؛ وهذا الذي ذكره أبو عبيد أخيرا هو ما يطابق الأخبار الواردة فيه ، يقول للنار : هذا لي فدعيه ، وهذا لك فخذيه . ثم ذكر أن البيوت لا تؤتَى إلاّ من أبوابها ، قال اللّه تعالى : « وَلَيْسَ الْبِرُّ بأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلكِنّ البِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها » (1) . ثم قال : مَنْ أتاها من غير أبوابها سمّي سارقاً ، وهذا حقّ ظاهراً وباطناً ؛ أمّا الظاهر فلأنّ مَنْ يتسوّر البيوت من غير أبوابها هو

.


1- .سورة البقرة 189 .

ص: 516

السارق ، وأمّا الباطن فلأنّ مَنْ طلَب العلم من غير أستاذ محقّق فلم يأتِهِ من بابه ؛ فهو أشبه شيء بالسارق . واعلم أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لو فخرَ بنفسه ، وبالغ في تعديد مناقبه وفضائله بفصاحته ؛ التي آتاه اللّه تعالى إياها ، واختصّه بها ، وساعده على ذلك فُصحاء العرب كافّة ؛ لم يبلغوا إلى معشار ما نطق به الرسول الصادق صلوات اللّه عليه في أمره ؛ ولستُ أعني بذلك الأخبارَ العامّة الشائعة التي يحتجّ بها الإماميَّة على إمامته ، كخبر الغدير ، والمنزلة ، وقصّة براءة ، وخبر المناجاة ، وقصّة خيبر ، وخبر الدار بمكة في ابتداء الدعوة ، ونحو ذلك (1) ، بل الأخبار الخاصّة التي رواها فيه أئمة الحديث ، التي لم يحصل أقلّ القليل منها لغيره ؛ وأنا أذكر من ذلك شيئاً يسيراً مما رواه علماء الحديث الذين لا يُتَّهمون فيه ، وجلّهم قائلون بتفضيل غيره عليه ، فروايتهم فضائلَه توجب من سكونِ النفس ما لا يوجبه رواية غيرهم . [ثم إن ابن أبي الحديد ذكر 24 حديثا عن أئمة الحديث عندهم ، نكتفي منها بثلاثة أحاديث تعكس منزلة الإمام عليه السلام وعظمته وحقّانيّته ومظلوميّته عليه السلام ] : الخبر التاسع : « يا أنَس ، اسكب لي وضوءا » ، ثم قام فصلّى ركعتين ، ثم قال : « أوّل من يدخل عليك من هذا الباب إمام المتّقين ، وسيّد المسلمين ، ويعسوب الدين ، وخاتم الوصيين وقائد الغرّ المحجّلين » . قال أنس : فقلت : اللّهمّ اجعله رجلاً من الأنصار ، [وكتمت] دعوتي ، فجاء عليّ ، فقال : صلى الله عليه و آله وسلم : « مَنْ جاء يا أنس » ؟ فقلت : عليّ ؛ فقام إليه مستبشرا ، فاعتنقه ، ثم جعل يمسحُ عرق وجهه . فقال عليّ : يا رسول اللّه ، صلّى اللّه عليك وآلك ؛ لقد رأيت منك اليوم تصنع بي شيئا ما صنعته بي قبل ! قال : « وما يمنعني وأنت تؤدّي عني ، وتُسمعُهم صوتي ، وتُبيِّن لهم ما اختلفوا فيه بعدي ! » . رواه أبو نعيم الحافظ في « حلية الأولياء » . والخبر الرابع عشر : « كنت أنا وعليّ نورا بين يدي اللّه عزّوجلّ قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام ، فلما خَلَق آدم قسّم ذلك فيه وجعله جزأين ، فجزء أنا ، وجزء عليّ » .

.


1- .لعل ابن أبي الحديد أراد أن يوهم القارئ بأنّ الأخبار الدالة على إمامته عليه السلام والتي عدّد قسماً منها ، كحديث الغدير ، والمنزلة ، وقصّة براءة ، وخبر المناجاة ، وقصّة خيبر ، وخبر الدار بمكة في ابتداء الدعوة ، ونحو ذلك ، والتي يحتجّ بها الإمامية على إمامته عليه السلام ، أراد أن يوهم أنها لم يروها أئمة حديث أهل السنّة . بلى ، فقد رووها ورووا غيرها من الأحاديث الأربعة والعشرين التي أوردها هنا .

ص: 517

رواه أحمد في « المسند » وفي كتاب فضائل علي عليه السلام ، وذكره صاحب كتاب الفردوس ، وزاد فيه : « ثم انتقلنا حتى صرنا في عبد المطلب ، فكان لي النبوّة ولعليّالوصية » . والحديث الحادي والعشرون : دعا صلى الله عليه و آله وسلم عليّا في غزاة الطائف ، فانتجاه ، وأطال نجواه حتى كرِه قوم من الصحابة ، ذلك ، فقال قائل منهم : لقد أطال اليَوم نَجْوى ابنِ عمّه ، فبلغه عليه الصلاة والسلام ذلك فجمع منهم قوما ، ثم قال : « إنّ قائلاً قال : لقد أطالَ اليوم نجوى ابن عمّه ، أما إني ما انتجيتُه ؛ ولكن اللّه انتجاه » . رواه أحمد رحمه الله في « المسند » . انظر شرح النهج / ج9 : 166 _ 174 ثم أنّ ابن أبي الحديدأردف قائلاً : فأردنا بإيراد هذه الأخبار هاهنا عند تفسير قوله : « نحن الشعار والأصحاب ، ونحن الخزنة والأبواب » ، أن ننبِّه عَلَى عِظَم منزلته عند الرسول صلى الله عليه و آله وسلم ، وأنّ من قيل في حقه ما قيل لو رقى إلى السماء ، وعَرَج في الهواء ، وفخر عَلَى الملائكَة والأنبياء ، تعظما وتبجّحا ؛ لم يكن ملوما ، بل كان بذلك جديرا ؛ فكيف وهو عليه السلام لم يسلك قطّ مسلك التعظّم والتكبّر في شيء من أقواله ولا من أفعاله ؛ وكان ألطف البشر خلقاً ، وأكرمهم طبعاً ، وأشدّهم تواضعاً ، وأكثرهم احتمالاً ، وأحسنهم بِشْرا ، وأطلقهم وجها ؛ حتى نسبه من نسبه إلى الدُّعابة والمزاح ، وهما خُلُقان ينافيان التكبّر والاستطالة ؛ وإنما كان يذكر أحياناً ما يذكره من هذا النوع ، نَفْثَة مصدُور ، وشكوى مكروب ، وتنفّس مهموم ؛ ولا يقصِد به إذا ذكره إلاّ شكر النعمة ، وتنبيه الغافل عَلَى ما خصّه اللّه به من الفضيلة ، فإنَّ ذلك من باب الأمر بالمعروف ، والحضّ عَلَى اعتقاد الحقّ والصواب في أمره ، والنهي عن المنكر الذي هو تقديم غيره عليه في الفضل ؛ فقد نهى اللّه سبحانه عن ذلك فقال : « أَفَمَنْ يَهْدِي إلَى الْحَقّ أحَقُّ أَنْ يُتَّبَع أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ » (1) .

الأصْلُ :منها :فِيهِمْ كَرَائِمُ الإيمَانِ ، وَهُمْ كُنُوزُ الرَّحْمنِ .إِنْ نَطَقُوا صَدَقُوا ، وَإِنْ صَمَتُوا لَمْ يُسْبَقُوا . فَلْيَصْدُقْ رَائِدٌ أَهْلَهُ ، وَلْيُحْضِرْ عَقْلَهُ ، وَلْيَكُنْ مِنْ أَبْنَاءِ الاْخِرَةِ ، فَإِنَّهُ مِنْهَا قَدِمَ ،

.


1- .سورة يونس 35 .

ص: 518

وَإِلَيْهَا يَنْقَلِبُ . فَالنَّاظِرُ بِالْقَلْبِ ، الْعَامِلُ بِالْبَصَرِ ، يَكُونُ مُبْتَدَأُ عَمَلِهِ أَنْ يَعْلَمَ : أَعَمَلُهُ عَلَيْهِ أَمْ لَهُ ؟ ! فَإِنْ كَانَ لَهُ مَضَى فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ وَقَفَ عَنْهُ . فَإِنَّ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غيْرِ طَرِيقٍ . فَ_لاَ يَزِيدُهُ بُعْدُهُ عَنِ الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ إِلاَّ بُعْداً مِنْ حَاجَتِهِ .وَالْعَامِلُ بالْعِلْمِ كَالسَّائِرِ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ . فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ : أَسَائِرٌ هُوَ أَمْ رَاجِعٌ ؟!

الشّرْحُ :قوله : « فيهم » يرجع إلى آل محمد صلى الله عليه و آله وسلم الذين عناهم بقوله : « نحن الشّعار والأصحاب » ، وهو يطلق دائما هذه الصيغ الجمعية ، ويعنى نفسَه ، وفي القرآن كثير من ذلك . وكرائم الإيمان : جمع كريمة وهي المنفسات منه ، قال الشاعر : ماضٍ من العيش لو يفدى بذلتُ لهكرائم المال من خيل ومن نَعَمِ فإن قلت : أيكون في الإيمان كرائم وغير كرائم ؟ قلت : نعم ؛ لأنّ الإيمان عند أكثر أصحابنا اسم للطّاعات كلّها واجبها ونفلها ، فمن كانت نوافله أكثرَ كانت كرائم الإيمان عنده أكثر ، ومن قام بالواجبات فقط من غير نوافل ، كان عنده الإيمان ، ولم يكن عنده كرائم الإيمان. قوله : « وهم كنوز الرحمان » ؛ لأنّ الكنز مال يدّخر لشديدة أو ملمّة تلمّ بالإنسان ، وكذلك هؤلاء قد ذخروا لإيضاح المشكلات الدينية على المكلفين . ثم قال : إن نطقوا صدقوا، وإن سكتوا لم يكن سكوتهم عن عيّ يوجب كونَهم مسبوقين؛ لكنّهم ينطقون حُكْماً، ويصمُتون حلماً . ثم أمر عليه السلام بالتقوى والعمل الصالح ، وقال : « ليصدق رائدٌ أهلَه » ، الرائد : الذاهب من الحيّ يرتاد لهم المرعى ؛ وفي أمثالهم : « الرائد لا يكذِب أهلَه » ، والمعنى أ نّه عليه السلام أمر الإنسان بأن يصدُق نفسَه ولا يكذبَها بالتسويف والتعليل . « فإنه منها قدم » ؛ قد قيل : إن اللّه تعالى خَلَق أرواح البشر قبل أجسادهم والخبر في ذلك مشهور والآية أيضاً ؛ وهي قوله تعالى : « وَإذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ » (1) . ويمكن أنْ يفسّر على وجه آخر ؛

.


1- .سورة الأعراف 172 .

ص: 519

وذلك أنّ الآخرة اليوم عَدَمٌ محضٌ ، والإنسان قَدِم من العدَم ، وإلى العدم ينقلب ؛ فقد صحّ أنه قَدِم من الآخرة ويرجع إلى الآخرة . وروي : « أنّ العالم بالبصَر » أي بالبصيرة ، فيكون هو وقوله : « فالناظر بالقلب » ، سواء ؛ وإنما قاله تأكيدا ، وعلى هذا الوجه لا يحتاج إلى تفسير وتأويل ، والمراد بالبصر هاهنا البصيرة ، فيصير تقدير الكلام : فالناظر بقلبه ، العامل بجوارحه يكون مبتدأ عمله بالفكر والبصيرة ، بأن يعلم : أَعَمَلُه له أم عليه! ويروى : « كالسابل على غير طريق » ، والسابل : طالب السبيل ؛ وقد جاء في الخبر المرفوع : « مَنْ عمِل بغير هدى ، لم يزدد من اللّه إلاّ بعداً » .

الأصْلُ :وَاعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ ظَاهِرٍ بَاطِناً عَلَى مِثَالِهِ ، فَمَا طَابَ ظَاهِرُهُ طَابَ بَاطِنُهُ ، وَمَا خَبُثَ ظَاهِرُهُ خَبُثَ بَاطِنُهُ . وَقَدْ قَالَ الرَّسُولُ الصَّادِقُ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم : «إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ ، وَيُبْغِضُ عَمَلَهُ ، وَيُحِبُّ الْعَمَلَ وَيُبْغِضُ بَدَنَهُ» .

الشّرْحُ :هذا الكلام مشتقّ من قوله تعالى : « وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ والَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إلاَّ نَكِدا » (1) ، وهو تمثيل ضربه اللّه تعالى لمن ينجع فيه الوعظ والتذكير من البشر ؛ ولمن لا يؤثّر ذلك فيه ، مثّله بالأرض العذبة الطيبة تخرج النبْت ، والأرض السبخة الخبيثة لا تنبت ؛ وكلام أمير المؤمنين عليه السلام إلى هذا المعنى يومِئ . يقول : إن لكلتا حالتِي الإنسان الظاهرة أمرا باطنا يناسبها من أحواله ؛ والحالتان الظاهرتان : ميله إلى العقل وميله إلى الهوى ؛ فالمتّبع لمقتضى عقله يرزق السعادة والفوز ؛ فهذا هو الذي طاب ظاهره ، وطاب باطنه ، والمتّبع لمقتضى هواه وعادته ودين أسلافه يرزق الشّقاوة والعطب ؛ وهذا هو الذي خبُث ظاهره وخَبُث باطنه .

.


1- .سورة الأعراف 58 .

ص: 520

فإن قلت : فلم قال : « فما طاب » ؟ وهلاّ قال : « فمن طاب » ! وكذلك في « خَبُث »! قلت : كلامه في الأخلاق والعقائد وما تنطوي عليه الضمائر ؛ يقول : ما طاب من هذه الأخلاق والملكات ، وهي خلق النفس الربانيّة المريدة للحقّ ؛ من حيث هو حقّ ؛ سواء كان ذلك مذهب الآباء والأجداد أو لم يكن ؛ وسواء كان ذلك مستقبَحاً مستهجناً عند العامّة أو لم يكن ؛ وسواء نال به من الدنيا حظّا أو لم ينل . يستطيب باطنه يعني ثمرته ؛ وهي السعادة ؛ وهذا المعنى من مواضع « ما » لا من مواضع « من » . فأمّا الخبر المرويّ ، فإنه مذكور في كتب المحدّثين ؛ وقد فسّره أصحابنا المتكلّمون ، فقالوا : إنّ اللّه تعالى قد يحبّ المؤمن ومحبَّته له إرادة إثابته ، ويبغض عملاً من أعماله وهو ارتكاب صغيرة من الصغائر ؛ فإنّها مكروهة عند اللّه ، وليست قادحة في إيمان المؤمن ؛ لأنها تقع مكفِّرة ؛ وكذلك قد يبغض العبدَ بأن يريد عقابه ؛ نحو أن يكون فاسقاً لم يتب ، ويحبّ عملاً من أعماله ؛ نحو أن يطيع ببعض الطاعات ، وحبّه لتلك الطاعة ؛ هي إرادته تعالى أن يُسقط عنه بها بعض ما يستحقّه من العقاب المتقدّم .

الأصْلُ :وَاعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ نَبَاتاً ، وَكُلُّ نَبَاتٍ لاَ غِنَى بِهِ عَنِ الْمَاءِ ، وَالْمِيَاهُ مُخْتَلِفَةٌ ؛ فَمَا طَابَ سَقْيُهُ ، طَابَ غَرْسُهُ وَحَلَتْ ثَمَرَتُهُ ، وَمَا خَبُثَ سَقْيُهُ ، خَبُثَ غَرْسُهُ وَأَمَرَّتْ ثَمْرَتُهُ .

الشّرْحُ :السَّقْي : مصدر سَقَيْت ، والسِّقْي ، بالكسر : النصيب من الماء . وأمرَّ الشيء ، أي صار مرّا . وهذا الكلام مثل في الإخلاص وضدّه وهو الرياء وحبّ السمعة ، فكلّ عمل يكون مدده الإخلاص لوجهه تعالى لا غير ؛ فإنه زاكٍ حلو الجنَى ، وكلّ عمل يكون الرياء وحبّ الشهرة مددة ؛ فليس بزاكٍ ، وتكون ثمرته مرّة المذاق .

.

ص: 521

155 . من خطبة له عليه السلام يذكر فيها بديع خلقة الخُفّاش

155الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها بديع خلقة الخُفّاشالْحَمْدُ للّه الَّذِي انْحَسَرَتِ الأَوْصَافُ عَنْ كُنْهِ مَعْرِفَتِهِ ، وَرَدَعَتْ عَظَمَتُهُ الْعُقُولَ ، فَلَمْ تَجِدْ مَسَاغاً إِلَى بُلُوغِ غَايَةِ مَلَكُوتِهِ! هُوَ اللّهُ المَلِكُ الْحَقُّ الْمُبِينُ ، أَحَقُّ وَأَبْيَنُ مِمَّا تَرَى الْعُيُونُ ، لَمْ تَبْلُغْهُ الْعُقُولُ بِتَحْدِيدٍ فَيَكُونَ مُشَبَّهاً ، وَلَمْ تَقَعْ عَلَيْهِ الْأَوْهَامُ بِتَقْدِيرٍ فَيَكُونَ مُمَثَّ_لاً . خَلَقَ الْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ تَمْثِيلٍ ، وَلاَ مَشْوَرَةِ مُشِيرٍ ، وَلاَ مَعُونَةِ مُعِينٍ ، فَتَمَّ خَلْقُهُ بِأَمْرِهِ ، وَأَذْعَنَ لِطَاعَتِهِ ، فَأَجَابَ وَلَمْ يُدَافِعْ ، وَانْقَادَ وَلَمْ يُنَازِعْ . وَمِنْ لَطَائِفِ صَنْعَتِهِ ، وَعَجَائِبِ خِلْقَتِهِ ، مَا أَرَانَا مِنْ غَوَامِض الْحِكْمَةِ فِي هذِهِ الْخَفَافِيش الَّتِي يَقْبِضُهَا الضِّيَاءُ الْبَاسِطُ لِكُلِّ شَيْءٍ ، وَيَبْسُطُهَا الظَّ_لاَمُ الْقَابِضُ لِكُلِّ حَيٍّ؛ وَكَيْفَ عَشِيَتْ أَعْيُنُهَا عَنْ أَنْ تَسْتَمِدَّ مِنَ الشَّمْسِ الْمُضِيئَةِ نُوراً تَهْتَدِي بِهِ فِي مَذَاهِبِهَا ، وَتَتَّصِلُ بِعَلاَنِيَةِ بُرْهَانِ الشَّمْسِ إِلَى مَعَارِفِهَا . وَرَدَعَهَا بِتَ_لَأ لُؤِ ضِيَائِهَا عَنِ الْمُضِيِّ فِي سُبُحَاتِ إِشْرَاقِهَا ، وَأَكَنَّهَا فِي مَكَامِنِهَا عَنِ الذَّهَابِ فِي بَلَجِ ائْتِلاَقِهَا ، فَهِيَ مُسْدَلَةُ الْجُفُونِ بِالنَّهَارِ عَلَى حِدَاقِهَا ، وَجَاعِلَةُ اللَّيْلِ سِرَاجاً تَسْتَدِلُّ بِهِ فِي الْتِ_مَاس أَرْزَاقِهَا ؛ فَ_لاَ يَرُدُّ أَبْصَارَهَا إِسْدَافُ ظُلمَتِهِ ، وَلاَ تَمْتَنِعُ مِنَ الْمُضِيِّ فِيهِ لِغَسَقِ دُجُنَّتِهِ . فَإِذَا ألقَتِ الشَّمْسُ قِنَاعَهَا ، وَبَدَتْ أَوْضَاحُ نَهَارِهَا ، وَدَخَلَ مِنْ إِشْرَاقِ نُورِهَا عَلَى الضِّبَابِ فِي وِجَارهَا ، أَطْبَقَتِ الْأَجْفَانَ عَلَى مَآقِيهَا ، وَتَبَلَّغَتْ بِمَا اكْتَسَبَتْهُ مِنَ الْمَعَاش فِي ظُلَمِ لَيَالِيهَا . فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ اللَّيْلَ لَهَا نَهَاراً وَمَعَاشاً ، وَالنَّهَارَ سَكَناً وَقَراراً ! وَجَعَلَ لَهَا أَجْنِحَةً مِنْ لَحْمِهَا تَعْرُجُ بِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الطَّيَرَانِ ، كَأَنَّهَا

.

ص: 522

شَظَايَا الآذَانِ غَيْرَ ذَوَاتِ رِيش وَلاَ قَصَبٍ ، إِلاَّ أ نّكَ تَرَى مَوَاضِعَ الْعُرُوقِ بَيِّنَةً أَعْلاَماً . لَهَا جَنَاحَانِ لَمْ يَرِقَّا فَيْنْشَقَّا ، وَلَمْ يَغْلُظَا فَيَثْقُ_لاَ . تَطِيرُ وَوَلَدُهَا لاَصِقٌ بِهَا لاَجِيءٌ إِلَيْهَا ، يَقَعُ إِذَا وَقَعَتْ ، وَيَرْتَفِعُ إِذَا ارْتَفَعَتْ ، لاَ يُفَارِقُهَا حَتَّى تَشْتَدَّ أَرْكَانُهُ ، وَيَحْمِلَهُ لِلنُّهُوضِ جَنَاحُهُ ، وَيَعْرِفَ مَذَاهِبَ عَيْشِهِ ، وَمَصَالِحَ نَفسِْهِ . فَسُبْحَانَ الْبَارِئ لِكُلِّ شَيْءٍ ، عَلَى غَيْرِ مِثالٍ خَلاَ مِنْ غَيْرِهِ!

الشّرْحُ :الخفّاش ، واحد جمعه خَفَافيش ، وهو هذا الطائر الذي يطير ليلاً ولا يطير نهاراً ، وهو مأخوذ من الخَفَش ؛ وهو ضعف في البصر خِلْقة ، والرجل أخفش ، وقد يكون علّة وهو الذي يبصر بالليل لا بالنهار ، أو في يوم غيم لا في يوم صَحْو . وانحسرت الأوصاف : كلّت وأعيت . وردعت : كَفّت . والمساغ : المسلك . قال : « أحقّ وأبيَن مما ترى العيون » ؛ وذلك لأنّ العلوم العقلية إذا كانت ضرورية أو قريبة من الضروريَّة ، كانت أوثق من المحسوسات ؛ لأنّ الحسّ يغلط دائما ، فيرى الكبير صغيرا كالبعيد ، والصغير كبيراً . والقضايا العقلية الموثوق بها ؛ لأنها بديهيّة أو تكاد ، فالغلط غير داخل عليها . قوله : « يقبضها الضياء » ، أي يقبض أعينها . قوله : « وتّتصل بعلانية برهان الشمس » كلام جيّد في مذاهب الاستعارة . وسُبُحات إشراقها : جلاله وبهاؤه . وأكنّها : ستَرها ، وبُلَج ائتلافها : جمع بُلْجة ؛ وهي أول الصبح ، وجاء بَلْجة أيضا بالفتح . والحِدَاق : جمع حَدَقة العين . والأسداف : مصدر أسدف الليل ، أظلم . وغسق الدّجُنّة : ظلام الليل . فإذا ألقت الشمس قناعها ، أي سفرت عن وجهها وأشرقت . والأوضاح : جمع وَضَح ، وقد يراد به حليٌّ يعمل من الدراهم الصّحاح ، وقد يراد به الدراهم الصِّحاح نفسها وإن لم يكن حُليّا . والضِّباب ، جمع ضَبّ . ووِجارها : بيتها . وشظايا الآذان : أقطاع منها . والقصب هاهنا : الغُضروف . وخلاصة الخُطْبة ، التعجّب من أعين الخفافيش التي تبصر ليلاً ولا تبصر نهارا ، وكلّ الحيوانات بخلاف ذلك ، فقد صار الليل لها معاشا ، والنهار لها سكناً ؛ بعكس الحال فيما عداها . ثم من أجنحتها التي تطير بها وهي لحم لا ريش عليه ولا غضروف ؛ وليست رقيقة

.

ص: 523

156 . من كلام له عليه السلام خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم

فتنشقّ ولا كثيفة فتثقلها عن الطيران . ثم من ولدها إذا طارت احتملته وهو لاصق بها ، فإذا وقعت وقع ملتصقاً بها هكذا ، إلى أن يشتدّ ويقوى على النهوض فيفارقها .

156الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحمفَمَنِ اسْتَطَاعَ عِنْدَ ذلِكَ أَنْ يَعْتَقِلَ نَفْسَهُ عَلَى اللّهِ ، فَلْيَفْعَلْ . فَإِنْ أَطَعْتُمُوني فَإِني حَامِلُكُمْ إِنْ شَاءَ اللّهُ عَلَى سَبِيلِ الْجَنَّةِ ، وَإِنْ كَانَ ذَا مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ وَمَذَاقَةٍ مَرِيرَةٍ . وَأَمَّا فُ_لاَنَةُ فَأَدْرَكَهَا رَأيُ النِّسَاءِ ، وَضِغْنٌ غَ_لاَ فِي صَدْرِهَا كَمِرْجَلِ الْقَيْنِ ، وَلَوْ دُعِيَتْ لِتَنَالَ مِنْ غَيْرِي مَا أَتَتْ إِلَيَّ ، لَمْ تَفْعَلْ . وَلَهَا بَعْدُ حُرْمَتُهَا الأُولى ، وَالْحِسَابُ عَلَى اللّهِ .

الشّرْحُ :يعتقل نفسه على اللّه : يحبسها على طاعته . ثم ذكر أنّ السبيل التي حملهم عليها وهي سبيل الرشاد ؛ ذات مشقّة شديدة ومذاقة مريرة ؛ لأنّ الباطل محبوب النفوس ، فإنه اللهو واللّذة ، وسقوط التكليف ؛ وأما الحقّ فمكروه النفس ؛ لأنّ التكليف صعب وترك الملاذّ العاجلة ، شاقّ شديد المشقَّة . والضِّغن : الحقد . والمِرْجل : قِدْر كبيرة . والقيْن : الحداد ، أي كَغَليان قِدْر من حديد . وفلانة كناية عن أُمّ المؤمنين عائشة ، أبوها أبو بكر ، وأُمّها أُم رُومان ابنة عامر تزوّجها رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قبل الهجرة بسنتين ، وبنى عليها بالمدينة . وتوفيت في سنة سبع وخمسين للهجرة ، وعمرها أربع وستون سنة ، ودفنت بالبَقيع . فأمّا قوله : « فأدركها رأيُ النساء » ، أي ضعف آرائهنّ . وقد جاء في الخبر : « لا يفلح قوم أسندوا أمرَهم إلى امرأة » .

.

ص: 524

فأمّا قوله عليه السلام : « ولو دُعِيَتْ لتنال من غيري مثل ما أتت إليّ ، لم تفعل » فإنما يعني به عمر ، يقول : لو أنّ عمر وَلِيَ الخلافة بعد قتل عثمان على الوجه الذي قتِل عليه ، الوجهِ الّذي أنا وليت الخلافة عليه ، ونسِب إلى عمر أنه كان يؤثر قتله ، أو يحرّض عليه ، ودعِيَتْ عائشة إلى أن تخرج عليه في عصابة من المسلمين إلى بعض بلاد الإسلام _ تثير فتنة وتنقض البيعة _ لم تفعل ، وهذا حقّ ؛ لأنها لم تكن تَجِد على عمر ما تجده على عليّ عليه السلام ، ولا الحال الحال 1 . فأمّا قوله : « ولها _ بعدُ _ حُرْمتها الأولى ، والحساب على اللّه » ، فإنه يعني بذلك حُرْمَتها بنكاح رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لها ، وحسابها على اللّه ؛ لانه غفور رحيم لا يتعاظم عفوه زلّة ، ولا يضيق عن رحمته ذنب .

الأصْلُ :منه :سَبِيلٌ أَبْلَجُ الْمِنْهَاجِ ، أَنْوَرُ السِّرَاجِ . فَبِالاْءِيمَانِ يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحَاتِ ، وَبِالصَّالِحَاتِ يُسْتَدَلُّ عَلَى الاْءِيمَانِ ، وَبِالاْءِيمَانِ يُعْمَرُ الْعِلْمُ ، وَبِالْعِلْمِ يُرْهَبُ الْمَوْتُ ، وَبالْمَوْتِ تُخْتَمُ الدُّنْيَا ، وَبِالدُّنْيَا تُحْرَزُ الآخِرَةُ ، وَبِالقِيَامَةِ تُزْلَفُ الجَنَّةُ للمُتقينَ وَتُبرزُ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ . وَإِنَّ الْخَلْقَ لاَ مَقْصَرَ لَهُمْ عَنِ الْقِيَامَةِ ، مُرْقِلِينَ فِي مِضْمَارِهَا إِلَى

.

ص: 525

الْغَايَةِ الْقُصْوَى .

الشّرْحُ :هو الآن في ذكر الإيمان ، وعنه قال : « سبيل أبلج المنهاج » ، أي واضح الطريق . ثم قال « فبالإيمان يستدلّ على الصالحات » ، يريد بالإيمان هاهنا مسمّ_اه اللغويّ لا الشرعيّ ؛ لأنّ الإيمان في اللغة هو التصديق ، قال سبحانه : « وَمَا أَنْتَ بمُؤمِنٍ لَنَا » (1) ، أي بمصدّق ، والمعنى أنّ من حَصَل عنده التَّصديق ، بالوحدانية والرسالة ؛ وهما كلمتا الشهادة ، استدلّ بهما على وجوب الأعمال الصالحة عليه أو ندبه إليها ؛ لأنّ المسلم يعلم من دين نبيه صلى الله عليه و آله وسلمأ نّه أوجب عليه أعمالاً صالحة ، وندبه إلى أعمال صالحة ؛ فقد ثبت أنّ بالإيمان يستدلّ على الصالحات . ثم قال : « وبالصالحات يستدلّ على الإيمان » ، فالإيمان هاهنا مستعمل في مسمّ_اه الشرعيّ لا في مسمّ_اه اللغويّ ، ومسمّ_اه الشرعيّ هو العقد بالقلب ؛ والقول باللسان ، والعمل بالجوارح ، فلا يكون المؤمن مؤمناً حتى يستكمل فعل كلّ واجب ، ويجتنب كلّ قبيح ؛ ولا شبهة أنّا مَتَى علمنا أو ظننّا من مكلّفٍ أنه يفعل الأفعال الصالحة ، ويجتنب الأفعال القبيحة ؛ استدللنا بذلك على حسن إطلاق لفظ المؤمن عليه ، وبهذا التفسير الذي فَسّرناه نسلم من إشكال الدَّوْر . ثم قال عليه السلام : « وبالإيمان يعمر العلم » ؛ وذلك لأنّ العالم وهو غير عامل بعلمه ، غير منتفع بما علِم ، بل مستضرّ به غاية الضرر ؛ فكأنّ علمه خراب غير معمور ؛ وإنّما يعمر بالإيمان وهو فعل الواجب وتجنّب القبيح على مذهبنا ، أو الاعتقاد والمعرفة على مذهب غيرِنا أو القول اللسانيّ على قول آخرين ؛ ومذهبنا أرجح ؛ لأنّ عمارة العلم إنّما تكون بالعمل من الأعضاء والجوارح ؛ وبدون ذلك يبقى العلم على خرابه كما كان . ثم قال : « وبالعلم يُرهب الموت » ، هذا من قول اللّه تعالى : « إنّما يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ » (2) . ثم قال : « وبالموت تختم الدنيا » ، وهذا حق لأ نّه انقطاع التكليف . ثم قال : « وبالدنيا تحرز الآخرة » ، هذا كقول بعض الحكماء . الدنيا متجر ، والآخرة ربح ، ونفسك رأس المال . ثم قال : « وبالقيامة تزلف الجنَّة للمتقين وتبرز الجحيم للغاوين » ، هذا من

.


1- .سورة يوسف 17 .
2- .سورة فاطر 28 .

ص: 526

القرآن العزيز (1) . وتزلف لهم : تقدّم لهم وتقرّب إليهم . ولا مقصر لي عن كذا : لا محبس ولا غاية لي دونه . وأرقل : أسرع . والمضمار : حيث تستبِق الخيل .

الأصْلُ :منها :قَدْ شَخَصُوا مِنْ مُسْتَقَرِّ الْأَجْدَاثِ ، وَصَارُوا إِلَى مَصَائِرِ الْغَايَاتِ . لِكُلِّ دَارٍ أَهْلُهَا لاَ يَسْتَبْدِلُونَ بِهَا وَلاَ يُنْقَلُونَ عَنْهَا . وَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، لَخُلْقَانِ مِنْ خُلْقِ اللّهِ سُبْحَانَهُ ؛ وَإِنَّهُمَا لاَ يُقَرِّبَانِ مِنْ أَجَلٍ ، وَلاَ يَنْقُصَانِ مِنْ رِزْقٍ . وَعَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللّهِ ، فَإِنَّهُ الْحَبْلُ الْمَتِينُ ، وَالنُّورُ الْمُبِينُ ، وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ ، وَالرِّيُّ النَّاقِعُ ، وَالْعِصْمَةُ لِلْمُتَمَسِّكِ ، وَالنَّجَاةُ لِلْمُتَعَلِّقِ . لاَ يَعْوَجُّ فَيُقَامَ ، وَلاَ يَزِيغُ فَيُسْتَعْتَبَ ، وَلاَ تُخْلِقُهُ كَثْرَةُ الرَّدِّ ، وَوُلُوجُ السَّمْعِ . مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ سَبَقَ .

الشّرْحُ :شَخَصُوا من بلد كذا : خرجوا . ومستقرّ الأجداث : مكان استقرارهم بالقبور ؛ وهي جمع جَدَث . ومصائر الغايات : جمع مَصِير ، والغايات : جمع غاية وهي ما ينتهى إليه . ثم ذكر أن أهل الثواب والعقاب ؛ كلّ من الفريقين يقيم بدار لا يتحوّل منها ؛ وهذا كما ورد في الخبر : « إنه ينادِي منادٍ : يا أهل الجنّة سعادة لا فناء لها ، ويا أهل النار ؛ شقاوة لا فناء لها » . ثم ذكر أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خُلقان من خُلُق اللّه سبحانه ؛ وذلك لأ نّه تعالى ما أمر إلاّ بمعروف ، وما نهى إلاّ عن منكر ؛ ويبقى الفرق بيننا وبينه أنّا يجب علينا النهي عن المنكر بالمنع منه ، وهو _ سبحانه _ لا يجب عليه ذلك ؛ لأ نّه لو منع من إتيان المنكر لبطل التكليف . ثم قال : « إنّهما لا يقرّ بان من أجَلٍ ، ولا ينقصان من رزق » ، وإنما قال عليه السلام ذلك ؛ لأنّ كثيرا من الناس يكفّ عن نهي الظلمة عن المناكير ؛ توهّما منه أنّهم إمّا أن يبطشوا به فيقتلوه ، أو

.


1- .من قوله تعالى : « وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلمُتَّقِينَ * وبُرّزتِ الجحيمُ للغاوين » .

ص: 527

157 . من خطبة له عليه السلام حينما قام إليه رجل وسأله عن الفتنة

يقطعوا رزقه ويحرِموه ، فقال عليه السلام : إنّ ذلك ليس مما يقرّب من الأجل ، ولا يقطع الرزق وينبغي أن يحمَل كلامُه عليه السلام على حال السلامة وغلبة الظنّ بعدم تطرّق الضرر الموفِي على مصلحة النهي عن المنكر . ثم أمر باتباع الكتاب العزيز ، ووصفه بما وصفَه به . وماء ناقع ، ينقع الغلة ، أي يقطعها ويُروى منها . ولا يزيغ : يميل فيُستعتب : يطلب منه العتبى هي الرضا ؛ كما يطلب من الظالم يميل فيسترضى . قال : ولا يخلقه كثرة الردّ وولوج السمع ، هذا من خصائص القرآن المجيد شرّفه اللّه تعالى ، وذلك أنّ كلّ كلام منثور أو منظوم إذا تكررت تلاوته وتردّد ولوجُه الأسماع ملّ وسُمج واستُهجن ؛ إلاّ القرآن فإنه لا يزال غضا طريّا محبوبا غير مملول .

157الأصْلُ :وقام إليه عليه السلام رجل ، فقال : أخبرنا عن الفتنة وهل سألتَ عنها رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ؟فقال عليه السلام : إنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ ، قَوْلَهُ : « الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْركُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ) عَلِمْتُ أَنَّ الْفِتْنَةَ لاَ تَنْزِلُ بِنَا وَرَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا . فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللّه مَا هذِهِ الْفِتْنَةُ الَّتي أَخْبَرَكَ اللّهُ تَعَالَى بِهَا ؟ فَقَالَ : يَا عَلِيُّ ، إِنَّ أُمَّتِي سَيُفْتَنُونَ بَعْدِي . فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللّهِ ، أَوَلَيْسَ قَدْ قُلْتَ لِي يَوْمَ أُحُدٍ حَيْثُ اسْتُشْهِدَ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَحِيزَتْ عَنِّي الشَّهَادَةُ ، فَشَقَّ ذلِكَ عَلَيَّ ، فَقُلْتَ لِي : أبْشِرْ ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ وَرَائِكَ ؟ فَقَالَ لِي : إِنَّ ذلِكَ لَكَذلِكَ ، فَكَيْفَ صَبْرُكَ إِذَاً؟ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللّهِ ، لَيسَ هذَا مِنْ مَوَاطِنِ الصَّبْرِ ، وَلكِنْ مِنْ مَوَاطِنِ الْبُشْرَى وَالشُّكْرِ .

.

ص: 528

وَقَالَ : يَا عَلِيُّ ، إِنَّ الْقَوْمَ سَيُفْتَنُونَ بِأَمْوَالِهمْ ، وَيَمُنُّونَ بِدِينِهِم عَلَى رَبِّهِمْ ، وَيَتَمَنَّوْنَ رَحْمَتَهُ ، وَيَأْمَنُونَ سَطْوَتَهُ ، وَيَسْتَحِلُّونَ حَرَامَهُ بِالشُّبُهَاتِ الْكَاذِبَةِ ، وَالْأَهْوَاءِ السَّاهِيَةِ ، فَيَسْتَحِلُّونَ الْخَمْرَ بِالنَّبِيذِ ، وَالسُّحْتَ بِالْهَدِيَّةِ ، وَالرِّبَا بِالْبَيْعِ . فقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللّهِ ، فَبِأَيِّ الْمَنَازِلِ أُنْزِلُهُمْ عِنْدَ ذلِكَ ؟ أَبِمَنْزِلَةِ رِدَّةِ ، أَمْ بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةِ ؟ فَقَالَ : بِمَنْزِلَةِ فِتْنَة .

الشّرْحُ :قد كان عليه السلام يتكلم في الفتنة ؛ ولذلك ذكر الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ ولذلك قال : « فعليكم بكتاب اللّه » ، أي إذا وقع الأمر واختلط الناس ، فعليكم بكتاب اللّه ؛ فلذلك قام إليه مَنْ سأله عن الفتنة . وهذا الخبر مرويّ عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، قد رواه كثير من المحدّثين عن عليّ عليه السلام ، أن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قال له : « إنّ اللّه قد كتب عليك جهاد المفتونين ، كما كتب عليّ جهاد المشركين » ، قال : فقلت : يا رسول اللّه ، ما هذه الفتنة التي كتب عليّ فيها الجهاد ؟ قال : قوم يشهدون أن لا إله إلاّ اللّه وَأَنِّي رسول اللّه ، وهم مخالفون للسنّة . فقلت : يا رسول اللّه ، فعلام أقاتلهم وهم يشهدون كما أشهد ؟ قال : على الإحداث في الدّين ، ومخالفة الأمر ؛ فقلت : يا رسول اللّه ، إنك كنت وعدتَني الشهادة ، فاسأل اللّه أن يعجّلها لي بين يديك ، قال : فمن يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ... الحديث . واعلم أنّ لفظه عليه السلام المرويّ في « نهج البلاغة » يدلّ عَلَى أنّ الآية المذكورة وهي قوله عليه السلام : « الم أَحَسِبَ النَّاسُ » أنزِلت بعد أُحُد ؛ وهذا خلاف قول أرباب التفسير . فإن قلت : فلِمَ قال : « علمت أنّ الفِتْنَةَ لاَ تَنْزلُ بِنَا وَرَسُولُ اللّه بين أظهرنا »؟ قلت : لقوله تعالى : « وَمَا كَان اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ » (1) . وقوله : « حيزتْ عَنِّي الشَّهَادَةُ » ، أي مُنعت . قوله : « ليس هَذَا من مواطن الصبر » كلامٌ عالٍ جدا يدلّ على يقين عظيم ، وعرْفَانٍ تام ، ونحوه قوله _ وقد ضربه ابن ملجم _ : فزتُ وربّ الكعبة . قوله : « سيُفتنون بعدِي بأموالهم » من قوله تعالى : « إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ

.


1- .سورة الأنفال 33 .

ص: 529

158 . من خطبة له عليه السلام في وصف الدهر والتحفظ منه ، وفيها جملة وصايا

فِتْنَةٌ » (1) . قوله : « ويمنُّون بدينهم على ربّهم » ، من قوله تعالى : « يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلاَمَكُمْ بَلِ اللّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ » (2) . قوله : « ويتمنّوْن رحمته » من قوله : « أحمق الحمقى من أتبع نفسه هواها ، وتمنَّى على اللّه » . قوله : « وَيَأْمَنُونَ سَطْوَتهُ » من قوله تعالى : « أَفأَمِنُوا مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إلاّ الْقَوْمُ الخَاسِرُونَ » (3) . والأهواء الساهية : الغافلة . والسُّحْت : الحرام ، ويجوز ضم الحاء ، وقد أسحت الرجل في تجارته ، إذا اكْتَسَبَ السُّحْت . وفي قوله : « بل بمنزلة فتنة » تصديق لمذهبنا في أهل البغي ، وأنهم لم يدخلوا في الكفر بالكليّة ، بل هم فسّاق ، والفاسق عندنا في منزلة بين المنزلتين ، خرج من الإيمان ، ولم يدخل في الكفر .

158الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامالْحَمْدُ للّه الَّذِي جَعَلَ الْحَمْدَ مِفْتَاحاً لِذِكْرِهِ ، وَسَبَباً لِلْمَزِيدِ مِنْ فَضْلِهِ ، وَدَلِيلاً عَلَى آلاَئِهِ وَعَظَمَتِهِ . عِبَادَ اللّهِ ، إِنَّ الدَّهْرَ يَجْرِي بِالْبَاقِينَ كَجَرْيِهِ بِالْمَاضِينَ ؛ لاَ يَعُودُ مَا قَدْ وَلَّى مِنْهُ ، وَلاَيَبْقَى سَرْمَداً مَا فِيهِ . آخِرُ فَعَالِهِ كَأَوَّلِهِ .مُتَشَابِهَةٌ أُمُورُهُ ، مُتَظَاهِرَةٌ أَعْلاَمُهُ . فَكَأ نّكُمْ بِالسَّاعَةِ تَحْدُوكُمْ حَدْوَ الزَّاجِرِ بِشَوْلِهِ ؛ فَمَنْ شَغَلَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ نَفْسِهِ تَحَيَّرَ فِيالظُّلُماتِ ، وَارْتَبَكَ فِي الْهَلَكَاتِ ، وَمَدَّتْ بِهِ شَيَاطِينُهُ ، فِي طُغْيَانِهِ ، وَزَيَّنَتْ لَهُ

.


1- .سورة الأنفال 28 .
2- .سورة الحجرات 17 .
3- .سورة الأعراف 99 .

ص: 530

سَيِّئَ أَعْمَالِهِ . فَالْجَنَّةُ غَايَةُ السَّابِقِينَ ، وَالنَّارُ غَايَةُ الْمُفَرِّطِينَ . اعْلَمُوا عِبَادَ اللّهِ ، أَنَّ التَّقْوَى دَارُ حِصْنٍ عَزِيزٍ ، وَالْفُجُورَ دَارُ حِصْنٍ ذَلِيلٍ ، لاَ يَمْنَعُ أَهْلَهُ ، وَلاَ يُحْرِزُ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ . أَلاَ وَبِالتَّقْوَى تُقْطَعُ حُمَةُ الْخَطَايَا ، وَبِالْيَقِينِ تُدْرَكُ الْغَايَةُ الْقُصْوَى . عِبَادَ اللّهِ ، اللّهَ اللّهَ فِي أَعَزِّ الْأَنْفُس عَلَيْكُم ، وَأَحَبِّهَا إِلَيْكُمْ؛ فَإِنَّ اللّهَ قَدْ أَوْضَحَ لَكُمْ سَبِيلَ الْحَقِّ وَأَنَارَ طُرُقَهُ . فَشِقْوَةٌ لاَزِمَةٌ ، أَوْ سَعَادَةٌ دَائِمَةٌ ! فَتَزَوَّدُوا فِي أَيَّامِ الفَنَاءِ لأَيَّامِ البَقَاءِ . قَدْ دُلِلْتُمْ عَلَى الزَّادِ ، وَأُمِرْتُمْ بالظَّعْنِ ، وَحُثِثْتُمْ عَلَى الْمَسِيرِ؛ فَإِنَّمَا أَنْتُمْ كَرَكْبٍ وُقُوفٍ ، لاَ يَدْرُونَ مَتَى يُؤمَرُونَ بِالسَّيْرِ .أَلاَ فَمَا يَصْنَعُ بِالدُّنْيَا مَنْ خُلِقَ لِلآخِرَةِ ! وَمَا يَصْنَعُ بِالمَالِ مَنْ عَمَّا قَلِيلٍ يُسْلَبُهُ ، وَتَبْقَى عَلَيْهِ تَبِعَتُهُ وَحِسَابُهُ! عِبَادَ اللّهِ ، إِنَّهُ لَيْسَ لِمَا وَعَدَ اللّهُ مِنَ الْخَيْرِ مَتْرَكٌ ، وَلاَ فِيَما نَهَى عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ مَرْغَبٌ . عِبَادَ اللّهِ ، احْذَرُوا يَوْماً تُفْحَصُ فِيهِ الأعْمَالُ ، وَيَكْثُرُ فِيهِ الزِّلْزَالُ ، وَتَشِيبُ فِيهِ الأطْفَالُ . اعْلَمُوا ، عِبَادَ اللّهِ ، أَنَّ عَلَيْكُمْ رَصَداً مِنْ أنْفُسِكُمْ ، وَعُيُوناً مِنْ جَوَارِحِكُمْ ، وَحُفَّاظَ صِدْقٍ يَحْفَظُونَ أَعْمَالَكُمْ ، وَعَدَدَ أَنْفَاسِكُمْ ، لاَ تَسْتُرُكُمْ مِنْهُمْ ظُلمَةُ لَيْلٍ دَاجٍ ، وَلاَ يُكِنُّكُمْ مِنْهُمْ بَابٌ ذُو رِتَاجٍ وَإِنَّ غَداً مِنَ الْيَوْمِ قَرِيبٌ . يَذْهَبُ الْيَوْمُ بِمَا فِيهِ ، وَيَجِيءُ الْغَدُ لاَحِقاً بِهِ ، فَكَأَنَّ كُلَّ امْرِى ءٍ مِنْكُمْ قَدْ بَلَغَ مِنَ الْأَرْض مَنْزِلَ وَحْدَتِهِ ، وَمَخَطَّ حُفْرَتِهِ . فَيَا لَهُ مِنْ بَيْتِ وَحْدَةٍ ، وَمَنْزِلِ وَحْشَةٍ ، وَمَفْرَدِ غُرْبَةٍ! وَكَأَنَّ الصَّيْحَةَ قَدْ أَتَتْكُمْ ، وَالسَّاعَةَ قَدْ غَشِيَتْكُمْ ، وَبَرَزْتُمْ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ ، قَدْ زَاحَتْ عَنْكُمْ الْأَبَاطِيلُ ، وَاضْمَحَلَّتْ عَنْكُمُ الْعِلَلُ ، وَاسْتَحَقَّتْ بِكُمُ الْحَقَائِقُ ، وَصَدَرَتْ بِكُمْ الْأُمُورُ مَصَادِرَهَا ، فَاتَّعِظُوا بِالْعِبَرِ ، وَاعْتَبِرُوا بِالْغِيَرِ ، وَانْتَفِعُوا بِالنُّذُرِ .

.

ص: 531

الشّرْحُ :جعل الحمد مفتاحا لذكره ؛ لأنّ أوّل الكتاب العزيز : « الْحَمْدُ للّهِِ رَبِّ الْعَالَمِينَ » ؛ والقرآن هو الذكر ، قال سبحانه : « إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ » (1) ، وسبباً للمزيد ؛ لأ نّه تعالى قال : « لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأزِيدَنَّكُمْ » (2) ، والحمد هاهنا هو الشكر ، ومعنى جعله الحمدَ دليلاً على عظمته وآلائه أ نّه إذا كان سبباً للمزيد ، فقد دلّ ذلك على عظمة الصانع وآلائه ؛ أمّا دلالته عَلَى عظمته ، فلأنّه دالٌّ عَلَى أنّ قدرته لا تتناهى أبدا ، بل كلّما ازداد الشكر ازدادت النعمة . وأمّا دلالته عَلَى آلائه ، فلأنّه لا جودَ أعظمُ من جود مَنْ يعطي مَنْ يحمَده ، لا حمدا متطوّعا ، بل حمْداً واجباً عليه . قوله : « يجري بالباقين كجريه بالماضين » ، من هذا أخذ الشعراء وغيرهم ما نظموه في هذا المعنى ، قال بعضهم : مات مَنْ مات والثريّا الثريّاوالسِّماك السّماك والنَّسْرُ نَسْرُ ونجوم السّماء تضحك مِنّاكيفَ تَبْقَى مِنْ بعدِنَا ونَمُرّ! قوله : « لا يعود ما قد ولّى منه » ، كقول الشاعر : مَا أحْسَن الأيَّام إلاَّ أنَّهَايا صاحبيّ إذا مَضَتْ لم ترجعِ قوله : « ولا يبقى سرمدا ما فيه » ؛ كلام مطروق المعنى ، قال عديّ : ليس شيءٌ عَلَى المنون بباقِغير وجه المهيمن الخلاّقِ قوله : « آخر أفعاله كأوّله » ، يروى : « كأوّلها » ، ومن رواه : « كأوّله » أعاد الضّمير إلى الدهر ، أي آخر أفعال الدهر كأوّل الدهر ، فحذف المضاف . متشابهة أُموره ؛ لأ نّه _ كما كان من قبل _ يرفع ويضع، ويغني ويفقر ، ويوجد ويعدم، فكذلك هو الآن أفعاله متشابهة. وروي : « متسابقة » أي شيء منها قبل شيء ، كأنّها خيلٌ تتسابق في مِضْمارٍ . « متظاهرة أعلامه » : أي دَلالاته على سجيّتِه التي عامَل النَّاس بها قديماً وحديثا . متظاهرة : يقوّي بعضها بعضا . وهذا الكلام جارٍ منه عليه السلام عَلَى عادة العرب في ذكر الدّهر ؛ وإنما الفاعل على الحقيقة ربُّ الدهر . والشَّوْل : النُّوق التي خَفّ لبنها وارتفع ضَرْعها ، وأتى عليها من نَتَاجها سبعة أشهر أو

.


1- .سورة الحجر 9 .
2- .سورة إبراهيم 7 .

ص: 532

ثمانية ، الواحدة شائلة ، وهي جَمْعٌ عَلَى غير القياس . وشَوّلت الناقة ، أي صارت شائلة ، فأمّا الشائلة بغيرها ، فهي الناقة تَشُول بذَنبها للّقاح ولا لبنَ لها أصلاً ، والجمع شُوّل ، مثل راكع وركّع . والزاجر : الذي يزجر الإبل بسوقها ، ويقال : حدوتُ إبلي وحدوتُ بإبلي ، والحدو سَوْقها ، والغناء لها ، وكذلك الحُداء ، ويقال للشَّمال : حَدْواء ؛ لأنّها تحدو السحاب ، أي تسوقه . والمعنى أنّ سائقَ الشَّوْل يعسِف بها ، ولا يتَّقي سَوْقها ولا يدّارك كما يسوق العِشار . ثم قال عليه السلام : « مَنْ شغَل نفسَة بغير نفسه هلك » ، وذلك أنّ من لا يوفّي النظرَ حقّه ، ويميل إلى الأهواء ونُصرة الأسلاف . والحجاج عَمّا رُبِّيَ عليه بين الأهل والأستاذِينَ الذين زرعوا في قلبه العقائد ؛ يكون قد شغل نفسَه بغير نفسه ؛ لأ نّه لم ينظر لها ، ولا قصد الحقّ من حيث هو حقّ ، وإنّما قصد نُصْرة مذهب معيّن يشقُّ عليه فراقه ، ويصعب عنده الانتقال منه ؛ ويسوءه أن يردّ عليه حجةً تبطله ، فيُسهر عينه ، ويُتعب قلبَه في تهويس (1) تلك الحجة والقدح فيها بالغثّ والسمين ، لا لأ نّه يقصد الحقّ ، بل يقصد نصرة المذهب المعيّن ، وتشييد دليله ، لا جَرَم أ نّه متحيّر في ظلمات لا نهاية لها ! والارتباك : الاختلاط ، ربكت الشيء أربكه رَبكا ، خلطته فارتبك ، أي اختلط ، وارتبك الرَّجل في الأمر ، أي نشب فيه ولم يكد يتخلّص منه . قوله : « ومدّت به شياطينه في طغيانه » ، مأخوذ من قوله تعالى : « وَإخْواَنُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثمَّ لاَ يُقْصِرُونَ » (2) . وروي : « ومدّت له شياطينه » باللاّم ، ومعناه الإمهال ، مدَّ له في الغيّ ، أي طوّل له ، وقال تعالى : « قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحمنُ مَدّا » (3) . قوله : « وزينت له سيّئ ، أعماله » ، مأخوذ من قوله تعالى : « أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنا » 4 . قوله : « ويشيب فيه الأطفال » كلامٌ جارٍ مجرى المثل ، يقال في اليوم الشديد : إنّه ليُشِيب نواصي الأطفال ؛ وقال تعالى : « فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إنْ كَفَرْتُمْ يَوْما يَجْعَلُ الْولْدَانَ شِيبا » (4) ، وليس ذلك على حقيقته ؛ لأنّ الأُمّة مجمعة على أنّ الأطفال لا تتغيّر حالهم في الآخرة إلى الشيب ؛ والأصل في هذا أنّ الهموم والأحزان إذا توالتْ على الإنسان شاب سريعا . قوله : « إنّ عليكم رصدا من أنفسكم ، وعيونا من جوارحكم » ؛ لأنّ الأعضاء تنطق في القيامة بأعمال المكلفين ، وتشهد عليهم . والرَّصَد جَمع راصد ، كالحرس جمع حارس .

.


1- .تهويس الحجة : إفسادها .
2- .سورة الأعراف 202 .
3- .سورة مريم 75 . 4 . سورة فاطر 8 .
4- .سورة المزمل 17 .

ص: 533

قوله : « وحفّاظ صدق »؛ يعني الملائكة الكاتبين، لا يُعتصم منهم بسترة ولا ظلام ليل . قوله : « وإنّ غداً من اليوم قريب » ، ومنه قول القائل : فإنّ غَداً لناظِرِهِ قَرِيب والصيحة : نفخة الصُّور . وزاحت الأباطيل : بعدت . واضمحلّت : تلاشت وذهبت . قوله : « واستحقّت » ، أي حقت ووقعت ، استفعل بمعنى « فعل » ، كقولك : استمرّ على باطله ، أي مَرّ عليه . وصدرت بكم الأُمور مصادرها ، كلّ وارد فله صَدَر عن مورده ، وصدَر الإنسان عن موارد الدنيا : الموت ثم البعث .

159الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامأرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ، وَطُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الْأُمَمِ ، وَانْتِقَاضٍ مِنَ الْمُبْرَمِ ؛ فَجَاءَهُمْ بِتَصْدِيقِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَالنُّورِ الْمُقْتَدَى بِهِ . ذلِكَ الْقُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ ، وَلَنْ يَنْطِقَ ، وَلَكِنْ أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ ... أَلاَ إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَأتِي ، وَالْحَدِيثَ عَنِ الْمَاضِي ، وَدَوَاءَ دَائِكُمْ ، وَنَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ .

الشّرْحُ :الهجْعة : النَّوْمة الخفيفة ؛ وقد تستعمل في النّوْم المستغرَق أيضا والمبرَم : الحبل المفتول . والذي بين يديه : التوراة والإنجيل . فإن قلت : التوراة والإنجيل قبله ، فكيف جعلهما بين يديه؟ قلت : أحد جزأي الصلة محذوف وهو المبتدأ ؛ والتقدير : بتصديق الذي هو بين يديه ؛ وهو ضمير القرآن ، أي بتصديق الذي القرآن بين يديه ؛ وحذف أحد جزأي الصلة هاهنا ، ثم حذفه في قوله تعالى : « تَمَاما عَلَى الَّذِي أحْسَنَ وَتَفْصِيلاً » (1) ، في قراءة مَنْ جعله اسماً

.


1- .سورة الأنعام 154 .

ص: 534

159 . من خطبة له عليه السلام في حال الناس قبل البعثة وبعدها

مرفعوعاً ، وأيضا فإنّ العرب تستعمل « بين يديه » بمعنى « قبل » ، قال تعالى : «بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ » (1) ، أي قبله .

الأصْلُ :منها :فَعِنْدَ ذلِكَ لاَ يَبْقَى بَيْتُ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ إِلاَّ وَأَدْخَلَهُ الظَلَمَةُ تَرْحَةً ، وَأَوْلَجُوا فِيهِ نِقْمَةً . فَيَوْمَئِذٍ لاَ يَبْقَى لَهُمْ فِي السَّمَاءِ عَاذِرٌ ، وَلاَ فِي الْأَرْضِ نَاصِرٌ . أَصْفَيتُمْ بِالْأَمْرِ غَيْرَ أَهْلِهِ ، وَأَوْرَدْتُمُوهُ غَيْرَ مَوْرِدِهِ ، وَسَيَنْتَقِمُ اللّهُ مِمَّنْ ظَلَمَ ، مَأْكَلاً بِمَأْكَلٍ ، وَمَشْرَباً بِمَشْرَبٍ ، مِنْ مَطَاعِمِ الْعَلْقَمِ ، وَمَشَارِبِ الصَّبِرِ وَالْمَقِرِ ، وَلِبَاس شِعَارِ الْخَوْف ، وَدِثَارِ السَّيْفِ . وَإِنَّمَا هُمْ مَطَايَا الْخَطِيئَاتِ وَزَوَامِلُ الاْثَامِ . فَأُقْسِمُ ، ثُمَّ أُقْسِمُ ، لَتَنْخَمَنَّهَا أُمَيَّةُ مِنْ بَعْدِي كَمَا تُلْفَظُ النُّخَامَةُ ، ثُمَّ لاَ تَذُوقُهَا وَلاَ تَطْعَمُ بِطَعْمِهَا أَبَداً مَا كَرَّ الْجَدِيدَانِ!

الشّرْحُ :التَّرْحة : الحزن ، قال : فحينئذٍ لا يبقى لهم ، أي يحيق بهم العذاب ؛ ويبعث اللّه عليهم مَنْ ينتقم ، وهذا إخبارٌ عن مُلْك بني أميّة بعده ؛ وزوال أمرهم عند تفاقم فسادهم في الأرض . ثم خاطب أولياء هؤلاء الظَّلَمة ، ومَنْ كان يؤثر ملكَهم ، فقال : « أصفيتُم بالأمر غير أهله » ، أصفيتُ فلاناً بكذا : خصصتَه به ، وصفيّة المغنم : شيء كان يصطفيه الرئيس لنفسه من الغنيمة . واوردتموه غير ورْده : أنزلتموه عند غير مستحقّه . ثم قال : سيبدّل اللّه مآكلَهم اللذيذة الشهيّة بمآكلَ مريرة علقميّة . والمِقر : المرّ . ومأكلاً منصوب بفعل مقدّر ، أي يأكلون مأكلاً ، والباء هاهنا للمجازاة الدالة على الصّلة ، كقوله تعالى : « فَبِما نَقْضِهِم مِيثاقَهُمْ» (2) . وجعل شعارَهم الخوف ؛ لأ نّه باطن في القلوب ، ودِثارهم السَّيْف ؛ لأ نّه ظاهر في البدن ، كما

.


1- .سورة سبأ 46 .
2- .سورة النساء 155 .

ص: 535

أنّ الشِّعار ما كان إلى الجسد والدّثار ما كان فوقه . ومطايا الخطيّات : حوامل الذنوب . وزوامل الآثام : جمع زاملة ، وهي بعير يستظهر به الإنسان يحمل متاعه عليه . وتنخّمت النُّخامة : إذا تنخعتَها ، والنُّخامة : النُّخاعة . والجديدان : الليل والنهار ؛ وقد جاء في الأخبار الشائعة المستفيضة في كتب المحدّثين أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أخبر أنّ بني أميَّة تملك الخلافة بعده ، مع ذمٍّ منه عليه السلام لهم ، نحو ما روي عنه في تفسير قوله تعالى : « وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتي أَرَيْنَاكَ إلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الملْعونةَ فِي الْقُرآنِ » (1) فإنّ المفسرين قالوا : إنّه رأى بني أميّة ينزون على منبره نَزْوَ القردة ، هذا لفظ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلمالذي فسّر لهم الآية به ، فساءه ذلك ثم قال : الشجرة الملعونة بنو أميّة وبنو المغيرة ؛ ونحو قوله صلى الله عليه و آله وسلم : « إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً اتّخذوا مال اللّه دُوَلاً وعباده خَوَلاً » ، ونحو قوله صلى الله عليه و آله وسلم في تفسير قوله تعالى : « لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ » قال : ألف شهر يملك فيها بنو أُمية ، وورد عنه صلى الله عليه و آله وسلممن ذمّهم الكثير المشهور ، نحو قوله : « أبغض الأسماء إلى اللّه الحكم وهشام والوليد » ، وفي خبر آخر : « اسمان يبغضهما اللّه : مروان والمغيرة » . فإن قلت : كيف قال : « ثم لا تذوقها أبداً » وقد مَلَكوا بعد قيام الدولة الهاشميّة بالمغرب مدّة طويلة؟ قلت : الاعتبار بملك العراق ، والحجاز ؛ وما عداهما من الأقاليم لا اعتداد به .

160الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلاموَلَقَدْ أَحْسَنْتُ جِوَارَكُمْ ، وَأَحَطْتُ بِجُهْدِي مِنْ وَرَائِكُمْ . وَأَعْتَقْتُكُمْ مِنْ رِبَقِ الذُّلِّ ، وَحَلَقِ الضَّيْمِ ، شُكْراً مِنِّي لِلْبِرِّ الْقَلِيلِ وَإِطْرَاقاً عَمَّا أَدْرَكَهُ الْبَصَرُ ، وَشَهِدَهُ الْبَدَنُ ، مِنَ الْمُنْكَرِ الْكَثِيرِ .

.


1- .سورة الإسراء 60 .

ص: 536

160 . من خطبة له عليه السلام في وصف حاله مع أصحابه

.

.

ص: 537

161 . من خطبة له عليه السلام في تعظيم اللّه ، وفيها ذكرُ شخصٍ يزعم أنه يرجو اللّه وهو لا يعمل لرجائه ، وفيها حث على الإقتداء بالأنبياء

الشّرْحُ :أحطت بجُهدي من ورائكم : حميتُكم وحضَنْتُكم . والجُهْد ، بالضمّ الطاقة . الرِّبَق جمع رِبْقة ، وهي الحبل يُرْبَق به البهم . وحلَق الضيم : جمع حَلْقة ، بالتسكين ، ويجوز : « حِلق » بكسر الحاء وحِلاق . فإن قلت : كيف يجوز له أن يطرق ويغضِي عن المنكر؟ قلت : يجوز له ذلك إذا علم أو غلب على ظنّه أ نّه إن نهاهم عنه لم يرتدعوا ، وأضافوا إليه منكرا آخر ، فحينئذٍ يخرج الإطراق والإغضاء عن حدّ الجواز إلى حدّ الوجوب ؛ لأنّ النهي عن المنكر يكون والحالة هذه مفسدة (1) .

161الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامأَمْرُهُ قَضَاءٌ وَحِكْمَةٌ ، وَرِضَاهُ أَمَانٌ وَرَحْمَةٌ ، يَقْضِي بِعِلْمٍ ، وَيَعْفُو بحِلْمٍ . اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا تَأْخُذُ وَتُعْطِي ، وَعَلَى مَا تُعَافي وَتَبْتَلِي ؛ حَمْداً يَكُونُ أَرْضَى الْحَمْدِ لَكَ ، وَأَحَبَّ الْحَمْدِ إِلَيْكَ ، وَأَفْضَلَ الْحَمْدِ عِنْدَكَ . حَمْداً يَمْلَأُ مَا خَلَقْتَ ، وَيَبْلُغُ مَا أَرَدْتَ . حَمْداً لاَ يُحْجَبُ عَنْكَ ، وَلاَ يُقْصَرُ دُونَكَ . حَمْداً لاَ يَنْقَطِعُ عَدَدُهُ ، وَلاَ يَفْنَى مَدَدُهُ ، فَلَسْنَا نَعْلَمُ كُنْهَ عَظَمَتِكَ إِلاَّ أنّا نَعْلَمُ أَنَّكَ حَيٌّ قَيُّومٌ ، لاَ تَأْخُذُكَ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ . لَمْ يَنْتَهِ إِلَيْكَ نَظَرٌ ، وَلَمْ يُدْرِكْكَ بَصَرٌ . أَدْرَكْتَ الْأَبْصَارَ ،

.


1- .الظاهر أنّ المراد من كلام الإمام عليه السلام هو ؛ إرادة تعريف هؤلاء الناس حسن معاملته وإحسانه إليهم ، مع خذلانهم وعدم وفائهم له ، فتجاهل حقّه الخاص دون غيره من المنكر ، والمنكر الذي أغضى عنه عليه السلام هو ما كان يتعلّق بشأنه ، من كونه نفس النبي صلى الله عليه و آله وسلم ووصيّه ؛ بنصّ القرآن وعلى لسان الرسول صلى الله عليه و آله وسلم ، وهذا مثل قوله عليه السلام : «لأسلمن ما سلمت أُمور المسلمين » . اُنظر الخطبة 73 .

ص: 538

وَأَحْصَيْتَ الْأَعْمَالَ ، وَأَخَذْتَ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدَامِ . وَمَا الَّذِي نَرَى مِنْ خَلْقِكَ ، وَنَعْجَبُ لَهُ مِنْ قُدْرَتِكَ ، وَنَصِفُهُ مِنْ عَظِيمِ سُلْطَانِكَ ، وَمَا تَغَيَّبَ عَنَّا مِنْهُ ، وَقَصُرَتْ أَبْصَارُنَا عَنْهُ ، وَانْتَهَتْ عُقُولُنَا دُونَهُ ، وَحَالَتْ سَواتِرُ الْغُيُوبِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ أَعْظَمُ . فَمَنْ فَرَّغَ قَلْبَهُ ، وَأَعْمَلَ فِكْرَهُ ، لِيَعْلَمَ كَيْفَ أَقَمْتَ عَرْشَكَ ، وَكَيْفَ ذَرَأْتَ خَلْقَكَ ، وَكَيْفَ عَلَّقْتَ فِي الْهَوَاءِ سَمَاوَاتِكَ ، وَكَيْفَ مَدَدْتَ عَلَى مَوْرِ الْمَاءِ أَرْضَكَ ، رَجَعَ طَرْفُهُ حَسِيراً ، وَعَقْلُهُ مَبْهُوراً ، وَسَمْعُهُ وَالِهَاً ، وَفِكْرُهُ حَائِراً .

الشّرْحُ :يجوز أن يكون أمْره هاهنا هو الأمر الفعليّ ، لا الأمر القوليّ ، كما يقال : أمْر فلان مستقيم ، وما أمْر كذا ، وقال تعالى : « وَمَا أَمْرُنَا إلاّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ » (1) ، « وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إلاّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أقْرَبُ » (2) ، فيكون المعنى أنّ شأنه تعالى ليس إلاّ أحد شيئين وهما « أن يقول » ، « وأن يفعل » ، فعبّر عن « أن يقول » بقوله : « قضاء » ؛ لأنّ القضاء الحكم ، وعبر عن « أن يفعل » بقوله : « وحكمة » ؛ لأنّ أفعاله كلّها تتبَع دواعيَ الحكمة . ويجوز أن يكون « أمره » هو الأمر القولي ؛ وهو المصدر من « أمَر له بكذا أمرا » فيكون المعنى أنّ أوامره إيجاب وإلزام بما فيه حكمة ومصلحة ؛ وقد جاء القضاء بمعنى الإلزام والإيجاب في القرآن العزيز في قوله : « وَقَضَى رَبُكَ أَلاّ تَعْبدُوا إلاّ إيَّاه » (3) ، أي أوجب وألزم . قوله : « ورضاه أمانٌ ورحمة » ؛ لأنّ مَنْ فاز بدرجة الرضا فقد أمن وحصلت له الرحمة ؛ لأنّ الرضا رحمة وزيادة . قوله : « يقضي بعلم » ، أي يحكم بما يحكم به ؛ لأ نّه عالم بحسن ذلك القضاء أو وجوبه في العدل . « ويعفو بحلْم » ، أي لا يعفو عن عجز وذلّ ، كما يعفو الضعيف عن القويّ ؛ بل هو قادر على الانتقام ولكنّه يحلم . ثم حمِد اللّه تعالى على الإعطاء والأخذ ، والعافية والبلاء ؛ لأنّ ذلك كلَّه من عند اللّه لمصالح للمكلّف ، يعلمها ومايعلمها المكلّف ، والحمد على المصالح واجب . ثم أخذ في

.


1- .سورة القمر 50 .
2- .سورة النحل 77 .
3- .سورة الإسراء 23 .

ص: 539

تفخيم شأن ذلك الحمد وتعظيمه والمبالغة في وصفه ، احتذاء بقول رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : «الحمد للّه زنةَ عرشه ، الحمد للّه عددَ خلْقه ، الحمد للّه مل ءَ سمائه وأرضه » ، فقال عليه السلام : حمدا يكون أرضَى الحمد لك » ، أي يكون رضاك له أوفَى وأعظم من رضاك بغيره ، وكذلك القول في « أحبّ » و « أفضل » . قوله : « ويبْلُغ ما أردت » ، أي هو غاية ما تنتهي إليه الإرادة . « لا يحجب عنك » ؛ لأنّ الإخلاص يقارنه ، والرياء منتفٍ عنه . « ولا يُقْصَرُ دونك » ، أي لا يحبَس ، أي لا مانع عن وصوله إليك ، وهذا من باب التوسّع . ومعناه ، أ نّه بريء من الموانع عن إثماره الثواب واقتضائه إياه ، وروي « ولا يقصر » من القصور ، وروي « ولا يقصّر » من التقصير . ثم أخذ في بيان أنّ العقول قاصرة عن إدراك الباري سبحانه والعلم به ، وأنّا إنّما نعلم منه صفاتٍ إضافية أو سلبية ؛ كالعلم بأنه حيّ ، ومعنى ذلك أ نّه لا يستحيل على ذاته أن يعلم ويقدّر ؛ وأ نّه قيوم بمعنى أنه ذاته لا يجوز عليها العدَم ، أي يقيم الأشياء ويمسكها ؛ وكلّ شيء يقيم الأشياء كلّها ويمسكها ، فليس بمحتاج إلى مَنْ يقيمه ويمسكه ؛ وإلاّ لم يكُنْ مقيماً وممسكا لكلّ شيء ، وكلّ مَنْ ليس بمحتاج إلى من يقيمه ويمسكه ؛ فذاته لا يجوز عليها العَدَم . وأنَّه تعالى لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم ؛ لأنّ هذا من صفات الأجسام . وما لا يجوز عليه العَدَم لا يكون جِسْما ، ولا يوصف بخواصّ الأجسام ولوازمها ، فإنّه لا ينتهي إليه نَظَر ؛ لأنّ انتهاء النظر إليه يستلزم مقابلته ، وهو تعالى منزه عن الجهة ، وإلاّ لم يكن ذاته مستحيلاً عليها العدم . وأنه لا يدركه بَصَر ؛ لأنّ إبصار الأشياء بانطباع أمثلتها في الرطوبة الجليديّة ، كانطباع أشباح المرئيّات في المرآة ، والباري تعالى لا يتمثّل ، ولا يتشبّح ، وإلاّ لم يكن قيوما . وأنه يدرك الأبصار ؛ لأ نّه إمّا عالم لذاته أو لأ نّه حيٌّ لا آفة به . وأنه يحصي الأعمال ؛ لأ نّه عالم لذاته ، فيعلم كلّ شيء حاضرا وماضيا ومستقبلاً . وأ نّه يأخذُ بالنّواصي والأقدام ؛ لأ نّه قادر لذاته ، فهو متمكّن من كلّ مقدور . ثم خرج إلى فنّ آخر ، فقال : وما الذي نعجب لأجله من قدرتك وعظيم ملكك ، والغائب عنّا من عظمتك أعظم من الحاضر ! وهذا مما تقصر العقول عن فهمه ، وتنتهي دونه ، وتحول سواترُ الغيوب بينها وبينه ، كما قال عليه السلام . ثم ذكر أنّ مَنْ أعمل فكرَه ليعلم كيف أقام سبحانه العرش ، وكيف ذَرأ الخلق ، وكيف علّق السماوات بغير علاقة ولا عمَد ، وكيف مدّ الأرض على الماء ، رجعَ طرفه حسيرا ، وعقله مبهورا . وهذا كلّه حقّ ، وأنّ مَنْ حاول تقدير ملك اللّه

.

ص: 540

تعالى ، وعظيم مخلوقاته بمكيال عقله ، فقد ضل ضلالاً مبيناً . وروي : « وفكره جائراً » ، بالجيم ، أي عادلاً عن الصواب . والحسير : المتعَب . والمبهور : المغلوب . والواله : المتحيّر .

الأصْلُ :منها :يَدَّعِي بِزَعْمِهِ أنّهُ يَرْجُو اللّهَ ، كَذَبَ وَالْعَظِيمِ ! مَا بَالُهُ لاَ يَتَبَيَّنُ رَجَاؤهُ فِي عَمَلِهِ ؟ فَكُلُّ مَنْ رَجَا عُرِفَ رَجَاؤهُ فِي عَمَلِهِ _ إِلاَّ رَجَاءَ اللّهِ _ فَإِنَّهُ مَدْخُولٌ ، وَكُلُّ خَوْفٍ مُحْقَّقٌ _ إِلاَّ خَوْفَ اللّهِ _ فَإِنَّهُ مَعْلُولٌ . يَرْجُو اللّهَ فِي الْكَبِيرِ ، وَيَرْجُو الْعِبَادَ فِي الصَّغِيرِ ، فَيُعْطِي الْعَبْدَ مَا لاَ يُعْطِي الرَّبَّ ! فَمَا بَالُ اللّهِ جَلَّ ثَنَاؤهُ يُقَصَّرُ بِهِ عَمَّا يُصْنَعُ لِعِبَادِهِ ؟ أَتَخَافُ أَنْ تَكُونَ فِي رَجَائِكَ لَهُ كَاذِباً ؟ أَوْ تَكُونَ لاَ تَرَاهُ لِلرَّجَاءِ مَوْضِعاً ؟ وَكَذلِكَ إِنْ هُوَ خَافَ عَبْداً مِنْ عَبِيدِهِ ، أَعْطَاهُ مِنْ خَوْفِهِ مَا لاَ يُعْطِي رَبَّهُ ، فَجَعَلَ خَوْفَهُ مِنَ الْعِبَادِ نَقْداً ، وَخَوْفَهُ مِنْ خَالِقِهِ ضِمَاراً وَوَعْداً . وَكَذلِكَ مَنْ عَظُمَتِ الدُّنْيَا فِي عَيْنِهِ ، وَكَبُرَ مَوْقِعُهَا مِنْ قَلْبِهِ ، آثَرَهَا عَلَى اللّهِ ، فَانْقَطَعَ إِلَيْهَا ، وَصَارَ عَبْداً لَهَا .

الشّرْحُ :يجوز « بزُعمه » بالضم و « بزَعْمه » بالفتح ، و « بِزِعْمه » بالكسر ، ثلاث لغات ، أي بقوله ، فأمّا من « زعمت » ، أي كفلت ، فالمصدر « الزَّعم » بالفتح ، والزّعامة . ثم أقسم على كذب هذا الزَّاعم ، فقال : « والعظيم » ، ولم يقل : واللّه العظيم ، تأكيدا لعظمة البارئ سبحانه ؛ لأنّ الموصوف إذا ألقِيَ وتُرِك واعتمِد على الصّفة حتى صارت كالاسم ، كان أدلّ على تحقّق مفهوم الصفة ، كالحارث والعباس . ثم بيّن مستنَد هذا التكذيب ، فقال : ما بالُ هذا الزاعم ! إنّه يرجو ربَّه ، ولا يَظهر رجاؤه في عمله ، فإنّا نَرَى مَنْ يَرجو واحدا من البشر يلازم بابه ؛ ويواظب على خدمته ويتحبّب إليه ، ويتقرّبُ إلى قلبه بأنواع الوسائل والقُرَب ؛ ليظفَر بمراده منه ، ويتحقّق رجاؤه فيه ، وهذا الإنسان الذي يزعم أ نّه يرجُو اللّه تعالى ، لا يظهر من أعماله الدينية ما يدلّ على صدق دَعْواه . ومراده عليه السلام هاهنا ليس شخصا

.

ص: 541

بعينه ، بل كلّ إنسانٍ هذه صفته ، فالخطاب له والحديث معه . ثم قال : « كلّ رجاءٍ إلاّ رجاء اللّه فهو مدخول » ، أي معيب ، والدَّخْل ، بالتسكين : العيب والرّيبة ، وجاء « الدَّخَل » بالتحريك أيضا ، يقال : هذا الأمر فيه دَخَل ودَغَل ، بمعنى قوله تعالى : « وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ » (1) ، أي مكرا وخديعة ، وهو من هذا الباب أيضا . ثم قال : « وكلّ خوف محقّق إلاّ خوف اللّه فإنه معلول » : محقّق ، أي ثابت ، أي كلّ خوفٍ حاصل حقيقة فإنّه من هذا الحصول والتحقق معلول ليس بالخوف الصريح ؛ إلاّ خوف اللّه وحده وتقواه ، وهيبته وسطوته وسخطه ، ذلك لأنّ الأمر الذي يُخاف من العبد سريع الانقضاء والزوال ، والأمر الذي يُخاف من الباري تعالى لا غاية له ولا انقضاء لمحذوره ، كما قيل في الحديث المرفوع : « فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة » . ثمّ عاد إلى الرجاء ، فقال : يرجو هذا الإنسان اللّه في الكثير ، أي يرجو رحمتَه في الآخرة ، ولا يتعلّق رجاؤه باللّه تعالى إلاّ في هذا الموضع ، فأمّا ما عدا ذلك من أُمور الدنيا كالمكاسب والأموال والجاه والسلطان واندفاع المضارّ والتوصّل إلى الأغراض بالشفاعات والتوسلات ، فإنه لا يخطر له اللّه تعالى ببالٍ ، بل يعتمد في ذلك على السُّفَراء والوسطاء ، ويرجو حصول هذه المنافع ، ودفعَ هذه المضارّ من أبناء نوعه من البشر ، فقد أعطى العبادَ مِنْ رجائه ما لم يعطه الخالق سبحانه ، فهو مخطئٌ ؛ لأ نّه إمّا أن يكونَ هو في نفسه صالحا لأنّ يرجوه سبحانه ، وإمّا ألاّ يكون البارئ تعالى في نفسه صالحا لأنّ يُرجَى . فإن كان الثاني ، فهو كُفْرٌ صُراح . وإن كان الأوّل ، فالعبد مخطئ حيث لم يجعل نفسه مستعدّا لفعل الصالحات لأنّ يصلحَ لرجاء البارئ سبحانه . ثم انتقل عليه السلام إلى الخوف ، فقال : وكذلك إن خاف هذا الإنسان عبدا مثلَه ؛ خافه أكثر من خوفه البارئ سبحانه ؛ لأنّ كثيرا من الناس يخافون السلطان وسطوته أكثر من خوفهم مؤاخذة البارئ سبحانه ؛ وهذا مشاهَد ومعلوم من النّاس ، فخوف بعضهم من بعض كالنقد المعجّل ، وخوفهم من خالقهم ضِمارٌ ووعد . والضِّمار : ما لا يرجَى من الوعود والديون . ثم قال : « وكذلك من عظمت الدنيا في عينه » يختارها على اللّه ، ويستعبده حبّها . ويقال : كبُر ، بالضّمّ ، يكبُر أي عَظُم ؛ فهو كبير وكُبَار بالتخفيف ؛ فإذا أفرط قيل : « كُبّار » بالتشديد (2) ، فأمّا كَبِر بالكسر ، فمعناه أسنّ ؛ والمصدر منهما كَبَرا ، بفتح الباء .

.


1- .سورة النحل 94 .
2- .كما في قوله تعالى : « وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً» . سورة نوح 22 .

ص: 542

الأصْلُ :وَلَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللّهِ _ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّم _ كَافٍ لَكَ فِي الْأُسْوَةِ ، وَدَلِيلٌ لَكَ عَلَى ذَمِّ الدُّنْيَا وَعَيْبِهَا ، وَكَثْرَةِ مَخَازِيهَا وَمَسَاوِيهَا ، إِذْ قُبِضَتْ عَنْهُ أَطْرَافُهَا ، وَوُطِّئَتْ لِغَيْرِهِ أَكْنَافُهَا ، وَفُطِمَ عَنْ رَضَاعِهَا ، وَزُوِيَ عَنْ زَخَارِفِهَا . وَإِنْ شِئْتَ ثَنَّيْتُ بِمُوسى كَلِيمِ اللّهِ _ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ _ حَيْثُ يَقُولُ : « رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) وَاللّهِ ، مَا سَأَلَهُ إِلاَّ خُبْزاً يَأْكُلُهُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ بَقْلَةَ الْأَرْض ، وَلَقَدْ كَانْتْ خُضْرَةُ الْبَقْلِ تُرَى مِنْ شَفِيفِ صِفَاقِ بَطْنِهِ ، لِهُزَالِهِ وَتَشَذُّبِ لَحْمِهِ . وَإِنْ شِئْتَ ثَلَّثْتُ بِدَاوُودَ _ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ _ صَاحِبِ الْمَزَامِيرِ ، وَقَارِئِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَلَقَدْ كَانَ يَعْمَلُ سَفَائِفَ الْخُوص بِيَدِهِ ، وَيَقُولُ لِجُلَسَائِهِ : أَيُّكُمْ يَكْفِينِي بَيْعَهَا ! وَيَأْكُلُ قُرْصَ الشَّعِيرِ مِنْ ثَمَنِهَا . وَإِنْ شِئْتَ قُلْتُ فِي عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، فَلَقَدْ كَانَ يَتَوَسَّدُ الْحَجَرَ ، وَيَلْبَسُ الْخَشِنَ ، وَيَأْكُلُ الْجَشِبَ ، وَكَانَ إِدَامُهُ الْجُوعَ ، وَسِرَاجُهُ بِاللَّيْلِ الْقَمَرَ ، وَظِلاَلُهُ في الشِّتَاءِ مَشَارِقَ الْأَرْض وَمَغَارِبَهَا ، وَفَاكِهَتُهُ وَرَيْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ لِلْبَهَائِمِ ؛ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ ، وَلاَ وَلَدٌ يَحْزُنُهُ ، وَلاَ مَالٌ يَلْفِتُهُ ، وَلاَ طَمَعٌ يُذِلُّهُ ، دَابَّتُهُ رِجْلاَهُ ، وَخَادِمُهُ يَدَاهُ .

الشّرْحُ :يجوز أُسوة وإسوة ، وقرئ التنزيل بهما . والمساوئ : العيوب ؛ ساءه كذا يسوؤه سَوْءا بالفتح ومساءة ومسائية وسوته سوايةً ومسايةً ، بالتخفيف ، أي ساءه ما رآه مني . والمخازي : جمع مَخزاة ؛ وهي الأمر يُستحى من ذكره لقبْحه . وأكنافُها : جوانبها . وَزَوَى : قبض . وزخارف : جمع زُخرف ؛ وهو الذهب .

.

ص: 543

روي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أنه قال : « عُرضَتْ عليّ كنوز الأرض ودُفِعت إليَّ مفاتيح خزائنها ، فكرهتُها واخترت الدار الآخرة » ، وجاء في الأخبار الصحيحة أ نّه كان يجوعُ ويشدّ حجَراً عَلَى بطنه . وأ نّه ما شبع آل محمد من لَحْم قطّ ، وأنّ فاطمة وبعلَها وبنيها كانوا يأكلون خبز الشعير ، وأنهم آثروا سائلاً بأربعة أقراص منه كانوا أعدُّوها لفطورهم ، وباتوا جياعا . وقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلممَلَك قطعة واسعة من الدّنيا ، فلم يتدنّس منها بقليل ولا كثير ؛ ولقد كانت الإبل التي غنمها يوم حُنين أكثر من عشرة آلاف بعير ؛ فلم يأخذ منها وبَرةً لنفسه ، وفَرّقها كلّها على الناس ، وهكذا كانت شيمته وسيرته في جميع أحواله إلى أن توفِّي . والصّفاق : الجلد الباطن الذي فوقه الجلد الظاهر من البطن . وشفيفه : رقيقه الذي يستَشفّ ما وراءه ، وبالتفسير الذي فسر عليه السلام الآية فَسّرها المفسرون ، وقالوا : إنّ خضرة البقل كانت تُرَى في بطنه من الهزال ، وإنّه ما سأل اللّه إلاّ أكلةَ من الخبز . و « ما » في « لِمَا أَنْزَلْتَ » بمعنى أيّ ، أي إني لأيّ شيء أنزلتَ إليّ _ قليل أو كثير ، غثّ أو سمين _ فقير . وتشذُّب اللحم : تفرّقه . والمزامير : جمع مزمار ؛ وهو الآلة التي يزمر فيها ، ويقال : زَمَر يزمِر ويزمُر ، بالضم والكسر ؛ فهو زمّار ، ولا يكاد يقال : زامر ؛ ويقال للمرأة : زامرة ، ويقال : إنّ داود أُعطِيَ من طيب النّغَم ولذّة ترجيع القراءة ما كانت الطيور لأجله تقع عليه وهو في محرابه ، والوحش تسمعه فتدخل بين الناس ولا تنفِر منهم لما قد استغرقها من طيب صوته . وورد في الخبر : « داود قارئ أهل الجنّة » . وسفائف الخوص : جمع سفيفة ، وهي النسيجة منه ، سفَّفت الخوصَ وأسففته بمعنى . وهذا الذي ذكره عليه السلام عن داود يجب أن يحمل على أ نّه شرح حاله قبل أن يملّك فإنه كان فقيرا ، فأمّا حيث ملّك فإن المعلوم من سيرته غير ذلك. فأمّا عيسى فحاله كما ذكرها عليه السلام ، لا ريب في ذلك ، على أنه أكل اللحم وشرب الخمر ، وركب الحمار وخدمه التلامذة ؛ ولكن الأغلب من حاله هي الأُمور التي عدّدها أمير المؤمنين عليه السلام . ويقال : حَزنني الشيء يحزُنني بالضم ؛ ويجوز : « أحزنني » بالهمز يُحزنني ، وقرئ بهما ، وهو في كلامه عليه السلام في هذا الفصل بهما . ويقال : لفته عن كذا ، يَلْفِتُهُ بالكسر ، أي صرَفه ولواه .

.

ص: 544

الأصْلُ :فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الْأَطْيَبِ الْأَطْهَرِ ، صَلّى اللّهُ عَلَيهِ وآله وَسَلّم ، فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى ، وَعَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّى . وَأَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللّهِ الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ ، وَالْمُقْتَصُّ لِأَثَرِهِ . قَضَمَ الدُّنْيَا قَضْماً ، وَلَمْ يُعِرْهَا طَرْفاً ، أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْيَا كَشْحاً ، وَأَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا بَطْناً ، عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا ، وَعَلِمَ أَنَّ اللّهَ تَعَالَى أَبْغَضَ شَيْئاً فَأَبْغَضَهُ ، وَحَقَّرَ شَيْئاً فَحَقَّرَهُ ، وَصَغَّرَ شَيْئاً فَصَغَّرَهُ . وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِينَا إِلاَّ حُبُّنَا مَا أَبْغَضَ اللّهُ وَرَسُولُهُ ، وَتَعْظِيمُنَا مَا صَغَّرَ اللّهُ وَرَسُولُهُ ، لَكَفَى بِهِ شِقَاقاً للّه ، وَمُحَادَّةً عَنْ أَمْرِ اللّهِ تَعَالَى . وَلَقَدْ كَانَ _ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ _ يَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ ، وَيَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ ، وَيَخْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ ، وَيَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ ، وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَارِيَ ، وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ ، وَيَكُونُ السِّتْرُ عَلَى بَابِ بَيْتِهِ فَتَكُونُ فِيهِ التَّصَاوِيرُ فَيَقُولُ : يَا فُ_لاَنَةُ _ لاِءِحْدَى أَزْوَاجِهِ _ غَيِّبِيهِ عَنِّي ، فَإِنِّي إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ ذَكَرْتُ الدُّنَيَا وَزَخَارِفَهَا . فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ ، وَأَمَاتَ ذِكْرَهَا مِنْ نَفْسِهِ ، وَأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ ، لِكَيْلاَ يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً ، وَلاَ يَعْتَقِدَهَا قَرَاراً ، وَلاَ يَرْجُوَ فِيهَا مُقَاماً ، فَأَخْرَجَهَا مِنَ النَّفْسِ ، وَأَشْخَصَهَا ، عَنِ الْقَلْبِ ، وَغَيَّبَهَا عَنِ الْبَصَرِ . وَكَذلِكَ مَنْ أَبْغَضَ شَيْئاً أَبْغَضَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ ، وَأَنْ يُذْكَرَ عِنْدَهُ . وَلَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللّهِ _ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ _ مَا يَدُلُّكَ عَلَى مَسَاوِئِ الدُّنْيَا وَعُيُوبِهَا ، إِذْ جَاعَ فِيهَا مَعَ خَاصَّتِهِ ، وَزُوِيَتْ عَنْهُ زَخَارِفُهَا مَعَ عَظِيمِ زُلْفَتِهِ . فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ بِعَقْلِهِ : أَكْرَمَ اللّهُ مُحَمَّداً _ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وسلّم _ بِذلِكَ أَمْ أَهَانَهُ ؟! فَإِنْ قَالَ : أَهَانَهُ ، فَقَدْ كَذَبَ وَاللّهِ الْعَظِيمِ ، وأتى بِالاْءِفْكِ الْعَظِيمِ ، وَإِنْ قَالَ : أَكْرَمَهُ ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ قَدْ أَهَانَ غَيْرَهُ حَيْثُ بَسَطَ الدُّنْيَا لَهُ ، وَزَوَاهَا عَنْ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُ . فَتَأَسَّى مُتَأَسٍّ بِنَبِيِّهِ ، وَاقْتَصَّ أَثَرَهُ ، وَوَلَجَ مَوْلِجَهُ ، وَإِلاَّ فَلاَ يَأْمَنِ الْهَلَكَةَ ، فَإِنَّ اللّهَ جَعَلَ مُحَمَّداً _ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ

.

ص: 545

وَآلِهِ _ عَلَماً لِلسَّاعَةِ ، وَمُبَشِّراً بِالْجَنَّةِ ، وَمُنْذِراً بِالعُقُوبَةِ . خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا خَمِيصاً ، وَوَرَدَ الاْخِرَةَ سَلِيماً . لَمْ يَضَعْ حَجَراً عَلَى حَجَرٍ ، حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ ، وَأَجَابَ دَاعِيَ رَبِّهِ . فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ اللّهِ عِنْدَنَا حِينَ أَ نْعَمَ عَلَيْنَا بِهِ سَلَفاً نَتَّبِعُهُ ، وَقَائِداً نَطأُ عَقِبَهُ ! وَاللّهِ لَقَدْ رَقَعْتُ مِدْرَعَتِي هذِهِ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَاقِعِهَا . وَلَقَدْ قَالَ لِي قَائِلٌ : أَلاَ تَنْبِذُهَا عَنْكَ ؟ فَقُلْتُ : اغْرُبْ عَنِّي ؛ فَعِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى (1) .

الشّرْحُ :المقتصّ لأثره : المتّبع له ، ومنه قوله تعالى : « وَقالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ » (2) . وقَضَم الدنيا : تناول منها قَدْر الكَفاف ، وما تدعُو إليه الضرورة من خَشِن العيشة ، وقال أبو ذَرّ رحمه اللّه : « يَخضِمون ونقضِم ، والموعد اللّه ! » . وأصلُ القَضْم ، أكلُ الشيء اليابس بأطراف الأسنان ، والخَضْم : أكلٌ بكلّ الفم للأشياء الرّطبة ، وروي : « قَصَم » بالصاد ، أي كسر . قوله : « أهضَمُ أهلِ الدّنيا كشحاً » الكشْحُ : الخاصرة ، ورجلٌ أهضَم : بيِّن الهَضم ؛ إذا كان خميصا لِقلّةِ الأكل . وروي : « وحقَر شيئا فحقَره » بالتخفيف . والشّقاق : الخلاف . والمحادّة : المعاداة . وخَصَف النَّعْل : خرزها . والرياش : الزينة ، والمِدْرعة . الدّرّاعة . وقوله : « عند الصّباح يحمد القوم السرى » ؛ مثل يضرب لمحتمِل المشقّة العاجلة ، رجاء الراحة الآجلة . جاء في الأخبار الصّحيحة أنه عليه الصلاة والسلام ، قال : « إنّما أنا عبدٌ آكل أكلَ العبيد ، وأجلس جِلْسة العبيد » . وجاء في الأخبار الصحيحة النهيُ عن التصاوير وعن نصب الستور التي فيها التصاوير ، وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلمإذا رأى سِتْرا فيه تصاوير أمر أن تقطع رأس تلك الصورة . قوله : « لم يضع حَجَرا على حَجَر » هو عين ما جاء في الأخبار الصحيحة ، خَرَج رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم من الدنيا ولم يضع حجَراً على حجر . وجاء في أخبار عليّ عليه السلام التي ذكرها أبو عبد اللّه أحمد بن حنبل في كتاب فضائله ، قيل

.


1- .العزاء : الصبر . وتعزّ بعزاء اللّه ، أي امتثل أمره بالصبر . الخميص : خالي البطن وأخمصهم : أكثرهم ضمورا . المدرعة : ثوب من الصوف . الرياش : اللّباس الفاخر : تطأ عقبه : نقتفي أثره . السرى : السير ليلاً . تنبذها : ترميها . اغرب عني : تباعد عني .
2- .سورة القصص 11 .

ص: 546

162 . من خطبة له عليه السلام ، ذكر فيها الرسول عليه السلام وشرف أسرته

لعليٍّ عليه السلام : يا أميرَ المؤمنين ، لم ترقّعُ قميصَك ؟ قال : ليخشعَ القلبُ ، ويقتديَ بي المؤمنون .

162الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامابْتَعَثَهُ بِالنُّورِ الْمُضِيءِ ، وَالْبُرْهَانِ الْجَلِيِّ ، وَالْمِنْهَاجِ الْبَادِي وَالْكِتَابِ الْهَادِي . أُسْرَتُهُ خَيْرُ أُسْرَةٍ ، وَشَجَرَتُهُ خَيْرُ شَجَرَةٍ؛ أَغصَانُهَا مُعْتَدِلَةٌ ، وَثِمَارُهَا مُتَهَدِّلَةٌ . مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ ، وَهِجْرَتُهُ بِطَيْبَةَ عَلاَ بِهَا ذِكْرُهُ وَامْتَدَّ مِنْهَا صَوْتُهُ . أَرْسَلَهُ بِحُجَّةٍ كَافِيَةٍ ، وَمَوْعِظَةٍ شَافِيَةٍ ، وَدَعْوَةٍ مُتَ_لاَفِيَةٍ . أَظْهَرَ بِهِ الشَّرائِعَ المجْهُولَةَ ، وَقَمَعَ بِهِ الْبِدَعَ الْمَدْخُولَةَ ، وَبَيَّنَ بِهِ الأَحْكَامَ الْمَفْصُولَةَ . فَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الاْءِسْلاَمِ دِيناً تَتَحَقَّقْ شِقْوَتُهُ ، وَتَنْفَصِمْ عُرْوَتُهُ ، وَتَعْظُمْ كَبْوَتُهُ ، وَيَكُنْ مَآبُهُ إِلَى الْحُزْنِ الطَّوِيلِ وَالْعَذَابِ الْوَبِيلِ . وَأَتَوْكَّلُ عَلَى اللّهِ تَوَكُّلَ الاْءِنَابَةِ إِلَيْهِ . وَأَسْتَرْشِدُهُ السَّبِيلَ الُمؤدِّيَةَ إِلَى جَنَّتِهِ ، الْقَاصِدَةَ إِلَى مَحَلِّ رَغْبَتِهِ .

الشّرْحُ :بالنور المضيء ، أي بالدِّين ، أو بالقرآن . وأسرتُه : أهله . أغصانها معتدلة ، كناية عن عدم الاختلاف بينهم في الأُمور الدينية . وثمارها متهدّلة ، أي مدلِّية ، كناية عن سهولة اجتناء العلم منها . وطَيبة اسم المدينة ، كان اسمها يثرب ، فسمّ_اها رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم طَيْبة ، ومما أكْفَر النَّاس به يزيدَ بن معاوية أ نّه سماها « خبيثة » ، مراغَمة لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . علا بها ذكره ؛ لأ نّه صلى الله عليه و آله وسلم إنّما انتصر وقهر الأعداء بعد الهجرة . « ودعوة متلافية » ، أي تتلافى ما فسد في الجاهلية من أديان البشر . قوله : « وبيّن به الأحكام المفصولة » ليس يعني أنها كانت مفصولة قبل أن بيّنها ، بل المراد : بيّن به الأحكام التي هي الآن مفصولة عندنا وواضحة لنا ؛

.

ص: 547

لأجل بيانه لها . والكبوة : مصدر كبا الجواد ، إذا عثر فوقع إلى الأرض . والمآب : المرجع . والعذاب الوبيل : ذو الوبال وهو الهلاك . والإنابة : الرجوع . والسبيل : الطريق ، يذكر ويؤنث . والقاصدة : ضدّ الجائرة . فإن قلت لم عدَّى القاصدة ب_ « إلى »؟ قلت : لأنها لمّا كانت قاصدة ، تضمّنت معنى الإفضاء إلى المقصد ، فعدّاها ب_ « إلى » باعتبار المعنى .

الأصْلُ :أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللّهِ ، بِتَقْوَى اللّهِ وَطَاعَتِهِ ، فَإِنَّهَا النَّجَاةُ غَداً ، وَالْمَنْجَاةُ أَبَداً . رَهَّبَ فَأَبْلَغَ ، وَرَغَّبَ فَأَسْبَغَ ؛ وَوَصَفَ لَكُمُ الدُّنْيَا وَانْقِطَاعَهَا ، وَزَوَالَهَا وَانْتِقَالَهَا .فَأَعْرِضُوا عَمَّا يُعْجِبُكُمْ فِيهَا لِقِلَّةِ مَا يَصْحَبُكُمْ مِنْهَا . أَقْرَبُ دَارٍ مِنْ سَخَطِ اللّهِ ، وَأَبْعَدُهَا مِنْ رِضْوَانِ اللّهِ . فَغُضُّوا عَنْكُمْ _ عِبَادَ اللّهِ _ غُمُومَهَا وَأَشْغَالَهَا ، لِمَا قَدْ أَيْقَنْتُمْ بِهِ مِنْ فِرَاقِهَا وَتَصَرُّفِ حَالاَتِهَا . فَاحْذَرُوهَا حَذَرَ الشَّفِيقِ النَّاصِحِ ، وَالمُجِدِّ الْكَادِحِ . وَاعْتَبِرُوا بِمَا قَدْ رَأَيْتُمْ مِنْ مَصَارِعِ الْقُرُونِ قَبْلَكُمْ : قَدْ تَزَايَلَتْ أَوْصَالُهُمْ ، وَزَالَتْ أَبْصَارُهُمْ وَأَسْمَاعُهُمْ ، وَذَهَبَ شَرَفُهُمْ وَعِزُّهُمْ ، وَانْقَطَعَ سُرُورُهُمْ وَنَعِيمُهُمْ؛ فَبُدِّلُوا بِقُرْبِ الْأَوْلاَدِ فَقْدَهَا ، وَبِصُحْبَةِ الاْزَوَاجِ مُفَارَقَتَهَا . لاَ يَتَفَاخَرُونَ ، وَلاَ يَتَنَاسَلُونَ ، وَلاَ يَتَزَاوَرُونَ ، وَلاَ يَتَحَاوَرُونَ . فَاحْذَرُوا _ عِبَادَ اللّهِ _ حَذَرَ الْغَالِبِ لِنَفْسِهِ ، الْمَانِعِ لِشَهْوَتِهِ ، النَّاظِرِ بِعَقْلِهِ ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ وَاضِحٌ ، وَالْعَلَمَ قَائِمٌ ، وَالطَّرِيقَ جَدَدٌ ، وَالسَّبِيلَ قَصْدٌ .

الشّرْحُ :المنجاة : مصدرنجا ينجُو نجاةً ومنجاة . والنَّجاة : النّاقة يُنْجَى عليها ؛ فاستعارها هاهنا للطاعة والتّقوى ، كأنّها كالمطيّة المركوبة يخلص بها الإنسان من الهَلكة . قوله : « رهّب

.

ص: 548

163 . من كلام له عليه السلام لبعض أصحابه وقد سأله : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به ؟

فأبلغ » ، الضمير يرجع إلى اللّه سبحانه ، أي خوّف المكلّفين فأبلغ في التخويف ، ورغّبهم فأتمّ الترغيب وأسبغه . ثم أمر بالإعراض عما يسرُّ ويروق من أمر الدنيا ؛ لقلة ما يصحب النّاس من ذلك . ثم قال : إنَّها أقربُ دار من سخط اللّه ، وهذا نحو قول النبي صلى الله عليه و آله وسلم : « حبُّ الدّنيا رأسُ كلِّ خطيئة » (1) . قوله : « فغُضّوا عنكم عباد اللّه غمومها » ، أي كُفّوا عن أنفسكم الغمّ لأجلها والاشتغال بها ، يقال : غضضت فلاناً عن كذا ، أي كففته ، قال تعالى : « وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ » (2) . قوله : « فاحذروها حَذَر الشفيق الناصح » ، أي فاحذروها على أنفسكم لأنفسِكم كما يحذر الشفيق الناصح على صاحبه ، وكما يحذر المجدّ الكادح ، أي الساعي من خيبة سعيه . والأوصال : الأعضاء . والمحاورة : المخاطبة والمناجاة ، وروي : « ولا يتجاورون » بالجيم . والعَلَم : ما يستدلّ به في المفازة . وطريق جَدَد ، أي سهل واضح . والسبيل قَصْد ، أي مستقيم .

163الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام لبعض أصحابه وقد سأله : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به ؟ فقال عليه السلام :يَا أَخَا بَنِي أَسَدٍ ، إِنَّكَ لَقَلِقُ الْوَضِينِ ، تُرْسِلُ فِي غَيْرِ سَدَدٍ ، وَلَكَ بَعْدُ ذِمَامَةُ الصِّهْرِ وَحَقُّ الْمَسْأَلَةِ ، وَقَدِ اسْتَعْلَمْتَ فَاعْلَمْ : أَمَّا الاِسْتِبْدَادُ عَلَيْنَا بِهذَا الْمَقَامِ - وَنَحْنُ الْأَعْلَوْنَ نَسَباً ، وَالْأَشَدُّونَ بِرَسُولِ اللّهِ ، صَلَّى اللّه عَلَيهِ وآله وَسَلّم ، نَوْطاً _ فَإِنَّهَا كَانَتْ أَثَرَةً شَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ ، وَسَخَتْ

.


1- .أُصول الكافي 2 : 130 من حديث للإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام .
2- .سورة لقمان 19 .

ص: 549

عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِينَ ؛ وَالْحَكَمُ اللّهُ ، وَالْمَعْوَدُ إِلَيْهِ الْقِيَامَةُ . وَدَعْ عَنْكَ نَهْباً صِيحَ فِي حَجَرَاتِهِوَلكِنْ حَدِيثاً مَا حَدِيثُ الرَّوَاحِلِ وَهَلُمَّ الْخَطْبَ فِي ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ ، فَلَقَدْ أَضْحَكَنِي الدَّهْرُ بَعْدَ إِبْكَائِهِ؛ وَلاَ غَرْوَ وَاللّهِ ، فَيَالَهُ خَطْباً يَسْتَفْرِغُ الْعَجَبَ ، وَيُكْثِرُ الْأَوَدَ ! حَاوَلَ الْقَوْمُ إِطْفَاءَ نُورِ اللّهِ مِنْ مِصْبَاحِهِ ، وَسَدَّ فَوَّارِهِ مِنْ يَنْبُوعِهِ ، وَجَدَحُوا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ شِرْباً وَبِيئاً ، فَإِنْ تَرْتَفِعْ عَنَّا وَعَنْهُمْ مِحَنُ الْبَلْوَى ، أَحْمِلْهُمْ مِنَ الْحَقِّ عَلَى مَحْضِهِ ؛ وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى ، «فَ_لاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ» (1) .

الشّرْحُ :الوضِين : بِطان الْقَتَب (2) ، وحزام السرج ؛ ويقال للرجل المضطرب في أُموره : إنَّه لَقلِقُ الوضِين ؛ وذلك أنّ الوضِين إذا قلق ، اضطرب القتَبُ أو الهودَجُ ، أو السَّرْج ومَنْ عليه . ويرسِل في غير سَدد ، أي يتكلَّم في غير قصد وفي غير صواب ، والسَّدَدُ والاستداد : الاستقامة والصواب ، والسديد : الذي يصيب السَّدد ، وكذلك المُسِدّ . واستدّ الشيء ، أي استقام . وذِمامة الصّهر ، بالكسر ، أي حرمته ، هو الذّمام . ويروى : « ماتَّة الصِّهر » ، أي حرمته ووسيلته ، متّ إليه بكذا ، وإنّما قال عليه السلام له : « ولك بعد ذِمَامة الصّهر » ؛ لأنّ زينب بنت جحش زوْج رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم كانت أسَدِيّة ؛ وأُمّها أُميّة بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، فهي بنت عمّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، والمصاهرة المشار إليها ، هي هذه . وأما حقّ المسألة ، فلأن للسائل على المسئول حقّا حيث أهّله لأنّ يستفيد منه . والاستبداد بالشيء : التفرّد به . والنَّوْط : الالتصاق . وكانت أثَره ، أي استئثارا بالأمر واستبدادا به ؛ قال النبي صلى الله عليه و آله وسلمللأنصار : « ستلقوْنَ بعدي أثَرَه » . وشحّتْ : بخلت . وسَخَت : جادت ؛ ويعني بالنّفوس التي سَخَتْ نفسَه ، وبالنفوس التي شحّت ؛ أمّا على قولنا فإنه يعني نفوسَ أهل الشورى بعد مقتل عُمَر ، وأمّا على قول الإماميّة ، فنفوسَ أهلِ السَّقِيفة . وليس في الخبر ما يقتضي صَرْفَ ذلك

.


1- .سورة فاطر 8 .
2- .البطان : حزام القتب ؛ وهو الذي يجعل تحت بطن الدابة ، والقتب : رحل صغير على قد السنام .

ص: 550

إليهم (1) ، فالأولى أن يحمَل على ما ظهر عنه من تألّمه مِنْ عبد الرحمن بن عوف وميله إلى عثمان . ثم قال : إنّ الحكمَ هو اللّه ، وإنّ الوقت الذي يعود النّاس كلّهم إليه هو يوم القيامة . وروي : « يومَ » بالنّصب على أنه ظرف والعامل فيه « المَعْوَد » ، على أن يكون مصدرا . وأما البيتُ فهو لامرئ القيس بن حُجْر الكنديّ ، وروِي أنّ أميرَ المؤمنين عليه السلام لم يستشهد إلاّ بصدرِه فقطْ وأتمّه الرواة . والنَّهب : الغنيمة ، والجمع النّهاب ، والانتهاب مصدر انتهبتُ المال ، إذا أبحتَه يأخذه من شاء ، والنَّهبى : اسم ما أنهب . وحَجَراته : نواحيه ، الواحدة حَجْرة ، مثل جَمَرات وجَمْرة . وصيح في حجَراته صياح الغارة . والرّواحل : جمع راحلة ، وهي الناقة التي تصلح أن تُرْحَل ، أيْ يشدّ الرَّحْل على ظهرها ، ويقال للبعير : راحلة . وانتصب « حديثا » بإضمار فعل ، أي هات حديثا أو حدِّثني حديثا . ويروى : « ولكن حديثٌ » ، أي ولكن مرادي أو غرضي حديث ، فحذف المبتدأ . فأمّا « حديث » الثاني فقد ينصب وقد يرفع ، فمن نصب أبدله من « حديث » الأوّل ، ومَنْ رفع جاز أن يجعل « ما » موصولة بمعنى « الذي » ، وصلتها الجملة ، أي الذي هو حديث الرواحل ، ثمّ حذف صدر الجملة كما حذف في « تَمَاما عَلَى الَّذِي أحْسَنَ » (2) ، ويجوز أن تجعل « ما » استفهامية بمعنى « أيّ » . ثم قال : « وهلمّ الخطب » ، هذا يقوِّي رواية مَنْ روى عنه أ نّه عليه السلام لم يستشهد إلاّ بصدر البيت ، كأنَّه قال : دع عنك ما مضى وهلمّ ما نحن الآن فيه من أمرِ معاوية ، فجعل « هلُمّ » ما نحن فيه من أمر معاوية قائما مقام قول امرئ القيس : * ولكِنْ حديثا ما حدِيثُ الرَّواحِلِ * وهلمّ ، لفظ يستعمل لازماً ومتعدّيا ، فاللازم بمعنى « تعالَ » ، [وأمّا] المتعدية فهي بمعنى « هات » ، تقول : هلُمّ كذا وكذا ، قال اللّه تعالى : « هلُمَّ شُهَدَاءَكُمْ » (3) ، وتَقول لمن قال لك ذلك ،

.


1- .أقول : وليس في الخبر كذلك ما يصرفه عنهم ، فلِمَ الدفاع عن أهل السقيفة ؟ وفعل أهل السقيفة أصل وأساس فعل أهل الشورى ، والدافع له واحد أيضا ، ولولا يوم السقيفة لم يوجد يوم الشورى ، وأكثر أبطال الشورى من رجال السقيفة .
2- .سورة الأنعام 154 .
3- .سورة الأنعام 150 .

ص: 551

لا أهلمّه ، أي لا أعطيكه ، يأتي بالهاء ضمير المفعول ليتميّز من الأُولى . يقو عليه السلام : ولكن هات ذكر الخطب ، فحذف المضاف . والخطْب : الحادث الجليل ؛ يعني الأحوال التي أدّت إلى أن صار معاوية منازعا في الرياسة ، قائما عند كثير من النّاس مقامه ، صالحاً لأنْ يقع في مقابلته ، وأن يكون ندّا له . ثم قال : « فلقد أضحكني الدهر بعد إبكائه » ، يشير إلى ما كان عنده من الكآبة لتقدّم مَنْ سلف عليه ؛ فلم يقنع الدّهر له بذلك ، حتى جعل معاوية نظيرا له ؛ فضحك عليه السلام مما تحكُم به الأوقات ، ويقتضيه تصرّف الدّهر وتقلّبه ؛ وذلك ضَحِك تعجُّب واعتبار . ثم قال : « ولا غَرْوَ واللّه » ، أي ولا عَجَب واللّه . ثم فسَّرَ ذلك فقال : يا له خطباً يستفرغُ العجب ! أي يستنفده ويفنيه ، يقول : قد صار العجبُ لا عجبَ ؛ لأنّ هذا الخَطْب استغرق التعجّبَ ؛ فلم يبق منه ما يطلَق عليه لفظ التعجُّب ؛ وهذا من باب الإغراق والمبالغة في المبالغة . والأوَد : العوَج . ثم ذكر تمالؤ قريش عليه ، فقال : حاول القوْمُ إطفاء نور اللّه من مصباحه ، يعني ما تقدّم من منابذة طَلْحة والزبير وأصحابهما له ، وما شفع ذلك من معاوية وعمرو وشيعتهما . وفوّار اليَنْبوع : ثقب البئر . قوله : « وجدحوا بيني وبينهم شِرْباً » ، أي خلطوه ومزجوه وأفسدوه . والوِبئ : ذو الوباء والمرض ؛ وهذا استعارة كأنّه جعل الحال التي كانت بينه وبينهم قد أفسدها القوم ، وجعلوها مَظِنّة الوباء والسَّقَم ، كالشرب الذي يخلط بالسمّ أو بالصَّبرِ فيفسد ويَوْبأ . ثم قال : فإن كشف اللّه تعالى هذه المحنَ التي يحصل منها ابتلاء الصابرين والمجاهدين ، وحصل لي التمكّن من الأمر ، حملتُهم على الحقّ المحض الذي لا يمازجُه باطل ، كاللبن المحْضِ الذي لا يخالطه شيء من الماء ، وإن تكُن الأُخرى ، أي وإنْ لم يكشف اللّه تعالى هذه الغمّة ومتّ أو قتلت _ والأُمور على ما هي عليه من الفتنة ودولة الضلال _ فلا تذهب نفسُك عليهم حسرات ؛ والآية من القرآن العزيز . قال ابن أبي الحديد : وسألت أبا جعفر يحيى بن محمد العلويّ نقيب البصرة ، وقت قراءتي عليه ، عن هذا الكلام ، وكان ؛ على ما يذهب إليه من مذهب العَلَويّة منصفا وافر العقل ، فقلت له : مَنْ يعني عليه السلام بقوله : « كانت أثَرةً شحَّت عليها نفوس قوم ، وسَخَت عنها نفوس آخرين » ؟ ومَن القومُ الّذين عناهم الأسديّ بقوله : « كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحقّ به » ؟ هل المراد يوم السقيفة أو يوم الشورى؟

.

ص: 552

164 . من خطبة له عليه السلام في تنزيه اللّه وتذكير الإنسان بهديه له في سبيل معيشته

فقال : يوم السقيفة . فقلت : إنّ نفسي لا تسامحني أن أنسُب إلى الصحابة عصيان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ودفع النص . فقال : وأنا فلا تسامحني أيضا نفسي أن أنسب الرسول صلى الله عليه و آله وسلم إلى إهمال أمر الإمامة ، وأنْ يُتركَ النّاس فوضى سُدىً مهمَلين ؛ وقد كان لا يغيبُ عن المدينة إلاّ ويؤمِّر عليها أميرا وهو حيّ ليس بالبعيد عنها ، فكيف لا يؤمِّر وهو ميّت لا يقدر على استدراك ما يحدُث! ثم قال : ليس يشكّ أحدٌ من الناس أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم كان عاقلاً كامل العقل ، وهذا الرّجل العاقل الكامل يعرفُ طباع العرب وغرائزهم وطلبَهم بالثّارات والذُّحول ؛ ولو بعد الأزمان المتطاولة . فكيف يتوهّم لبيب أنّ هذا العاقل الكامل وَتَر العرب ، وعلى الخصوص قريشا ، وساعدَهُ على سَفْك الدماء وإزهاق الأنفس وتقلّد الضغائن ابنُ عمِّه الأدنى وصهرهُ ، وهو يعلم أ نّه سيموت كما يموت الناس ، ويتركه بعدَه وعنده ابنته ، وله منها ابنان يجريان عندَه مَجْرَى ابنيْن من ظَهْره حُنوّا عليهما ، ومحبّة لهما ، ويعدل عنه في الأمر بعده ، ولا ينصّ عليه ولا يستخلفه ، فيحقِنُ دمه ودم بنيه وأهله باستخلافه ! ألا يعلمُ هذا العاقل الكامل ؛ أ نّه إذا تركه وترك بنيه وأهلَه سُوقَةً ورعيّة ، فقد عرَّض دماءهم للإراقة بعده ، بل يكونُ هو عليه السلام هو الذي قتله ، وأشاط بدمائهم ؛ لأنّهم لا يعتصمون بعده بأمر يحميهم ؛ وإنّما يكونون مضغةً للآكل ، وفريسةً للمفترِس ، يتخطّفهم الناس ، وتبلُغ فيهم الأغراض . فأمّا إذا جَعَل السلطان فيهم ، والأمر إليهم ؛ فإنّه يكون قد عَصَمهم وحَقَن دماءهم بالرّياسة التي يَصُولون بها ، ويرتدع النّاس عنهم لأجلها . ومثل هذا معلوم بالتجرِبة ... الخ ، وقد أوردناه باختصار .

164الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامالْحَمْدُ للّه خَالِقِ الْعِبَادِ ، وَسَاطِحِ الْمِهَادِ ، وَمُسِيلِ الْوِهَادِ ، وَمُخْصِبِ النِّجَادِ . لَيْسَ

.

ص: 553

لِأَوَّلِيَّتِهِ ابْتِدَاءٌ ، وَلاَ لِأَزَلِيَّتِهِ انْقِضَاءٌ هُوَ الْأَوَّلُ وَلَمْ يَزَلْ ، وَالْبَاقِي بِ_لاَ أَجَلٍ . خَرَّتْ لَهُ الْجِبَاهُ ، وَوَحَّدَتْهُ الشِّفَاهُ . حَدَّ الْأَشْيَاءَ عِنْدَ خَلْقِهِ لَهَا إِبَانَةً لَهُ مِنْ شَبَهِهَا . لاَ تُقَدِّرُهُ الْأَوْهَامُ بِالْحُدُودِ وَالْحَرَكَاتِ ، وَلاَ بِالْجَوَارِحِ وَالْأَدَوَاتِ . لاَ يُقَالُ لَهُ «مَتَى ؟» وَلاَ يُضْرَبُ لَهُ أَمَدٌ «بِحَتَّى» .الظَّاهِرُ لاَ يُقَالُ : «مِمَّ ؟» ، وَالْبَاطِنُ لاَ يُقَالُ : «فِيمَ ؟» . لاَ شَبَحٌ فَيُتَقَصَّى ، وَلاَ مَحْجُوبٌ فَيُحْوَى . لَمْ يَقْرُبْ مِنَ الْأَشْيَاءِ بِالْتِصَاقٍ ، وَلَمْ يَبْعُدْ عَنْهَا بِافْتِرَاقٍ ، وَلاَ يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ شُخُوصُ لَحْظَةٍ ، وَلاَ كُرُورُ لَفْظَةٍ ، وَلاَ ازْدِلاَفُ رَبْوَةٍ ، وَلاَ انْبِسَاطُ خَطْوَةٍ ، فِي لَيْلٍ دَاجٍ ، وَلاَ غَسَقٍ سَاجٍ ، يَتَفَيَّأُ عَلَيْهِ الْقَمَرُ الْمُنِيرُ ، وَتَعْقَّبُهُ الشَّمْسُ ذَاتُ النُّورِ فِي الْأُفُولِ وَالْكُرُورِ ، وَتَقَلُّبِ الْأَزْمِنَةِ وَالدُّهُورِ ، مِنْ إِقْبَالِ لَيْلٍ مُقْبِلٍ ، وَإِدبَارِ نَهَارٍ مُدْبِرٍ . قَبْلَ كُلِّ غَايَةٍ وَمُدَّةٍ ، وَكُلِّ إِحْصَاءٍ وَعِدَّةٍ ، تَعَالَى عَمَّا يَنْحَلُهُ الْمُحَدِّدُونَ مِنْ صِفَاتِ الْأَقْدَارِ ، وَنِهَايَاتِ الْأَقْطَارِ ، وَتَأَثُّلِ الْمَسَاكِنِ ، وَتَمَكُّنِ الْأَمَاكِنِ . فَالحَدُّ لِخَلْقِهِ مَضْرُوبٌ ، وَإِلَى غَيْرهِ مَنْسُوبٌ . لَمْ يَخْلُقِ الْأَشْيَاءَ مِنْ أُصُولٍ أَزَلِيَّةٍ ، وَلاَ مِنْ أَوَائِلَ أَبَدِيَّةٍ ، بَلْ خَلَقَ مَا خَلَقَ فَأَقَامَ حَدَّهُ ، وَصَوَّرَ مَا صَوَّرَ فَأَحْسَنَ صُورَتَهُ . لَيْسَ لِشَيْءٍ مِنْهُ امْتِنَاعٌ ، وَلاَ لَهُ بِطَاعَةِ شَيْءٍ انْتِفَاعٌ .عِلْمُهُ بِالأَمْوَاتِ الْمَاضِينَ كَعِلْمِهِ بِالْأَحْيَاءِ الْبَاقِينَ ، وَعِلْمُهُ بِمَا فِي السمَاوَاتِ الْعُلَى كَعِلْمِهِ بِمَا فِي الْأَرَضِينَ السُّفْلَى.

الشّرْحُ :المهاد هنا : هو الأرض ؛ وأصله الفراش ، وساطحه : باسطه ؛ ومنه تسطيح القبور خلاف تَسْنِيمها ، ومنه أيضا المِسْطَح ؛ للموضع الذي يبسَط فيه التَّ_مر ليجفّف . والوِهاد : جمع وَهْدة ؛ وهي المكان المطمئن . ومسيلها : مجرى السَيْل فيها . والنّجاد : جمع نَجْد ، وهوما ارتفع من الأرض . ومخصبها : مروّضها وجاعلها ذوات خِصْب . واعلم أ نّه عليه السلام أورَدَ في هذه الخطبة ضروبا من علم التوحيد ، وكلها مبنيّة على ثلاثة

.

ص: 554

أُصول : الأصل الأول : أنه تعالى واجب الوجود لذاته ، ويتفرّع على هذه الأصل فروع : أولها : أنه ليس لأوّليّته ابتداء ؛ لأ نّه لو كان لأوّليته ابتداء لكان محدَثاً ، ولا شيء من المحدَث بواجب الوجود . وثانيها : أ نّه ليس لأزليّته انقضاء ؛ لأ نّه لو صحّ عليه العَدَمُ لكان لعدَمه سبب ، فكان وجوده موقوفا على انتفاء سبب عدمه ، والمتوقِّف على غيره ، يكون ممكنَ الذات ، فلا يكون واجبَ الوجود . وقوله عليه السلام : « هو الأوّل لم يزَلْ ، والباقي بلا أجَل » تكرار لهذين المعنيين السابقيْن على سبيل التأكيد ، ويدخل فيه أيضا قوله : « لا يقال له مَتَى ، ولا يضرب له أمد بحتّى » ؛ لأنّ « متى » للزمان وواجب الوجود يرتفع عن الزمان ، و « حتى » للغاية وواجب الوجود لا غاية له . ويدخل أيضاً فيه قوله : « قبل كلّ غاية ومدّة ، وكلّ إحصاء وعدّة » . وثالثها : أ نّه لا يشبهُ الأشياء البتّة ؛ لأنّ ما عداه إمّا جسم أو عَرَض أو مجرّد ، فلو أشبهَ الجِسْم أو العرض لكان إمّا جسماً أو عرضاً ، ضرورة تساوي المتشابهين المتماثلين في حقائقهما . ولو شابَه غيرَه من المجرّدات _ مع أنّ كل مجرد غير مُمْكِن _ لكان ممكنا ، وليس واجب الوجود بممكن ، فيدخل في هذا المعنى قوله عليه السلام : « حَدّ الأشياء عند خَلْقهِ لها ، إبانة لَهُ من شبهها » ، أي جعل المخلوقاتِ ذوات حدود ليتميّز هو سبحانه عنها ، إذ لا حدّ له ، فبطل أنْ يشبهه شيء منها . ودخل فيه قوله عليه السلام : « لا تقدّره الأوهام بالحدود والحركات ، ولا بالجوارح » . والأدوات : جمع أداة وهي ما يعتمَد به ، ودخل فيه قوله : « الظّاهر فلا يقال : مم » ؟ أي لا يقال : من أيّ شيء ظَهَر ، « والباطن فلا يقال : فيم » ، أي لا يقال فيما ذا بطن ؟ ويدخل فيه قوله : « لا شَبحٌ فيتقصّى » والشّبح : الشخص . ويُتقصّى : يطلب أقصاه . ويدخل فيه قوله : « ولا محجوب فيحوَى » ، وقوله : « لم يقرب من الأشياء بالتصاق ، ولم يبعد عنها بافتراق » ؛ لأنّ هذه الأُمور كلّها من خصائص الأجسام ، وواجب الوجود لا يشبه الأجسام ولا يماثلها . ويدخل فيه قوله عليه السلام : « تعالى عما ينحَلُه المحدّدون من صفات الأقدار » ، أي مما ينسبه إليه المشبهة والمجسّمة من صفات المقادير ، وذوات المقادير . « ونهايات الأقطار » ، أي الجوانب . « وتأثّل المساكن » ، مجدٌ مؤثّل ، أي أصيل ، وبيت مؤثّل ، أي معمور . وكأنّ أصلَ الكلمة أن تبنى الدار بالأثْل ، وهو شجر معروف . وتمكّن الأماكن :

.

ص: 555

ثبوتها واستقرارها . وقوله : « فالحدّ لخلقه مضروب ، وإلى غيره منسوب » ، وقوله : « ولا له بطاعة شيء انتفاع » ؛ لأ نّه إنّما ينتفع الجسم الذي يصحّ عليه الشهوة والنّفرة ؛ كلُّ هذا داخل تحت هذا الوجه . الأصل الثاني : أ نّه تعالى عالم لذاته ، فيعلم كلَّ معلوم ، ويدخل تحت هذا الأصل قوله عليه السلام : « لا تخَفى عليه من عبادِه شخوص لحظة » ، أن تسكن العين فلا تتحرّك . ولا « كرور لفظة » ، أي رجوعها . « ولا ازدلاف ربوة » ، صعود إنسان أو حيوان ربوة من الأرْض ، وهي الموضع المرتفع . « ولا انبساط خطوة . في ليل داج » ، أي مظلم . « ولا غسق ساج » ، أي ساكن . ثم قال : « يتفيّأ عليه القمر المنير » ، هذا من صفات الغَسَق ، ومن تتمّة نعته ؛ ومعنى « يتفيّأ عليه » : يتقلّب ذاهبا وجائياً في حالَتَيْ أخذه في الضوء إلى التبدّر ، وأخذه في النقص إلى المحاق . وقوله : « وتعقّبه » ، أي وتتعقّبه ، فحذف إحدى التاءين ، كما قال سبحانه : « الَّذِينَ تَوفَّاهُمُ المَلائِكَةُ » (1) ، أي « تتوفّاهم » ، والهاء في « وَتَعَقَّبُهُ » تَرجع إلى القمر ، أي وتسير الشمس عقِبه في كروره ، وأُفوله ، أي غيبوبته ، وفي تقليب الأزمنة والدهور ، من إقبال ليلٍ وإدبار نهار . كأنه عليه السلام قال : لا يخفى على اللّه حركةٌ في نهار ولا ليل ، يتفيّأ عليه القمر ، وتعقبه الشمس ، أي تظهر عقيبه ، فيزول الغسق بظهورها . الأصل الثالث : أ نّه تعالى قادر لذاته ، فكان قادرا على كلّ الممكنات ، ويدخل تحته قوله : « لم يخلق الأشياء من أُصول أزليّة ، ولا من أوائل أبدية ، بل خلق ما خلق فأقام حدّه ، وصوّر ما صوّر فأحسن صورته » ، والردّ في هذا على أصحاب الهيولى والطينة التي يزعمون قدَمها . ويدخل تحته قوله : « ليس لشيء [منه] امتناع » ؛ لأ نّه متى أراد إيجادَ شيء أوجدَه ، ويدخل تحته قوله : « خرّت له الجباه » ، أي سجدت . و « وحّدته الشفاه » ، يعني الأفواه ، فعبر بالجزء عن الكلّ مجازاً ؛ وذلك لأنّ القادر لذاته هو المستحق للعبادة لخلقه أُصول النِّعم . كالحياة والقدرة والشهوة . واعلم أنّ هذا الفنّ هو الذي بان به أمير المؤمنين عليه السلام عن العرب في زمانه قاطبة ، واستحقّ به التقدّم والفَضْل عليهم أجمعين . ولم يُنْقَل عن أحد من العرب غيره في هذا الفنّ حرف واحد ، ولا كانت أذهانهم تَصِلُ إلى هذا ، ولا يفهمونه بهذا الفن ، فَهْوَ منفرد فيه ، وبغيره من الفنون مشارك لهم ، وراجح عليهم .

.


1- .سورة النساء 97 .

ص: 556

الأصْلُ :منها :أَيُّهَا الْمَ_خْلُوقُ السَّوِيُّ ، وَالْمُنْشَأُ الْمَرْعِيُّ ، فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْحَامِ ، وَمُضَاعَفَاتِ الْأَسْتَارِ . بُدِئْتَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ ، وَوُضِعْتَ فِي قَرَارٍ مَكِينِ ، إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ، وَأَجَل مَقْسُومٍ . تَمُورُ فِي بَطْنِ أُمِّكَ جَنِيناً لاَ تُحِيرُ دُعَاءً ، وَلاَ تَسْمَعُ نِدَاءً . ثُمَّ أُخْرِجْتَ مِنْ مَقَرِّكَ إِلَى دَارٍ لَمْ تَشْهَدْهَا ، وَلَمْ تَعْرِفْ سُبُلَ مَنَافِعِهَا . فَمَنْ هَدَاكَ لاِجْتِرَارِ الْغِذَاءِ مِنْ ثَدْيِ أُمِّكَ ؟ وَعَرَّفَكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ مَوَاضِعَ طَلَبِكَ وَإِرَادَتِكَ ؟! هَيْهَاتَ ، إِنَّ مَنْ يَعْجِزُ عَنْ صِفَاتِ ذِي الْهَيْئَةِ وَالْأَدَوَاتِ فَهُوَ عَنْ صِفَاتِ خَالِقِهِ أَعْجَزُ ، وَمِنْ تَنَاوُلِهِ بِحُدُودِ المخْلُوقِينَ أَبْعَدُ!

الشّرْحُ :السّويّ : المستوى الخلقة غير ناقص ، قال سبحانه : « فَتَمثَّلَ لَهَا بَشَرا سَوِيّا » (1) . والمُنشَأ ، مفعول من « أنشأ » أي خُلِق وأُوجِد . والمرعيّ : المحوط المحفوظ . وظلمات الأرحام ، ومضاعفات الأستار : مستقرّ النُّطَف ، والرَّحِم . قوله : « بُدِئت من سُلاَلة من طين » ، أي كان ابتداء خلْقك من سُلالة ؛ وهي خلاصة الطين ؛ لأنّها سُلَّت من بيْن الكَدَر ، و « فُعَالة » بناء للقلّة ، كالقُلامة والقُمامة . ثم قال : « ووضعتَ في قرار مكين » ، الكلام الأوّل لآدم الذي هو أصلُ البشر ، والثاني لذريّته ، والقرار المكين : الرَّحِم متمكّنة في موضعها برباطاتها ؛ لأنّها لو كانت متحرّكة لتعذّر العُلُوق . ثم قال : « إلى قَدَر معلوم ، وأجَلٍ مقسوم » ، إلى : متعلّقة بمحذوف ، كأنّه قال : « منهيّا إلى قَدَرٍ معلوم » ، أي مقدَّرا طوله وشكله إلى أجلٍ مقسوم مدّة حياته . ثم قال : « تمور في بطْنِ أُمّك » ، أي تتحرّك . لا تُحيِر ، أي لا ترجع جواباً ، أحار يُحير . إلى دار لم تشهدها ، يعني الدنيا ، ويقال : أشبه شيء بحال الانتقال من الدنيا إلى الأحوال التي بعد الموت ؛ انتقالُ الجنين من ظلمة الرَّحِم إلى فضاء الدنيا ؛ وهكذا حالنا في الدنيا إذا شاهدنا ما بعد الموت .

.


1- .سورة مريم 17 .

ص: 557

165 . من كلام له عليه السلام لعثمان بن عفان لما اجتمع عليه الناس وسألوه مخاطبته عنهم

قال : « فَمنْ هداك إلى اجترارِ الغِذَاء من ثدْيِ أُمّك ؟ » ، اجترار : امتصاص اللبن من الثَّدْي ؛ وذلك بالإلهام الإلهيّ . « وعرّفك عند الحاجة » ، أي أعلمك بموضع الحَلَمة عند طلبك الرّضاع فالتقمتَها بفمِك . ثم قال : « هيهات » ، أي بَعُد أن يحيط علماً بالخالق مَنْ عجز عن معرفة المخلوق !

165الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام لعثمان بن عفان قالوا : لمّا اجتمع الناس إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، وشكوا إليه ما نقموه على عثمان ، وسألوه مخاطبته واستعتابه لهم ، فدخل عليه السلام على عثمان ، فقال :إِنَّ النَّاسَ وَرَائِي وَقَدِ اسْتَسْفَرُوني بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ ، وَوَاللّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ ! مَا أَعْرِفُ شَيْئاً تَجْهَلُهُ ، وَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَمْرٍ لاَ تَعْرِفُهُ . إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نَعْلَمُ مَا سَبَقْنَاكَ إِلَى شَيْءٍ فَنُخْبِرَكَ عَنْهُ ، وَلاَ خَلَوْنَا بِشَيْءٍ فَنُبَلِّغَكَهُ . وَقَدْ رَأَيْتَ كَمَا رَأَيْنَا ، وَسَمِعْتَ كَمَا سَمِعْنَا ، وَصَحِبْتَ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم كَمَا صَحِبْنَا . وَمَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ وَلاَ ابْنُ الْخَطَّابِ بِأَوْلَى بِعَمَلِ الْخيرِ مِنْكَ ، وَأَنْتَ أَقْرَبُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم وَشِيجَةَ رَحِمٍ مِنْهُمَا؛ وَقَدْ نِلْتَ مِنْ صِهْرِهِ مَا لَمْ يَنَالاَ . فَاللّهَ اللّهَ فِي نَفْسِكَ ! فَإِنَّكَ _ وَاللّهِ _ مَا تُبَصَّرُ مِنْ عَمىً ، وَلاَ تُعَلَّمُ مِنْ جَهْلٍ ، وَإِنَّ الْطُّرُقَ لَوَاضِحَةٌ ، وَإِنَّ أَعْلاَمَ الدِّينِ لَقَائِمَةٌ . فَاعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اللّهِ عِنْدَ اللّهِ إِمَامٌ عَادِلٌ ، هُدِيَ وَهَدَى ، فَأَقَامَ سُنَّةً مَعْلُومَةً ، وَأَمَاتَ بِدْعَةً مَجْهُولَةً . وَإِنَّ السُّنَنَ لَنَيِّرَةٌ ، لَهَا أَعْلاَمٌ ، وَإِنَّ الْبِدَعَ لَظَاهِرَةٌ ، لَهَا أَعْلاَمٌ . وَإِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللّهِ إِمَامٌ جَائِرٌ ضَلَّ وَضُلَّ بِهِ ، فَأَمَاتَ سُنَّةً مَأْخُوذَةً ، وَأَحْيَا بِدْعَةً

.

ص: 558

مَتْرُوكَةً . وَإِني سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيه وآلِه وسلّم يَقُولُ : « يُؤتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالإمامِ الْجَائِرِ وَلَيْسَ مَعَهُ نَصِيرٌ وَلاَ عَاذِرٌ ، فَيُلْقَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ ، فَيَدُورُ فِيهَا كَمَا تَدُورُ الرَّحَى ، ثُمَّ يَرْتَبِطُ فِي قَعْرِهَا » . وَإِني اُنشِدُكَ اللّهَ أَلاَّ تَكُونَ إِمَامَ هذِهِ الْأُمَّةِ الْمَقْتُولَ ، فَإِنَّهُ كَانَ يُقَالُ يُقْتَلُ فِي هذِهِ الْأُمَّةِ إِمَامٌ يَفْتَحُ عَلَيْهَا الْقَتْلَ وَالْقِتَالَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَيَلْبِسُ أُمُورَهَا عَلَيْهَا ، وَيَبُثُّ الْفِتَنَ فِيهَا ، فَ_لاَ يُبْصِرُونَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ؛ يَمُوجُونَ فِيهَا مَوْجاً ، وَيَمْرُجُونَ فِيهَا مَرْجاً . فَلاَ تَكُونَنَّ لِمَرْوَانَ سَيِّقَةً يَسُوقُكَ حَيْثُ شَاءَ بَعْدَ جَلاَلِ السِّنِّ وَتَقَضِّي الْعُمُرِ .

فَقَالَ لَهُ عُثْمَ_انُ : كَلِّمِ النَّاسَ فِي أَنْ يُؤجِّلُونِي ، حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْهِمْ مِنْ مَظَالِمِهمْ .

فقال عليه السلام :مَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَ_لاَ أَجَلَ فِيهِ ، وَمَا غَابَ فَأَجَلُهُ وُصُولُ أَمْرِكَ إِلَيْهِ .

الشّرْحُ :نَقمت على زيد ، بالفتح ، أنقَم فأنا ناقم ، إذا عتبتَ عليه . وقال الكِسائيّ : نقِمت بالكسر أيضا ، أنقَم لغة ؛ وهذه اللفظة تجيء لازمة ومتعدّية ، قالوا : نقَمت الأمْرَ أي كرهته . واستعتبتُ فلاناً : طلبت منه العُتْبى وهي الرّضا ، واستعتابُهم عثمان : طلبُهم منه ما يرضيهم عنه . واستسفروني : جعلوني سفيرا ووسيطا بينك وبينهم . ثم قال له وأقسم على ذلك : إنّه لا يعلم ماذا يقول له ! لأ نّه لا يعرِف أمراً يجهله ، أي من هذه الأحداث خاصّة . وهذا حقّ ؛ لأنّ علياً عليه السلام لم يكن يعلم منها ما يجهله عثمان ، بل كان أحداث الصبيان فضلاً عن العقلاء المميّزين ، يعلمون وجهَيِ الصواب والخطأ فيها . ثم شرع معه من مسْلَك الملاطفة والقول اللّين ، فقال : ما سبقنا إلى الصّحْبة ، ولا انفردنا بالرَّسُول دونك ، وأنت مثلنا ونحن مثلك . ثم خرج إلى ذكر الشيْخَيْن ، فقال قولاً معناه أنّهما ليسا خيرا منك، فإنّك مخصوص دونهما بقرْب النسب ، يعني المنافيّة (1) وبالصهر؛ وهذا كلام هو موضع

.


1- .المنافيَّة : الانتساب إلى عبد مناف ، والهاشمية ، نسبة إلى هاشم .

ص: 559

166 . من خطبة له عليه السلام يذكر فيها عجيب خلقة الطاووس ، وفيها وصف الجنة

المثل : « يُسِرُّ حَسْوا في ارتغاء » ، ومراده تفضيل نفسه عليه السلام عليهما ؛ لأنّ العلّة التي باعتبارها فضّل عثمان عليهما محققةٌ فيه وزيادة ؛ لأنّ له مع المنافيَّة الهاشميّة ، فهو أقرب . والوشيجة : عروقُ الشَّجرة . ثم حذّره جانب اللّه تعالى ونبّهه على أن الطريق واضحة ، وأعلام الهدى قائمة ، وأنّ الإمام العادل أفضلُ الناس عند اللّه ، وأنّ الإمام الجائر شرّ الناس عند اللّه . ثم روى له الخبر المذكور ، وروي : « ثم يرتبك في قعرها » ، أي ينشَب . وخوّفه أن يكون الإمامَ المقتول الذي يفتح الفِتن بقتله ؛ وقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قال كلاماً هو هذا ، أو يشبه هذا . ومَرَج الدين ، أي فسد . والسَّيّقة : ما استاقه العدوّ من الدوابّ ، مثل الوسيقة . والجُلال ، بالضم : الجليل ، كالطُّوال والطويل ، أي بعد السنّ الجليل ، أي العمر الطويل . وقوله : « ما كان بالمدينة فلا أجلَ فيه ، وما غاب فأجلُه وصول أمرك إليه » ، كلامٌ شريف فصيح ؛ لأنّ الحاضر أيّ معنى لتأجيله ؟! والغائب فلا عذر بعد وصول الأمر في تأخيره ؛ لأنّ السلطان لا يؤخّر أمره . وقد ذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبريّ ؛ في « التاريخ الكبير » هذا الكلام (1) ...

166الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها عجيب خلقة الطاووسابْتَدَعَهُمْ خَلْقاً عَجِيباً مِنْ حَيَوَانٍ وَمَوَاتٍ ، وسَاكِنٍ وَذِي حَرَكَاتٍ ؛ وَأَقَامَ مِنْ شَوَاهِدِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى لَطِيفِ صَنْعَتِهِ ، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ ، مَا انْقَادَتْ لَهُ الْعُقُولُ مُعْتَرِفَةً بِهِ ، وَمُسَلِّمَةً لَهُ ، وَنَعَقَتْ فِي أَسْمَاعِنَا دَلاَئِلُهُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ ، وَمَا ذَرَأَ مِنْ مُخْتَلِفِ صُوَرِ الْأَطْيَارِ الَّتِي أَسْكَنَهَا أَخَادِيدَ الْأَرْضِ ، وَخُرُوقَ فِجَاجِهَا ، وَرَوَاسِي أَعْلاَمِهَا ، مِنْ

.


1- .ذكر الشارح كلاماً طويلاً هو عبارة عن حوار دار بين أمير المؤمنين عليه السلام وعثمان ، ثم ذكر بعده خطبة لعثمان في الناس إثر ذلك الحوار .

ص: 560

ذَاتِ أَجْنِحَةٍ مُخْتَلِفَةٍ ، وَهَيْئَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ ، مُصَرَّفَةٍ فِي زِمَامِ التِّسْخِيرِ ، وَمُرَفْرِفَةٍ بِأَجْنِحَتِهَا فِي مَخَارِقِ الْجَوِّ الْمُنْفَسِحِ ، وَالْفَضَاءِ الْمُنْفَرِجِ . كَوَّنَهَا بَعْدَ إِذْ لَمْ تَكُنْ فِي عَجائِبِ صُوَرٍ ظَاهِرَةٍ ، وَرَكَّبَهَا فِي حِقَاقِ مَفَاصِلَ مُحْتَجِبَةٍ ، وَمَنَعَ بَعْضَهَا بِعَبَالَةِ خَلْقِهِ أَنْ يَسْمُوَ فِي الْهَوَاءِ خُفُوفاً ، وَجَعَلَهُ يَدِفُّ دَفِيفاً وَنَسَقَهَا عَلَى اخْتِلاَفِهَا فِي الْأَصَابِيغِ بِلَطِيفِ قُدْرَتِهِ ، وَدَقِيقِ صَنْعَتِهِ . فَمِنْهَا مَغْمُوسٌ فِي قَالَبِ لَوْنٍ لاَ يَشُوبْهُ غَيْرُ لَوْنِ مَا غُمِسَ فِيه؛ وَمِنْهَا مَغْمُوسٌ فِي لَوْنِ صِبْغٍ قَدْ طُوِّقَ بِخِلاَفِ مَا صُبِ_غَ بِهِ.

الشّرْحُ :المَوات ، بالفتح : ما لا حياة فيه . وأرضٌ موات ، أي قَفْر ، والساكن هاهنا كالأرض والجبال . وذو الحركات : كالنار والماء الجاري والحيوان . ونعَقت في أسماعنا دلائله ، أي صاحت دلائله ؛ لظهورها كالأصوات المسموعة التي تُعلَم يقيناً . وأخاديد الأرض : شقوقها ، جمع أُخْدُود . وفجاجها : جمع فَجّ ؛ وهو الطريق بين الجبَلين . ورواسي أعلامها : أثقال جبالها . وصرَّفة في زمام التّسخير ، أي هي مسخّرة تحت القدرة الإلهية . وحِقاق المفاصل : جمع حُقّ ؛ وهو مجمع المفصلين من الأعضاء كالركبة ؛ وجعلها محتجبة ؛ لأنها مستورة بالجلد واللّحم . وعَبَالة الحيوان : كثافة جَسده . والخفوف : سرعة الحركة . والدفيف للطائر : طيرانه فُوَيق الأرض ؛ يقال : عُقاب دَفُوف . ونسقها : رتبها . والأصابيغ : جمع أصْباغ ، وأصباغ جمع صِبْغ . والمغموس الأوّل : هو ذو اللون الواحد كالأسود والأحمر . والمغموس الثاني : ذو اللونين ، نحو أن يكون أحمر وعنقه خضراء . وروي : « قد طورق لون » أي لون على لون ، كما تقول : طارقت بين الثوبين . فإن قلت : ما هذه الطيور التي يسكن بعضها الأخاديد وبعضها الفِجاج ، وبعضها رؤوس الجبال؟ قلت : أمّا الأول فكالقطا والصّدا (1) ، والثاني كالقَبج (2) والطّيهوج (3) ، والثالث كالصّقر والعُقاب .

.


1- .الصدا : ذكر البوم .
2- .القبج ، واحده القبجة ؛ وهي أُنثى الحجل .
3- .الطيهوج : طائر شبيه بالحجل الصغير ، غير أن عنقه أحمر ومنقاره ورجلاه حمر .

ص: 561

الأصْلُ :وَمِنْ أَعْجَبِهَا خَلْقاً الطَّاوُوسُ الَّذِي أَقَامَهُ فِي أَحْكَمِ تَعْدِيلٍ ، وَنَضَّدَ ألوَانَهُ فِي أَحْسَنِ تَنْضِيدٍ ، بِجَنَاحٍ أَشْرَجَ قَصَبَهُ ، وَذَنَبٍ أَطَالَ مَسْحَبَهُ . إِذَا دَرَجَ إِلَى الْأُنْثَى نَشَرَهُ مِنْ طَيِّهِ ، وَسَمَا بِهِ مُطِلاًّ عَلَى رَأْسِهِ كَأَنَّهُ قِلْعُ دَارِيٍّ ، عَنَجَهُ نُوتِيُّهُ . يَخْتَالُ بِألوَانِهِ ، وَيَمِيسُ بِزَيَفَانِهِ . يُفْضِي كَإِفْضَاءِ الدِّيَكَةِ ، وَيَؤرُّ بِمَلاَقِحِهِ أَرَّ الْفُحُولِ الْمُغْتَلِمَةِ لِلضِّرَابِ . أُحِيلُكَ مِنْ ذلِكَ عَلَى مُعَايَنَةٍ ، لاَ كَمَنْ يُحِيلُ عَلَى ضَعِيفٍ إِسْنَادُهُ . وَلَوْ كَانَ كَزَعْمِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُلْقِحُ بِدَمْعَةٍ تَسْفَحُهَا مَدَامِعُهُ ، فَتَقِفُ فِي ضَفَّتَي جُفُونِهِ ، وأَنَّ أُنْثَاهُ تَطْعَمُ ذلِكَ ، ثُمَّ تَبِيضُ لاَ مِنْ لِقَاحِ فَحْلٍ سِوَى الدَّمْعِ الْمُنْبَجِسِ ، لَمَا كَانَ ذلِكَ بَأَعْجَبَ مِنْ مُطَاعَمَةِ الْغُرَابِ!

الشّرْحُ :الطاووس : فاعول ، كالهاضوم ، والكابوس ، وترخيمُه « طُوَيس » . ونضّد : رتَّب . قوله : « أشرج قصبَه » ، القصب هاهنا : عروق الجناح . وغضاريفه : عظامه الصغار ، وأشرَجها : ركّب بعضها في بعض كما تُشرَج العيبة ، أي يداخِلُ بين أشراجها وهي عُراها ، واحدها شَرَج ، بالتحريك . ثم ذكر ذَنَب الطاووس ، وأ نّه طويل المسحَب ، وأنّ الطاووس إذا دَرَج إلى الأُنثى للسِّفاد نَشَر ذَنَبه من طَيِّه ، وعَلاَ بِهِ مرتفعا على رأسه . والقَلْع : شِراع السفينة ، وجمعه قِلاع . والدّاريّ : جالب العطر في البحر من دَارِين ؛ وهي فُرْضة بالبحرين ، فيها سُوقٌ يحمل إليها المسْك من الهند ، وفي الحديث : « الجليس الصالح كالدّارِيّ ، إن لم يُحْذِك من عطره علقَك من ريحه » . والنُّوتي : الملاّح ؛ وجمعه نواتيّ . وعَنَجه : عَطَفه ، وعَنَجْت خِطام البعير ، رددته على رجْليه ، أعنُجُه بالضمّ ، والاسم العَنَج ، بالتحريك ؛ وفي المثل « عَوْدةٌ يُعَلَّم الْعَنْج » (1) يضرب مثلاً لتعليم الحاذق . ويختال ،

.


1- .العود : البعير المسن ، وانظر مجمع الأمثال 1 : 12 .

ص: 562

من الخُيَلاء وهي العُجْب . ويميس : يتبختر . وَزَيفانه : تبختره ، زافَ يزيف ، ومنه ناقة زيّافة ، أي مُختالة . وكذلك ذكر الحمام عند الحمامة إذا جَرّ الذُّنابي ، ودفع مقدّمه بمؤخره واستدار عليها . ويفضي : يسفِد . والدِّيَكة جمع ديك ، كالقرَطة والجِحَرَة جمع قُرْط وجُحْر . ويؤرّ : يسفِد ؛ والأرّ : الجماع ، ورجل آرّ كثير الجماع . ومَلاقحه : أدوات اللقاح وأعضاؤه ؛ وهي آلات التناسل . قوله : « أرّ الفُحول » ، أي أرّا مثل أرّ الفحول ذات الغلْمة والشَّبق . ثم ذكر أنه لم يقل ذلك عن إسناد قد يضعّف ويتداخله الطعن ، بل قال ذلك عن عيان ومشاهدة . فإن قلت : من أين للمدينة طواويس ؟ وأين العرب وهذا الطائر حتى يقول أمير المؤمنين عليه السلام : « أحيلك من ذلك على معاينة » ؛ لا سيما وهو يعني السِّفاد ، ورؤية ذلك لمن تكثُر الطواويس في داره ويطول مكثُها عنده نادرة! قلت : لم يشاهد أميرُ المؤمنين عليه السلام الطواويسَ بالمدينة بل بالكوفة ، وكانت يومئذٍ تجبى إليها ثمرات كلِّ شيء ، وتأتي إليها هدايا الملوك من الآفاق ، ورؤية المسافدة مع وجود الذّكر والأُنثى غير مستبعَدة . والضّفّتان ، بفتح الضاد : الجانبان ، وهما ضفتا النّهر ، وقد جاء ذلك بالكسر أيضا ، والفتح أفصح . والمنبجس : المنفجر . ويسفحها : يصبها ، وروي : « تنشجها مدامعه » ؛ من النّشيج ، وهو صوت الماء وغَلَيانه من زِقّ أو حُبّ أو قِدْر .

الأصْلُ :تَخَالُ قَصَبَهُ مَدَارِيَ مِنْ فِضَّةٍ ، وَمَا أُنْبِتَ عَلَيْهَا مِنْ عَجِيبِ دَارَاتِهِ ، وَشُمُوسِهِ خَالِصَ الْعِقْيَانِ ، وَفِلَذَ الزَّبَرْجَدِ . فَإِنْ شَبَّهْتَهُ بِمَا أَنْبَتَتِ الْأَرْضُ قُلْتَ : جَنِيٌّ جُنِيَ مِنْ زَهْرَةِ كُلِّ رَبِيعٍ . وَإِنْ ضَاهَيْتَهُ بِالْمَلاَبِسِ فَهُوَ كَمَوْشِيِّ الْحُلَلِ ، أَوْ كَمُونِقِ عَصْبِ اليَمَنِ . وَإِنْ شَاكَلْتَهُ بِالْحُلِيِّ فَهُوَ كَفُصُوصٍ ذَاتِ ألوَانٍ ، قَدْ نُطِّقَتْ بِاللُّجَيْنِ الْمُكَلَّلِ . يَمْشِي مَشْيَ الْمَرِحِ الْمُ_خْتَالِ ، وَيَتَصَفَّحُ ذَنَبَهُ وَجَنَاحَيْهِ ، فَيُقَهْقِهُ ضَاحِكاً لِجَمَالِ

.

ص: 563

سِرْبَالِهِ ، وَأَصَابِيغِ وِشَاحِهِ ؛ فَإِذَا رَمَى بِبَصَرِهِ إِلَى قَوَائِمِهِ زَقَا مُعْوِلاً بِصَوْتٍ يَكَادُ يُبِينُ عَنِ اسْتِغَاثَتِهِ ، وَيَشْهَدُ بِصَادِقِ تَوَجُّعِهِ ؛ لِأَنَّ قَوَائِمَهُ حُمْشٌ كَقَوَائِمِ الدِّيَكَةِ الْخِلاَسِيَّةِ .

الشّرْحُ :قَصَبُه : عظام أجنحته ، والمَدارِي جمع مِدْرَى ؛ وهو في الأصل القَرْن . وكذلك المِدْرَاة ؛ ويقال المِدْرَى لشيء كالمِسَلّة تصلِحُ بها الماشطة شُعُور النساء . وتمدّرت المرأة ، أي سَرّحت شَعْرَها . شبّه عظام أجنحة الطاوس بمدارَى من فضّة لبياضها ؛ وشبّه ما أنبت اللّه عليها من تلك الدّارات والشموس الَّتِي في الرِّيش بخالِصِ العِقْيان ؛ وهو الذّهب . وَفِلَذ الزَّبرْجَد : جمع فِلْذَة ، وهي القطعة . والزّبَرْجد : هذا الجوهر الذي تسمّيه الناس البلخش . ثم قال : إن شبّهتَه بنبات الأرض قلت : إنه قد جُنِيَ من زهرة كلّ ربيع في الأرض ؛ لاختلاف ألوانه وأصباغه . وإنْ ضاهيتَه بالملابس ، المضاهاة : المشاكلة ، يُهمز ولا يهمز ، وقرئ : « يُضَاهُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا » (1) ، « وَيُضَاهِئُونَ » ؛ وهذا ضَهِيّ هذا ، على « فَعِيل » ، أي شبيهه . وموْشِيَ الحُلَل : ما دُبّج بالوشي ؛ وهو الأرقم الملوّن . والعَصْب : بُرود اليمن . والحُلِيّ : جمع حَلْي وهو ما تلبسه المرأة من الذهب والفضّة ، مثل ثدِيّ وثَدْي ، ووزنه « فُعول » ، وقد تكسر الحاء لمكان الياء ، مثل « عِصِيّ » . وقرئ : « مِنْ حُلِيِّهِمْ » (2) بالضمّ والكسر . ونطِّقَتْ باللّجين ؛ جعلت الفضّة كالنِّطاق لها . والمكَلّل : ذو الإكليل . وزَقَا : صَوّت ، يزقو زَقْوا وزقيا وزُقاء ، وكلُّ صائح زاقٍ . والزَّقْية : الصَّيْحة ؛ وهو أثقلُ من الزَّواقي ، أي الدّيكة ؛ لأنهم كانوا يسمُرون ، فإذا صاحت الدِّيَكة تفرّقوا . ومُعوِلاً : صارخاً ، أعولت الفرس صوّتت ، ومنه العَويل والعَوْلة . وقوائمه حُمْش : دِقاق ؛ وهو أحمش السَّاقَيْن وحَمْش الساقين بالتَّسكين ؛ وقد حمِشت قوائمه ، أي دَقّت . وتقول العرب للغلام إذا كانت أمّه بيضاء وأبوه عربيا : آدم ، فجاء لونه بين لونيهما . خِلاسيّ ، بالكسر والأُنثى خِلاسيَّة وقال اللّيث : الدِّيَكة الخِلاسيَّة ، هي المتولّدة من الدجاج الهنديّ والفارسيّ .

.


1- .سورة التوبة 30 .
2- .سورة الأعراف 148 .

ص: 564

يقول عليه السلام : إنّ الطاووس يُزْهَى بنفسه ؛ ويتيه إذا نَظَر في أعطافه ، ورأى ألوانَه المختلفة ؛ فإذا نظر إلى ساقَيْه وَجَم لذلك وانكسر نشاطه وزهوه ، فصاح صياح العويل لحزنه ؛ وذلك لدِقّة ساقيه ونُتُوء عُرقوبَيْه .

الأصْلُ :وَقَدْ نَجَمَتْ مِنْ ظُنْبُوبِ سَاقِهِ صِيصِيَةٌ خَفِيَّةٌ ، وَلَهُ فِي مَوْضِعِ الْعُرْفِ قُنْزُعَةٌ خَضْرَاءُ مُوَشَّاةٌ . وَمَخْرَجُ عَنُقِهِ كالاْءِبْرِيقِ ، وَمَغَرزُهَا إِلَى حَيْثُ بَطْنُهُ كَصِبْغِ الْوَسِمَةِ الْيَ_مَانِيَّةِ ، أَوْ كَحَرِيرَةٍ مُلْبَسَةٍ مِرْآةً ذَاتَ صِقَالٍ ، وَكَأَنَّهُ مُتَلَفِّعٌ بِمِعْجَرٍ أَسْحَمَ ؛ إِلاَّ أَنَّهُ يُخَيَّلُ لِكَثْرَةِ مَائِهِ ، وَشِدَّةِ بَرِيقِهِ ، أَنَّ الْخُضْرَةَ النَّاضِرَةَ مُمْتَزِجَةٌ بِهِ . وَمَعَ فَتْقِ سَمْعِهِ خَطٌّ كَمُسْتَدَقِّ الْقَلَمِ فِي لَوْنِ الْأُقْحُوَانِ ، أَبْيَضُ يَقَقٌ ، فَهُوَ بِبَياضِهِ فِي سَوَادِ مَا هُنَالِكَ يَأْتَلِقُ . وَقَلَّ صِبْغٌ إلاَّ وَقَدْ أَخَذَ مِنْهُ بِقِسْطٍ ، وَعَلاَهُ بِكَثْرَةِ صِقَالِهِ ، وَبَرِيقِهِ ، وَبَصِيصِ دِيبَاجِهِ وَرَوْنَقِهِ ، فَهُوَ كَالْأَزَاهِيرِ الْمَبْثُوثَةِ ، لَمْ تُرَبِّهَا أَمْطَارُ رَبِيعٍ ، وَلاَ شُمُوسُ قَيْظٍ .

الشّرْحُ :نَجَمَتْ : ظهرتْ . والظُّنبوب : حَرْف الساق ؛ وهو هذا العظْم اليابس . والصِّيصَية في الأصل : شوكة الحائك التي يسوّى بها السّدَاةَ واللّحمة . ونقل إلى صِيصِيَة الديك لتلك الهيئة التي في رجله . والعُرْف : الشعر المرتفع من عُنقه على رأسه . والقُنْزُعة ، واحدة القنازع ؛ وهي الشَّعر حوالي الرأس . وموشّاة : ذات وشْي . والوسِمة ، بكسر السين : العِظْلِم الّذي يُخْضَب به ؛ ويجوز تسكينُ السِّين . والأسحم : الأسود . والمتلفّع : الملتحف ، ويروى : « متقنّع بِمعْجَر » ؛ وهو ما تشدُّه المرأة على رأسها كالرِّداء . والأقحوان : البابونج الأبيض ؛ وجمعه أُقاح . وأبيض يَقَق : خالص البياض ، وجاء : « يقِق » بالكسر . ويأتلق : يلمع . والبصيص : البريق ، وبصّ الشيء : لَمَع . وتربُّها الأمطار : تربّيها وتجمعها . يقول عليه السلام : كأنّ هذا الطائرَ ملتحِفٌ بملحفة سوداء ، إلاّ أنها لكثرة رونقها يتوهّم أنه قد امتزج بها خضرة ناضرة ، وقلّ أن يكون لون إلاّ وقد أخذ هذا الطائر منه بنصيب ، فهو كأزاهير الربيع ، إلاّ أنّ الأزهار تربّيها الأمطار والشموس ؛ وهذا مستغنٍ عن ذلك .

.

ص: 565

الأصْلُ :وَقَدْ يَنْحَسِرُ مِنْ رِيشِهِ ، وَيَعْرَى مِنْ لِبَاسِهِ ، فَيَسْقُطُ تَتْرَى ، وَيَنْبُتُ تِبَاعاً ، فَيَنْحَتُّ مِنْ قَصَبِهِ انْحِتَاتَ أَوْرَاقِ الْأَغْصَانِ ، ثُمَّ يَتَ_لاَحَقُ نَامِياً حَتَّى يَعُودَ كَهَيْئَتِهِ قَبْلَ سُقُوطِهِ ، لاَ يُخَالِفُ سَالِفَ أَلْوَانِهِ ، وَلاَ يَقَعُ لَوْنٌ فِي غَيْرِ مَكَانِهِ ! وَإِذَا تَصَفَّحْتَ شَعْرَةً مِنْ شَعَرَاتِ قَصَبِهِ أَرَتْكَ حُمْرَةً وَرْدِيَّةً ، وَتَارَةً خُضْرَةً زَبَرْجَدِيَّةً ، وَأَحْيَاناً صُفْرَةً عَسْجَدِيَّةً ، فَكَيْفَ تَصِلُ إِلَى صِفَةِ هذَا عَمَائِقُ الْفِطَنِ ، أَوْ تَبْلُغُهُ قَرَائِحُ الْعُقُولِ ، أَوْ تَسْتَنْظِمُ وَصْفَهُ أَقْوَالُ الْوَاصِفِينَ ! وَأَقَلُّ أَجْزَائِهِ قَدْ أَعْجَزَ الْأَوهَامَ أَنْ تُدْرِكَهُ ، وَالألسِنَةَ أَنْ تَصِفَهُ! فَسُبْحَانَ الَّذِي بَهَرَ الْعُقُولَ عَنْ وَصْفِ خَلْقٍ جَلاَّهُ لِلْعُيُونِ ، فَأَدْرَكَتْهُ مَحْدُوداً مُكَوَّناً ، وَمُؤلَّفاً مُلَوَّناً ؛ وَأَعْجَزَ الْأَلْسُنَ عَنْ تَلْخِيصِ صِفَتِهِ ، وَقَعَدَ بِهَا عَنْ تَأدِيَةِ نَعْتِهِ! وَسُبْحَانَ مَنْ أَدْمَجَ قَوَائِمَ الذَّرَّةِ وَالْهَمَجَةِ إِلَى مَا فَوْقَهُمَا مِنْ خَلْقِ الْحِيتَانِ وَالْفِيَلَةِ ! وَوَأَى عَلَى نَفْسِهِ أَلاَّ يَضْطَرِبَ شَبَحٌ مِمَّا أَوْلَجَ فِيهِ الرُّوحَ ، إِلاَّ وَجَعَلَ الْحِمَامَ مَوْعِدَهُ ، وَالْفَنَاءَ غَايَتَهُ .

الشّرْحُ :ينحسر من ريشه : ينكشف فيسقط ، ويروى : « يتحسّر » . تَتْرى ، أي شيئا بعد شيء وبينهما فترة ، قال اللّه تعالى : « ثُمَّ أَرْسَلْنَآ رُسُلَنَا تَتْرَى » (1) ؛ لأ نّه لم يرسلهم على تراسل ، بل بعد فترات ؛ وهذا مما يغلط فيه قومٌ ، فيعتقدون أنّ « تَتْرَى » للمواصلة والالتصاق . وأصلها الواو من « الوَتْر » وهو الفرد . قال عليه السلام : « وينبُت تباعا » أي لا فترات بينهما ، وكذلك حال الريش الساقط ، يسقط شيئا بعد شيء ، وينبت جميعا . وينحتّ : يتساقط ، وانحتاتُ الورق : تناثرها . ونامياً : زائدا . يقول عليه السلام : إذا عاد ريشة عادَ مكان كلّ ريشه ريشةٌ ملوّنة بلون الريشة الأُولى ، فلا يتخالف الأوائل والأواخر . والخضرة الزّبرجديَّة : منسوبة إلى الزمرّد ، ولفظة« الزّبرجد » تارة

.


1- .سورة المؤمنين 44 .

ص: 566

تستعمل له ، وتارة لهذا الحجَر الأحمر المسمّى « بلخش » . والعسجد : الذهب . وعمائق الفِطَن : البعيدة القَعْر . والقريحة : الخاطر والذهن . وبَهَر : غَلَب ، وجلاّه : أظهره ؛ ويروى بالتخفيف . وأدمج القوائم : أحكمها ؛ كالحبل المدمَج الشديد الفَتْل . والذرّة : النملة الصغيرة . والهَمَجَة ، واحدة الهَمج ؛ وهو ذباب صغير كالبعوض يسقط على وجوه الغَنَم والحمر وأعينها . ووأى : وعد ، والوأْي : الوعد .

الأصْلُ :منها في صفة الجنة :فَلَوْ رَمَيْتَ بِبَصَرِ قَلْبِكَ نَحْوَ مَا يُوصَفُ لَكَ مِنْهَا لَعَزَفَتْ نَفْسُكَ عَنْ بَدَائِعِ مَا أُخْرِجَ إِلَى الدُّنْيَا مِنْ شَهَوَاتِهَا وَلَذَّاتِهَا ، وَزَخَارِفِ مَنَاظِرِهَا ، وَلَذَهَلَتْ بِالْفِكْرِ فِي اصْطِفَاقِ أَشْجَارٍ غُيِّبَتْ عُرُوقُهَا فِي كُثْبَانِ الْمِسْكِ عَلَى سَوَاحِلِ أَنْهَارِهَا ، وَفِي تَعْلِيقِ كَبَائِسِ اللُّؤْلُؤِ الرَّطْبِ فِي عَسَالِيجِهَا وَأَفْنَانِهَا ، وَطُلُوعِ تِلْكَ الثِّ_مَارِ مُخْتَلِفَةً فِي غُلُفِ أَكْمَامِهَا ، تُجْنَى مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ فَتأتي عَلَى مُنْيَةِ مُجْتَنِيهَا ، وَيُطَافُ عَلَى نُزَّالِهَا فِي أَفْنِيَةِ قُصُورِهَا بِالْأَعْسَالِ الْمُصَفَّقَةِ ، وَالْخُمُورِ الْمُرَوَّقَةِ . قَوْمٌ لَمْ تَزَلِ الْكَرَامَةُ تَتََمادَى بهِمْ حَتَّى حَلُّوا دَارَ الْقَرَارِ ، وَأَمِنُوا نُقْلَةَ الْأَسْفَارِ . فَلَوْ شَغَلْتَ قَلْبَكَ أَيُّهَا الْمُسْتَمِعُ بِالْوُصُولِ إِلَى مَا يَهْجُمُ عَلَيكَ مِنْ تِلْكَ الْمَنَاظِرِ الْمُونِقَةِ ، لَزَهَقَتْ نَفْسُكَ شَوْقاً إِلَيْهَا ، وَلَتَحَمَّلْتَ مِنْ مَجْلِسِي هذَا إِلَى مُجَاوَرَةِ أَهْلِ الْقُبُورِ اسْتِعْجَالاً بِهَا . جَعَلَنَا اللّهُ وَإِيَّاكُمْ مِمَّنْ يَسْعَى إِلى مَنَازِلِ الْأَبْرَارِ بِرَحْمَتِهِ .

قال الرضي رحمه الله :تفسير بعض ما في هذه الخطبة من الغريب قَوْلُهُ عليه السلام : «يَؤرُّ بِمَلاقِحِهِ» ، الْأرُّ : كِنَايَةٌ عَنِ النّكَاح ، يُقَالُ : أرّ الرّجُلُ المَرْأةَ يَؤرّهَا ، إذَا نَكَحَهَا . وَقَوْلُهُ عليه السلام : « كَأنّهُ قِلْعُ دَارِيّ عَنَجَهُ نُوتِيّهُ» القِلْعُ : شِرَاعُ السّفِينَةِ ، وَدَارِيّ : مَنْسُوبٌ إلى دَارِينَ ، وَهِيَ بَلْدَةٌ عَلَى الْبَحْرِ يُجْلَبُ مِنْهَا الطّيبُ . وَعَنَجَهُ : أَيْ عَطَفَهُ . يُقَالُ : عَنَجْتُ النّاقَةَ أَعْنُجُهَا » عَنْجاً إذَا

.

ص: 567

167 . من خطبة له عليه السلام ، يوصي بمكارم الأخلاق ، ويعد بني اُميّة

عَطَفْتَهَا . وَالنّوتي : الْمَلاّحُ . وَقَوْلُهُ عليه السلام : «ضَفّتَيْ جُفُونِهِ أَرَادَ جَانِبَيْ جُفُونِهِ . وَالضّفّتَانِ : الجّانِبَانِ» . وَقَوْلُهُ : «وَفِلَذَ الزّبَرْجَدِ» الْفِلَذُ : جَمْعُ فِلْذَة ، وَهِيَالقِطْعَةُ . وَقَوْلُهُ عليه السلام : «كَبَائِسِ اللّؤْلُؤِ الرّطْبِ» الْكِبَاسَة : الْعِذْقُ . وَالْعَسَالِيجُ : الْغُصُونُ ، وَاحِدُهَا عُسْلُوجٌ .

الشّرْحُ :رميتَ ببصرِ قلبك ، أي أفكَرْت وتأمّلت . وعَزَفتْ نفسُك : كرهتْ وزهدت . والزخارف : جمع زُخرف ؛ وهو الذهب ، وكلّ مموّه . واصطفاف الأشجار : انتظامها صَفّا ، ويروى : « في اصطفاق أغصان » أي اضطرابها . ويأتي على مُنْية مجتنيها : لا يترك له مُنْية أصلاً ؛ لأ نّه يكون قد بلغ نهاية الأماني . والعسل المصفّق : المصفّى تحويلاً من إناء إلى إناء . والمونقة : المعجِبة . وزهقت نفسه : مات . واعلم أ نّه لا مزيد في التشويق إلى الجنّة على ما ذكره اللّه تعالى في كتابه ؛ فكلّ الصّيْد في جانب الفرَا (1) .

167الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلاملِيَتَأَسَّ صَغِيرُكُمْ بِكَبِيرِكُمْ ، وَلْيَرأَفْ كَبِيرُكُمْ بِصَغِيرِكُمْ؛ وَلاَ تَكُونُوا كَجُفَاةِ الْجَاهِلِيَّةِ : لاَ في الدِّينِ يَتَفَقَّهُونَ ، وَلاَ عَنِ اللّهِ يَعْقِلُونَ ؛ كَقَيْضِ بَيْضٍ فِي أَدَاحٍ يَكُونُ كَسْرُهَا وِزْراً ، وَيُخْرِجُ حِضَانُهَا شَرّاً .

.


1- .أصل المثل : كلّ الصيد في جوف الفرا .

ص: 568

الشّرْحُ :أمرهم عليه السلام أن يتأسّى الصغير منهم بالكبير في أخلاقه وآدابه ؛ فإنّ الكبير لكثرة التّجربة أحزم وأكيس ، وأن يرأف الكبير بالصغير . والرأفة : الرحمة ؛ لأنّ الصغير مظنّة الضعف والرقة . ثم نهاهم عن خُلُق الجاهليّة في الجفاء والقسوة ، وقال : إنهم لا يتفقَّهون في دين ولا يعقلون عن اللّه ما يأمرهم به ؛ وهذا من قوله اللّه سبحانه : « صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ » (1) . وروي : « تتفقهون » بتاء الخطاب . ثم شبّههم ببيضِ الأفاعي في الأعشاش ، يظنّ بيض القطا فلا يحلّ لمن رآه أن يكسِره ؛ لأ نّه يظنّه بيض القطا ، وحضانه يُخرج شرّا ؛ لأ نّه يفقصُ عن أفعى . واستعار لفظة « الأداحي » للأعشاش مجازاً ؛ لأنّ الأداحي لا تكون إلاّ للنعام تدحوها بأرجلها وتبيض فيها ، ودَحْوها : توسيعها ، من دَحَوْت الأرض . والقَيْض : الكسر والفلق ، قِضْتُ القارورة والبيضة ، وانقاضت هي ، وانقاض الجدار انقياضاً ، أي تصدّع من غير أن يسقط ؛ فإن سقط قيل : تقيّض تقيُّضاً ، وتقوّض تقوضاً وقَوّضته أنا . وتقول للبيضة إذا تكسّرت فِلَقاً : تقيّضت تقيّضا ، فإنْ تصدّعت ولم تنفلق ، قلت : انقاضت ، فهي منقاضة ، والقارورة مثله .

الأصْلُ :منها :افْتَرَقُوا بَعْدَ أُلْفَتِهِمْ ، وَتَشَتَّتُوا عَنْ أَصْلِهِمْ . فَمِنْهُمْ آخِذٌ بِغُصْنٍ أَيْنَما مالَ مالَ مَعَهُ . عَلَى أَنَّ اللّهَ تَعَالَى سَيَجْمَعُهُمْ لِشَرِّ يَوْمٍ لِبَنِي أُمَيَّةَ ، كَمَا تَجْتَمِعُ قَزَعُ الْخَرِيفِ يُؤلِّفُ اللّهُ بَيْنَهُمْ ، ثُمَّ يَجْعَلُهُمْ رُكَاماً كَرُكَامِ السَّحَابِ ؛ ثُمَّ يَفْتَحُ اللّهُ لَهُمْ أبْوَاباً يَسِيلُونَ مِنْ مُسْتَثَارِهِمْ كَسَيْلِ الْجَنَّتَيْنِ ، حَيْثُ لَمْ تَسْلَمْ عَلَيْهِ قَارَّةٌ ، وَلَمْ تَثْبُتْ عَلَيْهِ أَكَمَةٌ ، وَلَمْ يَرُدَّ سَنَنَهُ رَصُّ طَوْدٍ ، وَلاَ حِدَابُ أَرْض . يُذعْذِعُهُمُ اللّهُ فِي بُطُونِ أَوْدِيَتِهِ ، ثُمَّ يَسْلُكُهُمْ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ، يَأَخُذُ بِهِمْ مِنْ قَوْمٍ حُقُوقَ قَوْمٍ ، وَيُمَكِّنُ لِقَوْمٍ فِي دِيَارِ قَوْمٍ . وَأيْمُ

.


1- .سورة البقرة 171 .

ص: 569

اللّهِ ، لَيَذُوبَنَّ مَا فِي أَيْدِيهمْ بَعْدَ الْعُلُوِّ وَالتَّ_مْكِينِ ، كَمَا تَذُوبُ الأليَةُ عَلَى النَّارِ . أيُّهَا النَّاسُ ، لَوْ لَمْ تَتَخَاذَلُوا عَنْ نَصْرِ الْحَقِّ ، وَلَمْ تَهِنُوا عَنْ تَوْهِينِ الْبَاطِلِ ، لَمْ يَطْمَعْ فِيكُمْ مَنْ لَيْسَ مِثْلَكُمْ ، وَلَمْ يَقْوَ مَنْ قَوِيَ عَلَيْكُمْ . لكِنَّكُمْ تِهْتُمْ مَتَاهَ بَنِي إِسْرَائِيلَ . وَلَعَمْرِي ، لَيُضَعَّفَنَّ لَكُمُ التَّيهُ مِنْ بَعْدِي أَضْعافاً بِمَا خَلَّفْتُمُ الْحَقَّ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ، وَقَطَعْتُمُ الْأَدْنى ، وَوَصَلْتُمُ الْأَبْعَدَ . وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِنِ اتَّبَعْتُمُ الدَّاعِيَ لَكُمْ ، سَلَكَ بِكُمْ مِنْهَاجَ الرَّسُولِ ، وَكُفِيتُمْ مَؤونَةَ الاِعْتِسَافِ ، وَنَبَذْتُمُ الثِّقْلَ الْفَادِحَ عَنِ الأعْنَاقِ .

الشّرْحُ :هو عليه السلام يذكر حال أصحابه وشيعتَه بعده ، فيقول : افترقوا بعد أُلفتهم ، أي بعد اجتماعهم . وتشتّتوا عن أصلهم ، أي عنّي بعد مفارقتي ؛ فمنهم آخذ بغصن ؛ أي يكون منهم مَنْ يتمسَّك بمن أُخلّفه بعدي من ذريّة الرسول ، أينما سلكوا سلكوا معهم ؛ وتقدير الكلام : ومنهم مَنْ لا يكون هذه حاله لكنّه لم يذكره عليه السلام ، اكتفاءً بذكر القسم الأول ؛ لأ نّه دالٌّ على القسم الثاني . ثم قال : على أنّ هؤلاء القوم : من ثبت منهم على عقيدته فينا ومن لم يثبت ؛ لابدّ أن يجمعهم اللّه تعالى لشرّ يوم لبني أميّة ، وكذا كان ، فإنّ الشّيعة الهاشمية اجتمعت على إزالة ملك بني مَرْوان : مَنْ كان منهم ثابتا على ولاء عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، ومَنْ حاد منهم عن ذلك ؛ وذلك في أواخر أيّام مَرْوان الحمار ، عند ظهور الدّعوة الهاشميّة . وقَزَع الخريف : جمع قَزَعة ، وهي سُحُب صغار تجتمع فتصيرُ ركاماً ، وهو ما كَثُف من السّحاب . وركمت الشيء أركُمه ، إذا جمعتَه وألقيتَ بعضه على بعض . ومستثارهم: موضع ثورتهم . والجنّتان : هما اللتان قال اللّه تعالى فيهما : « لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيةٌ جَنّتَانِ عَنْ يَمينٍ وشِمالٍ » (1) . وسلّط اللّه عليهما السّيل ، قال اللّه تعالى : « فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِمِ » (2) . فشبّه عليه السلام سَيَلان الجيوش إلى بني أميّة بالسيل المسلّط على تَيْنِك الجنَّتين . فإنه

.


1- .سورة سبأ 15 .
2- .سورة سبأ 16 .

ص: 570

168 . من خطبة له عليه السلام في أول خلافته ، وفيها حيث على اتباع القرآن ، وتأدية الفرائض

لم تسلم عليه قارة ؛ وهي الجَبيل الصغير . ولم تَثْبُتْ له أكمة ، وهي التَّلْعَة من الأرض . ولم يردّ سَنَنه ، أي طريقه . طَوْد مرصوص ، أي جَبَل شديد التصاق الأجزاء بعضِها ببعض . ولا حِدَاب أرْض : جمع حَدَبة وهي الرّوابي والنِّجاد . ثم قال : « يذعذعهم اللّه ؛ الذّعذعة بالذال المعجمة مرتين : التّفريق ، وذعذعة الشرّ : إذاعته . ثم يسلكُهم ينابيع في الأرض ، من ألفاظ القرآن (1) ، والمراد أنه كما أنّ اللّه تعالى ينزّل من السّماء ماء فيستكنّ في أعماق الأرض ، ثم يظهر منها ينابيع إلى ظاهرها ، كذلك هؤلاء القوم ، يفرّقهم اللّه تعالَى في بطون الأودية وغوامض الأغوار ، ثم يظهرُهم بعد الاختفاء فيأخذ بهم من قومٍ حقوقَ آخرين ، ويمكّن منهم قوماً من ملك قوم وديارهم . ثم أقسم ليذُوبَنَّ ما في أيدِي بني أميّة بعد علوّهم وتمكينهم ، كما تذوب الألْيَة على النار ؛ وهمزة « الألْيَة » مفتوحة ، وجمعها أَليات ، بالتحريك والتثنية أَلَيَان بغير تاء . ثم قال : لولا تخاذلكم لم يطمع فيكم مَن هو دونكم . وتِهنُوا ، مضارع وَهَن ، أي ضعف ، وهو من ألفاظ القرآن (2) أيضا . وتِهْتُم مَتَاه بني إسرائيل : حِرْتم وضَللتم الطريق . ثم قال عليه السلام : « لَيُضَعَّفَنّ لكم التّيه من بعدي » . يعني الضلال ، يضعّفه لكم الشيطان وأنفسكم بما خَلّفتم الحق وراء ظهوركم ، أي لأجل ترككم الحق . وقطعكم الأدنى _ يعني نفسه _ ووصلكم الأبعد _ يعني معاوية _ ويروى : « إن اتبعتم الراعي لكم » ، بالراء . والاعتساف : سلوك غير الطريق . والفادح : الثّقَل ، فدحَه الدين : أثقله .

168الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلام في أول خلافتهإِنَّ اللّهَ تعالى أَنْزَلَ كِتَاباً هَادِياً بَيَّنَ فِيهِ الْخَيْرَ وَالْشَّرَّ ؛ فَخُذُوا نَهْجَ الْخَيْرِ تَهْتَدُوا ،

.


1- .وهو قوله تعالى في سورة الزمر 21 : « ألَمْ تَرَ أَنَّ اللّه َ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ » .
2- .وهو قوله تعالى في سورة آل عمران 139 : « وَلاَتَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُم الأَعْلَوْنَ » .

ص: 571

وَاصْدِفُوا عَنْ سَمْتِ الشَّرِّ تَقْصِدُوا . الْفَرَائِضَ الْفَرَائِضَ ! أَدُّوهَا إِلَى اللّهِ تُؤدِّكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ .إِنَّ اللّهَ حَرَّمَ حَرَاماً غَيْرَ مَجْهُولٍ ، وَأَحَلَّ حَلاَلاً غَيْرَ مَدْخُولٍ ، وَفَضَّلَ حُرْمَةَ الْمُسْلِمِ عَلَى الْحُرَمِ كُلِّهَا ، وَشَدَّ بِالاْءِخْلاَص وَالتَّوْحِيدِ حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَعَاقِدِهَا ، فَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ إِلاَّ بِالْحَقِّ ، وَلاَ يَحِلُّ أَذَى الْمُسْلِمِ إِلاَّ بَمَا يَجِبُ . بَادِرُوا أَمْرَ الْعَامَّةِ وَخَاصَّةَ أَحِدِكُمْ وَهُوَ الْمَوْتُ ، فَإنَّ النَّاسَ أَمَامَكُمْ ، وَإِنَّ السَّاعَةَ تَحْدُوكُمْ مِنْ خَلْفِكُمْ . تَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا ، فَإِنَّمَا يُنْتَظَرُ بِأَوَّلِكُمْ آخِرُكُمْ . اتَّقُوا اللّهَ فِي عِبَادِهِ وَبِلاَدِهِ ، فَإِنَّكُمْ مَسْؤولُونَ حَتَّى عَنِ الْبِقَاعِ وَالْبَهَائِمِ . أَطِيعُوا اللّهَ وَلاَ تَعْصُوهُ ، وَإِذَا رَأَيْتُمُ الْخَيْرَ فَخُذُوا بِهِ ، وَإِذَا رَأيْتُمْ الشَّرَّ فَأَعْرِضُوا عَنْهِ .

الشّرْحُ :واصدِفوا عن سَمْت الشر ، أي أعرِضوا عن طريقه . تَقْصِدوا ، أي تعدلوا ، والقصْد : العدل . ثم أمَر بلزوم الفرائض من العبادات والمحافظة عليها ؛ كالصّلاة والزّكاة ؛ وانتصب ذلك على الإغراء . ثم ذكر أنّ الحرام غير مجهول للمكلّف بل معلوم ، والحلال غير مدخول ، أي لا عيب ولا نقص فيه ؛ وأنّ حرمة المسلم أفضلُ من جميع الحرُمات . وهذا لفظ الخبر النبويّ : « حُرْمة المسلم فوق كلّ حُرْمة ، دمه وعرضه وماله » . قال عليه السلام : « وشد بالإخلاص والتوحيد حقوقَ المسلمين فيمعاقدها » ؛ لأنّ الإخلاص والتوحيد داعيان إلى المحافظة على حقوق المسلمين صارفان عن انتهاك محارمهم . قال : « فالمسلم مَنْ سلِم [المسلمون] » ؛ هذا لفظ الخبر النبويّ بعينه . قوله : « ولا يحلّ أذى المسلم إلاّ بما يجب » ، أي إلاّ بحقّ ؛ وهو الكلام الأوّل ، وإنما أعاده تأكيداً . ثم أمر بمبادرة الموت ، وسمّ_اه الواقعة العامة ؛ لأ نّه يعمّ الحيوان كلّه ، ثم سمّ_اه خاصّة أحدكم ؛ لأ نّه وإن كان عاما إلاّ أنّ له مع كلّ إنسان بعينه خصوصيّة زائدة على ذلك العموم . قوله : « فإنّ الناس أمامكم » ، أي قد سبقوكم . والساعة تسوقُكم من خَلْفكم . ثم أمر بالتخفّف ، وهو القَنَاعة من الدنيا باليسير ، وترك الحرص عليها ، فإنّ المسافر الخفيف أحرى بالنجاة ولحاق أصحابه وبلوغ المنزل من الثقيل .

.

ص: 572

169 . من كلام له عليه السلام بعد ما بويع له بالخلافة ، وقد قال له قوم من الصحابة : لو عاقبت قوماً ممّن أجلب على عثمان !

وقوله : « فإنما يُنتظر بأوّلكم آخرُكم » ، أي إنما ينتظر ببعث الموتى المتقدّمين أن يموت الأواخر أيضاً ، فيبعث الكلّ جميعا في وقت واحد . ثم ذكر أنّهم مسؤولون عن كلّ شيء حتى عن البقاع : لمَ استوطنتم هذه ، وزهِدتم في هذه ؟ ولمَ أخربتم هذه الدار وعمرتم هذه الدار ؟ وحتى عن البهائم : لمَ ضربتُموها ؟ لمَ أجعتموها ؟ وروي : « فإن البأس أمامكم » يعني الفتنة ، والرواية الأُولى أظهر . وقد ورد في الأخبار النبوية : «ليُنتصَفَنّ للجَمّاء من القرناء » ، وجاء في الخبر الصحيح : « إنّ اللّه تعالى عذّب إنسانا بهرّ ، حبسه في بيت وأجاعه حتى هلك » .

169الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام بعدما بويع بالخلافة وقد قال له قوم من الصحابة : لو عاقبت قوماً ممن أجلب على عثمان ! فقال عليه السلام :يَا إِخْوَتَاهُ ! إِنِّي لَسْتُ أَجْهَلُ مَا تَعْلَمُونَ ، وَلكِنْ كَيْفَ لِي بِقُوَّةٍ وَالْقَوْمُ الْمُجْلِبُونَ عَلَى حَدِّ شَوْكَتِهِمْ ، يَمْلِكُونَنَا وَلاَ نَمْلِكُهُمْ ! وهَا هُمْ هؤلاَء قَدْ ثَارَتْ مَعَهُمْ عِبْدَانُكُمْ ، وَالْتَفَّتْ إِلَيْهِمْ أَعْرَابُكُمْ ، وَهُمْ خِلاَلَكُمْ يَسُومُونَكُمْ مَا شَاؤوا ؛ وَهَلْ تَرَوْنَ مْوْضِعاً لِقُدْرَةٍ عَلَى شَيْءٍ تُرِيدُونَهُ! إِنَّ هذَا الْأَمْرَ أَمْرُ جَاهِلِيِّةٍ ، وَإِنَّ لِهؤلاَء الْقَوْمِ مَادَّةً . إِنَّ النَّاسَ مِنْ هذَا الْأَمْرِ _ إِذَا حُرِّكَ _ عَلَى أُمُورٍ : فِرْقَةٌ تَرَى مَا تَرَوْنَ ، وَفِرقْةٌ تَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ ، وَفِرْقَةٌ لاَ تَرَى هذَا وَلاَ ذَاكَ ، فَاصْبِرُوا حَتَّى يَهْدَأَ النَّاسُ ، وَتَقَعَ الْقُلُوبُ مَوَاقِعَهَا ، وَتُؤخَذَ الْحُقُوقُ مُسْمَحَةً . فَاهْدَأُوا عَنَّي ، وَانْظُرُوا مَاذَا يَأْتِيكُمْ بِهِ أَمْرِي ، وَلاَ تَفْعَلُوا فَعْلَةً تُضَعْضِعُ قُوَّةً ، وَتُسْقِطُ مُنَّةً ، وَتُورِثُ وَهْناً وَذِلَّةً وَسَأُمْسِكُ الْأَمْرَ مَا اسْتَمْسَكَ . وَإِذَا لَمْ أَجِدْ بُدّاً فَ_آخِرُ الدَّواءِ الْكَيُّ .

.

ص: 573

الشّرْحُ :أجلَب عليه : أعان عليه ؛ وأجلبه : أعانه . والألف في « يا إخوتاه » بدل من ياء الإضافة ، والهاء للسكت . وعلى حدّ شوكتهم : شدّتهم ، أي لم تنكسر سورتُهم . والعِبْدان جمع عَبْد ، بالكسر ، مثل جَحْش وجِحشان ، وجاء عُبدان بالضم ، مثل تَمْر وتُمران ، وجاء عبيد . قوله : « والتفّتْ إليهم أعرابكم » : انضمّت واختلطتْ بهم . وهم خلالكم ، أي بينَكم يسومونكم ما شاءوا : يكلّفونكم ، قال تعالى : « يَسُومُونكُم سُوءَ العذَابِ » (1) . وتؤخذ الحقوق مُسمَحة ، من أسمح ، أي ذلّ وانقاد . فاهدأوا عنّي ، أي فاسكنوا . هَدَأ الرجل هدْءا وهدوءا ، أيْ سكن ؛ وأهدأه غيره . وتضعضِع قوّة : تضْعِف وتهدّ : ضعضعتُ البناء : هددته . والمنّة : القوة . والوَهن : الضعف . وآخر الدواء الكيّ ، مثل مشهور ؛ ويقال : « آخر الطبّ » ويغلِط فيه العامة فتقول : « آخر الداء » ، والكيّ ليس من الدّاء ليكون آخره . [ثم إنّ ابن أبي الحديد ، تحدّث مفصلاً عن الثائرين على عثمان ، وعطف عليهم المتمردين على الإمام عليه السلام ، فاعتذر عن الإمام عليه السلام بعدم التمكن من مواجهة الجميع ، فكان من الأصوب في التدبير الإمساك إلى حين سكون الفتنة ، وهدوء المطالبين] ، فقال : فلم يقع الأمر ذلك ، وعَصَى معاوية وأهلُ الشام ، والتجأ ورثة عثمان إليه ، وفارقوا حوزة أمير المؤمنين عليه السلام ، ولم يطلبوا القصاص طلباً شرعياً ، وإنما طلبوه مغالبة ، وجعلها معاوية عصبيَّة الجاهلية ، ولم يأتِ أحدٌ منهم الأمر من بابه ؛ وقبل ذلك ما كان من أمرِ طلحة والزبير ، ونقضِهما البيعة ، ونهبهما أموالَ المسلمين بالبصرة وقتلهما الصالحين من أهلها ؛ وجرت أُمور كلُّها تمنع الإمام عن التصدّى للقصاص ، واعتماد ما يجب اعتماده ؛ لو كان الأمر وَقَع على القاعدة الصحيحة من المطالبة بذلك على وجه السكون والحكومة ، وقد قال هو عليه السلام لمعاوية : « فأمّا طلبُك قتَلة عثمان ، فادخل في الطاعة ، وحاكم القوم إليّ ، أحملك وإياهم على كتاب اللّه وسنّة رسوله » . فإن قلت : فما معنى قوله : « وسأمسك الأمر ما استمسك ، فإذا لم أجد بدّا فآخر الدواء الكيّ » . قلت : ليس معناه : وسأصبر عن معاقبة هؤلاء ما أمكنَ الصبر ، فإذا لم أجد بدا عاقبتهم ،

.


1- .سورة البقرة 49 .

ص: 574

170 . من خطبة له عليه السلام عند مسير أصحاب الجمل إلى البصرة

ولكنه كلام قاله أوّل مسير طلحة والزبير إلى البَصْرة ، فإنه حينئذٍ أشارَ عليه قوم بمعاقبة المجلِبين ، فاعتذر بما قد ذكر ، ثم قال : « وسأمسك الأمر ما استمسك » ، أي أمسك نفسي عن محاربة هؤلاء الناكثين للبيعة ما أمكنني ، وأدفع الأيام بمراسلتهم وتخويفهم وإنذارهم ، وأجتهد في ردهم إلى الطاعة بالترغيب والترهيب ، فإذا لم أجد بُدّا من الحرب ، فآخر الدواء الكَيّ ، أي الحرب ؛ لأنها الغاية التي ينتهي أمر العصاة إليها .

170الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلام عند مسير أصحاب الجمل إلى البصرةإِنَّ اللّهَ بَعَثَ رَسُولاً هَادِياً بِكِتَابٍ نَاطِقٍ وَأَمْرٍ قَائمٍ ، لاَ يَهْلِكُ عَنْهُ إِلاَّ هَالِكٌ . وَإِنَّ الْمُبْتَدَعَاتِ الْمُشَبَّهَاتِ هُنَّ الْمُهْلِكَاتُ إِلاَّ مَا حِفِظَ اللّهُ مِنْهَا . وَإِنَّ فِي سُلْطَانِ اللّهِ عِصْمَةً لِأَمْرِكُمْ ، فَاعْطُوهُ طَاعَتَكُمْ غَيْرَ مُلَوَّمَةٍ وَلاَ مُسْتَكْرَهٍ بِهَا . وَاللّهِ لَتَفْعَلُنَّ أَوْ لَيَنْقُلَنَّ اللّهُ عَنْكُمْ سُلْطَانَ الاْءِسْلاَمِ ، ثُمَّ لاَ يَنْقُلُهُ إِلَيْكُمْ أَبَداً حَتَّى يَأْرِزَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِكُمْ . إِنَّ هؤلاَء قَدْ تَمَالَؤوا عَلَى سَخْطَةِ إِمَارَتي ، وَسَأَصْبِرُ مَا لَمْ أَخَفْ عَلَى جَمَاعَتِكُمْ؛ فَإِنَّهُمْ إِنْ تَمَّمُوا عَلَى فَيَالَةِ هذَا الرَّأْيِ انْقَطَعَ نِظَامُ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنَّمَا طَلَبُوا هذِهِ الدُّنْيَا حَسَداً لِمَنْ أَفَاءَهَا اللّهُ عَلَيْهِ ، فَأَرَادُوا رَدَّ الْأُمُورِ عَلَى أَدبارِهَا . وَلَكُمْ عَلَيْنَا الْعَمَلُ بِكِتَابِ اللّهِ تَعَالَى وَسنّةِ رَسُولِه صلى الله عليه و آله وسلم وَالْقِيَامُ بِحَقِّهِ ، وَالْنَّعْشُ لِسُنَّتِهِ .

الشّرْحُ :وأمر قائم ، أي مستقيم ليس بذي عَوَج . لا يهلك عنه إلاّ هالك ، تقديره : لا يهلك عادلاً عنه إلاّ هالك ؛ وهذا كما تقول : لا يعلم هذا الفنّ إلاّ عالم ، أي مَنْ قد بلغ الغاية في العلم واستحقّ

.

ص: 575

أن يوصف بذلك ويشار إليه فيه ، كذلك لا يهلك بعدوله عنه إلاّ من هو أعظم الهالكين ، ومن يشارُ إليه بالهلاك ، وقد بلغ الغاية في الهلاك . ثم قال : « إنّ المبتدعاتِ المشبّهاتِ هنّ المهلكات » ، المبتدَعات : ما أُحدِث ولم يكن على عهد الرسول . والمشبّهات : التي تشبِه السنن وليست منها ، أي المشبَّهات بالسنن . وروي : « المشبِّهات » بالكسر ، أي المشبّهات على الناس ، يقال : قد شبِّه عليه الأمر ، أي أُلبِس عليه ، ويروى : « المشتَبهات » أي الملتَبسات ، لا يُعرف حقُّها من باطلها . قال : « إلاّ مَنْ حفظ اللّه » ، أي مَنْ عصمه اللّه بألطاف يمتنع لأجلها عن الخطأ . ثم أمَرَهم بلزوم الطّاعة ، واتباع السلطان ، وقال : إنّ فيه عصمة لأمركم ؛ فأعطوه طاعَتكم غير مُلَوّمة ، أي مخلصين ذوي طاعة محضة لا يلامُ باذلها ، أي لا ينسَب إلى النفاق . ولا مستكره بها ، أي ليست عن استكراه ، بل يبذلونها اختيارا ومحبّة ، ويروى : « غير ملويّة » أي معوجة ، من لَوَيْتُ العود . ثم أقسم إنّهم إن لم يفعلوا وإلاّ نقل اللّه عنهم سلطان الإسلام _ يعني الخلافة _ ثم لا يعيده إليهم أبداً ، حتى يأرز الأمر إلى غيرهم ، أي حتى ينقبض وينضمّ ويجتمع . وقد تمالؤوا : قد اجتمعوا . وتساعدوا على سَخْطة إمارتي : على كراهيتها وبغضها . ثم وعد بالصبر عليهم ما لم يُخَفْ من فرقة الجماعة ، وانتشار حبل الإسلام . وفَيالة الرأي : ضعفه ، وكذلك فُيولته ؛ ورجل فِيلُ الرأي : أي ضعيفه . قال : إن تمّوا على هذا الرأي الضعيف قَطعوا نظام المسلمين وفَرّقوا جماعتهم . ثم ذكر أن الحسد دعاهم إلى ذلك . وأفاءها عليه : ردّها عليه ، فاء يفيء : رجع وفلان سريع الفيء من غَضَبه ، أي سريع الرجوع . وإن لحسن الفِيئَة بالكسر ؛ مثال « الفِيعة » أي حسن الرجوع ؛ وهذا الكلام لا يشعر بأنّه عليه السلام كان يعتقد أن الأمر الجزء من الكلّ ، وأنهما من جوهر واحد ، فلما كان الوالي قديماً وهو رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، ثم تخلّل بين ولايته صلى الله عليه و آله وسلموولاية أمير المؤمنين عليه السلام ولايات غريبة سمّى ولايته فيئا ورجوعا ؛ لأنها رجعت إلى الدَّوْحة الهاشميّة ؛ وبهذا يجب أن يتأوّل قوله : « فأرادوا ردّ الأُمور على أدبارها » أي أرادوا انتزاع الخلافة من بني هاشم ، كما انتزعت أولاً ، وإقرارها في بيوت بعيدة عن هذا البيت ، أُسوة بما وقع من قبل . والنَّعش : مصدر نعش ، أي رفع ، ولا يجوز : أنعش .

.

ص: 576

171 . من كلام له عليه السلام لرجل من أهل البصرة وقد أرسله قومه ليعلم حقيقة حاله مع أصحاب الجمل

171الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام كلّم به بعض العرب وقد أرسله قومٌ من أهل البصرة لما قرب عليه السلام منها ، ليعلَمَ لهم منه حقيقة حالِهِ مع أصحاب الجملِ لتزُولَ الشبهة من نفوسهم ؛ فبيّن له عليه السلام من أمره معهم ما علم به أنّه عَلَى الحقّ ، ثمّ قال له : بايع ، فقالَ : إني رسول قوم ، ولا أحدِث حدثاً حتى أرجع إليهم . فقال عليه السلام :أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ الَّذِينَ وَرَاءَكَ بَعَثُوكَ رَائِداً تَبْتَغِي لَهُمْ مَسَاقِطَ الْغَيْثِ ، فَرَجَعْتَ إِلَيْهِمْ وَأَخْبَرْتَهُمْ عَنِ الْكَ_لاَءِ وَالْمَاءِ ، فَخَالَفُوا إِلى الْمَعَاطِشِ وَالْمَجادِبِ ، مَا كُنْتَ صَانِعاً؟ قال : كُنْتُ تَارِكَهُمْ وَمُخَالِفَهُمْ إِلى الْكَ_لاَءِ وَالْمَاءِ . فَقَالَ عليه السلام : فَامْدُدْ إذاً يَدَكَ . فَقَالَ الرَّجُلُ : فَوَاللّهِ مَااسْتَطَعْتُ أَنْ أَمْتَنِعَ عِنْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيَّ ، فَبَايَعْتُهُ عليه السلام . وَالرّجلُ يُعْرَفُ بِكُلَيْبِ الجَرْمِيّ .

الشّرْحُ :الجرميّ : منسوب إلى بني جَرْم بن رَبّان ، من حِمْير . وكان هذا الرجل بعثه قومٌ من أهل البصرة إليه عليه السلام ، يستعلم حاله : أهو على حجّة أم على شبهة ؟ فلما رآه عليه السلام ، وسمع لفظه ، علم صدقه وبرهانه ؛ فكان بينهما ما قد شرحه عليه السلام . ولا شيء ألطفُ ولا أوقعُ ولا أوضحُ من المثال الذي ضربه عليه السلام ، وهو حجّة لازمة لا مدفع لها . قوله : « ولا أحدِث حدثاً » ، أي لا أفعل ما لم يأمروني به ، إنما أُمرت باستعلام حالك فقط ؛ فأمّا المبايعة لك فإن أحدثتها كنت فاعلاً ما لم أُندَب له . ومساقط الغيث : المواضع التي يسقط الغيث فيها . والكلأ : النبت إذا طال وأمكن أن يُرْعَى وأول ما يظهر يسمى الرُّطَب ، فإذا طال قليلاً فهو الخَلا ، فإذا طال شيئاً آخر فهو الكلأ ، فإذا يبس فهو الحشيش . والمعاطش والمجادب : مواضع العطش والجدْب ، وهو المحْل .

.

ص: 577

172 . من كلام له عليه السلام لما عزم على لقاء القوم بصفين

172الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام لمّا عزم على لقاء القوم بصفيناللَّهُمَّ رَبَّ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ، وَالْجَوِّ الْمَكْفُوفِ ، الَّذِي جَعَلْتَهُ مَغِيضاً لِلَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَمَجْرىً لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ، وَمُخْتَلَفاً لِلنُّجُومِ السَّيَّارَةِ ؛ وَجَعَلْتَ سُكَّانَهُ سِبْطاً مِنْ مَلاَئِكَتِكَ ، لاَ يَسْأَمُونَ مِنْ عِبَادَتِكَ . وَرَبَّ هذِهِ الْأَرْضِ الَّتي جَعَلْتَهَا قَرَاراً لِلأنامِ ، وَمَدْرَجاً لِلْهَوَامِّ وَالأنعَامِ ، وَمَا لاَ يُحْصَى مِمَّا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى . وَرَبَّ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي الَّتي جَعَلْتَهَا لِلْأَرْضِ أَوْتَاداً ، وَلِلْخَلْقِ اعْتِمَ_اداً ، إِنْ أَظْهَرْتَنَا عَلَى عَدُوِّنَا ، فَجَنِّبْنَا الْبَغْيَ وَسَدِّدْنَا لِلْحَقِّ ؛ وَإِنْ أَظْهَرْتَهُمْ عَلَيْنَا فَارْزُقْنَا الشهَادَةَ ، وَاعْصِمْنَا مِنَ الْفِتْنَةِ . أَيْنَ الْمَانِعُ لِلذِّمَارِ ، وَالْغَائِرُ عِنْدَ نُزُولِ الْحَقَائِقِ مِنْ أَهْلِ الحِفَاظِ ! العَارُ وَرَاءَكُمْ وَالْجَنَّةُ أَمَامَكُمْ!

الشّرْحُ :السقف المرفوع : السماء . والجوّ المكفوف : السماء أيضاً ؛ كَفّه ، أي جمعه وضمّ بعضه إلى بعض ، ويمرّ في كلامه نحو هذا ، وأنّ السماء هواء جامد أو ماء جامد . وجعلتَه مغيضا لليل والنهار ، أي غَيْضة لهمَا ؛ وهي في الأصل الأجَمة يجتمع إليها الماء ، فتسمّى غَيْضة ومغيضاً ؛ وينبت فيها الشجر ، كأنّه جعل الفلك كالغَيضة ، والليل والنهار كالشجر النابت فيها . ووجه المشاركة أنّ المغِيض أو الغيْضة يتولّد منهما الشجر ؛ وكذلك اللّيل والنهار يتولّدان من جَرَيان الفلك . ثم عاد فقال : « ومجرىً للشمس والقمر » ، أي موضعا لجريانهما . ومختَلفا للنجوم السيّارة ، أي موضعا لاختلافها ، واللام مفتوحة . ثم قال : « جعلت سكانه سِبْطاً من ملائتك » أي قبيلة . لا يسأمون : لا يملّون . وقراراً للأنام ، أي

.

ص: 578

173 . من خطبة له عليه السلام ، وفيها ذكر أصحاب الجمل

موضع استقرارهم وسكونهم . ومدَرجا للهوامّ ، أي موضع دُروجهم وسيرهم وحَركاتهم . والهوامّ : الحشرات والمخوف من الأحناش . وما لا يحصى ، أي لا يضبط بالإحصاء والعدّ ؛ مما نراه ونعرفه وما لا نراه ولا نعرفه . وقال بعض العلماء : إن أردت أن تعرف حقيقة قوله : « مما يُرى وما لا يُرى » فأوقد نارا صغيرة في فلاةٍ في ليلة صيفيّة ، وانظر ما يجتمع عليها من الأنواع الغريبة العجيبة الخلْق ؛ التي لم تشاهدها أنت ولا غيرك قطّ . قوله : « وللخلق اعتمادا » ؛ لأنهم يجعلونها كالمساكن لهم ، فينتفعون بها ويبنون منازل إلى جانبها ، فيقوم مقام جدار قد استغنوْا عن بنيانه ؛ ولأنها أُمّهات العيون ومنابع المياه باعتماد الخلْق على مرافقهم ومنافعهم ومصالحهم عليها . قوله : « وسدِّدنا للحق » ، أي صوبنا إليه ، من قولك : « سهم سديد » ، أي مصيب ، وسدد السنان إلى القَرْن ، أي صوّبه نحوه . والذّمار : ما يحامى عنه . والغائر : ذو الغَيْرة . ونزول الحقائق : نزول الأُمور الشديدة كالحرب ونحوها . ثم قال : « العار وراءكم » ، أي إن رجعتم القهقرى هاربين . والجنة أمامكم ، أي إن أقدمتم على العدو مجاهدين . وهذا الكلام شريف جدا .

173الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامالْحَمْدُ للّه الَّذِي لاَ تُوَارِي عَنْهُ سَمَاءٌ سَمَاءً ، وَلاَ أَرْضٌ أَرْضاً .

الشّرْحُ :قوله عليه السلام : « لا توارِي عنه سماءٌ سماءً » ، فلقائل أن يقول : ولا يتوارَى شيء من السماوات عن المدركين منا ؛ لأنها شفافة ، فأي خصيصة للباري تعالى في ذلك ؟ فينبغي أن يقال هذا الكلام على قاعدةٍ غير القاعدة الفلسفية ، بل هو على قاعدة الشريعة الإسلاميّة التي تقتضي أنّ السَّماوات تحجب ما وراءها عن المدرِكين بالحاسّة ؛ وأنها ليست طباقا متراصّة ، بل

.

ص: 579

بينها خلْق من خلق اللّه تعالى لا يعلمهم غيره . واتّباعُ هذا القول واعتقاده أولى .

الأصْلُ :منها :وَقَدْ قَالَ قَائِلٌ : إِنَّكَ عَلَى هذَا الْأَمْرِ يَابْنَ أَبي طَالِبٍ لَحَرِيصٌ ؛ فَقُلْتُ : بَلْ أَنْتُمْ وَاللّهِ لَأَحْرَصُ وَأَبْعَدُ ، وَأَنَا أَخَصُّ وَأَقْرَبُ ، وَإِنَّمَا طَلَبْتُ حَقّاً لِي وَأَنْتُمْ تَحُولُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ ، وَتَضْرِبُونَ وَجْهِي دُونَهُ . فَلَمَّا قَرَعْتُهُ بِالْحُجَّةِ فِي الْمَلاَءِ الْحَاضِرِينَ هَبَّ كَأَنَّهُ بُهِتَ لاَ يَدْرِي مَا يُجِيبُنِي بِهِ! اللَّهُمَّ إِنَّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ وَمَنْ أَعَانَهُمْ ! فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا رَحِمِي ، وَصَغَّرُوا عَظِيمَ مَنْزِلَتِي ، وَأَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي أَمْراً هُوَ لِي . ثُمَّ قَالُوا : أَلاَ إِنَّ فِي الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ ، وَفِي الْحَقِّ أَنْ تَتْرُكَهُ .

الشّرْحُ :هذا من خطبة يذكر فيها عليه السلام ما جَرى يوم الشورى بعد مقتَل عمر . والذي قال له : « إنك على هذا الأمر لحريص » سَعْد بن أبي وقاص ، مع روايته فيه : « أنت مِنِّي بمنزلة هارون من موسى » ، وهذا عجب ؛ فقال لهم : بل أنتم واللّه أحرصُ وأبعد ... الكلام المذكور . وقد رواه الناس كافة . وقالت الإماميّة : هذا الكلام يوم السقيفة ، والذي قال له : إنَّك على هذا الأمر لحريص ، أبو عبيدة بن الجراح ؛ والرواية الأُولى أظهر وأشهر (1) .

.


1- .نسب إلى الإمامية أن القائل هو أبو عبيدة وأنه يوم السقيفة ! وقد روى محمد بن يعقوب الكليني في رسائله ومحمد بن جرير الطبري في مسترشده وهما من قدماء الإمامية : أ نّه عليه السلام قاله يوم الشورى ، والقائل للإمام عليه السلام كان عبد الرحمن بن عوف لا أبو عبيدة . وأيّا كان القائل ، فكلامه عليه السلام يوم الشورى يتضمّن بطلان أمر السقيفة ، وأنها الأساس في دفعه عن حقّه ، والإمام عليه السلام قد أجاب هذا القائل بأنّ الخلافة حقّ لي ، ولا يعاب المرء بالحرص على حقّه ، وإنما يعاب إذا أخذ ما ليس له ، كما فعل أصحاب السقيفة . ثم أي فرق بين أصحاب الشورى وأصحاب السقيفة ، الجميع صحابة ، فلا وجه للتفريق بينهما .

ص: 580

وروي : « فلما قَرَعته » بالتخفيف ، أي صدمته بها . وروي : « هبّ لا يدري ما يجيبني » ، كما تقول : استيقظ وانتبه ، كأنّه كان غافلاً ذاهلاً عن الحجة فهبّ لمّا ذكرتُها . أستعديك : أطلب أن تُعْدِيَني عليهم وأنْ تنتصف لي منهم . قطعوا رحِمي : لم يرعَوْا قربه من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم . وصغّروا عظيم منزلتي : لم يقفوا مع النصوص الواردة فيه . وأجمعوا على منازعتي أمرا هو لي ، أي بالأفضلية أنا أحقّ به منهم ؛ هكذا ينبغي أن يُتأوّل كلامه (1) . وكذلك قوله : « إنما أطلب حقّا لي وأنتم تحولون بيني وبينه ، وتضربون وجهي دونه » . قال : « ثم قالوا : ألاَ إنّ في الحقّ أن تأخُذَه ، وفي الحقّ أن تتركه » ، قال : لم يقتصروا على أخذِ حَقّي ساكتين عن الدَّعْوى ؛ ولكنّهم أخذوه وادّعوْا أنّ الحقّ لهم . وأنه يجبُ عليّ أن أترك المنازعة فيه ؛ فليتهم أخذوه معترفين بأنه حقِّي ، فكانت المصيبة به أخفّ وأهون . واعلم أنه قد تواترت الأخبار عنه عليه السلام بنحوٍ من هذا القول ، نحو قوله : « ما زلتُ مظلوما منذ قبضَ اللّه رسولَه حتى يوم النّاس هذا » . وقوله : « اللهمّ أخزِ قريشا فإنها منعتْني حقّي وغصبتْني أمري » . وقوله : « فجزى قريشا عنّي الجوازِي ، فإنهم ظلموني حقّي ، واغتصبوني سلطان ابن أُمّي » . وقوله ، وقد سمع صارخا ينادي : أنا مظلوم ، فقال : «هلمّ فلنصرُخْ معاً ، فإني ما زلتُ مظلوما » . وقوله : « وإنه ليعلم أنّ محلِّي منها محلّ القطب من الرحى » . وقوله : « أرى تراثي نهباً » . وقوله : « أصغيا بإنائنا ، وحَملا الناس على رقابنا » . وقوله : « إنّ لنا حقاً إن نُعْطَة نأخذه ، وإن نمنَعه نركب أعجاز الإبل ؛ وإن طال السُّرَى » . وقوله : « ما زلت مستَأْثَرا عليّ ، مدفوعا عمّا أستحقه وأستوجبه » . وأصحابنا يحملون ذلك كلّه على ادّعائه الأمر بالأفضليَّة والأحقيَّة ؛ وهو الحقّ والصواب ؛ فإنَّ حمله على الاستحقاق بالنصّ تكفيرٌ أو تفسيق لوجوه المهاجرين والأنصار ؛ ولكنّ الإماميَّة والزيديّة حملوا هذه الأقوال على ظواهرها ، وارتكبوا بها مركباً صعباً . ولعمري إنّ هذه الألفاظ موهمة مغلّبة على الظنّ ما يقوله القوم ؛ ولكن تصفّح الأحوال يبطل ذلك الظنّ ، ويدرأ ذلك الوهم ، فوجب أن يجري مجرى الآيات المتشابهات

.


1- .إن كلام الإمام عليه السلام صريح في أنه يطلب حقاً له منصوصاً عليه ، وليس كما تأوّله الشارح أ نّه بالأفضلية مجاراة لمذهب أصحابه .

ص: 581

الموهمة (1) ... الخ .

الأصْلُ :منها في ذكر أصحاب الجمل :فَخَرَجُوا يَجُرُّونَ حُرْمَةَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّم كَمَا تُجَرُّ الْأَمَةُ عِنْدَ شِرَائِهَا ، مُتَوَجِّهِينَ بِهَا إِلَى الْبَصْرَةِ ، فَحَبَسَا نِسَاءَهُمَا فِي بُيُوتِهِمَا ، وَأَبْرَزَا حَبِيسَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّم لَهُمَا وَلِغَيْرِهِمَا ، فِي جَيْشٍ مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلاَّ وَقَدْ أَعْطَانِي الطَّاعَةَ ، وَسَمَحَ لِي بِالْبَيْعَةِ ، طَائِعاً غَيْرَ مُكْرَهٍ ، فَقَدِمُوا عَلَى عَامِلِي بِهَا وَخُزَّانِ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِهَا ، فَقَتَلُوا طَائِفَةً صَبْراً ، وَطَائِفَةً غَدْراً . فَوَاللّهِ لَوْ لَمْ يُصِيبُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ رَجُلاً وَاحِداً مُعْتَمِدِينَ لِقَتْلِهِ ، بِلاَ جُرْمٍ جَرَّهُ ، لَحَلَّ لِي قَتْلُ ذلِكَ الْجَيْشِ كُلِّهِ ، إِذْ حَضَرُوهُ فَلَمْ يُنْكِرُوا ، وَلَمْ يَدْفَعُوا عَنْهُ بِلِسَانٍ وَلاَ بِيَدٍ . دَعْ مَا أ نّهُمْ قَدْ قَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ الْعِدَّةِ الَّتِي دَخَلُوا بِهَا عَلَيْهِمْ!

الشّرْحُ :حُرْمة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم كناية عن الزَّوجة ، وأصله الأهل والحُرَم ؛ وكذلك حَبيس رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم كناية عنها . وقتلوهم صبراً ، أي بعد الأسر . وقوله : « فواللّه إنْ لو لم يصيبوا » إن هاهنا زائدة ، ويجوز أن تكون مخفّفة من الثقيلة . ويُسأل عن قوله عليه السلام : « لو لم يصيبوا إلاّ رجلاً واحداً لحلّ لي قتل ذلك الجيش بأسره ؛ لأنهم حضروه فلم ينكروا » ، فيقال : أيجوز قتلُ من لم ينكِر المنكر مع تمكّنه من إنكاره ؟ والجواب ، أ نّه يجوز قتلُهم ؛ لأنّهم اعتقدوا ذلك القتل مباحاً ، فإنهم إذا اعتقدوا إباحته ،

.


1- .الأمر الذي يريد أن يحيد عنه هو وأصحابه وهو النصّ على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام ، وعدم مخالفة بدعة عدالة الصحابة وولايتهم ؛ وإلاّ فإن النص قد أجمع عليه أهل البيت لا يختلفون فيه ، كما هو ثابت في كتب الفريقين . والتأويل إنّما يكون للظاهر لا للصريح الواضح .

ص: 582

174 . من خطبة له عليه السلام ، فيمن هو أحق بالخلافة ، وفيمن يجب قتاله ، وفيها ذم للدنيا وتزهيد منها

فقد اعتقدوا إباحة ما حرّم اللّه ، فيكون حالُهم حالَ من اعتقد أنّ الزنا مباح ، أو أنّ شربَ الخمر مباح . وقال القطب الراوندي : يريد أنهم داخلون في عموم قوله تعالى : « إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادا أنْ يُقَتَّلُوا أو يُصَلَّبُوا » (1) . ولقائل أن يقول : الإشكال إنما وقع في قوله : « لو لم يصيبوا من المسلمين إلاَّ رجلاً واحداً لحلّ لي قتل ذلك الجيش بأسره » ؛ لأنهم حضروا المنكر ولم يدفعوه بلسانٍ ولا يدٍ ، فهو علّل استحلاله قتلهم بأنهم لم ينكروا المنكر ، ولم يعلل ذلك بعموم الآية . وأما معنى قوله : « دع ما إنهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدّة التي دخلوا بها عليهم » ، فهو أنه لو كان المقتول واحداً لحلّ لي قتلهم كلهم ، فكيف وقد قتلوا من المسلمين عدّةً مثل عدّتهم التي دخلوا بها البصرة ! وما هاهنا زائدة . وصدق عليه السلام ، فإنهم قتلوا من أوليائه وخُزّان بيت المال بالبَصْرة خلْقا كثيرا ؛ بعضهم غدرا وبعضهم صبرا ، كما خطب به عليه السلام .

174الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامأَمِينُ وَحْيِهِ ، وَخَاتَمُ رُسُلِهِ ، وَبَشِيرُ رَحْمَتِهِ ، وَنَذِيرُ نِقْمَتِهِ . أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِهذَا الْأَمْرِ أَقْوَاهُمْ عَلَيْهِ ، وَأَعْلَمُهُمْ بِأَمْرِ اللّهِ (فِيهِ) . فَإِنْ شَغَبَ شَاغِبٌ اسْتُعْتِبَ ، فَإِنْ أَبَى قُوتِلَ . وَلَعَمْرِي ، لَئِنْ كَانَتِ الإمَامَةُ لاَ تَنْعَقِدُ حَتَّى يَحْضُرَهَا عَامَّةُ النَّاسِ ، فَمَا إِلَى ذلِكَ سَبِيلٌ ، وَلكِنْ أَهْلُهَا يَحْكُمُونَ عَلَى مَنْ غَابَ عَنْهَا ، ثُمَّ لَيْسَ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَرْجِعَ ، وَلاَ لِلغَائِبِ أَنْ يَخْتَارَ . أَلاَ وَإِنَّي أُقَاتِلُ رَجُلَيْنِ : رَجُلاً ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ ، وَآخَرَ مَنَعَ الَّذِي عَلَيْهِ .

.


1- .سوره المائدة 33 .

ص: 583

الشّرْحُ :صَدْر الكلام في ذكر رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، ويتلوه فُصول : أوّلها : ( أنّ أحقّ الناس بالإمامة أقواهم عليها ) ، وأعلمهم بحكم اللّه فيها ، وهذا لا ينافي مذهب أصحابنا البغداديين في صحة إمامة المفضول (1) . فإن قلت : أيّ فرقٍ بين أقواهم عليه وأعلمهم بأمر اللّه فيه؟ قلت : أقواهم أحسنُهم سياسة ، وأعلمهم بأمر اللّه أكثرُهم علماً وإجراءً للتدبير بمقتضى العلم ؛ وبين الأمريْن فرق واضح ، فقد يكون سائساً حاذقاً ، ولا يكون عالماً بالفقه ، وقد يكون سائساً فقيهاً ، ولا يجري التدبير على مقتضى علمه وفقهه . وثانيها : أنّ الإمامة لا يشترط في صحة انعقادها أن يحضُرها الناسُ كافّة ؛ لأ نّه لو كان ذلك مشتَرطاً لأدّى إلى ألاّ تنعقد إمامة أبدا ، لتعذّر اجتماع المسلمين من أطراف الأرض ، ولكنّها تنعقد بعقد العلماء وأهل الحلّ والعقد الحاضرين ، ثم لا يجوز بعد عقدها لحاضريها أن يرجعُوا من غير سبب يقتَضِي رجوعَهم ، ولا يجوز لمن غاب عنها أن يختار غير مَنْ عقد له ، بل يكون محجوجا بعقد الحاضرين ، مكلّفاً طاعة الإمامة المعقود له . وعلى هذا جرت الحال في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ، وانعقد إجماع المسلمين عليه ؛ وهذا الكلام تصريح بصحة مذهب أصحابنا في أن الاختيار طريق إلى الإمامة ، ومبطل لما تقوله الإماميّة من دعوى النصّ عليه ؛ ومن قولهم لا طريق إلى الإمامة سوى النصّ (2) .

.


1- .بل فيه دليل على اعتبار الأفضلية في الإمامة ، وعدم جواز إمامة المفضول ، لا سيّما مع قوله عليه السلام : « فإن شغب شاغب .. » . و « الشغْب » تهييج الشرّ ، فإذا تمت البيعة للإمام العالم والمدبّر العادل ، ثم خرج عليه شرّير فاسد يستعتب ، والمراد بالاستعتاب طلب الرجوع بالكلام أو بالمراسلة وإلاّ بالحرب أو غيرها .
2- .أقول : إنّما احتجّ الإمام عليه السلام بالإجماع إلزاما للخصم بما يلتزم به ، ولمجرد الاحتجاج على أمثال معاوية وعمرو بن العاص بغضّ النظر عن تحديد هوية الخلافة وطرق الاستدلال عليها ؛ لأنهم قد اتفقوا على العمل به في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان . وأمّا عدم تمسّكه بالنصّ مع ثبوته عنده وعند آله بما يلتزم به لعلمه بعدم التفاتهم إليه ، كيف وقد أعرضوا عنه في أول الأمر مع قرب العهد بالنبي صلى الله عليه و آله وسلم وسماعهم منه ، والأنصار قد سبقوا الجميع في الاستخفاف به ، والإمام عليه السلام كان يقدّر آنذاك أنّ الحزب الحاكم سوف يستبسل في إنكار النص إذا جاهر به ، ولا يقف إلى جانبه صف ينتصر له في دعواه ؛ لأنّ الناس بين من قادهم الهوى السياسي إلى إنكار عملي للنصّ يسدّ عليهم مجال التراجع ، وبين من يرى أنّ فكرة النصّ تجعل من الخلافة وقفا على بني هاشم بدون منازع . وإذا أصرت السلطة الحاكمة على إنكار النصّ وسكت الآخرون ، فمعنى هذا أنّ النص يفقد قيمته الواقعية ، ولهذا لم يكن للاحتجاج بالنصّ أثر واضح . بخاصة أنّ المقام مقام جدل يختار فيه إيراد ما يلتزم به الخصم ويقطع شغبه .

ص: 584

وثالثها : أنّ الخارج على الإمام يستعتَب أولاً بالكلام والمراسلة ، فإن أبى قُؤتل ؛ وهذا هو نصّ الكتاب العزيز : « وَإنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإنْ بَغَتْ إحْدَاهُماعَلَى الأُخرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ الَى أَمْرِ اللّهِ » (1) ورابعها : أنه يقاتِل أحدَ رجلين : إمّا رجلاً ادَّعى ما ليس له ، نحو أن يخرُج على الإمام مَن يدّعي الخلافة لنفسه ، وإمّا رجلاً منع ما عليه ، نحو أن يخرج على الإمام رجلٌ لا يدّعي الخلافة ، ولكنه يمتنع من الطاعة فقط .

الأصْلُ :أُوصِيكُمْ _ عِبَادَ اللّهِ _ بَتَقْوَى اللّهِ فَإِنَّهَا خَيْرُ مَا تَوَاصَى الْعِبَادُ بِهِ ، وَخَيْرُ عَوَاقِبِ الْأُمُورِ عِنْدَ اللّهِ . وَقَدْ فُتِحَ بَابُ الْحَرْبِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ ، وَلاَيَحْمِلُ هذَا الْعَلَمَ إِلاَّ أَهْلُ الْبَصَرِ والصَّبْرِ وَالْعِلْمِ بمَوَاقِعِ الْحَقِّ ، فَامْضُوا لِمَا تُؤمَرُونَ بِهِ ، وَقِفُوا عِنْدَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ ؛ وَلاَ تَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ حَتَّى تَتَبَيَّنُوا ، فَإِنَّ لَنَا مَعَ كُلِّ أَمْرٍ تُنْكِرُونَهُ غِيَراً . أَلاَ وَإِنَّ هذِهِ الدُّنْيَا الَّتِي أَصْبَحْتُمْ تَتَمَنَّوْنَهَا وَتَرْغَبُونَ فِيهَا ، وَأَصْبَحَتْ تُغْضِبُكُمْ وَتُرْضِيكُمْ ، لَيْسَتْ بِدَارِكُمْ ، وَلاَ مَنْزِلِكُمُ الَّذِي خُلِقْتُمْ لَهُ وَلاَ الَّذِي دُعِيتُمْ إِلَيْهِ . أَلاَ وَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِبَاقِيَةٍ لَكُمْ وَلاَ تَبْقَوْنَ عَلَيْهَا؛ وَهِيَ وَإِنْ غَرَّتْكُمْ مِنْهَا فَقَدْ حَذَّرَتْكُمْ شَرَّهَا . فَدَعُوا غُرُورَهَا لِتَحْذِيرِهَا ، وَأَطْمَاعَهَا لِتَخْوِيفِهَا؛ وَسَابِقُوا فِيهَا إِلَى الدَّارِ الَّتي دُعِيتُمْ إِلَيْهَا ، وَانْصَرِفُوا بِقُلُوبِكُمْ عَنْهَا؛ وَلاَ يَخِنَّنَّ أَحَدُكُمْ خَنِينَ الْأَمَةِ عَلَى مَا زُوِيَ عَنْهُ مِنْهَا ، وَاسْتَتِمُّوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللّهِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى مَا

.


1- .سورة الحجرات 9 .

ص: 585

اسْتَحْفَظَكُمْ مِنْ كِتَابِهِ . أَلاَ وَإِنَّهُ لاَ يَضُرُّكُمْ تَضْيِيعُ شَيْءٍ مِنْ دُنْيَاكُمْ بَعْدَ حِفْظِكُمْ قَائِمَةَ دِينِكُمْ . أَلاَ وَإِنَّهُ لاَ يَنْفَعُكُمْ بَعْدَ تَضْيِيعِ دِينِكُمْ شَيْءٌ حَافَظْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ . أَخَذَ اللّهُ بِقُلُوبِنَا وَقُلُوبِكُمْ إِلَى الْحَقِّ ، وَألهَمَنَا وَإِيَّاكُمُ الصَّبْرَ!

الشّرْحُ :لم يكن المسلمون قَبْلَ حربِ الجمل يعرفون كيفيَّة قتالِ أهل القبلة ؛ وإنما تعلّموا فقه ذلك من أمير المؤمنين عليه السلام . وقال الشافعيّ : لولا عليّ لما عرِف شيء من أحكام أهل البغي . قوله عليه السلام : « ولا يحمل هذا العلمَ إلاّ أهلُ البصر والصبر » ، وذلك لأنّ المسلمين عَظُم عندهم حربُ أهل القبلة ، وأكبروه ؛ ومَنْ أقدَم عندهم عليه أقدَم على خوف وحذر ، فقال عليه السلام : إن هذا العلم ليس يدركه كلّ أحدٍ ، وإنّما له قوم مخصوصون . ثم أمرهم بالمضيّ عندما يأمرهم به ، وبالانتهاء عمّا ينهاهم عنه ، ونهاهم عن أن يعجَلوا بالحكْم على أمر ملتبس حتى يتبيّن ويتّضح . ثم قال : إنّ عندنا تغييرا لكلّ ما تنكرونه من الأُمور حتى يثبت أنه يجب إنكارها وتغييرها ، أي لستُ كعثمان أُصرّ على ارتكاب ما أُنهى عنه ، بل أغيّر كلّ ما ينكره المسلمون ، ويقتضي الحال والشرع تغييرَه . ثم ذكر أنّ الدنيا التي تغضب الناس وترضيهم ؛ وهي منتهى أمانيهم ورغبتهم ، ليست دراهم ، وإنما هي طريقٌ إلى الدار الآخرة ، ومدّة اللبْث في ذلك الطريق يسيرة جداً . وقال : إنها وإنْ كانت غرّارة فإنها منذرة ومحذّرة لأبنائها بما رأوْه من آثارها في سلَفهم وإخوتهم وأحبائهم ، ومناداتها على نفسها بأنها فاعلة بهم ما فعلت بأولئك من الفناء ، وفراق المألوف . قال : فدعوا غرورَها لتحذيرها ؛ وذلك لأنّ جانب تحذيرها أوْلى بأن يعمل عليه من جانب غرورها ؛ لأنّ غرورها إنما هو بأمرٍ سريع مع التصرّم والانقضاء ، وتحذيرها إنما هو لأمرٍ جليل عظيم ؛ فإن الفناء المعجّل محسوس ؛ وقد دلّ العقل والشرائع كافّة على أنّ بعد ذلك الفناء سعادة وشقاوة ، فينبغي للعاقل أن يحذَر من تلك الشقاوة ، ويرغب في تلك السعادة ، ولا سبيلَ إلى ذلك إلاّ برفض غُرور الدنيا . والخنين : صوت يخرجُ من الأنف عند البكاء ، وأضافه إلى الأمَة ؛ لأنّ الإماء كثيراً ما

.

ص: 586

175 . من كلام له عليه السلام في معنى طلحة بن عبيد اللّه

يُضرَبْن فيبكين ، ويُسمَع الخنين منهنّ ؛ ولأنّ الحرّة تأنف من البكاء والخنين . وزوى : قبض . ثم ذكر أ نّه لا يضرّ المكلّف فوات قسط من الدنيا إذا حفظ قائمة دينه ، يعني القيام بالواجبات والانتهاء عن المحظورات ، ولا ينفعه حصولُ الدنيا كلّها بعد تضييعه دينه ؛ لأنّ ابتياع لذّة متناهية بلذة غيره متناهية يُخرج اللذة المتناهية من باب كونها نفعا ، ويدخلها في باب المضارّ ؛ فكيف إذا انضاف إلى عدم اللذة غير المتناهية حصول مضارّ وعقوبات غير متناهية ، أعاذنا اللّه منها!

175الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام في معنى طلحة بن عبيد اللّهقَدْ كُنْتُ وَمَا أُهَدَّدُ بالْحَرْبِ ، وَلاَ أُرْهَبُ بِالضَّرْبِ ؛ وَأنَا عَلَى مَا قَدْ وَعَدَنِي رَبِّي مِنَ النَّصْرِ . وَاللّهِ مَا اسْتَعْجَلَ مُتَجَرِّداً لِلطَّلَبِ بِدَمِ عُثمانَ إِلاَّ خَوْفاً مِنْ أَنْ يُطَالَبَ بِدَمِهِ ؛ لأنَّهُ مَظِنَّتُهُ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْقَوْمِ أَحْرَصُ عَلَيْهِ مِنْهُ ، فَأَرَادَ أَنْ يُغَالِطَ بِمَا أَجْلَبَ فِيهِ لِيَلْتَبِسَ الْأَمْرُ ، وَيَقَعَ الشَّكُّ . وَوَاللّهِ مَا صَنَعَ فِي أَمْرِ عُثَْمانَ وَاحِدَةً مِنْ ثَ_لاَثٍ : لَئِنْ كَانَ ابْنُ عَفَّانَ ظَالِماً _ كَمَا كَانَ يَزْعُمُ _ لَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُوَازِرَ قَاتِلِيهِ ، وَأَنْ يُنَابِذَ نَاصِرِيهِ . وَلَئِنْ كَانَ مَظلوماً لَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُنَهْنِهِينَ عَنْهُ ، وَالْمُعْذِرِينَ فِيهِ . وَلَئِنْ كَانَ فِي شَكٍّ مِنَ الْخَصْلَتَيْنِ ، لَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْتَزِلَهُ وَيَرْكُدَ جَانِباً ، وَيَدَعَ النَّاسَ مَعَهُ . فَمَا فَعَلَ وَاحِدَةً مِنَ الثَّ_لاَثِ ، وَجَاءَ بِأَمْرٍ لَمْ يُعْرَفْ بَابُهُ ، وَلَمْ تَسْلَمْ مَعَاذِيرُهُ .

.

ص: 587

الشّرْحُ :كان هاهنا تامّة ، والواو واو الحال ، أي خُلِقْت ووجدتُ وأنا بهذه الصفة ، كما تقول : خلقني اللّه وأنا شجاع . ويجوز أن تكون الواو زائدة ، وتكون « كان » ناقصة ، وخبرها « ما أهدّد » ، كما في المثل : « لقد كنت وما أُخَشَّى بالذئب » . ثم ذكَر عليه السلام أنه على ما وعده ربُّه من النصر ، وأ نّه واثق بالظَّفَر والغَلبة الآن ، كما كانت عادتُه فيما سبق . ثم شرح حال طلحة ، وقال : إنّه تجرّد للطّلب بدم عثمان ، مغالطةً للنّاس ، وإيهاما لهم أ نّه بريء من دمه ، فيلتبِسُ الأمرُ ، ويقع الشكّ . وقد كان طلحةُ أجهَد نفسَه في أمرِ عثمان والإجلاب عليه ، والحصْرِ له ، والإغراء به ، ومنَّتْهُ نفسه الخلافة ؛ بل تلبّس بها ، وتسلّم بيوت الأموال وأخذ مفاتيحها ، وقاتل النّاس ، وأحدقوا به ، ولم يبقَ إلاّ أن يَصْفِق بالخلافة على يده . ثم قسم عليه السلام ما لطلحة ، فقال : لا يخلو إمّا أن يكون معتقِدا حلّ دم عثمان ، أو حرمته ؛ أو يكون شاكا في الأمرين ؛ فإن كان يعتقد حلّه لم يجُزْ له أن ينقُضَ البَيْعة لنصرة إنسان حلال الدم ، وإن كان يعتقد حرمته ، فقد كان يجب عليه أن ينهنِهَ عنه الناس ، أيْ يكفّهم . وأن يعذّر فيه ؛ بالتشديد أي يقصّر ولم يفعل ذلك ؛ وإنْ كان شاكّا ، فقد كان يجب عليه أن يعتزِل الأمر ، ويركد جانباً ؛ ولم يعتزل وإنما صَلِيَ بنار الفتنة ، وأصلاها غيرَه . فإن قلت : كيف قالَ أمير المؤمنين عليه السلام : « فما فعل واحدة من الثلاث » ؛ وقد فعل واحدة منها ؛ لأ نّه وازر قاتليه حيث كان محصوراً! قلت : مراده عليه السلام أ نّه إن كان عثمان ظالماً ، وجب أن يوازر قاتليه بعد قتله ؛ يحامي عنهم ، ويمنعهم ممّن يروم دماءهم ؛ ومعلوم أ نّه لم يفعل ذلك ، وإنما وازرهم وعثمان حيّ ؛ وذلك غير داخل في التقسيم . ذكر أبو جعفر محمّد بن جرير الطبريّ في كتاب « التاريخ » قال : حدّثني عمر بن شبّة ، عن عليّ بن محمد ، عن عبد ربّه، عن نافع ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن حَكِيم بن جابر ، قال : قال عليّ عليه السلام لطلحة وعثمان محصور : أنشُدك اللّه إلاّ رددتَ الناس عن عثمان! قال : لا واللّه حتى تُعطِيَ بنو أميّة الحقَّ من أنفسها . وروى الطّبريّ أنّ عثمان كان له عَلَى طلحة خمسون ألفا ، فخرج عثمان يوما إلى المسجد ، فقال له طلحة : قد تهيّأ مالك فاقبِضْه ، فقال : هو لك يا أبا محمد معونة لك على مروءتك . قال : فكان عثمان يقولُ وهو محصور : جزاء سِنمّار!

.

ص: 588

176 . من خطبة له عليه السلام في خطاب الغافلين

176الأصْلُ :من خطبة له عليه السلامأَيُّهَا النَّاسُ غَيْرُ الْمَغْفُولِ عَنْهُمْ ، وَالتَّارِكُونَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ . مَا لِي أَرَاكُمْ عَنِ اللّهِ ذَاهِبِينَ ، وَإِلَى غَيْرِهِ رَاغِبِينَ ؟! كَأَنَّكُمْ نَعَمٌ أَرَاحَ بِهَا سَائِمٌ إِلَى مَرْعىً وَبِيٍّ ، وَمَشْرَبٍ دَوِيٍّ ، وَإِنَّمَا هِيَ كَالْمَعْلُوفَةِ لِلْمُدَى لاَ تَعْرِفُ مَاذَا يُرَادُ بِهَا ! إِذَا أُحْسِنَ إِلَيْهَا تَحْسَبُ يَوْمَهَا دَهْرَهَا ، وَشِبَعَهَا أَمْرَهَا . وَاللّهِ لَوْ شِئْتُ أَنْ أُخْبِرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَخْرَجِهِ وَمَوْلِجِهِ وَجَمِيعِ شَأنِهِ لَفَعَلْتُ ، وَلكِنْ أَخَافُ أَنْ تَكْفُرُوا فيَّ بِرَسُولِ اللّهِصَلّى اللّه عَلَيهِ وَسَلّم . أَلاَ وَإِنِّي مُفْضِيهِ إلى الْخَاصَّةِ مِمَّنْ يُؤمَنُ ذلِكَ مِنْهُ . وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ ، وَاصْطَفَاهُ عَلَى الْخَلْقِ ، مَا أَنْطِقُ إِلاَّ صَادِقاً ، وَقَدْ عَهِدَ إِلَيَّ بِذلِكَ كُلِّهِ ، وَبِمَهْلَكِ مَنْ يَهْلِكُ ، وَمَنْجَى مَنْ يَنْجُو ، وَمَآلِ هذَا الْأَمْرِ . وَمَا أَبْقَى شَيْئاً يَمُرُّ عَلَى رَأْسِي إِلاَّ أَفْرَغَهُ فِي أُذُنَيَّ وَأَفْضَى بِهِ إِلَيَّ . أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي وَاللّهِ ، مَا أَحُثُّكُمْ عَلَى طَاعَةٍ إِلاَّ وَأَسْبِقُكُمْ إِلَيْهَا ، وَلاَ أنهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَةٍ إِلاَّ وَأَتَنَاهَى قَبْلَكُمْ عَنْهَا .

الشّرْحُ :خاطب المكلّفين كافّة ؛ وقال : إنّهم غافلون عَمّا يُراد بهم ومنهم ؛ وليسوا بمغفول عنهم ، بل أعمالهم محفوظة مكتوبة . ثم قال : والتاركون : أي يتركون الواجبات . ثم قابل ذلك بقوله : « والمأخوذ منهم » ، لأنّ الأخذ في مقابلة التّرْك ؛ ومعنى الأخذ منهم انتقاصُ أعمارهم ؛ وانتقاض قواهم ، واستلاب أحبابهم وأموالهم . ثم شبههم بالنّعم التي تتبع نعما أُخرى . سائمة ، أي راعية ؛ وإنّما قال ذلك ؛ لأنّها إذا اتّبعت أمثالها كان أبلغَ في ضرب المثل بجهلها

.

ص: 589

من الإبل التي يُسِيمُها راعيها . والمرعى الوبيّ : ذو الوَباء والمرض . والمشرب الدّويّ ذو الداء ، وأصل « الوبي » الليّن الوبيء المهموز ؛ ولكنه ليّنه ؛ يقال : أرض وبيئة على « فعيلة » ، ووبئة على « فَعِلة » ؛ ويجوز أو بأتْ فهي موبئة . والأصل في الدويّ « دَوِ » بالتخفيف ؛ ولكنه شدّده للازدواج . ثم ذكر أن هذه النَّعم الجاهلة التي أوقعت أنفسها في هذا المرتع والمشرب المذمومين كالغنم وغيرها من النّعم المعلوفة . للمُدَى : جمع مُدْية ؛ وهي السِّكين ، لا تعرف ماذا يراد بها ، وتظنّ أن ذلك العلف إحسان إليها على الحقيقة . ومعنى قوله : « تحسب يومها دهرها » ، أيْ تظنّ أنّ ذلك العلف والإطعام كما هو حاصلٌ لها ذلك اليوم ، يكون حاصلاً لها أبدا . و « شبعها أمرَها » ، مثل ذلك ، أي تظن أنه ليس أمرُها وشأنُها إلاّ أن يطْعِمها أربابُها لتشبع وتحسُن وتسمن ؛ ليس يريدون بها غير ذلك . ثم خرج عليه السلام من هذا الفنّ إلى فنّ آخر ، فأقسم أ نّه لو شاء أن يخبر كلّ واحد منهم من أين خرج ، وكيفية خروجه من منزله ، وأين يلج ، وكيفيّة ولوجه ؛ وجميع شأنه من مطعمه ومشربه ، وما عزم عليه من أفعاله ، وما أكله ، وما ادّخره في بيته ، وغير ذلك من شئونه وأحواله ، لفعل . وهذا كقولِ المسيح عليه السلام : « وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ » (1) . قال : إلاّ أني أخاف أن تكفروا فيّ برسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ؛ أيْ أخاف عليكم الغلوَّ في أمري ، وأن تُفَضِّلُوني على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ؛ بل أخاف عليكم أن تدّعوا فيَّ الإلهية ، كما ادّعت النصارى ذلك في المسيح لمّا أخبرهم بالأمور الغائبة . ثم قال : « ألاّ وإنِّي مُفْضِيه إلى الخاصّة » أي مفضٍ به ومودعٌ إياه خواصَّ أصحابي وثقاتي الذين آمنُ منهم الغلوّ ، وأعلم أنّهم لا يكفرون فيّ بالرسول صلى الله عليه و آله وسلم لعلمهم أنّ ذلك من إعلام نبوّته ، إذ يكون تابع من أتباعه ، وصاحب من أصحابه بلغ إلى هذه المنزلة الجليلة . ثم أقسم قَسما ثانيا أ نّه ما ينطق إلاّ صادقاً ، وأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عهِد بذلك كلِّه إليه ، وأخبره بمهلِكَ مَنْ يهلِك من الصحابة وغيرهم من الناس ؛ وبنجاةِ مَنْ ينجو ، وبمآلِ هذا الأمر _ يعني ما يفضي إليه أمر الإسلام وأمر الدولة والخلافة _ وأ نّه ما ترك شيئا يمرّ على رأسه عليه السلام إلاّ وأخبره به وأسرّه إليه .

.


1- .سورة آل عمران : 49 .

ص: 590

177 . من خطبة له عليه السلام يحذّر فيها من متابعة الهوى ، ثم يبين منزلة القرآن ويطلب متابعته ، ثم يحث على الطاعة وحفظ اللسان

177الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامانْتَفِعُوا بِبَيَانِ اللّهِ ، وَاتَّعِظُوا بِمَوَاعِظِ اللّهِ ، وَاقْبَلُوا نَصِيحَةَ اللّهِ ، فَإِنَّ اللّهَ قَدْ أَعْذَرَ إِلَيْكُمْ بِالْجَلِيَّةِ ، وَأخَذَ عَلَيْكُمْ الْحُجَّةَ ، وَبَيَّنَ لَكُمْ مَحَابَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ ، وَمَكَارِهَهُ مِنْهَا ، لِتَتَّبِعُوا هذِهِ ، وَتَجْتَنِبُوا هذِهِ ، فَإِنَّ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وسلّم كَانَ يَقُولُ : «إِنَّ الْجَنَّةَ حُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ ، وَإِنَّ النَّارَ حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ» . وَاعْلَمُوا أن_ّهُ مَا مِنْ طَاعَةِ اللّهِ شَيْءٌ إِلاَّ يَأتِي فِي كُرْهٍ ، وَمَا مِنْ مَعْصِيَةِ اللّهِ شَيْءٌ إِلاَّ يَأتِي فِي شَهْوَةٍ . فَرَحِمَ اللّهُ امْرَأً نَزَعَ عَنْ شَهْوَتِهِ ، وَقَمَعَ هَوَى نَفْسِهِ ، فَإِنَّ هذِهِ النَّفْسَ أَبْعَدُ شَيْءٍ مَنْزِعاً ، وَإِنَّهَا لاَ تَزَالُ تَنْزِعُ إِلَى مَعْصِيَةٍ فِي هَوىً . وَاعْلَمُوا _ عِبَادَ اللّهِ _ أَنَّ الْمُؤمِنَ لاَ يُمْسِي ولاَ يُصْبِحُ إِلاَّ وَنَفْسُهُ ظَنُونٌ عِنْدَهُ ، فَ_لاَ يَزَالُ زَارِياً عَلَيْهَا وَمُسْتَزِيْداً لَهَا . فَكُونُوا كَالسَّابِقِينَ قَبْلَكُمْ ، وَالْمَاضِينَ أَمَامَكُمْ . قَوَّضُوا مِنَ الدُّنْيَا تَقْوِيضَ الرَّاحِل ، وَطَوَوْهَا طَيَّ الْمَنَازل .

الشّرْحُ :أعذر إليكم : أوضَح عذره في عقابكم إذا خالفتم أوامره . والجليّة : اليقين ؛ وإنّما أعذر إليهم بذلك ؛ لأ نّه مكّنهم من العلم اليقينِيّ بتوحيده وعدله ، وأوجب عليهم ذلك في عقولهم ؛ فإذا تركوه ساغ في الحِكْمة تعذيبُهم وعقوبتهم ؛ فكأنَّهُ قد أبان لهم عذره أنْ لو قالوا : لِمَ تعاقبنا ؟ « ومحابّه من الأعمال » ، هي الطاعات التي يحبّها . وحبّها لها إرادة وقوعها من المكلّفين . ومكارهه من الأعمال : القبائح التي يكرهها منهم ؛ وهذا الكلام حجّة لأصحابنا على المجبِّرة . والخبر الذي رواه عليه السلام مرويّ في كتب المحدّثين ؛ وهو قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : « حُجبت الجنّة بالمكاره ، وحفّت النار بالشهوات » ، ومن المحدّثين من يرويه : « حفّت »

.

ص: 591

فيهما ، وليس منهم من يرويه : « حُجِبت » في النار . ثم ذكر عليه السلام أ نّه لا طاعة إلاّ في أمرِ تكرهه النفس ، ولا معصيةَ إلاّ بمواقعة أمرٍ تحبّه النفس ، وهذا حقّ ؛ لأنّ الإنسانَ ما لم يكن متردّد الدواعي لا يصحّ التكليف ؛ وإنما تتردّد الدواعي إذا أمر بِما فيه مشقّة ، أو نُهِيَ عمّا فيه لذّة ومنفعة . فإن قلت : أليس قد أُمِر الإنسان بالنّكاح وهو لذة؟ قلت : ما فيه من ضرر الإنفاق ومعالجة أخلاق النساء يُرْبى على اللّذة الحاصلة فيه مراراً . ثمّ قال عليه السلام : « رحم اللّه امرأ نزع عن شهوته » ، أي أقلع . « وقمع هَوَى نفسِه » ، أي قهره . ثم قال : فإنّ هذه النفس أبعدُ شيء منزَعا ، أي مذهباً ، قال أبو ذؤيب : والنَّفْسُ رَاغِبَةٌ إذا رغَّبْتَهاوإذا تُرَدُّ إلى قليلٍ تَقْنَعُ ثم قال عليه السلام : « نَفْس المؤمن ظَنُون عنده » ، الظَّنُون : البئر التي لا يدرَى أفيها ماء أم لا ، فالمؤمن لا يصبِح ولا يمسِي إلاّ وهو على حَذَرٍ من نفسه ، معتقدا فيها التقصير والتضجيع (1) في الطاعة ، غير قاطع على صلاحها وسلامة عاقبتها . وزاريا عليها : عائباً ؛ زريْتُ عليه : عبت . ثم أمرهم بالتأسّي بمن كان قبلهم ، وهم الذين قَوّضُوا من الدّنيا خيامَهم ، أي نقضوها ، وطوَوْا أيّام العمر كما يطوِي المسافر منازلَ طريقه .

الأصْلُ :وَاعْلَمُوا أَنَّ هذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لاَ يَغُشُّ ، وَالْهَادِي الَّذِي لاَ يُضِلُّ ، وَالْمُحَدِّثُ الَّذِي لاَ يَكْذِبُ. وَمَا جَالَسَ هذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلاَّ قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ : زِيَادَةٍ فِي هُدىً ، أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمىً . وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَةٍ ، وَلاَ لِأَحَدٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنىً ؛ فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ ، وَاسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لَأوَائِكُمْ ، فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ ، وَهُوَ الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ ، وَالْغَيُّ وَالضَّلاَلُ ، فَاسْأَلُوا اللّهَ بِهِ ، وَتَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِحُبِّهِ ، وَلاَ

.


1- .التضجيع في الأمر : التقصير فيه .

ص: 592

تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ ، إِنَّهُ مَا تَوَجَّهَ الْعِبَادُ إِلَى اللّهِ تَعَالَى بِمِثْلِهِ . وَاعْلَمُوا أَنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ ، وَقَائِلٌ مُصَدَّقٌ ، وَأَنَّهُ مَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُفِّعَ فِيهِ ، وَمَنْ مَحَلَ بِهِ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صُدِّقَ عَلَيْه ، فَإِنَّهُ يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : أَلاَ إِنَّ كُلَّ حَارِثٍ مُبْتَلىً فِي حَرْثِهِ وَعَاقِبَةِ عَمَلِهِ ، غَيْرَ حَرَثَةِ الْقُرْآنِ . فَكُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ وَأَتْبَاعِهِ ، وَاسْتَدلُّوهُ عَلَى رَبِّكُمْ ، وَاسْتَنْصِحُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ، وَاتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ ، وَاسْتَغشُّوا فِيهِ أَهْوَاءَكُمْ .

الشّرْحُ :غشَّه يغُشّه ، بالضم ، غِشّا ، خلاف نصحَه . واللأْواء : الشِّدّة . وشَفَع له القرآن شَفاعة ، بالفتح . ومَحلَ به إلى السّلطان ، قال عنه ما يضرّه ؛ كأنّه جعلَ القرآن يَمْحُلُ يوم القيامة عند اللّه بقوم ، أيْ يقول عنهم شرّا ، ويشفع عند اللّه لقوم ، أي يُثْنِي عليهم خيراً . والحارث : المكتسب ، والحرْث : الكسب . وحَرَثَة القرآن : المتاجرون به اللّه . واستنصحوه على أنفسكم ، أي إذا أشار عليكم بأمر وأشارتْ عليكم أنفسكم بأمر يخالفه . فاقبلُوا مشورة القرآن دون مشورة أنفسكم ؛ وكذلك معنى قوله : « واتّهموا عليه آراءكم ، واستغشّوا فيه أهواءكم » .

الأصْلُ :الْعَمَلَ الْعَمَلَ ، ثُمَّ النِّهَايَةَ النِّهَايَةَ ، وَالاسْتَقَامَةَ الاسْتِقَامَةَ ، ثُمَّ الصَّبْرَ الصَّبْرَ ، وَالْوَرَعَ الْوَرَعَ ! إِنَّ لَكُمْ نِهَايَةً فَانْتَهُوا إِلى نِهَايَتِكُمْ ، وَإِنَّ لَكُمْ عَلَماً فَاهْتَدُوا بِعَلَمِكُمْ ، وَإِنَّ لِلاْسْلاَمِ غَايَةً فانْتَهُوا إِلى غَايَتِهِ . وَاخْرُجُوا إِلَى اللّهِ مِمّا افْتَرَضَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَقِّهِ ، وَبَيَّنَ لكُمْ مِنْ وَظَائِفِهِ . أنا شَاهِدٌ لَكُمْ ، وَحَجِيجٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْكُمْ . أَلاَ وَإِنَّ الْقَدَرَ السَّابِقَ قَدْ وَقَعَ ، وَالْقَضَاءَ الْمَاضِيَ قَدْ تَوَرَّدَ ، وَإِنِّي مُتَكَلِّمٌ بِعِدَةِ اللّهِ وَحُجَّتِهِ ، قَالَ اللّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ : « إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَنْ لاَ تَخَافُوا ، وَلاَ تَحْزَنُوا ، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ » ؛ وَقَدْ

.

ص: 593

قُلْتُمْ : « رَبُّنَا اللّهُ » ، فَاسْتَقِيمُوا عَلَى كِتَابِهِ ، وَعَلَى مِنْهَاجِ أَمْرِهِ ، وَعَلَى الطَّرِيقَةِ الصَّالِحَةِ مِنْ عِبَادتِهِ ثُمَّ لاَ تَمْرُقُوا مِنْهَا ، وَلاَ تَبْتَدِعُوا فِيهَا ، وَلاَ تُخَالِفُوا عَنْهَا .فَإِنَّ أَهْلَ الْمُرُوقِ مُنْقَطَعٌ بِهمْ عِنْدَ اللّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .

الشّرْحُ :النّصب على الإغراء ؛ وحقيقته فعل مقدّر ، أي الزموا العمل ، وكرّر الاسم لينوب أحدُ اللفظين عن الفعل المقدّر ؛ والأشبه أن يكون اللّفظ الأوّل هو القائم مقام الفعل ؛ لأ نّه في رتبته . أمرهم بلزوم العمل ثم أمرهم بمراعاة العاقبة والخاتمة ، وعبّر عنها بالنهاية ؛ وهي آخر أحوالِ المكلّف التي يفارق الدنيا عليها ؛ إمّا مؤمناً أو كافراً ، أو فاسقا ، والفعل المقدّر هاهنا : راعوا وأحسنوا وأصلحوا ، ونحو ذلك . ثم أمرهم بالاستقامة وأنْ يلزموها ؛ وهي أداء الفرَائض . ثم أمرهم بالصبر عليها وملازمته ، وبملازمة الوَرع . ثم شرع بعد هذا الكلام المجمَل في تفصيله فقال : « إنّ لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم » ، وهذا لفظ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : « أيّها الناس ، إنّ لكم معالمَ فانتهوا إلى معالمكم ، وإنّ لكم غايةً فانتهُوا إلى غايتكم » ، والمراد بالنهاية والغاية أن يموتَ الإنسان على توبةٍ من فعل القبيح والإخلال بالواجب . ثم أمرهم بالاهتداء بالعلمَ المنصوب لهم ؛ وإنما يعني نفسَ عليه السلام . ثم ذكر أنّ للإسلام غاية ، وأمرَهم بالانتهاء إليها ؛ وهي أداء الواجبات ، واجتناب المقبّحات . ثم أوضح ذلك بقوله : « واخرجوا إلى اللّه ممّا افترَض عليكم من حقِّه ، وبيّن لكم من وظائفه » ؛ فكشف بهذا الكلام معنى الغاية التي أجملها أولاً . ثم ذكر أ نّه شاهد لهم ، ومحاجّ يوم القيامة عنهم ؛ وهذا إشارة إلى قوله تعالى : « يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاس بإمَامِهِمْ » (1) . وحجيج : فعيل بمعنى « فاعل » ، وإنّما سمَّى نفسه حجيجا عنهم ؛ وإن لم يكن ذلك الموقف موقف مخاصمة ؛ لأ نّه إذا شهد لهم ، فكأنّه أثبت لهم الحجّة ، فصار محاجّا عنهم . قوله عليه السلام : « ألاَ وإنّ القَدَر السابق قد وقع » ، يشير به إلى خلافته . وهذه الخطبة من أوائل الخطب التي خطب بها أيام بويع بعد قتل عثمان ؛ وفي هذا إشارة إلى أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قد أخبره أنّ الأمر سيُفضي إليه منتهى عمره ، وعند انقضاء أجله .

.


1- .سورة الإسراء 71 .

ص: 594

ثم أخبرهم أنه سيتكلّم بوعد اللّه تعالى ومحجّته على عباده في قوله : « إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللّهُ ثُمَّ استَقَامُوا ... » (1) الآية ، ومعنى الآية أنّ اللّه تعالى وعد الذين أقرُّوا بالربوبية ولم يقتصروا على الإقرار ، بل عقّبوا ذلك بالاستقامة أن ينزّل عليهم الملائكة عند موتهم بالبشرى ، ولفظة « ثمَّ » للتراخي ، والاستقامة مفضّلة على الإقرار باللسان ؛ لأنّ الشأن كلّه في الاستقامة ، ونحوها قوله تعالى : « إنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ ثمَّ لَمْ يَرْتَابُوا » (2) ، أي ثمّ ثبتوا على الإقرار ومقتضياته ، والاستقامة هاهنا ، هي الاستقامة الفعلية شافعة للاستقامة القولية . وتتنزّل عليهم الملائكة ، عند الموت ، أو في القبر ، أو عند النشور . وألاّ تخافوا « أن » بمعنى « أي » ، أو تكون خفيفة من الثقيلة ، وأصله « أنه لا تخافوا » والهاء ضمير الشأن . وقد فسر أمير المؤمنين الاستقامة المشترطة في الآية ، فقال : قد أقررتم بأنّ اللّه ربكم فاستقيموا على كتابه ، وعلى منهاج أمره ، وعلى الطريقة الصالحة من عبادته . لا تمرقوا منها ، مرق السهمُ ، إذا خرج من الرميّة مروقا . ولا تبتدعوا : لا تحدثوا ما لم يأت به الكتاب والسنة . ولا تخالفوا عنها ، تقول : خالفت عن الطريق ، أي عدلتُ عنها . قال : فإنّ أهل المروق منقطع بهم ، بفتح الطاء . انقُطِع بزيد بضم الهمزة ، فهو منقطَعٌ به ، إذا لم يجد بلاغاً ووصولاً إلى المقصد .

الأصْلُ :ثُمَّ إِيَّاكُمْ وَتَهْزِيعَ الْأَخْلاَقِ وَتَصْرِيفَهَا ، وَاجْعَلُوا اللِّسَانَ وَاحِداً ، وَلْيَخْزُنِ الرَّجُلُ لِسَانَهُ ، فَإِنَّ هذَا اللِّسَانَ جَمُوحٌ بِصَاحِبِهِ . وَاللّهِ مَا أَرَى عَبْداً يَتَّقِي تَقْوَى تَنْفَعُهُ حَتَّى يَخْزُنَ لِسَانَهُ . وَإِنَّ لِسَانَ الْمُؤمِنِ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِهِ ، وَإِنَّ قَلْبَ الْمُنَافِقِ مِنْ وَرَاءِ لِسَانِهِ ، لاِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بَكَلاَمٍ تَدَبَّرَهُ فِي نَفْسِهِ ، فَإِنْ كَانَ خَيْراً أَبْدَاهُ ، وَإِنْ كَانَ شَرّاً وَارَاهُ . وَإِنَّ الْمُنَافِقَ يَتَكَلَّمُ بِمَا أَتَى عَلَى لِسَانِهِ لاَ يَدْرِي مَاذَا لَهُ ، وَمَاذَا عَلَيْهِ . وَلَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم : لاَيَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ .

.


1- .سورة فصلت 30 .
2- .سورة الحجرات 15 .

ص: 595

وَلاَ يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ . فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَلْقَى اللّهَ سُبحانَهُ ، وَهُوَ نَقِيُّ الرَّاحَةِ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ ، سَلِيمُ اللِّسَانِ مِنْ أَعْرَاضِهِمْ ، فَلْيَفْعَلْ .

الشّرْحُ :تهزيعُ الأخلاق : تغييرها ؛ وأصل الهَزْع : الكسر ، أسد مهزِّع : يكسِر الأعناق ويرضّ العظام ، ولمّا كانَ المتصرّف بخلُقه ، الناقل له من حال قد أعدم سمته الأُولى كما يعدم الكاسر صورة المكسور ؛ اشتركاً في مسمّىً شامل لهما ؛ فاستعمل التهزيع في الخلْق للتغيير والتبديل مجازا . قوله : « واجعلوا اللّسان واحداً » ، نهى عن النّفاق واستعمال الوجهين . قال : « وليخزُن الرجل لسانه » ، أي ليحبسْه ؛ فإنّ اللسان يجمح بصاحبه فيلقيه في الهلكة . ثم ذكر أنه لا يرى التقوى نافعة إلاّ مع حبس اللسان ؛ قال : فإنّ لسان المؤمن وراء قلبه ، وقلب الأحمق وراء لسانه ؛ وشرَح ذلك وبيّنه . فإن قلت : المسموع المعروف : « لسان العاقل من وراء قلبه ، وقلْب الأحمق وراء لسانه » كيف نقله إلى المؤمن والمنافق؟ قلت : لأ نّه قلّ أن يكون المنافق إلاّ أحمق ، وقلّ أن يكون العاقل إلاّ مؤمناً ، فلأكثريّة ذلك ، استعمل لفظ « المؤمن » ؛ وأراد العاقل ، ولفظ « المنافق » وأراد الأحمق . ثم روى الخبر المذكور عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم وهو مشهور . ثم أمرهم بالاجتهاد في أن يلقوا اللّه تعالى وكلٌّ منهم نقيّ الراحة من دماء المسلمين وأموالهم ، سليم اللسان من أعراضهم ؛ وقد قال النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم : « إنما المسلِم مَنْ سلم المسلمون من لسانه ويده » ، فسلامتهم من لسانه سلامة أعراضهم ، وسلامتهم من يده سلامة دمائهم وأموالهم ؛ وانتصاب « تهزيع » على التحذير ؛ وحقيقته تقدير فعل ، وصورته : جنّبوا أنفسكم تهزيعَ الأخلاق ؛ ف_ « إياكم » قائم مقام أنفسكم ، والواو عوضٌ عن الفعل المقدّر ، وأكثر ما يجيء بالواو .

الأصْلُ :وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللّهِ أَنَّ الْمُؤمِنَ يَسْتَحِلُّ الْعَامَ مَا اسْتَحَلَّ عَاماً أَوَّلَ ، وَيُحَرِّمُ الْعَامَ مَا حَرَّمَ عَاماً أَوَّلَ؛ وَإنَّ مَا أَحْدَثَ النَّاسُ لاَ يُحِلُّ لَكُمْ شَيْئاً مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ، وَلكِنَّ

.

ص: 596

الْحَلاَلَ مَا أَحَلَّ اللّهُ ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللّهُ . فَقَدْ جَرَّبْتُمُ الْأُمْورَ وَضَرَّسْتُمُوهَا ، وَوُعِظْتُمْ بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، وَضُرِبَتِ لَكُم الْأَمْثَالُ ، وَدُعِيتُمْ إِلَى الْأَمْرِ الْوَاضِحِ ؛ فَ_لاَ يَصَمُّ عَنْ ذلِكَ إِلاَّ أَصَمُّ ، وَلاَ يَعْمَى عَنْ ذلِكَ إِلاَّ أَعْمَى . وَمَنْ لَمْ يَنْفَعْهُ اللّهُ بِالْبَلاَءِ وَالتَّجَارِبِ لَمْ يَنْتَفِعْ بِشَيْءٍ مِنَ الْعِظَةِ ، وَأَتَاهُ الْتَّقْصِيرُ مِنْ أَمَامِهِ ، حَتَّى يَعْرِفَ مَا أَنْكَرَ ، وَيُنْكِرَ مَا عَرَفَ . فأنّ النَّاسُ رَجُلاَنِ : مُتَّبِعٌ شِرْعَةً ، وَمُبْتَدِعٌ بِدْعَةً ، لَيْسَ مَعَهُ مِنَ اللّهِ سُبْحَانَهُ بُرْهَانُ سُنَّةٍ ، وَلاَ ضِياءُ حُجَّةٍ .

الشّرْحُ :يقول : إنّ الأحكام الشرعيّة لا يجوز بعد ثبوت الأدلّة عليها من طريق النصّ أن تُنقَضَ باجتهاد وقياس ؛ بل كلّ ماورد به النصّ تُتّبع مورد النصّ فيه ، فما استحللته عاماً أوّل ؛ فهو في هذا العام حلال لك ؛ وكذلك القول في التحريم . وقال : « إنّ ما أحدث الناسُ لا يُحِلُّ لكم شيئاً مما حُرّم عليكم » ، أي ما أحدثوه من القياس والاجتهاد . قوله : « وضرّستموها » بالتشديد أي أحكمتموها تجربةً وممارسة ، يقال : قد ضرّستْه الحرب ، ورجل مضرّس . قوله : « فلا يَصمّ عن ذلك إلاّ أصمّ » أي لا يَصمّ عنه إلاّ من هو حقيق أن يقال عنه : إنه أصمّ ، كما تقول : ما يجهل هذا الأمر إلاّ جاهل ؛ أي بالغ في الجهل . ثم قال : « مَنْ لم ينفعه اللّه بالبلاء » أي بالامتحان والتجربة ، لم تنفعه المواعظ ؛ وجاءه النقص من بين يديه حتى يتخيّل فيما أنكره أنه قد عرفه ، وينكِر ما قد كان عارفا به . وسمّى اعتقاد العرفان وتخيّله « عرفاناً » على المجاز . ثم قسّم النّاس إلى رجلين : إمّا متّبع طريقةً ومنهاجاً ، أو مبتدِعٌ ما لا يعرف ؛ وليس بيده حجّة ، فالأوّل المحقّ والثاني المبطِل . والشِّرعة : المنهاج . والبرهان : الحجة .

الأصْلُ :فَإِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَعِظْ أَحَداً بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ حَبْلُ اللّهِ الْمَتِينُ ، وَسَبَبُهُ الْأَمِينُ ، وَفِيهِ رَبِيعُ الْقَلْبِ ، وَيَنَابِيعُ الْعِلْمِ ، وَمَا لِلْقَلْبِ جِلاَءٌ غَيْرُهُ ، مَعَ أن_ّهُ قَدْ ذَهَبَ

.

ص: 597

الْمُتَذَكِّرُونَ ، وَبَقِيَ النَّاسُونَ أَوِ الْمُتَنَاسُونَ . فَإِذَا رَأَيْتُمْ خَيْراً فَأَعِينُوا عَلَيْهِ ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ شَرّاً فَاذْهَبُوا عَنْهُ ، فَإِنَّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّم كَانَ يَقُولُ : يَابْنَ آدَمَ ، اعْمَلِ الْخَيْرَ وَدَعِ الشَّرَّ ، فَإِذَا أَنْتَ جَوَادٌ قَاصِدٌ .

الشّرْحُ :إنما جعله حبْل اللّه ؛ لأنّ الحبْل ينجو من تعلّق به من هوّة ، والقرآن ينجو من الضلال مَنْ يتعلّق به . وجعله متينا ، أي قويّا ؛ لأ نّه لا انقطاع له أبداً ، وهذه غاية المتانة والقوّة . ومَتُن الشيء ، بالضم ، أي صُلب وقوِيَ . وسببه الأمين ، مثل حَبْله المتين ؛ وإنّما خالف بين اللفظين على قاعدة الخطابة . وفيه ربيع القلب ؛ لأنّ القلب يحيا به كما تحيا الأنعام برَعْيِ الربيع . وينابيع العلم ؛ لأنّ العلم منه يتفرّع كما يخرج الماء من الينبوع ويتفرّع إلى الجداول . والجلاء ، بالكسر : مصدر جلوْتُ السيف ؛ يقول : لا جِلاَء لصدأ القلوب من الشُّبُهات والغفلات إلاّ القرآن . ثم قال : إنّ المتذكِّرين قد ذهبوا وماتوا ، وبَقِيَ النّاسون الَّذِين لا علومَ لهم ، أو المتناسون الذين عندهم العلوم ، ويتكلفون إظهار الجهل لأغراض دنيوية تعرض لهم ، وروي : « والمتناسون » بالواو . ثم قال : أعينوا على الخير إذا رأيتموه ، بتحسينه عند فاعله ، وبدفع الأُمور المانعة عنه ، وبتسهيل أسبابه وتسنية سبله ، وإذا رأيتم الشرّ فاذهبوا عنه ، ولا تقاربوه ولا تقيموا أنفسَكم في مقام الراضي به ، الموافق على فعله . ثم روى لهم الخبر . والجواد القاصد : السهل السّيْر ، لا سريع يتعَب بسرعته ، ولا بطيء يفوتُ الغرض ببطئه .

الأصْلُ :أَلاَ وَإنَّ الظُّلْمَ ثَلاَثَةٌ : فَظُلْمٌ لاَ يُغْفَرُ ، وَظُلْمٌ لاَ يُتْرَكُ ، وظُلْمٌ مَغْفُورٌ لاَ يُطْلَبُ . فَأَمَّا الظُّلمُ الَّذِي لاَ يُغْفَرُ فَالشِّرْكُ بِاللّه ، قَالَ اللّهُ تَعَالَى : « إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ» . وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي يُغْفَرُ فَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ عِنْدَ بَعْضِ الْهَنَاتِ .

.

ص: 598

وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لاَ يُتْرَكُ فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضُهُمْ بَعْضاً . الْقِصَاصُ هُنَاكَ شَدِيدٌ ، لَيْسَ هُوَ جَرْحاً بِالْمُدَى وَلاَ ضَرْباً بِالسِّيَاطِ ، وَلكِنَّهُ مَا يُسْتَصْغَرُ ذلِكَ مَعَهُ . فَإِيَّاكُمْ وَالتَّلَوُّنَ فِي دِينِ اللّهِ ، فَإِنَّ جَمَاعَةً فِيَما تَكْرَهُونَ مِنَ الْحَقِّ ، خَيْرٌ مِنْ فُرْقَةٍ فِيَما تُحِبُّونَ مِنَ الْبَاطِلِ . وَإِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُعْطِ أَحَداً بِفُرْقَةٍ خَيْراً مِمَّنْ مَضَى ، وَلاَ مِمَّنْ بَقِيَ . يَا أيُّهَا النَّاسُ طُوبى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ ، وَطُوبى لِمَنْ لَزِمَ بَيْتَهُ ، وَأَكَلَ قُوتَهُ ، وَاشْتَغَلَ بِطَاعَةِ رَبِّهِ ، وَبَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ ، فَكَانَ مِنْ نَفْسِهِ فِي شُغُلٍ ، وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ!

الشّرْحُ :قسّم عليه السلام الظلم ثلاثة أقسام : أحدها : ظلمٌ لا يغفر ؛ وهو الشِّرْك باللّه ، أي أن يموت الإنسان مصِرّا على الشِّرْك . وثانيها : الهَنات المغفورة ، وهي صغائر الذنوب ؛ هكذا يفسّر أصحابنا كلامه عليه السلام . وثالثها : ما يتعلّق بحقوق البَشر بعضِهم على بعض ؛ فإنّ ذلك لا يتركه اللّه هَمَلاً ، بل لابدّ من عقاب فاعله ؛ وإنما أفردَ هذا القِسْم مع دخوله في القِسم الأول لتميُّزه بكونه متعلِّقا بحقوق بني آدم بعضِهم على بعض ؛ وليس الأوّل كذلك . ثم ذكر عليه السلام أنّ القِصاص في الآخرة شديدٌ ؛ ليس كما يعهده الناس من عقاب الدّنيا الذي هو ضرب السوط ؛ وغايته أنْ يذوق الإنسان طعم الحديد ؛ وهو معنى قوله : « جرحا بالمُدى » ، جمع مُدية وهي السكّين ؛ بل هو شيء آخر عظيم لا يعبّر النطق عن كُنْهِه وشدّة نَكاله وألِمه . ثم نهاهم عليه السلام عن التفرّق في دين اللّه ؛ وهو الاختلاف والفرقة ؛ ثم أمرهم باجتماع الكلمة ، وقال : إنّ الجماعة في الحقّ المكروه إليكم ، خير لكم من الفرقة في الباطل المحبوب عندكم ؛ فإنّ اللّه لم يعطِ أحدا خيرا بالفرقة ؛ لا ممّن مضى ، ولا ممّن بَقيَ . ثم أمر عليه السلام بالعزلة ، ولزوم البيت والاشتغال بالعبادة ، ومجانبه الناس ومتاركتهم واشتغال

.

ص: 599

178 . من كلام له عليه السلام في معنى الحكمين

الإنسان بعيب نفسه عن عيوبهم . وقد ورد في العزلة أخبار آثار كثيرة ؛ واختلف الناس قديما وحديثا فيها ، ففضّلها قوم على المخالطة ، وفضّل قوم المخالطة عليها . فأمّا كلام أمير المؤمنين عليه السلام فيقتضي عند إمعان النظر فيه أنّ العزلة خيرٌ لقوم ، وأن المخالطةَ خيرٌ لقوم آخرين على حسب أحوال الناس واختلافهم .

178الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام في معنى الحكمين (1)ومن كلام له عليه السلام في معنى الحكمين 2 فأَجْمَعَ رَأْيُ مَلَئِكُمْ عَلَى أَنِ اخْتَارُوا رَجُلَيْنِ ، فَأَخَذْنَا عَلَيْهِمَا أَنْ يُجَعْجِعَا عِنْدَ الْقُرْآنِ ، وَلاَ يُجَاوِزَاهُ ، وَتَكُونَ أَلْسِنَتُهُما مَعَهُ وَقُلُوبُهُمَا تَبَعَهُ ، فَتَاهَا عَنْهُ ، وَتَرَكَا الْحَقَّ وَهُمَا يُبْصِرَانِهِ ، وَكَانَ الْجَوْرُ هَوَاهُمَا ، وَالاْعْوِجَاجُ دأبَهُما ؛ وَقَدْ سَبَقَ اسْتِثْنَاؤنَا عَلَيْهِمَا فِي الْحُكْمِ بِالْعَدْلِ وَالْعَمَلِ بِالْحَقِّ سُوءَ رَأْيِهِمَا وَجَوْرَ حُكْمِهِمَا . وَالثِّقَةُ فِي أَيْدِينَا لاِنْفُسِنَا ، حِينَ خَالَفَا سَبِيلَ الْحَقِّ ، وَأَتَيَا بِمَا لاَ يُعْرَفُ مِنْ مَعْكُوسِ الْحُكْمِ .

الشّرْحُ :الملأ : الجماعة . ويجعجعا : يحبسا نفوسهما وآراءهما عند القرآنِ . جعجعت ، أي حبست ، أخذت عليهما العهد والميثاق أن يعملا بما في القرآن ولا يتجاوزاه . فتاها عنه ، أي عدلا ، وتركا الحق على عِلْم منهما به . والدأب : العادة ، و « سوءَ رأيهما » منصوب ؛ لأ نّه مفعول « سبق »، والفاعل « استثناؤنا » . ثم قال : « والثّقة في أيدينا » ، أي نحن على برهان وثقة من أمرنا ، وليس بضائرٍ لنا ما فعلاه ؛ لأنّهما خالفَا الحقّ ، وعدلا عن الشرط وعكسا الحكم .

.


1- .هذه الخطبة إشارة إلى قصة الحكمين في صفين ، وقد تقدّم نحوها في الخطبة 35 ، 36 ، وأسهب الشارح في الحديث عن هذه المهزلة التأريخية التي ختمها الحكمان بمخالفة الكتاب الكريم ، والعهد والميثاق ، وبترك الحق على علم منهما به .

ص: 600

179 . من خطبة له عليه السلام يمجّد اللّه ثم يحذّر من الدنيا ، ويذكر أن زوال النعم من سوء الفعال

179الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلاملاَ يَشْغَلُهُ شَأْنٌ ، وَلاَ يُغَيِّرُهُ زَمَانٌ ، وَلاَ يَحْوِيهِ مَكَانٌ ، وَلاَ يَصِفُهُ لِسَانٌ ، وَلاَ يَعْزُبُ عَنْهُ عَدَدُ قَطْرِ الْمَاءِ ، وَلاَ نُجُومِ السَّمَاءِ ، وَلاَ سَوَافِي الرِّيحِ فِي الْهَوَاءِ ، وَلاَ دَبِيبُ الَّنمْلِ عَلَى الصَّفَا ، وَلاَ مَقِيلُ الذَّرِّ فِي اللَّيْلَةِ الظَلمَاءِ . يَعْلَمُ مَسَاقِطَ الْأَوْرَاقِ ، وَخَفِيَّ طَرْفِ الْأَحْدَاقِ . وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهِ إِلاَّ اللّهُ غَيْرَ مَعْدُولٍ بِهِ ، وَلاَ مَشْكُوكٍ فِيهِ ، وَلاَ مَكْفُورٍ دِينُهُ ، وَلاَ مَجْحُودٍ تَكْوِينُهُ ، شَهَادَةَ مَنْ صَدَقَتْ نِيَّتُهُ ، وَصَفَتْ دِخْلَتُهُ وَخَلَصَ يَقِينُهُ ، وَثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ . وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمُجْتَبَى مِنْ خَلاَئِقِهِ ، وَالْمُعْتَامُ لِشَرْحِ حَقَائِقِهِ ، وَالُْمخْتَصُّ بِعَقَائِلِ كَرَامَاتِهِ ، وَالْمُصْطَفَى لِكَرَائِمِ رِسَالاَتِهِ ، وَالْمُوَضَّحَةُ بِهِ أَشْرَاطُ الْهُدَى ، وَالْمَجْلُوُّ بِهِ غِرْبِيبُ الْعَمَى .

الشّرْحُ :لا يشغلَهُ أمر ؛ لأنّ الحيّ الذي تشغله الأشياء هو الحيّ العالم بالبعض دون البعض ، والقادر على البعض دون البعض ؛ فأمّا من لا يغيب عنه شيء أصلاً ، ولا يعجز عن شيء أصلاً ، ولا يمنعه من إيجاد مقدوره _ إذا أراد _ مانع أصلاً ؛ فكيف يشغَلُه شأن ؟! وكذلك لا يغيّره زمان ؛ لأ نّه واجب الوجود ، ولا يحويه مكان ؛ لأ نّه ليس بجسم ، ولا يصفه لسان ؛ لأنّ كُنْه ذاته غيرُ معلوم ، وإنما المعلوم منه إضافات أو سلوب . ولا يعزب عنه أمر من الأُمور ، أي لا يفوته عِلْم شيء أصلاً . والسوافي : التي تَسْفِي التراب ، أي تَذْرُوهُ . والصفا ، مقصور : الصخر الأملس ؛ ولا وقف عليها هاهنا ؛ لأنّ المقصور لا يكون في مقابلة الممدود ، وإنما الفقرة المقابلة للهواء هي

.

ص: 601

« الظلماء » ، ويكون « الصفا » في أدراج الكلام أُسْوة بكلمة من الكلمات . والذّرّ : صغار الّنمل . ويعلم مساقط الأوراق ، من قوله تعالى : « وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلاَّ يَعْلَمُهَا » (1) . وطَرْف الأحداق : مصدر طرَف البصر يطرُف طَرْفاً ، إذا انطبق أحدُ الجفنين على الآخر ؛ ولكونه مصدرا وقع على الجماعة كما وقع على الواحد ، فقال عليه السلام : « طَرْف الأحداق » ، كما قال سبحانه : « لاَ يَرْتَدُّ إليْهِمْ طَرْفُهُمْ » (2) . وغير معدول به : غير مسوًّى بينه وبين أحد . والدِّخلة ، بكسر الدال : باطن الأمر ، ويجوز الدُّخْلَة بالضمّ . والمعتام : المختار . والعِيمة بالكسر : خِيارُ المال ؛ اعتام الرجل ، إذا أخذَ العِيمة . والعقائل : جمع عقِيلة ، وهي كريمة كلّ شيء من الناس والإبل وغير ذلك ، ويقال للدرّة عقيلة البحر . وأشراط الهدى : علاماته ، ومنه أشراط الساعة قال تعالى : « فَقَد جَاء أشْرَاطُها » (3) . والغِربيب : الأسود الشّديد السواد . ويُجلى به غربيب العمى : تُكشَفُ به ظُلَم الضلال ، وتستنير بهدايته . وقوله تعالى : « وَغَرابِيبُ سُودٌ » (4) ، ليس على أنّ الصفة قد تقدّمت على الموصوف ، بل يجعل السود بدلاً من الغرابيب . فإن قلت : الهاء في « حقائقه » إلى ماذا ترجع؟ قلت : إلى البارئ سبحانه ، وحقائقه حقائق توحيده وعدله ، فالمضاف محذوف ، ومعنى حقائق توحيده : الأُمور المحقّقة اليقينيّة التي لا تعتريها الشكوك ، ولا تتخالجها الشّبه .

الأصْلُ :أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ الدُّنْيَا تَغُرُّ الْمُؤمِّلَ لَهَا وَالْمُخْلِدَ إِلَيْهَا ، وَلاَ تَنْفَسُ بِمَنْ نَافَسَ فِيهَا ، وَتَغْلِبُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهَا . وَايْمُ اللّهِ ، مَا كَانَ قَوْمٌ قَطُّ فِي غَضِّ نِعْمَةٍ مِنْ عَيْشٍ فَزَالَ عَنْهُمْ إِلاَّ بِذُنُوبٍ اجْتَرَحُوهَا ؛ لأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَ_لاَّمٍ لِلْعَبِيدِ . وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ حِينَ تَنْزِلُ بِهِمُ النِّقَمُ ، وَتَزُولُ عَنْهُمُ النِّعَمُ ، فَزِعُوا إِلَى رَبِّهِمْ بِصِدْقٍ مِنْ نِيَّاتِهمْ ، وَوَلَهٍ مِنْ قُلُوبِهمْ ، لَرَدَّ عَلَيْهِمْ كُلَّ شَارِدٍ ، وَأَصْلَحَ لَهُمْ كُلَّ فَاسِدِ . وَإِنِّي

.


1- .سورة الأنعام 59 .
2- .سورة إبراهيم 43 .
3- .سورة محمد 18 .
4- .سورة فاطر 27 .

ص: 602

لَأَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تَكُونُوا فِي فَتْرَةٍ . وَقَدْ كَانَتْ أُمُورٌ مَضَتْ مِلْتُمْ فِيهَا مَيْلَةً ، كُنْتُمْ فِيهَا عِنْدِي غَيْرَ مَحْمُودِينَ ، وَلَئِنْ رُدَّ عَلَيْكُمْ أَمْرُكُمْ إِنَّكُمْ لَسُعَدَاءُ . وَمَا عَلَيَّ إِلاَّ الْجُهْدُ ، وَلَوْ أَشاءُ أَنْ أَقُولَ لَقُلْتُ : عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَفَ!

الشّرْحُ :المخلد : المائل إليها ، قال تعالى : « وَلكِنَّهُ أخْلَدَ إلَى الأَرْضِ » (1) . ولا تنفس بمن نافس فيها : لا تضنّ به ، أي من نافس في الدنيا فإنّ الدنيا تهينه ولا تضنّ به ، كما يضنّ بالعلْق النفيس . ثم قال : « وتغلب مَنْ غلَب عليها » ، أيْ مَنْ غلَب على الدنيا مقاهرة فسوف تغلبه الدنيا وتهلكه . ثم أقسم إنه ما كان قوم في غَضّ نعمة أي في نعمة غضة ، أي طريّة ناضرة ، فزالت عنهم إلاّ بذنوب اجترحوها ، أي اكتسبوها . ثم قال عليه السلام : لو أنّ الناس عند حلول النّقم بهم وزوال النعم عنهم يلتجئون إلى اللّه تعالى تائبين من ذنوبهم ؛ لرفع عنهم النقمة ، وأعاد إليهم النعمة . والولَه ، كالتحيّر يحدث عند الخوف أو الوجد . والشارد : الذاهب . قوله : « وإنّي لأخشى عليكم أن تكونوا في فترة » ، أي في أمر جاهليّة لغلَبَة الضلال والجهل على الأكثرين منهم . وهذه خطبة خطب بها عليه السلام بعد قتل عثمان في أوّل خلافته عليه السلام ، وقد تقدّم ذكر بعضها ، والأُمور التي مالوا فيها عليه : اختيارهم عثمان ، وعدولهم عنه يوم الشّورى (2) . وقال : «لئن ردّ عليكم أمركم » أي أحوالكم التي كانت أيام رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم مِنْ صلاح القلوب والنيّات إنّكم سعداء . والجُهد بالضمّ : الطاقة . ثم قال : لو أشاء أن أقول لقلت ، أي لو شئت لذكرتُ سبب التحامل عليّ وتأخري عن غيري ؛ ولكني لا أشاء ذلك ، ولا أستصلح ذكره . ثم قال : « عفا اللّه عما سلف » لفظ مأخوذ من الكتاب العزيز « عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَينْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ واللّهُ عَزِيزٌ ذُو انتقَامٍ » (3) .

.


1- .سورة الأعراف 176 .
2- .لم يصرّح الإمام عليه السلام بتلك الأُمور . ورأي ابن أبي الحديد ، اختيار عثمان يوم الشورى ، وقال آخر : إنّه إشارة إلى يوم السقيفة . وأمّا قوله عليه السلام : ( عفا اللّه عما سلف ) ، يريد به رجالاً كانوا منحرفين عنه أيام الخلفاء الثلاثة ، ورجعوا إليه عليه السلام في أيام خلافته ، وهم جمع كثير ، ذكرهم الكشي في اختيار معرفة الرجال : ص38 رقم 78 .
3- .سورة المائدة 95 .

ص: 603

180 . من كلام له عليه السلام في تنزيه اللّه سبحانه ، وقد سأله ذعلب اليماني : هل رأيت ربك ؟

180الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام وقد سأله ذِعلب اليمانيّ فقال : هل رأيتَ ربّك يا أمير المؤمنين ؟ فقال عليه السلام : أفأعبد ما لا أرى ! فقال : وكيف تراه ؛ قال :لاَ تُدْرِكُهُ الْعُيُونَ بِمُشَاهَدَةِ الْعِيَانِ ، وَلكِنْ تُدْرِكُهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الاْءِيمَانِ . قَرِيبٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ غَيْرَ مُلاَمِسٍ ، بَعِيدٌ مِنْهَا غَيْرَ مُبَايِنٍ ، مُتَكَلِّمٌ بلاَ رَوِيَّةٍ ، مُرِيدٌ لاَ بِهِمَّةٍ ، صَانِعٌ لاَ بِجَارِحَةٍ . لَطِيفٌ لاَ يُوصَفُ بِالْخَفَاءِ ، كَبِيرٌ لاَ يُوصَفُ بِالْجَفَاءِ ، بَصِيرٌ لاَ يُوصَفُ بِالْحَاسَّةِ ، رَحِيمٌ لاَ يُوصَفُ بِالرِّقَّةِ . تَعْنُو الْوُجُوهُ لِعَظَمَتِهِ ، وَتَجِبُ الْقُلُوبُ مِنْ مَخَافَتِهِ .

الشّرْحُ :الذِّعلب في الأصل : الناقة السريعة ، وكذلك الذِّعلبة ، ثم نقل فسمّي به إنسان ، وصار علما ، كما نقلوا « بكْرا » عن فتى الإبل إلى بن بكْر وائل . واليمانِي مخفّف النون ، ولا يجوز تشديدها ؛ جعلوا الألف عوضا عن الياء الثانية ؛ وكذلك فعلوا في « الشامي » والأصل « يمنيّ وشاميّ » . وقوله عليه السلام : « أفأعبد ما لا أرى ؟ » ، مقام رفيع جدّا لا يصلح أن يقوله غيره عليه السلام . ثم ذكر ماهيَّة هذه الرؤية ، قال : إنّها رؤية البصيرة ، لا رؤية البصر . ثم شرح ذلك ، فقال : إنّه تعالى قريب من الأشياء ، غير ملامس لها ؛ لأ نّه ليس بجسم ، وإنما قُرْبه منها علمُه بها ، كما قال تعالى : « مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إلاَّ هُوَ رَابِعهُمْ » (1) . قوله : « بعيد منها غيرُ مباين » ؛ لأ نّه أيضا ليس بجسم فلا يطلَق عليه البينونة ، وبُعْدُه منها هو عبارة عن انتفاء اجتماعه معها ، وذلك كما يصدُق على البعيد بالوضع ، يصدق أفضل

.


1- .سورة المجادلة 7 .

ص: 604

الصّدق على البعيد بالذّات الذي لا يصحّ الوضع والأيْنُ أصلاً عليه . قوله : « متكلّم بلا رويّة » ، الرويّة : الفكرة يرتئي الإنسان بها ليصدر عنه ألفاظ سديدة دالّة على مقصده ، والبارئ تعالى متكلّم لا بهذا الاعتبار ؛ بل لأ نّه إذا أراد تعريف خلقه من جهة الحروف والأصوات ؛ وكان في ذلك مصلحة ولطف لهم ، خلَق الأصوات والحروف في جسم جَماديّ ، فيسمعها مَنْ يسمعها ، ويكون ذلك كلامه ؛ لأنّ المتكلّم في اللغة العربية فاعل الكلام لا من حَلّه الكلام . قوله : « مريدٌ بلا همّة » ، أي بلا عَزْم ، فالعزم عبارة عن إرادةٍ متقدّمة للفعل ، تفعل توطينا للنفس على الفعل ، وتمهيدا للإرادة المقارنة له ؛ وإنّما يصحّ ذلك على الجسم الذي يتردّد فيها ، تدعوه إليه الدواعي ، فأمَّا العالم لذاته ، فلا يصحّ ذلك فيه . قوله : « صانع لا بجارحة » ، أي لا بعضو ؛ لأ نّه ليس بجسم . قوله : « لطيف لا يوصف بالخفاء » ؛ لأنّ لعرب إذا قالوا لشيء : إنّه لطيف ، أرادوا أ نّه صغير الحجم ، والبارئ تعالى لطيف لا بهذا الاعتبار ، بل يطلق باعتبارين : أحدهما : أ نّه لا يُرَى لعدم صحّة رؤية ذاته ؛ فلما شابه اللّطيف من الأجسام في استحالة رؤيته ، أطلق عليه لفظ « اللطيف » إطلاقا للفظ السّبب على المسبّب . وثانيهما : أ نّه لطيفٌ بعباده ؛ كما قال في الكتاب العزيز ، أي يفعل الألطاف المقرّبة لهم من الطاعة ، المبعّدة لهم من القبيح . أو لطيفٌ بهم بمعنى أ نّه يرحمهم ويرفُق بهم . قوله : « كبير لا يوصَفُ بالجفاء » ، لمّا كان لفظ « كبير » إذا استعمِل في الجسم أفاد تباعد أقطاره ؛ ثم لما وصف البارئ بأنَّهُ كبير أراد أن ينزّهه عما يدلّ لفظ « كبير » عليه ، إذا استعمل في الأجسام ؛ والمراد من وصفه تعالى بأنّه كبير ، عَظَمة شأنه وجلالة سلطانه . قوله : « بصير لا يوصف بالحاسّة » ؛ لأ نّه تعالى يدرَك إمّا لأ نّه حيّ لذاته ، أو أن يكون إدراكه هو علمه ؛ ولا جارحةَ له ولا حاسّة على كلّ واحد من القولين . قوله : « رحيم لا يوصف بالرّقّة » ؛ لأنّ لفظة الرحمة في صفاته تعالى تطلق مجازا على إنعامه على عباده ؛ لأنّ الملك إذا رقّ على رعيّته وعطَف ، أصابهم بإنعامه ومعروفه . قوله : « تعنو الوجوه » ، أي تخضع ، قال تعالى : « وَعَنَتِ الوُجُوهُ لِلْحَيِّ القَيُّوم » (1) .

.


1- .سورة طه 111 .

ص: 605

181 . من كلام له عليه السلام في ذم أصحابه

قوله : « وتَجِبُ القلوب » ، أي تخفِق ، وأصله من وَجَب الحائط : سقط . ويروى : « تَوْجل القلوب » أي تخاف ، وَجِل : خاف . وروي : « صانع لا بحاسّة » ؛ وروي « لا تراه العيون بمشاهدة العيان » عوضاً عن « لا تدركه » .

181الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلام في ذم أصحابهأَحْمَدُ اللّهَ عَلَى مَا قَضَى مِنْ أَمْرٍ ، وَقَدَّرَ مِنْ فِعْلٍ ، وَعَلَى ابْتِلاَئِي بِكُمْ أَيَّتُهَا الْفِرْقَةُ الَّتِي إِذَا أَمَرْتُ لَمْ تُطِعْ ، وَإِذَا دَعَوْتُ لَمْ تُجِبْ . إِنْ أُهْمِلْتُمْ خُضْتُمْ ، وَإِنْ حُورِبْتُمْ خُرْتُمْ ، وَإِنِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى إِمَامٍ طَعَنْتُمْ ، وَإِنْ أُجِئْتُمْ إِلَى مُشَاقَّةٍ نَكَصْتُمْ . لاَ أَبَا لِغَيْرِكُمْ! مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِكُمْ وَالْجِهَادِ عَلَى حَقِّكُمْ ! الْمَوْتَ أَوِ الذُّلَّ لَكُمْ؟ فَوَاللّهِ لَئِنْ جَاءَ يَوْمِي _ وَلَيَأْتِيَنِّي _ لَيُفَرِّقَنَّ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ، وَأَنَا لِصُحْبَتِكُمْ قَالٍ ، وَبِكُمْ غَيْرُ كَثِيرٍ . للّه أَنْتُمْ ! أَمَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ وَلاَ حَمِيَّةٌ تَشْحَذُكُمْ ؟ أَوَلَيْسَ عَجَباً أَنَّ مُعَاوِيَةَ يَدْعُو الْجُفَاةَ الطَّغَامَ فَيَتَّبِعُونَهُ عَلَى غَيْرِ مَعُونَةٍ وَلاَ عَطَاءٍ ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ _ وَأَنْتُمْ تَرِيكَةُ الاْءِسْلاَمِ ، وَبَقِيَّةُ النَّاسِ _ إِلَى الْمَعُونَةِ وطَائِفَةٍ مِنَ الْعَطَاءِ ، فَتتَفَرَّقُونَ عَنِّي وَتَخْتَلِفُونَ عَلَيَّ ! إِنَّهُ لاَ يَخْرُجُ إِلَيْكُمْ مِنْ أَمْرِي رِضىً فَتَرْضَوْنَهُ ، وَلاَ سُخْطٌ فَتَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ ؛ وَإِنَّ أَحَبَّ مَا أَنَا لاَقٍ إِلَيَّ الْمَوْتُ . قَدْ دَارَسْتُكُمُ الْكِتَابَ ، وَفَاتَحْتُكُمُ الْحِجَاجَ ، وَعَرَّفْتُكُمْ مَا أَنْكَرْتُمْ ، وَسَوَّغْتُكُمْ مَا مَجَجْتُمْ ، لَوْ كَانَ الْأَعْمَى يَلْحَظُ ، أَوِ النَّائِمُ يَسْتَيْقِظُ ! وَأَقْرِبْ بِقَوْمٍ مِنَ الْجَهْلِ بِاللّه قَائِدُهُمْ مُعَاوِيَةٌ ، وَمُؤدِّب_ُهُمُ ابْنُ النَّابِغَةِ!

.

ص: 606

الشّرْحُ :قضى وقدّر في هذا الموضع واحد . ويروى : « على ما ابتلاني » . وأُهمِلْتُم : خَلّيتم وترِكتم ، ويروى : « أمْهلتم » ، أي أخّرتم . وخرتم : ضعفتم ، والخَوَرُ : الضّعف ؛ رجل خَوّار ، ورمح خوّار ، وأرض خوّارة ، والجمع خُور . ويجوز أن يكون « خرتم » ، أي صحتم ، كما يخور الثَّوْر ، ومنه قوله تعالى : « عجِلاً جَسَدا لَهُ خُوَارٌ » (1) . ويروى : «جُرْتُم » أي عدلتم عن الحرب فرارا . وأُجِئْتُم : أُلجِئتُم ، قال تعالى : « فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ » (2) . والمشاقّة : المقاطعة والمصارمة . ونكصتم : أحجمتُم ، قال تعالى : « فَلَمَّا تَرَاءَى الجَمْعَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ » (3) ، أي رجع محجِما ، أي دعيتم إلى كشف القناع مع العدو وجبنتم وهبتموه . قوله : « الموت أو الذلّ لكم » ، دعاء عليهم بأنْ يصيبَهم أحد الأمرين ، كأنه شرعَ داعيا عليهم بالفناء الكلّي ؛ وهو الموت ؛ ثم استدرك فقال : « أو الذلّ » ؛ لأ نّه نظير الموت في المعنى ؛ ولكنّه في الصورة دونه ؛ ولقد أُجِيب دعاؤه عليه السلام بالدّعوة الثانية ؛ فإنّ شيعته ذَلُّوا بعدُ في الأيّام الأُمويّة ؛ حتى كانوا كفَقْع قَرْقر (4) . أولاً _ الخطبة في ذم العصاة ممن كان معه ، وحتى لا يصح تسميتهم بأصحابه . فالعصيان مضاد للصحبة . ثانياً _ على فرض هم أصحابه فإن الخوارج المارقين من الدين كانوا في جملة أصحابه عليه السلام فهؤلاء لا يُسمّون شيعة البتة . وهل يعتبرهم الشارح شيعته ، باعتبارهم كانوا من أصحابه في يوم ما ؟! إن هذا لظلم عظيم . ثالثاً _ معلوم بالبداهة أن الجيش الذي كان يقاتل معه فيهم الشيعة المطيعون ، والأصحاب المخلصون ، ومن جاء من أفناء الناس طمعاً في الحصول على مغنم ، والبعض لهم ثارات يطلبونها ينتهزون الفرصة للانتقام من واتريهم فينتقمون منهم في أي صف كانوا .

.


1- .سورة طه 88 .
2- .سورة مريم 23 .
3- .الصواب : « فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ ...» سورة الأنفال : 48 . وأمّا «تَرَاءى الْجَمْعَانِ» ، فهي جزء من آية 61 من سورة الشعراء .
4- .الفقع : ضرب من أردأ الكمأة ، والقرقر : المكان المستوي الأملس ؛ ويشبه به الرجل الذليل ؛ فيقال : هو أذل من فقع بقرقر ؛ لأنّ الدواب تنجله بأرجلها .

ص: 607

لكن الشارح وجد فرصة للتشفي من الشيعة عموماً فاعتبر أن الدعاء كان عليهم وأن دعوة الإمام أُجيبت فيهم . لا يا شريح ليس كذلك . فالإمام لم يدع على شيعته ، وإنما دعاؤه على الفرقة التي ابتُلي بها ، والتي إذا أمر لم تُطع ، وإذا دعا لم تُجب . ثم تبرأ من صحبتهم له ، ولم يستكثر بجمعهم ، ولا أحسب أن هذه الفرقة التي عناها تعدو الخوارج ، فالنعوت التي نعتها بها هي ألصق بهم . وتعميم الشارح ان دعوة الإمام المستجابة كانت على شيعته ، هذا التعميم تفوح منه رائحة العداء والتشفّي ، وهي بالتالي شنشة نعرفها من أخزم . وذكره للأيام الأموية تحرير لمقولته وتغطية لها ، وإلاّ فالشيعة لاقت من بني العباس أضعاف ما لاقته من أُمية . والخطبة التالية تشهد على ما قلناه . إنما الشيعة ، اولئك الذين اخلصوا الولاء لإمامهم ، وعرفوه حق معرفته وإن لم يعرفه على حقيقته ، وأنزلوه منزلته التي أنزله اللّه ورسوله ، ثم هم أطوع له ومتّبعوه اتباع الفصيل لأُمّه . وأخيراً وإن صح ما لاقته الشيعة زمن أُميّة من اضطهاد وظلم وعسف وجور إلاّ أنهم ليسوا المدعو عليهم ، ولا يصح بحال اعتبارهم من اولئك ، إذ أئمتهم عليهم السلام كانوا بين ظهرانيهم ولاقوا من بني أُميّة ما لاقوه . ثم أقسم أ نّه إذا جاء يومُه لتكونَنّ مفارقته لهم عن قِلىً ؛ وهو البغض ، وأدخل حَشْوةً بين أثناء الكلام ، وهي « ليأتينّي » وهي حشوة لطيفة . والواو في قوله : « وأنا لِصُحْبَتكُمْ » ، واو الحال ، وكذلك الواو في قوله : « وبكم غير كثير » ؛ وقوله : « غير كثير » لفظ فصيح . قوله : « للّه أنتم » للّه ، في موضع رفع ؛ لأ نّه خبر عن المبتدأ الذي هو « أنتم » ، ومثله : للّه دَرّ فلان ! وللّه بلادُ فُلان ! وللّه أبوك ! اللام هاهنا فيها معنى التعجّب ؛ والمراد بقوله : « للّه أنتم » للّه سعيكم ، أو للّه عملكم ، كما قالوا « للّه دَرّك ! » ، أي عملك ، فحذِف المضاف ، وأُقيم الضمير المنفصل المضاف إليه مقامه . قوله عليه السلام : « أما دينٌ يجمعكم ! » ارتفاع « دين » على أ نّه فاعل فعلٍ مقدّر له ، أي أما يجمعكم دين يجمعكم ! اللفظ الثّاني مفسر للأول كما قدرناه بعد « إذا » في قوله سبحانه : « إذَا السَّمَاء انشَقَّت » ويجوز أن يكون « حَمِيّة »مبتدأ ، والخبر محذوف تقديره : أما لكم حميّة ! والحمِيّة : الأنَفة . وشحذتُ النّصل : أحددته .

.

ص: 608

فإن قلت : كيف قال : إنّ معاوية لم يكن يعطي جندَه ، وأ نّه هو عليه السلام كان يعطيهم ؛ والمشهور أنّ معاوية كان يمدّ أصحابَه بالأموال والرغائب! قلت : إنّ معاوية لم يكن يعطِي جندَه على وجْهِ المعونة والعطاء ؛ وإنّما كان يعطى رؤساء القَبائل من اليمن وساكني الشام الأموال الجليلة ؛ يستعبدهم بها ، ويدعو أولئك الرؤساء أتباعَهُمْ من العرب فيطيعونهم . وأمّا أمير المؤمنين عليه السلام ، فإنّه كان يقسّم بين الرؤساء والأتباع على وجه العطاء والرزق ولا يرى لشريف على مشروف فضلاً ؛ فكان من يقعد عنه بهذا الطريق أكثر ممّن ينصره ويقوم بأمره . والتَّرِيكة : بيضة النعام تتركها في مَجْثَمِها ، يقول : أنتم خلفُ الإسلام وبقيّته كالبيْضة التي تتركها النعامة . فإن قلت : ما معنى قوله : « لا يخرج إليكم من أمرى رضىً فتَرضوْنه ، ولا سخط فتجتمعون عليه »؟ قلت : معناه أنّكم لا تقبلون مما أقول لكم شيئاً، سواء كان مما يرضيكم أو مما يسخطكم، بل لابدّ لكم من المخالفة والافتراق عنه . ثم ذكر أنّ أحبّ الأشياء إليه أن يلقى الموت . قوله : « قد دارستُكم الكتاب »، أي درسته عليكم ، دارستُ الكُتب وتدارستَها وأدرستُها، ودرستها ، بمعنى ، وهي من الألفاظ القرآنية (1) . وفاتحتُكم الحِجاج ، أي حاكمتكم بالمحاجّة والمجادلة ، وقوله تعالى : « رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا » (2) ، أي احكم ، والفتَّاح : الحاكم . وعرفتكم ما أنكرتم : بصّرتكم ما عَمِيَ عنكم . وسَوّغْتُكم ما مجَجْتُم ، يقال : مججْتُ الشّراب من فَمِي ، أي رميت به ، وشيخٌ ماجّ : يمُجُّ ريقه ، ولا يستطيع حبسه من كبره ، وأحمق ماجّ : أي يسيل لعابه ، يقول : ما كانت عقولكُم وأذهانكم تنفر عنه من الأُمور الدينيّة أوضحتُه لكم ، حتى عَرَفتُموه واعتقدتموه وانطوتْ قلوبكم عليه . ولم يجزم عليه السلام بحصول ذلك لهم ؛ لأ نّه قال : لو كان الأعمى يلحظ ، والنائم يستيقظ ! أي أني قد فعلت معكم ما يقتضي حصولَ الاعتقادات الحقيقية في أذهانكم لو أزلتم عن قلوبكم ما يمنع من حصولها لكم ، والمانع المشارُ إليه هو الهوى والعصبية والإصْرَار على اللَّجاج، ومحبّة نصره عقيدة قد سبقت إلى القلب، وَزرَعها التعصّب، ومشقّة مفارقة الأسلاف الَّذين قد انغرس في النفس تعظيمهم ، ومالت القلوب إلى تقليدهم لحسن الظنّ بهم .

.


1- .من قوله تعالى في سورة آل عمران 79 : « كُونُوا رَبَّانِيّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ » .
2- .سورة الأعراف 89 .

ص: 609

182 . من كلام له عليه السلام في قوم نزعوا لِلّحاق بالخوارج

ثم قال : « أقرِبْ بقومٍ ! » أي ما أقربهم من الجهل ! كما قال تعالى : « أسْمِعْ بهم وأَبْصِرْ» (1) ، أي ما أسمعهم وأبصرهم!

182الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام وقد أَرسل رجلاً من أصحابه ، يعلم له علم أحوال قوم من جند الكوفة ، قد همّوا باللحاق بالخوارج ، وكانوا على خوف منه عليه السلام ، فلمّا عاد إِليه الرجل قال له : «أأمِنُوا فَقَطَنُوا ، أم جبنوا فَظَعَنُوا» ، فقال الرجل : بل ظَعَنُوا يا أَمير المؤمنين . فقال عليه السلام :بُعْداً لَهُمْ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ! أَمَا لَوْ أُشْرِعَتِ الْأَسِنَّةُ إِلَيْهِمْ وَصُبَّتِ السُّيُوفُ عَلَى هَامَاتِهمْ ، لَقَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ . إِنَّ الشَّيْطَانَ الْيَوْمَ قَدِ اسْتَفَلَّهُمْ ، وَهُوَ غَداً مُتَبَرِّئٌ مِنْهُمْ ، وَمُتَخَلٍّ عَنْهُمْ . فَحَسْبُهُمْ بِخُرُوجِهمْ مِنَ الْهُدَى ، وَارْتِكَاسِهِمْ فِي الضَّلاَل وَالْعَمَى ، وَصَدِّهِمْ عَنِ الْحَقِّ ، وَجِمَاحِهمْ فِي التِّيهِ .

الشّرْحُ :قد ذكرنا قصّة هؤلاء القوم فيما تقدّم عند شرحنا قصّة مَصْقَلة بن هبيرة الشّيبانيّ . وقَطَن الرجلُ بالمكان ، يقطُن بالضمّ : أقام به وتوطّنه ؛ فهو قاطن ؛ والجمع قطّان وقاطنة وقطين أيضاً ، مثل غازٍ وغزيّ . وعازب للكلأ البعيد وعزيب . وظَعَن صار الرجل ظَعْنا وظعَناً ؛ وقرئ بهما : « يَوْمَ ظَعْنِكُمْ » (2) ؛ وأظعنه : سيره ، وانتصب « بُعْداً » على المصدر .

.


1- .مريم : 38 .
2- .سورة النحل 80 .

ص: 610

183 . من خطبة له عليه السلام في تنزيه اللّه وذكر آثار قدرته ، ثم التذكير بما نزل بالسابقين ، ثم أظهر أسفه على إخوانه الذين قتلوا بصفين ، مع ذكر بعض أوصافهم

وثمود ؛ إذا أردت القبيلة غيرُ مصروف ، وإذا أردت الحيّ أو اسم الأب مصروف ، ويقال : إنّه ثمود بن عابر بن آدم بن سام بن نوح ، قيل سمّيَتْ ثمود لقلّة مائها ، من الثّ_مْد وهو الماء القليل ؛ وكانت مساكنهم الحِجْر بين الحجاز والشام إلى وادي القُرى . وأشرعتُ الرّمح إلى زيد ، أي سدّدته نحوه ، وشرع الرُّمح نفسه . وصبّت السيوفُ على هاماتهم : استعارة من صببْتُ الماء ، شبّه وقع السيوف وسرعة اعتوارها الرؤوس بصبّ الماء . واستفلّهم الشيطانُ : وجدهم مَفْلولين ، فاستزلّهم ؛ هكذا فسّروه . ويمكن عندي أن يريد أنه وجدهم فَلاًّ ، لاَ خير فيهم ، والفلُّ في الأصل : الأرض لا نبات بها ؛ لأنّها لم تمطر . ويروى « استفزّهم » ، أي استخفّهم . والارتكاس في الضلال : الرجوع ؛ كأنه جعلهم في تردّدهم في طبقات الضلال كالمرتكس الراجع إلى أمر قد كان تخلّص منه . والجماح في التِّيه : الغلوّ والإفراط ، مستعار من جِماح الفرس ؛ وهو أن يعتزّ صاحبه ويغلبَه ، جَمَح فهو جَمُوح .

183الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلام روي عن نَوفِ البَكالِيّ قال : خطبنا بهذه الخطبة أمير المؤمنين عليه السلام بالكوفة وهو قائم على حجارة ، نصبها له جَعْدَةُ بن هُبَيرَة المَخْزُومي ، وعليه مِدْرَعَةٌ من صُوف وحمائل سيفه لِيفٌ ، وفي رجليه نعلان من لِيفٍ، وكأنّ جبينه ثَفِنَةُ بعير ، فقال عليه السلام :الْحَمْدُ للّه الَّذِي إِلَيْهِ مَصَائِرُ الْخَلْقِ ، وَعَوَاقِبُ الْأَمْرِ . نَحْمَدُهُ عَلَى عَظِيمِ إِحْسَانِهِ ، وَنَيِّرِ بُرْهَانِهِ ، وَنَوَامِي فَضْلِهِ وَامْتِنَانِهِ ، حَمْداً يَكُونُ لِحَقِّهِ قَضَاءً ، وَلِشُكْرِهِ أَدَاءً ، وَإِلَى ثَوَابِهِ مُقَرِّباً ، وَلِحُسْنِ مَزِيدِهِ مُوجِباً . وَنَسْتَعِينُ بِهِ اسْتِعَانَةَ رَاجٍ لِفَضْلِهِ ، مُؤَمِّلٍ لِنَفْعِهِ ، وَاثِقٍ بِدَفْعِهِ ، مُعْتَرِفٍ لَهُ بِالطَّوْلِ ، مُذْعِنٍ لَهُ بِالْعَمَلِ وَالْقَوْلِ . وَنُؤْمِنُ بِهِ إِيمَانَ مَنْ

.

ص: 611

رَجَاهُ مُوقِناً ، وَأَنَابَ إِلَيْهِ مُؤمِناً ، وَخَنَعَ لَهُ مُذْعِناً ، وَأَخْلَصَ لَهُ مُوَحِّداً ، وَعَظَّمَهُ مُمَجِّداً ، وَلاَذَ بِهِ رَاغِباً مُجْتَهِداً .

الشّرْحُ :نَوْف البَكَالِيّ ، قال الجوهريّ في الصِّحاح : نَوْف البَكَاليّ ، بفتح الباء ، كان حاجبَ عليّ عليه السلام ، ثم قال : وقال ثعلب : هو منسوب إلى بَكالة ، قبيلة . وإنّما بنو بِكال ، بكسر الباء ، حيٌّ من حِمْيَر ؛ منهم هذا الشخص ؛ هو نَوْف بن فضالة ، صاحب عليّ عليه السلام ؛ والرواية الصحيحة الكسر ؛ لأنّ نوف بن فضالة بِكاليّ ، بالكسر ، من حِمْير .

نسبَ جعْدة بن هُبيرةوأمّا جعدة بن هُبيرة ، فهو ابنُ أختِ أمير المؤمنين عليه السلام ، أُمّه أُمّ هانئ بنت أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشمٍ ، وأبوه هبيرة بن أبي وهب . وكان جعدة فارسا ، شجاعا ، فقيهاً ، وولِيَ خُراسان لأمير المؤمنين عليه السلام ؛ وهو من الصّحابة الذين أدركوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم يوم الفتح ، مع أُمّه أُمّ هانئ بنت أبي طالب عليه السلام . المدرعة : الجبَّة ، وتَدَرّع : لبسها ، وربما قالوا : تمدرع . وثَفِنة البعير ، واحدة ثفِنَاته ، وهو ما يقع على الأرض من أعضائه إذا استناخ فيغلظ ويكثف ، كالركبتين وغيرهما. ومصائر الأُمور : جمع مَصِير ، وهو مصدر « صار » إلى كذا ، ومعناه المرْجع قال تعالى : « وَإلَى اللّهِ الْمَصِير » (1) . وعواقب الأمر : جمع عاقبة ؛ وهي آخر الشيء . ثم قَسَّم الحمد ، فجعله على ثلاثة أقسام : أحدُها : الحمد على عظيم إحسانه وهو أُصول نعمه تعالى ؛ كالحياة والقدْرة والشهوة وغيرها مما لا يدخل جنسه تحت مقدور القادر . وثانيها : الحمد على نيّر برهانه ، وهو ما نصبه في العقول من العلوم البديهية المفضِية إلى العلوم النظرية بتوحيده وعدله . وثالثها : الحمد على أرزاقه النّامية ، أي الزائدة وما يجري مجراها من إطالة الأعمار ، وكثرة الأرزاق ، وسائر ضروب الإحسان الداخلة في هذا القسم .

.


1- .سورة آل عمران 28 .

ص: 612

ثم بالغ في الحمد حمدا يكون لحقّة قضاء ، ولشكره أداء ؛ وذلك لأنّ الحمد والشكر [ ولو بلغ ] أقصى غاياته لم يصلْ إلى أن يكون قاضياً لحقّ اللّه تعالى ، ولا مؤدِّيا لشكره ؛ ولكنّه قال ذلك على سبيل المبالغة . ثم قال : « وإلى ثوابه مقرّباً ، ولحسن مزيده موجباً » ؛ وذلك لأنّ الشكر يوجِب الثواب والمزيد ، قال اللّه تعالى : « فَاذْكُروني أذْكُرْكُمْ » (1) ، أي « أثبكم » ، وقال : « لَئنْ شَكَرتُمْ لأزِيدَنَّكُم » (2) . ثم شرع في الاستعانة باللّه ففصّلها أحسنَ تفصيل ، فذكر أنه يستعين به استعانة راجٍ لفضله في الآخرة ، مؤمّل لنفعه في الدنيا ، واثقٍ بدفعه المضارّ عنه ؛ وذلك لأ نّه أراد أن يحتويَ على وجوه ما يستعان به تعالى لأجله ، فذكر الأمورَ الإيجابيَّة ، وأعقبها بالأُمور السلبيّة ، فالأُولى جلب المنافع ، والثانية دفع المضارّ . والطّول : الإفضال . والإذعان : الانقياد والطاعة . وأناب إليه : أقبل وتاب . وخنع : خضع ، والمصدر الخنوع . ولاذ به : لجأ إليه .

الأصْلُ :لَمْ يُولَدْ سُبْحَانَهُ فَيَكُونَ فِي الْعِزِّ مُشَارَكاً ، وَلَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مَوْرُوثاً هَالِكاً . وَلَمْ يَتَقَدَّمْهُ وَقْتٌ وَلاَ زَمَانٌ ، ولَمْ يَتَعَاوَرْهُ زِيَادَةٌ وَلاَ نُقْصَانٌ ، بَلْ ظَهَرَ لِلْعُقُولِ بِمَا أَرَانَا مِنْ عَ_لاَمَاتِ التَّدْبِيرِ الْمُتْقَنِ ، وَالْقَضَاءِ الْمُبْرَمِ .فَمِنْ شَوَاهِدِ خَلْقِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ مُوَطَّدَاتٍ بِ_لاَ عَمَدٍ ، قَائِمَاتٍ بِلاَ سَنَدٍ . دَعَاهُنَّ فَأَجَبْنَ طَائِعَاتٍ مُذْعِنَاتٍ ، غَيْرَ مُتَلَكِّئَاتٍ وَلاَ مُبْطِئَاتٍ ؛ وَلَوْلاَ إِقْرَارُهُنَّ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَإِذْعَانُهُنَّ بِالطَّوَاعِيَةِ ، لَمَا جَعَلَهُنَّ مَوْضِعاً لِعَرْشِهِ ، وَلاَ مَسْكَناً لِمَ_لاَئِكَتِهِ ، وَلاَ مَصْعَداً لِلْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ خَلْقِهِ .

.


1- .سورة البقرة 152 .
2- .سورة إبراهيم 7 .

ص: 613

الشّرْحُ :نفى عليه السلام أن يكون البارئ سبحانه مولودا فيكون له شريك في العزّ والإلهيّة ؛ وهو أبوه الذي ولده ، وإنّما قال ذلك جريا على عادة ملوك البشر ؛ فإنّ الأكثر أنّ الملِك يكونُ ابنَ ملك قبله ؛ ونفى أن يكون له ولد ، جرياً أيضاً على عادة البشَر ، في أنّ كلّ والدٍ في الأكثر ، فإنّه يهلِك قبل هلاك الولد ، ويرثه الولد ؛ وهذا النمط من الاحتجاج يسمّى خطابة ؛ وهو نافع في مواجهة العرَب به ، وأراد من الاحتجاج إثبات العقيدة ، فتارةً تثبت في نفوس العلماءبالبرهان ، وتارة تثبت في نفوس العوامّ بالخطابة والجدَل . ثم نفى أنْ يتقدّمه وقت أو زمان ، والوقت هو الزمان ، وإنّما خالف بين اللفظيْن ، وأتى بحرف العطف ؛ كقوله تعالى : « لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَة وَمِنْهَاجاً » (1) . ونفي أن يتعاوره ، أي تختلف عليه زيادة أو نقصان ؛ يقال : عاورت زيداً الضّرب ، أي فعلت به من الضّرْب مثل ما فعل بي ؛ واعتوروا الشيء ، أي تداولوه فيما بينهم . قوله عليه السلام : « موطّدات » ، أي ممهّدات مثبتات . والعَمَد : جمع عماد ، نحو إهاب وأهَب ، وإدام وأدَم ؛ وهو على خلاف القياس ؛ ومنه قوله تعالى : « فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ » (2) ، وقوله تعالى : « رَفَعَ السَّمَواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا » (3) . والسَّنَد : ما يستند إليه . ثم قال : « دعاهنّ فأجبن طائعاتٍ » ؛ هذا من باب المجاز والتوسّع ؛ لأنّ الجماد لا يُدْعى ؛ وأمّا من قال : إنّ السماوات أحياء ناطقة ، فإنّه لم يجعلهنّ مكلّفات ليقال : ولولا إقرارهنّ له بالربوبيّة لما فعل كذا ؛ بل يقول ذلك على وجْهٍ آخر ؛ ولكن لغة العرب تنطق بمثل هذا المجاز ، نحو قول الراجز : امْتَلأَ الْحوْضُ وَقَالَ قَطْنِيمَهْلاً رويدا قَدْ مَلأْتَ بطْنِي ومنه قوله تعالى : « ائتِيَا طَوْعا أَوْ كَرْها قَالَتَا أتَيْنَا طَائِعِينَ » (4) . والمذعِن : المنقاد المطيع . والمتلكّئ : المتوقف . والكلم الطيّب : شهادة أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمّدا صلى الله عليه و آله وسلم رسوله . والعمل الصالح : أداء الواجبات والنوافل ؛ واللفظات من القرآن (5)

.


1- .سورة المائدة 48 .
2- .سورة الهمزة 9 .
3- .سورة الرعد 2 .
4- .سورة فصلت 11 .
5- .من قوله تعالى في سورة فاطر 10 : « إلَيْهِ يَصْعَد الْكَلِمُ الطيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ » .

ص: 614

العزيز . والمَصْعَد : موضع الصعود ، ولا شبهة أنّ السماء أشرف من الأرض على رأي الملِّيِّين وعلى رأي الحكماء ، أمّا أهل المِلّة ، فلأنّ السماء مصعد الأعمال الصالحة ، ومحلّ الأنوار ، ومكان الملائكة ، وفيها العرش والكرسيّ ، والكواكب المدبِّرات أمرا ، وأمّا الحكماء فلأُمور [ أُخر ] تقتضيها أُصولهم .

الأصْلُ :جَعَلَ نُجُومَهَا أَعْ_لاَماً يَسْتَدِلُّ بِهَا الْحَيْرَانُ فِي مُخْتَلِفِ فِجَاجِ الْأَقْطَارِ . لَمْ يَمْنَعْ ضَوْءَ نُورِهَا ادْلِهْمَامُ سُجُفِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ ، وَلاَ اسْتَطَاعَتْ جَ_لاَبِيبُ سَوَادِ الْحَنَادِس أَنْ تَرُدَّ مَا شَاعَ فِي السَّمَاوَاتِ مِنْ تَلأل_ُؤِ نُورِ الْقَمَرِ . فَسُبْحَانَ مَنْ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ سَوَادُ غَسَقٍ دَاجٍ ، وَلاَ لَيْلٍ سَاجٍ ، فِي بِقَاعِ الْأَرَضِينَ الْمُتَطَأْطِئَاتِ ، وَلاَ فِي يَفَاعِ السُّفْعِ الْمُتَجَاوِرَاتِ ؛ وَمَا يَتَجَلْجَلُ بِهِ الرَّعْدُ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ ، وَمَا تَ_لاَشَتْ عَنْهُ بُرُوقُ الْغَمَامِ ، وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ تُزِيلُهَا عَنْ مَسْقَطِهَا عَوَاصِفُ الْأَنْوَاءِ وَانْهِطَالُ السَّمَاءِ ! وَيَعْلَمُ مَسْقَطَ الْقَطْرَةِ وَمَقَرَّهَا ، وَمَسْحَبَ الذَّرَّةِ وَمَجَرَّهَا ، وَمَا يَكْفِي الْبَعُوضَةَ مِنْ قُوتِهَا ، وَمَا تَحْمِلُ الْأُنْثَى فِي بِطْنِهَا .

الشّرْحُ :أعلاماً ، أي يستدلّ بها . والفجاج : جمع فَجّ ؛ وهو الطريق في الجبل . ثم قال : إنّ ادلهمام سواد الليل _ أي شدّة ظلمته _ لم يمنع الكواكب من الإضاءة ؛ وكذلك أيضاً لم يمنع ظلام الليل القمر من تلألؤ نوره ؛ وإنّما خصّ القمر بالذِّكْر وإن كان من جملة الكواكب ، لشرفه بما يظهر للأبصار من عظم حَجْمه ، وشدّة إضاءته ، فصار كقوله تعالى : « فِيهمَا فَاكِهَةٌ وَنخْلٌ وَرُمَّانٌ » (1) ، وقد روى بعض الرواة « ادلهمامَ » بالنصب ؛ وجعله مفعولاً ، « وضوءُ نورها » بالرفع وجعله فاعلاً ؛ وهذه الرواية أحسن في صناعة الكتابة لمكان الازدواج ؛ أي لا القمر ولا الكواكب تمنع الليل من الظّلمة ، ولا الليل يمنع الكواكب والقمر

.


1- .سورة الرحمن 68 .

ص: 615

من الإضاءَة . والسُّجف : جمع سِجْف ، وهو السِّتر ، ويجوز فتح السين . وشاع : تفرّق ، والتلألؤ : اللّمَعان . والجلابيب : الثياب . والغَسق : الظلمة ، والساجي . الساكن . والدّاجي : المظلم ، والمتطأطئ : المنخفض . والسُّفْع المتجاورات هاهنا : الجبال ؛ وسماها سُفْعا لأنّ السُّفْعة سواد مشرب بحمرة ؛ وكذلك لونها في الأكثر . واليَفاع : الأرض المرتفعة . والتّجلجل : صوت الرعد . وما تلاشت عنه بروق الغمام ؛ تلاشى الشيء بمعنى اضمحلّ . وقد ظهر الآن أنّ معنى كلامه عليه السلام أ نّه سبحانه يعلم ما يصوت به الرّعد ؛ ويعلم ما يضمحلّ عنه البرق . والعواصف : الرّياح الشديدة ، وأضافها إلى الأنواء ؛ لأنّ أكثر ما يكون عَصَفَانُها في الأنواء ؛ وهي جمع نَوْء ، وهو سقوط النجم من منازل القمر الثمانية والعشرين في المغرب مع الفجر وطلوع رقيبه من المشرق مقابلاً له من ساعته ؛ ومدّة النوْء ثلاثة عشر يوما ، إلاّ الجبهة فإن لها أربعة عشر يوما . والانهطال : الانصباب . ومسقط القطرة من المطر : موضع سقوطها . ومقرّها : موضع قرارها . ومسحب الذرّة الصغيرة من النمل ومجرّها : موضع سحبها وجرّها . وهذا الفصل من فصيح الكلام ونادره ؛ ويتضمّن من توحيد اللّه تعالى وتمجيده والثناء عليه ما يشهد لنفسه .

الأصْلُ :وَالْحَمْدُ للّه الْكَائِنِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ كُرْسِيٌّ أَوْ عَرْشٌ ، أَوْ سَمَاءٌ أَوْ أَرْضٌ ، أَوْ جَانٌّ أَوْ إِنْسٌ . لاَ يُدْرَكُ بِوَهْمٍ ، وَلاَ يُقَدَّرُ بِفَهْمٍ ، وَلاَ يَشْغَلُهُ سَائِلٌ ، وَلاَ يَنْقُصُهُ نَائِلٌ ، وَلاَ يَنْظُرُ بِعَيْنٍ ، وَلاَ يُحَدُّ بِأَيْنٍ ، وَلاَ يُوصَفُ بِالْأَزْوَاجِ ، وَلاَ يَخْلُقُ بِعِلاَجٍ ، وَلاَ يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ ، وَلاَ يُقَاسُ بِالنَّاس . الَّذِي كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيماً ، وَأَرَاهُ مِنْ آيَاتِهِ عَظيماً ؛ بِلاَ جَوَارِحَ وَلاَ أَدَوَاتٍ ، وَلاَ نُطْقٍ وَلاَ لَهَوَاتٍ . بَلْ إِنْ كُنْتَ صَادِقاً أَيُّهَا الْمُتَكَلِّفُ لِوَصْفِ رَبِّكَ ، فَصِفْ جبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَجُنُودَ الْمَ_لاَئِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ ، فِي حُجُرَاتِ الْقُدْس مُرْجَحِنِّينَ ، مُتَوَلِّهَةً عَقُولُهُمْ أَنْ يَحُدُّوا أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ . فَإِنَّمَا يُدْرَكُ بِالصِّفَاتِ ذَوُو الْهَيْئَاتِ وَالْأَدوَاتِ ، وَمَنْ يَنْقَضِي إِذَا بَلَغَ أَمَدَ حَدِّهِ بِالْفَنَاءِ . فَ_لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ ، أَضَاءَ بِنُورِهِ كُلَّ ظَ_لاَمٍ ، وَأَظْلَمَ بِظُلْمَتِهِ كُلَّ نُورٍ .

.

ص: 616

الشّرْحُ :ليس يعني بالكائن هاهنا ما يعنيه الحكماء والمتكلّمون ، بل مراده الموجود ، أي هو الموجود قبل أن يكون الكرسيّ والعرش وغيرهما . قوله عليه السلام : « لا يدرَكُ بوهْم » ، الوهم هاهنا : الفكْرة والتوهّم . ولا يقدّر بفهم ، أي لا تستطيع الأفهام أن تقدّره وتحدّه . ولا يشغَلُه سائل كما يشغل السّؤّال مِنّا من يسألونه . ولا ينقصه العطاء ، كما ينقص العطاء خزائن الملوك . ولا يبصَر بجارحة ، ولا يحدّ بأيْن . وإن شئت قلت : إنّه تكلّم بالاصطلاح الحكْميّ . والأيْن عندهم : حصول الجسم في المكان ، وهو أحد المقولات العشر . قوله عليه السلام : ولا يوصَف بالأزْواج ، أي صفات الأزواج ؛ وهي الأصناف ، قال سبحانه : «وَأَنْبَتْنَا فِيهَآ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهيجٍ » (1) . قوله : « ولا يَخْلُق بعلاج » ، أي لا يحتاج في إيجاد المخلوقات إلى معالجة ومزاولة . قوله : « وكلّم مُوسى تكليماً » (2) ، من الألفاظ القرآنية ، والمراد هاهنا من ذكْر المصدر تأكيد الأمر وإزالة لبْسٍ عساه يصلح للسامع ؛ فيعتقد أ نّه أراد المجاز ؛ وأ نّه لم يكن كلامٌ على الحقيقة . قوله : « وأراه من آياته عظيماً » ، ليس يريد به الآيات الخارجة عن التَّكليم ؛ كانشقاق البحر ، وقلْب العصا ؛ لأ نّه يكون بإدخال ذلك بين قوله : « تكليماً » ، وقوله : « بلا جوارح ولا أدوات ، ولا نطق ولا لهوات » ، مستهجناً ، وإنما يريد أنه أراد بتكليمه إياه عظيماً من آياته ؛ وذلك أنه كان يسمع الصوت من جهاتِه الستّ ؛ ليس على حدّ سماع كلام البشر من جهة مخصوصة ؛ وله دويٌّ وصلصلة كوقع السّلاسل العظيمة على الحصا الأصمّ . فإن قلت : أتقول إنّ الكلام حلّ أجساما مختلفة من الجهات الستّ؟ قلت : لا وإنّما حلّ الشّجرة فقط ؛ وكان يُسمَع من كلّ جهة ، والدليل على حلوله في الشّجرة قوله تعالى : « فَلَمَّا أتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئ الْوَادِ الأيْمَنِ فِي البُقْعَةِ المُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أنْ يَا مُوسَى » (3) ؛ فلا يخلو إمّا أن يكونَ النداء حلّ الشّجرة ؛ أو المنادى حلَّها ، والثاني باطل ، فثبت الأوّل .

.


1- .سورة ق 7 .
2- .وهو قوله تعالى في سورة النساء 164 « وَكَلَّمَ اللّه ُ مُوسَى تَكْلِيما » .
3- .سورة القصص 30 .

ص: 617

ثم قال عليه السلام لمن يتكلّف أن يصفَ ربّه : إن كنت صادقا أنَّكَ قد وصلتَ إلى معرفة صِفَته ، فصفْ لَنَا الملائكة ؛ فإنّ معرفة ذات الملك أهونُ من معرفة ذات الأول سبحانه . وحُجُرات القدس : جمع حُجْرة . ومرجحِنِّين : مائلين إلى جهة « تحت » ، خضوعاً لجلال البارئ سبحانه ؛ ارجحنّ الحجر ، إذا مال هاوياً . متولّهة عقولهم ، أي حائرة . ثم قال : إنّما يدرَك بالصفات ؛ ويعرف كنه ما كان ذا هيئة وأداة وجارحة ، وما ينقضي ، ويفنى ، ويتطرّق إليه العدم ؛ وواجب الوجود سبحانه بخلاف ذلك . وتحت قوله : « أضاء بنوره كلّ ظلام ... » إلى آخر الفصل ، معنىً دقيق وسرٌّ خفيّ ؛ وهو أنّ كلّ رذيلة في الخلق البشريّ مع معرفته بالأدِلّة البرهانية غير مؤثّرة ولا قادحة في جلالة المقام الذي قد بلغ إليه ؛ وذلك نحو أن يكون العارف بخيلاً أو جباناً ، أو حرصياً أو نحو ذلك ؛ وكلّ فضيلةٍ في الخلق البشريّ مع الجهل به سبحانه ؛ فليست بفضيلةٍ في الحقيقة ولا معتدَّ بها ؛ لأنّ نقيصة الجهل به تكسِف تلك الأنوار ، وتمحَقُ فضلها ؛ وذلك نحو أن يكون الجاهل به سبحانه جواداً ، أو شجاعاً ، أو عفيفاً ، أو نحو ذلك .

الأصْلُ :أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللّهِ بِتَقْوَى اللّهِ الَّذِي أَلْبَسَكُمُ الرِّيَاشَ ، وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمُ الْمَعَاشَ ؛ فَلَوْ أَنَّ أَحَداً يَجِدُ إلَى الْبَقَاءِ سُلَّماً ، أَوْ لِدَفْعِ الْمَوْتِ سَبِيلاً ، لَكَانَ ذلِكَ سُلَيمانَ بنَ دَاوُودَ عليه السلام ، الَّذِي سُخِّرَ لَهُ مُلْكُ الْجِنِّ وَالاْءِنْس ، مَعَ النُّبُوَّةِ وَعَظِيمِ الزُّلْفَةِ . فَلَمَّا اسْتَوْفَى طُعْمَتَهُ ، وَاسْتَكْمَلَ مُدَّتَهُ ، رَمَتْهُ قِسِيُّ الْفَنَاءِ بِنِبَالِ الْمَوْتِ ، وَأَصْبَحَتِ الدِّيَارُ مِنْهِ خَالِيَةً ، وَالْمَسَاكِنُ مُعَطَّلَةً ، وَوَرِثَهَا قَوْمٌ آخَرُونَ . وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْقُرُونِ السَّالِفَةِ لَعِبْرَةً ! أَيْنَ الْعَمَالِقَةُ وَأَبْنَاءُ الْعَمَالِقَةِ ؟! أَيْنَ الْفَرَاعِنَةُ وَأَبْنَاءُ الْفَرَاعِنَةِ ؟! أَيْنَ أَصْحَابُ مَدَائِنِ الرَّسِّ الَّذِينَ قَتَلُوا النَّبِيِّينَ ، وَأَطْفَؤوا سُنَنَ الْمُرْسَلِينَ ، وَأَحْيَوْا سُنَنَ الْجَبَّارِينَ ؟! أَيْنَ الَّذِينَ سَارُوا بِالْجُيُوشِ ، وَهَزَمُوا بِالأل_ُوفِ ، وَعَسْكَرُوا الْعَسَاكِرَ ، وَمَدَّنُوا الْمَدَائِنَ؟!

.

ص: 618

الشّرْحُ :الرّياش : اللّباس . وأسبغ : أوسع ؛ وإنّما ضربَ المثل بسليمان عليه السلام ؛ لأ نّه كان مَلِك الإنس والجنّ ، ولم يحصل لغيره ذلك . والزُّلْفة : القرب . والطُّعْمة ، بضم الطاء : المأكَلة ؛ يقال : قد جعلت هذه الضَّيْعة طُعمة لزيد . والقِسِيّ : جمع قَوْس ، وأصلها « قووس » على « فعول » ، كضرب وضروب ؛ إلاّ أنهم قدّموا اللام ، فقالوا « قُسُوّ » على « فلوع » ، ثم قلبت الواو ياء ؛ وكسروا القاف كما كسروا عين « عصيّ » فصارت « قِسِيّ » . والعمالقة أولاد لاوذ إرم بن سام بن نوح ؛ كان الملك باليمن والحجاز وما تاخم ذلك من الأقاليم ؛ فمنهم عملاق بن لاوذ بن سام ؛ ومنهم طسم بن لاوذ أخوه . ومنهم جديس بن لاوذأخوهما . وممّن يعدّ مع العمالقة عاد وثمود . فأمّا عاد ، فهو عاد بن عويص بن إرم بن سام بن نوح ؛ كان يعبد القمر ، وكانت بلاده الأحقاف المذكورة في القرآن ؛ وهي من شِحْر عُمان إلى حَضرَموت ؛ ومن أولاده شدّاد بن عاد ؛ صاحب المدينة المذكورة . وأمّا ثمود ، فهو ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح ؛ وكانت دياره بين الشّام والحجازإلى ساحل نهر الحبشة . قوله عليه السلام : « أين الفراعنة ، وأبناء الفراعنة » ؟ جمع فِرْعون ؛ وهم ملوك مصر . قوله عليه السلام : « أين أصحاب مدائن الرسّ » ؟ قيل : إنهم أصحابُ شعيب النبي صلى الله عليه و آله وسلم ، وكانوا عَبَدَة أصنام ؛ ولهم مواشٍ وآبار يُسْقوْن منها . والرسّ : بئر عظيمة جدّا انخسفت بهم ؛ وهم حولها ، فهلكوا وخسفت بأرضهم كلّها وديارهم . وقيل : الرسّ قرية بفلْج اليمامة ، كان بها قوم من بقايا ثمود بَغَوْا ، فأُهلكوا . وقيل : قوم من العرب القديمة بين الشام والحجاز . وقيل : هم أصحاب الأُخدود ، والرسّ ، هو الأُخدود . وقيل : الرسّ أرض بأنطاكيَة .

الأصْلُ :منها :قَدْ لَبِسَ لِلْحِكْمَةِ جُنَّتَهَا ، وَأَخَذَهَا بِجَمِي_عِ أَدَبِهَا ، مِنَ الاْءِقْبَالِ عَلَيْهَا ، وَالْمَعْرِفَةِ

.

ص: 619

بهَا ، وَالتَّفَرُّغِ لَهَا ؛ فَهِيَ عِنْدَ نَفْسِهِ ضَالَّتُهُ الَّتِي يَطْلُبُهَا ، وَحَاجَتُهُ الَّتِي يَسْأَلُ عَنْهَا . فَهُوَ مُغْتَرِبٌ إِذَا اغْتَرَبَ الاْءِسْ_لاَمُ ، وَضَرَبَ بِعَسِيبِ ذَنَبِهِ ، وَأَلْصَقَ الْأَرْضَ بِجِرَانِهِ ، بَقِيَّةٌ مِنْ بَقَايَا حُجَّتِهِ ، خَلِيفَةٌ مِنْ خَ_لاَئِفِ أَنْبِيَائِهِ .

الشّرْحُ :هذا الكلام فسّره كلّ طائفة على حسب اعتقادها ، فالشِّيعة الإماميّة ؛ تزعم أنّ المراد به المهدي المنتظر عندهم ، والصوفيّة يزعمون أ نّه يعني به وليّ اللّه في الأرض ؛ وعندهم أنّ الدّنيا لا تخلُو عن الأبدال ؛ وهم أربعون ، وعن الأوتاد ، وهم سبعة ، وعن القطب وهو واحد ؛ فإذا مات القطب صار أحد السبعة قطبا عوضه ، وصار أحد الأربعين وتِدا ، عوض الوَتِد ، وصار بعض الأولياء الذين يصطفيهم اللّه تعالى أبدالاً عوض ذلك البدَل . وأصحابُنا يزعمون أن اللّه تعالى لا يخلِي الأُمّة من جماعة من المؤمنين العلماء بالعدْل والتوحيد . قالوا : وكلامُ أمير المؤمنين عليه السلام ليس يشير فيه إلى جماعة أولئك العلماء من حيث هم جماعة ؛ ولكنّه يصف حال كلِّ واحد منهم ؛ فيقول : من صفته كذا ، ومن صفته كذا . والفلاسفة يزْعمون أنّ مرادَه عليه السلام بهذا الكلام العارف ، ولهم في العرفان وصفات أربابه كلام يعرِفه مَنْ له أُنس بأقوالهم . وليس يبعد عندي أن يريد به القائم من آل محمد صلى الله عليه و آله وسلمفي آخر الوقت ، إذا خلقه اللّه تعالى وإن لم يكن الآن موجودا ، فليس في الكلام ما يدلّ على وجوده الآن ، وقد وقع اتّفاق الفِرَق من المسلمين أجمعين على أنّ الدنيا والتكليف لا ينقضي إلاّ عليه (1) .

.


1- .إنّ كلّ طائفة فسّرت كلامه عليه السلام على حسب اعتقادها . إلاّ أن الحق والمتّبع ما أيده الدليل والبرهان ، أمّا أصل وجوده ( عجل اللّه تعالى فرجه ) فثابت باتفاق فرق المسلمين لا يشذّ منهم أحد . وأمّا كونه موجودا الآن ! فأدلته تفوق الإحصاء ، ومنها قوله عليه السلام المتواتر لكميل : « اللهمّ بلى لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجّة ، إمّا ظاهرا مشهورا أو خائفا مغمورا ، لئلاّ تبطل حجج اللّه وبيّناته » ، الحكمة 147 . وأمّا قول الصوفية والمعتزلة والفلاسفة ، فأقوال باطلة لم يدل عليها دليل ، بل الدليل على بطلانه ؛ وذلك أنه أثبت لهذا ( الموصوف ) الحجة صفات لا تنطبق على ما ادّعاه هؤلاء . وذلك انا نعلم بالوجدان ، وحقائق التاريخ تؤيد أنّ هذه الأوصاف التي ذكرها الإمام عليه السلام لا تنطبق إلاّ على القائم من آل محمد عليهم السلام .

ص: 620

قوله عليه السلام : « قد لبس للحكمة جُنّتها » ، الجُنّة : ما يستتر به من السّلاح كالدِّرْع ونحوها ، ولبس جنّة الحِكْمة قمع النفس عن المشتهيات ، وقطع علائق النفس عن المحسوسات ؛ فإنّ ذلك مانع للنّفس عن أن يصيبها سهام الهوى ؛ كما تمنع الدّرع الدّارع عن أن يصيبه سهام الرِّماية . ثم عاد إلى صفة هذا الشخص ، فقال : « وأخذ بجميع أدبها من الإقبال عليها » ، أي شدّة الحرص والهمة . ثم قال : « والمعرفة بها » ، أي والمعرفة بشرَفِها ونفاستها . ثم قال : « والتفرّغ لها » ؛ لأنّ الذهن متى وجّهته نحو معلومين تخبّط وفسد ؛ وإنما يدرك الحكمة بتخلية السرّ من كلّ ما مرّ سواها . « فهيَ عند نفسه ضالّته التي يطلبها » ، هذا مثل قوله عليه السلام : « الحكْمة ضالّة المؤمن » . قوله عليه السلام : « وحاجته التي يسأل عنها » ، هو مثل قوله : « ضالّته التي يطلبها » . ثم قال : « هو مغترب إذا اغترب الإسلام » ، يقول : هذا الشخص يُخْفِي نفسَه ويحملها إذا اغترب الإسلام ، واغتراب الإسلام أن يظهر الفسق والجوْر على الصَّلاَح والعدل ، قال عليه السلام : « بدأ الإسلامُ غريبا وسيعود كما بدأ » . قال : « وضرب بعسيب ذَنبِه ، وألصق الأرض بجِرانه » ، هذا من تمام قوله : « إذا اغترب الإسلام » ، أي إذا صار الإسلام غريبا مقهورا ؛ وصار الإسلام كالبعير البارِكِ يضرب الأرض بعَسِيبه ؛ وهو أصلُ الذَّنَب ، ويلصق جِرانه _ وهو صدره _ في الأرض ؛ فلا يكون له تصرّف ولا نهوض . ثم عاد إلى صفة الشّخص المذكور ، وقال : « بقيّة من بقايا حججه ، خَلِيفة من خلائف أنبيائه » ، الضمير هاهنا يرجع إلى اللّه سبحانه وإنْ لم يجرِ ذكره ؛ للعلم به ، كما قال : «حَتّى تَوَارَتْ بِالحِجَابِ » (1) ، ويمكن أن يقال : إنّ الضمير راجع إلى مذكور وهو الإسلام ، أي من بقايا حجج الإسلام وخليفة من خلائف أنبياء الإسلام .

الأصْلُ :ثم قال عليه السلام :أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنِّي قَدْ بَثَثْتُ لَكُمُ الْمَوَاعِظَ الَّتِي وَعَظَ الْأَنْبِيَاءُ بِهَا أُمَمَهُمْ ، وَأَدَّيْتُ

.


1- .سورة ص 32 .

ص: 621

إِلَيْكُمْ مَا أَدَّتِ الْأَوصِيَاءُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ ، وَأَدَّبْتُكُمْ بِسَوْطِي فَلَمْ تَسْتَقِيمُوا ، وَحَدَوْتُكُمْ بِالزَّوَاجِرِ فَلَمْ تَسْتَوْسِقُوا . للّه أَنْتُمْ ! أَتَتَوَقَّعُونَ إِمَاماً غَيْرِي يَطَأُ بِكُمُ الطَّرِيقَ ، وَيُرْشِدُكُمُ السَّبِيلَ ؟ ! أَلاَ إِنَّهُ قَدْ أدبَرَ مِنَ الدُّنْيَا مَا كَانَ مُقْبِلاً ، وَأَقْبَلَ مِنْهَا مَا كَانَ مُدْبِراً ، وَأَزْمَعَ التَّرْحَالَ عِبَادُ اللّهِ الْأَخْيَارُ ، وَبَاعُوا قَلِيلاً مِنَ الدُّنْيَا لاَ يَبْقَى ، بِكَثِيرٍ مِنَ الاْخِرَةِ لاَ يَفْنَى . مَا ضَرَّ إِخْوَانَنَا الَّذِينَ سُفِكَتْ دِمَاؤهُمْ بِصِفِّينَ أَلاَّ يَكُونُوا الْيَوْمَ أَحْيَاءً ؟ يُسِيغُونَ الْغُصَصَ وَيَشْرَبُونَ الرَّنِقَ ! قَدْ _ وَاللّهِ _ لَقُوا اللّهَ فَوَفَّاهُمْ أُجُورَهُمْ ، وَأَحَلَّهُمْ دَارَ الْأَمْنِ بَعْدَ خَوْفِهمْ . أَيْنَ إِخْوَانِي الَّذِينَ رَكِبُوا الطَّريقَ ، وَمَضَوْا عَلَى الْحَقِّ ؟ أَيْنَ عَمَّارُ ؟ وَأَيْنَ ابْنُ التَّيِّهَانِ ؟ وَأَيْنَ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ ؟ وَأَيْنَ نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَعَاقَدُوا عَلَى الْمَنِيَّةِ ، وَأُبْرِدَ بِرُؤُوسِهِمْ إِلَى الْفَجَرَةِ! قال : ثُمّ ضرب عليه السلام بيده على لحيته الشريفة الكريمة ، فأطال البكاء ، ثمّ قال عليه السلام : أَوْهِ عَلَى إِخْوَانِي الَّذِينَ قَرَؤوا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ ، وَتَدَبَّرُوا الْفَرْضَ فَأَقَامُوهُ ! أَحْيَوُا السُّنَّةَ وَأَمَاتُوا الْبِدْعَةَ ؛ دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأَجَابُوا ، وَوَثِقُوا بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوهُ . ثمّ نادى بأعلى صوته : الْجِهَادَ الْجِهَادَ عِبَادَ اللّهِ ! أَلاَ وَإِنِّي مُعَسْكِرٌ فِي يَوْمي هذَا ؛ فَمَنْ أَرَادَ الرَّوَاحَ إِلَى اللّهِ فَلْيَخْرُجْ . قال نوْفٌ : وعقد للحسين عليه السلام في عشرة آلاف ، ولقيس بن سعدٍ ؛ في عشرة آلافٍ ، ولأبي أَيُّوب الأنصاري في عشرة آلافٍ ، ولغيرهم على أعدادٍ أُخرَ ، وهو يريد الرَّجعةَ إلى صفين ، فما دارت الجمعةُ حتى ضربه الملعون ابن ملجم لعنه اللّه ، فتراجعت العساكر ، فكنّا كأغنام فقدت راعيها ، تختطفها الذئاب من كل مكان!

.

ص: 622

الشّرْحُ :بثثتُ لكم المواعظ : فرّقتُها ونشرتُها . والأوصياء : الذين يأتمنُهم الأنبياء على الأسرار الإلهية ؛ وقد يمكن ألاّ يكونوا خلفاء بمعنى الإمرة والولاية ، فإنّ مرتبتهم أعْلَى من مراتب الخلفاء . وحدوتكم : سقتكم كما تحدَى الإبل . فلم تستوسقوا ، أي لم تجتمعوا . قوله : « يطأ بكم الطريق » ، أي يحملكم على المِنْهاج الشرعيّ ، ويسلك بكم مسلَك الحقّ ، كأنّه جعلهم ضالّين عن الطريق التي يطلبونها . وقال : أتريدون إماما غيري يوقفكم على الطريق التي تطلبونها حتى تطؤوها وتسلكوها ؟ ثم ذكر أ نّه قد أدبر من الدّنيا ما كان مقبلاً ؛ وهو الهدى والرشاد ، فإنّه كان في أيّام رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم مقبلاً ؛ ثم أدبر عند استيلاء معاوية وأتباعه ؛ وأقبل منها ما كان مدبرا ؛ وهو الضلال والفساد . ومعاوية عند أصحابنا مطعون في دينه ، منسوبٌ إلى الإلحاد ؛ قد طعن فيه صلى الله عليه و آله وسلم . قوله عليه السلام : « وأزمَع التّرحال » أي ثبت عزمُهم عليه ؛ يقال : أزمعتُ الأمرَ ؛ ولا يقال : أزمعتُ على الأمر ، هكذا يقول الكسائيّ ؛ وأجازه الخليل والفرّاء . ثم قال عليه السلام : إنّه لم يضرّ إخواننا القتلَى بصِفّين كونهم اليوم ليسوا بأحياء حياتنا المشوبة بالنّغص والغُصَص . ويقال : ماء رنْق ، بالتسكين ، أي كدر ، رنِق الماء بالكسر ؛ يرنق رنقاً فهو رَنْق ، وأرنقته ؛ أي كدّرته ، وعيش رَنِق بالكسر ، أي كَدِر . ثم أقسم إنّهم لَقُوا اللّه فوفّاهم أُجورهم ؛ وهذا يدلّ عَلَى ما يذهب إليه جمهور أصحابنا من نعيم القبر وعذابه . ثم قال عليه السلام : « أين إخوانِي » ؟ ثم عدّدهم ، فقال : « أين عمار » ؟ وهو عمّار بن ياسر بن عامر بن كنانة بن قيس العنسيّ _ بالنّون _ المذحِجيّ ؛ يكنى أبا اليقظان ، حليف بني مخزوم وتواترتِ الأخبار عَنْ رسولِ اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أ نّه قال : « تقتُلُ عمّارا الفئة الباغية » ، وهذا من إخباره بالغيب ، وأعلام نبوّته صلى الله عليه و آله وسلم ، وهو من أصح الأحاديث . وكانت صِفّين في ربيع الآخر سنة سبع وثلاثين ، ودفَنَه عليٌّ عليه السلام في ثيابه ولم يغسّله . وكانت سنّ عمّار يوم قُتل نيّفا وتسعين سنة . ثم قال عليه السلام : « وأين ابن التّيِّهان » ، هو أبو الهيثم بن التّيهان ؛ واسمه مالك ، واسم أبيه مالك أيضا ، ابن عبيد بن عمرو بن عبد الأعلم بن عامر الأنصاري ، وإنَّه حليفٌ لبني عبد الأشهل ؛ كان أحدَ النّقباء ليلة العقبة ، وشهد بدرا . قال أبو عمر : إنه أدرك صفين ، وشهدها مع علي عليه السلام ، وقال : وممن قتل بصفين عمار ، وأبو الهيثم بن التيهان ، وعبد اللّه بن بديل وجماعة

.

ص: 623

184 . من خطبة له عليه السلام في تعظيم اللّه وتمجيده ، وذكر القرآن وما احتوى عليه ، ثم بيان منزلة الإنسان في الدنيا ، والتخويف من عذاب الآخرة

من البدريين . ثم قال عليه السلام : « وأين ذو الشّهادتين » ، هو خزيمة بن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة الخطْميّ الأنصاري من بني خَطْمة ، من الأوْس . جعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم شهادته كشهادة رجلين ؛ لقصّة مشهورة ، يكنّى أبا عمارة ، شهد بدرا وما بعدها من المشاهد . ثم قال عليه السلام : « وأين نظراؤهم من إخوانهم » ، يعني الذين قتِلُوا بصِفّين معه من الصحابة ، كابن بُدَيل ، وهاشم بن عتبة ، وغيرهما ممّن ذكرناه في أخبار صِفّين . و « تعاقدوا على المنيّة » : جعلوا بينهم عقداً ، وروي « تعاهدوا » . « وأُبرِد برؤوسهم إلى الفَجَرة » : حمِلت رؤوسهم مع البريد إلى الفَسقة للبشارة بها ، والفجرة هاهنا : أُمراء عسكر الشام . قوله : « أوْهِ على إخواني » ساكنة الواو مكسورة الهاء ، كلمة شكوى وتوجُّع . قوله عليه السلام : « ووثِقُوا بالقائد فاتّبعوه » ، يعني نفسه ، أي وثقوا بأنّي على الحقّ ، وتيقّنوا ذلك ، فاتّبعوني في حربَ مَنْ حاربت ، وسِلْم مَنْ سالمت . قوله : « الجهادَ الجهادَ » ، منصوب بفعل مقدّر . وإنّي معسكر في يومي ، أي خارج بالعَسْكر إلى منزل يكونُ لهم معسكرا . قوله (1) « تختطفها الذئاب » ، الاختطاف : أخذُك الشيء بسرعة ، ويروى « تتخطّفها » ، قال تعالى : « تَخَافُونَ أن يَتَخطَّفَكُمُ النَّاسُ » (2) . ويقال : إن هذه الخطبة آخرُ خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام قائما .

184الأصْلُ :من خطبة له عليه السلامالْحَمْدُ للّه الْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ ، الْخَالِقِ مِنْ غَيْرِ مَنْصَبَةٍ . خَلَقَ الْخَ_لاَئِقَ بِقُدْرَتِهِ ، وَاسْتَعْبَدَ الْأَرْبَابَ بِعِزَّتِهِ ، وَسَادَ الْعُظَمَاءَ بِجُودِهِ ؛ وَهُوَ الَّذِي أَسْكَنَ الدُّنْيَا

.


1- .هو قول الراوي نوف البكالي .
2- .سورة الأنفال 26 .

ص: 624

خَلْقَهُ ، وَبَعَثَ إِلَى الْجِنِّ وَالاْءِنْس رُسُلَهُ ، لِيَكْشِفُوا لَهُمْ عَنْ غِطَائِهَا ، وَلِيُحَذِّرُوهُمْ مِنْ ضَرَّائِهَا ، وَلِيَضْرِبُوا لَهُمْ أَمْثَالَهَا ، وَلِيُبَصِّرُوهُمْ عُيُوبَهَا ، وَلِيَهْجُمُوا عَلَيْهِمْ بِمُعْتَبَرٍ مِنْ تَصَرُّفِ مَصَاحِّهَا وَأَسْقَامِهَا ، وَحَ_لاَلِهَا وَحَرَامِهَا ، وَمَا أَعَدَّ اللّهُ لِلْمُطِيعِينَ مِنْهُمْ وَالْعُصَاةِ مِنْ جَنَّةٍ وَنَارٍ ، وَكَرَامَةٍ وَهَوَانٍ . أَحْمَدُهُ إِلَى نَفْسِهِ كَمَا اسْتَحْمَدَ إِلَى خَلْقِهِ ، وَجَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ، وَلِكُلِّ قَدْرٍ أَجَلاً ، وَلِكُلِّ أَجَلٍ كِتَاباً .

الشّرْحُ :المنصَبة ، بالفتح والنَّصَب : التعب ، والماضي نصِب بالكسرة . واستعبدت فلانا : اتّخذته عبدا . والضرّاء : الشدّة . ومعتبر : مصدر بمعنى الاعتبار . ومصاحّها : جمع مصحّة « مفعلة » من الصحّة ، كمضارّ جمع مضرّة . وصفَه سبحانه بأنّه معروف بالأدلّة ؛ لا من طريق الرؤية كما تعرف المرئيّات ، وبأنّه يخلق الأشياء ولا يتعب كما يتعب الواحد منّا فيما يزاوله ويباشر من أفعاله . خَلق الخلائق بقدرته على خَلْقِهم ؛ لا بحركة واعتماد . « وأسبغَ النِّعمة عليهم » : أوسَعها . واستعبد الّذين يُدْعَوْن في الدّنيا أربابا بعزِّه وقهرِه . وساد كلّ عظيم بسَعة جوده ؛ وأسكن الدنيا خلقه ، كما ورد في الكتاب العزيز : « إنّي جاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً » (1) . وبعثَ رسلَه إلى الجنّ والإنس ؛ كما ورد في الكتاب العزيز : « يَا مَعْشَرَ الجِنِّ والإنْسِ أَلَمْ يَأتِكُمْ رُسُلٌ مِنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَينْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذَا » (2) . قال : « ليكشفوا لهم عن غطاء الدنيا » ، أي عن عوراتها وعيوبها المستورة ؛ وليخوّفهم من مضرّتها وغرورها المفضِي إلى عذاب الأبد . وليضربوا لهم أمثالها ، كالأمثالِ الواردة في الكتاب العزيز ، نحو قوله تعالى : « إنَّما مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنيَا كَمَاءٍ أنْزَلنَاهُ مِنَ السَّمَاء فاختَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ ...» الآية (3) . قوله : « وليهجُموا عليهم » ؛ هجمتُ على الرّجل : دخلت عليه بَغْتَةً ؛ يقول : ليدخلوا

.


1- .سورة البقرة 30 .
2- .سورة الأنعام 130 .
3- .سورة يونس 24 .

ص: 625

عليهم بما في تصارِيف الدنيا ؛ من الصحّة والسّقم ، وما أحلّ وما حرّم على طريق الابتلاء . ثم قال : « وما أعدّ اللّه سبحانه للمطيعين منهم والعصاة » ، يجوز أن تكون « ما » معطوفة على « عيوبها » ، فيكون موضعها نصبا ، ويجوز أن يكون موضعها جرّا ، ويكون من تتمّة أقسام ما يُعتَبَر به ، والأوّل أحسن . ثم قال عليه السلام : إني أحمد اللّه كما استحمد إلى خلقه، استحمد إليهم فعلَ ما يوجب عليهم حمده . ثم قال : إنّه سبحانه جعل لكل شيء من أفعاله قَدْرا ، أي فعله مقدَّرا محدود الغرض ، اقتضى ذلك القدر وتلك الكيفية ، كما قال سبحانه : « وَكُلُّ شَيءٍ عِندَهُ بمقْدَارٍ» (1) . وجعل لكل شيء مقدّر وقتا ينتهي إليه وينقطع عنده ؛ وهو الأجَل . ولكلّ أجل كتاباً ، أي رُقوما تعرفها الملائكة ، فتعلم انقضاء عمر مَنْ ينقضي عمره ، وعَدَم ما ألطافهُم في معرفة عدمه .

الأصْلُ :منها في ذكر القرآن :فَالْقُرْآنُ آمِرٌ زَاجِرٌ ، وَصَامِتٌ نَاطِقٌ . حُجَّةُ اللّهِ عَلَى خَلْقِهِ . أَخَذَ عَلَيْهِ مِيثَاقَهُمْ ، وَارْتَهَنَ عَلَيهِ أَنْفُسَهُمْ ؛ أَتَمَّ نُورَهُ ، وَأَكْمَلَ بِهِ دِينَهُ ، وَقَبَضَ نَبِيَّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ فَرَغَ إِلَى الْخَلْقِ مِنْ أَحْكَامِ الْهُدَى بِهِ . فَعَظِّمُوا مِنْهُ سُبْحَانَهُ مَا عَظَّمَ مِنْ نَفْسِهِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يُخْفِ عَنْكُمْ شَيْئاً مِنْ دِينِهِ ، وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئاً رَضِيَهُ أَوْ كَرِهَهُ إِلاَّ وَجَعَلَ لَهُ عَلَماً بَادِياً ، وَآيَةً مُحْكَمَةً ، تَزْجُرُ عَنْهُ ، أَوْ تَدْعُو إِلَيْهِ ، فَرِضَاهُ فِيَما بَقِيَ وَاحِدٌ ، وَسَخَطُهُ فِيَما بَقِيَ وَاحِدٌ . وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرْضَى عَنْكُمْ بِشَيءٍ سَخِطَهُ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُم ، وَلَنْ يَسْخَطَ عَلَيْكُمْ بِشَيْءٍ رَضِيَهُ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ . وَإِنَّمَا تَسِيرُونَ فِي أَثَرٍ بَيِّنٍ ، وَتَتَكَلَّمُونَ بِرَجْعِ قَوْلٍ قَدْ قَالَهُ الرِّجَالُ مِنْ قَبْلِكُمْ . قَدْ كَفَاكُمْ مَؤُونَةَ دُنْيَاكُمْ ، وَحَثَّكُمْ عَلَى الشُّكْرِ ، وَافْتَرَضَ مِنْ أَلْسِنَتِكُمُ الذِّكْرَ . وَأَوْصَاكُمْ بِالتَّقْوَى ، وَجَعَلَهَا مُنْتَهَى رِضَاهُ وَحَاجَتَهُ مِنْ خَلْقِهِ . فَاتَّقُوا اللّهَ الَّذِي أَنْتُمْ

.


1- .سورة الرعد 8 .

ص: 626

بِعَيْنِهِ ، وَنَوَاصِيكُمْ بِيَدِهِ ، وَتَقَلُّبُكُمْ فِي قَبْضَتِهِ .إِنْ أَسْرَرْتُمْ عَلِمَهُ ، وَإِنْ أَعْلَنْتُمْ كَتَبَهُ؛ قَدْ وَكَّلَ بِذلِكَ حَفَظَةً كِرَاماً ، لاَ يُسْقِطُونَ حَقّاً ، وَلاَ يُثْبِتُونَ بَاطِلاً . وَاعْلَمُوا أن_ّهُ مَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً مِنَ الْفِتَنِ ، وَنُوراً مِنَ الظُّلَمِ ، وَيُخَلِّدْهُ فِيَما اشْتَهَتْ نَفْسُهُ ، وَيُنْزِلْهُ مَنْزِلَ الْكَرَامَةِ عِنْدَهُ ، فِي دَارٍ اصْطَنَعَهَا لِنَفْسِهِ ؛ ظِلُّهَا عَرْشُهُ ، وَنُورُهَا بَهْجَتُهُ ، وَزُوَّارُهَا مَلآئِكَتُهُ ، وَرُفَقَاؤهَا رُسُلُهُ . فَبَادِرُوا الْمَعَادَ ، وَسَابِقُوا الآجَالَ ، فَإِنَّ النَّاسَ يُوشِكُ أَنْ يَنْقَطِعَ بِهِمُ الْأَمَلُ ، وَيَرْهَقَهُمُ الْأَجَلُ ، وَيُسَدَّ عَنْهُمْ بَابُ التَّوْبَةِ . فَقَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي مِثْلِ مَا سَأَلَ إِلَيْهِ الرَّجْعَةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، وَأَنْتُمْ بَنُو سَبِيلٍ ، عَلَى سَفَرٍ مِنْ دَارٍ لَيْسَتْ بِدَارِكُمْ ، وَقَدْ أُوذِنْتُمْ مِنْهَا بِالاِرْتِحَالِ ، وَأُمِرْتُمْ فِيهَا بِالزَّادِ .

الشّرْحُ :جعل القرآن آمرا وزاجراً ، لمّا كان خالقه _ وهو اللّه سبحانه _ آمرا زاجراً به ، فأسنَد الأمر والزجْر إليه ؛ كما تقول : سيف قاتل ، وإنما القاتل الضارب به ، وجعله صامتاً ناطقاً ؛ لأ نّه _ من حيث هو حروف وأصوات _ صامت ، إذ كان العرَض يستحيل أن يكون ناطقاً ؛ لأنّ النطق حركة الأداة بالكلام ، والكلام يستحيل أن يكون ذا أداة ينطَق بالكلام بها ؛ وهو من حيث يتضمّن الإخبار والأمر والنهي والنداء وغير ذلك من أقسام الكلام ، كالناطق ؛ لأنّ الفهم يقع عنده ، وهذا من باب المجاز كما تقول : هذه الربوع الناطقة ، وأخبرتني الديار بعد رحيلهم بكذا . ثم وصفه بأنّه حجّة اللّه على خلْقه ؛ لأ نّه المعجزة الأصليّة . أخذ سبحانه على الخلائق ميثَاقَه ، وارتهن عليه أنفسهم ، لَمّا كانَ سبحانه قد قرّر في عقول المكلّفين أدلّة التوحيد والعدل ، ومن جملة مسائل العدْل النبوّة ، ويثبت نبوّة محمد صلى الله عليه و آله وسلمعَقْلاً ، كان سبحانه بذلك كالآخذ ميثاقَ المكلّفين بتصديق دعوته ، وقبول القرآن الّذي جاء ، وجعل به نفسهم رَهْنا على الوفاء بذلك ، فمن خالف خَسِرَ نفسَه ، وهلَك هلاك الأبَد . هذا تفسير المحقّقين ، ومن الناس منْ يقول : المراد بذلك قصّة الذريّة قبل خلق آدم عليه السلام ، كما ورد في الأخبار ، وكما فسّر قوم عليه الآية .

.

ص: 627

ثم ذكر عليه السلام أنّ اللّه تعالى قَبَض رسوله صلى الله عليه و آله وسلم ؛ وقد فَرَغ إلى الخلْق بالقرآن من الإكمال والإتمام ، كقوله تعالى : « اليَوْمَ أَكْمَلتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي » (1) ، وإذا كان قد أكمله لم يبق فيه نقص ينتظر إتمامه . قال : فعظّموا من اللّه ما عظّم من نفسه ؛ لأ نّه سبحانه وصفَ نفسه بالعظمة والجلال في أكثر القرآن ؛ فالواجب علينا أن نعظّمه على حَسَبِ ما عظّم نفسه سبحانه . ثم علّل وجوبَ تعظيمِه ، وحَسَّنَ أمرَه لنا بتعظيمه سبحانه بكونه لم يُخْفِ عَنّا شيئا من أمر ديننا ، وذلك لأنّ الشرعيّات مصالح المكلّفين ، وإذا فعل الحكيم سبحانه بنا ما فيه صلاحُنا ، فقد أحسَنَ إلينا ، ومن جملة صلاحِنا تعريفُنا من الشرعيّات ما فِعله لطفٌ ومفضٍ بنا إلى الثواب ، وهذا أبلغ ما يكون من الإحسان ، والمحسِنُ يجب تعظيمه وشكره . قال : لم يترك شيئا إلاّ وجعل له نصّا ظاهرا يدلّ عليه ، أو عَلَما يستدَلّ به عليه ، أي إمّا منصوص عليه صريحاً ، أو يمكن أن يستنبَط حكمه من القرآن إمّا بذكره أو بتركه فيبقى على البراءة الأصليّة ، وحكم العقل . قوله : « فرضاه فيما بقيَ واحد » ، معناه أنّ ما لم ينصّ عليه صريحا ، بل هو في محلّ النّظر ، ليس يجوز للعلماء أن يجتهدوا فيه ، فيحلّه بعضُهم ، ويحرّمه بعضهم ؛ بل رضا اللّه سبحانه أمرٌ واحد ، وكذلك سَخَطه . قوله : « واعلموا أنه ليس يرضى عنكم ... » ، الكلام إلى منتهاه ، معناه أ نّه ليس يرضى عنكم بالاختلاف في الفتاوَى والأحكام ، كما اختلف الأُمم من قبلكم ، فسَخِط اختلافَهم قال سبحانه : « إنَّ الَّذِينَ فَرَّقروا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيءٍ» (2) . وكذلك ليس يسخَطُ عليكم بالاتفاق والاجتماع الَّذي رضيَه ممّن كان قبلكم من القرون . ويجوز أن يفسَّر هذا الكلام بأنّه لا يرضى عنكم بما سَخِطه على الّذِين من قبلكم من الاعتقادات الفاسدة في التوحيد والعدل ، ولا يسخط عليكم بما تعتقدونه من الاعتقادات الصحيحة التي رضيَها مِمّن كان قبلكم في التّوحيد والعدل ، فيكون الكلام مصروفا إلى الأُصول لا إلى الفروع . قال : « وإنما تسيرون في أثر بَيّن » ، أي أنّ الأدِلّة واضحة ، وليس مراده الأمر بالتقليد ،

.


1- .سورة المائدة 3 .
2- .سورة الأنعام 159 .

ص: 628

وكذلك قوله « وتَتكلّمون برجع قول قد قاله الرجال من قبلكم » ، يعنى كلمةَ التوحيد « لا إله إلاّ اللّه » ، قد قالها الموحّدون من قبل هذه الملّة ، لا تقليدا ، بل بالنَّظر والدليل ، فقولوها أنتم كذلك . ثم ذكر أ نّه سبحانه قد كفى الخلق مؤونة دنياهم . قوله : « وافترض من ألسنتكم الذِّكْر » ، افترض عليكم أنْ تذكُروه وتشكروه بألسنتكم ، و « من » متعلَّقه بمحذوف دلّ عليه المصدر المتأخّر ؛ تقديره : « وافترض علكيم الذِّكْر من ألسنتكم الذكر » . ثم ذكر أنّ التقوى المفترَضة هي رضَا اللّه وحاجته من خَلْقه ، لفظة « حاجته » مجاز ؛ لأنّ اللّه تعالى غنيٌّ غير محتاج ؛ ولكنه لما بالغ في الحثّ والحضّ عليها ، وتوعّد على تركها جعله كالمحتاج إلى الشيء ، ووجْهُ المشاركة أنَّ المحتاج يحثّ ويحضّ على حاجته ، وكذلك الآمر المكلّف إذا أكّد الأمر . قوله : « أنتم بعينه » ، أي يعلم أحوالكم ، ونواصيكم بيده ؛ الناصيَة : مقدّم شعر الرأس ، أي هو قادر عليكم قاهرٌ لكم ، متمكّن من التصرّف فيكم ، كالإنسان القابض على ناصية غيره . وتقلّبكم في قبضته ، أي تصرّفكم تحت حكمه ، لو شاءَ أن يمنعَكم منعكم ؛ فهو كالشيء في قَبْضَة الإنسان ؛ إن شاء استدام القبض عليه ، وإنْ شاء ترَكه . ثم قال : إن أسررتُم أمرا علمه ، وأن أظهرتموه كَتَبَه ، ليس على أنّ الكِتَابة غيرُ العلم ، بل هما شيء واحد ؛ ولكنّ اللفظ مختَلِف . ثم ذكر أنّ الملائكة موكّلَة بالمكلّف ؛ وهذا هو نصّ الكتاب العزيز ؛ وقد تقدّم القول في ذلك . ثم انتقل إلى ذكْر الجنَّة ؛ والكلام يدلّ على أنّها في السماء ، وأنّ العرش فوقها . ومعنى قوله : « اصطنعها لنفسه » إعظامُها وإجلالُها ، كما قال لموسى : « وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسي» (1) ؛ ولأ نّه لما تعارفَ النّاس في تعظيم ما يصنعونه ، أن يقولَ الواحدُ منهم لصاحبه : قد وهبتك هذه الدّار التي اصطنعتُها لنفسي ، أي أحكمتها . قوله : « ونورها بهجتهُ » ، هذا أيضا مستعار ، كأنّه لما كان إشراقُ نورها عظيماً جدّا نسبه إلى بهجة البارئ ، وليس هناك بهجة على الحقيقة ؛ لأنّ البهجة حسن الخلقة ؛ قال تعالى : «وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ » (2) ، أي من كلّ صنف حسن . قوله : « وَزُوَّارُها ملائكتُه » قد ورد في هذا من الأخبار كثير جدّا ، ورفقاؤها :

.


1- .سورة طه 41 .
2- .سورة ق 7 .

ص: 629

رسلُه ، من قوله تعالى : «وحَسُنَ أولَئِكَ رَفِيقا » (1) . ويوشك ، بكسر الشين ، فعلٌ مستقبَل ، ماضيه « أوشك » ، أي أسرع . ورهِقَه الأمر بالكسر : فاجأه . ويُسَدّ عنهم باب التوبة ؛ لأ نّه لا تقبل عند نزول الموت بالإنسان من حيث كان يفعلها خوفاً فقط ؛ لا لقبح القبيح ، قال تعالى : « وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعمَلُونَ السيِّئاتِ حَتى إذَا حَضَرَ أحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إنِّي تُبْتُ الآنَ » (2) . وإنما قال : في مثل ما سأل إليه الرجعة مَنْ كان قبلكم ، كقوله سبحانه : «حَتَّى إذَا جَاءَ أحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجعُونِ * لَعَلِّي أعْمَلُ صالحا فِيما تَرَكْتُ كَلاّ إنّها كَلِمَةٌ هُوَ قَائلُهَا وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إلَى يومِ يُبْعَثُونَ » (3) . وبنو سبيل : أرباب طريق مسافرون . وأوذِنَ فلان بكذا : أُعْلِم . وآذنته : أعلمته .

الأصْلُ :وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ لِهذَا الْجِلْدِ الرَّقِيقِ صَبْرٌ عَلَى النَّارِ ، فَارْحَمُوا نُفُوسَكُمْ ، فَإِنَّكُمْ قَدْ جَرَّبْتُمُوهَا فِي مَصَائِبِ الدُّنْيَا . أَفَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ تُصِيبُهُ ، وَالْعَثْرَةِ تُدْمِيهِ ، وَالرَّمْضَاءِ تُحْرِقُهُ ؟ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بَيْنَ طَابَقَيْنِ مِنْ نَارٍ ، ضَجِيعَ حَجَرٍ ، وَقَرِينَ شَيْطَانٍ ؟ ! أَعَلِمْتُمْ أَنَّ مَالِكاً إِذَا غَضِبَ عَلَى النَّارِ حَطَمَ بَعْضُهَا بَعْضَاً لِغَضَبِهِ ، وَإِذَا زَجَرَهَا تَوَثَّبَتْ بَيْنَ أَبْوَابِهَا جَزَعاً مِنْ زَجْرَتِهِ ؟ ! أَيُّهَا الْيَفَنُ الْكَبِيرُ ، الَّذِي قَدْ لَهَزَهُ الْقَتِيرُ ، كَيْفَ أَنْتَ إِذَا الْتَحَمَتْ أَطْوَاقُ النَّارِ بِعِظَامِ الْأَعْنَاقِ ، وَنَشِبَتِ الجَوَامِعُ حَتَّى أَكَلَتْ لُحُومَ السَّوَاعِدِ . فاللّهَ اللّهَ مَعْشَرَ الْعِبَادِ ! وَأَنْتُمْ سَالِمُونَ فِي الصِّحَّةِ قَبْلَ السُّقْمِ ، وَفِي الْفُسْحَةِ قَبْلَ الضِّيقِ . فَاسْعَوْا فِي فَكَاكِ رِقَابِكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُغْلَقَ رَهَائِنُهَا . أَسْهِرُوا عُيُونَكُمْ ، وَأَضْمِرُوا بُطُونَكُمْ ، وَاسْتَعْمِلُوا

.


1- .سورة النساء 69 .
2- .سورة النساء 18 .
3- .سورة المؤمنين 99 ، 100 .

ص: 630

أَقْدَامَكُمْ ، وَأَنْفِقُوا أَمْوَالَكُمْ ، وَخُذُوا مِنْ أَجْسَادِكُمْ فَجُودُوا بِهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ، وَلاَ تَبْخَلُوا بِهَا عَنْهَا ، فَقَدْ قَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ : « إِنْ تَنْصُرُوا اللّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ » (1) وَقَالَ تَعَالَى : « مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ » (2) . فَلَمْ يَسْتَنْصِرْكُمْ مِنْ ذُلٍّ ، وَلَمْ يَسْتَقْرِضْكُمْ مِنْ قُلٍّ ؛ اسْتَنْصَرَكُمْ وَلَهُ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . وَاسْتَقْرَضَكُمْ ، وَلَهُ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض ، وَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ . وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً . فَبَادِرُوا بِأَعْمَالِكُمْ تَكُونُوا مَعَ جِيرَانِ اللّهِ فِي دَارِهِ . رَافَقَ بِهمْ رُسُلَهُ ، وَأَزَارَهُمْ مَ_لاَئِكَتَهُ ، وَأَكرَمَ أَسْمَاعَهُمْ أَنْ تَسْمَعَ حَسِيسَ نَارٍ أَبَداً ، وَصَانَ أَجْسَادَهُمْ أَنْ تَلْقَى لُغُوباً وَنَصَباً : « ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ، وَ اللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ » (3) . أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ ، وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى نَفْسِي وَأَنْفُسِكُمْ ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ!

الشّرْحُ :الرّمضاء : الأرض الشديدة الحرارة ، والرَّمَض ، بالتحريك : شدّة وقع الشمس على الرّمل وغيره ، وقد رَمِضَ يومُنا بالكسر ، يرمِض رَمَضا ؛ اشتدّ حَرُّه ، وأرض رَمضِةُ الحجارة ، ورمَضِتْ قدمُه من الرَّمْضاء : احترقت . والطابَق ، بالفتح : الآجرّة الكبيرة ؛ وهو فارسيّ معرب . وضجيج حَجَر : يومئ فيه إلى قوله تعالى : « وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ » (4) ، قيل : إنها حجارة الكبريت . وقرين شيطان : يومئ فيه إلى قوله تعالى : « قَالَ قَرِينُهُ ربَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ » (5) . وحَطَم بعضُها بعضا : كسره أو أكله ، والحُطَمة من أسماء النّار ؛ لأنّها تحطِم ما تَلْقَى ، ومنه

.


1- .سورة محمّد 7 .
2- .سورة البقرة 245 .
3- .سورة الحديد 21 .
4- .سورة البقرة 24 .
5- .سورة ق 27 .

ص: 631

185 . من كلام له عليه السلام في ذم البرج بن مسهر الطائي

سُمِّيَ الرَّجلُ الكثير الأكل : حُطَمة . واليفَن : الشيخ الكبير . ولهزه : خالطه ، ويقال له حينئذٍ : مَلْهوز ، ثم أشمط ، ثمّ أشيب . ولهزتُ القوم : خالطتهم ودخلت بينهم . والقتير : الشّيْب ؛ وأصله رؤوس المسامير في الدُّرُوع تسمَّى قتيراً . والتحمت أطواق النار بالعظام : التفّتْ عليها ، وانضمّت إليها ، والتصقت بها . والجوامع : جمع جامعة ، وهي الغلّ ؛ لأنها تجمع اليدين إلى العنق . ونَشِبت : علقَتْ . والسواعد : جمع ساعد ، وهو الذراع . و « في » من قوله : « في الصحة قبل السُّقْمِ » ، متعلقة بالمحذوف الناصب للّه ، وهو اتّقوا ، أي اتقوه سبحانه في زمان صحّتكم ، قبل أن ينزِل بكم السَّقَم ، وفي فسحة أعماركم قبل أن تبدَّل بالضِّيق . وفَكاك الرّقاب : بفتح الفاء : عتْقها قبل أن تغلَقَ رهائنها ، يقال غَلِقَ الرّهن ، بالكسر ؛ إذا استحقّه المرتهن بألاّ يفُكّه الراهن في الوقت المشروط ، وكان ذلك من شرع الجاهليّة ، فنهى عنه النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ، وقال : لا يغلَق الرهن . وخذوا من أجسادكم ، أي أتعبُوها بالعبادة حتى تَنْحَل . والقُلّ : القِلّة . والذِّل : الذِّلّة . وحسيس النّار : صوتها . واللّغوب : النَّصَب .

185الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام قاله للبُرج بن مُسْهِر الطائيّ وقد قال له بحيث يسمعه : «لاحكم إلاّ للّه» ، وكان من الخوارج :اسْكُتْ قبَّحَكَ اللّهُ يَا أَثْرَمُ ! فَوَاللّهِ لَقَدْ ظَهَرَ الْحَقُّ فَكُنْتَ فِيهِ ضَئِيلاً شَخْصُكَ ، خَفِيّاً صَوْتُكَ؛ حَتَّى إِذَا نَعَرَ الْبَاطِلُ نَجَمْتَ نُجُومَ قَرْنِ الْمَاعِزِ .

الشّرْحُ :البرج بن مُسْهِر _ بضم الميم وكسر الهاء _ ابن الجُلاس بن وهب بن قيس ، شاعر مشهور من شعراء الخوارج ، نادى بشعارهم بحيث يسمعه أمير المؤمنين عليه السلام ، فزجره .

.

ص: 632

186 . من كلام له عليه السلام في وصف المتقين

وقَبَحك اللّه ؛ لفظة معناها كَسَرك ، يقال : قَبحْتُ الجوْزة ، أي كسرتها ، وقيل : قَبَحه : نحّاه عن الخير . وكان البرجُ ساقطَ الثنيّة ، فأهانه بأن دعاه به ، كما يُهان الأعور بأن يقال له : يا أعور . والضئيل : الدقيق الخفيّ ، ضَؤل الرجل ، بالضمّ ضآلة : نَحُفَ ، وضَؤُل رأيه : صَغُر ، ورجل متضائل ، أي شَخْت ، وكذلك : « ضُؤَلَة » . ونَعر الباطل : صاح ، والمراد أهلُ الباطل ، ونَعَر فلان في الفتنة : نهض فيها . ونجَم : طلع ، أي طلع بلا شرف ولا شجاعةٍ ولا قدم ، بل على غفلة ، كما ينبت قرن الماعز . وهذا من باب البديع ؛ وهو أنْ يشبّه الأمر يراد إهانته بالمهين ، ويشبّه الأمر يراد إعظامه بالعظيم ، ولو كان قد تكلّم في شأن ناجمٍ يريد تعظيمه ، لقال : نجم نجوم الكوكب من تحت الغَمام ، نجومَ نَوْر الربيع من الأكمام ، ونحو ذلك .

186الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلام [ يصف فيها المتّقين ] روي أن صاحباً لأمير المؤمنين عليه السلام يقال له همام كان رجلاً عابداً ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، صف لي المتقين حتى كأني أنظر إليهم . فتثاقل عليه السلام عن جوابه ثم قال : يا همام ، اتق اللّهِ وأحسن : ف_ « انَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اْتَّقَوا وَالّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ » (1) . فلم يقنع همام بهذا القول حتى عزم عليه ، فحمد اللّهَ وأثنى عليه وصلّى على النبي صلى الله عليه و آله وسلم . ثم قال عليه السلام :ومن خطبة له عليه السلام [ يصف فيها المتّقين ] روي أن صاحباً لأمير المؤمنين عليه السلام يقال له همام كان رجلاً عابداً ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، صف لي المتقين حتى كأني أنظر إليهم . فتثاقل عليه السلام عن جوابه ثم قال : يا همام ، اتق اللّهِ وأحسن : ف_ « انَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اْتَّقَوا وَالّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ » 2 . فلم يقنع همام بهذا القول حتى عزم عليه ، فحمد اللّهَ وأثنى عليه وصلّى على النبي صلى الله عليه و آله وسلم . ثم قال عليه السلام : أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعالَى ، خَلَقَ الْخَلْقَ - حَيْثُ خَلَقَهُمْ - غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لاَ تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ ، وَلاَ تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ . فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ ، وَوَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَوَاضِعَهُمْ . فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ : مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ ، وَمَلْبَسُهُمُ الاِْقْتِصَادُ ،

.


1- .سورة النحل 128 .

ص: 633

وَمَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ . غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ، وَوَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ . نُزِّلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلاَءِ كَالَّتِي نُزِّلَتْ فِي الرَّخَاءِ . وَلَوْلاَ الْأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللّهُ لَهُمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ ، شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ ، وَخَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ . عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ ، فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا ، فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ ، وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا ، فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ . قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ ، وَشُرُورُهُمْ مَأمُونَةٌ ، وَأَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ ، وَحَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ ، وَأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ . صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً . تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ ، يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ . أَرَادَتْهُمُ الْدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا ، وَأَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا . أَمَّا اللَّيْلُ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ ، تَالِينَ لِأَجْزَاءِالْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلاً . يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ ، وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ . فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً ، وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً ، وَظَنُّوا أَنَّهَا نَصْبُ أَعْيُنِهِمْ . وَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ ، وَظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ ، فَهُمْ حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ ، مُفْتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِمْ وَأَكُفِّهِمْ وَرُكَبِهِمْ ، وَأَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ ، يَطْلُبُونَ إِلَى اللّهِ تَعَالَى فِي فَكَاكَ رِقَابِهِمْ . وَأَمَّا النَّهَارُ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ ، أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ . قَدْ بَرَاهُمْ الْخَوْفُ بَرْيَ الْقِدَاحِ يَنْظُرُ إِلَيْهمُ الْنَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى ، وَمَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَض ؛ وَيَقُولُ : لَقَدْ خُولِطُوا ! وَلَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ ! لاَ يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ ، وَلاَ يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ . فَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ ، وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ ، إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ ، فَيَقُولُ : أن_َا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي ، وَرَبِّي أَعْلَمُ بِي مِنِّي بِنَفْسي! اللَّهُمَّ لاَ تُؤاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ ، وَاجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ ، وَاغْفِرْ لِي مَا لاَ يَعْلَمُونَ!

.

ص: 634

الشّرْحُ :همّام ، المذكور في هذه الخطبة هو همّام بن شُريح بن يَزِيد بن مرّة بن عمرو . وكان همّام هذا من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام وأوليائه ، وكان ناسكا عابداً ، قال له : يا أميرَ المؤمنين ، صِفْ لي المتّقين حتى أصيرَ بوصفك إيّاهم ، كالنّاظر إليهم . فتثاقل عن جوابه ، أي أبطأ . « فعزم عليه » ، أي أقسم عليه ، وتقول لمن يكرّر عليكَ الطّلب والسّؤال : قد عزم عليّ ، أي أصرّ وقَطع ، وكذلك تقول في الأمر تُريد فعلَه وتَقْطَع عليه : عزمت عَزْما وعَزَمانا وعَزِيمة وعزيما . فإن قلت : كيف جَازَ له عليه السلام أن يتثاقَل عن جواب المسترشِد؟ قلت : يجوز أن يكون تَثَاقل عن جوابه ؛ لأ نّه علم أن المصلحة في تأخير الجواب . فإن قلت : فما معنى إجابته له أولاً بقوله : يا همّام ، اتّقِ اللّه وأحسِنْ فَ_ « إنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ » ؟ وأي جواب في هذا عن سؤال همام ؟ قلت : كأنّه لم ير في بادئ الحال شرح صفات المتّقين على التفصيل ، فقال لهمام : ماهيّة التقوى معلومة في الجملة ، فاتّق اللّه وأحسن ؛ فإنّ اللّه قد وَعَد في كتابه أن يكون وليّا وناصراً لأهل التقوى والإحسان 1 . فلما أبى همّام إلاّ الخوض فيما سأله على وجه التَّفْصيل ، قال له : إنّ اللّه تعالى خَلَق الخلق حين خلقهم ، ويروى : « حيث خلقهم » وهو غَنِيّ عن طاعتهم ؛ لأ نّه ليس بجسم فيستضرّ بأمر أو ينتفع به . وقَسَم بين الخلق معايشهم ، كما قال سبحانه : « نَحْنُ قَسَمنَا بَيْنهُمْ مَعِيشَتهُمْ فِي الحَياةِ الدُّنْيَا » (1) ، فكأنّه عليه السلام أخذ الألفاظ ، فألغاها وأتى بمعناها . فلما فرغ من هذه المقدّمة شَرَع في ذكر صفات المتقين ، فقال : إنّهم أهلُ الفضائل .

.


1- . . وفي قوله : « وضعهم مواضعهم » معنى قوله : « وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضا سُخْرِيّاً » . سورة الزخرف 32 .

ص: 635

ثم بَيّن ما هذه الفضائل ، فقال : « منطقهم الصواب » (1) . قوله عليه السلام : « وملبسهم الاقتصاد » ، أي ليس بالثمين جِدّا ، ولا بالحقير جدّا ، كالخِرَق التي تؤخَذ من عَلَى المزابل ؛ ولكنّه أمرٌ بين أمرين ؛ وكان عليه السلام يلبس الكَرابيسَ ، وهو الخام الغليظ . « ومشْيهُم التّواضع » ، تقديره : وصِفةُ مشيهم التواضع ، فحذف المضاف ، وهذا مأخوذ من قوله تعالى : « واقْصِدْ فِي مَشْيِكَ واغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ » (2) . وقوله : « غَضُّوا أبصارهم » ، أي خَفَضُوها وغَمَضُوها ، وغضضت طرفي عن كذا : احتملت مكروهه . وقوله : « وقفوا أسماعهم على العِلم النافع لهم » ، أي لم يشغَلوا سمعهم بشيء غير العلوم النافعة ، أي لم يشتغلوا بسماع شِعْرٍ ولا غناء ولا أحاديث أهل الدنيا . « نزلت أنفُسهم منهم في البَلاَء ؛ كالَّذي نزلت في الرخاء » ، يعني أنّهم قد طابوا نفساً في البلاء والشدَّة كطيب أنفسهم بأحوالهم في الرّخاء والنعمة ؛ وذلك لقلَّة مبالاتهم بشدائد الدنيا ومصائبها . ثم قال عليه السلام : إنّهم من شدّة شوقهم إلى الجنة ، ومن شدة خوفهم من النار ، تكاد أرواحُهم أن تفارق أجسادَهم ، لولا أنّ اللّه تعالى ضرب لهم آجالاً ينتهون إليها . ثم ذكر أنّ الخالِقَ لمّا عظُم في أعينهم استصغروا كلَّ شيء دونه ، وصاروا لشدَّة يقينهم ومكاشفتهم ، كمن رأى الجنّة فهو يتنعّم فيها ، وكمن رأى النار وهو يعذَّب فيها ، ولا ريبَ أنّ منْ يشاهد هاتيْن الحالتين ، يكون على قَدَمٍ عظيمة من العبادة والخوف والرجاء . ثم وصفهم بحزن القلوب ، ونحافة الأجسام ، وعفّة الأنفس وخفّة الحوائج ، وأنّ شرورهم مأمونة على الناس ، وأنهم صَبَروا صبرا يسيراً أعقبهم نعيماً طويلاً . ثم ابتدأهم فقال : تجارة مربحة ، أي تجارتهم تجارة مربحة ، فحذف المبتدأ . وروي : « تجارةً مربحةً » ، بالنصب على أنه مصدر محذوف الفعل . قوله : « أمّا الليلَ » بالنصب على الظرفية ، وروي : « أمّا اللّيلُ » على الابتداء . قوله : « تالين » ، منصوب على أ نّه حال ؛ إمّا من الضمير المرفوع بالفاعلية في « صافُّون » أو من الضّمِير المجرور بالاضافة في « أقدامهم » . والترتيل : التبيين والإيضاح ، وهو ضدّ الإسراع والعَجَل ، ويروى : « يرتّلونه » على أنّ الضمير يعود إلى القرآن ، والرواية الأُولى يعود الضمير فيها إلى أجزاء القرآن . قوله : « يحزنون به أنفسهم » ، أي يستجلبون لها الحُزْن به ،

.


1- .« منطقهم الصواب » المنطق ، النطق ، أي لا يقولون إلاّ حقّاً ، ويحترزون عن الكذب والفحش وسائر الأقاويل الباطلة ، أو لا يقولون ما لا يعتقدون ولا يفعلون .
2- .سورة لقمان 19 .

ص: 636

ويستثيرون به دواء دائهم ؛ إشارة إلى البكاء ، فإنه دواء داء الحزين . ثم ذكر أنّهم إذا مَرّوا بآية فيها ذكر الثواب مالوا إليها ، واطمأنّوا بها ، طمعاً في نيله ، وتطلَّعت أنفسُهم إليها شَوْقا ، أي اشرأبّت . « ونصبَ أعينهم » منصوب على الظرفية ، وروي بالرفع ؛ على أنه خبر إنّ ؛ والظن هاهنا يمكن أن يكون على حقيقته ، ويمكن أن يكون بمعنى العلم ، كقوله تعالى « ألا يَظُنُّ أولئِكَ أنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ » (1) . وأصغى إلى الكلام : مال إليه بسمعه . وزفيرُ النّار : صوتها . ثم ذكر عليه السلام صورة صلاتهم وركوعهم ، فقال : « حانُون على أوْسَاطهم » ، حَنَيْتُ العُود : عَطَفته ، يصف هيئة ركوعهم وانحنائهم في الصّلاة . مفترشُون لجباههم : باسطون لها على الأرض . ثم ذكر الأعضاء السّبعة التي مباشرتُها بالأرضِ فروضٌ في الصلاة ، وهي : الجبهة ، والكَفّان ، والرّكبتان ، والقَدَمان . قوله عليه السلام : « يطلُبون إلى اللّه » ، أي يسألونه ، يقال : طلبتُ إليك في كذا ، أي سألتُك ، والكلام على الحقيقة ، مقدَّرٌ في حال محذوفة يتعلّق بها حرف الجرّ ، أي يطلبون سائلين إلى اللّه في فكاك رقابهم ؛ لأنّ « طلب » لا يتعدّى بحرف الجرّ . ثم لما فرغ من ذكر الليل ، قال : « وأمّا النّهار فحلماء ، علماء ، أبرار أتقياء » ، هذه الصّفات هي التي يطلع عليها الناظرون لهم نهاراً ، وتلك الصفات المتقدّمة من وظائف الليل . ثم ذَكَر ماهمْ عليه من الخوف ، فقال عليه السلام : « إنّ خوفَهُمْ قد بَرَاهُمْ بَرْي القِداح » ، وهي السّهام ، واحدها قِدْح ، فينظر إليهم الناظر فيحسبَهم مرضى وما بهم من مرض . ويقال للمتّقين لشدّة خوفِهم : كأنهم مَرْضَى ، ولا مَرَضَ بهم . قوله عليه السلام : « ويقول قد خولطُوا » ، أي أصابتهم جِنّة . ثم قال : « ولقد خالطهم أمر عظيم » ، أي ما زجهم خوف عظيم تولّهوا لأجْلِه ، فصاروا كالمجانين . ثم ذكر أنهم لا يستكثرون في كثير من أعمالهم ، ولا يرضيهم اجتهادهم ، وأنّهم يتّهمون أنفسهم ، وينسبونها إلى التقصير في العبادة . قال : « ومن أعمالهم مشفقون » ، أي مشفقون من عباداتهم ألاّ تُقبل ، وإلى هذا نظر أبو تمام ، فقال : يتجنّب الآثام ثم يخافهافكأنما حسناتُهُ آثامُ

.


1- .سورة المطففين 4 .

ص: 637

ومثل قوله : « أنا أعلَمُ بنفسي من غيري » ، قوله عليه السلام لمن زكّاه نفاقاً : « أنا دونَ ما تقول ، وفوقَ ما في نفسك » . وقوله : « اللّهمّ لا تؤاخذني بما يقولون ... » إلى آخر الكلام مفرد مستقلّ بنفسه منقول عنه عليه السلام ؛ أنه قال لقوم مرّ عليهم وهم مختلفون في أمره ، فمنهم الحامِدُ له ، ومنهم الذامّ ، فقال : اللهمّ لا تؤاخذني ... » الكلمات إلى آخرها ، ومعناه : اللّهمّ إن كان ما ينسُبُه الذامّون إليّ من الأفعال الموجبة للذمّ حقّا ، فلا تؤاخذني بذلك ، واغفر لي ما لا يعلمونه من أفعالي ، وإن كان ما يقوله الحامدون حَقّا ، فاجعلني أفْضَلَ ممّا يظنونه فيّ .

الأصْلُ :فَمِنْ عَلاَمَةِ أَحَدِهِمْ : أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً فِي دِينٍ ، وَحَزْماً فِي لِينٍ ، وَإِيمَاناً فِي يَقِينٍ ، وَحِرْصاً فِي عِلْمٍ ، وَعِلْماً فِي حِلْمٍ ، وَقَصْداً فِي غِنىً ، وَخُشُوعاً فِي عِبَادَةٍ ، وَتَجَمُّلاً فِي فَاقَةٍ ، وَصَبْراً فِي شِدَّةٍ ، وَطَلَباً فِي حَلاَلٍ ، وَنَشاطاً فِي هُدىً وَتَحَرُّجاً عَنْ طَمَعٍ . يَعْمَلُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَهُوَ عَلَى وَجَلٍ . يُمْسِي وَهَمُّهُ الشُّكْرُ ، وَيُصْبِحُ وَهَمُّهُ الذِّكْرُ . يَبِيتُ حَذِراً ، وَيُصْبِحُ فَرِحاً ؛ حَذِراً لِما حُذِّرَ مِنَ الْغَفْلَةِ ، وَفَرِحاً بِمَا أَصَابَ مِنَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ . إِنِ اسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيَما تَكْرَهُ لَمْ يُعْطِهَا سُؤْلَهَا فِيَما تُحِبُّ . قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيَما لاَ يَزُولُ ، وَزَهَادَتُهُ فِيَما لاَ يَبْقَى ، يَمْزُجُ الْحِلْمَ بِالْعِلْمِ ، وَالْقَوْلَ بِالْعَمَلِ . تَرَاهُ قَرِيباً أَمَلُهُ ، قَلِيلاً زَلَلُهُ ، خَاشِعاً قَلْبُهُ ، قَانِعَةً نَفْسُهُ ، مَنْزُوراً أَكْلُهُ ، سَهْلاً أَمْرُهُ ، حَرِيزاً دِينُهُ ، مَيِّتَةً شَهْوَتُهُ ، مَكْظُوماً غَيْظُهُ . الْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ ، وَالشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ . إِنْ كَانَ فِي الْغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ ، وَإِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ . يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ ، وَيُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ ، وَيَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ ، بَعِيداً فُحْشُهُ ، لَيِّناً قَوْلُهُ ، غَائِباً مُنْكَرُهُ ، حَاضِراً مَعْرُوفُهُ مُقْبِلاً خَيْرُهُ ، مُدْبِراً شَرُّهُ . فِي الزَّلاَزِلِ وَقُورٌ ، وَفِي الْمَكَارِهِ صَبُورٌ ، وَفِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ . لاَ يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ ، وَلاَ يَأْثَمُ فِيمَنْ يُحِبُّ . يَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ ، لاَ يُضِيّعُ مَا اسْتُحْفِظَ ، وَلاَ يَنْسَى مَا ذُكِّرَ ،

.

ص: 638

وَلاَ يُنَابِزُ بِالألْقَابِ ، وَلاَ يُضَارُّ بالْجَارِ ، وَلاَ يَشْمَتُ بالْمَصَائِبِ ، وَلاَ يَدْخُلُ فِي الْبَاطِلِ ، وَلاَ يَخْرُجُ مِنَ الْحَقِّ . إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمَّهُ صَمْتُهُ ، وَإِنْ ضَحِكَ لَمْ يَعْلُ صَوْتُهُ ، وَإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتَّى يَكُونَ اللّهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَقِمُ لَهُ . نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ ، وَالنَّاْسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ . أَتْعَبَ نَفْسَهُ لاِخِرَتِهِ ، وَأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ . بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ وَنَزاهَةٌ ، وَدُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنَهُ لِينٌ وَرَحْمَةٌ . لَيْسَ تَبَاعُدُهُ بِكِبْرٍ وَعَظَمَةٍ ، وَلاَ دُنُوُّهُ بِمَكْرٍ وَخَدِيعَةٍ .

قال : فصعق همَّام صعقة كانت نفسه فيها ، فقال أَمير المؤمنين عليه السلام : أَمَا وَاللّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْهِ . ثَمَّ قَالَ : هكَذَا تَصْنَعُ الْمَوَاعِظُ البَالِغَةُ بِأَهْلِهَا! فقال له قائل : فما بالك يا أمير المؤمنين! فقال عليه السلام : وَيْحَكَ ، إِنَّ لِكُلِّ أَجَلٍ وَقْتاً لاَ يَعْدُوهُ ، وَسَبَباً لاَ يَتَجَاوَزُهُ . فَمَهْلاً ، لاَ تَعُدْ لِمِثْلِهَا ، فَإِنَّمَا نَفَثَ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِكَ!

الشّرْحُ :هذه الألفاظ الّتي أولها : « قوّة في دين » ، بعضها يتعلّق حرف الجر فيه بالظّاهر ، فيكون موضعه نصبا بالمفعوليّة ، وبعضها يتعلّق بمحذوف ، فيكون موضعه نصباً أيضا على الصِّفة ، ونحن نفصّلها . فقوله : « قوّة في دين » ، حرف الجرّ هاهنا متعلّق بالظاهر ، وهو « قُوّة » ، تقول : فلان قويّ في كذا وعلى كذا ، كما تقول : مررتُ بكذا ، وبلغت إلى كذا . و « وحزماً في لين » ، هاهنا لا يتعلّق حرْف الجرّ بالظاهر ؛ لأ نّه لا معنى له ، ألا ترى أنّك لا تقول : فلان حازم في اللّين ؛ لأنّ اللّين ليس أمرا يحزم الإنسان فيه ، وليس كما تقول : فلان حازمٌ في رأيه أو في تدبيره ! فوجبَ أن يكون حرف الجر متعلّقاً بمحذوف ، تقديره : وحزماً كائنا في لين . وكذلك قوله :

.

ص: 639

« وإيماناً في يقين » ، حرف الجرّ متعلّق بمحذوفٍ : أي كائناً في يقين ، أي مع يقين . فإن قلت : الإيمان هو اليقينُ فكيف ، قال : « وإيمانا في يقين »؟ قلت : الإيمانُ هو الاعتقاد مضافا إلى العمل ، واليقين هو سكون القلْب فقط ، فأحدُهما غير الآخر . قوله : « وحرْصا في علم » ، حرف الجرّ هاهنا يتعلّق بالظاهر ، و « في » بمعنى « على » كقوله تعالى : « ولأُصَلِّبَنّكُم فِي جُذُوع النَّخْلِ » (1) . قوله : « وقصداً في غنىً » ، حرف الجرّ متعلّق بمحذوف ، أي هو مقتصد مع كونه غنياً ، وليس يجوز أن يكون متعلّقا بالظاهر ؛ لأ نّه لا معنى لقولك : اقتصِدْ في الغِنَى ، إنما يقال : اقتصد في النّفقة ؛ وذلك الاقتصاد موصوف بأنه مقارن للغنى ومجامع له . قوله : « وخشوعاً في عبادة » ، حرف الجرّ هاهنا يحتمل الأمرين معاً . « وتجمّلاً في فاقة » ، حرف الجر هاهنا متعلّق بمحذوف ، ولا يصحّ تعلّقه بالظّاهر ؛ لأ نّه إنما يقال : فلان يتجمّل في لباسه ومروءته ، مع كونه ذا فاقة ، ولا يقال : يتجمّل في الفاقة ؛ على أن يكون التجمّل متعدّيا إلى الفاقة . قوله : « وصَبْرا في شدّة » ، حرف الجر هاهنا يحتمل الأمرين . « وطلباً في حلال » ، حرف الجر هاهنا يتعلّق بالظّاهر و « في » بمعنى « اللام » . « ونشاطاً في هدىً » ، حرف الجرّ هاهنا يحتمل الأمرين . « وتحرّجا عن طمع » ، حرف الجرّ هاهنا يتعلق بالظاهر لا غير . « يعمل الأعمال الصالحة وهو على وجل » ، قدْ تقدّم مثله . قوله : « يمسى وهمّه الشكر » ، هذه درجة عظيمة من درجات العارفين ، وقد أثنى اللّه تعالى على الشكر والشاكرين في كتابه في مواضع كثيرة ، نحو قوله : « فَاذكُرُوني أذكُرْكُمْ واشكُرُوا لِي وَلاَ تَكفُرُونِ » (2) ، فقرن الشّكر بالذّكْر . وقال تعالى : « مَا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذابِكُمْ إنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ » (3) . قوله عليه السلام : « ويصبِحُ وَهَمُّه الذِّكْر » ، هذه أيضاً درجة كبيرة عظيمة من درجات العارفين ، قال تعالى : « فَاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ » . قوله عليه السلام : « يبيت حذِرا ويصبح فَرِحا ، حذرا لما حُذِّرَ من الغفلة ، وفرحا بما أصاب من الفَضْل والرحمة » ، وقد عرض عليه السلام هاهنا بالرّجاء المقابل للخوف ؛ فإنّ فرَح العارف بما أصاب من الفضل والرحمة يمكن أن يحمل على أ نّه فرح بمجرد ما أصاب من فضل اللّه ورحمته . ويمكِنُ أن يحمل على أ نّه فرح بما يرجوه من

.


1- .سورة طه 71 .
2- .سورة البقرة 152 .
3- .سورة النساء 147 .

ص: 640

ثواب اللّه ونعيمه ؛ لذا استدلّ على وصوله إليه وقوِي ظنّه بظفره به ، بما عَجّل اللّه تعالى له من الفضل والرحمة في الدنيا ، ومقامُ الرجاء للعارفين مقام شريف ، وهو في مقابلة مقام الخوف ، وهو المقام الذي يوجد العارف فيه فرحا . قوله عليه السلام : « إن استصعبَتْ عليه نفسُه » ، أي صارت صعبة غير منقادة ؛ يقول : إذا لم تطاوعْه نفسُه إلى ما هي كارهة له لم يعطِها مرادها فيما تحبّه . قوله عليه السلام : « قرّة عينه فيما لا يزول ، وزهادته فيما لا يبقى » ، يقال للفرِح المسرور : إنّه لَقَرِير العين ، وقرّت عينُه تقرّ ، والمراد بردُها ؛ لأنّ دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارّة . وهذا الكلام يحتمل أمرين : أحدُهما : أن يعنِيَ بما لا يزول البارئ سبحانه ، وهذا مقام شريف جدّا أعظم من سائر المقامات ، وهو حبّ العارف للّه سبحانه . وثانيهما : أن يريد بما لا يزول ، نعيمَ الجنة ، وهذا أدونُ المقاميْن ؛ لأنّ الخلّص من العارفين يحبّونه ويعشقونه سبحانه لذاته ، لا خوفاً من النار ، ولا شوقاً إلى الجنة . وقد جاء في كلام أمير المؤمنين عليه السلام ، من هذا الكثير ، نحو قوله : « لم أعبدْه خوفاً ولا طمعاً ، لكنّي وجدته أهلاً للعبادة فعبدته » . قوله عليه السلام : « يمزج الحلم بالعلم » ، أي لا يحلُم إلاّ عن علم بفضل الحلم ليس كما يحلم الجاهلون . « والقول بالعمل » ، أي لا يقتصر على القول . قوله عليه السلام : « تراه قريبا أملُه » ، أي ليست نفسه متعلّقةً بما عظُم من آمال الدنيا ؛ وإنّما قُصَارى أمره أن يؤمّل القوت والملبس . قليلاً زلله : أي خطؤه . « منزورا أكله » ، أي قليلاً ، ويحمَد من الإنسان الأكل النزر . « مكظوماً غيظُه » كَظم الغيظِ من الأخلاق الشريفة . قوله : « إن كان في الغافلين » ، معناه أ نّه لا يزال ذاكرَ اللّه تعالى ، سواء كان جالسا مع الغافلين أو مع الذاكرين ؛ أمّا إذا كان مع الغافلين فإنه يذكر اللّه بقلْبِه ، وأمّا إذا كان مع الذّاكرين فإنه يذكره بقلبه ولسانه . قوله عليه السلام : « يعفُو عمّن ظَلَمه ، ويعطي من حرمه ، ويصل مَنْ قطعه » مِن كلام المسيح عليه السلام في الإنجيل : « أحبّوا أعداءكم ، وصلُوا قاطعِيكم ، واعفوا عن ظالِمِيكم ، وباركوا عليّ لأُعينَكم ؛ لكي تكونوا أبناء أبِيكم الّذي في السماء ، الذي تشرق شمسُه على الصّالحين والفَجَرة ، وينزل مَطَرُه على المطيعين والأثَمة » . قوله عليه السلام : « بعيداً فُحْشُه » ، ليس يعني به أ نّه قد يُفْحِش تارة ، ويترك الفحش تارات ، بل

.

ص: 641

لا فُحْشَ له أصلا ، فكنى عن العَدم بالبعد ؛ لأ نّه قريب منه . « ليّنا قوله » ، العارف بسّام طلْق الوجه ، ليّن القوْل ، وفي صفات النبي صلى الله عليه و آله وسلم : « ليس بفَظّ ولا صَخّاب » . قوله : « في الزلازل وقور » ، أي لا تحرّكه الخطوب الطارقة . « لا يحيفُ على من يُبغض » ، هذا من الأخلاق الشريفة النبوية . « يعترف بالحق قبل أن يُشهد عليه » ؛ لأ نّه إن أنكر ثم شُهد عليه فقد ثبت كذبه ، وإن سكت ثم شُهد عليه فقد أقام نفسَه في مقام الرِّيبة . قوله : « ولا ينابز بالألقاب » ، هذا من قوله تعالى : « وَلاَ تَنَابَزُوا بالألْقَابِ » (1) . « ولا يضارّ بالجار » ، في الحديث المرفوع : « أوصانِي ربّي بالجار حتى ظنَنتُ أن يورّثه » . قوله : « ولا يشمت بالمصائب » ، نظير قول الشاعر : فَلَسْتَ تَرَاهُ شَامِتا بمصِيبَةٍوَلاَ جَزِعا منْ طارِقِ الحدَثَان قوله : « إن صمت لم يغمّه صمته » ، أي لا يحزن لفوَات الكلام ؛ لأ نّه يَرى الصّمت مغنماً لا مغرماً . « وإن ضحك لم يعلُ صوتُه » ، هكذا كان ضحكُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، أكثره التبسّم ، وقد يفرُّ أحياناً ، ولم يكن من أهل القهقهة والكَرْكَرة . قول : « وإن بُغي عليه صَبَر » ، هذا من قول اللّه تعالى : « ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنّهُ اللّهُ » (2) . قوله : « نفسه منه في عناء » ؛ لأ نّه يتعبُها بالعبادة ، والناس لا يلقون منه عَنَتا ولا أذىً ، فحالهم بالنسبة إليه خلاف حال نفسه بالنسبة إليه . قوله : « فصعق همام » ، أُغمي عليه ومات ، قال اللّه تعالى : « فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ » (3) . قوله : « كانت نفسه فيها » ، أي مات . « ونفثَ الشيطان على لسانك » ، أي تكلّم بلسانك ، وأصله النفخ بالفم ، وهو أقل من التّفل ؛ وإنّما نهى أمير المؤمنين القائل : « فهلاّ أنت يا أمير المؤمنين ! » ؛ لأ نّه اعترض في غير موضع الاعتراض ، وذلك أنه لا يلزم من موت العاميّ عند وعظ العارف أن يموتَ العارف عند وعظ نفسه ؛ لأنّ انفعال العاميِّ ذي الاستعداد التامّ للموت عند سماع المواعظ البالغة أتمّ من استعداد العارف عند سماع كلام نفسه ؛ أو الفكر في كلام نفسه ، لأنّ نفس العارف قوية جدّا ، والآلة التي يحفر بها الطين قد لا يحفر بها الحجَر . فإن قلتَ : فإنّ جواب أمير المؤمنين عليه السلام للسائل غيرُ هذا الجواب!

.


1- .سورة الحجرات 11 .
2- .سورة الحج 60 .
3- .سورة الزمر 68 .

ص: 642

187 . من خطبة له عليه السلام يصف فيها المنافقين

قلتُ : صدقت ، إنما أجابه من حيث يعلم هو والسامعون ، وتصِلُ أفهامهم إليه ، فخرج معه إلى حديث الآجال ، وأنّها أوقاتٌ مقدّرة لا تتعدّاها ، وما كان يمكنه عليه السلام أن يذكر الفرْق بين نفسه ونفوسهم ، ولا كانت الحال تقتضيه ، فأجابه بجواب مُسْكِتٍ ؛ وهو مع إسكاته الخصْم حقٌّ وعدل عن جواب يحصل منه اضطراب ، ويقع فيه تشويش ، وهذا نهاية السَّداد وصحة القول .

187الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلام يصف فيها المنافقيننَحْمَدُهُ عَلَى مَا وَفَّقَ لَهُ مِنَ الطَّاعَةِ ، وَذَادَ عَنْهُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ ، وَنَسْأ لُهُ لِمِنَّتِهِ تَمَاماً ، وَبِحَبْلِهِ اعْتِصَاماً. وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، خَاضَ إِلَى رِضْوَانِ اللّهِ كُلَّ غَمْرَةٍ، وَتَجَرَّعَ فِيهِ كُلَّ غُصَّةٍ . وَقَدْ تَلَوَّنَ لَه الأدنَوْنَ ، وَتَأَلَّبَ عَلَيْهِ الْأَقْصَوْنَ ، وَخَلَعَتْ إِلَيْهِ الْعَرَبُ أَعِنَّ_تَهَا، وَضَرَبَتْ إِلَى مُحَارَبَتِهِ بُطُونَ رَوَاحِلِهَا، حَتَّى أَنْزَلَتْ بِسَاحَتِهِ عَدَاوَتَهَا، مِنْ أَبْعَدِ الدَّارِ ، وَأَسْحَقِ الْمَزَارِ . أُوصِيكُمْ _ عِبَادَ اللّهِ _ بِتَقْوَى اللّهِ ، وَأُحَذِّرُكُمْ أَهْلَ النِّفَاقِ ، فَإِنَّهُمُ الضَّالُّونَ الْمُضِلُّونَ ، وَالزَّالُّونَ الْمُزِلُّونَ ، يَتَلَوَّنُونَ أَلْوَاناً ، وَيَفْتَنُّونَ افْتِنَاناً وَيَعْمِدُونَكُمْ بِكُلِّ عِمَادٍ ، وَيَرْصُدُونَكُمْ بِكُلِّ مِرْصَادٍ . قُلُوبُهُمْ دَوِيَّةٌ ، وَصِفَاحُهُمْ نَقِيَّةٌ . يَمْشُونَ الْخَفَاءَ ، وَيَدِبُّونَ الضَّرَاءَ . وَصْفُهُمْ دَوَاءٌ ، وَقَوْلُهُمْ شِفَاءٌ ، وَفِعْلُهُمُ الدَّاءُ الْعَيَاءُ . حَسَدَةُ الرَّخَاءِ ، وَمُؤكِّدُو الْبَلاَءِ ، وَمُقْنِطُو الرَّجَاءِ . لَهُمْ بِكُلِّ طَرِيقٍ صَرِيعٌ ، وَإِلَى كُلِّ قَلْبٍ شَفِيعٌ ، وَلِكُلِّ شَجْوٍ دُمُوعٌ . يَتَقَارَضُونَ الثَّنَاءَ ، وَيَتَرَاقَبُونَ الْجَزَاءَ ؛ إِنْ سَأَلُوا أَلْحَفَوا ، وَإِنْ عَذَلُوا كَشَفُوا ، وَإِنْ حَكَمُوا أَسْرَفُوا . قَدْ أَعَدُّوا لِكُلِّ حَقٍّ بَاطِلاً ، وَلِكُلِّ قَائِمٍ مَائِلاً ،

.

ص: 643

وَلِكُلِّ حَيٍّ قَاتِلاً ، وَلِكُلِّ بَابٍ مِفْتَاحاً ، وَلِكُلِّ لَيْلٍ مِصْبَاحاً . يَتَوَصَّلُونَ إِلَى الطَّمَعِ بِالْيَأْس لِيُقِيمُوا بِهِ أَسْوَاقَهُمْ ، وْيُنْفِقُوا بِهِ أَعْ_لاَقَهُمْ . يَقُولُونَ فَيُشَبِّهُونَ ، وَيَصِفُونَ فَيُمَوِّهُونَ . قَدْ هَوَّنُوا الطَّرِيقَ ، وَأَضْلَعُوا الْمَضِيقَ ، فَهُمْ لُمَّةُ الشَّيْطَانِ ، وَحُمَةُ النِّيرَانِ ؛ « أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ » (1) .

الشّرْحُ :الضمير في « له » وهو الهاء راجعٌ إلى « ما » التي بمعنى « الذي » ، وقيل : بل هو راجع إلى اللّه سبحانه ، كأنه قال : « نحمده على ما وفّق من طاعته » ، والصحيح هو الأول ؛ لأنّ « له » في الفقرة الأُولى بإزاء « عنه » في الفقرة الثانية ، والهاء في « عنه » ليست عائدة إلى « اللّه » . وذاد : طرد ، والمصدر الذِّياد . وخاض كلّ غَمْرة ، مثل قولك : ارتكب كلّ مهلكة ، وتقحّم كلّ هول . والغَمْرة : ما ازدحم وكثر من الماء ، وكذلك من النّاس ، والجمع غِمار . والغُصّة : الشّجا ، والجمع غُصَص . وتلوّن له الأدنَوْن : تغيّر عليه أقاربه ألوانا . وتألّب عليه الأقصوْن : تجمّع عليه الأبعدون عنه نسبا . وخلعت إليه العرب أعنّتها ، مثلٌ ، معناه : أوْ جَفُوا إليه مسرعين لمحاربته ؛ لأنّ الخيل إذا خُلعتْ أعنّتها كان أسْرَع لجريها . وضربتْ إلى محاربته بطونَ رواحِلها ، كناية عن إسراع العرب نحوه للحرب ؛ لأنّ الرواحل إذا ضربت بطونها لتساق كانَ أوحى لها ؛ ومراده أنّهم كانوا فرساناً وركباناً . قوله : « حتى أنزلت بساحته عداوتها » ، أي حَرْبها ، فعبّر عنها بالعداوة ؛ لأنّ العداوة سببُ الحرب ، فعبّر بالسّبب عن المسبّب ؛ مازلنا نطأ السّماء حتى أتيناك ؛ يعنون الماء ، لمّا كان اعتقادُهم أنّ السماء سببُ الماء . وأسحق المزار : أبعده ؛ مكان سَحِيق ، أي بعيد ، والسُّحْق بضم السّين : البعد ، يقال : « سُحْقاً له » ؛ ويجوز ضم الحاء ، كما قالوا : عُسْر وعسُر ، وأسحقه اللّه أبعده . والمزار : المكان الذي يُزار منه ، أو المكان الذي يزار فيه ، والمراد هاهنا هو الأوّل . ومن قرأ كتبَ السِّيرة علم ما لاقى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم في ذاتِ اللّه سبحانه من المشقّة ، واستهزاء قريش به في أوّل الدعوة ، ورميهم إياه بالحجارة ، حتى أدْمَوا عَقِبَيْه ، وصياح

.


1- .سورة المجادلة 19 .

ص: 644

الصِّبيان به ، وفَرْث الكرِش على رأسِه ، وفَتْل الثّوب في عنُقه ، وحَصْره وحَصْر أهله في شِعْب بني هاشم سنين عدّة محرّمة معاملتهم ومبايعتهم ومناكحتهم وكلامهم ، حتى كادوا يموتون جوعا ، ثم ضرْبهم أصحابه وتعذيبهم بالجوع والوَثاق في الشمس ، وطردهم إياهم عن شِعاب مكة ، حتى خرج مَنْ خرج منهم إلى الحبشة ، وخرج عليه السلام مستجيرا منهم تارة بثقيف ، وتارة ببني عامر ، وتارة بربيعة الفَرَس ، وبغيرهم . ثم أجمعوا على قتله والفتك به ليلاً ، حتى هرب منهم لائذا بالأوْس والخزرج ، تاركا أهله وأولاده ، وما حوتْه يده ، ناجيا بحُشاشة نفسه ، حتى وصل إلى المدينة ؛ فناصبوه الحرب ورموه بالمناسر والكتائب ، وضربوا إليه آباط الإبل ، ولم يزل منهم في عناء شديد ، وحروب متّصلة ، حتّى أكرمه اللّه تعالى ونَصَره ، وأيّد دينَه وأظهره . ومَنْ له أُنْسٌ بالتواريخ يعلم من تفاصيل هذه الأحوال ما يطول شرحه . سمّى النِّفاق نِفاقا من النّافقاء ، وهي بيت اليَرْبُوع ، له بابان يدخلُ من أحدهما ، ويخرج من الآخر ، وكذلك الّذي يُظهر دينا ويبطن غيره . والضالّون المضِلُّون : الذين يُضِلّون أنفسَهم ويُضِلّون غيرَهم ؛ وكذلك الزالّون المزِلّون ؛ زلّ فلان عن الأمر ، أي أخطأ ، وأزلّه غيرُه . قوله : « يفتنُّون » يتشعّبون فنوناً ، أي ضروباً . ويعمِدونكم ، أي يهدّونكم ويفدحونكم ؛ يقال : عمَده المرض يعمِده ، أي هدّه ، ومنه قولهم للعاشق : عميد القلب . قوله : « بعمادٍ » ، أي بأمر فادح وخطب مؤلم ، وأصل العَمْد انشداخُ سَنَام البعير ، وماضيه : عمِد السنام بالكسر ، عَمْداً فهو عَمِد . ويرصدونكم : يعدّون المكايد لكم ، أرصدت : أعددت . وقلب دوٍ ، بالتخفيف ، أي فاسد ، من داء أصابه ، وامرأة دويَة ؛ فإذا قلت : رجل دوَى ، بالفتح ، استوى فيه المذكر والمؤنث والجماعة ؛ لأ نّه مصدر في الأصل ، ومن روى : « دويّة » بالتشديد ، عَلَى بُعده ، فإنما شدده ليقابل « نقيّة » . والصِّفَاح : جمع صَفْحة الوجه وهي ظاهره ، يقول : باطنهم عليل ، وظاهرهم صحيح . يمشون الخَفاء ، أي في الخفاء ، ثم حذف الجار فنصب ، وكذلك يدبّون الضّرّاء ، والضَّرَاء : شجر الوادي الملتفّ ، وهذا مثل يضربُ لمن يختلُ صاحبه ، يقال : هو يدبّ له الضرَاء ويمشي له الخَمر ، وهو جَرْف الوادي . ثم قال : « وصفهم داء ، وقولهم شفاء ، وفعلهم الدّاء العَياء » ، أي أقوالهم أقوال الزاهدين العابدين ، وأفعالهم أفعال الفاسقين الفاجرين . والدّاء العَياء : الذي يُعيي الأُساءة . ثم قال : « حَسَدة الرخاء » يحسُدون عَلَى النعم . « ومؤكّدو البلاء » ، إذا وقع واحد من الناس في بلاء

.

ص: 645

أكّدوه عليه بالسّعايات والنمّ_ائم ، وإغراء السلطان به . « ومقنِطُو الرّجاء » ، أي أهل الرجاء ، أي يبدّلون بشرورهم وأذاهم رَجاء الرّاجي قُنوطاً . قوله : « وإلى كلّ قلب شفيع » ، يصف خلابة ألسنتِهم وشدّة مَلقِهم ، فقد استحوذُوا عَلَى قلوب الناس بالرّياء والتصنّع . « ولكل شجو دموع » ، الشجو : الحزْن ، أي يبكون تباكيا وتعمّلاً لاحقا ، عند أهلِ كلّ حزن ومصاب . يتقارضون الثناء ، أي يثني زيد عَلَى عمرو ، ليثنيَ عمروٌ عليه في ذلك المجلس ، أو يبلغه فيثني عليه في مجلس آخر ، مأخوذ من القَرْض . ويتراقبون الجزاء : يرتقب كلّ واحدٍ منهم عَلَى ثنائه ومدْحِه لصاحبه جزاءً منه ، إمّا بالمال أو بأمر آخر ، نحو ثناء يثني عليه ، أو شفاعة يشفع له ، أو نحو ذلك . والإلحاف في السؤال : الاستقصاء فيه ، وهو مذموم ، قال اللّه تعالى : « لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلحافا » (1) . قوله : « وإن عَذَلوا كشفوا » ، أي إذا عذَلك أحدُهم كشف عيوبَك في ذلك اللّوم والعَذَل ، وجبّهك بها ، وربّما لا يستحي أن يذكُرَ حالك بمحضر ممّن لا تحبّ ذكرَها بحضْرته ، وليسوا كالناصحين عَلَى الحقيقة ، الذين يعرّضون عند العتاب بالذنب تعريضا لطيفاً ليقلع الإنسان عنه . وإن حكموا أسرفُوا ، إذا سألك أحدُهم ففوّضتَه في مالك أسرفَ ولم يقنع بشيء ، وأحبّ الاستئصال . قد أعدُّوا لكلّ حقٍّ باطلاً ؛ يقيمون الباطل في معارضة الحقّ ، والشبهة في مصادمة الحجّة . ولكلِّ دليلٍ قائم وقول صحيح ثابت ، احتجاجاً مائلاً مضادّا لذلك الدليل ، وكلاماً مضطربا لذلك القول . ولكلّ باب مفتاحاً ، أي ألسنتهم ذلِقةٌ قادرةٌ عَلَى فَتْح المغلَقاتِ ، للطْف توصّلهم ، وظَرْف منطقهم . ولكل ليل مصباحاً ، أي كلّ أمرٍ مظلم فقد أعدّوا له كلاما ينيره ويضيئه ، ويجعله كالمصباح الطارِد للّيل . ويتوصلون إلى مطامعهم بإظهار اليأس عمّا في أيدي الناس ، وبالزّهد في الدنيا . وفي الأثر : شرّكم مَنْ أخذ الدنيا بالدين . ثم قال : إنّما فعلوا ذلك ليقيموا به أسواقَهم ، أي لتنفق سِلْعَتُهم . والأعلاق : جمع عِلْق ، وهو السلعة الثمينة . يقولون فيشبّهون ، يوقعون الشُّبَه في القلوب . ويصفون فيموّهون ؛ التمويه التزيين ، وأصله أن تطلى الحديدة بذهب يحسّنها . قد هيّئوا الطريق ، أي الطريق الباطل قد هيئوها لتُسلك بتمويهاتهم . وأضلعوا المضيق : أمالوه ، وجعلوه ضِلَعاً ، أي معوجّا ، أي جعلوا المسلك الضيّق معوجّا بكلامهم وتلبيسهم ، فإذا أسلكوه إنسانا اعوجّ

.


1- .سورة البقرة 273 .

ص: 646

188 . من خطبة له عليه السلام في تمجيد اللّه وذكر بعض صفاته

لاعوجاجه . واللُّمَة ، بالتخفيف : الجماعة . والحُمَة ، بالتخفيف أيضا : السمّ ، وكنى عن إحراق النار بالحمة للمشابهة في المضرّة .

188الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامالْحَمْدُ للّهِ الَّذِي أَظْهَرَ مِنْ آثَارِ سُلْطَانِهِ ، وَجَلاَلِ كِبْرِيَائِهِ ، مَا حَيَّرَ مُقَلَ الْعُقُولِ مِنْ عَجَائِبِ قُدْرَتِهِ ، وَرَدَعَ خَطَرَاتِ هَمَاهِمِ النُّفُوسِ عَنْ عِرْفَانِ كُنْهِ صِفَتِهِ . وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّهُ ، شَهَادَةَ إِيمَانٍ وَإِيقَانٍ ، وَإِخْ_لاَص وَإِذْعَانٍ . وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، أَرْسَلَهُ وَأَعْلاَمُ الْهُدَى دَارِسَةٌ ، وَمَنَاهِجُ الدِّينِ طَامِسَةٌ ، فَصَدَعَ بِالْحَقِّ ؛ وَنَصَحَ لِلْخَلْقِ ، وَهَدَى إِلَى الرُّشْدِ ، وَأَمَرَ بِالْقَصْدِ ، صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ . وَاعْلَمُوا _ عِبَادَ اللّهِ _ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً ، وَلَمْ يُرْسِلْكُمْ هَمَلاً ، عَلِمَ مَبْلَغَ نِعَمِهِ عَلَيْكُمْ ، وَأَحَصَى إِحْسَانَهُ إِلَيْكُمْ ، فَاسْتَفْتِحُوهُ وَاسْتَنْجِحُوهُ ، وَاطْلُبُوا إِلَيْهِ وَاسْتَمْنِحُوهُ ، فَمَا قَطَعَكُمْ عَنْهُ حِجَابٌ ، وَلاَ أُغْلِقَ عَنْكُمْ دُونَهُ بَابٌ . وَإِنْهُ لَبِكُلِّ مَكَانٍ ، وَفِي كُلِّ حِين وَأَوَانٍ ، وَمَعَ كُلِّ إِنْس وَجَانٍّ ؛ لاَ يَثْلِمُهُ الْعَطَاءُ ، وَلاَ يَنْقُصُهُ الْحِبَاءُ ، وَلاَ يَسْتَنْفِدُهُ سَائِلٌ ، وَلاَ يَسْتَقْصِيهِ نَائِلٌ ، وَلاَ يَلْوِيهِ شَخْصٌ عَنْ شَخْص ، وَلاَ يُلْهِيهِ صَوْتٌ عَنْ صَوْتٍ ، وَلاَ تَحْجُزُهُ هِبَةٌ عَنْ سَلْبٍ ، وَلاَ يَشْغَلُهُ غَضَبٌ عَنْ رَحْمَةٍ ، وَلاَ تُولِهُهُ رَحْمَةٌ عَنْ عِقَابٍ ، وَلاَ يُجِنُّهُ الْبُطُونُ عَنِ الظُّهُورِ ، وَلاَ يَقْطَعُهُ الظُّهُورُ عَنِ الْبُطُونِ . قَرُبَ فَنأَى ، وَعَلاَ فَدَنَا ، وَظَهَرَ فَبَطَنَ ، وَبَطَنَ فَعَلَنَ ، ودَانَ وَلَمْ يُدَنْ . لَمْ يَذْرَأ الْخَلْقَ بِاحْتِيَالٍ ، وَلاَ اسْتَعَانَ بِهِمْ لِكَ_لاَلٍ . أُوصِيكُمْ _ عِبَادَ اللّهِ _ بِتَقْوَى اللّهِ ، فَإِنَّهَا الزِّمَامُ

.

ص: 647

وَالْقِوَامُ ، فَتَمَسَّكُوا بِوَثَائِقِهَا ، وَاعْتَصِمُوا بِحَقَائِقِهَا ، تَؤلْ بِكُمْ إِلَى أَكْنَانِ الدَّعَةِ وَأَوْطَانِ السَّعَةِ ، وَمَعَاقِلِ الْحِرْزِ ، وَمَنَازِلِ الْعِزِّ يَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ، وَتُظْلِمُ لَهُ الأقْطَارُ ، وَتُعَطَّلُ فِيهِ صُرُومُ الْعِشَارِ . وَيُنْفَخُ فِي الصُّورِ ، فَتَزْهَقُ كُلُّ مُهْجَةٍ ، وَتَبْكَمُ كُلُّ لَهْجَةٍ ، وَتَذِلُّ الشُّمُّ الشَّوَامِخُ ، وَالصُّمُّ الرَّوَاسِخُ ، فَيَصِيرُ صَلْدُهَا سَرَاباً رَقْرَقاً ، وَمَعْهَدُهَا قَاعاً سَمْلَقاً ، فَ_لاَ شَفِيعٌ يَشَفَعُ ، وَلاَ حَمِيمٌ يَنْفَعُ ، وَلاَ مَعْذِرَةٌ تَدْفَعُ .

الشّرْحُ :أظهر سبحانه من آثار سلطانه ، نحو خلق الأفلاك ودخول بعضها في بعض ، كالمَمِيل الذي يشتمِل على المائل ، وفلك التّدوير وغيرهما ؛ ونحو خلْق الإنسان وما تدلّ كتب التشريح من عجيب الحكمة فيه ؛ ونحو خلق النبات والمعادن ، وترتيب العناصر وعلاماتها ، والآثار العلوية المتجدّدة ، حسب تجدد أسبابها ، ما حيّر عقول هؤلاء ، وأشعر بأنها إذا لم يحِط بتفاصيل تلك الحِكم مع أنّها مصنوعة ، فالأوْلَى ألاّ تحيطَ بالصانع الذي هو بريءٌ عن المادة وعلائق الحسّ . والمُقَل : جمع مُقْلة ؛ وهي شحمة العين الَّتي تجمع السواد والبياض ، ومقلتُ الشيء : نظرت إليه بمقلتي ، وأضاف المقل إلى « العقول » مجازا ، ومراده البصائر . وردع : زجر ودفع . وهماهِم النفوس : أفكارها وما يهمهم به عند التمثيل والرويَّة في الأمر ، وأصل الهمهمة ، صُوَيتٌ يسمع ، لا يفهم محصوله . والعِرْفان : المعرِفة . وكُنْه الشيء : نهايته وأقصاه . والإيقان : العِلْم القطعيّ . والإذعان : الانقياد . والأعلام : المنار والجبال يستدلّ بها في الطرقات . والمناهج : السُّبُل الواضحة . والطامسة كالدارسة . وصدَع بالحقّ : بيّن ، وأصله الشقّ يظهر ماتحته . ويقال : نَصحتُ لزيد ، وهو أفصح من قولك : نصحتُ زيداً . والقَصْد : العدل . والعَبَث : ما لا غرض فيه ، أو ما ليس فيه غرض مثله . والهمَل : الإبل بلا راع ؛ وقد أهمَلْتُ الإبل : أرسلتها سدىً . قوله : « عَلِم مبلغ نعمه عليكم ، وأحصى إحسانه إليكم » ، أي هو عالم بكميَّة إنعامه عليكم علما مفصَّلاً ؛ وكلُّ مَنْ علم قدر نعمته على غيره كان أحرى أن تشتدّ نقمته عليه عند عصيانه له وجرأته عليه ، بخلاف مَنْ يجهل قدر نعمته على الغير ، فإنه لا يشتدّ غضبه ؛ لأ نّه لا يعلم قدر نعمته المكفورة .

.

ص: 648

قوله : « فاستفتحوه » ، أي اطلبوا منه الفَتْح عليكم والنَّصْر لكم . واستنجِحُوه : اطلبوا منه النجاح والظَّفَر . واطلبوا إليه : أي اسألوه . واستمنِحوه ، بكسر النون : اطلبوا منه المِنْحَة ، وهي العطيّة . ويروى : « واستميحوه » بالياء ، استمحتُ الرّجُل : طلبت عطاءه ، ومحتُ بالرجل : أعطيته . ثم ذكر عليه السلام أ نّه لا حِجاب يمنَع عنه ، ولا دونه باب يُغلق ، وأنه بكلّ مكان موجود ، وفي كلّ حين وأوان ، والمراد بوجوده في كلّ مكان إحاطة علمه ؛ وهو معنى قوله تعالى : « مَا يَكُونُ مِن نَجْوَى ثَلاَثَة إلاَّ هُوَ رابِعهُم » (1) ، وقوله سبحانه : « وَهُوَ مَعَكُمْ أيْنمَا كُنتُمْ » (2) . قوله : « لا يثلِمه العطاء » بالكسر : لا ينقص قدرته . والحِباء : النَّوال . ولا يستنفذه ، أي لا يفنيه . ولا يستقصيه : لا يبلغ الجود أقصى مقدوره وإن عَظُم الجود ؛ لأ نّه قادر على ما لا نهاية له . « ولا يلويه شخص عن شخص » : لا يوجب ما يفعله لشخص أو مع شخص إعراضاً وذهولاً عن شخص آخر ؛ بل هو عالم بالجميع ، لا يشغله شأن عن شأن . لوى الرجل وجهه ، أي أعرض وانحرف ، ومثل هذا أراد بقوله : « ولا يلهيه صوت عن صوت » ، ألهاه كذا ، أي شَغَله . ولا تحجُزه _ بالضمّ _ هِبة عن سَلْب ، أي لا تمنعه ، أي ليس كالقادرين بالقدرة مثلنا ؛ فإنّ الواحد منّا يصرفه اهتمامه بعطيّة زيد عن سلب مال عمرو ، حالَما يكون مهتمّا بتلك العطيّة ؛ لأنّ اشتغال القلب بأحد الأمرين يشغله عن الآخر . ومثل هذا قوله : « ولا يشغله غضب عن رحمة ، ولا تُولِهه رحمة عن عقاب » ، أي لا تحدث الرحمة لمستحقّها عنده ولَها ، وهو التحيّر والتردّد ، وتصرفه عن عقاب المستحقّ ؛ وذلك لأنّ الواحد منّا إذا رحِمَ إنسانا حدث عنده رقّة ، خصوصاً إذا توالت منه الرحمة لقوم متعدّدين ، فإنه تصير الرحمة كالملكة عنده ، فلا يطيق مع تلك الحال أنْ ينتقم ، والبارئ تعالى بخلاف ذلك ؛ لأ نّه ليس بذي مزاج سبحانه ولا يجنَّه البطون عن الظهور ، ولا يقطعه الظهور عن البطون ؛ هذه كلّها مصادر ؛ بَطَن بُطُونا أي خَفِيَ ، وظهر ظهوراً ، أي تجلّى ، يقول : لا يمنعه خفاؤه عن العقول أن تدركه عند ظهوره بأفعاله وإنْ لم يكن ظاهراً بذاته ، وكذلك لا يقطعه ظهوره بأفعاله عن أن يخفى كُنْهه عن إبصار العقول وإدراكها له . ويقال : اجتننت كذا ، أي سترته ، ومنه الجنين ، والجُنَّة للترس ، وسمِّي الجنُّ جنّا لاستتارهم .

.


1- .سورة المجادلة 7 .
2- .سورة الحديد 4 .

ص: 649

ثم زاد المعنى تأكيدا فقال : « قرُب فنأى » ، أي قرب فعلاً فنأى ذاتاً ، أي أفعاله قد تُعلم ؛ ولكنّ ذاته لا تعلم . ثم قال : « وعلا فدنا » ، أي لمّا علا عن أن تحيط به العقول عرفته العقول ، لا أنّها عرفت ذاته ، لكن عرفت أ نّه شيء لا يصحّ أن يعرف ، وذلك خاصّته سبحانه ، فإنّ ماهيّته يستحيل أن تتصوّر للعقل لا في الدنيا ولا في الآخرة ، بخلاف غيره من الممكنات . ثم أكّد المعنى بعبارة أُخرى ، قال : « وظهر فبطَن ، وبطن فعلَن » ، وهذا مثل الأوّل . ودان : غلب وقَهر ، ولم يُدَنْ : لم يقهر ولم يغلب . ثم قال : « لم يذرأ الخلق باحتيال » ، أي لم يخلقْهم بحيلة توصّل بها إلى إيجادهم ، بل أوجدَهُم على حسب عِلمه بالمصلحة خلقاً مخترعاً من غير سبب ولا واسطة . « ولا استعان بهم لكَلاَل »، أي لإعياء ، أي لم يأمر المكلَّفين بالجهاد لحاجته في قهر أعدائه ، وجاحدي نعمته إليهم ؛ وليس بكالٍّ ولا عاجز عن إهلاكهم ، ولكنّ الحكمةَ اقتضتْ ذلك ، قال سبحانه : «وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمُ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ » (1) ، أي لبطل التكليف . ثم ذكر أنّ التقوى قِوام الطاعات التي تقوم بها ، وزمام العبادات ؛ لأنها تمسِك وتحصِّن ، كزمام الناقة المانع لها من الخبْط . والوثائق : جمع وثيقة ، وهي ما يوثق به . وحقائقها : جمع حقيقة ؛ وهي الراية ، يقال : فلان حامي الحقيقة . قوله : « تَؤُلْ » بالجزم ؛ لأ نّه جواب الأمر ، أي ترجع . والأكنان : جمع كِنّ وهو السّاتر . والدّعة : الراحة . السَّعَة : الجِدَة . والمعاقل : جمع مَعْقِل ، وهو الملجأ . والحِرْز : الحفظ . وتشخص الأبصار : تبقى مفتوحة لا تطرف . والأقطار : الجوانب . والصُّروم : جمع صُرْم وصِرْمة ، وهي القطعة من الإبل نحو الثلاثين . والعِشار : النّوق أتى عليها من يوم أُرسل الفحل فيها عشرة أشهر ، فزال عنها اسم المخاض ، ولا يزال ذلك اسمها حتى تَضَع ، والواحدة عُشَراء ، وهذا من قوله تعالى : « وَإذَ الْعِشارُ عُطِّلَتْ » (2) ، أي تركت مسيّبَة مهملَة لا يلتفت إليها أربابها ، ولا يحلبونها لاشتغالهم بأنفسهم . وتزهق كلّ مهجة : تهلك . وتبكَم كلّ لهجة ، أي تخرس ، رجل أبكم وبكيم ، والماضي بكِمَ بالكسر . والشُّمّ الشوامخ : الجبال العالية . وذُلّها : تدكْدكها ؛ وهي أيضاً الصمّ الرواسخ . فيصير صلدها _ وهو الصلب الشديد انصلابه _ سرابا ، وهو ما يتراءى في النهار فيظنّ ماءً . والرَّقراق : الخفيف . ومعهدها : ما جعل منها منزلاً للناس . قاعاً : أرضاً خالية . والسَّمْلق : الصفصف المستوي ، ليس بعضه أرفعَ وبعضه أخفض .

.


1- .سورة البقرة 251 .
2- .سورة التكوير 4 .

ص: 650

189 . من خطبة له عليه السلام يعظ فيها الناس ويحث على العمل الصالح قبل فوات الأوان

189الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامبَعَثَهُ حِينَ لاَ عَلَمٌ قَائِمٌ ، وَلاَ مَنَارٌ سَاطِعٌ ، وَلاَ مَنْهَجٌ وَاضِحٌ . أُوصِيكُمْ _ عِبَادَ اللّهِ _ بِتَقْوَى اللّهِ ، وَأُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا ، فإِنَّهَا دَارُ شُخُوصٍ ، وَمَحَلَّةُ تَنْغِيصٍ ، سَاكِنُهَا ظَاعِنٌ ، وَقَاطِنُهَا بَائِنٌ . تَمِيدُ بِأَهْلِهَا مَيَدَانَ السَّفِينَةِ تَقْصِفُهَا الْعَوَاصِفُ فِي لُجَجِ الْبِحَارِ ، فَمِنْهُمُ الْغَرِقُ الْوَبِقُ ، وَمِنْهُمُ النَّاجِي عَلَى بُطُونِ الْأَمْوَاجِ ، تَحْفِزُهُ الرِّيَاحُ بِأَذْيَالِهَا ، وَتَحْمِلُهُ عَلَى أَهْوَالِهَا ، فَمَا غَرِقَ مِنْهَا فَلَيْسَ بِمُسْتَدْرَكٍ ، وَمَا نَجَا مِنْهَا فَإِلَى مَهْلَكٍ . عِبَادَ اللّهِ ، الآنَ فَاعْمَلوا ، وَالْأَلْسُنُ مُطْلَقَةٌ ، وَالأبْدَانُ صَحِيحَةٌ ، وَالأعْضَاءُ لَدْنَةٌ ، وَالْمُنْقَلَبُ فَسِيحٌ ، وَالْمَجَالُ عَرِيضٌ ، قَبْلَ إِرْهَاقِ الْفَوْتِ ، وَحُلُولِ الْمَوْتِ . فَحَقِّقُوا عَلَيْكُمْ نُزُولَهُ ، وَلاَ تَنْتَظِرُوا قُدُومَهُ .

الشّرْحُ :يقول : بعث اللّه سبحانه محمداً صلى الله عليه و آله وسلم لمّا لم يبق عَلَمٌ يهتدي به المكلَّفون ؛ لأ نّه كان زمان الفترة وتبدّل المصلحة ، واقتضاء وجوب اللّطف عليه سبحانه تجديدا لبعثته ؛ ليعرِّف المبعوثُ المكلّفين الأفعال التي تقرّبهم من فعل الواجبات العقلية ، وتبعدهم عن المقبّحات الفعلية . والمنار الساطع : المرتفع . سطع الصُّبْحُ سطوعاً : ارتفع . ودارُ شخوص : دار رحلة ، شَخَص عن البلد : رحل عنه . والظاعن : المسافر . والقاطن : المقيم . والبائن : البعيد . يقول : ساكن الدنيا ليس بساكن على الحقيقة ، بل هو ظاعن في المعنى وإن كان في الصورة ساكنا ، والمقيم بها مفارق ؛ وإن ظَنّ أنه مقيم . وتميد بأهلها : تتحرّك وتميل . والمَيدان : حركة

.

ص: 651

190 . من خطبة له عليه السلام يذكر فيها بعض مواقفه من الرسول صلى الله عليه و آله وسلم

واضطراب . وتقصفها العواصف : تضربها بشدّة ضربا بعد ضرب . والعواصف : الرياح القوية . اللّجج : جمع لُجّة ، وهي معظم البحر . الوبِق : الهالك ، وبَق الرجل بالفتح ، يبِقُ وبوقاً : هلك ، والموْبِق منه كالموعِد « مفعِل » من وعد يعِد ، ومنه قوله تعالى : « وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقا » (1) ؛ وأوبقه اللّه ، أي أهلكه . وتحفزه الرياح ، تدفعه . ضرب عليه السلام لأهل الدنيا مثلاً براكبي السَّفينة في البحر ، وقد مادَتْ بهم ، فمنهم الهالك على الفور ، ومنهم مَنْ لا يتعجّل هلاكه ، وتحمله الرياح ساعة أو ساعات ، ثم مآله إلى الهلاك أيضا . ثم أمَرَ عليه السلام بالعمل وقتَ الإمكان قبل ألاّ يمكن العمل ، فكنَى عن ذلك بقوله : والألسن منطلِقة ؛ لأنّ المحتضَر يُعتقل لسانه ، والأبدان صحيحة ؛ لأنّ المحتَضر سقيم البدن . والأعضاء لدْنة ، أي لينة ، أي قبل الشيخوخة والهرَم ويبس الأعضاء والأعصاب . والمنقَلب فسيح ، والمجال عريض ، أي أيام الشبيبة وفي الوقت والأجل مهلة ، قبل أن يضيق الوقت عليكم . قبل إرهاق الفوت ، أي قبل أن يجعلكم الفوت _ وهو فوات الأمر وتعذّر استدراكه عليكم _ مرهَقين ، والمرهَق : الذي أُدرك ليقتل . قوله : « فحقِّقوا عليكم نزوله ، ولا تنتظروا قدومه » ، أي اعملوا عمل مَنْ يشاهد الموت حقيقة ، لا عمل مَنْ ينتظره انتظارا ويطاول الأوقات مطاولة ، فإنّ التسويف داعية التقصير .

190الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلاموَلَقَدْ عَلِمَ الْمُسْتَحْفِظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وسلّم ، أَنِّي لَمْ أَرُدَّ عَلَى اللّهِ وَلاَ عَلَى رَسُولِهِ سَاعَةً قَطُّ . وَلَقَدْ وَاسَيْتُهُ بِنَفْسِي فِي الْمَوَاطِنِ الَّتي تَنْكُصُ فِيهَا الأبْطَالُ ، وَتَتَأَخَّرُ فِيهَا الْأَقْدَامُ ، نَجْدَةً أَكْرَمَنِي اللّهُ بِهَا .

.


1- .سورة الكهف 52 .

ص: 652

وَلَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللّهِ _ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وسَلّم _ وَإِنَّ رَأسَهُ لَعَلَى صَدْرِي . وَلَقَدْ سَالَتْ نَفْسُهُ فِي كَفِّي ، فَأَمْرَرْتُهَا عَلَى وَجْهِي . وَلَقَدْ وُلِّيتُ غُسْلَهُ _ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وسلَّم _ وَالْمَلاَئِكُةُ أَعْوَانِي ، فَضَجَّتِ الدَّارُ وَالْأَفْنِيَةُ ؛ مَلَأٌ يَهْبِطُ ، وَمَلَأٌ يَعْرُجُ ، وَمَا فَارَقَتْ سَمْعِي هَيْنَمَةٌ مِنْهُمْ ، يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى وَارَيْنَاهُ فِي ضَرِيحِهِ . فَمَنْ ذَا أَحَقُّ بِهِ مِنِّي حَيّاً وَمَيِّتاً؟ فَانْفُذُوا عَلَى بَصَائِرِكُمْ ، وَلْتَصْدُقْ نِيَّاتُكُمْ فِي جِهَادِ عَدُوِّكُمْ . فَوَالَّذِي لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِنِّي لَعَلَى جَادَّةِ الْحَقِّ ، وَإِنَّهُمْ لَعَلَى مَزَلَّةِ الْبَاطِلِ . أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ ، وَأَسْتَغْفِرُ اللّهَ لِي وَلَكُمْ .

الشّرْحُ :يمكن أن يعني بالمستحفَظين الخلفاء الذين تقدّموا ؛ لأنّهم الّذين استحفِظوا الإسلام ؛ أي جُعِلوا حافظين له ، وحارسين لشريعته ولحوزته ، ويجوز أن يعني به العلماء والفُضَلاء من الصّحابة ؛ لأنهم استحفِظوا الكتاب ، أي كُلِّفوا حفظَه وحراسته . والظاهر أنه يرمز في قوله عليه السلام : « لم أردّ على اللّه ، ولا على رسوله ساعة قطّ » إلى أُمور وقعتْ من غيره ، كما جرى يوم الحديبيَة عند سَطْر كتاب الصلح ؛ فإنّ بعض الصحابة (1) أنكر ذلك . قوله عليه السلام : « ولقد واسيتُه بنفسي » ، يقال : واسيته وآسيته ، وبالهمزة أفصح ، وهذا مما اختصّ عليه السلام بفضيلته غير مدافَع ، ثبت معه يوم أُحُد وفرّ الناس ، وثبت معه يوم حُنين وفرّ

.


1- .المنكر هو عمر بن الخطاب ، انظر سيرة ابن هشام 3 : 331 ط . الحلبي . وذكر الواقدي في (مغازيه) 2 : 606 جعل عمر بن الخطاب يردُّ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم الكلام ، يقول _ أي عمر _ : علامَ نعطي الدنيّة في ديننا ؟ فجعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلميقول : أنا رسول اللّه ولن يضيِّعني ، فقال : أولست كنتَ تحدِّثُنا أنّا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال صلى الله عليه و آله وسلم : بلى ، فأخبرتك أنّا نأتيه هذا العام ؟ قال : لا ، قال صلى الله عليه و آله وسلم : فإنّك آتيه ومطوِّف به . انظر ، صحيح البخاري 2 : 978 / ح2581 كتاب الشروط . وشرح النهج 12 : 59 ثم ذكر الشارح أموراً ووقائع كثيرة من مخالفات عمر ومعارضاته لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وحاول أن يجد لها مبررات تنسجم مع عقيدته ومذهب أصحابه .

ص: 653

الناس ، وثبت تحت رايته يوم خَيْبر حتى فتحها وفرّ من كان بعث بها من قبله . قوله عليه السلام : « نجدةً أكرمني اللّه سبحانه بها » ، النّجْدة : الشجاعة ، وانتصابها هاهنا على أنّها مصدر ، والعامل فيه محذوف . ثم ذكر عليه السلام وفاةَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، فقال : « لقد قُبِض وإنّ رأسَه لعَلَى صدري ، ولقد سالتْ نفسه في كفّي ، فأمررتُها على وجهي » ، يقال : إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قاء دما يسيرا وقت موته ، وإنّ عليّا عليه السلام مَسَحَ بذلك الدّم وجهه 1 . وقد رُوِيَ أنّ أبا طيبة الحجّام شرب دمَه عليه السلام وهو حيّ ، فقال له : إذن لا يجعْ بطنك . قوله عليه السلام : « فضجّت الدار والأفنيَة » ، أي النازلون في الدار من الملائكة ، أي ارتفع ضَجيجُهم ولجبُهم ، يعني أني سمعت ذلك ولم يسمعه غيري من أهل الدار . والملأ : الجماعة ، يهبط قومٌ من الملائكة ويصعد قوم . والعروج : الصعود . والهينمة الصوْت الخفيّ . والضريح : الشقّ في القبر . فأمّا الغسل فإنّ علياً عليه السلام تولاّه بيده ، وكان الفضل بن العباس يصبّ عليه الماء . وروى المحدّثون عن عليّ عليه السلام ، أنه قال : ما قَلَبْتُ منه عِضْواً إلاّ وانقلب ، لا أجدُ ثِقلاً ، كأنّ معي مَنْ يساعدني عليه ، وما ذلك إلاّ الملائكة . وأما حديث الهيمنة وسماع الصّوت ، فقد رواه خَلْق كثير من المحدّثين ، عن عليّ عليه السلام ، وتروي الشيعة أنّ علياً عليه السلام عَصَب عَيْنَي الفضل بن العباس ، حين صبّ عليه الماء ، وأنّ

.

ص: 654

191 . من خطبة له عليه السلام فيها تمجيد اللّه وتعظيمه ، وحثّ للناس على التقوى ، ووصف للإسلام وحال الناس قبل البعثة

رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أوصاه بذلك ، وقال : إنه لا يبصر عورتي أحدٌ غيرُك إلاّ عَمِيَ واتفقوا على دفنه في البيت الذي قضى فيه وصلوا عليه إرسالاً لا يؤمّهم أحد . وقيل : إن عليّاً عليه السلام أشار بذلك فقبلوه . وأنا أعجب من ذلك ؛ لأنّ الصّلاة عليه كانت بعد بَيْعة أبي بكر ، فما الذي منع من أن يتقدّم أبوبكر فيصلّي عليه إماماً ؟! (1) قوله عليه السلام : « فمن ذا أحقّ به منّي حيّا وميتاً ! » ، انتصابهما على الحال من الضمير المجرور في « به » ، أي أيّ شخص أحقّ برسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم حال حياته وحال وفاته منّي ؟ ومرادُه من هذا الكلام ، أ نّه أحقّ بالخلافة بعدَه وأحقّ الناس بالمنزلة منه حيث كان بتلك المنزلة منه في الدنيا . قوله عليه السلام : « فانفذوا إلى بصائركم » ، أي أسرعوا إلى الجهاد على عقائدكم التي أنتم عليها ، ولا يدخلنّ الشكّ والرَّيب في قلوبكم . قوله عليه السلام : « إني لعلى جادّة الحق ، وإنهم لعلَى مزلّة الباطل » ، كلام عجيب على قاعدة الصناعة المعنوية ؛ لأ نّه لا يحسن أن يقول : وإنهم لَعَلَى جادّة الباطل ؛ لأنّ الباطل لا يوصف بالجادّة ، ولهذا يقال لمن ضلّ : وقع في بُنَيّاتِ الطريق ، فتعوّض عنها بلفظ « المزلّة » ، وهي الموضع الذي يزلّ فيه الإنسان ، كالمزلقة : موضع الزَّلَق ، والمغرَقة : موضع الغرق ، والمهلكة : موضع الهلاك .

191الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلاميَعْلَمُ عَجِيجَ الْوُحُوشِ فِي الْفَلَوَاتِ ، وَمَعاصِيَ الْعِبَادِ فِي الْخَلَوَاتِ ، وَاخْتِلاَفَ

.


1- .في الحديث كما في الكافي عن أبي جعفر عليه السلام قال : لمّا قبض النبي صلى الله عليه و آله وسلم صلّت عليه الملائكة والمهاجرون والأنصار فوجاً فوجاً . أما الشارح المتعجب الذي أراد توفيقاً لم يتمّ له ، فهو يعلم أن أبابكر وغيره من الصحابة كانوا يتصارعون على الخلافة وسلطان محمد صلى الله عليه و آله وسلم في سقيفة بني ساعدة .

ص: 655

النِّينَانِ فِي الْبِحَارِ الْغَامِرَاتِ ، وَتَلاَطُمَ الْمَاءِ بِالرِّيَاحِ الْعَاصِفَاتِ . وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً نَجِيبُ اللّهِ ، وَسَفِيرُ وَحْيِهِ ، وَرَسُولُ رَحْمَتِهِ . أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّي أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللّهِ الَّذِي ابْتَدَأَ خَلْقَكُمْ ، وَإِلَيْهِ يَكُونُ مَعَادُكُمْ ، وَبِهِ نَجَاحُ طَلِبَتِكُمْ ، وَإِلَيْهِ مُنْتَهْى رَغْبَتِكُمْ ، وَنَحْوَهُ قَصْدُ سَبِيلِكُمْ ، وَإِلَيْهِ مَرَامِي مَفْزَعِكُمْ . فَإِنَّ تَقْوَى اللّهِ دَوَاءُ دَاءِ قُلُوبِكُمْ ، وَبَصَرُ عَمَى أَفِئِدَتِكُمْ ، وَشِفَاءُ مَرَض اَجْسَادِكُمْ ، وَصَلاَحُ فَسَادِ صُدُورِكُمْ ، وَطَهُورُ دَنَسِ أَنْفُسِكُمْ ، وَجِلاَءُ غِشاءِ أَبْصَارِكُمْ ، وَأَمْنُ فَزَعِ جَأشِكُمْ ، وَضِيَاءُ سَوَادِ ظُلْمَتِكُمْ .

الشّرْحُ :العجيج : رفع الصوت ، وكذلك العَجّ ، وفي الحديث : « أفضل الحجّ العَجّ والثَّجّ » ، أي التلبية وإراقة الدم ، وعجيج ، أي صوت ، ومضاعفة اللفظ دليل على تكرير التصويت . والنِّينان : جمع نُونٍ ، وهو الحوت ، واختلافها هاهنا : هو إصعادها وانحدارها . ونجيب اللّه : منتجَبه ومختاره . وسفير وحيِه : رسول وحيِه ، والجمع سفَراء ، مثل فقيه وفقهاء . وإليه مرامي مفزعِكم : إليه تفزعون وتلجئون ، ويقال : فلان مرمَى قصدي ، أي هو للوضع الذي أنحوه وأقصِده . ويروى : « وجلاء عَشَى أبصاركم » ، بالعين المهلمة والألف المقصورة ، والجأش : القلب، وتقدير الكلام : وضياء سواد ظلمة عقائدكم ، ولكنّه حذف المضاف للعلم به .

الأصْلُ :فَاجْعَلُوا طَاعَةَ اللّهِ شِعَاراً دُونَ دِثَارِكُمْ ، وَدَخِيلاً دُونَ شِعَارِكُمْ ، وَلَطِيفاً بَيْنَ أَضْلاَعِكُمْ وأمِيراً فَوْقَ أُمُورِكُمْ ، وَمَنْهَلاً لِحِينِ وَرُوُدِكُمْ ، وَشَفِيعاً لِدَرَكِ طَلِبَتِكُمْ ، وَجُنَّةً لِيَوْمِ فَزَعِكُمْ ، وَمَصَابِيحَ لِبُطُونِ قُبُورِكُمْ ، وَسَكَناً لِطُولِ وَحْشَتِكُمْ ، وَنَفَساً لِكَرْبِ مَوَاطِنِكُمْ . فَإِنَّ طَاعَةَ اللّهِ حِرْزٌ مِنْ مَتَالِفِ مُكْتَنِفَةٍ ، وَمَخَاوِفَ مُتَوَقَّعَةٍ ، وَأُوَارِ نِيرَانٍ مُوقَدَةٍ .

.

ص: 656

فَمَنْ أَخَذَ بِالتَّقْوَى عَزَبَتْ عَنْهُ الشَّدَائِدُ بَعْدَ دُنُوِّهَا ، وَاحْلَوْلَتْ لَهُ الْأُمُورُ بَعْدَ مَرَارَتِهَا ، وَانْفَرَجَتْ عَنْهُ الْأَمْوَاجُ بَعْدَ تَرَاكُمِهَا ، وَأَسْهَلَتْ لَهُ الصِّعَابُ بَعْدَ إِنْصَابِهَا ، وَهَطَلَتْ عَلَيْهِ الْكَرَامَةُ بَعْدَ قُحُوطِهَا ، وَتَحَدَّبَتْ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ بَعْدَ نُفُورِهَا ، وَتَفَجَّرَتْ عَلَيْهِ النِّعَمُ بَعْدَ نُضُوبِهَا ، وَوَبَلَتْ عَلَيْهِ الْبَرَكَةُ بَعْدَ إِرْذَاذِهَا . فَاتَّقُوا اللّهَ الَّذِي نَفَعَكُمْ بَمَوْعِظَتِهِ ، وَوَعَظَكُمْ بِرِسَالَتِهِ ، وَامْتَنَّ عَلَيْكُمْ بِنِعْمَتِهِ . فَعَبِّدُوا أَنْفُسَكُمْ لِعِبَادَتِهِ ، وَاخْرُجُوا إِلَيْهِ مِنْ حَقِّ طَاعَتِهِ .

الشّرْحُ :الشِّعار : أقرب إلى الجَسَد من الدِّثار . والدّخيل : ما خالط باطنَ الجسد ، وهو أقرب من الشعار . ثم لم يقتصر على ذلك حتى أمر بأن يجعل التقوى لطيفاً بين الأضلاع ، أي في القلب ، وذلك أمسّ بالإنسان من الدخيل ، فقد يكون الدّخيل في الجسد وإن لم يخامر القلب . ثم قال : « وأميراً فوق أُموركم » ، أي يحكُم على أُموركم كما يحكم الأمير في رعيّته . والمنهل : الماء يرِده الوارد من الناس وغيرهم . وقوله : « لحين ورودكم » ، أي لوقت ورودكم . والطَّلِبة بكسر اللام : ما طلبته من شيء . قوله : « ومصابيح لبطون قبوركم » ، جاء في الخبر : إنّ العمل الصالح يضِيء قبرَ صاحبه كما يضيء المصباح الظلمة . والسّكن : ما يسكن إليه . قوله : « ونَفَسا لكرب مواطنكم » ، أي سعَة ورَوْحاً . ومكتنفة : محيطة . والأُوَار : حرّ النار والشمس . وعَزَبت : بُعدت . واحلولت : صارت حلوة . وتراكُمها : اجتماعها وتكاثُفها . وأسهلت : صارت سهلة . بعد إنصبابها ، أي بعد إتعابها لكم ؛ أنصبته : أتعبته . وهطلت : سالت . وقحوطها : قلّتها ووَتاحتها . وتحدّبت عليه : عطفت وحَنَت . نضوبها : انقطاعها ، كنضوب الماء : ذهابه . ووبلَ المطر : صار وابلاً ، وهو أشدّ المطر وأكثره . وإرذاذها : إتيانها بالرَّذاذ وهو ضعيف المطر . قوله : « فعبِّدوا أنفسكم » ، أي ذللوها ، ومنه طريق معبّد . وأخرجوا إليه من حقّ طاعته ، أي أدّوا المفتَرَض عليكم من العبادة ، يقال : خرجت إلى فلانٍ من دَيْنه ، أي قضيته إياه .

.

ص: 657

الأصْلُ :ثُمَّ إِنَّ هذَا الاْءِسْلاَمَ دِينُ اللّهِ الَّذِي اصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ ، وَاصْطَنَعَهُ عَلَى عَيْنِهِ ، وَأَصْفَاهُ خِيَرَةَ خَلْقِهِ ، وَأَقَامَ دَعَائِمَهُ عَلَى مَحَبَّتِهِ . أَذَلَّ الْأَدْيَانَ بِعِزَّتِهِ ، وَوَضَعَ الْمِلَلَ بِرَفْعِهِ ، وَأَهَانَ أَعْدَاءَهُ بِكَرَامَتِهِ ، وَخَذَلَ مُحَادِّيهِ بِنَصْرِهِ ، وَهَدَمَ أَرْكَانَ الضَّلاَلَةِ بِرُكْنِهِ . وَسَقَى مَنْ عَطَشَ مِنْ حِيَاضِهِ ، وَأَتْأَقَ الْحِيَاضَ بِمَوَاتِحِهِ . ثُمَّ جَعَلَهُ لاَ انْفِصَامَ لِعُرْوَتِهِ ، وَلاَ فَكَّ لِحَلْقَتِهِ ، وَلاَ انْهِدَامَ لِأَسَاسِهِ ، وَلاَ زَوَالَ لِدَعَائِمِهِ ، وَلاَ انْقِلاَعَ لِشَجَرَتِهِ ، وَلاَانْقِطَاعَ لِمُدَّتِهِ ، وَلاَ عَفَاءَ لِشَرَائِعِهِ ، وَلاَ جَذَّ لِفُرُوعِهِ ، وَلاَ ضَنْكَ لِطُرُقِهِ ، وَلاَ وُعُوثَةَ لِسُهُولَتِهِ ، وَلاَ سَوَادَ لِوَضَحِهِ ، وَلاَ عِوَجَ لاِنْتِصَابِهِ ، وَلاَ عَصَلَ فِي عُودِهِ ، وَلاَ وَعَثَ لِفَجِّهِ ، وَلاَ انْطِفَاءَ لِمَصَابِيحِهِ ، وَلاَ مَرَارَةَ لِحَلاَوَتِهِ . فَهُوَ دَعَائِمُ أَسَاخَ فِي الْحَقِّ أَسْنَاخَهَا ، وَثَبَّتَ لَهَا أسَاسَهَا ، وَيَنَابِيعُ غَزُرَتْ عُيُونُهَا ، وَمَصَابِيحُ شَبَّتْ نِيرَانُهَا ، وَمَنَارٌ اقْتَدَى بِهَا سُفَّارُهَا ، وَأَعلاَمٌ قُصِدَ بِهَا فِجَاجُهَا ، وَمَنَاهِلُ رَوِيَ بِهَا وُرَّادُهَا . جَعَلَ اللّهُ فِيهِ مُنْتَهَى رِضْوَانِهِ ، وَذِرْوَةَ دَعَائِمِهِ ، وَسَنَامَ طَاعَتِهِ ؛ فَهُوَ عِنْدَ اللّهِ وَثِيقُ الْأَرْكَانِ ، رَفِيعُ الْبُنْيَانِ ، مُنِيرُ الْبُرْهَانِ ، مُضِيءُ النِّيرَانِ ، عَزِيزُ السُّلْطَانِ ، مُشْرِفُ الْمَنَارِ ، مُعْوِذُ الْمَثَارِ . فَشَرِّفُوهُ وَاتَّبِعُوهُ ، وَأَدُّوا إِلَيْهِ حَقَّهُ ، وَضَعُوهُ مَوَاضِعَهُ .

الشّرْحُ :اصطنعه على عينه ، كلمة تقال لما يشتدّ الاهتمام به ، تقول للصانع : اصنع لي كذا على عيني ، أي اصنعه صنعة كاملةً كالصنعة التي تصنعها وأنا حاضر أشاهدها بعيني ، قال تعالى : « وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي » (1) . وأصفاه خيرَة خلقه ، أي آثر به خيرَة خلقه ، وهم المسلمون ، وياء : « خِيرَة » مفتوحة. قال : وأقام اللّه دعائم الإسلام على حبّ اللّه وطاعته . والمحادّ : المخالف ،

.


1- .سورة طه 39 .

ص: 658

قال تعالى : « مَنْ يُحَادِد اللّه » (1) ، أي من يعادِ اللّه كأنه يكون في حدّ وجهَة ، وذلك الإنسان في حدّ آخر وجهة أُخرى ، وكذلك المشاقّ ؛ يكون في شقّ والآخر في شق آخر . وأتأق الحياض : ملأها ، وَتَئِقَ السّقاء نفسه يتأق تَأَقاً ، وكذلك الرجل ، إذا امتلأ غضبا . قوله : « بمواتحه » ، وهي الدّلاء يُمتَح بها ، أي يُسقى بها . والانفصام : الانكسار . والعفاء : الدُّروس . والجَذّ : القطع ، ويروى بالدال المهملة ؛ وهو القطع أيضا . والضّنك : الضيق . والوعوثة : كثرة في السهولة توجب صعوبة المشي ؛ لأنّ الأقدام تعِيث في الأرض . والوضَح : البياض . والعَوَج ، بفتح العين : فيما ينتصب كالنّخلة والرّمح ، والعِوَج بكسرها : فيما لا ينتصب ؛ كالأرض والرأي والدّين . والعَصَل : الالتواء والاعوجاج ، ناب أعْصَل وشجرة عصلة ، وسهام عُصْل . والفَجّ : الطريق الواسع بين الجبلين ، يقول : لا وَعث فيه ، أي ليس طريق الإسلام بوعث ، وقد ذكرنا أنّ الوعوثة ما هي . قوله : « فهو دعائم أساخ في الحق أسناخها » ، الأسناخ : جمع سِنْخ ، وهو الأصل ، وأساخها في الأرض : أدخلها فيها ، وساخت قوائم فرسه في الأرض تسوخُ وتَسِيخ : دخلت وغابت . والآساس بالمدّ : جمع أسَس ، مثل سَبَب وأسباب ، والأسَس والأُسّ والأساس واحد ، وهو أصل البناء . وغَزُرت عيونها ، بضم الزاي : كثرت . وشبّت نيرانها بضم الشين : أُوقدت ، والمنار : الأعلام في الفلاة . قوله : « قصد بها فجاجها » ، أي قصد بنصب تلك الأعلام اهتداء المسافرين في تلك الفجاج ، فأضاف القصد إلى الفِجاج . وروى : « روّادها » جمع رائد ، وهو الذي يسبق القوم فيرتاد لهم الكلأ والماء . والذّرْوة : أعلى السنام ، والرأس وغيرهما . قوله : « معوذِ المثار » ، أي يعجز الناس إثارته وإزعاجه لقوّته ومتانته .

الأصْلُ :ثُمَّ إِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى الله عليه و آله وسلم بالْحَقِّ حِينَ دَنَا مِنَ الدُّنْيَا الاِنْقِطَاعُ ، وَأَقْبَلَ مِنَ الآخِرَةِ الاِطِّ_لاَعُ ، وَأَظْلَمَتْ بَهْجَتُهَا بَعْدَ إِشْرَاقٍ ، وَقَامَتْ بِأَهْلِهَا عَلَى سَاقٍ ، وَخَشُنَ مِنْهَا مِهَادٌ ، وَأَزِفَ مِنْهَا قِيَادٌ ، فِي انْقِطَاعٍ مِنْ مُدَّتِهَا ، وَاقْتِرَابٍ مِنْ أَشْرَاطِهَا ، وَتَصَرُّمٍ

.


1- .سورة التوبة 63 .

ص: 659

مِنْ أَهْلِهَا ، وَانْفِصَامٍ مِنْ حَلْقَتِهَا ، وَانْتِشَارٍ مِنْ سَبَبِهَا ، وَعَفَاءٍ مِنْ أَعْلاَمِهَا ، وَتَكَشُّفٍ مِنْ عَوْرَاتِهَا ، وَقِصَرٍ مِنْ طُولِهَا . جَعَلَهُ اللّهُ بَلاَغاً لِرِسَالَتِهِ ، وَكَرَامَةً لِأُمَّتِهِ ، وَرَبِيعاً لِأَهْلِ زَمَانِهِ ، وَرِفْعَةً لِأعْوَانِهِ ، وَشَرَفاً لِأنْصَارِهِ . ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ نُوراً لاَ تُطْفَأُ مَصَابِيحُهُ ، وَسِرَاجاً لاَ يَخْبُو تَوَقُّدُهُ ، وَبَحْراً لاَ يُدْرَكُ قَعْرُهُ ، وَمِنْهَاجاً لاَ يُضِلُّ نَهْجُهُ ، وَشُعَاعاً لاَ يُظْلِمُ ضَوْؤهُ ، وَفُرْقَاناً لاَ يُخْمَدُ بُرْهَانُهُ ، وَتِبْيَاناً لاَ تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ ، وَشِفَاءً لاَ تُخْشَى أَسْقَامُهُ ، وَعِزّاً لاَ تُهْزَمُ أَنْصَارُهُ ، وَحَقّاً لاَ تُخْذَلُ أَعْوَانُهُ . فَهُوَ مَعْدِنُ الاْءِيمَانِ وَبُحْبُوحَتُهُ ، وَيَنَابِيعُ الْعِلْمِ وَبُحُورُهُ ، وَرِيَاضُ الْعَدْلِ وَغُدْرَانُهُ ، وَأَثَافِيُّ الاْءِسْلاَمِ وَبُنْيَانُهُ ، وَأَوْدِيَةُ الْحَقِّ وَغِيطَانُهُ . وَبَحْرٌ لاَ يَنْزِفُهُ الْمُسْتَنْزِفُونَ ، وَعُيُونٌ لاَ يُنْضِبُهَا الْمَاتِحُونَ ، وَمَنَاهِلُ لاَ يَغِيضُهَا الْوَارِدُونَ ، وَمَنَازِلُ لاَ يَضِلُّ نَهْجَهَا الْمُسَافِرُونَ ، وَأَعْلاَمٌ لاَ يَعْمَى عَنْهَا السَّائِرُونَ ، وَآكَامٌ لاَ يَجُوزُ عَنْهَا الْقَاصِدُونَ .

الشّرْحُ :قوله عليه السلام : « حين دنا من الدنيا الانقطاع » ، أي أزِفَتِ الآخرة وقَرُب وقتها . وقد اختلف الناس في ذلك اختلافاً شديداً . واختلفوا في مقدار الذاهب والباقي منها . ولا نعلم كميّة الماضي ولا كميّة الباقي ، ولكنّا نقول كما أُمِرْنا ، ونسمع ونطيع كما أُدّبنا ، ومن الممكن أن يكون ما بقي قريباً عند اللّه ، وغير قريب عندنا ، كما قال سبحانه : « إنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدا وَنَرَاهُ قَرِيبا » (1) . قوله عليه السلام : « وقامت بأهلها على ساقٍ » ، الضمير للدنيا ، والساق الشدّة ، أي انكشفت عن شدّة عظيمة . وقوله تعالى : « والتَفَّتِ السّاقُ بالسّاقِ » (2) ، أي التفّت آخر شدّة الدنيا بأول شدّة الآخرة .

.


1- .سورة المعارج 6 .
2- .سورة القيامة 29 .

ص: 660

والمِهاد : الفراش . وأزِف منها قياد ، أي قرب انقيادها إلى التقضي والزوال . وأشراط السّاعة : علاماتها ، وإضافتها إلى الدّنيا لأنّها في الدّنيا تحدث ، وإن كانت علامات للأُخرى . والعَفاء : الدروس . وروي : « من طِوَلها » والطِّوَل : الحبل . ثم عاد إلى ذكر النبي صلى الله عليه و آله وسلم فقال : جعله اللّه سبحانه بلاغا لرسالته ، أي ذا بلاغ ، والبلاغ : التّبليغ ، فحذف المضاف . ولا تخبو : لا تنطفئ . والفرقان : ما يُفْرَق به بين الحقّ والباطل . وأثافيّ الإسلام : جمع أُثفِيَّة ، وهي الأحجار توضع عليها القِدْر ، شكل مثلّث . والغيطان : جمع غائط ، وهو المطمئنّ من الأرض . ولا يَغِيضها ، بفتح حرف المضارعة ، غاض الماء وغِضتُه أنا ، يتعدّى ولا يتعدّى ، وروي « لا يُغيضها » بالضمّ على قول من قال : أغضت الماء ، وهي لغة ليست بالمشهورة . والإكام : جمع أَكَم ، مثل جِبال جمع جَبَل ، والأَكَم جمع إكَمة ، مثل عِنب جمع عِنَبة ، والأكَمة : ما علا من الأرض ، وهي دون الكثيب .

الأصْلُ :جَعَلَهُ اللّهُ رِيّاً لِعَطَش الْعُلَمَاءِ ، وَرَبِيعاً لِقُلُوبِ الْفُقَهَاءِ ، وَمَحَاجَّ لِطُرُقِ الصُّلَحَاءِ ، وَدَوَاءً لَيْسَ بَعْدَهُ دَاءٌ ، وَنُوراً لَيْسَ مَعَهُ ظُلْمَةٌ ، وَحَبْلاً وَثِيقاً عُرْوَتُهُ ، وَمَعْقِلاً مَنِيعاً ذِرْوَتُهُ ، وَعِزّاً لِمَنْ تَوَلاَّهُ ، وَسِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ ، وَهُدىً لِمَنِ ائْتَمَّ بِهِ ، وَعُذْراً لِمَنِ انْتَحَلَهُ ، وَبُرْهَاناً لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ ، وَشَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ بِهِ ، وَفَلْجاً لِمَنْ حَاجَّ بِهِ ، وَحَامِلاً لِمِنْ حَمَلَهُ ، وَمَطيَّةً لِمَنْ أَعْمَلَهُ ، وَآيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ ، وَجُنَّةً لِمَنِ اسْتَلْأَمَ ، وَعِلْماً لِمَنْ وَعَى ، وَحَدِيثاً لِمَنْ رَوَى ، وَحُكْماً لِمَنْ قَضَى .

الشّرْحُ :الضمير يرجع إلى القرآن ، جعله اللّه رِيّا لعطش العلماء ، إذا ضلّ العلماء في أمر والتبس عليهم رجعوا إليه ، فسقاهم كما يسقى الماء العطِش ، وكذا القول في « ربيعاً لقلوب الفقهاء » ، والربيع هاهنا : الجدول ، ويجوز أن يريد المطر في الرّبيع ، يقال : رَبعتِ الأرض فهي مربوعة . والمحاجّ : جمع محجّة ، وهي جادّة الطريق . والمعقِل : الملجأ . « وسِلْما لمن

.

ص: 661

192 . من كلام له عليه السلام يوصي أصحابه

دخله » ، أي مأمناً ، وانتحله : دان به ، وجعله نِحْلَته . والبرهان : الحجّة ، والفَلْج : الظَّفَر والفوز . وحاجّ به : خاصم . قوله عليه السلام : « وحاملاً لمَنْ حَمَله » ، أي أنّ القرآن ينجِّي يوم القيامة مَنْ كان حافظاً له في الدنيا ، بشرط أن يعمل به . قوله عليه السلام : « ومطيّة لمن أعمله » ، استعارة ، يقول : كما أنّ المطية تنجِّي صاحبَها إذا أعملها وبعثها على النَّجاء ، فكذلك القرآن إذا أعمله صاحبه أنجاه ، ومعنى إعماله ، اتّباع قوانينه والوقوف عند حدوده . « وآية لمَنْ توسّم » ، أي لمن تفَرّس ، قال تعالى : « إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ » (1) . والجُنّة : ما يستَتَرُ به : واستلأم : لبس لأمة الحرب ، وهي الدرع . ووَعَى : حَفِظ . قوله : « وحديثاً لمن روَى » ، قد سمّ_اه اللّه تعالى حديثاً فقال : « اللّهُ نَزَّلَ أحْسَنَ الحَديثِ كِتَابا مُتَشَابِها » (2) .

192الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام كان يوصي به أصحابهتَعَاهَدُوا أَمْرَ الصَّلاَةِ ، وَحَافِظُوا عَلَيْهَا ، وَاسْتَكْثِرُوا مِنْهَا ، وَتَقَرَّبُوا بِهَا ، فَإِنَّهَا كَانَتْ عَلَى الْمُؤمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً . أَلاَ تَسْمَعُونَ إِلَى جَوَابِ أَهْلِ النَّارِ حِينَ سُئِلُوا : « مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ » (3) . وَإِنَّهَا لَتَحُتُّ الذُّنُوبَ حَتَّ الْوَرَقِ ، وَتُطْلِقُهَا إِطْ_لاَقَ الرِّبَقِ . وَشَبَّهَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللّه عَليه وآلِهِ وَسَلَّم بِالْحَمَّة تَكُونُ عَلَى بَابِ الرجُلِ ، فَهُوَ يَغْتَسِلُ مِنْهَا فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرّاتٍ ، فَمَا عَسَى أَنْ يَبْقَى عَلَيْهِ مِنَ الدَّرَنِ!

.


1- .سورة الحجر 75 .
2- .سورة الزمر 23 .
3- .سورة المدّثر 42 ، 43 .

ص: 662

وَقَدْ عَرَفَ حَقَّهَا رِجَالٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لاَ تَشْغَلُهُمْ عَنْهَا زِينَةُ مَتَاعٍ ، وَلاَ قُرَّةُ عَيْنٍ مِنْ وَلَدٍ وَلاَ مَالٍ . يَقُولُ اللّهُ سُبْحَانَهُ : « رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ» (1) . وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيهِ وآلِهِ نَصِباً بِالصَّلاَةِ بَعْدَ التَّبْشِيرِ لَهُ بِالْجَنَّةِ ، لِقَوْلِ اللّهِ سُبْحَانَهُ : « وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا » (2) ، فَكَانَ يَأُمُرُ أَهْلَهُ وَيُصْبِرُ نَفْسَهُ . ثُمَّ إِنَّ الزَّكَاةَ جُعِلَتْ مَعَ الصَّلاَةِ قُرْبَاناً لِأَهْلِ الاْءِسْلاَمِ ، فَمَنْ أَعْطَاهَا طَيِّبَ النَّفْسِ بِهَا ، فإِنَّهَا تُجْعَلُ لَهُ كَفَّارَةً ، وَمِنَ النَّارِ حِجَازاً وَوِقَايَةً . فَ_لاَ يُتْبِعَنَّهَا أَحَدٌ نَفْسَهُ ، وَلاَ يُكْثِرَنَّ عَلَيْهَا لَهَفَهُ ، فإِنَّ مَنْ أَعْطَاهَا غَيْرَ طَيِّبِ النَّفْس بِهَا ، يَرْجُو بِهَا مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا ، فَهُوَ جَاهِلٌ بِالسُّنَّةِ ، مَغْبُونُ الْأَجْرِ ، ضَالُّ الْعَمَلِ ، طَوِيلُ النَّدَمِ . ثُمَّ أَدَاءَ الْأَمَانَةِ ، فَقَدْ خَابَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا . إِنَّهَا عُرِضَتْ عَلَى السَّمَاوَاتِ الْمَبْنِيَّةِ ، وَالْأَرَضِينَ الْمَدْحُوَّةِ ، وَالْجِبَالِ ذَاتِ الطُّوْلِ الْمَنْصُوبَةِ ، فَ_لاَ أَطْوَلَ وَلاَ أَعْرَضَ ، وَلاَ أَعْلَى وَلاَ أَعْظَمَ مِنْهَا . وَلَوِ امْتَنَعَ شَيْءٌ بِطُولٍ أَوْ عَرْض أَوْ قُوَّةٍ أَوْ عِزٍّ لامْتَنَعْنَ ؛ وَلكِنْ أَشْفَقْنَ مِنَ الْعُقُوبَةِ ، وَعَقَلْنَ مَا جَهِلَ مَنْ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُنَّ ، وَهُوَ الاْءِنْسَانُ ، «إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً » (3) . إِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ مَا الْعِبَادُ مُقْتَرِفُونَ فِي لَيْلِهِمْ وَنَهَارِهِمْ . لَطُفَ بِهِ خُبْراً ، وَأَحَاطَ بِهِ عِلْماً . أَعْضَاؤُكُمْ شُهُودُهُ ، وَجَوَارِحُكُمْ جُنُودُهُ ، وَضَمَائِرُكُمْ

.


1- .سورة النور 37 .
2- .سورة طه 132 .
3- .سورة الأحزاب 72 .

ص: 663

عُيُونُهُ ، وَخَلَوَاتُكُمْ عِيَانُهُ .

الشّرْحُ :قوله عليه السلام : « وإنّها لتحتُّ الذّنوب » ، الحتّ : نثر الورق من الغصن ، وانحاتّ ، أي تناثر ؛ وقد جاء هذا اللفظ في الخبر النبويّ بعينه . والرِّبَق : جمع رِبْقة ، وهي الحبل ، أي تطلق الصلاة الذنوب كما تطلق الحبال المعقّدة ، أي تحلّ ما انعقد على المكلَّف من ذنوبه . وهذا من باب الاستعارة . ويروى : « تعهّدوا أمر الصلاة » بالتضعيف ، وهو لغة ، يقال : تعاهدت ضَيْعتِي وتعهّدتها وهو القيام عليها ، وأصله من تجديد العهد بالشيء ، والمراد المحافظة عليه ؛ وقوله تعالى : « إنَّ الصَّلاَة كَانَتْ عَلَى المُؤمِنِينَ كِتَابا مَوْقُوتا » ، أي واجباً ، وقيل موقوتاً ، أي منجّماً كلّ وقت لصلاة معيَّنة ؛ وتؤدى هذه الصلاة في نجومها . وقوله : « كتاباً » أي فرضاً واجباً ، كقوله تعالى : « كَتَبَ رَبّكُمْ عَلَى نفسِه الرَّحْمَةَ » (1) ، أي أوجب . والحَمَّةُ : الحفيرة فيها الحميم وهو الماء الحارّ ، وهذا الخبر من الأحاديث الصحاح ، قال صلى الله عليه و آله وسلم : « أيسرّ أحدكم أن تكون على بابه حَمّة يغتسل منها كلّ يوم خمس مرات ، فلا يبقى عليه من دَرَنِه شيء ؟ قالوا : نعم ، قال : فإنَّها الصلوات الخمس » . والدَّرَن : الوسخ . والتجارة في الآية ، إمّا أنْ يراد بها : لا يشغلهم نوع من هذه الصناعة عن ذكر اللّه . ثمّ أفرد البيع بالذكر ، وخصّه وعطفه على التجارة العامة ؛ لأ نّه أدخل في الإلهاء ، وإمّا أن يريد بالتجارة الشراء خاصة إطلاقاً لاسم الجنس الأعمّ على النوع الأخصّ ، كما تقول : رزق فلان تجارة رابحة ، إذا اتّجه له شراء صالح ، فأمّا إقام الصلاة فإنّ التاء في « إقامة » عوض من العين الساقطة للإعلال ، فإنّ أصله « إقوام » مصدر أقام ، كقولك : أعرض إعراضا ، فلما أُضيفت أُقيمت الإضافة مقام حرف التعويض ، فأُسقطت التاء . قوله عليه السلام : وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم نصِبا بالصّلاة ، أي تَعِبا ، قال تعالى : « مَا أنْزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ

.


1- .سورة الأنعام 54 .

ص: 664

لِتَشْقَى » (1) . وروي : أنه عليه السلام قام حتى تورّمت قدماه مع التبشير له بالجنة . وروي : أنه قيل له في ذلك . فقال : « أفلا أكونُ عبداً شكوراً ! » . ويُصبر نفسه : من الصبر ، ويروى : « ويَصْبر عليها نفسه » ، أي يحبس ، قال سبحانه : « واصْبِر نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ » (2) واعلم أنّ الصلاة قد جاء في فضلها الكثير الذي يُعجزنا حصره ، ولو لم يكن إلاّ ما ورد في الكتاب العزيز من تكرار ذكرها وتأكيد الوصاية بها والمحافظة عليها ، لكان بعضه كافيا ، وقال النبي صلى الله عليه و آله وسلم : « الصلاة عمود الدين ، فمن تركها فقد هَدَم الدين » . قوله عليه السلام : « قرباناً لأهل الإسلام » ، القربان : اسم لما يتقرّب به من نَسِيكة أو صدقة . وروى : « ومن النار حجازاً » بالزاي ، أي مانعاً . واللَّهف : الحسرة ، ينهى عليه السلام عن إخراج الزكاة مع التسخّط لإخراجها والتلهف والتحسّر على دفعها إلى أربابها ، ويقول : إنّ من يفعل ذلك يرجو بها نَيْل الثّواب ضالّ مضيِّع لماله ، غير ظافر بما رجاه من المثوبة . وقد جاء في فضل الزكاة الواجبة وفضل صدقة التطوّع الكثير جدا ، ولو لم يكن إلاّ أنّ اللّه تعالى قرنها بالصلاة في أكثر المواضع التي ذكر فيها الصلاة لكفى . وروى بريدة الأسلميّ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم قال : « ما حَبَس قومٌ الزّكاة إلاّ حبس اللّه عنهم القَطْر » . قوله عليه السلام : « ثم أداء الأمانة » ، هي العقد الذي يلزم الوفاء به ، وأصحّ ما قيل في تفسير الآية أنّ الأمانة ثقيلة المحمل ؛ لأنّ حاملها معرّض لخطر عظيم ، فهي بالغة من الثقل وصعوبة المحمل ما لو أنّها عرضت على السماوات والأرض والجبال لامتنعت من حملها . فأمّا الإنسان فإنّه حمَلها وألزم القيام بها . وليس المراد بقولنا : إنها عرِضت على السماوات والأرض ، أي لو عرضت عليها وهي جمادات ، بل المراد تعظيم شأن الأمانة ، كما تقول : هذا الكلام لا يحمله الجبال . وقوله تعالى : « قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ » (3) . ومذهب العرب في هذا الباب وتوسّعها ومجازاتها مشهور شائع .

.


1- .سورة طه 2 .
2- .سورة الكهف 28 .
3- .سورة فصلت 11 .

ص: 665

193 . من كلام له عليه السلام في شأن معاوية

193الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلاموَاللّهِ مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنَّي ، وَلكِنَّهُ يَغْدِرُ وَيَفْجُرُ . وَلَوْلاَ كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاس ، وَلكِنْ كُلُّ غُدَرَةٍ فُجَرَةٌ ، فُجَرَةٍ كُفَرَةٌ . وَلِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَاللّهِ مَا أُسْتَغْفَلُ بالْمَكِيدَةِ ، وَلاَ أُسْتَغْمَزُ بالشَّدِيدَةِ .

الشّرْحُ :الغُدَرَة ، على « فُعَلة » الكثير الغَدْر ، والفُجَرة والكُفَرة : الكثير الفجور والكفر ، وكلّ ما كان على هذا البناء فهو للفاعل ، فإن سكّنْت العين فهو للمفعول ، تقول : رجل ضُحَكة ، أي يَضْحك ، وضُحْكة يُضحَك منه ، وسُخَرة يَسْخر ، وسُخْرة يُسخَر به ، يقول عليه السلام : كلّ غادر فاجر ، وكلّ فاجر كافر . ويروى : « ولكن كلّ غَدْرة فجْرة ، وكلّ فَجْرة كَفْرة » على « فَعْلة » للمرة الواحدة . وقوله : « لكلّ غادر لواء يعرَف به يوم القيامة » ، حديث صحيح مرويّ عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم . ثم أقسم عليه السلام أنه لا يُستغفَل بالمكيدة ، أي لا تجوز المكيدة عليّ ، كما تجوز على ذوي الغَفْلة ، وأنه لا يُستغمَز بالشديدة ، أي لا أهين وألين للخطب الشديد 1 .

.

ص: 666

194 . من كلام له عليه السلام ، في الوعظ ، وفيه استطراد لقصة صالح عليه السلام ، وثمود

194الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلامأَيُّهَا النَّاسُ لاَ تَسْتَوْحِشُوا فِي طَرِيقِ الْهُدَى لِقِلَّةِ أَهْلِهِ ، فَإِنَّ النَّاسَ اجْتَمَعُوا عَلَى مَائِدَةٍ شِبَعُهَا قَصِيرٌ ، وَجُوعُهَا طَوِيلٌ . أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّمَا يَجْمَعُ النَّاسَ الرِّضا وَالسُّخْطُ . وَإِنَّمَا عَقَرَ نَاقَةَ ثَمُودَ رَجُلٌ وَاحِدٌ

.

ص: 667

195 . من كلام له عليه السلام عند دفن سيدة النساء فاطمة عليهاالسلام

فَعَمَّهُمُ اللّهُ بالْعَذَابِ لَمَّا عَمُّوهُ بالرِّضا ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ : « فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ )، فَمَا كَانَ إِلاَّ أَنْ خَارَتْ أَرْضُهُمْ بِالْخَسْفَةِ خُوَارَ السِّكَّةِ المحْمَاةِ فِي الأرْض الْخَوَّارَةِ . أَيُّهَا النَّاسُ ، مَنْ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوَاضِحَ وَرَدَ الْمَاءَ ، وَمَنْ خَالَفَ وَقَعَ فِي التِّيْهِ .

الشّرْحُ :الاستِيحاش : ضدّ الاستئناس ، وكثيراً ما يحدِثه التوحّد وعدم الرفيق ؛ فنهى عليه السلام عن الاستيحاش في طريق الهدى لأجل قلّة أهله ، فإنّ المهتدي ينبغي أن يأنس بالهداية ، فلا وحشة مع الحقّ . وعَنَى بالمائدة : الدّنيا ، لذّتها قليلة ، ونغصها كثيرة ، والوجود فيها زمان قصير جدّا ، والعدم عنها زمان طويل جداً . ثم قال : ليست العقوبة لمن اجترم ذلك الجُرْم بعينه ، بل لمن اجترمه ومَنْ رضي به ، وإن لم يباشره بنفسه ، فإنّ عاقِر ناقة صالح إنّما كان إنساناً واحداً ، فعمّ اللّه ثمودَ بالسخط لما كانوا راضين بذلك الفعل كلّهم ، واسم « كان » مضمَر فيها ، أي ما كان الانتقام منهم إلاّ كذا . وخارتْ أرضهم بالخسْفة : صوَّتت كما يخور الثور ، وشبّه عليه السلام ذلك بصوت السّكة المحمَاة في الأرض الخوّارة ، وهي الليّنة ، وإنّما جعلها محمَاة لتكون أبلغَ في ذهابها في الأرض . ومن كلامه عليه السلام يوم خيبر، يقوله لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وقد بعثه بالرّاية : أكون في أمرِك كالسّكّة المحمّاة في الأرض ، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ؟ فقال له : بل يرى الشّاهد ما لا يرى الغائب . والتّيه : المفازة يتحيّر سالكها .

195الأصْلُ :

.

ص: 668

السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللّهِ عَنِّي ، وَعَنِ ابْنَتِكَ النَّازِلَةِ فِي جِوَارِكَ ، وَالسَّرِيعَةِ اللَّحَاقِ بِكَ ! قَلَّ يَا رَسُولَ اللّهِ ، عَنْ صَفِيَّتِكَ صَبْرِي ، وَرَقَّ عَنْهَا تَجَلُّدِي ، إِلاَّ أَنَّ لِي فِي التَّأَسِّيِ بِعَظِيمِ فُرْقَتِكَ ، وَفَادِحِ مُصِيبَتِكَ ، مَوْضِعَ تَعَزٍّ ، فَلَقَدْ وَسَّدْتُكَ فِي مَلْحُودَةِ قَبْرِكَ ، وَفَاضَتْ بَيْنَ نَحْرِي وَصَدْرِي نَفْسُكَ فإِنَّا للّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ! فَلَقَدْ اسْتُرْجِعَتِ الْوَدِيعَةُ ، وَأُخِذَتِ الرَّهِينَةُ! أَمَّا حُزْنِي فَسَرْمَدٌ ، وَأَمَّا لَيْلِي فَمُسَهَّدٌ ، إِلَى أَنْ يَخْتَارَ اللّهُ لِي دَارَكَ الَّتِي أَنْتَ بِهَا مُقِيمٌ . وَسَتُنَب_ِّئُكَ ابْنَتُكَ بِتَضَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا ، فَأَحْفِهَا السُّؤَالَ ، وَاسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ ؛ هذَا وَلَمْ يَطُلِ الْعَهْدُ ، وَلَمْ يَخْلُ مِنْكَ الذِّكْرُ ، وَالْسَّلاَمُ عَلَيْكُمَا سَلاَمَ مُوَدِّعٍ ، لاَ قَالٍ وَلاَ سَئِمٍ ، فَإِنْ أَنْصَرِفْ فَ_لاَ عَنْ مَلاَلَةٍ ، وَإِنْ أُقِمْ فَ_لاَ عَنْ سُوءِ ظَنٍّ بِمَا وَعَدَ اللّهُ الصَّابِرِين!

الشّرْحُ :أما قول الرضيّ رحمه الله : « عند دفن سيدة النساء » ، فلأنه قد تواتر الخبر عنه صلى الله عليه و آله وسلم أ نّه قال : « فاطمة سيّدة نساء العالمين » إمَّا هذا اللفظ بعينه ، أو لفظ يؤدّي هذا المعنى ، روي أنه قال وقد رآها تبكي عند موته : « ألا ترضيْن أن تكوني سيّدة نساء هذه الأُمّة ! » . وروي أنه قال : « سادات نساء العالمين أربع : خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمّد ، وآسية بنت مزاحم ، ومريم بنت عمران» . قوله عليه السلام : « وسريعة اللّحاق بك » جاء في الحديث ؛ أ نّه رآها تبكي عند موته فأسرّ إليها : « أنتِ أسرع أهلي لحُوقا بي » ، فضحكت . قوله : « عن صفيّتك » أجلّه صلى الله عليه و آله وسلم عن أن يقول : « عن ابنتك » ، فقال : « صفيّتك » ، وهذا من لطيف عبارته ، ومحاسن كنايته ، يقول عليه السلام : ضَعُفَ جَلَدي وصَبْري عن فراقها ؛ لكني أتأسّى بفراقي لك فأقول : كلُّ عظيم بعد فراقك جَلَل ، وكلُّ خطب بعد موتك يسير . ثم ذكر حاله معه وقتَ انتقاله صلواتُ اللّه عليه إلى جوار ربِّه ، فقال : لقد وسَّدْتُك في ملحودة قبرك ، أي في الجهة المشقوقة من قبرك ، واللّحْد : الشَّقّ في جانب القبر ، وجاء بضمّ

.

ص: 669

اللاّم في لغة غير مشهورة . قال : « وفاضت بين نحري وصدري نفْسك » . أراد بذلك آخر الأنفاس التي يخرجُها الميّت ولا يستطيع إدخال الهواء إلى الرئة عوضا عنها ، ولابدّ لكل ميّت من نفخةٍ تكون آخر حركاته . ويقول قوم : إنَّها الروح ، وعبّر عليّ عليه السلام عنها بالنفس ، لمّا كانت العرب لا ترى بين الرّوح والنفس فَرْقا . وقال في رواية أُخرى : « ففاضت نفسُه في يدي ، فأمررتها على وجهي » (1) . قوله : « إنّا للّه » إلى آخره ، أي عبيده ، كما تقول : هذا الشيء لزيد ، أي يملكه . ثم عقّب الاعترافَ بالملْكيّة بالإقرار بالرّجْعة والبعث ، وهذه الكلمة تقال عند المصيبة ، كما أدّب اللّه تعالى خَلْقه وعباده . والوديعة والرهينة ، عبارة عن فاطمة . فأمّا الرّهينة فهيالمرتهَنة ، يقال للمذكّر : هذا رهين عنديعلى كذا ، وللأُنثى : هذه رهينة عندي على كذا ، كأنها عليهاالسلامكانتْ عنده عوَضا من رؤية رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، كما تكونُ الرهينة عوَضا عن الأمر الذي أُخذت رهينةً عليه . ثم ذكر عليه السلام أنّ حزنه دائمٌ ، وأنه يسهر ليله ولا ينام إلى أن يلتحِقَ برسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلمويجاوره في الدار الآخرة . قوله عليه السلام : « وستنبئك ابنتك » ، أي ستعلمك . فأحفها السؤآل ، أي اسْتقصِ في مسألتها ، واستخبرها الحال ، أحفيت إحفاءً في السؤال : استقصيت ، وكذلك في الحجاج والمنازعة . ورجل حفيّ ، أي مستقصٍ في السؤال . واستخبِرْها الحال ، أي عن الحال ، فحذف الجار ، كقولك : اخترت الرجال زيدا أي من الرجال ، أي سَلْها عمّا جرى بعدك من الاستبداد بعقد الأمر دون مشاورتنا ، ويدلّ هذا على وجود النص ، ويجوز أن تكون الشكوى والتألّم من اطّراحهما وترك إدخالهم في المشاورة ، فإن ذلك ممّا تكرهه النفوس وتتألّم منه . قوله : « هذا ولم يَطُل العهد ، ولم يخلُق الذّكر » ، أي لم ينس 2 .

.


1- .مرّ الكلام عنها في هامش الخطبة 190 .

ص: 670

فإن قلت : فما هذا الأمر الذي لم ينسَ ولم يخلُق ، إن لم يكن هناك نصّ؟ قلت : قوله صلى الله عليه و آله وسلم : « إنّي مخلّف فيكم الثَّقَلين » ، وقوله : « اللّهمّ أدِرِ الحقّ معه حيث دار» ، وأمثال ذلك من النصوص الدالّة على تعظيمه وتبجيله ومنزلته في الاسلام . فهو عليه السلام كان يريد أن يؤخّر عَقْد البيعة إلى أن يحضر ويُستشار ، ويقع الوفاق بينه وبينهم ، على أن يكون العَقْد لواحدٍ من المسلمين بموجِبه ، إمّا له أو لأبي بكر ، أو لغيرهما ، ولم يكن ليليقَ أن يبرم الأمر وهو غير حاضر له ، مع جلالته فيى الإسلام ، وعظيم أثره ، وما ورد في حقّه من وجوب موالاته والرجوع إلى قوله وفعله ، فهذا هو الذي كان ينقِم عليه السلام ، ومنه كان يتألّم ويُطِيل الشّكوى ، وكان ذلك في موضعه . وما أنكَر إلاّ منكَراً . فأمّا النصّ فإنّه لم يذكره عليه السلام ، ولا احتجّ به ، ولما طال الزمان صَفَح عن ذلك الاستبداد الّذي وقع منهم ، وحضر عندهم فبايعهم ، وزال ما كان في نفسه 1 .

.

ص: 671

196 . من كلام له عليه السلام في التزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة

قوله عليه السلام : « مودّع لا قالٍ ولا مبغض ولا سئم » ، أي لا ملول ، سئمت من الشيء أسأم سأما وسآما وسآمة ، سئمته إذا مللته ، ورجل سؤوم . ثم أكّد عليه السلام هذا المعنى ، فقال : « إن انصرفتُ فلا عن ملالة ، وإن أقمت فلا عن سوء ظنّ بما وعد اللّه الصابرين » ، أي ليست إقامتي عَلَى قبرِك وجزعي عليك ، إنكارا مني لفضيلة الصبر والتجلّد والتعزّي والتأسّي ، وما وعد اللّه به الصابرين من الثواب ، بل أنا عالم بذلك . وذكر أبو العباس محمّد بن يزيد المبرّد في كتابه « الكامل » أ نّه عليه السلام تمثّل عند قبر فاطمة : لكلّ اجتماعٍ من خليلين فرقةٌوكلّ الذي دُون الفراق قليلُ وإن افتقادي فاطما بعد أحمدٍدليلٌ عَلَى ألاّ يدوم خليلُ (1)

196الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلامأَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّمَا الدُّنْيَا دَارُ مَجَازٍ ، وَالآخِرَةُ دَارُ قَرَارٍ ، فَخُذُوا مِنْ مَمَرِّكُمْ لِمَقَرِّكُمْ ، وَلاَ تَهْتِكُوا أَسْتَارَكُمْ عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ أَسْرَارَكُمْ ، وَأَخْرِجُوا مِنَ الدُّنْيَا قُلُوبَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ

.


1- .وفي رواية الكافي 1 : 458 ، قال علي عليه السلام : « فبعين اللّه تدفن ابنتك سرّا » ، قال البلاذري : إن فاطمة عليهاالسلام لم تُر متبسّمة بعد النبي صلى الله عليه و آله وسلم ، ولم يعلم أبو بكر وعمر بموتها . أنساب الأشراف 1 : 405 .

ص: 672

197 . من كلام له عليه السلام كان كثيراً ما ينادي به أصحابه

تُخْرَجَ مِنْهَا أَبْدَانُكُمْ ، فَفِيهَا اخْتُبِرْتُمْ ، ولِغِيْرِهَا خُلِقْتُمْ . إِنَّ الْمَرْءَ إِذَا هَلَكَ قَالَ النَّاسُ : مَا تَرَكَ ؟ وَقَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ : مَا قَدَّمَ ؟ للّهِ آبَاؤُكُمْ ! فَقَدِّمُوا بَعْضَاً يَكُنْ لَكُمْ ، وَلاَ تُخْلِفُوا كُ_لاًّ فَيَكُونَ فَرْضاً عَلَيْكُمْ .

الشّرْحُ :قوله عليه السلام : « دار مجاز » ، أي يُجَاز فيها إلى الآخرة ، ومنه سمِّيَ المجاز في الكلام مجازا ؛ لأنّ المتكلّم قد عَبَر الحقيقة إلى غيرها ، كما يَعبُر الإنسان من موضع إلى موضع . ودار القرار : دار الاستقرار الذي لا آخر له . فخذوا من ممرّكم ، أي من الدنيا ، لمقرّكم ؛ وهو الآخرة . قوله عليه السلام : « قال الناس : ما ترك ؟ » ، يريد أنّ بني آدم مشغولون بالعاجلة ، لا يفكّرون في غيرها ، ولا يتساءلون إلاّ عنها ، فإذا هلك أحدكم ، فإنّما قولهم بعضهم لبعض : ما الذي ترك فلان من المال ؟ ما الذي خلف من الولد ؟ وأما الملائكة فإنّهم يعرفون الآخرة ، ولا تستهويهم شهواتُ الدّنيا ، وإنّما هم مشغولون بالذِّكْر والتسبيح ، فإذا هلك الإنسان ، قالوا : ما قدّم ؟ أي أيّ شيء قدّم من الأعمال؟ ثم أمرهم عليه السلام ، بأنْ يقدّموا من أموالهم بعضها صدقة ، فإنّها تبقى لهم ، ونهاهم أن يخلِّفوا أموالَهم كلَّها بعد موتهم ، فتكون وبالاً عليهم في الآخرة .

197الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام كان كثيراً ما ينادي به أصحابهتَجَهَّزُوا رَحِمَكُمُ اللّهُ ! فَقَدْ نُودِيَ فِيكُمْ بِالرَّحِيلِ ، وَأَقِلُّوا الْعَرْجَةَ عَلَى الدُّنْيَا ، وَانْقَلِبُوا بِصَالِحِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ الزَّادِ ، فإِنَّ أَمَامَكُمْ عَقَبَةً كَؤُوداً ، وَمَنَازِلَ مَخُوفَةً مَهُولَةً ، لاَ بُدَّ مِنَ الْوُرُودِ عَلَيْهَا ، وَالْوُقُوفِ عِنْدَهَا .

.

ص: 673

198 . من كلام له عليه السلام كلّم به طلحة والزبير بعد بيعته بالخلافة وقد عتبا عليه من ترك مشورتهما ، والاستعانة في الاُمور بهما

وَاعْلَمُوا أَنَّ مَلاَحِظَ الْمَنِيَّةِ نَحْوَكُمْ دائِبَة ، وَكَأَنَّكُمْ بِمَخَالِبِهَا وَقَدْ نَشِبَتْ فِيكُمْ ، وَقَدْ دَهَمَتْكُمْ فِيهَا مُفْظِعَاتُ الْأُمُورِ ، وَمُضْلِعَاتُ المحْذُورِ . فَقَطِّعُوا عَلاَئِقَ الدُّنْيَا وَاسْتَظْهِرُوا بِزَادِ التَّقْوَى . وقد مضى شيء من هذا الكلام فيما تقدم ، بخلاف هذه الرواية .

الشّرْحُ :تجهّزوا لكذا ، أي تَهيّئوا له . والعرْجة : التعريج ، وهو الإقامة ، تقول : ما لي على ربعك عَرْجة ، أي إقامة ، وعرَّج فلان على المنزل ، إذا حبَس عليه مطيَّته . والعقبة الكؤود : الشاقّة المصعد . ودائبة : جادّة . والمخلب للسَّبُع بمنزلة الظّفر للإنسان . وأفظع الأمرُ ، فهو مفظع ، إذا جاوز المقدار شدّة . ومضلعات المحذور : الخطوب التي تُضلِع ، أي تجعل الإنسان ضليعا ، أي معوجّا ، والماضي ضَلِع بالكسر يَضلَع ضَلَعا . ومن رواها بالظاء ، أراد الخطوب التي تجعل الإنسان ظالعا ، أي يغمز في مَشْيِه لثقلها عليه ، والماضي ظَلَع بالفتح ، يظلَع ظَلَعا ، فهو ظالع .

198الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام كلّم به طلحة والزبير بعد بيعته بالخلافة وقد عتبا عليه من ترك مشورتهما والاستعانة في الأُمور بهما :لَقَدْ نَقَمْتُمَ_ا يَسِيراً ، وَأَرْجَأْتُمَا كَثِيراً . أَلاَ تُخْبِرَانِي ، أَيُّ شَيْءٍ كَانَ لَكُمَا فِيهِ حَقٌّ دَفَعْتُكُمَا عَنْهُ ؟ أَمْ أَيُّ قَسْمٍ اسْتَأثَرْتُ عَلَيْكُمَا بِهِ ! أَمْ أَيُّ حَقٍّ رَفَعَهُ إِلَيَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ضَعُفْتُ عَنْهُ ، أَمْ جَهِلْتُهُ ، أَمْ أَخْطَأتُ بَابَهُ! وَاللّهِ مَا كَانَتْ لِي فِي الْخِلاَفَةِ رَغْبَةٌ ، وَلاَ فِي الْوِلاَيَةِ إِرْبَةٌ ، وَلكِنَّكُمْ دَعَوْتُمُونِي

.

ص: 674

إِلَيْهَا ، وَحَمَلْتُمُونِي عَلَيْهَا ، فَلَمَّا أَفْضَتْ إِلَيَّ نَظَرْتُ إِلَى كِتَابِ اللّهِ وَمَا وَضَعَ لَنَا ، وَأَمَرَنَا بِالْحُكْمِ بِهِ فَاتَّبَعْتُهُ ، وَمَا اسْتَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللّه عليه وَسَلَّمَ ، فَاقْتَدَيْتُهُ ، فَلَمْ أَحْتَجْ فِي ذلِكَ إِلَى رَأيِكُمَا ، وَلاَ رَأْيِ غَيْرِكُمَا ، وَلاَ وَقَعَ حُكْمٌ جَهِلْتُهُ ، فَأَسْتَشِيرَكُمَا وَإِخْوَانِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلَوْ كَانَ ذلِكَ لَمْ أَرْغَبْ عَنْكُمَا ، وَلاَ عَنْ غَيْرِكُمَا . وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمَا مِنْ أَمْرِ الْأُسْوَةِ ، فَإِنَّ ذلِكَ أَمْرٌ لَمْ أَحْكُمْ أَنَا فِيهِ بِرَأيِي ، وَلاَ وَلِيتُهُ هَوىً مِنِّي ، بَلْ وَجَدْتُ أَنَا وَأن_ْتُما مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللّه عَليه وسلَّم قَدْ فُرِغَ مِنْهُ ، فَلَمْ أَحْتَجْ إِلَيْكُمَا فِيَما قَدْ فَرَغَ اللّهُ مِنْ قَسْمِهِ ، وَأَمْضَى فِيهِ حُكْمَهُ ، فَلَيْسَ لَكُمَا ، وَاللّهِ ، عِنْدِي وَلاَ لِغَيْرِكُمَا فِي هذَا عُتْبَى . أَخَذَ اللّهُ بِقُلُوبِنَا وَقُلُوبِكُمْ إِلَى الْحَقِّ ، وَألهَمَنَا وَإِيَّاكُمْ الصَّبْرَ!

ثم قال عليه السلام :رَحِمَ اللّهُ رَجُلاً رَأَى حَقّاً فَأَعَانَ عَلَيْهِ ، أَوْ رَأَى جَوْراً فَرَدَّهُ ، وَكَانَ عَوْناً بِالْحَقِّ عَلَى صَاحِبِهِ .

الشّرْحُ :نقَمت عليه ، بالفتح أنقِم هذه اللغة الفصيحة ، وجاء نقِمت بالكسر أنقَم . وأرجأتما : أخّرتما ، أي نقَمتما من أحوالي اليسير ، وتركتما الكثير الذي ليس لكما ولا لغيركما فيه مطعَن ، فلم تذكراه ، فهلاّ اغتفرتُما اليسير للكثير ! وليس هذا اعترافاً بأنّ ما نقَماه موضع الطّعن والعيْب ، ولكنّه على جهة الجدَل والاحتجاج ، كما تقول لمن يطعن في بيتٍ من شعر شاعر مشهور : لقد ظلمتَه إذْ تتعلّق عليه بهذا البيت ، وتنسى ما له من المحاسن الكثيرة في غيره! ثم ذكر وجوه العتاب والاسترادة (1) ، وهي أقسام : إمّا أن يكون لهما حقٌّ يدفعهما عنه ، أو استأثر عليهما في قَسْم ، أو ضَعُف عن السياسة ، أو جَهِل حُكْما من أحكام الشريعة ، أو أخطأ بابه .

.


1- .الاسترادة : طلب الرجوع واللِّين والانقياد .

ص: 675

فإن قلت : أيّ فرق بين الأول والثاني؟ قلت : أمّا دفعهما عن حقهما ، فمنْعهما عنه ؛ سواء صار إليه عليه السلام أو إلى غيره ، أو لم يصِرْ إلى أحد ، بل بقيَ بحاله في بيت المال . وأما القسم الثاني فهو أن يأخُذَ حقَّهما لنفسه ، وبين القسمين فرق ظاهر ، والثاني أفحش من الأوّل . فإن قلت : فأَيّ فرق بين قوله : « أو جهلته » ، أو « أخطأْت بابه »؟ قلت : جَهْل الحُكْم أن يكونَ اللّه تعالى قد حكم بحرمة شيء ، فأَحَلّه الإمام أو المفتي ، وكونه يخطئ بابه ؛ هو أن يصيب في الحكم ويخطئ في الاستدلال عليه . ثم أقسم أ نّه لم يكن له في الخلافة رغبة ولا إرْبة ، بكسر الهمزة ، وهي الحاجة . وصدَق عليه السلام ! فهكذا نَقَل أصحابُ التواريخ وأرباب عِلْمِ السِّير كلُّهم ، وروى الطبريّ في التاريخ ، ورواه غيره أيضا ، أنّ الناسَ غَشُوه وتكاثروا عليه يطلبون مبايعته ، وهو يأْبى ذلك ويقول : دعوني والتمسوا غيري ، فإنّا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان ، لا تثبت عليه العقول ، ولا تقوم له القلوب . قالوا : نَنْشُدك اللّه ! ألاَ تَرَى الفِتنة ؟ ألا ترى إلى ما حدث في الإسلام ؟ ألا تخاف اللّه ؟ فقال : قد أجبتكم لما أرى منكم ، واعلموا أني إنْ أجبتُكم وركبتُ بكم ما أعلم ، وإن تركتموني فإنما أنا كأحدِكم ، بل أنا أسمعُكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمرَكم إليه . فقالوا : ما نحن بمفارقيك حتى نبايعَك . قال : إن كان لابدّ مِن ذلك ففي المسجد ؛ فإن بَيْعتي لا تكون خَفْيا ، ولا تكون إلاّ عن رضى المسلمين ، وفي ملأ وجماعة . فقام والنّاس حوله ، فدخل المسجد ، وانثال عليه المسلمون فبايعوه ، وفيهم طلْحة والزبير . قلت : قوله : « إنّ بيعتي لا تكون خَفْياً ، ولا تكون إلاّ في المسجد بمحضَرٍ من جمهور النّاس » ، يشابه قوله بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم للعبّاس لمّا سامَه مدّ يدِه للبيعة : إنّي أحبُّ أن أُصحِر بها ، وأكره أنْ أبايع من وراء رِتاج . ثم ذكر عليه السلام أ نّه لما بُويع عمِل بكتَاب اللّه وسنّة رسوله ، ولم يحتجْ إلى رأيهما ولا رأيِ غيرِهما ، ولم يقع حُكْم يجهله فيستشيرهما ، ولو وقع ذلك لاستشارهما وغيرهما ، ولم يأنَفْ من ذلك . ثم تكلّم في معنى التَّنْفِيل في العطاء ، فقال : إنّي عمِلت بسنّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلمفي ذلك . وصدَق عليه السلام ! فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلمسوّى في العطاء بين الناس ، وهو مذهب أبي بكر . والعُتْبى: الرّضا، أي لست أرضيكما بارتكاب ما لا يحلّ لي في الشرع ارتكابُه . والضمير في « صاحبه » ، وهو الهاء المجرورة يرجع إلى الجوْر ، أي وكان عونا بالعمل على صاحب الجوْر .

.

ص: 676

199 . من كلام له عليه السلام وقد سمع قوماً من أصحابه يسبّون أهل الشام أيام حربهم بصفين

199الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام وقد سمع قوماً من أصحابه يسبّون أهل الشام أيام حربهم بصفينإِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ ، وَلكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ ، وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ ، كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ ، وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ ، وَقُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ : اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا وَدِمَاءَهُمْ ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَبَيْنَهُمْ ، وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلاَلَتِهِمْ ، حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ ، وَيَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ وَالْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِهِ .

الشّرْحُ :السبّ : الشتم ، سبّه يسُبُّه بالضمّ ، والتسابّ : التشاتم ، ورجلٌ مِسَبّ بكسر الميم : كثير السِّباب ، ورجلٌ سُبَّة ، أي يسبُّه الناس ، ورجل سُبَبة ، أي يسبّ الناس ، ورجل سَبّ : كثير السباب ، وسِبُّك : الذي يسابّك . والذي كرهه عليه السلام منهم ، أنهم كانوا يشتُمون أهلَ الشام ، ولم يكن يكره منهم لعنهم إياهم ، والبذاءة منهم ، لا كما يتوهّمه قومٌ من الحشويّة ، فيقولون : لا يجوز لعن أحدٍ ممّن عليه اسم الإسلام ، وينكرون عَلَى مَنْ يلعن ، ومنهم مَنْ يغالي في ذلك ، فيقول : لا ألعن الكافر ، ولا ألعن إبليس ، وإن اللّه تعالى لا يقول لأحدٍ يوم القيامة : لم لم تلعن ؟ وإنما يقول : لمَ لَعنْت؟ واعلم أنّ هذا خلاف نصّ الكتاب ؛ لأ نّه تعالى قال : « إنّ اللّهَ لَعَن الْكافِرينَ واعدّ لهُمْ سَعِيراً » (1) . وقال : « أولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُون » (2) . وقال في إبليس : « وَإنّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي

.


1- .سورة الأحزاب 64 .
2- .سورة البقرة 159 .

ص: 677

إلَى يَوْمِ الدِّينِ » (1) . وقال : « مَلْعُونِينَ أيْنَمَا ثُقِفُوا » (2) . وفي الكتاب العزيز من ذلك الكثير الواسع . وممّا يدلّ على أنّ مَنْ عليه اسم الإسلام إذا ارتكب الكبيرة يجوز لعنُه ، بل يجب في وقت ، قول اللّه تعالى في قصّة اللعان : « فَشَهَادةُ أحَدِهِم أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ باللّهِ إنَّه لَمِنَ الصَّادِقِين * والخَامِسَةُ أنَّ لَعْنَة اللّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنَ الكَاذِبينَ » (3) . وقال تعالى في القاذف : « إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ الغَافِلاَتِ المُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ » (4) . فهاتان الآيتان في المكلّفين من أهل القبلة ، والآيات قبلهما في الكافرين والمنافقين ؛ ولهذا قنَت أمير المؤمنين عليه السلام على معاوية وجماعة من أصحابه ، ولعنهم في أدبار الصلوات . فإن قلت : فما صُورة السبّ الذي نَهَى أمير المؤمنين عليه السلام عنه؟ قلت : كانوا يشتمُونهم بالآباء والأُمهات ، ومنهم مَنْ يطعن في نسب قوم منهم ، ومنهم مَنْ يذكرهم باللؤم ، ومنهم مَنْ يعيّرهم بالجبن والبخل وبأنواع الأهاجي التي يتهاجَى بها الشعراء ، وأساليبها معلومة ، فنهاهم عليه السلام عن ذلك ، وقال : إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين ؛ ولكن الأصوب أن تصِفُوا لهم أعمالهم ، وتذكروا حالهم ، أي أن تقولوا إنّهم فسّاق ؛ وإنهم أهل ضلال وباطل . ثم قال : اجعلوا عوض سبّهم أن تقولوا : اللّهمّ احقنْ دماءَنا ودماءهم ! حقنتُ الدم أحقُنه ، بالضمّ : منعت أن يُسْفَك ، أي ألهِمهم الإنابة إلى الحقّ والعدول عن الباطل ؛ فإنّ ذلك إذا تمّ حقنت دماء الفريقين . قوله : « وأصلح ذات بيننا وبينهم ، يعني أحوالنا وأحوالهم . ولمّا كانت الأحوال ملابسة للبين قيل لها : « ذات البين » ؛ كما أنه لو كانت الضمائر ملابسة للصدور قيل : « ذات الصدور » . وارعوى عن الغيّ : رجع وكفّ . لهِج به ، بالكسر ، يلهَج : أغرى به وثابر عليه .

.


1- .سورة ص 78 .
2- .سورة الأحزاب 61 .
3- .سورة النور 6 ، 7 .
4- .سورة النور 23 .

ص: 678

200 . من كلام له عليه السلام في بعض أيام صفين وقد رأى الحسن ابنه عليه السلام يتسرّع إلى الحرب

200الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام في بعض أيام صفين وقد رأى الحسن ابنه عليه السلام يتسرّع إلى الحربأمْلِكُوا عنِّي هذَا الْغُلاَمَ لاَ يَهُدُّنِي ، فَإِنَّنِي أَنْفَسُ بِهذَيْنِ _ يَعْنِي الحَسَنَ وَالْحُسَيْنَعليهما السلام _ عَلَى الْمَوْتِ لِئَ_لاَّ يَنْقَطِعَ بِهِمَا نَسْلُ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ .

قال الرضي أبُو الحَسَن رحمه الله :قوله عليه السلام : «املكوا عني هذا الغلام» من أعلى الكلام وأفصحه .

الشّرْحُ :الألف في « امْلِكُوا » ألف وصل ؛ لأنّ الماضي ثلاثيّ ، من ملكت الفرس والعبد والدار ، أملِك بالكسر ، أي احجروا عليه كما يَحجُر المالك على مملوكه . وعن ، متعلّقة بمحذوف تقديره : استولوا عليه وأبعدوه عنِّي . ولما كان الملك سبَب الحجْر على المملوك عبّر بالسبب عن المسبّب . ووجه علوّ هذا الكلام وفصاحته أ نّه لما كان في « املكوا » معنى البعد ، أعقبه بعن ، وذلك أنّهم لا يملكونه دون أمير المؤمنين عليه السلام إلاّ وقد أبعدوه عنه ؛ ألا ترى أنّك إذا حجرت على زيد دون عمرو ، فقد باعدت زيدا عن عمرو ! فلذلك قال : املكوا عنِّي هذا الغلام . قوله : « لا يهدّني » أي لئلاّ يهدّني ، فحذف كما حذف طَرَفة في قوله : * ألا أيُّهذا الزّاجري أحضُرَ الوَغَى * أي لأنّ أحضر . وأنفس : أبخل ، نفِسْت عليه بكذا بالكسر . فإن قلت : أيجوز أن يقال للحسن والحسين وولدهما : أبناء رسول اللّه وولد رسول اللّه ، وذريّة رسول اللّه ، ونسل رسول اللّه ؟

.

ص: 679

201 . من كلام له عليه السلام قاله لما اضطرب عليه أصحابه في أمر الحكومة

قلت : نعم ؛ لأنّ اللّه تعالى سمّ_اهم « أبناءه » في قوله تعالى : « نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْناءَكُمْ » (1) ، وإنما عَنَى الحسن والحسين ، ولو أوصى لولد فلان بمالٍ دخل فيه أولاد البنات ، وسمّى اللّه تعالى عيسى ذريّة إبراهيم في قوله : « وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ » (2) إلى أن قال : « وَيَحْيَى وَعِيسَى » ؛ ولم يختلف أهل اللغة في أنّ وَلَدَ البنات من نسل الرجل .

201الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام قاله لمّا اضطرب عليه أصحابه في أمر الحكومةأَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّهُ لَمْ يَزَلْ أَمْري مَعَكُمْ عَلَى مَا أُحِبُّ ، حَتَّى نَهكَتْكُمُ الْحَرْبُ ، وَقَدْ ، وَاللّهِ أَخَذَتْ مِنْكُمْ وَتَرَكَتْ ، وَهِيَ لِعَدُوِّكُمْ أَنْهَكُ . لَقَدْ كُنْتُ أَمْس أَمِيراً ، فَأَصْبَحْتُ الْيَوْمَ مَأْمُوراً ، وَكُنْتُ أَمْس نَاهِياً ، فَأَصْبَحْتُ الْيَوْمَ مَنْهِيّاً ، وَقَدْ أَحْبَبْتُمُ الْبَقَاءَ ، وَلَيْسَ لِي أَنْ أَحْمِلَكُمْ عَلَى مَا تَكْرَهُونَ!

الشّرْحُ :نهِكَتكم ، بكسر الهاء : أدنفتكم وأذابتكم ، ويجوز فتح الهاء ، وقد نهك الرجل أي دنف وضَنِيَ ، فهو منهوك . وعليه نَهْكة المرض ، أي أثرة الحرب مؤنثة . وقد أخذتْ منكم وتركتْ ، أي لم تستأصلكم بل فيكم بعد بقيّة ، وهي لعدوّكم أنهك ؛ لأنّ القتل في أهل الشام كان أشدّ استحرارا ، والوهَن فيهم أظهر ، ولولا فساد أهل العراق برفْعِ المصاحف ، لاستؤصل أهل الشام ، وخلص الأشتر إلى معاوية ، فأخذه بعنقه ، ولم يكن قد بقَى من قوّة الشام إلاّ كحرَكة ذَنَب الوزغة عند قتلها ، يضطرب يمينا وشمالاً ؛ ولكن الأُمورَ السماويّة لا

.


1- .سورة آل عمران 61 .
2- .سورة الأنعام 84 .

ص: 680

تغَالب . فأمّا قوله : « كنت أمس أميراً ، فأصبحتُ اليوم مأموراً » ، فقد قدّمنا شرح حالهم من قبل ، وأنّ أهل العراق لمّا رفع عمرو بن العاص ومَنْ معه المصاحف على وجه المكيدة حين أحسّ بالعطب وعلوّ كلمة أهلِ الحقّ ، ألزموا أمير المؤمنين عليه السلام بوضْع أوزار الحرب ، وكفّ الأيدي عن القتال ، وكانوا في ذلك على أقسام : فمنهم مَنْ دخلت عليه الشبهة برفع المصاحف ، وغلب على ظنّه أنّ أهل الشام لم يفعلوا ذلك خدعة وحيلة . ومنهم مَنْ كان قد ملّ الحرب ، وآثر السِّلْم ، فلما رأى شبهة ما يسوغ التعلّق بها في رفض المحاربة وحبّ العافية أخلد إليها . ومنهم مَنْ كان يُبغِض عليّاً عليه السلام بباطنه ، ويطيعه بظاهره ، فاجتمع جمهور عسكره عليه ، وطالبوه بالكفّ وترك القتال ، فامتنع امتناع عالم بالمكيدة ، وقال لهم : إنها حيلة وخديعة ، وإنِّي أعرَفُ بالقوم منكم ، إنهم ليسوا بأصحاب قرآن ولا دين ، قد صحبتهم وعرفتهم صغيراً وكبيراً ، فعرفت منهم الإعراض عن الدّين ، والركون إلى الدنيا ، فلا تراعُوا برفع المصاحف ، وصمّموا على الحرب ، وقد ملكتموهم ، فلم يبق منهم إلاّ حشاشة ضعيفة ، وذَماء قليل . فأبوا عليه ، وألحوا وأصرّوا على القعود والخذلان وأمروه بالإنفاذ إلى المحاربين من أصحابه ، وعليهم الأشتر أن يأمرَهم بالرجوع ، وتهدّدوه إن لم يفعل بإسلامه إلى معاوية ، فأرسل إلى الأشتر يأمره بالرجوع وترك الحرب ، فأبى عليه فقال : كيف أرجع وقد لاحت أمارات الظفر ! فقولوا له : « ليمهلني ساعة واحدة » ، ولم يكن علم صورة الحال كيف قد وقعت . فلمّا عاد إليه الرسول بذلك ، غضبوا ونفروا وشغبوا ، وقالوا : أنفذت إلَى الأشتر سرّا وباطنا ، تأمره بالتصميم ، وتنهاه عن الكفّ ، وإن لم تعده الساعة ، وإلاّ قتلناك كما قتلنا عثمان ، فرجعت الرّسل إلى الأشتر فقالوا له : أتحبّ أن تظفر بمكانك وأمير المؤمنين قد سلّت عليه خمسون ألف سيف ، فقال : ما الخبر ؟ قال : إنّ الجيش بأسره قد أُحدِق به ، وهو قاعد بينهم على الأرض ، تحته نِطَع ، وهو مُطرِق ، والبارقة تلمع على رأسه ، يقولون : لئن لم تُعِد الأشتر قتلناك ! قال : ويحكم ! فما سبب ذلك ؟ قالوا : رَفْع المصاحف ، قال : واللّه لقد ظننت حين رأيتها رُفعت أنّها ستوقع فرقةً وفتنة . ثم كرّ راجعا على عَقِبيه ، فوجد أمير المؤمنين عليه السلام تحت الخطر ، قد ردّده أصحابه بين

.

ص: 681

202 . من كلام له عليه السلام بالبصرة وقد دخل على العلاء بن زياد الحارثي _ وهو من أصحابه _ يعوده فلما رأى سعة داره قال :

أمريْن : إمّا أن يُسلِموه إلى معاوية ، أو يقتلوه ، ولا ناصر له منهم إلاّ ولداه وابن عمّه ونفر قليل لا يبلغون عشرة ، فلما رآهم الأشتر سبّهم وشتمهم ، وقال : ويحكم ! أبعد الظَّفَر والنّصر صبح عليكم الخذلان والفرقة ! يا ضعاف الأحلام ! يا أشْباه النساء ! يا سفهاء العقول ! فشتموه وسبّوه ، وقهروه وقالوا : المصاحف المصاحف ! والرجوع إليها ، لا نرى غير ذلك ! فأجاب أميرُ المؤمنين عليه السلام إلى التحكيم ، دفعا للمحذور الأعظم بارتكاب المحظور الأضعف ، فلذلك قال : « كنت أميرا فأصبحت مأمورا ؛ وكنت ناهيا فصرت منهيّا » . وقد سبق من شرح حالِ التحكيم وما جرى فيه ما يغني عن إعادته .

202الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام بالبصرة وقد دخل على العلاء بن زياد الحارثي ؛ وهو من أصحابه يعوده فلما رأى سعة داره قال :مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِسِعَةِ هذِهِ الدَّارِ فِي الدُّنْيَا ، وَأنْتَ إِلَيْهَا فِي الآخِرَةِ كُنْتَ أَحْوَجَ ؟ وَبَلَى إِنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الآخِرَةَ ؛ تَقْرِي فِيهَا الضَّيْفَ ، وَتَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ ، وَتُطْلِعُ مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا ، فَإِذاً أنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الآخِرَةَ! فقال له العلاء : يا أمير المؤمنين ، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد . قال : وما له؟ قال : لبس العباء وتخلى مِنَ الدنيا . قال : عَليَّ به . فلما جاء ، قال : يَا عُدَيَّ نَفْسِهِ ! لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكَ الْخَبِيثُ ! أَمَا رَحِمْتَ أَهْلَكَ وَوَلَدَكَ ! أَتَرَى اللّهَ أَحَلَّ لَكَ الطَّيِّبَاتِ ، وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ تَأْخُذَهَا ؟ أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى اللّهِ مِنْ ذلِكَ! قال : يا أَمير المؤمنين ، هذا أَنت في خشونة ملبسك وجُشوبة مأكلك! قالَ : وَيْحَكَ ، إِنِّي لَسْتُ كَأن_ْتَ ، إِنَّ اللّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْحَقِّ أَنْ يُقَدِّرُوا

.

ص: 682

أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ ، كَيْلاَ يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ!

الشّرْحُ :كنت هاهنا زائدة ، مثل قوله تعالى : « كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيّا » (1) . وقوله : « وبلى إن شئت بلغتَ بها الآخرة » ، لفظ فصيح ، كأنّه استدرك ، وقال : « وبلَى على أنّك قد تحتاج إليها في الدنيا لتجعلها وصلة إلى نيل الآخرة . بأن تقرى فيها الضيف ؛ والضيف لفظ يقع على الواحد والجمع ، وقد يجمع فيقال : ضيوف وأضياف . والرّحم : القرابة . وتطلِع منها الحقوق مطالعها : توقعها في مظانّ استحقاقها . والعَباء جمع عَباءة ، وهي الكِساء وقد تليّن ، كما قالوا : عَظاءة وعَظاية ، وصلاءة وصلاية . وتقول : عليّ بفلان ، أي أحضره ، والأصل أعجلْ به عليّ ، فحذف فعلَ الأمر ، ودلّ الباقي عليه . ويا عُدَيّ نفسه ، تصغير « عدوّ » ، وقد يمكن أن يراد به التّحقير المحض هاهنا ، ويمكن أن يراد به الاستعظام لعداوته لها ، ويمكن أن يخرج مخرج التحنّن والشّفقة ، كقولك : يا بنيّ . واستهام بك الخبيث ، يعني الشيطان ، أي جعلك هائما ضالاًّ ، والباء زائدة . فإن قيل : ما معنى قوله عليه السلام : « أنت أهون على اللّه من ذلك »؟ قلت : لأنّ في الشاهد قد يحلّ الواحد منا لصاحبه فعلاً مخصوصاً ، محاباة ومراقبة له ، وهو يكره أن يفعله ، والبشر أهونُ على اللّه تعالى من أن يحِلّ لهم أمرا مجاملة واستصلاحاً للحال معهم ، وهو يكره منهم فعله . وقوله : « هذا أنت ! » ، أي فما بالنا نراك خشنَ الملبس ! والتقدير : « فها أنت تفعل كذا ، فكيف تنهى عنه » ؟! وطعام جَشِب ، أي غليظ ، وكذلك مجشوب ، وقيل : إنّه الذي لا أُدْمَ معه . قوله عليه السلام : « أن يقدّروا أنفسَهم بضَعفة الناس » ، أي يشبّهوا ويمثّلوا . وتبيّغ الدم بصاحبه ، وتبوّغ به ، أي هاج به ، وفي الحديث : « عليكم بالحجامة لا يتبيَّغ بأحدكم الدم فيقتله » ، وقيل : أصل « يتبيغ » يتبغى ، فقلب ، مثل جَذَب وجبَذ ، أي يجب على الإمام العادل أنْ يشبّه نفسَه في لباسه وطعامه بضعفة الناس _ جمع ضعيف _ لكيلا يهلِك الفقراء من الناس ، فإنّهم

.


1- .سورة مريم 29 .

ص: 683

203 . من كلام له عليه السلام وقد سأله سائل عن أحاديث البدع وعما في أيدي الناس من اختلاف الخبر فقال عليه السلام

إذا رأوا إمامهم بتلك الهيئة وبذلك المطْعم كان أدعى لهم إلى سُلْوان لذّات الدنيا والصبر عن شهوات النفوس .

203الأصْلُ :ومن كلام له عليه السلام وقد سأله سائل عن أحاديث البدع وعما في أيدي الناس من اختلاف الخبرفقال عليه السلام : إِنَّ فِي أَيْدِي النَّاس حَقّاً وَبَاطِلاً ، وَصِدْقاً وَكَذِباً ، وَنَاسِخاً وَمَنْسُوخاً ، وَعَامّاً وَخَاصّاً ، وَمُحْكَماً وَمُتَشَابِهاً ، وَحِفْظاً وَوَهْماً . وَلَقَدْ كُذِبَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم عَلَى عَهْدِهِ ، حَتَّى قَامَ خَطِيباً ، فَقَالَ : «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» . وَإِنَّمَا أَتَاكَ بِالْحَدِيثِ أَرْبَعَةُ رِجَالٍ لَيْسَ لَهُمْ خَامِسٌ : رَجُلٌ مُنَافِقٌ مُظْهِرٌ لِ_لاْءِيمَانِ ، مُتَصَنِّعٌ بِالاْءِسْلاَمِ ، لاَ يَتَأَثَّمُ وَلاَ يَتَحَرَّجُ ، يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم مُتَعَمِّداً ، فَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ أن_ّهُ مُنَافِقٌ كَاذِبٌ لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ ، وَلَمْ يُصَدِّقُوا قَوْلَهُ ، وَلكِنَّهُمْ قَالُوا : صَاحِبُ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ، رَآهُ وَسَمِعَ مِنْهُ ، وَلَقِفَ عَنْهُ ، فَيَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ ، وَقَدْ أَخْبَرَكَ اللّهُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِمَا أَخْبَرَكَ ، وَوَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ لَكَ ، ثُمَّ بَقُوا بَعْدَهُ ، فَتَقَرَّبُوا إِلَى أَئِمَّةِ الضَّلاَلَةِ ، وَالدُّعَاةِ إِلَى النَّارِ بِالزُّورِ وَالْبُهْتَانِ ، فَوَلَّوْهُمُ الأعْمَالَ ، وَجَعَلُوهُمْ حُكَّاماً عَلَى رِقَابِ النَّاس ، فَأَكَلُوا بِهِمُ الدُّنْيَا ، وَإِنَّمَا النَّاسُ مَعَ الْمُلُوكِ وَالدُّنْيَا ، إِلاَّ مَنْ عَصَمَ اللّهُ ، فَهذَا أَحَدُ

.

ص: 684

الأرْبَعَةِ . وَرَجُلٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللّهِ شَيْئاً لَمْ يَحْفَظْهُ عَلَى وَجْهِهِ ، فَوَهِمَ فِيهِ ، وَلَمْ يَتَعَمَّدْ كَذِباً ، فَهُوَ فِي يَدَيْهِ ، وَيَرْوِيهِ وَيَعْمَلُ بِهِ ، وَيَقُولُ : أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فَلَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ وَهِمَ فِيهِ لَمْ يَقْبَلُوهُ مِنْهُ ، وَلَوْ عَلِمَ هُوَ أَنَّهُ كَذلِكَ لَرَفَضَهُ. وَرَجُلٌ ثَالِثٌ ، سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم شَيْئاً يَأْمُرُ بِهِ ، ثُمَّ إِنَّهُ نَهَى عَنْهُ ، وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ ، أَوْ سَمِعَهُ يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ ، فَحَفِظَ الْمَنْسُوخَ ، وَلَمْ يَحْفَظِ النَّاسِخَ ، فَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضَهُ ، وَلَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ إِذْ سَمِعُوهُ مِنْهُ أنّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضُوهُ . وَآخَرُ رَابِ_عٌ ، لَمْ يَكْذِبْ عَلَى اللّهِ ، وَلاَ عَلَى رَسُولِهِ ، مُبْغِضٌ لِلْكَذِبِ خَوْفاً مِنَ اللّهِ ، وَتَعْظِيماً لِرَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وَلَمْ يَهِمْ ، بَلْ حَفظَ مَا سَمِعَ عَلَى وَجْهِهِ ، فَجَاءَ بِهِ عَلَى مَا سَمِعَهُ ، لَمْ يَزِدْ فِيهِ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ ، فَهُوَ حَفِظَ النَّاسِخَ فَعَمِلَ بِهِ ، وَحَفِظَ الْمَنْسُوخَ فَجَنَّبَ عَنْهُ ، وَعَرَفَ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ وَالمحْكَمَ وَالْمُتَشَابِهَ ، فَوَضَعَ كُلَّ شَيْءٍ مَوْضِعَهُ وعَرَفَ المُتَشابِهَ ومُحكَمِهِ . وَقَدْ كَانَ يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اللّهِصَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الْكَلاَمُ لَهُ وَجْهَانِ : فَكَلاَمٌ خَاصٌّ ، وَكَ_لاَمٌ عَامٌّ ، فَيَسْمَعُهُ مَنْ لاَ يَعْرِفُ مَا عَنَى اللّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ ، وَلاَ مَا عَنَى رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فَيَحْمِلُهُ السَّامِعُ ، وَيُوَجِّهُهُ عَلَى غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِمَعْنَاهُ ، وَمَا قُصِدَ بِهِ ، وَمَا خَرَجَ مِنْ أَجْلِهِ ، وَلَيْسَ كُلُّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم مَنْ كَانَ يَسْأ لُهُ وَيَسْتَفْهِمُهُ ، حَتَّى إِنْ كَانُوا لَيُحِبُّونَ أَنْ يَجِيءَ الْأَعْرَابِيُّ وَالطَّارِئُ ، فَيَسَألَهُ عليه السلام حَتَّى يَسْمَعُوا ، وَكَانَ لاَ يَمُرُّ بِي مِنْ ذلِكَ شَيْءٌ إِلاَّ سَأَلْتُهُ عَنْهُ وَحَفِظْتُهُ . فَهذِهِ وَجُوهُ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ فِي اخْتِلاَفِهِمْ ، وَعِلَلِهِمْ فِي رِوَايَاتِهِمْ .

.

ص: 685

الشّرْحُ :الكلام في تفسير الألفاظ الأُصوليّة ؛ وهي العامّ والخاصّ ، والناسخ والمنسوخ ، والصدق والكذب ، والمحكَم والمتشابه ، موكول إلى فنّ أُصول الفقه ، وقد ذكرناه فيما أمليناه من الكتب الأُصولية ، والإطالة بشرح ذلك في هذا الموضع مستهجَن . قوله عليه السلام : « وحفظاً ووهَماً » الهاء مفتوحة ، وهي مصدر وَهِمتُ ، بالكسر ، أوْهَم ، أي غلطت وسهوت ، وقد روي : « وَهْما » بالتسكين ، وهو مصدر وهَمت بالفتح أوْهُم ، إذا ذهب وهْمُك إلى شيء وأنت تريد غيره ، والمعنى متقارب . وقول النبي صلى الله عليه و آله وسلم « فليتبوّأ مقعده من النار » كلامٌ صيغته الأمر ، ومعناه الخبر ، كقوله تعالى : « قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدّا » (1) ، وتبوّأت المنزلَ : نزلته ، وبوّأتُه منزلاً : أنزلته فيه . والتأثّم : الكفّ عن موجب الإثم ، والتحرّج مثله ، وأصله الضِّيق ، كأنه يضيق على نفسه . ولَقِفَ عنه : تناول عنه . وجنّب عنه : أخذ عنه جانباً . و « إنْ » في قوله : « حتى إنْ كانوا لَيحبّون » مخففة من الثقيلة ، ولذلك جاءت اللام في الخبر . والطارئ ، بالهمز : الطالع عليهم ، طَرَأ ، أي طلع ، وقد روي « عللهم » ، بالرفع عطفاً على « وجوه » ، وروي بالجرّ عطفاً على « اختلافِهم » . فإن قلت : مَنْ هم أئمة الضلالة ، الّذين يتقرّب إليهم المنافقون الذين رأوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وصحبوه للزور والبهتان ؟ وهل هذا إلاّ تصريح بما تذكره الإمامية ، وتعتقده؟ قلت : ليس الأمر كما ظننت وظنّوا ، وإنّما يعني معاوية وعمرو بن العاص ومَنْ شايعهما على الضّلال ، كالخبر الذي رواه مَنْ رَوَاه في حقّ معاوية : « اللهمّ قِهِ العذاب والحساب ، وعلّمه الكتاب » ؛ وكرواية عمرو بن العاص تقرُّبا إلى قلب معاوية : « إنّ آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء ، إنّما وليَّ اللّه وصالح المؤمنين » ، وكرواية قوم في أيّام معاوية أخباراً كثيرة من فضائل عثمان ، تقرُّبا إلى معاوية بها ، ولسنا نجحَدُ فضلَ عُثْمان وسابقته ، ولكنّا نعلم أنّ بعض الأخبار الواردة فيه موضوع ، كخبر عمرو بن مرّة فيه وهو مشهور ، وعمرو بن مرّة ممّن له صحبة ، وهو شاميّ . فأمّا قوله عليه السلام : « ورجل سمع من رسول اللّه شيئا ولم يحفظه على وجهه فوهم فيه » ، قد وقع ذلك . وقال أصحابنا في الخبر الّذي رواه عبد اللّه بن عمر أنّ الميّت ليُعذّب ببكاء أهله

.


1- .سورة مريم 75 .

ص: 686

204 . من خطبة له عليه السلام في عجيب صنعة الكون

عليه : إنّ ابن عباس لمّا رُوِي له هذا الخبر ، قال : ذَهَل ابن عمر ، إنّما مَرّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلمعلى قبر يهوديّ ، فقال : إنّ أهله ليبكون عليه ، وإنه ليعذّب . فأمّا الرَّجل الثالث ، وهو الذي يسمع المنسوخ ولم يسمع الناسخ ، فقد وقع كثيراً ، وكتُب الحديث والفقه مشحونة بذلك ، كالذين أباحوا لحوم الحُمرِ الأهلية لخبر رووه في ذلك ، ولم يرووا الخبر الناسخ . وأمّا الرَّجل الرابع فهم العلماء الراسخون في العلم . وأمّا قوله عليه السلام : « وقد كان يكون من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم الكلام له وجهان » ، فهذا داخلٌ في القسم الثاني وغير خارج عنه ، ولكنّه كالنّوع من الجنس ؛ لأنّ الوهم والغلط جنس تحته أنواع .

204الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلاموَكَانَ مِنِ اقْتِدَارِ جَبَروتِهِ ، وَبَدِيعِ لَطَائِفِ صَنْعَتِهِ ، أَنْ جَعَلَ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ الزَّاخِرِ الْمُتَرَاكِمِ الْمُتَقَاصِفِ ، يَبَساً جَامِداً ، ثُمَّ فَطَرَ مِنْهُ أَطْبَاقاً ، فَفَتَقَهَا سَبْعَ سَمَاوَاتٍ بَعْدَ ارْتِتَاقِهَا ، فَاسْتَمْسَكَتْ بِأَمْرِهِ ، وَقَامَتْ عَلَى حَدِّهِ . وَأَرْسَى أَرْضاً يَحْمِلُهَا الْأَخْضَرُ الْمُثْعَنْجِرُ ، وَالْقَمْقَامُ الْمُسَخَّرُ . قَدْ ذَلَّ لِأَمْرِهِ ، وَأَذْعَنَ لِهَيْبَتِهِ ، وَوَقَفَ الْجَارِي مِنْهُ لِخَشْيَتِهِ ، وَجَبَلَ جَلاَمِيدَهَا ، وَنُشُوزَ مُتُونِهَا وَأَطْوَادِهَا ، فَأَرْسَاهَا في مَرَاسِيهَا ، وَأَلْزَمَهَا قَرَارَتِهَا ، فَمَضَتْ رُؤُوسُهَا فِي الْهَوَاءِ ، وَرَسَتْ أُصُولُهَا فِي الْمَاءِ ، فَأنهَدَ جِبَالَهِا عَنْ سُهُولِهَا ، وَأَسَاخَ قَوَاعِدَهَا فِي متُونِ أَقْطَارِهَا ، وَمَوَاضِعِ أَنْصَابِهَا ، فَأشْهَقَ قِلاَلَهَا ، وَأَطَالَ أَنْشَازَهَا ، وَجَعَلَهَا لِ_لْأَرْض عِمَاداً ، وَأَرَّزَهَا فِيهَا أَوْتَاداً ، فَسَكَنَتْ عَلَى حَرَكَتِهَا مِن أَنْ تَمِيدَ بِأَهْلِهَا ، أَوْ تَسِيخَ

.

ص: 687

بِحِمْلِهَا ، أَوْ تَزُولَ عَنْ مَواضِعِهَا . فَسُبْحَانَ مَنْ أَمْسَكَهَا بَعْدَ مَوَجَانِ مِيَاهِهَا ، وَأَجْمَدَهَا بَعْدَ رُطُوبَةِ أَكْنَافِهَا ، فَجَعَلَهَا لِخَلْقِهِ مِهَاداً ، وَبَسَطَهَا لَهُمْ فِرَاشاً فَوْقَ بَحْرٍ لُجِّيٍّ رَاكِدٍ لاَ يَجْرِي ، وَقَائِمٍ لاَ يَسْرِي ، تُكَرْكِرُهُ الرِّيَاحُ الْعَوَاصِفُ ، وَتَمْخُضُهُ الْغَمَامُ الذَّوَارِفُ . إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى!

الشّرْحُ :أراد أن يقول : « وكان من اقتداره » فقال : « وكان من اقتدار جبروته » ، تعظيماً وتفخيماً ، كما يقال للملك : أمرت الحضرةُ الشريفة بكذا . والبحر الزاخر : الّذي قد امتد جدّا وارتفع . والمتراكم : المجتمع بعضُه على بعض . والمتقاصف : الشديد الصوت ، قصفَ الرّعد وغيره قصيفاً . واليبَس ، بالتحريك : المكان يكون رطباً ثم ييبس ، ومنه قوله تعالى : « فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقا فِي الْبَحْرِ يَبَسا » (1) ، واليبْس بالسكون : اليابس خِلْقة ، حطب يبْس ، هكذا يقوله أهل اللغة وفيه كلام ؛ لأنّ الحطب ليس يابسا خلْقة بل كان رطباً من قبل ، فالأصوب أن يقال : لا تكون هذه اللفظة محرّكة إلاّ في المكان خاصّة . وفطر : خلق ، والمضارع يفطُر بالضمّ ، فَطْرا . والأطباق : جمع طبق ، وهو أجزاء مجتمعة من جراد أو غيم أو ناس أو غير ذلك من حيوان أو جماد ، يقول : خلق منه أجساما مجتمعة مرتتقة ، ثم فتقها سبع سماوات . وروي : « ثم فطر منه طِبَاقاً » أي أجساما منفصلة في الحقيقة متّصلة في الصورة ببعضها فوق بعض ، وهي من ألفاظ القرآن (2) المجيد . والضمير في « منه » يرجع إلى ماء البحر في أظهر النّظر ، وقد يمكن أن يرجع إلى اليبس. وكلامُ أمير المؤمنين عليه السلام كلّه مطابق لما في الكتاب العزيز ، والسنّة النبوية ، والنظر الحكميّ ، ألا ترى إلى قوله تعالى : « أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ والأَرْض كانَتَا رَتقا فَفَتَقْنَاهُمَا » (3) ، وهذا هو صريح قوله عليه السلام : « ففتقها سبع سماوات بعد ارتتاقها » ، وإلى قوله

.


1- .سورة طه 77 .
2- .وهو قوله تعالى في سورة الملك 3 : « الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماوَاتٍ طِبَاقا» ، وقوله في سورة نوح 15 : « أَلَمْ تَرَ كَيْفَ خَلَقَ اللّه ُ سَبْعَ سَماواتٍ طِبَاقا» .
3- .سورة الأنبياء 30 .

ص: 688

تعالى : « وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ » (1) . وأمّا قوله : « ووقف الجاري منه لخشيته » ، فلا يدلّ دلالة قاطعة على أ نّه كان جاريا ووقف ، ولكن ذلك كلامٌ خرج مخرج التعظيم والتبجيل ، ومعناه أنّ الماء طبعه الجريان والسَّيَلان ، فهو جارٍ بالقوّة ، وإن لم يكن جارياً بالفعل ، وإنما وقف ولم يجرِ بالفعل بقدرة اللّه تعالى ، المانعة له من السيلان . ثم نعود إلى شرح الألفاظ : قوله عليه السلام : « فاستمسكت » ، أي وقفت وثبتت . والهاء في « حدّه » تعود إلى أمره ، أي قامت على حدّ ما أمرت به ، أي لم تتجاوزه ولا تعدّتْه . والأخضر : البحر ، ويسمّى أيضا « خضارة » معرفة غير مصروف ، والعرب تسميه بذلك ؛ إمّا لأ نّه يصف لون السماء فيُرى أخضر ، أو لأ نّه يُرى أسود لصفائه فيطلقون عليه لفظ الأخضر ؛ كمّا سمّوا الأخضر أسود ، نحو قوله : « مُدْهَامَّتَانَ » (2) ، ونحو تسميتهم قرى العراق سواداً لخضرتها وكثرة شجرها . المثعنجر : السائل ، ثعجرت الدّم وغيره فاثعنجر ، أي صببتُه فانصبّ ، وتصغير المثعنجر مُثَيْعِج ومُثَيْعِيج . والقمقام ، بالفتح : من أسماء البحر ، ويقال لمن وقع في أمر عظيم : وقع في قمقام من الأمر ، تشبيهاً بالبحر . قوله عليه السلام : « وَجَبَل جلاميدَها » ، أي وخلق صخورها ، جمع جُلمود . والنُّشُوز : جمع نَشْز ، وهو المرتفع من الأرض . ويجوز فتح الشين . ومتونها : جوانبها . وأطوادَها : جبالها ، ويروى : « وأطوادِها » بالجر عطفاً على متونها . فأرساها في مراسيها ، أثبتها في مواضعها ، رسَا الشيء يرسُو ثبت . ورست أقدامُهم في الحرب : ثبتت ، ورستِ السفينةُ ترسُو رسواً ورسواً ، أي وقفت في البحر . وقوله تعالى : « بِاسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا» (3) ؛ بالضم من أجريت وأرسيت ، ومن قرأ بالفتح فهو من « رست » هي ، « وجرت » هي . وألزمها قراراتها : أمسكها حيث استقرّت . قوله : « فأنهد جبالَها » ، أي أعلاها . نهد ثديُ الجارية ينهُد بالضمّ ، إذا أشرف وكَعَب ، فهي ناهد وناهدة . وسهولها : ما تطامن منها عن الجبال . وأساخ قواعدها ، أي غيَّبَ قواعد الجبال في جوانب أقطار الأرض ، ساخت قوائم الفرس في الأرض تَسُوخ وتَسِيخ ، أي

.


1- .سورة الأنبياء 31 .
2- .سورة الرحمن 64 .
3- .سورة هود 41 .

ص: 689

دخلت فيها وغابت ، مثل ثاخت ، وأسختها أنا مثل أثختها . والأنصاب : الأجسام المنصوبة ، الواحد نُصُب بضم النون والصاد ، ومنه سميت الأصنام نُصُباً في قوله تعالى : « وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ » (1) ؛ لأنها نصبت فعبِدت من دون اللّه . أي وأساخ قواعد الجبالِ في متون أقطار الأرض ؛ وفي المواضع الصالحة لأنّ تكون فيها الأنصاب المماثلة ، وهي الجبال أنفسها . قوله : « فأشهقَ قِلاَلها » ، جمع قُلّةٍ وهي ما علا من رأسِ الجبل ، أشهقها : جعلها شاهقة ، أي عالية . وأرّزها : أثبتها فيها ، رزّت الجرادة تَرُزُّ رَزّا ، وهو أن تدخِل ذَنبها في الأرض فتلقِي بيضها ، وأرَّزَها اللّه : أثبت ذلك منها في الأرض ، ويجوز « أرّزت » ، لازماً غير متّعد ، مثلَ رزّت ، وارْتزَّ السهم في القرطاس : ثبت فيه . وروي « وآرزها » بالمد من قولهم : شجرة آرزة ، أي ثابتة في الأرض ، أرَزَت بالفتح ، تأرِز بالكسر ، أي ثبتت ، وآزرها _ بالمد _ غيرها ، أي أثبتها . وتميد : تتحرّك . وتَسِيخ : تنزل وتهوي . فإن قلت : ما الفرق بين الثلاثة : تميد بأهلها ، أو تسيخ بحملها ، أو تزول عن مواضعها؟ قلت : لأنّها لو تحركت لكانت إمّا أن تتحرّك على مركزها أو لا على مركزها ، والأوّل هو المراد بقوله : « تميد بأهلها » ، والثاني تنقسم إلى أن تنزل إلى تحت أو لا تنزل إلى تحت ، فالنزول إلى تحت هو المراد بقوله : « أو تسيخُ بحمْلها » ، والقسم الثاني هو المراد بقوله : « أو تزول عن مواضعها » . فإن قلت : ما المراد ب_ « على » في قوله : « فسكنت على حركتها؟ قلت : هي لهيئة الحال ، كما تقول عفوت عنه على سوء أدبه ، ودخلت إليه على شربه ، أي سكنت على أن من شأنها الحركة ؛ لأنها محمولة على سائل متموّج . قوله : « مَوَجان مياهها » ، بناء « فَعَلان » ، لما فيه اضطراب وحركة كالغليان والنّزَوان والخَفَقان ، ونحو ذلك . وأجمدها ، أي جعلها جامدة . وأكنافها : جوانبها . والمهاد : الفراش . فوق بحر لجيّ : كثير الماء ، منسوب إلى اللّجّة ، وهي معظم البحر . قوله : « يكركره الرياح » ، الكركرة : تصريف الريح السّحاب إذا جمعته بعد تفريق ، وأصله « يكرّر » من التكرير ، فأعادوا الكاف ، كركرت الفارس عنّي أي دفعته ورددته . والرياح العواصف : الشديدة الهبوب . وتمخَضه ، يجوز فتح الخاء وضمّها وكسرها ، والفتح أفصح لمكان حرف الحلق من

.


1- .سورة المائدة 3 .

ص: 690

205 . من خطبة له عليه السلام كان يستنهض بها أصحابه إلى جهاد أهل الشام في زمانه

مَخَضت اللبن ، إذا حركتَه لتأخذ زبده . والغمام : جمع ، والواحدة غمامة ، ولذلك قال : « الذّوارف » ؛ لأنّ « فواعل » أكثر ما يكون لجمع المؤنث ، ذرفت عينه أي دمعت ، أي السحب المواطر ، والمضارع من « ذرفت » عينه « تذرِف » بالكسر ، ذَرْفا وذَرَفا ، والمذارف : المدامع .

205الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلاماللَّهُمَّ أَيُّمَا عَبْدٍ مِنْ عِبَادِكَ سَمِعَ مَقَالَتَنَا الْعَادِلَةَ غَيْرَ الْجَائِرَةِ ، وَالْمُصْلِحَةَ غَيْرَ الْمُفْسِدَةِ ، فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا ، فَأَبَى بَعْدَ سَمْعِهِ لَهَا إِلاَّ النُّكُوصَ عَنْ نُصْرَتِكَ ، وَالإِبْطَاءَ عَنْ إِعْزَازِ دِينِكَ ، فَإِنَّا نَسْتَشْهِدُكَ عَلَيْهِ يَا أَكْبَرَ الشَّاهِدِينَ شَهَادَةً ، وَنَسْتَشْهِدُ عَلَيْهِ جَمِيعَ مَا اَسْكَنْتَهُ أَرْضَكَ وَسَمَاوَاتِكَ ، ثُمَّ أنتَ بَعْدَه الْمُغْنِي عَنْ نَصْرِهِ ، وَالآخِذُ لَهُ بِذَنْبِهِ .

الشّرْحُ :ما في « أيّما » زائدة مؤكّدة ، ومعنى الفصل ، وعيد مَن استنصره فقعد عن نصره . ووصف المقالَة بأنّها عادلة ، إمّا تأكيد ، كما قالوا : شعر شاعر ، وإمّا ذاتُ عَدْل ، كما قالوا : رجل تامر ولابن ، أي ذو تَمْر ولبن ، ويجوز أيضا أن يريد بالعادِلة المستقيمة التي ليست كاذبة ولا محرّفة عن جهتها ، والجائرة نقيضها وهي المنحرفة ، جارَ فلانٌ عن الطريق ، أي انحرف وعدل . والنكوص : التأخّر . قوله عليه السلام : « نستشهدُك عليه » ، أي نسألك أن تشهد عليه ، ووصفه تعالى بأنّه أكبرُ

.

ص: 691

206 . من خطبة له عليه السلام في تمجيد اللّه وتعظيمه ، وفيها يذكر النبي صلى الله عليه و آله وسلم

الشاهدين شهادة ، لقوله تعالى : « قُلْ أيُّ شَيءٍ أكبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللّهُ » (1) ، يقول : اللّهمّ إنّا نستشهدك على خذلان من استنصرناه ، واستنفرناه إلى نُصرتك ، والجهاد عن دينك فأبى النّهوض ، ونكث عن القيام بواجب الجهاد ، ونستشهد عِبادَك ، من البشر في أرضك ، وعبادك من الملائكة في سماواتك عليه أيضا ، ثم أنت بعد ذلك المغني لنا عن نصرته ونهضته ، بما تتيحه لنا من النصر ، وتؤيّدنا به من الإعزاز والقُوّة ، والآخذ له بذنْبه في القعود والتخلّف . وهذا قريب من قوله تعالى : « وَإنْ تَتَوَلَّوا يَسْتَبْدِل قَوْما غَيْرَكُمْ ثمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ » (2) .

206الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلامالْحَمْدُ للّهِ الْعَلِيِّ عَنْ شَبَهِ الْمَخْلُوقِينَ ، الْغَالِبِ لِمَقَالِ الْوَاصِفِينَ ، الظَّاهِرِ بَعَجَائِبِ تَدْبِيرِهِ لِلنَّاظِرينَ ، وَالْبَاطِنِ بِجَلاَلِ عِزَّتِهِ عَنْ فِكْرِ الْمُتَوَهِّمِينَ ، الْعَالِمِ بَلاَ اكْتِسَابٍ وَلاَ ازْدِيَادٍ ، وَلاَ عِلْمٍ مُسْتَفَادٍ ، الْمُقَدِّرِ لِجَمِيعِ الْأُمُورِ بِلاَ رَوِيَّةٍ وَلاَ ضَمِيرٍ ، الَّذِي لاَ تَغْشَاهُ الظُّلَمُ ، وَلاَ يَسْتَضِيءُ بِالْأَنْوَارِ ، وَلاَ يَرْهَقُهُ لَيْلٌ ، وَلاَ يَجْرِي عَلَيْهِ نَهَارٌ . لَيْسَ إِدْرَاكُهُ بِالإِبْصَارِ ، وَلاَ عِلْمُهُ بِالإِخْبَارِ .

الشّرْحُ :يجوز شَبَه وشِبْه ، والرواية هاهنا بالفتح ، وتعاليه سبحانه عن شَبَه المخلوقين ؛ كونُه قديماً واجب الوجود ، وكلّ مخلوق محدَث ممكن الوجود .

.


1- .سورة الأنعام 19 .
2- .سورة محمّد 38 .

ص: 692

قوله : « الغالب لمقال الواصفين » ، أي إنّ كُنْه جلاله وعظمته ، لا يستطيع الواصفون وصفه وإنْ أطنبوا وأسهبوا ، فهو كالغالب لأقوالهم لعجزها عن إيضاحه وبلوغ منتهاه ، والظاهر بأفعاله ، والباطن بذاته ؛ لأ نّه إنّما يعلم منه أفعاله ، وأما ذاته فغير معلومة . ثم وصف علمه تعالى فقال : إنّه غيرُ مكتَسب كما يكتسِب الواحد منّا علومَه بالاستدلال والنّظر ، ولا هو علمٌ يزداد إلى علومه الأُولى كما تزيد علوم الواحد منّا ومعارفه ، وتكثر لكثرة الطُّرُق التي يتطرّق بها إليها . ثم قال : « وَلا علم مُستفاد » ، أي ليس يعلم الأشياء بعلم محدث مجدّد . ثم ذكر أنه تعالى قدّر الأُمور كلّها بغير رويّة ، أي بغير فكر ولا ضمير ، وهو ما يطويه الإنسان من الرأي والاعتقاد والعزم في قلبه . ثم وصفه تعالى بأنه لا يغشاه ظلامٌ ؛ لأ نّه ليس بجسم ، ولا يستضيء بالأنوار ؛ كالأجسام ذوات البصر . ولا يَرْهقه ليل ، أي لا يغشاه . ولا يجري عليه نهار ؛ لأ نّه ليس بزمانيّ . ولا قابل للحركة ، ليس إدراكه بالإبصار ؛ لأنّ ذلك يستدعي المقابلة . ولا علمه بالإخبار مصدر أخبر ، أي ليس علمه مقصورا على أن تخبره الملائكة بأحوال المكلّفين ، بل هو يعلم كلّ شيء ؛ لأنّ ذاته ذات واجبٌ لها أن تعلم كلّ شيء لمجرّد ذاتها المخصوصة ، من غير زيادة أمر على ذاتها .

الأصْلُ :منها في ذكر النبي صلى الله عليه و آله وسلم :أَرْسَلَهُ بِالضِّيَاءِ ، وَقَدَّمَهُ فِي الاِصْطِفَاءِ ، فَرَتَقَ بِهِ الْمَفَاتِقَ ، وَسَاوَرَ بِهِ الْمُغَالِبَ ، وَذَلَّلَ بِهِ الصُّعُوبَةَ ، وَسَهَّلَ بِهِ الْحُزُونَةَ ، حَتَّى سَرَّحَ الضَّلاَلَ ، عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ .

الشّرْحُ :أرسله بالضياء ، أي بالحقّ ، وسمّى الحقّ ضياء ؛ لأ نّه يُهتدَى به ، أو أرسله بالضياء ، أي بالقرآن . وقدّمه في الاصطفاء ، أي قدّمه في الاصطفاء على غيره من العرب والعجم ، قالت قريش : « لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَينِ » (1) ، أي على رجل من رجلين من

.


1- .سورة الزخرف 31 .

ص: 693

207 . من كلام له عليه السلام يصف جوهر الرسول ويصف العلماء ويعظ بالتقوى

القريتين عظيم ، أي إمّا على الوليد بن المغيرة من مكّة ، أو على عروة بن مسعود الثقفيّ من الطائف . ثم قال تعالى : « أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّك » (1) ، أي هو سبحانه العالم بالمصلحة في إرسال الرسل ، وتقديم من يرى في الاصطفاء على غيره . فرتق به المفاتق ، أي أصلح به المفاسد ، والرّتْق ضدّ الفتق ، والمفاتق : جمع مَفْتَق ، وهو مصدر ؛ كالمضرب والمقتل . وساور به المغالب : ساورتُ زيداً ، أي واثبته ، ورجل سَوّار ، أي وثّاب ، وسَوْرة الخمر : وثوبها في الرأس . والحزونة ضدّ السهولة ، والحزَنْ : ما غُلظ من الأرض . والسّهل : ما لان منها ، واستعير لغير الأرض كالأخلاق ونحوها . قوله : « حتى سرّح الضلال ، عن يمين وشمال » ، أي طرده وأسرع به ذهاباً ، من قولهم : ناقة سَرْح ومنسرحة ، أي سريعة . ومنه تسريح المرأة ، أي تطليقها .

207الأصْلُ :ومن خطبة له عليه السلاموَأَشْهَدُ أَنَّهُ عَدْلٌ عَدَلَ ، وَحَكَمٌ فَصَلَ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، وَسَيِّدُ عِبَادِهِ ، كُلَّمَا نَسَخَ اللّهُ الْخَلْقَ فِرْقَتَيْنِ جَعَلَهُ فِي خَيْرِهِمَا ، لَمْ يُسْهِمْ فِيهِ عَاهِرٌ ، وَلاَ ضَرَبَ فِيهِ فَاجِرٌ . أَلاَ وإِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَعَلَ لِلْخَيْرِ أَهْلاً ، وَلِلْحَقِّ دَعَائِمَ ، وَلِلطَّاعَةِ عِصَماً ، وَإِنَّ لَكُمْ عِنْدَ كُلِّ طَاعَةٍ عَوْناً مِنَ اللّهِ سُبْحَانَهُ ، يَقُولُ عَلَى الألسِنَةِ ، وَيُثبِّتُ بِهِ الأَفْئِدَةَ . فِيهِ كِفَاءٌ لِمُكْتَفٍ ، وَشِفَاءٌ لِمُشْتَفٍ . وَاعْلَمُوا أَنَّ عِبَادَ اللّهِ الْمُسْتَحْفَظِينَ عِلْمَهُ ، يَصُونُونَ مَصُونَهُ ، وَيُفَجِّرُونَ عُيُونَهُ . يَتَوَاصَلُونَ بِالْوِلاَيَةِ ، وَيَتَ_لاَقَوْنَ بِالمحَبَّةِ ، وَيَتَسَاقَوْنَ بِكَأْس رَوِيَّةٍ ، وَيَصْدُرُونَ بِرِيَّةٍ ،

.


1- .سورة الزخرف 32 .

ص: 694

لاَ تَشُوبُهُمُ الرِّيْبَةُ ، وَلاَ تُسْرِعُ فِيهِمْ الْغِيبَةُ . عَلَى ذلِكَ عَقَدَ خَلْقَهُمْ وَأَخْ_لاَقَهُمْ ، فَعَلَيْهِ يَتَحَابُّونَ ، وَبِهِ يَتَوَاصَلُونَ ، فَكَانُوا كَتَفَاضُلِ الْبَذْرِ يُنْتَقَى ، فَيُوْخَذُ مِنْهُ وَيُلْقَى ، قَدْ مَيَّزَهُ التَّخْلِيصُ ، وَهذَّبَهُ الَّتمْحِيصُ . فَلْيَقْبَلِ امْرُؤٌ كَرَامَةً بِقَبُولِهَا ، وَلْيَحْذَرْ قَارِعَةً قَبْلَ حُلُولِهَا ، وَلْيَنْظُرِ امْرُؤٌ فِي قَصِيرِ أَيَّامِهِ ، وَقَلِيلِ مُقَامِهِ ، فِي مَنْزِلٍ حَتَّى يَسْتَبْدِلَ بِهِ مَنْزِلاً ، فَلْيَصْنَعْ لِمُتَحَوَّلِهِ ، وَمَعَارِفِ مُنْتَقَلِهِ . فَطُوبَى لِذِي قَلْبٍ سَلِيمٍ ، أَطَاعَ مَنْ يَهْدِيهِ ، وَتَجَنَّبَ مَنْ يُرْدِيهِ ، وَأَصَابَ سَبِيلَ السَّلاَمَةِ بِبَصَرِ مَنْ بَصَّرَهُ ، وَطَاعَةِ هَادٍ أَمَرَهُ ، وَبَادَرَ الْهُدى قَبْلَ أَنْ تُغْلَقَ أَبْوَابُهُ ، وَتُقْطَعَ أَسْبَابُهُ ، وَاسْتَفْتَحَ التَّوْبَةَ ، وَأَمَاطَ الْحَوْبَةَ ، فَقَدْ أُقِيمَ عَلَى الطَّرِيقِ ، وَهُدِيَ نَهْجَ السَّبِيلِ .

الشّرْحُ :الضمير في « أ نّه » يرجع إلى القَضاء والقَدر المذكور في صدْر هذه الخطبة ، ولم يذكره الرضيّ ؛ ، يقول : أشهد أنّ قضاءه تعالى عَدْل عَدلَ وحَكَم بالحقّ ، فإنّه حكم فصل بين العباد بالإنصاف ، ونسب العدل والفصل إلى القضاء على طريق المجاز ، وهو بالحقيقة منسوب إلى ذي القضاء ، والقاضي به هو اللّه تعالى . قوله : « وسيّد عباده » ، هذا كالمجمَع عليه بين المسلمين ، وإن كان قد خالف فيه شذوذ منهم ، واحتجّ الجمهور بقوله : « أنا سيّد ولد آدم ولا فخر » ، وبقوله : « ادعوا لِي سيّدَ العرب عليّاً » ، فقالت عائشة : ألستَ سيّد العرب ! فقال : « أنا سيّد البشر ، وعليّ سيّد العرب » ، وبقوله : « آدم ومَنْ دونه تحت لوائي » . قوله عليه السلام : « كلّما نسخَ اللّه الخلْق فرقتيْن جعله في خيرهما » ، النَّسْخ : النقل ، ومنه نسخ الكتاب ، ومنه نَسَخَت الرّيحُ آثار القوم ، ونسخت الشمس الظلّ ، يقول : كلّما قسم اللّه تعالى الأب الواحد إلى ابنين ، جعل خيرهما وأفضلهما لولادة محمّد عليه السلام ، وسمّى ذلك نسخاً ؛ لأنّ البطن الأول يزول ، ويخلُفه البطن الثاني ، ومنه مسائل المناسخات في الفرائض . وهذا المعنى قد وردَ مرفوعا في عدّة أحاديث ، نحو قولِه صلى الله عليه و آله وسلم : « ما افترقت فرقتان منذُ نَسل آدم

.

ص: 695

ولدَه إلاّ كنتُ في خيرهما » . ونحو قوله : « إنّ اللّه اصطَفى من ولد إبراهيم إسماعيل ، واصطفى من ولد إسماعيل مُضَر ، واصطفى من مُضَر كنانة ، واصطفى من كنانة قريشاً ، واصطفى من قريش هاشماً ، واصطفاني من بني هاشم » . قوله : « لم يُسهِمْ فيه عاهر ، ولا ضرب فيه فاجر » ، لم يسهم : لم يضرب فيه عاهر بسهم ، أي بنصيب ، وجمعه سُهمان ، والعاهر : ذو العَهَر ، بالتحريك وهو الفجور والزنا ، ويجوز تسكين الهاء ، مثل نَهْر ونَهَر ، وهذا هو المصدر ، والماضي عَهَر بالفتح ، والاسم العِهْر ، بكسر العين وسكون الهاء ، والمرأة عاهرة ومعاهرة وعَيْهرة ، وتعيْهَرَ الرّجل إذا زنى ، والفاجر كالعاهر هاهنا ، وأصلُ الفجور : الميْلُ . قوله عليه السلام : « ألا وإنّ اللّه قد جَعل للخير أهلاً ، وللحق دعائم ، وللطاعة عِصَما » . الدعائم : ما يدعَم بها البيت لئلا يسقُط ، والعِصَم : جمع عصْمَة ، وهو ما يُحفظ به الشيء ويمنع ، فأهل الخير هم المتّقون . ودعائم الحق : الأدِلّة الموصّلة إليه المثبتة له في القلوب . وعِصَم الطَّاعة : هي الإدمان على فعلها ، والتمرّن على الإتيان بها ؛ لأنّ المُرون على الفعل يكسب الفاعل ملَكة تقتضي سهولته عليه . والعون هاهنا : هو اللطف المقرّب من الطاعة ، المبعِد من القبيح . ثم قال عليه السلام : « إنّه يقولُ على الألسنة ، ويثبّت الأفئدة » ، وهذا من باب التوسّع والمجاز ؛ لأ نّه لما كان مسهّلاً للقول أطلق عليه أ نّه يقول على الألسنة ، ولمّا كان اللّه تعالى هو الّذِي يثبّت الأفئدة ، كما قال : « يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ » (1) ، نسب التّثبيت إلى اللّطف ؛ لأ نّه من فعل اللّه تعالى ، كما ينسَب الإنبات إلى المطر ، وإنما المنبِت للزّرع هو اللّه تعالى ، والمطر فعله . ثم قال عليه السلام : « فيه كِفاءٌ لمكتفٍ ، وشفاء لمشتفٍ » ، والوجه فيه « كفاية » ، فإنّ الهمز لا وجه له هاهنا ؛ لأ نّه من باب آخر ؛ ولكنه أتى بالهمزة للازدواج بين « كِفاء » ، و « شفاء » ، كما قالوا : الغدايا والعشايا ، وكما قال عليه السلام : « مأزورات غير مأجورات » ، فأتى بالهمز والوجه الواو للازدواج . ثم ذكر العارفين ، فقال : « واعلموا أنّ عباد اللّه المستحفظين علمه » ، إلى قوله : « وهذّبه التمحيص » . واعلم أنّ الكلام في العرفان لم يأخذه أهلُ المِلّة الإسلامية إلاّ عن هذا الرّجل ، ولَعمري لقد بلغ منه إلى أقصى الغايات ، وأبعد النّهايات . والعارفون هم القوم الّذين اصطفاهم اللّه

.


1- .سورة إبراهيم 27 .

ص: 696

تعالى ، وانتخبهم لنفسه ، واختصَّهم بأنسه ، أحبّوه فأحبّهم ، وقربوا منه فقرُب منهم . وقد تكلّم أرباب هذا الشأن في المعرفة والعرفان ، فكلٌّ نطق بما وقع له ، وأشار إلى ما وجده في وقته . واعلم أنّ إطلاق أمير المؤمنين عليه السلام عليهم لفظة « الولاية » ، في قوله : « يتواصَلُون بالولاية ، ويتلاقون بالمحبّة » يستدعي الخوْض في مقاميْن جليلين من مَقامات العارفين : المقام الأوّل _ الولاية : وهو مقام جليل ، قال اللّه تعالى : « أَلاَ إنَّ أَوْلِيَاءَ اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ » (1) . واعلم أنّ الوليّ له معنيان : أحدهما : « فعيل » بمعنى « مفعول » ، كقتيل وجريح ، وهو من يتولّى اللّه أمره ، كما قال اللّه تعالى : « إنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الكِتَابَ وَهُوَ يَتَولَّى الصَّالِحينَ » (2) ، فلا يكِله إلى نفسه لحظة عين ، بل يتولّى رعايته . وثانيهما : « فعيل » بمعنى « فاعل » كنذير وعليم ، وهو الَّذِي يتولّى طاعةَ اللّه وعبادته فلا يعصيه . المقام الثاني _ المحبّة : قال اللّه سبحانه : « مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ » (3) ، والمحبّة عند أرباب هذا الشأْن حالة شريفة . ثم نعود إلى تفسير ألفاظ الفصل : قوله عليه السلام : « يصونون مَصُونه » ، أي يكتمون من العلم الذي استحفظوه ما يجب أن يكتم . ويفجّرون عيونه : يظهرون منه ما ينبغي إظهاره ؛ وذلك أ نّه ليس ينبغي إظهار كلّ ما استودِع العارف من الأسرار . والوَلاية ، بفتح الواو : المحبّة والنُّصرة . ومعنى « يتواصَلُون بالوَلاية » يتواصلون وهم أولياء ، ومثله : « ويتلاقوْن بالمحبّة » كما تقول :خرجت بسلاحي ، أي خرجت وأنا متسلّح ، فيكون موضع الجار والمجرور نصبا بالحال ، أو يكون المعنى أدقّ وألطف من هذا ، وهو أن يتواصلوا بالوَلاية ، أي بالقلوب لا بالأجسام ، كما تقول : أنا أرَاك بقلبي ، وأزورك بخاطري ، وأواصلك بضميري .

.


1- .سورة يونس 62 .
2- .سورة الأعراف 196 .
3- .سورة المائدة 54 .

ص: 697

قوله : « ويتساقَوْن بكأس روِيّة » أي بكأس المعرفة ، والأُنس باللّه ، يأخذ بعضُهم عن بعض العلومَ والأسرار ، كأنهم شَرْبٌ يتساقوْن بكأس من الخمر . « ويصدُرون بريّة » يقال : من أين رَيّتكم ؟ مفتوحة الراء ، أي من أين ترتوون الماء ؟ « لا تشوبهم الرِّيبة » ، أي لا تخالطهم الظِنّة والتُّهمة ، ولا تسرع فيهم الغيبة ؛ لأنّ أسرارهم مشغولةٌ بالحقّ عن الخلق . « على ذلك عقد خَلْقهم وأخلاقهم » ، الضمير في « عقَد » يرجع إلى اللّه تعالى ، أي على هذه الصفات والطبائع عَقَد الخالق تعالى ، خِلْقتهم وخُلُقهم ، أي هم متهيئون لما صاروا إليه ، كما قال عليه السلام : « إذا أرادك لأمر هيّأك له » . وقال عليه السلام : « كلٌّ ميسّرٌ لما خلِق له » . قوله عليه السلام : « فعليه يتحابّون ، وبه يتواصلون » ، أي ليس حبُّهم بعضهم بعضا إلاّ في اللّه ، وليست مواصلتهم بعضهم بعضا إلاّ للّه ، لا للهوى ، ولا لغرضٍ من أغراض الدنيا . قوله عليه السلام : « فكانوا كتفاضل البَذْر » ، أي مَثَلُهم مثل الحَبّ الذي يُنتقى للبَذْر ، يستصلح بعضه ، ويسقط بعضه . قد ميّزه التخليص : قد فرّق الانتقاء بين جيّده ورديئه . وهذَّبه التمحيص ، قال النبي صلى الله عليه و آله وسلم : « إن المَرض ليمحّص الخطايا كما تمحّص النار الذهب » ، أي كما تخلّص النار الذهب ممّا يشوبه . ثم أمر عليه السلام المكلّفين بقبول كرامة اللّه ونصحه ، ووعظه وتذكيره ، وبالحذر مِنْ نزول القارعة بهم ، وهي هاهنا الموت ، وسمّيت الداهية قارعة ؛ لأنها تقرع ، أي تصيب بشدّة . قوله عليه السلام : « فليصنع لمتحوّله » ، أي فليعدّ ما يجب إعداده للموضع الذي يتحوّل إليه ، تقول : اصنع لنفسك ، أي اعمل لها . « ومعارف منتقَلِه » معارف الدّار : ما يعرفها المتوسّم بها ، واحدها معرَف ، مثل معاهد الدار ، ومعالم الدار ، ومنه معارف المرأة ، وهو ما يظهر منها ، كالوجْه واليدين . والمنتقَل ، بالفتح : موضع الانتقال . قوله: « فطوبَى » هي « فُعْلَى » من الطّيب ، قلبوا الياء واواً للضمّة قبلها ، ويقال : طوبَى لك! وطوباك! بالإضافة . وقول العامة : « طوبيك » بالياء غير جائز . قوله عليه السلام : « لذي قلْب سلِيم » ، هو من ألفاظ الكتاب العزيز (1) ، أي سليم من الغلّ والشك . « أطاع مَنْ يهديه » ، أي قبل مشورة الناصح الآمر له بالمعروف ، والناهي له عن المنكَر . وتجنّب مَنْ يُرْدِيه ، أي يهْلكه بإغوائه وتحسين القبيح له . والباء في قوله : « ببصرِ مَنْ بَصّره » ، متعلّقة ب_ « أصاب » . قوله :

.


1- .وذلك قوله تعالى في سورة الشعراء 89 : « إلاَّ مَنْ أتَى اللّه َ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ » ، وقوله في سورة الصافات 84 : « إذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ » .

ص: 698

208 . ومن دعاء له عليه السلام كان يدعو به كثيراً

« قبل أن تغلق أبوابه » ، أي قبل أن يحضره الموت فلا تقبل توبته . والحوبة : الإثم . وإماطته : إزالته ، ويجوز أمطتُ الأذى عنه ، ومِطت الأذى عنه ، أي نحّيته .

208الأصْلُ :ومن دعاء كان يدعو به عليه السلام كثيراًالْحَمْدُ للّهِ الَّذِي لَمْ يُصْبِحْ بِي مَيِّتاً وَلاَ سَقِيماً ، وَلاَ مَضْرُوباً عَلَى عُرُوقِي بِسُوءٍ ، وَلاَ مَأْخُوذاً بِأَسْوَءِ عَمَلِي ، وَلاَ مَقْطُوعاً دَابِرِي ، وَلاَ مُرْتَدّاً عَنْ دِينِي ، وَلاَ مُنْكِراً لِرَبِّي ، وَلاَ مُسْتَوْحِشاً مِنْ إِيمَانِي ، وَلاَ مُلْتَبِساً عَقْلِي ، وَلاَ مُعَذَّباً بِعَذابِ الْأُمَمِ مِنْ قَبْلِي . أَصْبَحْتُ عَبْداً مَمْلُوكاً ظَالِماً لِنَفْسِي ، لَكَ الْحُجَّةُ عَلَيَّ وَلاَ حُجَّةَ لِي . وَلاَ أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ إِلاَّ مَا أَعْطَيْتَنِي ، وَلاَ أَتَّقِيَ إِلاَّ مَا وَقَيْتَنِي . اللَّهُمَّ إِنَّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَفْتَقِرَ فِي غِنَاكَ ، أَوْ أَضِلَّ فِي هُدَاكَ ، أَوْ أُضَامَ فِي سُلْطَانِكَ ، أَوْ أُضْطَهَدَ وَالْأَمْرُ لَكَ! اللَّهُمَّ اجْعَلْ نَفْسِي أَوَّلَ كَرِيمَةٍ تَنْتَزِعُهَا مِنْ كَرَائِمِي ، وَأَوَّلَ وَدِيعَةٍ تَرْتَجِعُهَا مِنْ وَدَائِعِ نِعَمِكَ عِنْدِي! اللَّهُمْ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَذْهَبَ عَنْ قَوْلِكَ ، أَوْ أَنْ نُفْتَتَنَ عَنْ دِينِكَ ، أَوْ تَتَابَعَ بِنَا أَهْوَاؤُنَا دُونَ الْهُدَى الَّذِي جَاءَ مِنْ عِنْدِكَ!

الشّرْحُ :قوله : « كثيراً » منصوب بأنه صفة مصدر محذوف ، أي دعاء كثيراً . وميّتاً منصوب على الحال ، أي لم يفلَق الصباح عليّ ميتاً . « ولا مضروبا على عروقي بسوء » ، أي ولا أَبْرَص ،

.

ص: 699

والعرب تكنِي عن البرص بالسّوء ، ومن أمثالهم : ما أُنكرُك من سوء ، أي ليس إنكاري لك عن بَرَص حَدَث بك فغيّر صورتك . وأراد بعروقه أعضاءه ، ويجوز أن يريد : ولا مطعونا في نسبي ، والتفسير الأوّل أظهر . « ولا مأخوذا بأسوأ عملي » ، أي ولا معاقباً بأفحش ذنوبي . ولا مقطوعا دابري ، أي عقبي ونسلِي ، والدابر في الأصل : التابع ؛ لأ نّه يأتي دبُراً ، ويقال للهالك : قد قطع اللّه دابره ، كأنّه يراد أنه عفا أثره ، ومحا اسمه ، قال سبحانه : « أنَّ دَابِرَ هؤُلاَءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ » (1) . ولا مستوحشا ، أي ولا شاكّا في الإيمان ؛ لأنّ مَنْ شكّ في عقيدةٍ استوحش منها . ولا ملتبسا عقلي ، أي ولا مختلطا عقلي ، لَبَسْتُ عليهم الأمر بالفتح ، أي خلطته . وعذاب الأُمم من قبلُ ، المسخُ والزّلزلة والظلمة ونحو ذلك . قوله : « لك الحجة عليّ ، ولا حجّة لي » ؛ لأنّ اللّه سبحانه قد كلّفه بعد تمكينه وإقداره وإعلامه قبحَ القبيح ووجوب الواجب وترديد دواعيه إلى الفعل وتركه ، وهذه حجّة اللّه تعالى على عب_اده ، ولا حجّة للعباد عليه ؛ لأ نّه ما كلّفهم إلاّ بما يطيقون_ه ، ولا كان لهم لط_ف في أمرٍ إلاّ وفَعَله . قول_ه : « لا أستطيع أن آخ_ذ إلاّ ما أعطيتني ، ولا أتّقيَ إلاّ م_ا وقَيْتَني » ، أي لا أستطيع أن أرزق نفسي أمراً ، ولكنك الرزاق ، ولا أدفع عن نفسي محذورا من المرض والموت إلاّ ما دفعته أنتَ عنِّي . قوله عليه السلام : « أنْ أفتقِر في غناك » ، موضع الجار والمجرور نصب على الحال ، و « في » متعلّقة بمحذوف ، والمعنى أن افتقِر وأنت الموصوف بالغنى الفائض على الخلق ، وكذلك قوله : « أو أَضِلّ في هداك » ، معناه : أو أضلّ وأنت ذو الهداية العامّة للبشَر كافّة ، وكذلك : « أو أُضام في سلطانك » ، كما يقول المستغيث إلى السلطان : كيف أُظلم في عدلك ؟! وكذلك قوله : « أو أُضطهد والأمرُ لك » ، أي وأنت الحاكم صاحبُ الأمر ، والطاء في « أُضطهد » هي تاء الافتعال ، وأصل الفعل ضهدت فلاناً ، فهو مضهود ، أي قهرته ، وفلان ضُهَدة لكلّ أحد ، أي كلّ مَنْ شاء أن يقهره فعل . قوله : « اللهمّ اجعلْ نفسي » ، هذه الدعوة مثل دَعْوة رسولِ اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وهي قوله : « اللهمّ مَتِّعْنا بأسماعنا وأبصارنا ، واجعله الوارث منّا » ، أي لا تجعل موتنا متأخِّرا عن ذهاب حواسّنا ، وكان عليّ بن الحسين عليه السلام يقول في دعائه : « اللهمّ احفَظْ عليّ سمعي وبصري إلى

.


1- .سورة الحجر 66 .

ص: 700

انتهاء أجَلي » . وفسّرُوا قوله عليه السلام : « واجعلْه الوارث مِنّا » ، فقالوا : الضمير في « واجعله » يرجع إلى الإمتاع . فإن قلت : كيف يتّقى الإمتاع بالسمع والبصر ، بعد خروج الرّوح؟ قلت : هذا توسّع في الكلام ، والمراد : لا تبلُنا بالعمَى ولا الصَّمَم ، فنكون أحياء في الصورة ولسنا بأحياء في المعنى ؛ لأنّ مَنْ فقدهما لا خَيْر له في الحياة ، فحملتْه المبالغة على أن طلب بقاءَهما بعد ذهاب النفس ، إيذانا وإشعارا بحبّه ألاّ يُبْلَى بفقدهما . ونُفْتَتَن ، على ما لم يسمّ فاعله : نصابُ بفتنة تُضِلّنا عن الدّين ، وروي : « نَفْتتِن » بفتح حرف المضارعة على « نفتعل » ، افتتن الرجل أي فتن . والتتابع : التهافت في اللّجاج والشرّ ، ولا يكون إلاّ في مثل ذلك ، وروي أو « تتابع » بطرح إحدى التاءآت .

.

ص: 701

محتويات الكتاب

محتويات الكتاب

.

ص: 702

. .

ص: 703

. .

ص: 704

. .

ص: 705

. .

ص: 706

. .

ص: 707

. .

ص: 708

. .

ص: 709

. .

ص: 710

. .

ص: 711

. .

ص: 712

. .

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.